الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
66 - كِتَاب فَضَائِلِ الْقُرْآنِ
1 - بَاب كَيْفَ نَزَلَ الْوَحْيُ وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُهَيْمِنُ الْأَمِينُ. الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ
4978، 4979 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَا: لَبِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ.
4980 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ أُنْبِئْتُ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ فَجَعَلَ يَتَحَدَّثُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِأُمِّ سَلَمَةَ مَنْ هَذَا أَوْ كَمَا قَالَ قَالَتْ: هَذَا دِحْيَةُ فَلَمَّا قَامَ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا حَسِبْتُهُ إِلاَّ إِيَّاهُ حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ خَبَرَ جِبْرِيلَ أَوْ كَمَا قَالَ قَالَ أَبِي: قُلْتُ لِأَبِي عُثْمَانَ مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا قَالَ مِنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ"
4981 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
[الحديث 4981 - طرفه في: 7274]
4982 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَابَعَ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيَ قَبْلَ وَفَاتِهِ حَتَّى تَوَفَّاهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ الْوَحْيُ ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ"
4983 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدَبًا يَقُولُ اشْتَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ يَا مُحَمَّدُ مَا أُرَى شَيْطَانَكَ إِلاَّ قَدْ تَرَكَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}
(كِتَابُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ). ثَبَتَتِ الْبَسْمَلَةُ وَكِتَابُ لِأَبِي ذَرٍّ، وَوَقَعَ لِغَيْرِهِ فَضَائِلُ الْقُرْآنِ حَسْبُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ كَيْفَ نَزَلَ الْوَحْيُ وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ نَزَلَ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَلِغَيْرِهِ كَيْفَ نُزُولُ الْوَحْيِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي كَيْفِيَّةِ نُزُولِهِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ إِنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ فِي أَوَّلِ الصَّحِيحِ، وَكَذَا أَوَّلُ نُزُولِهِ فِي حَدِيثِهَا أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ لَكِنَّ التَّعْبِيرَ بِأَوَّلِ مَا نَزَلَ أَخَصُّ مِنَ التَّعْبِيرِ بِأَوَّلِ مَا بُدِئَ لِأَنَّ النُّزُولَ يَقْتَضِي وُجُودَ مَنْ يَنْزِلُ بِهِ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ مَجِيءُ الْمَلَكِ لَهُ عِيَانًا مُبَلِّغًا عَنِ اللَّهِ بِمَا شَاءَ مِنَ الْوَحْيِ، وَإِيحَاءُ الْوَحْيِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِإِنْزَالٍ أَوْ بِإِلْهَامٍ، سَوَاءٌ وَقَعَ ذَلِكَ فِي النَّوْمِ أَوْ فِي الْيَقَظَةِ. وَأَمَّا انْتِزَاعُ ذَلِكَ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ فَسَأَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ شَرْحِ كُلِّ حَدِيثٍ مِنْهَا.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُهَيْمِنُ: الْأَمِينُ، الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ) تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْأَثَرِ، وَذِكْرُ مَنْ وَصَلَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ التَّرْجَمَةِ وَهِيَ فَضَائِلُ الْقُرْآنِ، وَتَوْجِيهُ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْقُرْآنَ تَضَمَّنَ تَصْدِيقَ جَمِيعِ مَا أُنْزِلَ قَبْلَهُ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي فِيهِ إِمَّا مُقَرِّرَةٌ لِمَا سَبَقَ وَإِمَّا نَاسِخَةٌ - وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي إِثْبَاتَ الْمَنْسُوخِ - وَإِمَّا مُجَدِّدَةٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى تَفْضِيلِ الْمُجَدِّدِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ سِتَّةَ أَحَادِيثَ.
الْأَوَّلُ وَالثَّانِي حَدِيثَا ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ مَعًا.
قَوْلُهُ: (عَنْ شَيْبَانَ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
قَوْلُهُ: (لَبِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِغَيْرِهِ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا بِإِبْهَامِ الْمَعْدُودِ، وَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَاشَ سِتِّينَ سَنَةً إِذَا انْضَمَّ إِلَى الْمَشْهُورِ أَنَّهُ بُعِثَ عَلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي أَلْغَى الْكَسْرَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ عَاشَ سِتِّينَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ جَاءَ عَنْهُ أَنَّهُ عَاشَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، فَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ عَاشَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، وَمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى إِلْغَاءِ الْكَسْرِ فِي السِّنِينَ، وَإِمَّا عَلَى جَبْرِ الْكَسْرِ فِي الشُّهُورِ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَابِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَشْهُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ بُعِثَ عَلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ، فَكَانَتْ مُدَّةُ وَحْيِ الْمَنَامِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ إِلَى أَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْمَلَكُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ فَتْرَةٍ، ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ، ثُمَّ تَوَاتَرَ وَتَتَابَعَ، فَكَانَتْ مُدَّةُ تَوَاتُرِهِ وَتَتَابُعِهِ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ مِنْ غَيْرِ فَتْرَةٍ، أَوْ أَنَّهُ عَلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ قُرِنَ بِهِ مِيكَائِيلُ أَوْ إِسْرَافِيلُ، فَكَانَ يُلْقِي إِلَيْهِ الْكَلِمَةَ أَوِ الشَّيْءَ مُدَّةَ ثَلَاثِ سِنِينَ كَمَا جَاءَ مِنْ وَجْهٍ مُرْسَلٍ، ثُمَّ قُرِنَ بِهِ جِبْرِيلُ فَكَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ مُدَّةَ عَشْرِ سِنِينَ بِمَكَّةَ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرْجَمَةِ أَنَّهُ نَزَلَ مُفَرَّقًا وَلَمْ يَنْزِلْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَالْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، ثُمَّ أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً وَقَرَأَ: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ الْآيَةَ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَاكِمِ، وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ فُرِّقَ فِي السِّنِينَ وَفِي أُخْرَى صَحِيحَةٍ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحَاكِمِ أَيْضًا وُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَجَعَلَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَوَقَعَ فِي الْمِنْهَاجِ لِلْحَلِيمِيِّ: أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُنَزِّلُ مِنْهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَدْرَ مَا يَنْزِلُ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِي تَلِيهَا، إِلَى أَنْ أَنْزَلَهُ كُلَّهُ فِي عِشْرِينَ لَيْلَةً مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَهَذَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ مِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفَةٍ وَمُنْقَطِعَةٍ أَيْضًا.
وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُفَرَّقًا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ
أَنَّهُ نَزَلَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَأَنَّ الْحَفَظَةَ نَجَّمَتْهُ عَلَى جِبْرِيلَ فِي عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَأَنَّ جِبْرِيلَ نَجَّمَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عِشْرِينَ سَنَةً، وَهَذَا أَيْضًا غَرِيبٌ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ بِمَا يَنْزِلُ بِهِ عَلَيْهِ فِي طُولِ السَّنَةِ، كَذَا جَزَمَ بِهِ الشَّعْبِيُّ فِيمَا أَخْرَجَهُ عَنْهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ أَنَّ أَوَّلَ نُزُولِ جِبْرِيلَ بِالْقُرْآنِ كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالْقُرْآنِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَفِي ذَلِكَ حِكْمَتَانِ: إِحْدَاهُمَا تَعَاهُدُهُ، وَالْأُخْرَى تَبْقِيَةُ مَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْهُ وَرَفْعُ مَا نُسِخَ، فَكَانَ رَمَضَانُ ظَرْفًا لِإِنْزَالِهِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا وَعَرْضًا وَأَحْكَامًا.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثِ عَشْرَةٍ خَلَتْ مِنْهُ، وَالزَّبُورُ لِثَمَانِ عَشْرَةٍ خَلَتْ مِنْهُ، وَالْقُرْآنُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَهَذَا كُلُّهُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ، فَأُنْزِلَ فِيهَا جُمْلَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ أُنْزِلَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ إِلَى الْأَرْضِ أَوَّلُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وَيُسْتَفَادُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ كُلُّهُ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ خَاصَّةً، وَهُوَ كَذَلِكَ، لَكِنْ نَزَلَ كَثِيرٌ مِنْهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمَيْنِ حَيْثُ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَزَاةٍ، وَلَكِنَّ الِاصْطِلَاحَ أَنَّ كُلَّ مَا نَزَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَهُوَ مَكِّيٌّ، وَمَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَهُوَ مَدَنِيٌّ، سَوَاءٌ نَزَلَ فِي الْبَلَدِ حَالَ الْإِقَامَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا حَالَ السَّفَرِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي بَابِ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ.
الْحَدِيثُ الْثَّالِثُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: أُنْبِئْتُ أَنَّ جِبْرِيلَ) فَاعِلُ قَالَ هُوَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ.
قَوْلُهُ: (أُنْبِئْتُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَقَدْ عَيَّنَهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي أَوَّلِهِ زِيَادَةٌ حَذَفَهَا الْبُخَارِيُّ عَمْدًا لِكَوْنِهَا مَوْقُوفَةً وَلِعَدَمِ تَعَلُّقِهَا بِالْبَابِ وَهِيَ: عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: لَا تَكُونَنَّ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ الْحَدِيثُ مَوْقُوفٌ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْبَرْقَانِيُّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ مَرْفُوعًا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: مَنْ هَذَا)؟ فَاعِلُ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اسْتَفْهَمَ أُمَّ سَلَمَةَ عَنِ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُهُ هَلْ فَطِنَتْ لِكَوْنِهِ مَلَكًا أَوْ لَا.
قَوْلُهُ: (أَوْ كَمَا قَالَ) يُرِيدُ أَنَّ الرَّاوِيَ شَكَّ فِي اللَّفْظِ مَعَ بَقَاءِ الْمَعْنَى فِي ذِهْنِهِ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ الْمُحَدِّثِينَ لَهَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ. قَالَ الدَّاوُدِيُّ: هَذَا السُّؤَالُ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ ذَهَابِ جِبْرِيلَ، وَظَاهِرُ سِيَاقِ الْحَدِيثِ يُخَالِفُهُ. كَذَا قَالَ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِي مَا ادَّعَاهُ مِنَ الظُّهُورِ، بَلْ هُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ.
قَوْلُهُ: (قَالَتْ: هَذَا دِحْيَةُ) أَيِ ابْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ أَوَّلَ الْكِتَابِ، وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالْجَمَالِ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَأْتِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَالِبًا عَلَى صُورَتِهِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَامَ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْ قَامَ ذَاهِبًا إِلَى الْمَسْجِدِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا مَا ظَنَّتْهُ مِنْ أَنَّهُ دِحْيَةُ اكْتِفَاءً بِمَا سَيَقَعُ مِنْهُ فِي الْخُطْبَةِ مِمَّا يُوَضِّحُ لَهَا الْمَقْصُودَ.
قَوْلُهُ: (مَا حَسِبْتُهُ إِلَّا إِيَّاهُ) هَذَا كَلَامُ أُمِّ سَلَمَةَ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ أَيْمُنِ اللَّهِ مَا حَسِبْتُهُ إِلَّا إِيَّاهُ وَأَيْمُنِ مِنْ حُرُوفِ الْقَسَمِ، وَفِيهَا لُغَاتٌ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا.
قَوْلُهُ: (حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ بِخَبَرِ جِبْرِيلَ أَوْ كَمَا قَالَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ يُخْبِرُنَا خَبَرَنَا وَهُوَ تَصْحِيفٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ عِيَاضٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا.
قُلْتُ: وَلَمْ أَرَ هذَا الْحَدِيثَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَسَانِيدِ إِلَّا مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ فَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ. وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ عَلَى بَيَانِ هَذَا الْخَبَرِ فِي أَيِّ قِصَّةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي قِصَّةِ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَدْ وَقَعَ فِي دَلَائِلَ الْبَيْهَقِيِّ وَفِي
الْغَيْلَانِيَّاتِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا رَأَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُكَلِّمُ رَجُلًا وَهُوَ رَاكِبٌ، فَلَمَّا دَخَلَ قُلْتُ: مَنْ هَذَا الَّذِي كُنْتَ تُكَلِّمُهُ، قَالَ: بِمَنْ تُشَبِّهِينَهُ؟ قُلْتُ: بِدِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ، قَالَ: ذَاكَ جِبْرِيلُ أَمَرَنِي أَنْ أَمْضِيَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبِي) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الْخَفِيفَةِ، وَالْقَائِلُ هُوَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَقَوْلُهُ: فَقُلْتُ لِأَبِي عُثْمَانَ، أَيِ النَّهْدِيِّ الَّذِي حَدَّثَهُ بِالْحَدِيثِ، وَقَوْلُهُ مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِيهِ الِاسْتِفْسَارُ عَنِ اسْمِ مَنْ أُبْهِمَ مِنَ الرُّوَاةِ وَلَوْ كَانَ الَّذِي أُبْهِمَ ثِقَةً مُعْتَمَدًا، وَفَائِدَتُهُ احْتِمَالُ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَ السَّامِعِ كَذَلِكَ، فَفِي بَيَانِهِ رَفْعٌ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ، قَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ لِلْمَلَكِ أَنْ يَتَصَوَّرَ عَلَى صُورَةِ الْآدَمِيِّ. وَأَنَّ لَهُ هُوَ فِي ذَاتِهِ صُورَةً لَا يَسْتَطِيعُ الْآدَمِيُّ أَنْ يَرَاهُ فِيهَا لِضَعْفِ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةِ إِلَّا مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ أَنْ يُقَوِّيَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا كَانَ غَالِبُ مَا يَأْتِي جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صُورَةِ الرَّجُلِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا وَلَمْ يَرَ جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا إِلَّا مَرَّتَيْنِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ وَجْهُ دُخُولِ حَدِيثِ أُسَامَةَ هَذَا فِي هَذَا الْبَابِ. قَالُوا: وَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِأُمِّ سَلَمَةَ، وَلِدِحْيَةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ رَأَوْا جِبْرِيلَ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ لَمَّا جَاءَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ، وَلِأَنَّ اتِّفَاقَ الشَّبَهِ لَا يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ فَضِيلَةٍ مَعْنَوِيَّةٍ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَزِيَّةً فِي حُسْنِ الصُّورَةِ حَسْبُ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ قَطَنٍ حِينَ قَالَ: إِنَّ الدَّجَّالَ أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ فَقَالَ: أَيَضُرُّنِي شَبَهُهُ؟ قَالَ: لَا.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ أَبُو سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ كَيْسَانُ، وَقَدْ سَمِعَ سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ الْكَثِيرَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَمِعَ مِنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَوَقَعَ الْأَمْرَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى تَثَبُّتِ سَعِيدٍ وَتَحَرِّيهِ.
قَوْلُهُ: (مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ) هَذَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُعْجِزَةٍ تَقْتَضِي إِيمَانَ مَنْ شَاهَدَهَا بِصِدْقِهِ، وَلَا يَضُرُّهُ مَنْ أَصَرَّ عَلَى الْمُعَانَدَةِ. (مِنَ الْآيَاتِ) أَيِ الْمُعْجِزَاتِ الْخَوَارِقِ.
قَوْلُهُ: (مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ) مَا مَوْصُولَةٌ وَقَعَتْ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِأُعْطِيَ، وَمِثْلُهُ مُبْتَدَأٌ، وَآمَنَ خَبَرُهُ، وَالْمِثْلُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ عَيْنُ الشَّيْءِ وَمَا يُسَاوِيهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أُعْطِيَ آيَةً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ شَأْنِ مَنْ يُشَاهِدُهَا مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ لِأَجْلِهَا، وَعَلَيْهِ بِمَعْنَى اللَّامِ أَوِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالنُّكْتَةُ فِي التَّعْبِيرِ بِهَا تَضَمُّنُهَا مَعْنَى الْغَلَبَةِ، أَيْ يُؤْمِنُ بِذَلِكَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَهُ عَنْ نَفْسِهِ، لَكِنْ قَدْ يَجْحَدُ فَيُعَانِدُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا} وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الرَّاجِعُ إِلَى الْمَوْصُولِ ضَمِيرُ الْمَجْرُورِ فِي عَلَيْهِ وَهُوَ حَالٌ، أَيْ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ فِي التَّحَدِّي، وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الْمُعْجِزَاتِ وَمَوْقِعُ الْمِثْلِ مَوْقِعُهُ مِنْ قَوْلِهِ:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} أَيْ: عَلَى صِفَتِهِ مِنَ الْبَيَانِ وَعُلُوِّ الطَّبَقَةِ فِي الْبَلَاغَةِ.
(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ آمَنَ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا ابْنُ قُرْقُولٍ أُومِنَ بِضَمِ الْهَمْزَةِ ثُمَّ وَاوٍ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ. قَالَ: وَكَتَبَهَا بَعْضُهُمْ بِالْيَاءِ الْأَخِيرَةِ بَدَلَ الْوَاوِ. وَفِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ أَمِنَ بِغَيْرِ مَدٍّ مِنَ الْأَمَانِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ) أَيْ إِنَّ مُعْجِزَتِي الَّتِي تَحَدَّيْتُ بِهَا الْوَحْيُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيَّ وَهُوَ الْقُرْآنُ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْجَازِ الْوَاضِحِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَصْرُ مُعْجِزَاتِهِ فِيهِ، وَلَا أَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَا أُوتِيَ مَنْ تَقَدَّمَهُ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ الْمُعْجِزَةُ الْعُظْمَى الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا دُونَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أُعْطِيَ مُعْجِزَةً خَاصَّةً بِهِ لَمْ يُعْطَهَا بِعَيْنِهَا غَيْرُهُ تَحَدَّى بِهَا قَوْمَهُ، وَكَانَتْ مُعْجِزَةُ كُلِّ نَبِيٍّ تَقَعُ مُنَاسِبَةً لِحَالِ قَوْمِهِ كَمَا كَانَ السِّحْرُ فَاشِيًا عِنْدَ فِرْعَوْنَ، فَجَاءَهُ مُوسَى بِالْعَصَا عَلَى صُورَةِ مَا يَصْنَعُ السَّحَرَةُ لَكِنَّهَا تَلَقَّفَتْ مَا صَنَعُوا، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ لِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إِحْيَاءُ عِيسَى الْمَوْتَى وَإِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ لِكَوْنِ
الْأَطِبَّاءِ وَالْحُكَمَاءِ كَانُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، فَأَتَاهُمْ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِمْ بِمَا لَمْ تَصِلْ قُدْرَتُهُمْ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْعَرَبُ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَايَةِ مِنَ الْبَلَاغَةِ جَاءَهُمْ بِالْقُرْآنِ الَّذِي تَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ لَا صُورَةً وَلَا حَقِيقَةً، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ مِثْلٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أُعْطِيَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَا كَانَ مِثْلُهُ لِمَنْ كَانَ قَبْلَهُ صُورَةً أَوْ حَقِيقَةً، وَالْقُرْآنُ لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، فَلِهَذَا أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي أُوتِيتُهُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ تَخْيِيلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ مُعْجِزٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَتَخَيَّلُ مِنْهُ التَّشْبِيهَ بِهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَقَعُ فِي مُعْجِزَاتِهِمْ مَا يَقْدِرُ السَّاحِرُ أَنْ يُخَيِّلَ شَبَهَهُ فَيَحْتَاجُ مَنْ يُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا إِلَى نَظَرٍ، وَالنَّظَرُ عُرْضَةٌ لِلْخَطَأِ، فَقَدْ يُخْطِئُ النَّاظِرُ فَيَظُنُّ تَسَاوِيَهُمَا.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ انْقَرَضَتْ بِانْقِرَاضِ أَعْصَارِهِمْ فَلَمْ يُشَاهِدْهَا إِلَّا مَنْ حَضَرَهَا، وَمُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ مُسْتَمِرَّةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَخَرْقُهُ لِلْعَادَةِ فِي أُسْلُوبِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَإِخْبَارِهِ بِالْمَغِيبَاتِ، فَلَا يَمُرُّ عَصْرٌ مِنَ الْأَعْصَارِ إِلَّا وَيَظْهَرُ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ، وَهَذَا أَقْوَى الْمُحْتَمَلَاتِ، وَتَكْمِيلُهُ فِي الَّذِي بَعْدَهُ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ الْمَاضِيَةَ كَانَتْ حِسِّيَّةً تُشَاهَدُ بِالْأَبْصَارِ كَنَاقَةِ صَالِحٍ وَعَصَا مُوسَى، وَمُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ تُشَاهَدُ بِالْبَصِيرَةِ، فَيَكُونُ مَنْ يَتْبَعُهُ لِأَجْلِهَا أَكْثَرُ، لِأَنَّ الَّذِي يُشَاهَدُ بِعَيْنِ الرَّأْسِ يَنْقَرِضُ بِانْقِرَاضِ مُشَاهِدِهِ، وَالَّذِي يُشَاهَدُ بِعَيْنِ الْعَقْلِ بَاقٍ يُشَاهِدُهُ كُلُّ مَنْ جَاءَ بَعْدَ الْأَوَّلِ مُسْتَمِرًّا.
قُلْتُ: وَيُمْكِنُ نَظْمُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ؛ فَإِنَّ مُحَصَّلَهَا لَا يُنَافِي بَعْضُهُ بَعْضًا.
قَوْلُهُ: (فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رَتَّبَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ الْمُسْتَمِرَّةِ لِكَثْرَةِ فَائِدَتِهِ وَعُمُومِ نَفْعِهِ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الدَّعْوَةِ وَالْحُجَّةِ وَالْإِخْبَارِ بِمَا سَيَكُونُ، فَعَمَّ نَفْعُهُ مَنْ حَضَرَ، وَمَنْ غَابَ، وَمَنْ وُجِدَ، وَمَنْ سَيُوجَدُ، فَحَسُنَ تَرْتِيبُ الرَّجْوَى الْمَذْكُورَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذِهِ الرَّجْوَى قَدْ تَحَقَّقَتْ، فَإِنَّهُ أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَتَعَلَّقَ هَذَا الْحَدِيثُ بِالتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا نَزَلَ بِالْوَحْيِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْمَلَكُ لَا بِالْمَنَامِ وَلَا بِالْإِلْهَامِ. وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: حُسْنُ تَأْلِيفِهِ وَالْتِئَامُ كَلِمِهِ مَعَ الْإِيجَازِ وَالْبَلَاغَةِ. ثَانِيهَا: صُورَةُ سِيَاقِهِ وَأُسْلُوبِهِ الْمُخَالِفِ لِأَسَالِيبِ كَلَامِ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ مِنَ الْعَرَبِ نَظْمًا وَنَثْرًا حَتَّى حَارَتْ فِيهِ عُقُولُهُمْ وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِثْلِهِ مَعَ تَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ وَتَقْرِيعِهِ لَهُمْ عَلَى الْعَجْزِ عَنْهُ. ثَالِثُهَا: مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَمَّا مَضَى مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَالشَّرَائِعِ الدَّاثِرَةِ مِمَّا كَانَ لَا يَعْلَمُ مِنْهُ بَعْضَهُ إِلَّا النَّادِرُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. رَابِعُهَا: الْإِخْبَارُ بِمَا سَيَأْتِي مِنَ الْكَوَائِنِ الَّتِي وَقَعَ بَعْضُهَا فِي الْعَصْرِ النَّبَوِيِّ وَبَعْضُهَا بَعْدَهُ.
وَمِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ آيَاتٌ وَرَدَتْ بِتَعْجِيزِ قَوْمٍ فِي قَضَايَا أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَهَا فَعَجَزُوا عَنْهَا مَعَ تَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ، كَتَمَنِّي الْيَهُودِ الْمَوْتَ، وَمِنْهَا الرَّوْعَةُ الَّتِي تَحْصُلُ لِسَامِعِهِ، وَمِنْهَا أَنَّ قَارِئَهُ لَا يَمَلُّ مِنْ تَرْدَادِهِ وَسَامِعَهُ لَا يَمُجُّهُ وَلَا يَزْدَادُ بِكَثْرَةِ التَّكْرَارِ إِلَّا طَرَاوَةً وَلَذَاذَةً. وَمِنْهَا أَنَّهُ آيَةٌ بَاقِيَةٌ لَا تُعْدَمُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَمِنْهَا جَمْعُهُ لِعُلُومٍ وَمَعَارِفَ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهَا وَلَا تَنْتَهِي فَوَائِدُهَا. اهـ مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِ عِيَاضٍ، وَغَيْرِهِ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ:
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ النَّاقِدُ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ النَّاقِدِ وَغَيْرِهِ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَوَقَعَ فِي الْأَطْرَافِ لِخَلَفٍ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيِّ الْفَلَّاسُ وَرَأَيْتُ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ وَأَظُنُّهُ تَصْحِيفًا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، فَإِنَّ الثَّلَاثَةَ وَإِنْ كَانُوا
مَعْرُوفِينَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، لَكِنَّ النَّاقِدَ أَخَصُّ مِنْ غَيْرِهِ بِالرِّوَايَةِ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَرِوَايَةُ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ، بَلْ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنَ ابْنِ شِهَابٍ وَأَقْدَمُ سَمَاعًا، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَدْ سَمِعَ مِنَ ابْنِ شِهَابٍ كَمَا سَيَأْتِي تَصْرِيحُهُ بِتَحْدِيثِهِ لَهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي بَعْدَ بَابٍ وَاحِدٍ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ تَابَعَ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَفَاتِهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ إِنَّ اللَّهَ تَابَعَ عَلَى رَسُولِهِ الْوَحْيَ قَبْلَ وَفَاتِهِ أَيْ أَكْثَرَ إِنْزَالَهُ قُرْبَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوُفُودَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ كَثُرُوا وَكَثُرَ سُؤَالُهُمْ عَنِ الْأَحْكَامِ فَكَثُرَ النُّزُولُ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَوَقَعَ لِي سَبَبُ تَحْدِيثِ أَنَسٍ بِذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنِ الْإِمَامِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: هَلْ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ؟ قَالَ: أَكْثَرَ مَا كَانَ وَأَجَمَّهُ أَوْرَدَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي تَارِيخِ مِصْرَ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى تَوَفَّاهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ الْوَحْيُ) أَيِ الزَّمَانُ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ وَفَاتُهُ كَانَ نُزُولُ الْوَحْيِ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَزْمِنَةِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ) فِيهِ إِظْهَارُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْغَايَةُ فِي قَوْلِهِ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، وَهَذَا الَّذِي وَقَعَ أَخِيرًا عَلَى خِلَافِ مَا وَقَعَ أَوَّلًا، فَإِنَّ الْوَحْيَ فِي أَوَّلِ الْبَعْثَةِ فَتَرَ فَتْرَةً ثُمَّ كَثُرَ، وَفِي أَثْنَاءِ النُّزُولِ بِمَكَّةَ لَمْ يَنْزِلْ مِنَ السُّوَرِ الطِّوَالِ إِلَّا الْقَلِيلُ، ثُمَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ نَزَلَتِ السُّوَرُ الطِّوَالُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى غَالِبِ الْأَحْكَامِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ الزَّمَنُ الْأَخِيرُ مِنَ الْحَيَاةِ النَّبَوِيَّةِ أَكْثَرَ الْأَزْمِنَةِ نُزُولًا بِالسَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ، وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ لِتَضَمُّنِهِ الْإِشَارَةَ إِلَى كَيْفِيَّةِ النُّزُولِ.
الْحَدِيثُ الْسَّادِسُ:
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ قَرِيبًا فِي سُورَةِ وَالضُّحَى، وَوَجْهُ إِيرَادِهِ فِي هَذَا الْبَابِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ تَأْخِيرَ النُّزُولِ أَحْيَانًا إِنَّمَا كَانَ يَقَعُ لِحِكْمَةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ لَا لِقَصْدِ تَرْكِهِ أَصْلًا، فَكَانَ نُزُولُهُ عَلَى أَنْحَاءٍ شَتَّى: تَارَةً يَتَتَابَعُ، وَتَارَةً يَتَرَاخَى. وَفِي إِنْزَالِهِ مُفَرَّقًا وُجُوهٌ مِنَ الْحِكْمَةِ: مِنْهَا تَسْهِيلُ حِفْظِهِ لِأَنَّهُ لَوْ نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ لَا يَقْرَأُ غَالِبُهُمْ وَلَا يَكْتُبُ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ حِفْظُهُ. وَأَشَارَ سبحانه وتعالى إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ رَدًّا عَلَى الْكُفَّارِ: وَقَالُوا {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ} - أَيْ أَنْزَلْنَاهُ مُفَرَّقًا - {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} وَمِنْهَا مَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الشَّرَفِ لَهُ وَالْعِنَايَةِ بِهِ لِكَثْرَةِ تَرَدُّدِ رَسُولِ رَبِّهِ إِلَيْهِ يُعْلِمُهُ بِأَحْكَامِ مَا يَقَعُ لَهُ وَأَجْوِبَةِ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْحَوَادِثِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَنَاسَبَ أَنْ يَنْزِلَ مُفَرَّقًا، إِذْ لَوْ نَزَلَ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَشَقَّ بَيَانُهَا عَادَةً. وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ أَنْ يَنْسَخَ مِنْ أَحْكَامِهِ مَا شَاءَ، فَكَانَ إِنْزَالُهُ مُفَرَّقًا لِيَنْفَصِلَ النَّاسِخُ مِنَ الْمَنْسُوخِ أَوْلَى مِنْ إِنْزَالِهِمَا مَعًا. وَقَدْ ضَبَطَ النَّقَلَةُ تَرْتِيبَ نُزُولِ السُّوَرِ كَمَا سَيَأْتِي فِي باب تأليف القرآن ولم يضبطوا من ترتيب نزول الآيات إلا قليلا، وقد تقدم في تفسير اقرأ باسم ربك أنها أول سورة نزلت، ومع ذلك فنزل من أولها أولا خمس آيات، ثم نزل باقيها بعد ذلك، وكذلك سورة المدثر التي نزلت بعدها نزل أولها أولا ثم نزل سائرها بعد. وأوضح من ذلك ما أخرجه أصحاب السنن الثلاثة، وصححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس عن عثمان قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الآيات فيقول: ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
2 - بَاب نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ، {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} ، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}
4984 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: فَأَمَرَ عُثْمَانُ، زَيْدَ
بْنَ ثَابِتٍ، وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنْ يَنْسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي عَرَبِيَّةٍ مِنْ عَرَبِيَّةِ الْقُرْآنِ، فَاكْتُبُوهَا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا.
4985 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا عَطَاءٌ وَقَالَ مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ قَالَ أَخْبَرَنِي صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ يَعْلَى كَانَ يَقُولُ لَيْتَنِي أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْجِعْرَانَةِ عَلَيْهِ ثَوْبٌ قَدْ أَظَلَّ عَلَيْهِ وَمَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ بَعْدَ مَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاعَةً فَجَاءَهُ الْوَحْيُ فَأَشَارَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى أَنْ تَعَالَ فَجَاءَ يَعْلَى فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فَإِذَا هُوَ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ يَغِطُّ كَذَلِكَ سَاعَةً ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ أَيْنَ الَّذِي يَسْأَلُنِي عَنْ الْعُمْرَةِ آنِفًا فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ فَجِيءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ"
قَوْلُهُ: (بَابٌ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ، قُرْآنًا عَرَبِيًّا - بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى قُرْآنًا إِلَخْ. وَأَمَّا نُزُولُهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ فَمَذْكُورٌ فِي الْبَابِ مِنْ قَوْلِ عُثْمَانَ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَأَقْرِئِ النَّاسَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ لَا بِلُغَةِ هُذَيْلٍ وَأَمَّا عَطْفُ الْعَرَبِ عَلَيْهِ فَمِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، لِأَنَّ قُرَيْشًا مِنَ الْعَرَبِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْآيَتَيْنِ فَهُوَ حُجَّةٌ لِذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عُمَرَ قَالَ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي اللُّغَةِ فَاكْتُبُوهَا بِلِسَانِ مُضَرَ اهـ وَمُضَرُ هُوَ ابْنُ نِزَارِ بْنِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ وَإِلَيْهِ تَنْتَهِي أَنْسَابُ قُرَيْشٍ وَقَيْسٍ وَهُذَيْلٍ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ: مَعْنَى قَوْلِ عُثْمَانَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ أَيْ مُعْظَمُهُ، وَأَنَّهُ لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أَنَّهُ نَزَلَ بِجَمِيعِ أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَرَادَ مُضَرَ دُونَ رَبِيعَةَ أَوْ هُمَا دُونَ الْيَمَنِ أَوْ قُرَيْشًا دُونَ غَيْرِهِمْ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ، لِأَنَّ اسْمَ الْعَرَبِ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ تَنَاوُلًا وَاحِدًا، وَلَوْ سَاغَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى لَسَاغَ لِلْآخَرِ أَنْ يَقُولَ نَزَلَ بِلِسَانِ بَنِي هَاشِمٍ مَثَلًا لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ سَائِرِ قُرَيْشٍ.
وَقَالَ أَبُو شَامَةَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ أَيِ ابْتِدَاءُ نُزُولِهِ، ثُمَّ أُبِيحَ أَنْ يُقْرَأَ بِلُغَةِ غَيْرِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي بَابِ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ اهـ. وَتَكْمِلَتُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ نَزَلَ أَوَّلًا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ أَحَدُ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، ثُمَّ نَزَلَ بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الْمَأْذُونِ فِي قِرَاءَتِهَا تَسْهِيلًا وَتَيْسِيرًا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، فَلَمَّا جَمَعَ عُثْمَانُ النَّاسَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ رَأَى أَنَّ الْحَرْفَ الَّذِي نَزَلَ الْقُرْآنُ أَوَّلًا بِلِسَانِهِ أَوْلَى الْأَحْرُفِ فَحَمَلَ النَّاسَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ لِسَانَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِمَا لَهُ مِنَ الْأَوَّلِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ كَلَامُ عُمَرَ، لِابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَأَخْبَرَنِي) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: فَأَمَرَ عُثْمَانُ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، فَاقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ مِنَ الْحَدِيثِ عَلَى مَوْضِعِ الْحَاجَةِ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِهِمْ أَيْ
قُرَيْشٍ.
قَوْلُهُ: (أَنْ يَنْسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَالضَّمِيرُ لِلسُّوَرِ أَوْ لِلْآيَاتِ أَوِ الصُّحُفِ الَّتِي أُحْضِرَتْ مِنْ بَيْتِ حَفْصَةَ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ أَنْ يَنْسَخُوا مَا فِي الْمَصَاحِفِ أَيْ يَنْقُلُوا الَّذِي فِيهَا إِلَى مَصَاحِفَ أُخْرَى، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ لِأَنَّهُ كَانَ فِي صُحُفٍ لَا مَصَاحِفَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُسَدَّدٌ:، حَدَّثَنَا يَحْيَى) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ الْقَطَّانُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَقَعَ لَنَا مَوْصُولًا فِي رِوَايَةِ مُسَدَّدٍ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْهُ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ يَعْلَى) هُوَ ابْنُ أُمَيَّةَ وَالِدُ صَفْوَانَ.
قَوْلُهُ: (كَانَ يَقُولُ: لَيْتَنِي أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَخْ) هَذَا صُورَتُهُ مُرْسَلٌ، لِأَنَّ صَفْوَانَ بْنَ يَعْلَى مَا حَضَرَ الْقِصَّةَ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي كِتَابِ الْعُمْرَةِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ بِالْإِسْنَادِ الْآخَرِ الْمَذْكُورِ هُنَا عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ هَمَّامٍ فَقَالَ فِيهِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ فَوَضَحَ أَنَّهُ سَاقَهُ هُنَا عَلَى لَفْظِ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِنَحْوِ اللَّفْظِ الَّذِي سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحَجِّ. وَقَدْ خَفِيَ وَجْهُ دُخُولِهِ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ حَتَّى قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: ذِكْرُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي التَّرْجَمَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ النُّسَّاخِ.
وَقِيلَ: بَلْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُرْسِلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَقَطْ لِكَوْنِهِمْ قَوْمَهُ، بَلْ أُرْسِلَ بِلِسَانِ جَمِيعِ الْعَرَبِ لِأَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ كُلِّهُمْ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ خَاطَبَ الْأَعْرَابِيَّ الَّذِي سَأَلَهُ بِمَا يَفْهَمُهُ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ بِجَوَابِ مَسْأَلَتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِمَا يَفْهَمُهُ السَّائِلُ مِنَ الْعَرَبِ قُرَشِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ قُرَشِيٍّ، وَالْوَحْيُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ قُرْآنًا يُتْلَى أَوْ لَا يُتْلَى.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ الْوَحْيَ كُلَّهُ مَتْلُوًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَتْلُوٍّ إِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا كَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً عَرَبًا وَعَجَمًا وَغَيْرِهِمْ لِأَنَّ اللِّسَانَ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ بِهِ الْوَحْيُ عَرَبِيٌّ وَهُوَ يُبَلِّغُهُ إِلَى طَوَائِفِ الْعَرَبِ وَهُمْ يُتَرْجِمُونَهُ لِغَيْرِ الْعَرَبِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: كَانَ إِدْخَالُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ أَلْيَقُ، لَكِنْ لَعَلَّهُ قَصَدَ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ الْوَحْيَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كَانَ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَلِسَانٍ وَاحِدٍ.
3 - بَاب جَمْعِ الْقُرْآنِ
4986 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ اسْتَحَرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ نَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ، وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ. قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا
أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ.
قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ. لَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رضي الله عنهما. فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتْ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رضي الله عنه.
4987 -
حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ.
4988 -
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ فَقَدْتُ آيَةً مِنْ الأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهَا فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ"
قَوْلُهُ: (بَابُ جَمْعِ الْقُرْآنِ) الْمُرَادُ بِالْجَمْعِ هُنَا جَمْعٌ مَخْصُوصٌ، وَهُوَ جَمْعُ مُتَفَرِّقِهِ فِي صُحُفٍ، ثُمَّ جَمْعُ تِلْكَ الصُّحُفِ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ مُرَتَّبِ السُّوَرِ. وَسَيَأْتِي بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ بَابُ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَاكَ تَأْلِيفُ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ أَوْ تَرْتِيبُ السُّوَرِ فِي الْمُصْحَفِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، مَدَنِيٌّ يُكَنَّى أَبَا سَعِيدٍ، ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنَ التَّابِعِينَ، لَكِنْ لَمْ أَرَ لَهُ رِوَايَةً عَنْ أَقْدَمِ مِنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ الَّذِي مَاتَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ، وَحَدِيثُهُ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، لَكِنَّهُ كَرَّرَهُ فِي التَّفْسِيرِ وَالْأَحْكَامِ وَالتَّوْحِيدِ وَغَيْرِهَا مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا.
قَوْلُهُ: (عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ قِصَّةَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَقِصَّةَ حُذَيْفَةَ مَعَ عُثْمَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَقِصَّةَ فَقْدِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ
بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمِّعٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَأَدْرَجَ قِصَّةَ آيَةِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ، وَأَغْرَبَ عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ فَرَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ وَسَاقَ الْقِصَصَ الثَّلَاثَ بِطُولِهَا: قِصَّةَ زَيْدٍ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ؛ ثُمَّ قِصَّةَ حُذَيْفَةَ مَعَ عُثْمَانَ أَيْضًا، ثُمَّ قِصَّةَ فَقْدِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَبَيَّنَ الْخَطِيبُ فِي الْمُدْرَجِ أَنَّ ذَلِكَ وَهْمٌ مِنْهُ، وَأَنَّهُ أَدْرَجَ بَعْضَ الْأَسَانِيدِ عَلَى بَعْضٍ.
قَوْلُهُ: (أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الرَّسُولِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، وَرَوَيْنَا فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ فَوَائِدِ الدَّيْرِعَاقُولِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ جُمِعَ فِي شَيْءٍ.
قَوْلُهُ: (مَقْتَلُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ) أَيْ عَقِبَ قَتْلِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ. وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْيَمَامَةِ هُنَا مَنْ قُتِلَ بِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ فِي الْوَقْعَةِ مَعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، وَكَانَ مِنْ شَأْنِهَا أَنَّ مُسَيْلِمَةَ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَقَوِيَ أَمْرُهُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِارْتِدَادِ كَثِيرٍ مِنَ الْعَرَبِ، فَجَهَّزَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَحَارَبُوهُ أَشَدَّ مُحَارَبَةٍ، إِلَى أَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ وَقَتَلَهُ، وَقُتِلَ فِي غُضُونِ ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ قِيلَ سَبْعُمِائَةٍ، وَقِيلَ أَكْثَرُ.
قَوْلُهُ: (قَدِ اسْتَحَرَّ) بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ وَمُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ مَفْتُوحَةٌ، ثُمَّ رَاءٌ ثَقِيلَةٌ، أَيِ اشْتَدَّ وَكَثُرَ، وَهُوَ اسْتَفْعَلَ مِنَ الْحَرِّ لِأَنَّ الْمَكْرُوهَ غَالِبًا يُضَافُ إِلَى الْحَرِّ، كَمَا أَنَّ الْمَحْبُوبَ يُضَافُ إِلَى الْبَرْدِ يَقُولُونَ: أَسْخَنَ اللَّهُ عَيْنَهُ وَأَقَرَّ عَيْنَهُ. وَوَقَعَ مِنْ تَسْمِيَةِ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ أَرَادَ عُمَرُ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ الْمَذْكُورَةِ قَتْلُ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَلَفْظُهُ فَلَمَّا قُتِلَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ خَشِيَ عُمَرُ أَنْ يَذْهَبَ الْقُرْآنُ، فَجَاءَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَسَيَأْتِي أَنَّ سَالِمًا أَحَدُ مَنْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَخْذِ الْقُرْآنِ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ) أَيْ فِي الْمَوَاطِنِ أَيِ الْأَمَاكِنِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْقِتَالُ مَعَ الْكُفَّارِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي الْمَوَاطِنِ وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ وَأَنَا أَخْشَى أَنْ لَا يَلْقَى الْمُسْلِمُونَ زَحْفًا آخَرَ إِلَّا اسْتَحَرَّ الْقَتْلُ بِأَهْلِ الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: (فَيَذْهَبُ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ) فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ إِلَّا أَنْ يَجْمَعُوهُ. وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ الْبَاقُونَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ قُتِلَ فِي وَقْعَةِ الْيَمَامَةِ كَانَ قَدْ حَفِظَ الْقُرْآنَ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ مَجْمُوعَهُمْ جَمَعَهُ لَا أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ جَمَعَهُ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ فِي بَابِ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ لِعُمَرَ) هُوَ خِطَابُ أَبِي بَكْرٍ، لِعُمَرَ، حَكَاهُ ثَانِيًا لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ لَمَّا أَرْسَلَ إِلَيْهِ، وَهُوَ كَلَامُ مَنْ يُؤْثِرُ الِاتِّبَاعَ وَيَنْفِرُ مِنَ الِابْتِدَاعِ.
قَوْلُهُ: (لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ تَصْرِيحُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ فَنَفَرَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: أَفْعَلُ مَا لَمْ يَفْعَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟! وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا لَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ لِمَا كَانَ يَتَرَقَّبُهُ مِنْ وُرُودِ نَاسِخٍ لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ أَوْ تِلَاوَتِهِ، فَلَمَّا انْقَضَى نُزُولُهُ بِوَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم أَلْهَمَ اللَّهُ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ ذَلِكَ وَفَاءً لِوَعْدِ الصَّادِقِ بِضَمَانِ حِفْظِهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ زَادَهَا اللَّهُ شَرَفًا، فَكَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ عَلَى يَدِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه بِمَشُورَةِ عُمَرَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: أَعْظَمُ النَّاسِ فِي الْمَصَاحِفِ أَجْرًا أَبُو بَكْرٍ، رَحْمَتُ اللَّهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، هُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ كِتَابَ اللَّهِ.
وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ الْحَدِيثَ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي كِتَابَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَدْ كَانَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ كُتِبَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكِنْ غَيْرُ مَجْمُوعٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَلَا مُرَتَّبُ السُّوَرِ.
وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آلَيْتُ أَنْ لَا آخُذَ عَلَى رِدَائِي إِلَّا لِصَلَاةِ جُمُعَةٍ حَتَّى أَجْمَعَ الْقُرْآنَ فَجَمَعَهُ فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ لِانْقِطَاعِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا فَمُرَادُهُ بِجَمْعِهِ حِفْظُهُ فِي صَدْرِهِ، قَالَ: وَالَّذِي وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ حَتَّى جَمَعْتُهُ بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ وَهْمٌ مِنْ رَاوِيهِ.
قُلْتُ: وَمَا تَقَوَمَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ أَصَحُّ، فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا بَيَانُ السَّبَبِ فِي إِشَارَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِذَلِكَ، فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقِيلَ: كَانَتْ مَعَ فُلَانٍ فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ، وَأَمَرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَهُ فِي الْمُصْحَفِ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا حُمِلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَهُ أَيْ أَشَارَ بِجَمْعِهِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ فَنَسَبَ الْجَمْعَ إِلَيْهِ لِذَلِكَ.
وَقَدْ تُسَوَّلُ لِبَعْضِ الرَّوَافِضِ أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ الِاعْتِرَاضُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ بِمَا فَعَلَهُ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ فَقَالَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ إِلَّا بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ السَّائِغِ النَّاشِئِ عَنِ النُّصْحِ مِنْهُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ فِي كِتَابَةِ الْقُرْآنِ وَنَهَى أَنْ يُكْتَبَ مَعَهُ غَيْرُهُ، فَلَمْ يَأْمُرْ أَبُو بَكْرٍ إِلَّا بِكِتَابَةِ مَا كَانَ مَكْتُوبًا، وَلِذَلِكَ تَوَقَّفَ عَنْ كِتَابَةِ الْآيَةِ مِنْ آخِرِ سُورَةٍ بَرَاءَةٌ حَتَّى وَجَدَهَا مَكْتُوبَةً، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحْضِرُهَا هُوَ وَمَنْ ذَكَرَ مَعَهُ.
وَإِذَا تَأَمَّلَ الْمُنْصِفُ مَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ مِنْ ذَلِكَ جَزَمَ بِأَنَّهُ يُعَدُّ فِي فَضَائِلِهِ وَيُنَوِّهُ بِعَظِيمِ مَنْقَبَتِهِ، لِثُبُوتِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا فَمَا جَمَعَ الْقُرْآنَ أَحَدٌ بَعْدَهُ إِلَّا وَكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ مِنَ الِاعْتِنَاءِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مَا اخْتَارَ مَعَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى ابْنِ الدِّغِنَّةِ جِوَارَهُ وَيَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْقِصَّةُ مَبْسُوطَةً فِي فَضَائِلِهِ، وَقَدْ أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ مَجْمُوعٌ فِي الصُّحُفِ فِي قَوْلِهِ:{يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} الْآيَةَ، وَكَانَ الْقُرْآنُ مَكْتُوبًا فِي الصُّحُفِ، لَكِنْ كَانَتْ مُفَرَّقَةً فَجَمَعَهَا أَبُو بَكْرٍ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ كَانَتْ بَعْدَهُ مَحْفُوظَةً إِلَى أَنْ أَمَرَ عُثْمَانُ بِالنَّسْخِ مِنْهَا، فَنَسَخَ مِنْهَا عِدَّةَ مَصَاحِفَ، وَأَرْسَلَ بِهَا إِلَى الْأَمْصَارِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ زَيْدٌ) أَيِ ابْنُ ثَابِتٍ (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) أَيْ قَالَ لِي (إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ) ذَكَرَ لَهُ أَرْبَعَ صِفَاتٍ مُقْتَضِيَةٍ خُصُوصِيَّتَهُ بِذَلِكَ: كَوْنُهُ شَابًّا فَيَكُونُ أَنْشَطَ لِمَا يُطْلَبُ مِنْهُ، وَكَوْنُهُ عَاقِلًا فَيَكُونُ أَوْعَى لَهُ، وَكَوْنُهُ لَا يُتَّهَمُ فَتَرْكَنُ النَّفْسُ إِلَيْهِ، وَكَوْنُهُ كَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ فَيَكُونُ أَكْثَرَ مُمَارَسَةً لَهُ. وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الَّتِي اجْتَمَعَتْ لَهُ قَدْ تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ لَكِنْ مُفَرَّقَةً. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ أَصْلُ الْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِفْ زَيْدًا بِأَكْثَرَ مِنَ الْعَقْلِ، وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِائْتِمَانِهِ وَرَفْعِ التُّهْمَةِ عَنْهُ، كَذَا قَالَ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ الْبَحْثِ فِيهِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا إِذَا عَزَمْتَ عَلَى هَذَا فَأَرْسِلْ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَادْعُهُ، فَإِنَّهُ كَانَ شَابًّا حَدَثًا نَقِيًّا يَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَرْسِلْ إِلَيْهِ فَادْعُهُ حَتَّى يَجْمَعَهُ مَعَنَا. قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: فَأَرْسَلَا إِلَيَّ فَأَتَيْتُهُمَا، فَقَالَا لِي: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَجْمَعَ الْقُرْآنَ فِي شَيْءٍ، فَاجْمَعْهُ مَعَنَا. وَفِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ فَقَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ هَذَا دَعَانِي إِلَى أَمْرٍ، وَأَنْتَ كَاتِبُ الْوَحْيِ، فَإِنْ تَكُ مَعَهُ اتَّبَعْتُكُمَا، وَإِنْ تُوَافِقْنِي لَا أَفْعَلُ فَاقْتَضَى قَوْلُ عُمَرَ - فَنَفَرْتُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ، كَلِّمْهُ وَمَا عَلَيْكُمَا لَوْ فَعَلْتُمَا، قَالَ: فَنَظَرْنَا فَقُلْنَا: لَا شَيْءَ وَاللَّهِ، مَا عَلَيْنَا.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا نَفَرَ أَبُو بَكْرٍ أَوَّلًا، ثُمَّ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ثَانِيًا لِأَنَّهُمَا لَمْ يَجِدَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ، فَكَرِهَا أَنْ يُحِلَّا أَنْفُسَهُمَا مَحَلَّ مَنْ يَزِيدُ احْتِيَاطُهُ لِلدِّينِ عَلَى احْتِيَاطِ الرَّسُولِ فَلَمَّا نَبَّهَهُمَا عُمَرُ عَلَى فَائِدَةِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ خَشْيَةَ أَنْ يَتَغَيَّرَ الْحَالُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِذَا لَمْ يُجْمَعِ
الْقُرْآنُ فَيَصِيرُ إِلَى حَالَةِ الْخَفَاءِ بَعْدَ الشُّهْرَةِ، رَجَعَا إِلَيْهِ.
قَالَ: وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الرَّسُولِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنِ الْقَرَائِنِ - وَكَذَا تَرْكُهُ - لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبٍ وَلَا تَحْرِيمٍ انْتَهَى.
وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى احْتِيَاطِ الرَّسُولِ، بَلْ هُوَ مُسْتَمَدٌّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الَّتِي مَهَّدَهَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ ابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ: كَانَ الَّذِي فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ مِنْ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} وَقَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى} وَقَوْلِهِ: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} قَالَ: فَكُلُّ أَمْرٍ يَرْجِعُ لِإِحْصَائِهِ وَحِفْظِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ. قَالَ: وَقَدْ فَهِمَ عُمَرُ أَنَّ تَرْكَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَمْعَهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْمَنْعِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا رَأَى وَجْهَ الْإِصَابَةِ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَنْقُولِ وَلَا فِي الْمَعْقُولِ مَا يُنَافِيهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِ جَمْعِهِ مِنْ ضَيَاعِ بَعْضِهِ، ثُمَّ تَابَعَهُمَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ عَلَى تَصْوِيبِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ) كَأَنَّهُ جَمَعَ أَوَّلًا بِاعْتِبَارِ أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَأَفْرَدَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ الْآمِرُ وَحْدَهُ بِذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ لَوْ كَلَّفَنِي بِالْإِفْرَادِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ذَلِكَ لِمَا خَشِيَهُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي إِحْصَاءِ مَا أُمِرَ بِجَمْعِهِ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسَّرَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}
قَوْلُهُ: (فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ) أَيْ: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي عِنْدِي وَعِنْدَ غَيْرِي.
قَوْلُهُ: (مِنَ الْعُسُبِ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَتَيْنِ، ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ جَمْعُ عَسِيبٍ وَهُوَ جَرِيدُ النَّخْلِ، كَانُوا يَكْشِطُونَ الْخُوصَ وَيَكْتُبُونَ فِي الطَّرَفِ الْعَرِيضِ. وَقِيلَ: الْعَسِيبُ طَرَفُ الْجَرِيدَةِ الْعَرِيضِ الَّذِي لَمْ يَنْبُتْ عَلَيْهِ الْخُوصُ، وَالَّذِي يَنْبُتُ عَلَيْهِ الْخُوصُ هُوَ السَّعَفُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الْقَصَبِ وَالْعُسُبِ وَالْكَرَانِيفَ وَجَرَائِدَ النَّخْلِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ مِنَ الرِّقَاعِ جَمْعُ رُقْعَةٍ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ جِلْدٍ أَوْ وَرَقٍ أَوْ كَاغِدٍ، وَفِي رِوَايَةِ عَمَّارِ بْنِ غَزِيَّةَ وَقِطَعِ الْأَدِيمِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ وَالصُّحُفِ.
قَوْلُهُ: (وَاللِّخَافِ) بِكَسْرِ اللَّامِ ثُمَّ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ خَفِيفَةٍ وَآخِرُهُ فَاءٌ جَمْعُ لَخْفَةٍ بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ وَاللُّخُفِ بِضَمَّتَيْنِ وَفِي آخِرِهِ فَاءٌ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: هِيَ الْحِجَارَةُ الرِّقَاقُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: صَفَائِحُ الْحِجَارَةِ الرِّقَاقِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: فِيهَا عِرَضٌ وَدِقَّةٌ.
وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ فِي الْأَحْكَامِ عَنْ أَبِي ثَابِتٍ أَحَدِ شُيُوخِهِ أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِالْخَزَفِ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالزَّايِ، ثُمَّ فَاءٍ وَهِيَ الْآنِيَةُ الَّتِي تُصْنَعُ مِنَ الطِّينِ الْمَشْوِيِّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ وَالْأَكْتَافِ جَمْعُ كَتِفٍ وَهُوَ الْعَظْمُ الَّذِي لِلْبَعِيرِ أَوِ الشَّاةِ، كَانُوا إِذَا جَفَّ كَتَبُوا فِيهِ. وَفِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ وَكِسَرِ الْأَكْتَافِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مُجَمِّعٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ وَالْأَضْلَاعِ وَعِنْدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَالْأَقْتَابِ بِقَافٍ وَمُثَنَّاةٍ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ جَمْعُ قَتَبٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ الْخَشَبُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ لِيُرْكَبَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا فِي الْمَصَاحِفِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ: قَامَ عُمَرُ فَقَالَ: مَنْ كَانَ تَلَقَّى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فَلْيَأْتِ بِهِ.
وَكَانُوا يَكْتُبُونَ ذَلِكَ فِي الصُّحُفِ وَالْأَلْوَاحِ وَالْعُسُبِ قَالَ: وَكَانَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَيْدًا كَانَ لَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ وِجْدَانِهِ مَكْتُوبًا حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ مَنْ تَلَقَّاهُ سَمَاعًا؛ مَعَ كَوْنِ زَيْدٍ كَانَ يَحْفَظُهُ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي الِاحْتِيَاطِ.
وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِعُمَرَ، وَلِزَيْدٍ: اقْعُدَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَمَنْ جَاءَكُمَا بِشَاهِدَيْنِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَاكْتُبَاهُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ مَعَ انْقِطَاعِهِ، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّاهِدَيْنِ الْحِفْظُ
وَالْكِتَابُ، أَوِ الْمُرَادَ أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَكْتُوبَ كُتِبَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ. وَكَانَ غَرَضُهُمْ أَنْ لَا يُكْتَبَ إِلَّا مِنْ عَيْنِ مَا كُتِبَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا مِنْ مُجَرَّدِ الْحِفْظِ.
قَوْلُهُ: (وَصُدُورِ الرِّجَالِ) أَيْ حَيْثُ لَا أَجِدُ ذَلِكَ مَكْتُوبًا. أَوِ الْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ أَيْ أَكْتُبُهُ مِنَ الْمَكْتُوبِ الْمُوَافِقِ لِلْمَحْفُوظِ فِي الصَّدْرِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ فَقَالَ فِيهِ: خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ أَصَحُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ، وَأَنَّ الَّذِي وُجِدَ مَعَهُ آخِرُ سُورَةِ التَّوْبَةِ غَيْرُ الَّذِي وُجِدَ مَعَهُ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْأَحْزَابِ، فَالْأَوَّلُ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِيهِ عَلَى الزُّهْرِيِّ، فَمِنْ قَائِلٍ مَعَ خُزَيْمَةَ وَمِنْ قَائِلٍ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ وَمِنْ شَاكٍّ فِيهِ يَقُولُ خُزَيْمَةُ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ وَالْأَرْجَحُ أَنَّ الَّذِي وُجِدَ مَعَهُ آخِرُ سُورَةِ التَّوْبَةِ أَبُو خُزَيْمَةَ بِالْكُنْيَةِ، وَالَّذِي وُجِدَ مَعَهُ الْآيَةُ مِنَ الْأَحْزَابِ خُزَيْمَةُ. وَأَبُو خُزَيْمَةَ قِيلَ: هُوَ ابْنُ أَوْسِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ أَصْرَمَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ دُونَ اسْمِهِ، وَقِيلَ: هُوَ الْحَارِثُ بْنُ خُزَيْمَةَ، وَأَمَّا خُزَيْمَةُ فَهُوَ ابْنُ ثَابِتٍ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ صَرِيحًا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَى الْحَارِثُ بْنُ خُزَيْمَةَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، مِنْ آخِرِ سُورَةِ بَرَاءَةَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوَعَيْتُهُمَا، فَقَالَ عُمَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ لَقَدْ سَمِعْتُهُمَا. ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانَتْ ثَلَاثَ آيَاتٍ لَجَعَلْتُهَا سُورَةً عَلَى حِدَةٍ، فَانْظُرُوا سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ فَأَلْحِقُوهَا فِي آخِرِهَا فَهَذَا إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَجَدْتُهَا مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ غَيْرِهِ أَيْ أَوَّلَ مَا كَتَبْتُ، ثُمَّ جَاءَ الْحَارِثُ بْنُ خُزَيْمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّ أَبَا خُزَيْمَةَ هُوَ الْحَارِثُ بْنُ خُزَيْمَةَ لَا ابْنُ أَوْسٍ. وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ لَوْ كَانَتْ ثَلَاثُ آيَاتٍ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَلِّفُونَ آيَاتِ السُّوَرِ بِاجْتِهَادِهِمْ، وَسَائِرُ الْأَخْبَارِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ. نَعَمْ تَرْتِيبُ السُّوَرِ بَعْضُهَا إِثْرَ بَعْضٍ كَانَ يَقَعُ بَعْضُهُ مِنْهُمْ بِالِاجْتِهَادِ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: (لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ) أَيْ مَكْتُوبَةً، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ لَا يَكْتَفِي بِالْحِفْظِ دُونَ الْكِتَابَةِ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ وِجْدَانِهِ إِيَّاهَا حِينَئِذٍ أَنْ لَا تَكُونَ تَوَاتَرَتْ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَتَلَقَّهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا كَانَ زَيْدٌ يَطْلُبُ التَّثَبُّتَ عَمَّنْ تَلَقَّاهَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَلَعَلَّهُمْ لَمَّا وَجَدَهَا زَيْدٌ عِنْدَ أَبِي خُزَيْمَةَ تَذَكَّرُوهَا كَمَا تَذَكَّرَهَا زَيْدٌ. وَفَائِدَةُ التَّتَبُّعِ الْمُبَالَغَةُ فِي الِاسْتِظْهَارِ، وَالْوُقُوفُ عِنْدَمَا كُتِبَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا مِمَّا يَخْفَى مَعْنَاهُ. وَيُوهِمُ أَنَّهُ كَانَ يَكْتَفِي فِي إِثْبَاتِ الْآيَةِ بِخَبَرِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدِ اجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو خُزَيْمَةَ، وَعُمَرُ. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ قَالَ: لَمْ يَتَفَرَّدْ بِهَا أَبُو خُزَيْمَةَ، بَلْ شَارَكَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَعَلَى هَذَا تَثْبُتُ بِرَجُلَيْنِ اهـ. وَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يَثْبُتُ الْقُرْآنُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَيِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ، بَلِ الْمُرَادُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ خِلَافُ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، فَلَوْ بَلَغَتْ رُوَاةُ الْخَبَرِ عَدَدًا كَثِيرًا وَفَقَدَ شَيْئًا مِنْ شُرُوطِ الْمُتَوَاتِرِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ خَبَرَ الْوَاحِدِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ نَفْيُ وُجُودِهَا مَكْتُوبَةً، لَا نَفْيَ كَوْنِهَا مَحْفُوظَةً. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ فَجَاءَ خُزَيْمَةُ
بْنُ ثَابِتٍ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَرَكْتُمْ آيَتَيْنِ فَلَمْ تَكْتُبُوهُمَا. قَالُوا: وَمَا هُمَا؟ قَالَ: تَلَقَّيْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: وَأَنَا أَشْهَدُ، فَكَيْفَ تَرَى أَنْ تَجْعَلَهُمَا؟ قَالَ: أَخْتِمُ بِهِمَا آخِرَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُمْ لَمَّا جَمَعُوا الْقُرْآنَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ كَانَ الَّذِي يُمْلِي عَلَيْهِمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَلَمَّا انْتَهَوْا مِنْ بَرَاءَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَفْقَهُونَ ظَنُّوا أَنَّ هَذَا آخِرُ مَا نَزَلَ مِنْهَا، فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آيَتَيْنِ بَعْدَهُنَّ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
قَوْلُهُ: (فَكَانَتِ الصُّحُفُ) أَيِ الَّتِي جَمَعَهَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ.
قَوْلُهُ: (عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ) فِي مُوَطَّأِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: جَمَعَ أَبُو بَكْرٍ الْقُرْآنَ فِي قَرَاطِيسَ، وَكَانَ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فِي ذَلِكَ فَأَبَى حَتَّى اسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِعُمَرَ فَفَعَلَ وَعِنْدَ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: لَمَّا أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ بِالْيَمَامَةِ فَزِعَ أَبُو بَكْرٍ، وَخَافَ أَنْ يَهْلِكَ مِنَ الْقُرَّاءِ طَائِفَةٌ، فَأَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ مَعَهُمْ وَعِنْدَهُمْ، حَتَّى جُمِعَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ فِي الْوَرَقِ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ فِي الصُّحُفِ وَهَذَا كُلُّهُ أَصَحُّ مِمَّا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: فَأَمَرَنِي أَبُو بَكْرٍ فَكَتَبْتُ فِي قِطَعِ الْأَدِيمِ وَالْعُسُبِ، فَلَمَّا هَلَكَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ عُمَرُ كَتَبْتُ ذَلِكَ فِي صَحِيفَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَتْ عِنْدَهُ وَإِنَّمَا كَانَ فِي الْأَدِيمِ وَالْعُسُبِ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يُجْمَعَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ جُمِعَ فِي الصُّحُفِ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ الْمُتَرَادِفَةُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ) أَيْ: بَعْدَ عُمَرَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، إِلَى أَنْ شَرَعَ عُثْمَانُ فِي كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ. وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ حَفْصَةَ لِأَنَّهَا كَانَتْ وَصِيَّةَ عُمَرَ، فَاسْتَمَرَّ مَا كَانَ عِنْدَهُ عِنْدَهَا حَتَّى طَلَبَهُ مِنْهَا مَنْ لَهُ طَلَبُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ هُوَ الَّذِي قَبْلَهُ بِعَيْنِهِ، أَعَادَهُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ لِابْنِ شِهَابٍ فِي قِصَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَإِنِ اتَّفَقَتَا فِي كِتَابَةِ الْقُرْآنِ وَجَمْعِهِ. وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قِصَّةٌ ثَالِثَةٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ فِي قِصَّةِ الْآيَةِ الَّتِي مِنَ الْأَحْزَابِ، وَقَدْ ذَكَرَهَا فِي آخِرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ الثَّانِيَةِ هُنَا. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مُفَرَّقًا، فَأَخْرَجَ الْقِصَّةَ الْأُولَى فِي تَفْسِيرِ التَّوْبَةِ. وَأَخْرَجَ الثَّانِيَةَ قَبْلَ هَذَا بِبَابٍ لَكِنْ بِاخْتِصَارٍ.
وَأَخْرَجَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ وَابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ وَالْخَطِيبُ فِي الْمُدْرَجِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْيَمَانِ بِتَمَامِهِ. وَأَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ الثَّالِثَةَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ الْخَطِيبُ: رَوَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الْقِصَصَ الثَّلَاثَ، ثُمَّ سَاقَهَا مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مَسَاقًا وَاحِدًا مُفَصِّلًا لِلْأَسَانِيدِ الْمَذْكُورَةِ، قَالَ: وَرَوَى الْقِصَصَ الثَّلَاثَ شُعَيْبٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَرَوَى قِصَّةَ آخِرِ التَّوْبَةِ مُفْرَدًا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ.
قُلْتُ: وَرِوَايَتُهُ تَأْتِي عَقِبَ هَذَا بِاخْتِصَارٍ. وَقَدْ أَخْرَجَهَا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يُونُسَ مُطَوَّلَةً، وَفَاتَهُ رِوَايَةُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ لَهَا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَيْضًا، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ قَبْلُ قَالَ: وَرَوَى قِصَّةَ آيَةِ الْأَحْزَابِ مَعْمَرٌ، وَهِشَامُ بْنُ الْغَازِ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ يَحْيَى ثَلَاثَتُهُمْ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، ثُمَّ سَاقَهَا عَنْهُمْ.
قُلْتُ: وَفَاتَهُ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ لَهَا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَهِيَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْجِهَادِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالْمُرَادُ أَنَّ أَرْمِينِيَّةَ فُتِحَتْ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَكَانَ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيَّ، وَكَانَ عُثْمَانُ أَمَرَ أَهْلَ الشَّامِ وَأَهْلَ الْعِرَاقِ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ أَمِيرُ أَهْلِ
الشَّامِ عَلَى ذَلِكَ الْعَسْكَرِ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيَّ، وَكَانَ حُذَيْفَةُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ غَزَا مَعَهُمْ، وَكَانَ هُوَ عَلَى أَهْلِ الْمَدَائِنِ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَعْمَالِ الْعِرَاقِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ فِي فَرْجِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ: الْفَرْجُ: الثَّغْرُ. وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ حُذَيْفَةَ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ يَغْزُو مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ قِبَلَ أَرْمِينِيَّةَ فِي غَزْوِهِمْ ذَلِكَ الْفَرْجَ مَعَ مَنِ اجْتَمَعَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَهْلِ الشَّامِ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ اجْتَمَعَ لِغَزْوِ أَذْرَبِيجَانَ وَأَرْمِينِيَّةَ أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ.
وَأَرْمِينِيَّةَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عِنْدَ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَبِكَسْرِهَا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَبِهِ جَزَمَ الْجَوَالِيقِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ ثُمَّ النَّوَوِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَنْ ضَمَّهَا فَقَدْ غَلِطَ، وَبِسُكُونِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، ثُمَّ نُونٌ مَكْسُورَةٌ، ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ خَفِيفَةٌ وَقَدْ تُثَقَّلُ قَالَهُ يَاقُوتُ، وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهَا أَرْمَنِيٌّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ ضَبَطَهَا الْجَوْهَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ قُرْقُولٍ: بِالتَّخْفِيفِ لَا غَيْرَ، وَحَكَى ضَمَّ الْهَمْزَةِ وَغَلِطَ. وَإِنَّمَا الْمَضْمُومُ هَمْزَتُهَا أُرْمِيَّةُ وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهَا أُرْمُوِيٌّ وَهِيَ بَلْدَةٌ أُخْرَى مِنْ بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ، وَأَمَّا أَرْمِينِيَّةُ فَهِيَ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ نَوَاحِي خِلَاطٍ. وَمَدَّ الْأَصِيلِيُّ، وَالْمُهَلَّبُ أَوَّلَهُ
(1)
وَزَادَ الْمُهَلَّبُ الدَّالَ وَكَسْرَ الرَّاءِ وَتَقْدِيمَ الْمُوَحَّدَةِ، تَشْتَمِلُ عَلَى بِلَادٍ كَثِيرَةٍ، وَهِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّمَالِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: هِيَ مِنْ جِهَةِ بِلَادِ الرُّومِ يُضْرَبُ بِحُسْنِهَا وَطِيبِ هَوَائِهَا وَكَثْرَةِ مَائِهَا وَشَجَرِهَا الْمَثَلُ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا مِنْ بِنَاءِ أَرْمِينَ مِنْ وَلَدِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ، وَأَذْرَبِيجَانُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَقِيلَ: بِسُكُونِ الذَّالِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَبِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، ثُمَّ جِيمٌ خَفِيفَةٌ وَآخِرُهُ نُونٌ، وَحَكَى ابْنُ مَكِّيٍّ كَسْرَ أَوَّلِهِ، وَضَبَطَهَا صَاحِبُ الْمَطَالِعِ وَنَقَلَهُ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ بِسُكُونِ الذَّالِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَلَدٌ كَبِيرٌ مِنْ نَوَاحِي جِبَالِ الْعِرَاقِ غَرْبِيِّ
(2)
وَهِيَ الْآنَ تِبْرِيزُ وَقَصَبَاتُهَا، وَهِيَ تَلِي أَرْمِينِيَّةَ مِنْ جِهَةِ غَرْبِيِّهَا، وَاتَّفَقَ غَزْوُهُمَا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَاجْتَمَعَ فِي غَزْوَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَالَّذِي ذَكَرْتُهُ الْأَشْهَرُ فِي ضَبْطِهَا، وَقَدْ تُمَدُّ الْهَمْزَةُ، وَقَدْ تُكْسَرُ وَقَدْ تُحْذَفُ وَقَدْ تُفْتَحُ الْمُوَحَّدَةُ، وَقَدْ يُزَادُ بَعْدَهَا أَلِفٌ مَعَ مَدِّ الْأُولَى حَكَاهُ الْهَجَرِيُّ وَأَنْكَرَهُ الْجَوَالِيقِيُّ، وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّهُمْ نَسَبُوا إِلَيْهَا آذَرِيٌّ بِالْمَدِّ اقْتِصَارًا عَلَى الرُّكْنِ الْأَوَّلِ كَمَا قَالُوا فِي النِّسْبَةِ إِلَى بَعْلَبَكٍّ بَعْلِيٌّ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الثَّانِيَةِ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: خَطَبَ عُثْمَانُ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا قُبِضَ نَبِيُّكُمْ مُنْذُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَدِ اخْتَلَفْتُمْ فِي الْقِرَاءَةِ الْحَدِيثُ فِي جَمْعِ الْقُرْآنِ، وَكَانَتْ خِلَافَةُ عُثْمَانَ بَعْدَ قَتْلِ عُمَرَ، وَكَانَ قَتْلُ عُمَرَ فِي أَوَاخِرِ ذِي الْحَجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَّا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً أَيْ كَامِلَةً فَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَتَيْنِ وَثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ خِلَافَتِهِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ مُنْذُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِإِلْغَاءِ الْكَسْرِ فِي هَذِهِ وَجَبْرِهِ فِي الْأُولَى فَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ خِلَافَتِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَأَوَائِلِ سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي ذَكَرَ أَهْلُ التَّارِيخِ أَنَّ أَرْمِينِيَّةَ فُتِحَتْ فِيهِ، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ وِلَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ عَلَى الْكُوفَةِ مِنْ قِبَلِ عُثْمَانَ. وَغَفَلَ بَعْضُ مَنْ أَدْرَكْنَاهُ فَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حُدُودِ سَنَةِ ثَلَاثِينَ، وَلَمْ يَذْكُرْ لِذَلِكَ مُسْتَنَدًا.
قَوْلُهُ: (فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ) فِي
(1)
أي أول"اذربيجان"
(2)
بياض بالأصل
رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ فَيَتَنَازَعُونَ فِي الْقُرْآنِ، حَتَّى سَمِعَ حُذَيْفَةُ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ مَا ذَعَرَهُ وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ فَتَذَاكَرُوا الْقُرْآنَ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ حَتَّى كَادَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ فِتْنَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ أَنَّ حُذَيْفَةَ قَدِمَ مِنْ غَزْوَةٍ فَلَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهُ حَتَّى أَتَى عُثْمَانَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكِ النَّاسَ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: غَزَوْتُ فَرْجَ أَرْمِينِيَّةَ، فَإِذَا أَهْلُ الشَّامِ يَقْرَءُونَ بِقِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَيَأْتُونَ بِمَا لَمْ يَسْمَعْ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَإِذَا أَهْلُ الْعِرَاقِ يَقْرَءُونَ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَيَأْتُونَ بِمَا لَمْ يَسْمَعْ أَهْلُ الشَّامِ، فَيُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ النَّخَعِيِّ قَالَ: إِنِّي لَفِي الْمَسْجِدِ زَمَنَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا حُذَيْفَةُ، فَسَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ قِرَاءَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسَمِعَ آخَرَ يَقُولُ قِرَاءَةَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، فَغَضِبَ ثُمَّ قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا كَانَ مَنْ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا، وَاللَّهِ لَأَرْكَبَنَّ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّ اثْنَيْنِ اخْتَلَفَا فِي آيَةٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، قَرَأَ هَذَا {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَقَرَأَ هَذَا (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلْبَيْتِ) فَغَضِبَ حُذَيْفَةُ وَاحْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ: يَقُولُ أَهْلُ الْكُوفَةِ قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَيَقُولُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ قِرَاءَةَ أَبِي مُوسَى، وَاللَّهِ لَئِنْ قَدِمْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَآمُرَنَّهُ أَنْ يَجْعَلَهَا قِرَاءَةً وَاحِدَةً وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ لِحُذَيْفَةَ: بَلَغَنِي عَنْكَ كَذَا، قَالَ: نَعَمْ كَرِهْتُ أَنْ يُقَالَ: قِرَاءَةُ فُلَانٍ وَقِرَاءَةُ فُلَانٍ فَيَخْتَلِفُونَ كَمَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكِتَابِ.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ لِحُذَيْفَةَ يَظْهَرُ لِي أَنَّهَا مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْقِصَّةِ الَّتِي وَقَعَتْ لَهُ فِي الْقِرَاءَةِ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى الِاخْتِلَافَ أَيْضًا بَيْنَ أَهْلِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ اشْتَدَّ خَوْفُهُ فَرَكِبَ إِلَى عُثْمَانَ، وَصَادَفَ أَنَّ عُثْمَانَ أَيْضًا كَانَ وَقَعَ لَهُ نَحْوُ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا فِي الْمَصَاحِفِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: لَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ جَعَلَ الْمُعَلِّمُ يُعَلِّمُ قِرَاءَةَ الرَّجُلِ، وَالْمُعَلِّمُ يُعَلِّمُ قِرَاءَةَ الرَّجُلِ، فَجَعَلَ الْغِلْمَانُ يَتَلَقَّوْنَ فَيَخْتَلِفُونَ، حَتَّى ارْتَفَعَ ذَلِكَ إِلَى الْمُعَلِّمِينَ حَتَّى كَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ فَخَطَبَ فَقَالَ: أَنْتُمْ عِنْدِي تَخْتَلِفُونَ، فَمَنْ نَأَى عَنِّي مِنَ الْأَمْصَارِ أَشَدُّ اخْتِلَافًا. فَكَأَنَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَمَّا جَاءَهُ حُذَيْفَةُ، وَأَعْلَمَهُ بِاخْتِلَافِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ تَحَقَّقَ عِنْدَهُ مَا ظَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ. وَفِي رِوَايَةِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ فَقَالَ عُثْمَانُ: تَمْتَرُونَ فِي الْقُرْآنِ، تَقُولُونَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: وَاللَّهِ مَا تُقِيمُ قِرَاءَتَكَ وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْرَأُ حَتَّى يَقُولَ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ كَفَرْتَ بِمَا تَقُولُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عُثْمَانَ فَتَعَاظَمَ فِي نَفْسِهِ. وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ: أَنَّ نَاسًا بِالْعِرَاقِ يُسْأَلُ أَحَدُهُمْ عَنِ الْآيَةِ، فَإِذَا قَرَأَهَا قَالَ: إِلَّا أَنِّي أُكَفَّرُ بِهَذِهِ، فَفَشَا ذَلِكَ فِي النَّاسِ، فَكُلِّمَ عُثْمَانُ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ فَاسْتَخْرَجَ الصَّحِيفَةَ الَّتِي كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَمَرَ زَيْدًا بِجَمْعِهَا فَنَسَخَ مِنْهَا مَصَاحِفَ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الْآفَاقِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّحُفِ وَالْمُصْحَفِ أَنَّ الصُّحُفَ الْأَوْرَاقُ الْمُجَرَّدَةُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَتْ سُوَرٌ مُفَرَّقَةٌ كُلُّ سُورَةٍ مُرَتَّبَةٌ بِآيَاتِهَا عَلَى حِدَةٍ لَكِنْ لَمْ يُرَتَّبْ بَعْضُهَا إِثْرَ بَعْضٍ، فَلَمَّا نُسِخَتْ وَرُتِّبَ بَعْضُهَا إِثْرَ بَعْضٍ صَارَتْ مُصْحَفًا، وَقَدْ جَاءَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنِ اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ، فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: لَا تَقُولُوا فِي عُثْمَانَ إِلَّا خَيْرًا فَوَاللَّهِ مَا فَعَلَ الَّذِي فَعَلَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا عَنْ مَلَأٍ مِنَّا قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ؟ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ قِرَاءَتِي خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَتِكَ، وَهَذَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، قُلْنَا: فَمَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى أَنْ نَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ فَلَا تَكُونُ فُرْقَةٌ وَلَا اخْتِلَافٌ. قُلْنَا: فَنِعْمَ مَا رَأَيْتَ.
قَوْلُهُ: (فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ) وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: جَمَعَ عُثْمَانُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ مِنْهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى الرُّقْعَةِ الَّتِي فِي بَيْتِ عُمَرَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ أَفْلَحَ وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ قَالَ: فَكَانُوا إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الشَّيْءِ أَخَّرُوهُ، قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: أَظُنُّهُ لِيَكْتُبُوهُ عَلَى الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ وَفِي رِوَايَةِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ فَقَالَ عُثْمَانُ: مَنْ أَكْتَبُ النَّاسِ؟ قَالُوا: كَاتِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ أَعْرَبُ - وَفِي رِوَايَةٍ أَفْصَحُ - قَالُوا: سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، قَالَ عُثْمَانُ: فَلْيُمْلِ سَعِيدٌ وَلْيَكْتُبْ زَيْدٌ وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ عَرَبِيَّةَ الْقُرْآنِ أُقِيمَتْ عَلَى لِسَانِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ لِأَنَّهُ كَانَ أَشْبَهُهُمْ لَهْجَةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقُتِلَ أَبُوهُ الْعَاصِي يَوْمَ بَدْرٍ مُشْرِكًا، وَمَاتَ جَدُّهُ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ قَبْلَ بَدْرٍ مُشْرِكًا.
قُلْتُ: وَقَدْ أَدْرَكَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ هَذَا مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تِسْعَ سِنِينَ، قَالَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَعَدُّوهُ لِذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ، وَحَدِيثُهُ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَائِشَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَاسْتَعْمَلَهُ عُثْمَانُ عَلَى الْكُوفَةِ وَمُعَاوِيَةُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مِنْ أَجْوَادِ قُرَيْشٍ وَحُلَمَائِهَا، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَقُولُ: لِكُلِ قَوْمٍ كَرِيمٌ، وَكَرِيمُنَا سَعِيدٌ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بَدَلَ سَعِيدٍ قَالَ الْخَطِيبُ: وَوَهِمَ عُمَارَةُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ أَبَانَ قُتِلَ بِالشَّامِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَالَّذِي أَقَامَهُ عُثْمَانُ فِي ذَلِكَ هُوَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ أَخِي أَبَانَ الْمَذْكُورِ اهـ. وَوَقَعَ مِنْ تَسْمِيَةِ بَقِيَّةِ مَنْ كَتَبَ أَوْ أَمْلَى عِنْدَ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ مُفَرَّقًا جَمَاعَةٌ: مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ جَدُّ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَتِهِ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَبِي قِلَابَةَ عَنْهُ، وَمِنْهُمْ كَثِيرُ بْنُ أَفْلَحَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ كَمَا ذَكَرْنَا، وَمِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ.
وَقَعَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمِّعٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي أَصْلِ حَدِيثِ الْبَابِ، فَهَؤُلَاءِ تِسْعَةٌ عَرَفْنَا تَسْمِيَتَهُمْ مِنَ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَا يُمْلِيَنَّ فِي مَصَاحِفِنَا إِلَّا غِلْمَانُ قُرَيْشٍ وَثَقِيفٍ وَلَيْسَ فِي الَّذِينَ سَمَّيْنَاهُمْ أَحَدٌ مِنْ ثَقِيفٍ، بَلْ كُلُّهُمْ إِمَّا قُرَشِيٌّ أَوْ أَنْصَارِيٌّ، وَكَأَنَّ ابْتِدَاءَ الْأَمْرِ كَانَ لِزَيْدٍ، وَسَعِيدٍ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فِيهِمَا فِي رِوَايَةِ مُصْعَبٍ، ثُمَّ احْتَاجُوا إِلَى مَنْ يُسَاعِدُ فِي الْكِتَابَةِ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ إِلَى عَدَدِ الْمَصَاحِفِ الَّتِي تُرْسَلُ إِلَى الْآفَاقِ فَأَضَافُوا إِلَى زَيْدٍ مَنْ ذُكِرَ، ثُمَّ اسْتَظْهَرُوا بِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي الْإِمْلَاءِ. وَقَدْ شَقَّ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ صَرْفُهُ عَنْ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ حَتَّى قَالَ: مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي آخِرِ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْهُ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَرِهَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَسْخَ الْمَصَاحِفِ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُعْزَلُ عَنْ نَسْخِ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ وَيَتَوَلَّاهَا رَجُلٌ وَاللَّهِ لَقَدْ أَسْلَمْتُ وَإِنَّهُ لَفِي صُلْبِ رَجُلٍ كَافِرٍ؟! يُرِيدُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ خُمَيْرِ بْنِ مَالِكٍ بِالْخَاءِ مُصَغَّرٌ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعِينَ سُورَةً وَإِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ لَصَبِيٌّ مِنَ الصِّبْيَانِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً. وَمِنْ طَرِيقِ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْهُ مِثْلَهُ، وَزَادَ: وَإِنَّ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ذُؤَابَتَيْنِ.
وَالْعُذْرُ لِعُثْمَانَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ فَعَلَهُ بِالْمَدِينَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ بِالْكُوفَةِ، وَلَمْ يُؤَخِّرْ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ وَيَحْضُرَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ عُثْمَانَ إِنَّمَا أَرَادَ نَسْخَ الصُّحُفِ الَّتِي كَانَتْ جُمِعَتْ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَأَنْ يَجْعَلَهَا مُصْحَفًا وَاحِدًا، وَكَانَ الَّذِي نَسَخَ ذَلِكَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ هُوَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ كَمَا تَقَدَّمَ لِكَوْنِهِ كَانَ كَاتِبَ الْوَحْيِ، فَكَانَتْ لَهُ فِي ذَلِكَ أَوَّلِيَّةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ. وَقَدْ
أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ مَقَالَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رِجَالٌ مِنْ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ) يَعْنِي سَعِيدًا، وَعَبْدَ اللَّهِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ، لِأَنَّ سَعِيدًا أُمَوِيٌّ وَعَبْدَ اللَّهِ أَسَدِيٌّ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ مَخْزُومِيٌّ وَكُلُّهَا مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ.
قَوْلُهُ: (فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ فِي عَرَبِيَّةٍ مِنْ عَرَبِيَّةِ الْقُرْآنِ وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَاخْتَلَفُوا يَوْمَئِذٍ فِي التَّابُوتِ وَالتَّابُوهِ، فَقَالَ الْقُرَشِيُّونَ: التَّابُوتُ وَقَالَ زَيْدٌ: التَّابُوهُ، فَرُفِعَ اخْتِلَافُهُمْ إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: اكْتُبُوهُ التَّابُوتَ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَدْرَجَهَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمِّعٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ الْخَطِيبُ: وَإِنَّمَا رَوَاهَا ابْنُ شِهَابٍ مُرْسَلَةً.
قَوْلُهُ: (حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ) زَادَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ مَرْوَانُ يُرْسِلُ إِلَى حَفْصَةَ - يَعْنِي حِينَ كَانَ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ مِنْ جِهَةِ مُعَاوِيَةَ - يَسْأَلُهَا الصُّحُفَ الَّتِي كُتِبَ مِنْهَا الْقُرْآنُ فَتَأْبَى أَنْ تُعْطِيَهُ، قَالَ سَالِمٌ: فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ حَفْصَةُ وَرَجَعْنَا مِنْ دَفْنِهَا أَرْسَلَ مَرْوَانُ بِالْعَزِيمَةِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لَيُرْسِلَنَّ إِلَيْهِ تِلْكَ الصُّحُفَ، فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَأَمَرَ بِهَا مَرْوَانُ فَشُقِّقَتْ وَقَالَ: إِنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِأَنِّي خَشِيتُ إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَرْتَابَ فِي شَأْنِ هَذِهِ الصُّحُفِ مُرْتَابٌ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَمُزِّقَتْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ مَرْوَانَ مَزَّقَ الصُّحُفَ إِلَّا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
قُلْتُ: قَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ نَحْوَهُ وَفِيهِ فَلَمَّا كَانَ مَرْوَانُ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ أَرْسَلَ إِلَى حَفْصَةَ يَسْأَلُهَا الصُّحُفَ، فَمَنَعَتْهُ إِيَّاهَا، قَالَ: فَحَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَتْ حَفْصَةُ فَذَكَرَهُ وَقَالَ فِيهِ: فَشَقَّقَهَا وَحَرَّقَهَا وَوَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ أَيْضًا بِاخْتِصَارٍ، لَكِنْ أَدْرَجَهَا أَيْضًا فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَقَالَ فِيهِ: فَغَسَلَهَا غَسْلًا وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ أَوْ خَارِجَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا جَمَعَ الْقُرْآنَ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ مُخْتَصَرًا إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ فَطَلَبَهَا فَأَبَتْ حَتَّى عَاهَدَهَا لَيَرُدَّنَّهَا إِلَيْهَا، فَنَسَخَ مِنْهَا ثُمَّ رَدَّهَا، فَلَمْ تَزَلْ عِنْدَهَا حَتَّى أَرْسَلَ مَرْوَانُ فَأَخَذَهَا فَحَرَّقَهَا وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ صَنَعَ بِالصُّحُفِ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ تَشْقِيقٍ، ثُمَّ غَسْلٍ، ثُمَّ تَحْرِيقٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فَيَكُونُ مَزَّقَهَا ثُمَّ غَسَلَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ فَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ جُنْدٍ مِنْ أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ بِمُصْحَفٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّةِ الْمَصَاحِفِ الَّتِي أَرْسَلَ بِهَا عُثْمَانُ إِلَى الْآفَاقِ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا خَمْسَةٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ مِنْ طَرِيقِ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ قَالَ: أَرْسَلَ عُثْمَانُ أَرْبَعَةَ مَصَاحِفَ، وَبَعَثَ مِنْهَا إِلَى الْكُوفَةِ بِمُصْحَفٍ، فَوَقَعَ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ مُرَادٍ، فَبَقِيَ حَتَّى كَتَبْتُ مُصْحَفِي عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ يَقُولُ: كَتَبْتُ سَبْعَةَ مَصَاحِفَ إِلَى مَكَّةَ وَإِلَى الشَّامِ وَإِلَى الْيَمَنِ وَإِلَى الْبَحْرَيْنِ وَإِلَى الْبَصْرَةِ وَإِلَى الْكُوفَةِ، وَحَبَسَ بِالْمَدِينَةِ وَاحِدًا. وَأُخْرِجَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: قَالَ لِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ مُصْحَفُنَا وَمُصْحَفُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَضْبَطُ مِنْ مُصْحَفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قُلْتُ: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ عُثْمَانَ بَعَثَ إِلَى الْكُوفَةِ لَمَّا بَلَغَهُ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ بِمُصْحَفٍ قَبْلَ أَنْ يُعْرَضَ، وَبَقِيَ مُصْحَفُنَا وَمُصْحَفُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ حَتَّى عُرِضَا.
قَوْلُهُ: (وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ) فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ أَنْ يُخْرَقَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَلِلْمَرْوَزِيِّ بِالْمُهْمَلَةِ وَرَوَاهُ الْأَصِيلِيُّ بِالْوَجْهَيْنِ، وَالْمُعْجَمَةُ أَثْبَتُ. وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَنْ تُمْحَى أَوْ تُحْرَقَ وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ
عِنْدَ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُحَرِّقُوا كُلَّ مُصْحَفٍ يُخَالِفُ الْمُصْحَفَ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ، قَالَ: فَذَلِكَ زَمَانُ حُرِّقَتِ الْمَصَاحِفُ بِالْعِرَاقِ بِالنَّارِ وَفِي رِوَايَةِ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَا تَقُولُوا لِعُثْمَانَ فِي إِحْرَاقِ الْمَصَاحِفِ إِلَّا خَيْرًا وَفِي رِوَايَةِ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ فَأَمَرَ بِجَمْعِ الْمَصَاحِفِ فَأَحْرَقَهَا، ثُمَّ بَثَّ فِي الْأَجْنَادِ الَّتِي كَتَبَ وَمِنْ طَرِيقِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ مُتَوَافِرِينَ حِينَ حَرَّقَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ، فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ - أَوْ قَالَ: - لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي قِلَابَةَ فَلَمَّا فَرَغَ عُثْمَانُ مِنَ الْمُصْحَفِ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ: إِنِّي قَدْ صَنَعْتُ كَذَا وَكَذَا وَمَحَوْتُ مَا عِنْدِي، فَامْحُوَا مَا عِنْدَكُمْ وَالْمَحْوُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْغَسْلِ أَوِ التَّحْرِيقِ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيقِ فَهُوَ الَّذِي وَقَعَ، وَيُحْتَمَلُ وُقُوعُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِحَسْبِ مَا رَأَى مَنْ كَانَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ جَزَمَ عِيَاضٌ بِأَنَّهُمْ غَسَلُوهَا بِالْمَاءِ ثُمَّ أَحْرَقُوهَا مُبَالَغَةً فِي إِذْهَابِهَا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ تَحْرِيقِ الْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا اسْمُ اللَّهِ بِالنَّارِ وَأَنَّ ذَلِكَ إِكْرَامٌ لَهَا وَصَوْنٌ عَنْ وَطْئِهَا بِالْأَقْدَامِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَانَ يُحَرِّقُ الرَّسَائِلَ الَّتِي فِيهَا الْبَسْمَلَةُ إِذَا اجْتَمَعَتْ، وَكَذَا فَعَلَ عُرْوَةُ، وَكَرِهَهُ إِبْرَاهِيمُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الرِّوَايَةُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَصَحُّ. وَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَمَّا الْآنَ فَالْغَسْلُ أَوْلَى لِمَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى إِزَالَتِهِ.
وَقَوْلُهُ وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ أَيْ بِمَا سِوَى الْمُصْحَفِ الَّذِي اسْتَكْتَبَهُ وَالْمَصَاحِفِ الَّتِي نُقِلَتْ مِنْهُ وَسِوَى الصُّحُفِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ حَفْصَةَ وَرَدَّهَا إِلَيْهَا، وَلِهَذَا اسْتَدْرَكَ مَرْوَانُ الْأَمْرَ بَعْدَهَا وَأَعْدَمَهَا أَيْضًا خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ لِأَحَدٍ مِنْهَا تَوَهُّمُ أَنَّ فِيهَا مَا يُخَالِفُ الْمُصْحَفَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاسْتُدِلَّ بِتَحْرِيقِ عُثْمَانَ الصُّحُفَ عَلَى الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ كَلَامِ اللَّهِ قَدِيمًا أَنْ تَكُونَ الْأَسْطُرُ الْمَكْتُوبَةُ فِي الْوَرَقِ قَدِيمَةٌ، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ عَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ لَمْ يَسْتَجِزِ الصَّحَابَةُ إِحْرَاقَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ إِلَخْ) هَذِهِ هِيَ الْقِصَّةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ مَوْصُولَةٌ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَاضِحًا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَوْصُولَةً مُفْرَدَةً فِي الْجِهَادِ وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَظَاهِرُ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ هَذَا أَنَّهُ فَقَدَ آيَةَ الْأَحْزَابِ مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي كَانَ نَسَخَهَا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى وَجَدَهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمِّعٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ فَقْدَهُ إِيَّاهَا إِنَّمَا كَانَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْهُ، وَالصَّحِيحُ مَا فِي الصَّحِيحِ وَأَنَّ الَّذِي فَقَدَهُ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ بَرَاءَةٌ وَأَمَّا الَّتِي فِي الْأَحْزَابِ فَفَقَدَهَا لَمَّا كَتَبَ الْمُصْحَفَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَجَزَمَ ابْنُ كَثِيرٍ بِمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مُجَمِّعٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ: الْفَرْقُ بَيْنَ جَمْعِ أَبِي بَكْرٍ وَبَيْنَ جَمْعِ عُثْمَانَ أَنَّ جَمْعَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ لِخَشْيَةِ أَنْ يَذْهَبَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ بِذَهَابِ حَمَلَتِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَجْمُوعًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَجَمَعَهُ فِي صَحَائِفَ مُرَتِّبًا لِآيَاتِ سُوَرِهِ عَلَى مَا وَقَفَهُمْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَجَمْعُ عُثْمَانَ كَانَ لَمَّا كَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِي وُجُوهِ الْقُرْآنِ حِينَ قَرَءُوهُ بِلُغَاتِهِمْ عَلَى اتِّسَاعِ اللُّغَاتِ، فَأَدَّى ذَلِكَ بِبَعْضِهِمْ إِلَى تَخْطِئَةِ بَعْضٍ، فَخَشِيَ مِنْ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ، فَنَسَخَ تِلْكَ الصُّحُفِ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ مُرَتِّبًا لِسُوَرِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ وَاقْتَصَرَ مِنْ سَائِرِ اللُّغَاتِ عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَسَّعَ فِي قِرَاءَتِهِ بِلُغَةِ غَيْرِهِمْ رَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، فَرَأَى أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ انْتَهَتْ فَاقْتَصَرَ عَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَانَتْ لُغَةُ قُرَيْشٍ أَرْجَحُ اللُّغَاتِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ بَعْدَ بَابٍ وَاحِدٍ.
(تَنْبِيهٌ): قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ حَدِيثَ جَمْعِ الْقُرْآنِ أَحْسَنَ مِنْ سِيَاقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ طَرَفًا مِنْهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ.
4 - بَاب كَاتِبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
4989 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ ابْنَ السَّبَّاقِ قَالَ: إِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّكَ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاتَّبِعْ الْقُرْآنَ فَتَتَبَّعْتُ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} إِلَى آخِرِهِ
4990 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ادْعُ لِي زَيْدًا وَلْيَجِئْ بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ وَالْكَتِفِ أَوْ الْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} وَخَلْفَ ظَهْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنِي؟ فَإِنِّي رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ، فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ كَاتِبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: تَرْجَمَ كُتَّابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَهَذَا عَجِيبٌ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ لَهُ عَلَى شَرْطِهِ غَيْرُ هَذَا. ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ اسْتَوْفَى بَيَانَ ذَلِكَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ.
قُلْتُ: لَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ النُّسَخِ إِلَّا بِلَفْظِ كَاتِبُ بِالْإِفْرَادِ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِحَدِيثِ الْبَابِ، نَعَمْ قَدْ كَتَبَ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمَاعَةٌ غَيْرَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَمَّا بِمَكَّةَ فَلِجَمِيعِ مَا نَزَلَ بِهَا لِأَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ إِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَأَمَّا بِالْمَدِينَةِ فَأَكْثَرُ مَا كَانَ يَكْتُبُ زَيْدٌ، وَلِكَثْرَةِ تَعَاطِيهِ ذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْكَاتِبُ بِلَامِ الْعَهْدِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ثَانِيَ حَدِيثَيِ الْبَابِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رُبَّمَا غَابَ فَكَتَبَ الْوَحْيَ غَيْرُهُ. وَقَدْ كَتَبَ لَهُ قَبْلَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ لَهُ بِالْمَدِينَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ كَتَبَ لَهُ بِمَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، ثُمَّ ارْتَدَّ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَمِمَّنْ كَتَبَ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَخَالِدٌ، وَأَبَانُ ابْنَا سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْأَسَدِيُّ، وَمُعَيْقِيبُ بْنُ أَبِي فَاطِمَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَرْقَمَ الزُّهْرِيُّ، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فِي آخَرِينَ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ السُّوَرِ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ يَدْعُو بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ عِنْدَهُ فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذَا فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا الْحَدِيثُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ:
الْأَوَّلُ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي قِصَّتِهِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي جَمْعِ الْقُرْآنِ، أَوْرَدَ مِنْهُ طَرَفًا، وَغَرَضُهُ مِنْهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، لِزَيْدٍ: إِنَّكَ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ وَقَدْ مَضَى الْبَحْثُ فِيهِ مُسْتَوْفًى فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
الثَّانِي حَدِيثُ الْبَرَاءِ وَهُوَ ابْنُ عَازِبٍ لَمَّا نَزَلَتْ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ادْعُ لِي زَيْدًا) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ بِلَفْظِ ادْعُ لِي فُلَانًا مِنْ رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ أَيْضًا، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ ادْعُ لِي زَيْدًا أَيْضًا، وَتَقَدَّمَتِ
الْقِصَّةُ هُنَاكَ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَفْسِهِ. وَوَقَعَ هُنَا فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ هَكَذَا وَقَعَ بِتَأْخِيرِ لَفْظِ {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وَالَّذِي فِي التِّلَاوَةِ {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} قَبْلَ {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَقَدْ تَقَدَّمَ عَلَى الصَّوَابِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِسْرَائِيلَ.
5 - بَاب أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ
4991 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ:، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ.
4992 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ الْقَارِئ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ. فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ. ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ يَا عُمَرُ، فَقَرَأْتُ للْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَأوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) أَيْ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِكُلِ وَجْهٍ مِنْهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ وَلَا جُمْلَةٍ مِنْهُ تُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ غَايَةَ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ عَدَدُ الْقِرَاءَاتِ فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ إِلَى سَبْعَةٍ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّا نَجِدُ بَعْضَ الْكَلِمَاتِ يُقْرَأُ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، فَالْجَوَابُ أَنَّ غَالِبَ ذَلِكَ إِمَّا لَا يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الِاخْتِلَافِ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ كَمَا فِي الْمَدِّ وَالْإِمَالَةِ وَنَحْوِهِمَا.
وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعَةِ حَقِيقَةُ الْعَدَدِ، بَلِ الْمُرَادُ التَّسْهِيلُ وَالتَّيْسِيرُ، وَلَفْظُ السَّبْعَةِ يُطْلَقُ عَلَى إِرَادَةِ الْكَثْرَةِ فِي الْآحَادِ كَمَا يُطْلَقُ السَّبْعُونَ فِي الْعَشَرَاتِ وَالسَّبْعُمِائَةُ فِي الْمِئِينَ وَلَا يُرَادُ الْعَدَدُ الْمُعَيَّنُ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ، عَنِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ بَلَغَ الِاخْتِلَافُ فِي مَعْنَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ إِلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ قَوْلًا، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقُرْطُبِيُّ مِنْهَا سِوَى خَمْسَةٍ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: أَكْثَرُهَا غَيْرُ مُخْتَارٍ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى كَلَامِ ابْنِ حِبَّانَ فِي هَذَا بَعْدَ تَتَبُّعِي مَظَانَّهُ مِنْ صَحِيحِهِ، وَسَأَذْكُرُ مَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ مَعَ بَيَانِ الْمَقْبُولِ مِنْهَا وَالْمَرْدُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ مُصَغَّرٌ، وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ
عُفَيْرٍ يُنْسَبُ إِلَى جَدِّهِ، وَهُوَ مِنْ حُفَّاظِ الْمِصْرِيِّينَ وَثِقَاتِهِمْ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) هَذَا مِمَّا لَمْ يُصَرِّحِ ابْنُ عَبَّاسٍ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ نَحْوَهُ، وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ عَنْ أُبَيٍّ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِهِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ.
قَوْلُهُ: (أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ) فِي أَوَّلِ حَدِيثِ النَّسَائِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُورَةً، فَبَيْنَمَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ إِذْ سَمِعْتُ رَجُلًا يَقْرَؤُهَا يُخَالِفُ قِرَاءَتِي الْحَدِيثَ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ دَخَلْنَا جَمِيعًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَأَمَرَهُمَا فَقَرَآ، فَحَسَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَأْنَهُمَا قَالَ: فَسُقِطَ فِي نَفْسِي وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَضَرَبَ فِي صَدْرِي فَفِضْتُ عَرَقًا، وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ فَرَقًا، فَقَالَ لِي: يَا أُبَيُّ، أُرْسِلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ الْحَدِيثَ. وَعِنْدَ الطَّبَرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَوَجَدْتُ فِي نَفْسِي وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهِي، فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: اللَّهُمَّ اخْسَأْ عَنْهُ الشَّيْطَانَ. وَعِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ. قَالَ أُبَيٌّ: فَقُلْتُ: مَا كِلَانَا أَحْسَنَ وَلَا أَجْمَلَ، قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي. الْحَدِيثَ.
وَبَيَّنَ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أُبَيٍّ الْمَكَانُ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَفْظُهُ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ. الْحَدِيثَ. وَبَيَّنَ الطَّبَرِيُّ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ أَنَّ السُّورَةَ الْمَذْكُورَةَ سُورَةُ النَّحْلِ.
قَوْلُهُ: (فَرَاجَعْتُهُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ أُبَيٍّ: فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: إِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ. وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أُبَيٍّ: فَقَالَ لِيَ الْمَلَكُ الَّذِي مَعِي: قُلْ عَلَى حَرْفَيْنِ، حَتَّى بَلَغْتُ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ أَتَيَانِي فَقَالَ جِبْرِيلُ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَقَالَ مِيكَائِيلُ اسْتَزِدْهُ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ نَحْوُهُ.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي) فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ: ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ: عَلَى حَرْفَيْنِ. ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ، ثُمَّ جَاءَهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا. وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرِيِّ: عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ مِنَ الْجَنَّةِ وَفِي أُخْرَى لَهُ: مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْهَا فَهُوَ كَمَا قَرَأَ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ مِنْهَا إِلَّا شَافٍ كَافٍ إِنْ قُلْتَ سَمِيعًا عَلِيمًا عَزِيزًا حَكِيمًا، مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةِ أُمِّيِّينَ، مِنْهُمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ. الْحَدِيثَ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ: كُلُّهَا كَافٍ شَافٍ كَقَوْلِكَ هَلُمَّ وَتَعَالَ مَا لَمْ تَخْتِمْ الْحَدِيثَ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُقَوِّي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْرُفِ اللُّغَاتُ أَوِ الْقِرَاآتُ، أَيْ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ أَوْ قِرَاآتٍ، وَالْأَحْرُفُ جَمْعُ حَرْفٍ مِثْلَ فَلْسٍ وَأَفْلُسٍ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ مِنَ اللُّغَاتِ لِأَنَّ أَحَدَ مَعَانِيَ الْحَرْفِ فِي اللُّغَةِ الْوَجْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} ؟ وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ إِطْلَاقِ الْحَرْفِ عَلَى الْكَلِمَةِ مَجَازًا لِكَوْنِهِ بَعْضَهَا.
الحديث الثاني.
قَوْلُهُ: (أنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ) أَيِ ابْنَ نَوْفَلٍ الزُّهْرِيَّ، كَذَا رَوَاهُ عُقَيْلُ، وَيُونُسُ، وَشُعَيْبٌ، وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَاقْتَصَرَ مَالِكٌ عَنْهُ عَلَى عُرْوَةَ فَلَمْ يَذْكُرِ الْمِسْوَرَ فِي إِسْنَادِهِ، وَاقْتَصَرَ عَبْدُ
الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِيمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ فَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِهِ لَكِنْ أَحَالَ بِهِ قَالَ: كَرِوَايَةِ يُونُسَ وَكَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ فَذَكَرَهُمَا، وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُحَارَبَةِ عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ تَعْلِيقًا.
قَوْلُهُ: (وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدٍ) هُوَ بِالتَّنْوِينِ غَيْرَ مُضَافٍ لِشَيْءٍ.
قَوْلُهُ: (الْقَارِيُّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ نِسْبَةً إِلَى الْقَارَةِ بَطْنٌ مِنْ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ، وَالْقَارَةُ لَقَبٌ وَاسْمُهُ أُثَيْعٌ بِالْمُثَلَّثَةِ مُصَغَّرٌ ابْنُ مُلَيْحٍ بِالتَّصْغِيرِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ ابْنِ الْهُونِ بِضَمِ الْهَاءِ ابْنِ خُزَيْمَةَ. وَقِيلَ بَلِ الْقَارَةُ هُوَ الدِّيشُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ أُثَيْعٍ الْمَذْكُورِ، وَلَيْسَ هُوَ مَنْسُوبًا إِلَى الْقِرَاءَةِ، وَكَانُوا قَدْ حَالَفُوا بَنِي زُهْرَةَ وَسَكَنُوا مَعَهُمْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الصَّحَابَةِ لِكَوْنِهِ أُتِيَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَغِيرٌ، أَخْرَجَ ذَلِكَ الْبَغَوِيُّ فِي مُسْنَدِ الصَّحَابَةِ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ، وَمَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانِينَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الْأَشْخَاصِ، وَلَهُ عِنْدَهُ حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ عُمَرَ فِي الصِّيَامِ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ) أَيِ ابْنَ حِزَامٍ الْأَسَدِيِّ، لَهُ وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، وَكَانَ إِسْلَامُهُمَا يَوْمَ الْفَتْحِ، وَكَانَ لِهِشَامٍ فَضْلٌ، وَمَاتَ قَبْلَ أَبِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ رِوَايَةً. وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ حَدِيثًا وَاحِدًا مَرْفُوعًا مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَأَخَّرَ إِلَى خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ اسْتُشْهِدَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ مَعْنِ بْنِ عِيسَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: كَانَ هِشَامُ بْنُ حَكِيمٍ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ إِذَا بَلَغَهُ الشَّيْءُ: أَمَّا مَا عِشْتُ أَنَا وَهِشَامٌ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ) كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَكَذَا فِي سَائِرِ طُرُقِ الْحَدِيثِ فِي الْمَسَانِيدِ وَالْجَوَامِعِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الْخَطِيبِ فِي الْمُبْهَمَاتِ سُورَةُ الْأَحْزَابِ بَدَلَ الْفُرْقَانِ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنَ النُّسْخَةِ الَّتِي وُقِفَ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الَّذِي فِي كِتَابِ الْخَطِيبِ الْفُرْقَانُ كَمَا فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ) بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: آخُذُ بِرَأْسِهِ، قَالَهُ الْجُرْجَانِيُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ أُوَاثِبُهُ وَهُوَ أَشْبَهُ، قَالَ النَّابِغَةُ:
فَبِتُّ كَأَنِّي سَاوَرَتْنِي ضَئِيلَةٌ
…
مِنَ الرَّقْشِ فِي أَنْيَابِهَا السُّمُّ نَاقِعٌ
أَيْ: وَاثَبَتْنِي، وَفِي بَانَتْ سُعَادُ:
إِذَا يُسَاوِرُ قِرْنًا لَا يَحِلُّ لَهُ
…
أَنْ يَتْرُكَ الْقِرْنَ إِلَّا وَهْوَ مَخْذُولٌ
وَوَقَعَ عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْقَابِسِيِّ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ الْآتِيَةِ بَعْدَ أَبْوَابِ أُثَاوِرُهُ بِالْمُثَلَّثَةِ عِوَضَ الْمُهْمَلَةِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَالْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ.
قُلْتُ: لَكِنَّ مَعْنَاهَا أَيْضًا صَحِيحٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (فَتَصَبَّرْتُ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ أَيْ مِنَ الصَّلَاةِ، لِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: حَتَّى سَلَّمَ.
قَوْلُهُ: (فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ الْأُولَى مُشَدَّدَةٌ وَالثَّانِيَةُ سَاكِنَةٌ، أَيْ جَمَعْتُ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ عِنْدَ لَبَّتِهِ لِئَلَّا يَتَفَلَّتَ مِنِّي. وَكَانَ عُمَرُ شَدِيدًا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْهُ لِظَنِّهِ أَنَّ هِشَامًا خَالَفَ الصَّوَابَ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَلْ قَالَ لَهُ: أَرْسِلْهُ.
قَوْلُهُ: (كَذَبْتَ) فِيهِ إِطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، أَوِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: كَذَبْتَ أَيْ: أَخْطَأْتَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ يُطْلِقُونَ الْكَذِبَ فِي مَوْضِعِ الْخَطَأِ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَقْرَأَنِيهَا) هَذَا قَالَهُ عُمَرُ اسْتِدْلَالًا عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ تَخْطِئَةِ هِشَامٍ، وَإِنَّمَا سَاغَ لَهُ ذَلِكَ لِرُسُوخِ قَدَمِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَسَابِقَتِهِ، بِخِلَافِ
هِشَامٍ فَإِنَّهُ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ فَخَشِيَ عُمَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ أَتْقَنَ الْقِرَاءَةَ، بِخِلَافِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَتْقَنَ مَا سَمِعَ، وَكَانَ سَبَبُ اخْتِلَافِ قِرَاءَتِهِمَا أَنَّ عُمَرَ حَفِظَ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِيمًا ثُمَّ لَمْ يَسْمَعْ مَا نَزَلَ فِيهَا بِخِلَافِ مَا حَفِظَهُ وَشَاهَدَهُ، وَلِأَنَّ هِشَامًا مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَهُ عَلَى مَا نَزَلَ أَخِيرًا فَنَشَأَ اخْتِلَافُهُمَا مِنْ ذَلِكَ، وَمُبَادَرَةُ عُمَرَ لِلْإِنْكَارِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ حَدِيثَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، إِلَّا فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ.
قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّهُ لَمَّا لَبَّبَهُ بِرِدَائِهِ صَارَ يَجُرُّهُ بِهِ، فَلِهَذَا صَارَ قَائِدًا لَهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ يَسُوقُهُ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا وَصَلَا إِلَيْهِ: أَرْسِلْهُ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) هَذَا أَوْرَدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَطْيِيبًا لِعُمَرَ لِئَلَّا يُنْكِرُ تَصْوِيبَ الشَّيْئَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَرَأَ رَجُلٌ فَغَيَّرَ عَلَيْهِ عُمَرُ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ الرَّجُلُ: أَلَمْ تُقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَوَقَعَ فِي صَدْرِ عُمَرَ شَيْءٌ عَرَفَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِهِ، قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: أَبْعِدْ شَيْطَانًا. قَالَهَا ثَلَاثًا. ثُمَّ قَالَ: يَا عُمَرُ، الْقُرْآنُ كُلُّهُ صَوَابٌ، مَا لَمْ تَجْعَلْ رَحْمَةً عَذَابًا أَوْ عَذَابًا رَحْمَةً. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ سَمِعَ عُمَرُ رَجُلًا يَقْرَأُ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ فَوَقَعَ فِي صَدْرِ عُمَرَ لَكِنْ قَالَ فِي آخِرِهِ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلُّهَا كَافٍ شَافٍ. وَوَقَعَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ نَظِيرُ مَا وَقَعَ لِعُمَرَ مَعَ هِشَامٍ، مِنْهَا لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي سُورَةِ النَّحْلِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ عَمْرٍو: أَنَّ رَجُلًا قَرَأَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: إِنَّمَا هِيَ كَذَا وَكَذَا، فَذَكَرَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَأَيُّ ذَلِكَ قَرَأْتُمْ أَصَبْتُمْ، فَلَا تُمَارُوا فِيهِ.
إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَلِأَحْمَدَ أَيْضًا وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَالطَّبَرِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جَهْمِ بْنِ الصِّمَّةِ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ كِلَاهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ تَلَقَّاهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَلِلطَّبَرِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَقْرَأَنِي ابْنُ مَسْعُودٍ سُورَةً أَقْرَأَنِيهَا زَيْدٌ وَأَقْرَأَنِيهَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَاخْتَلَفَتْ قِرَاءَتُهُمْ، فَبِقِرَاءَةِ أَيِّهِمْ آخُذُ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلِيٌّ إِلَى جَنْبِهِ - فَقَالَ عَلِيٌّ: لِيَقْرَأْ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ كَمَا عَلِمَ فَإِنَّهُ حَسَنٌ جَمِيلٌ وَلِابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُورَةً مِنْ آلِ حم، فَرُحْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَقُلْتُ لِرَجُلٍ: اقْرَأْهَا، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ حُرُوفًا مَا أَقْرَؤُهَا، فَقَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَانْطَلَقْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْنَاهُ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَقَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الِاخْتِلَافُ، ثُمَّ أَسَرَّ إِلَى عَلِيٍّ شَيْئًا، فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ كَمَا عَلِمَ. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا وَكُلُّ رَجُلٍ مِنَّا يَقْرَأُ حُرُوفًا لَا يَقْرَؤُهَا صَاحِبُهُ وَأَصْلُ هَذَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ حَدِيثٍ فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ بَلَّغَهَا أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ إِلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ قَوْلًا. وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: أَكْثَرُهَا غَيْرُ مُخْتَارٍ.
قَوْلُهُ: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الْمُنَزَّلِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْحِكْمَةِ فِي التَّعَدُّدِ الْمَذْكُورِ، وَأَنَّهُ لِلتَّيْسِيرِ عَلَى الْقَارِئِ، وَهَذَا يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْأَحْرُفِ تَأْدِيَةُ الْمَعْنَى بِاللَّفْظِ الْمُرَادِفِ وَلَوْ كَانَ مِنْ لُغَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ لُغَةَ هِشَامٍ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَكَذَلِكَ عُمَرُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ قِرَاءَتُهُمَا. نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَنُقِلَ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ. وَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ وَآخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ اخْتِلَافُ اللُّغَاتِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ لُغَاتَ الْعَرَبِ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَةٍ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَفْصَحُهَا، فَجَاءَ عَنْ أبي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ. مِنْهَا خَمْسٌ بِلُغَةِ
الْعُجُزِ مِنْ هَوَازِنَ قَالَ: وَالْعُجُزُ سَعْدُ بْنُ بَكْرٍ، وَجُثمُ ابْنُ بَكْرٍ، وَنَصْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَثَقِيفٌ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ هَوَازِنَ، وَيُقَالَ لَهُمْ عُلْيَا هَوَازِنَ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: أَفْصَحُ الْعَرَبِ عُلْيَا هَوَازِنَ وَسُفْلَى تَمِيمٍ يَعْنِي: بَنِي دَارِمٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَةِ الْكَعْبَيْنِ كَعْبُ قُرَيْشٍ، وَكَعْبُ خُزَاعَةَ قِيلَ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: لِأَنَّ الدَّارَ وَاحِدَةٌ يَعْنِي: أَنَّ خُزَاعَةَ كَانُوا جِيرَانَ قُرَيْشٍ فَسَهُلَتْ عَلَيْهِمْ لُغَتُهُمْ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ: نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَهُذَيْلٍ وَتَيْمِ الرَّبَابِ وَالْأَزْدِ وَرَبِيعَةَ وَهَوَازِنَ وَسَعْدِ بْنِ بَكْرٍ وَاسْتَنْكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} فَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ اللُّغَاتُ السَّبْعُ فِي بُطُونِ قُرَيْشٍ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ تُقْرَأُ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ، بَلِ اللُّغَاتُ السَّبْعُ مُفَرَّقَةٌ فِيهِ، فَبَعْضُهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ هَوَازِنَ وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ الْيَمَنِ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ: وَبَعْضُ اللُّغَاتِ أَسْعَدُ بِهَا مِنْ بَعْضٍ وَأَكْثَرُ نَصِيبًا. وَقِيلَ: نَزَلَ بِلُغَةِ مُضَرَ خَاصَّةً لِقَوْلِ عُمَرَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَةِ مُضَرَ. وَعَيَّنَ بَعْضُهُمْ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ السَّبْعَ مِنْ مُضَرَ أَنَّهُمْ هُذَيْلٌ وَكِنَانَةُ وَقَيْسٌ وَضَبَّةُ وَتَيْمُ الرَّبَابِ وَأَسَدُ بْنُ خُزَيْمَةَ وَقُرَيْشٌ فَهَذِهِ قَبَائِلُ مُضَرَ تَسْتَوْعِبُ سَبْعَ لُغَاتٍ. وَنَقَلَ أَبُو شَامَةَ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَنَّهُ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنَ أَوَّلًا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ الْفُصَحَاءِ ثُمَّ أُبِيحَ لِلْعَرَبِ أَنْ يَقْرَءُوهُ بِلُغَاتِهِمُ الَّتِي جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِاسْتِعْمَالِهَا عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْإلْفَاظِ وَالْإِعْرَابِ، وَلَمْ يُكَلَّفْ أَحَدٌ مِنْهُمْ الِانْتِقَالَ مِنْ لُغَتِهِ إِلَى لُغَةٍ أُخْرَى لِلْمَشَقَّةِ وَلِمَا كَانَ فِيهِمْ مِنَ الْحَمِيَّةِ وَلِطَلَبِ تَسْهِيلِ فَهْمِ الْمُرَادِ كُلُّ ذَلِكَ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى. وَعَلَى هَذَا يَتَنَزَّلُ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَصْوِيبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلًّا مِنْهُمْ.
قُلْتُ: وَتَتِمَّةُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْإِبَاحَةَ الْمَذْكُورَةَ لَمْ تَقَعْ بِالتَّشَهِّي، أَيْ إِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُغَيِّرُ الْكَلِمَةَ بِمُرَادِفِهَا فِي لُغَتِهِ، بَلِ الْمُرَاعي فِي ذَلِكَ السَّمَاعُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُ كُلٍّ مِنْ عُمَرَ، وَهِشَامٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَقْرَأَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِالْمُرَادِفِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا لَهُ، وَمِنْ ثَمَّ أَنْكَرَ عُمَرُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ قِرَاءَتَهُ عَتَّى حِينٍ أَيْ: حَتَّى حِينٍ وَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ فَأَقْرِئِ النَّاسَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَلَا تُقْرِئْهُمْ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ. وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَجْمَعَ عُثْمَانُ النَّاسَ عَلَى قِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدِهِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ عُمَرَ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ، لَا أَنَّ الَّذِي قَرَأَ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ لَا يَجُوزُ. قَالَ: وَإِذَا أُبِيحَتْ قِرَاءَتُهُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ أُنْزِلَتْ جَازَ الِاخْتِيَارُ فِيمَا أُنْزِلَ، قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ عُمَرَ ثُمَّ عُثْمَانَ بِقَوْلِهِمَا: نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَوَّلَ نُزُولِهِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَهَّلَهُ عَلَى النَّاسِ فَجَوَّزَ لَهُمْ أَنْ يَقْرَءُوهُ عَلَى لُغَاتِهِمْ عَلَى أَنْ لَا يَخْرُجَ ذَلِكَ عَنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ لِكَوْنِهِ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.
فَأَمَّا مَنْ أَرَادَ قِرَاءَتَهُ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ فَالِاخْتِيَارُ لَهُ أَنْ يَقْرَأَهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ لِأَنَّهُ الْأَوْلَى، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا كَتَبَ بِهِ عُمَرُ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ لِأَنَّ جَمِيعَ اللُّغَاتِ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْعَرَبِيِّ مُسْتَوِيَةٌ فِي التَّعْبِيرِ، فَإِذًا لَا بُدَّ مِنْ وَاحِدَةٍ، فَلْتَكُنْ بِلُغَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا الْعَرَبِيُّ الْمَجْبُولُ عَلَى لُغَتِهِ فَلَوْ كُلِّفَ قِرَاءَتَهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ لَعَثَرَ عَلَيْهِ التَّحَوُّلُ مَعَ إِبَاحَةِ اللَّهِ لَهُ أَنْ يَقْرَأَهُ بِلُغَتِهِ، وَيُشِيرَ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ: هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، وَقَوْلُهُ: إِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ انْتَهَى عِنْدَ السَّبْعِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا تَحْتَاجُ لَفْظَةٌ مِنْ أَلْفَاظِهِ إِلَى أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ غَالِبًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ لَفْظَةٍ مِنْهُ تُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ بَلْ لَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةٌ تُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ إِلَّا الشَّيْءُ الْقَلِيلُ مِثْلُ
عَبَدَ الطَّاغُوتَ.
وَقَدْ أَنْكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةٌ تُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ بِمِثْلِ عَبَدَ الطَّاغُوتَ، وَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ، وَجِبْرِيلَ وَيَدُلُّ عَلَى مَا قَرَّرَهُ أَنَّهُ أُنْزِلَ أَوَّلًا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ ثُمَّ سُهِّلَ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يَقْرَءُوهُ بِغَيْرِ لِسَانِ قُرَيْشٍ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَثُرَ دُخُولُ الْعَرَبِ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ وُرُودَ التَّخْفِيفِ بِذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ جِبْرِيلَ لَقِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَقَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، فَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ. الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَضَاةُ بَنِي غِفَارٍ هِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَآخِرُهُ تَاءٌ تَأْنِيثٍ، هُوَ مُسْتَنْقَعُ الْمَاءِ كَالْغَدِيرِ، وَجَمْعُهُ أَضًا كَعَصًا، وَقِيلَ بِالْمَدِّ وَالْهَمْزِ مِثْلُ إِنَاءٍ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ يُنْسَبُ إِلَى بَنِي غِفَارٍ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ لِأَنَّهُمْ نَزَلُوا عِنْدَهُ. وَحَاصِلُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. أَيْ: أُنْزِلَ مُوَسَّعًا عَلَى الْقَارِئِ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، أَيْ: يَقْرَأُ بِأَيِّ حَرْفٍ أَرَادَ مِنْهَا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ صَاحِبِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أُنْزِلَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ أَوْ عَلَى هَذِهِ التَّوْسِعَةِ وَذَلِكَ لِتَسْهِيلِ قِرَاءَتِهِ، إِذْ لَوْ أَخَذُوا بِأَنْ يَقْرَءُوهُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ الْمُشْكِلِ لَهُ: كَانَ مِنْ تَيْسِيرِ اللَّهِ أَنْ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَقْرَأَ كُلُّ قَوْمٍ بِلُغَتِهِمْ، فَالْهُذَلِيُّ يَقْرَأُ: عَتَّى حِينٍ، يُرِيدُ: حَتَّى حِينٍ وَالْأَسَدِيُّ يَقْرَأُ تِعْلَمُونَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَالتَّمِيمِيُّ يَهْمِزُ وَالْقُرَشِيُّ لَا يَهْمِزُ، قَالَ: وَلَوْ أَرَادَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَنْ يَزُولَ عَنْ لُغَتِهِ وَمَا جَرَى عَلَيْهِ لِسَانُهُ طِفْلًا وَنَاشِئًا وَكَهْلًا لَشَقَّ عَلَيْهِ غَايَةَ الْمَشَقَّةِ، فَيَسَّرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ مِنْهُ تُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ لَقَالَ مَثَلًا: أُنْزِلَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يَأْتِيَ فِي الْكَلِمَةِ وَجْهٌ أَوْ وَجْهَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَكْثَرُ إِلَى سَبْعَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَنْكَرَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْأَحْرُفِ اللُّغَاتُ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ اخْتِلَافِ هِشَامٍ، وَعُمَرَ وَلُغَتُهُمَا وَاحِدَةٌ، قَالُوا: وَإِنَّمَا الْمَعْنَى سَبْعَةُ أَوْجُهٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَّفِقَةِ بِالْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ، نَحْوَ أَقْبِلْ وَتَعَالَ وَهَلُمَّ. ثُمَّ سَاقَ الْأَحَادِيثَ الْمَاضِيَةَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَحْرُفِ تَغَايُرَ الْأَلْفَاظِ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى مَعَ انْحِصَارِ ذَلِكَ فِي سَبْعِ لُغَاتٍ، لَكِنْ لِاخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ أَنَّ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ لَيْسَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي الْقُرْآنِ كُلِّهَا وَلَا مَوْجُودَةَ فِيهِ فِي خَتْمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا قَرَأَ الْقَارِئُ بِرِوَايَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّمَا قَرَأَ بِبَعْضِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ لَا بِكُلِّهَا، وَهَذَا إِنَّمَا يَتَأَتَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْرُفِ اللُّغَاتُ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ فَيَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي خَتْمَةٍ وَاحِدَةٍ بِلَا رَيْبٍ، بَلْ يُمْكِنُ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ أَنْ تَصِلَ الْأَوْجُهُ السَّبْعَةُ فِي بَعْضِ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ حَمَلَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا التَّغَايُرُ فِي سَبْعَةِ أَشْيَاءَ:
الْأَوَّلُ: مَا تَتَغَيَّرُ حَرَكَتُهُ وَلَا يَزُولُ مَعْنَاهُ وَلَا صُورَتُهُ، مِثْلُ:{وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} بِنَصْبِ الرَّاءِ وَرَفْعِهَا.
الثَّانِي: مَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْفِعْلِ مِثْلَ بَعُدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَ {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} بِصِيغَةِ الطَّلَبِ وَالْفِعْلِ الْمَاضِي.
الثَّالِثُ: مَا يَتَغَيَّرُ بِنَقْطِ بَعْضِ الْحُرُوفِ الْمُهْمَلَةِ مِثْلُ ثُمَّ نُنْشِرُهَا بِالرَّاءِ وَالزَّايِ.
الرَّابِعُ: مَا يَتَغَيَّرُ بِإِبْدَالِ حَرْفٍ قَرِيبٍ مِنْ مَخْرَجِ الْآخَرِ مِثْلُ طَلْحٍ مَنْضُودٍ فِي قِرَاءَةِ عَلِيٍّ: وَطَلْعٍ مَنْضُودٍ.
الْخَامِسُ: مَا يَتَغَيَّرُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مِثْلُ: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} فِي قِرَاءَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَطَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، وَزَيْنِ الْعَابِدِينَ: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ.
السَّادِسُ: مَا يَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، هَذَا فِي النُّقْصَانِ، وَأَمَّا فِي الزِّيَادَةِ فَكَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} فِي
حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.
السَّابِعُ: مَا يَتَغَيَّرُ بِإِبْدَالِ كَلِمَةٍ بِكَلِمَةٍ تُرَادِفُهَا مِثْلُ {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ كَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ، وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ لَكِنِ اسْتَبْعَدَهُ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدَّلَائِلِ لِكَوْنِ الرُّخْصَةِ فِي الْقِرَاآتِ إِنَّمَا وَقَعَتْ وَأَكْثَرُهُمْ يَوْمَئِذٍ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَعْرِفُ الرَّسْمَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْحُرُوفَ بِمَخَارِجِهَا. قَالَ: وَأَمَّا مَا وُجِدَ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُتَبَايِنَةِ الْمَخْرَجِ الْمُتَّفِقَةِ الصُّورَةِ مِثْلُ نُنْشِرُهَا وَنُنْشِزُهَا فَإِنَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ تَقَارُبُ مَعَانِيهَا، وَاتَّفَقَ تَشَابُهُ صُورَتِهَا فِي الْخَطِّ.
قُلْتُ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَوْهِينُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ قُتَيْبَةَ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الِانْحِصَارُ الْمَذْكُورُ فِي ذَلِكَ وَقَعَ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ بِالِاسْتِقْرَاءِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ مَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: الْكَلَامُ لَا يَخْرُجُ عَنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ فِي الِاخْتِلَافِ: الْأَوَّلُ: اخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ مِنْ إِفْرَادٍ وَتَثْنِيَةٍ وَجَمْعٍ أَوْ تَذْكِيرٍ وَتَأْنِيثٍ. الثَّانِي: اخْتِلَافُ تَصْرِيفِ الْأَفْعَالِ مِنْ مَاضٍ وَمُضَارِعٍ وَأَمْرٍ، الثَّالِثُ: وُجُوهُ الْإِعْرَابِ، الرَّابِعُ: النَّقْصُ وَالزِّيَادَةُ، الْخَامِسُ: التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، السَّادِسُ: الْإِبْدَالُ، السَّابِعُ: اخْتِلَافُ اللُّغَاتِ كَالْفَتْحِ وَالْإِمَالَةِ وَالتَّرْقِيقِ وَالتَّفْخِيمِ وَالْإِدْغَامِ وَالْإِظْهَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَقَدْ أَخَذَ كَلَامَ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَنَقَّحَهُ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ السَّبْعَةَ الْأَحْرُفَ سَبْعَةُ أَصْنَافٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَانَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ يَنْزِلُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ: زَاجِرٌ وَآمِرٌ وَحَلَالٌ وَحَرَامٌ وَمُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ وَأَمْثَالٌ، فَأَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَافْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَانْتَهُوا عَمَّا نُهِيتُمْ عَنْهُ، وَاعْتَبِرُوا بِأَمْثَالِهِ، وَاعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ، وَآمِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ وَقُولُوا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا. أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا حَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ، لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَمْ يَلْقَ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَقَدْ رَدَّهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ مِنْهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ.
قُلْتُ: وَأَطْنَبَ الطَّبَرِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ بِهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْحَرْفِ الْوَاحِدِ هَذِهِ الْأَوْجُهُ السَّبْعَةُ. وَقَدْ صَحَّحَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَفِي تَصْحِيحِهِ نَظَرٌ؛ لِانْقِطَاعِهِ بَيْنَ أَبِي سَلَمَةَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ مُرْسَلًا وَقَالَ: هَذَا مُرْسَلٌ جَيِّدٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ صَحَّ فَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سَبْعَةُ أَحْرُفٍ أَيْ: سَبْعَةُ أَوْجُهٍ كَمَا فُسِّرَتْ فِي الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى، لِأَنَّ سِيَاقَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ يَأْبَى حَمْلَهَا عَلَى هَذَا، بَلْ هِيَ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ تُقْرَأُ عَلَى وَجْهَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ إِلَى سَبْعَةٍ تَهْوِينًا وَتَيْسِيرًا، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ حَرَامًا وَحَلَالًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ، وَأَبُو الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ: قَوْلُهُ زَاجِرٌ وَآمِرٌ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ آخَرَ، أَيْ هُوَ زَاجِرٌ أَيِ: الْقُرْآنُ؛ وَلَمْ يَرِدْ بِهِ تَفْسِيرُ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، وَإِنَّمَا تَوَهَّمَ ذَلِكَ مَنْ تَوَهَّمَهُ مِنْ جِهَةِ الِاتِّفَاقِ فِي الْعَدَدِ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ زَاجِرًا وَآمِرًا إِلَخْ بِالنَّصْبِ أَيْ نَزَلَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْأَبْوَابِ السَّبْعَةِ. وَقَالَ أَبُو شَامَةَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ لِلْأَبْوَابِ لَا لِلْأَحْرُفِ، أَيْ هِيَ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْكَلَامِ وَأَقْسَامِهِ، وَأَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ لَمْ يَقْتَصِرْ مِنْهَا عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ كَغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ.
قُلْتُ: وَمِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّ قَوْلَهُ زَاجِرٌ وَآمِرٌ إِلَخْ لَيْسَ تَفْسِيرًا لِلْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ مَا وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَقِبِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَوَّلِ مِنْ حَدِيثَيْ هَذَا الْبَابِ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ بَلَغَنِي أَنَّ تِلْكَ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَكُونُ وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ، قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْأَحْرُفِ
السَّبْعَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ هَلْ هِيَ مَجْمُوعَةٌ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي بِأَيْدِي النَّاسِ الْيَوْمَ أَوْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا حَرْفٌ وَاحِدٌ مِنْهَا، مَالَ ابْنُ الْبَاقِلَّانِيُّ إِلَى الْأَوَّلِ، وَصَرَّحَ الطَّبَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ بِالثَّانِي وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ عَنِ اخْتِلَافِ قِرَاءَةِ الْمَدَنِيِّينَ وَالْعِرَاقِيِّينَ هَلْ هِيَ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ؟ قَالَ: لَا، وَإِنَّمَا الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ مِثْلُ هَلُمَّ وَتَعَالَ وَأَقْبِلْ، أَيَّ ذَلِكَ قُلْتَ أَجْزَأَكَ. قَالَ: وَقَالَ لِيَ ابْنُ وَهْبٍ مِثْلَهُ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الَّذِي جُمِعَ فِي الْمُصْحَفِ هُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَى إِنْزَالِهِ الْمَقْطُوعُ بِهِ الْمَكْتُوبُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ بَعْضُ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ لَا جَمِيعُهَا، كَمَا وَقَعَ فِي الْمُصْحَفِ الْمَكِّيِّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فِي آخِرِ بَرَاءَةٌ وَفِي غَيْرِهِ بِحَذْفِ مِنْ وَكَذَا مَا وَقَعَ مِنَ اخْتِلَافِ مَصَاحِفِ الْأَمْصَارِ مِنْ عِدَّةِ وَاوَاتٍ ثَابِتَةٍ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ، وَعِدَّةِ هَاآتٍ وَعِدَّةِ لَامَاتٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ نَزَلَ بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابَتِهِ لِشَخْصَيْنِ أَوْ أَعْلَمَ بِذَلِكَ شَخْصًا وَاحِدًا وَأَمَرَهُ بِإِثْبَاتِهِمَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْقِرَاآتِ مِمَّا لَا يُوَافِقُ الرَّسْمَ فَهُوَ مِمَّا كَانَتِ الْقِرَاءَةُ جُوِّزَتْ بِهِ تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ وَتَسْهِيلًا؛ فَلَمَّا آلَ الْحَالُ إِلَى مَا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَكَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا اخْتَارُوا الِاقْتِصَارَ عَلَى اللَّفْظِ الْمَأْذُونِ فِي كِتَابَتِهِ وَتَرَكُوا الْبَاقِيَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَصَارَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ مِنَ الِاقْتِصَارِ كَمَنِ اقْتَصَرَ مِمَّا خُيِّرَ فِيهِ عَلَى خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ أَمْرَهُمْ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الْأَوْجُهِ الْمَذْكُورَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ الرُّخْصَةِ.
قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الْبَابِ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} وَقَدْ قَرَّرَ الطَّبَرِيُّ ذَلِكَ تَقْرِيرًا أَطْنَبَ فِيهِ وَوَهَى مَنْ قَالَ بِخِلَافِهِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عَمَّارٍ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ وَقَالَ: أَصَحُّ مَا عَلَيْهِ الْحُذَّاقُ أَنَّ الَّذِي يُقْرَأُ الْآنَ بَعْضَ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الْمَأْذُونِ فِي قِرَاءَتِهَا لَا كُلَّهَا، وَضَابِطُهُ مَا وَافَقَ رَسْمَ الْمُصْحَفِ، فَأَمَّا مَا خَالَفَهُ مِثْلُ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ وَمِثْلُ إِذَا جَاءَ فَتْحُ اللَّهِ وَالنَّصْرُ فَهُوَ مِنْ تِلْكَ الْقِرَاآتِ الَّتِي تُرِكَتْ إِنْ صَحَّ السَّنَدُ بِهَا، وَلَا يَكْفِي صِحَّةُ سَنَدِهَا فِي إِثْبَاتِ كَوْنِهَا قُرْآنًا، وَلَا سِيَّمَا وَالْكَثِيرُ مِنْهَا مِمَّا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي قُرِنَ إِلَى التَّنْزِيلِ فَصَارَ يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْهُ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْمُصْحَفُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ هُوَ آخِرُ الْعَرْضَاتِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ عُثْمَانُ بِنَسْخِهِ فِي الْمَصَاحِفِ وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَأَذْهَبَ مَا سِوَى ذَلِكَ قَطْعًا لِمَادَّةِ الْخِلَافِ، فَصَارَ مَا يُخَالِفُ خَطَّ الْمُصْحَفِ فِي حُكْمِ الْمَنْسُوخِ وَالْمَرْفُوعِ كَسَائِرِ مَا نُسِخَ وَرُفِعَ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْدُوَ فِي اللَّفْظِ إِلَى مَا هُوَ خَارِجٌ عَنِ الرَّسْمِ. وَقَالَ أَبُو شَامَةَ: ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ الْقِرَاآتِ السَّبْعَ الْمَوْجُودَةَ الْآنَ هِيَ الَّتِي أُرِيدَتْ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ خِلَافُ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَاطِبَةً، وَإِنَّمَا يَظُنُّ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْجَهْلِ.
وَقَالَ ابْنُ عَمَّارٍ أَيْضًا: لَقَدْ فَعَلَ مُسَبِّعُ هَذِهِ السَّبْعَةِ مَا لَا يَنْبَغِي لَهُ، وَأَشْكَلَ الْأَمْرَ عَلَى الْعَامَّةِ بِإِيهَامِهِ كُلَّ مَنْ قَلَّ نَظَرُهُ أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاآتِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْخَبَرِ، وَلَيْتَهُ إِذِ اقْتَصَرَ نَقَصَ عَنِ السَّبْعَةِ أَوْ زَادَ لِيُزِيلَ الشُّبْهَةَ، وَوَقَعَ لَهُ أَيْضًا فِي اقْتِصَارِهِ عَنْ كُلِّ إِمَامٍ عَلَى رَاوِيَيْنِ أَنَّهُ صَارَ مَنْ سَمِعَ قِرَاءَةَ رَاوٍ ثَالِثٍ غَيْرِهِمَا أَبْطَلَهَا، وَقَدْ تَكُونُ هِيَ أَشْهَرَ وَأَصَحَّ وَأَظْهَرَ وَرُبَّمَا بَالَغَ مَنْ لَا يَفْهَمُ فَخَطَّأَ أَوْ كَفَّرَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: لَيْسَتْ هَذِهِ السَّبْعَةُ مُتَعَيِّنَةً لِلْجَوَازِ حَتَّى لَا يَجُوزُ غَيْرُهَا كَقِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةَ، وَالْأَعْمَشِ وَنَحْوِهِمْ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِثْلُهُمْ أَوْ فَوْقَهُمْ. وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: لَيْسَ فِي كِتَابِ ابْنِ مُجَاهِدٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْقِرَاآتِ الْمَشْهُورَةِ إِلَّا النَّزْرَ الْيَسِيرَ، فَهَذَا أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ اشْتُهِرَ عَنْهُ سَبْعَةَ عَشَرَ رَاوِيًا، ثُمَّ سَاقَ أَسْمَاءَهُمْ. وَاقْتَصَرَ فِي كِتَابِ ابْنِ مُجَاهِدٍ عَلَى الْيَزِيدِيِّ، وَاشْتُهِرَ عَنِ الْيَزِيدِيِّ عَشَرَةُ أَنْفُسٍ فَكَيْفَ
يَقْتَصِرُ عَلَى السُّوسِيِّ، وَالدُّورِيِّ وَلَيْسَ لَهُمَا مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِمَا لِأَنَّ الْجَمِيعَ مُشْتَرِكُونَ فِي الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي الْأَخْذِ، قَالَ: وَلَا أَعْرِفُ لِهَذَا سَبَبًا إِلَّا مَا قَضَى مِنْ نَقْصِ الْعِلْمِ فَاقْتَصَرَ هَؤُلَاءِ عَلَى السَّبْعَةِ ثُمَّ اقْتَصَرَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ السَّبْعَةِ عَلَى النَّزْرِ الْيَسِيرِ.
وَقَالَ أَبُو شَامَةَ: لَمْ يُرِدِ ابْنُ مُجَاهِدٍ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ، بَلْ أَخْطَأَ مَنْ نَسَبَ إِلَيْهِ ذَلِكَ، وَقَدْ بَالَغَ أَبُو طَاهِرِ بْنُ أَبِي هَاشِمٍ صَاحِبُهُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ نَسَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْقِرَاآتِ السَّبْعِ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ، قَالَ ابْنُ أَبِي هِشَامٍ: إِنَّ السَّبَبَ فِي اخْتِلَافِ الْقِرَاآتِ السَّبْعِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الْجِهَاتِ الَّتِي وُجِّهَتْ إِلَيْهَا الْمَصَاحِفُ كَانَ بِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ حَمَلَ عَنْهُ أَهْلُ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَكَانَتِ الْمَصَاحِفُ خَالِيَةً مِنَ النَّقْطِ وَالشَّكْلِ، قَالَ: فَثَبَتَ أَهْلُ كُلِّ نَاحِيَةٍ عَلَى مَا كَانُوا تَلَقَّوْهُ سَمَاعًا عَنِ الصَّحَابَةِ بِشَرْطِ مُوَافَقَةِ الْخَطِّ، وَتَرَكُوا مَا يُخَالِفُ الْخَطَّ، امْتِثَالًا لِأَمْرِ عُثْمَانَ الَّذِي وَافَقَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ لِمَا رَأَوْا فِي ذَلِكَ مِنَ الِاحْتِيَاطِ لِلْقُرْآنِ، فَمِنْ ثَمَّ نَشَأَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ مَعَ كَوْنِهِمْ مُتَمَسِّكِينَ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ مِنَ السَّبْعَةِ. وَقَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: هَذِهِ الْقِرَاآتُ الَّتِي يُقْرَأُ بِهَا الْيَوْمَ وَصَحَّتْ رِوَايَاتُهَا عَنِ الْأَئِمَّةِ جُزْءٌ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ.
ثُمَّ سَاقَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، قَالَ: وَأَمَّا مَنْ ظَنَّ أَنَّ قِرَاءَةَ هَؤُلَاءِ الْقُرَّاءِ كَنَافِعٍ، وَعَاصِمٍ هِيَ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ الَّتِي فِي الْحَدِيثِ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا عَظِيمًا، قَالَ: وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَا خَرَجَ عَنْ قِرَاءَةِ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ مِمَّا ثَبَتَ عَنِ الْأَئِمَّةِ غَيْرُهُمْ وَوَافَقَ خَطَّ الْمُصْحَفِ أَنْ لَا يَكُونَ قُرْآنًا، وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّ الَّذِينَ صَنَّفُوا الْقِرَاآتِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ - كَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، وَأَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ، وَأَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، وَالْقَاضِي - قَدْ ذَكَرُوا أَضْعَافَ هَؤُلَاءِ قُلْتُ: اقْتَصَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِهِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ كُلِّ مِصْرٍ ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ فَذَكَرَ مِنْ مَكَّةَ ابْنَ كَثِيرٍ، وَابْنَ مُحَيْصِنٍ، وَحُمَيْدًا الْأَعْرَجَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: أَبَا جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةَ، وَنَافِعًا وَمِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: أَبَا عَمْرٍو، وَعِيسَى بْنَ عُمَرَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي إِسْحَاقَ، وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ: يَحْيَى بْنَ وَثَّابٍ، وَعَاصِمًا، وَالْأَعْمَشَ وَمِنْ أَهْلِ الشَّامِ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ، وَيَحْيَى بْنَ الْحَارِثِ. قَالَ: وَذَهَبَ عَنِّي اسْمُ الثَّالِثِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكُوفِيِّينَ حَمْزَةَ، وَلَا الْكِسَائِيَّ بَلْ قَالَ: إِنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ الْكُوفَةِ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ صَارُوا إِلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَلَمْ يَجْتَمِعْ عَلَيْهِ جَمَاعَتُهُمْ قَالَ:
وَأَمَّا الْكِسَائِيُّ فَكَانَ يَتَخَيَّرُ الْقِرَاآتِ. فَأَخَذَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكُوفِيِّينَ بَعْضًا وَتَرَكَ بَعْضًا وَقَالَ: بَعْدَ أَنْ سَاقَ أَسْمَاءَ مَنْ نُقِلَتْ عَنْهُ الْقِرَاءَةُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يُحْكَى عَنْهُمْ عِظَمُ الْقِرَاءَةِ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمُ الْفِقْهَ وَالْحَدِيثَ، قَالَ: ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُمْ بِالْقِرَاآتِ قَوْمٌ لَيْسَتْ لَهُمْ أَسْنَانُهُمْ وَلَا تَقَدُّمُهُمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ تَجَرَّدُوا لِلْقِرَاءَةِ وَاشْتَدَّتْ عِنَايَتُهُمْ بِهَا وَطَلَبُهُمْ لَهَا حَتَّى صَارُوا بِذَلِكَ أَئِمَّةً يَقْتَدِي النَّاسُ بِهِمْ فِيهَا فَذَكَرَهُمْ، وَذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ زِيَادَةً عَلَى عِشْرِينَ رَجُلًا وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِمُ ابْنَ عَامِرٍ وَلَا حَمْزَةَ وَلَا الْكِسَائِيَّ، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ فِي كِتَابِهِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ رَجُلًا، قَالَ مَكِّيٌّ: وَكَانَ النَّاسُ عَلَى رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ بِالْبَصْرَةِ عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو، وَيَعْقُوبَ، وَبِالْكُوفَةِ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ، وَعَاصِمٍ وَبِالشَّامِ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ، وَبِمَكَّةَ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَبِالْمَدِينَةِ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ.
فَلَمَّا كَانَ عَلَى رَأْسِ الثَّلَاثِمِائَةِ أَثْبَتَ ابْنُ مُجَاهِدٍ اسْمَ الْكِسَائِيِّ وَحَذَفَ يَعْقُوبَ، قَالَ: وَالسَّبَبُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى السَّبْعَةِ مَعَ أَنَّ فِي أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ مَنْ هُوَ أَجَلُّ مِنْهُمْ قَدْرًا وَمِثْلُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِهِمْ أَنَّ الرُّوَاةَ عَنِ الْأَئِمَّةِ كَانُوا كَثِيرًا جِدًّا، فَلَمَّا تَقَاصَرَتِ الْهِمَمُ اقْتَصَرُوا - مِمَّا يُوَافِقُ خَطَّ الْمُصْحَفِ - عَلَى مَا يَسْهُلُ حِفْظُهُ وَتَنْضَبِطُ الْقِرَاءَةُ بِهِ، فَنَظَرُوا إِلَى مَنِ اشْتُهِرَ بِالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ وَطُولِ الْعُمُرِ فِي مُلَازَمَةِ الْقِرَاءَةِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى الْأَخْذِ عَنْهُ فَأَفْرَدُوا مِنْ كُلِّ مِصْرٍ إِمَامًا وَاحِدًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا - مَعَ ذَلِكَ - نَقْلَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ غَيْرَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْقِرَاآتِ وَلَا الْقِرَاءَةَ بِهِ كَقِرَاءَةِ يَعْقُوبَ، وَعَاصِمٍ الْجَحْدَرِيِّ، وَأَبِي
جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةَ وَغَيْرِهِمْ، قَالَ: وَمِمَّنِ اخْتَارَ مِنَ الْقِرَاآتِ كَمَا اخْتَارَ الْكِسَائِيُّ، أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَالْمُفَضَّلُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَذَلِكَ وَاضِحٌ فِي تَصَانِيفِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ جُبَيْرٍ الْمَكِّيُّ وَكَانَ قَبْلَ ابْنِ مُجَاهِدٍ كِتَابًا فِي الْقِرَاآتِ فَاقْتَصَرَ عَلَى خَمْسَةٍ، اخْتَارَ مِنْ كُلِّ مِصْرٍ إِمَامًا، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَصَاحِفَ الَّتِي أَرْسَلَهَا عُثْمَانُ كَانَتْ خَمْسَةً إِلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ وَجَّهَ بِسَبْعَةٍ هَذِهِ الْخَمْسَةُ وَمُصْحَفًا إِلَى الْيَمَنِ وَمُصْحَفًا إِلَى الْبَحْرَيْنِ لَكِنْ لَمْ نَسْمَعْ لِهَذَيْنَ الْمُصْحَفَيْنِ خَبَرًا، وَأَرَادَ ابْنُ مُجَاهِدٍ وَغَيْرُهُ مُرَاعَاةَ عَدَدِ الْمَصَاحِفِ فَاسْتَبْدَلُوا مِنْ غَيْرِ الْبَحْرَيْنِ وَالْيَمَنِ قَارِئَيْنِ يَكْمُلُ بِهِمَا الْعَدَدُ فَصَادَفَ ذَلِكَ مُوَافَقَةَ الْعَدَدِ الَّذِي وَرَدَ الْخَبَرُ
بِهَا وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَوَقَعَ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِطْنَةً فَظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِرَاآتِ السَّبْعِ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمُ الْحَرْفَ فِي مَوْضِعِ الْقِرَاءَةِ فَقَالُوا: قَرَأَ بِحَرْفِ نَافِعٍ بِحَرْفِ ابْنِ كَثِيرٍ، فَتَأَكَّدَ الظَّنُّ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَّهُ، وَالْأَصْلُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ سَنَدُهُ فِي السَّمَاعِ وَيَسْتَقِيمُ وَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَيُوَافِقُ خَطَّ الْمُصْحَفِ، وَرُبَّمَا زَادَ بَعْضُهُمْ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ وَنَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ كَمَا قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ قُرَّاءُ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا اتَّفَقَ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، قَالَ: وَرُبَّمَا أَرَادُوا بِالِاتِّفَاقِ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ، قَالَ: وَأَصَحُّ الْقِرَاآتِ سَنَدًا نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَأَفْصَحُهَا أَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ
(1)
فِي الشَّافِي: التَّمَسُّكُ بِقِرَاءَةِ سَبْعَةٍ مِنَ الْقُرَّاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ لَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ وَلَا سُنَّةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جَمْعِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ فَانْتَشَرَ رَأْيُهُمْ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: وَقَدْ صَنَّفَ غَيْرُهُ فِي السَّبْعِ أَيْضًا فَذَكَرَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الرِّوَايَاتِ عَنْهُمْ غَيْرَ مَا فِي كِتَابِهِ، فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهُ لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِذَلِكَ لِخُلُوِ ذَلِكَ الْمُصْحَفِ عَنْهُ.
وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ فِي اللَّوَائِحِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الشُّبْهَةَ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا ظَنَّ الْأَغْبِيَاءُ أَنَّ أَحْرُفَ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي الْحَدِيثِ وَأَنَّ الْأَئِمَّةَ بَعْدَ ابْنِ مُجَاهِدٍ جَعَلُوا الْقِرَاآتِ ثَمَانِيَةً أَوْ عَشْرَةً لِأَجْلِ ذَلِكَ، قَالَ: وَاقْتَفَيْتُ أَثَرَهُمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَأَقُولُ: لَوِ اخْتَارَ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ حُرُوفًا وَجَرَّدَ طَرِيقًا فِي الْقِرَاءَةِ بِشَرْطِ الِاخْتِيَارِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ خَارِجًا عَنِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ.
وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ: كُلُّ مَا صَحَّ سَنَدُهُ وَاسْتَقَامَ وَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَوَافَقَ لَفْظُهُ خَطَّ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ فَهُوَ مِنَ السَّبْعَةِ الْمَنْصُوصَةِ فَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ بُنِيَ قَبُولُ الْقِرَاآتِ عَنْ سَبْعَةٍ كَانُوا أَوْ سَبْعَةِ آلَافٍ، وَمَتَى فُقِدَ شَرْطٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ الشَّاذُّ، قُلْتُ: وَإِنَّمَا أَوْسَعْتُ الْقَوْلَ فِي هَذَا لِمَا تَجَدَّدَ فِي الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ مِنْ تَوَهُّمٍ أَنَّ الْقِرَاآتِ الْمَشْهُورَةَ مُنْحَصِرَةٌ فِي مِثْلِ التَّيْسِيرِ وَالشَّاطِبِيَّةِ، وَقَدِ اشْتَدَّ إِنْكَارُ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ عَلَى مَنْ ظَنَّ ذَلِكَ كَأَبِي شَامَةَ، وَأَبِي حَيَّانَ، وَآخِرُ مَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ السُّبْكِيُّ فَقَالَ: فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالشَّاذِّ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ مَا عَدَا السَّبْعَةِ شَاذٌّ تَوَهُّمًا مِنْهُ انْحِصَارَ الْمَشْهُورِ فِيهَا، وَالْحَقُّ أَنَّ الْخَارِجَ عَنِ السَّبْعَةِ عَلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا يُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَالثَّانِي: مَا لَا يُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ أَيْضًا: الْأَوَّلُ: مَا وَرَدَ مِنْ طَرِيقٍ غَرِيبَةٍ فَهَذَا مُلْحَقٌ بِالْأَوَّلِ، وَالثَّانِي: مَا اشْتُهِرَ عِنْدَ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ الْقِرَاءَةُ بِهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فَهَذَا لَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ مِنْهُ كَقِرَاءَةِ يَعْقُوبَ، وَأَبِي جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِمَا. ثُمَّ نَقَلَ كَلَامَ الْبَغَوِيِّ وَقَالَ: هُوَ أَوْلَى مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ فَقِيهٌ مُحَدِّثٌ مُقْرِئٌ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا التَّفْصِيلُ بِعَيْنِهِ وَارِدٌ فِي الرِّوَايَاتِ عَنِ السَّبْعَةِ، فَإِنَّ عَنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الشَّوَاذِّ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَأْتِ إِلَّا
(1)
في نسخة أخرى: قال إسماعيل الخ.
مِنْ طَرِيقٍ غَرِيبَةٍ وَإِنِ اشْتَهَرَتِ الْقِرَاءَةُ مِنْ ذَلِكَ الْمُنْفَرِدِ.
وَكَذَا قَالَ أَبُو شَامَةَ. وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْقِرَاآتِ الصَّحِيحَةَ إِلَيْهِمْ نُسِبَتْ وَعَنْهُمْ نُقِلَتْ، فَلَا يَلْزَمُ أَنَّ جَمِيعَ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، بَلْ فِيهِ الضَّعِيفُ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ: وَلِهَذَا تَرَى كُتُبَ الْمُصَنِّفِينَ مُخْتَلِفَةٌ فِي ذَلِكَ، فَالِاعْتِمَادُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الضَّابِطِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ.
(فَصْلٌ) لَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ عُمَرَ عَلَى تَعْيِينِ الْأَحْرُفِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا عُمَرُ، وَهِشَامٌ مِنْ سُورَةِ الْفُرْقَانِ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ الْقُرَّاءِ خِلَافٌ فِيمَا يَنْقُصُ مِنْ خَطِ الْمُصْحَفِ سِوَى قَوْلِهِ:{وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} وَقُرِئَ سُرُجًا جَمْعُ سِرَاجٍ، قَالَ: وَبَاقِي مَا فِيهَا مِنَ الْخِلَافِ لَا يُخَالِفُ خَطَّ الْمُصَنِّفِ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَتَبَّعَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْقُرَّاءُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ لَدُنِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، فَأَوْرَدْتُهُ مُلَخَّصًا وَزِدْتُ عَلَيْهِ قَدْرَ مَا ذَكَرَهُ وَزِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ أَوْ أَكْثَرَ.
قَوْلُهُ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} قَرَأَ أَبُو الْجَوْزَاءِ، وَأَبُو السَّوَّارِ أَنْزَلَ بِأَلِفٍ.
قَوْلُهُ: عَلَى عَبْدِهِ، قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ: عَلَى عِبَادِهِ وَمُعَاذٌ أَبُو حَلِيمَةَ، وَأَبُو نَهِيكٍ: عَلَى عَبِيدِهِ.
قَوْلُهُ: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} قَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَرُوِيَتْ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ الْأُولَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَإِذَا ابْتُدِئَ ضُمَّ أَوَّلُهُ.
قَوْلُهُ: {مَلَكٌ فَيَكُونَ} قَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ فَيَكُونُ بِضَمِّ النُّونِ.
قَوْلُهُ: {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ} قَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَأَبُو حُصَيْنٍ يَكُونُ بِالتَّحْتَانِيَّةِ.
قَوْلُهُ: {يَأْكُلُ مِنْهَا} قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ سِوَى عَاصِمٍ نَأْكُلُ بِالنُّونِ وَنَقَلَهُ فِي الْكَامِلِ عَنِ الْقَاسِمِ، وَابْنِ سَعْدٍ، وَابْنِ مِقْسَمٍ.
قَوْلُهُ: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحُمَيْدٌ وَتَبِعَهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَشَيْبَانُ، عَنْ عَاصِمٍ وَكَذَا مَحْجُوبٌ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَوَرْشٍ يَجْعَلُ بِرَفْعِ اللَّامِ وَالْبَاقُونَ بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ جَعَلَ وَقِيلَ لِإِدْغَامِهَا، وَهَذَا يَجْرِي عَلَى طَرِيقَةِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَقَرَأَ بِنَصْبِ اللَّامِ عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَطَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، وَذَكَرَهَا الْفَرَّاءُ جَوَازًا عَلَى إِضْمَارِ إِنْ وَلَمْ يَنْقُلْهَا، وَضَعَّفَهَا ابْنُ جِنِّيٍّ.
قَوْلُهُ: {مَكَانًا ضَيِّقًا} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَعَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ، وَمَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ بِالتَّخْفِيفِ، وَنَقَلَهَا عُقْبَةُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَيْضًا.
قَوْلُهُ: {مُقَرَّنِينَ} قَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْفَعِ مُقَرَّنُونَ.
قَوْلُهُ: {ثُبُورًا} قَرَأَ الْمَذْكُورَانِ بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ.
قَوْلُهُ: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْجَحْدَرِيُّ وَكَذَا الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَعْمَشُ عَلَى اخْتِلَافٍ عَنْهُمْ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ
(1)
بِكَسْرِ الشِّينِ، قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ وَهِيَ قَوِيَّةٌ فِي الْقِيَاسِ مَتْرُوكَةٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
قَوْلُهُ: {وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو نَهِيكٍ، وَعُمَرُ بْنُ ذَرٍّ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِنَا.
قَوْلُهُ: (فَيَقُولُ) قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَطَلْحَةُ ابْنُ مُصَرِّفٍ، وَسَلَّامٌ، وَابْنُ حَسَّانَ، وَطَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَكَذَا الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ عَلَى اخْتِلَافٍ عَنْهُمَا وَرُوِيَتْ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِالنُّونِ.
قَوْلُهُ: {مَا كَانَ يَنْبَغِي} قَرَأَ أَبُو عِيسَى الْأُسْوَارِيُّ، وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ بِضَمِ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ.
قَوْلُهُ: (أَنْ نَتَّخِذَ) قَرَأَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَالْبَاقِرُ وَأَخُوهُ زَيْدٌ، وَجَعْفَرُ الصَّادِقُ، وَنَصْرُ بْنُ عَلْقَمَةَ، وَمَكْحُولٌ، وَشَيْبَةُ، وَحَفْصُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الْقَارِئُ، وَأَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ، وَالزَّعْفَرَانُ - وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ - وَأَبُو رَجَاءٍ،
(1)
في نسخة الأعمش.
وَالْحَسَنُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَأَنْكَرَهَا أَبُو عُبَيْدٍ وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ تَفَرَّدَ بِهَا.
قَوْلُهُ: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} حَكَى الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهَا قُرِئَتْ بِالتَّخْفِيفِ.
قَوْلُهُ: {بِمَا تَقُولُونَ} قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَعُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، وَأَبُو حَيْوَةَ وَرُوِيَتْ عَنْ قُنْبُلٍ بِالتَّحْتَانِيَّةِ.
قَوْلُهُ: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} قَرَأَ حَفْصٌ فِي الْأَكْثَرِ عَنْهُ عَنْ عَاصِمٍ بِالْفَوْقَانِيَّةِ وَكَذَا الْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ.
قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ} قُرِئَ (يُذِقْهُ) بِالتَّحْتَانِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنَّهُمْ) قُرِئَ أَنَّهُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْأَصْلُ: لِأَنَّهُمْ فَحُذِفَتِ اللَّامُ، نُقِلَ هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ مِنْ إِعْرَابِ السَّمِينِ.
قَوْلُهُ: (وَيَمْشُونَ) قَرَأَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَلِلْمَفْعُولِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: {حِجْرًا مَحْجُورًا} قَرَأَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْأَعْمَشُ حُجْرًا بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَهِيَ لُغَةٌ، وَحَكَى أَبُو الْبَقَاءِ الْفَتْحَ عَنْ بَعْضِ الْمِصْرِيِّينَ وَلَمْ أَرَ مَنْ نَقَلَهَا قِرَاءَةً.
قَوْلُهُ: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ} قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو عُمَرَ، وَالْحَسَنُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَنُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَوَافَقَهُمْ عَبْدُ الْوَارِثِ، وَمُعَاذٌ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَكَذَا مَحْبُوبٌ وَكَذَا الْحِمْصِيُّ مِنَ الشَّامِيِّينَ فِي نَقْلِ الْهُذَلِيِّ.
قَوْلُهُ: {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ} قَرَأَ الْأَكْثَرُ بِضَمِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ وَفَتْحِ اللَّامِ الْمَلَائِكَةُ بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَرُوِيَتْ عَنْ مُعَاذٍ أَبِي حَلِيمَةَ بِتَخْفِيفِ الزَّايِ وَضَمِّ اللَّامِ، وَالْأَصْلُ:(تَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ) فَحُذِفَتْ تَخْفِيفًا، وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، وَعُمَرُ بْنُ ذَرٍّ وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَقَلَهَا ابْنُ مِقْسَمٍ عَنِ الْمَكِّيِّ وَاخْتَارَهَا الْهُذَلِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ وَفَتْحِ اللَّامِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ الْمَلَائِكَةَ بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ، وَالْخُفَافُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِالتَّخْفِيفِ الْمَلَائِكَةُ بِالرَّفْعِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَرُوِيَتْ عَنِ الْخُفَافِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْضًا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَشُعَيْبٌ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَنُنْزِلُ بِنُونَيْنِ الثَّانِيَةُ خَفِيفَةٌ الْمَلَائِكَةَ بِالنَّصْبِ، وَقُرِئَ بِالتَّشْدِيدِ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَيْضًا، وَقَرَأَ هَارُونُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِمُثَنَّاةٍ أَوَّلَهُ وَفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الزَّايِ الثَّقِيلَةِ الْمَلَائِكَةُ بِالرَّفْعِ أَيْ تُنَزِّلُ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مِثْلُهُ لَكِنْ بِفَتْحِ الزَّايِ وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ، وَأَبُو الْأَشْهَبِ كَالْمَشْهُورِ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ لَكِنْ بِأَلِفٍ أَوَّلَهُ، وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ نَزَلَتْ بِفَتْحٍ وَتَخْفِيفٍ وَزِيَادَةِ مُثَنَّاةٍ فِي آخِرِهِ، وَعَنْهُ مِثْلُهُ لَكِنْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مُشَدَّدًا، وَعَنْهُ تَنَزَّلَتْ بِمُثَنَّاةٍ فِي أَوَّلِهِ وَفِي آخِرِهِ بِوَزْنِ تَفَعَّلَتْ.
قَوْلُهُ: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ} قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الْيَاءِ الْأَخِيرَةِ مِنْ لَيْتَنِي.
قَوْلُهُ: (يَا وَيْلَتي) قَرَأَ الْحَسَنُ بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ بِالْإِضَافَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَمَالَ.
قَوْلُهُ: {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا} قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَرَوْحٌ وَأَهْلُ مَكَّةَ - إِلَّا رِوَايَةَ ابْنِ مُجَاهِدٍ، عَنْ قُنْبُلٍ - بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ قَوْمِي.
قَوْلُهُ: لِنُثَبِّتَ، قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِالتَّحْتَانِيَّةِ بَدَلَ النُّونِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ، وَأَبِي حُصَيْنٍ، وَأَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ.
قَوْلُهُ: {فَدَمَّرْنَاهُمْ} قَرَأَ عَلِيٌّ، وَمَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ (فَدَمِّرَانِّهِمْ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ النُّونِ الثَّقِيلَةِ بَيْنَهُمَا أَلِفُ تَثْنِيَةٍ، وَعَنْ عَلِيٍّ بِغَيْرِ نُونٍ، وَالْخِطَابُ لِمُوسَى وَهَارُونَ.
قَوْلُهُ: {وَعَادًا وَثَمُودَ} قَرَأَ حَمْزَةُ، وَيَعْقُوبُ، وَحَفْصٌ وَثَمُودَ بِغَيْرِ صَرْفٍ.
قَوْلُهُ: {أُمْطِرَتْ} قَرَأَ مُعَاذٌ أَبُو حَلِيمَةَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو نَهِيكَ (مُطِرَتْ) بِضَمِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الطَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ (أُمْطِرُوا) وَعَنْهُ (أَمْطَرْنَاهُمْ).
قَوْلُهُ: {مَطَرَ السَّوْءِ} قَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ بِضَمِ السِّينِ، وَأَبُو السَّمَّالِ أَيْضًا مِثْلَهُ بِغَيْرِ هَمْزٍ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَحَفِيدُهُ زَيْنُ الْعَابِدِينَ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ بِفَتْحِ السِّينِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ بِلَا هَمْزٍ. وَكَذَا قَرَأَ الضَّحَّاكُ لَكِنْ بِالتَّخْفِيفِ.
قَوْلُهُ: {هُزُوًا} قَرَأَ حَمْزَةُ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَالْمُفَضَّلُ بِإِسْكَانِ الزَّايِ
وَحَفْصٌ بِالضَّمِّ بِغَيْرِ هَمْزٍ.
قَوْلُهُ: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ} قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ (اخْتَارَهُ اللَّهُ مِنْ بَيْنِنَا).
قَوْلُهُ: {عَنْ آلِهَتِنَا} قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأُبَيٌّ:(عَنْ عِبَادَةِ آلِهَتِنَا).
قَوْلُهُ: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ} قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَالتَّنْوِينِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ اللَّامِ بَعْدَهَا أَلِفٌ وَهَاءُ تَأْنِيثٍ وَهُوَ اسْمُ الشَّمْسِ، وَعَنْهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: {أَمْ تَحْسَبُ} قَرَأَ الشَّامِيُّ بِفَتْحِ السِّينِ.
قَوْلُهُ: {أَوْ يَعْقِلُونَ} قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ (أَوْ يُبْصِرُونَ).
قَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ} قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ (جَعَلَ).
قَوْلُهُ: {الرِّيَاحَ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَالْحَسَنُ (الرِّيحُ).
قَوْلُهُ: {نَشْرًا} قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ بِسُكُونِ الشِّينِ، وَتَابَعَهُمْ هَارُونُ الْأَعْوَرُ، وَخَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ سِوَى عَاصِمٍ وَطَائِفَةٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ ثُمَّ سُكُونٍ، وَكَذَا قَرَأَ الْحَسَنُ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالْعَلَاءُ بْنُ شَبَابَةَ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِمُوَحَّدَةٍ بَدَلَ النُّونِ، وَتَابَعَهُ عِيسَى الْهَمْدَانِيُّ، وَأَبَانُ بْنُ ثَعْلَبِ، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فِي رِوَايَةٍ وَابْنُ السَّمَيْفَعِ بِضَمِ الْمُوَحَّدَةِ مَقْصُورٌ بِوَزْنِ حُبْلَى.
قَوْلُهُ: {لِنُحْيِيَ بِهِ} قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ (لِنَنْشُرَ بِهِ).
قَوْلُهُ: مَيْتًا قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِالتَّشْدِيدِ.
قَوْلُهُ: {وَنُسْقِيَهُ} قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِفَتْحِ النُّونِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَعَاصِمٍ، وَالْأَعْمَشِ.
قَوْلُهُ: {وَأَنَاسِيَّ} قَرَأَ يَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ بِتَخْفِيفِ آخِرِهِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وَعَنْ قُتَيْبَةَ الْمَيَّالِ وَذَكَرَهَا الْفَرَّاءُ جَوَازًا لَا نَقْلًا.
قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} قَرَأَ عِكْرِمَةُ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ.
قَوْلُهُ: {لِيَذَّكَّرُوا} قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ سِوَى عَاصِمٍ بِسُكُونِ الذَّالِ مُخَفَّفًا.
قَوْلُهُ: {وَهَذَا مِلْحٌ} قَرَأَ أَبُو حُصَيْنٍ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَعُمَرُ بْنُ ذَرٍّ وَنَقَلَهَا الْهُذَلِيُّ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، وَرُوِيَتْ عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَقُتَيْبَةَ الْمَيَّالِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَاسْتَنْكَرَهَا أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ، وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَالِحٌ فَحَذَفَ الْأَلِفَ تَخْفِيفًا، قَالَ: مَعَ أَنَّ مَالِحٌ لَيْسَتْ فَصَيْحَةً.
قَوْلُهُ: {وَحِجْرًا} تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ} قَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِجَرِّ النُّونِ نَعْتًا لِلْحَيِّ، وَابْنُ مَعْدَانَ بِالنَّصْبِ قَالَ: عَلَى الْمَدْحِ.
قَوْلُهُ: {فَاسْأَلْ بِهِ} قَرَأَ الْمَكِّيُّونَ وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ، وَأَبَانُ بْنُ يَزِيدَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَعَنْ نَافِعٍ (فَسَلْ بِهِ) بِغَيْرِ هَمْزٍ.
قَوْلُهُ: {لِمَا تَأْمُرُنَا} قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ بِالتَّحْتَانِيَّةِ، لَكِنِ اخْتُلِفَ عَنْ حَفْصٍ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ (لِمَا تَأْمُرُنَا بِهِ).
قَوْلُهُ: {سِرَاجًا} قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ سِوَى عَاصِمٍ (سُرُجًا) بِضَمَّتَيْنِ، لَكِنْ سَكَّنَ الرَّاءَ الْأَعْمَشُ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَأَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ، وَالشِّيرَازِيُّ.
قَوْلُهُ: وَقُمْرٌ قَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَأَبُو حُصَيْنٍ، وَالْحَسَنُ وَرُوِيَتْ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَعَنِ الْأَعْمَشِ أَيْضًا فَتْحُ أَوَّلِهِ.
قَوْلُهُ: أَنْ يَذَّكَّرَ قَرَأَ حَمْزَةُ بِالتَّخْفِيفِ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ (يَتَذَكَّرُ) وَرُوِيَتْ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَقَرَأَهَا أَيْضًا إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وَعِيسَى الْهَمْدَانِيُّ، وَالْبَاقِرُ وَأَبُوهُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، وَنُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ.
قَوْلُهُ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} قَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ بِضَمِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالْحَسَنُ بِضَمَّتَيْنِ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَأَبُو نَهِيكٍ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ بِفَتْحٍ ثُمَّ كَسْرٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ.
قَوْلُهُ: {يَمْشُونَ} قَرَأَ عَلِيٌّ، وَمُعَاذٌ الْقَارِئُ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَأَبُو نَهِيكٍ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ بِالتَّشْدِيدِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ.
قَوْلُهُ: سُجَّدًا، قَرَأَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ (سُجُودًا).
قَوْلُهُ: وَمُقَامًا، قَرَأَ أَبُو زَيْدٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ.
قَوْلُهُ: {وَلَمْ يَقْتُرُوا} قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْمَدَنِيُّونَ هِيَ رِوَايَةُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ وَعَنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي رَجَاءٍ، وَنُعَيْمِ بْنِ مَيْسَرَةَ، وَالْمُفَضَّلِ، وَالْأَزْرَقِ، وَالْجُعْفِيِّ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ
وَأَنْكَرَهَا أَبُو حَاتِمٍ، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ إِلَّا مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ التَّاءِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَيْضًا بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ التَّاءِ.
قَوْلُهُ: {قَوَ مًا} قَرَأَ حَسَّانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ صَاحِبُ عَائِشَةَ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَأَبُو حُصَيْنٍ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ مَعَ فَتْحِ الْقَافِ.
قَوْلُهُ: {يَلْقَ أَثَامًا} قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ (يَلْقَى) بِإِشْبَاعِ الْقَافِ، وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ بِغَيْرِ إِشْبَاعٍ.
قَوْلُهُ: يُضَاعَفْ، قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ بِرَفْعِ الْفَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَيَعْقُوبُ (يُضَعَّفُ) بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ بِالنُّونِ، (الْعَذَابَ) بِالنَّصْبِ.
قَوْلُهُ: {وَيَخْلُدْ} قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَرُوِيَتْ عَنِ الْجُعْفِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو لَكِنْ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وَمُعَاذٌ الْقَارِئُ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَأَبُو نَهِيكٍ، وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ بِالْمُثَنَّاةِ مَعَ الْجَزْمِ عَلَى الْخِطَابِ.
قَوْلُهُ: {فِيهِ مُهَانًا} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِإِشْبَاعِ الْهَاءِ مِنْ (فِيهِ) حَيْثُ جَاءَ، وَتَابَعَهُ حَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ هُنَا فَقَطْ.
قَوْلُهُ: وَذُرِّيَّتِنَا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكُوفِيُّونَ سِوَى رِوَايَةٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالْإِفْرَادِ، وَالْبَاقُونَ بِالْجَمْعِ.
قَوْلُهُ: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} قَرَأَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَأَبُو نَهِيكٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ، وَعُمَرُ بْنُ ذَرٍّ (قُرأت) بِصِيغَةِ الْجَمْعِ.
قَوْلُهُ: {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ (يُجْزَوْنَ الْجَنَّةَ).
قَوْلُهُ: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا} قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ سِوَى حَفْصٍ، وَابْنِ مَعْدَانَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَكَذَا قَرَأَ النُّمَيْرِيُّ، عَنِ الْمُفَضَّلِ.
قَوْلُهُ: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ (فَقَدْ كَذَّبَ الْكَافِرُونَ) وَحَكَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ تَخْفِيفَ الذَّالِ.
قَوْلُهُ: {فَسَوْفَ يَكُونُ} قَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ بِالْفَوْقَانِيَّةِ.
قَوْلُهُ: {لِزَامًا} قَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ بِفَتْحِ اللَّامِ، أَسْنَدَهُ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ عَنْهُ، وَنَقَلَهَا الْهُذَلِيُّ، عَنْ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ بَعْضَ مَا أَوْرَدْتُهُ: هَذَا مَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ مِنَ الْحُرُوفِ الَّتِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَنْكَرَ مِنْهَا عُمَرُ عَلَى هِشَامٍ وَمَا قَرَأَ بِهِ عُمَرُ، فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حُرُوفٌ أُخْرَى لَمْ تَصِلْ إِلَيَّ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ قَرَأَ بِشَيْءٍ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَلَكِنْ إِنْ فَاتَ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ فَهُوَ النَّزْرُ الْيَسِيرُ. كَذَا قَالَ، وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَزِيدُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِثْلُهُ أَوْ أَكْثَرُ، وَلَكِنَّا لَا نَتَقَلَّدُ عُهْدَةَ ذَلِكَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَنَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بَقِيَتْ أَشْيَاءٌ لَمْ يُطَّلَعْ عَلَيْهَا، عَلَى أَنِّي تَرَكْتُ أَشْيَاءَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِصِفَةِ الْأَدَاءِ مِنَ الْهَمْزِ وَالْمَدِّ وَالرَّوْمِ وَالْإِشْمَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. ثُمَّ بَعْدَ كِتَابَتِي هَذَا وَإِسْمَاعِهِ وَقَفْتُ عَلَى الْكِتَابِ الْكَبِيرِ الْمُسَمَّى بِالْجَامِعِ الْأَكْبَرِ وَالْبَحْرِ الْأَزْخَرِ تَأْلِيفُ شَيْخِ شُيُوخِنَا أَبِي الْقَاسِمِ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ اللَّخْمِيِّ الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ سَبْعَةَ آلَافِ رِوَايَةٍ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مَا لَا يَلِيقُ. وَهُوَ فِي نَحْوِ ثَلَاثِينَ مُجَلَّدَةٍ، فَالْتَقَطْتُ مِنْهُ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ فَقَارَبَ قَدْرَ مَا كُنْتُ ذَكَرْتُهُ أَوَّلًا، وَقَدْ أَوْرَدْتُهُ عَلَى تَرْتِيبِ السُّورَةِ.
قَوْلُهُ: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} قَرَأَ أَدْهَمُ السَّدُوسِيُّ بِالْمُثَنَّاةِ فَوْقُ.
قَوْلُهُ: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} قَرَأَ سَعِيدُ بْنُ يُوسُفَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ بَعْدَهَا أَلِفٌ.
قَوْلُهُ: {وَيَمْشِي} قَرَأَ الْعَلَاءُ بْنُ شَبَابَةَ، وَمُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ الْمَفْتُوحَةِ، وَنُقِلَ عَنِ الْحَجَّاجِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْمَكْسُورَةِ، وَقَالُوا هُوَ تَصْحِيفٌ.
قَوْلُهُ: {إِنْ تَتَّبِعُونَ} قَرَأَ ابْنُ أَنْعَمَ بِتَحْتَانِيَّةٍ أَوَّلَهُ، وَكَذَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْأُولَى وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ.
قَوْلُهُ: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ} قَرَأَ زُهَيْرُ بْنُ
أَحْمَدَ بِمُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقٍ.
قَوْلُهُ: {جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} قَرَأَ سَالِمُ بْنُ عَامِرٍ (جَنَّاتٌ) بِصِيغَةِ الْجَمْعِ.
قَوْلُهُ: {مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ} قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَّامٍ (مُقَرَنِينَ) بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ سَهْلٌ (مُقْرَنُونَ) بِالتَّخْفِيفِ مَعَ الْوَاوِ.
قَوْلُهُ: {أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} قَرَأَ أَبُو هِشَامٍ (أَمْ جَنَّاتُ) بِصِيغَةِ الْجَمْعِ.
قَوْلُهُ: {عِبَادِي هَؤُلاءِ} قَرَأَهَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ بِتَحْرِيكِ الْيَاءِ.
قَوْلُهُ: {نَسُوا الذِّكْرَ} قَرَأَ أَبُو مَالِكٍ بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ.
قَوْلُهُ: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا} قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَمَا يَسْتَطِيعُونَ لَكُمْ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ (فَمَا يَسْتَطِيعُونَ لَكَ) حَكَى ذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ هَارُونَ الْأَعْوَرِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وَعَنْ يُوسُفَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ خَلَفِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ زَائِدَةَ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ بِزِيَادَةِ لَكُمْ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ.
(وَمَنْ يَكْذِبُ) بَدَلَ يَظْلِمُ وَوَزْنَهَا، وَقَرَأَهَا أَيْضًا هَارُونُ الْأَعْوَرُ (يُكَذِّبُ) بِالتَّشْدِيدِ.
قَوْلُهُ: {عَذَابًا كَبِيرًا} قَرَأَ شُعَيْبٌ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ بِالْمُثَلَّثَةِ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ.
قَوْلُهُ: {لَوْلا أُنْزِلَ} قَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالزَّايِ وَنَصْبِ الْمَلَائِكَةِ.
قَوْلُهُ: {عُتُوًّا كَبِيرًا} قُرِئَ (عِتِيًّا) بِتَحْتَانِيَّةٍ بَدَلَ الْوَاوِ، وَقَرَأَ أَبُو إِسْحَاقَ الْكُوفِيُّ (كَثِيرًا) بِالْمُثَلَّثَةِ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ.
قَوْلُهُ: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ} قَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ تَرَوْنَ بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ.
قَوْلُهُ: (وَيَقُولُونَ) قَرَأَ هُشَيْمٌ، عَنْ يُونُسَ وَتَقُولُونَ بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: {وَقَدِمْنَا} قَرَأَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بِفَتْحِ الدَّالِ.
قَوْلُهُ: {إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} قَرَأَ الْوَكِيعِيُّ (مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ) بِزِيَادَةِ صَالِحٍ.
قَوْلُهُ: هَبَاءً قَرَأَ مُحَارِبٌ بِضَمِّ الْهَاءِ مَعَ الْمَدِّ، وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ يُوسُفَ بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ وَالتَّنْوِينِ، وَقَرَأَ ابْنُ دِينَارٍ كَذَلِكَ لَكِنْ بِفَتْحِ الْهَاءِ.
قَوْلُهُ: {مُسْتَقَرًّا} قَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُوسَى بِكَسْرِ الْقَافِ.
قَوْلُهُ: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ} قَرَأَ أَبُو ضِمَامٍ (وَيَوْمٌ) بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، وَأَبُو وَجْرةَ بِالرَّفْعِ بِلَا تَنْوِينٍ، وَقَرَأَ عِصْمَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ (يَوْمَ يَرَوْنَ السَّمَاءَ تَشَقَّقَ) بِحَذْفِ الْوَاوِ وَزِيَادَةِ يَرَوْنَ.
قَوْلُهُ: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ} قَرَأَ سُلَيْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (الْمَلِكُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ.
قَوْلُهُ: الْحَقُّ، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ يَزِيدَ بِنَصْبِ الْحَقُّ.
قَوْلُهُ: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ} قَرَأَ عَامِرُ بْنُ نُصَيْرٍ (تَخِذْتُ).
قَوْلُهُ: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، قَرَأَ الْمُعَلَّى، عَنِ الْجَحْدَرِيِّ بِفَتْحِ النُّونِ وَالزَّايِ مُخَفَّفًا، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ خُلَيْدٍ كَذَلِكَ لَكِنْ مُثَقَّلًا.
قَوْلُهُ: {وَقَوْمَ نُوحٍ} قَرَأَهَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَعْدَانَ عَنْ أَبِيهِ بِالرَّفْعِ.
قَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} قَرَأَ حَامِدٌ الرَّمَهُرْمُزِيُّ (آيَاتٍ) بِالْجَمْعِ.
قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ} قَرَأَ سُورَةُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (الْقَرْيَاتُ) بِالْجَمْعِ، وَقَرَأَ بَهْرَامُ (الْقُرَيَّةِ) بِالتَّصْغِيرِ مُثَقَّلًا.
قَوْلُهُ: {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} قَرَأَ أَبُو حَمْزَةَ، عَنْ شُعْبَةَ بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ فِيهِمَا.
قَوْلُهُ: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ، قَرَأَ عُثْمَانُ بْنُ الْمُبَارَكِ بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ فِيهِمَا.
قَوْلُهُ: {أَمْ تَحْسَبُ} قَرَأَ حَمْزَةُ بْنُ حَمْزَةَ بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ.
قَوْلُهُ: {سُبَاتًا} قَرَأَ يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ أَوَّلَهُ، وَقَالَ: مَعْنَاهُ الرَّاحَةُ.
قَوْلُهُ: {جِهَادًا كَبِيرًا} قَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ بِالْمُثَلَّثَةِ.
قَوْلُهُ: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} قَرَأَ ابْنُ عَرَفَةَ (مَرَّجَ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ.
قَوْلُهُ: {هَذَا عَذْبٌ} قَرَأَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَعْدَانَ بِكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ.
قَوْلُهُ: {فَجَعَلَهُ نَسَبًا} قَرَأَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ سَبَبًا بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: أَتسْجُدُ، قَرَأَ أَبُو الْمُتَوَكِّلِ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ.
قَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} قَرَأَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَعْدَانَ عَنْ أَبِيهِ (خَلْفَهُ) بِفَتْحِ الْخَاءِ وَبِالْهَاءِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّيْلِ.
قَوْلُهُ: عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا، قَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ بِضَمِّ الْهَاءِ.
قَوْلُهُ: {قَالُوا سَلامًا} قَرَأَ حَمْزَةُ بْنُ عُرْوَةَ (سِلْمًا) بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ اللَّامِ.
قَوْلُهُ: بَيْنَ ذَلِكَ، قَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ إِلْيَاسَ بِضَمِّ النُّونِ وَقَالَ: هُوَ
اسْمُ كَانَ.
قَوْلُهُ: {لا يَدْعُونَ} قَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ.
قَوْلُهُ: {وَلا يَقْتُلُونَ} قَرَأَ ابْنُ جَامِعٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَقَرَأَهَا مُعَاذٌ كَذَلِكَ لَكِنْ بِأَلِفٍ قَبْلَ الْمُثَنَّاةِ.
قَوْلُهُ: {أَثَامًا} قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْعِجْلِيُّ، عَنْ حَمْزَةَ (إِثْمًا) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ بِغَيْرِ أَلِفٍ قَبْلَ الْمِيمِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ (آثَامًا).
قَوْلُهُ: {يُبَدِّلُ اللَّهُ} قَرَأَ عَبْدُ الْحَمِيدِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ أَبِي عَبْلَةَ، وَأَبَانَ، وَابْنِ مُجَالِدٍ، عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو عُمَارَةَ، وَالْبَرْهَمِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ.
قَوْلُهُ: {لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قَرَأَ أَبُو الْمُظَفَّرِ بِنُونٍ بَدَلَ الرَّاءِ.
قَوْلُهُ: ذُكِّرُ وا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ، قَرَأَ تَمِيمُ بْنُ زِيَادٍ بِفَتْحِ الذَّالِ وَالْكَافِ.
قَوْلُهُ: بِآيَاتِ رَبِّهِمْ، قَرَأَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَزِيدَ بِآيَةِ بِالْإِفْرَادِ.
قَوْلُهُ: قُرَّةَ أَعْيُنٍ، قَرَأَ مَعْرُوفُ بْنُ حَكِيمٍ (قُرَّةُ عَيْنٍ) بِالْإِفْرَادِ وَكَذَا أَبُو صَالِحٍ مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ عَنْهُ لَكِنْ قَالَ:(قُرَّاتُ عَيْنٍ).
قَوْلُهُ: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ} قَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (وَاجْعَلْ لَنَا مِنَ الْمُتَّقِينَ إِمَامًا).
قَوْلُهُ: يُجْزَوْنَ قَرَأَ أُبَيٌّ فِي رِوَايَةٍ (يُجَازَوْنَ).
قَوْلُهُ: {الْغُرْفَةَ} قَرَأَ أَبُو حَامِدٍ (الْغُرُفَاتِ).
قَوْلُهُ: تَحِيَّةً قَرَأَ ابْنُ عُمَيْرٍ (تَحِيَّاتٍ) بِالْجَمْعِ.
قَوْلُهُ: وَسَلَامًا قَرَأَ الْحَارِثُ (وَسِلْمًا) فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
قَوْلُهُ: {مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} قَرَأَ عُمَيْرُ بْنُ عِمْرَانَ (وَمَقَامًا) بِفَتْحِ الْمِيمِ.
قَوْلُهُ: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} قَرَأَ عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدٍ بِتَخْفِيفِ الذَّالِ. فَهَذِهِ سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ مَوْضِعًا لَيْسَ فِيهَا مِنَ الْمَشْهُورِ شَيْءٌ، فَلْيُضَفْ إِلَى مَا ذَكَرْتُهُ أَوَّلًا فَتَكُونُ جُمْلَتُهَا نَحْوًا مِنْ مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ مَوْضِعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} عَلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِكُلِّ مَا ثَبَتَ مِنَ الْقُرْآنِ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهِيَ شُرُوطٌ لَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِهَا، فَمَتَى اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْهَا لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْقِرَاءَةُ مُعْتَمَدَةً، وَقَدْ قَرَّرَ ذَلِكَ أَبُو شَامَةَ فِي الْوَجِيزِ تَقْرِيرًا بَلِيغًا وَقَالَ: لَا يُقْطَعُ بِالْقِرَاءَةِ بِأَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَّا إِذَا اتَّفَقَتِ الطُّرُقُ عَنْ ذَلِكَ الْإِمَامِ الَّذِي قَامَ بِإِمَامَةِ الْمِصْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَأَجْمَعَ أَهْلُ عَصْرِهِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى إِمَامَتِهِ فِي ذَلِكَ، قَالَ: أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتِ الطُّرُقُ عَنْهُ فَلَا، فَلَوِ اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ الْوَاحِدَةُ عَلَى قِرَاآتٍ مُخْتَلِفَةٍ مَعَ وُجُودِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ جَازَتِ الْقِرَاءَةُ بِهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَخْتَلُّ الْمَعْنَى وَلَا يَتَغَيَّرَ الْإِعْرَابُ. وَذَكَرَ أَبُو شَامَةَ فِي الْوَجِيزِ أَنَّ فَتْوَى وَرَدَتْ مِنَ الْعَجَمِ لِدِمَشْقَ سَأَلُوا عَنْ قَارِئٍ يَقْرَأُ عَشْرًا مِنَ الْقُرْآنِ فَيَخْلِطُ الْقِرَاآتِ، فَأَجَابَ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ ذَلِكَ الْعَصْرِ بِالْجَوَازِ بِالشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. كَمَنْ يَقْرَأُ مَثَلًا: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ، فَلَا يُقْرَأُ لِابْنِ كَثِيرٍ بِنَصْبِ آدَمَ وَلِأَبِي عَمْرٍو بِنَصْبِ كَلِمَاتٍ، وَكَمَنْ يَقْرَأُ نَغْفِرُ لَكُمْ بِالنُّونِ خَطَايَاتُكُمْ بِالرَّفْعِ، قَالَ أَبُو شَامَةَ: لَا شَكَّ فِي مَنْعِ مِثْلِ هَذَا، وَمَا عَدَاهُ فَجَائِزٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ شَاعَ فِي زَمَانِنَا مِنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْقُرَّاءِ إِنْكَارُ ذَلِكَ حَتَّى صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِتَحْرِيمِهِ فَظَنَّ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مُعْتَمَدًا فَتَابَعُوهُمْ وَقَالُوا: أَهْلُ كُلِّ فَنٍّ أَدْرَى بِفَنِّهِمْ، وَهَذَا ذُهُولٌ مِمَّنْ قَالَهُ، فَإِنَّ عِلْمَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ إِنَّمَا يُتَلَقَّى مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالَّذِي مَنَعَ ذَلِكَ مِنَ الْقُرَّاءِ إِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا قَرَأَ بِرِوَايَةٍ خَاصَّةٍ فَإِنَّهُ مَتَى خَلَطَهَا كَانَ كَاذِبًا عَلَى ذَلِكَ الْقَارِئِ الْخَاصِّ الَّذِي شَرَعَ فِي إِقْرَاءِ رِوَايَتِهِ، فَمَنْ أَقْرَأَ رِوَايَةً لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهَا إِلَى رِوَايَةٍ أُخْرَى كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ، وَذَلِكَ مِنَ الْأَوْلَوِيَّةِ لَا عَلَى الْحَتْمِ، أَمَّا الْمَنْعُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
6 - بَاب: تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ
4993 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ: أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي يُوسُفُ بْنُ
مَاهَكٍ قَالَ: إِنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها إِذْ جَاءَهَا عِرَاقِيٌّ، فَقَالَ: أَيُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ؟ قَالَتْ: وَيْحَكَ وَمَا يَضُرُّكَ، قَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرِينِي مُصْحَفَكِ. قَالَتْ: لِمَ؟ قَالَ: لَعَلِّي أُؤلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ. قَالَتْ: وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا تابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لَا تَزْنُوا لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ:{بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ، قَالَ: فَأَخْرَجَتْ لَهُ الْمُصْحَفَ، فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آيَ السُّوَرِ.
4994 -
حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ قَيْسٍ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ وَطه وَالأَنْبِيَاءِ إِنَّهُنَّ مِنْ الْعِتَاقِ الأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي"
4995 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ سَمِعَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ تَعَلَّمْتُ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم"
4996 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ لَقَدْ تَعَلَّمْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهُنَّ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ وَدَخَلَ مَعَهُ عَلْقَمَةُ وَخَرَجَ عَلْقَمَةُ فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ عِشْرُونَ سُورَةً مِنْ أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ عَلَى تَأْلِيفِ ابْنِ مَسْعُودٍ آخِرُهُنَّ الْحَوَامِيمُ حم الدُّخَانِ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ"
قَوْلُهُ: (بَابُ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ) أَيْ: جَمْعُ آيَاتِ السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، أَوْ جَمْعُ السُّوَرِ مُرَتَّبَةً فِي الْمُصْحَفِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي يُوسُفُ) كَذَا عِنْدَهُمْ، وَمَا عَرَفْتُ مَاذَا عَطَفَ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْوَاوَ سَاقِطَةً فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَكَذَا مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (إِذْ جَاءَهَا عِرَاقِيٌّ) أَيْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.
قَوْلُهُ: (أَيُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ؟ قَالَتْ: وَيْحَكَ وَمَا يَضُرُّكَ)؟ لَعَلَّ هَذَا الْعِرَاقِيَّ كَانَ سَمِعَ حَدِيثَ سَمُرَةَ الْمَرْفُوعَ: الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ وَهُوَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مُصَحَّحًا، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَلَعَلَّ الْعِرَاقِيَّ سَمِعَهُ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَثْبِتَ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ أَهْلُ الْعِرَاقِ اشْتُهِرُوا بِالتَّعَنُّتِ فِي السُّؤَالِ، فَلِهَذَا قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: وَمَا يَضُرُّكَ؟ تَعْنِي: أَيَّ كَفَنٍ كَفَّنْتَ فِيهِ أَجْزَأَ. وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ مَشْهُورٌ حَيْثُ قَالَ: انْظُرُوا إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ، يَسْأَلُونَ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (أُؤَلِّفُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ) قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: كَأَنَّ قِصَّةَ هَذَا الْعِرَاقِيِّ كَانَتْ قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَ عُثْمَانُ الْمُصْحَفَ إِلَى الْآفَاقِ، كَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ يُوسُفَ بْنَ مَاهَكَ لَمْ يُدْرِكْ زَمَانَ أَرْسَلَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ إِلَى الْآفَاقِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْمِزِّيُّ أَنَّ رِوَايَتَهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مُرْسَلَةٌ وَأُبَيٌّ عَاشَ بَعْدَ إِرْسَالِ الْمَصَاحِفِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَدْ صَرَّحَ يُوسُفُ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ عَائِشَةَ حِينَ سَأَلَهَا هَذَا الْعِرَاقِيُّ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ هَذَا الْعِرَاقِيَّ كَانَ مِمَّنْ يَأْخُذُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَمَّا حَضَرَ مُصْحَفَ عُثْمَانَ إِلَى الْكُوفَةِ لَمْ يُوَافِقْ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ قِرَاءَتِهِ وَلَا عَلَى إِعْدَامِ مُصْحَفِهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدَ الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا، فَكَانَ تَأْلِيفُ مُصْحَفِهِ مُغَايِرًا لِتَأْلِيفِ مُصْحَفِ عُثْمَانَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ تَأْلِيفَ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ أَكْثَرُ مُنَاسَبَةً مِنْ غَيْرِهِ، فَلِهَذَا أَطْلَقَ الْعِرَاقِيُّ أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَلَّفٍ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا وَقَعَ عَنْ تَرْتِيبِ السُّوَرِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهَا لَهُ: وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ تَفْصِيلَ آيَاتِ كُلِّ سُورَةٍ لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آيَ السُّوَرِ أَيْ آيَاتِ كُلِّ سُورَةٍ كَأَنْ تَقُولَ لَهُ: سُورَةُ كَذَا مَثَلًا كَذَا كَذَا آيَةً، الْأُولَى كَذَا الثَّانِيَةُ إِلَخْ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلَافِ عَدَدِ الْآيَاتِ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمَدَنِيِّ وَالشَّامِيِّ وَالْبَصْرِيِّ، وَقَدِ اعْتَنَى أَئِمَّةُ الْقُرَّاءِ بِجَمْعِ ذَلِكَ وَبَيَانِ الْخِلَافِ فِيهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ - وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ وَقَعَ عَنِ الْأَمْرَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِوُجُوبِ تَرْتِيبِ السُّوَرِ فِي الْقِرَاءَةِ لَا دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَلَا خَارِجَهَا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَ الْكَهْفَ قَبْلَ الْبَقَرَةِ وَالْحَجَّ قَبْلَ الْكَهْفِ مَثَلًا، وَأَمَّا مَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مَنْكُوسًا فَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَقْرَأَ مِنْ آخِرِ السُّورَةِ إِلَى أَوَّلِهَا، وَكَانَ جَمَاعَةٌ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فِي الْقَصِيدَةِ مِنَ الشِّعْرِ مُبَالَغَةً فِي حِفْظِهَا وَتَذْلِيلًا لِلِسَانِهِ فِي سَرْدِهَا، فَمَنَعَ السَّلَفُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ حَرَامٌ فِيهِ.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي شَرْحِ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ فِي اللَّيْلِ بِسُورَةِ النِّسَاءِ قَبْلَ آلِ عِمْرَانَ: هُوَ كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَقُولُ: إِنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ اجْتِهَادٌ وَلَيْسَ بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ قَالَ: وَتَرْتِيبُ السُّوَرِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي التِّلَاوَةِ وَلَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا فِي الدَّرْسِ وَلَا فِي التَّعْلِيمِ؛ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتِ الْمَصَاحِفُ، فَلَمَّا كُتِبَ مُصْحَفُ عُثْمَانَ رَتَّبُوهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآنَ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ تَرْتِيبُ مَصَاحِفِ الصَّحَابَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ كَلَامِ ابْنِ بَطَّالٍ ثُمَّ قَالَ: وَلَا خِلَافَ أَنَّ تَرْتِيبَ آيَاتِ كُلِّ سُورَةٍ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ الْآنَ فِي الْمُصْحَفِ تَوْقِيفٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى ذَلِكَ نَقَلَتْهُ الْأُمَّةُ عَنْ نَبِيِّهَا صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ) هَذَا ظَاهِرُهُ مُغَايِرٌ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ نَزَلَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَلَعَلَّ مِنْ مُقَدَّرَةٌ أَيْ: مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ، أَوِ الْمُرَادُ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ؛ فَإِنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ وَفِي آخِرِهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَلَعَلَّ آخِرَهَا نَزَلَ قَبْلَ نُزُولِ بَقِيَّةِ سُورَةِ اقْرَأْ، فَإِنَّ الَّذِي نَزَلَ أَوَّلًا مِنَ {اقْرَأْ} كَمَا تَقَدَّمَ خَمْسُ آيَاتٍ فَقَطْ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى إِذَا ثَابَ) بِالْمُثَلَّثَةِ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: رَجَعَ.
قَوْلُهُ: (نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ) أَشَارَتْ إِلَى الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي تَرْتِيبِ التَّنْزِيلِ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ الدُّعَاءُ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَالتَّبْشِيرُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْمُطِيعِ بِالْجَنَّةِ، وَلِلْكَافِرِ وَالْعَاصِي بِالنَّارِ، فَلَمَّا اطْمَأَنَّتِ النُّفُوسُ عَلَى ذَلِكَ أُنْزِلَتِ الْأَحْكَامُ، وَلِهَذَا قَالَتْ: وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا لَا نَدَعُهَا وَذَلِكَ لِمَا طُبِعَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنَ النَّفْرَةِ عَنْ تَرْكِ الْمَأْلُوفِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْمُرَادِ بِالْمُفَصَّلِ فِي الْحَدِيثِ الرَّابِعِ.
قَوْلُهُ: (لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ إِلَخْ) أَشَارَتْ بِذَلِكَ إِلَى تَقْوِيَةِ مَا ظَهَرَ لَهَا مِنَ الْحِكْمَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نُزُولُ سُورَةِ الْقَمَرِ - وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَحْكَامِ - عَلَى نُزُولِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ مَعَ كَثْرَةِ مَا اشْتَمَلَتَا عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَأَشَارَتْ بِقَوْلِهَا وَأَنَا عِنْدَهُ أَيْ بِالْمَدِينَةِ، لِأَنَّ دُخُولَهَا عَلَيْهِ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ اتِّفَاقًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي مَنَاقِبِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى النَّحَّاسِ فِي زَعْمِهِ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ مَكِّيَّةٌ مُسْتَنِدًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} نَزَلَتْ بِمَكَّةَ اتِّفَاقًا فِي قِصَّةِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، لَكِنَّهَا حُجَّةٌ وَاهِيَةٌ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نُزُولِ آيَةٍ أَوْ آيَاتٍ مِنْ سُورَةٍ طَوِيلَةٍ بِمَكَّةَ
إِذَا نَزَلَ مُعْظَمُهَا بِالْمَدِينَةِ - أَنْ تَكُونَ مَكِّيَّةٌ، بَلِ الْأَرْجَحُ أَنَّ جَمِيعَ مَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مَعْدُودٌ مِنَ الْمَدَنِيِّ. وَقَدِ اعْتَنَى بَعْضُ الْأَئِمَّةِ بِبَيَانِ مَا نَزَلَ مِنَ الْآيَاتِ بِالْمَدِينَةِ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الَّذِي نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ الْبَقَرَةُ ثُمَّ الْأَنْفَالُ ثُمَّ الْأَحْزَابُ ثُمَّ الْمَائِدَةُ ثُمَّ الْمُمْتَحِنَةُ وَالنِّسَاءُ ثُمَّ إِذَا زُلْزِلَتْ ثُمَّ الْحَدِيدُ ثُمَّ الْقِتَالُ ثُمَّ الرَّعْدُ ثُمَّ الرَّحْمَنُ ثُمَّ الْإِنْسَانُ ثُمَّ الطَّلَاقُ ثُمَّ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ ثُمَّ النُّورُ ثُمَّ الْمُنَافِقُونَ ثُمَّ الْمُجَادَلَةُ ثُمَّ الْحُجُرَاتُ ثُمَّ التَّحْرِيمُ ثُمَّ الْجَاثِيَةُ ثُمَّ التَّغَابُنُ ثُمَّ الصَّفُّ ثُمَّ الْفَتْحُ ثُمَّ بَرَاءَةٌ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ سُورَةَ الْكَوْثَرِ مَدَنِيَّةٌ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَاخْتُلِفَ فِي الْفَاتِحَةِ وَالرَّحْمَنِ وَالْمُطَفِّفِينَ وَإِذَا زُلْزِلَتْ وَالْعَادِيَاتِ وَالْقَدْرِ وَأَرَأَيْتَ وَالْإِخْلَاصِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَكَذَا اخْتُلِفَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي الصَّفِّ وَالْجُمُعَةِ وَالتَّغَابُنِ، وَهَذَا بَيَانُ مَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنَ الْآيَاتِ مِمَّا فِي الْمَكِّيِّ، فَمِنْ ذَلِكَ الْأَعْرَافُ: نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} - إِلَى - {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ}
يُونُسُ: نَزَلَ مِنْهَا بِالْمَدِينَةِ {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} آيَتَانِ، وَقِيلَ:{وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} آيَةٌ، وَقِيلَ: مِنْ رَأْسِ أَرْبَعِينَ إِلَى آخِرِهَا مَدَنِيٌّ.
هُودٌ: ثَلَاثُ آيَاتٍ {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ} - {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} - {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ}
النَّحْلُ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا} الْآيَةَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
الْإِسْرَاءُ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} - وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي - {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ * إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} - وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ - {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا}
الْكَهْفُ: مَكِّيَّةٌ إِلَّا أَوَّلَهَا إِلَى {جُرُزًا} وَآخِرُهَا مِنْ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} .
مَرْيَمُ: آيَةُ السَّجْدَةِ.
الْحَجُّ: مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى شَدِيدٌ وَ {مَنْ كَانَ يَظُنُّ} وَ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وَ {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} ، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ} وَ {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} وَ (الَّذِينَ هَاجَرُوا) وَمَا بَعْدَهَا، وَمَوْضِعُ السَّجْدَتَيْنِ وَ {هَذَانِ خَصْمَانِ}
الْفُرْقَانُ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} - إِلَى - رَحِيمًا.
الشُّعَرَاءُ: آخِرُهَا مِنْ: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ}
الْقَصَصُ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} - إِلَى - {الْجَاهِلِينَ} وَ {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ}
الْعَنْكَبُوتُ: مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى ويعلم الْمُنَافِقِينَ.
لُقْمَانُ: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ}
الم تَنْزِيلُ: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا} وَقِيلَ مِنْ {تَتَجَافَى} .
سَبَأُ: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}
الزُّمَرُ: {قُلْ يَا عِبَادِ} - إِلَى - {يَشْعُرُونَ} .
الْمُؤْمِنُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} وَالَّتِي تَلِيهَا.
الشُّورَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى} وَ {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} - إِلَى - {شَدِيدٌ}
الْجَاثِيَةُ: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا}
الْأَحْقَافُ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ} وَقَوْلُهُ: {فَاصْبِرْ} .
ق: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ} - إِلَى - {لُغُوبٍ} .
النَّجْمُ: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ} - إِلَى - {اتَّقَى} .
الرَّحْمَنُ: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}
الْوَاقِعَةُ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} ن: مِنْ: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} - إِلَى - {يَعْلَمُونَ} وَمِنْ: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} - إِلَى - {الصَّالِحِينَ}
الْمُرْسَلَاتُ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} فَهَذَا مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ آيَاتٍ مِنْ سُوَرٍ تَقَدَّمَ نُزُولُهَا بِمَكَّةَ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُثْمَانَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرًا مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ فَيَقُولُ: ضَعُوهَا فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا.
وَأَمَّا عَكْسُ ذَلِكَ وَهُوَ نُزُولُ شَيْءٍ مِنْ سُورَةٍ بِمَكَّةَ تَأَخَّرَ نُزُولُ تِلْكَ السُّورَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ - فَلَمْ أَرَهُ إِلَّا نَادِرًا، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَنْفَالَ مَدَنِيَّةٌ، لَكِنْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْآيَةَ، نَزَلَتْ بِمَكَّةَ ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ بِالْمَدِينَةِ، وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا. نَعَمْ نَزَلَ مِنَ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا بِمَكَّةَ ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فِي الْعُمْرَةِ وَالْفَتْحِ وَالْحَجِّ
وَمَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي الْغَزَوَاتِ كَتَبُوكَ وَغَيْرِهَا أَشْيَاءٌ كَثِيرَةٌ كُلُّهَا تُسَمَّى الْمَدَنِيُّ اصْطِلَاحًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الْثَانِي: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُبْحَانَ وَفِي الْأَنْبِيَاءِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا أَنَّ هَذِهِ السُّوَرَ نَزَلْنَ بِمَكَّةَ وَأَنَّهَا مُرَتَّبَةٌ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا هِيَ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ، وَمَعَ تَقْدِيمِهِنَّ فِي النُّزُولِ فَهُنَّ مُؤَخَّرَاتٌ فِي تَرْتِيبِ الْمَصَاحِفِ. وَالْمُرَادُ بِالْعِتَاقِ - وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ - أَنَّهُنَّ مِنْ قَدِيمِ مَا نَزَلَ.
الْحَدِيثُ الْثَالِثُ: حَدِيثُ الْبَرَاءِ تَعَلَّمْتُ سُورَةَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَحَادِيثِ الْهِجْرَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُتَقَدِّمَةُ النُّزُولِ، وَهِيَ فِي أَوَاخِرِ الْمُصْحَفِ مَعَ ذَلِكَ.
الْحَدِيثُ الْرَّابِعُ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (عَنْ شَقِيقٍ) هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ وَهُوَ أَبُو وَائِلٍ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرُ مِنَ اسْمِهِ: وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) سَيَأْتِي فِي بَابِ التَّرْتِيلِ بِلَفْظِ: غَدَوْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (لَقَدْ تَعَلَّمْتُ النَّظَائِرَ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ سُورَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ أَبْوَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَفِيهِ أَسْمَاءُ السُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ تَأْلِيفَ مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى غَيْرِ تَأْلِيفِ الْعُثْمَانِيِّ، وَكَانَ أَوَّلُهُ الْفَاتِحَةَ ثُمَّ الْبَقَرَةَ ثُمَّ النِّسَاءَ ثُمَّ آلَ عِمْرَانَ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى تَرْتِيبِ النُّزُولِ، وَيُقَالُ: إِنَّ مُصْحَفَ عَلِيٍّ كَانَ عَلَى تَرْتِيبِ النُّزُولِ أَوَّلُهُ اقْرَأْ ثُمَّ الْمُدَّثِّرُ ثُمَّ ن وَالْقَلَمِ ثُمَّ الْمُزَّمِّلُ ثُمَّ تَبَّتْ ثُمَّ التَّكْوِيرُ ثُمَّ سَبِّحْ وَهَكَذَا إِلَى آخِرِ الْمَكِّيِّ ثُمَّ الْمَدَنِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا تَرْتِيبُ الْمُصْحَفِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآنَ فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي أَمَرَ بِتَرْتِيبِهِ هَكَذَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ اجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ رُجِّحَ الْأَوَّلُ بِمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَارِضُ بِهِ جِبْرِيلَ فِي كُلِّ سَنَةٍ. فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ عَارَضَهُ بِهِ هَكَذَا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ، بَلِ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ يُعَارِضُهُ بِهِ عَلَى تَرْتِيبِ النُّزُولِ.
نَعَمْ تَرْتِيبُ بَعْضِ السُّوَرِ عَلَى بَعْضٍ أَوْ مُعْظَمِهَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ تَوْقِيفًا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ مِنَ اجْتِهَادِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْح اكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، وَإِلَى بَرَاءَةٌ وَهِيَ مِنَ الْمُبِينِ فَقَرَنْتُمْ بِهِمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُمُوهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرًا مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّورَةُ ذَاتُ الْعَدَدِ، فَإِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ - يَعْنِي مِنْهَا - دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ فَيَقُولُ: ضَعُوا هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا، وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَبَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ، وَكَانَ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِهَا، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا، فَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا اهـ.
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ الْآيَاتِ فِي كُلِّ سُورَةٍ كَانَ تَوْقِيفًا، وَلَمَّا لَمْ يُفْصِحِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَمْرِ بَرَاءَةٌ أَضَافَهَا عُثْمَانُ إِلَى الْأَنْفَالِ اجْتِهَادًا مِنْهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَنَقَلَ صَاحِبُ الْإِقْنَاعِ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لِبَرَاءَةٌ ثَابِتَةٌ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: وَلَا يُؤْخَذُ بِهَذَا. وَكَانَ مِنْ عَلَامَةِ ابْتِدَاءِ السُّورَةِ نُزُولُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَوَّلَ مَا يَنْزِلُ شَيْءٌ مِنْهَا كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَعْلَمُ خَتْمَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَفِي رِوَايَةٍ فَإِذَا نَزَلَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَلِمُوا أَنَّ السُّورَةَ قَدِ انْقَضَتْ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ الْمُصْحَفِ كَانَ تَوْقِيفًا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَوْسِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ حُذَيْفَةَ الثَّقَفِيِّ قَالَ: كُنْتُ فِي الْوَفْدِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ ثَقِيفٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: طَرَأَ عَلَيَّ حِزْبِي مِنَ الْقُرْآنِ فَأَرَدْتُ
أَنْ لَا أَخْرُجَ حَتَّى أَقْضِيَهُ. قَالَ: فَسَأَلْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا: كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ؟ قَالُوا: نُحَزِّبُهُ ثَلَاثَ سُوَرٍ وَخَمْسَ سُوَرٍ وَسَبْعَ سُوَرٍ وَتِسْعَ سُوَرٍ وَإِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ مِنْ ق حَتَّى تَخْتِمَ.
قُلْتُ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ عَلَى مَا هُوَ فِي الْمُصْحَفِ الْآنَ كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الَّذِي كَانَ مُرَتَّبًا حِينَئِذٍ حِزْبُ الْمُفَصَّلِ خَاصَّةً، بِخِلَافِ مَا عَدَاهُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَانَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ كَمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ النِّسَاءَ بَعْدَ الْبَقَرَةِ قَبْلَ آلِ عُمْرَانَ وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ - حَدِيثِ أَوْسٍ - أَنَّ الرَّاجِحَ فِي الْمُفَصَّلِ أَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ ق إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ، لَكِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ لَمْ تُعَدَّ فِي الثُّلُثِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدِّهَا أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الْمُفَصَّلِ مِنَ الْحُجُرَاتِ، وَبِهِ جَزَمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَقَدْ نَقَلْنَا الِاخْتِلَافَ فِي تَحْدِيدِهِ فِي بَابِ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْمَغْرِبِ مِنْ أَبْوَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
7 - بَاب كَانَ جِبْرِيلُ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
وَقَالَ مَسْرُوقٌ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ عليها السلام: أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي.
4997 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ.
4998 -
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ يَعْرِضُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ وَكَانَ يَعْتَكِفُ كُلَّ عَامٍ عَشْرًا فَاعْتَكَفَ عِشْرِينَ فِي الْعَام الَّذِي قُبِضَ فِيهِ"
قَوْلُهُ: (بَابٌ كَانَ جِبْرِيلُ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بِكَسْرِ الرَّاءِ مِنَ الْعَرْضِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ: يَقْرَأُ، وَالْمُرَادُ يَسْتَعْرِضُهُ مَا أَقْرَأَهُ إِيَّاهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ فَاطِمَةَ قَالَتْ: أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالْقُرْآنِ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ بِتَمَامِهِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ آخِرِ الْمَغَازِي، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ فَائِدَةِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَالْمُعَارَضَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ كَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ تَارَةً يَقْرَأُ وَالْآخَرُ يَسْتَمِعُ.
قَوْلُهُ: (وَأَنَّهُ عَارَضَنِي) فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ وَأنِّي عَارَضَنِي.
قَوْلُهُ: (إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) تَقَدَّمَ فِي الصِّيَامِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أَنْبَأَنَا الزُّهْرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ سَمِعَ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَمِنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَرِوَايَتُهُ عَلَى الصِّفَتَيْنِ تَكَرَّرَتْ فِي هَذَا الْكِتَابِ كَثِيرًا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فَوَائِدُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا فِي بَدْءِ الْوَحْيِ فَنَذْكُرُ هُنَا نُكَتًا مِمَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ.
قَوْلُهُ: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ
النَّاسِ) فِيهِ احْتِرَاسٌ بَلِيغٌ لِئَلَّا يُتَخَيَّلُ مِنْ قَوْلِهِ وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ أَنَّ الْأَجْوَدِيَّةَ خَاصَّةٌ مِنْهُ بِرَمَضَانَ فِيهِ فَأَثْبَتَ لَهُ الْأَجْوَدِيَّةَ الْمُطْلَقَةَ أَوَّلًا ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا زِيَادَةَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ.
قَوْلُهُ: (وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي ضَبْطِ أَجْوَدُ أَنَّهُ بِالرَّفْعِ وَأَنَّ النَّصْبَ مُوَجَّهٌ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مِمَّا تُؤَيِّدُ الرَّفْعَ.
قَوْلُهُ: (لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَاهُ) فِيهِ بَيَانُ سَبَبِ الْأَجْوَدِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ أَبْيَنُ مِنَ الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي بَدْءِ الْوَحْيِ بِلَفْظِ: وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ.
قَوْلُهُ: (فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ) أَيْ رَمَضَانُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ يَلْقَاهُ كَذَلِكَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ مُنْذُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِرَمَضَانَاتِ الْهِجْرَةِ، وَإِنْ كَانَ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ إِنَّمَا فُرِضَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لِأَنَّهُ كَانَ يُسَمَّى رَمَضَانَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ صِيَامُهُ.
قَوْلُهُ: (يَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ) هَذَا عَكْسُ مَا وَقَعَ فِي التَّرْجَمَةِ لِأَنَّ فِيهَا أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَعْرِضُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْرِضُ عَلَى جِبْرِيلَ، وَتَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ بِلَفْظِ: وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ يَعْرِضُ عَلَى الْآخَرِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ آخِرَ أَحَادِيثِ الْبَابِ كَمَا سَأُوَضِّحُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ إِطْلَاقُ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضِهِ وَعَلَى مُعْظَمِهِ، لِأَنَّ أَوَّلَ رَمَضَانَ مِنْ بَعْدِ الْبَعْثَةِ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا بَعْضَهُ، ثُمَّ كَذَلِكَ كُلُّ رَمَضَانَ بَعْدَهُ، إِلَى رَمَضَانَ الْأَخِيرِ فَكَانَ قَدْ نَزَلَ كُلُّهُ إِلَّا مَا تَأَخَّرَ نُزُولُهُ بَعْدَ رَمَضَانَ الْمَذْكُورِ، وَكَانَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ إِلَى أَنْ مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَمِمَّا نَزَلَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فَإِنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَكَأَنَّ الَّذِي نَزَلَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ لَمَّا كَانَ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ لِمَا تَقَدَّمَ اغْتُفِرَ أَمْرُ مُعَارَضَتِهِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُطْلَقُ عَلَى الْبَعْضِ مَجَازًا، وَمِنْ ثَمَّ لَا يَحْنَثُ مَنْ حَلَفَ لَيَقْرَأَنَّ الْقُرْآنَ فَقَرَأَ بَعْضَهُ، إِلَّا إِنْ قَصَدَ الْجَمِيعَ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ هَلْ كَانَتْ بِجَمِيعِ الْأَحْرُفِ الْمَأْذُونِ فِي قِرَاءَتِهَا أَوْ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْهَا؟ وَعَلَى الثَّانِي فَهَلْ هُوَ الْحَرْفُ الَّذِي جَمَعَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ جَمِيعَ النَّاسِ أَوْ غَيْرُهُ؟ وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي دَاوُدَ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدَةَ بْنِ عَمْرٍو السَّلْمَانِيِّ أَنَّ الَّذِي جَمَعَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ النَّاسَ يُوَافِقُ الْعَرْضَةَ الْأَخِيرَةَ وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ جِبْرِيلُ يُعَارِضُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالْقُرْآنِ - الْحَدِيثَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَادَ فِي آخِرِهِ -: فَيَرَوْنَ أَنَّ قِرَاءَتَنَا أَحْدَثُ الْقِرَاآتِ عَهْدًا بِالْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ.
وَعِنْدَ الْحَاكِمِ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَقَدْ صَحَّحَهُ هُوَ وَلَفْظُهُ عُرِضَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرْضَاتٍ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ قِرَاءَتَنَا هَذِهِ هِيَ الْعَرْضَةُ الْأَخِيرَةُ وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَيُّ الْقِرَاءَتَيْنِ تَرَوْنَ كَانَ آخِرَ الْقِرَاءَةِ؟ قَالُوا: قِرَاءَةُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَقَالَ: لَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ عَلَى جِبْرِيلَ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا عَرَضَهُ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ وَكَانَتْ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ آخِرُهُمَا وَهَذَا يُغَايِرُ حَدِيثَ سَمُرَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَعِنْدَ مُسَدَّدٍ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: الْحَرْفُ الْأَوَّلُ، فَقَالَ: مَا الْحَرْفُ الْأَوَّلُ؟ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ بَعَثَ ابْنَ مَسْعُودٍ إِلَى الْكُوفَةِ مُعَلِّمًا فَأَخَذُوا بِقِرَاءَتِهِ فَغَيَّرَ عُثْمَانُ الْقِرَاءَةَ، فَهُمْ يَدْعُونَ قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْحَرْفَ الْأَوَّلَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ لَآخِرُ حَرْفٍ عَرَضَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى جِبْرِيلَ وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ظَبْيَانَ قَالَ: قَالَ لِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيُّ الْقِرَاءَتَيْنِ تَقْرَأُ؟ قُلْتُ: الْقِرَاءَةَ الْأُولَى قِرَاءَةَ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ - يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - قَالَ: بَلْ هِيَ الْأَخِيرَةُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْرِضُ
عَلَى جِبْرِيلَ - الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ - فَحَضَرَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَعَلِمَ مَا نُسِخَ مِنْ ذَلِكَ وَمَا بُدِّلَ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنْ تَكُونَ الْعَرْضَتَانِ الْأَخِيرَتَانِ وَقَعَتَا
بِالْحَرْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. فَيَصِحُّ إِطْلَاقُ الْآخِرِيَّةِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا.
قَوْلُهُ: (أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) فِيهِ جَوَازُ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّشْبِيهِ، وَجَوَازُ تَشْبِيهِ الْمَعْنَوِيِّ بِالْمَحْسُوسِ لِيَقْرُبَ لِفَهْمِ سَامِعِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُ أَوَّلًا وَصْفَ الْأَجْوَدِيَّةِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَصِفَهُ بِأَزْيَدِ مِنْ ذَلِكَ فَشَبَّهَ جُودَهُ بِالرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ، بَلْ جَعَلَهُ أَبْلَغَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا، لِأَنَّ الرِّيحَ قَدْ تَسْكُنُ. وَفِيهِ الِاحْتِرَاسُ لِأَنَّ الرِّيحَ مِنْهَا الْعَقِيمُ الضَّارَّةُ، وَمِنْهَا الْمُبَشِّرَةُ بِالْخَيْرِ، فَوَصَفَهَا بِالْمُرْسَلَةِ لِيُعَيِّنَ الثَّانِيَةَ، وَأَشَارَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا}
(1)
، {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَالرِّيحُ الْمُرْسَلَةُ تَسْتَمِرُّ مُدَّةَ إِرْسَالِهَا، وَكَذَا كَانَ عَمَلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ دِيمَةً لَا يَنْقَطِعُ، وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ فِي الْإِسْنَادِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ، لِأَنَّ الْجُودَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَقِيقَةٌ وَمِنَ الرِّيحِ مَجَازٌ، فَكَأَنَّهُ اسْتَعَارَ لِلرِّيحِ جُودًا بِاعْتِبَارِ مَجِيئِهَا بِالْخَيْرِ، فَأَنْزَلَهَا مَنْزِلَةَ مَنْ جَادَ، وَفِي تَقْدِيمِ مَعْمُولِ أَجْوَدَ عَلَى الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَهُ لَظُنَّ تَعَلُّقَهُ بِالْمُرْسَلَةِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْمَعْنَى الْمُرَادُ بِالْوَصْفِ مِنَ الْأَجْوَدِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ تَفُوتُ فِيهِ الْمُبَالَغَةُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ وَصْفُهُ بِزِيَادَةِ الْأَجْوَدِيَّةِ عَلَى الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ مُطْلَقًا.
وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرَ مَا سَبَقَ تَعْظِيمُ شَهْرِ رَمَضَانَ لِاخْتِصَاصِهِ بِابْتِدَاءِ نُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهِ، ثُمَّ مُعَارَضَتُهُ مَا نَزَلَ مِنْهُ فِيهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كَثْرَةُ نُزُولِ جِبْرِيلَ فِيهِ. وَفِي كَثْرَةِ نُزُولِهِ مِنْ تَوَارُدِ الْخَيْرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ مَا لَا يُحْصَى، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ فَضْلَ الزَّمَانِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِزِيَادَةِ الْعِبَادَةِ. وَفِيهِ أَنَّ مُدَاوَمَةَ التِّلَاوَةِ تُوجِبُ زِيَادَةَ الْخَيْرِ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَكْثِيرِ الْعِبَادَةِ فِي آخِرِ الْعُمُرِ، وَمُذَاكَرَةُ الْفَاضِلِ بِالْخَيْرِ وَالْعِلْمِ وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ لِزِيَادَةِ التَّذْكِرَةِ وَالِاتِّعَاظِ. وَفِيهِ أَنَّ لَيْلَ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ نَهَارِهِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التِّلَاوَةِ الْحُضُورُ وَالْفَهْمُ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ مَظِنَّةُ ذَلِكَ؛ لِمَا فِي النَّهَارِ مِنَ الشَّوَاغِلِ وَالْعَوَارِضِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَسِّمُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَلَى لَيَالِي رَمَضَانَ أَجْزَاءً، فَيَقْرَأُ كُلَّ لَيْلَةٍ جُزْءًا فِي جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلَةِ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ يَشْتَغِلُ بِهِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ سِوَى ذَلِكَ مِنْ تَهَجُّدٍ بِالصَّلَاةِ وَمِنْ رَاحَةِ بَدَنٍ وَمِنْ تَعَاهُدِ أَهْلٍ، وَلَعَلَّهُ كَانَ يُعِيدُ ذَلِكَ الْجُزْءَ مِرَارًا بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الْحُرُوفِ الْمَأْذُونِ فِي قِرَاءَتِهَا وَلِتَسْتَوْعِبَ بَرَكَةُ الْقُرْآنِ جَمِيعَ الشَّهْرِ، وَلَوْلَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ كَانَ يَعْرِضُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَفِي السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ عَرَضَهُ مَرَّتَيْنِ لَجَازَ أَنَّهُ كَانَ يَعْرِضُ جَمِيعَ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ كُلَّ لَيْلَةٍ ثُمَّ يُعِيدُهُ فِي بَقِيَّةِ اللَّيَالِي.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ قَالَ: قُلْتُ لِلشَّعْبِيِّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} أَمَا كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ السَّنَةِ؟ قَالَ: بَلَى. وَلَكِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَيُحْكِمُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ. فَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْحِكْمَةِ فِي التَّقْسِيطِ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ لِتَفْصِيلِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمَنْسُوخِ. وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا الرِّوَايَةُ الْمَاضِيَةُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ بِلَفْظِ: فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ يَقْرَأُ عَلَى الْآخَرِ، وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِقَوْلِهِ: يُعَارِضُهُ فَيَسْتَدْعِي ذَلِكَ زَمَانًا زَائِدًا عَلَى مَا لَوْ قَرَأَ الْوَاحِدُ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى:{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} إِذَا قُلْنَا: إِنَّ لَا نَافِيَةٌ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَقَوْلُ الْأَكْثَرِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا أَقْرَأَهُ فَلَا يَنْسَى مَا أَقْرَأَهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْإِقْرَاءِ مُدَارَسَةُ جِبْرِيلَ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَنْفِيَّ بِقَوْلِهِ:{فَلا تَنْسَى} النِّسْيَانُ الَّذِي لَا ذِكْرَ بَعْدَهُ لَا النِّسْيَانُ الَّذِي يَعْقُبُهُ الذِّكْرُ فِي الْحَالِ، حَتَّى لَوْ قُدِّرَ
(1)
في الأصل "مبشرات" والتصحيح من سورة الأعراف 57، وأما "مبشرات" فآية أرخى في سورة الروم 46.
أَنَّهُ نَسِيَ شَيْئًا فَإِنَّهُ يُذَكِّرُهُ إِيَّاهُ فِي الْحَالِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ فِي بَابِ نِسْيَانِ الْقُرْآنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ فَوَائِدِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ) هُوَ الْكَاهِلِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ هُوَ ابْنُ عَيَّاشٍ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُعْجَمَةِ. وَأَبُو حُصَيْنٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَاصِمٍ، وَذَكْوَانُ هُوَ أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ.
قَوْلُهُ: (كَانَ يُعْرَضُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) كَذَا لَهُمْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِي بَعْضِهَا بِفَتْحِ أَوَّلِهِ بِحَذْفِ الْفَاعِلِ، فَالْمَحْذُوفُ هُوَ جِبْرِيلُ صَرَّحَ بِهِ إِسْرَائِيلُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَلَفْظُهُ كَانَ جِبْرِيلُ يَعْرِضُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ وَإِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّرْجَمَةِ.
قَوْلُهُ: (الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍّ مَرَّةً) سَقَطَ لَفْظُ: الْقُرْآنَ لِغَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، زَادَ إِسْرَائِيلُ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَيُصْبِحُ وَهُوَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ غَرِيبَةٌ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِنَّمَا هِيَ مَحْفُوظَةٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ) فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ عَرْضَتَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحِكْمَةِ فِي تَكْرَارِ الْعَرْضِ فِي السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ السِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الْأُولَى لَمْ يَقَعْ فِيهِ مُدَارَسَةٌ لِوُقُوعِ ابْتِدَاءِ النُّزُولِ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ ثُمَّ تَتَابَعَ فَوَقَعَتِ الْمُدَارَسَةُ فِي السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ مَرَّتَيْنِ لِيَسْتَوِيَ عَدَدُ السِّنِينِ وَالْعَرْضِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ عَامٍ عَشْرًا فَاعْتَكَفَ عِشْرِينَ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِفِعْلِ جِبْرِيلَ حَيْثُ ضَاعَفَ عَرْضَ الْقُرْآنِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ مَا تَقَدَّمَ فِي الِاعْتِكَافِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ عَشْرًا فَسَافَرَ عَامًا فَلَمْ يَعْتَكِفْ فَاعْتَكَفَ مِنْ قَابِلٍ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَهَذَا إِنَّمَا يَتَأَتَّى فِي سَفَرٍ وَقَعَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَكَانَ رَمَضَانُ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ دَخَلَ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقِصَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ أَنَّهُ شَرَعَ فِي الِاعْتِكَافِ فِي أَوَّلِ الْعُشْرِ الْأَخِيرِ فَلَمَّا رَأَى مَا صَنَعَ أَزْوَاجُهُ مِنْ ضَرْبِ الْأَخْبِيَةِ تَرَكَهُ ثُمَّ اعْتَكَفَ عَشْرًا فِي شَوَّالٍ، وَيَحْتَمِلُ اتِّحَادَ الْقِصَّةِ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ هِيَ الَّتِي أَوْرَدَهَا مُسْلِمٌ وَأَصْلُهَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ الْعَشْرَ الَّتِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ، فَإِذَا اسْتَقْبَلَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ رَجَعَ، فَأَقَامَ فِي شَهْرٍ جَاوَرَ فِيهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الَّتِي كَانَ يَرْجِعُ فِيهَا ثُمَّ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ أُجَاوِرُ هَذِهِ الْعَشْرَ الْوَسَطَ ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أُجَاوِرَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ، فَجَاوَرَ الْعَشْرَ الْأَخِيرَ الْحَدِيثَ، لِيَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعِشْرِينِ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ وَالْعَشْرَ الْأَخِيرَ.
8 - بَاب الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
4999 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَسْرُوقٍ: ذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: لَا أَزَالُ أُحِبُّهُ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ، وَمُعَاذِ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
5000 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ خَطَبَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنِّي مِنْ أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَمَا أَنَا بِخَيْرِهِمْ قَالَ شَقِيقٌ فَجَلَسْتُ فِي الْحِلَقِ أَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ فَمَا سَمِعْتُ رَادًّاً
يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ"
5001 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ كُنَّا بِحِمْصَ فَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ سُورَةَ يُوسُفَ فَقَالَ رَجُلٌ مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ قَالَ قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَحْسَنْتَ وَوَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ فَقَالَ أَتَجْمَعُ أَنْ تُكَذِّبَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَتَشْرَبَ الْخَمْرَ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ"
5002 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنه وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلاَّ أَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ أُنْزِلَتْ وَلَا أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلاَّ أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنِّي بِكِتَابِ اللَّهِ تُبَلِّغُهُ الإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ"
5003 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنْ الأَنْصَارِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو زَيْدٍ تَابَعَهُ الْفَضْلُ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ"
5004 -
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنِي ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ وَثُمَامَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَجْمَعْ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو زَيْدٍ قَالَ وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ"
5005 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ أُبَيٌّ أَقْرَؤُنَا وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ لَحَنِ أُبَيٍّ وَأُبَيٌّ يَقُولُ أَخَذْتُهُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا أَتْرُكُهُ لِشَيْءٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} "
قَوْلُهُ: (بَابُ الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيِ الَّذِينَ اشْتُهِرُوا بِحِفْظِ الْقُرْآنِ وَالتَّصَدِّي لِتَعْلِيمِهِ، وَهَذَا اللَّفْظُ كَانَ فِي عُرْفِ السَّلَفِ أَيْضًا لِمَنْ تَفَقَّهَ فِي الْقُرْآنِ. وَذَكَرَ فِيهِ سِتَّةَ أَحَادِيثَ.
الْأَوَّلُ عَنْ عَمْرٍو هُوَ ابْنُ مُرَّةَ، وَقَدْ نَسَبَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَذُهْلٌ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبَيْعِيُّ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مَسْرُوقٍ) جَاءَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ النَّخَعِيُّ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُؤَدِّبِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ مَقْلُوبٌ فَإِنَّ الْمَحْفُوظَ فِي هَذَا عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ حَمَلَهُ عَنْ شَيْخَيْنِ، وَالْأَعْمَشُ حَمَلَهُ عَنْ شَيْخَيْنِ.
قَوْلُهُ: (خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ) أَيْ: تَعَلَّمُوهُ مِنْهُمْ، وَالْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورُونَ اثْنَانِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَهُمَا الْمُبْدَأُ بِهِمَا وَاثْنَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَسَالِمٌ هُوَ ابْنُ مَعْقِلٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَمُعَاذٌ هُوَ ابْنُ جَبَلٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي مَنَاقِبِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي أَوَّلِهِ ذِكْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَقَالَ: ذَاكَ رَجُلٌ لَا أَزَالُ أُحِبُّهُ
بَعْدَمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ فَبَدَأَ بِهِ فَذَكَرَ حَدِيثَ الْبَابِ.
وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ مَحَبَّةُ مَنْ يَكُونُ مَاهِرًا فِي الْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْبُدَاءَةَ بِالرَّجُلِ فِي الذِّكْرِ عَلَى غَيْرِهِ فِي أَمْرٍ اشْتَرَكَ فِيهِ مَعَ غَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِهِ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ بَقِيَّةُ شَرْحِهِ هُنَاكَ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ الْإِعْلَامَ بِمَا يَكُونُ بَعْدَهُ، أَيْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ يَبْقَوْنَ حَتَّى يَنْفَرِدُوا بِذَلِكَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْفَرِدُوا بَلِ الَّذِينَ مَهَرُوا فِي تَجْوِيدِ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْعَصْرِ النَّبَوِيِّ أَضْعَافُ الْمَذْكُورِينَ، وَقَدْ قُتِلَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي وَقْعَةِ الْيَمَامَةِ، وَمَاتَ مُعَاذٌ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، وَمَاتَ أُبَيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَقَدْ تَأَخَّرَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ الرِّيَاسَةُ فِي الْقِرَاءَةِ وَعَاشَ بَعْدَهُمْ زَمَانًا طَوِيلًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْأَخْذِ عَنْهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي صَدَرَ فِيهِ ذَلِكَ الْقَوْلُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ شَارَكَهُمْ فِي حِفْظِ الْقُرْآنِ، بَلْ كَانَ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ مِثْلَ الَّذِينَ حَفِظُوهُ وَأَزْيَدُ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ بِئْرِ مَعُونَةَ أَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا بِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ يُقَالُ لَهُمُ: الْقُرَّاءُ وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا.
الْحَدِيثُ الْثَانِي
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَحَكَى الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ عَنْ الْجُرْجَانِيِّ حَدَّثَنَا ح فْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا أَبِي وَهُوَ خَطَأٌ مَقْلُوبٌ، وَلَيْسَ لِحَفْصِ بْنِ عُمَرَ أَبٌ يَرْوِي عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ، وَإِنَّمَا هُوَ عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُثَلَّثَةِ، وَكَانَ أَبُوهُ قَاضِيَ الْكُوفَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ سَهْلِ بْنِ بَحْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ وَنَسَبَهُ ثُمَّ قَالَ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ جَمِيعًا عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ وَهُوَ شَقِيقٌ الْمَذْكُورُ، وَجَاءَ عَنِ الْأَعْمَشِ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هُبَيْرَةَ بْنِ يَرِيمَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِلْأَعْمَشِ فِيهِ طَرِيقَانِ، وَإِلَّا فَإِسْحَاقُ وَهُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ أَتْقَنُ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، مَعَ أَنَّ الْمَحْفُوظَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِيهِ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، وَإِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ خُمَيْرٍ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَحَصَلَ الشُّذُوذُ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ فِي مَوْضِعَيْنِ.
قَوْلُهُ: (خَطَبَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً) زَادَ عَاصِمٌ، عَنْ بَدْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَأَخَذْتُ بَقِيَّةَ الْقُرْآنِ عَنْ أَصْحَابِهِ وَعِنْدَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِهِ:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ثُمَّ قَالَ: عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ تَأْمُرُونَنِي أَنْ أَقْرَأَ وَقَدْ قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟! فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَأَبِي عَوَانَةَ، وَابْنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: خَطَبَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} غُلُّوا مَصَاحِفَكُمْ، وَكَيْفَ تَأْمُرُونَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَى قِرَاءَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَقَدْ قَرَأْتُ مِنْ فِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهُ وَفِي رِوَايَةِ خُمَيْرِ بْنِ مَالِكٍ الْمَذْكُورَةِ بَيَانُ السَّبَبِ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا وَلَفْظُهُ لَمَّا أُمِرَ بِالْمَصَاحِفِ أَنْ تُغَيَّرَ سَاءَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: مَنِ اسْتَطَاعَ - وَقَالَ فِي آخِرِهِ - أَفَأَتْرُكُ مَا أَخَذْتُ مِنْ فِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فَقَالَ: إِنِّي غَالٌّ مُصْحَفِيِّ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَغُلَّ مُصْحَفَهُ فَلْيَفْعَلْ وَعِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ: رُحْتُ فَإِذَا أَنَا بِالْأَشْعَرِيِّ، وَحُذَيْفَةَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَاللَّهِ لَا أَدْفَعُهُ - يَعْنِي مُصْحَفَهُ أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي مِنْ أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدَةَ، وَأَبِي شِهَابٍ جَمِيعًا عَنِ الْأَعْمَشِ أَنِّي أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ بِحَذْفِ مِنْ وَزَادَ: وَلَوْ أَعْلَمُ
أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمُ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ وَهَذَا لَا يَنْفِي إِثْبَاتَ مِنْ فَإِنَّهُ نَفَى الْأَغْلَبِيَّةَ وَلَمْ يَنْفِ الْمُسَاوَاةَ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الرَّابِعِ.
قَوْلُهُ: (وَمَا أَنَا بِخَيْرِهِمْ) يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْفَضْلِ لَا تَقْتَضِي الْأَفْضَلِيَّةَ الْمُطْلَقَةَ، فَالْأَعْلَمِيَّةُ بِكِتَابِ اللَّهِ لَا تَسْتَلْزِمُ الْأَعْلَمِيَّةَ الْمُطْلَقَةَ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ أَعْلَمُ مِنْهُ بِعُلُومٍ أُخْرَى فَلِهَذَا قَالَ: وَمَا أَنَا بِخَيْرِهِمْ وَسَيَأْتِي فِي هَذَا بَحْثٌ فِي بَابِ خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (قَالَ شَقِيقٌ) أَيْ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ: (فَجَلَسْتُ فِي الْحَلَقِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَاللَّامِ (فَمَا سَمِعْتُ رَادًّا يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ) يَعْنِي لَمْ يَسْمَعْ مَنْ يُخَالِفُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ، أَوِ الْمُرَادُ مَنْ يَرُدُّ قَوْلَهُ ذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَالَ شَقِيقٌ فَجَلَسْتُ فِي حَلَقِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَرُدُّ ذَلِكَ وَلَا يَعِيبُهُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي شِهَابٍ فَلَمَّا نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ جَلَسْتُ فِي الْحَلَقِ فَمَا أَحَدٌ يُنْكِرُ مَا قَالَ: وَهَذَا يُخَصِّصُ عُمُومَ قَوْلِهِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ بِالْكُوفَةِ وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ وَفِيهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَبَلَغَنِي أَنَّ ذَلِكَ كَرِهَهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ كَرِهُوا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ شَاهَدَهُمْ شَقِيقُ بِالْكُوفَةِ، وَيَحْتَمِلُ اخْتِلَافَ الْجِهَةِ.
فَالَّذِي نَفَى شَقِيقٌ أَنَّ أَحَدًا رَدَّهُ أَوْ عَابَهُ وَصْفُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِأَنَّهُ أَعْلَمُهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَالَّذِي أَثْبَتَهُ الزُّهْرِيُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِهِ بِغَلِّ الْمَصَاحِفِ، وَكَأَنَّ مُرَادَ ابْنِ مَسْعُودٍ بِغَلِّ الْمَصَاحِفِ كَتْمُهَا وَإِخْفَاؤُهَا لِئَلَّا تَخْرُجُ فَتُعْدَمُ وَكَأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَأَى خِلَافَ مَا رَأَى عُثْمَانُ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى قِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِلْغَاءِ مَا عَدَا ذَلِكَ، أَوْ كَانَ لَا يُنْكِرُ الِاقْتِصَارَ لِمَا فِي عَدَمِهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ، بَلْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتَهُ هِيَ الَّتِي يُعَوَّلُ عَلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا لِمَا لَهُ مِنَ الْمَزِيَّةِ فِي ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ لِغَيْرِهِ كَمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِهِ، فَلَمَّا فَاتَهُ ذَلِكَ وَرَأَى أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى قِرَاءَةِ زَيْدٍ تَرْجِيحٌ بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ عِنْدَهُ اخْتَارَ اسْتِمْرَارَ الْقِرَاءَةِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّ ابْنَ أَبِي دَاوُدَ تَرْجَمَ بَابَ رِضَى ابْنِ مَسْعُودٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا صَنَعَ عُثْمَانُ لَكِنْ لَمْ يُورِدْ مَا يُصَرِّحُ بِمُطَابَقَةِ مَا تَرْجَمَ بِهِ.
الْحَدِيثُ الْثَالِثُ:
قَوْلُهُ: (كُنَّا بِحِمْصَ فَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ سُورَةَ يُوسُفَ) هَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّ عَلْقَمَةَ حَضَرَ الْقِصَّةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ أَبِي خَلِيفَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ الْقَاضِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ فَقَالَ فِيهِ: عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بِحِمْصَ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشَ وَلَفْظُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنْتُ بِحِمْصَ، فَقَرَأْتُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عَلْقَمَةَ لَمْ يَحْضُرِ الْقِصَّةَ وَإِنَّمَا نَقَلَهَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْأَعْمَشِ وَلَفْظُهُ كُنْتُ جَالِسًا بِحِمْصَ وَعِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ وَرِوَايَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ لَكِنْ أَحَالَ بِهَا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ: مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ نَهِيكُ بْنُ سِنَانٍ الَّذِي تَقَدَّمَتْ لَهُ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْقُرْآنِ قِصَّةٌ غَيْرُ هَذِهِ، لَكِنْ لَمْ أَرَ ذَلِكَ صَرِيحًا. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَقَالَ لِيَ بَعْضُ الْقَوْمِ: اقْرَأْ عَلَيْنَا، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ سُورَةَ يُوسُفَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ فَإِنْ كَانَ السَّائِلُ هُوَ الْقَائِلُ وَإِلَّا فَفِيهِ مُبْهَمٌ آخَرُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَقُلْتُ وَيْحَكَ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَوَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ) هِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَبَيْنَمَا أَنَا أُكَلِّمُهُ إِذْ وَجَدْتُ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ.
قَوْلُهُ: (فَضَرَبَهُ الْحَدَّ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَقُلْتُ لَا تَبْرَحْ حَتَّى أَجْلِدَكَ، قَالَ: فَجَلَدْتُهُ الْحَدَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَتْ
لَهُ وِلايَةُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ نِيَابَةً عَنِ الْإِمَامِ، إِمَّا عُمُومًا وَإِمَّا خُصُوصًا، وَعَلَى أَنَّ الرَّجُلَ اعْتَرَفَ بِشُرْبِهَا بِلَا عُذْرٍ، وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِمُجَرَّدِ رِيحِهَا. وَعَلَى أَنَّ التَّكْذِيبَ كَانَ بِإِنْكَارِ بَعْضِهِ جَاهِلًا، إِذْ لَوْ كَذَّبَ بِهِ حَقِيقَةً لَكَفَرَ، فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ جَحَدَ حَرْفًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ كَفَرَ اهـ، وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ جَيِّدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ أَيْ رَفَعَهُ إِلَى الْأَمِيرِ فَضَرَبَهُ فَأَسْنَدَ الضَّرْبَ إِلَى نَفْسِهِ مَجَازًا لِكَوْنِهِ كَانَ سَبَبًا فِيهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ ذَلِكَ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ، أَوْ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ قَامَ عَنِ الْإِمَامِ بِوَاجِبٍ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ وِلَايَتِهِ الْكُوفَةَ فَإِنَّهُ وَلِيَهَا فِي زَمَنِ عُمَرَ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ انْتَهَى، وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي مُوَجَّهٌ، وَفِي الْأَخِيرِ غَفْلَةٌ عَمَّا فِي أَوَّلِ الْخَبَرِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِحِمْصَ، وَلَمْ يَلِهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَإِنَّمَا دَخَلَهَا غَازِيًا وَكَانَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي عَنِ الرَّائِحَةِ فَيَرُدُّهُ النَّقْلُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَرَى وُجُوبَ الْحَدِّ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الرَّائِحَةِ، وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ لِعُثْمَانَ فِي قِصَّةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ إِثْرَ هَذَا الْحَدِيثِ النَّقْلَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ جَلْدَهُ الرَّجُلَ بِالرَّائِحَةِ وَحْدَهَا إِذ لَمْ يُقِرَّ وَلَمْ يُشْهَدْ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالرَّائِحَةِ كَالْحَنَفِيَّةِ وَقَدْ قَالَ بِهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ.
قُلْتُ: وَالْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ شَهِيرَةٌ، وَلِلْمَانِعِ أَنْ يَقُولَ: إِذَا احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ أَقَرَّ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ، وَلَمَّا حَكَى الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي الْخِلَافَ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِمُجَرَّدِ الرَّائِحَةِ اخْتَارَ أَنْ لَا يُحَدَّ بِالرَّائِحَةِ وَحْدَهَا بَلْ لَا بُدَّ مَعَهَا مِنْ قَرِينَةٍ كَأَنْ يُوجَدَ سَكْرَانَ أَوْ يَتَقَيَّأَهَا، وَنَحْوُهُ أَنْ يُوجَدَ جَمَاعَةٌ شُهِرُوا بِالْفِسْقِ وَيُوجَدُ مَعَهُمْ خَمْرٌ وَيُوجَدُ مِنْ أَحَدِهِمْ رَائِحَةُ الْخَمْرِ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِمُجَرَّدِ الرَّائِحَةِ مَنْ يَكُونُ مَشْهُورًا بِإِدْمَانِ شُرْبِ الْخَمْرِ وَقِيلَ بِنَحْوِ هَذَا التَّفْصِيلِ فِيمَنْ شَكَّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ هَلْ خَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ أَوْ لَا فَإِنْ قَارَنَ ذَلِكَ وُجُودَ رَائِحَةٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُودِ الْحَدَثِ فَيَتَوَضَّأُ، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَنْصَرِفْ، وَيُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنْ تَرْكِ الْوُضُوءِ مَعَ الشَّكِّ عَلَى مَا إِذَا تَجَرَّدَ الظَّنُّ عَنِ الْقَرِينَةِ، وَسَيَكُونُ لَنَا عَوْدَةٌ إِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ فَجَيِّدٌ أَيْضًا، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَانَ لَا يَرَى بِمُؤَاخَذَةِ السَّكْرَانِ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي حَالِ سُكْرِهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ كَذَّبَ ابْنَ مَسْعُودٍ وَلَمْ يُكَذِّبْ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ أَثْبَتَ إِنْزَالَهَا وَنَفَى الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي أَوْرَدَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَالَ الرَّجُلُ ذَلِكَ إِمَّا جَهْلًا مِنْهُ أَوْ قِلَّةَ حِفْظٍ أَوْ عَدَمَ تَثَبُّتٍ بَعَثَهُ عَلَيْهِ السُّكْرُ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَحْثٍ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَدِيثُ الْرَّابِعُ:
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) هُوَ أَبُو الضُّحَى الْكُوفِيُّ، وَقَعَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَفِي طَبَقَةِ مُسْلِمٍ هَذَا رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يُقَالُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مُسْلِمٌ أَحَدُهُمَا يُقَالُ لَهُ: الْأَعْوَرُ، وَالْآخَرُ يُقَالُ لَهُ: الْبُطَيْنُ، فَالْأَوَّلُ هُوَ مُسْلِمُ بْنُ كَيْسَانَ وَالثَّانِي: مُسْلِمُ بْنُ عِمْرَانَ، وَلَمْ أَرَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا رِوَايَةً عَنْ مَسْرُوقٍ فَإِذَا أُطْلِقَ مُسْلِمٌ، عَنْ مَسْرُوقٍ عُرِفَ أَنَّهُ هُوَ أَبُو الضُّحَى، وَلَوِ اشْتَرَكُوا فِي أَنَّ الْأَعْمَشَ رَوَى عَنِ الثَّلَاثَةِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ قُطْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ) فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ لَمَّا صُنِعَ بِالْمَصَاحِفِ مَا صُنِعَ: وَاللَّهِ إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (فِيمَنْ أُنْزِلَتْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِيمَا أُنْزِلَتْ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ قُطْبَةَ، وَجَرِيرٍ.
قَوْلُهُ: (وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنِّي بِكِتَابِ اللَّهِ تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ تُبَلِّغُنِيهِ وَهِيَ رِوَايَةُ جَرِيرٍ.
قَوْلُهُ: (لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ) تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي بِلَفْظِ لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ وَلِأَبِي عُبَيْدَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ نُبِّئْتُ
أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا تُبَلِّغُنِيهِ الْإِبِلُ أَحْدَثَ عَهْدًا بِالْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ مِنِّي لَأَتَيْتُهُ - أَوْ قَالَ: - لَتَكَلَّفْتُ أَنْ آتِيَهُ وَكَأَنَّهُ احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: تُبَلِّغُنِيهِ الْإِبِلُ عَمَّنْ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ عَلَى الرَّوَاحِلِ إِمَّا لِكَوْنِهِ كَانَ لَا يَرْكَبُ الْبَحْرَ فَقَيَّدَ بِالْبَرِّ أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ جَازِمًا بِأَنَّهُ لَا أَحَدَ يَفُوقُهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْبَشَرِ فَاحْتَرَزَ عَنْ سُكَّانِ السَّمَاءِ. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ ذِكْرِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْفَضِيلَةِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَيُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَمِّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ فَخْرًا أَوْ إِعْجَابًا.
تَابَعَهُ الْفَضْلُ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ حَدِيثُ أَنَسٍ، ذَكَرَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ
قَوْلُهُ: (سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ) فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ افْتَخَرَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، فَقَالَ الْأَوْسُ: مِنَّا أَرْبَعَةٌ: مَنِ اهْتَزَّ لَهُ الْعَرْشُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَمَنْ عَدَلَتْ شَهَادَتُهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمَنْ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ، وَمَنْ حَمَتْهُ الدَّبْرُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ. فَقَالَ الْخَزْرَجُ: مِنَّا أَرْبَعَةٌ جَمَعُوا الْقُرْآنَ لَمْ يَجْمَعْهُ غَيْرُهُمْ. فَذَكَرَهُمْ.
قَوْلُهُ: (وَأَبُو زَيْدٍ) تَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قُلْتُ لِأَنَسٍ: مَنْ أَبُو زَيْدٍ؟ قَالَ: أَحَدُ عُمُومَتِي وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي اسْمِ أَبِي زَيْدٍ هُنَاكَ وَجَوَّزْتُ هُنَاكَ أَنْ لَا يَكُونَ لِقَوْلِ أَنَسٍ أَرْبَعَةٌ مَفْهُومٌ، لَكِنَّ رِوَايَةَ سَعِيدٍ الَّتِي ذَكَرْتُهَا الْآنَ مِنْ عِنْدِ الطَّبَرِيِّ صَرِيحَةٌ فِي الْحَصْرِ، وَسَعِيدٌ ثَبْتٌ فِي قَتَادَةَ. وَيُحْتَمَلُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ مُرَادَ أَنَسٍ لَمْ يَجْمَعْهُ غَيْرُهُمْ أَيْ مِنَ الْأَوْسِ بِقَرِينَةِ الْمُفَاخَرَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَمْ يُرِدْ نَفْيَ ذَلِكَ عَنِ الْمُهَاجِرِينَ، ثُمَّ فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الْخَزْرَجِ، وَلَمْ يُفْصِحْ بِاسْمِ قَائِلِ ذَلِكَ، لَكِنْ لَمَّا أَوْرَدَهُ أَنَسٌ وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ كَانَ كَأَنَّهُ قَائِلٌ بِهِ وَلَا سِيَّمَا وَهُوَ مِنَ الْخَزْرَجِ. وَقَدْ أَجَابَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ حَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا مَفْهُومَ لَهُ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ غَيْرُهُمْ جَمَعَهُ. ثَانِيهَا: الْمُرَادُ لَمْ يَجْمَعْهُ عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَالْقِرَاءَاتِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا إِلَّا أُولَئِكَ. ثَالِثُهَا: لَمْ يَجْمَعْ مَا نُسِخَ مِنْهُ بَعْدَ تِلَاوَتِهِ وَمَا لَمْ يُنْسَخْ إِلَّا أُولَئِكَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الثَّانِي. رَابِعُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِجَمْعِهِ تَلَقِّيهِ مِنْ فِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا بِوَاسِطَةٍ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَلَقَّى بَعْضَهُ بِالْوَاسِطَةِ.
خَامِسُهَا: أَنَّهُمْ تَصَدَّوْا لِإِلْقَائِهِ وَتَعْلِيمِهِ فَاشْتُهِرُوا بِهِ، وَخَفِيَ حَالُ غَيْرِهِمْ عَمَّنْ عُرِفَ حَالُهُمْ فَحَصَرَ ذَلِكَ فِيهِمْ بِحَسَبِ عِلْمِهِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ، أَوْ يَكُونُ السَّبَبُ فِي خَفَائِهِمْ أَنَّهُمْ خَافُوا غَائِلَةَ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ، وَأَمِنَ ذَلِكَ مَنْ أَظْهَرَهُ. سَادِسُهَا: الْمُرَادُ بِالْجَمْعِ الْكِتَابَةُ، فَلَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُمْ جَمَعَهُ حِفْظًا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَجَمَعُوهُ كِتَابَةً وَحَفِظُوهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ. سَابِعُهَا: الْمُرَادُ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفْصِحْ بِأَنَّهُ جَمَعَهُ بِمَعْنَى أَكْمَلَ حِفْظَهُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا أُولَئِكَ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فَلَمْ يُفْصِحْ بِذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يُكْمِلْهُ إِلَّا عِنْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ نَزَلَتْ آخِرُ آيَةٍ مِنْهُ، فَلَعَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْأَخِيرَةَ وَمَا أَشْبَهَهَا مَا حَضَرَهَا إِلَّا أُولَئِكَ الْأَرْبَعَةَ مِمَّنْ جَمَعَ جَمِيعَ الْقُرْآنِ قَبْلَهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَضَرَهَا مَنْ لَمْ يَجْمَعْ غَيْرَهَا الْجَمْعَ الْبَيِّنَ. ثَامِنُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِجَمْعِهِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لَهُ وَالْعَمَلُ بِمُوجَبِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى أَبَا الدَّرْدَاءِ فَقَالَ: إِنَّ ابْنِي جَمَعَ الْقُرْآنَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ غَفْرًا، إِنَّمَا جَمَعَ الْقُرْآنَ مَنْ سَمِعَ لَهُ وَأَطَاعَ وَفِي غَالِبِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ تَكَلُّفٌ وَلَا سِيَّمَا الْأَخِيرُ وَقَدْ أَوْمَأْتُ قَبْلَ هَذَا إِلَى احْتِمَالٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ إِثْبَاتُ ذَلِكَ لِلْخَزْرَجِ دُونَ الْأَوْسِ فَقَطْ، فَلَا يَنْفِي ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ الْقَبِيلَتَيْنِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِمْ أَنَسٌ لِتَعَلُّقِ غَرَضِهِ بِهِمْ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَبْعَثِ أَنَّهُ بَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَكَانَ يَقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ نَزَلَ مِنْهُ إِذْ ذَاكَ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُرْتَابُ فِيهِ
مَعَ شِدَّةِ حِرْصِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى تَلَقِّي الْقُرْآنِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفَرَاغِ بَالِهِ لَهُ وَهُمَا بِمَكَّةَ وَكَثْرَةِ مُلَازَمَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ حَتَّى قَالَتْ عَائِشَةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْهِجْرَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْتِيهِمْ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً.
وَقَدْ صَحَّحَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَؤُمَّ فِي مَكَانِهِ لَمَّا مَرِضَ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَقْرَأَهُمْ، وَتَقَدَّمَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى تَرْتِيبِ النُّزُولِ عَقِبَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: جَمَعْتُ الْقُرْآنَ فَقَرَأْتُ بِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اقْرَأْهُ فِي شَهْرٍ الْحَدِيثَ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَضَى ذِكْرُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقُرَّاءَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَدَّ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ وَطَلْحَةَ، وَسَعْدًا، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَسَالِمًا، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ السَّائِبِ وَالْعَبَادِلَةَ، وَمِنَ النِّسَاءِ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، وَأُمَّ سَلَمَةَ، وَلَكِنَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا أَكْمَلَهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَرُدُّ عَلَى الْحَصْرِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَعَدَّ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَيْضًا تَمِيمَ بْنَ أَوْسٍ الدَّارِيَّ، وَعُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ وَمِنَ الْأَنْصَارِ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، وَمُعَاذًا الَّذِي يُكَنَّى أَبَا حَلِيمَةَ، وَمُجْمِّعَ بْنَ حَارِثَةَ، وَفَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ، وَمَسْلَمَةَ بْنَ مَخْلَدٍ وَغَيْرَهُمْ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ إِنَّمَا جَمَعَهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِمَّنْ جَمَعَهُ
أَيْضًا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ذَكَرَهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ، وَعَدَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْقُرَّاءِ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَسَعْدَ بْنَ عَبَّادٍ وَأُمَّ وَرَقَةَ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى بِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى حَدَّثَنِي ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، وَثُمَامَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَخَالَفَ رِوَايَةَ قَتَادَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّصْرِيحُ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فِي الْأَرْبَعَةِ. ثَانِيهِمَا: ذِكْرُ أَبِي الدَّرْدَاءِ بَدَلَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ، وَقَدِ اسْتَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ. قَالَ الْمَازَرِيُّ: لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ لَمْ يَجْمَعْهُ غَيْرُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنه لَا يَعْلَمُ أَنَّ سِوَاهُمْ جَمَعَهُ، وَإِلَّا فَكَيْفَ الْإِحَاطَةُ بِذَلِكَ مَعَ كَثْرَةِ الصَّحَابَةِ وَتَفَرُّقِهِمْ فِي الْبِلَادِ، وَهَذَا لَا يَتِمُّ إِلَّا إِنْ كَانَ لَقِيَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى انْفِرَادِهِ وَأَخْبَرَهُ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ لَهُ جَمْعُ الْقُرْآنِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فِي الْعَادَةِ، وَإِذَا كَانَ الْمَرْجِعُ إِلَى مَا فِي عِلْمِهِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعُ كَذَلِكَ. قَالَ: وَقَدْ تَمَسَّكَ بِقَوْلِ أَنَسٍ هَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ، وَلَا مُتَمَسَّكَ لَهُمْ فِيهِ، فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ حَمْلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ.
سَلَّمْنَاهُ، وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنَّ الْوَاقِعَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ؟ سَلَّمْنَاهُ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمِّ الْغَفِيرِ لَمْ يَحْفَظْهُ كُلَّهُ أَنْ لَا يَكُونَ حَفِظَ مَجْمُوعَهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ التَّوَاتُرِ أَنْ يَحْفَظَ كُلُّ فَرْدٍ جَمِيعَهُ، بَلْ إِذَا حَفِظَ الْكُلُّ الْكُلَّ وَلَوْ عَلَى التَّوْزِيعِ كَفَى، وَاسْتَدَلَّ الْقُرْطُبِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِبَعْضِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ سَبْعُونَ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَقُتِلَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِبِئْرِ مَعُونَةَ مِثْلُ هَذَا الْعَدَدِ، قَالَ: وَإِنَّمَا خَصَّ أَنَسٌ الْأَرْبَعَةَ بِالذِّكْرِ لِشِدَّةِ تَعَلُّقِهِ بِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، أَوْ لِكَوْنِهِمْ كَانُوا فِي ذِهْنِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ الْمُخَالَفَةِ فَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: هَذَانِ الْحَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَلَا يَجُوزَانِ فِي الصَّحِيحِ مَعَ تَبَايُنِهِمَا، بَلَى الصَّحِيحُ أَحَدُهُمَا. وَجَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّ ذِكْرَ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَهْمٌ وَالصَّوَابُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَا أَرَى ذِكْرَ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَحْفُوظًا.
قُلْتُ: وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى عَدَمِ التَّرْجِيحِ بِاسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ، فَطَرِيقُ قَتَادَةَ عَلَى شَرْطِهِ وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهَا ثُمَامَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَطَرِيقُ ثَابِتٍ أَيْضًا عَلَى شَرْطِهِ وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهَا أَيْضًا ثُمَامَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، لَكِنَّ مَخْرَجَ الرِّوَايَةِ عَنْ ثَابِتٍ، وَثُمَامَةُ بِمُوَافَقَتِهِ،
وَقَدْ وَقَعَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى وَفِيهِ مَقَالٌ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مَقْبُولًا لَكِنْ لَا تُعَادِلُ رِوَايَتُهُ رِوَايَةَ قَتَادَةَ، وَيُرَجِّحُ رِوَايَةَ قَتَادَةَ حَدِيثُ عُمَرَ فِي ذِكْرِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ خَاتِمَةُ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِإِخْرَاجِهِ إِلَى ذَلِكَ لِتَصْرِيحِ عُمَرَ بِتَرْجِيحِهِ في الْقِرَاءَةِ عَلَى غَيْرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَنَسٌ حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي وَقْتَيْنِ فَذَكَرَهُ مَرَّةً أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَمَرَّةً بَدَّلَهُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمْسَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَأَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ مَعَ إِرْسَالِهِ، وَهُوَ شَاهِدٌ جَيِّدٌ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى فِي ذِكْرِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الْعَدَدِ وَالْمَعْدُودِ، وَمِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: جَمَعَ الْقُرْآنَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِتَّةٌ مِنْهُمْ أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمُعَاذٌ، وَأَبُو زَيْدٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ هُمُ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ مَعَ إِرْسَالِهِ.
فَلِلَّهِ دَرُّ الْبُخَارِيِّ مَا أَكْثَرَ اطِّلَاعَهُ. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمُرْسَلَةِ قُوَّةُ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى وَأَنَّ لِرِوَايَتِهِ أَصْلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَعَلَّ السَّامِعَ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ لَمْ يَجْمَعُوا وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مِمَّنْ جَمَعَ فَقَالَ أَنَسٌ ذَلِكَ رَدًّا عَلَيْهِ، وَأَتَى بِصِيغَةِ الْحَصْرِ ادِّعَاءً وَمُبَالَغَةً، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ النَّفْيُ عَنْ غَيْرِهِمْ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَأَبُو زَيْدٍ قَالَ: وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ) الْقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ أَنَسٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ وَمَنْ أَبُو زَيْدٍ؟ قَالَ: أَحَدُ عُمُومَتِي، وَتَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَاتَ أَبُو زَيْدٍ وَكَانَ بَدْرِيًّا وَلَمْ يَتْرُكْ عَقِبًا وَقَالَ أَنَسٌ: نَحْنُ وَرِثْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: أَحَدُ عُمُومَتِي يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ سَمَّى أَبَا زَيْدٍ الْمَذْكُورَ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ أَحَدَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِأَنَّ أَنَسًا خَزْرَجِيٌّ وَسَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ أَوْسِيٌّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ مِمَّنْ جَمَعَ وَلَمْ يَطَّلِعْ أَنَسٌ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيُّ: لَمْ يَجْمَعْهُ مِنَ الْأَوْسِ غَيْرَهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ فِي المحبر سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ وَنَسَبَهُ كَانَ أَحَدَ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدٍ وَبَيْنَ أَبِي زَيْدٍ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا فَدَلَّ، عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ الْمُرَادِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِيمَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ قَيْسَ بْنَ أَبِي صَعْصَعَةَ وَهُوَ خَزْرَجِيٌّ وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يُكَنَّى أَبَا زَيْدٍ، وَسَعْدُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ أَوْسِ بْنِ زُهَيْرٍ وَهُوَ خَزْرَجِيٌّ أَيْضًا لَكِنْ لَمْ أَرَ التَّصْرِيحَ بِأَنَّهُ يُكَنَّى أَبَا زَيْدٍ، ثُمَّ وَجَدْتُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مَا يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ مِنْ أَصْلِهِ، فَإِنَّهُ رَوَى بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ إِلَى ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا زَيْدٍ الَّذِي جَمَعَ الْقُرْآنَ اسْمُهُ قَيْسُ بْنُ السَّكَنِ، قَالَ: وَكَانَ رَجُلًا مِنَّا مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ أَحَدُ عُمُومَتِي وَمَاتَ، وَلَمْ يَدَعْ عَقِبًا، وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ قَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ خَالِدٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: هُوَ قَيْسُ بْنُ السَّكَنِ مِنْ زَعْوَرَاءَ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، قَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ: مَاتَ قَرِيبًا مِنْ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَهَبَ عِلْمُهُ وَلَمْ يُؤْخَذْ عَنْهُ وَكَانَ عَقَبِيًّا بَدْرِيًّا.
قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ) عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ حَدَّثَنَا حَبِيبٌ.
قَوْلُهُ: (أُبَيٌّ أَقْرَؤُنَا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَبِهِ جَزَمَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ فَقَالَ: لَيْسَ فِي رِوَايَةِ صَدَقَةَ ذِكْرُ عَلِيٍّ.
قُلْتُ: وَقَدْ ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ، فَأَوَّلُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ عَلِيٌّ أَقْضَانَا، وَأُبَيٌّ أَقْرَؤُنَا وَقَدْ أَلْحَقَ الدِّمْيَاطِيٌّ فِي نُسْخَتِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ ذِكْرَ عَلِيٍّ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ سَاقِطٌ مِنْ رِوَايَةِ الْفَرَبْرِيِّ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ رِوَايَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ بِسَنَدِهِ هَذَا وَفِيهِ ذِكْرُ عَلِيٍّ عِنْدَ الْجَمِيعِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ لَحْنِ أُبَيٍّ) أَيْ مِنْ قِرَاءَتِهِ، وَلَحْنُ الْقَوْلِ فَحْوَاهُ وَمَعْنَاهُ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْقَوْلُ. وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ
لَا يَرْجِعُ عَمَّا حَفِظَهُ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي تَلَقَّاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ أَخْبَرَهُ غَيْرُهُ أَنَّ تِلَاوَتَهُ نُسِخَتْ، لِأَنَّهُ إِذَا سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَصَلَ عِنْدَهُ الْقَطْعُ بِهِ فَلَا يَزُولُ عَنْهُ بِإِخْبَارِ غَيْرِهِ أَنَّ تِلَاوَتَهُ نُسِخَتْ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ عُمَرُ بِالْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى النَّسْخِ وَهُوَ مِنْ أَوْضَحَ الِاسْتِدْلَالِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَقِيَّةُ شَرْحِهِ فِي التَّفْسِيرِ.
9 - بَاب فَضْلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ
5006 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي، فَدَعَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أُجِبْهُ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي. قَالَ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} ؟ ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ؟ فَأَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَدْنَا أَنْ نَخْرُجَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ قُلْتَ لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ في الْقُرْآنِ. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ.
5007 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا وَهْبٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ مَعْبَدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: كُنَّا فِي مَسِيرٍ لَنَا، فَنَزَلْنَا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ فَقَالَتْ: إِنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ سَلِيمٌ، وَإِنَّ نَفَرَنَا غَيْبٌ، فَهَلْ مِنْكُمْ رَاقٍ؟ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مَا كُنَّا نَأْبُنُهُ بِرُقْيَةٍ، فَرَقَاهُ فَبَرَأَ، فَأَمَرَ لنا بِثَلَاثِينَ شَاةً وَسَقَانَا لَبَنًا. فَلَمَّا رَجَعَ قُلْنَا لَهُ: أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً أَوْ كُنْتَ تَرْقِي؟ قَالَ: لَا، مَا رَقَيْتُ إِلَّا بِأُمِّ الْكِتَابِ. قُلْنَا: لَا تُحْدِثُوا شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَ أَوْ نَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَكَرْنَاهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: وَمَا كَانَ يُدْرِيهِ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ. وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، حَدَّثَنا مَعْبَدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ بِهَذَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى فِي أَنَّهَا أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَظِيمِ عِظَمِ الْقَدْرِ بِالثَّوَابِ الْمُرَتَّبِ عَلَى قِرَاءَتِهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرُهَا أَطْوَلَ مِنْهَا، وَذَلِكَ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي الْمُنَاسِبَةِ لِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ.
ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي الرُّقْيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ عَلَى فَضْلِ الْفَاتِحَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اخْتُصَّتِ الْفَاتِحَةُ بِأَنَّهَا مَبْدَأُ الْقُرْآنِ وَحَاوِيَةٌ لِجَمِيعِ عُلُومِهِ، لِاحْتِوَائِهَا عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَالْإِقْرَارِ بِعِبَادَتِهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَسُؤَالِ الْهِدَايَةِ مِنْهُ وَالْإِشَارَةِ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِنِعَمِهِ، وَإِلَى شَأْنِ الْمَعَادِ وَبَيَانِ عَاقِبَةِ الْجَاحِدِينَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي أَنَّهَا كُلَّهَا مَوْضِعُ الرُّقْيَةِ. وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ أَفْضَلُ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَتُعُقِّبَ بِحَدِيثِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ إِلَخْ) أَرَادَ بِهَذَا التَّعْلِيقِ
التَّصْرِيحَ بِالتَّحْدِيثِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، لِهِشَامٍ وَمِنْ مَعْبَدٍ، لِمُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُ فِي الْإِسْنَادِ الَّذِي سَاقَهُ أَوَّلًا بِالْعَنْعَنَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ كَذَلِكَ، وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الْقَابِسِيِّ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ السَّنَدُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَحَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ سِيرِينَ بِوَاوِ الْعَطْفِ قَالَ: وَالصَّوَابُ حَذْفُهَا.
10 - بَاب فَضْلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ
5008 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ.
5009 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ.
5010 -
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لَارْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَصَّ الْحَدِيثَ فَقَالَ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَنْ يَزَالَ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ"
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ: الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ: (عَنْ سُلَيْمَانَ) هُوَ الْأَعْمَشُ، وَلِشُعْبَةَ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ وَهُوَ مَنْصُورٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ شُعْبَةَ كَذَلِكَ، وَجَمَعَ غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي مُوسَى، وَبُنْدَارٍ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ بِشْرِ بْنِ خَالِدٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ غُنْدَرٍ، أَمَّا الْأَوَّلَانِ فَقَالَا عَنْهُ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَأَمَّا بِشْرٌ فَقَالَ: عَنْهُ عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ غُنْدَرٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَلَقِيتُ أَبَا مَسْعُودٍ فَحَدَّثَنِي بِهِ وَسَيَأْتِي نَحْوُهُ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي بَابِ كَمْ يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَخْرَجَهُ فِي بَابِ مَنْ لَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يَقُولَ سُورَةُ كَذَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَلْقَمَةَ جَمِيعُهُمَا عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، فَكَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ حَمَلَهُ عَنْ عَلْقَمَةَ أَيْضًا بَعْدَ أَنْ حَدَّثَهُ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْهُ، كَمَا لَقِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَبَا مَسْعُودٍ فَحَمَلَهُ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ حَدَّثَهُ بِهِ عَلْقَمَةُ، وَأَبُو مَسْعُودٍ هَذَا هُوَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ الْبَدْرِيُّ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُ حَالِهِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ مِنَ الْمَغَازِي، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدُوسٍ بَدَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَكَذَا عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ
(1)
وَصَوَّبَهُ الْأَصِيلِيُّ فَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ بَلْ هُوَ تَصْحِيفٌ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: الصَّوَابُ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ وَهُوَ عُقْبَةُ
(1)
في نسخة أخرى " من أبي أحمد الجرجاني "
بْنُ عَمْرٍو. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ فَقَالَ فِيهِ: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو.
قَوْلُهُ: (مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ) كَذَا اقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ مِنَ الْمَتْنِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ، ثُمَّ حَوَّلَ السَّنَدَ إِلَى طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ وَأَكْمَلَ الْمَتْنَ فَقَالَ: مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ شُعْبَةَ فَقَالَ فِيهِ: مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَمْ يَقُلْ: آخِرِ فَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي تَحْوِيلِ السَّنَدِ لِيَسُوقَهُ عَلَى لَفْظِ مَنْصُورٍ. عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ بِلَفْظِ مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ اللَّفْظُ الَّذِي سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ لَفْظُ مَنْصُورٍ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَفْظِ الْأَعْمَشِ الَّذِي حَوَّلَهُ عَنْهُ مُغَايَرَةً فِي الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَآخِرِ الْآيَةِ الْأُولَى {الْمَصِيرُ} وَمِنْ ثَمَّ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَمَّا:{مَا اكْتَسَبَتْ} فَلَيْسَتْ رَأْسَ آيَةٍ بِاتِّفَاقِ الْعَادِّينَ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الْعَسْكَرِيُّ فِي ثَوَابِ الْقُرْآنِ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو بِلَفْظِ: مَنْ قَرَأَهُمَا بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ أَجْزَأَتَا: {آمَنَ الرَّسُولُ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ وَمِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَفَعَهُ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا أَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: آمَنَ الرَّسُولُ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ. وَلِأَبِي عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ مُرْسَلِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ نَحْوَهُ وَزَادَ: فَاقْرَءُوهُمَا وَعَلِّمُوهُمَا أَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ، فَإِنَّهُمَا قُرْآنٌ وَصَلَاةٌ وَدُعَاءٌ.
قَوْلُهُ: (كَفَتَاهُ) أَيْ أَجْزَأَتَا عَنْهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ بِالْقُرْآنِ، وَقِيلَ: أَجْزَأَتَا عَنْهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ أَمْ خَارِجَهَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَجْزَأَتَاهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ لِمَا اشْتَمَلَتَا عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ إِجْمَالًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: كَفَتَاهُ كُلَّ سُوءٍ، وَقِيلَ: كَفَتَاهُ شَرَّ الشَّيْطَانِ، وَقِيلَ: دَفَعَتَا عَنْهُ شَرَّ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَفَتَاهُ مَا حَصَلَ لَهُ بِسَبَبِهِمَا مِنَ الثَّوَابِ عَنْ طَلَبِ شَيْءٍ آخَرَ، وَكَأَنَّهُمَا اخْتُصَّتَا بِذَلِكَ لِمَا تَضَمَّنَتَاهُ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى الصَّحَابَةِ بِجَمِيلِ انْقِيَادِهِمْ إِلَى اللَّهِ وَابْتِهَالِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ إِلَيْهِ وَمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَى مَطْلُوبِهِمْ، وَذَكَرَ الْكِرْمَانِيُّ، عَنِ النَّوَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَفَتَاهُ عَنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْكَهْفِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ، كَذَا نُقِلَ عَنْهُ جَازِمًا بِهِ، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ وَإِنَّمَا قَالَ مَا نَصُّهُ: قِيلَ مَعْنَاهُ كَفَتَاهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: مِنَ الشَّيْطَانِ، وَقِيلَ: مِنَ الْآفَاتِ، وَيُحْتَمَلُ مِنَ الْجَمِيعِ. هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ. وَكَأَنَّ سَبَبَ الْوَهْمِ أَنَّ عِنْدَ النَّوَوِيِّ عَقِبَ هَذَا بَابُ فَضْلِ سُورَةِ الْكَهْفِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ فَلَعَلَّ النُّسْخَةَ الَّتِي وَقَعَتْ لِلْكَرْمَانِيِّ سَقَطَ مِنْهَا لَفْظُ بَابٍ وَصُحِّفَتْ فَضْلٌ فَصَارَتْ وَقِيلَ، وَاقْتَصَرَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ نَقْلًا ثُمَّ قَالَ: قُلْتُ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْأَوَّلَانِ انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا فَأَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَرَدَ صَرِيحًا مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَفَعَهُ مَنْ قَرَأَ خَاتِمَةَ الْبَقَرَةِ أَجْزَأَتْ عَنْهُ قِيَامَ لَيْلَةٍ، وَيُؤَيِّدُ الرَّابِعَ حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَفَعَهُ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا وَأَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، لَا يُقْرَآنِ فِي دَارٍ فَيَقْرَبُهَا الشَّيْطَانُ ثَلَاثَ لَيَالٍ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ لَمَّا أَمْسَكَ الْجِنِّيَّ وَآيَةُ ذَلِكَ: لَا يَقْرَأُ أَحَدٌ مِنْكُمْ خَاتِمَةَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَيَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْهَا بَيْتَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا.
5010 وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. . فَقَصَّ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ، لم يَزَل مَعَكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، ذَاكَ شَيْطَانٌ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْوَكَالَةِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ هُوَ مِنَ التَّتْمِيمِ الْبَلِيغِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْهَمَ مَدْحَهُ بِوَصْفِهِ الصِّدْقَ فِي قَوْلِهِ صَدَقَكَ اسْتَدْرَكَ نَفْيَ الصِّدْقِ عَنْهُ بِصِيغَةِ مُبَالَغَةٍ، وَالْمَعْنَى صَدَقَكَ فِي هَذَا الْقَوْلِ مَعَ أَنَّ عَادَتَهُ الْكَذِبُ الْمُسْتَمِرُّ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ قَدْ يَصْدُقُ الْكَذُوبَ، وَقَوْلُهُ ذَاكَ شَيْطَانٌ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْوَكَالَةِ أَنَّهُ وَقَعَ هُنَا ذَاكَ الشَّيْطَانُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْجِنْسِ أَوِ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ مِنَ الْوَارِدِ
أَنَّ لِكُلِّ آدَمِيٍّ شَيْطَانًا وُكِّلَ بِهِ، أَوِ اللَّامُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ: ذَاكَ شَيْطَانُكَ، أَوِ الْمُرَادُ الشَّيْطَانُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ حَيْثُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ وَشَرَحَهُ الطِّيبِيُّ عَلَى هَذَا فَقَالَ: هُوَ - أَيْ قَوْلُهُ: فَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ - مُطْلَقٌ شَائِعٌ فِي جِنْسِهِ، وَالثَّانِي فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْجِنْسِ.
وَقَدِ اسْتُشْكِلَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا الْمَاضِي فِي الصَّلَاةِ وَفِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ شَيْطَانًا تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ وَلَوْلَا دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مَرْبُوطًا بِسَارِيَةٍ وَتَقْرِيرُ الْإِشْكَالِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم امْتَنَعَ مِنْ إِمْسَاكِهِ مِنْ أَجْلِ دَعْوَةِ سُلَيْمَانَ عليه السلام حَيْثُ قَالَ: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} ثُمَّ قَالَ: وَالشَّيَاطِينَ، وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَمْسَكَ الشَّيْطَانَ الَّذِي رَآهُ وَأَرَادَ حَمْلَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّيْطَانِ الَّذِي هَمَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُوثِقَهُ هُوَ رَأْسُ الشَّيَاطِينِ الَّذِي يَلْزَمُ مِنَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ التَّمَكُّنَ مِنْهُمْ فَيُضَاهِي حِينَئِذٍ مَا حَصَلَ لِسُلَيْمَانَ عليه السلام مِنْ تَسْخِيرِ الشَّيَاطِينِ فِيمَا يُرِيدُ وَالتَّوَثُّقِ مِنْهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالشَّيْطَانِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ إِمَّا شَيْطَانُهُ بِخُصُوصِهِ أَوْ آخَرُ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ اتِّبَاعُ غَيْرِهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ فِي ذَلِكَ التَّمَكُّنِ، أَوِ الشَّيْطَانُ الَّذِي هَمَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَبْطِهِ تَبَدَّى لَهُ فِي صِفَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ كَانُوا فِي خِدْمَةِ سُلَيْمَانَ عليه السلام عَلَى هَيْئَتِهِمْ، وَأَمَّا الَّذِي تَبَدَّى لِأَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ فَكَانَ عَلَى هَيْئَةِ الْآدَمِيِّينَ فَلَمْ يَكُنْ فِي إِمْسَاكِهِ مُضَاهَاةً لِمُلْكِ سُلَيْمَانَ،
وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
11 - بَاب فَضْلِ الْكَهْفِ
5011 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ، وَإِلَى جَانِبِهِ حِصَانٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَتْ تَدْنُو وَتَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بِالْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الْكَهْفِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ فَضْلُ سُورَةِ الْكَهْفِ وَسَقَطَ لَفْظُ بَابُ فِي هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ وَالثَّلَاثَةُ بَعْدَهُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْبَرَاءِ) فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ.
قَوْلُهُ: (كَانَ رَجُلٌ) قِيلَ هُوَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِهِ نَفْسِهِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ، لَكِنْ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفِي هَذَا أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَهَذَا ظَاهِرُهُ التَّعَدُّدُ وَقَدْ وَقَعَ قَرِيبٌ مِنَ الْقِصَّةِ الَّتِي لِأُسَيْدٍ، لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ لَكِنْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقٍ مُرْسَلَةٍ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَلَمْ تَرَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ لَمْ تَزَلْ دَارُهُ الْبَارِحَةَ تَزْهَرُ بِمَصَابِيحَ؛ قَالَ: فَلَعَلَّهُ قَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ. فَسُئِلَ قَالَ: قَرَأْتُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَسُورَةَ الْكَهْفِ جَمِيعًا أَوْ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا.
قَوْلُهُ: (بِشَطَنَيْنِ) جَمْعُ شَطَنٍ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الْحَبْلُ، وَقِيلَ بِشَرْطِ طُولِهِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الصُّعُوبَةِ.
قَوْلُهُ: (وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ) بِنُونٍ وَفَاءٍ وَمُهْمَلَةٍ وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ يَنْقُزُ بِقَافٍ وَزَايٍ، وَخَطَّأَهُ عِيَاضٌ، فَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ فَذَاكَ وَإِلَّا فَمَعْنَاهَا هُنَا وَاضِحٌ.
قَوْلُهُ: (تِلْكَ السَّكِينَةُ) بِمُهْمَلَةٍ وَزْنَ عَظِيمَةٍ، وَحَكَى ابْنُ قُرْقُولٍ، وَالصَّغَانِيُّ فِيهَا كَسْرَ أَوَّلِهَا وَالتَّشْدِيدَ بِلَفْظِ الْمُرَادِفِ لِلْمُدْيَةِ؛ وَقَدْ نَسَبَهُ ابْنُ قُرْقُولٍ، لِلْحَرْبِيِّ وَأَنَّهُ حَكَاهُ عَنْ
بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَتَقَرَّرَ لَفْظُ السَّكِينَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، فَرَوَى الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: هِيَ رِيحٌ هَفَّافَةٌ لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ، وَقِيلَ: لَهَا رَأْسَانِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ لَهَا رَأْسٌ كَرَأْسِ الْهِرِّ وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ لِعَيْنِهَا شُعَاعٌ وَعَنِ السُّدِّيِّ: السَّكِينَةُ طَسْتٌ مِنْ ذَهَبٍ مِنَ الْجَنَّةِ يُغْسَلُ فِيهَا قُلُوبُ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: هِيَ الَّتِي أَلْقَى فِيهَا مُوسَى الْأَلْوَاحَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْعَصَا، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: هِيَ رُوحٌ مِنَ اللَّهِ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ قَالَ: هِيَ الرَّحْمَةُ، وَعَنْهُ هِيَ سُكُونُ الْقَلْبِ وَهَذَا اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ، وَقِيلَ: هِيَ الطُّمَأْنِينَةُ، وَقِيلَ: الْوَقَارُ، وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ ذَكَرَهُ الصَّغَانِيُّ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا مَقُولَةٌ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي، فَيُحْمَلُ كُلُّ مَوْضِعٍ وَرَدَتْ فِيهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، وَالَّذِي يَلِيقُ بِحَدِيثِ الْبَابِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَلَيْسَ قَوْلُ وَهْبٍ بِبَعِيدٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} وَقَوْلُهُ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} فَيُحْتَمَلُ الْأَوَّلَ وَيُحْتَمَلُ قَوْلُ وَهْبٍ وَالضَّحَّاكِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ الْبَابِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَتْحِ كَذَلِكَ، وَأَمَّا الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} فَيُحْتَمَلُ قَوْلُ السُّدِّيِّ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهِ طُمَأْنِينَةٌ وَرَحْمَةٌ وَمَعَهُ الْمَلَائِكَةُ.
قَوْلُهُ: (تَنَزَّلَتْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ تُنْزَلُ بِضَمِ اللَّامِ بِغَيْرِ تَاءٍ وَالْأَصْلُ تَتَنَزَّلُ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ نَزَلَتْ مَعَ الْقُرْآنِ أَوْ عَلَى الْقُرْآنِ
12 - بَاب فَضْلِ سُورَةِ الْفَتْحِ
5012 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلًا، فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ شَيْءٍ، فَلَمْ يُجِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلَّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُكَ. قَالَ عُمَرُ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي حَتَّى كُنْتُ أَمَامَ النَّاسِ، وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فِيَّ قُرْآنٌ، فَمَا نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ، قَالَ: فَقُلْتُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ، قَالَ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ سُورَةِ الْفَتْحِ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ فَضْلُ سُورَةِ الْفَتْحِ بِغَيْرِ بَابُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ) تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَفِي التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذَا السِّيَاقَ صُورَتُهُ الْإِرْسَالُ وَأَنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ، وَالْبَزَّارَ أَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَثْمَةَ، عَنْ مَالِكٍ بِصَرِيحِ الِاتِّصَالِ وَلَفْظُهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ ثُمَّ وَجَدْتُهُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَقَالَ: عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ عُمَرَ ثُمَّ قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ مَالِكٍ فَأَرْسَلَهُ فَأَشَارَ إِلَى الطَّرِيقِ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ وَمَا وَافَقَهَا، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي الْمُقَدِّمَةِ أَنَّ فِي أَثْنَاءِ السِّيَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَسْلَمَ، عَنْ عُمَرَ لِقَوْلِهِ فِيهِ قَالَ عُمَرُ فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي إِلَخْ وَتَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ شَرْحِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَتْحِ.
13 - بَاب فَضْلِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فِيهِ عَمْرَةُ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
5013 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ - وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ.
[الحديث 5013 - طرفاه في: 6643، 7374]
5014 -
وَزَادَ أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَخِي قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ مِنْ السَّحَرِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا فَلَمَّا أَصْبَحْنَا أَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ"
5015 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ وَالضَّحَّاكُ الْمَشْرِقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لِأَصْحَابِهِ أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ" قال الفربري سمعت أبا جعفر محمد بن أبي حاتم ورّاق أبي عبد الله يقول: قال أبو عبد الله: عن إبراهيم مرسل، وعن الضحاك المشرقي مسند"
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فِيهِ عَمْرَةُ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَوَّلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، فَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ الْحَدِيثُ وَفِي آخِرِهِ أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ وَسَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي أَوَّلِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ بِتَمَامِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ، وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ الِاخْتِلَافَ فِي تَسْمِيَتِهِ، وَذَكَرْتُ فِيهِ بَعْضَ فَوَائِدِهِ، وَأَحَلْتُ بِبَقِيَّةِ شَرْحِهِ عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيدِ وَذَهِلَ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: قَوْلُهُ: فِيهِ عَمْرَةُ أَيْ رَوَتْ عَنْ عَائِشَةَ حَدِيثًا فِي فَضْلِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطِهِ لَمْ يَذْكُرْهُ بِنَصِّهِ وَاكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ إِجْمَالًا. كَذَا قَالَ، وَغَفَلَ عَمَّا فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ) هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ، وَكَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ، وَرَوَاهُ أَبُو صَفْوَانَ الْأُمَوِيُّ، عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، وَمَعْنٍ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ بَعْدَهُ: إِنَّ الصَّوَابَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، كَمَا فِي الْأَصْلِ، وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ مَالِكٍ كَذَلِكَ، وَقَالَ بَعْدَهُ الصَّوَابُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ مَالِكٍ فِي كِتَابِ الْأَذَانِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يُرَدِّدُهَا) الْقَارِئُ هُوَ قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: بَاتَ قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ كُلِّهِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا الْحَدِيثَ، وَالَّذِي سَمِعَهُ لَعَلَّهُ أَبُو سَعِيدٍ رَاوِي الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ أَخُوهُ لِأُمِّهِ وَكَانَا مُتَجَاوِرَيْنِ وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، فَكَأَنَّهُ أَبْهَمَ نَفْسَهُ وَأَخَاهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ
الطَّبَّاعِ، عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِ إِنَّ لِي جَارًا يَقُومُ بِاللَّيْلِ فَمَا يَقْرَأُ إِلَّا بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.
قَوْلُهُ: (يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَهْضَمٍ يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ كُلَّهَا يُرَدِّدُهَا.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ الرَّجُلُ) أَيِ السَّائِلُ.
قَوْلُهُ: (يَتَقَالُّهَا) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَأَصْلُهُ يَتَقَالَلُهَا أَيْ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا قَلِيلَةً، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الطَّبَّاعِ الْمَذْكُورَةِ كَأَنَّهُ يُقَلِّلُهَا وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ مَالِكٍ فَكَأَنَّهُ اسْتَقَلَّهَا وَالْمُرَادُ اسْتِقْلَالُ الْعَمَلِ لَا التَّنْقِيصُ.
قَوْلُهُ: (وَزَادَ أَبُو مَعْمَرٍ) قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِنْقَرِيُّ، وَخَالَفَهُ الْمِزِّيُّ تَبَعًا لِابْنِ عَسَاكِرَ فَجَزَمَا بِأَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْهُذَلِيُّ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنَ الْمِنْقَرِيِّ، وَالْهُذَلِيِّ يُكَنَّى أَبَا مَعْمَرٍ وَكِلَاهُمَا مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، لَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالْهُذَلِيِّ، بَلْ لَا نَعْرِفُ لِلْمِنْقَرِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ شَيْئًا، وَقَدْ وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْهُذَلِيِّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مَالِكٍ) هُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي أَخِي قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ) هُوَ أَخُوهُ لِأُمِّهِ، أُمُّهُمَا أُنَيْسَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا أَصْبَحْنَا أَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ) يَعْنِي نَحْوَ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَفْظُهُ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إن فلانا قَامَ اللَّيْلَةَ يَقْرَأُ مِنَ السَّحَرِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَسَاقَ السُّورَةَ يُرَدِّدُهَا لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهَا لِتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ.
قَالَ الْفَرَبْرِيُّ. سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حَاتِمٍ وَرَّاقَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: عَنْ إِبْرَاهِيمَ مُرْسَلٌ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ الْمِشْرَقِيِّ مُسْنَدٌ.
قَوْلُهُ: (إِبْرَاهِيمُ) هُوَ النَّخَعِيُّ وَالضَّحَّاكُ الْمِشْرَقِيُّ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ نِسْبَةً إِلَى مِشْرَقِ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُشَمِ بْنِ حَاشِدٍ بَطْنٌ مِنْ هَمْدَانَ، قَيَّدَهُ الْعَسْكَرِيُّ وَقَالَ: مَنْ فَتَحَ الْمِيمَ فَقَدْ صَحَّفَ، كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مَشْرِقٌ مَوْضِعٌ، وَقَدْ ضَبَطَهُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنَ مَاكُولَا وَتَبِعَهُمَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي مَوْضِعٍ، ثُمَّ غَفَلَ فَذَكَرَهُ بِكَسْرِ الْمِيمِ كَمَا قَالَ الْعَسْكَرِيُّ لَكِنْ جَعَلَ قَافَهُ فَاءً، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فَأَصَابَ. وَالضَّحَّاكُ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ شَرَاحِيلَ وَيُقَالُ: شُرَاحْبِيلَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ يَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَدَبِ قَرَنَهُ فِيهِ بِأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَحَكَى الْبَزَّارُ أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّهُ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ وَهُوَ غَلَطٌ.
قَوْلُهُ: (أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ) بِكَسْرِ الْجِيمِ.
قَوْلُهُ: (أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ) لَعَلَّ هَذِهِ قِصَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ قِصَّةِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانَ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِهَذَا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ) عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَقَالَ: يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَهِيَ ثُلُثُ الْقُرْآنِ فَكَأَنَّ رِوَايَةَ الْبَابِ بِالْمَعْنَى. وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْمَذْكُورِ نَظِيرَ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَمَّى السُّورَةَ بِهَذَا الِاسْمِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الصِّفَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، أَوْ يَكُونَ بَعْضُ رُوَاتِهِ كَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ، فَقَدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ بِغَيْرِ قُلْ فِي أَوَّلِهَا.
قَوْلُهُ: (قَالَ الْفَرَبْرِيُّ. سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حَاتِمٍ وَرَّاقَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: عَنْ إِبْرَاهِيمَ مُرْسَلٌ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ الْمِشْرَقِيِّ مُسْنَدٌ) ثَبَتَ هَذَا عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ عَنْ شُيُوخِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ رِوَايَةَ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مُنْقَطِعَةٌ وَرِوَايَةُ الضَّحَّاكِ عَنْهُ مُتَّصِلَةٌ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورُ هُوَ الْبُخَارِيُّ الْمُصَنِّفُ، وَكَأَنَّ الْفَرَبْرِيَّ مَا سَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ مِنْهُ فَحَمَلَهُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْهُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ كَانَ يُوَرِّقُ لِلْبُخَارِيِّ أَيْ يَنْسَخُ لَهُ وَكَانَ مِنَ الْمُلَازِمِينَ لَهُ وَالْعَارِفِينَ بِهِ وَالْمُكْثِرِينَ عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفَرَبْرِيُّ عَنْهُ فِي الْحَجِّ وَالْمَظَالِمِ وَالِاعْتِصَامِ وَغَيْرِهَا فَوَائِدَ عَنِ الْبُخَارِيِّ وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ كَانَ يُطْلِقُ عَلَى الْمُنْقَطِعِ لَفْظَ الْمُرْسَلِ وَعَلَى الْمُتَّصِلِ لَفْظَ الْمُسْنَدِ، وَالْمَشْهُورُ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَنَّ الْمُرْسَلَ مَا يُضِيفُهُ التَّابِعِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْنَدُ مَا يُضِيفُهُ
الصَّحَابِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرَ الْإِسْنَادِ إِلَيْهِ الِاتِّصَالُ، وَهَذَا الثَّانِي لَا يُنَافِي مَا أَطْلَقَهُ الْمُصَنِّفُ.
قَوْلُهُ: (ثُلُثَ الْقُرْآنِ) حَمَلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالَ: هِيَ ثُلُثٌ بِاعْتِبَارِ مَعَانِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ أَحْكَامٌ وَأَخْبَارٌ وَتَوْحِيدٌ وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هِيَ عَلَى الْقِسْمِ الثَّالِثِ فَكَانَتْ ثُلُثًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: جَزء النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: فَجَعَلَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى اسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى يَتَضَمَّنَانِ جَمِيعَ أَصْنَافِ الْكَمَالِ لَمْ يُوجَدَا فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ وَهُمَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ، لِأَنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى أَحَدِيَّةِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِجَمِيعِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَحَدَ يُشْعِرُ بِوُجُودِهِ الْخَاصِّ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَالصَّمَدُ يُشْعِرُ بِجَمِيعِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ لِأَنَّهُ الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ سُؤْدُدُهُ فَكَانَ مَرْجِعُ الطَّلَبِ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ إِلَّا لِمَنْ حَازَ جَمِيعَ خِصَالِ الْكَمَالِ وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ كَانَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَمَامِ الْمَعْرِفَةِ بِصِفَاتِ الذَّاتِ وَصِفَاتِ الْفِعْلِ ثُلُثًا اهـ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ تَوْجِيهَ الِاعْتِقَادِ وَصِدْقَ الْمَعْرِفَةِ وَمَا يَجِبُ إِثْبَاتُهُ لِلَّهِ مِنَ الْأَحَدِيَّةِ الْمُنَافِيَةِ لِمُطْلَقِ الشَّرِكَةِ، وَالصَّمَدِيَّةِ الْمُثْبِتَةِ لَهُ جَمِيعَ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ نَقْصٌ، وَنَفْيَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ الْمُقَرِّرَ لِكَمَالِ الْمَعْنَى، وَنَفْيَ الْكُفْءِ الْمُتَضَمِّنَ لِنَفْيِ الشَّبِيهِ وَالنَّظِيرِ، وَهَذِهِ مَجْمَعُ التَّوْحِيدِ الِاعْتِقَادِيِّ، وَلِذَلِكَ عَادَلَتْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ، وَالْإِنْشَاءُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَإِبَاحَةٌ، وَالْخَبَرُ خَبَرٌ عَنِ الْخَالِقِ وَخَبَرٌ عَنْ خَلْقِهِ، فَأَخْلَصَتْ سُورَةُ الْإِخْلَاصِ الْخَبَرَ عَنِ اللَّهِ، وَخَلَّصَتْ قَارِئَهَا مِنَ الشِّرْكِ الِاعْتِقَادِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ الْمِثْلِيَّةَ عَلَى تَحْصِيلِ الثَّوَابِ فَقَالَ: مَعْنَى كَوْنِهَا ثُلُثَ الْقُرْآنِ أَنَّ ثَوَابَ قِرَاءَتِهَا يَحْصُلُ لِلْقَارِئِ مِثْلَ ثَوَابِ مَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَقِيلَ: مِثْلُهُ بِغَيْرِ تَضْعِيفٍ، وَهِيَ دَعْوَى بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَيُؤَيِّدُ الْإِطْلَاقَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْأَخِيرِ وَقَالَ فِيهِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: احْشُدُوا، فَسَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ.
فَخَرَجَ فَقَرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا إِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَلِأَبِي عُبَيْدٍ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَإِذَا حُمِلَ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَهَلْ ذَلِكَ لِثُلُثٍ مِنَ الْقُرْآنِ مُعَيَّنٍ أَوْ لِأَيِ ثُلُثٍ فُرِضَ مِنْهُ؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَيَلْزَمُ عَلَى الثَّانِي أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا ثَلَاثًا كَانَ كَمَنْ قَرَأَ خَتْمَةً كَامِلَةً. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ عَمِلَ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ كَانَ كَمَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ. وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ: تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ يَخْتَصُّ بِصَاحِبِ الْوَاقِعَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا رَدَّدَهَا فِي لَيْلَتِهِ كَانَ كَمَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ تَرْدِيدٍ، قَالَ الْقَابِسِيُّ: وَلَعَلَّ الرَّجُلَ الَّذِي جَرَى لَهُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَحْفَظُ غَيْرَهَا فَلِذَلِكَ اسْتَقَلَّ عَمَلَهُ، فَقَالَ لَهُ الشَّارِعُ ذَلِكَ تَرْغِيبًا لَهُ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ وَإِنْ قَلَّ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَنْ لَمْ يَتَأَوَّلْ هَذَا الْحَدِيثَ أَخْلَصُ مِمَّنْ أَجَابَ فِيهِ بِالرَّأْيِ. وَفِي الْحَدِيثِ إِثْبَاتُ فَضْلِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهَا تُضَاهِي كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْجُمَلِ الْمُثْبِتَةِ وَالنَّافِيَةِ مَعَ زِيَادَةِ تَعْلِيلٍ، وَمَعْنَى النَّفْيِ فِيهَا أَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّزَّاقُ الْمَعْبُودُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَهُ مَنْ يَمْنَعُهُ كَالْوَالِدِ، وَلَا مَنْ يُسَاوِيهِ فِي ذَلِكَ كَالْكُفْءِ، وَلَا مَنْ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ كَالْوَلَدِ.
وَفِيهِ إِلْقَاءُ الْعَالِمِ الْمَسَائِلَ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا يَتَبَادَرُ لِلْفَهْمِ، لِأَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ إِطْلَاقِ ثُلُثِ الْقُرْآنِ أَنَّ الْمُرَادَ ثُلُثُ حَجْمِهِ الْمَكْتُوبِ مَثَلًا، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُرَادٍ.
(تَنْبِيهٌ): أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: إِذَا زُلْزِلَتْ تَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ، وَالْكَافِرُونَ تَعْدِلُ رُبْعَ الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ وَرْدَانَ، عَنْ
أَنَسٍ: أَنَّ الْكَافِرُونَ وَالنَّصْرَ تَعْدِلُ كُلٌّ مِنْهُمَا رُبْعَ الْقُرْآنِ. وَإِذَا زُلْزِلَتْ تَعْدِلُ رُبْعَ الْقُرْآنِ. زَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو الشَّيْخِ: وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ تَعْدِلُ رُبْعَ الْقُرْآنِ. وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لِضَعْفِ سَلَمَةَ وَإِنْ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، فَلَعَلَّهُ تَسَاهَلَ فِيهِ لِكَوْنِهِ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَكَذَا صَحَّحَ الْحَاكِمُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي سَنَدِهِ يَمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ.
14 - بَاب فَضْلِ الْمُعَوِّذَاتِ
5016 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ؛ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا.
5017 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا، فَقَرَأَ فِيهِمَا: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
[الحديث 5017 - طرفاه في: 5748، 6319]
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الْمُعَوِّذَاتِ) أَيِ الْإِخْلَاصُ وَالْفَلَقُ وَالنَّاسُ، وَقَدْ كُنْتُ جَوَّزْتُ فِي بَابِ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي أَنَّ الْجَمْعَ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، ثُمَّ ظَهَرَ مِنْ حَدِيثِ هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِأَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِالْمُعَوِّذَاتِ أَيِ السُّوَرِ الثَّلَاثِ، وَذَكَرَ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ مَعَهُمَا تَغْلِيبًا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ صِفَةِ الرَّبِّ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِيهَا بِلَفْظِ التَّعْوِيذِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ تَعَوَّذْ بِهِنَّ، فَإِنَّهُ لَمْ يُتَعَوَّذْ بِمِثْلِهِنَّ، اقْرَأِ الْمُعَوِّذَاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ فَذَكَرَهُنَّ.
قَوْلُهُ: (كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ) الْحَدِيثَ تَقَدَّمَ فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَأَحَلْتُ بِشَرْحِهِ عَلَى كِتَابِ الطِّبِّ، وَرِوَايَةُ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَإِنِ اتَّحَدَ سَنَدُهَا بِالَّذِي قَبْلَهُ مِنَ ابْنِ شِهَابٍ فَصَاعِدًا لَكِنْ فِيهَا أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ الْمُعَوِّذَاتِ عِنْدَ النَّوْمِ، فَهِيَ مُغَايِرَةٌ لِحَدِيثِ مَالِكٍ الْمَذْكُورِ، فَالَّذِي يَتَرَجَّحُ أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ عِنْدَ ابْنِ شِهَابٍ بِسَنَدٍ وَاحِدٍ عِنْدَ بَعْضِ الرُّوَاةِ عَنْهُ مَا لَيْسَ عِنْدَ بَعْضٍ، فَأَمَّا مَالِكٌ، وَمَعْمَرٌ، وَيُونُسُ، وَزِيَادُ بْنُ سَعْدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَلَمْ تَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ عَنْهُمْ فِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ الْوَجَعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَهُ بِمَرَضِ الْمَوْتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ فِيهِ فِعْلَ عَائِشَةَ، وَلَمْ يُفَسِّرْ أَحَدٌ مِنْهُمُ الْمُعَوِّذَاتِ، وَأَمَّا عُقَيْلٌ فَلَمْ تَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ النَّوْمِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْهُ أَنَّهُ فِعْلُ عَائِشَةَ كَانَ بِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الطِّبِّ، وَقَدْ جَعَلَهُمَا أَبُو مَسْعُودٍ حَدِيثًا وَاحِدًا، وَتَعَقَّبَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الطَّرْقِيُّ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا خَلَفٌ، وَتَبِعَهُ الْمِزِّيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الطِّبِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
15 - بَاب - نُزُولِ السَّكِينَةِ وَالْمَلَائِكَةِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
5018 -
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنْ اللَّيْلِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَفَرَسُهُ مَرْبُوط عِنْدَهُ، إِذْ جَالَتْ الْفَرَسُ، فَسَكَتَ فَسَكَنتْ، فَقَرَأَ فَجَالَتْ الْفَرَسُ، فَسَكَتَ وَسَكَت الْفَرَسُ، ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتْ الْفَرَسُ فَانْصَرَفَ، وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ، فَلَمَّا اجْتَرَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى مَا يَرَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ له: اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ، اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ. قَالَ: فَأَشْفَقْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى، وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ، فَخَرَجَتْ حَتَّى لَا أَرَاهَا. قَالَ: وَتَدْرِي مَا ذَاكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا، لَا تَتَوَارَى مِنْهُمْ.
قَالَ ابْنُ الْهَادِ: وَحَدَّثَنِي هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ نُزُولِ السَّكِينَةِ وَالْمَلَائِكَةِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ) كَذَا جَمَعَ بَيْنَ السَّكِينَةِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَلَمْ يَقَعْ فِي حَدِيثِ الْبَابِ ذِكْرُ السَّكِينَةِ وَلَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ الْمَاضِي فِي فَضْلِ سُورَةِ الْكَهْفِ ذِكْرُ الْمَلَائِكَةِ، فَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ كَانَ يَرَى أَنَّهُمَا قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلَّةِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ السَّكِينَةُ، لَكِنَّ ابْنَ بَطَّالٍ جَزَمَ بِأَنَّ الظُّلَّةَ السَّحَابَةُ وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ فِيهَا وَمَعَهَا السَّكِينَةُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَضِيَّةُ التَّرْجَمَةِ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْزِلُ أَبَدًا مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْخِلَافِ فِي السَّكِينَةِ مَا هِيَ وَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ إِلَخْ) وَصَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ بِالْإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ الْهَادِ) هُوَ ابْنُ أُسَامَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ التَّيْمِيُّ وَهُوَ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَلَمْ يُدْرِكْ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ فَرِوَايَتُهُ عَنْهُ مُنْقَطِعَةٌ، لَكِنَّ الِاعْتِمَادَ فِي وَصْلِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْإِسْنَادِ الثَّانِي، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ مُرْسَلٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مُتَّصِلٌ. ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ بِالْإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا وَقَالَ: هَذِهِ الطَّرِيقُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ. قُلْتُ: وَجَاءَ عَنِ اللَّيْثِ فِيهِ إِسْنَادٌ ثَالِثٌ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، وَدَاوُدَ بْنِ مَنْصُورٍ كِلَاهُمَا عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ بِالْإِسْنَادِ الثَّانِي فَقَطْ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ بِالْإِسْنَادِ الثَّانِي لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَفِي لَفْظٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ قَالَ: لَكِنْ فِي سِيَاقِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَنْ أُسَيْدٍ فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَثْنَائِهِ: قَالَ أُسَيْدٌ: فَخَشِيتُ أَنْ يَطَأَ يَحْيَى. فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَالْحَدِيثُ مِنْ مُسْنَدِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَلِيَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ فِيهِ عَنِ اللَّيْثِ إِسْنَادٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَقَالَ: عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ.
قَوْلُهُ: (بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ) في رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ بَيْنَمَا أَنَا أَقْرَأُ سُورَةً، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى آخِرِهَا أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ خَتَمَ السُّورَةَ
الَّتِي ابْتَدَأَ بِهَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ الْمَذْكُورَةِ بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ فِي مِرْبَدِهِ أَيِ الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ التَّمْرُ، وَفِي رِوَايَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ عَلَى ظَهْرِ بَيْتِهِ، وَهَذَا مُغَايِرٌ لِلْقِصَّةِ الَّتِي فِيهَا أَنَّهُ كَانَ فِي مِرْبَدِهِ، وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ ابْنَهُ كَانَ إِلَى جَانِبِهِ وَفَرَسَهُ مَرْبُوطَةً فَخَشِيَ أَنْ تَطَأَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِكَوْنِهِ كَانَ حِينَئِذٍ عَلَى ظَهْرِ الْبَيْتِ، إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِظَهْرِ الْبَيْتِ خَارِجَهُ لَا أَعْلَاهُ فَتَتَّحِدُ الْقِصَّتَانِ.
قَوْلُهُ: (إِذْ جَالَتِ الْفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ) فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ ذَلِكَ تَكَرَّرَ ثَلَاثَ مِرَارٍ وَهُوَ يَقْرَأُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى سَمِعْتُ رَجَّةً مِنْ خَلْفِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ فَرَسِي تَنْطَلِقُ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا اجْتَرَّهُ) بِجِيمٍ وَمُثَنَّاةٍ وَرَاءٍ ثَقِيلَةٍ وَالضَّمِيرُ لِوَلَدِهِ أَيِ اجْتَرَّ وَلَدَهُ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ حَتَّى لَا تَطَأَهُ الْفَرَسُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ أَخَّرَهُ بِمُعْجَمَةٍ ثَقِيلَةٍ وَرَاءٍ خَفِيفَةٍ أَيْ عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ بِهِ خَشْيَةً عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى مَا يَرَاهَا) كَذَا فِيهِ بِاخْتِصَارٍ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ أَبُو عُبَيْدٍ كَامِلًا وَلَفْظُهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا هُوَ بِمِثْلِ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ عَرَجَتْ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى مَا يَرَاهَا وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فَوْقَ رَأْسِي فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ، فَعَرَجَتْ فِي الْجَوِّ حَتَّى مَا أَرَاهَا.
قَوْلُهُ: (اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ) أَيْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَمِرَّ عَلَى قِرَاءَتِكَ، وَلَيْسَ أَمْرًا لَهُ بِالْقِرَاءَةِ فِي حَالَةِ التَّحْدِيثِ، وَكَأَنَّهُ اسْتَحْضَرَ صُورَةَ الْحَالِ فَصَارَ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ عِنْدَهُ لَمَّا رَأَى مَا رَأَى، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: اسْتَمِرَّ عَلَى قِرَاءَتِكَ لِتَسْتَمِرَّ لَكَ الْبَرَكَةُ بِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ وَاسْتِمَاعِهَا لِقِرَاءَتِكَ، وَفَهِمَ أُسَيْدٌ ذَلِكَ فَأَجَابَ بِعُذْرِهِ فِي قَطْعِ الْقِرَاءَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ خِفْتُ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى أَيْ خَشِيتُ إِنِ اسْتَمْرَّيْتُ عَلَى الْقِرَاءَةِ أَنْ تَطَأَ الْفَرَسُ وَلَدِي، وَدَلَّ سِيَاقُ الْحَدِيثِ عَلَى مُحَافَظَةِ أُسَيْدٍ عَلَى خُشُوعِهِ فِي صَلَاتِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَوَّلَ، مَا جَالَتِ الْفَرَسُ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، وَكَأَنَّهُ كَانَ بَلَغَهُ حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ رَفْعِ الْمُصَلِّي رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَلَمْ يَرْفَعْهُ حَتَّى اشْتَدَّ بِهِ الْخَطْبُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَفَعَ رَأْسَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ صَلَاتِهِ فَلِهَذَا تَمَادَى بِهِ الْحَالُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى الْمَذْكُورَةِ اقْرَأْ أَبَا عَتِيكٍ وَهِيَ كُنْيَةُ أُسَيْدٍ.
قَوْلُهُ: (دَنَتْ لِصَوْتِكَ) فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ تَسْتَمِعُ لَكَ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ كَعْبٍ الْمَذْكُورَةِ وَكَانَ أُسَيْدٌ حَسَنُ الصَّوْتِ وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَيْضًا اقْرَأْ أُسَيْدٌ فَقَدْ أُوتِيتَ مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ وَفِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الْبَاعِثِ عَلَى اسْتِمَاعِ الْمَلَائِكَةِ لِقِرَاءَتِهِ.
قَوْلُهُ: (وَلَوْ قَرَأْتَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَمَا إِنَّكَ لَوْ مَضَيْتَ.
قَوْلُهُ: (مَا يَتَوَارَى مِنْهُمْ) فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ مَا تَسْتَتِرُ مِنْهُمْ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَرَأَيْتَ الْأَعَاجِيبَ قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ رُؤْيَةِ آحَادِ الْأُمَّةِ لِلْمَلَائِكَةِ، كَذَا أَطْلَقَ، وَهُوَ صَحِيحٌ لَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ التَّقْيِيدُ بِالصَّالِحِ مِثْلًا وَالْحَسَنِ الصَّوْتِ، قَالَ: وَفِيهِ فَضِيلَةُ الْقِرَاءَةِ وَأَنَّهَا سَبَبُ نُزُولِ الرَّحْمَةِ وَحُضُورِ الْمَلَائِكَةِ. قُلْتُ: الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ أَعَمُّ مِنَ الدَّلِيلِ، فَالَّذِي فِي الرِّوَايَةِ إِنَّمَا نَشَأَ عَنْ قِرَاءَةٍ خَاصَّةٍ مِنْ سُورَةٍ خَاصَّةٍ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ، وَيَحْتَمِلُ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ مَا لَمْ يُذْكَرْ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ الْإِطْلَاقُ لَحَصَلَ ذَلِكَ لِكُلِّ قَارِئٍ. وَقَدْ أَشَارَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: مَا يَتَوَارَى مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لِاسْتِغْرَاقِهِمْ فِي الِاسْتِمَاعِ كَانُوا يَسْتَمِرُّونَ عَلَى عَدَمِ الِاخْتِفَاءِ الَّذِي هُوَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ لِأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَفَضْلُ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَفَضْلُ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنَّ التَّشَاغُلَ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَلَوْ كَانَ مِنَ الْمُبَاحِ قَدْ يُفَوِّتُ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ فَكَيْفَ لَوْ كَانَ بِغَيْرِ الْأَمْرِ الْمُبَاحِ
16 - بَابُ مَنْ قَالَ: لَمْ يَتْرُكِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ
5019 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَشَدَّادُ بْنُ مَعْقِلٍ
عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فَقَالَ لَهُ شَدَّادُ بْنُ مَعْقِلٍ: أَتَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ: مَا تَرَكَ إِلَّا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ. قَالَ: وَدَخَلْنَا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَسَأَلْنَاهُ، فَقَالَ: مَا تَرَكَ إِلَّا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ قَالَ: لَمْ يَتْرُكِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ) أَيْ مَا فِي الْمُصْحَفِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَرَكَ الْقُرْآنَ مَجْمُوعًا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ جَمْعِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ عُثْمَانَ. وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ ذَهَبَ لِذَهَابِ حَمَلَتِهِ، وَهُوَ شَيْءٌ اخْتَلَقَهُ الرَّوَافِضُ لِتَصْحِيحِ دَعْوَاهُمْ أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ وَاسْتِحْقَاقِهِ الْخِلَافَةَ عِنْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ ثَابِتًا فِي الْقُرْآنِ وَأَنَّ الصَّحَابَةَ كَتَمُوهُ، وَهِيَ دَعْوَى بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكْتُمُوا مِثْلَ أَنْتَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى وَغَيْرَهَا مِنَ الظَّوَاهِرِ الَّتِي قَدْ يَتَمَسَّكُ بِهَا مَنْ يَدَّعِي إِمَامَتَهُ، كَمَا لَمْ يَكْتُمُوا مَا يُعَارِضُ ذَلِكَ أَوْ يُخَصِّصُ عُمُومَهُ أَوْ يُقَيِّدُ مُطْلَقَهُ. وَقَدْ تَلَطَّفَ الْمُصَنِّفُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الرَّافِضَةِ بِمَا أَخْرَجَهُ عَنْ أَحَدِ أَئِمَّتِهِمُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ إِمَامَتَهُ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ ابْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ شَيْءٌ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَبِيهِ لَكَانَ هُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ ابْنُ عَمِّ عَلِيٍّ وَأَشَدُّ النَّاسِ لَهُ لُزُومًا وَاطِّلَاعًا عَلَى حَالِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ) فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ.
قَوْلُهُ: (دَخَلْتُ أَنَا وَشَدَّادُ بْنُ مَعْقِلٍ) هُوَ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ، تَابِعِيُّ كَبِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلِيٍّ. وَلَمْ يَقَعْ لَهُ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ذِكْرٌ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَبُوهُ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثًا غَيْرَ هَذَا.
قَوْلُهُ: (أَتَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ شَيْءٍ)؟ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: شَيْئًا سِوَى الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ) بِالْفَاءِ تَثْنِيَةُ دَفَّةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَهُوَ اللَّوْحُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: وَدَخَلْنَا) الْقَائِلُ هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ لَمْ يَدَعْ إِلَّا مَا فِي هَذَا الْمُصْحَفِ أَيْ لَمْ يَدَعْ مِنَ الْقُرْآنِ مَا يُتْلَى إِلَّا مَا هُوَ دَاخِلُ الْمُصْحَفِ الْمَوْجُودِ وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا مَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ لِأَنَّ عَلِيًّا أَرَادَ الْأَحْكَامَ الَّتِي كَتَبَهَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَنْفِ أَنَّ عِنْدَهُ أَشْيَاءَ أُخَرَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ كَتَبَهَا. وَأَمَّا جَوَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّمَا أَرَادَا مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي يُتْلَى، أَوْ أَرَادَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْإِمَامَةِ، أَيْ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْإِمَامَةِ إِلَّا مَا هُوَ بِأَيْدِي النَّاسِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ ذِكْرِ أَشْيَاءَ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فَنُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا وَبَقِيَ حُكْمُهَا أَوْ لَمْ يَبْقَ، مِثْلُ حَدِيثِ عُمَرَ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ وَحَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي بِئْرِ مَعُونَةَ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ قُرْآنًا بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا لَقَدْ لَقِينَا رَبَّنَا وَحَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ كَانَتِ الْأَحْزَابُ قَدْرَ الْبَقَرَةِ وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ مَا يَقْرَءُونَ رُبْعَهَا يَعْنِي بَرَاءَةٌ، وَكُلُّهَا أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ، وَيَقُولُ: إِنَّ مِنْهُ قُرْآنًا قَدْ رُفِعَ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا يُعَارِضُ حَدِيثَ الْبَابِ، لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِمَّا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
17 - بَاب فَضْلِ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ
5020 -
حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ أَبُو خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْأُتْرُجَّةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَالَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ فيها، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ، طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا.
[الحديث 5020 - أطرافه في: 5059، 5427، 7560]
5021 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ خَلَا مِنْ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَمَغْرِبِ الشَّمْسِ وَمَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى ثُمَّ أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنْ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ بِقِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ قَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً قَالَ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ قَالُوا لَا قَالَ فَذَاكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ شِئْتُ"
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ الرَّبُّ عز وجل: مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَعَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِيَ السَّائِلِينَ، وَفَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ.
وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا عَطِيَّةَ الْعَوْفِيَّ فَفِيهِ ضَعْفٌ؛ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ رِوَايَةِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: فَضْلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَفِي إِسْنَادِهِ عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَشَجِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الضُّرَيْسِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ مُرْسَلًا وَرِجَالُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ، وَأَخْرَجَهُ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَفِي إِسْنَادِهِ صَفْوَانُ بْنُ أَبِي الصَّهْبَاءِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الضُّرَيْسِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْجَرَّاحِ بْنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ رَفَعَهُ: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ - ثُمَّ قَالَ: - وَفَضْلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْهُ. وَحَدِيثُ عُثْمَانَ هَذَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْعَسْكَرِيُّ أَنَّهَا مِنْ قَوْلِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فَذَكَرَهُ، وَأَشَارَ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ الْعَسْكَرِيُّ أَيْضًا عَنْ طَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ مِنْ قَوْلِهِمَا. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى.
قَوْلُهُ: (مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْأُتْرُجَّةِ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ بَيْنَهُمَا مُثَنَّاةٌ سَاكِنَةٌ وَآخِرُهُ جِيمٌ ثَقِيلَةٌ، وَقَدْ تُخَفَّفُ. وَيُزَادُ قَبْلَهَا نُونٌ سَاكِنَةٌ، وَيُقَالُ بِحَذْفِ الْأَلِفِ مَعَ الْوَجْهَيْنِ، فَتِلْكَ أَرْبَعُ لُغَاتٍ وَتَبْلُغُ مَعَ التَّخْفِيفِ إِلَى ثَمَانِيَةٍ.
قَوْلُهُ: (طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ) قِيلَ: خَصَّ صِفَةَ الْإِيمَانِ بِالطَّعْمِ وَصِفَةَ التِّلَاوَةِ بِالرِّيحِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَلْزَمُ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْقُرْآنِ؛ إِذْ يُمْكِنُ حُصُولُ الْإِيمَانِ بِدُونِ الْقِرَاءَةِ، وَكَذَلِكَ الطَّعْمُ أَلْزَمُ لِلْجَوْهَرِ مِنَ الرِّيحِ فَقَدْ يَذْهَبُ رِيحُ الْجَوْهَرِ وَيَبْقَى طَعْمُهُ، ثُمَّ قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ الْأُتْرُجَّةِ بِالتَّمْثِيلِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْفَاكِهَةِ الَّتِي تَجْمَعُ طِيبَ الطَّعْمِ وَالرِّيحِ كَالتُّفَّاحَةِ لِأَنَّهُ
يُتَدَاوَى بِقِشْرِهَا وَهُوَ مُفْرِحٌ بِالْخَاصِّيَّةِ، وَيُسْتَخْرَجُ مِنْ حَبِّهَا دُهْنٌ لَهُ مَنَافِعُ وَقِيلَ: إِنَّ الْجِنَّ لَا تَقْرَبُ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الْأُتْرُجَّ فَنَاسَبَ أَنْ يُمَثِّلَ بِهِ الْقُرْآنُ الَّذِي لَا تَقْرَبُهُ الشَّيَاطِينُ، وَغِلَافُ حَبِّهِ أَبْيَضُ فَيُنَاسِبُ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ، وَفِيهَا أَيْضًا مِنَ الْمَزَايَا كِبَرُ جُرْمِهَا وَحُسْنُ مَنْظَرِهَا وَتَفْرِيحُ لَوْنِهَا وَلِينُ مَلْمَسِهَا، وَفِي أَكْلِهَا مَعَ الِالْتِذَاذِ طِيبُ نَكْهَةٍ وَدِبَاغُ مَعِدَةٍ وَجَوْدَةِ هَضْمٍ، وَلَهَا مَنَافِعُ أُخْرَى مَذْكُورَةٌ فِي الْمُفْرَدَاتِ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابِ: الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ، وَهِيَ زِيَادَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِلْمُرَادِ وَأَنَّ التَّمْثِيلَ وَقَعَ بِالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَلَا يُخَالِفُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ لَا مُطْلَقَ التِّلَاوَةِ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَثُرَ التَّقْسِيمُ كَأَنْ يُقَالَ الَّذِي يَقْرَأُ وَيَعْمَلُ وَعَكْسُهُ وَالَّذِي يَعْمَلُ وَلَا يَقْرَأُ وَعَكْسُهُ، وَالْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ مُمْكِنَةٌ فِي غَيْرِ الْمُنَافِقِ وَأَمَّا الْمُنَافِقُ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا قِسْمَانِ فَقَطْ لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِعَمَلِهِ إِذَا كَانَ نِفَاقُهُ نِفَاقُ كُفْرٍ، وَكَأَنَّ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي حُذِفَ مِنَ التَّمْثِيلِ قِسْمَانِ: الَّذِي يَقْرَأُ وَلَا يَعْمَلُ، وَالَّذِي لَا يَعْمَلُ وَلَا يَقْرَأُ، وَهُمَا شَبِيهَانِ بِحَالِ الْمُنَافِقِ فَيُمْكِنُ تَشْبِيهُ الْأَوَّلِ بِالرَّيْحَانَةِ وَالثَّانِي بِالْحَنْظَلَةِ فَاكْتُفِيَ بِذِكْرِ الْمُنَافِقِ، وَالْقِسْمَانِ الْآخَرَانِ قَدْ ذُكِرَا.
قَوْلُهُ: (وَلَا رِيحَ فِيهَا) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ: لَهَا.
قَوْلُهُ: (وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا رِيحَ لَهَا) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ وَرِيحُهَا مُرٌّ وَاسْتُشْكِلَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَرَارَةَ مِنْ أَوْصَافِ الطُّعُومِ فَكَيْفَ يُوصَفُ بِهَا الرِّيحُ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ رِيحَهَا لَمَّا كَانَ كَرِيهًا اسْتُعِيرَ لَهُ وَصْفُ الْمَرَارَةِ، وَأَطْلَقَ الزَّرْكَشِيُّ هُنَا أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَهْمٌ وَأَنَّ الصَّوَابَ مَا فِي رِوَايَةِ هَذَا الْبَابِ وَلَا رِيحَ لَهَا ثُمَّ قَالَ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ لَمَّا جَاءَ فِيهِ: وَلَا رِيحَ لَهَا هَذَا أَصْوَبُ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ طَعْمُهَا مُرٌّ وَرِيحُهَا مُرٌّ ثُمَّ ذَكَرَ تَوْجِيهَهَا وَكَأَنَّهُ مَا اسْتَحْضَرَ أَنَّهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا فَلِذَلِكَ نَسَبَهَا لِلتِّرْمِذِيِّ. وَفِي الْحَدِيثِ فَضِيلَةُ حَامِلِي الْقُرْآنِ، وَضَرْبُ الْمَثَلِ لِلتَّقْرِيبِ لِلْفَهْمِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْعَمَلَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ.
5021 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ خَلَا مِنْ الْأُمَمِ، كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَمَغْرِبِ الشَّمْسِ، وَمَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ؟ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى، ثُمَّ أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنْ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ بِقِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، قَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً، قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَذَاكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ شِئْتُ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي:
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ قَبْلَكُمْ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْمَوَاقِيتِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَمُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ ثُبُوتِ فَضْلِ قَارِئِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهِ فَيَسْتَلْزِمُ فَضْلَ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَمَا فَضَّلَ الْأُتْرُجُّ عَلَى سَائِرِ الْفَوَاكِهِ، وَمُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ الثَّانِي مِنْ جِهَةِ ثُبُوتِ فَضْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ وَثُبُوتِ الْفَضْلِ لَهَا بِمَا ثَبَتَ مِنْ فَضْلِ كِتَابِهَا الَّذِي أُمِرَتْ بِالْعَمَلِ بِهِ.
18 - بَاب الوصاة بِكِتَابِ اللَّهِ عز وجل
5022 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، حَدَّثَنَا طَلْحَةُ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى: آوْصَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: لَا، فَقُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ الْوَصِيَّةُ، أُمِرُوا بِهَا وَلَمْ يُوصِ؟ قَالَ: أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْوَصَاةِ بِكِتَابِ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْوَصِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا، وَتَقَدَّمَ فِيهِ حَدِيثُ الْبَابِ مَشْرُوحًا، وَقَوْلُهُ فِيهِ: أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: لَا حِينَ قَالَ لَهُ: هَلْ أَوْصَى بِشَيْءٍ ظَاهِرُهُمَا التَّخَالُفُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَفَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِمَارَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَا مُطْلَقَ الْوَصِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِالْوَصِيَّةِ بِكِتَابِ اللَّهِ حِفْظُهُ حِسًّا وَمَعْنًى، فَيُكْرَمُ وَيُصَانُ وَلَا يُسَافِرُ بِهِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَيَتَّبِعُ مَا فِيهِ فَيَعْمَلُ بِأَوَامِرِهِ وَيَجْتَنِبُ نَوَاهِيهِ وَيُدَاوِمُ تِلَاوَتَهُ وَتَعَلُّمَهُ وَتَعْلِيمَهُ وَنَحْوُهُ ذَلِكَ.
19 - بَاب مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}
5023 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لنبِيِّ أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآن. وَقَالَ صَاحِبٌ لَهُ: يُرِيدُ يَجْهَرُ بِهِ.
الحديث 5023 - أطرافه في: 5024، 7482، 7544]
5024 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ قَالَ سُفْيَانُ تَفْسِيرُهُ يَسْتَغْنِي بِهِ"
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِسَنَدِ حَدِيثِ الْبَابِ بِلَفْظِ: مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ فَلَيْسَ مِنَّا وَهُوَ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} أَشَارَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَى تَرْجِيحِ تَفْسِيرِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: يَتَغَنَّى: يَسْتَغْنِي، كَمَا سَيَأْتِي في هَذَا الْبَابُ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَوَكِيعٍ جَمِيعًا وَقَدْ بَيَّنَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ اسْتِغْنَاءٌ خَاصٌّ، وَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيعٍ: يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِكُتُبٍ وَقَدْ كَتَبُوا فِيهَا بَعْضَ مَا سَمِعُوهُ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كَفَى بِقَوْمٍ ضَلَالَةً أَنْ يَرْغَبُوا عَمَّا جَاءَ بِهِ نَبِيُّهُمْ إِلَيْهِمْ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ غَيْرُهُ إِلَى غَيْرِهِمْ، فَنَزَلَ:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} وَقَدْ خَفِيَ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ كَابْنِ كَثِيرٍ فَنَفَى أَنْ يَكُونَ لِذِكْرِهَا وَجْهٌ، عَلَى أَنَّ ابْنَ بَطَّالٍ مَعَ تَقَدُّمِهِ قَدْ أَشَارَ إِلَى الْمُنَاسَبَةِ فَقَالَ: قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَذَكَرَ ابْنُ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ مُخْتَصَرًا قَالَ: فَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الِاسْتِغْنَاءَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْفَقْرِ، قَالَ: وَإِتْبَاعُ الْبُخَارِيِّ التَّرْجَمَةَ بِالْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يُفْهَمُ مِنَ التَّرْجَمَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّغَنِّي الِاسْتِغْنَاءَ لِكَوْنِهِ أَتْبَعَهُ الْآيَةَ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْإِنْكَارَ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِالْقُرْآنِ عَنْ
غَيْرِهِ، فَحَمَلَهُ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِهِ وَعَدَمِ الِافْتِقَارِ إِلَى غَيْرِهِ، وَحَمْلُهُ عَلَى ضِدِّ الْفَقْرِ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ.
قَوْلُهُ: (لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ لِنَبِيٍّ) كَذَا لَهُمْ بِنُونٍ وَمُوَحَّدَةٍ، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ لِشَيْءٍ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الَّتِي تَلِي هَذِهِ فِي الْأَصْلِ كَالْجُمْهُورِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ كَرِوَايَةِ عُقَيْلٍ.
قَوْلُهُ: (مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَعِنْدَ أَبِي ذَرٍّ لِلنَّبِيِّ بِزِيَادَةِ اللَّامِ، فَإِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً فَهِيَ لِلْجِنْسِ، وَوَهِمَ مَنْ ظَنَّهَا لِلْعَهْدِ وَتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا أَذِنَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَشَرَحَهُ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (أَنْ يَتَغَنَّى) كَذَا لَهُمْ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِدُونِ أَنْ وَزَعَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الصَّوَابَ حَذْفُ أَنْ وَأَنَّ إِثْبَاتَهَا وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْوُونَ بِالْمَعْنَى فَرُبَّمَا ظَنَّ بَعْضُهُمُ الْمُسَاوَاةَ فَوَقَعَ فِي الْخَطَأِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَوْ كَانَ بِلَفْظِ أَنْ لَكَانَ مِنَ الْإِذْنِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ
الذَّالِ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ وَالْإِطْلَاقِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادًا هُنَا وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْأَذَنِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ الِاسْتِمَاعُ، وَقَوْلُهُ أَذِنَ أَيِ اسْتَمَعَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ لَفْظَ أَذِنَ بِفَتْحَةٍ ثُمَّ كَسْرَةٍ فِي الْمَاضِي، وَكَذَا فِي الْمُضَارِعِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْإِطْلَاقِ وَالِاسْتِمَاعِ، تَقُولُ أَذِنْتُ آذَنُ بِالْمَدِّ، فَإِنْ أَرَدْتَ الْإِطْلَاقَ فَالْمَصْدَرُ بِكَسْرَةٍ ثُمَّ سُكُونٍ، وَإِنْ أَرَدْتَ الِاسْتِمَاعَ فَالْمَصْدَرُ بِفَتْحَتَيْنِ، قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:
أَيُّهَا الْقَلْبُ تَعَلَّلْ بِدَدَنْ
…
إِنَّ هَمِّي فِي سَمَاعٍ وَأَذَنْ
أَيْ فِي سَمَاعٍ وَاسْتِمَاعٍ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَصْلُ الْأَذَنِ بِفَتْحَتَيْنِ أَنَّ الْمُسْتَمِعَ يَمِيلُ بِأُذُنِهِ إِلَى جِهَةِ مَنْ يَسْمَعُهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي حَقِّ اللَّهِ لَا يُرَادُ بِهِ ظَاهِرُهُ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ عَلَى مَا جَرَى بِهِ عُرْفُ الْمُخَاطَبِ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إِكْرَامُ الْقَارِئِ وَإِجْزَالُ ثَوَابِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ ثَمَرَةَ الْإِصْغَاءِ. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: مَا أَذِنَ لِشَيْءٍ كَأَذَنِهِ بِفَتْحَتَيْنِ، وَمِثْلُهُ عِنْدَ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَشَدُّ أَذَنًا إِلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إِلَى قَيْنَتِهِ. قُلْتُ: وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَيْسَ مَا أَنْكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِمُنْكَرٍ بَلْ هُوَ مُوَجَّهٌ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى كَذَلِكَ وَوَجَّهَهَا عِيَاضٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْحَثُّ عَلَى ذَلِكَ وَالْأَمْرُ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ صَاحِبٌ لَهُ يَجْهَرُ بِهِ) الضَّمِيرُ فِي لَهُ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَالصَّاحِبُ الْمَذْكُورُ هُوَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، بَيَّنَهُ الزُّبَيْدِيُّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ: مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ فَكَأَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ لَمْ يَسْمَعْهُ ابْنُ شِهَابٍ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسَمِعَهُ مِنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْهُ فَكَانَ تَارَةً يُسَمِّيهِ وَتَارَةً يُبْهِمُهُ، وَقَدْ أَدْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ، قَالَ الذُّهْلِيُّ: وَهُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ فِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ، وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ. قُلْتُ: وَهِيَ ثَابِتَةٌ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَأَذَنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ وَكَذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سُفْيَانَ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الزُّهْرِيِّ) هُوَ ابْنُ شِهَابٍ الْمَذْكُورُ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى، وَنَقَلَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ قَالَ: لَمْ يَقُلْ لَنَا سُفْيَانُ قَطُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ قُلْتُ: قَدْ رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَالْحُمَيْدِيُّ مِنْ أَعْرَفِ النَّاسِ بِحَدِيثِ سُفْيَانَ وَأَكْثَرِهِمْ تَثَبُّتًا عَنْهُ لِلسَّمَاعِ مِنْ شُيُوخِهِمْ.
قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ: تَفْسِيرُهُ يسْتَغْني بِهِ) كَذَا فَسَّرَهُ سُفْيَانُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَأْنَسَ بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ الضُّرَيْسِ، وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَهِيكٍ قَالَ: لَقِيَنِي سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَنَا فِي السُّوقِ فَقَالَ: تُجَّارٌ كَسَبَةٌ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ وَقَدِ ارْتَضَى أَبُو عُبَيْدٍ تَفْسِيرَ يَتَغَنَّى بِيَسْتَغْنِي وَقَالَ: إِنَّهُ جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَأَنْشَدَ الْأَعْشَى:
وَكُنْتُ امْرَءًا زَمَنًا بِالْعِرَاقِ
…
خَفِيفَ الْمُنَاخِ طَوِيلَ التَّغَنِّي
أَيْ كَثِيرَ الِاسْتِغْنَاءِ وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ حَبْنَاءَ:
كِلَانَا غَنِيٌّ عَنْ أَخِيهِ حَيَاتَهُ
…
وَنَحْنُ إِذَا مِتْنَا أَشَدُّ تَغَانِيًا
قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِالْقُرْآنِ عَنِ الْإِكْثَارِ مِنَ الدُّنْيَا فَلَيْسَ مِنَّا، أَيْ عَلَى طَرِيقَتِنَا. وَاحْتَجَّ أَبُو عُبَيْدٍ أَيْضًا بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ قَرَأَ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَهُوَ غَنِيٌّ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: يَتَغَنَّى عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: تَحْسِينُ الصَّوْتِ، وَالثَّانِي: الِاسْتِغْنَاءُ، وَالثَّالِثُ: التَّحَزُّنُ - قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - وَالرَّابِعُ: التَّشَاغُلُ بِهِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: تَغَنَّى بِالْمَكَانِ: أَقَامَ بِهِ. قُلْتُ: وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ حَكَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الزَّاهِرِ قَالَ: الْمُرَادُ بِهِ التَّلَذُّذُ وَالِاسْتِحْلَاءُ لَهُ كَمَا يَسْتَلِذُّ أَهْلُ الطَّرَبِ بِالْغِنَاءِ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ تَغَنِّيًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُفْعَلُ عِنْدَهُ مَا يُفْعَلُ عِنْدَ الْغِنَاءِ، وَهُوَ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
بُكَاءُ حَمَامَةٍ تَدْعُو هَدِيلًا
…
مُفَجَّعَةً عَلَى فَنَنٍ تُغَنِّي
أَطْلَقَ عَلَى صَوْتِهَا غِنَاءً؛ لِأَنَّهُ يُطْرِبُ كَمَا يُطْرِبُ الْغِنَاءُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غِنَاءً حَقِيقَةً، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: الْعَمَائِمُ تِيجَانُ الْعَرَبِ، لِكَوْنِهَا تَقُومُ مَقَامَ التِّيجَانِ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ حَسَنٌ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَهُ هِجِّيرَاهُ كَمَا يَجْعَلُ الْمُسَافِرُ وَالْفَارِغُ هِجِّيرَاهُ الْغِنَاءَ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا رَكِبَتِ الْإِبِلَ تَتَغَنَّى، وَإِذَا جَلَسَتْ فِي أَفْنِيَتِهَا وَفِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهَا، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ أَحَبَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكُونَ هِجِّيرَاهُمُ الْقِرَاءَةَ مَكَانَ التَّغَنِّي. وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الرَّابِعَ بَيْتُ الْأَعْشَى الْمُتَقَدِّمُ؛ فَإِنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: طَوِيلُ التَّغَنِّي طُولَ الْإِقَامَةِ لَا الِاسْتِغْنَاءَ لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِوَصْفِ الطُّولِ مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ، يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ مُلَازِمًا لِوَطَنِهِ بَيْنَ أَهْلِهِ كَانُوا يَتَمَدَّحُونَ بِذَلِكَ. كما قَالَ حَسَّانُ:
أَوْلَادُ جَفْنَةَ حَوْلَ قَبْرِ أَبِيهِمُ
…
قَبْرِ ابْنِ مَارِيَةَ الْكَرِيمِ الْمُفَضَّلِ
أَرَادَ أَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الِانْتِجَاعِ وَلَا يَبْرَحُونَ مِنْ أَوْطَانِهِمْ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْحَثَّ عَلَى مُلَازَمَةِ الْقُرْآنِ وَأَنْ لَا يُتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ يَئُولُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِلَى مَا اخْتَارَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ تَخْصِيصِ الِاسْتِغْنَاءِ وَأَنَّهُ يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ لَمْ يُغْنِهِ الْقُرْآنُ وَيَنْفَعْهُ فِي إِيمَانِهِ وَيُصَدِّقْ بِمَا فِيهِ مِنْ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يَرْتَحْ لِقِرَاءَتِهِ وَسَمَاعِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا اخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ يُحَصِّلُ بِهِ الْغِنَى دُونَ الْفَقْرِ، لَكِنَّ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ غَيْرُ مَدْفُوعٍ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْغِنَى الْمَعْنَوِيُّ وَهُوَ غِنَى النَّفْسِ وَهُوَ الْقَنَاعَةُ لَا الْغِنَى الْمَحْسُوسُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْفَقْرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ مُلَازَمَةِ الْقِرَاءَةِ إِلَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ بِالْخَاصِّيَّةِ، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَأْبَى الْحَمْلَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى الْحَثِّ عَلَى تَكَلُّفِ ذَلِكَ، وَفِي تَوْجِيهِهِ تَكَلُّفٌ كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَطَلَّبِ الْغِنَى بِمُلَازَمَةِ تِلَاوَتِهِ، وَأَمَّا الَّذِي نَقَلَهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فَلَمْ أَرَهُ صَرِيحًا عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ الْخَبَرِ. وَإِنَّمَا قَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ: وَأُحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ حَدْرًا وَتَحْزِينًا انْتَهَى. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: حَدَرْتُ الْقِرَاءَةَ أَدْرَجْتُهَا وَلَمْ أَمْطُطْهَا، وَقَرَأَ فُلَانٌ تَحْزِينًا إِذَا رَقَّقَ صَوْتَهُ وَصَيَّرَهُ كَصَوْتِ الْحَزِينِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةً فَحَزَّنَهَا شِبْهَ الرَّثْيِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: يَتَغَنَّى بِهِ يَتَحَزَّنُ بِهِ وَيُرَقِّقُ بِهِ قَلْبَهُ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَأْوِيلِ ابْنِ عُيَيْنَةَ لِلتَّغَنِّي بِالِاسْتِغْنَاءِ فَلَمْ يَرْتَضِهِ وَقَالَ: لَوْ أَرَادَ الِاسْتِغْنَاءَ لَقَالَ: لَمْ يَسْتَغْنِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَحْسِينَ الصَّوْتِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَيُؤَيِّدُهُ
رِوَايَةُ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِلَفْظِ: مَا أُذِنَ لِنَبِيٍّ فِي التَّرَنُّمِ فِي الْقُرْآنِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَعِنْدَهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ مَا أُذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ وَهَذَا اللَّفْظُ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ، وَالطَّحَاوِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: حَسَنِ التَّرَنُّمِ بِالْقُرْآنِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَالتَّرَنُّمُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالصَّوْتِ إِذَا حَسَّنَهُ الْقَارِئُ وَطَرِبَ بِهِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ الِاسْتِغْنَاءَ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الصَّوْتِ وَلَا لِذِكْرِ الْجَهْرِ مَعْنًى.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْكَجِّيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ مَرْفُوعًا: اللَّهُ أَشَدُّ أَذَنًا - أَيِ اسْتِمَاعًا - لِلرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إِلَى قَيْنَتِهِ وَالْقَيْنَةُ: الْمُغَنِّيَةُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَفَعَهُ: تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَغَنُّوا بِهِ وَأَفْشُوهُ. كَذَا وَقَعَ عِنْدَهُ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ غَيْرِهِ فِي الْحَدِيثِ وَتَغَنُّوا بِهِ وَالْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ التَّغَنِّيَ التَّرْجِيعُ بِالصَّوْتِ كَمَا قَالَ حَسَّانُ:
تَغَنَّ بِالشِّعْرِ إِمَّا أَنْتَ قَائِلُهُ
…
إِنَّ الْغِنَاءَ بِهَذَا الشِّعْرِ مِضْمَارٌ
قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَغَنَّى بِمَعْنَى اسْتَغْنَى وَلَا فِي أَشْعَارِهِمْ، وَبَيْتُ الْأَعْشَى لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ أَرَادَ طُولَ الْإِقَامَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} وَقَالَ: بَيْتُ الْمُغِيرَةِ أَيْضًا لَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ التَّغَانِيَ تَفَاعُلٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى تَغَنَّى، قَالَ: وَإِنَّمَا يَأْتِي تَغَنَّى مِنَ الْغِنَى الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْفَقْرِ بِمَعْنَى تَفَعَّلَ أَيْ يُظْهِرُ خِلَافَ مَا عِنْدَهُ، وَهَذَا فَاسِدُ الْمَعْنَى. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى تَكَلَّفَهُ أَيْ تَطَلَّبَهُ وَحَمَلَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ وَلَوْ شَقَّ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكُوا وَهُوَ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ. وَأَمَّا إِنْكَارُهُ أَنْ يَكُونَ تَغَنَّى بِمَعْنَى اسْتَغْنَى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَمَرْدُودٌ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ فِي حَدِيثِ الْخَيْلِ: وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَعَفُّفًا وَتَغَنِّيًا وَهَذَا مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ بِلَا رَيْبٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ يَطْلُبُ الْغِنَى بِهَا عَنِ النَّاسِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَفُّفًا. وَمِمَّنْ أَنْكَرَ تَفْسِيرَ يَتَغَنَّى بِيَسْتَغْنِي أَيْضًا الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِمَاعٍ، لِأَنَّ الِاسْتِمَاعَ أَمْرٌ خَاصٌّ زَائِدٌ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِهِ، وَأَيْضًا فَالِاكْتِفَاءُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى الْجَمِيعِ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ خَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ. ثُمَّ سَاقَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: يَقُولُونَ إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ فَقَدْ تَغَنَّى.
قُلْتُ: الَّذِي نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ بِمَعْنَى يُسْتَغْنَى أَتْقَنُ لِحَدِيثِهِ، وَقَدْ نَقَلَ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ مِثْلَهُ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ تَفْسِيرَ يَسْتَغْنِي مِنْ جِهَتِهِ وَيَرْفَعُ عَنْ غَيْرِهِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ: ذَكَرْتُ لِأَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ تَفْسِيرَ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ: لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ دَاوُدُ عليه السلام يَتَغَنَّى - يَعْنِي حِينَ يَقْرَأُ - وَيَبْكِي وَيَبْكِي وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ دَاوُدَ كَانَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ بِسَبْعِينَ لَحْنًا، وَيَقْرَأُ قِرَاءَةً يَطْرَبُ مِنْهَا الْمَحْمُومُ. وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُبْكِيَ نَفْسَهُ لَمْ تَبْقَ دَابَّةٌ فِي بَرٍّ وَلَا بَحْرٍ إِلَّا أَنْصَتَتْ لَهُ وَاسْتَمَعَتْ وَبَكَتْ. وَسَيَأْتِي حَدِيثُ: إِنَّ أَبَا مُوسَى أُعْطِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ دَاوُدَ فِي بَابِ حُسْنِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ. وَفِي الْجُمْلَةِ مَا فَسَّرَ بِهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ لَيْسَ بِمَدْفُوعٍ، وَإِنْ كَانَتْ ظَوَاهِرُ الْأَخْبَارِ تُرَجِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ تَحْسِينُ الصَّوْتِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: يَجْهَرُ بِهِ فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَرْفُوعَةً قَامَتِ الْحُجَّةُ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَرْفُوعَةٍ فَالرَّاوِي أَعْرَفُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فَقِيهًا، وَقَدْ جَزَمَ الْحَلِيمِيُّ بِأَنَّهَا مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: سَمِعْتُ فُلَانًا يَتَغَنَّى بِكَذَا. أَيْ يَجْهَرُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ: أَخَذَ بِيَدَيَّ ابْنُ جُرَيْجٍ فَأَوْقَفَنِي عَلَى
أَشْعَبَ فَقَالَ: غَنِّ ابْنَ أَخِي مَا بَلَغَ مِنْ طَمَعِكَ؟ فَذَكَرَ قِصَّةً. فَقَوْلُهُ: غَنِّ أَيْ أَخْبِرْنِي جَهْرًا صَرِيحًا. وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
أُحِبُّ الْمَكَانَ الْقَفْرَ مِنْ أَجْلِ أَنَّنِي بِهِ أَتَغَنَّى بِاسْمِهَا غَيْرَ مُعْجِمٍ
أَيْ أَجْهَرُ وَلَا أُكَنِّي، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرِ التَّأْوِيلَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُحَسِّنُ بِهِ صَوْتَهُ جَاهِرًا بِهِ مُتَرَنِّمًا عَلَى طَرِيقِ التَّحَزُّنِ، مُسْتَغْنِيًا بِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ، طَالِبًا بِهِ غِنَى النَّفْسِ رَاجِيًا بِهِ غِنَى الْيَدِ، وَقَدْ نَظَمْتُ ذَلِكَ فِي بَيْتَيْنِ:
تَغَنَّ بِالْقُرْآنِ حَسِّنْ بِهِ الصَّوْتَ
…
حَزِينًا جَاهِرًا رَنِّمِ
وَاسْتَغْنِ عَنْ كُتْبِ الْأُلَى طَالِبًا
…
غِنَى يَدٍ وَالنَّفْسِ ثُمَّ الْزَمِ
وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِحُسْنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ فِي تَرْجَمَةٍ مُفْرَدَةٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّ النُّفُوسَ تَمِيلُ إِلَى سَمَاعِ الْقِرَاءَةِ بِالتَّرَنُّمِ أَكْثَرَ مِنْ مَيْلِهَا لِمَنْ لَا يَتَرَنَّمُ، لِأَنَّ لِلتَّطْرِيبِ تَأْثِيرًا فِي رِقَّةِ الْقَلْبِ وَإِجْرَاءِ الدَّمْعِ.
وَكَانَ بَيْنَ السَّلَفِ اخْتِلَافٌ فِي جَوَازِ الْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ، أَمَّا تَحْسِينُ الصَّوْتِ وَتَقْدِيمُ حُسْنِ الصَّوْتِ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ، فَحَكَى عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ، عَنْ مَالِكٍ تَحْرِيمَ الْقِرَاءَةِ بِالْأَلْحَانِ، وَحَكَاهُ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَابْنُ حَمْدَانَ الْحَنْبَلِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ، وَعِيَاضٌ، وَالْقُرْطُبِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالْبَنْدَنِيجِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَصَاحِبُ الذَّخِيرَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - الْكَرَاهَةَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ عُقَيْلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الْجَوَازَ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ وَنَقَلَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ الْفُورَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْإِبَانَةِ يَجُوزُ بَلْ يُسْتَحَبُّ، وَمَحَلُّ هَذَا الِاخْتِلَافِ إِذَا لَمْ يَخْتَلَّ شَيْءٌ مِنَ الْحُرُوفِ عَنْ مَخْرَجِهِ، فَلَوْ تَغَيَّرَ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي التِّبْيَانِ أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَلَفْظُهُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَحْسِينِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الْقِرَاءَةِ بِالتَّمْطِيطِ، فَإِنْ خَرَجَ حَتَّى زَادَ حَرْفًا أَوْ أَخْفَاهُ حَرُمَ، قَالَ: وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ عَلَى كَرَاهَتِهِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَا بَأْسَ بِهِ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: لَيْسَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، بَلْ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِالْأَلْحَانِ عَلَى الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ جَازَ وَإِلَّا حَرُمَ.
وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلْحَانِ إِذَا انْتَهَتْ إِلَى إِخْرَاجِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ عَنْ مَخَارِجِهَا حَرُمَ وَكَذَا حَكَى ابْنُ حَمْدَانَ الْحَنْبَلِيُّ فِي الرِّعَايَةِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ، وَالْبَنْدَنِيجِيُّ وَصَاحِبُ الذَّخِيرَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ لَمْ يُفْرِطْ فِي التَّمْطِيطِ الَّذِي يُشَوِّشُ النَّظْمَ اسْتُحِبَّ وَإِلَّا فَلَا. وَأَغْرَبَ الرَّافِعِيُّ فَحَكَى عَنْ أَمَالِي السَّرَخْسِيِّ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ التَّمْطِيطُ مُطْلَقًا، وَحَكَاهُ ابْنُ حَمْدَانَ رِوَايَةً عَنِ الْحَنَابِلَةِ، وَهَذَا شُذُوذٌ لَا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ. وَالَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنَ الْأَدِلَّةِ أَنَّ حُسْنَ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مَطْلُوبٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا فَلْيُحَسِّنْهُ مَا اسْتَطَاعَ كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَ ذَلِكَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَمِنْ جُمْلَةِ تَحْسِينِهِ أَنْ يُرَاعِيَ فِيهِ قَوَانِينَ النَّغَمِ فَإِنَّ الْحَسَنَ الصَّوْتِ يَزْدَادُ حُسْنًا بِذَلِكَ، وَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي حُسْنِهِ، وَغَيْرُ الْحَسَنِ رُبَّمَا انْجَبَرَ بِمُرَاعَاتِهَا مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ شَرْطِ الْأَدَاءِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَ أَهْلِ الْقِرَاآتِ، فَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا لَمْ يَفِ تَحْسِينُ الصَّوْتِ بِقُبْحِ الْأَدَاءِ، وَلَعَلَّ هَذَا مُسْتَنَدُ مَنْ كَرِهَ الْقِرَاءَةَ بِالْأَنْغَامِ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى مَنْ رَاعَى الْأَنْغَامَ أَنْ لَا يُرَاعِيَ الْأَدَاءَ، فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يُرَاعِيهِمَا مَعًا فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْمَطْلُوبِ مِنْ تَحْسِينِ الصَّوْتِ وَيَجْتَنِبُ الْمَمْنُوعَ مِنْ حُرْمَةِ الْأَدَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
20 - بَاب اغْتِبَاطِ صَاحِبِ الْقُرْآنِ
5025 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا حَسَدَ إِلَّا عَلَى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآناء النَّهَارِ.
[الحديث 5025 - طرفه في: 7529]
5026 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: " لَا حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ فَقَالَ لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلَانٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُهْلِكُهُ فِي الْحَقِّ فَقَالَ رَجُلٌ لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلَانٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ".
[الحديث 5026 - طرفاه في: 7233، 7528]
قَوْلُهُ: (بَابُ اغْتِبَاطِ صَاحِبِ الْقُرْآنِ) تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْعِلْمِ بَابُ الِاغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَذَكَرْتُ هُنَاكَ تَفْسِيرَ الْغِبْطَةِ، وَالْفَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَسَدِ، وَأَنَّ الْحَسَدَ فِي الْحَدِيثِ أُطْلِقَ عَلَيْهَا مَجَازًا، وَذَكَرْتُ كَثِيرًا مِنْ مَبَاحِثِ الْمَتْنِ هُنَاكَ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ هُنَا تَرْجَمَةُ الْبَابِ اغْتِبَاطُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ وَهَذَا فِعْلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ فَهُوَ الَّذِي يَغْتَبِطُ وَإِذَا كَانَ يَغْتَبِطُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُسَرُّ وَيَرْتَاحُ بِعَمَلِ نَفْسِهِ، وَهَذَا لَيْسَ مُطَابِقًا. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ بِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمَّا كَانَ دَالًّا عَلَى أَنَّ غَيْرَ صَاحِبِ الْقُرْآنِ يَغْتَبِطُ صَاحِبَ الْقُرْآنِ بِمَا أُعْطِيَهُ مِنَ الْعَمَلِ بِالْقُرْآنِ فَاغْتِبَاطُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ بِعَمَلِ نَفْسِهِ أَوْلَى إِذَا سَمِعَ هَذِهِ الْبِشَارَةَ الْوَارِدَةَ فِي حَدِيثِ الصَّادِقِ.
قَوْلُهُ: (لَا حَسَدَ) أَيْ لَا رُخْصَةَ فِي الْحَسَدِ إِلَّا فِي خَصْلَتَيْنِ، أَوْ لَا يَحْسُنُ الْحَسَدُ إِنْ حَسُنَ، أَوْ أَطْلَقَ الْحَسَدَ مُبَالَغَةً فِي الْحَثِّ عَلَى تَحْصِيلِ الْخَصْلَتَيْنِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَوْ لَمْ يَحْصُلَا إِلَّا بِالطَّرِيقِ الْمَذْمُومِ لَكَانَ مَا فِيهِمَا مِنَ الْفَضْلِ حَامِلًا عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى تَحْصِيلِهِمَا بِهِ فَكَيْفَ وَالطَّرِيقُ الْمَحْمُودُ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُمَا بِهِ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} فَإِنَّ حَقِيقَةَ السَّبْقِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ فِي الْمَطْلُوبِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا عَلَى اثْنَتَيْنِ) فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَاضِي وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ تِلْوَ هَذَا إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ تَقُولُ حَسَدْتُهُ عَلَى كَذَا أَيْ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ لَهُ، وَأَمَّا حَسَدْتُهُ فِي كَذَا فَمَعْنَاهُ حَسَدْتُهُ فِي شَأْنِ كَذَا وَكَأَنَّهَا سَبَبِيَّةٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ) كَذَا فِي النُّسَخِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَفِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ زَنْجُوَيْهِ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِيَامِ بِهِ الْعَمَلُ بِهِ تِلَاوَةً وَطَاعَةً.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ الْوَاسِطِيُّ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ، وَاسْمُ جَدِّهِ عَبْدُ الْمَجِيدِ الْيَشْكُرِيُّ، وَهُوَ ثقة مُتْقِنٌ، عَاشَ بَعْدَ الْبُخَارِيِّ نَحْوَ عِشْرِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: ابْنُ أشْكَابَ وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أشْكَابَ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ، وَبِهَذَا جَزَمَ ابْنُ عَدِيٍّ. وَقِيلَ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ وَهُوَ قَوْلُ
الدَّارَقُطْنِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ. وَسَيَأْتِي فِي النِّكَاحِ رِوَايَةُ الْفَرَبْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: قِيلَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَرْوَزِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَقِيلَ: الْوَاسِطِيُّ.
قَوْلُهُ: (رَوْحٌ) هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ وَقَدْ تَابَعَهُ بِشْرُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: رَفَعَهُ هَؤُلَاءِ وَوَقَفَهُ غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سُلَيْمَانَ) هُوَ الْأَعْمَشُ، (قَالَ: سَمِعْتُ ذَكْوَانَ) هُوَ أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ. قُلْتُ وَلِشُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ. قُلْتُ: وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى مَتْنِ أَبِي كَبْشَةَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ مِنْ سِيَاقِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي زَيْدٍ الْهَرَوِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِالْإِسْنَادَيْنِ مَعًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ مُتَغَايِرَانِ سَنَدًا وَمَتْنًا اجْتَمَعَا لِشُعْبَةَ وَجَرِيرٍ مَعًا عَنِ الْأَعْمَشِ، وَأَشَارَ أَبُو عَوَانَةَ إِلَى أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يُخَرِّجْ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاضِحٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِلَّةٌ قَادِحَةٌ.
قَوْلُهُ: (فَهُوَ يُهْلِكُهُ فِي الْحَقِّ) فِيهِ احْتِرَاسٌ بَلِيغٌ، كَأَنَّهُ لَمَّا أَوْهَمَ الْإِنْفَاقَ فِي التَّبْذِيرِ مِنْ جِهَةِ عُمُومِ الْإِهْلَاكِ قَيَّدَهُ بِالْحَقِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
21 - بَاب خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ
5027 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ، سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ.
قَالَ: وَأَقْرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي إِمْرَةِ عُثْمَانَ حَتَّى كَانَ الْحَجَّاجُ، قَالَ: وَذَاكَ الَّذِي أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذَا.
[الحديث 5027 - طرفه في: 5028]
5028 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ أَفْضَلَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ"
5029 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ فَقَالَتْ إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَا لِي فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ فَقَالَ رَجُلٌ زَوِّجْنِيهَا قَالَ أَعْطِهَا ثَوْبًا قَالَ لَا أَجِدُ قَالَ أَعْطِهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَاعْتَلَّ لَهُ فَقَالَ مَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قَوْلُهُ: (بَابُ خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ) كَذَا تَرْجَمَ بِلَفْظِ الْمَتْنِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى تَرْجِيحِ الرِّوَايَةِ بِالْوَاوِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ) كَذَا يَقُولُ شُعْبَةُ، يُدْخِلُ بَيْنَ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ.
وَخَالَفَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فَقَالَ: عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَلَمْ يَذْكُرْ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ. وَقَدْ أَطْنَبَ الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ الْعَطَّارُ فِي كِتَابِهِ الْهَادِي فِي الْقُرْآنِ فِي تَخْرِيجِ طُرُقِهِ، فَذَكَرَ مِمَّنْ تَابَعَ شُعْبَةَ وَمَنْ تَابِعَ سُفْيَانَ جَمْعًا كَثِيرًا، وَأَخْرَجَهُ
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي أَوَّلِ الشَّرِيعَةِ لَهُ وَأَكْثَرَ مَنْ تَخْرِيجِ طُرُقِهِ أَيْضًا، وَرَجَّحَ الْحُفَّاظُ رِوَايَةَ الثَّوْرِيِّ وَعَدُّوا رِوَايَةَ شُعْبَةَ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ كَأَنَّ رِوَايَةَ سُفْيَانَ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ.
وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَأَخْرَجَ الطَّرِيقَيْنِ فَكَأَنَّهُ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَنَّهُمَا جَمِيعًا مَحْفُوظَانِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ عَلْقَمَةَ سَمِعَهُ أَوَّلًا مِنْ سَعْدٍ ثُمَّ لَقِيَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَحَدَّثَهُ بِهِ، أَوْ سَمِعَهُ مَعَ سَعْدٍ مِنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَثَبَّتَهُ فِيهِ سَعْدٌ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا فِي رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ مِنَ الزِّيَادَةِ الْمَوْقُوفَةِ وَهِيَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَذَلِكَ الَّذِي أَقْعَدَنِي هَذَا الْمَقْعَدَ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ. وَقَدْ شَذَّتْ رِوَايَةٌ عَنِ الثَّوْرِيِّ بِذِكْرِ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ فِيهِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ وَشُعْبَةُ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ بِهِ وَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَنْبَأَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ أَنَّ عَلْقَمَةَ حَدَّثَهُمَا عَنْ سَعْدٍ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ: أَصْحَابُ سُفْيَانَ لَا يَذْكُرُونَ فِيهِ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ اهـ. وَهَكَذَا حَكَمَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ عَلَى يَحْيَى الْقَطَّانِ فِيهِ بِالْوَهْمِ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: جَمَعَ يَحْيَى الْقَطَّانُ بَيْنَ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ، فَالثَّوْرِيُّ لَا يَذْكُرُ فِي إِسْنَادِهِ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ. وَهَذَا مِمَّا عُدَّ فِي خَطَأِ يَحْيَى الْقَطَّانِ عَلَى الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: حَمَلَ يَحْيَى الْقَطَّانُ رِوَايَةَ الثَّوْرِيِّ عَلَى رِوَايَةِ شُعْبَةَ فَسَاقَ الْحَدِيثَ عَنْهُمَا، وَحَمَلَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى فَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِ شُعْبَةَ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ لَفْظَيْهِمَا فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فَقَالَ: قَالَ شُعْبَةُ: خَيْرُكُمْ، وَقَالَ سُفْيَانُ: أَفْضَلُكُمْ.
قُلْتُ: وَهُوَ تَعَقُّبٌ وَاهٍ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَفْصِيلِهِ لِلَفْظِهِمَا فِي الْمَتْنِ أَنْ يَكُونَ فَصَّلَ لَفْظَهُمَا فِي الْإِسْنَادِ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: يُقَالُ: إِنَّ يَحْيَى الْقَطَّانَ لَمْ يُخْطِئْ قَطُّ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ خَلَّادَ بْنَ يَحْيَى تَابَعَ يَحْيَى الْقَطَّانَ، عَنِ الثَّوْرِيِّ عَلَى زِيَادَةِ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ وَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَقَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ، وَقَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ جَمِيعًا عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ: وَكَذَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ الْقَدَّاحُ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ كِلَاهُمَا عَنْ عَلْقَمَةَ بِزِيَادَةِ سَعْدٍ، وَزَادَ فِي إِسْنَادِهِ رَجُلًا آخَرَ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ، وَكُلُّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَهْمٌ، وَالصَّوَابُ عَنِ الثَّوْرِيِّ بِدُونِ ذِكْرِ سَعْدٍ وَعَنْ شُعْبَةَ بِإِثْبَاتِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُثْمَانَ) فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ: خَيْرُكُمْ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَأَقْرَأَهُ وَذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: الصَّحِيحُ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُثْمَانَ. وَفِي رِوَايَةِ خَلَّادِ بْنِ يَحْيَى، عَنِ الثَّوْرِيِّ بِسَنَدِهِ قَالَ: عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عُثْمَانَ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هَذَا وَهْمٌ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ السُّلَمِيُّ أَخَذَهُ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عُثْمَانَ ثُمَّ لَقِيَ عُثْمَانَ فَأَخَذَهُ عَنْهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَكْثَرُ مِنْ أَبَانَ. وَأَبَانُ اخْتُلِفَ فِي سَمَاعِهِ مِنْ أَبِيهِ أَشَدَّ مِمَّا اخْتُلِفَ فِي سَمَاعِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ عُثْمَانَ فَبَعُدَ هَذَا الِاحْتِمَالُ. وَجَاءَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ سَلَّامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ سَمِعْتُ عَلْقَمَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عُثْمَانَ فَذَكَرَهُ وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ سَعِيدُ بْنُ سَلَّامٍ يَعْنِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ قُلْتُ: وَسَعِيدٌ ضَعِيفٌ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: لَمْ يَسْمَعْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ مِنْ عُثْمَانَ وَكَذَا نَقَلَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ شُعْبَةَ ثُمَّ قَالَ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّمْيِيزِ فِي سَمَاعِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ عُثْمَانَ وَنَقَلَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ مِثْلَ مَا قَالَ شُعْبَةُ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ أَنَّ مُسْلِمًا سَكَتَ عَنْ إِخْرَاجِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي صَحِيحِهِ.
قُلْتُ: قَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ التَّصْرِيحُ بِتَحْدِيثِ عُثْمَانَ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ
الرَّحْمَنِ حَدَّثَنِي عُثْمَانُ وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، لَكِنْ ظَهَرَ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ اعْتَمَدَ فِي وَصْلِهِ وَفِي تَرْجِيحِ لِقَاءِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِعُثْمَانَ عَلَى مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ مِنَ الزِّيَادَةِ، وَهِيَ أَنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَقْرَأَ مِنْ زَمَنِ عُثْمَانَ إِلَى زَمَنِ الْحَجَّاجِ، وَأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَإِذَا سَمِعَهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَلَمْ يُوصَفْ بِالتَّدْلِيسِ اقْتَضَى ذَلِكَ سَمَاعَهُ مِمَّنْ عَنْعَنَهُ عَنْهُ وَهُوَ عُثْمَانُ رضي الله عنه وَلَا سِيَّمَا مَعَ مَا اشْتُهِرَ بَيْنَ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى عُثْمَانَ، وَأَسْنَدُوا ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ وَغَيْرِهِ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِلسَّرَخْسِيِّ أَوْ عَلَّمَهُ وَهِيَ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ، وَكَذَا لِأَحْمَدَ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ إِنَّ وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْ شُعْبَةَ يَقُولُونَهُ بِالْوَاوِ، وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ بَهْزٍ وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَهِيَ أَظْهَرُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ الَّتِي بِأَوْ تَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْخَيْرِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِمَنْ فَعَلَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ فَيَلْزَمُ أَنَّ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَلَوْ لَمْ يُعَلِّمْهُ غَيْرَهُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِمَّنْ عَمِلَ بِمَا فِيهِ مَثَلًا وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّمْهُ، وَلَا يُقَالُ يَلْزَمُ عَلَى رِوَايَةِ الْوَاوِ أَيْضًا أَنَّ مَنْ تَعَلَّمَهُ وَعَلَّمَهُ غَيْرَهُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِمَّنْ عَمِلَ بِمَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ وَلَمْ يُعَلِّمْهُ غَيْرَهُ، لِأَنَّا نَقُولُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْخَيْرِيَّةِ مِنْ جِهَةِ حُصُولِ التَّعْلِيمِ بَعْدَ الْعِلْمِ، وَالَّذِي يُعَلِّمُ غَيْرَهُ يَحْصُلُ لَهُ النَّفْعُ الْمُتَعَدِّي بِخِلَافِ مَنْ يَعْمَلُ فَقَطْ، بَلْ مِنْ أَشْرَفِ الْعَمَلِ تَعْلِيمُ الْغَيْرِ، فَمُعَلِّمُ غَيْرِهِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ تَعَلَّمَهُ، وَتَعْلِيمُهُ لِغَيْرِهِ عَمَلٌ وَتَحْصِيلُ نَفْعٍ مُتَعَدٍّ، وَلَا يُقَالُ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى حَوْلَ النَّفْعِ الْمُتَعَدِّي لَاشْتَرَكَ كُلُّ مَنْ عَلَّمَ غَيْرَهُ عِلْمًا مَا فِي ذَلِكَ، لِأَنَّا نَقُولُ الْقُرْآنُ أَشْرَفُ الْعُلُومِ فَيَكُونُ مَنْ تَعَلَّمَهُ وَعَلَّمَهُ لِغَيْرِهِ أَشْرَفُ مِمَّنْ تَعَلَّمَ غَيْرَ الْقُرْآنِ وَإِنْ عَلَّمَهُ فَيَثْبُتُ الْمُدَّعَى.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَامِعَ بَيْنَ تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِهِ مُكَمِّلٌ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ جَامِعٌ بَيْنَ النَّفْعِ الْقَاصِرِ وَالنَّفْعِ الْمُتَعَدِّي وَلِهَذَا كَانَ أَفْضَلَ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ عَنَى سبحانه وتعالى بِقَوْلِهِ:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وَالدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ يَقَعُ بِأُمُورٍ شَتَّى مِنْ جُمْلَتِهَا تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَهُوَ أَشْرَفُ الْجَمِيعِ، وَعَكْسُهُ الْكَافِرُ الْمَانِعُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِئُ أَفْضَلَ مِنَ الْفَقِيهِ قُلْنَا: لَا، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ كَانُوا فُقَهَاءَ النُّفُوسِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ اللِّسَانِ فَكَانُوا يَدْرُونَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ بِالسَّلِيقَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَدْرِيهَا مَنْ بَعْدَهُمْ بِالِاكْتِسَابِ، فَكَانَ الْفِقْهُ لَهُمْ سَجِيَّةً، فَمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ شَأْنِهِمْ شَارَكَهُمْ فِي ذَلِكَ، لَا مَنْ كَانَ قَارِئًا أَوْ مُقْرِئًا مَحْضًا لَا يَفْهَمُ شَيْئًا مِنْ مَعَانِي مَا يَقْرَؤُهُ أَوْ يُقْرِئُهُ. فَإِنْ قِيلَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِئُ أَفْضَلَ مِمَّنْ هُوَ أَعْظَمُ غِنَاءً فِي الْإِسْلَامِ بِالْمُجَاهَدَةِ وَالرِّبَاطِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مَثَلًا، قُلْنَا: حَرْفُ الْمَسْأَلَةِ يَدُورُ عَلَى النَّفْعِ الْمُتَعَدِّي فَمَنْ كَانَ حُصُولُهُ عِنْدَهُ أَكْثَرَ كَانَ أَفْضَلَ، فَلَعَلَّ مِنْ مُضْمَرَةٌ فِي الْخَبَرِ، وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ مُرَاعَاةِ الْإِخْلَاصِ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْخَيْرِيَّةُ وَإِنْ أُطْلِقَتْ لَكِنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِنَاسٍ مَخْصُوصِينَ خُوطِبُوا بِذَلِكَ كَانَ اللَّائِقُ بِحَالِهِمْ ذَلِكَ، أَوِ الْمُرَادُ خَيْرُ الْمُتَعَلِّمِينَ مَنْ يُعَلِّمُ غَيْرَهُ لَا مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوِ الْمُرَادُ مُرَاعَاةُ الْحَيْثِيَّةِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ خَيْرُ الْكَلَامِ، فَمُتَعَلِّمُهُ خَيْرٌ مِنْ مُتَعَلِّمِ غَيْرِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خَيْرِيَّةِ الْقُرْآنِ، وَكَيْفَمَا كَانَ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ عَلَّمَ وَتَعَلَّمَ بِحَيْثُ يَكُونُ قَدْ عَلِمَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ عَيْنًا.
قَوْلُهُ: (قَالَ: وَأَقْرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي إِمْرَةِ عُثْمَانَ حَتَّى كَانَ الْحَجَّاجُ) أَيْ حَتَّى وَلِيَ الْحَجَّاجُ عَلَى الْعِرَاقِ قُلْتُ: بَيْنَ أَوَّلِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَآخِرِ وِلَايَةِ الْحَجَّاجِ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ سَنَةً إِلَّا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَبَيْنَ آخِرِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَأَوَّلِ وِلَايَةِ الْحَجَّاجِ الْعِرَاقَ ثَمَانٍ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ ابْتِدَاءِ إِقْرَاءِ
أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَآخِرِهِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ، وَيُعْرَفُ مِنَ الَّذِي ذَكَرْتُهُ أَقْصَى الْمُدَّةَ وَأَدْنَاهَا، وَالْقَائِلُ وَأَقْرَأُ إِلَخْ هُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ فَإِنَّنِي لَمْ أَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَقَائِلُ وَذَاكَ الَّذِي أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذَا هُوَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ وَأَقْرَأَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: وَهِيَ أَنْسَبُ لِقَوْلِهِ: وَذَاكَ الَّذِي أَقْعَدَنِي إِلَخْ أَيْ أَنَّ إِقْرَاءَهُ إِيَّايَ هُوَ الَّذِي حَمَلَنِي عَلَى أَنْ قَعَدْتُ هَذَا الْمَقْعَدَ الْجَلِيلَ اهـ.
وَالَّذِي فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ وَأَقْرَأَ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَكَأَنَّ الْكِرْمَانِيَّ ظَنَّ أَنَّ قَائِلَ وَذَاكَ الَّذِي أَقْعَدَنِي هُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قَائِلُهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا ظَنَّ لَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ زَمَانِ إِقْرَاءِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِسَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إِنَّمَا سِيقَتْ لِبَيَانِ طُولِ مُدَّتِهِ لِإِقْرَاءِ النَّاسِ الْقُرْآنَ، وَأَيْضًا فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ قَرَأَ عَلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ زَمَنِ عُثْمَانَ، وَسَعْدٌ لَمْ يُدْرِكْ زَمَانَ عُثْمَانَ، فَإِنَّ أَكْبَرَ شَيْخٍ لَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَقَدْ عَاشَ بَعْدَ عُثْمَانَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ يَلْزَمُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ وَذَلِكَ إِلَى صَنِيعِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، أَيْ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَ بِهِ عُثْمَانُ فِي أَفْضَلِيَّةِ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ حَمَلَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنْ قَعَدَ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْقُرْآنَ لِتَحْصِيلِ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ، وَقَدْ وَقَعَ الَّذِي حَمَلْنَا كَلَامَهُ عَلَيْهِ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَحَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ جَمِيعًا عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَذَاكَ الَّذِي أَقْعَدَنِي هَذَا الْمَقْعَدَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ وَقَالَ فِيهِ: مَقْعَدِي هَذَا، قَالَ: وَعَلَّمَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرْآنَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ حَتَّى بَلَغَ الْحَجَّاجَ، وَعِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ أَبِي عَمْرٍو، وَأَبِي
غِيَاثٍ وَأَبِي الْوَلِيدِ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: فَذَاكَ الَّذِي أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذَا، وَكَانَ يُعَلِّمُ الْقُرْآنَ وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْحَدِيثِ كَمَا قَرَّرْتُهُ، وَإِسْنَادُهُ إِلَيْهِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِهِ إِلَى عُثْمَانَ وَقَدْ وَقَعَ رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ أَيْضًا عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِلَفْظِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَهُوَ الَّذِي أَجْلَسَنِي هَذَا الْمَجْلِسَ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ بِمُثَلَّثَةٍ بِوَزْنِ جَعْفَرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهُ بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةٍ، وَهُوَ مِنْ ثِقَاتِ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ طَبَقَةِ الْأَعْمَشِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَآخَرَ فِي الْجَنَائِزِ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَثَالِثَ فِي مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَا.
قَوْلُهُ: (إِنَّ أَفْضَلَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ أَوْ عَلَّمَهُ) كَذَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ بِلَفْظِ أَوْ وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ السَّرِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ خَيْرُكُمْ أَوْ أَفْضَلُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ فَاخْتُلِفَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ أَيْضًا فِي أَنَّ الرِّوَايَةَ بِأَوْ أَوْ بِالْوَاوِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ سُئِلَ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْجِهَادِ وَإِقْرَاءِ الْقُرْآنِ فَرَجَّحَ الثَّانِي وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُقْرِئُ الْقُرْآنَ خَمْسَ آيَاتٍ خَمْسَ آيَاتٍ، وَأَسْنَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ وَذَكَرَ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَنْزِلُ بِهِ كَذَلِكَ، وَهُوَ مُرْسَلٌ جَيِّدٌ، وَشَاهِدُهُ مَا قَدَّمْتُهُ فِي تَفْسِيرِ الْمُدَّثِّرِ وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ اقْرَأْ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَجْهُ إِدْخَالِهِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم زَوَّجَهُ الْمَرْأَةَ لِحُرْمَةِ الْقُرْآنِ؛ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ زَوَّجَهَا لَهُ عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ مَعَ اسْتِيفَاءِ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. وَقَالَ غَيْرُهُ وَجْهُ دُخُولِهِ أَنَّ فَضْلَ الْقُرْآنِ ظَهَرَ عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْعَاجِلِ بِأَنْ قَامَ لَهُ مَقَامَ الْمَالِ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى بُلُوغِ
الْغَرَضِ، وَأَمَّا نَفْعُهُ فِي الْآجِلِ فَظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ وَلِلرَّسُولِ.
قَوْلُهُ: (مَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا) وَوَقَعَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ شَرْحِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
22 - بَاب الْقِرَاءَةِ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ
5030 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ لِأَهَبَ لَكَ نَفْسِي. فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا. فَقَالَ له: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا وَجَدْتُ شَيْئًا. قَالَ: انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي. قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ فَلَهَا نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ شَيْءٌ، فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى طَالَ مَجْلِسُهُ، ثُمَّ قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ. فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: مَاذَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا عَدَّهَا. قَالَ: أَتَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: اذْهَبْ، فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْقِرَاءَةِ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ سَهْلٍ فِي الْوَاهِبَةِ مُطَوَّلًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ لِقَوْلِهِ فِيهِ: أَتَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَدَلَّ عَلَى فَضْلِ الْقِرَاءَةِ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ لِأَنَّهَا أَمْكَنُ فِي التَّوَصُّلِ إِلَى التَّعْلِيمِ وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنْ كَانَ الْبُخَارِيُّ أَرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ أَفْضَلُ مِنْ تِلَاوَتِهِ نَظَرًا مِنَ الْمُصْحَفِ فَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهَا قَضِيَّةُ عَيْنٍ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَعَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التِّلَاوَةَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ أَفْضَلُ فِي حَقِّ مَنْ يُحْسِنُ وَمَنْ لَا يُحْسِنُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ سِيَاقَ هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ لِاسْتِثْبَاتِ أَنَّهُ يَحْفَظُ تِلْكَ السُّوَرَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَعْلِيمِهِ لِزَوْجَتِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا أَفْضَلُ مِنَ التِّلَاوَةِ نَظَرًا وَلَا عَدَمَهَ. قُلْتُ: وَلَا يُرَدُّ عَلَى الْبُخَارِيِّ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ بَابُ الْقِرَاءَةِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ مَشْرُوعِيَّتُهَا أَوِ اسْتِحْبَابُهَا، وَالْحَدِيثُ مُطَابِقٌ لِمَا تَرْجَمَ بِهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِكَوْنِهَا أَفْضَلَ مِنَ الْقِرَاءَةِ نَظَرًا. وَقَدْ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مِنَ الْمُصْحَفِ نَظَرًا أَفْضَلُ مِنَ الْقِرَاءَةِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ.
وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَفَعَهُ قَالَ: فَضْلُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ نَظَرًا عَلَى مَنْ يَقْرَؤُهُ ظَهْرًا كَفَضْلِ الْفَرِيضَةِ عَلَى النَّافِلَةِ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا أَدِيمُوا النَّظَرَ فِي الْمُصْحَفِ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْمُصْحَفِ أَسْلَمُ مِنَ الْغَلَطِ، لَكِنَّ الْقِرَاءَةَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ
أَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ وَأَمْكَنُ لِلْخُشُوعِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ اقْرَأوا الْقُرْآنَ، وَلَا تَغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ الْمَصَاحِفُ الْمُعَلَّقَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ قَلْبًا وَعَى الْقُرْآنَ وَزَعَمَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَتَقْرَأهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ؟ رَدًّا لِمَا تَأَوَّلَهُ الشَّافِعِيُّ فِي إِنْكَاحِ الرَّجُلِ عَلَى أَنَّ صَدَاقَهَا أُجْرَةُ تَعْلِيمِهَا، كَذَا قَالَ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِمَا ذُكِرَ، بَلْ ظَاهِرُ سِيَاقِهِ أَنَّهُ اسْتَثْبَتَهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
23 - بَاب اسْتِذْكَارِ الْقُرْآنِ وَتَعَاهُدِهِ
5031 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ، إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ.
5032 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " بِئْسَ مَا لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ نُسِّيَ وَاسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ"
[الحديث 5023 - طرفه في: 5039]
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ مِثْلَهُ تَابَعَهُ بِشْرٌ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ شُعْبَةَ وَتَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدَةَ عَنْ شَقِيقٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم"
5033 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا"
قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِذْكَارِ الْقُرْآنِ) أَيْ طَلَبِ ذُكْرِهِ بِضَمِ الذَّالِ (وَتَعَاهُدِهِ) أَيْ تَجْدِيدِ الْعَهْدِ بِهِ بِمُلَازَمَةِ تِلَاوَتِهِ.
وَذَكَرَ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:
الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ: (إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ) أَيْ مَعَ الْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ بِالصَّاحِبِ الَّذِي أَلِفَهُ، قَالَ عِيَاضٌ: الْمُؤَالَفَةُ الْمُصَاحَبَةُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ، وَقَوْلِهِ: أَلِفَهُ أَيْ أَلِفَ تِلَاوَتَهُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَأْلَفَهَا نَظَرًا مِنَ الْمُصْحَفِ أَوْ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، فَإِنَّ الَّذِي يُدَاوِمُ عَلَى ذَلِكَ يُذَلُّ لَهُ لِسَانُهُ وَيَسْهُلُ عَلَيْهِ قِرَاءَتُهُ، فَإِذَا هَجَرَهُ ثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ وَشَقَّتْ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ إِنَّمَا يَقْتَضِي الْحَصْرَ عَلَى الرَّاجِحِ، لَكِنَّهُ حَصْرٌ مَخْصُوصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحِفْظِ وَالنِّسْيَانِ بِالتِّلَاوَةِ وَالتَّرْكِ.
قَوْلُهُ: (كَمِثْلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ) أَيْ مَعَ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ. وَالْمُعَقَّلَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ أَيِ الْمَشْدُودَةِ بِالْعِقَالِ وَهُوَ الْحَبْلُ الَّذِي يُشَدُّ فِي رُكْبَةِ الْبَعِيرِ، شَبَّهَ دَرْسَ الْقُرْآنِ وَاسْتِمْرَارَ تِلَاوَتِهِ بِرَبْطِ الْبَعِيرِ الَّذِي يُخْشَى مِنْهُ الشِّرَادُ، فَمَا زَالَ التَّعَاهُدُ مَوْجُودًا فَالْحِفْظُ مَوْجُودٌ، كَمَا أَنَّ الْبَعِيرَ مَا دَامَ مَشْدُودًا بِالْعِقَالِ فَهُوَ مَحْفُوظٌ. وَخَصَّ الْإِبِلَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ الْحَيَوَانِ الْإِنْسِيِّ نُفُورًا، وَفِي تَحْصِيلِهَا بَعْدَ اسْتِمْكَانِ نُفُورِهَا صُعُوبَةٌ.
قَوْلُهُ: (إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا) أَيِ اسْتَمَرَّ إِمْسَاكُهُ لَهَا، وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَإِنْ عَقَلَهَا حَفِظَهَا.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ) أَيِ انْفَلَتَتْ. وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ إِنْ تَعَاهَدَهَا صَاحِبُهَا فَعَقَلَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَ عُقُلَهَا ذَهَبَتْ وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ إِذَا قَامَ
صَاحِبُ الْقُرْآنِ فَقَرَأَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ذَكَرَهُ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ نُسِّيهِ.
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ مِثْلَهُ. تَابَعَهُ بِشْرٌ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ شُعْبَةَ. وَتَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ شَقِيقٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
الْحَدِيثُ الثَّانِي:
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ) بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَرَاءٍ سَاكِنَةٍ مُكَرَّرَتَيْنِ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَأَبُو وَائِلٍ هُوَ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَسَيَأْتِي فِي الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ شَقِيقٍ لَهُ مِنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (بِئْسَ مَا لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِئْسَ هِيَ أُخْتُ نِعْمَ، فَالْأُولَى لِلذَّمِّ وَالْأُخْرَى لِلْمَدْحِ، وَهُمَا فِعْلَانِ غَيْرُ مُتَصَرِّفَيْنِ يَرْفَعَانِ الْفَاعِلَ ظَاهِرًا أَوْ مُضْمَرًا إِلَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ ظَاهِرًا لَمْ يَكُنْ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ إِلَّا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لِلْجِنْسِ أَوْ مُضَافٍ إِلَى مَا هُمَا فِيهِ حَتَّى يَشْتَمِلَ عَلَى الْمَوْصُوفِ بِأَحَدِهِمَا، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ تَعَيُّنًا كَقَوْلِهِ: نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ وَبِئْسَ الرَّجُلُ عَمْرٌو، فَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ مُضْمَرًا فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ اسْمٍ نَكِرَةٍ يُنْصَبُ عَلَى التَّفْسِيرِ لِلضَّمِيرِ كَقَوْلِهِ: نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا التَّفْسِيرُ مَا عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهَ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَنِعِمَّا هِيَ} وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ وَأَنْ يَقُولَ مَخْصُوصٌ بِالذَّمِّ، أَيْ بِئْسَ شَيْئًا كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ.
قَوْلُهُ: (نَسِيتُ) بِفَتْحِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ اتِّفَاقًا.
قَوْلُهُ: (آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَيْتَ وَكَيْتَ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنِ الْجُمَلِ الْكَثِيرَةِ وَالْحَدِيثِ الطَّوِيلِ، وَمِثْلُهُمَا ذَيْتَ وَذَيْتَ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: كَيْتَ لِلْأَفْعَالِ وَذَيْتَ لِلْأَسْمَاءِ. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِثْلُ كَذَا إِلَّا أَنَّهَا خَاصَّةً بِالْمُؤَنَّثِ، وَهَذَا مِنْ مُفْرَدَاتِ الدَّاوُدِيِّ.
قَوْلُهُ: (بَلْ هُوَ نُسِّيَ) بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ الْمَكْسُورَةِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: رَوَاهُ بَعْضُ رُوَاةِ مُسْلِمٍ مُخَفَّفًا. قُلْتُ: وَكَذَا هُوَ فِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِ الشَّرِيعَةِ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ مَضْبُوطَةٍ بِخَطٍّ مَوْثُوقٍ بِهِ عَلَى كُلِّ سِينٍ عَلَامَةُ التَّخْفِيفِ وَقَالَ عِيَاضٌ: كَانَ الْكِنَانِيُّ - يَعْنِي أَبَا الْوَلِيدِ الْوَقْشِيَّ - لَا يُجِيزُ فِي هَذَا غَيْرَ التَّخْفِيفِ. قُلْتُ: وَالتَّثْقِيلُ هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ فِي الْبُخَارِيِّ، وَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ فِي غَيْرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ فِي الْغَرِيبِ بَعْدَ قَوْلِهِ: كَيْتَ وَكَيْتَ: لَيْسَ هُوَ نَسِيَ وَلَكِنَّهُ نُسِّيَ. الْأَوَّلُ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ، وَالثَّانِي بِضَمِّ النُّونِ وَتَثْقِيلِ السِّينِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: التَّثْقِيلُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عُوقِبَ بِوُقُوعِ النِّسْيَانِ عَلَيْهِ لِتَفْرِيطِهِ فِي مُعَاهَدَتِهِ وَاسْتِذْكَارِهِ، قَالَ: وَمَعْنَى التَّخْفِيفِ أَنَّ الرَّجُلَ تَرَكَ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَيْهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} أَيْ تَرَكَهُمْ فِي الْعَذَابِ أَوْ تَرَكَهُمْ مِنَ الرَّحْمَةِ.
وَاخْتُلِفَ فِي مُتَعَلِّقِ الذَّمِّ مِنْ قَوْلِهِ بِئْسَ عَلَى أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ قِيلَ: هُوَ عَلَى نِسْبَةِ الْإِنْسَانِ إِلَى نَفْسِهِ النِّسْيَانَ وَهُوَ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ فَإِذَا نَسَبَهُ إِلَى نَفْسِهِ أَوْهَمَ أَنَّهُ انْفَرَدَ بِفِعْلِهِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ أُنْسِيتُ أَوْ نُسِّيتُ بِالتَّثْقِيلِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ فِيهِمَا، أَيْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَنْسَانِي كَمَا قَالَ:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وَقَالَ: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} وَبِهَذَا الْوَجْهِ جَزَمَ ابْنُ بَطَّالٍ فَقَالَ: أَرَادَ أَنْ يُجْرِيَ عَلَى أَلْسُنِ الْعِبَادِ نِسْبَةَ الْأَفْعَالِ إِلَى خَالِقِهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِقْرَارِ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالِاسْتِسْلَامِ لِقُدْرَتِهِ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ نِسْبَةِ الْأَفْعَالِ إِلَى مُكْتَسِبِهَا مَعَ أَنَّ نِسْبَتَهَا إِلَى مُكْتَسِبِهَا جَائِزٌ بِدَلِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ الْآتِيَ فِي بَابِ نِسْيَانِ الْقُرْآنِ قَالَ: وَقَدْ أَضَافَ مُوسَى عليه السلام النِّسْيَانَ مَرَّةً إِلَى نَفْسِهِ وَمَرَّةً إِلَى الشَّيْطَانِ فَقَالَ: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ} وَلِكُلِّ إِضَافَةٍ مِنْهَا مَعْنًى صَحِيحٌ، فَالْإِضَافَةُ إِلَى اللَّهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا، وَإِلَى النَّفْسِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ الْمُكْتَسِبُ لَهَا، وَإِلَى الشَّيْطَانِ بِمَعْنَى الْوَسْوَسَةِ اهـ. وَوَقَعَ لَهُ ذُهُولٌ فِيمَا نَسَبَهُ لِمُوسَى، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ فَتَاهُ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَسَبَ النِّسْيَانَ إِلَى نَفْسِهِ يَعْنِي كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ نِسْيَانِ الْقُرْآنِ وَكَذَا نَسَبَهُ يُوشَعُ إِلَى نَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ: {نَسِيتُ الْحُوتَ} وَمُوسَى إِلَى نَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ:
{لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} وَقَدْ سِيقَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} مَسَاقَ الْمَدْحِ، قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم:{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مُتَعَلِّقَ الذَّمِّ وَجَنَحَ إِلَى اخْتِيَارِ الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ كَالْأَوَّلِ لَكِنَّ سَبَبَ الذَّمِّ مَا فِيهِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِعَدَمِ الِاعْتِنَاءِ بِالْقُرْآنِ إِذْ لَا يَقَعُ النِّسْيَانُ إِلَّا بِتَرْكِ التَّعَاهُدِ وَكَثْرَةِ الْغَفْلَةِ، فَلَوْ تَعَاهَدَهُ بِتِلَاوَتِهِ وَالْقِيَامِ بِهِ فِي الصَّلَاةِ لَدَامَ حِفْظُهُ وَتَذَكُّرُهُ، فَإِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ نَسِيتُ الْآيَةَ الْفُلَانِيَّةَ فَكَأَنَّهُ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالتَّفْرِيطِ فَيَكُونُ مُتَعَلِّقُ الذَّمِّ تَرْكَ الِاسْتِذْكَارِ وَالتَّعَاهُدِ لِأَنَّهُ الَّذِي يُورِثُ النِّسْيَانَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَرِهَ لَهُ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ بِمَعْنَى تَرَكْتُ لَا بِمَعْنَى السَّهْوِ الْعَارِضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ وَطَائِفَةٍ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ نَسِيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَقُلْ أَحَدٌ عَنِّي إِنِّي نَسِيتُ آيَةَ كَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي نَسَّانِي ذَلِكَ لِحِكْمَةِ نَسْخِهِ وَرَفْعِ تِلَاوَتِهِ، وَلَيْسَ لِي فِي ذَلِكَ صُنْعٌ بَلِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُنْسِينِي لِمَا تُنْسَخُ تِلَاوَتُهُ؛ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَنْسِيِّ مَا يُنْسَخُ تِلَاوَتُهُ فَيُنْسِي اللَّهُ نَبِيَّهُ مَا يُرِيدُ نَسْخَ تِلَاوَتِهِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا بِزَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ مِنْ ضُرُوبِ النَّسْخِ نِسْيَانُ الشَّيْءِ الَّذِي يَنْزِلُ ثُمَّ يُنْسَخُ مِنْهُ بَعْدَ نُزُولِهِ الشَّيْءُ فَيَذْهَبُ رَسْمُهُ وَتُرْفَعُ تِلَاوَتُهُ وَيَسْقُطُ حِفْظُهُ عَنْ حَمَلَتِهِ، فَيَقُولُ الْقَائِلُ: نَسِيتُ آيَةَ كَذَا فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ عَلَى مُحْكَمِ الْقُرْآنِ الضَّيَاعُ، وَأَشَارَ لَهُمْ إِلَى أَنَّ الَّذِي يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِإِذْنِ اللَّهِ لِمَا رَآهُ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ النِّسْيَانَ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الذِّكْرِ إِضَافَتُهُ إِلَى صَاحِبِهِ مَجَازٌ لِأَنَّهُ عَارِضٌ لَهُ لَا عَنْ قَصْدٍ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَوْ قَصَدَ نِسْيَانَ الشَّيْءِ لَكَانَ ذَاكِرًا لَهُ فِي حَالِ قَصْدِهِ، فَهُوَ كَمَا قَالَ: مَا مَاتَ فُلَانٌ وَلَكِنْ أُمِيتَ. قُلْتُ: وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
وَأَرْجَحُ الْأَوْجُهِ الْوَجْهُ الثَّانِي، وَيُؤَيِّدُهُ عَطْفُ الْأَمْرِ بِاسْتِذْكَارِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: أَوَّلى مَا يُتَأَوَّلُ عَلَيْهِ ذَمُّ الْحَالِ لَا ذَمُّ الْقَوْلِ، أَيْ بِئْسَ الْحَالُ حَالُ مَنْ حَفِظَهُ ثُمَّ غَفَلَ عَنْهُ حَتَّى نَسِيَهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْكَرَاهَةُ فِيهِ لِلتَّنْزِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَاسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ) أَيْ وَاظِبُوا عَلَى تِلَاوَتِهِ وَاطْلُبُوا مِنْ أَنْفُسِكُمُ الْمُذَاكَرَةَ بِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ عَطْفٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ: بِئْسَ مَا لِأَحَدِكُمْ أَيْ لَا تُقَصِّرُوا فِي مُعَاهَدَتِهِ وَاسْتَذْكِرُوهُ، وَزَادَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ وَحْشِيٌّ. وَكَذَا أَخْرَجَهَا مِنْ طَرِيقِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ الثَّقِيلَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ خَفِيفَةٌ أَيْ تَفَلُّتًا وَتَخَلُّصًا، تَقُولُ تَفَصَّيْتُ كَذَا أَيْ: أَحَطْتُ بِتَفَاصِيلِهِ. وَالِاسْمُ الْفَصَّةُ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ بِلَفْظِ: تَفَلُّتًا وَكَذَا وَقَعَتْ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى ثَالِثَ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَنُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، لِأَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ تَشْبِيهُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ وَفِي هَذَا أَنَّ هَذَا أَبْلَغُ فِي النُّفُورِ مِنَ الْإِبِلِ، وَلِذَا أَفْصَحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الثَّالِثِ حَيْثُ قَالَ: لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِبِلِ تَطَلُّبَ التَّفَلُّتِ مَا أَمْكَنَهَا فَمَتَى لَمْ يَتَعَاهَدْهَا بِرِبَاطِهَا تَفَلَّتَتْ، فَكَذَلِكَ حَافِظُ الْقُرْآنِ إِنْ لَمْ يَتَعَاهَدْهُ تَفَلَّتَ بَلْ هُوَ أَشَدُّ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا الْحَدِيثُ يُوَافِقُ الْآيَتَيْنِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا} وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} فَمَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِالْمُحَافَظَةِ وَالتَّعَاهُدِ يُسِّرَ لَهُ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ تَفَلَّتَ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ) هُوَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَجَرِيرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَمَنْصُورٌ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَهَذِهِ الطَّرِيقُ عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ،
وَثَبَتَتْ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَقَوْلُهُ مِثْلَهُ الضَّمِيرُ لِلْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ سِيَاقَ جَرِيرٍ مُسَاوٍ لِسِيَاقِ شُعْبَةَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ مَقْرُونًا بِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَزُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ ثَلَاثَتِهِمْ عَنْ جَرِيرٍ وَلَفْظُهُ مُسَاوٍ لِلَفْظِ شُعْبَةَ الْمَذْكُورِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: اسْتَذْكِرُوا بِغَيْرِ وَاوٍ، وَقَالَ: فَلَهُوَ أَشَدُّ بَدَلَ قَوْلِهِ فَإِنَّهُ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ مِنَ النَّعَمِ بِعُقُلِهَا وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: مِنْ عُقُلِهِ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ ثَابِتَةٌ عِنْدَهُ فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ غُنْدَرٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: بِئْسَمَا لِأَحَدِكُمْ - أَوْ لِأَحَدِهِمْ - أَنْ يَقُولَ: إِنِّي نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بَلْ هُوَ نُسِّيَ، وَيَقُولُ: اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ إِلَخْ وَكَذَا ثَبَتَتْ عِنْدَهُ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ بِشْرٌ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ شُعْبَةَ) يُرِيدُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ تَابَعَ مُحَمَّدَ بْنَ عَرْعَرَةَ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ شُعْبَةَ، وَبِشْرٌ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، قَدْ أَخْرَجَ عَنْهُ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَنِسْبَةُ الْمُتَابَعَةِ إِلَيْهِ مَجَازِيَّةٌ، وَقَدْ يُوهِمُ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ حِبَّانَ بْنِ مُوسَى، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَيُوهِمُ أَيْضًا أَنَّ ابْنَ عَرْعَرَةَ، وَابْنَ الْمُبَارَكِ انْفَرَدَا بِذَلِكَ عَنْ شُعْبَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ رِوَايَةِ غُنْدَرٍ وَقَدْ أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ.
قَوْلُهُ: (وَتَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ شَقِيقٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ) أَمَّا عَبْدَةُ فَهُوَ بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ ابْنُ أَبِي لُبَابَةَ بِضَمِّ اللَّامِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ مُخَفَّفًا، وَشَقِيقٌ هُوَ أَبُو وَائِلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَهَذِهِ الْمُتَابَعَةُ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهِ بَلْ هُوَ نُسِّيَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ، عَنْ عَبْدَةَ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ بِإِيرَادِ هَذِهِ الْمُتَابَعَةِ دَفْعَ تَعْلِيلِ مَنْ أَعَلَّ الْخَبَرَ بِرِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَأَبِي الْأَحْوَصِ لَهُ عَنْ مَنْصُورٍ مَوْقُوفَةً عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: رَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مَنْصُورٍ وَعَاصِمٍ الْحَدِيثَيْنِ مَعًا مَوْقُوفَيْنِ، وَكَذَا رَوَاهُمَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ مَنْصُورٍ. وَأَمَّا ابْنُ عُيَيْنَةَ فَأَسْنَدَ الْأَوَّلَ وَوَقَفَ الثَّانِي، قَالَ: وَرَفَعَهُمَا جَمِيعًا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ. قُلْتُ: وَرِوَايَةُ عُبَيْدَةَ أَخْرَجَهَا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ.
وَرِوَايَةُ سُفْيَانَ سَتَأْتِي عِنْدَ الْمُصَنِّفِ قَرِيبًا مَرْفُوعًا لَكِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا الْحَدِيثَيْنِ مَعًا، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ تَصْرِيحُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِقَوْلِهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ يُقَوِّي رِوَايَةَ مَنْ رَفَعَهُ عَنْ مَنْصُورٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الحديث الثالث:
قَوْلُهُ: (عَنْ بُرَيْدٍ) بِالْمُوَحَّدَةِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، وَشَيْخُهُ أَبُو بُرْدَةَ هُوَ جَدُّهُ الْمَذْكُورُ، وَأَبُو مُوسَى هُوَ الْأَشْعَرِيُّ.
قَوْلُهُ: (فِي عُقُلِهَا) بِضَمَّتَيْنِ وَيَجُوزُ سُكُونُ الْقَافِ جَمْعُ عِقَالٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهُ وَهُوَ الْحَبْلُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ عُقُلِهَا وَذَكَرَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ عُلُلِهَا بِلَامَيْنِ؛ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، بَلْ هِيَ تَصْحِيفٌ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِعُقُلِهَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَنْ رَوَاهُ مِنْ عُقُلِهَا فَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ التَّعَدِّي مِنْ لَفْظِ التَّفَلُّتِ، وَأَمَّا مَنْ رَوَاهُ بِالْبَاءِ أَوْ بِالْفَاءِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مِنْ أَوْ لِلْمُصَاحَبَةِ أَوِ الظَّرْفِيَّةِ، وَالْحَاصِلُ تَشْبِيهُ مَنْ يَتَفَلَّتُ مِنْهُ الْقُرْآنُ بِالنَّاقَةِ الَّتِي تَفَلَّتَتْ مِنْ عِقَالِهَا وَبَقِيَتْ مُتَعَلِّقَةً بِهِ، كَذَا قَالَ، وَالتَّحْرِيرُ أَنَّ التَّشْبِيهَ وَقَعَ بَيْنَ
ثَلَاثَةٍ بِثَلَاثَةٍ: فَحَامِلُ الْقُرْآنِ شُبِّهَ بِصَاحِبِ النَّاقَةِ، وَالْقُرْآنُ بِالنَّاقَةِ، وَالْحِفْظُ بِالرَّبْطِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَيْسَ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَالنَّاقَةِ مُنَاسَبَةٌ لِأَنَّهُ قَدِيمٌ وَهِيَ حَادِثَةٌ، لَكِنْ وَقَعَ التَّشْبِيهُ فِي الْمَعْنَى. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْحَضُّ عَلَى مُحَافَظَةِ الْقُرْآنِ بِدَوَامِ دِرَاسَتِهِ وَتَكْرَارِ تِلَاوَتِهِ، وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِإِيضَاحِ الْمَقَاصِدِ، وَفِي الْأَخِيرِ الْقَسَمُ عِنْدَ الْخَبَرِ الْمَقْطُوعِ بِصِدْقِهِ مُبَالَغَةً فِي تَثْبِيتِهِ فِي صُدُورِ سَامِعِيهِ وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ حُجَّةً لِمَنْ قَالَ فِيمَنِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ بِمَالٍ فَأَنْكَرَ وَحَلَفَ ثُمَّ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ فَقَالَ: كُنْتُ نَسِيتُ، أَوِ ادَّعَى بَيِّنَةً أَوْ إِبْرَاءً، أَوِ الْتَمَسَ يَمِينَ الْمُدَّعِي أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لَهُ وَيُعْذَرُ فِي ذَلِكَ، كَذَا قَالَ.
24 - باب الْقِرَاءَةِ عَلَى الدَّابَّةِ
5034 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِيَاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَى رَاحِلَتِهِ سُورَةَ الْفَتْحِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْقِرَاءَةِ عَلَى الدَّابَّةِ) أَيْ لِرَاكِبِهَا، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ، وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَتَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْحَمَّامِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الدَّابَّةِ سُنَّةً مَوْجُودَةً، وَأَصْلُ هَذِهِ السُّنَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} الْآيَةَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَتْحِ، وَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ.
25 - بَاب تَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ الْقُرْآنَ
5035 -
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ الْمُفَصَّلَ هُوَ الْمُحْكَمُ. قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ وَقَدْ قَرَأْتُ الْمُحْكَمَ.
[الحديث 5035 - طرفه في: 5036]
5036 -
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: جَمَعْتُ الْمُحْكَمَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا الْمُحْكَمُ؟ قَالَ: الْمُفَصَّلُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ تَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ الْقُرْآنَ) كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَتْ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَأَسْنَدَهُ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ عَنْهُمَا، وَلَفْظُ إِبْرَاهِيمَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُعَلِّمُوا الْغُلَامَ الْقُرْآنَ حَتَّى يَعْقِلَ وَكَلَامُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَرَاهَةَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ حُصُولِ الْمَلَالِ لَهُ، وَلَفْظُهُ عِنْدَ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا كَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَكُونَ يَقْرَأُ الصَّبِيُّ بَعْدَ حِينٍ وَأَخْرَجَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ قَدَّمَ غُلَامًا صَغِيرًا، فَعَابُوا عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا قَدَّمْتُهُ، وَلَكِنْ قَدَّمَهُ الْقُرْآنُ. وَحُجَّةُ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَدْعَى إِلَى ثُبُوتِهِ وَرُسُوخِهِ عِنْدَهُ، كَمَا يُقَالُ: التَّعَلُّمُ فِي الصِّغَرِ كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ. وَكَلَامُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُتْرَكَ الصَّبِيُّ أَوَّلًا مُرَفَّهًا ثُمَّ
يُؤْخَذُ بِالْجَدِّ عَلَى التَّدْرِيجِ، وَالْحَقُّ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِالْأَشْخَاصِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ الْمُفَصَّلَ هُوَ الْمُحْكَمُ، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ وَقَدْ قَرَأْتُ الْمُحْكَمَ) كَذَا فِيهِ تَفْسِيرُ الْمُفَصَّلِ بِالْمُحْكَمِ مِنْ كَلَامِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَقُلْتُ لَهُ وَمَا الْمُحْكَمُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَفَاعِلُ قُلْتُ هُوَ أَبُو بِشْرٍ بِخِلَافِ مَا يَتَبَادَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَفَاعِلَ قُلْتُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا سَأَلَ شَيْخَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِالْمُحْكَمِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مَنْسُوخٌ، وَيُطْلَقُ الْمُحْكَمُ عَلَى ضِدِّ الْمُتَشَابِهِ، وَهُوَ اصْطِلَاحُ أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْمُرَادُ بِالْمُفَصَّلِ السُّوَرُ الَّتِي كَثُرَتْ فُصُولُهَا وَهِيَ مِنَ الْحُجُرَاتِ إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ فِي التَّرْجَمَةِ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَلُونِي عَنِ التَّفْسِيرِ فَإِنِّي حَفِظْتُ الْقُرْآنَ وَأَنَا صَغِيرٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعِيدٍ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ عِيَاضٌ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ بِمَا تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ نَاهَزَ الِاحْتِلَامَ، وَسَيَأْتِي فِي الِاسْتِئْذَانِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَاتَ وَأَنَا خَتِينٌ وَكَانُوا لَا يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حَتَّى يُدْرِكَ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ابْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَسَبَقَ إِلَى اسْتِشْكَالِ ذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - يَعْنِي الَّذِي مَضَى فِي الصَّلَاةِ - يُخَالِفُ هَذَا. وَبَالَغَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: حَدِيثُ أَبِي بِشْرٍ - يَعْنِي الَّذِي فِي هَذَا الْبَابِ - وَهَمٌ، وَأَجَابَ عِيَاضٌ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَأَنَا ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ رَاجِعٌ إِلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ لَا إِلَى وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ جَمَعْتُ الْمُحْكَمَ وَأَنَا ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ فَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَقَدْ قَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ: الصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ لَهُ عِنْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً قَدِ اسْتَكْمَلَهَا. وَنَحْوُهُ لِأَبِي عُبَيْدٍ. وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَبِهِ جَزَمَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ ثُمَّ حَكَى أَنَّهُ قِيلَ سِتَّ عَشْرَةَ وَحَكَى قَوْلَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَأَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَرَأْتُ الْمُحْكَمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا ابْنُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ فَهَذِهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ، وَلَوْ وَرَدَ إِحْدَى عَشْرَةَ لَكَانَتْ سَبْعَةً لِأَنَّهَا مِنْ عَشْرٍ إِلَى سِتِّ عَشْرَةَ. قُلْتُ: وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ النَّسَبِ أَنَّ وِلَادَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ وَبَنُو هَاشِمٍ فِي الشِّعْبِ، وَذَلِكَ قَبْلَ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ. وَنَحْوُهُ لِأَبِي عُبَيْدٍ.
وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ مُخْتَلِفِ الرِّوَايَاتِ إِلَّا سِتَّ عَشْرَةَ وَثِنْتَيْ عَشْرَةَ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَمْ يَثْبُتْ سَنَدُهُ، وَالْأَشْهَرُ بِأَنْ يَكُونَ نَاهَزَ الِاحْتِلَامَ لَمَّا قَارَبَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ ثُمَّ بَلَغَ لَمَّا اسْتَكْمَلَهَا وَدَخَلَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا؛ فَإِطْلَاقُ خَمْسَ عَشْرَةَ بِالنَّظَرِ إِلَى جَبْرِ الْكَسْرَيْنِ، وَإِطْلَاقُ الْعَشْرِ وَالثَّلَاثَ عَشْرَةَ بِالنَّظَرِ إِلَى إِلْغَاءِ الْكَسْرِ، وَإِطْلَاقُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ بِجَبْرِ أَحَدِهِمَا، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي بَابِ الْخِتَانِ بَعْدَ الْكِبَرِ مِنْ كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ آخِرُ جُزْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ ذَكَرْتُهَا فِي بَابِ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْمَغْرِبِ وَذَكَرْتُ قَوْلًا شَاذًّا أَنَّهُ جَمِيعُ الْقُرْآنِ.
26 - بَاب نِسْيَانِ الْقُرْآنِ وَهَلْ يَقُولُ: نَسِيتُ آيَةَ كَذَا وَكَذَا؟
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ}
5037 -
حَدَّثَنَا رَبِيعُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:
سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً مِنْ سُورَةِ كَذَا.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنْ هِشَامٍ وَقَالَ: أَسْقَطْتُهُنَّ مِنْ سُورَةِ كَذَا.
تَابَعَهُ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ وَعَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ.
5038 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَقْرَأُ فِي سُورَةٍ بِاللَّيْلِ، فَقَالَ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي آية كَذَا وَكَذَا كُنْتُ أُنْسِيتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا.
5039 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بِئْسَ مَا لِأَحَدِهِمْ يَقُولُ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ نِسْيَانِ الْقُرْآنِ، وَهَلْ يَقُولُ نَسِيَتُ آيَةَ كَذَا وَكَذَا)؟ كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ قَوْلِ نَسِيتُ آيَةَ كَذَا وَكَذَا لَيْسَ لِلزَّجْرِ عَنْ هَذَا اللَّفْظِ، بَلْ لِلزَّجْرِ عَنْ تَعَاطِي أَسْبَابِ النِّسْيَانِ الْمُقْتَضِيَةِ لِقَوْلِ هَذَا اللَّفْظِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْزِلَ الْمَنْعُ وَالْإِبَاحَةُ عَلَى حَالَتَيْنِ: فَمَنْ نَشَأَ نِسْيَانُهُ عَنِ اشْتِغَالِهِ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ كَالْجِهَادِ لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَيْهِ قَوْلُ ذَلِكَ لِأَنَّ النِّسْيَانَ لَمْ يَنْشَأْ عَنْ إِهْمَالٍ دِينِيٍّ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسْبَةِ النِّسْيَانِ إِلَى نَفْسِهِ. وَمَنْ نَشَأَ نِسْيَانُهُ عَنِ اشْتِغَالِهِ بِأَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ - وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مَحْظُورًا - امْتَنَعَ عَلَيْهِ لِتَعَاطِيهِ أَسْبَابَ النِّسْيَانِ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} هُوَ مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى اخْتِيَارِ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَنَّ لَا فِي قَوْلِهِ: {فَلا تَنْسَى} نَافِيَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَا يَنْسَى مَا أَقْرَأَهُ إِيَّاهُ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ لَا نَاهِيَةٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْإِشْبَاعُ فِي السِّينِ لِتَنَاسُبِ رُءُوسِ الْآيِ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ. وَاخْتُلِفَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ لِلتَّبَرُّكِ وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ اسْتُثْنِيَ، وَعَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ:{إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} أَيْ قَضَى أَنْ تُرْفَعَ تِلَاوَتُهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِلَّا مَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُنْسِيَكَهُ لِتَسُنَّ، وَقِيلَ: لِمَا جُبِلْتَ عَلَيْهِ مِنَ الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ لَكِنْ سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَلَا تَنْسَى أَيْ لَا تَتْرُكِ الْعَمَلَ بِهِ إِلَّا مَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَنْسَخَهُ فَتَتْرُكَ الْعَمَلَ بِهِ.
قَوْلُهُ: (سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا) أَيْ صَوْتَ رَجُلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ اسْمِهِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ.
قَوْلُهُ: (لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً مِنْ سُورَةِ كَذَا) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَغْرَبَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ إِحْدَى وَعِشْرُونَ آيَةً، لِأَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ فِيمَنْ أَقَرَّ أَنَّ عَلَيْهِ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: يَكُونُ مُقِرًّا بِدِرْهَمَيْنِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. قَالَ: فَإِنْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ كَذَا دِرْهَمًا كَانَ مُقِرًّا بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ.
قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ (حَدَّثَنَا عِيسَى) هُوَ ابْنُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ هِشَامٍ وَقَالَ: أَسْقَطْتُهُنَّ) يَعْنِي عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ بِالْمَتْنِ الْمَذْكُورِ، وَزَادَ فِيهِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَهِيَ: أَسْقَطْتُهُنَّ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الشَّهَادَاتِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ فَقَالَ رحمه الله: لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهُنَّ مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، وَعَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ تَابَعَهُ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عَبْدَةَ وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنَّ عَبْدَةَ رَفِيقُ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ لَا شَيْخُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ
الْمُصَنِّفُ طَرِيقَ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا بِلَفْظِ أَسْقَطْتُهَا وَأَخْرَجَ طَرِيقَ عَبْدَةَ وَهُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ فِي الدَّعَوَاتِ وَلَفْظُهُ مِثْلُ لَفْظِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ سَوَاءً.
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ: (كُنْتُ أُنْسِيتُهَا) هِيَ مُفَسِّرَةٌ لِقَوْلِهِ: أَسْقَطْتُهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَسْقَطْتُهَا نَسِيَانًا لَا عَمْدًا، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ كُنْتُ نَسِيتُهَا بِفَتْحِ النُّونِ لَيْسَ قَبْلَهَا هَمْزَةٌ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: النِّسْيَانُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ يَكُونُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نِسْيَانُهُ الَّذِي يَتَذَكَّرُهُ عَنْ قُرْبٍ، وَذَلِكَ قَائِمٌ بِالطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي السَّهْوِ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَرْفَعَهُ اللَّهُ عَنْ قَلْبِهِ عَلَى إِرَادَةِ نَسْخِ تِلَاوَتِهِ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} قَالَ: فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَعَارِضٌ سَرِيعُ الزَّوَالِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وَأَمَّا الثَّانِي فَدَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنْ غَيْرِ هَمْزَةٍ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَبَيَانُ مَنْ قَرَأَ بِهَا فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَجَازَ النِّسْيَانَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا لَيْسَ طَرِيقُهُ الْبَلَاغَ مُطْلَقًا، وَكَذَا فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ لَكِنْ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بَعْدَ مَا يَقَعُ مِنْهُ تَبْلِيغُهُ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ عَلَى نِسْيَانِهِ بَلْ يَحْصُلُ لَهُ تَذَكُّرُهُ إِمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِغَيْرِهِ.
وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْفَوْرُ؟ قَوْلَانِ، فَأَمَّا قَبْلَ تَبْلِيغِهِ فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ فِيهِ النِّسْيَانُ أَصْلًا. وَزَعَمَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ وَبَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْهُ نِسْيَانٌ أَصْلًا وَإِنَّمَا يَقَعُ مِنْهُ صُورَتُهُ لِيَسُنَّ، قَالَ عِيَاضٌ: لَمْ يَقُلْ بِهِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَحَدٌ إِلَّا أَبَا الْمُظَفَّرِ الْأسْفَرَايِنِيَّ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا جَوَازُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ فِي اللَّيْلِ وَفِي الْمَسْجِدِ وَالدُّعَاءِ لِمَنْ حَصَلَ لَهُ مِنْ جِهَتِهِ خَيْرٌ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ الْمَحْصُولَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي نِسْيَانِ الْقُرْآنِ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ مَوْقُوفًا قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ إِلَّا بِذَنْبٍ أَحْدَثَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وَنِسْيَانُ الْقُرْآنِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا عُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أُوتِيهَا رَجُلٌ ثُمَّ نُسِّيهَا فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُرْسَلٍ نَحْوَهُ وَلَفْظُهُ أَعْظَمُ مِنْ حَامِلِ الْقُرْآنِ وَتَارِكِهِ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ مَوْقُوفًا كُنَّا نَعُدُّ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الرَّجُلُ الْقُرْآنَ ثُمَّ يَنَامُ عَنْهُ حَتَّى يَنْسَاهُ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ في الَّذِي يَنْسَى الْقُرْآنَ كَانُوا يَكْرَهُونَهُ وَيَقُولُونَ فِيهِ قَوْلًا شَدِيدًا، وَلِأَبِي دَاوُدَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ أَجْذَمُ وَفِي إِسْنَادِهِ أَيْضًا مَقَالٌ، وَقَدْ قَالَ بِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَبُو الْمَكَارِمِ، وَالرُّويَانِيُّ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ التِّلَاوَةِ يَتَسَبَّبُ عَنْهُ نِسْيَانُ الْقُرْآنِ، وَنِسْيَانُهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ وَالتَّهَاوُنِ بِأَمْرِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ أَوْ بَعْضَهُ فَقَدْ عَلَتْ رُتْبَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْهُ، فَإِذَا أَخَلَّ بِهَذِهِ الرُّتْبَةِ الدِّينِيَّةِ حَتَّى تَزَحْزَحَ عَنْهَا نَاسَبَ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ تَرْكَ مُعَاهَدَةِ الْقُرْآنِ يُفْضِي إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْجَهْلِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الْجَهْلِ بَعْدَ الْعِلْمِ شَدِيدٌ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَمُرَّ عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا لَا يَقْرَأُ فِيهَا الْقُرْآنَ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ: بِئْسَ مَا لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا. وَسُفْيَانُ فِي السَّنَدِ هُوَ الثَّوْرِيُّ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى أَجْذَمَ فَقِيلَ: مَقْطُوعُ الْيَدِ، وَقِيلَ: مَقْطُوعُ الْحُجَّةِ، وَقِيلَ: مَقْطُوعُ السَّبَبِ مِنَ الْخَيْرِ، وَقِيلَ: خَالِيَ الْيَدِ مِنَ الْخَيْرِ، وَهِيَ مُتَقَارِبَةٌ. وَقِيلَ: يُحْشَرُ مَجْذُومًا حَقِيقَةً. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ زَائِدَةَ بْنِ قُدَامَةَ عِنْدَ
عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ أَتَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ مَجْذُومٌ وَفِيهِ جَوَازُ قَوْلِ الْمَرْءِ أَسْقَطْتُ آيَةَ كَذَا مِنْ سُورَةِ كَذَا إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: لَا تَقُلْ أَسْقَطْتُ كَذَا، بَلْ قُلْ أَغْفَلْتُ. وَهُوَ أَدَبٌ حَسَنٌ وَلَيْسَ وَاجِبًا.
27 - بَاب مَنْ لَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يَقُولَ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَسُورَةُ كَذَا وَكَذَا
5040 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، مَنْ قَرَأَ بِهِمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ.
5041 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ، أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَؤُهَا عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ، فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَبْتُهُ فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ. قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ لَهُ: كَذَبْتَ، فَوَاللَّهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُوَ أَقْرَأَنِي هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ. فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقُودُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، وَإِنَّكَ أَقْرَأْتَنِي سُورَةَ الْفُرْقَانِ. فَقَالَ: يَا هِشَامُ، اقْرَأْهَا، فَقَرَأَهَا الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَكَذَا أُنْزِلَتْ. ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ يَا عُمَرُ، فَقَرَأْتُهَا الَّتِي أَقْرَأَنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَكَذَا أُنْزِلَتْ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ.
5042 -
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ آدَمَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَارِئًا يَقْرَأُ مِنْ اللَّيْلِ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يَقُولَ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَسُورَةُ كَذَا وَكَذَا) أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ: لَا يُقَالُ إِلَّا السُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ سَمِعَ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: السُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا، وَأَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ عِيَاضٌ: حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ حُجَّةٌ فِي جَوَازِ قَوْلِ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَنَحْوِهَا، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا فَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ وَقَالَ: تَقُولُ: السُّورَةُ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الرَّمْيِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ أَنْكَرَ قَوْلَ الْحَجَّاجِ لَا تَقُولُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَأَوْرَدَ حَدِيثَ أَبِي مَسْعُودٍ، وَأَقْوَى مِنْ هَذَا فِي الْحُجَّةِ مَا أَوْرَدَهُ
الْمُصَنِّفُ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَاءَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ: يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ - إِلَى أَنْ قَالَ -: وَسُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ، وَكَذَلِكَ الْبَاقِي وَلَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يُكْرَهُ ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاهِيرِ، وَالْأَحَادِيثُ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَكَذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ. قُلْتُ: وَقَدْ جَاءَ فِيمَا يُوَافِقُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَعْضُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: لَا تَقُولُوا: سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَلَا سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ وَلَا سُورَةُ النِّسَاءِ وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ أَخْرَجَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ قَانِعٍ فِي فَوَائِدِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَفِي سَنَدِهِ عُبَيْسُ بْنُ مَيْمُونٍ الْعَطَّارُ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَوْرَدَه ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَنَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ حَدِيثُ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: ضَعُوهَا فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ أَحْوَطُ، وَلَكِنِ اسْتَقَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْجَوَازِ فِي الْمَصَاحِفِ وَالتَّفَاسِيرِ، قُلْتُ: وَقَدْ تَمَسَّكَ بِالِاحْتِيَاطِ الْمَذْكُورِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَمِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ الْكَلْبِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ مِنْ حُرْمَةِ الْقُرْآنِ أَنْ لَا يُقَالَ: سُورَةُ كَذَا، كَقَوْلِكَ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَسُورَةُ النَّحْلِ وَسُورَةُ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: السُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا.
وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي مَسْعُودٍ يُعَارِضُهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا مُعَارَضَةَ مَعَ إِمْكَانٍ، فَيَكُونُ حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ وَمَنْ وَافَقَهُ دَالًّا عَلَى الْجَوَازِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ إِنْ ثَبَتَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ تَشْهَدُ لِمَا تَرْجَمَ لَهُ:
أَحَدُهَا: حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ فِي الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا.
الثَّانِي: حَدِيثُ عُمَرَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ.
الثالث: حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ.
28 - بَاب التَّرْتِيلِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا}
وَقَوْلِهِ تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} وَمَا يُكْرَهُ أَنْ يُهَذَّ كَهَذِّ الشِّعْرِ فِيهَا، يُفْرَقُ يُفَصَّلُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَقْنَاهُ: فَصَّلْنَاهُ.
5043 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا وَاصِلٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: غَدَوْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ رَجُلٌ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ الْبَارِحَةَ، فَقَالَ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، إِنَّا قَدْ سَمِعْنَا الْقِرَاءَةَ، وَإِنِّي لَأَحْفَظُ الْقُرَنَاءَ الَّتِي كَانَ يَقْرَأُ بِهِنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سُورَةً مِنْ الْمُفَصَّلِ وَسُورَتَيْنِ مِنْ آلِ حم.
5044 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْلِهِ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ وَكَانَ يُعْرَفُ مِنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ الَّتِي فِي {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} فَإِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي
صَدْرِكَ وَقُرْآنَهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فَإِذَا أَنْزَلْنَاهُ فَاسْتَمِعْ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} قَالَ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ قَالَ وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ"
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّرْتِيلِ فِي الْقِرَاءَةِ) أَيْ تَبْيِينُ حُرُوفِهَا وَالتَّأَنِّي فِي أَدَائِهَا لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى فَهْمِ مَعَانِيهَا.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِهَا، فَعِنْدَ الطَّبَرِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ} قَالَ: بَعْضَهُ إِثْرَ بَعْضٍ عَلَى تُؤَدَةٍ. وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: بَيِّنْهُ بَيَانًا. وَالْأَمْرُ بِذَلِكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوُجُوبِ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} سَيَأْتِي تَوْجِيهُهُ.
قَوْلُهُ: (وَمَا يُكْرَهُ أَنْ يُهَذَّ كَهَذِّ الشِّعْرِ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ اسْتِحْبَابَ التَّرْتِيلِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَرَاهَةَ الْإِسْرَاعِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُكْرَهُ الْهَذُّ وَهُوَ الْإِسْرَاعُ الْمُفْرِطُ بِحَيْثُ يَخْفَى كَثِيرٌ مِنَ الْحُرُوفِ أَوْ لَا تَخْرُجُ مِنْ مَخَارِجِهَا. وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْبَابِ إِنْكَارَ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَنْ يَهُذُّ الْقِرَاءَةَ كَهَذِّ الشِّعْرِ، وَدَلِيلُ جَوَازِ الْإِسْرَاعِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقُرْآنُ، فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسْرَجُ، فَيَفْرُغُ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ.
قَوْلُهُ: (فِيهَا يُفْرَقُ يُفَصَّلُ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَقْنَاهُ: فَصَّلْنَاهُ) وَصَلَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، وَعِنْدَ أَبِي عُبَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَرَجُلٍ قَرَأَ الْبَقَرَةَ فَقَطْ، قِيَامُهُمَا وَاحِدٌ رُكُوعُهُمَا وَاحِدٌ وَسُجُودُهُمَا وَاحِدٌ. فَقَالَ: الَّذِي قَرَأَ الْبَقَرَةَ فَقَطْ أَفْضَلُ. ثُمَّ تَلَا {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي حَمْزَةَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي سَرِيعُ الْقِرَاءَةِ، وَإِنِّي لِأَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي ثَلَاثٍ فَقَالَ: لَأَنْ أَقْرَأَ الْبَقَرَةَ أُرَتِّلُهَا فَأَتَدَبَّرُهَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ أَقْرَأَ كَمَا تَقُولُ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي رَجُلٌ سَرِيعُ الْقِرَاءَةِ، إِنِّي لأَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَأَنْ أَقْرَأَ سُورَةً أَحَبُّ إِلَيَّ. إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَاقْرَأْ قِرَاءَةً تُسْمِعُهَا أُذُنَيْكَ وَيُوعِهَا قَلْبُكَ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْإِسْرَاعِ وَالتَّرْتِيلِ جِهَةَ فَضْلٍ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْرِعُ لَا يُخِلُّ بِشَيْءٍ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسُّكُونِ الْوَاجِبَاتِ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَفْضُلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَأَنْ يَسْتَوِيَا، فَإِنَّ مَنْ رَتَّلَ وَتَأَمَّلَ كَمَنْ تَصَدَّقَ بِجَوْهَرَةٍ وَاحِدَةٍ مُثْمَنَةٍ، وَمَنْ أَسْرَعَ كَمَنْ تَصَدَّقَ بِعِدَّةِ جَوَاهِرَ لَكِنْ قِيمَةَ الْوَاحِدَةِ، وَقَدْ تَكُونُ قِيمَةُ الْوَاحِدَةِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْأُخْرَيَاتِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْعَكْسِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا وَاصِلٌ) هُوَ ابْنُ حَيَّانَ بِمُهْمَلَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ الْأَحْدَبُ الْكُوفِيُّ، وَوَقَعَ صَرِيحًا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَزَعَمَ خَلَفٌ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّهُ وَاصِلٌ مَوْلَى أَبِي عُيَيْنَةَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَغَلَّطُوهُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ مَوْلَى أَبِي عُيَيْنَةَ بَصْرِيٌّ وَرِوَايَتُهُ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ، وَلَيْسَتْ لَهُ رِوَايَةٌ عَنِ الْكُوفِيِّينَ وَأَبُو وَائِلٍ شَيْخُ وَاصِلٍ هَذَا كُوفِيٌّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: غَدَوْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ (فَقَالَ رَجُلٌ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ) كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ منه الْبُخَارِيُّ فَزَادَ فِي أَوَّلِهِ: غَدَوْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَوْمًا بَعْدَمَا صَلَّيْنَا الْغَدَاةَ، فَسَلَّمْنَا بِالْبَابِ فَأَذِنَ لَنَا، فَمَكَثْنَا بِالْبَابِ هُنَيْهَةً، فَخَرَجَتِ الْجَارِيَةُ فَقَالَتْ: أَلَا تَدْخُلُونَ؟ فَدَخَلْنَا، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ يُسَبِّحُ فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا وَقَدْ أُذِنَ لَكُمْ؟ قُلْنَا: ظَنَنَّا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبَيْتِ نَائِمٌ، قَالَ: ظَنَنْتُمْ بِآلِ أُمِّ عَبْدٍ غَفْلَةَ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ الْبَارِحَةَ كُلَّهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ
فَقَالَ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ فِي رَكْعَةٍ، فَقَالَ: بَلْ هَذَذْتَ كَهَذِّ الشِّعْرِ وَكَنَثْرِ الدَّقْلِ وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ نَهِيكُ بْنُ سِنَانٍ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَوْلُهُ هَذًّا بِفَتْحِ الْهَاءِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْمُنَوَّنَةِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ سُرْعَةُ الْقِرَاءَةِ بِغَيْرِ تَأَمُّلٍ كَمَا يُنْشَدُ الشِّعْرُ، وَأَصْلُ الْهَذِّ سُرْعَةُ الدَّفْعِ. وَعِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: إِنَّمَا فُصِّلَ لِتُفَصِّلُوهُ.
قَوْلُهُ: (ثَمَانِي عَشْرَةَ) تَقَدَّمَ فِي بَابِ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ فَقَالَ فِيهِ: عِشْرِينَ سُورَةً مِنْ أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الثَّمَانِ عَشْرَةَ غَيْرُ سُورَةِ الدُّخَانِ وَالَّتِي مَعَهَا، وَإِطْلَاقُ الْمُفَصَّلِ عَلَى الْجَمِيعِ تَغْلِيبًا، وَإِلَّا فَالدُّخَانُ لَيْسَتْ مِنَ الْمُفَصَّلِ عَلَى الْمُرَجَّحِ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَأْلِيفُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى خِلَافِ تَأْلِيفِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ فِي آخِرِ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَلَى تَأْلِيفِ ابْنِ مَسْعُودٍ آخِرُهُنَّ حم الدُّخَانِ، وَعَمَّ، فَعَلَى هَذَا لَا تَغْلِيبَ.
قَوْلُهُ: (مِنْ آلِ حَامِيمٍ) أَيِ السُّورَةُ الَّتِي أَوَّلُهَا حم، وَقِيلَ: يُرِيدُ حم نَفْسَهَا كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى: أَنَّهُ أُوتِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ يَعْنِي دَاوُدَ نَفْسَهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَوْلُهُ: آلُ دَاوُدَ يُرِيدُ بِهِ دَاوُدَ نَفْسَهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ دَلِيلَهُ يُخَالِفُ تَأْوِيلَهُ، قَالَ: وَإِنَّمَا يَتِمُّ مُرَادُهُ لَوْ كَانَ الَّذِي يَدْخُلُ أَشَدَّ الْعَذَابِ فِرْعَوْنُ وَحْدَهُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَوْلَا أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ وَرَدَ فِي الْكِتَابَةِ مُنْفَصِلًا يَعْنِي آلَ وَحْدَهَا وَحم وَحْدَهَا لَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الَّتِي لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَسُورَتَيْنِ مِنَ الْحَوَامِيمِ. قُلْتُ: لَكِنَّ الرِّوَايَةَ أَيْضًا لَيْسَتْ فِيهَا وَاوٌ، نَعَمْ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ الْمَذْكُورَةِ آخِرُهُنَّ مِنَ الْحَوَامِيمِ وَهُوَ يُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الْمَذْكُورَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: قَوْلُهُ مِنْ آلِ حَامِيمَ مِنْ كَلَامِ أَبِي وَائِلٍ، وَإِلَّا فَإِنَّ أَوَّلَ الْمُفَصَّلِ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ أَوَّلِ الْجَاثِيَةِ اهـ. وَهَذَا إِنَّمَا يَرِدُ لَوْ كَانَ تَرْتِيبُ مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَتَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ، وَالْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَإِنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ يُغَايِرُ التَّرْتِيبَ فِي الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ، فَلَعَلَّ هَذَا مِنْهَا وَيَكُونُ أَوَّلُ الْمُفَصَّلِ عِنْدَهُ أَوَّلُ الْجَاثِيَةِ وَالدُّخَانُ مُتَأَخِّرَةٌ فِي تَرْتِيبِهِ عَنِ الْجَاثِيَةِ لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ أَجَابَ النَّوَوِيُّ عَلَى طَرِيقِ التَّنَزُّلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: عِشْرِينَ مِنْ أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ أَيْ مُعْظَمُ الْعِشْرِينَ.
الحديث الثاني: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ الْقِيَامَةِ، وَجَرِيرٌ الْمَذْكُورُ فِي إِسْنَادِهِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بِخِلَافِ الَّذِي فِي الْبَابِ بَعْدَهُ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْمُسْتَمْلِيِّ هُنَا وَكَانَ مِمَّنْ يُحَرِّكُ وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ فِيهِ لِلتَّبْعِيضِ وَمَنْ مَوْصُولَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ تَعْجِيلِهِ بِالتِّلَاوَةِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ التَّأَنِّي فِيهِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلتَّرْتِيلِ. وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ وَفِيهِ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُرَتِّلُ السُّورَةَ حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلِ مِنْهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي حَدِيثَ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: رَتِّلْ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي فَإِنَّهُ زِينَةُ الْقُرْآنِ وَأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَقَعَتْ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَأَخْرَجَهَا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
29 - بَاب مَدِّ الْقِرَاءَةِ
5045 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ الْأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ
مَالِكٍ عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كَانَ يَمُدُّ مَدًّا.
[الحديث 5045 - طرفه في: 5046]
5046 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سُئِلَ أَنَسٌ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ كَانَتْ مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ"
قَوْلُهُ: (بَابُ مَدِّ الْقِرَاءَةِ) الْمَدُّ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَصْلِيٌّ، وَهُوَ إِشْبَاعُ الْحَرْفِ الَّذِي بَعْدَهُ أَلِفٌ أَوْ وَاوٌ أَوْ يَاءٌ، وَغَيْرُ أَصْلِيٍّ، وَهُوَ مَا إِذَا أَعْقَبَ الْحَرْفَ الَّذِي هَذِهِ صِفَتُهُ هَمْزَةٌ. وَهُوَ مُتَّصِلٌ وَمُنْفَصِلٌ، فَالْمُتَّصِلُ مَا كَانَ مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ وَالْمُنْفَصِلُ مَا كَانَ بِكَلِمَةٍ أُخْرَى، فَالْأَوَّلُ يُؤْتَى فِيهِ بِالْأَلِفِ وَالْوَاوِ وَالْيَاءِ مُمْكَّنَاتٍ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَالثَّانِي يُزَادُ فِي تَمْكِينِ الْأَلِفِ وَالْوَاوِ وَالْيَاءِ زِيَادَةٌ عَلَى الْمَدِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ النُّطْقُ بِهَا إِلَّا بِهِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ، وَالْمَذْهَبُ الْأَعْدَلُ أَنَّهُ يَمُدُّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهَا ضِعْفَيْ مَا كَانَ يَمُدُّهُ أَوَّلًا وَقَدْ يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ قَلِيلًا، وَمَا أَفْرَطَ فَهُوَ غَيْرُ مَحْمُودٍ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّرْجَمَةِ الضَّرْبُ الْأَوَّلُ.
وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى:
(1)
كَأَنْ يَمُدَّ مَدًّا، بَيْنَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ إِلَخْ يَمُدُّ اللَّامَ الَّتِي قَبْلَ الْهَاءِ مِنَ الْجَلَالَةِ، وَالْمِيمَ الَّتِي قَبْلَ النُّونِ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَالْحَاءَ مِنَ الرَّحِيمِ.
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ) وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: عَمْرُو بْنُ حَفْصٍ، وَهُوَ غَلَطٌ ظَاهِرٌ.
قَوْلُهُ: (سُئِلَ أَنَسٌ) ظَهَرَ مِنَ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ قَتَادَةَ الرَّاوِي هُوَ السَّائِلُ، وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى: كَانَتْ مَدًّا أَيْ كَانَتْ ذَاتَ مَدٍّ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي النُّعْمَانِ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ كَانَ يَمُدُّ صَوْتَهُ مَدًّا وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ ثَلَاثَةِ طُرُقٍ أُخْرَى عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَرِيرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: كَانَ يَمُدُّ قِرَاءَتَهُ وَأَفَادَ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ قَتَادَةَ إِلَّا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، وَهَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، وَقَوْلُهُ فِي الثَّانِيَةِ: يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ كَذَا وَقَعَ بِمُوَحَّدَةٍ قَبْلَ الْمُوَحَّدَةِ الَّتِي فِي بِسْمِ اللَّهِ، كَأَنَّهُ حَكَى لَفْظَ بِسْمِ اللَّهِ كَمَا حَكَى لَفْظَ الرَّحْمَنِ فِي قَوْلِهِ: وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ أَوْ جَعَلَهُ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَمًا لِذَلِكَ. وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْحُلْوَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ وَيَمُدُّ الرَّحْمَنَ وَيَمُدُّ الرَّحِيمَ مِنْ غَيْرِ مُوَحَّدَةٍ فِي الثَّلَاثَةِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ هَمَّامٍ وَجَرِيرٍ، جَمِيعًا عَنْ قَتَادَةَ بِلَفْظِ: يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بِإِثْبَاتِ الْمُوَحَّدَةِ فِي أَوَّلِهِ أَيْضًا، وَزَادَ فِي الْإِسْنَادِ جَرِيرًا مَعَ هَمَّامٍ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي الْفَجْرِ ق فَمَرَّ بِهَذَا الْحَرْفِ: {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} فَمَدَّ نَضِيدٌ وَهُوَ شَاهِدٌ جَيِّدٌ لِحَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ قُطْبَةَ نَفْسِهِ.
(تَنْبِيهٌ): اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي الصَّلَاةِ، وَرَامَ بِذَلِكَ مُعَارَضَةَ حَدِيثِ أَنَسٍ أَيْضًا الْمُخَرَّجِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَقْرَؤُهَا فِي الصَّلَاةِ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ الْبَابِ نَظَرٌ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ فِيمَا كَتَبْتُهُ مِنَ النُّكَتِ عَلَى عُلُومِ الْحَدِيثِ لِابْنِ الصَّلَاحِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ الْبَسْمَلَةَ يَمُدُّ فِيهَا أَنْ يَكُونَ قَرَأَ الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا وَرَدَ بِصُورَةِ الْمِثَالِ فَلَا تَتَعَيَّنُ الْبَسْمَلَةُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
(1)
الصواب" في الرواية الثانية"
30 - بَاب التَّرْجِيعِ
5047 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو إِيَاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ - أَوْ جَمَلِهِ - وَهِيَ تَسِيرُ بِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ - أَوْ مِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ - قِرَاءَةً لَيِّنَةً يَقْرَأُ وَهُوَ يُرَجِّعُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّرْجِيعِ) هُوَ تَقَارُبُ ضُرُوبِ الْحَرَكَاتِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَأَصْلُهُ التَّرْدِيدُ، وَتَرْجِيعُ الصَّوْتِ تَرْدِيدُهُ فِي الْحَلْقِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ بِقَوْلِهِ أَا أَبِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ هَمْزَةٌ أُخْرَى ثُمَّ قَالُوا: يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ حَدَثَ مِنْ هَزِّ النَّاقَةِ، وَالْآخَرُ: أَنَّهُ أَشْبَعَ الْمَدَّ فِي مَوْضِعِهِ فَحَدَثَ ذَلِكَ، وَهَذَا الثَّانِي أَشْبَهُ بِالسِّيَاقِ؛ فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ لَقَرَأْتُ لَكُمْ بِذَلِكَ اللَّحْنِ أَيِ النَّغَمِ. وَقَدْ ثَبَتَ التَّرْجِيعُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ: كُنْتُ أَسْمَعُ صَوْتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْرَأُ وَأَنَا نَائِمَةٌ عَلَى فِرَاشِي يُرَجِّعُ الْقُرْآنَ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ فِي التَّرْجِيعِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى التَّرْتِيلِ، فَعِنْدَ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: بِتُّ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي دَارِهِ، فَنَامَ ثُمَّ قَامَ، فَكَانَ يَقْرَأُ قِرَاءَةَ الرَّجُلِ فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ وَيُسْمِعُ مَنْ حَوْلَهُ، وَيُرَتِّلُ وَلَا يُرَجِّعُ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: مَعْنَى التَّرْجِيعِ تَحْسِينُ التِّلَاوَةِ لَا تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ بِتَرْجِيعِ الْغِنَاءِ تُنَافِي الْخُشُوعَ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ التِّلَاوَةِ.
قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ مُلَازَمَتُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْعِبَادَةِ لِأَنَّهُ حَالَةَ رُكُوبِهِ النَّاقَةَ وَهُوَ يَسِيرُ لَمْ يَتْرُكِ الْعِبَادَةَ بِالتِّلَاوَةِ، وَفِي جَهْرِهِ بِذَلِكَ إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ الْجَهْرَ بِالْعِبَادَةِ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَفْضَلَ مِنَ الْإِسْرَارِ، وَهُوَ عِنْدَ التَّعْلِيمِ وَإِيقَاظِ الْغَافِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
31 - بَاب حُسْنِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ لِلْقُرْآنِ
5048 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ، حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ جَدِّهِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: يَا أَبَا مُوسَى، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ.
قَوْلُهُ (بَابُ حُسْنِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ لِلْقُرْآنِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَ قَوْلُهُ: لِلْقُرْآنِ لِغَيْرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ نَقْلُ الْإِجْمَاعِ عَلَى اسْتِحْبَابِ سَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنْ ذِي الصَّوْتِ الْحَسَنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُسْجِعَةَ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُقَدِّمُ الشَّابَّ الْحَسَنَ الصَّوْتِ لِحُسْنِ صَوْتِهِ بَيْنَ يَدَيِ الْقَوْمِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ أَبُو بَكْرٍ) هُوَ الْحَدَّادِيُّ بِالْمُهْمَلَاتِ وَفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالتَّثْقِيلِ، بَغْدَادِيٌّ مُقْرِئٌ، مِنْ صِغَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَعَاشَ بَعْدَ الْبُخَارِيِّ خَمْسَ سِنِينَ. وَأَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ اسْمُهُ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكُوفِيُّ وَهُوَ وَالِدُ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْكُوفِيِّ الْحَافِظِ صَاحِبِ الْمُسْنَدِ. وَلَيْسَ لِمُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ وَلَا لِشَيْخِهِ أَبِي يَحْيَى فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ، وَقَدْ أَدْرَكَ الْبُخَارِيُّ، أَبَا يَحْيَى بِالسِّنِّ، لَكِنَّهُ لَمْ يَلْقَهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي بُرَيْدٌ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ
سَمِعْتُ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (يَا أَبَا مُوسَى، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ) كَذَا وَقَعَ عِنْدَهُ مُخْتَصَرًا مِنْ طَرِيقِ بُرَيْدٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بِلَفْظِ: لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ قِرَاءَتَكَ الْبَارِحَةَ الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ بِزِيَادَةٍ فِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَائِشَةَ مَرَّا بِأَبِي مُوسَى وَهُوَ يَقْرَأُ فِي بَيْتِهِ، فَقَامَا يَسْتَمِعَانِ لِقِرَاءَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُمَا مَضَيَا.
فَلَمَّا أَصْبَحَ لَقِيَ أَبُو مُوسَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى، مَرَرْتُ بِكَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: أَمَا إِنِّي لَوْ عَلِمْتُ بِمَكَانِكَ لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا وَلِابْنِ سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ أَنَّ أَبَا مُوسَى قَامَ لَيْلَةً يُصَلِّي، فَسَمِعَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَوْتَهُ - وَكَانَ حُلْوَ الصَّوْتِ - فَقُمْنَ يَسْتَمِعْنَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قِيلَ لَهُ، فَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ لَحَبَّرْتُهُ لَهُنَّ تَحْبِيرًا وَلِلرُّويَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ نَحْوَ سِيَاقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، وَقَالَ فِيهِ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَمِعُ قِرَاءَتِي لَحَبَّرْتُهَا تَحْبِيرًا وَأَصْلُهَا عِنْدَ أَحْمَدَ، وَعِنْدَ الدَّارِمِيِّ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ لِأَبِي مُوسَى - وَك انَ حَسَنَ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ -: لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ، فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ فِي التَّرْجَمَةِ، وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مَوْصُولًا بِذِكْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ قِرَاءَةَ أَبِي مُوسَى فَقَالَ: لَقَدْ أُوتِيَ مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى الزُّهْرِيِّ، فَقَالَ مَعْمَرٌ، وَسُفْيَانُ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَقَالَ اللَّيْثُ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ مُرْسَلًا، وَلِأَبِي يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَوْسَجَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَوْتَ أَبِي مُوسَى فَقَالَ: كَأَنَّ صَوْتَ هَذَا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ دَارَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَمَا سَمِعْتُ صَوْتَ صَنْجٍ وَلَا بَرْبَطٍ وَلَا نَايٍ أَحْسَنَ مِنْ صَوْتِهِ سَنَدُهُ صَحِيحٌ وَهُوَ فِي الْحِلْيَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ وَالصَّنْجُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ بَعْدَهَا جِيمٌ هُوَ آلَةٌ تُتَّخَذُ مِنْ نُحَاسٍ كَالطَّبَقَيْنِ يُضْرَبُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَالْبَرْبَطُ بِالْمُوَحَّدَتَيْنِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ طَاءٌ مُهْمَلَةٌ بِوَزْنِ جَعْفَرٍ هُوَ آلَةٌ تُشْبِهُ الْعُودَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَالنَّايُ بِنُونٍ بِغَيْرِ هَمْزٍ هُوَ الْمِزْمَارُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَوْلُهُ: آلِ دَاوُدَ يُرِيدُ دَاوُدَ نَفْسَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِ دَاوُدَ وَلَا مِنْ أَقَارِبِهِ كَانَ أُعْطِيَ مِنْ حُسْنِ الصَّوْتِ مَا أُعْطِيَ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَوْرَدَهُ مِنَ الطَّرِيقِ الْأُخْرَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ: مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ مَا نُقِلَ عَنِ السَّلَفِ فِي صِفَةِ صَوْتِ دَاوُدَ، وَالْمُرَادُ بِالْمِزْمَارِ الصَّوْتُ الْحَسَنُ، وَأَصْلُهُ الْآلَةُ أُطْلِقَ اسْمُهُ عَلَى الصَّوْتِ لِلْمُشَابَهَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَحْثٍ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
32 - بَاب مَنْ أَحَبَّ أَنْ يستمع الْقُرْآنَ مِنْ غَيْرِهِ
5049 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ الْأَعْمَشِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ. قُلْتُ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟! قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَمِعَ الْقُرْآنَ مِنْ غَيْرِهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْقِرَاءَةَ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، ثُمَّ أَوْرَدَهُ مُطَوَّلًا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ بَابُ قَوْلِ الْمُقْرِئِ
لِلْقَارِئِ حَسْبُكَ وَالْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ بَعْضُ الْقُرْآنِ، وَالَّذِي فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ اقْرَأْ عَلَيَّ لَيْسَ فِيهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ بَلْ أُطْلِقَ فَيَصْدُقُ بِالْبَعْضِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِهِ لِيَكُونَ عَرْضُ الْقُرْآنِ سُنَّةً، وَيَحْتَمِلَ أَنْ يَكُونَ لِكَيْ يَتَدَبَّرَهُ وَيَتَفَهَّمَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَمِعَ أَقْوَى عَلَى التَّدَبُّرِ وَنَفْسُهُ أَخْلَى وَأَنْشَطُ لِذَلِكَ مِنَ الْقَارِئِ لِاشْتِغَالِهِ بِالْقِرَاءَةِ وَأَحْكَامِهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ قِرَاءَتِهِ هُوَ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَهُ كَيْفِيَّةَ أَدَاءِ الْقِرَاءَةِ وَمَخَارِجَ الْحُرُوفِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ بَعْدَ أَبْوَابٍ فِي بَابِ الْبُكَاءِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.
33 - بَاب قَوْلِ الْمُقْرِئِ لِلْقَارِئِ: حَسْبُكَ
5050 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ عَلَيَّ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟! قَالَ: نَعَمْ، فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} قَالَ: حَسْبُكَ الْآنَ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
34 - باب فِي كَمْ يُقْرَأُ الْقُرْآنُ؟ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}
5051 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ لِي ابْنُ شُبْرُمَةَ: نَظَرْتُ كَمْ يَكْفِي الرَّجُلَ مِنْ الْقُرْآنِ فَلَمْ أَجِدْ سُورَةً أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ آيَاتٍ، فَقُلْتُ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ آيَاتٍ. قَالَ عَلِيٌّ:، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، أَخْبَرَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، أَخْبَرَهُ عَلْقَمَةُ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، وَلَقِيتُهُ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّهُ مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ.
5052 -
حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ فَكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا فَتَقُولُ نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ الْقَنِي بِهِ فَلَقِيتُهُ بَعْدُ فَقَالَ كَيْفَ تَصُومُ قَالَ كُلَّ يَوْمٍ قَالَ وَكَيْفَ تَخْتِمُ قَالَ كُلَّ لَيْلَةٍ قَالَ صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةً وَاقْرَئِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَالَ قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْجُمُعَةِ قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ وَصُمْ يَوْمًا قَالَ قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ صِيَامَ يَوْمٍ وَإِفْطَارَ يَوْمٍ وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً فَلَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَاكَ أَنِّي كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ السُّبْعَ مِنْ الْقُرْآنِ بِالنَّهَارِ وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ يَعْرِضُهُ مِنْ النَّهَارِ لِيَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ
بِاللَّيْلِ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَقَوَّى أَفْطَرَ أَيَّامًا وَأَحْصَى وَصَامَ مِثْلَهُنَّ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا فَارَقَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي ثَلَاثٍ أو فِي سبع وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى سَبْعٍ.
5053 -
حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي كَمْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ"
5054 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ شَيْبَانَ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى بَنِي زُهْرَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ وَأَحْسِبُنِي قَالَ سَمِعْتُ أَنَا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقْرَئِ الْقُرْآنَ فِي شَهْرٍ قُلْتُ إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً حَتَّى قَالَ فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ"
قَوْلُهُ: (بَابُ فِي كَمْ يُقْرَأُ الْقُرْآنُ؟ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ: أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} يَشْمَلُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَمَنِ ادَّعَى التَّحْدِيدَ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي كَمْ يُقْرَأُ الْقُرْآنُ؟ قَالَ: فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا. ثُمَّ قَالَ: فِي شَهْرٍ الْحَدِيثَ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْمُدَّعِي.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ قَاضِي الْكُوفَةِ، وَلَمْ يُخَرِّجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ يَأْتِي فِي الْأَدَبِ شَاهِدًا، وَأَخْرَجَ مِنْ كَلَامِهِ غَيْرَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (كَمْ يَكْفِي الرَّجُلَ مِنَ الْقُرْآنِ)؟ أَيْ فِي الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَهُوَ مَوْصُولٌ مِنْ تَتِمَّةِ الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الِاخْتِلَافِ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ وَعَنْ عَلْقَمَةَ فِي بَابِ فَضْلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ كَفَتَاهُ وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ إِنَّمَا يَجِيئُ عَلَى أَحَدِ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ كَفَتَاهُ أَيْ فِي الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ بِاللَّيْلِ، وَقَدْ خَفِيَتْ مُنَاسَبَةُ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ بِالتَّرْجَمَةِ عَلَى ابْنِ كَثِيرٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْآيَةَ الْمُتَرْجَمَ بِهَا تُنَاسِبُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ، بِخِلَافِ مَا قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ، وَمُغِيرَةُ هُوَ ابْنُ مِقْسَمٍ.
قَوْلُهُ: (أَنْكَحَنِي أَبِي) أَيْ زَوَّجَنِي، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الْمُشِيرُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو حِينَئِذٍ كَانَ رَجُلًا كَامِلًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَامَ عَنْهُ بِالصَّدَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، وَحُصَيْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهِيَ أُمُّ مُحَمَّدٍ بِنْتُ مَحْمِيَةَ - بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ خَفِيفَةٌ - ابْنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيِّ حَلِيفِ قُرَيْشٍ، ذَكَرَهَا الزُّبَيْرُ وَغَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: (كَنَّتْهُ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ هِيَ زَوْجَ الْوَلَدِ.
قَوْلُهُ: (نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا) قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: يُسْتَفَادُ مِنْهُ وُقُوعُ التَّمْيِيزِ بَعْدَ فَاعِلِ نِعْمَ الظَّاهِرِ، وَقَدْ مَنَعَهُ سِيبَوَيْهِ وَأَجَازَهُ الْمُبَرِّدُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: نِعْمَ الرَّجُلُ مِنَ الرِّجَالِ، قَالَ: وَقَدْ تُفِيدُ النَّكِرَةُ فِي الْإِثْبَاتِ التَّعْمِيمَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّجْرِيدِ، كَأَنَّهُ جَرَّدَ مِنْ رَجُلٍ مَوْصُوفٍ بِكَذَا وَكَذَا رَجُلًا فَقَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ الْمُجَرَّدُ مِنْ كَذَا رَجُلٌ صِفَتُهُ كَذَا.
قَوْلُهُ: (لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا) أَيْ لَمْ يُضَاجِعْنَا حَتَّى يَطَأَ فِرَاشَنَا.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِفَاءٍ وَمُثَنَّاةٍ ثَقِيلَةٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ وَلَمْ يَغْشَ بَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ وَكَنَفًا بِفَتْحِ الْكَافِ وَالنُّونِ بَعْدَهَا فَاءٌ هُوَ السِّتْرُ وَالْجَانِبُ، وَأَرَادَتْ بِذَلِكَ الْكِنَايَةَ عَنْ عَدَمِ جِمَاعِهِ لَهَا، لِأَنَّ عَادَةَ الرَّجُلِ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ مَعَ زَوْجَتِهِ فِي دَوَاخِلِ أَمْرِهَا. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكَنَفِ الْكَنِيفَ وَأَرَادَتْ أَنَّهُ لَمْ يَطْعَمْ عِنْدَهَا حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى أَنْ يُفَتِّشَ عَنْ مَوْضِعِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، كَذَا قَالَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ فَأَقْبَلَ عَلَيَّ يَلُومُنِي فَقَالَ: أَنْكَحْتُكَ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ ذَاتَ حَسَبٍ فَعَضَلْتَهَا وَفَعَلْتَ، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَشَكَانِي.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ) أَيْ: عَلَى عَمْرٍو (ذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَأَنَّهُ تَأَنَّى فِي شَكْوَاهُ رَجَاءَ أَنْ يَتَدَارَكَ، فَلَمَّا تَمَادَى عَلَى حَالِهِ خَشِيَ أَنْ يَلْحَقَهُ إِثْمٌ بِتَضْيِيعِ حَقِّ الزَّوْجَةِ فَشَكَاهُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: الْقَنِي) أَيْ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَفِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ: فَأُرْسِلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَيْهِ أَوَّلًا ثُمَّ لَقِيَهُ اتِّفَاقًا فَقَالَ لَهُ: اجْتَمِعْ بِي.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: كَيْفَ تَصُومُ؟ قُلْتُ: أَصُومُ كُلَّ يَوْمٍ) تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّوْمِ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ مَشْرُوحًا، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْجُمُعَةِ، قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ، قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ الدَّاوُدِيُّ: هَذَا وَهْمٌ مِنَ الرَّاوِي لِأَنَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنَ الْجُمُعَةِ أَكْثَرَ مِنْ فِطْرِ يَوْمَيْنِ وَصِيَامِ يَوْمٍ، وَهُوَ إِنَّمَا يُدَرِّجُهُ مِنَ الصِّيَامِ الْقَلِيلِ إِلَى الصِّيَامِ الْكَثِيرِ. قُلْتُ: وَهُوَ اعْتِرَاضٌ مُتَّجِهٌ، فَلَعَلَّهُ وَقَعَ مِنَ الرَّاوِي فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَقَدْ سَلِمَتْ رِوَايَةُ هُشَيْمٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ لَفْظَهُ: صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، قُلْتُ: إِنِّي أَقْوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. فَلَمْ يَزَلْ يَرْفَعُنِي حَتَّى قَالَ: صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا.
قَوْلُهُ: (وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً) أَيِ اخْتِمْ فِي كُلِّ سَبْعٍ (فَلَيْتَنِي قَبِلْتُ) كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ اخْتِصَارًا، وَفِي غَيْرِهَا مُرَاجَعَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ.
قَوْلُهُ: (فَكَانَ يَقْرَأُ) هُوَ كَلَامُ مُجَاهِدٍ يَصِفُ صَنِيعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو لَمَّا كَبِرَ، وَقَدْ وَقَعَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ.
قَوْلُهُ: (عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ) أَيْ عَلَى مَنْ تَيَسَّرَ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِالنَّهَارِ لِيَتَذَكَّرَ مَا يَقْرَأُ بِهِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ خَفِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ بِالنِّسْيَانِ.
قَوْلُهُ: (وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَقَوَّى أَفْطَرَ أَيَّامًا إِلَخْ) يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْأَفْضَلَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصُومَ صَوْمَ دَاوُدَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا وَيُفْطِرَ يَوْمًا دَائِمًا، وَيُؤْخَذُ مِنْ صَنِيعِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ مِنْ ذَلِكَ وَصَامَ قَدْرَ مَا أَفْطَرَ أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْهُ صِيَامُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي ثَلَاثٍ أَوْ فِي سَبْعٍ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ فِي ثَلَاثٍ وَفِي خَمْسٍ وَسَقَطَ ذَلِكَ لِلنَّسَفِيِّ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَقَالَ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَمَا زَالَ حَتَّى قَالَ: فِي ثَلَاثٍ، فَإِنَّ الْخَمْسَ تُؤْخَذُ مِنْهُ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ. ثُمَّ وَجَدْتُ فِي مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِي كَمْ أَخْتِمُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: اخْتِمْهُ فِي شَهْرٍ. قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ، قَالَ: اخْتِمْهُ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ. قَالَ: اخْتِمْهُ فِي عِشْرِينَ. قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ. قَالَ: اخْتِمْهُ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ. قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ. قَالَ: اخْتِمْهُ فِي خَمْسٍ. قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ. قَالَ: لَا. وَأَبُو فَرْوَةَ هَذَا هُوَ الْجُهَنِيُّ، وَاسْمُهُ عُرْوَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَهُوَ كُوفِيٌّ ثِقَةٌ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ الْمَذْكُورَةِ، قَالَ: فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ. قُلْتُ: إِنِّي أَجِدُنِي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ. قُلْتُ: إِنِّي أَجِدُنِي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: أَحَدُهُمَا إِمَّا حُصَيْنٌ وَإِمَّا مُغِيرَةٌ. قَالَ: فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ مُصَحَّحًا مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: لَا
يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ وَشَاهِدُهُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فِي سَبْعٍ وَلَا تَقْرَءُوهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ.
وَلِأَبِي عُبَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ الطَّيِّبِ بْنِ سَلْمَانَ، عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَحْمَدَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَغَيْرِهِمْ. وَثَبَتَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُمْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ فِي دُونِ ذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالِاخْتِيَارُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِالْأَشْخَاصِ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَهْمِ وَتَدْقِيقِ الْفِكْرِ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي لَا يَخْتَلُّ بِهِ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّدَبُّرِ وَاسْتِخْرَاجِ الْمَعَانِي، وَكَذَا مَنْ كَانَ لَهُ شُغْلٌ بِالْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْهُ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي لَا يُخِلُّ بِمَا هُوَ فِيهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَالْأَوْلَى لَهُ الِاسْتِكْثَارُ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ إِلَى الْمَلَلِ وَلَا يَقْرَؤُهُ هَذْرَمَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَأَكْثَرُهُمْ) أَيْ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
قَوْلُهُ: (عَلَى سَبْعٍ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْمَوْصُولَةِ عَقِبَ هَذَا، فَإِنَّ فِي آخِرِهِ وَلَا يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ أَيْ لَا يُغَيِّرِ الْحَالَ الْمَذْكُورَةَ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى، فَأَطْلَقَ الزِّيَادَةَ وَالْمُرَادُ النَّقْصُ، وَالزِّيَادَةُ هُنَا بِطَرِيقِ التَّدَلِّي، أَيْ: لَا يَقْرَؤُهُ فِي أَقَلِّ مِنْ سَبْعٍ. وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فِي كَمْ يُقْرَأُ الْقُرْآنُ؟ قَالَ: فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا. ثُمَّ قَالَ: فِي شَهْرٍ. ثُمَّ قَالَ: فِي عِشْرِينَ. ثُمَّ قَالَ: فِي خَمْسَ عَشْرَةَ، ثُمَّ قَالَ: فِي عَشْرٍ. ثُمَّ قَالَ: فِي سَبْعٍ. ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ سَبْعٍ. وَهَذَا إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا احْتُمِلَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ تَعَدُّدُ الْقِصَّةِ، فَلَا مَانِعَ أَنْ يَتَعَدَّدَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ذَلِكَ تَأْكِيدًا، وَيُؤَيِّدُهُ الِاخْتِلَافُ الْوَاقِعُ فِي السِّيَاقِ، وَكَأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الزِّيَادَةِ لَيْسَ عَلَى التَّحْرِيمِ، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ، وَعُرِفَ ذَلِكَ مِنْ قَرَائِنِ الْحَالِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا السِّيَاقُ، وَهُوَ النَّظَرُ إِلَى عَجْزِهِ عَنْ سِوَى ذَلِكَ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمَآلِ، وَأَغْرَبَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ فَقَالَ: يَحْرُمُ أَنْ يُقْرَأَ الْقُرْآنُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ النَّشَاطِ وَالْقُوَّةِ، فَعَلَى هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَقَعَ فِي الْإِسْنَادِ الثَّانِي أَنَّهُ مَوْلَى زُهْرَةَ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ أَنَّهُ مَوْلَى الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ الثَّقَفِيِّ، وَكَانَ الْأَخْنَسُ يُنْسَبُ زُهْرِيًّا لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ حُلَفَائِهِمْ، وَجَزَمَ جَمَاعَةٌ بِأَنَّ ابْنَ ثَوْبَانَ عَامِرِيٌّ، فَلَعَلَّهُ كَانَ يُنْسَبُ عَامِرِيًّا بِالْأَصَالَةِ وَزُهْرِيًّا بِالْحِلْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ): هَذَا التَّعْلِيقُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَقَالَ: بَعْضُهُمْ إِلَخْ ذَهِلْتُ عَنْ تَخْرِيجِهِ فِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ وَقَدْ يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَحْرِيرِهِ هُنَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَوْلُهُ: (فِي كَمْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ)؟ كَذَا اقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ فِي الإسناد الْعَالِي عَلَى بَعْضِ الْمَتْنِ ثُمَّ حَوَّلَهُ إِلَى الْإِسْنَادِ الْآخَرِ، وَإِسْحَاقُ شَيْخُهُ فِيهِ هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مُوسَى وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، إِلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا حَدَّثَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ كَمَا هُنَا.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ - قَالَ: وَأَحْسَبُنِي قَالَ: سَمِعْتُ أَنَا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ) قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: خَالَفَ أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ، شَيْبَانَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، عَنْ أَبَانَ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَزَادَ فِي سِيَاقِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: اقْرَأْهُ فِي شَهْرٍ قَالَ: إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً. قَالَ: فِي عِشْرِينَ. قَالَ: إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً. قَالَ: فِي عَشْرٍ. قَالَ: إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً. قَالَ: فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ. قَالَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَرَوَاهُ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَسَاقَهُ مِنْ طَرِيقِهِ، قُلْتُ: كَأَنَّ يَحْيَى بْنَ أَبِي كَثِيرٍ كَانَ يَتَوَقَّفُ فِي تَحْدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ لَهُ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ بِهِ أَوْ بِالْعَكْسِ كَانَ
يُصَرِّحُ بِتَحْدِيثِهِ ثُمَّ تَوَقَّفَ وَتَحَقَّقَ أَنَّهُ سَمِعَهُ بِوَاسِطَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةُ أَبَانَ لِأَنَّ شَيْبَانَ أَحْفَظُ مِنْ أَبَانَ، أَوْ كَانَ عِنْدَ يَحْيَى عَنْهُمَا، وَيُؤَيِّدُهُ اخْتِلَافُ سِيَاقِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصِّيَامِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ مُصَرِّحًا بِالسَّمَاعِ بِغَيْرِ تَوَقُّفٍ لَكِنْ لِبَعْضِ الْحَدِيثِ فِي قِصَّةِ الصِّيَامِ حَسْبٌ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: قِصَّةُ الصِّيَامِ لَمْ تَخْتَلِفْ عَلَى يَحْيَى فِي رِوَايَتِهِ إِيَّاهَا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ.
(تَنْبِيهٌ): الْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ جَمِيعُهُ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا أَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمُدَّةٍ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بَعْضُ الْقُرْآنِ الَّذِي تَأَخَّرَ نُزُولُهُ، لِأَنَّا نَقُولُ: سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْإِطْلَاقُ وَهُوَ الَّذِي فَهِمَ الصَّحَابِيُّ فَكَانَ يَقُولُ: لَيْتَنِي لَوْ قَبِلْتُ الرُّخْصَةَ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَدْ أَضَافَ الَّذِي نَزَلَ آخِرًا إِلَى مَا نَزَلَ أَوَّلًا، فَالْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ جَمِيعُ مَا كَانَ نَزَلَ إِذْ ذَاكَ وَهُوَ مُعْظَمُهُ، وَوَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ مَا نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ يُوَزَّعُ بِقِسْطِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
35 - بَاب الْبُكَاءِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
5055 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ يَحْيَى بَعْضُ الْحَدِيثِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ الْأَعْمَشُ: وَبَعْضُ الْحَدِيثِ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَعَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ عَلَيَّ. قَالَ: قُلْتُ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي. قَالَ: فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} قَالَ لِي: كُفَّ، أَوْ أَمْسِكْ. فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفَانِ.
5056 -
حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ عَلَيَّ. قُلْتُ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْبُكَاءِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: الْبُكَاءُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ صِفَةُ الْعَارِفِينَ وَشِعَارُ الصَّالِحِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} ، {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} وَالْأَحَادِيثُ فِيهِ كَثِيرَةٌ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: يُسْتَحَبُّ الْبُكَاءُ مَعَ الْقِرَاءَةِ وَعِنْدَهَا، وَطَرِيقُ تَحْصِيلِهِ أَنْ يَحْضُرَ قَلْبَهُ الْحُزْنُ وَالْخَوْفُ بِتَأَمُّلِ مَا فِيهِ مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَالْوَثَائِقِ وَالْعُهُودِ ثُمَّ يَنْظُرُ تَقْصِيرَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ حُزْنٌ فَلْيَبْكِ عَلَى فَقْدِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ وَسَاقَ الْمَتْنَ هُنَاكَ عَلَى لَفْظِ شَيْخِهِ صَدَقَةَ بْنِ الْفَضْلِ الْمَرْوَزِيِّ. وَسَاقَهُ هُنَا عَلَى لَفْظِ شَيْخِهِ مُسَدَّدٍ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ.
وَعُرِفَ مِنْ هُنَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: بَعْضُ الْحَدِيثِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَعْمَشَ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَسَمِعَ بَعْضَهُ مِنْ عَمْرِو ابْنِ مُرَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ أَيْضًا، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي عند الْأَعْمَشِ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ: فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ إِلَى قَوْلِهِ: أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي فَهُوَ عِنْدَ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ كما هُوَ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ قَبْلُ بِبَابَيْنِ، وَتَقَدَّمَ قَبْلُ بِبَابٍ وَاحِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مُقْتَصِرًا عَلَى طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ مِنْ غَيْرِ تَبْيِينِ التَّفْصِيلِ الَّذِي فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْفِرْيَابِيِّ إِدْرَاجًا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: عَنْ أَبِيهِ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: عَنْ سُلَيْمَانَ وَهُوَ الْأَعْمَشُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، وَرِوَايَةُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ عَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْصُولَةٌ، وَرِوَايَةُ أَبِي الضُّحَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مُنْقَطِعَةٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَذَكَرَهُ، وَهَذَا أَشَدُّ انْقِطَاعًا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقَوْلُهُ: اقْرَأْ عَلَيَّ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظِ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: اقْرَأْ عَلَيَّ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فَضَالَةَ الظَّفَرِيِّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم فِي بَنِي ظَفَرٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُمْ فِي بَنِي ظَفَرٍ وَمَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَمَرَ قَارِئًا فَقَرَأَ، فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} فَبَكَى حَتَّى ضَرَبَ لَحْيَاهُ وَوَجْنَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَبِّ، هَذَا عَلَى مَنْ أَنَا بَيْنَ ظَهْرَيْهِ فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ أَرَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: لَيْسَ مِنْ يَوْمٍ إِلَّا يُعْرَضُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتُهُ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً فَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَأَعْمَالِهِمْ. فَلِذَلِكَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ فَفِي هَذَا الْمُرْسَلِ مَا يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ ابْنِ فَضَالَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا بَكَى صلى الله عليه وسلم عِنْدَ تِلَاوَتِهِ هَذِهِ الْآيَةَ لِأَنَّهُ مَثَّلَ لِنَفْسِهِ أَهْوَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَشِدَّةَ الْحَالِ الدَّاعِيَةِ لَهُ إِلَى شَهَادَتِهِ لِأُمَّتِهِ بِالتَّصْدِيقِ وَسُؤَالِهِ الشَّفَاعَةَ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ، وَهُوَ أَمْرٌ يَحِقُّ لَهُ طُولُ الْبُكَاءِ، انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ بَكَى رَحْمَةً لِأُمَّتِهِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمْ بِعَمَلِهِمْ وَعَمَلُهُمْ قَدْ لَا يَكُونُ مُسْتَقِيمًا فَقَدْ يُفْضِي إِلَى تَعْذِيبِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
36 - بَاب إِثْمُ مَنْ رَاءَى بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ تَأَكَّلَ بِهِ، أَوْ فَخَرَ بِهِ
5057 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، قَالَ: قال عَلِيٌّ رضي الله عنه: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
5058 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَءُونَ
الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، وَيَنْظُرُ فِي الْقِدْحِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، وَيَنْظُرُ فِي الرِّيشِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، وَيَتَمَارَى فِي الْفُوقِ.
5059 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ أَوْ خَبِيثٌ وَرِيحُهَا مُرٌّ"
قَوْلُهُ: (بَابُ إِثْمِ مَنْ رَاءَى بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ تَأَكَّلَ بِهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةٍ رَايَا بِتَحْتَانِيَّةٍ بَدَلَ الهمزة، وَتَأَكَّلَ أَيْ طَلَبَ الْأَكْلَ، وَقَوْلُهُ: أَوْ فَجَرَ بِهِ لِلْأَكْثَرِ بِالْجِيمِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ فِي رِوَايَةٍ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ.
ثم ذكر في الباب ثلاثة أحاديث: أحدها: حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي ذِكْرِ الْخَوَارِجِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ. وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَزَعَمَ أَنَّهُ وَقَعَ هُنَا عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَاخْتُلِفَ فِي صُحْبَةِ سُوَيْدٍ، وَالصَّحِيحُ مَا هُنَا أَنَّهُ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَذَا قَالَ مُعْتَمِدًا عَلَى الْغَلَطِ الَّذِي نَشَأَ لَهُ عَنِ السَّقْطِ، وَالَّذِي فِي جَمِيعِ نُسَخِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ وَكَذَا فِي جَمِيعِ الْمَسَانِيدِ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ لِسُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، وَلَمْ يَسْمَعْ سُوَيْدٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَصِحُّ، وَالَّذِي يَصِحُّ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ حِينَ نُفِضَتِ الْأَيْدِي مِنْ دَفْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَحَّ سَمَاعُهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَكِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَصَحَّ أَنَّهُ أَدَّى صَدَقَةَ مَالِهِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: مَاتَ سَنَةَ ثَمَانِينَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: سَنَةَ إِحْدَى، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ، وَبَلَغَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَهُوَ جُعْفِيٌّ يُكَنَّى أَبَا أُمَيَّةَ، نَزَلَ الْكُوفَةَ وَمَاتَ بِهَا.
وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي قِتَالِ الْخَوَارِجِ فِي كِتَابِ الْمُحَارِبِينَ، وَقَوْلُهُ الْأَحْلَامِ أَيِ الْعُقُولِ، وَقَوْلُهُ: يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ هُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ أَيْ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلتَّرْجَمَةِ، وَقَوْلِهِ: لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ قَالَ الدَّاوُدِيُّ: يُرِيدُ أَنَّهُمْ تَعَلَّقُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ. قُلْتُ: إِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِالتَّعَلُّقِ الْحِفْظَ فَقَطْ دُونَ الْعِلْمِ بِمَدْلُولِهِ فَعَسَى أَنْ يَتِمَّ لَهُ مُرَادُهُ، وَإِلَّا فَالَّذِي فَهِمَهُ الْأَئِمَّةُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يَرْسَخْ فِي قُلُوبِهِمْ لِأَنَّ مَا وَقَفَ عِنْدَ الْحُلْقُومِ فَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ لَا يَصِلُ إِلَى الْقَلْبِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ نَحْوُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِنَ الزِّيَادَةِ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ وَلَا تَعِيهِ قُلُوبُهُمْ.
الحديث الثاني: حَدِيثُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي ذِكْرِ الْخَوَارِجِ أَيْضًا، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ أَيْضًا فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ، وَتَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ إِذَا كَانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ فَهِيَ لِلرِّيَاءِ أَوْ لِلتَّأَكُّلِ بِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَالْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ دَالَّةٌ لِأَرْكَانِ التَّرْجَمَةِ؛ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ رَايَا بِهِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَكَّلَ بِهِ وَهُوَ مُخَرَّجٌ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ مَنْ فَجَرَ بِهِ وَهُوَ مُخَرَّجٌ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَأَبِي سَعِيدٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ رَفَعَهُ تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ بِهِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ يَتَعَلَّمُهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ: رَجُلٌ يُبَاهِي بِهِ، وَرَجُلٌ يَسْتَأْكِلُ بِهِ، وَرَجُلٌ يَقْرَؤُهُ لِلَّهِ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا لَا تَضْرِبُوا
كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُوقِعُ الشَّكَّ فِي قُلُوبِكُمْ وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ رَفَعَهُ اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَغْلُوا فِيهِ وَلَا تَحْفُوا عَنْهُ وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ الْحَدِيثَ، وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ، وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ سَيَجِيءُ زَمَانٌ يُسْأَلُ فِيهِ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَأَلُوكُمْ فَلَا تُعْطُوهُمْ.
الحديث الثالث: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الَّذِي تَقَدَّمَ مَشْرُوحًا فِي بَابِ فَضْلِ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ. وَوَقَعَ هُنَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِسَنَدِهِ قَالَ شُعْبَةُ: وَحَدَّثَنِي شِبْلٌ، يَعْنِي ابْنَ عَزْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ بِهَذَا. قُلْتُ: وَهُوَ حَدِيثٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَثَلِ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السُّوءِ.
37 - بَاب اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ
5060 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ.
[الحديث 5060 - أطرافه في: 5061، 7364، 7365]
5061 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سَلَامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ جُنْدَبٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ تَابَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَأَبَانُ وَقَالَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ سَمِعْتُ جُنْدَبًا قَوْلَهُ وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ عُمَرَ قَوْلَهُ وَجُنْدَبٌ أَصَحُّ وَأَكْثَرُ"
5062 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ آيَةً سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خِلَافَهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ فَاقْرَأَا أَكْبَرُ عِلْمِي قَالَ فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَأُهْلِكُوا"
قَوْلُهُ: (بَابُ اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ) أَيِ اجْتَمَعَتْ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ) أَيْ: فِي فَهْمِ مَعَانِيهِ (فَقُومُوا عَنْهُ) أَيْ: تَفَرَّقُوا لِئَلَّا يَتَمَادَى بِكُمْ الِاخْتِلَافُ إِلَى الشَّرِّ، قَالَ عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ خَاصًّا بِزَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِنُزُولِ مَا يَسُوؤُهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى اقْرَءُوا وَالْزَمُوا الِائْتِلَافَ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَقَادَ إِلَيْهِ، فَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ أَوْ عَرَضَ عَارِضُ شُبْهَةٍ يَقْتَضِي الْمُنَازَعَةَ الدَّاعِيَةَ إِلَى الِافْتِرَاقِ فَاتْرُكُوا الْقِرَاءَةَ، وَتَمَسَّكُوا بِالْمُحْكَمِ الْمُوجِبِ لِلْأُلْفَةِ وَأَعْرِضُوا عَنِ الْمُتَشَابِهِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْفُرْقَةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَاحْذَرُوهُمْ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَنْهَى عَنِ الْقِرَاءَةِ إِذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ بِأَنْ يَتَفَرَّقُوا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ وَيَسْتَمِرَّ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى قِرَاءَتِهِ، وَمِثْلُهُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّحَابِيَّيْنِ الْآخَرَيْنِ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَدَاءِ، فَتَرَافَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كُلُّكُمْ مُحْسِنٌ.
وَبِهَذِهِ النُّكْتَةِ تَظْهَرُ الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عُقَيْبَ حَدِيثِ جُنْدُبٍ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ) أَيْ فِي رَفْعِ الْحَدِيثِ، فَأَمَّا مُتَابَعَةُ الْحَارِثِ وَهُوَ ابْنُ قُدَامَةَ الْإِيَادِيُّ فَوَصَلَهَا الدَّارِمِيُّ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ مَالِكِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْهُ، وَلَفْظُهُ مِثْلُ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ أَخُو حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فَوَصَلَهَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عِمْرَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا جُنْدُبٌ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ مَرْفُوعًا وَفِي آخِرِهِ فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ فَقُومُوا.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَرْفَعْهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَأَبَانُ) يَعْنِي ابْنَ يزيد الْعَطَّارَ، أَمَّا رِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَلَمْ تَقَعْ لِي مَوْصُولَةً، وَأَمَّا رِوَايَةُ أَبَانَ فَوَقَعَتْ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حِبَّانَ بْنِ هِلَالٍ عَنْهُ، وَلَفْظُهُ: قَالَ لَنَا جُنْدُبٌ وَنَحْنُ غِلْمَانٌ فَذَكَرَهُ لَكِنْ مَرْفُوعًا أَيْضًا، فَلَعَلَّهُ وَقَعَ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ مَوْقُوفًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غُنْدَرٌ:، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، سَمِعْتُ جُنْدُبًا، قَوْلَهُ) وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ:، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ عُمَرَ، قَوْلُهُ) ابْنُ عَوْنٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ أَبِي عِمْرَانَ، وَرِوَايَتُهُ هَذِهِ وَصَلَهَا أَبُو عُبَيْدٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَجُنْدُبٌ أَصَحُّ وَأَكْثَرُ) أَيْ أَصَحُّ إِسْنَادًا وَأَكْثَرُ طرقا، وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ الْجَمَّ الْغَفِيرَ رَوَوْهُ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ جُنْدُبٍ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَالَّذِينَ رَفَعُوهُ ثِقَاتٌ حُفَّاظٌ فَالْحُكْمُ لَهُمْ. وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ عَوْنٍ فَشَاذَّةٌ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهَا، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: لَمْ يُخْطِئِ ابْنُ عَوْنٍ قَطُّ إِلَّا فِي هَذَا، وَالصَّوَابُ عَنْ جُنْدُبٍ انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَوْنٍ حَفِظَهُ وَيَكُونُ لِأَبِي عِمْرَانَ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ وَإِنَّمَا تَوَارَدَ الرُّوَاةُ عَلَى طَرِيقِ جُنْدُبٍ لِعُلُوِّهَا وَالتَّصْرِيحِ بِرَفْعِهَا، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ هَذَا حَدِيثًا آخَرَ فِي الْمَعْنَى أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: هَاجَرْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعَ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي آيَةٍ فَخَرَجَ يُعْرَفُ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالِاخْتِلَافِ فِي الْكِتَابِ وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي أَنْ يَكُونَ لِطَرِيقِ ابْنِ عَوْنٍ أَصْلٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (النَّزَّالُ) بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ وَآخِرُهُ لَامٌ (ابْنُ سَبْرَةَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ الْهِلَالِيُّ، تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَهُ صُحْبَةٌ، وَذَهِلَ الْمِزِّيُّ فَجَزَمَ فِي الْأَطْرَافِ بِأَنَّ لَهُ صُحْبَةً، وَجَزَمَ فِي التَّهْذِيبِ بِأَنَّ لَهُ رِوَايَةً عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مُرْسَلَةً.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ آيَةً سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ خِلَافَهَا) هَذَا الرَّجُلُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ آيَةً قَرَأَ خِلَافَهَا وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ، الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي: بَابِ أُنْزِلَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ بَيَانُ عِدَّةِ أَلْفَاظٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (فَاقْرَآ) بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لِلِاثْنَيْنِ.
قَوْلُهُ: (أَكْبَرُ عِلْمِي) هَذَا الشَّكُّ مِنْ شُعْبَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: أَكْبَرُ عِلْمِي أَنِّي سَمِعْتُهُ، وَحَدَّثَنِي عَنْهُ مَسْعُودٌ فَذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَأَهْلَكَهُمْ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِيِّ فَأُهْلِكُوا بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَعِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الِاخْتِلَافَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الِاخْتِلَافِ فِي حَدِيثِ جُنْدُبٍ الَّذِي قَبْلَهُ. وَفِي رِوَايَةِ زِرٍّ الْمَذْكُورَةِ مِنَ الْفَائِدَةِ أَنَّ السُّورَةَ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا أُبَيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ كَانَتْ مِنْ آلِ حم، وَفِي الْمُبْهَمَاتِ لِلْخَطِيبِ أَنَّهَا الْأَحْقَافُ، وَوَقَعَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ كَانَ فِي عَدَدِهَا هَلْ هِيَ خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ آيَةً أَوْ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ الْحَدِيثَ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي قَبْلَهُ الْحَضُّ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَالْأُلْفَةِ
وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمِرَاءِ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمِنْ شَرِّ ذَلِكَ أَنْ تَظْهَرَ دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى شَيْءٍ يُخَالِفُ الرَّأْيَ فَيُتَوَسَّلُ بِالنَّظَرِ وَتَدْقِيقِهِ إِلَى تَأْوِيلِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى ذَلِكَ الرَّأْيِ وَيَقَعُ اللَّجَاجُ فِي ذَلِكَ وَالْمُنَاضَلَةُ عَلَيْهِ
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا وَمَا الْتَحَقَ بِهِ مِنَ الْمُتَابَعَاتِ تِسْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا وَالْبَاقِي مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ حَدِيثًا، وَالْبَاقِي خَالِصٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَنَسٍ فِيمَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ، وَحَدِيثِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ فِي فَضْلِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي ذَلِكَ وَحَدِيثِهِ أَيْضًا: أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِرَاءَةِ الْمُعَوِّذَاتِ عِنْدَ النَّوْمِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِرَاءَتِهِ الْمُفَصَّلَ، وَحَدِيثِهِ: لَمْ يَتْرُكْ إِلَّا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ، وَحَدِيثِ عُثْمَانَ: إِنَّ خَيْرَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ: كَانَتْ قِرَاءَتُهُ مَدًّا، وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ آيَةً. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ سَبْعَةُ آثَارٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
67 - كِتَاب النِّكَاحِ
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم - كِتَابُ النِّكَاحِ) كَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَعَنْ رِوَايَةِ الْفَرَبْرِيِّ تَأْخِيرُ الْبَسْمَلَةِ. والنِّكَاحُ فِي اللُّغَةِ الضَّمُّ وَالتَّدَاخُلُ، وَتَجَوَّزَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ الضَّمُّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: النُّكْحُ بِضَمٍّ ثُمَّ سُكُونٍ اسْمُ الْفَرْجِ، وَيَجُوزُ كَسْرُ أَوَّلِهِ وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْوَطْءِ، وَسُمِّيَ بِهِ الْعَقْدُ لِكَوْنِهِ سَبَبَهُ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيُّ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا.
وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: إِذَا قَالُوا نَكَحَ فُلَانَةَ أَوْ بِنْتَ فُلَانٍ فَالْمُرَادُ الْعَقْدُ، وَإِذَا قَالُوا نَكَحَ زَوْجَتَهُ فَالْمُرَادُ الْوَطْءُ. وَقَالَ آخَرُونَ أَصْلُهُ لُزُومُ شَيْءٍ لِشَيْءٍ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِ، وَيَكُونُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ وَفِي الْمَعَانِي، قَالُوا نَكَحَ الْمَطَرُ الْأَرْضَ وَنَكَحَ النُّعَاسُ عَيْنَهُ وَنَكَحْتُ الْقَمْحَ فِي الْأَرْضِ إِذَا حَرَثْتُهَا وَبَذَرْتُهُ فِيهَا وَنَكَحَتِ الْحَصَاةُ أَخْفَافَ الْإِبِلِ. وَفِي الشَّرْعِ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ كَثْرَةُ وُرُودِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِلْعَقْدِ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا لِلْعَقْدِ وَلَا يَرِدُ مِثْلُ قَوْلِهِ {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} لِأَنَّ شَرْطَ الْوَطْءِ فِي التَّحْلِيلِ إِنَّمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَإِلَّا فَالْعَقْدُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ حَتَّى تَنْكِحَ مَعْنَاهُ حَتَّى تَتَزَوَّجَ أَيْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ بِمُجَرَّدِهِ لَكِنْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنْ لَا عِبْرَةَ بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ، بَلْ لَا بُدَّ بَعْدَ الْعَقْدِ مِنْ ذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ، كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ التَّطْلِيقِ ثُمَّ الْعِدَّةِ. نَعَمْ أَفَادَ أَبُو الْحُسَيْنِ ابْنُ فَارِسٍ أَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا لِلتَّزْوِيجِ، إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحُلُمُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ - كَقَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ - إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ، وَقِيلَ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَبِهِ جَزَمَ الزَّجَّاجِيُّ، وَهَذَا الَّذِي يَتَرَجَّحُ فِي نَظَرِي وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَقْدِ، وَرَجَّحَ بَعْضُهُمُ الْأَوَّلَ بِأَنَّ أَسْمَاءَ الْجِمَاعِ كُلَّهَا كِنَايَاتٌ لِاسْتِقْبَاحِ ذِكْرِهِ، فَيَبْعُدُ أَنْ يَسْتَعِيرَ مَنْ لَا يَقْصِدُ فُحْشًا اسْمَ مَا يَسْتَفْظِعُهُ لِمَا لَا يَسْتَفْظِعُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ لِلْعَقْدِ، وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمُدَّعِي أَنَّهَا كُلَّهَا كِنَايَاتٌ. وَقَدْ جَمَعَ اسْمَ النِّكَاحِ ابْنُ الْقَطَّاعِ فَزَادَتْ عَلَى الْأَلْفِ.
1 - بَاب التَّرْغِيبِ فِي النِّكَاحِ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} آيَةَ
5063 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ الطَّوِيلُ: أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَدْ غُفِرَ الله لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا، فَأنا أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ، فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي.
5064 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَا تَعُولُوا قَالَتْ يَا ابْنَ أُخْتِي الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ صَدَاقِهَا فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فَيُكْمِلُوا الصَّدَاقَ وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ"
قَوْلُهُ (بَابُ التَّرْغِيبِ فِي النِّكَاحِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} زَادَ الْأَصِيلِيُّ، وَأَبُو الْوَقْتِ الْآيَةَ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهَا صِيغَةُ أَمْرٍ تَقْتَضِي الطَّلَبَ، وَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ النَّدْبُ فَثَبَتَ التَّرْغِيبُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ مَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ مِنْ أَعْدَادِ النِّسَاءِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ انْتَزَعَ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرِ بِنِكَاحِ الطَّيِّبِ مَعَ وُرُودِ النَّهْيِ عَنْ تَرْكِ الطَّيِّبِ وَنِسْبَةِ فَاعِلِهِ إِلَى الِاعْتِدَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي النِّكَاحِ، فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ عِبَادَةً، وَلِهَذَا لَوْ نَذَرَهُ لَمْ يَنْعَقِدْ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: هُوَ عِبَادَةٌ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الصُّورَةَ الَّتِي يُسْتَحَبُّ فِيهَا النِّكَاحُ - كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ - تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ حِينَئِذٍ عِبَادَةً، فَمَنْ نَفَى نَظَرَ إِلَيْهِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ وَمَنْ أَثْبَتَ نَظَرَ إِلَى الصُّورَةِ الْمَخْصُوصَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ.
الأول: حَدِيثُ أَنَسٍ، وَهُوَ مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لَكِنْ مِنْ طَرِيقَيْنِ إِلَى أَنَسٍ.
قَوْلُهُ (جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ) كَذَا فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ، وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا فَالرَّهْطُ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ، وَالنَّفَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى تِسْعَةٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَّ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورِينَ هُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْعَدَنِيِّ كَانَ عَلِيٌّ فِي أُنَاسٍ مِمَّنْ أَرَادُوا أَنْ يُحَرِّمُوا الشَّهَوَاتِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الْمَائِدَةِ وَوَقَعَ فِي أَسْبَابِ الْوَاحِدِيِّ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ النَّاسَ وَخَوَّفَهُمْ، فَاجْتَمَعَ عَشَرَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ - وَهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَالْمِقْدَادُ، وَسَلْمَانُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَمَعْقِلُ بْنُ مُقَرِّنٍ - فِي بَيْتِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَصُومُوا النَّهَارَ وَيَقُومُوا اللَّيْلَ وَلَا يَنَامُوا عَلَى الْفُرُشِ وَلَا يَأْكُلُوا اللَّحْمَ وَلَا يَقْرَبُوا النِّسَاءَ وَيَجُبُّوا مَذَاكِيرَهُمْ.
فَإِنْ كَانَ هَذَا مَحْفُوظًا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْطُ الثَّلَاثَةُ هُمُ الَّذِينَ بَاشَرُوا السُّؤَالَ فَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ بِخُصُوصِهِمْ تَارَةً وَنُسِبَ تَارَةً لِلْجَمِيعِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي طَلَبِهِ، وَيُؤَيِّدُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي الْجُمْلَةِ مَا رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَ عَقَارَهُ فَيَجْعَلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيُجَاهِدَ الرُّومَ حَتَّى يَمُوتَ، فَلَقِيَ نَاسًا بِالْمَدِينَةِ فَنَهَوْهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّ رَهْطًا سِتَّةً أَرَادُوا ذَلِكَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَهَاهُمْ، فَلَمَّا حَدَّثُوهُ ذَلِكَ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ وَكَانَ قَدْ طَلَّقَهَا يَعْنِي بِسَبَبِ ذَلِكَ، لَكِنْ فِي عَدِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَعَهُمْ نَظَرٌ، لِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ عَبْدُ اللَّهِ فِيمَا أَحْسَبُ.
قَوْلُهُ (يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ فِي السِّرِّ.
قَوْلُهُ (كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَضْمُومَةِ أَيِ اسْتَقَلُّوهَا، وَأَصْلُ تَقَالُّوهَا تَقَالَلُوهَا أَيْ رَأَى كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهَا قَلِيلَةٌ.
قَوْلُهُ (فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ قَدْ غُفِرَ لَهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِحُصُولِ ذَلِكَ لَهُ يُحْتَاجُ إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْعِبَادَةِ عَسَى أَنْ يَحْصُلَ، بِخِلَافِ مَنْ حَصَلَ لَهُ، لَكِنْ قَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِلَازِمٍ، فَأَشَارَ إِلَى هَذَا بِأَنَّهُ أَشَدُّهُمْ خَشْيَةً وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِمَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ فِي جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَأَشَارَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَالْمُغِيرَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ - إِلَى مَعْنًى آخَرَ بِقَوْلِهِ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا.
قَوْلُهُ (فَقَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَأَنَا أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا) هُوَ قَيْدٌ لِلَّيْلِ لَا لِأُصَلِّي، وَقَوْلُهُ فلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا أَكَّدَ الْمُصَلِّي وَمُعْتَزِلَ النِّسَاءِ بِالتَّأْبِيدِ وَلَمْ يُؤَكِّدِ الصِّيَامَ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فِطْرِ اللَّيَالِي وَكَذَا أَيَّامُ الْعِيدِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا أَنَامُ عَلَى الْفِرَاشِ، وَظَاهِرُهُ مِمَّا يُؤَكِّدُ زِيَادَةَ عَدَدِ الْقَائِلِينَ. لِأَنَّ تَرْكَ أَكْلِ اللَّحْمِ أَخَصُّ مِنْ مُدَاوَمَةِ الصِّيَامِ، وَاسْتِغْرَاقَ اللَّيْلِ بِالصَّلَاةِ أَخَصُّ مِنْ تَرْكِ النَّوْمِ عَلَى الْفِرَاشِ. وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ.
قَوْلُهُ (فَجَاءَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا؟ وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ عُمُومًا جَهْرًا مَعَ عَدَمِ تَعْيِينِهِمْ وَخُصُوصًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ رِفْقًا بِهِمْ وَسَتْرًا لَهُمْ.
قَوْلُهُ (أَمَا وَاللَّهِ) بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ حَرْفُ تَنْبِيهٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْخَبَرِ أَمَّا أَنَا فَإِنَّهَا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ لِلتَّقْسِيمِ.
قَوْلُهُ (إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى رَدِّ مَا بَنَوْا عَلَيْهِ أَمْرَهُمْ مِنْ أَنَّ الْمَغْفُورَ لَهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدٍ فِي الْعِبَادَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ يُبَالِغُ فِي التَّشْدِيدِ فِي الْعِبَادَةِ أَخْشَى لِلَّهِ وَأَتْقَى مِنَ الَّذِينَ يُشَدِّدُونَ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشَدِّدَ لَا يَأْمَنُ مِنَ الْمَلَلِ بِخِلَافِ الْمُقْتَصِدِ فَإِنَّهُ أَمْكَنُ لِاسْتِمْرَارِهِ وَخَيْرُ الْعَمَلِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَقَدْ أَرْشَدَ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الْمُنْبَتُّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَتَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ شَيْءٌ مِنْهُ.
قَوْلُهُ (لَكِنِّي) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ شَيْءٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ أَيْ أَنَا وَأَنْتُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُبُودِيَّةِ سَوَاءٌ، لَكِنْ أَنَا أَعْمَلُ كَذَا.
قَوْلُهُ (فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) الْمُرَادُ بِالسُّنَّةِ الطَّرِيقَةُ لَا الَّتِي تُقَابِلُ الْفَرْضَ، وَالرَّغْبَةُ عَنِ الشَّيْءِ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ مَنْ تَرَكَ طَرِيقَتِي وَأَخَذَ بِطَرِيقَةِ غَيْرِي فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَمَّحَ بِذَلِكَ إِلَى طَرِيقِ الرَّهْبَانِيَّةِ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا التَّشْدِيدَ كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ عَابَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَا وَفَّوْهُ بِمَا الْتَزَمُوهُ، وَطَرِيقَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ فَيُفْطِرُ لِيَتَقَوَّى عَلَى الصَّوْمِ وَيَنَامُ لِيَتَقَوَّى عَلَى الْقِيَامِ وَيَتَزَوَّجُ لِكَسْرِ الشَّهْوَةِ وَإِعْفَافِ النَّفْسِ. وَتَكْثِيرِ النَّسْلِ. وَقَوْلُهُ فَلَيْسَ مِنِّي إِنْ كَانَتِ الرَّغْبَةُ
بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ يُعْذَرُ صَاحِبُهُ فِيهِ فَمَعْنَى فَلَيْسَ مِنِّي أَيْ عَلَى طَرِيقَتِي وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْمِلَّةِ وَإِنْ كَانَ إِعْرَاضًا وَتَنَطُّعًا يُفْضِي إِلَى اعْتِقَادِ أَرْجَحِيَّةِ عَمَلِهِ، فَمَعْنَى: فَلَيْسَ مِنِّي: لَيْسَ عَلَى مِلَّتِي، لِأَنَّ اعْتِقَادَ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الْكُفْرِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى فَضْلِ النِّكَاحِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ، وَفِيهِ تَتَبُّعُ أَحْوَالِ الْأَكَابِرِ لِلتَّأَسِّي بِأَفْعَالِهِمْ وَأَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَتْ مَعْرِفَتُهُ مِنَ الرِّجَالِ جَازَ اسْتِكْشَافُهُ مِنَ النِّسَاءِ، وَأَنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى عَمَلِ بِرٍّ وَاحْتَاجَ إِلَى إِظْهَارِهِ حَيْثُ يَأْمَنُ الرِّيَاءَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَمْنُوعًا. وَفِيهِ تَقْدِيمُ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ عِنْدَ إِلْقَاءِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ وَبَيَانُ الْأَحْكَامِ لِلْمُكَلَّفِينَ وَإِزَالَةُ الشُّبْهَةِ عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَنَّ الْمُبَاحَاتِ قَدْ تَنْقَلِبُ بِالْقَصْدِ إِلَى الْكَرَاهَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: فِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ مَنَعَ اسْتِعْمَالَ الْحَلَالِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالْمَلَابِسِ وَآثَرَ غَلِيظَ الثِّيَابِ وَخَشِنَ الْمَأْكَلِ. قَالَ عِيَاضٌ هَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ فَمِنْهُمْ مَنْ نَحَا إِلَى مَا قَالَ الطَّبَرِيُّ وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} قَالَ وَالْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْكُفَّارِ وَقَدْ أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْأَمْرَيْنِ.
قُلْتُ: لَا يَدُلُّ ذَلِكَ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ، وَالْحَقُّ: إنَّ مُلَازَمَةَ اسْتِعْمَالِ الطَّيِّبَاتِ تُفْضِي إِلَى التَّرَفُّهِ وَالْبَطَرِ وَلَا يَأْمَنُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ لِأَنَّ مَنِ اعْتَادَ ذَلِكَ قَدْ لَا يَجِدُهُ أَحْيَانًا فَلَا يَسْتَطِيعُ الِانْتِقَالَ عَنْهُ فَيَقَعُ فِي الْمَحْظُورِ كَمَا أَنَّ مَنْعَ تَنَاوُلِ ذَلِكَ أَحْيَانًا يُفْضِي إِلَى التَّنَطُّعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} كَمَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالتَّشْدِيدِ فِي الْعِبَادَةِ يُفْضِي إِلَى الْمَلَلِ الْقَاطِعِ لِأَصْلِهَا وَمُلَازَمَةَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْفَرَائِضِ مَثَلًا وَتَرْكَ التَّنَفُّلِ يُفْضِي إِلَى إِيثَارِ الْبَطَالَةِ وَعَدَمِ النَّشَاطِ إِلَى الْعِبَادَةِ وَخَيْرُ الْأُمُورِ الْوَسَطُ، وَفِي قَوْلِهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَيْهِ إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ أَيْضًا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِاللَّهِ وَمَعْرِفَةَ مَا يَجِبُ مِنْ حَقِّهِ أَعْظَمُ قَدْرًا مِنْ مُجَرَّدِ الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الحديث الثاني.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ) لَمْ أَرَ عَلِيًّا هَذَا مَنْسُوبًا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ، وَلَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ وَلَا نَسَبَهُ أَبُو نُعَيْمٍ كَعَادَتِهِ، لَكِنْ جَزَمَ الْمِزِّيُّ تَبَعًا لِأَبِي مَسْعُودٍ بِأَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَكَأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى ذَلِكَ شُهْرَةُ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ فِي شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ فَإِذَا أُطْلِقَ اسْمُهُ كَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ رَوَى عَنْ حَسَّانَ - مِمَّنْ يُسَمَّى عَلِيًّا - عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا، وَكَانَ حَسَّانُ الْمَذْكُورُ قَاضِيَ كِرْمَانَ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، وَلَكِنْ لَهُ أَفْرَادٌ، قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: هُوَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ إِلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا غَلِطَ. قُلْتُ: وَلَمْ أَرَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ شَيْئًا انْفَرَدَ بِهِ، وَقَدْ أَدْرَكَهُ بِالسِّنِّ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَلْقَهُ لِأَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِيهِ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ.
2 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فإنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ. وَهَلْ يَتَزَوَّجُ مَنْ لَا أَرَبَ لَهُ فِي النِّكَاحِ
5065 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ، فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ بِمِنًى، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، فَخَلَيا، فَقَالَ عُثْمَانُ: هَلْ لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي أَنْ نُزَوِّجَكَ بِكْرًا، تُذَكِّرُكَ مَا كُنْتَ تَعْهَدُ؟ فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى هَذَا، أَشَارَ إِلَيَّ فَقَالَ: يَا عَلْقَمَةُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: أَمَا لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، لَقَدْ قَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ.
قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ لِأَنَّهُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ بَقِيَّةُ لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَ تَصَرَّفَ فِيهِ فَاخْتَصَرَ مِنْهُ لَفْظَ مِنْكُمْ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الشِّفَاهِيَّ لَا يَخُصُّ، وَهُوَ كَذَلِكَ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ هَلْ يَعُمُّ نَصًّا أَوِ اسْتِنْبَاطًا؟ ثُمَّ رَأَيْتُهُ فِي الصِّيَامِ أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظِ مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ كَمَا تَرْجَمَ بِهِ لَيْسَ فِيهِ مِنْكُمْ.
قَوْلُهُ (وَهَلْ يَتَزَوَّجُ مَنْ لَا أَرَبَ لَهُ فِي النِّكَاحِ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا وَقَعَ بَيْنَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعُثْمَانَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ فَأَجَابَهُ بِالْحَدِيثِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لَا أَرَبَ فِيهِ لَهُ فَلَمْ يُوَافِقْهُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ وَافَقَهُ وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ رَمَزَ إِلَى مَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ لَا يَتُوقُ إِلَى النِّكَاحِ هَلْ يُنْدَبُ إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَسَأَذْكُرُ ذَلِكَ بَعْدُ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ) هُوَ النَّخَعِيُّ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّهُ أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ، وَهِيَ تَرْجَمَةُ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلِلْأَعْمَشِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِسْنَادٌ آخَرُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ بِإِسْنَادِهِ بِعَيْنِهِ إِلَى الْأَعْمَشِ.
قَوْلُهُ (كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ) يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ (فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ بِمِنًى) كَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَفِي رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ شَاذَّةٌ.
قَوْلُهُ (فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هِيَ كُنْيَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَظَنَّ ابْنُ الْمُنِيرِ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ لِأَنَّهَا كُنْيَتُهُ الْمَشْهُورَةُ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي نُسْخَتِهِ مِنْ شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ عَقِبِ التَّرْجَمَةِ فِيهِ ابْنُ عُمَرَ، لَقِيَهُ عُثْمَانُ بِمِنًى وَقَصَّ الْحَدِيثَ. فَكَتَبَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي حَاشِيَتِهِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ فِي زَمَنِ الشَّبَابِ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ شَابًّا، كَذَا قَالَ، وَلَا مَدْخَلَ لِابْنِ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَصْلًا، بَلِ الْقِصَّةُ وَالْحَدِيثُ لِابْنِ مَسْعُودٍ، مَعَ أَنَّ دَعْوَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ شَابًّا إِذْ ذَاكَ فِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَأُبَيِّنُهُ قَرِيبًا. فَإِنَّهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ جَاوَزَ الثَّلَاثِينَ.
قَوْلُهُ (فَخَلَيَا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فَخَلَوَا قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَهِيَ الصَّوَابُ، لِأَنَّهُ وَاوِيٌّ يَعْنِي مِنَ الْخَلْوَةِ مِثْلُ دَعَوَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ} انْتَهَى. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ مُسْلِمٍ. إِذْ لَقِيَهُ عُثْمَانُ فَقَالَ: هَلُمَّ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَاسْتَخْلَاهُ.
قَوْلُهُ (فَقَالَ عُثْمَانُ: هَلْ لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي أَنْ نُزَوِّجَكَ بِكْرًا تُذَكِّرُكَ مَا كُنْتَ تَعْهَدُ) لَعَلَّ عُثْمَانَ رَأَى بِهِ قَشَفًا وَرَثَاثَةَ هَيْئَةٍ فَحَمَلَ ذَلِكَ عَلَى فَقْدِهِ الزَّوْجَةَ الَّتِي تُرَفِّهُهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ وَلَعَلَّهَا أَنْ تُذَكِّرَ مَا مَضَى مِنْ زَمَانِكَ وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ مُسْلِمٍ لَعَلَّكَ يَرْجِعُ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ مَا كُنْتَ تَعْهَدُ وَفِي رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ لَعَلَّهَا أَنْ تُذَكِّرَكَ مَا فَاتَكَ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مُعَاشَرَةَ الزَّوْجَةِ الشَّابَّةِ تَزِيدُ فِي الْقُوَّةِ وَالنَّشَاطِ، بِخِلَافِ عَكْسِهَا فَبِالْعَكْسِ.
قَوْلُهُ (فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى هَذَا أَشَارَ إِلَيَّ فَقَالَ: يَا عَلْقَمَةُ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ أَمَا لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ لَقَدْ) هَكَذَا عِنْدَ الْأَكْثَرِ أَنَّ مُرَاجَعَةَ عُثْمَانَ، لِابْنِ مَسْعُودٍ فِي أَمْرِ التَّزْوِيجِ كَانَتْ قَبْلَ اسْتِدْعَائِهِ لِعَلْقَمَةَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ بِالْعَكْسِ، وَلَفْظُ جَرِيرٍ بَعْدَ قَوْلِهِ فَاسْتَخْلَاهُ فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ قَالَ لِي: تَعَالَ يَا عَلْقَمَةُ، قَالَ فَجِئْتُ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: أَلَا نُزَوِّجُكَ وَفِي رِوَايَةِ زَيْدٍ فَلَقِيَ عُثْمَانَ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَقَامَا، وَتَنَحَّيْتُ عَنْهُمَا، فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ لَيْسَتْ لَهُ حَاجَةٌ يُسِرُّهَا قَالَ: ادْنُ يَا عَلْقَمَةُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: أَلَا نُزَوِّجُكَ وَيَحْتَمِلُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ أَعَادَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ مَا كَانَ قَالَ لَهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَدْعَى عَلْقَمَةَ، لِكَوْنِهِ فَهِمَ مِنْهُ إِرَادَةَ إِعْلَامِ عَلْقَمَةَ بِمَا كَانَ فِيهِ.
قَوْلُهُ (لَقَدْ قَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ) فِي رِوَايَةِ زَيْدٍ لَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَبَابًا فَقَالَ لَنَا وَفِي
رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ دَخَلْتُ مَعَ عَلْقَمَةَ، وَالْأَسْوَدِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَبَابًا لَا نَجِدُ شَيْئًا، فَقَالَ لَنَا: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ شَابٌّ، فَحَدَّثَ بِحَدِيثٍ رَأَيْتُ أَنَّهُ حَدَّثَ بِهِ مِنْ أَجْلِي وَفِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ وَأَنَا أُحَدِّثُ الْقَوْمَ.
قَوْلُهُ (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ) الْمَعْشَرُ جَمَاعَةٌ يَشْمَلُهُمْ وَصْفٌ مَا، وَالشَّبَابُ جَمْعُ شَابٍّ وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى شَبَبَةٍ وَشُبَّانٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَالتَّثْقِيلِ، وَذَكَرَ الْأَزْهَرِيُّ أَنَّهُ لَمْ يُجْمَعْ فَاعِلٌ عَلَى فُعَّالٍ غَيْرُهُ، وَأَصْلُهُ الْحَرَكَةُ وَالنَّشَاطُ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَنْ بَلَغَ إِلَى أَنْ يُكْمِلَ ثَلَاثِينَ، هَكَذَا أَطْلَقَ الشَّافِعِيَّةُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ يُقَالُ لَهُ حَدَثَ إِلَى سِتَّةِ عَشَرَ سَنَةً، ثُمَّ شَابٌّ إِلَى اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ ثُمَّ كَهْلٌ، وَكَذَا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الشَّبَابِ أَنَّهُ مِنْ لَدُنِ الْبُلُوغِ إِلَى اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَقَالَ ابْنُ شَاسٍ الْمَالِكِيُّ فِي الْجَوَاهِرِ إِلَى أَرْبَعِينَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَصَحُّ الْمُخْتَارُ أَنَّ الشَّابَّ مَنْ بَلَغَ وَلَمْ يُجَاوِزِ الثَّلَاثِينَ، ثُمَّ هُوَ كَهْلٌ إِلَى أَنْ يُجَاوِزَ الْأَرْبَعِينَ، ثُمَّ هُوَ شَيْخٌ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ وَطَائِفَةٌ: مَنْ جَاوَزَ الثَّلَاثِينَ سُمِّيَ شَيْخًا، زَادَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الْخَمْسِينَ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَاينِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ: الْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إِلَى اللُّغَةِ، وَأَمَّا بَيَاضُ الشَّعْرِ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْزِجَةِ.
قَوْلُهُ (مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ) خَصَّ الشَّبَابَ بِالْخِطَابِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ وُجُودُ قُوَّةِ الدَّاعِي فِيهِمْ إِلَى النِّكَاحِ بِخِلَافِ الشُّيُوخِ. وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى مُعْتَبَرًا إِذَا وُجِدَ السَّبَبُ فِي الْكُهُولِ وَالشُّيُوخِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ (الْبَاءَةُ) بِالْهَمْزِ وَتَاءِ تَأْنِيثٍ مَمْدُودٌ، وَفِيهَا لُغَةٌ أُخْرَى بِغَيْرِ هَمْزٍ وَلَا مَدٍّ، وَقَدْ يُهْمَزُ وَيُمَدُّ بِلَا هَاءٍ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا الْبَاهَةُ كَالْأَوَّلِ لَكِنْ بِهَاءٍ بَدَلَ الْهَمْزَةِ، وَقِيلَ بِالْمَدِّ الْقُدْرَةُ عَلَى مُؤَنِ النِّكَاحِ وَبِالْقَصْرِ الْوَطْءِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ بِالْبَاءَةِ النِّكَاحُ، وَأَصْلُهُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَتَبَوَّؤُهُ وَيَأْوِي إِلَيْهِ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: اشْتُقَّ الْعَقْدُ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ أَصْلِ الْبَاءَةِ، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ مَنْ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ أَنْ يُبَوِّئَهَا مَنْزِلًا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْبَاءَةِ هُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ: أَصَحُّهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيُّ وَهُوَ الْجِمَاعُ، فَتَقْدِيرُهُ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْجِمَاعَ لِقُدْرَتِهِ عَلَى مُؤَنِهِ - وَهِيَ مُؤَنُ النِّكَاحِ - فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْجِمَاعَ لِعَجْزِهِ عَنْ مُؤَنِهِ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ لِيَدْفَعَ شَهْوَتَهُ وَيَقْطَعَ شَرِّ مَنِيِّهِ كَمَا يَقْطَعُهُ الْوِجَاءُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقَعَ الْخِطَابُ مَعَ الشَّبَابِ الَّذِينَ هُمْ مَظِنَّةُ شَهْوَةِ النِّسَاءِ وَلَا يَنْفَكُّونَ عَنْهَا غَالِبًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالْبَاءَةِ مُؤَنُ النِّكَاحِ، سُمِّيَتْ بِاسْمِ مَا يُلَازِمُهَا، وَتَقْدِيرُهُ: مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ مُؤَنَ النِّكَاحِ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَصُمْ لِدَفْعِ شَهْوَتِهِ. وَالَّذِي حَمَلَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا عَلَى مَا قَالُوهُ قَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ. قَالُوا: وَالْعَاجِزُ عَنِ الْجِمَاعِ لَا يُحْتَاجُ إِلَى الصَّوْمِ لِدَفْعِ الشَّهْوَةِ، فَوَجَبَ تَأْوِيلُ الْبَاءَةِ عَلَى الْمُؤَنِ. وَانْفَصَلَ الْقَائِلُونَ بِالْأَوَّلِ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّقْدِيرِ الْمَذْكُورِ انْتَهَى. وَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ لِلْمَازِرِيِّ. وَأَجَابَ عَنْهُ عِيَاضٌ بِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ تَخْتَلِفَ الِاسْتِطَاعَتَانِ، فَيَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ أَيْ بَلَغَ الْجِمَاعَ وَقَدَرَ عَلَيْهِ فَلْيَتَزَوَّجْ. وَيَكُونَ قَوْلُهُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَيْ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّزْوِيجِ. قُلْتُ: وَتَهَيَّأَ لَهُ هَذَا لِحَذْفِ الْمَفْعُولِ فِي الْمَنْفِيِّ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْبَاءَةَ، أَوْ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ التَّزْوِيجِ، وَقَدْ وَقَعَ كُلٌّ مِنْهُمَا صَرِيحًا، فَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَزَوَّجَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مَنْ كَانَ ذَا طَوْلٍ فَلْيَنْكِحْ وَمِثْلُهُ لِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَلِلْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ.
وَأَمَّا تَعْلِيلُ الْمَازِرِيِّ فَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي فِي الْبَابِ
الَّذِي يَلِيهِ بِلَفْظِ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَبَابًا لَا نَجِدُ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاءَةِ الْجِمَاعُ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ بِأَنْ يُرَادَ بِالْبَاءَةِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْوَطْءِ وَمُؤَنِ التَّزْوِيجِ، وَالْجَوَابُ عَمَّا اسْتَشْكَلَهُ الْمَازِرِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرْشِدَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْجِمَاعَ مِنَ الشَّبَابِ لِفَرْطِ حَيَاءٍ أَوْ عَدَمِ شَهْوَةٍ أَوْ عُنَّةٍ مَثَلًا إِلَى مَا يُهَيِّئُ لَهُ اسْتِمْرَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ، لِأَنَّ الشَّبَابَ مَظِنَّةُ ثَوَرَانِ الشَّهْوَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الْجِمَاعِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَسْرِهَا فِي حَالَةِ أَنْ يَسْتَمِرَّ كَسْرُهَا، فَلِهَذَا أَرْشَدَ إِلَى مَا يَسْتَمِرُّ بِهِ الْكَسْرُ الْمَذْكُورُ، فَيَكُونُ قَسَمَ الشَّبَابَ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَتُوقُونَ إِلَيْهِ وَلَهُمُ اقْتِدَارٌ عَلَيْهِ، فَنَدَبَهُمْ إِلَى التَّزْوِيجِ دَفْعًا لِلْمَحْذُورِ، بِخِلَافِ الْآخَرِينَ فَنَدَبَهُمْ إِلَى أَمْرٍ تَسْتَمِرُّ بِهِ حَالَتُهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَرْفَقُ بِهِمْ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، وَهِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَجِدُونَ شَيْئًا، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الَّذِي لَا يَجِدُ أُهْبَةَ النِّكَاحِ وَهُوَ تَائِقٌ إِلَيْهِ يُنْدَبُ لَهُ التَّزْوِيجُ دَفْعًا لِلْمَحْذُورِ.
قَوْلُهُ (فَلْيَتَزَوَّجْ) زَادَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ هُنَا: فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ. وَكَذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عِنْدَ جَمِيعِ مَنْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَكَذَا ثَبَتَ بِإِسْنَادِهِ الْآخَرِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّ حَذْفَهَا مِنْ قِبَلِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ شَيْخِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ. وَإِنَّمَا آثَرَ الْبُخَارِيُّ رِوَايَتَهُ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ لِوُقُوعِ التَّصْرِيحِ فِيهَا مِنَ الْأَعْمَشِ بِالتَّحْدِيثِ، فَاغْتُفِرَ لَهُ اخْتِصَارُ الْمَتْنِ لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ. وَقَوْلُهُ أَغَضُّ أَيْ أَشَدُّ غَضًّا وَأَحْصَنُ أَيْ أَشَدُّ إِحْصَانًا لَهُ وَمَنْعًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْفَاحِشَةِ. وَمَا أَلْطَفَ مَا وَقَعَ لِمُسْلِمٍ حَيْثُ ذَكَرَ عَقِبَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا بِيَسِيرِ حَدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ: إِذَا أَحَدُكُمْ أَعْجَبَتْهُ الْمَرْأَةُ فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ فَلْيَعْمِدْ إِلَى امْرَأَتِهِ فَلْيُوَاقِعْهَا ; فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ. فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى الْمُرَادِ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَفْعَلُ عَلَى بَابِهَا، فَإِنَّ التَّقْوَى سَبَبٌ لِغَضِّ الْبَصَرِ وَتَحْصِينِ الْفَرْجِ، وَفِي مُعَارَضَتِهَا الشَّهَوِيَّةِ الدَّاعِيَةِ، وَبَعْدَ حُصُولِ التَّزْوِيجِ يَضْعُفُ هَذَا الْعَارِضُ فَيَكُونُ أَغَضَّ وَأَحْصَنَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ وُقُوعَ الْفِعْلِ مَعَ ضَعْفِ الدَّاعِي أَنْدَرُ مِنْ وُقُوعِهِ مِنْ وُجُودِ الدَّاعِي. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَفْعَلُ فِيهِ لِغَيْرِ الْمُبَالَغَةِ بَلْ إِخْبَارٌ عَنِ الْوَاقِعِ فَقَطْ.
قَوْلُهُ (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ) فِي رِوَايَةِ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ قَالَ الْمَازِرِيُّ: فِيهِ إِغْرَاءٌ بِالْغَائِبِ، وَمِنْ أُصُولِ النَّحْوِيِّينَ أَنْ لَا يُغْرَى الْغَائِبُ، وَقَدْ جَاءَ شَاذًّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ عَلَيْهِ رَجُلًا لَيَسْنِيَ عَلَى جِهَةِ الْإِغْرَاءِ. وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ بِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَوْجُودٌ لِابْنِ قُتَيْبَةَ، وَالزَّجَّاجِيِّ، وَلَكِنْ فِيهِ غَلَطٌ مِنْ أَوْجُهٍ: أَمَّا أَوَّلًا فَمِنَ التَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ لَا إِغْرَاءَ بِالْغَائِبِ، وَالصَّوَابُ فِيهِ إِغْرَاءُ الْغَائِبِ، فَأَمَّا الْإِغْرَاءُ بِالْغَائِبِ فَجَائِزٌ، وَنَصَّ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوِّزُ دُونَهُ زَيْدًا وَلَا يَجُوِّزُ عَلَيْهِ زَيْدًا عِنْدَ إِرَادَةِ غَيْرِ الْمُخَاطَبِ، وَإِنَّمَا جَازَ لِلْحَاضِرِ لِمَا فِيهِ مِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ، بِخِلَافِ الْغَائِبِ، فَلَا يَجُوزُ لِعَدَمِ حُضُورِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالْحَالَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُرَادِ، وَأَمَّا ثَانِيًا: فَإِنَّ الْمِثَالَ مَا فِيهِ حَقِيقَةُ الْإِغْرَاءِ وَأنْ كَانَتْ صُورَتَهُ، فَلَمْ يُرِدِ الْقَائِلُ تَبْلِيغَ الْغَائِبِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْإِخْبَارَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ قَلِيلُ الْمُبَالَاةِ بِالْغَائِبِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ: إِلَيْكَ عَنِّي، أَيِ اجْعَلْ شُغْلَكَ بِنَفْسِكَ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يُغْرِيَهُ بِهِ وَإِنَّمَا مُرَادُهُ دَعْنِي وَكُنْ كَمَنْ شُغِلَ عَنِّي.
وَأَمَّا ثَالِثًا: فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إِغْرَاءُ الْغَائِبِ بَلِ الْخِطَابُ لِلْحَاضِرِينَ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ فَالْخِصَاءُ فِي قَوْلِهِ فَعَلَيْهِ لَيْسَتْ لِغَائِبٍ وَإِنَّمَا هِيَ لِلْحَاضِرِ الْمُبْهَمِ، إِذْ لَا يَصِحُّ خِطَابُهُ بِالْكَافِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} - إِلَى أَنْ قَالَ - {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} وَمِثْلُهُ لَوْ قُلْتَ لِاثْنَيْنِ مَنْ قَامَ مِنْكُمَا فَلَهُ دِرْهَمٌ، فَالْهَاءُ لِلْمُبْهَمِ مِنَ الْمُخَاطَبَيْنَ لَا لِغَائِبٍ. اهـ مُلَخَّصًا.
وَقَدِ اسْتَحْسَنَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَهُوَ حَسَنٌ بَالِغٌ، وَقَدْ تَفَطَّنَ لَهُ الطِّيبِيُّ فَقَالَ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ قَوْلُهُ
فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ إِغْرَاءُ غَائِبٍ، وَلَا تَكَادُ الْعَرَبُ تُغْرِي إِلَّا الشَّاهِدَ تَقُولُ: عَلَيْكَ زَيْدًا وَلَا تَقُولُ: عَلَيْهِ زَيْدًا إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الضَّمِيرُ الْغَائِبُ رَاجِعًا إِلَى لَفْظَةِ مَنْ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَولِهِ يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ وَبَيَانٌ لِقَوْلِهِ مِنْكُمْ جَازَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ. وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ إِيرَادَ هَذَا اللَّفْظِ فِي مِثَالِ إِغْرَاءِ الْغَائِبِ هُوَ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ، وَجَوَابُ عِيَاضٍ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى، وَأَكْثَرُ كَلَامِ الْعَرَبِ اعْتِبَارُ اللَّفْظِ. كَذَا قَالَ، وَالْحَقُّ مَعَ عِيَاضٍ، فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ تَوَابِعُ لِلْمَعَانِي، وَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ مُجَرَّدًا هُنَا.
قَوْلُهُ (بِالصَّوْمِ) عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ فَعَلَيْهِ بِالْجُوعِ وَقِلَّةِ مَا يُثِيرُ الشَّهْوَةَ وَيَسْتَدْعِي طُغْيَانَ الْمَاءِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَى ذِكْرِ الصَّوْمِ، إِذْ مَا جَاءَ لِتَحْصِيلِ عِبَادَةٍ هِيَ بِرَأْسِهَا مَطْلُوبَةٌ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الصَّوْمِ فِي الْأَصْلِ كَسْرُ الشَّهْوَةِ.
قَوْلُهُ (فَإِنَّهُ) أَيِ الصَّوْمَ.
قَوْلُهُ (لَهُ وِجَاءٌ) بِكَسْرِ الْوَاوِ وَالْمَدِّ، أَصْلُهُ الْغَمْزُ، وَمِنْهُ وَجَأَهُ فِي عُنُقِهِ إِذَا غَمَزَهُ دَافِعًا لَهُ، وَوَجَأَهُ بِالسَّيْفِ إِذَا طَعَنَهُ بِهِ، وَوَجَأَ أُنْثَيَيْهِ غَمَزَهُمَا حَتَّى رَضَّهُمَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ وَهُوَ الْإِخْصَاءُ وَهِيَ زِيَادَةٌ مُدْرَجَةٌ فِي الْخَبَرِ لَمْ تَقَعْ إِلَّا فِي طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ هَذِهِ، وَتَفْسِيرُ الْوِجَاءِ بِالْإِخْصَاءِ فِيهِ نَظَرٌ. فَإِنَّ الْوِجَاءَ رَضُّ الْأُنْثَيَيْنِ وَالْإِخْصَاءَ سَلُّهُمَا، وَإِطْلَاقُ الْوِجَاءِ عَلَى الصِّيَامِ مِنْ مَجَازِ الْمُشَابَهَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَجَا بِفَتْحِ الْوَاوِ مَقْصُورٌ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ لَا يُقَالُ: وَجَاءَ إِلَّا فِيمَا لَمْ يَبْرَأْ وَكَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِذَلِكَ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْجِمَاعَ فَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ تَرْكُ التَّزْوِيجِ، لِأَنَّهُ أَرْشَدَهُ إِلَى مَا يُنَافِيهِ وَيُضْعِفُ دَوَاعِيَهُ. وَأَطْلَقَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي حَقِّهِ.
وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الرَّجُلَ فِي التَّزْوِيجِ إِلَى أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: التَّائِقُ إِلَيْهِ الْقَادِرُ عَلَى مُؤَنِهِ، الْخَائِفُ عَلَى نَفْسِهِ، فَهَذَا يُنْدَبُ لَهُ النِّكَاحُ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ يَجِبُ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفَرَايِنِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَصَرَّحَ بِهِ فِي صَحِيحِهِ، وَنَقَلَهُ الْمِصِّيصِيُّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْجُوَيْنِيِّ وَجْهًا، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ وَأَتْبَاعِهِ.
وَرَدَّ عَلَيْهِمْ عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا خَيَّرَتْ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالتَّسَرِّي - يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالُوا: وَالتَّسَرِّي لَيْسَ وَاجِبًا اتِّفَاقًا، فَيَكُونُ التَّزْوِيجُ غَيْرَ وَاجِبٍ، إِذْ لَا يَقَعُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ، وَهَذَا الرَّدُّ مُتَعَقَّبٌ، فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِوُجُوبِهِ قَيَّدُوهُ بِمَا إِذَا لَمْ يَنْدَفِعِ التَّوَقَانُ بِالتَّسَرِّي، فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ تَعَيَّنَ التَّزْوِيجُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: وَفُرِضَ عَلَى كُلِّ قَادِرٍ عَلَى الْوَطْءِ إِنْ وَجَدَ مَا يَتَزَوَّجُ بِهِ أَوْ يَتَسَرَّى أَنْ يَفْعَلَ أَحَدَهُمَا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَلْيُكْثِرْ مِنَ الصَّوْمِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَهُمُ الْعَقْدُ لَا الْوَطْءُ، وَالْعَقْدُ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَدْفَعُ مَشَقَّةَ التَّوَقَانِ قَالَ: فَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْحَدِيثُ، وَمَا تَنَاوَلَهُ الْحَدِيثُ لَمْ يَذْهَبُوا إِلَيْهِ، كَذَا قَالَ، وَقَدْ صَرَّحَ أَكْثَرُ الْمُخَالِفِينَ بِوُجُوبِ الْوَطْءِ، فَانْدَفَعَ الْإِيرَادُ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: احْتَجَّ مَنْ لَمْ يُوجِبْهُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ قَالَ: فَلَمَّا كَانَ الصَّوْمُ الَّذِي هُوَ بَدَلُهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَمُبْدَلُهُ مِثْلَهُ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّوْمِ مُرَتَّبٌ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَلَا اسْتِحَالَةَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ أَوْجَبْتُ عَلَيْكَ كَذَا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَأَنْدُبْكَ إِلَى كَذَا. وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِلْقَادِرِ التَّائِقِ إِلَّا إِذَا خَشِيَ الْعَنَتَ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ اقْتَصَرَ ابْنُ هُبَيْرَةَ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الَّذِي نَطَقَ بِهِ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَقَدْ يَجِبُ عِنْدَنَا فِي حَقِّ مَنْ لَا يَنْكَفُّ عَنِ الزِّنَا إِلَّا بِهِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمُسْتَطِيعُ الَّذِي يَخَافُ الضَّرَرَ عَلَى نَفْسِهِ وَدِينِهِ مِنَ الْعُزُوبَةِ، بِحَيْثُ لَا يَرْتَفِعُ عَنْهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالتَّزْوِيجِ لَا يَخْتَلِفُ فِي وُجُوبِ التَّزْوِيجِ عَلَيْهِ. وَنَبَّهَ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَلَى صُورَةٍ يَجِبُ فِيهَا، وَهِيَ مَا إِذَا نَذَرَهُ حَيْثُ كَانَ مُسْتَحَبًّا.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قَسَّمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ النِّكَاحَ
إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، وَجَعَلَ الْوُجُوبَ فِيمَا إِذَا خَافَ الْعَنَتَ وَقَدَرَ عَلَى النِّكَاحِ وَتَعَذَّرَ التَّسَرِّي - وَكَذَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ بَعْضِ عُلَمَائِهِمْ وَهُوَ الْمَازِرِيُّ قَالَ: فَالْوُجُوبُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَنْكَفُّ عَنِ الزِّنَا إِلَّا بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ وَالتَّحْرِيمُ فِي حَقِّ مَنْ يُخِلُّ بِالزَّوْجَةِ فِي الْوَطْءِ وَالْإِنْفَاقِ مَعَ عَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَتَوَقَانِهِ إِلَيْهِ. وَالْكَرَاهَةُ فِي حَقِّ مِثْلِ هَذَا حَيْثُ لَا إِضْرَارَ بِالزَّوْجَةِ، فَإِنِ انْقَطَعَ بِذَلِكَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الطَّاعَةِ مِنْ عِبَادَةٍ أَوِ اشْتِغَالٍ بِالْعِلْمِ اشْتَدَّتِ الْكَرَاهَةُ، وَقِيلَ الْكَرَاهَةُ فِيمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ الْعُزُوبَةِ أَجْمَعَ مِنْهُ فِي حَالِ التَّزْوِيجِ. وَالِاسْتِحْبَابُ فِيمَا إِذَا حَصَلَ بِهِ مَعْنًى مَقْصُودًا مِنْ كَسْرِ شَهْوَةٍ وَإِعْفَافِ نَفْسٍ وَتَحْصِينِ فَرْجٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْإِبَاحَةُ فِيمَا انْتَفَتِ الدَّوَاعِي وَالْمَوَانِعُ. وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَمَرَّ بِدَعْوَى الِاسْتِحْبَابِ فِيمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ لِلظَّوَاهِرِ الْوَارِدَةِ فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ، قَالَ عِيَاضٌ: هُوَ مَنْدُوبٌ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ يُرْجَى مِنْهُ النَّسْلُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْوَطْءِ شَهْوَةٌ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكَمْ وَلِظَوَاهِرِ الْحَضِّ عَلَى النِّكَاحِ وَالْأَمْرِ بِهِ، وَكَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ رَغْبَةٌ فِي نَوْعٍ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّسَاءِ غَيْرِ الْوَطْءِ، فَأَمَّا مَنْ لَا يُنْسِلُ وَلَا أَرَبَ لَهُ فِي النِّسَاءِ، وَلَا فِي الِاسْتِمْتَاعِ فَهَذَا مُبَاحٌ فِي حَقِّهِ إِذَا عَلِمَتِ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ وَرَضِيَتْ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ مَنْدُوبٌ أَيْضًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: مَنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ فَوَائِدُ النِّكَاحِ وَانْتَفَتْ عَنْهُ آفَاتُهُ فَالْمُسْتَحَبُّ فِي حَقِّهِ التَّزْوِيجُ، وَمَنْ لَا، فَالتَّرْكُ لَهُ أَفْضَلُ، وَمَنْ تَعَارَضَ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِ فَلْيَجْتَهِدْ وَيَعْمَلْ بِالرَّاجِحِ. قُلْتُ: الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، فَأَمَّا حَدِيثُ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ فَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِلَفْظِ: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ بَلَاغًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: تَنَاكَحُوا تَكَاثَرُوا، فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ. وَلِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ: تَزَوَّجُوا، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ، وَلَا تَكُونُوا كَرَهْبَانِيَّةِ النَّصَارَى. وَوَرَدَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الصُّنَابِحِيِّ، وَابْنِ الْأَعْسَرِ، وَمَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، وَسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَحَرْمَلَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، وَعائِشَةَ، وَعِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَأَمَّا حَدِيثُ لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ فَلَمْ أَرَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ، لَكِنْ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ إِنَّ اللَّهَ أَبْدَلَنَا بِالرَّهْبَانِيَّةِ الْحَنِيفِيَّةَ السَّمْحَةَ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: لَا صَرُورَةَ فِي الْإِسْلَامِ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ التَّبَتُّلِ وَسَيَأْتِي فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، وَحَدِيثُ: مَنْ كَانَ مُوسِرًا فَلَمْ يَنْكِحْ، فَلَيْسَ مِنَّا.
أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَجَزَمَ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ وَحَدِيثِ طَاوُسٍ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، لِأَبِي الزَّوَائِدِ: إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنَ التَّزْوِيجِ عَجْزٌ أَوْ فُجُورٌ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ الْإِشَارَةُ إِلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ: النِّكَاحُ سُنَّتِي، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَفَعَهُ: مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ امْرَأَةً صَالِحَةً، فَقَدْ أَعَانَهُ عَلَى شَطْرِ دِينِهِ، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي الشَّطْرِ الثَّانِي. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَإِنْ كَانَ فِي الْكَثِيرِ مِنْهَا ضَعْفٌ فَمَجْمُوعُهَا يَدُلُّ: عَلَى أَنَّ لِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي التَّزْوِيجِ أَصْلًا، لَكِنْ فِي حَقِّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ النَّسْلُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا إِرْشَادُ الْعَاجِزِ عَنْ مُؤَنِ النِّكَاحِ إِلَى الصَّوْمِ، لِأَنَّ شَهْوَةَ النِّكَاحِ تَابِعَةٌ لِشَهْوَةِ الْأَكْلِ، تَقْوَى بِقُوَّتِهِ وَتَضْعُفُ بِضَعْفِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْخَطَّابِيُّ عَلَى جَوَازِ الْمُعَالَجَةِ لِقَطْعِ شَهْوَةِ النِّكَاحِ بِالْأَدْوِيَةِ، وَحَكَاهُ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى دَوَاءٍ يُسَكِّنُ الشَّهْوَةَ دُونَ مَا يَقْطَعُهَا أَصَالَةً، لِأَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ بَعْدُ فَيَنْدَمُ لِفَوَاتِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَكْسِرُهَا بِالْكَافُورِ وَنَحْوِهِ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى مَنْعِ الْجَبِّ وَالْخِصَاه فَيَلْحَقُ بِذَلِكَ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ التَّدَاوِي بِالْقَطْعِ أَصْلًا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْخَطَّابِيُّ
أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ النِّكَاحِ الْوَطْءُ وَلِهَذَا شُرِعَ الْخِيَارُ فِي الْعُنَّةِ. وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى غَضِّ الْبَصَرِ وَتَحْصِينِ الْفَرْجِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ وَعَدَمِ التَّكْلِيفِ بِغَيْرِ الْمُسْتَطَاعِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ حُظُوظَ النُّفُوسِ وَالشَّهَوَاتِ لَا تَتَقَدَّمُ عَلَى أَحْكَامِ الشَّرْعِ بَلْ هِيَ دَائِرَةٌ مَعَهَا.
وَاسْتَنْبَطَ الْقَرَافِيُّ مِنْ قَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ أَنَّ التَّشْرِيكَ فِي الْعِبَادَةِ لَا يَقْدَحُ فِيهَا بِخِلَافِ الرِّيَاءِ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالصَّوْمِ الَّذِي هُوَ قُرْبَةٌ وَهُوَ بِهَذَا الْقَصْدِ صَحِيحٌ مُثَابٌ عَلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَرْشَدَ إِلَيْهِ لِتَحْصِيلِ غَضِّ الْبَصَرِ وَكَفِّ الْفَرْجِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ اهـ. فَإِنْ أَرَادَ تَشْرِيكَ عِبَادَةٍ بِعِبَادَةٍ أُخْرَى فَهُوَ كَذَلِكَ وَلَيْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ. وَإِنْ أَرَادَ تَشْرِيكَ الْعِبَادَةِ بِأَمْرٍ مُبَاحٍ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يُسَاعِدُهُ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِمْنَاءِ لِأَنَّهُ أَرْشَدُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ التَّزْوِيجِ إِلَى الصَّوْمِ الَّذِي يَقْطَعُ الشَّهْوَةَ، فَلَوْ كَانَ الِاسْتِمْنَاءُ مُبَاحًا لَكَانَ الْإِرْشَادُ إِلَيْهِ أَسْهَلَ. وَتُعُقِّبَ دَعْوَى كَوْنِهِ أَسْهَلَ لِأَنَّ التَّرْكَ أَسْهَلُ مِنَ الْفِعْلِ. وَقَدْ أَبَاحَ الِاسْتِمْنَاءَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ لِأَجْلِ تَسْكِينِ الشَّهْوَةِ، وَفِي قَوْلِ عُثْمَانَ، لِابْنِ مَسْعُودٍ أَلَا نُزَوِّجُكَ شَابَّةً اسْتِحْبَابُ نِكَاحِ الشَّابَّةِ وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ بِكْرًا، وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ بَعْدَ أَبْوَابٍ.
3 - بَاب مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الْبَاءَةَ فَلْيَصُمْ
5066 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَارَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ عَلْقَمَةَ، وَالْأَسْوَدِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَبَابًا، لَا نَجِدُ شَيْئًا، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ.
قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْبَاءَةَ فَلْيَصُمْ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، وَهَذَا اللَّفْظُ وَرَدَ فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، فَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ بِلَفْظِ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْبَاءَةَ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ عَنْهُ بِلَفْظِ وَمَنْ لَا فَلْيَصُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
4 - بَاب كثرة النساء
5067 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ: أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، قَالَ: حَضَرْنَا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ جِنَازَةَ مَيْمُونَةَ بِسَرِفَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ زَوْجَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا، فَلَا تُزَعْزِعُوهَا، وَلَا تُزَلْزِلُوهَا، وَارْفُقُوا، فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تِسْعٌ، كَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ، وَلَا يَقْسِمُ لِوَاحِدَةٍ.
5068 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ و قَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"
5069 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ رَقَبَةَ عَنْ طَلْحَةَ الْيَامِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ هَلْ تَزَوَّجْتَ قُلْتُ لَا قَالَ فَتَزَوَّجْ فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً"
قَوْلُهُ (بَابُ كَثْرَةِ النِّسَاءِ) يَعْنِي لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ حَدِيثُ عَطَاءٍ، قَالَ: حَضَرْنَا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ جِنَازَةَ مَيْمُونَةَ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ (بِسَرِفَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا فَاءٌ: مَكَانٌ مَعْرُوفٌ بِظَاهِرِ مَكَّةَ، تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْحَجِّ، وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ قَالَ دَفَنَّا مَيْمُونَةَ بِسَرِفَ فِي الظُّلَّةِ الَّتِي بَنَى بِهَا فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ قَالَ صَلَّى عَلَيْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ. قُلْتُ: وَهِيَ خَالَةُ أَبِيهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ الْخَوْلَانِيُّ. قُلْتُ: وَكَانَ فِي حِجْرِهَا وَيَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ. قُلْتُ: وَهِيَ خَالَتُهُ كَمَا هِيَ خَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ (فَإِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا) بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ: السَّرِيرُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَيْهِ الْمَيِّتُ.
قَوْلُهُ (فَلَا تُزَعْزِعُوهَا) بِزَاءَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ وَعَيْنَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ، وَالزَّعْزَعَةُ تَحْرِيكُ الشَّيْءِ الَّذِي يُرْفَعُ. وَقَوْلُهُ وَلَا تُزَلْزِلُوهَا الزَّلْزَلَةُ الِاضْطِرَابُ.
قَوْلُهُ (وَارْفُقُوا) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مُرَادَهُ السَّيْرُ الْوَسَطُ الْمُعْتَدِلُ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ حُرْمَةَ الْمُؤْمِنِ بَعْدَ مَوْتِهِ بَاقِيَةٌ كَمَا كَانَتْ فِي حَيَاتِهِ، وَفِيهِ حَدِيثُ: كَسْرِ عَظْمِ الْمُؤْمِنِ مَيِّتًا كَكَسْرِهِ حَيًّا. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانِ.
قَوْلُهُ (فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تِسْعُ نِسْوَةٍ) أَيْ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَهُنَّ سَوْدَةُ وَعَائِشَةُ، وَحَفْصَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ، وَجُوَيْرِيَةُ، وَصَفِيَّةُ، وَمَيْمُونَةُ. هَذَا تَرْتِيبُ تَزْوِيجِهِ إِيَّاهُنَّ رضي الله عنهن، وَمَاتَ وَهُنَّ فِي عِصْمَتِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي رَيْحَانَةَ هَلْ كَانَتْ زَوْجَةً أَوْ سُرِّيَّةً، وَهَلْ مَاتَتْ قَبْلَهُ أَوْ لَا؟
قَوْلُهُ (كَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ وَلَا يَقْسِمُ لِوَاحِدَةٍ) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ قَالَ عَطَاءٌ: الَّتِي لَا يُقْسَمُ لَهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ قَالَ عِيَاضٌ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: هَذَا وَهَمٌ وَصَوَابُهُ سَوْدَةُ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ. وَإِنَّمَا غَلِطَ فِيهِ ابْنُ جُرَيْجٍ رَاوِيهِ عَنْ عَطَاءٍ كَذَا قَالَ، قَالَ عِيَاضٌ: قَدْ ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} أَنَّهُ آوَى عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ وَأُمَّ سَلَمَةَ فَكَانَ يُسْتَوْفَى لَهُنَّ الْقَسْمُ، وَأَرْجَأَ سَوْدَةَ وَجُوَيْرِيَةَ، وَأُمَّ حَبِيبَةَ، وَمَيْمُونَةَ، وَصَفِيَّةَ فَكَانَ يَقْسِمُ لَهُنَّ مَا شَاءَ، قَالَ: فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ ابْنِ جُرَيْجٍ صَحِيحَةً وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي آخِرِ أَمْرِهِ حَيْثُ آوَى الْجَمِيعَ فَكَانَ يَقْسِمُ لِجَمِيعِهِنَّ إِلَّا لِصَفِيَّةَ. قُلْتُ: قَدْ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ ثَلَاثَةِ طُرُقٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْسِمُ لِصَفِيَّةَ كَمَا يَقْسِمُ لِنِسَائِهِ، لَكِنْ فِي الْأَسَانِيدِ الثَّلَاثَةِ الْوَاقِدِيُّ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَقَدْ تَعَصَّبَ مُغَلْطَايْ، لِلْوَاقِدِيِّ فَنَقَلَ كَلَامَ مَنْ قَوَّاهُ وَوَثَّقَهُ وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ مَنْ وَهَّاهُ وَاتَّهَمَهُ وَهُمْ أَكْثَرُ عَدَدًا وَأَشَدُّ إِتْقَانًا وَأَقْوَى مَعْرِفَةً بِهِ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا قَوَّاهُ بِهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَوَى عَنْهُ.
وَقَدْ أَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَذَّبَهُ، وَلَا يُقَالُ فَكَيْفَ رَوَى عَنْهُ لِأَنَّا نَقُولُ: رِوَايَةُ الْعَدْلِ لَيْسَتْ بِمُجَرَّدِهَا تَوْثِيقًا، فَقَدْ رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَكْذَبَ مِنْهُ، فَيَتَرَجَّحُ أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالَّتِي لَا يَقْسِمُ لَهَا سَوْدَةُ كَمَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ إِنَّ سَوْدَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ وَسَيَأْتِي فِي بَابٍ مُفْرَدٍ وَهُوَ قَبْلَ كِتَابِ الطَّلَاقِ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ بَابًا وَيَأْتِي بَسْطُ الْقِصَّةِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ لَا يَبِيتُ عِنْدَ سَوْدَةَ أَنْ لَا يَقْسِمَ لَهَا، بَلْ كَانَ يَقْسِمُ لَهَا لَكِنْ يَبِيتُ عِنْدَ عَائِشَةَ لِمَا وَقَعَ مِنْ تِلْكَ الْهِبَةِ. نَعَمْ يَجُوزُ نَفْيُ الْقَسْمِ عَنْهَا مَجَازًا، وَالرَّاجِحُ عِنْدِي مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ حَذَفَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ
عَمْدًا. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا فِيهِ زِيَادَةٌ أُخْرَى مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ.
قَالَ عَطَاءٌ: وَكَانَتْ آخِرَهُنَّ مَوْتًا مَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ. كَذَا قَالَ، فَأَمَّا كَوْنُهَا آخِرَهُنَّ مَوْتًا فَقَدْ وَافَقَ عَلَيْهِ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ قَالُوا: وَكَانَتْ وَفَاتُهَا سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ فَقَالُوا: مَاتَتْ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ عَاشَتْ إِلَى قَتْلِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَكَانَ قَتْلُهُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَقِيلَ بَلْ مَاتَتْ أُمُّ سَلَمَةَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَا مَاتَتَا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ لَكِنْ تَأَخَّرَتْ مَيْمُونَةُ. وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا: إِنَّهَا مَاتَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ، وَعَلَى هَذَا لَا تَرْدِيدَ فِي آخِرِيَّتِهَا فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ، فَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ عِيَاضٌ فَقَالَ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَرَادَ مَيْمُونَةَ، كَيْفَ يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ إِنَّهَا مَاتَتْ بِسَرِفَ، وَسَرِفُ مِنْ مَكَّةَ بِلَا خِلَافٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ بِالْمَدِينَةِ وَهَمًا. قُلْتُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْمَدِينَةِ الْبَلَدَ وَهِيَ مَكَّةُ. وَالَّذِي فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ حَضَرُوا جِنَازَتَهَا بِسَرِفَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا مَاتَتْ بِسَرِفَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَاتَتْ دَاخِلَ مَكَّةَ وَأَوْصَتْ أَنْ تُدْفَنَ بِالْمَكَانِ الَّذِي دَخَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ فَنَفَّذَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَصِيَّتَهَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ سَعْدٍ لَمَّا ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ جُرَيْجٍ هَذَا قَالَ بَعْدَهُ: وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تُوُفِّيَتْ بِمَكَّةَ فَحَمَلَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ حَتَّى دَفَنَهَا بِسَرِفَ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ، وَلَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْغُسْلِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم الزِّيَادَةَ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ يَجْمَعُ بَيْنَهُنَّ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ لِلزِّيَادَةِ انْتِهَاءٌ أَوْ لَا، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَسْمَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي بَابِهِ. وَقَوْلُهُ وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ إِلَخْ قَصَدَ بِهِ بَيَانَ تَصْرِيحِ قَتَادَةَ بِتَحْدِيثِ أَنَسٍ لَهُ بِذَلِكَ.
الْحَدِيثُ الثَالِثُ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ الْأَنْصَارِيُّ) هُوَ الْمَرْوَزِيُّ، مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ.
قَوْلُهُ (عَنْ رَقَبَةَ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمُوَحَّدَةِ هُوَ ابْنُ مِصْقَلَةَ بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ قَافٍ وَيُقَالُ: بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ بَدَلَ الصَّادِ، وَطَلْحَةُ هُوَ ابْنُ مُصَرِّفٍ الْيَامِي بِتَحْتَانِيَّةٍ مُخَفَّفًا.
قَوْلُهُ (قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ لَا) زَادَ فِيهِ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ وَجْهِي - أَيْ قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِيَ - هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ لَا، وَمَا أُرِيدُ ذَلِكَ يَوْمِي هَذَا وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ مَا ذَاكَ فِي الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ (فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً) قَيَّدَ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ لِيَخْرُجَ مِثْلُ سُلَيْمَانَ عليه السلام، فَإِنَّهُ كَانَ أَكْثَرَ نِسَاءً كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَتِهِ، وَكَذَلِكَ أَبُوهُ دَاوُدُ، وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَزَوَّجُوا فَإِنَّ خَيْرَنَا كَانَ أَكْثَرَنَا نِسَاءً قِيلَ الْمَعْنَى خَيْرُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ نِسَاءً مِنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَتَسَاوَى مَعَهُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْفَضَائِلِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْخَيْرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَبِالْأُمَّةِ أَخِصَّاءُ أَصْحَابِهِ ; وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ تَرْكَ التَّزْوِيجِ مَرْجُوحٌ، إِذْ لَوْ كَانَ رَاجِحًا مَا آثَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَهُ، وَكَانَ مَعَ كَوْنِهِ أَخْشَى النَّاسِ لِلَّهِ وَأَعْلَمَهُمْ بِهِ يُكْثِرُ التَّزْوِيجَ لِمَصْلَحَةِ تَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ، وَلِإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ الْبَالِغَةِ فِي خَرْقِ الْعَادَةِ لِكَوْنِهِ كَانَ لَا يَجِدُ مَا يَشْبَعُ بِهِ مِنِ الْقُوتِ غَالِبًا، وَإِنْ وَجَدَ كَانَ يُؤْثِرُ بِأَكْثَرِهِ، وَيَصُومُ كَثِيرًا وَيُوَاصِلُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَا يُطَاقُ ذَلِكَ إِلَّا مَعَ قُوَّةِ الْبَدَنِ، وَقُوَّةُ الْبَدَنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ أَحَادِيثِ الْبَابِ تَابِعَةٌ لِمَا يَقُومُ بِهِ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمُقَوِّيَاتِ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ، وَهِيَ عِنْدَهُ نَادِرَةٌ أَوْ مَعْدُومَةٌ.
وَوَقَعَ فِي الشِّفَاءِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَمْدَحُ بِكَثْرَةِ النِّكَاحِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الرُّجُولِيَّةِ، إِلَى أَنْ قَالَ:
وَلَمْ تَشْغَلْهُ كَثْرَتُهُنَّ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، بَلْ زَادَهُ ذَلِكَ عِبَادَةً لِتَحْصِينِهِنَّ وَقِيَامِهِ بِحُقُوقِهِنَّ وَاكْتِسَابِهِ لَهُنَّ وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُنَّ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالتَّحْصِينِ قَصْرَ طَرْفِهِنَّ عَلَيْهِ فَلَا يَتَطَلَّعْنَ إِلَى غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْعَزَبَةِ فَإِنَّ الْعَفِيفَةَ تَتَطَلَّعُ بِالطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ إِلَى التَّزْوِيجِ، وَذَلِكَ هُوَ الْوَصْفُ اللَّائِقُ بِهِنَّ. وَالَّذِي تَحَصَّلَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْحِكْمَةِ فِي اسْتِكْثَارِهِ مِنَ النِّسَاءِ عَشَرَةُ أَوْجُهٍ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى بَعْضِهَا.
أَحَدُهَا: أَنْ يُكْثِرَ مَنْ يُشَاهِدُ أَحْوَالَهُ الْبَاطِنَةَ فَيَنْتَفِيَ عَنْهُ مَا يَظُنُّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَنَّهُ سَاحِرٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ.
ثَانِيهَا: لِتَتَشَرَّفَ بِهِ قَبَائِلُ الْعَرَبِ بِمُصَاهَرَتِهِ فِيهِمْ.
ثَالِثُهَا: لِلزِّيَادَةِ فِي تَأَلُّفِهِمْ لِذَلِكَ.
رَابِعُهَا: لِلزِّيَادَةِ فِي التَّكْلِيفِ حَيْثُ كُلِّفَ أَنْ لَا يَشْغَلَهُ مَا حُبِّبَ إِلَيْهِ مِنْهُنَّ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّبْلِيغِ.
خَامِسُهَا: لِتَكْثُرَ عَشِيرَتُهُ مِنْ جِهَةِ نِسَائِهِ فَتُزَادَ أَعْوَانُهُ عَلَى مَنْ يُحَارِبُهُ.
سَادِسُهَا: نَقْلُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَقَعُ مَعَ الزَّوْجَةِ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَخْتَفِيَ مِثْلُهُ.
سَابِعُهَا: الِاطِّلَاعُ عَلَى مَحَاسِنِ أَخْلَاقِهِ الْبَاطِنَةِ، فَقَدْ تَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأَبُوهَا إِذْ ذَاكَ يُعَادِيهِ، وَصَفِيَّةَ بَعْدَ قَتْلِ أَبِيهَا وَعَمِّهَا وَزَوْجِهَا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَكْمَلَ الْخَلْقِ فِي خُلُقِهِ لَنَفَرْنَ مِنْهُ، بَلِ الَّذِي وَقَعَ أَنَّهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِنَّ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِهِنَّ.
ثَامِنُهَا: مَا تَقَدَّمَ مَبْسُوطًا مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ لَهُ فِي كَثْرَةِ الْجِمَاعِ مَعَ التَّقَلُّلِ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَكَثْرَةِ الصِّيَامِ وَالْوِصَالِ، وَقَدْ أَمَرَ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُؤَنِ النِّكَاحِ بِالصَّوْمِ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ كَثْرَتَهُ تَكْسِرِ شَهْوَتَهُ فَانْخَرَقَتْ هَذِهِ الْعَادَةُ فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم.
تَاسِعُهَا، وَعَاشِرُهَا: مَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْ صَاحِبِ الشِّفَاءِ مِنْ تَحْصِينِهِنَّ وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِنَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي آخِرِهِ أَمَا أنَّهُ يُسْتَخْرَجُ مِنْ صُلْبِكَ مَنْ كَانَ مُسْتَوْدَعًا وَفِي الْحَدِيثِ الْحَضُّ عَلَى التَّزَويجِ وَتَرْكِ الرَّهْبَانِيَّةِ.
5 - بَاب مَنْ هَاجَرَ أَوْ عَمِلَ خَيْرًا لِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ فَلَهُ مَا نَوَى
5070 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ،، حَدَّثَنَا مَالِكٌ،، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ،، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ،، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ،، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ هَاجَرَ أَوْ عَمِلَ خَيْرًا لِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ فَلَهُ مَا نَوَى) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عُمَرَ بِلَفْظِ الْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَمَا تَرْجَمَ بِهِ مِنَ الْهِجْرَةِ مَنْصُوصٌ فِي الْحَدِيثِ، وَمَنْ عَمِلَ الْخَيْرَ، مُسْتَنْبَطٌ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ مِنْ جُمْلَةِ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، فَكَمَا عَمَّمَ فِي الْخَيْرِ فِي شِقِّ الْمَطْلُوبِ وَتَمَّمَهُ بِلَفْظِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ فَكَذَلِكَ شِقُّ الطَّلَبِ يَشْمَلُ أَعْمَالَ الْخَيْرِ هِجْرَةً أَوْ حَجًّا مَثَلًا أَوْ صَلَاةً أَوْ صَدَقَةً، وَقِصَّةُ مُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ أَوْرَدَهَا الطَّبَرَانِيُّ مُسْنَدَةً وَالْآجُرِّيُّ فِي كِتَابِ الشَّرِيعَةِ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ، وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ أَوْ عَمِلَ خَيْرًا مَا وَقَعَ مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ فِي امْتِنَاعِهَا مِنَ التَّزْوِيجِ بِأَبِي طَلْحَةَ حَتَّى يُسْلِمَ، وَهُوَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ خَطَبَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا مِثْلُكَ يَا أَبَا طَلْحَةَ يُرَدُّ، وَلَكِنَّكَ رَجُلٌ كَافِرٌ وَأَنَا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ، وَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَزَوَّجَكَ، فَإِنْ تُسْلِمْ فَذَاكَ مَهْرِي، فَأَسْلَمَ فَكَانَ ذَلِكَ مَهْرَهَا الْحَدِيثَ.
وَوَجْهُ دُخُولِهِ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ رَغِبَتْ فِي تَزْوِيجِ أَبِي طَلْحَةَ وَمَنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ كُفْرُهُ، فَتَوَصَّلَتْ إِلَى بُلُوغِ غَرَضِهَا بِبَذْلِ نَفْسِهَا فَظَفِرَتْ بِالْخَيْرَيْنِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَهُ
بَعْضُهُمْ بِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُسْلِمَاتِ عَلَى الْكُفَّارِ إِنَّمَا وَقَعَ فِي زَمَنِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ بَعْدَ قِصَّةِ تَزَوُّجِ أَبِي طَلْحَةَ، بِأُمِّ سُلَيْمٍ بِمُدَّةٍ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ ابْتِدَاءَ تَزَوُّجِ الْكَافِرِ بِالْمُسْلِمَةِ كَانَ سَابِقًا عَلَى الْآيَةِ، وَالَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ الِاسْتِمْرَارَ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ التَّفْرِيقُ بَعْدُ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يُحْفَظُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَنَّ مُسْلِمَةً ابْتَدَأَتْ بِتَزَوُّجِ كَافِرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
6 - بَاب تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ الَّذِي مَعَهُ الْقُرْآنُ وَالْإِسْلَامُ. فِيهِ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
5071 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى،، حَدَّثَنَا يَحْيَى،، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسٌ،، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَسْتَخْصِي، فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (بَابُ تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ الَّذِي مَعَهُ الْقُرْآنُ وَالْإِسْلَامُ. فِيهِ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا. وَمَا تَرْجَمَ بِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ: الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ. فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدُ شَيْئًا وَمَعَ ذَلِكَ زَوَّجَهُ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَمْ يَسُقْ حَدِيثَ سَهْلٍ هُنَا لِأَنَّهُ سَاقَهُ قَبْلُ وَبَعْدُ اكْتِفَاءً بِذِكْرِهِ، أَوْ لِأَنَّ شَيْخَهُ لَمْ يَرْوِهِ لَهُ فِي سِيَاقِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ. اهـ.
وَالثَّانِي بَعِيدٌ جِدًّا فَلَمْ أَجِدْ مَنْ قَالَ إِنَّ الْبُخَارِيَّ يَتَقَيَّدُ فِي تَرَاجِمِ كِتَابِهِ بِمَا يُتَرْجِمُ بِهِ مَشَايِخُهُ، بَلِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ غَالِبَ تَرَاجِمِهِ مِنْ تَصَرُّفِهِ فَلَا وَجْهَ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ، وَقَدْ لَهِجَ الْكِرْمَانِيُّ بِهِ فِي مَوَاضِعَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. ثُمَّ ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ كُنَّا نَغْزُو وَلَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ تَلَطَّفَ الْمُصَنِّفُ فِي اسْتِنْبَاطِهِ الْحُكْمَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَمَّا نَهَاهُمْ عَنِ الِاخْتِصَاءِ مَعَ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى النِّسَاءِ - وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا شَيْءَ لَهُمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي نَفْسِ هَذَا الْخَبَرِ كَمَا سَيَأْتِي تَامًّا بَعْدَ بَابٍ وَاحِدٍ - وَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ حَفِظَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، فَتَعَيَّنَ التَّزْوِيجُ بِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ، فَحِكْمَةُ التَّرْجَمَةِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ بِالتَّنْصِيصِ، وَمَنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِالِاسْتِدْلَالِ. وَقَدْ أَعربَ الْمُهَلَّبُ فَقَالَ: فِي قَوْلِهِ تَزْوِيجُ الْمُعْسِرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُزَوِّجِ الرَّجُلَ عَلَى أَنْ يُعَلِّمَ الْمَرْأَةَ الْقُرْآنَ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا سَمَّاهُ مُعْسِرًا. قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَالْإِسْلَامُ لِأَنَّ الْوَاهِبَةَ كَانَتْ مُسْلِمَةً. اهـ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ الْمُعْسِرُ مِنَ الْمَالِ بِدَلِيلِ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَيْسَ لَنَا شَيْءٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
7 - بَاب قَوْلِ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ انْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ شِئْتَ حَتَّى أَنْزِلَ لَكَ عَنْهَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ
5072 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ،، عَنْ سُفْيَانَ،، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَآخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، وَعِنْدَ الْأَنْصَارِيِّ امْرَأَتَانِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ، وَمَالَهُ، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ، فَأَتَى السُّوقَ فَرَبِحَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ، وَشَيْئًا مِنْ سَمْنٍ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَيَّامٍ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: مَهْيَمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: تَزَوَّجْتُ أَنْصَارِيَّةً، قَالَ: فَمَا سُقْتَ؟ قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ.
قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ: انْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ شِئْتَ حَتَّى أَنْزِلَ لَكَ عَنْهَا) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي الْبُيُوعِ.
قَوْلُهُ (رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ) وَصَلَهُ فِي الْبُيُوعِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ أَيِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. وَأَوْرَدَهُ فِي فَضَائِلِ الْأَنْصَارِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ انْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَسَمِّهَا لِي أُطَلِّقْهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجْهَا وَهُوَ مَعْنًى مَا سَاقَهُ مَوْصُولًا فِي الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَيَأْتِي فِي الْوَلِيمَةِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِلَفْظِ أُقَاسِمُكَ مَالِي، وَأَنْزِلُ لَكَ عَنْ إِحْدَى امْرَأَتَيَّ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي أَبْوَابِ الْوَلِيمَةِ. وَفِيهِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِيثَارِ حَتَّى بِالنَّفْسِ وَالْأَهْلِ. وَفِيهِ جَوَازُ نَظَرِ الرَّجُلِ إِلَى الْمَرْأَةِ عِنْدَ إِرَادَةِ تَزْوِيجِهَا، وَجَوَازُ الْمُوَاعَدَةِ بِطَلَاقِ الْمَرْأَةِ، وَسُقُوطُ الْغَيْرَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَتَنَزُّهُ الرَّجُلِ عَمَّا يُبْذَلُ لَهُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَتَرْجِيحُ الِاكْتِسَابِ بِنَفْسِهِ بِتِجَارَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ. وَفِيهِ مُبَاشَرَةُ الْكِبَارِ التِّجَارَةَ بِأَنْفُسِهِمْ مَعَ وُجُودِ مَنْ يَكْفِيهِمْ ذَلِكَ مِنْ وَكِيلٍ وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي الْمُوَفَّقِيَّاتِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه تَاجِرًا إِلَى بُصَرَى فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مَا مَنَعَ أَبَا بَكْرٍ حُبُّهُ لِمُلَازَمَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا مَنَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حُبُّهُ لِقُرْبِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ ذَلِكَ لِمَحَبَّتِهِمْ فِي التِّجَارَةِ هَذَا أَوْ مَعْنَاهُ، وَبَقِيَّةُ الْحَدِيثِ فِي قِصَّةِ سُوَيْبِطِ بْنِ حَرْمَلَةَ، وَالنُّعْمَانِ وَأَصْلُهَا عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْبَحْثِ فِي أَفْضَلِ الْكَسْبِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
8 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّبَتُّلِ وَالْخِصَاءِ
5073 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ،، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ،، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا.
[الحديث 5073 - طرفه في: 5074]
5074 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ لَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَلَوْ أَجَازَ لَهُ التَّبَتُّلَ لَاخْتَصَيْنَا"
5075 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ لَنَا شَيْءٌ فَقُلْنَا أَلَا نَسْتَخْصِي فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
5076 -
وَقَالَ أَصْبَغُ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ شَابٌّ وَأَنَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي الْعَنَتَ وَلَا أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ النِّسَاءَ فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ ذَرْ"
قَوْلُهُ (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّبَتُّلِ) الْمُرَادُ بِالتَّبَتُّلِ هُنَا الِانْقِطَاعُ عَنِ النِّكَاحِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْمَلَاذِّ إِلَى الْعِبَادَةِ. وَأَمَّا الْمَأْمُورُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} فَقَدْ فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ فَقَالَ: أَخْلِصْ لَهُ إِخْلَاصًا، وَهُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى، وَإِلَّا فَأَصْلُ التَّبَتُّلِ الِانْقِطَاعُ، وَالْمَعْنَى: انْقَطِعْ إِلَيْهِ انْقِطَاعًا. لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ حَقِيقَةُ الِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ إِنَّمَا تَقَعُ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ فَسَّرَهَا بِذَلِكَ، وَمِنْهُ صَدَقَةٌ بَتْلَةٌ أَيْ مُنْقَطِعَةٌ عَنِ الْمِلْكِ، وَمَرْيَمُ الْبَتُولُ لِانْقِطَاعِهَا عَنِ التَّزْوِيجِ إِلَى الْعِبَادَةِ وَقِيلَ لِفَاطِمَةَ الْبَتُولُ؛ إِمَّا لِانْقِطَاعِهَا عَنِ الْأَزْوَاجِ غَيْرَ عَلِيٍّ، أَوْ لِانْقِطَاعِهَا عَنْ نُظَرَائِهَا فِي الْحُسْنِ وَالشَّرَفِ.
قَوْلُهُ (وَالْخِصَاءِ) هُوَ الشَّقُّ عَلَى الْأُنْثَيَيْنِ وَانْتِزَاعُهُمَا، وَإِنَّمَا قَالَ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّبَتُّلِ وَالْخِصَاءِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الَّذِي يُكْرَهُ مِنَ التَّبَتُّلِ هُوَ الَّذِي يُفْضِي إِلَى التَّنَطُّعِ وَتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَلَيْسَ التَّبَتُّلُ مِنْ أَصْلِهِ مَكْرُوهًا، وَعَطَفَ الْخِصَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ بَعْضَهُ يَجُوزُ فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:
أَحَدُهَا: حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي قِصَّةِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِلَفْظِ: أَرَادَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أَنْ يَتَبَتَّلَ، فَنَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَرَفَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ رَدَّ عَلَى عُثْمَانَ أَيْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بَلْ نَهَاهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ نَفْسِهِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ يَشُقُّ عَلَيَّ الْعُزُوبَةُ، فَأْذَنْ لِي فِي الْخِصَاءِ. قَالَ: لَا، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ الْحَدِيثَ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي الِاخْتِصَاءِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَنَا بِالرَّهْبَانِيَّةِ الْحَنِيفِيَّةَ السَّمْحَةَ. فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي طَلَبَهُ عُثْمَانُ هُوَ الِاخْتِصَاءُ حَقِيقَةً فَعَبَّرَ عَنْهُ الرَّاوِي بِالتَّبَتُّلِ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا وَيَحْتَمِلُ عَكْسَهَ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ سَعْدٍ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا لَفَعَلْنَا فِعْلَ مَنْ يَخْتَصِي وَهُوَ الِانْقِطَاعُ عَنِ النِّسَاءِ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: التَّبَتُّلُ الَّذِي أَرَادَهُ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ تَحْرِيمُ النِّسَاءِ وَالطِّيبِ وَكُلِّ مَا يُلْتَذُّ بِهِ، فَلِهَذَا أَنْزَلَ فِي حَقِّهِ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ تَسْمِيَةُ مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَكَانَ عُثْمَانُ مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ مَعَ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ فِي كِتَابِ الْمَبْعَثِ، وَتَقَدَّمَتْ قِصَّةُ وَفَاتِهِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَكَانَتْ فِي ذِي الْحَجَّةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مِنْ دُفِنَ بِالْبَقِيعِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَولُهُ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ: وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَتَبَتَّلْنَا، لَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ إِلَى قَولِهِ لَاخْتَصَيْنَا لِإِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ لَبَالَغْنَا فِي التَّبَتُّلِ حَتَّى يُفْضِيَ بِنَا الْأَمْرُ إِلَى الِاخْتِصَاءِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ الِاخْتِصَاءِ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ النَّهْيِ عَنِ الِاخْتِصَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ تَوَارُدُ اسْتِئْذَانِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ كَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا كَانَ التَّعْبِيرُ بِالْخِصَاءِ أَبْلَغَ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالتَّبَتُّلِ لِأَنَّ وُجُودَ الْآلَةِ يَقْتَضِي اسْتِمْرَارَ وُجُودِ الشَّهْوَةِ، وَوُجُودُ الشَّهْوَةِ يُنَافِي الْمُرَادَ مِنَ التَّبَتُّلِ، فَيَتَعَيَّنُ الْخِصَاءُ طَرِيقًا إِلَى تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ، وَغَايَتُهُ أَنَّ فِيهِ أَلَمًا عَظِيمًا فِي الْعَاجِلِ يُغْتَفَرُ فِي جَنْبِ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ في الْآجِلُ، فَهُوَ كَقَطْعِ الْإِصْبَعِ إِذَا وَقَعَتْ فِي الْيَدِ الْأَكِلَةُ صِيَانَةً لِبَقِيَّةِ الْيَدِ، وَلَيْسَ الْهَلَاكُ بِالْخِصَاءِ مُحَقَّقًا بَلْ هُوَ نَادِرٌ، وَيَشْهَدُ لَهُ كَثْرَةُ وُجُودِهِ فِي الْبَهَائِمِ مَعَ بَقَائِهَا، وَعَلَى هَذَا فَلَعَلَّ الرَّاوِيَ عَبَّرَ بِالْخِصَاءِ عَنِ الْجَبِّ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ. وَالْحِكْمَةُ فِي مَنْعِهِمْ مِنَ الِاخْتِصَاءِ إِرَادَةُ تَكْثِيرِ النَّسْلِ لِيَسْتَمِرَّ جِهَادُ الْكُفَّارِ، وَإِلَّا لَوْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ لَأَوْشَكَ تَوَارُدُهُمْ عَلَيْهِ فَيَنْقَطِعُ النَّسْلُ فَيَقِلُّ الْمُسْلِمُونَ بِانْقِطَاعِهِ وَيَكْثُرُ الْكُفَّارُ، فَهُوَ خِلَافُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. الحديث الثاني.
قَوْلُهُ (جَرِيرٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ. وَإِسْمَاعِيلُ: هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ.، وَقَيْسٌ: هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ.، وَعَبْدُ اللَّهِ: هُوَ ابْنُ
مَسْعُودٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلُ بِبَابٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِلَفْظِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ بِلَفْظِ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ.
قَوْلُهُ (أَلَا نَسْتَخْصِي) أَيْ أَلَا نَسْتَدْعِي مَنْ يَفْعَلُ لَنَا الْخِصَاءَ أَوْ نُعَالِجُ ذَلِكَ بأَنْفُسِنَا. وَقَوْلُهُ (فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ) هُوَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ بِلَا خِلَافٍ فِي بَنِي آدَمَ، لِمَا تَقَدَّمَ. وَفِيهِ أَيْضًا مِنَ الْمَفَاسِدِ تَعْذِيبِ النَّفْسِ وَالتَّشْوِيهِ مَعَ إِدْخَالِ الضَّرَرِ الَّذِي قَدْ يُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ. وَفِيهِ إِبْطَالُ مَعْنَى الرُّجُولِيَّةِ، وَتَغْيِيرُ خَلْقِ اللَّهِ، وَكُفْرُ النِّعْمَةِ، لِأَنَّ خَلْقَ الشَّخْصِ رَجُلًا مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ فَإِذَا أَزَالَ ذَلِكَ فَقَدْ تَشَبَّهَ بِالْمَرْأَةِ وَاخْتَارَ النَّقْصَ عَلَى الْكَمَالِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْخِصَاءُ فِي غَيْرِ بَنِي آدَمَ مَمْنُوعٌ فِي الْحَيَوَانِ إِلَّا لِمَنْفَعَةٍ حَاصِلَةٍ فِي ذَلِكَ كَتَطْيِيبِ اللَّحْمِ أَوْ قَطْعِ ضَرَرٍ عَنْهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَحْرُمُ خِصَاءُ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الْمَأْكُولُ فَيَجُوزُ فِي صَغِيرِهِ دُونَ كَبِيرِهِ. وَمَا أَظُنُّهُ يَدْفَعُ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ إِبَاحَةِ ذَلِكَ فِي الْحَيَوَانِ الْكَبِيرِ عِنْدَ إِزَالَةِ الضَّرَرِ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا) فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا بَعْدَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ) أَيْ إِلَى أَجَلٍ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ قَرَأَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ.
قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الْآيَةَ. سَاقَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى قَوْلِهِ: الْمُعْتَدِينَ. وَظَاهِرُ اسْتِشْهَادِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُنَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ يَرَى بِجَوَازِ الْمُتْعَةِ، فَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ بَلَغَهُ النَّاسِخُ، ثُمَّ بَلَغَهُ فَرَجَعَ بَعْدُ. قُلْتُ: يُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ فَفَعَلَهُ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ قَالَ: وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ثُمَّ جَاءَ تَحْرِيمُهَا بَعْدُ وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ثُمَّ نُسِخَ وَسَيَأْتِي مَزِيدُ الْبَحْثِ فِي حُكْمِ الْمُتْعَةِ بَعْدَ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ بَابًا. الْحَدِيثُ الثَالِثُ. قَوْلُهُ (وَقَالَ أَصْبَغُ) كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا، وَكَلَامُ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ حَدِيثًا، وَقَدْ وَصَلَهُ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ وَالْجَوْزَقِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَصْبَغَ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، وَذَكَرَ مُغَلْطَايْ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَصْبَغَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ غَلَطٌ، هُوَ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ لَيْسَ فِي آبَائِهِ مُحَمَّدٌ.
قَوْلُهُ (إِنِّي رَجُلٌ شَابٌّ وَأَنَا أَخَافُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَإِنِّي أَخَافُ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ.
قَوْلُهُ (الْعَنَتُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ هُوَ الزِّنَا هُنَا، وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْفُجُورِ وَالْأَمْرِ الشَّاقِّ وَالْمَكْرُوهِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَصْلُ الْعَنَتِ الشِّدَّةُ.
قَوْلُهُ (وَلَا أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَسَكَتَ عَنِّي) كَذَا وَقَعَ، وَفِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ وَلَا أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَائْذَنْ لِي أَخْتَصِي وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ عَنْ مُطَابَقَةِ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ.
قَوْلُهُ (جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ) أَيْ نَفَذَ الْمَقْدُورُ بِمَا كُتِبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَبَقِيَ الْقَلَمُ الَّذِي كُتِبَ بِهِ جَافًّا لَا مِدَادَ فِيهِ لِفَرَاغِ مَا كُتِبَ بِهِ، قَالَ عِيَاضٌ: كِتَابَةُ اللَّهِ وَلَوْحُهُ وَقَلَمُهُ مِنْ غَيْبِ عِلْمِهِ الَّذِي نُؤْمِنُ بِهِ وَنَكِلُ عِلْمَهُ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ (فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ ذَرْ) فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ وَحَكَاهَا الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ وَوَقَعَتْ فِي الْمَصَابِيحِ فَاقْتَصَرْ عَلَى ذَلِكَ أَوْ ذَرْ قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَاهُ اقْتَصِرْ عَلَى الَّذِي أَمَرْتُكَ بِهِ أَوِ اتْرُكْهُ وَافْعَلْ مَا ذَكَرْتُ مِنَ الْخِصَاءِ. اهـ.
وَأَمَّا اللَّفْظُ الَّذِي وَقَعَ فِي الْأَصْلِ فَمَعْنَاهُ فَافْعَلْ مَا ذَكَرْتُ أَوِ اتْرُكْهُ وَاتَّبِعْ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ، وَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ لِطَلَبِ الْفِعْلِ بَلْ هُوَ لِلتَّهْدِيدِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} وَالْمَعْنَى: إِنْ فَعَلْتَ أَوْ لَمْ تَفْعَلْ فَلَا بُدَّ مِنْ نُفُوذِ الْقَدَرِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِحُكْمِ الْخِصَاءِ. وَمُحَصِّلُ الْجَوَابِ أَنَّ جَمِيعَ الْأُمُورِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ فِي الْأَزَلِ، فَالْخِصَاءُ وَتَرْكُهُ سَوَاءٌ، فَإِنَّ الَّذِي
قُدِّرَ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ. وَقَولُهُ عَلَى ذَلِكَ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمُقَدَّرٍ أَيِ اخْتُصَّ حَالُ اسْتِعْلَائِكَ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَلَيْسَ إِذْنًا فِي الْخِصَاءِ، بَلْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، كَأَنَّهُ قَالَ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الِاخْتِصَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ لَمَّا اسْتَأْذَنَهُ فِي ذَلِكَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ قَبْلَ هِجْرَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمُدَّةٍ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ شَكَا رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعُزُوبَةَ. فَقَالَ: أَلَا أَخْتَصِي؟ قَالَ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَصَى أَوِ اخْتَصَى وَفِي الْحَدِيثِ ذَمُّ الِاخْتِصَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ وَأَنَّ الْقَدَرَ إِذَا نَفَذَ لَا تَنْفَعُ الْحِيَلُ. وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ شَكْوَى الشَّخْصِ مَا يَقَعُ لَهُ لِلْكَبِيرِ وَلَوْ كَانَ مِمَّا يُسْتَهْجَنُ وَيُسْتَقْبَحُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدِ الصَّدَاقَ لَا يَتَعَرَّضُ لِلتَّزْوِيجِ. وَفِيهِ جَوَازُ تَكْرَارِ الشَّكْوَى إِلَى ثَلَاثٍ، وَالْجَوَابُ لِمَنْ لَا يَقْنَعُ بِالسُّكُوتِ، وَجَوَازُ السُّكُوتِ عَنِ الْجَوَابِ لِمَنْ يَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ يَفْهَمُ الْمُرَادَ مِنْ مُجَرَّدِ السُّكُوتِ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ أَنْ يُقَدِّمَ طَالِبُ الْحَاجَةِ بَيْنَ يَدَيْ حَاجَتِهِ عُذْرَهُ فِي السُّؤَالِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَهْمَا أَمْكَنَ الْمُكَلَّفَ فِعْلُ شَيْءٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ لَا يَتَوَكَّلُ إِلَّا بَعْدَ عَمَلِهَا لِئَلَّا يُخَالِفَ الْحِكْمَةَ، فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ وَطَّنَ نَفْسَهَ عَلَى الرِّضَا بِمَا قَدَّرَهُ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ وَلَا يَتَكَلَّفُ مِنَ الْأَسْبَابِ مَا لَا طَاقَةَ بِهِ لَهُ. وَفِيهِ أَنَّ الْأَسْبَابَ إِذَا لَمْ تُصَادِفِ الْقَدَرَ لَا تُجْدِي. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يُؤْمَرْ أَبُو هُرَيْرَةَ بِالصِّيَامِ لِكَسْرِ شَهْوَتِهِ كَمَا أُمِرَ غَيْرُهُ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ مُلَازَمَةَ الصِّيَامِ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعَ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ.
الْحَدِيثَ، لَكِنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فِي حَالِ الْغَزْوِ كَمَا وَقَعَ لِابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَانُوا فِي حَالِ الْغَزْوِ يُؤْثِرُونَ الْفِطْرَ عَلَى الصِّيَامِ لِلتَّقَوِّي عَلَى الْقِتَالِ، فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى حَسْمِ مَادَّةِ الشَّهْوَةِ بِالِاخْتِصَاءِ كَمَا ظَهَرَ لِعُثْمَانَ فَمَنَعَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا لَمْ يُرْشِدْهُ إِلَى الْمُتْعَةِ الَّتِي رَخَّصَ فِيهَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ شَيْئًا، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا أَصْلًا لَا ثَوْبًا وَلَا غَيْرَهُ فَكَيْفَ يَسْتَمْتِعُ، وَالَّتِي يَسْتَمْتِعُ بِهَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ شَيْءٍ.
9 - بَاب نِكَاحِ الْأَبْكَارِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، لِعَائِشَةَ: لَمْ يَنْكِحْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكْرًا غَيْرَكِ.
5077 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي،، عَنْ سُلَيْمَانَ،، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ،، عَنْ أَبِيهِ،، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ نَزَلْتَ وَادِيًا وَفِيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْهَا، وَوَجَدْتَ شَجَرًا لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا، فِي أَيِّهَا كُنْتَ تُرْتِعُ بَعِيرَكَ؟ قَالَ: فِي الَّذِي لَمْ يُرْتَعْ مِنْهَا. يعْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا.
5078 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ إِذَا رَجُلٌ يَحْمِلُكِ فِي سَرَقَةِ حَرِيرٍ فَيَقُولُ هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَأَكْشِفُهَا فَإِذَا هِيَ أَنْتِ فَأَقُولُ إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ"
قَوْلُهُ (بَابُ نِكَاحِ الْأَبْكَارِ) جَمْعُ بِكْرٍ، وَهِيَ الَّتِي لَمْ تُوطَأْ وَاسْتَمَرَّتْ عَلَى حَالَتِهَا الْأُولَى.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ أَبِي
مُلَيْكَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، لِعَائِشَةَ: لَمْ يَنْكِحِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكْرًا غَيْرَكِ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النُّورِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي أَخِي) هُوَ عَبْدُ الْحَمِيدِ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ.
قَوْلُهُ (فِيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْهَا، وَوَجَدْتُ شَجَرًا لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ وَوَجَدْتُ شَجَرَةً وَذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ بِلَفْظِ فِيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْهَا وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَهُوَ أَصْوَبُ لِقَوْلِهِ بَعْدَ فِي أَيِّهَا أَيْ فِي أَيِّ الشَّجَرِ، وَلَوْ أَرَادَ الْمَوْضِعَيْنِ لَقَالَ فِي أَيِّهِمَا.
قَوْلُهُ (تُرْتِعُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، أَرْتَعَ بَعِيرَهُ إِذَا تَرَكَهُ يَرْعَى مَا شَاءَ. وَرَتَعَ الْبَعِيرُ فِي الْمَرْعَى: إِذَا أَكَلَ مَا شَاءَ وَرَتَعَهُ اللَّهُ: أَيْ أَنْبَتَ لَهُ مَا يَرْعَاهُ عَلَى سَعَةٍ.
قَوْلُهُ (قَالَ فِي الَّتِي لَمْ يَرْتَعْ مِنْهَا) فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ قَالَ فِي الشَّجَرَةِ الَّتِي وَهُوَ أَوْضَحُ. وَقَوْلُهُ يَعْنِي إِلَخْ زَادَ أَبُو نُعَيْمٍ قَبْلَ هَذَا قَالَتْ فَأَنَا هِيَهْ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ فَسُكُونِ الْهَاءِ وَهِيَ لِلسَّكْتِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ ضَرْبِ الْمَثَلِ وَتَشْبِيهِ شَيْءٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ بِمِثْلِهِ مَسْلُوبَ الصِّفَةِ، وَفِيهِ بَلَاغَةُ عَائِشَةَ وَحُسْنُ تَأَتِّيهَا فِي الْأُمُورِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الَّتِي لَمْ يُرْتَعْ مِنْهَا أَيْ أُوثِرَ ذَلِكَ فِي الِاخْتِيَارِ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَا يَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ كَوْنُ الْوَاقِعِ مِنْهُ أَنَّ الَّذِي تَزَوَّجَ مِنَ الثَّيِّبَاتِ أَكْثَرُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ كَنَّتْ بِذَلِكَ عَنِ الْمَحَبَّةِ بَلْ عَنْ أَدَقِّ مِنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ أيضا: أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ. سَيَأْتِي شَرْحُهُ بَعْدَ سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ بَابًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ الْمَلَكَ الَّذِي جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِصُورَتِهَا جِبْرِيلُ.
10 - بَاب تَزْوِيجِ الثَّيِّبَاتِ وَقَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ
5079 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ،، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ،، حَدَّثَنَا سَيَّارٌ،، عَنْ الشَّعْبِيِّ،، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَفَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةٍ فَتَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ لِي قَطُوفٍ، فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِي، فَنَخَسَ بَعِيرِي بِعَنَزَةٍ كَانَتْ مَعَهُ، فَانْطَلَقَ بَعِيرِي كَأَجْوَدِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ الْإِبِلِ، فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا يُعْجِلُكَ؟ قُلْتُ: كُنْتُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرُسٍ، قَالَ: أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ قُلْتُ: ثَيِّبًا، قَالَ: فَهَلَّا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ، قَالَ: فَلَمَّا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، قَالَ: أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا، أَيْ عِشَاءً لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ.
5080 -
حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَارِبٌ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ تَزَوَّجْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا تَزَوَّجْتَ فَقُلْتُ تَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا فَقَالَ مَا لَكَ وَلِلْعَذَارَى وَلِعَابِهَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فَقَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلَا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ"
قَوْلُهُ (بَابُ تَزْوِيجِ الثَّيِّبَاتِ) جَمْعُ ثَيِّبَةٍ بِمُثَلَّثَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، ضِدُّ الْبِكْرِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ سَيَأْتِي مَوْصُولًا بَعْدَ عَشَرَةِ أَبْوَابٍ، وَاسْتَنْبَطَ الْمُصَنِّفُ التَّرْجَمَةَ مِنْ قَوْلِهِ بَنَاتِكُنَّ لِأَنَّهُ خَاطَبَ بِذَلِكَ نِسَاءَهُ فَاقْتَضَى أَنَّ لَهُنَّ بَنَاتٍ مِنْ غَيْرِهِ
فَيَسْتَلْزِمُ أَنَّهُنَّ ثَيِّبَاتٌ كَمَا هُوَ الْأَكْثَرُ الْغَالِبُ.
ثم ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ بَعِيرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الشُّرُوطِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ (مَا يُعْجِلُكَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، أَيْ مَا سَبَبُ إِسْرَاعِكَ؟
قَوْلُهُ (كُنْتُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ) أَيْ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالدُّخُولِ عَلَى الزَّوْجَةِ. وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ فِي الْوَكَالَةِ فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ - عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَالتَّحِيَّةِ وَالْإِكْرَامِ - أَخَذْتُ أَرْتَحِلُ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: تَزَوَّجْتُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عُقَيْلٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ جَابِرٍ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَعَجَّلَ إِلَى أَهْلِهِ فَلْيَتَعَجَّلْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
قَوْلُهُ (قَالَ أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ قُلْتُ: ثَيِّبًا) هُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَتَزَوَّجْتَ وَتَزَوَّجْتُ، وَكَذَا وَقَعَ فِي ثَانِي حَدِيثِ الْبَابِ فَقُلْتُ تَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي الْوَكَالَةِ مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ أَتَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ قُلْتُ ثَيِّبًا. وَفِي الْمَغَازِي عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ هَلْ نَكَحْتَ يَا جَابِرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: مَاذَا، أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ قُلْتُ: لَا بَلْ ثَيِّبًا وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ سُفْيَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قُلْتُ: ثَيِّبٌ وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ الَّتِي تَزَوَّجْتُهَا ثَيِّبٌ، وَكَذَا وَقَعَ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ.
قَوْلُهُ (فَهَلَّا جَارِيَةً) فِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ أَفَلَا جَارِيَةً وَهُمَا بِالنَّصْبِ أَيْ فَهَلَّا تَزَوَّجْتَ؟ وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ الدَّوْرَقِيِّ، عَنْ هِشَامٍ بِإِسْنَادِ حَدِيثِ الْبَابِ هَلَّا بِكْرًا؟ وَسَيَأْتِي قُبَيْلَ أَبْوَابِ الطَّلَاقِ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، وَهُوَ مَعْنَى رِوَايَةِ مُحَارِبٍ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ بِلَفْظِ الْعَذَارَى وَهُوَ جَمْعُ عَذْرَاءَ بِالْمَدِّ.
قَوْلُهُ (تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ) زَادَ فِي رِوَايَةِ النَّفَقَاتِ وَتُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ وَهُوَ مِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّهُ مِنَ اللَّعِبِ وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ جَابِرٍ وَقَالَ فِيهِ وَتَعَضُّهَا وَتَعَضُّكَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي عُبَيْدَةَ تُذَاعِبُهَا وَتُذَاعِبُكَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ بَدَلَ اللَّامِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ جَابِرٍ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ بِلَفْظِ مَالَكَ وَلِلْعَذَارَى وَلِعَابِهَا فَقَدْ ضَبَطَهُ الْأَكْثَرُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنَ الْمُلَاعَبَةِ أَيْضًا، يُقَالُ لَاعَبَ لِعَابًا وَمُلَاعَبَةً مِثْلُ قَاتَلَ قِتَالًا وَمُقَاتَلَةً. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي بِضَمِّ اللَّامِ وَالْمُرَادُ بِهِ الرِّيقِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَصِّ لِسَانِهَا وَرَشْفِ شَفَتَيْهَا، وَذَلِكَ يَقَعُ عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ وَالتَّقْبِيلِ، وَلَيْسَ هُوَ بِبَعِيدٍ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَيُؤَيِّدُ أَنَّهُ بِمَعْنًى آخَرَ غَيْرَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ قَوْلُ شُعْبَةَ فِي الْبَابِ أَنَّهُ عَرَضَ ذَلِكَ عَلَى عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فَقَالَ اللَّفْظُ الْمُوَافِقُ لِلْجَمَاعَةِ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ التَّلْوِيحُ بِإِنْكَارِ عَمْرٍو رِوَايَةَ مُحَارِبٍ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَفْظُه: إِنَّمَا قَالَ جَابِرٌ تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ فَلَوْ كَانَتِ الرِّوَايَتَانِ مُتَّحِدَتَيْنِ فِي الْمَعْنَى لَمَا أَنْكَرَ عَمْرٌو ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ يُجِيزُ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ مِنَ الزِّيَادَةِ قُلْتُ: كُنَّ لِي أَخَوَاتٌ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً تَجْمَعُهُنَّ وَتَمْشُطُهُنَّ وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ أَيْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِهِنَّ، وَهُوَ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ الْآتِيَةِ فِي النَّفَقَاتِ هَلَكَ أَبِي وَتَرَكَ سَبْعَ بَنَاتٍ - أَوْ تِسْعَ بَنَاتٍ - فَتَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا، كَرِهْتُ أَنْ أَجِيئَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ. فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ أَوْ قَالَ خَيْرًا وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو فِي الْمَغَازِي: وَتَرَكَ تِسْعَ بَنَاتٍ كُنَّ لِي تِسْعُ أَخَوَاتٍ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَجْمَعَ إِلَيْهِنَّ جَارِيَةً خَرْقَاءَ مِثْلَهُنَّ، وَلَكِنِ امْرَأَةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ وَتُمْشُطُهُنَّ. قَالَ: أَصَبْتَ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ عَنْ جَابِرٍ فَأَرَدْتُ أَنْ أَنْكِحَ امْرَأَةً قَدْ جَرَّبَتْ خَلَا مِنْهَا، قَالَ فَذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ مُخْتَلِفِ الرِّوَايَاتِ فِي عَدَدِ أَخَوَاتِ جَابِرٍ فِي الْمَغَازِي، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِنَّ. وَأَمَّا امْرَأَةُ جَابِرٍ الْمَذْكُورَةُ فَاسْمُهَا سَهْلَةُ بِنْتُ مَسْعُودِ بْنِ أَوْسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيَّةُ الْأَوْسِيَّةُ ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ.
قَوْلُهُ (فَلَمَّا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ قَالَ: أمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا أَيْ عِشَاءً) كَذَا هُنَا، وَيُعَارِضُهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ الْآتِي
قَبْلَ أَبْوَابِ الطَّلَاقِ لَا يَطْرُقْ أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ لَيْلًا وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ أَيْضًا، وَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي فِي الْبَابِ لِمَنْ عُلِمَ خبر مَجِيئُهُ وَالْعِلْمُ بِوُصُولِهِ، وَالْآتِي لِمَنْ قَدِمَ بَغْتَةً. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى يَتَخَوَّنُهُمْ بِذَلِكَ وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَحْثٍ فِيهِ هُنَاكَ. وَفِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى نِكَاحِ الْبِكْرِ، وَقَدْ وَرَدَ بِأَصْرَحَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَالِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ بِلَفْظِ: عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ، فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ أَفْوَاهًا، وَأَنْتَقُ أَرْحَامًا. أَيْ أَكْثَرُ حَرَكَةً، وَالنَّتَقُ بِنُونٍ وَمُثَنَّاةٍ الْحَرَكَةُ، وَيُقَالُ أَيْضًا لِلرَّمْيِ، فَلَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنَّهَا كَثِيرَةُ الْأَوْلَادِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ وَزَادَ وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ وَلَا يُعَارِضُهُ الْحَدِيثُ السَّابِقُ، عَلَيْكُمْ بِالْوَلُودِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ كَوْنَهَا بِكْرًا لَا يُعْرَفُ بِهِ كَوْنُهَا كَثِيرَةَ الْوِلَادَةِ، فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْبِكْرَ مَظِنَّةٌ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْوَلُودِ مَنْ هِيَ كَثِيرَةُ الْوِلَادَةِ بِالتَّجْرِبَةِ أَوْ بِالْمَظِنَّةِ، وَأَمَّا مَنْ جُرِّبَتْ فَظَهَرَتْ عَقِيمًا وَكَذَا الْآيِسَةُ فَالْخَبَرَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى مَرْجُوحِيَّتِهِمَا. وَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِجَابِرٍ لِشَفَقَتِهِ عَلَى أَخَوَاتِهِ وَإِيثَارِهِ مَصْلَحَتَهُنَّ عَلَى حَظِّ نَفْسِهِ.
وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا تَزَاحَمَتْ مَصْلَحَتَانِ قُدِّمَ أَهَمُّهُمَا لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَوَّبَ فِعْلَ جَابِرٍ وَدَعَا لَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الدُّعَاءُ لِمَنْ فَعَلَ خَيْرًا وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالدَّاعِي. وَفِيهِ سُؤَالُ الْإِمَامِ أَصْحَابَهُ عَنْ أُمُورِهِمْ، وَتَفَقُّدُهُ أَحْوَالَهُمْ، وَإِرْشَادُهُ إِلَى مَصَالِحِهِمْ وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ وَلَوْ كَانَ فِي بَابِ النِّكَاحِ وَفِيمَا يُسْتَحَيَا مِنْ ذِكْرِهِ. وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ خِدْمَةِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا وَمَنْ كَانَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ مِنْ وَلَدٍ وَأَخٍ وَعَائِلَةٍ، وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى الرَّجُلِ فِي قَصْدِهِ ذَلِكَ مِنِ امْرَأَتِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا، لَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِذَلِكَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ خَرْقَاءَ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ، هِيَ الَّتِي لَا تَعْمَلُ بِيَدِهَا شَيْئًا، وَهِيَ تَأْنِيثُ الْأَخْرَقِ وَهُوَ الْجَاهِلُ بِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ (تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ، أَطْلَقَ عَلَيْهَا ذَلِكَ لِأَنَّ الَّتِي يَغِيبُ زَوْجُهَا فِي مَظِنَّةِ عَدَمِ التَّزَيُّنِ.
قَوْلُهُ (تَسْتَحِدَّ) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ أَيْ تَسْتَعْمِلَ الْحَدِيدَةَ وَهِيَ الْمُوسَى. وَالْمُغِيبَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُوَحَّدَةٌ مَفْتُوحَةٌ أَيِ الَّتِي غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَالْمُرَادُ إِزَالَةُ الشَّعْرِ عَنْهَا وَعَبَّرَ بِالِاسْتِحْدَادِ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِي إِزَالَةِ الشَّعْرِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَنْعُ إِزَالَتِهِ بِغَيْرِ الْمُوسَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ في الرواية الثانية: (تَزَوَّجْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَزَوَّجْتَ)؟ هَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَقِبَ تَزَوُّجِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ جَمَلِ جَابِرٍ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ فِي آخِرِهِ أَنَّ بَيْنَ تَزَوُّجِهِ وَالسُّؤَالِ الَّذِي دَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ مُدَّةً طَوِيلَةً
11 - بَاب تَزْوِيجِ الصِّغَارِ مِنْ الْكِبَارِ
5081 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ،، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ،، عَنْ يَزِيدَ،، عَنْ عِرَاكٍ،، عَنْ عُرْوَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ عَائِشَةَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ، فَقَالَ له: أَنْتَ أَخِي فِي دِينِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ، وَهِيَ لِي حَلَالٌ.
قَوْلُهُ (بَابُ تَزْوِيجِ الصِّغَارِ مِنَ الْكِبَارِ) أَيْ فِي السِّنِّ.
قَوْلُهُ (عَنْ يَزِيدَ) هُوَ ابْنُ أَبِي حَبِيبٍ، وَعِرَاكٌ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ ثُمَّ كَافٍ هُوَ ابْنُ مَالِكٍ تَابِعِيٌّ شَهِيرٌ، وَعُرْوَةُ هُوَ ابْنُ الزُّبَيْرِ.
قَوْلُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ
عَائِشَةَ) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ فِي الرِّوَايَةِ مَا تَرْجَمَ بِهِ الْبَابَ، وَصِغَرُ عَائِشَةَ عَنْ كِبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعْلُومٌ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْخَبَرِ، ثُمَّ الْخَبَرُ الَّذِي أَوْرَدَهُ مُرْسَلٌ، فَإِنْ كَانَ يَدْخُلُ مِثْلُ هَذَا فِي الصَّحِيحِ فَيَلْزَمُهُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَرَاسِيلِ. قُلْتُ: الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ فَإِنَّ الْغَالِبَ فِي بِنْتِ الْأَخِ أَنْ تَكُونَ أَصْغَرَ مِنْ عَمِّهَا، وَأَيْضًا فَيَكْفِي مَا ذُكِرَ فِي مُطَابَقَةِ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ وَلَوْ كَانَ مَعْلُومًا مِنْ خَارِجٍ. وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ صُورَةُ سِيَاقِهِ الْإِرْسَالَ فَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ فِي قِصَّةٍ وَقَعَتْ لِخَالَتِهِ عَائِشَةَ وَجَدِّهِ لِأُمِّهِ أَبِي بَكْرٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حَمَلَ ذَلِكَ عَنْ خَالَتِهِ عَائِشَةَ أَوْ عَنْ أُمِّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِذَا عُلِمَ لِقَاءُ الرَّاوِي لِمَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ مُدَلِّسًا حُمِلَ ذَلِكَ عَلَى سَمَاعِهِ مِمَّنْ أَخْبَرَ عَنْهُ وَلَوْ لَمْ يَأْتِ بِصِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ رِوَايَةُ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ فِي قِصَّةِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا يَدْخُلُ فِي الْمُسْنَدِ لِلِقَاءِ عُرْوَةَ عَائِشَةَ وَغَيْرَهَا مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِلِقَائِهِ سَهْلَةَ زَوْجَ أَبِي حُذَيْفَةَ أَيْضًا.
وَأَمَّا الْإِلْزَامُ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْقِصَّةَ الْمَذْكُورَةَ لَا تَشْتَمِلُ عَلَى حُكْمٍ مُتَأَصِّلٍ، فَوَقَعَ فِيهَا التَّسَاهُلُ فِي صَرِيحِ الِاتِّصَالِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِيرَادُ جَمِيعِ الْمَرَاسِيلِ فِي الْكِتَابِ الصَّحِيحِ. نَعَمِ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ السِّيَاقَ الْمَذْكُورَ مُرْسَلٌ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَبُو مَسْعُودٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْحُمَيْدِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ. يَجُوزُ تَزْوِيجُ الصَّغِيرَةِ بِالْكَبِيرِ إِجْمَاعًا وَلَوْ كَانَتْ فِي الْمَهْدِ، لَكِنْ لَا يُمَكَّنُ مِنْهَا حَتَّى تَصْلُحَ لِلْوَطْءِ، فَرَمَزَ بِهَذَا إِلَى أَنْ لَا فَائِدَةَ لِلتَّرْجَمَةِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. قَالَ: وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَبَ يُزَوِّجُ الْبِكْرَ الصَّغِيرَةَ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانِهَا. قُلْتُ: كَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِهِ، وَلَيْسَ بِوَاضِحِ الدَّلَالَةِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ وُرُودِ الْأَمْرِ بِاسْتِئْذَانِ الْبِكْرِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَإِنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ حَصْرٌ مَخْصُوصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ بِنْتِ الْأَخِ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَوَابِ أَنْتَ أَخِي فِي دِينِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخ وَةٌ} وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ وَهِيَ لِي حَلَالٌ مَعْنَاهُ وَهِيَ مَعَ كَوْنِهَا بِنْتَ أَخِي يَحِلُّ لِي نِكَاحُهَا لِأَنَّ الْأُخُوَّةَ الْمَانِعَةَ مِنْ ذَلِكَ أُخُوَّةُ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ لَا أُخُوَّةُ الدِّينِ.
وَقَالَ مُغَلْطَايْ: فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْخُلَّةَ لِأَبِي بَكْرٍ إِنَّمَا كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَخُطْبَةُ عَائِشَةَ كَانَتْ بِمَكَّةَ، فَكَيْفَ يَلْتَئِمُ قَولُهُ إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ. وَأَيْضًا فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا بَاشَرَ الْخُطْبَةَ بِنَفْسِهِ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَخْطُبُ عَائِشَةَ، فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَصْلُحُ لَهُ؟ إِنَّمَا هِيَ بِنْتُ أَخِيهِ، فَرَجَعَتْ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهَا: ارْجِعِي فَقُولِي لَهُ أَنْتَ أَخِي فِي الْإِسْلَامِ وَابْنَتُكَ تَصْلُحُ لِي، فَأَتَيتُ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: ادْعِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ فَأَنْكَحَهُ. قُلْتُ: اعْتِرَاضُهُ الثَّانِي يَرُدُّ الِاعْتِرَاضَ الْأَوَّلَ مِنْ وَجْهَيْنِ، إِذِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ الْأُخُوَّةُ وَهِيَ أُخُوَّةُ الدِّينِ، وَالَّذِي اعْتَرَضَ بِهِ الْخُلَّةُ وَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الْأُخُوَّةِ. ثُمَّ الَّذِي وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا. الْحَدِيثَ الْمَاضِي فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ، فَلَيْسَ فِيهِ إِثْبَاتُ الْخُلَّةِ إِلَّا بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ فِي الثَّانِي إِثْبَاتَ مَا نَفَاهُ فِي الْأَوَّلِ، وَالْجَوَابُ عَنِ اعْتِرَاضِهِ بِالْمُبَاشَرَةِ إِمْكَانُ الْجَمْعِ بِأَنَّهُ خَاطَبَ بِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ رَاسَلَهُ
12 - بَاب إِلَى مَنْ يَنْكِحُ وَأَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ وَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَخَيَّرَ لِنُطَفِهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ
5082 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ،، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ،، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ،، عَنْ الْأَعْرَجِ،، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ.
قَوْلُهُ (بَابُ إِلَى مَنْ يَنْكِحُ، وَأَيِّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ وَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَخَيَّرَ لِنُطَفِهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ) اشْتَمَلَتِ التَّرْجَمَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ، وَتَنَاوُلُ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ وَاضِحٌ، وَأَنَّ الَّذِي يُرِيدُ التَّزْوِيجَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْكِحَ إِلَى قُرَيْشٍ لِأَنَّ نِسَاءَهُنَّ خَيْرُ النِّسَاءِ وَهُوَ الْحُكْمُ الثَّانِي، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ لِأَنَّ مَنْ ثَبَتَ أَنَّهُنَّ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِنَّ اسْتُحِبَّ تَخَيُّرُهُنَّ لِلْأَوْلَادِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحُكْمِ الثَّالِثِ حَدِيثٌ صَرِيحٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ. وَأَنْكِحُوا الْأَكْفَاءَ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ أَيْضًا وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَيَقْوَى أَحَدُ الْإِسْنَادَيْنِ بِالْآخَرِ.
قَوْلُهُ (خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ) تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ فِي ذِكْرِ مَرْيَمَ عليها السلام قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آخِرِهِ وَلَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ بَعِيرًا قَطُّ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ إِخْرَاجَ مَرْيَمَ مِنْ هَذَا التَّفْضِيلِ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْكَبْ بَعِيرًا قَطُّ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ تَفْضِيلُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ عَلَيْهَا، وَلَا يُشَكُّ أَنَّ لِمَرْيَمَ فَضْلًا وَأَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ إِنْ ثَبَتَ أَنَّهَا نَبِيَّةٌ أَوْ مِنْ أَكْثَرِهِنَّ إِنْ لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْمَنَاقِبِ فِي حَدِيثِ خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ وَأَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا خَيْرُ نِسَاءِ الْأَرْضِ فِي عَصْرِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُحْتَاجَ فِي إِخْرَاجِ مَرْيَمَ مِنْ هَذَا التَّفْضِيلِ إِلَى الِاسْتِنْبَاطِ مِنْ قَولِهِ رَكِبْنَ الْإِبِلَ لِأَنَّ تَفْضِيلَ الْجُمْلَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْهَا، فَإِنَّ قَوْلَهُ رَكِبْنَ الْإِبِلَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَرَبِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَكْثُرُ مِنْهُمْ رُكُوبِ الْإِبِلِ، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ الْعَرَبَ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ مُطْلَقًا فِي الْجُمْلَةِ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَفْضِيلُهُنَّ مُطْلَقًا عَلَى نِسَاءِ غَيْرِهِنَّ مُطْلَقًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا: إِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْحَدِيثَ سِيقَ فِي مَعْرِضِ التَّرْغِيبِ فِي نِكَاحِ الْقُرَشِيَّاتِ، فَلَيْسَ فِيهِ التَّعَرُّضُ لِمَرْيَمَ وَلَا لِغَيْرِهَا مِمَّنِ انْقَضَى زَمَنُهُنَّ.
قَوْلُهُ (صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْإِفْرَادِ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ صُلَّحُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ النَّفَقَاتِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ وَالْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ. فَالْمَحْكُومُ لَهُ بِالْخَيْرِيَّةِ الصَّالِحَاتُ مِنْ نِسَاءِ قُرَيْشٍ لَا عَلَى الْعُمُومِ، وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاحِ هُنَا صَلَاحُ الدِّينِ، وَحُسْنُ الْمُخَالَطَةِ مَعَ الزَّوْجِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (أَحْنَاهُ) بِسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا نُونٌ: أَكْثَرُهُ شَفَقَةً، وَالْحَانِيَةُ عَلَى وَلَدِهَا هِيَ الَّتِي تَقُومُ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ يُتْمِهِمْ فَلَا تَتَزَوَّجُ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ فَلَيْسَتْ بِحَانِيَةٍ قَالَهُ الْهَرَوِيُّ ; وَجَاءَ الضَّمِيرُ مُذَكَّرًا وَكَانَ الْقِيَاسُ أَحْنَاهُنَّ، وَكَأَنَّهُ ذَكَّرَ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَالْجِنْسِ أَوِ الشَّخْصِ أَوِ الْإِنْسَانِ، وَجَاءَ نَحْوُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنَهُ خُلُقًا. بِالْإِفْرَادِ فِي الثَّانِي، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ عِنْدِي أَحْسَنُ الْعَرَبِ وَأَجْمَلُهُ أُمُّ حَبِيبَةٍ بِالْإِفْرَادِ فِي الثَّانِي أَيْضًا، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ: لَا يَكَادُونَ يَتَكَلَّمُونَ بِهِ إِلَّا مُفْرَدًا.
قَوْلُهُ (عَلَى وَلَدِهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ عَلَى وَلَدٍ بِلَا ضَمِيرٍ وَهُوَ أَوْجَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَلَى يَتِيمٍ وَفِي أُخْرَى عَلَى طِفْلٍ وَالتَّقْيِيدُ بِالْيُتْمِ وَالصِّغَرِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا مِنْ ذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعُمُومِ، لِأَنَّ صِفَةِ الْحُنُوِّ عَلَى الْوَلَدِ ثَابِتَةٌ لَهَا، لَكِنْ ذُكِرَتِ الْحَالَتَانِ لِكَوْنِهِمَا أَظْهَرَ فِي ذَلِكَ
قَوْلُهُ (وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ) أَيْ أَحْفَظُ وَأَصْوَنُ لِمَالِهِ بِالْأَمَانَةِ فِيهِ وَالصِّيَانَةِ لَهُ وَتَرْكِ التَّبْذِيرِ فِي الْإِنْفَاقِ.
قَوْلُهُ (فِي
ذَاتِ يَدِهِ) أَيْ فِي مَالِهِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فُلَانٌ قَلِيلُ ذَاتِ الْيَدِ أَيْ قَلِيلُ الْمَالِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى نِكَاحِ الْأَشْرَافِ خُصُوصًا الْقُرَشِيَّاتِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ نَسَبُهَا أَعْلَى تَأَكَّدَ الِاسْتِحْبَابِ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ اعْتِبَارُ الْكَفَاءَةِ فِي النَّسَبِ، وَأَنَّ غَيْرَ الْقُرَشِيَّاتِ لَيْسَ كُفْأً لَهُنَّ، وَفَضْلُ الْحُنُوِّ وَالشَّفَقَةِ وَحُسْنِ التَّرْبِيَةِ وَالْقِيَامِ عَلَى الْأَوْلَادِ وَحِفْظِ مَالِ الزَّوْجِ وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ فِيهِ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ إِنْفَاقِ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ النَّفَقَاتِ بَيَانُ سَبَبِ هَذَا الْحَدِيثِ
13 - بَاب اتِّخَاذِ السَّرَارِيِّ وَمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَة ثُمَّ تَزَوَّجَهَا
5083 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ،، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ،، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ صَالِحٍ الْهَندَانِيُّ،، حَدَّثَنَا الشَّعْبِيُّ،، حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ،، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَلِيدَةٌ، فَعَلَّمَهَا، فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَآمَنَ - يعني بِي -، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَأَيُّمَا مَمْلُوك أَدَّى حَقَّ مَوَالِيهِ، وَحَقَّ رَبِّهِ، فَلَهُ أَجْرَانِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: خُذْهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، قَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَعْتَقَهَا ثُمَّ أَصْدَقَهَا.
5084 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ح حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلاَّ ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ بَيْنَمَا إِبْرَاهِيمُ مَرَّ بِجَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَأَعْطَاهَا هَاجَرَ قَالَتْ كَفَّ اللَّهُ يَدَ الْكَافِرِ وَأَخْدَمَنِي هآجَرَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ"
5085 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلَاثًا يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلَا لَحْمٍ أُمِرَ بِالأَنْطَاعِ فَأَلْقَى فِيهَا مِنْ التَّمْرِ وَالأَقِطِ وَالسَّمْنِ فَكَانَتْ وَلِيمَتَهُ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَقَالُوا إِنْ حَجَبَهَا فَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّى لَهَا خَلْفَهُ وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ"
قَوْلُهُ (بَابُ اتِّخَاذِ السَّرَارِيِّ) جَمْعُ سُرِّيَّةٍ بِضَمِّ السِّينِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الثَّقِيلَةِ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ وَقَدْ تُكْسَرُ السِّينِ أَيْضًا، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّسَرُّرِ، وَأَصْلُهُ مِنَ السِّرِّ وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْجِمَاعِ، وَيُقَالُ لَهُ الِاسْتِسْرَارِ أَيْضًا، أَوْ أُطْلِقِ عَلَيْهَا ذَلِكَ لِأَنَّهَا فِي الْغَالِبِ يُكْتَمُ أَمْرُهَا عَنِ الزَّوْجَةِ. وَالْمُرَادُ بِالِاتِّخَاذِ الِاقْتِنَاءُ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ صَرِيحًا
فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءَ مَرْفُوعًا: عَلَيْكُمْ بِالسَّرَارِيِّ فَإِنَّهُنَّ مُبَارَكَاتُ الْأَرْحَامِ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَإِسْنَادُهُ وَاهٍ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا: أَنْكِحُوا أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَإِنِّي أُبَاهِي بِكَمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَإِسْنَادُهُ أَصْلَحُ مِنَ الْأَوَّلِ. لَكِنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي التَّسَرِّي.
قَوْلُهُ (وَمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا) عَطَفَ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى الِاقْتِنَاءِ لِأَنَّهُ قَدْ يَقَعُ بَعْدَ التَّسَرِّي وَقَبْلَهُ، وَأَوَّلُ أَحَادِيثِ الْبَابِ مُنْطَبِقٌ عَلَى هَذَا الشِّقِّ الثَّانِي. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ. الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى، وقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَلِيدَةٌ أَيْ أَمَةٌ، وَأَصْلُهَا مَا وُلِدَ مِنَ الْإِمَاءِ فِي مِلْكِ الرَّجُلِ، ثُمَّ أُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ أَمَةٍ.
قَوْلُهُ (فَلَهُ أَجْرَانِ) ذَكَرَ مِمَّنْ يَحْصُلُ لَهُمْ تَضْعِيفُ الْأَجْرِ مَرَّتَيْنِ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: مُتَزَوِّجُ الْأَمَةِ بَعْدَ عِتْقِهَا، وَمُؤْمِنُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَالْمَمْلُوكِ الَّذِي يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِتْقِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَفَعَهُ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَرْبَعَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ فَذَكَرَ الثَّلَاثَةَ كَالَّذِي هُنَا وَزَادَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتَقَدَّمَ فِي التَّفْسِيرِ حَدِيثُ الْمَاهِرِ بِالْقُرْآنِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، وَحَدِيثُ زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الَّتِي تَتَصَدَّقُ عَلَى قَرِيبِهَا لَهَا أَجْرَانِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الصِّلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي الْحَاكِمِ إِذَا أَصَابَ لَهُ أَجْرَانِ وَسَيَأْتِي فِي الْأَحْكَامِ ; وَحَدِيثُ جَرِيرٍ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ دَعَا إِلَى هُدَى وَحَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ وَالثَّلَاثَةُ بِمَعْنًى وَهُنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي الَّذِي تَيَمَّمَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فَأَعَادَ الصَّلَاةَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَقَدْ يَحْصُلُ بِمَزِيدِ التَّتَبُّعِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَكُلُّ هَذَا دَالٌّ عَلَى أَنْ لَا مَفْهُومَ لِلْعَدَدِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَزِيدِ فَضْلِ مَنْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا سَوَاءٌ أَعْتَقَهَا ابْتِدَاءً لِلَّهِ أَوْ لِسَبَبٍ.
وَقَدْ بَالَغَ قَوْمٌ فَكَرِهُوهُ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُمُ الْخَبَرُ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ صَالِحٍ الرَّاوِي الْمَذْكُورِ وَفِيهِ قَالَ رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ سَأَلَ الشَّعْبِيَّ فَقَالَ: إِنَّ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ يَقُولُونَ فِي الرَّجُلِ إِذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَهُوَ كَالرَّاكِبِ بَدَنَتَهُ. فَقَالَ الشَّعْبِيُّ فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ: وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ إِذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ لِلَّهِ فَلَا يَعُودُ فِيهَا وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُمَا كَرِهَا ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ بِذَلِكَ بَأْسًا.
قَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ) هُوَ ابْنُ عَيَّاشٍ بِتَحْتَانِيَّةٍ وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ، وَأَبُو حُصَيْنٍ هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَاصِمٍ (عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) هُوَ ابْنُ أَبِي مُوسَى. وَهَذَا الْإِسْنَادُ مُسَلْسَلٌ بِالْكُوفِيِّينَ وَبِالْكُنَى.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْتَقَهَا ثُمَّ أَصْدَقَهَا) كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّزْوِيجِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنْ يَقَعَ بِمَهْرٍ جَدِيدٍ سِوَى الْعِتْقِ، لَا كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ صَفِيَّةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، فَأَفَادَتْ هَذِهِ الطَّرِيقُ ثُبُوتَ الصَّدَاقِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعِ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى بَلْ ظَاهِرُهَا أَنْ يَكُونَ الْعِتْقُ نَفْسَ الْمَهْرِ. وَقَدْ وَصَلَ طَرِيقَ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ هَذِهِ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ فَقَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَيَّاطُ فَذَكَرَهُ بِإِسْنَادِهِ بِلَفْظِ إِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ ثُمَّ أَمْهَرَهَا مَهْرًا جَدِيدًا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ، وَكَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَتَعَانَى الْخِيَاطَةَ فِي وَقْتٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْمَشْهُورِينَ فِي الْحَدِيثِ، وَالْقُرَّاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقِرَاءَةِ، وَأَحَدُ الرُّوَاةِ عَنْ عَاصِمٍ وَلَهُ اخْتِيَارٌ.
وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَوَصَلَهُ مِنْ طَرِيقِهِ أَيْضًا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، وَأَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ
وَلَفْظُهُ عِنْدَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بِمَهْرٍ جَدِيدٍ وَكَذَا أَخْرَجَهُ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَمْ يَقَعْ لِابْنِ حَزْمٍ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ الْحِمَّانِيِّ فَضَعَّفَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ بِهِ وَلَمْ يُصِبْ. وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَفَرَّدَ بِهَا عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، وَذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ فِيهِ اضْطِرَابًا عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، كَأَنَّهُ عَنَى فِي سِيَاقِ الْمَتْنِ لَا فِي الْإِسْنَادِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ اضْطِرَابًا لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ ذِكْرُ الْمَهْرِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ لَا يَكُونُ نَفْسَ الصَّدَاقِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، بَلْ هُوَ شَرْطٌ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَجْرَانِ الْمَذْكُورَانِ، وَلَيْسَ قَيْدًا فِي الْجَوَازِ.
(تَنْبِيهٌ):
وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى وَالصَّوَابُ مَا عِنْدَ الْجَمَاعَةِ عَنْ أَبِيهِ أَبِي مُوسَى بِحَذْفٍ عَنِ الَّتِي قَبْلَ أَبِي مُوسَى.
الحديث الثاني.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ تَلِيدٍ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ اللَّامِ الْخَفِيفَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، مِصْرِيٌّ مَشْهُورٌ، وَكَذَا شَيْخُهُ، وَبَقِيَّةُ الْإِسْنَادِ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَمُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ. وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ بَدَلَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَهُوَ خَطَأٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَلَى الصَّوَابِ لَكِنَّهُ سَاقَهُ هُنَاكَ مَوْقُوفًا، وَاخْتَلَفَ هُنَا الرُّوَاةُ: فَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَالنَّسَفِيِّ مَوْقُوفًا أَيْضًا، وَلِغَيْرِهِمَا مَرْفُوعًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ مَوْقُوفًا، وَكَذَا ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ أَنَّهُ وَقَعَ هُنَا لِلْبُخَارِيِّ مَوْقُوفًا، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْحُمَيْدِيُّ، وَأَظُنُّهُ الصَّوَابَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِ رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ مَعَ كَوْنِهَا نَازِلَةً، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ فِي الْأَصْلِ ثَابِتُ الرَّفْعِ، لَكِنَّ ابْنَ سِيرِينَ كَانَ يَقِفُ كَثِيرًا مِنْ حَدِيثِهِ تَخْفِيفًا. وَأَغْرَبَ الْمِزِّيُّ فَعَزَا رِوَايَةَ حَمَّادٍ هَذِهِ هُنَا إِلَى رِوَايَةِ ابْنِ رُمَيْحٍ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، وَغَفَلَ عَنْ ثُبُوتِهَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الرُّوَاةِ مِنْ طَرِيقِ الْفَرَبْرِيِّ حَتَّى فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ. فَمَا أَدْرِي مَا وَجْهُ تَخْصِيصِ ذَلِكَ بِرِوَايَةِ ابْنِ رُمَيْحٍ.
قَوْلُهُ (لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ الْحَدِيثَ) سَاقَهُ مُخْتَصَرًا هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي تَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُطَابَقَةُ حَدِيثِ هَاجَرَ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّهَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَوْلَدَهَا بَعْدَ أَنْ مَلَكَهَا فَهِيَ سُرِّيَّةٌ. قُلْتُ: إِنْ أَرَادَ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ صَرِيحًا فِي الصَّحِيحِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِنَّمَا الَّذِي فِي الصَّحِيحِ أَنَّ سَارَّةَ مَلَكَتْهَا وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَوْلَدَهَا إِسْمَاعِيلَ، وَكَوْنُهُ مَا كَانَ بِالَّذِي يَسْتَوْلِدُ أَمَةَ امْرَأَتِهِ إِلَّا بِمِلْكٍ مَأْخُوذٍ مِنْ خَارِجِ الْحَدِيثِ غَيْرِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ، وَقَدْ سَاقَهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ فِي آخِرِهِ فَاسْتَوْهَبَهَا إِبْرَاهِيمُ مِنْ سَارَّةَ، فَوَهَبَتْهَا لَهُ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ، عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ الْفَاكِهِيِّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ اسْتَوْهَبَ هَاجَرَ مِنْ سَارَّةَ فَوَهَبَتْهَا لَهُ وَشَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُسِرَّهَا فَالْتَزَمَ ذَلِكَ، ثُمَّ غَارَتْ مِنْهَا فَكَانَ ذَلِكَ السَّبَبَ فِي تَحْوِيلِهَا مَعَ ابْنِهَا إِلَى مَكَّةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ أَنَسٍ قَالَ (أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلَاثًا) الْحَدِيثَ، وَفِيهِ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ؟ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَالَ النَّاسُ: لَا نَدْرِي أَتَزَوَّجَهَا أَمِ اتَّخَذَهَا أُمَّ وَلَدٍ وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ تَرَدُّدُ الصَّحَابَةِ فِي صَفِيَّةَ هَلْ هِيَ زَوْجَةٌ أَوْ سُرِّيَّةٌ فَيُطَابِقُ أَحَدَ رُكْنَيِ التَّرْجَمَةِ، قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: دَلَّ تَرَدُّدُ الصَّحَابَةِ فِي صَفِيَّةَ هَلْ هِيَ زَوْجَةٌ أَوْ سُرِّيَّةٌ عَلَى أَنَّ عِتْقِهَا لَمْ يَكُنْ نَفْسَ الصَّدَاقِ، كَذَا قَالَ: وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّ التَّرَدُّدَ إِنَّمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْحَالِ ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا زَوْجَةٌ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ لِمَا ذُكِرَ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ
شُهُودٍ لِأَنَّهُ لَوْ حَضَرَ فِي تَزْوِيجِ صَفِيَّةَ شُهُودٌ لَمَا خَفِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ حَتَّى يَتَرَدَّدُوا، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ أَيْضًا لِاحْتِمَالِ أَنَّ الَّذِينَ حَضَرُوا التَّزْوِيجَ غَيْرُ الَّذِينَ تَرَدَّدُوا، وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ تَرَدَّدُوا فَذَلِكَ مَذْكُورٌ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يَتَزَوَّجُ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُ أَوَّلِ الْحَدِيثِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِتْقِ فِي الَّذِي بَعْدَهُ
13 - بَاب مَنْ جَعَلَ عِتْقَ الْأَمَةِ صَدَاقَهَا
5086 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، وَشُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا.
قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ جَعَلَ عِتْقَ الْأَمَةِ صَدَاقَهَا) كَذَا أَوْرَدَهُ غَيْرَ جَازِمٍ بِالْحُكْمِ، وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِهِ مِنَ الْقُدَمَاءِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَطَاوُسٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، قَالُوا: إِذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا صَحَّ الْعَقْدُ وَالْعِتْقُ وَالْمَهْرُ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ. وَأَجَابَ الْبَاقُونَ عَنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ بِأَجْوِبَةٍ أَقْرَبُهَا أَيْ لَفْظُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَعْتَقَهَا بِشَرْطِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَوَجَبَتْ لَهُ عَلَيْهَا قِيمَتُهَا وَكَانَتْ مَعْلُومَةً فَتَزَوَّجَهَا بِهَا.
وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ: سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ: سَبَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَفِيَّةَ فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا. فَقَالَ ثَابِتٌ لِأَنَسٍ: مَا أَصْدَقَهَا قَالَ نَفْسَهَا، فَأَعْتَقَهَا. هَكَذَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَغَازِي. وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ، عَنْ ثَابِتٍ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ فِي حَدِيثٍ قَالَ وَصَارَتْ صَفِيَّةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، فَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ لِثَابِتٍ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَنْتَ سَأَلْتَ أَنَسًا مَا أَمْهَرَهَا؟ قَالَ: أَمْهَرَهَا نَفْسَهَا. فَتَبَسَّمَ. فَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا فِي أَنَّ الْمَجْهُولَ مَهْرًا هُوَ نَفْسُ الْعِتْقِ، فَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ لَا بَأْسَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوَاعِدِ حَتَّى لَوْ كَانَتِ الْقِيمَةُ مَجْهُولَةً، فَإِنَّ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ وَجْهًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ جَعَلَ نَفْسَ الْعِتْقِ الْمَهْرَ، وَلَكِنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ وَمِمَّنْ جَزَمَ بِذَلِكَ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ آخَرُونَ: قَوْلُهُ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا مَعْنَاهُ أَعْتَقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَلَمَّا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ سَاقَ لَهَا صَدَاقًا قَالَ أَصْدَقَهَا نَفْسَهَا، أَيْ لَمْ يُصْدِقْهَا شَيْئًا فِيمَا أَعْلَمُ، وَلَمْ يَنْفِ أَصْلَ الصَّدَاقِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ الْمُرَابِطِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَمَنْ تَبِعَهُمَا: أَنَّهُ قَوْلُ أَنَسٍ، قَالَهُ ظَنًّا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَرْفَعْهُ. وَرُبَّمَا تَأَيَّدَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ بِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمَيْمَةَ - وَيُقَالُ أَمَةُ اللَّهِ - بِنْتُ رَزِينَةَ عَنِ أُمِّهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَخَطَبَهَا وَتَزَوَّجَهَا وَأَمْهَرَهَا رَزِينَةَ، وَكَانَ أَتَى بِهَا مَسْبِيَّةً مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَهَذَا لَا يَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ لِضَعْفِ إِسْنَادِهِ، وَيُعَارِضُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ حَدِيثِ صَفِيَّةَ نَفْسِهَا قَالَتْ أَعْتَقَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَجَعَلَ عِتْقِي صَدَاقِي، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ أَنَسٍ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ أَنَسًا قَالَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا ظَنَّهُ. وَقَدْ خَالَفَ هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا مَا عَلَيْهِ كَافَّةُ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّ صَفِيَّةَ مِنْ سَبْيِ خَيْبَرَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَعْتَقَهَا بِشَرْطِ أَنْ يَنْكِحَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ، فَلَزِمَهَا الْوَفَاءُ بِذَلِكَ، وَهَذَا خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دُونَ غَيْرِهِ.
وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَعْتَقَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَآلِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْعِتْقَ يَحِلُّ مَحَلَّ الصَّدَاقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَدَاقًا، قَالَ: وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ الْجُوعُ زَادُ مَنْ لَا زَادَ لَهُ قَالَ وَهَذَا الْوَجْهُ أَصَحُّ الْأَوْجُهِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ. وَمِنَ الْمُسْتَغْرَبَاتِ قَوْلُ التِّرْمِذِيِّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ،
قَالَ: وَكَرِهَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَجْعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا حَتَّى يَجْعَلَ لَهَا مَهْرًا سِوَى الْعِتْقِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَكَذَا نَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ، عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ، لَكِنْ لَعَلَّ مُرَادَ مَنْ نَقَلَهُ عَنْهُ صُورَةُ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، وَلَا سِيَّمَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَقَبِلَتْ، عَتَقَتْ وَلَمْ يَلْزَمْهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ، لَكِنْ يَلْزَمُهَا لَهُ قِيمَتُهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِعِتْقِهَا مَجَّانًا فَصَارَ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، فَإِنْ رَضِيَتْ وَتَزَوَّجَتْهُ عَلَى مَهْرٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ كَانَ لَهَا ذَلِكَ الْمُسَمَّى، وَعَلَيْهَا لَهُ قِيمَتُهَا. فَإِنِ اتَّحَدَا تَقَاصَّا.
وَمِمَّنْ قَالَ بِقَوْلِ أَحْمَدَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ابْنُ حِبَّانَ، صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي صَحِيحِهِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الظَّاهِرُ مَعَ أَحْمَدَ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَالْقِيَاسُ مَعَ الْآخَرِينَ ; فَيَتَرَدَّدُ الْحَالُ بَيْنَ ظَنٍّ نَشَأَ عَنْ قِيَاسٍ وَبَيْنَ ظَنٍّ نَشَأَ عَنْ ظَاهِرِ الْخَبَرِ مَعَ مَا تَحْتَمِلُهُ الْوَاقِعَةُ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لَكِنْ يَتَقَوَّى ذَلِكَ بِكَثْرَةِ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي النِّكَاحِ، وَخُصُوصًا خُصُوصِيَّتَهُ بِتَزْوِيجِ الْوَاهِبَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} الْآيَةَ. وَمِمَّنْ جَزَمَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنَ الْخَصَائِصِ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ، فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ قَالَ: وَكَذَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَمَوْضِعُ الْخُصُوصِيَّةِ أَنَّهُ أَعْتَقَهَا مُطْلَقًا وَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ وَلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ جَوَازَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَمِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَعْتِقَ أَمَتَهُ ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا، وَلَا يَرَوْنَ بَأْسًا أَنْ يَجْعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لِاسْتِحَالَتِهِ، وَتَقَرَّرَ اسْتِحَالَتُهُ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَقْدَهَا عَلَى نَفْسِهَا إِمَّا أَنْ يَقَعَ قَبْلَ عِتْقِهَا وَهُوَ مُحَالٌ لِتَنَاقُضِ الْحُكْمَيْنِ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ حُكْمُهَا الِاسْتِقْلَالِ وَالرِّقُّ ضِدُّهُ، وَأَمَّا بَعْدَ الْعِتْقِ فَلِزَوَالِ حُكْمِ الْجَبْرِ عَنْهَا بِالْعِتْقِ، فَيَجُوزُ أَنْ لَا تَرْضَى وَحِينَئِذٍ لَا تُنْكَحُ إِلَّا بِرِضَاهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا إِذَا جَعَلْنَا الْعِتْقَ صَدَاقًا فَإِمَّا أَنْ يَتَقَرَّرَ الْعِتْقُ حَالَةَ الرِّقِّ وَهُوَ مُحَالٌ لِتَنَاقُضِهِمَا، أَوْ حَالَةَ الْحُرِّيَّةِ فَيَلْزَمُ أَسْبَقِيَّتُهُ عَلَى الْعَقْدِ، فَيَلْزَمُ وُجُودُ الْعِتْقِ حَالَةَ فَرْضِ عَدَمِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ الصَّدَاقَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ تَقَرُّرُهُ عَلَى الزَّوْجِ إِمَّا نَصًّا وَإِمَّا حُكْمًا حَتَّى تَمْلِكَ الزَّوْجَةُ طَلَبَهُ. فَإِنِ اعْتَلُّوا بِنِكَاحِ التَّفْوِيضِ فَقَدْ تَحَرَّزْنَا عَنْهُ بِقَوْلِنَا حُكْمًا، فَإِنَّهَا وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهَا حَالَةَ الْعَقْدِ شَيْءٌ لَكِنَّهَا تَمْلِكُ الْمُطَالَبَةُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهَا حَالَةَ الْعَقْدِ شَيْءٌ تُطَالِبُ بِهِ الزَّوْجَ، وَلَا يَتَأَتَّى مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْعِتْقِ فَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا. وَتُعَقِّبَ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الِاسْتِحَالَةِ بِجَوَازِ تَعْلِيقِ الصَّدَاقِ عَلَى شَرْطِ إِذَا وُجِدَ اسْتَحَقَّتْهُ الْمَرْأَةُ كَأَنْ يَقُولَ تَزَوَّجْتُكِ عَلَى مَا سَيُسْتَحَقُّ لِي عِنْدَ فُلَانٍ وَهُوَ كَذَا، فَإِذَا حَلَّ الْمَالُ الَّذِي وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ اسْتَحَقَّتْهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا وَهُوَ مِمَّا يَتَأَيَّدُ بِهِ حَدِيثُ أَنَسٍ، لَكِنْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ جُوَيْرِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا لَمَّا جَاءَتْ تَسْتَعِينُ بِهِ فِي كِتَابَتِهَا: هَلْ لَكِ أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَأَتَزَوَّجَكِ؟ قَالَتْ: قَدْ فَعَلْتُ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَهُ ابْنُ حَزْمٍ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ إِنْ كَانَ أَدَّى عَنْهَا كِتَابَتَهَا أَنْ يَصِيرَ وَلَاؤُهَا لِمُكَاتِبِهَا. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا قَدْ فَعَلْتُ رَضِيتُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم عَوَّضَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ عَنْهَا فَصَارَتْ لَهُ فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا كَمَا صَنَعَ فِي قِصَّةِ صَفِيَّةَ، أَوْ يَكُونُ ثَابِتٌ لَمَّا بَلَغَتْهُ رَغْبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَبَهَا لَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: لِلسَّيِّدِ تَزْوِيجُ أَمَتَهُ إِذَا أَعْتَقَهَا مِنْ نَفْسِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى وَلِيٍّ وَلَا حَاكِمٍ. وَفِيهِ اخْتِلَافٌ يَأْتِي فِي بَابِ إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الْخَاطِبُ بَعْدَ نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ بَابًا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَإِنْ قِيلَ ثَوَابُ الْعِتْقِ عَظِيمٌ، فَكَيْفَ فَوَّتَهُ حَيْثُ جَعَلَهُ مَهْرًا؟ وَكَانَ يُمْكِنُ جَعْلُ الْمَهْرِ غَيْرَهُ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتُ مَلِكٍ، وَمِثْلُهَا لَا يَقْنَعُ إِلَّا بِالْمَهْرِ الْكَثِيرِ،
وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ صلى الله عليه وسلم إِذْ ذَاكَ مَا يُرْضِيهَا بِهِ، وَلَمْ يَرَ أَنْ يَقْتَصِرَ، فَجَعَلَ صَدَاقَهَا نَفْسَهَا، وَذَلِكَ عِنْدَهَا أَشْرَفُ مِنَ الْمَالِ الْكَثِيرِ.
14 - بَاب تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
5087 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ أَهَبُ لَكَ نَفْسِي، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا، وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ: وَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي، قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ، فَلَهَا نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ، إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ، قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: مَاذَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، عَدَّدَهَا، فَقَالَ: تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ (بَابُ تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ) تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ النِّكَاحِ بَابُ تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ الَّذِي مَعَهُ الْقُرْآنُ وَالْإِسْلَامُ، وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ، وَعَلَّقَ هُنَاكَ حَدِيثَ سَهْلٍ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي هَذَا الْبَابِ مَبْسُوطًا، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ بَعْدَ ثَلَاثِينَ بَابًا.
قَوْلُهُ (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} هُوَ تَعْلِيلٌ لِحُكْمِ التَّرْجَمَةِ، وَمُحَصِّلُهُ أَنَّ الْفَقْرَ فِي الْحَالِ لَا يَمْنَعُ التَّزْوِيجَ، لِاحْتِمَالِ حُصُولِ الْمَالِ فِي الْمَآلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
15 - بَاب الْأَكْفَاءِ فِي الدِّينِ وَقَوْلُهُ {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}
5088 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَبَنَّى سَالِمًا، وَأَنْكَحَهُ بِنْتَ أَخِيهِ هِنْدا بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ كَمَا تَبَنَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَيْدًا، وَكَانَ مَنْ تَبَنَّى رَجُلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ دَعَاهُ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَوَرِثَ مِنْ مِيرَاثِهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ:{ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ:
{وَمَوَالِيكُمْ} فَرُدُّوا إِلَى آبَائِهِمْ، فَمَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ أَبٌ كَانَ مَوْلًى وَأَخًا فِي الدِّينِ، فَجَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الْقُرَشِيِّ، ثُمَّ العَامِرِيِّ، وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
5089 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ لَهَا لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الْحَجَّ قَالَتْ وَاللَّهِ لَا أَجِدُنِي إِلاَّ وَجِعَةً فَقَالَ لَهَا حُجِّي وَاشْتَرِطِي وَقُولِي اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ"
5090 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"
5091 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ قَالَ مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا قَالُوا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ قَالَ ثُمَّ سَكَتَ فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا قَالُوا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْتَمَعَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا"
[الحديث 5091 - طرفه في: 6447]
قَوْلُهُ (بَابُ الْأَكْفَاءِ فِي الدِّينِ) جَمْعُ كُفْءٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْفَاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ: الْمِثْلُ وَالنَّظِيرُ. وَاعْتِبَارُ الْكَفَاءَةِ فِي الدِّينِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَلَا تَحِلُّ الْمُسْلِمَةُ لِكَافِرٍ أَصْلًا.
قَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} الْآيَةَ) قَالَ الْفَرَّاءُ: النَّسَبُ مَنْ لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ، وَالصِّهْرُ مَنْ يَحِلُّ نِكَاحُهُ. فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا رَأَى الْحَصْرَ وَقَعَ بِالْقِسْمَيْنِ صَلُحَ التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومِ لِوُجُودِ الصَّلَاحِيَّةِ إِلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِهِ وَهُوَ اسْتِثْنَاءُ الْكَافِرِ، وَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّ اعْتِبَارَ الْكَفَاءَةِ مُخْتَصٌّ بِالدِّينِ مَالِكٌ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَاعْتَبَرَ الْكَفَاءَةَ فِي النَّسَبِ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: قُرَيْشٌ أَكْفَاءُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَالْعَرَبُ كَذَلِكَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ كُفْأً لِقُرَيْشٍ كَمَا لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ كُفْأً لِلْعَرَبِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالصَّحِيحُ تَقْدِيمُ بَنِي هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَمَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ أَكْفَاءُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِذَا نَكَحَ الْمَوْلَى الْعَرَبِيَّةَ بفسخ النِّكَاحُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ. وَتَوَسَّطَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ نِكَاحُ غَيْرِ الْأَكْفَاءِ حَرَامًا فَأَرُدُّ بِهِ النِّكَاحَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَقْصِيرٌ بِالْمَرْأَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ، فَإِذَا رَضُوا صَحَّ وَيَكُونُ حَقًّا لَهُمْ تَرَكُوهُ، فَلَوْ رَضُوا إِلَّا وَاحِدًا فَلَهُ فَسْخُهُ.
وَذَكَرَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي اشْتِرَاطِ الْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ كَيْلَا تُضَيِّعَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ انْتَهَى. وَلَمْ يَثْبُتْ فِي اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ بِالنَّسَبِ حَدِيثٌ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ رَفَعَهُ الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ، وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
وَاحْتَجَّ الْبَيْهَقِيُّ بِحَدِيثِ وَاثِلَةَ مَرْفُوعًا إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى بَنِي كِنَانَةَ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ الْحَدِيثَ وَهُوَ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، لَكِنْ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ لِذَلِكَ نَظَرٌ، لَكِنْ ضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَيْهِ حَدِيثَ قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَقَدَّمُوهَا وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْبُوَيْطِيِّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: الْكَفَاءَةُ فِي الدِّينِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهُوَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ. وَنَقَلَ الْأَبْزَى، عَنِ الرَّبِيعِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ الشَّافِعِيَّ عَنْهُ فَقَالَ: أَنَا عَرَبِيٌّ لَا تَسْأَلْنِي عَنْ هَذَا. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ حَدِيثُ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ (أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ) اسْمُهُ مُهَشِّمٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: هِشَامٌ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ خَالُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَوْلُهُ (تَبَنَّى) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ بَعْدَهَا أَلِفٌ أَيِ اتَّخَذَهُ وَلَدًا، وَسَالِمٌ هُوَ ابْنُ مَعْقِلٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَلَمْ يَكُنْ مَوْلَاهُ وَإِنَّمَا كَانَ يُلَازِمُهُ، بَلْ كَانَ مِنْ حُلَفَائِهِ كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، وَكَانَ اسْتِشْهَادُ أَبِي حُذَيْفَةَ وَسَالِمٍ جَمِيعًا يَوْمَ الْيَمَامَةِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ.
قَوْلُهُ (وَأَنْكَحَهُ) أَيْ زَوَّجَهُ (هِنْدًا) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مَالِكٍ فَاطِمَةَ فَلَعَلَّ لَهَا اسْمَيْنِ، وَالْوَلِيدُ ابْنُ عُتْبَةَ أَحَدُ مَنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ كَافِرًا، وَقَوْلُهُ بِنْتُ أَخِيهِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ هُوَ الصَّحِيحُ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْخَاءِ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ وَهُوَ غَلَطٌ.
قَوْلُهُ (وَهُوَ مَوْلَى امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ) تَقَدَّمَ بَيَانُ اسْمِهَا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ.
قَوْلُهُ (كَمَا تَبَنَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَيْدًا) أَيِ ابْنَ حَارِثَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ خَبَرُهُ بِذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ.
قَوْلُهُ (فَمَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ أَبٌ) بِضَمِّ أَوَّلِ يُعْلَمُ وَفَتْحِ اللَّامِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.
قَوْلُهُ (كَانَ مَوْلًى وَأَخًا فِي الدِّينِ) لَعَلَّ فِي هَذَا إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِمْ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَإِنَّ سَالِمًا لَمَّا نَزَلَتْ {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} كَانَ مِمَّنْ لَا يُعْلَمُ لَهُ أَبٌ فَقِيلَ لَهُ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ.
قَوْلُهُ (إِنَّا كُنَّا نَرَى) بِفَتْحِ النُّونِ أَيْ نَعْتَقِدُ.
قَوْلُهُ (سَالِمًا وَلَدًا) زَادَ الْبَرْقَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْيَمَانِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَكَانَ يَأْوِي مَعِي وَمَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ فَيَرَانِي فُضُلًا وَفُضُلًا بِضَمِّ الْفَاءِ وَالْمُعْجَمَةِ أَيْ مُتَبَذِّلَةً فِي ثِيَابِ الْمِهْنَةِ، يُقَالُ: تَفَضَّلَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ، هَذَا قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ وَزَادَ وَكَانَتْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ الْخَلِيلُ رَجُلٌ فُضُلٌ مُتَوَشِّحٌ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يُخَالِفُ بَيْنَ طَرَفَيْهِ، قَالَ: فَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَهِيَ مُنْكَشِفٌ بَعْضُهَا. وَعَنِ ابْنِ وَهْبٍ: فُضُلٌ مَكْشُوفَةُ الرَّأْسِ وَالصَّدْرِ، وَقِيلَ الْفُضُلُ الَّذِي عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَلَا إِزَارَ تَحْتَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ: تَفَضَّلَتِ الْمَرْأَةُ فِي بَيْتِهَا إِذَا كَانَتْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ كَقَمِيصٍ لَا كُمَّيْنِ لَهُ.
قَوْلُهُ (وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ مَا قَدْ عَلِمْتَ) أَيِ الْآيَةَ الَّتِي سَاقَهَا قَبْلُ وَهِيَ {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} وَقَوْلُهُ: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ}
قَوْلُهُ (فَذَكَرَ الْحَدِيثَ) سَاقَ بَقِيَّتَهُ الْبَرْقَانِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ فَكَيْفَ تَرَى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرْضِعِيهِ، فَأَرْضَعَتْهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَأْمُرُ بَنَاتِ إِخْوَتِهَا وَبَنَاتِ أَخَوَاتِهَا أَنْ يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبَّتْ عَائِشَةَ أَنْ يَرَاهَا وَيَدْخُلَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ، ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْهَا، وَأَبَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَرْضَعَ فِي الْمَهْدِ، وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي لَعَلَّهَا رُخْصَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِسَالِمٍ دُونَ النَّاسِ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ فَيَّاضِ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ فِيهِ مَعَ عُرْوَةَ، أَبُو عَائِذِ اللَّهِ بْنُ رَبِيعَةَ، وَمَعَ عَائِشَةَ أُمُّ سَلَمَةَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: لَمْ يَذْكُرْهُمَا الْبُخَارِيُّ فِي إِسْنَادِهِ. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ
النَّسَائِيُّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ بَكَّارٍ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ مُخْتَصَرًا كَرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَذَلِكَ وَاخْتَصَرَ الْمَتْنَ أَيْضًا. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: عَنْ عُرْوَةَ، وَابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ كِلَاهُمَا عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ كَمَا تَرَى.
وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالذُّهْلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا قَالَ عُقَيْلٍ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، لَكِنَّهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ مُرْسَلٌ. وَخَالَفَ الْجَمِيعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: عَنْ عُرْوَةَ، وَعَمْرَةَ كِلَاهُمَا عَنْ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ. قَالَ الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عِنْدَنَا مَحْفُوظَةٌ إِلَّا رِوَايَةَ ابْنِ مُسَافِرٍ فَإنَّهَا غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ، أَيْ ذِكْرُ عَمْرَةَ فِي إِسْنَادِهِ، قَالَ: وَالرَّجُلُ الْمَذْكُورُ مَعَ عُرْوَةَ لَا أَعْرِفُهُ إِلَّا أَنَّنِي أَتَوَهَّمُ أَنَّهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، فَإنَّ أُمَّهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، فَهُوَ ابْنُ أخْتِ عَائِشَةَ، كَمَا أَنَّ عُرْوَةَ ابْنُ أخْتِهَا، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ حَدِيثَيْنِ غَيْرَ هَذَا قَالَ: وَهُوَ بِرِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَشْبَهُ حَيْثُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ فَنَسَبَهُ لِجَدِّهِ، وَأَمَّا قَوْلُ شُعَيْبٍ أَبِو عَائِذِ اللَّهِ فَهُوَ مَجْهُولٌ. قُلْتُ: لَعَلَّهَا كُنْيَةُ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورِ.
وَقَدْ نَقَلَ الْمِزِّيُّ فِي التَّهْذِيبِ قَوْلَ الذُّهْلِيِّ هَذَا وَأَقَرَّهُ، وَخَالَفَ فِي الْأَطْرَافِ فَقَالَ: أَظُنُّهُ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، يَعْنِي عَمَّ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورِ. وَالَّذِي أَظُنُّ أَنَّ قَوْلَ الذُّهْلِيِّ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ. ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ، فَانَّ هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِه مِنْ وَجْهٍ آخَرِ، فَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَكَأَنَّ مَا عَدَاهُ تَصْحِيفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، فَلَهُ أَصْلٌ مِنْ حَدِيثِهِمَا، فَفِي رِوَايَةٍ لِلْقَاسِمِ عِنْدَهُ: جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ وَهُوَ حَلِيفُهُ، فَقَالَ: أَرْضِعِيهِ. فَقَالَتْ: وَكَيْفَ أُرْضِعُهُ وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ؟ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: قَدْ عَلِمْتِ أَنَّهُ رَجُلٌ كَبِيرٌ. وَفِي لَفْظٍ: فَقَالَتْ: إِنَّ سَالِمًا قَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالِ، وَأَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْنَا، وَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ. فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُهُ فَذَهَبَ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ. وَفِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ زَيْنَبَ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لِعَائِشَةَ: إِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكِ الْغُلَامُ الَّذِي مَا أُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ، فَقَالَتْ: أَمَا لَكِ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُسْوَةٌ، إِنَّ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ فَذَكَرَتِ الْحَدِيثَ مُخْتَصَرًا.
وَفِي رِوَايَةِ الْغُلَامِ الَّذِي قَدِ اسْتَغْنَى عَنِ الرَّضَاعَةِ وَفِيهَا فَقَالَ: أَرَضِيعِهِ. قَالَتْ: إِنَّهُ ذُو لِحْيَةٍ. فَقَالَ: أَرْضِعِيهِ يَذْهَبْ مَا فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ. قَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا عَرَفْتُهُ فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ وَفِي لَفْظٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ أَحَدًا بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ، وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ: وَاللَّهِ مَا نَرَى هَذَا إِلَّا رُخْصَةً لِسَالِمٍ، فَمَا هُوَ بِدَاخِلٍ عَلَيْنَا أَحَدٌ بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ وَلَا رَأَيْتِنَا. قُلْتُ: وَهَذَا الْعُمُومُ مَخْصُوصٌ بِغَيْرِ حَفْصَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَبْوَابِ الرَّضَاعِ، وَنَذْكُرُ هُنَاكَ حُكْمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَعْنِي إِرْضَاعَ الْكَبِيرِ انْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيَّةِ بِنْتِ عَمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الِاشْتِرَاطِ فِي الْحَجِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي أَبْوَابِ الْمُحْصَرِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا أَجِدُنِي أَيْ مَا أَجِدُ نَفْسِي وَاتِّحَادُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ مَعَ كَوْنِهِمَا ضَمِيرَيْنِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ خَصَائِصِ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْيَمِينِ فِي دَرَجِ الْكَلَامِ بِغَيْرِ قَصْدٍ. وَفِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتَأْمِرَ زَوْجَهَا فِي حَجِّ الْفَرْضِ، كَذَا قِيلَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ مَنْعُهَا أَنْ يَسْقُطَ عَنْهَا اسْتِئْذَانُهُ. قَوْلُهُ فِي
آخِرِهِ (وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ) ظَاهِرُ سِيَاقِهِ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عَائِشَةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عُرْوَةَ، وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَانَّ الْمِقْدَادَ وَهُوَ ابْنُ عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ نُسِبَ إِلَى الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيِّ لِكَوْنِهِ تَبَنَّاهُ، فَكَانَ مِنْ حُلَفَاءِ قُرَيْشٍ، وَتَزَوَّجَ ضُبَاعَةَ وَهِيَ هَاشِمِيَّةٌ، فَلَوْلَا أَنَّ الْكَفَاءَةَ لَا تُعْتَبَرُ بِالنَّسَبِ، لَمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّهَا فَوْقَهُ فِي النَّسَبِ. وَلِلَّذِي يَعْتَبِرُ الْكَفَاءَةَ فِي النَّسَبِ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّهَا رَضِيَتْ هِيَ وَأَوْلِيَاؤُهَا فَسَقَطَ حَقُّهُمْ مِنَ الْكَفَاءَةِ، وَهُوَ جَوَابٌ صَحِيحٌ إِنْ ثَبَتَ أَصْلُ اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ فِي النَّسَبِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ (تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ) أَيْ لِأَجْلِ أَرْبَعٍ.
قَوْلُهُ (لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٌ أَيْ شَرَفِهَا، وَالْحَسَبُ فِي الْأَصْلِ الشَّرَفُ بِالْآبَاءِ وَبِالْأَقَارِبِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْحِسَابِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَفَاخَرُوا عَدُّوا مَنَاقِبَهَمْ وَمَآثِرَ آبَائِهِمْ وَقَوْمِهِمْ وَحَسَبُوهَا فَيُحْكَمُ لِمَنْ زَادَ عَدَدُهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْحَسَبِ هُنَا الْفِعَالُ الْحَسَنَةُ. وَقِيلَ الْمَالُ وَهُوَ مَرْدُودٌ لِذِكْرِ الْمَالِ قَبْلَهُ وَذَكَرَهُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي مُرْسَلِ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَلَى دِينِهَا وَمَالِهَا وَعَلَى حَسَبِهَا وَنَسَبِهَا وَذِكْرُ النَّسَبِ عَلَى هَذَا تَأْكِيدٌ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الشَّرِيفَ النَّسِيبَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ نَسِيبَةً إِلَّا أَنْ تُعَارِضَ نَسِيبَةً غَيْرُ دَيِّنَةٍ وَغَيْرَ نَسِيبَةٍ دَيِّنَةٌ فَتُقَدَّمُ ذَاتُ الدِّينِ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ الصِّفَاتِ. وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا تَكُونَ الْمَرْأَةُ ذَاتَ قَرَابَةٍ قَرِيبَةٍ فَانْ كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى الْخَبَرِ فَلَا أَصْلَ لَهُ أَوْ إِلَى التَّجْرِبَةِ وَهُوَ أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْوَلَدَ بَيْنَ الْقَرِيبَيْنِ يَكُونُ أَحْمَقَ فَهُوَ مُتَّجِهٌ.
وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ رَفَعَهُ إِنَّ أَحْسَابَ أَهْلِ الدُّنْيَا الَّذِي يَذْهَبُونَ إلَيْهِ الْمَالُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ حَسَبُ مَنْ لَا حَسَبَ لَهُ، فَيَقُومُ النَّسَبُ الشَّرِيفُ لِصَاحِبِهِ مَقَامَ الْمَالِ لِمَنْ لَا نَسَبَ لَهُ، وَمِنْهُ حَدِيثُ سَمُرَةَ رَفَعَهُ الْحَسَبُ الْمَالُ، وَالْكَرَمُ التَّقْوَى. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ هُوَ وَالْحَاكِمُ، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ تَمَسَّكَ مَنِ اعْتَبَرَ الْكَفَاءَةَ بِالْمَالِ وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، أَوْ أَنَّ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الدُّنْيَا رِفْعَةً مَنْ كَانَ كَثِيرَ الْمَالِ وَلَوْ كَانَ وَضِيعًا، وَضِعَةً مَنْ كَانَ مُقِلًّا وَلَوْ كَانَ رَفِيعَ النَّسَبِ كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ مُشَاهَدٌ، فَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ الْحَدِيثِ اعْتِبَارُ الْكَفَاءَةِ بِالْمَالِ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ، لَا عَلَى الثَّانِي لِكَوْنِهِ سِيقَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْحَسَبِ اقْتَصَرَ عَلَى الدِّينِ وَالْمَالِ وَالْجَمَالِ.
قَوْلُهُ (وَجَمَالِهَا) يُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ تَزَوُّجِ الْجَمِيلَةِ إِلَّا أَنْ تُعَارِضَ الْجَمِيلَةَ الْغَيْرُ دَيِّنَةٍ وَالْغَيْرَ جَمِيلَةٍ الدِّينَةُ، نَعَمْ لَوْ تَسَاوَتَا فِي الدِّينِ فَالْجَمِيلَةُ أَوْلَى، وَيَلْتَحِقُ بِالْحَسَنَةِ الذَّاتُ الْحَسَنَةُ الصِّفَاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ خَفِيفَةَ الصَّدَاقِ.
قَوْلُهُ (فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ) فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّائِقَ بِذِي الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ مَطْمَحَ نَظَرِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَا سِيَّمَا فِيمَا تَطُولُ صُحْبَتُهُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَحْصِيلِ صَاحِبَةِ الدِّينِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْبُغْيَةِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ رَفَعَهُ لَا تَزَوَّجُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ فَعَسَى حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ - أَيْ يُهْلِكَهُنَّ - وَلَا تَزَوَّجُوهُنَّ لِأَمْوَالِهِنَّ فَعَسَى أَمْوَالُهُنَّ أَنْ تُطْغِيَهُنَّ، وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى الدِّينِ، وَلَأَمَةٌ سَوْدَاءُ ذَاتُ دِينٍ أَفْضَلُ.
قَوْلُهُ (تَرِبَتْ يَدَاكَ) أَيْ لَصِقَتَا بِالتُّرَابِ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الْفَقْرِ وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، لَكِنْ لَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ، وَبِهَذَا جَزَمَ صَاحِبُ الْعُمْدَةِ، زَادَ غَيْرُهُ أَنَّ صُدُورَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَقِّ مُسْلِمٍ لَا يُسْتَجَابُ لِشَرْطِهِ ذَلِكَ عَلَى رَبِّهِ، وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ مَعْنَاهُ اسْتَغْنَتْ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَتْرَبَ إِذَا اسْتَغْنَى وَتَرِبَ إِذَا افْتَقَرَ، وَوُجِّهَ بِأَنَّ الْغِنَى النَّاشِئَ عَنِ الْمَالِ تُرَابٌ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الدُّنْيَا تُرَابٌ وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ ضَعُفَ عَقْلُكَ، وَقِيلَ افْتَقَرْتَ مِنَ الْعِلْمِ، وَقِيلَ فِيهِ تَقْدِيرُ شَرْطٍ أَيْ وَقَعَ لَكَ ذَلِكَ
إِنْ لَمْ تَفْعَلْ وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَقِيلَ مَعْنَى افْتَقَرَتْ حَابَتْ، وَصَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَهُ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ مَعْنَى تَرِبَتْ تَفَرَّقَتْ وَهُوَ مِثْلُ حَدِيثِ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ إِذَا صَارَتِ الشَّمْسُ كَالْأَثَارِبِ وَهُوَ جَمْعُ ثُرُوبٍ وَأَثْرُبٍ مِثْلُ فُلُوسٍ وَأَفْلُسٍ وَهِيَ جَمْعُ ثَرْبٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَهُوَ الشَّحْمُ الرَّقِيقُ الْمُتَفَرِّقُ الَّذِي يَغْشَى الْكَرِشَ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ الْأَرْبَعَ هِيَ الَّتِي يُرْغَبُ فِي نِكَاحِ الْمَرْأَةِ لِأَجْلِهَا، فَهُوَ خَبَرٌ عَمَّا فِي الْوُجُودِ مِنْ ذَلِكَ لَا أَنَّهُ وَقَعَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ بَلْ ظَاهِرُهُ إِبَاحَةُ النِّكَاحِ لِقَصْدِ كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ لَكِنَّ قَصْدَ الدِّينِ أَوْلَى، قَالَ وَلَا يُظَنُّ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَ تُؤْخَذُ مِنْهَا الْكَفَاءَةُ أَيْ تَنْحَصِرُ فِيهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ فِيمَا عَلِمْتُ وَإِنْ كَانُوا اخْتَلَفُوا فِي الْكَفَاءَةِ مَا هِيَ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ الِاسْتِمْتَاعَ بِمَالِ الزَّوْجَةِ، فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُهَا بِذَلِكَ حَلَّ لَهُ وَإِلَّا فَلَهُ مِنْ ذَلِكَ قَدْرُ مَا بَذَلَ لَهَا مِنَ الصَّدَاقِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ. وَلَمْ يَنْحَصِرْ قَصْدُ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ لِأَجْلِ مَالِهَا فِي اسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ، بَلْ قَدْ يَقْصِدُ تَزْوِيجَ ذَاتِ الْغِنَى لِمَا عَسَاهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنْهَا مِنْ وَلَدٍ فَيَعُودُ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْمَالُ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ إِنْ وَقَعَ، أَوْ لِكَوْنِهَا تَسْتَغْنِي بِمَالِهَا عَنْ كَثْرَةِ مُطَالَبَتِهِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ نِسَاءٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَعْجَبُ مِنْهُ اسْتِدْلَالُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ بِهِ عَلَى أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَحْجُرَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي مَالِهَا، قَالَ: لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَزَوَّجَ لِأَجْلِ الْمَالِ فَلَيْسَ لَهَا تَفْوِيتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَخْفَى وَجْهُ الرَّدِّ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ حَدِيثُ سَهْلٍ وَهُوَ ابْنُ سَعْدٍ.
قَوْلُهُ (ابْنُ أَبِي حَازِمٍ) هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ.
قَوْلُهُ (مَرَّ رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ
قَوْلُهُ (حَرِيٌّ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ أَيْ حَقِيقٌ وَجَدِيرٌ.
قَوْلُهُ (يُشَفَّعُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ.
قَوْلُهُ (فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَفِي مُسْنَدِ الرُّويَانِيِّ وَفُتُوحِ مِصْرَ لِابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ ومُسْنَدِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ دَخَلُوا مِصْرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَالِمٍ الْجَيْشَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ جُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ.
قَوْلُهُ (فَمَرَّ رَجُلٌ) فِي رِوَايَةِ الرِّقاقِ قَالَ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ.
قَوْلُهُ (فَقَالَ) وَقَعَ فِي طَرِيقٍ أُخْرَى تَأْتِي فِي الرِّقَاقِ بِلَفْظِ فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٌ: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا وَكَأَنَّهُ جَمَعَ هُنَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْجَالِسِينَ عِنْدَهُ كَانُوا جَمَاعَةً لَكِنِ الْمُجِيبُ وَاحِدٌ، وَقَدْ سَمَّى مِنَ الْمُجِيبِينَ أَبُو ذَرٍّ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ.
قَوْلُهُ (أَنْ لَا يَسْمَعَ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الرِّقَاقِ أَنْ لَا يَسْمَعَ لِقَوْلِهِ.
قَوْلُهُ (هَذَا) أَيِ الْفَقِيرُ (خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا) أَيِ الْغَنِيُّ، وَمِلْءُ بِالْهَمْزِ وَيَجُوزُ فِي مِثْلِ النَّصْبُ وَالْجَرُّ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: إِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَافِرًا فَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، وَإِلَّا فَيَكُونُ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْوَحْيِ قُلْتُ: يُعْرَفُ الْمُرَادُ مِنَ الطَّرِيقِ الْأُخْرَى الَّتِي سَتَأْتِي فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ بِلَفْظِ قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ: هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِلَخْ فَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّهُ أَطْلَقَ تَفْضِيلَ الْفَقِيرِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْغَنِيِّ الْمَذْكُورِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَفْضِيلُ كُلِّ غَنِيٍّ عَلَى كُلِّ فَقِيرٍ، وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ فَضْلَ الْفَقْرِ وَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
16 - بَاب الْأَكْفَاءِ فِي الْمَالِ وَتَزْوِيجِ الْمُقِلِّ الْمُثْرِيَةَ
5092 -
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ: أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها، {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} قَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي، هَذِهِ الْيَتِيمَةُ، تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ فِي جَمَالِهَا وَمَالِهَا، وَيُرِيدُ أَنْ يَنْتَقِصَ صَدَاقَهَا، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ، إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا فِي إِكْمَالِ
الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ، قَالَتْ: وَاسْتَفْتَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إِلَى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَهُمْ: أَنَّ الْيَتِيمَةَ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ وَمَالٍ رَغِبُوا فِي نِكَاحِهَا وَنَسَبِهَا فِي إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، وَإِذَا كَانَتْ مَرْغُوبَةً عَنْهَا فِي قِلَّةِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ تَرَكُوهَا وَأَخَذُوا غَيْرَهَا مِنْ النِّسَاءِ، قَالَتْ: فَكَمَا يَتْرُكُونَهَا حِينَ يَرْغَبُونَ عَنْهَا، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْكِحُوهَا إِذَا رَغِبُوا فِيهَا، إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهَا وَيُعْطُوهَا حَقَّهَا الْأَوْفَى فِي الصَّدَاقِ.
قَوْلُهُ (بَابُ الْأَكْفَاءِ فِي الْمَالِ، وَتَزَوُّجِ الْمُقِلِّ الْمُثْرِيَةَ) أَمَّا اعْتِبَارُ الْكَفَاءَةِ بِالْمَالِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ الْكَفَاءَةَ، وَالْأَشْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الْإِفْصَاحِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْكَفَاءَةُ فِي الدِّينِ وَالْمَالِ وَالنَّسَبِ. وَجَزَمَ بِاعْتِبَارِهِ أَبُو الطَّيِّبِ، وَالصَّيْمَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ. وَاعْتَبَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي أَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَخَصَّ الْخِلَافَ بِأَهْلِ الْبَوَادِي وَالْقُرَى الْمُتَفَاخِرِينَ بِالنَّسَبِ دُونَ الْمَالِ. وَأَمَّا الْمُثْرِيَةُ فَبِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ هِيَ الَّتِي لَهَا ثَرَاءٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالْمَدِّ وَهُوَ الْغَنِيُّ، وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي فِي الْبَابِ مِنْ عُمُومِ التَّقْسِيمِ فِيهِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمُثْرِي وَالْمُقِلِّ مِنَ الرِّجَالِ وَالْمُثْرِيَةِ وَالْمُقِلَّةِ مِنَ النِّسَاءِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَا يُرَدُّ عَلَى مَنْ يَشْتَرِطُهُ لِاحْتِمَالِ إِضْمَارِ رِضَا الْمَرْأَةِ وَرِضَا الْأَوْلِيَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَمَضَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ مَحْجُورَتَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ قَرِيبًا. وَفِيهِ أَنَّ لِلْوَلِيِّ حَقًّا فِي التَّزْوِيجِ لِأَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ الْأَوْلِيَاءَ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
17 - بَاب مَا يُتَّقَى مِنْ شُؤْمِ الْمَرْأَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ}
5093 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حَمْزَةَ، وَسَالِمٍ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الشُّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ، وَالْفَرَسِ.
5094 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: ذَكَرُوا الشُّؤْمَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ.
5095 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ فَفِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمَسْكَنِ.
5096 -
حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرجال من النساء"
قَوْلُهُ (بَابُ مَا يُتَّقَى مِنْ شُؤْمِ الْمَرْأَةِ) الشُّؤْمُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا وَاوٌ سَاكِنَةٌ وَقَدْ تُهْمَزُ وَهُوَ ضِدُّ الْيُمْنِ، يُقَالُ تَشَاءَمْتُ بِكَذَا وَتَيَمَّنْتُ بِكَذَا.
قَوْلُهُ (وَقَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى اخْتِصَاصِ
الشُّؤْمِ بِبَعْضِ النِّسَاءِ دُونَ بَعْضٍ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنَ التَّبْعِيضِ، وَذَكَرَ فِي الْبَابِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وَجْهَيْنِ وَحَدِيثَ سَهْلٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُمَا مَبْسُوطًا فِي كِتَابِ الْجِهَادِ. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مَا لَعَلَّهُ يُفَسِّرُ ذَلِكَ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا: مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمِ ثَلَاثَةٌ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الصَّالِحُ. وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلَاثَةٌ: الْمَرْأَةُ السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ السُّوءُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ. وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ: الْمَرْكَبُ الْهَنِيُّ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَاكِمِ: وَثَلَاثَةٌ مِنَ الشَّقَاءِ: الْمَرْأَةُ تَرَاهَا فَتَسُوؤكُ وَتَحْمِلُ لِسَانَهَا عَلَيْكَ، وَالدَّابَّةُ تَكُونُ قَطُوفًا فَإِنْ ضَرَبْتَهَا أَتْعَبَتْكَ وَإِنْ تَرَكْتَهَا لَمْ تَلْحَقْ أَصْحَابَكَ، وَالدَّارُ تَكُونُ ضَيِّقَةً قَلِيلَةَ الْمَرَافِقِ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ: إِنَّ مِنْ شَقَاءِ الْمَرْءِ فِي الدُّنْيَا: سُوءَ الدَّارِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالدَّابَّةِ. وَفِيهِ: سُوءُ الدَّارِ ضِيقُ مِسَاحَتِهَا وَخُبْثُ جِيرَانِهَا. وَسُوءُ الدَّابَّةِ مَنْعُهَا ظَهْرَهَا وَسُوءُ طَبْعِهَا، وَسُوءُ الْمَرْأَةِ عُقْمُ رَحِمِهَا وَسُوءُ خُلُقِهَا.
قَوْلُهُ (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ مَعَ أُسَامَةَ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ، وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ فِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ غَيْرَ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ.
قَوْلُهُ (مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ) قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ: فِي إِيرَادِ الْبُخَارِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ عَقِبَ حَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ، وَسَهْلٍ بَعْدَ ذِكْرِ الْآيَةِ فِي التَّرْجَمَةِ إِشَارَةً إِلَى تَخْصِيصِ الشُّؤْمِ بِمَنْ تَحْصُلُ مِنْهَا الْعَدَاوَةُ وَالْفِتْنَةُ، لَا كَمَا يَفْهَمُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ التَّشَاؤُمِ بِكَعْبِهَا أَوْ أَنَّ لَهَا تَأْثِيرًا فِي ذَلِكَ، وَهُوَ شَيْءٌ لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا سَبَبٌ فِي ذَلِكَ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَقَدْ أَطْلَقَ الشَّارِعُ عَلَى مَنْ يَنْسُبُ الْمَطَرَ إِلَى النَّوْءِ الْكُفْرَ فَكَيْفَ بِمَنْ يَنْسُبُ مَا يَقَعُ مِنَ الشَّرِّ إِلَى الْمَرْأَةِ مِمَّا لَيْسَ لَهَا فِيهِ مَدْخَلٌ، وَإِنَّمَا يَتَّفِقُ مُوَافَقَةَ قَضَاءٍ وَقَدَرٍ فَتَنْفِرُ النَّفْسُ مِنْ ذَلِكَ، فَمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يَتْرُكَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَ نِسْبَةَ الْفِعْلِ إِلَيْهَا. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْفِتْنَةَ بِالنِّسَاءِ أَشَدُّ مِنَ الْفِتْنَةِ بِغَيْرِهِنَّ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} فَجَعَلَهُنَّ مِنْ حُبِّ الشَّهَوَاتِ، وَبَدَأَ بِهِنَّ قَبْلَ بَقِيَّةِ الْأَنْوَاعِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُنَّ الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ، وَيَقَعُ فِي الْمُشَاهَدَةِ حُبُّ الرَّجُلِ وَلَد مِنِ امْرَأَتِهِ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ حُبِّهِ وَلَدَهُ مِنْ غَيْرِهَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قِصَّةُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي الْهِبَةِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: النِّسَاءُ شَرٌّ كُلُّهُنَّ وَأَشَرُّ مَا فِيهِنَّ عَدَمُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُنَّ وَمَعَ أَنَّهَا نَاقِصَةُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ تَحْمِلِ الرَّجُلِ عَلَى تَعَاطِي مَا فِيهِ نَقْصُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ كَشَغْلِهِ عَنْ طَلَبِ أُمُورِ الدِّينِ وَحَمْلِهِ عَلَى التَّهَالُكِ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا وَذَلِكَ أَشَدُّ الْفَسَادِ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِ: وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي اسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ.
18 - بَاب الْحُرَّةِ تَحْتَ الْعَبْدِ
5097 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَ: كَانَت فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ عَتَقَتْ، فَخُيِّرَتْ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبُرْمَةٌ عَلَى النَّارِ، فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ؟ فَقِيلَ: لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، وَأَنْتَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، قَالَ: هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ.
قَوْلُهُ (بَابُ الْحُرَّةِ تَحْتَ الْعَبْدِ) أَيْ جَوَازُ تَزْوِيجِ الْعَبْدِ الْحُرَّةَ إِنْ رَضِيَتْ بِهِ، وَأَوْرَدَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ قِصَّةِ بَرِيرَةَ حَيْثُ خُيِّرَتْ حِينَ عَتَقَتْ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَهُوَ مَصِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِ إِلَى أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ حِينَ عَتَقَتْ كَانَ عَبْدًا، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
19 - بَاب لَا يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليهما السلام: يَعْنِي مَثْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ
وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} يَعْنِي مَثْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ
5098 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} قَالَتْ: هي الْيَتِيمَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ، وَهُوَ وَلِيُّهَا فَيَتَزَوَّجُهَا عَلَى مَالِهَا، وَيُسِيءُ صُحْبَتَهَا، وَلَا يَعْدِلُ فِي مَالِهَا، فَلْيَتَزَوَّجْ مَا طَابَ لَهُ مِنْ النِّسَاءِ سِوَاهَا؛ مَثْنَى، وَثُلَاثَ، وَرُبَاعَ.
قَوْلُهُ (بَابُ لَا يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} أَمَّا حُكْمُ التَّرْجَمَةِ فَبِالْإِجْمَاعِ، إِلَّا قَوْلَ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ مِنْ رَافِضِيٍّ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا انْتِزَاعُهُ مِنَ الْآيَةِ فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهَا التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْأَعْدَادِ الْمَذْكُورَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} وَلِأَنَّ مَنْ قَالَ جَاءَ الْقَوْمُ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ أَرَادَ أَنَّهُمْ جَاءُوا اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، فَالْمُرَادُ تَبْيِينُ حَقِيقَةِ مَجِيئِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَجِيئُوا جُمْلَةً وَلَا فُرَادَى، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى الْآيَةِ انْكِحُوا اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، فَالْمُرَادُ الْجَمِيعُ لَا الْمَجْمُوعُ، وَلَوْ أُرِيدَ مَجْمُوعُ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ لَكَانَ قَوْلُهُ مَثَلًا تِسْعًا أَرْشَقُ وَأَبْلَغُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ لَفْظَ مَثْنَى مَعْدُولٌ عَنِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، فَدَلَّ إِيرَادُهُ أَنَّ الْمُرَادَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْأَعْدَادِ الْمَذْكُورَةِ، وَاحْتِجَاجُهُمْ بِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ لَا يُفِيدُ مَعَ وُجُودِ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ الْجَمْعِ، وَبِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَ تِسْعِ، مُعَارَضٌ بِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ بِمُفَارَقَةِ مَنْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِغَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِ كَمَا خَرَّجَ فِي كُتُبِ السُّنَنِ فَدَلَّ عَلَى خُصُوصِيَّتِهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ فَاطِرٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ
الْمُرَادَ بِهِ تَنْوِيعُ الْأَعْدَادِ لَا أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَجْمُوعَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ) أَيِ ابْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (يَعْنِي مَثْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ) أَرَادَ أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى أَوْ، فَهِيَ لِلتَّنَوُّيعِ، أَوْ هِيَ عَاطِفَةٌ عَلَى الْعَامِلِ وَالتَّقْدِيرِ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى، وَانْكِحُوا مَا طَابَ مِنَ النِّسَاءِ ثَلَاثَ إِلَخْ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْأَدِلَّةِ فِي الرَّدِّ عَلَى الرَّافِضَةِ لِكَوْنِهِ مِنْ تَفْسِيرِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ وَهُوَ مِنْ أَئِمَّتِهِمُ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ إِلَى قَوْلِهِمْ وَيَعْتَقِدُونَ عِصْمَتَهَمْ. ثُمَّ سَاقَ الْمُصَنِّفُ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} وَقَدْ سَبَقَ قَبْلَ هَذَا بِبَابٍ أَتَمَّ سِيَاقًا مِنَ الَّذِي هُنَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
20 - بَاب {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاع مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ
5099 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ
حَفْصَةَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أُرَاهُ فُلَانًا لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنْ الرَّضَاعَةِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ كَانَ فُلَانٌ حَيًّا لِعَمِّهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ دَخَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ: نَعَمْ، الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ.
5100 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَلَا تَتَزَوَّجُ ابْنَةَ حَمْزَةَ قَالَ إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ وَقَالَ بِشْرُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ قَتَادَةَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ مِثْلَهُ"
5101 -
حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكِ فَقُلْتُ نَعَمْ لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ ذَلِكِ لَا يَحِلُّ لِي قُلْتُ فَإِنَّا نُحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ قُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا لَابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ قَالَ عُرْوَةُ وثُوَيْبَةُ مَوْلَاةٌ لِأَبِي لَهَبٍ كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَهَا فَأَرْضَعَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ قَالَ لَهُ مَاذَا لَقِيتَ قَالَ أَبُو لَهَبٍ لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ فِي هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ"
[الحديث 5101 - أطرافه في: 5107، 5106، 5133، 5372]
قَوْلُهُ (بَابُ {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ وَثَلَاثُ تَرَاجِمَ بَعْدَهَا تَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الرَّضَاعَةِ، وَوَقَعَ هُنَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ كِتَابُ الرَّضَاعِ وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأُصُولِ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ وَيَحْرُمُ إِلَخْ أَنَّ الَّذِي فِي الْآيَةِ بَيَانُ بَعْضِ مَنْ يَحْرُمُ بِالرَّضَاعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَتْ ذَلِكَ السُّنَّةُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدَيثُ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) أَيِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمِ الْأَنْصَارِيِّ، وَقَدْ رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْهُ وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِهِ، لَكِنَّهُ اخْتَصَرَهُ فَاقْتَصَرَ عَلَى الْمَتْنِ دُونَ الْقِصَّةِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
قَوْلُهُ (وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ) أَيْ بِنْتِ عُمَرَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الرَّجُلِ. قَوْلُهُ (أَرَاهُ) أَيْ أَظُنُّهُ.
قَوْلُهُ (فُلَانًا لِعَمِّ حَفْصَةَ) اللَّامُ بِمَعْنَى عَنْ، أَيْ قَالَ ذَلِكَ عَنْ عَمِّ حَفْصَةَ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ (قَالَتْ عَائِشَةُ) فِيهِ الْتِفَاتٌ وَكَانَ السِّيَاقِ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ قُلْتُ.
قَوْلُهُ (لَوْ كَانَ فُلَانٌ حَيًّا) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ أَيْضًا، وَوَهِمَ مَنْ فَسَّرَهُ بِأَفْلَحَ أَخِي أَبِي الْقُعَيْسِ لِأَنَّ أَبَا الْقُعَيْسِ وَالِدُ عَائِشَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَأَمَّا أَفْلَحُ فَهُوَ أَخُوهُ وَهُوَ عَمُّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ كَمَا سَيَأْتِي
أَنَّهُ عَاشَ حَتَّى جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَى عَائِشَةَ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَأْذَنَ لَهُ بَعْدَ أَنِ امْتَنَعَتْ، وَقَوْلُهَا هُنَا لَوْ كَانَ حَيًّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَاتَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَخًا لَهُمَا آخَرَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ ظَنَّتْ أَنَّهُ مَاتَ لِبُعْدِ عَهْدِهَا بِهِ ثُمَّ قَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَاسْتَأْذَنَ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: سُئِلَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَنْ قَوْلِ عَائِشَةَ لَوْ كَانَ فُلَانٌ حَيًّا أَيْنَ هُوَ مِنَ الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِيهِ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَالْأَوَّلُ ذَكَرَتْ أَنَّهُ مَيِّتٌ وَالثَّانِي ذَكَرَتْ أَنَّهُ حَيٌّ؟ فَقَالَ: هُمَا عَمَّانِ مِنَ الرَّضَاعَةِ أَحَدُهُمَا وُضِعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَتْ فِيهِ: لَوْ كَانَ حَيًّا، وَالْآخَرُ أَخُو أَبِيهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ. قُلْتُ: الثَّانِي ظَاهِرٌ مِنَ الْحَدِيثِ، وَالْأَوَّلُ حَسَنٌ مُحْتَمِلٌ، وَقَدِ ارْتَضَاهُ عِيَاضٌ، إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ لِكَوْنِهِ جَزَمَ بِهِ.
قَالَ: وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ: أَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي أَرْضَعَتْ عَائِشَةَ امْرَأَةُ أَخِي الَّذِي اسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا. قُلْتُ: وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى ظَنٍّ وَلَا هُوَ مُشْكِلٌ، إِنَّمَا الْمُشْكِلُ كَوْنُهَا سَأَلَتْ عَنِ الْأَوَّلِ ثُمَّ تَوَقَّفَتْ فِي الثَّانِي، وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ قَالَ: هُمَا سُؤَالَانِ وَقَعَا مَرَّتَيْنِ فِي زَمَنَيْنِ عَنْ رَجُلَيْنِ، وَتَكَرَّرَ مِنْهَا ذَلِكَ؛ إِمَّا لِأَنَّهَا نَسِيَتِ الْقِصَّةَ الْأُولَى، وَإِمَّا لِأَنَّهَا جَوَّزَتْ تَغَيُّرَ الْحُكْمِ فَأَعَادَتِ السُّؤَالَ. اهـ. وَتَمَامُهُ أَنْ يُقَالَ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ كَانَ قَبْلَ الْوُقُوعِ وَالثَّانِي بَعْدَ الْوُقُوعِ، فَلَا اسْتِبْعَادَ فِي تَجْوِيزِ مَا ذُكِرَ مِنْ نِسْيَانٍ أَوْ تَجْوِيزِ النَّسْخِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ عِيَاضٍ جَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ أَحَدَ الْعَمَّيْنِ كَانَ أَعْلَى وَالْآخَرُ أَدْنَى، أَوْ أَحَدُهُمَا كَانَ شَقِيقًا وَالْآخَرُ لِأَبٍ فَقَطْ أَوْ لِأُمٍّ فَقَطْ، أَوْ أَرْضَعَتْهَا زَوْجَةُ أَخِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَالْآخَرُ فِي حَيَاتِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُرَابِطِ: حَدِيثُ عَمِّ حَفْصَةَ قَبْلَ حَدِيثِ عَمِّ عَائِشَةَ، وَهُمَا مُتَعَارِضَانِ فِي الظَّاهِرِ لَا فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ عَمَّ حَفْصَةَ أَرْضَعَتْهُ الْمَرْأَةُ مَعَ عُمَرَ، فَالرَّضَاعَةُ فِيهِمَا مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ، وَعَمَّ عَائِشَةَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْفَحْلِ، كَانَتِ امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ أَرْضَعَتْهَا فَجَاءَ أَخُوهُ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا فَأَبَتْ، فَأَخْبَرَهَا الشَّارِعُ أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ يُحَرِّمُ كَمَا يُحَرِّمُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ.
اهـ، فَكَأَنَّهُ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ عَمُّ عَائِشَةَ الَّذِي سَأَلَتْ عَنْهُ فِي قِصَّةِ عَمِّ حَفْصَةَ كَانَ نَظِيرَ عَمِّ حَفْصَةَ فِي ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ سَأَلْتُ ثَانِيًا فِي قِصَّةِ أَبِي الْقُعَيْسِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ وَجَدَهُ مَنْقُولًا فَلَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَإِلَّا فَهُوَ حَمْلٌ حَسَنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ) أَيْ وَتُبِيحُ مَا تُبِيحُ، وَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ وَتَوَابِعِهِ، وَانْتِشَارِ الْحُرْمَةِ بَيْنَ الرَّضِيعِ وَأَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ وَتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ الْأَقَارِبِ فِي جَوَازِ النَّظَرِ وَالْخَلْوَةِ وَالْمُسَافَرَةِ وَلَكِنْ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَاقِي أَحْكَامُ الْأُمُومَةِ مِنَ التَّوَارُثِ وَوُجُوبِ الْإِنْفَاقِ وَالْعِتْقِ بِالْمِلْكِ وَالشَّهَادَةِ وَالْعَقْلِ وَإِسْقَاطِ الْقِصَاصِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ وَفِي رِوَايَةٍ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ وَهُوَ دَالٌّ عَلَى جَوَازِ نَقْلِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّفْظَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ، قُلْتُ: الثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمَدُ، فَإِنَّ الْحَدِيثَيْنِ مُخْتَلِفَانِ فِي الْقِصَّةِ وَالسَّبَبِ وَالرَّاوِي، وَإِنَّمَا يَأْتِي مَا قَالَ إِذَا اتَّحَدَ ذَلِكَ.
وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ مِنْ خَالٍ أَوْ عَمٍّ أَوْ أَخٍ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الرَّضَاعَ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ بَيْنَ الرَّضِيعِ وَالْمُرْضِعَةِ وَزَوْجِهَا، يَعْنِي الَّذِي وَقَعَ الْإِرْضَاعُ بَيْنَ وَلَدِهِ مِنْهَا أَوِ السَّيِّدِ، فَتَحْرُمُ عَلَى الصَّبِيِّ لِأَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّهُ، وَأُمَّهَا لِأَنَّهَا جِدَّتُهُ فَصَاعِدًا، وَأُخْتَهَا لِأَنَّهَا خَالَتُهُ، وَبِنْتَهَا لِأَنَّهَا أُخْتُهُ، وَبِنْتَ بِنْتِهَا فَنَازِلًا؛ لِأَنَّهَا بِنْتُ أُخْتِهِ، وَبِنْتَ صَاحِبِ اللَّبَنِ لِأَنَّهَا أُخْتُهُ، وَبِنْتَ بِنْتِهِ فَنَازِلًا لِأَنَّهَا بِنْتُ أُخْتِهِ، وَأُمَّهُ فَصَاعِدًا لِأَنَّهَا جِدَّتُهُ، وَأُخْتَهُ لِأَنَّهَا عَمَّتُهُ، وَلَا يَتَعَدَّى التَّحْرِيمُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ قَرَابَةِ الرَّضِيعِ، فَلَيْسَتْ أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ أُخْتًا لِأَخِيهِ وَلَا بِنْتًا لِأَبِيهِ إِذْ لَا رَضَاعَ بَيْنَهُمْ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ التَّحْرِيمِ مَا يَنْفَصِلُ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا وَهُوَ اللَّبَنُ، فَإِذَا اغْتَذَى بِهِ الرَّضِيعُ صَارَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِمَا فَانْتَشَرَ التَّحْرِيمُ بَيْنَهُمْ، بِخِلَافِ قَرَابَاتِ الرَّضِيعِ؛
لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُرْضِعَةِ وَلَا زَوْجِهَا نَسَبٌ وَلَا سَبَبٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَوْلُهُ (عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ) هُوَ أَبُو الشَّعْثَاءِ الْبَصْرِيُّ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وَأَمَّا جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ الْكُوفِيُّ فَأَوَّلُ اسْمِ أَبِيهِ تَحْتَانِيَّةٌ وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيحِ شَيْءٌ.
قَوْلُهُ (قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقَائِلُ لَهُ ذَلِكَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالَكَ تَنَوَّقُ فِي قُرَيْشٍ وَتَدْعُنَا؟ قَالَ: وَعِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قُلْتُ: نَعَمِ ابْنَةُ حَمْزَةَ الْحَدِيثَ، وَقَوْلُهُ تَنَوَّقُ ضُبِطَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَالنُّونِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ بَعْدَهَا قَافٌ أَيْ تَخْتَارُ مُشْتَقٌّ مِنَ النِّيقَةِ بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا قَافٌ، وَهِيَ الْخِيَارُ مِنَ الشَّيْءِ يُقَالُ تَنَوَّقَ تَنَوُّقًا أَيْ بَالَغَ فِي اخْتِيَارِ الشَّيْءِ وَانْتِقَائِهِ. وَعِنْدَ بَعْضِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ تَتُوقُ بِمُثَنَّاةِ مَضْمُومَةٍ بَدَلَ النُّونِ وَسُكُونِ الْوَاوِ مِنَ التَّوْقِ أَيْ تَمِيلُ وَتَشْتَهِي، وَوَقَعَ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَتَزَوَّجُ بِنْتَ عَمِّكَ حَمْزَةَ فَإِنَّهَا مِنْ أَحْسَنِ فَتَاةٍ فِي قُرَيْشٍ وَكَأَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ حَمْزَةَ رَضِيعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ جَوَّزَ الْخُصُوصِيَّةَ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَقْرِيرِ الْحُكْمِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَبَعِيدٌ أَنْ يُقَالَ عَنْ عَلِيٍّ لَمْ يَعْلَمْ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ) زَادَ هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ طَرِيقِهِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ يَحْرُمْنَ فِي النَّسَبِ مُطْلَقًا وَفِي الرَّضَاعِ قَدْ لَا يَحْرُمْنَ، الْأُولَى: أُمُّ الْأَخِ فِي النَّسَبِ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهَا إِمَّا أُمٌّ وَإِمَّا زَوْجُ أَبٍ، وَفِي الرَّضَاعِ قَدْ تَكُونُ أَجْنَبِيَّةً فَتُرْضِعُ الْأَخَ فَلَا تَحْرُمُ عَلَى أَخِيهِ. الثَّانِيَةُ: أُمُّ الْحَفِيدِ. حَرَامٌ فِي النَّسَبِ لِأَنَّهَا إِمَّا بِنْتٌ أَوْ زَوْجُ ابْنٍ، وَفِي الرَّضَاعِ قَدْ تَكُونُ أَجْنَبِيَّةً فَتُرْضِعُ الْحَفِيدَ فَلَا تَحْرُمُ عَلَى جَدِّهِ. الثَّالِثَةُ: جَدَّةُ الْوَلَدِ فِي النَّسَبِ حَرَامٌ لِأَنَّهَا إِمَّا أُمٌّ أَوْ أُمُّ زَوْجَةٍ، وَفِي الرَّضَاعِ قَدْ تَكُونُ أَجْنَبِيَّةً أَرْضَعَتِ الْوَلَدَ فَيَجُوزُ لِوَالِدِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. الرَّابِعَةُ: أُخْتُ الْوَلَدِ حَرَامٌ فِي النَّسَبِ لِأَنَّهَا بِنْتٌ أَوْ رَبِيبَةٌ، وَفِي الرَّضَاعِ قَدْ تَكُونُ أَجْنَبِيَّةً فَتُرْضِعُ الْوَلَدَ فَلَا تَحْرُمُ عَلَى الْوَالِدِ. وَهَذِهِ الصُّوَرُ الْأَرْبَعُ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا جَمَاعَةٌ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ الْجُمْهُورُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَفِي التَّحْقِيقِ لَا يُسْتَثْنَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَحْرُمْنَ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ وَإِنَّمَا حَرُمْنَ مِنْ جِهَةِ الْمُصَاهَرَةِ. وَاسْتَدْرَكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أُمَّ الْعَمِّ وَأُمَّ الْعَمَّةِ وَأُمَّ الْخَالِ وَأُمَّ الْخَالَةِ فَإِنَّهُنَّ يَحْرُمْنَ فِي النَّسَبِ لَا فِي الرَّضَاعِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ: كَانَتْ ثُوَيْبَةُ - يَعْنِي الْآتِي ذِكْرُهَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ - أَرْضَعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا أَرْضَعَتْ حَمْزَةَ ثُمَّ أَرْضَعَتْ أَبَا سَلَمَةَ. قُلْتُ: وَبِنْتُ حَمْزَةَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا وَتَسْمِيَتُهَا فِي كِتَابِ الْمَغَازِي فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي قَوْلِهِ فَتَبِعَتْهُمْ بِنْتُ حَمْزَةَ تُنَادِي: يَا عَمُّ الْحَدِيثَ. وَجُمْلَةُ مَا تَحَصَّلَ لَنَا مِنَ الْخِلَافِ فِي اسْمِهَا سَبْعَةُ أَقْوَالٍ: أُمَامَةُ وَعِمَارَةُ وَسَلْمَى وَعَائِشَةُ وَفَاطِمَةُ وَأَمَةُ اللَّهِ وَيَعْلَى، وَحَكَى الْمِزِّيُّ فِي أَسْمَائِهَا أُمَّ الْفَضْلِ لَكِنْ صَرَّحَ ابْنُ بَشْكُوَالَ بِأَنَّهَا كُنْيَةٌ.
الحديث الثالث: حَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ، وَهِيَ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ (انْكِحْ أُخْتِي) أَيْ تَزَوَّجْ.
قَوْلُهُ (بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ) فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ انْكِحْ أُخْتِي عَزَّةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ انْكِحْ أُخْتِي عَزَّةَ وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي حَمْنَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ؟ قَالَ: أَصْنَعُ مَاذَا؟ قَالَتْ: تَنْكِحُهَا وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ أَبْوَابٍ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ لَكِنْ لَمْ يُسَمِّ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، وَلَفْظُهُ فَقَالَ فَأَفْعَلُ مَاذَا؟ وَفِيهِ شَاهِدٌ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ الْفِعْلِ عَلَى مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَهُ مِنَ النُّحَاةِ. وَعِنْدَ أَبِي مُوسَى فِي الذَّيْلِ دُرَّةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَهَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ
فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ هِشَامٍ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ، وَقَالَا: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، وَهُوَ كَمَا قَالَا قَدْ أَخْرَجَهُ عَنْهُ لَكِنْ حُذِفَ هَذَا الِاسْمُ وَكَأَنَّهُ عَمْدًا، وَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ وَحَذَفَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْهَا ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ دُرَّةٌ وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ، وَجَزَمَ الْمُنْذِرِيُّ بِأَنَّ اسْمَهَا حَمْنَةُ كَمَا فِي الطَّبَرَانِيِّ، وَقَالَ عِيَاضٌ. لَا نَعْلَمُ لِعَزَّةَ ذِكْرًا فِي بَنَاتِ أَبِي سُفْيَانَ إِلَّا فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، وَقَالَ أَبُو مُوسَى: الْأَشْهَرُ فِيهَا عَزَّةُ.
قَوْلُهُ (أَوَ تُحِبِّينَ ذَلِكَ)؟ هُوَ اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ مِنْ كَوْنِهَا تَطْلُبُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا مَعَ مَا طُبِعَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ مِنَ الْغَيْرَةِ.
قَوْلُهُ (لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَخْلَى يُخْلِي، أَيْ لَسْتُ بِمُنْفَرِدَةٍ بِكَ وَلَا خَالِيَةٍ مِنْ ضَرَّةٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ بِوَزْنِ فَاعِلِ الْإِخْلَاءِ مُتَعدِّيًا وَلَازِمًا، مِنْ أَخْلَيْتُ بِمَعْنَى خَلَوْتُ مِنَ الضَّرَّةِ، أَيْ لَسْتُ بِمُتَفَرِّغَةٍ وَلَا خَالِيَةٍ مِنْ ضَرَّةٍ، وَفِي بَعْضِ الرَّوِايَّاتِ بِفَتْحِ اللَّامِ بِلَفْظِ الْمَفْعُولِ حَكَاهَا الْكِرْمَانِيُّ. وَقَالَ عِيَاضٌ: مُخْلِيَةٌ أَيْ مُنْفَرِدَةٌ يُقَالُ أَخْلِ أَمَرَكَ وَأَخْلُ بِهِ أَيِ انْفَرِدْ بِهِ، وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: مَعْنَاهُ لَمْ أَجِدْكَ خَالِيًا مِنَ الزَّوْجَاتِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَوْلِهِمُ امْرَأَةٌ مُخْلِيَةٌ إِذَا خَلَتْ مِنَ الْأَزْوَاجِ.
قَوْلُهُ (وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي) مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ أَيْ إِلَيَّ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ الْآتِيَةِ قَرِيبًا مَنْ شَرِكَنِي بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَكَذَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ (فِي خَيْرٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالتَّنْكِيرِ أَيْ أَيُّ خَيْرٍ كَانَ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ فِي الْخَيْرِ قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ صُحْبَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتَضَمِّنَةُ لِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ السَّاتِرَةُ لِمَا لَعَلَّهُ يَعْرِضُ مِنَ الْغَيْرَةِ الَّتِي جَرَتْ بِهَا الْعَادَةُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ الْمَذْكُورَةِ وَأَحَبُّ مَنْ شَرِكَنِي فِيكَ أخي فَعَرَفَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ ذَاتُهُ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ (فَإِنَّا نُحَدَّثُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْحَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ الْمَذْكُورَةِ قُلْتُ بَلَغَنِي وَفِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهَا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَاللَّهِ إِنَّا لِنَتَحَدَّثُ وَفِي رِوَايَةِ وَهْبٍ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَخْبَرْتُ. قَوْلُهُ (أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ) فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ الْآتِيَةِ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَخْطُبُ وَلَمْ أَقِفُ عَلَى اسْمِ مَنْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ كَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْخَبَرَ لَا أَصْلَ لَهُ، وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ضَعْفِ الْمَرَاسِيلِ.
قَوْلُهُ (بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ) فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ الْآتِيَةِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ وَمِنْ طَرِيقِ عِرَاكٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ دُرَّةَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ وَهِيَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا عِيَاضٌ وَخَطَّأَهَا بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ دُرَّةُ أَوْ ذَرَّةُ عَلَى الشَّكِّ، شَكَّ زُهَيْرٌ رَاوِيَةً عَنْ هِشَامٍ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ هِشَامٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَخْطُبُ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى خَطَئِهِ.
وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي مُوسَى فِي ذَيْلِ الْمَعْرِفَةِ حَمْنَةُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ وَهُوَ خَطَأٌ، وَقَوْلُهُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ هُوَ اسْتِفْهَامُ اسْتِثْبَاتٍ لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ، أَوِ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ فَيَكُونُ تَحْرِيمُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِهَا فَمِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَكَأَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ لَمْ تَطَّلِعْ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ إِمَّا لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ وَإِمَّا بَعْدَ ذَلِكَ، وَظَنَّتْ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَذَا قَالَ الْكِرْمَانِيُّ، وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَالْأَوَّلُ يَدْفَعُهُ سِيَاقُ الْحَدِيثِ، وَكَأَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اسْتَدَلَّتْ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِجَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَابْنَتِهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، لِأَنَّ الرَّبِيبَةَ حَرُمَتْ عَلَى التَّأْبِيدِ وَالْأُخْتَ حَرُمَتْ فِي صُورَةِ الْجَمْعِ فَقَطْ، فَأَجَابَهَا صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ، وَأَنَّ الَّذِي بَلَغَهَا مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَقٍّ، وَأَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتَيْنِ.
قَوْلُهُ (لَوْ أَنَّهَا لَمْ
تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ، فَإِنَّهُ عَلَّلَ تَحْرِيمَهَا بِكَوْنِهَا رَبِيبَةً وَبِكَوْنِهَا بِنْتَ أَخٍ مِنَ الرَّضَاعَةِ، كَذَا قَالَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَ بِهَا مَانِعٌ وَاحِدٌ لَكَفَى فِي التَّحْرِيمِ فَكَيْفَ وَبِهَا مَانِعَانِ فَلَيْسَ مِنَ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ فِي شَيْءٍ، لِأَنَّ كُلَّ وَصْفَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَ فَإِمَّا أَنْ يَتَعَاقَبَا فَيُضَافُ الْحُكْمُ إِلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمَا كَمَا فِي السَّبَبَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا، وَمِثَالُهُ لَوْ أَحْدَثَ ثُمَّ أَحْدَثَ بِغَيْرِ تَخَلُّلِ طَهَارَةٍ فَالْحَدَثُ الثَّانِي لَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا أَوْ يُضَافُ الْحُكْمُ إِلَى الثَّانِي كَمَا فِي اجْتِمَاعِ السَّبَبِ وَالْمُبَاشَرَةِ، وَقَدْ يُضَافُ إِلَى أَشْبَهِهِمَا وَأَنْسَبِهِمَا سَوَاءٌ كَانَ الْأَوَّلَ أَمِ الثَّانِيَ، فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا يُضَافُ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ يُوجَدُ فَالْإِضَافَةُ إِلَى الْمَجْمُوعِ وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا جُزْءَ عِلَّةٍ لَا عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً فَلَا تَجْتَمِعُ عِلَّتَانِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ، هَذَا الَّذِي يَظْهَرُ وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ فِي الْأُصُولِ وَفِيهَا خِلَافٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ بِالرَّبِيبَةِ أَشَدُّ مِنَ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعَةِ. وَقَوْلُهُ رَبِيبَتِي أَيْ بِنْتُ زَوْجَتِي، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الرَّبِّ وَهُوَ الْإِصْلَاحُ لِأَنَّهُ يَقُومُ بِأَمْرِهَا، وَقِيلَ مِنَ التَّرْبِيَةِ. وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ جِهَةِ الِاشْتِقَاقِ، وَقَوْلُهُ فِي حِجْرِي رَاعَى فِيهِ لَفْظَ الْآيَةِ وَإِلَّا فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، كَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ. وَفِي رِوَايَةِ عِرَاكٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ لَوْ أَنِّي لَمْ أَنْكِحْ أُمَّ سَلَمَةَ مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّ أَبَاهَا أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامٍ وَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي مَا حَلَّتْ لِي فَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ مِنْهُمْ مَنِ احْتَجَّ بِهِ عَلَى أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ اشْتِرَاطِ كَوْنِهَا فِي الْحَجْرِ أَوْ لَا، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ وَالَّذِينَ زَادُوا فِيهَا لَفْظَ فِي حِجْرِي حُفَّاظٌ أَثَبَاتٌ.
قَوْلُهُ (أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ) أَيْ أَرْضَعَتْ أَبَا سَلَمَةَ، وَهُوَ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفَاعِلِ. قَوْلُهُ (ثُوَيْبَةُ) بِمُثَلَّثَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرٌ، كَانَتْ مَوْلَاةً لِأَبِي لَهَبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ (فَلَا تَعْرِضْنَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ نُونٌ عَلَى الْخِطَابِ لِجَمَاعَةِ النِّسَاءِ، وَبِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ خِطَابٌ لِأُمِّ حَبِيبَةَ وَحْدَهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: ضُبِطَ بِضَمِّ الضَّادِ فِي بَعْضِ الْأُمَّهَاتِ، وَلَا أَعْلَمُ لَهُ وَجْهًا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِجَمَاعَةِ النِّسَاءِ وَهُوَ الْأَبْيَنُ فَهُوَ بِسُكُونِ الضَّادِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِ، وَلَوْ أَدْخَلْتَ عَلَيْهِ التَّأْكِيدَ فَشَدَّدْتَ النُّونَ لَكَانَ تَعْرِضَنَانِّ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ ثَلَاثُ نُونَاتٍ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُنَّ بِأَلِفٍ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِأُمِّ حَبِيبَةَ خَاصَّةً فَتَكُونُ الضَّادُ مَكْسُورَةً وَالنُّونُ مُشَدَّدَةً. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ. جَاءَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَإِنْ كَانَتِ الْقِصَّةُ لِاثْنَيْنِ وَهُمَا أُمُّ حَبِيبَةَ وَأُمُّ سَلَمَةَ رَدْعًا وَزَجْرًا أَنْ تَعُودَ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا أَوْ غَيْرُهُمَا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَهَذَا كَمَا لَوْ رَأَى رَجُلٌ امْرَأَةً تُكَلِّمُ رَجُلًا فَقَالَ لَهَا أَتُكَلِّمِينَ الرِّجَالَ فَإِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ شَائِعٌ، وَكَانَ لِأُمِّ سَلَمَةَ مِنَ الْأَخَوَاتِ قَرِيبَةُ زَوْجُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَقَرِيبَةُ الصُّغْرَى زَوْجُ عُمَرَ ثُمَّ مُعَاوِيَةُ، وَعَزَّةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ زَوْجُ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَلَهَا مِنَ الْبَنَاتِ زَيْنَبُ رَاوِيَةُ الْخَبَرِ، وَدُرَّةُ الَّتِي قِيلَ إِنَّهَا مَخْطُوبَةٌ. وَكَانَ لِأُمِّ حَبِيبَةَ مِنَ الْأَخَوَاتِ هِنْدٌ زَوْجُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ، وَجُوَيْرِيَةُ زَوْجُ السَّائِبِ بْنِ أَبِي حُبَيْشٍ، وَأُمَيْمَةُ زَوْجُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَأُمُّ الْحَكَمِ زَوْجُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ، وَصَخْرَةُ زَوْجُ سَعِيدِ بْنِ الْأَخْنَسِ، وَمَيْمُونَةُ زَوْجُ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ.
وَلَهَا مِنَ الْبَنَاتِ حَبِيبَةُ وَقَدْ رَوَتْ عَنْهَا الْحَدِيثَ وَلَهَا صُحْبَةٌ وَكَانَ لِغَيْرِهِمَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَخَوَاتِ أُمُّ كُلْثُومٍ وَأُمُّ حَبِيبَةَ ابْنَتَا زَمْعَةَ أُخْتَا سَوْدَةَ، وَأَسْمَاءُ أُخْتُ عَائِشَةَ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ عُمَرَ أُخْتُ حَفْصَةَ وَغَيْرُهُنَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (قَالَ عُرْوَةُ) هُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ عَلَّقَ الْمُصَنِّفُ طَرَفًا مِنْهُ فِي آخِرِ النَّفَقَاتِ فَقَالَ قَالَ شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ الذُّهْلِيِّ،
عَنْ أَبِي الْيَمَانِ بِإِسْنَادِهِ.
قَوْلُهُ (وَثُوَيْبَةُ مَوْلَاةٌ لِأَبِي لَهَبٍ) قُلْتُ: ذَكَرَهَا ابْنُ مَنْدَهْ فِي الصَّحَابَةِ وَقَالَ: اخْتُلِفَ فِي إِسْلَامِهَا. وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَ إِسْلَامَهَا غَيْرَهُ، وَالَّذِي فِي السِّيَرِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُكْرِمُهَا، وَكَانَتْ تَدْخُلُ عَلَيْهِ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ خَدِيجَةَ، وَكَانَ يُرْسِلُ إِلَيْهَا الصِّلَةَ مِنَ الْمَدِينَةِ، إِلَى أَنْ كَانَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ مَاتَتْ وَمَاتَ ابْنُهَا مَسْرُوحٌ.
قَوْلُهُ (وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَهَا فَأَرْضَعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ظَاهِرُهُ أَنَّ عِتْقَهُ لَهَا كَانَ قَبْلَ إِرْضَاعِهَا، وَالَّذِي فِي السِّيَرِ يُخَالِفُهُ، وَهُوَ أَنَّ أَبَا لَهَبٍ أَعْتَقَهَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَذَلِكَ بَعْدَ الْإِرْضَاعِ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ أَيْضًا أَنَّ عِتْقَهَا كَانَ قَبْلَ الْإِرْضَاعِ، وَسَأَذْكُرُ كَلَامَهُ.
قَوْلُهُ (أُرِيَهُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.
قَوْلُهُ (بَعْضُ أَهْلِهِ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ النَّائِبُ عَنِ الْفَاعِلِ. وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ رَأَيْتُهُ فِي مَنَامِي بَعْدَ حَوْلٍ فِي شَرِّ حَالٍ فَقَالَ: مَا لَقِيتُ بَعْدَكُمْ رَاحَةً، إِلَّا أَنَّ الْعَذَابَ يُخَفَّفُ عَنِّي كُلَّ يَوْمِ اثْنَيْنِ، قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وُلِدَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَكَانَتْ ثُوَيْبَةُ بَشَّرَتْ أَبَا لَهَبٍ بِمَوْلِدِهِ فَأَعْتَقَهَا.
قَوْلُهُ (بِشَرِّ حِيبَةٍ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ أَيْ سُوءُ حَالٍ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: أَصْلُهَا الْحَوْبَةُ وَهِيَ الْمَسْكَنَةُ وَالْحَاجَةُ، فَالْيَاءُ فِي حِيبَةٍ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا. وَوَقَعَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ لِلْبَغْوِيِّ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْمُسْتَمْلِي بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ فِي حَالَةٍ خَائِبَةٍ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هُوَ تَصْحِيفٌ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُرْوَى بِالْمُعْجَمَةِ، وَوَجَدَتْهُ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ، وَحَكَى فِي الْمَشَارِقِ عَنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي بِالْجِيمِ وَلَا أَظُنُّهُ إِلَّا تَصْحِيفًا، وَهُوَ تَصْحِيفٌ كَمَا قَالَ.
قَوْلُهُ (مَاذَا لَقِيتَ) أَيْ بَعْدَ الْمَوْتِ.
قَوْلُهُ (لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ، غَيْرَ أَنِّي) كَذَا فِي الْأُصُولِ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ رَخَاءً وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ رَاحَةً قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: سَقَطَ الْمَفْعُولُ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَلَا يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ إِلَّا بِهِ.
قَوْلُهُ (غَيْرَ أَنِّي سَقَيْتُ فِي هَذِهِ) كَذَا فِي الْأُصُولِ بِالْحَذْفِ أَيْضًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الْمَذْكُورَةِ وَأَشَارَ إِلَى النُّقْرَةِ الَّتِي تَحْتَ إِبْهَامِهِ وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ الْمَذْكُورَةِ وَأَشَارَ إِلَى النُّقْرَةِ الَّتِي بَيْنَ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا مِنَ الْأَصَابِعِ وَلِلْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ. . كَذَا مِثْلُهُ بِلَفْظِ يَعْنِي النُّقْرَةَ إِلَخْ وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى حَقَارَةِ مَا سُقِيَ مِنَ الْمَاءِ.
قَوْلُهُ (بِعَتَاقَتِي) بِفَتْحِ الْعَيْنِ، فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِعِتْقِي وَهُوَ أَوْجَهُ وَالْوَجْهُ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ بِإِعْتَاقِي، لِأَنَّ الْمُرَادَ التَّخْلِيصُ مِنَ الرِّقِّ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ قَدْ يَنْفَعُهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِي الْآخِرَةِ ; لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} وَأُجِيبَ أَوَّلًا بِأَنَّ الْخَبَرَ مُرْسَلٌ أَرْسَلَهُ عُرْوَةُ وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ حَدَّثَهُ بِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا فَالَّذِي فِي الْخَبَرِ رُؤْيَا مَنَامٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَلَعَلَّ الَّذِي رَآهَا لَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ أَسْلَمَ بَعْدُ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَثَانِيًا عَلَى تَقْدِيرِ الْقَبُولِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَخْصُوصًا مِنْ ذَلِكَ، بِدَلِيلِ قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْهُ فَنُقِلَ مِنَ الْغَمَرَاتِ إِلَى الضَّحْضَاحِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: مَا وَرَدَ مِنْ بُطْلَانِ الْخَيْرِ لِلْكُفَّارِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَكُونُ لَهُمُ التَّخَلُّصُ مِنَ النَّارِ وَلَا دُخُولُ الْجَنَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يَسْتَوْجِبُونَهُ عَلَى مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْجَرَائِمِ سِوَى الْكُفْرِ بِمَا عَمِلُوهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ.
وَأَمَّا عِيَاضٌ فَقَالَ: انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا تَنْفَعُهُمْ أَعْمَالُهُمْ وَلَا يُثَابُونَ عَلَيْهَا بِنَعِيمٍ وَلَا تَخْفِيفِ عَذَابٍ ; وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَشَدَّ عَذَابًا مِنْ بَعْضٍ. قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَرُدُّ الِاحْتِمَالَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِذَنْبِ الْكُفْرِ، وَأَمَّا ذَنْبُ غَيْرِ الْكُفْرِ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ تَخْفِيفِهِ؟ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا التَّخْفِيفُ
خَاصٌّ بِهَذَا وَبِمَنْ وَرَدَ النَّصُّ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: هُنَا قَضِيَّتَانِ إِحْدَاهُمَا مُحَالٌ وَهِيَ اعْتِبَارُ طَاعَةِ الْكَافِرِ مَعَ كُفْرِهِ، لِأَنَّ شَرْطَ الطَّاعَةِ أَنْ تَقَعَ بِقَصْدٍ صَحِيحٍ، وَهَذَا مَفْقُودٌ مِنَ الْكَافِرِ. الثَّانِيَةُ إِثَابَةُ الْكَافِرِ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا لَا يُحِيلُهُ الْعَقْلُ، فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِتْقُ أَبِي لَهَبٍ لِثُوَيْبَةَ قُرْبَةً مُعْتَبَرَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِمَا شَاءَ كَمَا تَفَضَّلَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ، وَالْمُتَّبَعُ فِي ذَلِكَ التَّوْقِيفِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا. قُلْتُ: وَتَتِمَّةُ هَذَا أَنْ يَقَعَ التَّفَضُّلُ الْمَذْكُورُ إِكْرَامًا لِمَنْ وَقَعَ مِنَ الْكَافِرِ الْبِرُّ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
21 - بَاب مَنْ قَالَ لَا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} وَمَا يُحَرِّمُ مِنْ قَلِيلِ الرَّضَاعِ وَكَثِيرِهِ
5102 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَشْعَثِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا رَجُلٌ، فَكَأَنَّهُ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ، كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ أَخِي، فَقَالَ: انْظُرْنَ ما إِخْوَانُكُنَّ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ.
قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ قَالَ لَا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ، لِقَوْلِهِ عز وجل {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} أَشَارَ بِهَذَا إِلَى قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ إِنَّ أَقْصَى مُدَّةِ الرَّضَاعِ ثَلَاثُونَ شَهْرًا وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} أَيِ الْمُدَّةُ الْمَذْكُورَةُ لِكُلٍّ مِنَ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ غَرِيبٌ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا تَقْدِيرُ مُدَّةِ أَقَلِّ الْحَمْلِ وَأَكْثَرِ مُدَّةِ الرَّضَاعِ، وَإِلَى ذَلِكَ صَار أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَقُولُ إِنَّ أَقْصَى الْحَمْلِ سَنَتَانِ وَنِصْفٌ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رِوَايَةٌ تُوَافِقُ قَوْلَ الْحَنَفِيَّةِ لَكِنَّ مَنْزَعَهَمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يُغْتَفَرُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ مُدَّةً يُدْمِنُ الطِّفْلُ فِيهَا عَلَى الْفِطَامِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الصَّبِيَّ لَا يُفْطَمُ دَفْعَةً وَاحِدَةً بَلْ عَلَى التَّدْرِيجِ فِي أَيَّامٍ قَلِيلَاتٍ، فَلِلْأَيَّامِ الَّتِي يُحَاوَلُ فِيهَا فِطَامُهُ حُكْمُ الْحَوْلَيْنِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِ تِلْكَ الْمُدَّةِ قِيلَ يُغْتَفَرُ نِصْفُ سَنَةٍ، وَقِيلَ شَهْرَانِ، وَقِيلَ شَهْرٌ وَنَحْوُهُ، وَقِيلَ أَيَّامٌ يَسِيرَةٌ، وَقِيلَ شَهْرٌ، وَقِيلَ لَا يُزَادُ عَلَى الْحَوْلَيْنِ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَمِنْ حُجَّتِهِمْ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ: لَمْ يُسْنِدْهُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ غَيْرُ الْهَيْثَمِ بْنِ جَمِيلٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ. وَقَالَ غَيْرُ الْهَيْثَمِ يُوقِفُهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ الْمَحْفُوظُ، وَعِنْدَهُمْ مَتَى وَقَعَ الرَّضَاعُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ وَلَوْ بِلَحْظَةٍ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَوِ ابْتَدَأَ الْوَضْعُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ جُبِرَ الْمُنْكَسِرُ مِنْ شَهْرٍ آخَرَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَقَالَ زُفَرُ: يَسْتَمِرُّ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ إِذَا كَانَ يَجْتَزِئُ بِاللَّبَنِ وَلَا يَجْتَزِئُ بِالطَّعَامِ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ يَجْتَزِئُ بِاللَّبَنِ، وَحَكَى عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ مِثْلَهُ لَكِنْ قَالَ: بِشَرْطِ أَنْ لَا يُفْطَمَ، فَمَتَى فُطِمَ وَلَوْ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ فَمَا رَضَعَ بَعْدَهُ لَا يَكُونُ رَضَاعًا.
قَوْلُهُ (وَمَا يُحَرِّمُ مِنْ قَلِيلِ الرَّضَاعِ وَكَثِيرِهِ) هَذَا مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى التَّمَسُّكِ بِالْعُمُومِ الْوَارِدِ فِي الْأَخْبَارِ مِثْلُ حَدِيثِ الْبَابِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَحْمَدَ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الَّذِي يُحَرِّمُ مَا زَادَ عَلَى الرَّضْعَةِ الْوَاحِدَةِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَجَاءَ عَنْ عَائِشَةَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَعَنْ حَفْصَةَ كَذَلِكَ، وَجَاءَ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا سَبْعُ رَضَعَاتٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْهَا،
وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ لَا يُحَرِّمُ دُونَ سَبْعِ رَضَعَاتٍ أَوْ خَمْسِ رَضَعَاتٍ وَجَاءَ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا خَمْسُ رَضَعَاتٍ، فَعِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْهَا كَانَ فِيمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهَا قَالَتْ: لَا يُحَرِّمُ دُونَ خَمْسِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ بِهِ ابْنُ حَزْمٍ، وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَدَاوُدُ وَأَتْبَاعُهُ - إِلَّا ابْنَ حَزْمٍ - إِلَى أَنَّ الَّذِي يُحَرِّمُ ثَلَاثُ رَضَعَاتٍ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّ الثَّلَاثَ تُحَرِّمُ، وَأَغْرَبَ الْقُرْطُبِيُّ. فَقَالَ: لَمْ يَقُلْ بِهِ إِلَّا دَاوُدُ.
وَيَخْرُجُ مِمَّا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ يَقُولُ لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ وَالثَّلَاثُ، وَأَنَّ الْأَرْبَعَ هِيَ الَّتِي تُحَرِّمُ. وَالثَّابِتُ مِنَ الْأَحَادِيثِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْخَمْسِ، وَأَمَّا حَدِيثُ: لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ. فَلَعَلَّهُ مِثَالٌ لِمَا دُونَ الْخَمْسِ، وَإِلَّا فَالتَّحْرِيمُ بِالثَّلَاثِ فَمَا فَوْقَهَا إِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ بِالْمَفْهُومِ، وَقَدْ عَارَضَهُ مَفْهُومُ الْحَدِيثِ الْآخَرِ الْمُخَرَّجِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَهُوَ الْخَمْسُ، فَمَفْهُومُ لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ أَنَّ الثَّلَاثَ تُحَرِّمُ، وَمَفْهُومُ خَمْسِ رَضَعَاتٍ أَنَّ الَّذِي دُونَ الْأَرْبَعِ لَا يُحَرِّمُ فَتَعَارَضَا، فَيَرْجِعُ إِلَى التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمَفْهُومَيْنِ، وَحَدِيثُ الْخَمْسِ جَاءَ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ، وَحَدِيثُ الْمَصَّتَانِ جَاءَ أَيْضًا مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ، لَكِنْ قَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ مُضْطَرِبٌ؛ لِأَنَّهُ اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ عَنْ عَائِشَةَ أَوْ عَنِ الزُّبَيْرِ أَوْ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَوْ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ. لَكِنْ لَمْ يَقْدَحْ الِاضْطِرَابُ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَأَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الْفَضْلِ زَوْجِ الْعَبَّاسِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَامِرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ الْوَاحِدَةُ؟ قَالَ لَا وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهَا: لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ وَلَا الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ أَنَصُّ مَا فِي الْبَابِ، إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ وُصُولُهُ إِلَى جَوْفِ الرَّضِيعِ، وَقَوَّى مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ الْأَخْبَارِ اخْتَلَفَتْ فِي الْعَدَدِ، وَعَائِشَةُ الَّتِي رَوَتْ ذَلِكَ قَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهَا فِيمَا يُعْتَبَرُ مِنْ ذَلِكَ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى أَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَيُعَضِّدُهُ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ أَنَّهُ مَعْنًى طَارِئٌ يَقْتَضِي تَأْيِيدَ التَّحْرِيمِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ كَالصِّهْرِ، أَوْ يُقَالُ مَائِعٌ يَلِجُ الْبَاطِنَ فَيُحَرِّمُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ كَالْمَنِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَيْضًا فَقَوْلُ عَائِشَةَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَمَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ لَا يَنْتَهِضُ لِلِاحْتِجَاجِ عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ قَوْلَيِ الْأُصُولِيِّينَ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ، وَالرَّاوِي رَوَى هَذَا عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ لَا خَبَرٌ فَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ قُرْآنًا وَلَا ذَكَرَ الرَّاوِي أَنَّهُ خَبَرٌ لِيُقْبَلَ قَوْلُهُ فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (عَنِ الْأَشْعَثِ) هُوَ ابْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ وَاسْمُهُ سَلِيمُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْمُحَارِبِيُّ الْكُوفِيُّ.
قَوْلُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ وَأَظُنُّهُ ابْنًا لِأَبِي الْقُعَيْسِ، وَغَلِطَ مَنْ قَالَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ رَضِيعُ عَائِشَةَ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ هَذَا تَابِعِيٌّ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَكَأَنَّ أُمَّهُ الَّتِي أَرْضَعَتْ عَائِشَةَ عَاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوَلَدَتْهُ فَلِهَذَا قِيلَ لَهُ رَضِيعُ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ (فَكَأَنَّهُ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ) كَذَا فِيهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَشْعَثَ وَعِنْدِي رَجُلٌ قَاعِدٌ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ شُعْبَةَ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَتَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الْمَاضِيَةِ فِي الشَّهَادَاتِ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ مَنْ هَذَا؟.
قَوْلُهُ (فَقَالَتْ إِنَّهُ أَخِي) فِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ إِنَّهُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ غُنْدَرٍ بِدُونِهَا، وَتَقَدَّمَ فِي الشَّهَادَاتِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَشْعَثَ فَذَكَرَهَا، وَكَذَا ذَكَرَهَا أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ جَمِيعًا عَنِ الْأَشْعَثِ.
قَوْلُهُ (انْظُرْنَ مَا إِخْوَانُكُنَّ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ إِخْوَانِكُنَّ وَهِيَ
أَوْجَهٌ، وَالْمَعْنَى تَأَمَّلْنَ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ هَلْ هُوَ رَضَاعٌ صَحِيحٌ بِشَرْطِهِ: مِنْ وُقُوعِهِ فِي زَمَنِ الرَّضَاعَةِ، وَمِقْدَارِ الِارْتِضَاعِ فَإِنَّ الْحُكْمَ الَّذِي يَنْشَأُ مِنْ الرَّضَاعِ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا وَقَعَ الرَّضَاعُ الْمُشْتَرَطُ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: مَعْنَاهُ انْظُرْنَ مَا سَبَبُ هَذِهِ الْأُخُوَّةِ، فَإِنَّ حُرْمَةَ الرَّضَاعِ إِنَّمَا هِيَ فِي الصِّغَرِ حَتَّى تَسُدَّ الرَّضَاعَةُ الْمَجَاعَةَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي جَاعَ كَانَ طَعَامُهُ الَّذِي يُشْبِعُهُ اللَّبَنَ مِنَ الرَّضَاعِ لَا حَيْثُ يَكُونُ الْغِذَاءُ بِغَيْرِ الرَّضَاعِ.
قَوْلُهُ (فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ) فِيهِ تَعْلِيلُ الْبَاعِثِ عَلَى إِمْعَانِ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ، لِأَنَّ الرَّضَاعَةَ تُثْبِتُ النَّسَبَ وَتَجْعَلُ الرَّضِيعَ مُحَرَّمًا. وَقَوْلُهُ مِنَ الْمَجَاعَةِ أَيِ الرَّضَاعَةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا الْحُرْمَةُ، وَتَحِلُّ بِهَا الْخَلْوَةُ هِيَ حَيْثُ يَكُونُ الرَّضِيعُ طِفْلًا لِسَدِّ اللَّبَنِ جَوْعَتَهُ، لِأَنَّ مَعِدَتَهُ ضَعِيفَةٌ يَكْفِيهَا اللَّبَنُ وَيَنْبُتُ بِذَلِكَ لَحْمُهُ فَيَصِيرُ كَجُزْءٍ مِنَ الْمُرْضِعَةِ فَيَشْتَرِكُ فِي الْحُرْمَةِ مَعَ أَوْلَادِهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا رَضَاعَةَ مُعْتَبَرَةٌ إِلَّا الْمُغْنِيَةَ عَنِ الْمَجَاعَةِ أَوِ الْمُطْعِمَةِ مِنَ الْمَجَاعَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} وَمِنْ شَوَاهِدِهِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا شَدَّ الْعَظْمَ، وَأَنْبَتَ اللَّحْمَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّضْعَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُحَرِّمُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ، وَإِذَا كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ فَأَوْلَى مَا يُؤْخَذُ بِهِ مَا قَدَّرَتْهُ الشَّرِيعَةُ، وَهُوَ خَمْسُ رَضَعَاتٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّغْذِيَةَ بِلَبَنِ الْمُرْضِعَةِ يُحَرِّمُ سَوَاءٌ كَانَ بِشُرْبٍ أَمْ أَكْلٍ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَ، حَتَّى الْوَجُورُ وَالسَّعُوطُ وَالثَّرْدُ وَالطَّبْخُ وَغَيْرُ ذَلِكَ إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ مِنَ الْعَدَدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَطْرُدُ الْجُوعِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ فَيُوَافِقُ الْخَبَرَ وَالْمَعْنَى وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ.
لَكِنِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْحُقْنَةَ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ اللَّيْثُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ فَقَالُوا إِنَّ الرَّضَاعَةَ الْمُحَرِّمَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْتِقَامِ الثَّدْيِ وَمَصِّ اللَّبَنِ مِنْهُ، وَأَوْرَدَ عَلِيُّ بْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِمْ إِشْكَالٌ فِي الْتِقَامِ سَالِمٍ ثَدْيَ سَهْلَةَ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ، فَإِنَّ عِيَاضًا أَجَابَ عَنِ الْإِشْكَالِ بِاحْتِمَالِ أَنَّهَا حَلَبَتْهُ ثُمَّ شَرِبَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ ثَدْيَهَا، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ احْتِمَالٌ حَسَنٌ، لَكِنَّهُ لَا يُفِيدُ ابْنَ حَزْمٍ، لِأَنَّهُ لَا يُكْتَفَى فِي الرَّضَاعِ إِلَّا بِالْتِقَامِ الثَّدْيِ، لَكِنْ أَجَابَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ عُفِيَ عَنْ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ.
وَأَمَّا ابْنُ حَزْمٍ فَاسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ سَالِمٍ عَلَى جَوَازِ مَسِّ الْأَجْنَبِيِّ ثَدْيَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْتِقَامِ ثَدْيِهَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْتَضِعَ مِنْهَا مُطْلَقًا ; وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّضَاعَةَ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي حَالِ الصِّغَرِ لِأَنَّهَا الْحَالُ الَّذِي يُمْكِنُ طَرْدَ الْجُوعِ فِيهَا بِاللَّبَنِ بِخِلَافِ حَالِ الْكِبَرِ، وَضَابِطُ ذَلِكَ تَمَامُ الْحَوْلَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّرْجَمَةِ، وَعَلَيْهِ دَلَّ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلُهُ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ تَثْبِيتُ قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ صَرِيحَةٍ فِي اعْتِبَارِ الرَّضَاعِ فِي الزَّمَنِ الَّذِي يُسْتَغْنَى بِهِ الرَّضِيعُ عَنِ الطَّعَامِ بِاللَّبَنِ، وَيُعْتَضَدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ أَقْصَى مُدَّةِ الرَّضَاعِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ عَادَةً الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا، فَمَا زَادَ عَلَيْهِ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عَادَةً فَلَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا، إِذْ لَا حُكْمَ لِلنَّادِرِ وَفِي اعْتِبَارِ إِرْضَاعِ الْكَبِيرِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الْمَرْأَةِ بِارْتِضَاعِ الْأَجْنَبِيِّ مِنْهَا لِاطِّلَاعِهِ عَلَى عَوْرَتِهَا وَلَوْ بِالْتِقَامِهِ ثَدْيَهَا. قُلْتُ: وَهَذَا الْأَخِيرُ عَلَى الْغَالِبِ وَعَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَشْتَرِطُ الْتِقَامَ الثَّدْيِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ لَا تُفَرِّقُ فِي حُكْمِ الرَّضَاعِ بَيْنَ حَالِ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَتِهَا وَاحْتَجَّتْ هِيَ بِقِصَّةِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ فَلَعَلَّهَا فَهِمَتْ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ اعْتِبَارَ مِقْدَارِ مَا يَسُدُّ الْجَوْعَةَ مِنْ لَبَنِ الْمُرْضِعَةِ لِمَنْ يَرْتَضِعُ مِنْهَا، وَذَلِكَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَضِعُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا فَلَا يَكُونُ الْحَدِيثُ نَصًّا فِي مَنْعِ اعْتِبَارِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ لَيْسَ نَصًّا فِي ذَلِكَ وَلَا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ
لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الرَّضَاعَ بَعْدَ الْفِطَامَ مَمْنُوعٌ، ثُمَّ لَوْ وَقَعَ رُتِّبَ عَلَيْهِ حُكْمُ التَّحْرِيمِ، فَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ مَا يَدْفَعُ هَذَا الِاحْتِمَالَ، فَلِهَذَا عَمِلَتْ عَائِشَةُ بِذَلِكَ، وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِابْنِ الصَّبَّاغِ وَغَيْرِهِ عَنْ دَاوُدَ. وَفِيهِ نَظَرٌ. وَكَذَا نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ، عَنْ دَاوُدَ أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ يُفِيدُ رَفْعَ الِاحْتِجَابِ مِنْهُ، وَمَالَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ ابْنُ الْمَوَّازِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَفِي نِسْبَةِ لِدَاوُدَ نَظَرٌ، فَإِنَّ ابْنَ حَزْمٍ ذَكَرَ عَنْ دَاوُدَ أَنَّهُ مَعَ الْجُمْهُورِ، وَكَذَا نَقَلَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَهُمْ أَخْبَرُ بِمَذْهَبِ صَاحِبِهِمْ، وَإِنَّمَا الَّذِي نَصَرَ مَذْهَبَ عَائِشَةَ هَذَا وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ هُوَ ابْنُ حَزْمٍ وَنَقَلَهُ عَنْ عَلِيٍّ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ ضَعَّفَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: قَالَ رَجُلٌ لِعَطَاءٍ: إِنَّ امْرَأَةً سَقَتْنِي مِنْ لَبَنِهَا بَعْدَمَا كَبِرْتُ أَفَأَنْكِحُهَا؟ قَالَ: لَا.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا رَأْيُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. كَانَتْ عَائِشَةَ تَأْمُرُ بِذَلِكَ بَنَاتِ أَخِيهَا، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ فِي ذَلِكَ. قُلْتُ: وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْآثَارِ فِي مُسْنَدِ عَلِيٍّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَسَاقَ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ حَفْصَةَ مِثْلُ قَوْلِ عَائِشَةَ، وَهُوَ مِمَّا يَخُصُّ بِهِ عُمُومَ قَوْلِ أُمِّ سَلَمَةَ أَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ أَحَدًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَنَقَلَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعُرْوَةَ فِي آخَرِينَ، وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى الْقُرْطُبِيِّ حَيْثُ خَصَّ الْجَوَازَ بَعْدَ عَائِشَةَ بِدَاوُدَ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى اعْتِبَارِ الصِّغَرِ فِي الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ، وَأَجَابُوا عَنْ قِصَّةِ سَالِمٍ بِأَجْوِبَةٍ: مِنْهَا أَنَّهُ حُكْمٌ مَنْسُوخٌ وَبِهِ جَزَمَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي أَحْكَامِهِ، وَقَرَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ قِصَّةَ سَالِمٍ كَانَتْ فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى اعْتِبَارِ الْحَوْلَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ أَحْدَاثِ الصَّحَابَةِ فَدَلَّ عَلَى تَأَخُّرِهَا، وَهُوَ مُسْتَنَدٌ ضَعِيفٌ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَأَخُّرِ إِسْلَامِ الرَّاوِي وَلَا صِغَرِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مَا رَوَاهُ مُتَقَدِّمًا، وَأَيْضًا فَفِي سِيَاقِ قِصَّةِ سَالِمٍ مَا يُشْعِرُ بِسَبْقِ الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ الْحَوْلَيْنِ لِقَوْلِ امْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ حَيْثُ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْضِعِيهِ، قَالَتْ: وَكَيْفَ أُرْضِعُهُ وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ؟ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: قَدْ عَلِمْتِ أَنَّهُ رَجُلٌ كَبِيرٌ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَتْ إِنَّهُ ذُو لِحْيَةٍ، قَالَ: أَرْضِعِيهِ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْرِفُ أَنَّ الصِّغَرَ مُعْتَبَرٌ فِي الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ.
وَمِنْهَا دَعْوَى الْخُصُوصِيَّةِ بِسَالِمٍ وَامْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا ترَى هَذَا إِلَّا رُخْصَةً أَرْخَصَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِسَالِمٍ خَاصَّةً، وَقَرَّرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ أَصْلَ قِصَّةِ سَالِمٍ مَا كَانَ وَقَعَ مِنَ التَّبَنِّي الَّذِي أَدَّى إِلَى اخْتِلَاطِ سَالِمٍ بِسَهْلَةَ، فَلَمَّا نَزَلَ الِاحْتِجَابُ وَمُنِعُوا مِنَ التَّبَنِّي شَقَّ ذَلِكَ عَلَى سَهْلَةَ فَوَقَعَ التَّرْخِيصُ لَهَا فِي ذَلِكَ لِرَفْعِ مَا حَصَلَ لَهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إِلْحَاقَ مَنْ يُسَاوِي سَهْلَةَ فِي الْمَشَقَّةِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهَا فَتَنْفِي الْخُصُوصِيَّةَ وَيَثْبُتُ مَذْهَبُ الْمُخَالِفِ، لَكِنْ يُفِيدُ الِاحْتِجَاجَ. وَقَرَّرَهُ آخَرُونَ بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الرَّضَاعَ لَا يُحَرِّمُ، فَلَمَّا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصِّغَرِ خُولِفَ الْأَصْلُ لَهُ وَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ، وَقِصَّةُ سَالِمٍ وَاقِعَةُ عَيْنٍ يَطْرُقُهَا احْتِمَالُ الْخُصُوصِيَّةِ فَيَجِبُ الْوُقُوفُ عَنْ الِاحْتِجَاجِ بِهَا.
وَرَأَيْتُ بِخَطِّ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ أَنَّهُ رَأَى فِي تَصْنِيفٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ خَلِيلٍ الْأَنْدَلُسِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي أَنَّ عَائِشَةَ وَإِنْ صَحَّ عَنْهَا الْفُتْيَا بِذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهَا إِدْخَالُ أَحَدٍ مِنَ الْأَجَانِبِ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ، قَالَ تَاجُ الدِّينِ: ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ تَرُدُّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عِنْدِي فِيهِ قَوْلٌ جَازِمٌ لَا مِنْ قَطْعٍ وَلَا مِنْ ظَنٍّ غَالِبٍ، كَذَا قَالَ، وَفِيهِ غَفْلَةٌ عَمَّا ثَبَتَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَكَانَتْ عَائِشَةُ تَأْمُرُ بَنَاتِ إِخْوَتِهَا وَبَنَاتِ أَخَوَاتِهَا أَنْ يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبَّتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا وَيَرَاهَا وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ صَرِيحٌ، فَأَيُّ ظَنٍّ غَالِبٍ وَرَاءَ هَذَا؟ وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا جَوَازُ
دُخُولِ مَنِ اعْتَرَفَتِ الْمَرْأَةُ بِالرَّضَاعَةِ مَعَهُ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ يَصِيرُ أَخًا لَهَا وَقَبُولُ قَوْلِهَا فِيمَنِ اعْتَرَفَتْ بِهِ، وَأَنَّ الزَّوْجَ يَسْأَلُ زَوْجَتَهُ عَنْ سَبَبِ إِدْخَالِ الرِّجَالِ بَيْتَهُ وَالِاحْتِيَاطِ فِي ذَلِكَ وَالنَّظَرِ فِيهِ، وَفِي قِصَّةِ سَالِمٍ جَوَازُ الْإِرْشَادِ إِلَى الْحِيَلِ، وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ يُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ تَعَاطِي مَا يُحَصِّلُ الْحِلَّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ حَلَالًا فِي الْحَالِ.
22 - بَاب لَبَنِ الْفَحْلِ
5103 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا، وَهُوَ عَمُّهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ، بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ.
قَوْلُهُ (بَابُ لَبَنِ الْفَحْلِ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، أَيِ الرَّجُلِ، وَنِسْبَةُ اللَّبَنِ إِلَيْهِ مَجَازِيَّةٌ لِكَوْنِهِ السَّبَبَ فِيهِ.
قَوْلُهُ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) لِمَالِكٍ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ وَهُوَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، وَسِيَاقُهُ لِلْحَدِيثِ عَنْ عُرْوَةَ أَتَمُّ، وَسَيَأْتِي قُبَيْلَ كِتَابِ الطَّلَاقِ.
قَوْلُهُ (إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ) بِقَافٍ وَعَيْنٍ وَسِينٍ مُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرٌ، وَتَقَدَّمَ فِي الشَّهَادَاتِ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ، عَنْ عُرْوَةَ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ فَلَمْ آذَنْ لَهُ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَفْلَحُ بْنُ قُعَيْسٍ وَالْمَحْفُوظُ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ أَبِيهِ قُعَيْسًا أَوِ اسْمُ جَدِّهِ فَنُسِبَ إِلَيْهِ فَتَكُونُ كُنْيَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ وَافَقَتِ اسْمَ أَبِيهِ أَوِ اسْمَ جَدِّهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ فَإِنَّ أَخَا بَنِي الْقُعَيْسِ وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، وَقَدْ مَضَى فِي تَفْسِيرِ الْأَحْزَابِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِلَفْظِ إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ وَمَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَفْلَحُ بْنُ أَبِي الْقُعَيْسِ، وَكَذَا لِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتِ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ عَمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ أَبُو الْجَعْدِ قَالَ فَقَالَ لِي هِشَامٌ: إِنَّمَا هُوَ أَبُو الْقُعَيْسِ. وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا أَبُو الْقُعَيْسِ وَسَائِرُ الرُّوَاةِ عَنْ هِشَامٍ قَالُوا أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَكَذَا قَالَ سَائِرُ أَصْحَابِ عُرْوَةَ.
وَوَقَعَ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ أَبَا قُعَيْسٍ أَتَى عَائِشَةَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي قُعَيْسٍ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّ الَّذِي اسْتَأْذَنَ هُوَ أَفْلَحُ وَأَبُو الْقُعَيْسِ هُوَ أَخُوهُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كُلُّ مَا جَاءَ مِنَ الرِّوَايَاتِ وَهْمٌ إِلَّا مَنْ قَالَ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ أَوْ قَالَ أَبُو الْجَعْدِ لِأَنَّهَا كُنْيَةُ أَفْلَحَ. قُلْتُ: وَإِذَا تَدَبَّرْتَ مَا حَرَّرْتُ عَرَفْتَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الرِّوَايَاتِ لَا وَهْمَ فِيهِ وَلَمْ يُخْطِئْ عَطَاءٌ فِي قَوْلِهِ أَبُو الْجَعْدِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَفِظَ كُنْيَةَ أَفْلَحَ، وَأَمَّا اسْمُ أَبِي الْقُعَيْسِ فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ إِلَّا فِي كَلَامِ الدَّارَقُطْنِيِّ فَقَالَ: هُوَ وَائِلُ بْنُ أَفْلَحَ الْأَشْعَرِيُّ، وَحَكَى هَذَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ثُمَّ حَكَى أَيْضًا أَنَّ اسْمَهُ الْجَعْدُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ أَخُوهُ وَافَقَ اسْمُهُ اسْمَ أَبِيهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو الْقُعَيْسِ نُسِبِ لِجَدِّهِ وَيَكُونَ اسْمُهُ وَائِلَ بْنَ قُعَيْسِ بْنِ أَفْلَحَ بْنِ الْقُعَيْسِ، وَأَخُوهُ أَفْلَحُ بْنُ قُعَيْسِ بْنُ أَفْلَحَ أَبُو الْجَعْدِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ: لَا أَعْلَمُ لِأَبِي الْقُعَيْسِ ذِكْرًا إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ (وَهُوَ عَمُّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ) فِيهِ الْتِفَاتٌ، وَكَانَ السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ وَهُوَ عَمِّي
وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَعْنٍ عَنْ مَالِكٍ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَكَانَ أَبُو الْقُعَيْسِ أَخَا عَائِشَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ. قَوْلُهُ (فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ) فِي رِوَايَةِ عِرَاكٍ الْمَاضِيَةِ فِي الشَّهَادَاتِ فَقَالَ أَتَحْتَجِبِينَ مِنِّي وَأَنَا عَمُّكِ؟ وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا مَضَى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ فَقُلْتُ: لَا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ أَخَاهُ أَبَا الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ وَكَانَ أَبُو الْقُعَيْسِ زَوْجُ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْضَعَتْ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ (فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ ائْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَمِينُكِ وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ يَدَاكِ أَوْ يَمِينُكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي بَابِ الْأَكْفَاءِ فِي الدِّينِ وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ إِنَّهُ عَمُّكِ فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ وَفِي رِوَايَةِ الْحَكَمِ صَدَقَ أَفْلَحُ، ائْذَنِي لَهُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ دَخَلَ عَلَيَّ أَفْلَحُ فَاسْتَتَرْتُ مِنْهُ فَقَالَ أَتَسْتَتِرِينَ مِنِّي وَأَنَا عَمُّكِ؟ قُلْتُ: مِنْ أَيْنَ؟ قَالَ: أَرْضَعَتْكِ امْرَأَةُ أَخِي، قُلْتُ إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ الْحَدِيثَ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهَا أَوَّلًا فَاسْتَتَرَتْ وَدَارَ بَيْنَهُمَا الْكَلَامُ، ثُمَّ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهَا قَبِلَتْ قَوْلَهُ فَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ حَتَّى تَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ فِي آخِرِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ قَالَ عُرْوَةُ: فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مَا تُحَرِّمُونَ مِنَ النَّسَبِ وَهَذَا ظَاهِرُهُ الْوَقْفُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عِرَاكٍ، عَنْ عُرْوَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَحْتَجِبِي مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا مَرْفُوعَةً مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي أَوَّلِ أَبْوَابِ الرَّضَاعِ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ يُحَرِّمُ فَتَنْتَشِرُ الْحُرْمَةُ مَنِ ارْتَضَعَ الصَّغِيرُ بِلَبَنِهِ، فَلَا تَحِلُّ لَهُ بِنْتُ زَوْجِ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ مِنْ غَيْرِهَا مَثَلًا، وَفِيهِ خِلَافٌ قَدِيمٌ حُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَزَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ وَغَيْرُهُمْ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ عَائِشَةَ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ، وَالْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَخْرَجَهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ نُبِّئْتُ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهَا سَأَلَتْ وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ وَأُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالُوا الرَّضَاعَةُ مِنْ قِبَلِ الرَّجُلِ لَا تُحَرِّمُ شَيْئًا، وَقَالَ بِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ رَبِيعَةُ الرَّأْيِ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عُلَيَّةَ، وَابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ، وَدَاوُدُ وَأَتْبَاعُهُ، وَأَغْرَبَ عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي تَخْصِيصِهِمْ ذَلِكَ بِدَاوُدَ وَإِبْرَاهِيمَ مَعَ وُجُودِ الرِّوَايَةِ عَمَّنْ ذَكَرْنَا بِذَلِكَ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} وَلَمْ يَذْكُرِ الْعَمَّةَ وَلَا الْبِنْتَ كَمَا ذَكَرَهُمَا فِي النَّسَبِ، وَأُجِيبُوا بِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ بِأَنَّ اللَّبَنَ لَا يَنْفَصِلُ مِنَ الرَّجُلِ وَإِنَّمَا يَنْفَصِلُ مِنَ الْمَرْأَةِ فَكَيْفَ تَنْتَشِرُ الْحُرْمَةُ إِلَى الرَّجُلِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ سَبَبَ اللَّبَنِ هُوَ مَاءُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مَعًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّضَاعُ مِنْهُمَا كَالْجَدِّ لَمَّا كَانَ سَبَبُ الْوَلَدِ أَوْجَبَ تَحْرِيمُ وَلَدِ الْوَلَدِ بِهِ لِتَعَلُّقِهِ بِوَلَدِهِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اللِّقَاحُ وَاحِدٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوَطْءَ يُدِرُّ اللَّبَنَ فَلِلْفَحْلِ فِيهِ نَصِيبٌ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ كَالْأَوْزَاعِيِّ فِي أَهْلِ الشَّامِ وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ وَابْنِ جُرَيْجٍ فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَمَالِكٍ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَتْبَاعِهِمْ إِلَى أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ يُحَرِّمُ وَحُجَّتُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ
الصَّحِيحُ، وَأَلْزَمَ الشَّافِعِيُّ الْمَالِكِيَّةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِرَدِّ أَصْلِهِمْ بِتَقْدِيمِ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَوْ خَالَفَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ إِذَا كَانَ مِنَ الْآحَادِ لِمَا رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ رَبِيعَةَ مِنْ أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ لَا يُحَرِّمُ، قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ: وَهَذَا رَأْيُ فُقَهَائِنَا إِلَّا الزُّهْرِيِّ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا نَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الْخَاصَّةِ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ عَامًّا ظَاهِرًا مِنْ هَذَا، وَقَدْ تَرَكُوهُ لِلْخَبَرِ الْوَارِدِ، فَيَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا إِمَّا أَنْ يَرُدُّوا هَذَا الْخَبَرَ وَهُمْ لَمْ يَرُدُّوهُ أَوْ يَرُدُّوا مَا خَالَفَ الْخَبَرَ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ هُوَ الْمَطْلُوبُ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: يُتَصَوَّرُ تَجْرِيدُ لَبَنِ الْفَحْلِ بِرَجُلٍ لَهُ امْرَأَتَانِ تُرْضِعُ إِحْدَاهُمَا صَبِيًّا وَالْأُخْرَى صَبِيَّةً فَالْجُمْهُورُ قَالُوا يَحْرُمُ عَلَى الصَّبِيِّ تَزْوِيجُ الصَّبِيَّةِ، وَقَالَ مَنْ خَالَفَهُمْ: يَجُوزُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنِ ادَّعَى الرَّضَاعَ وَصَدَّقَهُ الرَّضِيعُ يَثْبُتُ حُكْمُ الرَّضَاعِ بَيْنَهُمَا وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ، لِأَنَّ أَفْلَحَ ادَّعَى وَصَدَّقَتْهُ عَائِشَةُ وَأَذِنَ الشَّارِعُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ.
وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى أَفْلَحَ وَتَسْلِيمِ عَائِشَةَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ قَلِيلَ الرَّضَاعِ يُحَرِّمُ كَمَا يُحَرِّمُ كَثِيرُهُ لِعَدَمِ الِاسْتِفْصَالِ فِيهِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ عَدَمَ الذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْعَدَمِ الْمَحْضِ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي حُكْمٍ يَتَوَقَّفُ عَنِ الْعَمَلِ حَتَّى يَسْأَلَ الْعُلَمَاءُ عَنْهُ، وَأَنَّ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ طَالَبَ الْمُدَّعِي بِبَيَانِهِ لِيَرْجِعَ إِلَيْهِ أَحَدُهُمَا، وَأَنَّ الْعَالِمَ إِذَا سُئِلَ يُصَدِّقُ مَنْ قَالَ الصَّوَابَ فِيهَا.
وَفِيهِ وُجُوبُ احْتِجَابِ الْمَرْأَةِ مِنَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ وَمَشْرُوعِيَّةُ اسْتِئْذَانِ الْمَحْرَمِ عَلَى مَحْرَمِهِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَأْذَنُ فِي بَيْتِ الرَّجُلِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَفِيهِ جَوَازُ التَّسْمِيَةِ بِأَفْلَحَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ إِذَا بَادَرَ بِالتَّعْلِيلِ قَبْلَ سَمَاعِ الْفَتْوَى أَنْكَرَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ لَهَا تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تَسْأَلَ عَنِ الْحُكْمِ فَقَطْ وَلَا تُعَلِّلَ، وَأَلْزَمَ بِهِ بَعْضُهُمْ مَنْ أَطْلَقَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا وَصَحَّ عَنْهُ ثُمَّ صَحَّ عَنْهُ الْعَمَلُ بِخِلَافِهِ أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا رَأَى لَا بِمَا رَوَى، لِأَنَّ عَائِشَةَ صَحَّ عَنْهَا أَنْ لَا اعْتِبَارَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي السُّنَنِ وَأَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَأَخَذَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَعَمِلُوا بِرِوَايَتِهَا فِي قِصَّةِ أَخِي أَبِي الْقُعَيْسِ وَحَرَّمُوهُ بِلَبَنِ الْفَحْلِ فَكَانَ يَلْزَمُهُمْ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوا عَمَلَ عَائِشَةَ وَيُعْرِضُوا عَنْ رِوَايَتِهَا، وَلَوْ كَانَ رَوَى هَذَا الْحُكْمَ غَيْرُ عَائِشَةَ لَكَانَ لَهُمْ مَعْذِرَةٌ لَكِنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهَا، وَهُوَ إِلْزَامٌ قَوِيٌّ.
23 - بَاب شَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ
5104 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قالَ: وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ عُقْبَةَ، لَكِنِّي لِحَدِيثِ عُبَيْدٍ أَحْفَظُ قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ، فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ لِي: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، وَهِيَ كَاذِبَةٌ، فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، قُلْتُ: إِنَّهَا كَاذِبَةٌ، قَالَ: كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا دَعْهَا عَنْكَ، وَأَشَارَ إِسْمَاعِيلُ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى. يَحْكِي أَيُّوبَ.
قَوْلُهُ (بَابُ شَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ) أَيْ وَحْدَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ بَطَّالٍ هُنَا فَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ وَحْدَهَا لَا تَجُوزُ فِي الرَّضَاعِ وَشِبْهِهِ، وَهُوَ عَجِيبٌ مِنْهُ فَإِنَّهُ قَوْلُ جَمَاعَةٍ
مِنَ السَّلَفِ حَتَّى إِنَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رِوَايَةً أَنَّهَا تُقْبَلُ وَحْدَهَا لَكِنْ بِشَرْطِ فُشُوِّ ذَلِكَ فِي الْجِيرَانِ.
قَوْلُهُ (عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ، وَعُبَيْدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ مَكِّيٌّ مَا لَهُ فِي الصَّحِيحِ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا أَعْرِفُ مِنْ حَالِهِ شَيْئًا إِلَّا أَنَّ ابْنَ حِبَّانَ ذَكَرَهُ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِينَ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ فِي الشَّهَادَاتِ بَيَانَ الِاخْتِلَافِ فِي إِسْنَادِهِ عَلَى ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَأَنَّ الْعُمْدَةَ فِيهِ عَلَى سَمَاعِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ لَهُ مِنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ نَفْسِهِ، وَتَقَدَّمَ تَسْمِيَةُ الْمَرْأَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا هُنَا بِفُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ وَتَسْمِيَةُ أَبِيهَا، وَأَمَّا الْمُرْضِعَةُ السَّوْدَاءُ فَمَا عَرَفْتُ اسْمَهَا بَعْدُ.
قَوْلُهُ (فَأَعْرَضَ عَنِّي) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَفِيهِ الْتِفَاتٌ.
قَوْلُهُ (دَعْهَا عَنْكَ، وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى يَحْكِي أَيُّوبُ) يَعْنِي يَحْكِي إِشَارَةَ أَيُّوبَ، وَالْقَائِلُ عَلِيٌّ وَالْحَاكِي إِسْمَاعِيلُ، وَالْمُرَادُ حِكَايَةُ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ أَشَارَ بِيَدِهِ وَقَالَ بِلِسَانِهِ دَعْهَا عَنْكَ فَحَكَى ذَلِكَ كُلُّ رَاوٍ لِمَنْ دُونِهِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّضَاعَةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا عَدَدُ الرَّضَعَاتِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِهَا عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ تَقْرِيرِ حُكْمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ، أَوْ بَعْدَ اشْتِهَارِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ لِذِكْرِهِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ. وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ أنَّ الْأَمْرَ بِفِرَاقِهَا لَمْ يَكُنْ لِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ بِقَوْلِ الْمُرْضِعَةِ بَلْ لِلِاحْتِيَاطِ أَنْ يَحْتَاطَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْ يُزَوِّجَ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى أَمْرٍ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ كَمَنْ زَنَى بِهَا أَوْ بَاشَرَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ زَنَى بِهَا أَصْلُهُ أَوْ فَرْعُهُ أَوْ خُلِقَتْ مِنْ زِنَاهُ بِأُمِّهَا أَوْ شَكَّ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ بِصِهْرٍ أَوْ قَرَابَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
24 - بَاب مَا يَحِلُّ مِنْ النِّسَاءِ وَمَا يَحْرُمُ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} وَقَالَ أَنَسٌ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ الْحَرَائِرُ حَرَامٌ {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَنْزِعَ الرَّجُلُ جَارِيَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ وَقَالَ {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعٍ فَهُوَ حَرَامٌ كَأُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ.
5105 -
وَقَالَ لَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي حَبِيبٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَرُمَ مِنْ النَّسَبِ سَبْعٌ، وَمِنْ الصِّهْرِ سَبْعٌ. ثُمَّ قَرَأَ:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الْآيَةَ. وَجَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْنَ ابْنَةِ عَلِيٍّ وَامْرَأَةِ عَلِيٍّ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ مَرَّةً، ثُمَّ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَجَمَعَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَيْنَ ابْنَتَيْ عَمٍّ فِي لَيْلَةٍ وَكَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ لِلْقَطِيعَةِ وَلَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا زَنَى بِأُخْتِ امْرَأَتِهِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ. وَيُرْوَى عَنْ يَحْيَى الْكِنْدِيِّ، عَنْ الشَّعْبِيِّ وأَبِي جَعْفَرٍ فِيمَنْ يَلْعَبُ بِالصَّبِيِّ: إِنْ أَدْخَلَهُ فِيهِ فَلَا يَتَزَوَّجَنَّ أُمَّهُ. وَيَحْيَى هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ. وعن عِكْرِمَةُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا زَنَى بِهَا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي نَصْرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَرَّمَهُ، وَأَبُو نَصْرٍ هَذَا لَمْ يُعْرَفْ بِسَمَاعِهِ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَيُرْوَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالْحَسَنِ وَبَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ قال: يحْرُمُ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَا تَحْرُمُ عليه حَتَّى يُلْزِقَ بِالْأَرْضِ، يَعْنِي: حتى يُجَامِعَ. وَجَوَّزَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عَلِيٌّ: لَا يحْرُمُ، وَهَذَا مُرْسَلٌ.
قَوْلُهُ (بَابُ مَا يَحِلُّ مِنَ النِّسَاءِ وَمَا يَحْرُمُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} الْآيَةَ إِلَى {عَلِيمًا حَكِيمًا} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ إِلَى قَوْلِهِ {وَبَنَاتُ الأُخْتِ} - ثُمَّ قَالَ: إِلَى قَوْلِهِ - {عَلِيمًا حَكِيمًا} وَذَلِكَ يَشْمَلُ الْآيَتَيْنِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ إِلَى قَوْلِهِ {غَفُورًا رَحِيمًا}
قَوْلُهُ (وَقَالَ أَنَسٌ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ الْحَرَائِرِ حَرَامٌ {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَنْزِعَ الرَّجُلُ جَارِيَتَهُ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ جَارِيَةً (مِنْ عَبْدِهِ) وَصَلَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ} ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ الْحَرَائِرِ. {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فَإِذَا هُوَ لَا يَرَى بِمَا مَلَكَ الْيَمِينُ بَأْسًا أَنْ يَنْزِعَ الرَّجُلُ الْجَارِيَةَ مِنْ عَبْدِهِ فَيَطَأَهَا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ التَّيْمِيِّ بِلَفْظِ ذَوَاتِ الْبُعُولِ وَكَانَ يَقُولُ بَيْعُهَا طَلَاقُهَا، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ يَعْنِي أَنَّهُنَّ حَرَامٌ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الْمَسْبِيَّاتُ إِذَا كُنَّ مُتَزَوِّجَاتٍ فَإِنَّهُنَّ حَلَالٌ لِمَنْ سَبَاهُنَّ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ) أَيْ قَالَ اللَّهُ عز وجل {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} أَشَارَ بِهَذَا إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَى مَنْ حَرُمَ نِكَاحُهَا زَائِدًا عَلَى مَا فِي الْآيَتَيْنِ فَذَكَرَ الْمُشْرِكَةَ وَقَدِ اسْتُثْنِيَتِ الْكِتَابِيَّةُ وَالزَّائِدَةُ عَلَى الرَّابِعَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَدَدَ الَّذِي فِي قَوْلِ ابْنِ الْعَبَّاسِ الَّذِي بَعْدَهُ لَا مَفْهُومَ لَهُ وَإِنَّمَا أَرَادَ حَصْرَ مَا فِي الْآيَتَيْنِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعٍ فَهُوَ حَرَامٌ كَأُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ وَلَفْظُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ فَوْقَ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، فَمَا زَادَ مِنْهُنَّ عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَالْبَاقِي مِثْلُهُ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ لَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ) هَذَا فِيمَا قِيلَ أَخَذَهُ الْمُصَنِّفُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الْمُذَاكَرَةِ أَوِ الْإِجَازَةِ، وَالَّذِي ظَهَرَ لِي بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّهُ إِنَّمَا اسْتَعْمَلَ هَذِهِ الصِّيغَةَ فِي الْمَوْقُوفَاتِ، وَرُبَّمَا اسْتَعْمَلَهَا فِيمَا فِيهِ قُصُورٌ مَا عَنْ شَرْطِهِ، وَالَّذِي هُنَا مِنَ الشِّقِّ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ لِلْمُصَنِّفِ فِي هَذَا الْكِتَابِ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَخْرَجَ عَنْهُ فِي آخِرِ الْمَغَازِي حَدِيثًا بِوَاسِطَةٍ وَكَأَنَّهُ لَمْ يُكْثِرْ عَنْهُ لِأَنَّهُ فِي رِحْلَتِهِ الْقَدِيمَةِ لَقِيَ كَثِيرًا مِنْ مَشَايِخِ أَحْمَدَ فَاسْتَغْنَى بِهِمْ، وَفِي رِحْلَتِهِ الْأَخِيرَةِ كَانَ أَحْمَدُ قَدْ قَطَعَ التَّحْدِيثَ فَكَانَ لَا يُحَدِّثُ إِلَّا نَادِرًا فَمِنْ ثَمَّ أَكْثَرَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ دُونَ أَحْمَدَ، وَسُفْيَانُ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَحَبِيبٌ هُوَ ابْنُ أَبِي ثَابِتٍ.
قَوْلُهُ (حَرُمَ مِنَ النَّسَبِ سَبْعٌ، وَمِنَ الصِّهْرِ سَبْعٌ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ حَرُمَ عَلَيْكُمْ وَفِي لَفْظٍ حَرُمَتْ عَلَيْكُمْ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ قَرَأَ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الْآيَةَ) فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ وَإِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فِي التَّرْجَمَةِ إِلَى {عَلِيمًا حَكِيمًا} فَإِنَّهَا آخِرُ الْآيَتَيْنِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ ثُمَّ قَرَأَ:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} حَتَّى بَلَغَ: {وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} ثُمَّ قَالَ: هَذَا النَّسَبُ.
ثُمَّ قَرَأَ: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} حَتَّى بَلَغَ: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} وَقَرَأَ: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فَقَالَ: هَذَا الصِّهْرُ انْتَهَى، فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ امْرَأَةً، وَفِي تَسْمِيَةِ مَا هُوَ بِالرَّضَاعِ صِهْرًا تَجَوُزُ، وَكَذَلِكَ امْرَأَةُ الْغَيْرِ، وَجَمِيعُهُنَّ عَلَى التَّأْبِيدِ إِلَّا الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَامْرَأَةِ الْغَيْرِ، وَيَلْتَحِقُ بِمَنْ ذُكِرَ
مَوْطُوءَةُ الْجَدِّ وَإِنْ عَلَا وَأُمُّ الْأُمِّ وَلَوْ عَلَتْ وَكَذَا أُمُّ الْأَبِ وَبِنْتُ الِابْنِ وَلَوْ سَفَلَتْ، وَكَذَا بِنْتُ الْبِنْتِ وَبِنْتُ بِنْتِ الْأُخْتِ وَلَوْ سَفَلَتْ، وَكَذَا بِنْتُ بِنْتُ الْأَخِ، وَبِنْتُ ابْنِ الْأَخِ والأخت، وَعَمَّةُ الْأَبِ وَلَوْ عَلَتْ وَكَذَا عَمَّةُ الْأُمِّ وَخَالَةُ الْأُمِّ وَلَوْ عَلَتْ، وَكَذَا خَالَةُ الْأَبِ وَجَدَّةُ الزَّوْجَةِ وَلَوْ عَلَتْ وَبِنْتُ الرَّبِيبَةِ وَلَوْ سَفَلَتْ وَكَذَا بِنْتُ الرَّبِيبِ وَزَوْجَةُ ابْنِ الِابْنِ وَابْنُ الْبِنْتِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، وَسَيَأْتِي فِي بَابٍ مُفْرَدٍ وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ وَتَقَدَّمَ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، وَبَيَانُ مَا قِيلَ إِنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ
قَوْلُهُ (وَجَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ) أَيِ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ (بَيْنَ بِنْتِ عَلِيٍّ وَامْرَأَةِ عَلِيٍّ) كَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى دَفْعِ مَنْ يَتَخَيَّلُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي مَنْعِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْقَطِيعَةِ فَيَطْرُدُهُ إِلَى كُلِّ قَرِيبَتَيْنِ وَلَوْ بِالصُّهَارَةِ فَمِنْ ذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبِنْتِ زَوْجِهَا، وَالْأَثَرُ الْمَذْكُورُ وَصَلَهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْجَعْدِيَّاتِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِهْرَانَ أَنَّهُ قَالَ جَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْنَ زَيْنَبَ بِنْتِ عَلِيٍّ وَامْرَأَةُ عَلِيٍّ لَيْلَى بِنْتِ مَسْعُودٍ وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ لَيْلَى بِنْتُ مَسْعُودٍ النَّهْشَلِيَّةُ وَأُمُّ كُلْثُومِ بِنْتُ عَلِيٍّ، لِفَاطِمَةَ فَكَانَتَا امْرَأَتَيْهِ وَقَوْلُهُ لِفَاطِمَةَ أَيْ مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي زَيْنَبَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ لِأَنَّهُ تَزَوَّجَهُمَا وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى مَعَ بَقَاءِ لَيْلَى فِي عِصْمَتِهِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لَا بَأْسَ بِهِ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مُطَوَّلًا مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ وَابْنَتَهُ - أَيْ مِنْ غَيْرِهَا - قَالَ أَيُّوبُ: فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ابْنُ سِيرِينَ فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا وَقَالَ: نُبِّئْتُ أَن رَجُلًا كَانَ بِمِصْرَ اسْمُهُ جَبَلَةَ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَةِ رَجُلٍ وَبِنْتَهُ مِنْ غَيْرِهَا وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ كَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ يُقَالُ لَهُ جَبَلَةُ فَذَكَرَهُ
قَوْلُهُ (وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ مَرَّةً ثُمَّ قَالَ لَا بَأْسَ بِهِ) وَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي آخِرِ الْأَثَرِ الَّذِي قَبْلَهُ بِلَفْظِ وَكَانَ الْحَسَنُ يَكْرَهُهُ وَأَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ قَالَ إِنِّي لَجَالِسٌ عِنْدَ الْحَسَنَ إِذْ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبِنْتِ وَامْرَأَةِ زَوْجِهَا فَكَرِهَهُ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، هَلْ تَرَى بِهِ بَأْسًا؟ فَنَظَرَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: مَا أَرَى بِهِ بَأْسًا وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ كَرِهَهُ، وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا بَأْسَ بِهِ.
قَوْلُهُ (وَجَمَعَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَيْنَ بِنْتَيْ عَمٍّ فِي لَيْلَةٍ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِهَذَا وَزَادَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِنْتَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَبِنْتَ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْهُمَا وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا وَالشَّافِعِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فَلَمْ يَنْسُبِ الْمَرْأَتَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَزَادَ فَأَصْبَحَ النِّسَاءُ لَا يَدْرِينَ أَيْنَ يَذْهَبْنَ.
قَوْلُهُ (وَكَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ لِلْقَطِيعَةِ) وَصَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ طَرِيقِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ نَحْوَهُ عَنْ قَتَادَةَ وَزَادَ وَلَيْسَ بِحَرَامٍ.
قَوْلُهُ (وَلَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمٌ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} هَذَا مِنْ تَفَقُّهِ الْمُصَنِّفِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ قَتَادَةُ قَبْلَهُ كَمَا تَرَى، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَبْطَلَ هَذَا النِّكَاحَ، قَالَ: وَكَانَ يَلْزَمُ مَنْ يَقُولُ بِدُخُولِ الْقِيَاسِ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُحَرِّمَهُ، وَقَدْ أَشَارَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ إِلَى الْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ لِلْقَطِيعَةِ أَيْ لِأَجْلِ وُقُوعِ الْقَطِيعَةِ بَيْنَهُمَا، لِمَا يُوجِبُهُ التَّنَافُسُ بَيْنَ الضَّرَّتَيْنِ فِي الْعَادَةِ، وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، بَلْ جَاءَ ذَلِكَ مَنْصُوصًا فِي جَمِيعِ الْقَرَابَاتِ، فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ مُرْسَلِ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى قَرَابَتِهَا مَخَافَةَ الْقَطِيعَةِ وَأَخْرَجَ الْخَلَّالُ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بَكرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ
أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقَرَابَةِ مَخَافَةَ الضَّغَائِنِ، وَقَدْ نُقِلَ الْعَمَلُ بِذَلِكَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَعَنْ زُفَرَ أَيْضًا، وَلَكِنِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمَا.
قَوْلُهُ (وَقَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا زَنَى بِأُخْتِ امْرَأَتِهِ لَمْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ) هَذَا مَصِيرٌ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِذَا كَانَ الْجَمْعُ بِعَقْدِ التَّزْوِيجِ وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رَجُلٍ زَنَى بِأُخْتِ امْرَأَتِهِ قَالَ: تَخَطَّى حُرْمَةً إِلَى حُرْمَةٍ وَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَبَلَغَنِي عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلُهُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاوَزَ حُرْمَتَيْنِ إِلَى حُرْمَةٍ وَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَخَالَفَتْ فِيهِ طَائِفَةٌ كَمَا سَيَجِيءُ.
قَوْلُهُ (وَيُرْوَى عَنْ يَحْيَى الْكِنْدِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَأَبِي جَعْفَرٍ فِيمَنْ يَلْعَبُ بِالصَّبِيِّ إِنْ أَدْخَلَهُ فِيهِ فَلَا يَتَزَوَّجَنَّ أُمَّهُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي وَابْنِ جَعْفَرٍ يَدُلُّ قَوْلُهُ وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ نَصْرِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي كَالْجَمَاعَةِ، وَهَكَذَا وَصَلَهُ وَكِيعٌ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ يَحْيَى.
قَوْلُهُ (وَيَحْيَى هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ) انْتَهَى وَهُوَ ابْنُ قَيْسٍ، رَوَى أَيْضًا عَنْ شُرَيْحٍ رَوَى عَنْهُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَشَرِيكٌ. فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ أَيْ غَيْرُ مَعْرُوفِ الْعَدَالَةِ وَإِلَّا فَاسْمُ الْجَهَالَةِ ارْتَفَعَ عَنْهُ بِرِوَايَةِ هَؤُلَاءِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ جَرْحًا، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ كَعَادَتِهِ فِيمَنْ لَمْ يُجَرَّحْ، وَالْقَوْلُ الَّذِي رَوَاهُ يَحْيَى هَذَا قَدْ نُسِبَ إِلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَزَادَ: وَكَذَا لَوْ تَلَوَّطَ بِأَبِي امْرَأَتِهِ أَوْ بِأَخِيهَا أَوْ بِشَخْصٍ ثُمَّ وُلِدَ لِلشَّخْصِ بِنْتٌ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُنَّ تَحْرُمُ عَلَى الْوَاطِئِ لِكَوْنِهَا بِنْتَ أَوْ أُخْتَ مَنْ نَكَحَهُ، وَخَالَفَ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ فَخَصُّوهُ بِالْمَرْأَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} وَالذَّكَرُ لَيْسَ مِنَ النِّسَاءِ وَلَا أُخْتًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَاطَ بِهَا هَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِنْتُهَا أَمْ لَا؟ وَجْهَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا زَنَى بِهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ) وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ بِلَفْظِ فِي رَجُلٍ غَشِيَ أُمَّ امْرَأَتِهِ قَالَ تَخَطَّى حُرْمَتَيْنِ وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَفِي الْبَابِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَتْبَعُ الْمَرْأَةَ حَرَامًا، ثُمَّ يَنْكِحُ ابْنَتَهَا أَوِ الْبِنْتُ ثُمَّ يَنْكِحُ أُمَّهَا، قَالَ: لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ إِنَّمَا يُحَرِّمُ مَا كَانَ بِنِكَاحٍ حَلَالٍ وَفِي إِسْنَادِهِمَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِيُّ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ طَرَفًا مِنْهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ، وَإِسْنَادُهُ أَصْلَحُ مِنَ الْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ (وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي نَصْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ حَرَّمَهُ) وَصَلَهُ الثَّوْرِيُّ فِي جَامِعِهِ مِنْ طَرِيقِهِ وَلَفْظِهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ أَنَّهُ أَصَابَ أُمَّ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَرُمَتْ عَلَيْكَ امْرَأَتُكَ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ وَلَدَتْ مِنْهُ سَبْعَةَ أَوْلَادٍ كُلُّهُمْ بَلَغَ مَبَالِغَ الرِّجَالِ.
قَوْلُهُ (وَأَبُو نَصْرٍ هَذَا لَمْ يُعْرَفْ بِسَمَاعِهِ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمَهْدِيِّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي لَا يُعْرَفُ سَمَاعُهُ وَهِيَ أَوْجُهٌ وَأَبُو نَصْرٍ هَذَا بَصْرِيٌّ أَسَدِيٌّ، وَثَّقَهُ أَبُو زُرْعَةَ. وَفِي الْبَابِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ مَرْفُوعًا: مَنْ نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُمُّهَا وَلَا بِنْتُهَا وَإِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ، قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ.
قَوْلُهُ (وَيُرْوَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَالْحَسَنِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَبَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ) أَمَّا قَوْلُ عِمْرَانَ فَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْهُ، قَالَ فِيمَنْ فَجَرَ بِأُمِّ امْرَأَتِهِ حَرُمَتَا عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَلَا بَأْسَ بِإِسْنَادِهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ عِمْرَانَ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَأَمَّا قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ
عَنْهُمَا قَالَ: حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ. قَالَ قَتَادَةُ: لَا تَحْرُمُ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَغْشَى امْرَأَتَهَ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الَّتِي زَنَى بِهَا. وَأَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْحَسَنِ بِلَفْظِ: إِذَا فَجَرَ بِأُمِّ امْرَأَتِهِ أَوِ ابْنَةِ امْرَأَتِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، لِلشَّعْبِيِّ: وَاللَّهِ مَا حَرَّمَ حَرَامٌ قَطُّ حَلَالًا قَطُّ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: بَلَى لَوْ صَبَبْتَ خَمْرًا عَلَى مَاءٍ حَرُمَ شُرْبُ ذَلِكَ الْمَاءِ. قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَلَعَلَّهُ عَنَى بِهِ الثَّوْرِيَّ، فَإِنَّهُ مِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَبِنْتِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَعَامِرٌ هُوَ الشَّعْبِيُّ فِي رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى أُمِّ امْرَأَتِهِ قَالَ: حَرُمَتَا عَلَيْهِ كِلْتَاهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، قَالُوا إِذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا، وَبِهِ قَالَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَأَبَى ذَلِكَ الْجُمْهُورُ وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ النِّكَاحَ فِي الشَّرْعِ إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا لَا عَلَى مُجَرَّدِ الْوَطْءِ، وَأَيْضًا فَالزِّنَا لَا صَدَاقَ فِيهِ وَلَا عِدَّةَ وَلَا مِيرَاثَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْفَتْوَى مِنَ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَى الزَّانِي تَزَوُّجُ مَنْ زَنَى بِهَا، فَنِكَاحُ أُمِّهَا وَابْنَتِهَا أَجْوَزُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ حَتَّى يَلْزَقَ بِالْأَرْضِ، يَعْنِي حَتَّى يُجَامِعَ) قَالَ ابْنُ التِّينِ يَلْزَقُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَبَطَهُ غَيْرُهُ بِالضَّمِّ وَهُوَ أَوْجَهُ، وَبِالْفَتْحِ لَازِمٌ وَبِالضَّمِّ مُتَعَدٍّ، يُقَالُ: لَزِقَ بِهِ لُزُوقًا وَأَلْزَقَهُ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى خِلَافِ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ بِمُجَرَّدِ لَمْسِ أُمِّهَا وَالنَّظَرِ إِلَى فَرْجِهَا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ إِلَّا إِنْ وَقَعَ الْجِمَاعُ، فَيَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ: فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: لَا تَحْرُمُ إِلَّا بِالْجِمَاعِ مَعَ الْعَقْدِ، وَالْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ: تَلْتَحِقُ الْمُبَاشَرَةُ بِشَهْوَةٍ بِالْجِمَاعِ لِكَوْنِهِ اسْتِمْتَاعًا وَمَحِلُّ ذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْمُبَاشَرَةُ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ أَمَّا الْمُحَرَّمُ فَلَا يُؤَثِّرُ كَالزِّنَا، وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ إِذَا وَقَعَ الْجِمَاعُ حَلَالًا أَوْ زِنًا أَثَّرَ بِخِلَافِ مُقَدِّمَاتِهِ.
قَوْلُهُ (وَجَوَّزَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ، وَالزُّهْرِيُّ) أَيْ أَجَازُوا لِلرَّجُلِ أَنْ يُقِيمَ مَعَ امْرَأَتِهِ وَلَوْ زَنَى بِأُمِّهَا أَوْ أُخْتِهَا سَوَاءٌ فَعَلَ مُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ أَوْ جَامَعَ وَلِذَلِكَ أَجَازُوا لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ أَوْ أُمَّ مَنْ فَعَلَ بِهَا ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ عَنِ الرَّجُلِ يَزْنِي بِالْمَرْأَةِ هَلْ تَحِلُّ لَهُ أُمُّهَا؟ فَقَالَا: لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ، وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مِثْلُهُ، وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَفْجُرُ بِالْمَرْأَةِ أَيَتَزَوَّجُ ابْنَتَهَا؟ فَقَالَ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُفْسِدُ اللَّهُ حَلَالًا بِحَرَامٍ. قَوْلُهُ (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ قَالَ عَلِيٌّ: لَا يُحَرِّمُ وَهَذَا مُرْسَلٌ) أَمَّا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ فَوَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ عُقَيْلٍ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَطِئَ أُمَّ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهَذَا مُرْسَلٌ، فَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَهُوَ مُرْسَلٌ أَيْ مُنْقَطِعٌ، فَأَطْلَقَ الْمُرْسَلَ عَلَى الْمُنْقَطِعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ وَالْخَطْبُ فِيهِ سَهْلٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
25 - بَاب {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الدُّخُولُ وَالْمَسِيسُ وَاللِّمَاسُ هُوَ الْجِمَاعُ. وَمَنْ قَالَ: بَنَاتُ وَلَدِهَا هن مِنْ بَنَاتِهِا فِي التَّحْرِيمِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأُمِّ حَبِيبَةَ: لَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ. وَكَذَلِكَ حَلَائِلُ وَلَدِ الْأَبْنَاءِ هُنَّ حَلَائِلُ الْأَبْنَاءِ. وَهَلْ تُسَمَّى الرَّبِيبَةَ
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِهِ؟ وَدَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَبِيبَةً لَهُ إِلَى مَنْ يَكْفُلُهَا، وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَ ابْنَتِهِ ابْنًا.
5106 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لَكَ فِي بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: فَأَفْعَلُ مَاذَا؟ قُلْتُ: تَنْكِحُ، قَالَ: أَتُحِبِّينَ؟ قُلْتُ: لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَرِكَنِي فِيكَ أُخْتِي، قَالَ: إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي، قُلْتُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَخْطُبُ، قَالَ: ابْنَةَ أُمِّ سَلَمَةَ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي مَا حَلَّتْ لِي، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ: دُرَّةُ بِنْتُ أم سَلَمَةَ.
قَوْلُهُ (بَابُ {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِتَفْسِيرِ الرَّبِيبَةِ وَتَفْسِيرِ الْمُرَادِ بِالدُّخُولِ. فَأَمَّا الرَّبِيبَةُ فَهِيَ بِنْتُ امْرَأَةِ الرَّجُلِ، قِيلَ لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّهَا مَرْبُوبَةٌ، وَغَلِطَ مَنْ قَالَ هُوَ مِنَ التَّرْبِيَةِ. وَأَمَّا الدُّخُولُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِمَاعُ وَهُوَ أَصَحُّ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ الْمُرَادُ بِهِ الْخَلْوَةُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الدُّخُولُ وَالْمَسِيسُ وَاللِّمَاسُ هُوَ الْجِمَاعُ) تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَنْ وَصَلَهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الدُّخُولُ وَالتَّغَشِّي وَالْإِفْضَاءُ وَالْمُبَاشَرَةُ وَالرَّفَثُ وَاللَّمْسُ الْجِمَاعُ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَكُنِّي بِمَا شَاءَ عَمَّا شَاءَ.
قَوْلُهُ (وَمَنْ قَالَ بَنَاتُ وَلَدِهَا هُنَّ مِنْ بَنَاتِهَا فِي التَّحْرِيمِ) سَقَطَ مِنْ هُنَا إِلَى آخِرِ التَّرْجَمَةِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ السَّرَخْسِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُ ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ (لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأُمِّ حَبِيبَةٍ إِلَخْ) قَدْ وَصَلَهُ فِي الْبَابِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ بَنَاتِكُنَّ لِأَنَّ الِابْنَ بِنْتٌ.
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ حَلَائِلُ وَلَدِ الْأَبْنَاءِ هُنَّ حَلَائِلُ الْأَبْنَاءِ) أَيْ مِثْلُهُنَّ فِي التَّحْرِيمِ، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ، فَكَذَلِكَ بَنَاتُ الْأَبْنَاءِ وَبَنَاتُ الْبَنَاتِ.
قَوْلُهُ (وَهَلْ تُسَمَّى الرَّبِيبَةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ) أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَنَّ التَّقْيِيدَ بِقَوْلِهِ (فِي حُجُورِكُمْ هَلْ هُوَ لِلْغَالِبِ، أَوْ يُعْتَبَرُ فِيهِ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ؟ وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْأَوَّلِ، وَفِيهِ خِلَافٌ قَدِيمٌ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: كَانَتْ عِنْدِي امْرَأَةٌ قَدْ وَلَدَتْ لِي، فَمَاتَتْ فَوَجَدْتُ عَلَيْهَا، فَلَقِيتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِي: مَا لَكَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: أَلِهَا ابْنَةٌ؟ يَعْنِي مِنْ غَيْرِكَ، قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: كَانَتْ فِي حِجْرِكَ؟ قُلْتُ: لَا، هِيَ فِي الطَّائِفِ، قَالَ: فَانْكِحْهَا، قُلْتُ: فَأَيْنَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ} قَالَ إِنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِكَ. وَقَدْ دَفَعَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ هَذَا الْأَثَرَ وَادَّعَى نَفْيَ ثُبُوتِهِ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عُبَيْدٍ لَا يُعْرَفُ، وَهُوَ عَجِيبٌ، فَإِنَّ الْأَثَرَ الْمَذْكُورَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ ثِقَةٌ تَابِعِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَأَبُوهُ وَجَدُّهُ صَحَابِيَّانِ، وَالْأَثَرُ صَحِيحٌ عَنْ عَلِيٍّ.
وَكَذَا صَحَّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَفْتَى مَنْ سَأَلَهُ إِذْ تَزَوَّجَ بِنْتَ رَجُلٍ كَانَتْ تَحْتَهُ جِدَّتُهَا وَلَمْ تَكُنِ الْبِنْتُ فِي حِجْرِهِ أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ فَقَدِ احْتَجَّ أَبُو عُبَيْدٍ لِلْجُمْهُورِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ قَالَ نَعَمْ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِالْحِجْرِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَوْلَا الْإِجْمَاعُ الْحَادِثُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَنُدْرَةُ الْمُخَالِفِ لَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى. لِأَنَّ التَّحْرِيمَ جَاءَ مَشْرُوطًا بِأَمْرَيْنِ: أَنْ تَكُونَ فِي الْحِجْرِ وَأَنْ يَكُونَ الَّذِي يُرِيدُ التَّزْوِيجَ قَدْ دَخَلَ بِالْأُمِّ، فَلَا تَحْرُمُ بِوُجُودِ أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي مَا حَلَّتْ لِي وَهَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ مَا تَقَدَّمَ، وَفِي أَكْثَرِ طُرُقِهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي فَقَيَّدَ بِالْحِجْرِ كَمَا قَيَّدَ بِهِ الْقُرْآنُ فَقَوِيَ اعْتِبَارُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (وَدَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَبِيبَةً لَهُ إِلَى مَنْ يَكْفُلُهَا) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْبَزَّارُ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلِ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِيهِ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَفَعَ إِلَيْهِ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ وَقَالَ: إِنَّمَا أَنْتَ ظِئْرِي، قَالَ فَذَهَبَ بِهَا ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: مَا فَعَلَتِ الْجُوَيْرِة بِهِ؟ قَالَ: عِنْدَ أُمِّهَا - يَعْنِي مِنَ الرَّضَاعَةِ - وَجِئْتُ لِتُعَلِّمَنِي فَذَكَرَ حَدِيثًا فِيمَا يُقْرَأُ عِنْدَ النَّوْمِ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ بِدُونِ الْقِصَّةِ، وَأَصْلُ قِصَّةِ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا لَمَّا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ - فَذَكَرَتِ الْقِصَّةَ فِي هِجْرَتِهَا ثُمَّ مَوْتَ أَبِي سَلَمَةَ - قَالَتْ فَلَمَّا وَضَعْتُ زَيْنَبَ جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَنِي - الْحَدِيثَ وَفِيهِ - فَجَعَلَ يَأْتِينَا فَيَقُولُ أَيْنَ زُنَابُ؟ حَتَّى جَاءَ عَمَّارٌ هُوَ ابْنُ يَاسِرٍ فَاخْتَلَجَهَا، وَقَالَ: هَذِهِ تَمْنَعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجَتَهُ، وَكَانَتْ تُرْضِعُهَا، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَيْنَ زُنَابُ؟ فَقَالَتْ قُرَيْبَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ وَهِيَ أُخْتُ أُمِّ سَلَمَةَ: وَافَقْتُهَا عِنْدَمَا أَخَذَهَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي آتِيكُمُ اللَّيْلَةَ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ فَجَاءَ عَمَّارٌ وَكَانَ أَخَاهَا لِأُمِّهَا - يَعْنِي أُمَّ سَلَمَةَ - فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَانْتَشَطَهَا مِنْ حِجْرِهَا وَقَالَ: دَعِي هَذِهِ الْمَقْبُوحَةَ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ (وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَ ابْنَتِهِ ابْنًا) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ وَفِيهِ إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ يَعْنِي الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا إِلَى تَقْوِيَةِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي التَّرْجَمَةِ أَنَّ بِنْتَ ابْنِ الزَّوْجَةِ فِي حُكْمِ بِنْتِ الزَّوْجَةِ ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ أُمِّ حَبِيبَةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى قَبْلَ هَذَا، وَقَوْلُهُ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ الْخَفِيفَةِ، وَثُوَيْبَةُ بِالرَّفْعِ الْفَاعِلُ وَالضَّمِيرُ لِبِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَالْمَعْنَى: أَرْضَعَتْنِي ثُوَيْبَةُ وَأَرْضَعَتْ وَالِدَ دُرَّةَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْمَاضِي التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فَقَالَ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَشَارِقِ نَقَلَ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَوَاهَا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ فَصَحَّفَ، وَيَكْفِي فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الرِّوَايَةَ فِي الْأُخْرَى إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا أَبَا سَلَمَةَ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنَا هِشَامٌ دُرَّةُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ) يَعْنِي أَنَّ اللَّيْثَ رَوَاهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ فَسَمَّى بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ دُرَّةَ، وَكَأَنَّهُ رَمَزَ بِذَلِكَ إِلَى غَلَطِ مَنْ سَمَّاهَا زَيْنَبَ، وَقَدْ قَدَّمْتُ أَنَّهَا فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ ; وَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَخْرَجَهُ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ فَلَمْ يُسَمِّهَا، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْحَدِيثَ أَيْضًا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ فَسَمَّاهَا أَيْضًا دُرَّةَ
26 - بَاب {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ}
5107 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ: أَنَّ زَيْنَبَ ابنة أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: وَتُحِبِّينَ، قُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ ذَلِكِ لَا يَحِلُّ لِي، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَتَحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ،
فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا لَابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ، وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ.
قَوْلُهُ: بَابُ {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أُمِّ حَبِيبَةَ الْمَذْكُورَ لِقَوْلِهِ فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي التَّزْوِيجِ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، سَوَاءً كَانَتَا شَقِيقَتَيْنِ أَمْ مِنْ أَبٍ أَمْ مِنْ أُمٍّ، وَسَوَاءٌ النَّسَبُ وَالرَّضَاعُ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا إِذَا كَانَتَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَأَجَازَهُ بَعْضُ السَّلَفِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَالْجُمْهُورِ، وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى الْمَنْعِ، وَنَظِيرُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، وَحَكَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنِ الشِّيعَةِ
27 - بَاب لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا
5108 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ، عَنْ الشَّعْبِيِّ: سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا. وَقَالَ دَاوُدُ وَابْنُ عَوْنٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
5109 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا.
[الحديث 5109 - طرفه في: 5110]
5110 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَالْمَرْأَةُ وَخَالَتُهَا فَنُرَى خَالَةَ أَبِيهَا بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ"
5111 -
لِأَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ حَرِّمُوا مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ"
قَوْلُهُ: (بَابُ لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا)، أَيْ وَلَا عَلَى خَالَتِهَا، وَهَذَا اللَّفْظُ رِوَايَةُ أَبِي بَكْرِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ بِإِسْنَادِ حَدِيثِ الْبَابِ، وَكَذَا هُوَ عِنْدُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (عَاصِمٌ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ الْبَصْرِيُّ الْأَحْوَلُ.
قَوْلُهُ: (الشَّعْبِيُّ سَمِعَ جَابِرًا)، كَذَا قَالَ عَاصِمٌ وَحْدَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ دَاوُدُ، وَابْنُ عَوْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ): أَمَّا رِوَايَةُ دَاوُدَ وَهُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدَ فَوَصَلَهَا أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَامِرٌ هُوَ الشَّعْبِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا. أَوِ الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا، أَوِ الْعَمَّةُ عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا، أَوِ الْخَالَةُ عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا لَا الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى، وَلَا الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى. لَفْظُ الدَّارِمِيِّ، وَالتِّرْمِذِيُّ نَحْوُهُ.
وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ: لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ فَقَالَ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَكَانَ لِدَاوُدَ فِيهِ شَيْخَينِ، وَهُوَ مَحْفُوظٌ لِابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ عَوْنٍ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ فَوَصَلَهَا النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ
عَنْهُ بِلَفْظِ: لَا تُزَوَّجُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا، وَوَقَعَ لَنَا فِي فَوَائِدِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شُرَيْحٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ بِلَفْظِ: نَهَى أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى ابْنَةِ أَخِيهَا، أَوِ ابْنَةِ أُخْتِهَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الطَّرِيقَيْنِ مَحْفُوظَانِ، وَقَدْ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ أَوْ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَكِنْ نَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يُرْوَ مِنْ وَجْهٍ يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ إِلَّا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَروى مِنْ وُجُوهٍ لَا يُثْبِتُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هُوَ كَمَا قَالَ، قَدْ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَنَسٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَعَائِشَةَ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَإِنَّمَا اتَّفَقَا عَلَى إِثْبَاتِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ رِوَايَةَ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، وَبَيَّنَ الِاخْتِلَافَ عَلَى الشَّعْبِيِّ فِيهِ، قَالَ: وَالْحُفَّاظُ يَرَوْنَ رِوَايَةَ عَاصِمٍ خَطَأً، وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ ابْنِ عَوْنٍ، وَدَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ اهـ.
وَهَذَا الِاخْتِلَافُ لَمْ يَقْدَحْ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ؛ لِأَنَّ الشَّعْبِيَّ أَشْهَرُ بِجَابِرٍ مِنْهُ بِأَبِي هُرَيْرَةَ، وَلِلْحَدِيثِ طُرُقٌ أُخْرَى عَنْ جَابِرٍ بِشَرْطِ الصَّحِيحِ، أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، وَالْحَدِيثُ مَحْفُوظٌ أَيْضًا مِنْ أَوْجُهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَلِكُلٍّ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ مَا يُعَضِّدُهُ، وَقَوْلُ مَنْ نَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُمْ تَضْعِيفَ حَدِيثِ جَابِرٍ مُعَارَضٌ بِتَصْحِيحِ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ وَغَيْرِهِمَا لَهُ، وَكَفَى بِتَخْرِيجِ الْبُخَارِيِّ لَهُ مَوْصُولًا قُوَّةً.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ أَبِي هُرَيْرَةَ - يَعْنِي مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ - وَكَأَنَّهُ لَمْ يُصَحِّحْ حَدِيثَ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْحَدِيثَانِ جَمِيعًا صَحِيحَانِ.
وَأَمَّا مَنْ نَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُمْ رَوَوْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرَ هَذَيْنِ فَقَدْ ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ بِقَوْلِهِ: وَفِي الْبَابِ لَكِنْ لَمْ يَذْكُرِ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَلَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَلَا أَنَسًا، وَزَادَ بَدَلَهُمْ أَبَا مُوسَى، وَأَبَا أُمَامَةَ، وَسَمُرَةَ. وَوَقَعَ لِي أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءَ، وَمِنْ حَدِيثِ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ وَمِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَمَنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَصَارَ عِدَّةُ مَنْ رَوَاهُ غَيْرَ الْأَوَّلِينَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَفْسًا، وَأَحَادِيثُهُمْ مَوْجُودَةٌ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَأَبِي يَعْلَى، وَالْبَزَّارِ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ وَغَيْرِهِمْ، وَلَوْلَا خَشْيَةُ التَّطْوِيلِ لَأَوْرَدْتُهَا مُفَصَّلَةً، لَكِنْ فِي لَفْظِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، وَبَيْنَ الْعَمَّتَيْنِ وَالْخَالَتَيْنِ، وَفِي رِوَايَتِهِ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ: نَهَى أَنْ تُزَوَّجَ الْمَرْأَةُ عَلَى الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، وَقَالَ: إِنَّكُنَّ إِذَا فَعَلْتُنَّ ذَلِكَ قَطَعْتُنَّ أَرْحَامَكُنَّ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ مَنْ ذُكِرَ هُوَ قَوْلُ مَنْ لَقِيتُهُ مِنَ الْمُفْتِينَ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافًا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، وَلَا أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَسْتُ أَعْلَمُ فِي مَنْعِ ذَلِكَ اخْتِلَافًا الْيَوْمَ، وَإِنَّمَا قَالَ بِالْجَوَازِ فِرْقَةٌ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِالسُّنَّةِ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ لَمْ يَضُرَّهُ خِلَافُ مَنْ خَالَفَهُ، وَكَذَا نَقَلَ الْإِجْمَاعَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ حَزْمٍ، وَالْقُرْطُبِيُّ، وَالنَّوَوِيُّ، لَكِنِ اسْتَثْنَى ابْنُ حَزْمٍ، عُثْمَانَ الْبَتِّيَّ، وَهُوَ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ الْقُدَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ، وَاسْتَثْنَى النَّوَوِيُّ طَائِفَةً مِنَ الْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ، وَاسْتَثْنَى الْقُرْطُبِيُّ الْخَوَارِجَ وَلَفْظُهُ: اخْتَارَ الْخَوَارِجُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَرَقُوا مِنَ الدِّينِ اهـ.
وَفِي نَقْلِهِ عَنْهُمْ جَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ غَلَطٌ بَيِّنٌ؛ فَإِنَّ عُمْدَتَهُمُ التَّمَسُّكُ بِأَدِلَّةِ الْقُرْآنِ لَا يُخَالِفُونَهَا الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يَرُدُّونَ الْأَحَادِيثَ لِاعْتِقَادِهِمْ عَدَمَ الثِّقَةِ بِنَقَلَتِهَا، وَتَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ.
وَنَقَلَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يُعَيِّنِ الْمُخَالِفَ.
قَوْلُهُ: (لَا يَجْمَعُ وَلَا يَنْكِحُ) كُلُّهُ فِي الرِّوَايَاتِ بِالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِ عَنِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ
قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَلَى عَمَّتِهَا) ظَاهِرُهُ تَخْصِيصُ الْمَنْعِ بِمَا إِذَا تَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَنْعُ تَزْوِيجِهِمَا مَعًا، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِعَقْدٍ بَطَلَا أَوْ مُرَتَّبًا بَطَلَ الثَّانِي.
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ: (فَنُرَى) بِضَمِّ النُّونِ أَيْ نَظُنُّ، وَبِفَتْحِهَا أَيْ نَعْتَقِدُ.
قَوْلُهُ: (خَالَةُ أَبِيهَا بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ)؛ أَيْ مِنَ التَّحْرِيمِ.
قَوْلُهُ: (لِأَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَنِي إِلَخْ) فِي أَخْذِ هَذَا الْحُكْمِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ إِلْحَاقَ مَا يُحَرَّمُ بِالصِّهْرِ بِمَا يُحَرَّمُ بِالنَّسَبِ، كَمَا يُحَرَّمُ بِالرَّضَاعِ مَا يُحَرُّمُ بِالنَّسَبِ، وَلَمَّا كَانَتْ خَالَةُ الْأَبِ مِنَ الرَّضَاعِ لَا يَحِلُّ نِكَاحُهَا فَكَذَلِكَ خَالَةُ الْأَبِ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بِنْتِ ابْنِ أَخِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورَ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَخَصُّوا بِهَا عُمُومَ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ، وَانْفَصَلَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ بِمِثْلِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
28 - بَاب الشِّغَارِ
5112 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الشِّغَارِ، وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ ابْنَتَهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ.
[الحديث 5112 - طرفه في: 6960]
قَوْلُهُ: (بَابُ الشِّغَارِ) بِمُعْجَمَتَيْنِ مَكْسُورُ الْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ: (نَهَى عَنِ الشِّغَارِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ: نَهَى عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَهُوَ مُرَادُ مَنْ حَذَفَهُ.
قَوْلُهُ: (وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ إِلَخْ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ذَكَرَ تَفْسِيرَ الشِّغَارِ جَمِيعُ رُوَاةِ مَالِكٍ عَنْهُ. قُلْتُ: وَلَا يَرُدُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ أَخْرَجَهُ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ فَلَمْ يَذْكُرِ التَّفْسِيرَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَصَرَا ذَلِكَ فِي تَصْنِيفِهِمَا، وَإِلَّا فَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْنٍ بِالتَّفْسِيرِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ فِي الْمُدْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْقَعْنَبِيِّ.
نَعَمُ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ تَفْسِيرُ الشِّغَارِ، فَالْأَكْثَرُ لَمْ يَنْسُبُوهُ لِأَحَدٍ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ: لَا أَدْرِي التَّفْسِيرُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَوْ عَنْ نَافِعٍ، أَوْ عَنْ مَالِكٍ، وَنَسَبَهُ مُحْرِزُ بْنُ عَوْنٍ وَغَيْرُهُ لِمَالِكٍ.
قَالَ الْخَطِيبُ: تَفْسِيرُ الشِّغَارِ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وُصِلَ بِالْمَتْنِ الْمَرْفُوعِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ ابْنُ مَهْدِيٍّ، وَالْقَعْنَبِيُّ، وَمُحْرِزُ بْنُ عَوْنٍ، ثُمَّ سَاقَهُ كَذَلِكَ عَنْهُمْ، وَرِوَايَةُ مُحْرِزِ بْنِ عَوْنٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْمُوَطَّآتِ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَّ الشِّغَارِ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ إِلَخْ، وَهَذَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ مَنْقُولِ مَالِكٍ لَا مِنْ مَقُولِهِ.
ووقَعَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ - كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ تَرْكِ الْحِيَلِ - مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَفْسِيرُ الشِّغَارِ مِنْ قَوْلِ نَافِعٍ، وَلَفْظُهُ: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قُلْتُ لِنَافِعٍ: مَا الشِّغَارُ؟ فَذَكَرَهُ، فَلَعَلَّ مَالِكًا أَيْضًا نَقَلَهُ عَنْ نَافِعٍ.
وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي وَهُوَ نَافِعٌ. قُلْتُ: قَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ لَمْ يَرْفَعْهُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَرْفُوعًا، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَتِهِ، فَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، وَابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَيْضًا، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ سَوَاءً، قَالَ: وَزَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ:
وَالشِّغَارُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ وَأُزَوِّجَكَ ابْنَتِي، وَزَوَّجَنِي أُخْتَكَ وَأُزَوِّجَكَ أُخْتِي، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَيَرْجِعُ إِلَى نَافِعٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَلَقَّاهُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَيُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ وُرُودُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا أَيْضًا، فَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ ثَابِتٍ، وَأَبَانٍ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: لَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ، وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ أُخْتَهُ بِأُخْتِهِ
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ نَافِعِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: نُهِيَ عَنِ الشِّغَارِ، وَالشِّغَارُ أَنْ يَنْكِحَ هَذِهِ بِهَذِهِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ، بُضْعُ هَذِهِ صَدَاقُ هَذِهِ، وَبُضْعُ هَذِهِ صَدَاقُ هَذِهِ، وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَيْحَانَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُشَاغَرَةِ، وَالْمُشَاغَرَةُ أَنْ يَقُولَ زَوِّجْ هَذَا مِنْ هَذِهِ وَهَذِهِ مِنْ هَذَا بِلَا مَهْرٍ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: تَفْسِيرُ الشِّغَارِ صَحِيحٌ، مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ فَإِنْ كَانَ مَرْفُوعًا فَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ فَمَقْبُولٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَقَالِ وَأَقْعَدُ بِالْحَالِ اهـ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يُعْتَبَرُ فِي الشِّغَارِ الْمَمْنُوعِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِهِ، فَإِنَّ فِيهِ وَصْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَزْوِيجٌ مِنَ الْوَلِيَّيْنِ وَلِيَّتَهُ لِلْآخَرِ بِشَرْطِ أَنْ يُزَوِّجَهُ وَلِيَّتَهُ، وَالثَّانِي: خُلُوُّ بُضْعِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الصَّدَاقِ، فَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَهُمَا مَعًا حَتَّى لَا يَمْنَعَ مِثْلًا إِذَا زَوَّجَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الصَّدَاقَ، أَوْ زَوَّجَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ بِالشَّرْطِ وَذَكَرَ الصَّدَاقَ.
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْبُضْعِ؛ لِأَنَّ بُضْعَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَصِيرُ مَوْرِدَ الْعَقْدِ، وَجَعْلُ الْبُضْعِ صَدَاقًا مُخَالِفٌ، لَا يُرَادُ عَقْدُ النِّكَاحِ، وَلَيْسَ الْمُقْتَضِي لِلْبُطْلَانِ تَرْكَ ذِكْرِ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا لَمْ يُصَرِّحَا بِذِكْرِ الْبُضْعِ فَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمُ الصِّحَّةُ، وَلَكِنْ وُجِدَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ عَلَى خِلَافِهِ وَلَفْظُهُ: إِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ، أَوِ الْمَرْأَةَ يَلِي أَمْرَهَا مَنْ كَانَتْ لِآخَرَ عَلَى أَنَّ صَدَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ بُضْعُ الْأُخْرَى، أَوْ عَلَى أَنْ يُنْكِحَهُ الْأُخْرَى وَلَمْ يُسَمِّ أَحَدٌ مِنْهُمَا لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَدَاقًا، فَهَذَا الشِّغَارُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مَنْسُوخٌ، هَكَذَا سَاقَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلتَّفْسِيرِ الْمَنْقُولِ فِي الْحَدِيثِ، وَاخْتَلَفَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إِذَا سَمَّى مَعَ ذَلِكَ مَهْرًا، فَنَصَّ فِي الْإِمْلَاءِ عَلَى الْبُطْلَانِ.
وَظَاهِرُ نَصِّهِ فِي الْمُخْتَصَرِ الصِّحَّةُ، وَعَلَى ذَلِكَ اقْتَصَرَ فِي النَّقْلِ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَنْ يَنْقُلُ الْخِلَافَ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: الْعِلَّةُ فِي الْبُطْلَانِ التَّعْلِيقُ وَالتَّوْقِيفُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يَنْعَقِدُ لَكَ نِكَاحُ بِنْتِي حَتَّى يَنْعَقِدَ لِي نِكَاحُ بِنْتِكَ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُشَبِّهُ بِرَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَيَسْتَثْنِي عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهَا، وَهُوَ مِمَّا لَا خِلَافَ فِي فَسَادِهِ، وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُزَوِّجُ وَلِيَّتَهُ وَيَسْتَثْنِي بُضْعَهَا حَيْثُ يَجْعَلُهُ صَدَاقًا لِلْأُخْرَى. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَسِيطِ: صُورَتُهُ الْكَامِلَةُ أَنْ يَقُولَ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ بُضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَدَاقًا لِلْأُخْرَى، وَمَهْمَا انْعَقَدَ نِكَاحُ ابْنَتِي انْعَقَدَ نِكَاحُ ابْنَتِكَ.
قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ: وَلَا يَكُونَ مَعَ الْبُضْعِ شَيْءٌ آخَرُ لِيَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ فِي الْمَذْهَبِ. وَنَقَلَ الْخَرَقِيُّ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْبُطْلَانِ تَرْكُ ذِكْرِ الْمَهْرِ، وَرَجَّحَ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي الْمُحَرَّرِ أَنَّ الْعِلَّةَ التَّشْرِيكُ فِي الْبُضْعِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ هُوَ ظَاهِرُ التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ؛ لِقَوْلِهِ فِيهِ: وَلَا صَدَاقَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ جِهَةَ الْفَسَادِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ذُكِرَ لِمُلَازَمَتِهِ لِجِهَةِ الْفَسَادِ، ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَفِيهِ شُعُورٌ بِأَنَّ عَدَمَ الصَّدَاقِ لَهُ مَدْخَلٌ فِي النَّهْيِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي رَيْحَانَةَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الشِّغَارِ لَا يَجُوزُ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّتِهِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْبُطْلَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا بَعْدَهُ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
إِلَى صِحَّتِهِ وَوُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَمَكْحُولٍ وَالثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَهُوَ قَوْلٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، لِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ. لَكِنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ النِّسَاءَ مُحَرَّمَاتٌ إِلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ أَوْ مِلْكَ يَمِينٍ، فَإِذَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ نِكَاحٍ تَأَكَّدَ التَّحْرِيمُ
(تَنْبِيهٌ):
ذِكْرُ الْبِنْتِ فِي تَفْسِيرِ الشِّغَارِ مِثَالٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ذِكْرُ الْأُخْتِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْبَنَاتِ مِنَ الْأَخَوَاتِ وَبَنَاتِ الْأَخِ وَغَيْرِهِنَّ كَالْبَنَاتِ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
29 - بَاب هَلْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِأَحَدٍ
5113 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ مِنْ اللَّائِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا تَسْتَحِي الْمَرْأَةُ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِلرَّجُلِ؟ فَلَمَّا نَزَلَتْ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ. رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْمُؤَدِّبُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، وَعَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِأَحَدٍ)؛ أَيْ فَيَحِلَّ لَهُ نِكَاحُهَا بِذَلِكَ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ صُورَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا مُجَرَّدُ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مَهْرٍ، وَالثَّانِي: الْعَقْدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ. فَالصُّورَةُ الْأُولَى ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى بُطْلَانِ النِّكَاحِ، وَأَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَلَكِنْ قَالُوا: يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ تَزَوَّجَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، وَشَرَطَ أَنْ لَا مَهْرَ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فَعَدُّوا ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ يَتَزَوَّجُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ بِغَيْرِ مَهْرٍ فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَآلِ.
وَأَجَابَ الْمُجِيزُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْوَاهِبَةَ تَخْتَصُّ بِهِ لَا مُطْلَقُ الْهِبَةِ.
وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَطَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ أَوِ التَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّهُمَا الصَّرِيحَانِ اللَّذَانِ وَرَدَ بِهِمَا الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ. وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ بِالْكِنَايَاتِ، وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ لَهُمْ بِالْقِيَاسِ عَلَى الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِصَرَائِحِهِ وَبِكِنَايَاتِهِ مَعَ الْقَصْدِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ)، هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ (قَالَ: كَانَتْ خَوْلَةُ)، هَذَا مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ عُرْوَةَ لَمْ يُدْرِكِ زَمَنَ الْقِصَّةِ، لَكِنَّ السِّيَاقَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ حَمَلَهُ عَنْ عَائِشَةَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ عَقِبَ هَذِهِ الطَّرِيقِ رِوَايَةَ مَنْ صَرَّحَ فِيهِ بِذِكْرِ عَائِشَةَ تَعْلِيقًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْأَحْزَابِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ كَذَلِكَ مَوْصُولًا.
قَوْلُهُ: (بِنْتُ حَكِيمٍ): أَيِ ابْنِ أُمَيَّةَ بْنِ الْأَوْقَصِ السِّلَمِيَّةُ، وَكَانَتْ زَوْجَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَهِيَ مِنَ السَّابِقَاتِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأُمُّهَا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ.
قَوْلُهُ: (مِنَ اللَّائِي وَهَبْنَ) وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ الْمَذْكُورَةِ قَالَتْ: كُنْتُ أَغَارُ مِنَ اللَّائِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِتَعَدُّدِ الْوَاهِبَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُنَّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُؤَدِّبِ الْآتِي ذِكْرُهَا فِي الْمُعَلَّقَاتِ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتِ: الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى تَأْوِيلِ أَنَّهَا السَّابِقَةُ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي الْحَصْرَ الْمُطْلَقَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا تَسْتَحِي الْمَرْأَةُ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا)، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ الْمَوْصُولَةِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تُعَيِّرُ اللَّائِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ.
قَوْلُهُ: (أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا) زَادَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ بِغَيْرِ صَدَاقٍ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا نَزَلَتْ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} فِي رِوَايَةِ عَبَدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تُرْجِئ، وَهَذَا
أَظْهَرُ فِي أَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ بِهَذَا السَّبَبِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ حَمَلَتْ عَائِشَةَ عَلَى هَذَا القيبحِ الْغَيْرَةُ الَّتِي طُبِعَتْ عَلَيْهَا النِّسَاءُ وَإِلَّا فَقَدْ عَلِمَتْ أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لِنَبِيِّهِ ذَلِكَ، وَأَنَّ جَمِيعَ النِّسَاءِ لَوْ مُلِكْنَ لَهُ رِقَّهُنَّ لَكَانَ قَلِيلًا.
قَوْلُهُ: (مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ: إِنِّي لِأَرَى رَبَّكَ يُسَارِعُ لَكَ فِي هَوَاكَ: أَيْ فِي رِضَاكَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا قَوْلٌ أَبْرَزَهُ الدَّلَالُ وَالْغَيْرَةُ، وَهُوَ مِنْ نَوْعِ قَوْلِهَا مَا أَحْمَدُكُمَا وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ، وَإِلَّا فَإِضَافَةُ الْهَوَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا تُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى وَلَا يَفْعَلُ بِالْهَوَى، وَلَوْ قَالَتْ إِلَى مَرْضَاتِكَ لَكَانَ أَلْيَقَ، وَلَكِنَّ الْغَيْرَةَ يُغْتَفَرُ لِأَجْلِهَا إِطْلَاقُ مِثْلِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْمُؤَدِّبُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، وَعَبَدَةُ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، أَمَّا رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي الْوَضَّاحِ فَوَصَلَهَا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورِ بْنِ أَبِي مُزَاحِمٍ عَنْهُ مُخْتَصَرًا كَمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ: قَالَتِ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ حَسْبُ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ فَوَصَلَهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ بِتَمَامِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ مَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةٍ وَفَائِدَةٍ، وَأَمَّا رِوَايَةُ عَبَدَةَ وَهُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِهِ، وَهِيَ نَحْوُ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ
30 - بَاب نِكَاحِ الْمُحْرِمِ
5114 -
حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، أَخْبَرَنَا عَمْرٌو، حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ.
قَوْلُهُ: (بَابُ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ) كَأَنَّهُ يَحْتَجُّ إِلَى الْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْبَابِ شَيْئًا غَيْرَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يُخَرِّجْ حَدِيثَ الْمَنْعِ كَأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَه عَلَى شَرْطِهِ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ هُوَ أَبُو الشَّعْثَاءِ.
قَوْلُهُ: (تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ) تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ الْمَذْكُورَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ جَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَى الْعَبَّاسِ فَأَنْكَحَهَا إِيَّاهُ، وَتَقَدَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ بِلَفْظِ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ وَزَادَ: وَبَنَى بِهَا وَهِيَ حَلَالٌ وَمَاتَتْ بِسَرِفَ، قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ إِنَّ أَبَا ثَوْرٍ يَقُولُ بِأَيِّ شَيْءٍ يُدْفَعُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - أَيْ مَعَ صِحَّتِهِ - قَالَ فَقَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، ابْنُ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: وَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَيْمُونَةُ تَقُولُ: تَزَوَّجَنِي وَهُوَ حَلَالٌ اهـ.
وَقَدْ عَارَضَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثُ عُثْمَانَ: لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِحَمْلِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اخْتَلَفَتِ الْآثَارُ فِي هَذَا الْحُكْمِ؛ لَكِنَّ الرِّوَايَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ، جَاءَتْ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى، وَحَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، لَكِنَّ الْوَهْمَ إِلَى الْوَاحِدِ أَقْرَبُ إِلَى الْوَهْمِ مِنَ الْجَمَاعَةِ، فَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْخَبَرَيْنِ أَنْ يَتَعَارَضَا فَتُطْلَبُ الْحُجَّةُ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَحَدِيثُ عُثْمَانَ صَحِيحٌ فِي مَنْعِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ اهـ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ مُلَخَّصًا، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ حَدِيثَ عُثْمَانَ عَلَى الْوَطْءِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ فِيهِ: لَا يَنْكِحُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَلَا يُنْكَحُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَلَا يَخْطُبُ، وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ زِيَادَةٌ وَلَا يُخْطَبُ عَلَيْهِ، وَيَتَرَجَّحُ حَدِيثُ عُثْمَانَ بِأَنَّهُ تَقْعِيدُ قَاعِدَةٍ.
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاقِعَةُ عَيْنٍ تَحْتَمِلُ أَنْوَاعًا مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ: فَمِنْهَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَرَى أَنَّ مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ يَصِيرُ مُحْرِمًا كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ عَنْهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَلَّدَ الْهَدْيَ فِي عُمْرَتِهِ تِلْكَ الَّتِي تَزَوَّجَ فِيهَا مَيْمُونَةَ، فَيَكُونُ
إِطْلَاقُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ، أَيْ عَقَدَ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ قَلَّدَ الْهَدْي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَلَبَّسَ بِالْإِحْرَامِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ أَرْسَلَ إِلَيْهَا أَبَا رَافِعٍ يَخْطُبُهَا، فَجَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَى الْعَبَّاسِ فَزَوَّجَهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَكُنْتُ أَنَا الرَّسُولُ بَيْنَهُمَا، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ غَيْرَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مَطَرٍ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ مُرْسَلًا. وَمِنْهَا أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، أَيْ دَاخِلَ الْبَلَدِ الْحَرَامِ أَوْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، قَالَ الْأَعْشَى:
قَتَلُوا كِسْرَى بِلَيْلٍ مُحْرِمًا
؛ أَيْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَقَالَ آخَرُ:
قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا
؛ أَيْ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ، وَإِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ جَنَحَ ابْنُ حِبَّانَ فَجَزَمَ بِهِ فِي صَحِيحِهِ.
وَعَارَضَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا حَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: وَكَانَتْ خَالَتَهُ كَمَا كَانَتْ خَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَزِيدَ ابنِ الْأَصَمِّ قَالَ: حَدَّثَتْنِي مَيْمُونَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ، قَالَ: وَكَانَتْ خَالَتِي وَخَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا أَثَرُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحَدِيثَ قَالَ: وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: ذَهِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِنْ كَانَتْ خَالَتَهُ مَا تَزَوَّجَهَا إِلَّا بَعْدَمَا أَحَلَّ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: الصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا أَنَّ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ فَاسِدٌ لِصِحَّةِ حَدِيثِ عُثْمَانَ، وَأَمَّا قِصَّةُ مَيْمُونَةَ فَتَعَارَضَتِ الْأَخْبَارَ فِيهَا، ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ قَالَ: أُنْبِئْتُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي زَوَاجِ مَيْمُونَةَ إِنَّمَا وَقَعَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ بَعَثَ إِلَى الْعَبَّاسِ لِيُنْكِحَهَا إِيَّاهُ فَأَنْكَحَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْكَحَهَا قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَعْدَ مَا أَحْرَمَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ، وَعَلِيًّا وَغَيْرَهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ فَرَّقُوا بَيْنَ مُحْرِمٍ نَكَحَ، وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَلَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا عَنْ ثَبْتٍ.
(تَنْبِيهٌ): قَدَّمْتُ فِي الْحَجِّ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ جَاءَ مِثْلُهُ صَحِيحًا عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، فَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَالْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ عَنْهَا وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَكْثَرُ مَا أُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِحٍ فِيهِ.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ أَنْبَأَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ، قَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قُلْتُ لِأَبِي عَاصِمٍ: أَنْتَ أَمْلَيْتَ عَلَيْنَا مِنَ الرُّقْعَةِ لَيْسَ فِيهِ عَائِشَةُ، فَقَالَ: دَعْ عَائِشَةَ حَتَّى أَنْظُرَ فِيهِ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ لَوْلَا هَذِهِ الْقِصَّةُ، لَكِنْ هُوَ شَاهِدٌ قَوِيٌّ أَيْضًا، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ كَامِلٌ أَبُو الْعَلَاءِ وَفِيهِ ضَعْفٌ، لَكِنَّهُ يَعْتَضِدُ بِحَدِيثَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تَفَرَّدَ مِنْ بَيْنِ الصَّحَابَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَجَاءَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَمُجَاهِدٍ مُرْسَلًا مِثْلُهُ، أَخْرَجَهُمَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا عَنْ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ وَهَلْ هُوَ [إِلَّا] كَالْبَيْعِ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ لَكِنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابِلِ النَّصِّ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ، وَكَأَنَّ أَنَسًا لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ عُثْمَانَ
31 - بَاب نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ أخِيرًا
5115 -
حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِمَا أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُتْعَةِ وَعَنْ لُحُومِ
الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ.
5116 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ فَرَخَّصَ فَقَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْحَالِ الشَّدِيدِ وَفِي النِّسَاءِ قِلَّةٌ أَوْ نَحْوَهُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَعَمْ"
5117، 5118 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَا كُنَّا فِي جَيْشٍ فَأَتَانَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا فَاسْتَمْتِعُوا"
5119 -
وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّمَا رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ تَوَافَقَا فَعِشْرَةُ مَا بَيْنَهُمَا ثَلَاثُ لَيَالٍ فَإِنْ أَحَبَّا أَنْ يَتَزَايَدَا أَوْ يَتَتَارَكَا تَتَارَكَا فَمَا أَدْرِي أَشَيْءٌ كَانَ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَبَيَّنَهُ عَلِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مَنْسُوخٌ"
قَوْلُهُ: (بَابُ نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ أَخِيرًا)، يَعْنِي تَزْوِيجَ الْمَرْأَةِ إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا انْقَضَى وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ. وَقَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ: أَخِيرًا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ وَقَعَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ. وَلَيْسَ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ الَّتِي أَوْرَدَهَا التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، لَكِنْ قَالَ فِي آخِرِ الْبَابِ: أَنَّ عَلِيًّا بَيَّنَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَقَدْ وَرَدَتْ عِدَّةُ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ صَرِيحَةٍ بِالنَّهْيِ عَنْهَا بَعْدَ الْإِذْنِ فِيهَا، وَأَقْرَبُ مَا فِيهَا عَهْدًا بِالْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَتَذَاكَرْنَا مُتْعَةَ النِّسَاءِ، فَقَالَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: رَبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَسَأَذْكُرُ الِاخْتِلَافَ فِي حَدِيثِ سَبْرَةَ هَذَا - وَهُوَ ابْنُ مَعْبَدٍ - بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ)؛ أَيِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُوهُ مُحَمَّدٌ هُوَ الَّذِي يُعْرَفُ بِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ. أَمَّا الْحَسَنُ فَأَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ غَيْرَ هَذَا، مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ لَهُ فِي الْغُسْلِ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ جَابِرٍ، وَيَأْتِي لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ آخَرُ عَنْ جَابِرٍ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَأَمَّا أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ فَكُنْيَتُهُ أَبُو هَاشِمٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْعِجْلِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَتَأْتِي أُخْرَى فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ، وَأُخْرَى فِي تَرْكِ الْحِيَلِ؛ وَقَرَنَهُ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ بِأَخِيهِ الْحَسَنِ، وَذَكَرَ فِي التَّارِيخِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ، وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَكَانَ الْحَسَنُ أَوْثَقَهُمَا، وَلِأَحْمَدَ، عَنْ سُفْيَانَ: وَكَانَ الْحَسَنُ أَرْضَاهُمَا إِلَى أَنْفُسِنَا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَتَّبِعُ السَّبَئِيَّةَ اهـ.
وَالسَّبَئِيَّةُ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ يُنْسَبُونَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ، وَهُوَ مِنْ رُؤَسَاءِ الرَّوَافِضِ، وَكَانَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَلَى رَأْيِهِ، وَلَمَّا غُلِبَ عَلَى الْكُوفَةِ، وَتَتَبَّعَ قَتَلَةَ الْحُسَيْنِ فَقَتَلَهُمْ أَحَبَّتْهُ الشِّيعَةُ، ثُمَّ فَارَقَهُ أَكْثَرُهُمْ لَمَّا ظَهَرَ مِنْهُ مِنَ الْأَكَاذِيبِ، وَكَانَ مِنْ رَأْيِ السَّبَئِيَّةِ مُوَالَاةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ وَأَنَّهُ لَا يَمُوتُ حَتَّى يَخْرُجَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَقَرَّ بِمَوْتِهِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَهُ صَارَ إِلَى ابْنِهِ أَبِي هَاشِمٍ هَذَا. وَمَاتَ أَبُو هَاشِمٍ فِي آخِرِ وِلَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ سَنَةَ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِمَا) فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْمُوَطَّآتِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ الْأَنْصَارِيِّ: عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ، وَالْحَسَنَ ابْنَيْ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَاهُ أَنَّ أَبَاهُمَا مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُمَا.
قَوْلُهُ: (أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ) سَيَأْتِي بَيَانُ تَحْدِيثِهِ لَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي تَرْكِ الْحِيَلِ بِلَفْظِ: أَنَّ عَلِيًّا قِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَا يَرَى بِمُتْعَةِ النِّسَاءِ بَأْسًا.
وَفِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ: أَنَّ عَلِيًّا سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ يُفْتِي فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ، وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِدُونِ ذِكْرِ مَالِكٍ، وَلَفْظُهُ: أَنَّ عَلِيًّا مَرَّ بِابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ يُفْتِي فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهَا، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ مَالِكٍ يُسْنِدُهُ أَنَّهُ: سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ لِفُلَانٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ تَائِهٌ، وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ أَيْضًا: تَكَلَّمَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إِنَّكَ امْرُؤٌ تَائِهٌ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ: سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَلِينُ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ فَقَالَ لَهُ: مَهْلًا يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ: رَخَّصَ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ سُفْيَانَ نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ) هَكَذَا لِجَمِيعِ الرُّوَاةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، خَيْبَرَ بِالْمُعْجَمَةِ أَوَّلَهُ وَالرَّاءِ آخِرَهُ، إِلَّا مَا رَوَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ قَالَ: حُنَيْنٍ بِمُهْمَلَةٍ أَوَّلَهُ وَنُونَيْنِ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَنَبَّهَا عَلَى أَنَّهُ وَهْمٌ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ فَقَالَ: خَيْبَرُ عَلَى الصَّوَابِ، وَأَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ إِسْحَاقَ بْنَ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ بِلَفْظِ: نَهَى فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (زَمَنَ خَيْبَرَ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ ظَرْفٌ لِلْأَمْرَيْنِ، وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ أَنَّ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كَانَ يَقُولُ: قَوْلُهُ: يَوْمَ خَيْبَرَ يَتَعَلَّقُ بِالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ لَا بِالْمُتْعَةِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَمَا قَالَهُ مُحْتَمِلٌ يَعْنِي فِي رِوَايَتِهِ هَذِهِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَصَرَّحَ أَنَّ الظَّرْفَ يَتَعَلَّقُ بِالْمُتْعَةِ، وَقَدْ مَضَى فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَيَأْتِي فِي الذَّبَائِحِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ بِلَفْظِ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ.
وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَيْضًا، وَسَيَأْتِي فِي تَرْكِ الْحِيَلِ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَزَادَ مِنْ طَرِيقِهِ فَقَالَ: مَهْلًا يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ بِسَنَدِهِ أَنَّهُ: بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَخَّصَ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مِثْلَ رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَيُونُسَ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ثَلَاثَتَهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ كَذَلِكَ.
وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: نَهَى عَنْ أَكْلِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ عَامَ خَيْبَرَ، وَعَنِ الْمُتْعَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ اهـ.
وَهَذَا اللَّفْظُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَمْ أَرَهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَالْحُمَيْدِيِّ، وَإِسْحَاقَ فِي مَسَانِيدِهِمْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِاللَّفْظِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ زَادَ لَفْظَ نِكَاحٍ كَمَا بَيَّنْتُهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى، وَالْعَبَّاسَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَزُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِمِثْلِ لَفْظِ مَالِكٍ.
وَكَذَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ لَكِنْ قَالَ زَمَنَ بَدَلَ يَوْمَ
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَيَتَّصِلُ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَنْبِيهٌ عَلَى إِشْكَالٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ النَّهْيَ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ وَرُوَاةِ الْأَثَرِ، قَالَ: فَالَّذِي يُظْهِرُ
أَنَّهُ وَقَعَ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ فِي لَفْظِ الزُّهْرِيِّ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ سَبَقَهُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ فِي النَّقْلِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، فَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصَبْغَ أَنَّ الْحُمَيْدِيَّ ذَكَرَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّ النَّهْيَ زَمَنَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَمَّا الْمُتْعَةُ فَكَانَ فِي غَيْرِ يَوْمِ خَيْبَرَ، ثُمَّ رَاجَعْتُ مُسْنَدَ الْحُمَيْدِيَّ مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ، عَنْ أَبِي إِسْمَاعِيلَ السُّلَمِيِّ عَنْهُ فَقَالَ بَعْدَ سِيَاقِ الْحَدِيثِ: قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: يَعْنِي أَنَّهُ نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ، وَلَا يَعْنِي نِكَاحَ الْمُتْعَةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ النَّاسِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ نَهَى عَنْهَا، فَلَا يَتِمُّ احْتِجَاجُ عَلِيٍّ إِلَّا إِذَا وَقَعَ النَّهْيُ أَخِيرًا لِتَقُومَ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ: سَمِعْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: مَعْنَى حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَأَمَّا الْمُتْعَةُ فَسَكَتَ عَنْهَا، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهَا يَوْمَ الْفَتْحِ اهـ.
وَالْحَامِلُ لِهَؤُلَاءِ عَلَى هَذَا مَا ثَبَتَ مِنَ الرُّخْصَةِ فِيهَا بَعْدَ زَمَنِ خَيْبَرَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ، لَكِنْ يُمْكِنُ الِانْفِصَالُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ عَلِيًّا لَمْ تَبْلُغْهُ الرُّخْصَةُ فِيهَا يَوْمَ الْفَتْحِ؛ لِوُقُوعِ النَّهْيِ عَنْهَا عَنْ قُرْبٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَيُؤَيِّدُ ظَاهِرَ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنِ الْمُتْعَةِ فَقَالَ: حَرَامٌ. فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يَقُولُ فِيهَا. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ وَمَا كُنَّا مُسَافِحِينَ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وَقْتِ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَأَغْرَبُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ رِوَايَةُ مَنْ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، ثُمَّ رِوَايَةُ الْحَسَنِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَالْمَشْهُورُ فِي تَحْرِيمِهَا أَنَّ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الرَّبِيعِ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَ: وَمَنْ قَالَ مِنَ الرُّوَاةِ كَانَ فِي غَزْوَةِ أَوْطَاسَ فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَنْ قَالَ عَامَ الْفَتْحِ اهـ.
فَتَحَصَّلَ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ سِتَّةُ مَوَاطِنَ: خَيْبَرُ، ثُمَّ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ، ثُمَّ الْفَتْحُ، ثُمَّ أَوَطَاسُ، ثُمَّ تَبُوكُ، ثُمَّ حَجَّةُ الْوَدَاعِ. وَبَقِيَ عَلَيْهِ حُنَيْنٌ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي رِوَايَةٍ قَدْ نَبَّهْتُ عَلَيْهَا قَبْلُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَهِلَ عَنْهَا أَوْ تَرَكَهَا عَمْدًا لِخَطَأِ رُوَاتِهَا، أَوْ لِكَوْنِ غَزْوَةِ أَوْطَاسَ وَحُنَيْنٍ وَاحِدَةً. فَأَمَّا رِوَايَةِ تَبُوكَ فَأَخْرَجَهَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَزَلَ بِثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ رَأَى مَصَابِيحَ وَسَمِعَ نِسَاءً يَبْكِينَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نِسَاءٌ كَانُوا تَمَتَّعُوا مِنْهُنَّ. فَقَالَ: هَدَمَ الْمُتْعَةَ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْمِيرَاثُ، وَأَخْرَجَهُ الْحَازِمِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ حَتَّى إِذَا كُنَّا عِنْدَ الْعَقَبَةِ مِمَّا يَلِي الشَّامَ جَاءَتْ نِسْوَةٌ قَدْ كُنَّا تَمَتَّعْنَا بِهِنَّ يَطُفْنَ بِرِحَالِنَا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: فَغَضِبَ وَقَامَ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَنَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، فَتَوَادَعْنَا يَوْمَئِذٍ فَسُمِّيَتْ ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ الْحَسَنِ وَهُوَ الْبَصْرِيُّ فَأَخْرَجَهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِهِ وَزَادَ: مَا كَانَتْ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مُنْكَرَةٌ مِنْ رَاوِيهَا عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَهُوَ سَاقِطُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ عَنِ الْحَسَنِ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ.
وَأَمَّا غَزْوَةُ الْفَتْحِ فَثَبَتَتْ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَمَا قَالَ: وَأَمَّا أَوْطَاسُ فَثَبَتَتْ فِي مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ. وَأَمَّا حَجَّةُ الْوَدَاعِ فَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ أَوْطَاسَ وَالْفَتْحِ فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْفَتْحَ كَانَ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى أَوْطَاسَ فِي شَوَّالٍ، وَفِي سِيَاقِ مُسْلِمٍ أَنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ مَكَّةَ حَتَّى حَرُمَتْ، وَلَفْظَةُ: إِنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْفَتْحَ، فَأَذِنَ لَنَا فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ، فَخَرَجْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِي - فَذَكَرَ قِصَّةَ الْمَرْأَةِ، إِلَى أَنْ قَالَ - ثُمَّ اسْتَمْتَعْتُ مِنْهَا، فَلَمْ أَخْرُجْ حَتَّى حَرَّمَهَا، وَفِي لَفْظٍ لَهُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ وَهُوَ يَقُولُ: بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ، وَكَانَ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ
ابْنِ نُمَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَفِي رِوَايَةِ: أَمَرَنَا بِالْمُتْعَةِ عَامَ الْفَتْحِ حِينَ دَخَلْنَا مَكَّةَ، ثُمَّ لَمْ نَخْرُجْ حَتَّى نَهَانَا عَنْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّمَتُّعِ مِنَ النِّسَاءِ - فَذَكَرَ الْقِصَّةَ قَالَ - فَكُنَّ مَعَنَا ثَلَاثًا، ثُمَّ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِفِرَاقِهِنَّ، وَفِي لَفْظٍ: فَقَالَ: إِنَّهَا حَرَامٌ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا أَوْطَاسُ فَلَفْظُ مُسْلِمٍ: رَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ أَوْطَاسَ فِي الْمُتْعَةِ ثَلَاثًا، ثُمَّ نَهَى عَنْهَا، وَظَاهِرُ
الْحَدِيثَيْنِ الْمُغَايَرَةُ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أن يَكُونَ أَطْلَقَ عَلَى عَامِ الْفَتْحِ عَامَ أَوْطَاسَ لِتُقَارِبِهُمَا، وَلَوْ وَقَعَ فِي سِيَاقِهِ أَنَّهُمْ تَمَتَّعُوا مِنَ النِّسَاءِ فِي غَزْوَةِ أَوْطَاسَ لَمَّا حَسُنَ هَذَا الْجَمْعُ، نَعَمْ وَيَبْعُدُ أَنْ يَقَعَ الْإِذْنُ فِي غَزْوَةِ أَوْطَاسَ بَعْدَ أَنْ يَقَعَ التَّصْرِيحُ قَبْلَهَا فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ بِأَنَّهَا حَرُمَتْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ مِنَ الرِّوَايَاتِ شَيْءٌ بِغَيْرِ عِلَّةٍ إِلَّا غَزْوَةُ الْفَتْحِ.
وَأَمَّا غَزْوَةُ خَيْبَرَ وَإِنْ كَانَتْ طُرُقُ الْحَدِيثِ فِيهَا صَحِيحَةً فَفِيهَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ مَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا عُمْرَةُ الْقَضَاءِ فَلَا يَصِحُّ الْأَثَرُ فِيهَا؛ لِكَوْنِهِ مِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ وَمَرَاسِيلُهُ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَيَّامَ خَيْبَرَ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْفَتْحِ وَأَوْطَاسُ سَوَاءً.
وَأَمَّا قِصَّةُ تَبُوكُ فَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمُ اسْتَمْتَعُوا مِنْهُنَّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ قَدِيمًا، ثُمَّ وَقَعَ التَّوْدِيعُ مِنْهُنَّ حِينَئِذٍ وَالنَّهْيُ، أَوْ كَانَ النَّهْيُ وَقَعَ قَدِيمًا فَلَمْ يَبْلُغْ بَعْضُهُمْ فَاسْتَمَرَّ عَلَى الرُّخْصَةِ؛ فَلِذَلِكَ قَرَنَ النَّهْيَ بِالْغَضَبِ لِتَقَدُّمِ النَّهْيِ فِي ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَقَالًا، فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ مُؤَمِّلَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَقَالٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَلَا يَصِحُّ فَإِنَّهُ مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ.
وَأَمَّا حَجَّةُ الْوَدَاعِ فَهُوَ اخْتِلَافٌ عَلَى الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ، وَالرِّوَايَةُ عَنْهُ بِأَنَّهَا فِي الْفَتْحِ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ، فَإِنْ كَانَ حَفِظَهُ فَلَيْسَ فِي سِيَاقِ أَبِي دَاوُدَ سِوَى مُجَرَّدِ النَّهْيِ، فَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ إِعَادَةَ النَّهْيِ لِيَشِيعَ وَيَسْمَعَهُ مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ قَبْلَ ذَلِكَ. فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْمَوَاطِنِ كَمَا قُلْنَا صَحِيحًا صَرِيحًا سِوَى غَزْوَةِ خَيْبَرَ وَغَزْوَةِ الْفَتْحِ، وَفِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ مَا تَقَدَّمَ.
وَزَادَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَمْتِعُونَ بِالْيَهُودِيَّاتِ، يَعْنِي فَيَقْوَى أَنَّ النَّهْيَ لَمْ يَقَعْ يَوْمَ خَيْبَرَ، أَوْ لَمْ يَقَعْ هُنَاكَ نِكَاحُ مُتْعَةٍ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ يَهُودَ خَيْبَرَ كَانُوا يُصَاهِرُونَ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مِنْ نِسَائِهِمْ مَنْ وَقَعَ التَّمَتُّعُ بِهِنَّ فَلَا يَنْهَضُ الِاسْتِدْلَالُ بِمَا قَالَ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي: فِي تَعْيِينِ مَوْضِعِ تَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّحْرِيمَ تَكَرَّرَ لِيَكُونَ أَظْهَرَ وَأَنْشَرَ؛ حَتَّى يَعْلَمَهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْضُرُ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ مَنْ لَا يَحْضُرُ فِي غَيْرِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا أُبِيحَتْ مِرَارًا، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ الْمَاضِيَ كَانَ مُؤْذِنًا بِأَنَّ الْإِبَاحَةَ تَعْقُبُهُ، بِخِلَافِ هَذَا فَإِنَّهُ تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ لَا تَعْقُبُهُ إِبَاحَةٌ أَصْلًا، وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَيَرُدُّ الْأَوَّلُ التَّصْرِيحَ بِالْإِذْنِ فِيهَا فِي الْمَوْطِنِ الْمُتَأَخِّرِ عَنِ الْمَوْطِنِ الَّذِي وَقَعَ التَّصْرِيحُ فِيهِ بِتَحْرِيمِهَا كَمَا فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ ثُمَّ الْفَتْحِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّ تَحْرِيمَهَا وَإِبَاحَتَهَا وَقَعَا مَرَّتَيْنِ فَكَانَتْ مُبَاحَةً قَبْلَ خَيْبَرَ، ثُمَّ حُرِّمَتْ فِيهَا، ثُمَّ أُبِيحَتْ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ عَامُ أَوْطَاسَ، ثُمَّ حُرِّمَتْ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، قَالَ: وَلَا مَانِعَ مِنْ تَكْرِيرِ الْإِبَاحَةِ.
وَنَقَلَ غَيْرُهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُتْعَةَ نُسِخَتْ مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي سَبَبِ الْإِذْنِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا غَزَوُا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْعُزْبَةُ فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ، فَلَعَلَّ النَّهْيَ كَانَ يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ مَوَاطِنَ بَعْدَ الْإِذْنِ، فَلَمَّا وَقَعَ فِي الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ أَنَّهَا حُرِّمَتْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَمْ يَقَعْ بَعْدَ ذَلِكَ إِذْنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْحِكْمَةُ فِي جَمْعِ عَلِيٍّ بَيْنَ النَّهْي عَنِ الْحُمُرِ، وَالْمُتْعَةِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يُرَخِّصُ فِي الْأَمْرَيْنِ مَعًا،
وَسَيَأْتِي النَّقْلُ عَنْهُ فِي الرُّخْصَةِ فِي الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ عَلِيٌّ فِي الْأَمْرَيْنِ مَعًا وَأَنَّ ذَلِكَ يَوْمُ خَيْبَرَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُمَا وَقَعَ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ الَّذِي وَقَعَ عَامَ الْفَتْحِ لَمْ يَبْلُغْ عَلِيًّا لِقِصَرِ مُدَّةِ الْإِذْنِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْحَدِيثُ فِي قِصَّةِ تَبُوكَ عَلَى نَسْخِ الْجَوَازِ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ نَهَى عَنْهَا فِي أَوَائِلِ إِنْشَاءِ السَّفَرِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَالْمَشَقَّةُ فِيهِ شَدِيدَةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ فِي تَوْبَةِ كَعْبٍ، وَكَانَتْ عِلَّةُ الْإِبَاحَةِ وَهِيَ الْحَاجَةُ الشَّدِيدَةُ انْتَهَتْ مِنْ بَعْدِ فَتْحِ خَيْبَرَ وَمَا بَعْدَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ السُّهَيْلِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي خَيْبَرَ نِسَاءٌ يُسْتَمْتَعُ بِهِنَّ ظَاهِرٌ مِمَّا بَيَّنْتُهُ مِنَ الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَيِّمِ: لَمْ تَكُنِ الصَّحَابَةُ يَتَمَتَّعُونَ بِالْيَهُودِيَّاتِ، وَأَيْضًا فَيُقَالُ كَمَا تَقَدَّمَ لَمْ يَقَعْ فِي الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمُ اسْتَمْتَعُوا فِي خَيْبَرَ، وَإِنَّمَا فِيهِ مُجَرَّدُ النَّهْيِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ التَّمَتُّعَ مِنَ النِّسَاءِ كَانَ حَلَالًا، وَسَبَبُ تَحْلِيلِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ حَيْثُ قَالَ: كُنَّا نَغْزُو وَلَيْسَ لَنَا شَيْءٌ - ثُمَّ قَالَ - فَرَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ، فَأَشَارَ إِلَى سَبَبِ ذَلِكَ وَهُوَ الْحَاجَةُ مَعَ قِلَّةِ الشَّيْءِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِلَفْظِ: إِنَّمَا رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُتْعَةِ لِعُزْبَةٍ كَانَتْ بِالنَّاسِ شَدِيدَةٍ، ثُمَّ نَهَى عَنْهَا، فَلَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرَ وَسَّعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَالِ وَمِنَ السَّبْيِ فَنَاسَبَ النَّهْيُ عَنِ الْمُتْعَةِ؛ لِارْتِفَاعِ سَبَبِ الْإِبَاحَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ شُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى التَّوْسِعَةِ بَعْدَ الضِّيقِ، أَوْ كَانَتِ الْإِبَاحَةُ إِنَّمَا تَقَعُ فِي الْمَغَازِي الَّتِي يَكُونُ فِي الْمَسَافَةِ إِلَيْهَا بُعْدٌ وَمَشَقَّةٌ، وَخَيْبَرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ فَوَقَعَ النَّهْيُ عَنِ الْمُتْعَةِ فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ إِذْنٍ فِيهَا، ثُمَّ لَمَّا عَادُوا إِلَى سَفْرَةٍ بَعِيدَةِ الْمُدَّةِ، وَهِيَ غَزَاةُ الْفَتْحِ، وَشَقَّتْ عَلَيْهِمُ الْعُزُوبَةُ أَذِنَ لَهُمْ فِي الْمُتْعَةِ لَكِنْ مُقَيَّدًا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَقَطْ؛ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ، ثُمَّ نَهَاهُمْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا عَنْهَا كَمَا سَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ سَلَمَةَ.
وَهَكَذَا يُجَابُ عَنْ كُلِّ سَفْرَةٍ ثَبَتَ فِيهَا النَّهْيُ بَعْدَ الْإِذْنِ.
وَأَمَّا حَجَّةُ الْوَدَاعِ فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ وَقَعَ فِيهَا النَّهْيُ مُجَرَّدًا إِنْ ثَبَتَ الْخَبَرُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ حَجُّوا فِيهَا بِنِسَائِهِمْ بَعْدَ أَنْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَكُونُوا فِي شِدَّةٍ وَلَا طُولِ عُزْبَةٍ، وَإِلَّا فَمَخْرَجُ حَدِيثِ سَبْرَةَ رَاوية هُوَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِهِ الرَّبِيعِ عَنْهُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي تَعْيِينِهَا؛ وَالْحَدِيثُ وَاحِدٌ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ فَتَعَيَّنَ التَّرْجِيحُ، وَالطَّرِيقُ الَّتِي أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّهَا فِي زَمَنِ الْفَتْحِ أَرْجَحُ فَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي جَمْرَةَ) هُوَ الضُّبَعِيُّ بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ، وَرَأَيْتُهُ بِخَطِّ بَعْضِ مَنْ شَرَحَ هَذَا الْكِتَابِ بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُسْأَلُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ.
قَوْلُهُ: (فَرَخَّصَ) أَيْ فِيهَا، وَثَبَتَتْ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ صَرِيحًا، وَأَظُنُّهُ عِكْرِمَةَ.
قَوْلُهُ: (إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْحَالِ الشَّدِيدِ، وَفِي النِّسَاءِ قِلَّةٌ أَوْ نَحْوِهِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْجِهَادِ وَالنِّسَاءُ قَلِيلٌ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ صَدَقَ. وَعِنْدِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، أَوِ ابْنِ أَبِي عُمْرَةَ الْأَنْصَارِيِّ: قَالَ رَجُلٌ - يَعْنِي لِابْنِ عَبَّاسٍ، وَصَرَّحَ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ فِي رِوَايَتِهِ - إِنَّمَا كَانَتْ - يَعْنِي الْمُتْعَةَ - رُخْصَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِمَنِ اضْطُرَّ إِلَيْهَا؛ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَالْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ لَقَدْ سَارَتْ بِفُتْيَاكَ الرُّكْبَانُ، وَقَالَ فِيهَا الشُّعَرَاءُ، يَعْنِي فِي الْمُتْعَةِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا بِهَذَا أَفْتَيْتُ، وَمَا هِيَ إِلَّا كَالْمَيْتَةِ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِلْمُضْطَرِّ.
وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: أَلَا إِنَّمَا هِيَ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ. وَأَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْمَعْرُوفُ بِوَكِيعٍ فِي كِتَابِ الْغُرَرِ مِنَ الْأَخْبَارِ بِإِسْنَادٍ أَحْسَنَ مِنْهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِالْقِصَّةِ، لَكِنْ لَيْسَ فِي آخِرِهِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ.
وَفِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الَّذِي أَشَرْتُ
إِلَيْهِ قَرِيبًا نَحْوُهُ، فَهَذِهِ أَخْبَارٌ يَقْوَى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَحَاصِلُهَا أَنَّ الْمُتْعَةَ إِنَّمَا رُخِّصَ فِيهَا بِسَبَبِ الْعُزْبَةِ فِي حَالِ السَّفَرِ، وَهُوَ يُوَافِقُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَاضِيَ فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ: إِنَّمَا كَانَتِ الْمُتْعَةُ لِحَرْبِنَا وَخَوْفِنَا، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا كَانَتِ الْمُتْعَةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، كَانَ الرَّجُلُ يَقْدُمُ الْبَلَدَ لَيْسَ لَهُ فِيهَا مَعْرِفَةٌ، فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ بِقَدْرِ مَا يُقِيمُ، فَتَحْفَظُ لَهُ مَتَاعَهُ فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَهُوَ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ عِلَّةِ إِبَاحَتِهَا.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي الْوَزِيرِ، عَنْ سُفْيَانَ: عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَلَّ مَنْ رَوَاهُ مِنْ أَصْحَابِهِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مَعَ كَوْنِهِ مُعَنْعَنًا لِوُرُودِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ سُفْيَانَ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَهُوَ كَمَا قَالَ قَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، وَرَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ كُلُّهُمْ عَنْ عَمْرٍو.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ)؛ أَيِ ابْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَهُوَ الْمَاضِي ذِكْرُهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ الْمَذْكُورَةِ عَنْ عَمْرٍو: سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ) فِي رِوَايَةِ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ تَقْدِيمُ سَلَمَةَ عَلَى جَابِرٍ، وَقَدْ أَدْرَكَهُمَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَمِيعًا، لَكِنْ رِوَايَتُهُ عَنْ جَابِرٍ أَشْهَرُ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا فِي جَيْشٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهِ، لَكِنْ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعُمَيْسِ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ أَوْطَاسَ فِي الْمُتْعَةِ ثَلَاثًا ثُمَّ نَهَى عَنْهَا.
(تَنْبِيهٌ): ضَبْطُ جَيْشٌ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ حُنَيْنٌ بِالْمُهْمَلَةِ وَنُونَيْنِ بِاسْمِ مَكَانِ الْوَقْعَةِ الْمَشْهُورَةِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ: خَرَجَ عَلَيْنَا مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ بِلَالٌ.
قَوْلُهُ: (إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا فَاسْتَمْتِعُوا)، زَادَ شُعْبَةُ فِي رِوَايَتِهِ: يَعْنِي مُتْعَةَ النِّسَاءِ، وَضُبِطَ فَاسْتَمْتِعُوا بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِهَا بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَبِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمَاضِي. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ جَابِرٍ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى، مِنْهَا عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمُتْعَةِ فَقَالَ: فَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ: اسْتَمْتَعْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأُخْرِجَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ سَمِعْتُ جَابِرًا نَحْوَهُ، وَزَادَ: حَتَّى نَهَى عَنْهَا عُمَرُ فِي شَأْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ.
وَقِصَّةُ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ أَخْرَجَهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَدِمَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ الْكُوفَةَ فَاسْتَمْتَعَ بِمَوْلَاة، فَأَتَى بِهَا عمرو حُبْلَى، فَسَأَلَهُ فَاعْتَرَفَ، قَالَ: فَذَلِكَ حِينَ نَهَى عَنْهَا عُمَرُ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ الَّتِي حَكَيْنَاهَا عَنْ تَخْرِيجِ مُسْلِمِ: ثُمَّ نَهَى عَنْهَا ضَبَطْنَاهُ: نَهَى بِفَتْحِ النُّونِ، وَرَأَيْتُهُ فِي رِوَايَةٍ مُعْتَمَدَةٍ نَهَا بِالْأَلِفِ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: بَلْ هِيَ بِضَمِّ النُّونِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاهِي فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ، عُمَرُ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ قُلْنَا: هُوَ مُحْتَمَلٌ، لَكِنْ ثَبَتَ نَهْيُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا فِي حَدِيثِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ أَبِيهِ بَعْدَ الْإِذْنِ فِيهِ، وَلَمْ نَجِدْ عَنْهُ الْإِذْنَ فِيهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ، فَنَهْيُ عُمَرَ مُوَافِقٌ لِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم. قُلْتُ: وَتَمَامُهُ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ جَابِرًا وَمَنْ نُقِلَ عَنْهُ اسْتِمْرَارُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَنْ نَهَى عَنْهَا عُمَرُ لَمْ يَبْلُغْهُمُ النَّهْيُ.
وَمِمَّا يُسْتَفَادُ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا اجْتِهَادًا، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهَا مُسْتَنِدًا إِلَى نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ عَنْهُ بِذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا وَلِيَ عُمَرُ خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لَنَا فِي الْمُتْعَةِ ثَلَاثًا ثُمَّ حَرَّمَهَا،
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: صَعِدَ عُمَرُ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَنْكِحُونَ هَذِهِ الْمُتْعَةَ بَعْدَ نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَدَمَ الْمُتْعَةَ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعِدَّةُ وَالْمِيرَاثُ، وَلَهُ شَاهِدٌ صَحِيحٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ. الحديث الرابع، تقدمت له طريق في الذي قبله.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ إِلَخْ) وَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ.
قَوْلُهُ: (أَيُّمَا رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ تَوَافَقَا فَعِشْرَةُ مَا بَيْنَهُمَا ثَلَاثُ لَيَالٍ)، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي بِعَشَرَةٍ بِالْمُوَحَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ بَدَلَ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ، وَبِالْفَاءِ أَصَحُّ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرِهِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ إِطْلَاقَ الْأَجَلِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْيِيدِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ أَحَبَّا) أَيْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثِ (أَنْ يَتَزَايَدَا) أَيْ فِي الْمُدَّةِ؛ يَعْنِي تَزَايَدَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَتَتَارَكَا أَيْ يَتَفَارَقَا تَتَارَكَا. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ: أَنْ يَتَنَاقَضَا تَنَاقَضَا وَالْمُرَادُ بِهِ التَّفَارُقُ.
قَوْلُهُ: (فَمَا أَدْرِي أَشَيْءٌ كَانَ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً)، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ التَّصْرِيحُ بِالِاخْتِصَاصِ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: إِنَّمَا أُحِلَّتْ لَنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتْعَةُ النِّسَاءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ بَيَّنَهُ عَلِيٌّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مَنْسُوخٌ)، يُرِيدُ بِذَلِكَ تَصْرِيحَ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّهْيِ عَنْهَا بَعْدَ الْإِذْنِ فِيهَا، وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي الْحَدِّ الْأَوَّلِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: نَسَخَ رَمَضَانُ كُلَّ صَوْمٍ، وَنَسَخَ الْمُتْعَةَ الطَّلَاقُ وَالْعِدَّةُ وَالْمِيرَاثُ، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: جَاءَ عَنِ الْأَوَائِلِ الرُّخْصَةُ فِيهَا، وَلَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ أَحَدًا يُجِيزُهَا إِلَّا بَعْضُ الرَّافِضَةِ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلٍ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: ثُمَّ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ مِنْ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِهَا إِلَّا الرَّوَافِضَ. وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَبَاحَهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: رَوَى أَهْلُ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِبَاحَةَ الْمُتْعَةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ الرُّجُوعُ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ، وَإِجَازَةُ الْمُتْعَةِ عَنْهُ أَصَحُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشِّيعَةِ.
قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ الْآنَ أُبْطِلَ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَمْ بَعْدَهُ، إِلَّا قَوْلَ زُفَرَ: إِنَّهُ جَعَلَهَا كَالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا. قُلْتُ: وَهُوَ فِي حَدِيثِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: تَحْرِيمُ الْمُتْعَةِ كَالْإِجْمَاعِ إِلَّا عَنْ بَعْضِ الشِّيعَةِ، وَلَا يَصِحُّ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي الرُّجُوعِ فِي الْمُخْتَلِفَاتِ إِلَى عَلِيٍّ وَآلِ بَيْتِهِ، فَقَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهَا نُسِخَتْ.
وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمُتْعَةِ فَقَالَ: هِيَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَيحْكي عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ جَوَازُهَا اهـ.
وَقَدْ نَقَلَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهَا بَعْدَ أَنْ رَوَى بِالْبَصْرَةِ فِي إِبَاحَتِهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مَا حَكَاهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ مِنَ الْجَوَازِ خَطَأٌ، فَقَدْ بَالَغَ الْمَالِكِيَّةُ فِي مَنْعِ النِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ حَتَّى أَبْطَلُوا تَوْقِيتَ الْحِلِّ بِسَبَبِهِ فَقَالُوا: لَوْ عَلَّقَ عَلَى وَقْتٍ لَا بُدَّ مِنْ مَجِيئِهِ وَقَعَ الطَّلَاقُ الْآنَ؛ لِأَنَّهُ تَوْقِيتٌ لِلْحِلِّ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى نِكَاحِ الْمُتْعَةِ.
قَالَ عِيَاضٌ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْبُطْلَانِ التَّصْرِيحُ بِالشَّرْطِ، فَلَوْ نَوَى عِنْدَ الْعَقْدِ أَنْ يُفَارِقَ بَعْدَ مُدَّةٍ صَحَّ نِكَاحُهُ، إِلَّا الْأَوْزَاعِيُّ فَأَبْطَلَهُ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُحَدُّ نَاكِحُ الْمُتْعَةِ أَوْ يُعَزَّرُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَأْخَذُهُمَا أَنَّ الِاتِّفَاقَ بَعْدَ الْخِلَافَ هَلْ يُرْفَعُ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ زَمَنَ إِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ لَمْ يَطُلْ وَأَنَّهُ حَرُمَ، ثُمَّ أَجْمَعَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى تَحْرِيمِهَا إِلَّا مَنْ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ مِنَ الرَّوَافِضِ. وَجَزَمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِتَفَرُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِبَاحَتِهَا، فَهِيَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْمَشْهُورَةِ وَهِيَ نُدْرَةُ الْمُخَالِفِ، وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ
مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ عَلَى إِبَاحَتِهَا، ثُمَّ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى تَحْرِيمِهَا.
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: ثَبَتَ عَلَى إِبَاحَتِهَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ابْنُ مَسْعُودٍ، وَمُعَاوِيَةُ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَلَمَةُ، وَمَعْبَدٌ ابْنَا أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَجَابِرٌ، وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، وَرَوَاهُ جَابِرٌ عَنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ مُدَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ إِلَى قُرْبِ آخِرِ خِلَافَةِ عُمَرَ، قَالَ: وَمِنَ التَّابِعِينَ طَاوُسٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ وَسَائِرُ فُقَهَاءِ مَكَّةَ.
قُلْتُ: وَفِي جَمِيعِ مَا أَطْلَقَهُ نَظَرٌ، أَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَمُسْتَنَدُهُ فِيهِ الْحَدِيثُ الْمَاضِي فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِيهِ مَا نَقَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنَ الزِّيَادَةِ فِيهِ الْمُصَرِّحَةِ عَنْهُ بِالتَّحْرِيمِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلي بْنِ أَبِي خَالِدٍ، وَفِي آخِرِهِ: فَفَعَلْنَا ثُمَّ تُرِكَ ذَلِكَ. وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ اسْتَمْتَعَ بِامْرَأَةٍ بِالطَّائِفِ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَيْضًا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَدِيمًا وَلَفْظُهُ: اسْتَمْتَعَ مُعَاوِيَةُ مَقْدِمَهُ الطَّائِفَ بِمَوْلَاةٍ لِبَنِي الْحَضْرَمِيِّ يُقَالُ لَهَا: مُعَانَةُ، قَالَ جَابِرٍ: ثُمَّ عَاشَتْ مُعَانَةُ إِلَى خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، فَكَانَ يُرْسِلُ إِلَيْهَا بِجَائِزَةٍ كُلَّ عَامٍ، وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ مُتَّبِعًا لِعُمَرَ مُقْتَدِيًا بِهِ، فَلَا يَشُكُّ أَنَّهُ عَمَلَ بِقَوْلِهِ بَعْدَ النَّهْيِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: خَطَبَ عُمَرُ فَنَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، وَنَقَلَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ مُنْكِرٌ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مُتَابَعَتِهِمْ لَهُ عَلَى مَا نَهَى عَنْهُ.
وَأَمَّا أَبُو سَعِيدٍ فَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ عَطَاءً قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ شِئْتَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: لَقَدْ كَانَ أَحَدُنَا يَسْتَمْتِعُ بِمِلْءِ الْقَدَحِ سَوِيقًا، وَهَذَا - مَعَ كَوْنِهِ ضَعِيفًا لِلْجَهْلِ بِأَحَدِ رُوَاتِهِ - لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَتَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْهُ وَالِاخْتِلَافُ هَلْ رَجَعَ أَوْ لَا.
وَأَمَّا سَلَمَةُ، وَمَعْبَدٌ فَقِصَّتُهُمَا وَاحِدَةٌ، اخْتُلِفَ فِيهَا هَلْ وَقَعَتْ لِهَذَا أَوْ لِهَذَا، فَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ يَرْعَ عُمَرُ إِلَّا أُمَّ أَرَاكَةَ قَدْ خَرَجَتْ حُبْلَى، فَسَأَلَهَا عُمَرُ فَقَالَتِ: اسْتَمْتَعَ بِي سَلَمَةُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ فَسَمَّاهُ مَعْبَدُ بْنُ أُمَيَّةَ. وَأَمَّا جَابِرٌ فَمُسْتَنَدُهُ قَوْلُهُ: فَعَلْنَاهَا وَقَدْ بَيَّنْتُهُ قَبْلُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُصْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَنَهَانَا عُمَرُ فَلَمْ نَفْعَلْهُ بَعْدُ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: فَعَلْنَا يَعُمُّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ فَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَمْ نَعُدْ يَعُمُّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ مُسْتَنَدَهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي بَيَّنَّاهَا.
وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ رَوَاهُ جَابِرٌ عَنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ فَعَجِيبٌ، وَإِنَّمَا قَالَ جَابِرٌ: فَعَلْنَاهَا وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي تَعْمِيمَ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ؛ بَلْ يَصْدُقُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَحْدَهُ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ عَنِ التَّابِعِينَ فَهُوَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ نَهَانَا عُمَرُ فَلَمْ نَعُدْ لَهَا فَهَذَا يَرُدُّ عَدَّهُ جَابِرًا فِيمَنْ ثَبَتَ عَلَى تَحْلِيلِهَا، وَقَدِ اعْتَرَفَ ابْنُ حَزْمٍ مَعَ ذَلِكَ بِتَحْرِيمِهَا لِثُبُوتِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهَا حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ: فَأَمِنَّا بِهَذَا الْقَوْلِ نَسْخَ التَّحْرِيمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
32 - بَاب عَرْضِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُلِ الصَّالِحِ
5120 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مَرْحُومُ قَالَ: سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَنَسٍ وَعِنْدَهُ ابْنَةٌ لَهُ، قَالَ أَنَسٌ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَكَ بِي حَاجَةٌ؟ فَقَالَتْ بِنْتُ أَنَسٍ: مَا أَقَلَّ حَيَاءَهَا وَاسَوْأَتَاهْ قَالَ: هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ، رَغِبَتْ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا.
[الحديث 5120 - طرفه في: 6123]
5121 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ؟ فقَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ قَالَ: اذْهَبْ فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي وَلَهَا نِصْفُهُ. قَالَ سَهْلٌ وَمَا لهُ رِدَاءٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَمَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَاهُ - أَوْ دُعِيَ لَهُ - فَقَالَ لَهُ: مَاذَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا - لِسُوَرٍ يُعَدِّدُهَا - فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمْلَكْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ عَرْضِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُلِ الصَّالِحِ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: مِنْ لَطَائِفِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ الْخُصُوصِيَّةَ فِي قِصَّةِ الْوَاهِبَةِ اسْتَنْبَطَ مِنَ الْحَدِيثِ مَا لَا خُصُوصِيَّةَ فِيهِ، وَهُوَ جَوَازُ عَرْضِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُلِ الصَّالِحِ؛ رَغْبَةً فِي صَلَاحِهِ فَيَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ، وَإِذَا رَغِبَ فِيهَا تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مَرْحُومٌ) زَادَ أَبُو ذَرٍّ: ابْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مِهْرَانَ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ مَوْلَى آلِ أَبِي سُفْيَانَ، ثِقَةٌ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ أَيْضًا، وَذَكَرَ الْبَزَّارُ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ ثَابِتٍ.
قَوْلُهُ: (وَعِنْدَهُ ابْنَةٌ لَهُ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا، وَأَظُنُّهَا أُمَيْنَةُ بِالتَّصْغِيرِ.
قَوْلُهُ: (جَاءَتْ إِمْرَأَةٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعينِهَا، وَأَشْبَهُ مَنْ رَأَيْتُ بِقِصَّتِهَا مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اسْمِهِنَّ فِي الْوَاهِبَاتِ لَيْلَى بِنْتُ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ صَاحِبَةَ هَذِهِ الْقِصَّةِ غَيْرُ الَّتِي فِي حَدِيثِ سَهْلٍ.
قَوْلُهُ: (وَاسَوْأَتَاهْ) أَصْلُ السَّوْءَةِ - وَهِيَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ - الْفِعْلَةُ الْقَبِيحَةُ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْفَرْجِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ، وَالْأَلِفُ لِلنُّدْبَةِ وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْوَاهِبَةِ مُطَوَّلًا، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ بَعْدَ سِتَّةَ عَشَرَ بَابًا، وَفِي الْحَدِيثَيْنِ جَوَازُ عَرْضِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُلِ، وَتَعْرِيفِهِ رَغْبَتَهَا فِيهِ، وَأَنْ لَا غَضَاضَةَ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ الَّذِي تَعْرِضُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا عَلَيْهِ بِالِاخْتِيَارِ، لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَرِّحَ لَهَا بِالرَّدِّ؛ بَلْ يَكْفِي السُّكُوتُ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ أَنَّ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ لا يَنْكِحَهَا إِلَّا إِذَا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ رَغْبَةً فِيهَا، وَلِذَلِكَ صَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ انْتَهَى. وَلَيْسَ فِي الْقِصَّةِ دَلَالَةٌ لِمَا ذَكَرَهُ قَالَ: وَفِيهِ جَوَازُ سُكُوتِ الْعَالِمِ، وَمَنْ سُئِلَ حَاجَةً إِذَا لَمْ يُرِدِ الْإِسْعَافَ، وَأَنَّ ذَلِكَ أَلْيَنُ فِي صَرْفِ السَّائِلِ وَأَأْدَبُ مِنَ الرَّدِّ بِالْقَوْلِ
33 - باب عَرْضِ الْإِنْسَانِ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ عَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ
5122 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يُحَدِّثُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ - فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ فَقَالَ: سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، ثُمَّ لَقِيَنِي فَقَالَ:
قَدْ بَدَا لِي أَنْ لَا أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ زَوَّجْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، وَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا؟ قَالَ عُمَرُ: قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ عَلَيَّ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبِلْتُهَا.
5123 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّكَ نَاكِحٌ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَعَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لَوْ لَمْ أَنْكِحْ أُمَّ سَلَمَةَ مَا حَلَّتْ لِي إِنَّ أَبَاهَا أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ"
قَوْلُهُ: (بَابُ عَرْضِ الْإِنْسَانِ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ عَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ) أَوْرَدَ عَرْضَ الْبِنْتِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَعَرْضَ الْأُخْتِ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي.
قَوْلُهُ: (حِينَ تَأَيَّمَتْ) بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ أَيْ صَارَتْ أَيِّمًا، وَهِيَ الَّتِي يَمُوتُ زَوْجُهَا، أَوْ تَبِينُ مِنْهُ وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا، وَأَكْثَرُ مَا تُطْلَقُ عَلَى مَنْ مَاتَ زَوْجُهَا. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْعَرَبُ تُطْلِقُ عَلَى كُلِّ امْرَأَةٍ لَا زَوْجَ لَهَا، وَكُلِّ رَجُلٍ لَا امْرَأَةَ لَهُ أَيِّمًا، زَادَ فِي الْمَشَارِقِ وَإِنْ كَانَ بِكْرًا. وَسَيَأْتِي مَزِيدًا لِهَذَا فِي بَابِ لَا يُنْكِحُ الْأَبُ وَغَيْرُهُ الْبِكْرَ وَلَا الثَّيِّبَ إِلَّا بِرِضَاهَا.
قَوْلُهُ: (مِنْ خُنَيْسٍ) بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَنُونٍ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ مُصَغَّرٌ.
قَوْلُهُ: (ابْنُ حُذَافَةَ) عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: ابْنُ حُذَافَةَ أَوْ حُذَيْفَةَ، وَالصَّوَابُ حُذَافَةُ، وَهُوَ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْمَغَازِي. وَمِنَ الرُّوَاةِ مِنْ فَتَحَ أَوَّلَ خُنَيْسٍ وَكَسَرَ ثَانِيهِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ بِالتَّصْغِيرِ، وَعِنْدَ مَعْمَرٍ كَالْأَوَّلِ لَكِنْ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: اخْتُلِفَ عَلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَرَوَى عَنْهُ عَلِيٌّ الصَّوَابَ، وَرَوَى عَنْهُ بِالشَّكِّ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَادَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ.
قَوْلُهُ: (فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ) قَالُوا: مَاتَ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنْ جِرَاحَةٍ أَصَابَتْهُ بِهَا، وَقِيلَ: بَلْ بَعْدَ بَدْرٍ وَلَعَلَّهُ أَوْلَى، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا بَعْدَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ بَعْدَ ثَلَاثِينَ شَهْرًا، وَفِي رِوَايَةٍ بَعْدَ عِشْرِينَ شَهْرًا، وَكَانَتْ أُحُدٌ بَعْدَ بَدْرٍ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا، وَلَكِنَّهُ يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بَعْدَ ثَلَاثِينَ عَلَى إِلْغَاءِ الْكَسْرِ، وَجَزَمَ ابْنُ سَعْدٍ بِأَنَّهُ مَاتَ عَقِبَ قُدُومِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَدْرٍ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ شَهِدَ أُحُدًا وَمَاتَ مِنْ جِرَاحَةٍ بِهَا، وَكَانَتْ حَفْصَةُ أَسَنَّ مِنْ أَخِيهَا عَبْدِ اللَّهِ فَإِنَّهَا وُلِدَتْ قَبْلَ الْبِعْثَةِ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَعَبْدُ اللَّهِ وُلِدَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ بِثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) أَعَادَ ذَلِكَ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ، وَإِلَّا فَقَوْلُهُ أَوَّلًا: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْدِيرٍ، قَالَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَأَحْمَدَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ.
قَوْلُهُ: (أَتَيْتُ عُثْمَانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ؟ فَقَالَ: سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي، إِلَى أَنْ قَالَ قَدْ بَدَا لِي أَنْ لَا أَتَزَوَّجَ) هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ عُثْمَانَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، وَصَحَّحَهُ هُوَ وَالْحَاكِمُ: أَنَّ عُثْمَانَ خَطَبَ إِلَى عُمَرَ بِنْتَهُ فَرَدَّهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَاحَ إِلَيْهِ عُمَرُ قَالَ: يَا عُمَرُ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى خَتَنٍ خَيْرٍ مِنْ عُثْمَانَ، وَأَدُلَّ عُثْمَانَ عَلَى خَتَنٍ خَيْرٍ مِنْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ. قَالَ: تُزَوِّجُنِي بِنْتَكَ وَأُزَوِّجُ عُثْمَانَ بِنْتِي.
قَالَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ: إِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ، لَكِنْ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ عَرَضَ عَلَى عُثْمَانَ حَفْصَةَ فَرَدَّ عَلَيْهِ قَدْ بَدَا لِي أَنْ لَا أَتَزَوَّجَ. قُلْتُ: أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ نَحْوَ حَدِيثِ رِبْعِيٍّ، وَمِنْ مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَتَمَّ مِنْهُ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: فَخَارَ اللَّهُ لَهُمَا جَمِيعًا. وَيَحْتَمِلُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ خَطَبَ أَوَّلًا إِلَى عُمَرَ فَرَدَّهُ كَمَا فِي رِوَايَةِ
رِبْعِيٍّ، وَسَبَبُ رَدِّهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَتِهَا وَهِيَ أَنَّهَا لَمْ تَرْغَبْ فِي التَّزَوُّجِ عَنْ قُرْبٍ مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا، وَيَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا غَضَاضَةَ فِيهَا عَلَى عُثْمَانَ فِي رَدِّ عُمَرَ لَهُ، ثُمَّ لَمَّا ارْتَفَعَ السَّبَبُ بَادَرَ عُمَرُ فَعَرَضَهَا عَلَى عُثْمَانَ رِعَايَةً لِخَاطِرِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَلَعَلَّ عُثْمَانَ بَلَغَهُ مَا بَلَغَ أَبَا بَكْرٍ مِنْ ذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهَا فَصَنَعَ كَمَا صَنَعَ مِنْ تَرْكِ إِفْشَاءِ ذَلِكَ، وَرَدَّ عَلَى عُمَرَ بِجَمِيلٍ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ فَقَالَ عُثْمَانُ: مَا لِيَ فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ، وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ بِسَنَدٍ لَهُ: أَنَّ عُمَرَ عَرَضَ حَفْصَةَ عَلَى عُثْمَانَ حِينَ تُوُفِّيَتْ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعُثْمَانُ يَوْمَئِذٍ يُرِيدُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قُلْتُ: وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ مَوْتَ خُنَيْسٍ كَانَ بَعْدَ بَدْرٍ فَإِنَّ رُقَيَّةَ مَاتَتْ لَيَالِيَ بَدْرٍ، وَتَخَلَّفَ عُثْمَانُ عَنْ بَدْرٍ لِتَمْرِيضِهَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ إِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ سَعْدٍ مِنْ مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ مِنْ زَوْجِهَا وَتَأَيَّمَ عُثْمَانُ مِنْ رُقَيَّةَ، فَمَرَّ عُمَرُ، بِعُثْمَانَ وَهُوَ حَزِينٌ فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي حَفْصَةَ؟ فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْ فُلَانٍ، وَاسْتُشْكِلَ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَاتَ بَعْدَ أُحُدٍ لَلَزِمَ أَنْ لَا تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا إِلَّا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ، وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ وَضَعَتْ عَقِبَ وَفَاتِهِ وَلَوْ سِقْطًا فَحَلَّتْ.
قَوْلُهُ: (سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي) أَيْ أَتَفَكَّرُ، وَيُسْتَعْمَلُ النَّظَرُ أَيْضًا بِمَعْنَى الرَّأْفَةِ لَكِنْ تَعْدِيَتُهُ بِاللَّامِ، وَبِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ وَهُوَ الْأَصْلُ وَيُعَدَّى بِإِلَى. وَقَدْ يَأْتِي بِغَيْرِ صِلَةٍ وَهُوَ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ) هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ عَقِبَ رَدِّ عُثْمَانَ لَهُ بعَرضهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ.
قَوْلُهُ: (فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ)؛ أَيْ سَكَتَ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا تَأْكِيدٌ لِرَفْعِ الْمَجَازِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ صَمَتَ زَمَانًا ثُمَّ تَكَلَّمَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ يَرْجِعُ.
قَوْلُهُ: (وَكُنْتُ أُوجِدُ عَلَيْهِ)؛ أَيْ أَشَدُّ مَوْجِدَةً أَيْ غَضَبًا عَلَى أَبَي بَكْرٍ مِنْ غَضَبِي عَلَى عُثْمَانَ، وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنْ أَكِيدِ الْمَوَدَّةِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ آخَى بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا عُثْمَانُ فَلَعَلَّهُ كَانَ تَقَدَّمَ مِنْ عُمَرَ رَدُّهُ فَلَمْ يَعْتِبْ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يُجِبْهُ لِمَا سَبَقَ مِنْهُ فِي حَقِّهِ، وَالثَّانِي لِكَوْنِ عُثْمَانَ أَجَابَهُ أَوَّلًا ثُمَّ اعْتَذَرَ لَهُ ثَانِيًا، وَلِكَوْنِ أَبِي بَكْرٍ لَمْ يُعِدْ عَلَيْهِ جَوَابًا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ: فَغَضِبَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَقَالَ فِيهَا: كُنْتُ أَشَدَّ غَضَبًا حِينَ سَكَتَ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ.
قَوْلُهُ: (لَقَدْ وَجَدْتَ عَلَيَّ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَعَلَّكَ وَجَدْتَ وَهِيَ أَوْجَهُ.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ أَرْجِعْ) بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ أُعِدْ عَلَيْكَ الْجَوَابَ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا أنِّي كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ ذَكَرَهَا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ ذَكَرَ مِنْهَا شَيْئًا وَكَانَ سِرًّا.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ: وَكَرِهْتُ أَنْ أُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبِلْتُهَا) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ الْمَذْكُورَةِ نَكَحْتُهَا. وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْلَا هَذَا الْعُذْرُ لَقِبَلِهَا، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ عُذْرُهُ فِي كَوْنِهِ لَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ عُثْمَانُ: قَدْ بَدَا لِي أَنْ لَا أَتَزَوَّجَ، وَفِيهِ فَضْلُ كِتْمَانِ السِّرِّ، فَإِذَا أَظْهَرَهُ صَاحِبُهُ ارْتَفَعَ الْحَرَجُ عَمَّنْ سَمِعَهُ. وَفِيهِ عِتَابُ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ، وَعَتْبُهُ عَلَيْهِ وَاعْتِذَارُهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ جُبِلَتِ الطِّبَاعُ الْبَشَرِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ كِتْمَانِ أَبِي بَكْرٍ ذَلِكَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَبْدُوَ لِرَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يَتَزَوَّجَهَا فَيَقَعَ فِي قَلْبِ عُمَرَ انْكِسَارٌ، وَلَعَلَّ اطِّلَاعَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَصَدَ خِطْبَةَ حَفْصَةَ كَانَ بِإِخْبَارِهِ لَهُ صلى الله عليه وسلم إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِشَارَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَكْتُمُ عَنْهُ شَيْئًا مِمَّا يُرِيدُهُ حَتَّى وَلَا مَا فِي الْعَادَةِ عَلَيْهِ غَضَاضَةٌ، وَهُوَ كَوْنُ ابْنَتِهِ عَائِشَةَ عِنْدَهُ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنِ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَا يُرِيدُ لِوُثُوقِهِ بِإِيثَارِهِ إِيَّاهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلِهَذَا اطَّلَعَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ اطِّلَاعِ عُمَرَ الَّذِي يَقَعُ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الْخِطْبَةِ.
وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الصَّغِيرَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْطُبَ امْرَأَةً أَرَادَ الْكَبِيرُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَوْ لَمْ تَقَعِ الْخِطْبَةُ فَضْلًا عَنِ الرُّكُونِ. وَفِيهِ الرُّخْصَةُ فِي تَزْوِيجِ مَنْ عَرَّضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِخِطْبَتِهَا، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِقَوْلِ الصِّدِّيقِ: لَوْ تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا. وَفِيهِ عَرْضُ الْإِنْسَانِ بِنْتَهُ وَغَيْرِهَا مِنْ مَوْلَيَاتِهِ عَلَى مَنْ يُعْتَقَدُ خَيْرُهُ وَصَلَاحُهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَعْرُوضَةِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا اسْتِحْيَاءَ فِي ذَلِكَ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِعَرْضِهَا عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مُتَزَوِّجًا؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ حِينَئِذٍ مُتَزَوِّجًا. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يُفْشِي سِرَّ فُلَانٍ فَأَفْشَى فُلَانٌ سِرَّ نَفْسِهِ ثُمَّ تَحَدَّثَ بِهِ الْحَالِفُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ السِّرِّ هُوَ الَّذِي أَفْشَاهُ فَلَمْ يَكُنِ الْإِفْشَاءُ مِنْ قِبَلِ الْحَالِفِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ حَدَّثَ وَاحِدٌ آخَرَ بِشَيْءٍ وَاسْتَحْلَفَهُ لِيَكْتُمَهُ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَذَكَرَ لَهُ أَنَّ صَاحِبَ الْحَدِيثِ حَدَّثَهُ بِمِثْلِ مَا حَدَّثَهُ بِهِ، فَأَظْهَرَ التَّعَجُّبَ، وَقَالَ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّهُ حَدَّثَ بِذَلِكَ غَيْرِي فَإِنَّ هَذَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ تَحْلِيفَهُ وَقَعَ عَلَى أَنَّهُ يَكْتُمُ أَنَّهُ حَدَّثَهُ وَقَدْ أَفْشَاهُ. وَفِيهِ أَنَّ الْأَبَ يَخْطُبُ إِلَيْهِ بِنْتَهُ الثَّيِّبَ كَمَا يَخْطُبُ إِلَيْهِ الْبِكْرَ، وَلَا تَخْطُبُ إِلَى نَفْسِهَا كَذَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، وَقَوْلُهُ: لَا تَخْطُبُ إِلَى نَفْسِهَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَفِيهِ أَنَّهُ يُزَوِّجُ بِنْتَهُ الثَّيِّبَ مِنْ غَيْرَ أَنْ يَسْتَأْمِرَهَا إِذَا عَلِمَ أَنَّهَا لَا تَكْرَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ الْخَاطِبُ كُفُوًا لَهَا، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثَ تَصْرِيحٌ بِالنَّفْيِ الْمَذْكُورِ إِلَّا أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ النَّسَائِيُّ إِنْكَاحُ الرَّجُلِ بِنْتَهُ الْكَبِيرَةَ، فَإِنْ أَرَادَ بِالرِّضَا لَمْ يُخَالِفِ الْقَوَاعِدَ، وَأَنْ أَرَادَ بِالْإِخْبَارِ فَقَدْ يَمْنَعُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ فِي قِصَّةِ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ هُنَا مَقْصُودَ التَّرْجَمَةِ؛ اسْتِغْنَاءً بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهَا: انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
34 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ} الْآيَةَ
إِلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ حَلِيمٌ} أَوْ أَكْنَنْتُمْ أَضْمَرْتُمْ وَكُلُّ شَيْءٍ صُنْتَهُ وَأَضْمَرْتَهُ فَهُوَ مَكْنُونٌ.
5124 -
وَقَالَ لِي طَلْقٌ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} يَقُولُ إِنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ وَلَوَدِدْتُ أَنَّهُ تَيَسَّرَ لِي امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ وَقَالَ الْقَاسِمُ يَقُولُ إِنَّكِ عَلَيَّ كَرِيمَةٌ وَإِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إِلَيْكِ خَيْرًا أَوْ نَحْوَ هَذَا وَقَالَ عَطَاءٌ يُعَرِّضُ وَلَا يَبُوحُ يَقُولُ إِنَّ لِي حَاجَةً وَأَبْشِرِي وَأَنْتِ بِحَمْدِ اللَّهِ نَافِقَةٌ وَتَقُولُ هِيَ قَدْ أَسْمَعُ مَا تَقُولُ وَلَا تَعِدُ شَيْئًا وَلَا يُوَاعِدُ وَلِيُّهَا بِغَيْرِ عِلْمِهَا وَإِنْ وَاعَدَتْ رَجُلًا فِي عِدَّتِهَا ثُمَّ نَكَحَهَا بَعْدُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَقَالَ الْحَسَنُ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا الزِّنَا وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ"
قوله: "باب قول الله عز وجل: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ}
الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ حَلِيمٌ} كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَحُذِفَ مَا بَعْدَ أَكْنَنْتُمْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَوَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ سِيَاقُ الْآيَةِ، وَالَّتِي بَعْدَهَا إِلَى قَوْلِهِ: أَجَلَهُ الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ أَرْبَعَةَ أَحْكَامٍ: اثْنَانِ مُبَاحَانِ التَّعْرِيضُ وَالْإِكْنَانُ، وَاثْنَانِ مَمْنُوعَانِ النِّكَاحُ فِي الْعِدَّةِ وَالْمُوَاعَدَةُ فِيهَا.
قَوْلُهُ: (أَضْمَرْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَكُلُّ شَيْءٍ صُنْتَهُ وَأَضْمَرْتَهُ فَهُوَ مَكْنُونٌ) كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَعِنْدَ أَبِي ذَرٍّ بَعْدَهُ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَالتَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ لِأَبِي عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ لِي طَلْقٌ) هُوَ ابْنُ غَنَّامٍ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا عَرَّضْتُمْ) أَيْ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: (يَقُولُ: إِنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ إِلَخْ) وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلتَّعْرِيضِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّعْرِيضُ أَنْ يَذْكُرَ الْمُتَكَلِّمِ شَيْئًا يَدُلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذَا التَّعْرِيفُ لَا يُخْرِجُ الْمَجَازَ، وَأَجَابَ سَعْدُ الدِّينِ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ التَّعْرِيفَ، ثُمَّ حَقَّقَ التَّعْرِيضَ بِأَنَّهُ ذِكْرُ شَيْءٍ مَقْصُودٍ بِلَفْظٍ حَقِيقِيٍّ أَوْ مَجَازِيٍّ أَوْ كِنَائِيٍّ لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكَلَامِ، مِثْلُ أَنْ يَذْكُرَ الْمَجِيءَ لِلتَّسْلِيمِ وَمُرَادُهُ التَّقَاضِي، فَالسَّلَامُ مَقْصُودُهُ وَالتَّقَاضِي عَرْضٌ، أَيْ أُمِيلَ إِلَيْهِ الْكَلَامُ عَنْ عَرْضٍ أَيْ جَانِبٍ. وَامْتَازَ عَنِ الْكِنَايَةِ فَلَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى جَمِيعِ أَقْسَامِهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ وَيَفْتَرِقَانِ، فَمَثَلُ جِئْتُ لِأُسَلِّمَ عَلَيْكَ كِنَايَةٌ وَتَعْرِيضٌ، وَمَثَلُ طَوِيلُ النِّجَادِ كِنَايَةٌ لَا تَعْرِيضٌ، وَمَثَلُ آذَيْتَنِي فَسَتَعْرِفُ خِطَابًا لِغَيْرِ الْمُؤْذِي تَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدِ الْمُؤْذِي لَا كِنَايَةٌ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَهُوَ تَحْقِيقٌ بَالِغٌ.
قَوْلُهُ: (وَلَوَدِدْتُ أَنَّهُ يُيَسَّرُ) بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ وَفَتْحِ أُخْرَى مِثْلِهَا بَعْدَهَا وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يُسِرُّ بِتَحْتَانِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، وَهَكَذَا اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَوْقُوفِ.
وَفِي الْبَابِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَرْفُوعٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَفِي لَفْظٍ: لَا تُفَوِّتِينَا بِنَفْسِكِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحُكْمِ مَنْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ، وَكَذَا مَنْ وَقَفَ نِكَاحُهَا، وَأَمَّا الرَّجْعِيَّةُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُعَرِّضَ لَهَا بِالْخِطْبَةِ فِيهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّسْرِيحَ بِالْخِطْبَةِ حَرَامٌ لِجَمِيعِ الْمُعْتَدَّاتِ، وَالتَّعْرِيضُ مُبَاحٌ لِلْأُولَى، حَرَامٌ فِي الْأَخِيرَةِ، مُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي الْبَائِنِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْقَاسِمُ) يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ: (إِنَّكِ عَلَيَّ كَرِيمَةٌ) أَيْ يَقُولُ ذَلِكَ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ آخَرُ لِلتَّعْرِيضِ، وَكُلُّهَا أَمْثِلَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِهِ أَوْ نَحْوُ وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل:{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلْمَرْأَةِ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا: إِنَّك إِلَى آخِرِهِ. وَقَوْلُهُ فِي الْأَمْثِلَةِ: إِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَصْرِيحَهُ بِالرَّغْبَةِ فِيهَا لَا يَمْتَنِعُ، وَلَا يَكُونُ صَرِيحًا فِي خِطْبَتِهَا حَتَّى يُصَرِّحَ بِمُتَعَلِّقِ الرَّغْبَةِ، كَأَنْ يَقُولُ: إِنِّي فِي نِكَاحِكِ لَرَاغِبٌ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ التَّعْرِيضِ؛ أَعْنِي مَا ذَكَرَهُ الْقَاسِمُ، وَأَمَّا مَا مَثَّلْتُ بِهِ فَحَكَى الرُّويَانِيُّ فِيهِ وَجْهًا، وَعَبَّرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ بِقَوْلِهِ: رُبَّ رَاغِبٍ فِيكِ، فَأَوْهَمَ أَنَّهُ لَا يُصَرِّحُ بِالرَّغْبَةِ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ مِنْ صُوَرِ التَّصْرِيحِ: لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ فَإِنِّي نَاكِحُكِ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ فَإِنِّي نَاكِحُكِ فَهُوَ مِنْ صُوَرِ التَّعْرِيضِ؛ لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ كَمَا بَيَّنْتُهُ قَرِيبًا. وَقَدْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ مِنْ صُوَرِ التَّصْرِيحِ لَا تُفَوِّتِي عَلَيَّ نَفْسَكِ، وَتَعَقَّبُوهُ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْغَسِيلِ عَنْ عَمَّتِهِ سُكَيْنَةَ قَالَتِ: اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ، أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتِي مِنْ مَهْلِكِ زَوْجِي فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتِ قَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ عَلِيٍّ، وَمَوْضِعِي فِي الْعَرَبِ فَقُلْتُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا جَعْفَرٍ، أَنْتَ رَجُلٌ يُؤْخَذُ عَنْكَ تَخْطُبُنِي فِي عِدَّتِي؟ قَالَ: إِنَّمَا أَخْبَرْتُكِ بِقَرَابَتِي مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ عَلِيٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ: يُعَرِّضُ وَلَا يَبُوحُ)؛ أَيْ لَا يُصَرِّحُ (يَقُولُ: إِنَّ لِي حَاجَةٌ وَأَبْشِرِي).
قَوْلُهُ: (نَافِقَةٌ) بِنُونٍ وَفَاءٍ وَقَافٍ؛ أَيْ رَائِجَةٌ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالْجِيمِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا تُعِدْ شَيْئًا) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَأَثَرُ عَطَاءٍ هَذَا وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ مُفَرَّقًا، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: كَيْفَ يَقُولُ الْخَاطِبُ؟ قَالَ: يُعَرِّضُ تَعْرِيضًا وَلَا يَبُوحُ بِشَيْءٍ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَا تُعِدْ شَيْئًا.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ وَاعَدَتْ رَجُلًا فِي عِدَّتِهَا ثُمَّ نَكَحَهَا)؛ أَيْ تَزَوَّجَهَا (بَعْدُ)؛ أَيْ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ (لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا)؛ أَيْ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ وَإِنْ وَقَعَ الْإِثْمُ. وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَقِبَ أَثَرِ عَطَاءٍ قَالَ: وَبَلَغَنِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَيْرٌ لَكَ أَنْ تُفَارِقَهَا. وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ صَرَّحَ بِالْخِطْبَةِ فِي الْعِدَّةِ لَكِنْ لَمْ يَعْقِدْ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَائِهَا فَقَالَ مَالِكٌ: يُفَارِقُهَا دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: صَحَّ الْعَقْدُ، وَإِنِ ارْتَكَبَ النَّهْي بِالتَّصْرِيحِ الْمَذْكُورِ لِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: عِلَّةُ الْمَنْعِ مِنَ التَّصْرِيحِ فِي الْعِدَّةِ أَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إِلَى الْمُوَافَقَةِ فِي الْعِدَّةِ الَّتِي هِيَ مَحْبُوسَةٌ فِيهَا عَلَى مَاءِ الْمَيِّتِ أَوِ الْمُطْلِقِ اهـ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ لِمَنْعِ الْعَقْدِ لَا لِمُجَرَّدِ التَّصْرِيحِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: التَّصْرِيحُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الْوِقَاعِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا لَوْ وَقَعَ الْعَقْدُ فِي الْعِدَّةِ وَدَخَلَ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا بَعْدُ. وَقَالَ الْبَاقُونَ: بَلْ يَحِلُّ لَهُ إِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِذَا شَاءَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا الزِّنَا) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ عَنْهُ بِلَفْظِهِ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هُوَ الْفَاحِشَةُ. قَالَ قَتَادَةُ قَوْلُهُ: سِرًّا أَيْ لَا تَأْخُذُ عَهْدَهَا فِي عِدَّتِهَا أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ غَيْرُهُ. وَأَخْرَجَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ وَقَالَ: هَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ مَنْ فَسَّرَهُ بِالزِّنَا؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْكَلَامِ وَمَا بَعْدَهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يُسَمَّى الْجِمَاعُ سِرًّا، فَلِذَلِكَ يجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْعَقْدِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُوَاعَدَةَ عَلَى ذَلِكَ تَزِيدُ عَلَى التَّعْرِيضِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَاسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ فِي الْقَذْفِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ خِطْبَةَ الْمُعْتَدَّةِ حَرَامٌ، وَفَرَّقَ فِيهَا بَيْنَ التَّصْرِيحِ وَالتَّعْرِيضِ فَمُنِعَ التَّصْرِيحُ وَأُجِيزَ التَّعْرِيضُ، مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مَفْهُومٌ مِنْهُمَا، فَكَذَلِكَ يفَرَّقُ فِي إِيجَابِ حَدِّ الْقَذْفِ بَيْنَ التَّصْرِيحِ وَالتَّعْرِيضِ.
وَاعْتَرَضَ ابْنُ بَطَّالٍ فَقَالَ: يَلْزَمُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى هَذَا أَنْ يَقُولُوا بِإِبَاحَةِ التَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ، وَهَذَا لَيْسَ بِلَازِمٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ التَّعْرِيضَ دُونَ التَّصْرِيحِ فِي الْإِفْهَامِ فَلَا يَلْتَحِقُ بِهِ فِي إِيجَابِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ لِلَّذِي يُعَرِّضُ أَنْ يَقُولَ لَمْ أُرِدِ الْقَذْفَ بِخِلَافِ الْمُصَرِّحِ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} يَقُولُ: حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ
35 - بَاب النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ
5125 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ يَجِيءُ بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَقَالَ لِي: هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوْبَ، فَإِذَا أَنْتِ هِيَ، فَقُلْتُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ.
5126 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ لِأَهَبَ لَكَ نَفْسِي فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ فَلَمَّا رَأَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَيْ رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا فَقَالَ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا قَالَ انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي قَالَ سَهْلٌ مَا لَهُ رِدَاءٌ فَلَهَا نِصْفُهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى طَالَ مَجْلِسُهُ ثُمَّ قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُوَلِّيًا فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ مَاذَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا عَدَّدَهَا قَالَ أَتَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قَوْلُهُ: (بَابُ النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ) اسْتَنْبَطَ الْبُخَارِيُّ جَوَازَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثَيِ الْبَابِ؛ لِكَوْنِ التَّصْرِيحُ الْوَارِدُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ، أَصَحُّهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ رَجُلٌ: إِنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْظَرْتَ إِلَيْهَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَاذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ.
وَفِي لَفْظٍ لَهُ صَحِيحٍ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَذَكَرَهُ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ شَيْئًا فَقِيلَ: عَمَشٌ وَقِيلَ: صِغَرٌ. قُلْتُ: الثَّانِي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ فِي مُسْتَخْرَجِهِ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَهَذَا الرَّجُلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُغِيرَةُ، فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ أَنَّهُ: خَطَبَ امْرَأَةً فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: انْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَدُومَ بَيْنَكُمَا وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ حَدِيثَيْنِ: الْأَوَّلُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ: (أُرِيتُكِ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ (فِي الْمَنَامِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ مَرَّتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (يَجِيءُ بِكِ الْمَلَكُ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ إِذَا رَجُلٌ يَحْمِلُكِ فَكَأَنَّ الْمَلَكَ تَمَثَّلَ لَهُ حِينَئِذٍ رَجُلًا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عَائِشَةَ: جَاءَ بِي جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ) السَّرَقَةُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ وَالْقَافِ هِيَ الْقِطْعَةُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ: فِي خِرْقَةٍ حَرِيرٍ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: السَّرَقَةُ الثَّوْبُ، فَإِنْ أَرَادَ تَفْسِيرَهُ هُنَا فَصَحِيحٌ، وَإِلَّا فَالسَّرَقَةُ أَعَمُّ. وَأَغْرَبَ الْمُهَلَّبُ فَقَالَ: السَّرَقَةُ كَالْكَلَّةِ أَوْ كَالْبُرْقُعِ. وَعِنْدَ الْآجُرِّيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ: لَقَدْ نَزَلَ جِبْرِيلُ بِصُورَتِي فِي رَاحَتِهِ حِينَ أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَزَوَّجَنِي، وَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ صُورَتَهَا كَانَتْ فِي الْخِرْقَةِ وَالْخِرْقَةُ فِي رَاحَتِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ بِالْكَيْفِيَّتَيْنِ لِقَوْلِهَا فِي نَفْسِ الْخَبَرِ: نَزَلَ مَرَّتَيْنِ قَوْلُهُ: (فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهكِ الثَّوْبَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ فَأَكْشِفُهَا فَعَبَّرَ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ؛ اسْتِحْضَارًا لِصُورَةِ
الْحَالِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَأَى مِنْهَا مَا يَجُوزُ لِلْخَاطِبِ أَنْ يَرَاهُ، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي أَكْشِفُهَا لِلسَّرَقَةِ؛ أَيْ أَكْشِفُهَا عَنِ الْوَجْهِ، وَكَأَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، وَأَنَّ عِصْمَتَهُمْ فِي الْمَنَامِ كَالْيَقَظَةِ، وَسَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا. وَقَالَ أَيْضًا: فِي الِاحْتِجَاجِ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ إِذْ ذَاكَ فِي سِنِّ الطُّفُولِيَّةِ فَلَا عَوْرَةَ فِيهَا الْبَتَّةَ، وَلَكِنْ يُسْتَأْنَسُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ فِي أَنَّ النَّظَرَ إِلَى الْمَرْأَةِ قَبْلَ الْعَقْدِ فِيهِ مَصْلَحَةٌ تَرْجِعُ إِلَى الْعَقْدِ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا أَنْتِ هِيَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَإِذَا هيَ أَنْتِ، وَكَذَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ.
قَوْلُهُ: (يُمْضِهِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، قَالَ عِيَاضٌ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا فَفِيهِ ثَلَاثُ احْتِمَالَاتٍ: أَحَدُهَا التَّرَدُّدُ هَلْ هِيَ زَوْجَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْ فِي الْآخِرَةِ فَقَطْ، ثَانِيهَا أَنَّهُ لَفْظُ شَكٍّ، لَا يُرَادُ بِهِ ظَاهِرُهُ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّحَقُّقِ، وَيُسَمَّى فِي الْبَلَاغَةِ مَزْجُ الشَّكِّ بِالْيَقِينِ، ثَالِثُهَا: وَجْهُ التَّرَدُّدِ هَلْ هِيَ رُؤْيَا وَحْيٍ عَلَى ظَاهِرِهَا وَحَقِيقَتِهَا، أَوْ هِيَ رُؤْيَا وَحْيٍ لَهَا تَعْبِيرٌ؟ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ جَائِزٌ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ. قُلْتُ: الْأَخِيرُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَبِهِ جَزَمَ السُّهَيْلِيُّ، عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَتَفْسِيرُهُ بِاحْتِمَالِ غَيْرِهَا لَا أَرْضَاهُ، وَالْأَوَّلُ يَرُدُّهُ أَنَّ السِّيَاقَ يَقْتَضِي أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ وُجِدَتْ فَإِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: فَإِذَا هِيَ أَنْتِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ كَانَ قَدْ رَآهَا وَعَرَفَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهَا وُلِدَتْ بَعْدَ الْبَعْثَةِ. وَيَرُدُّ أَوَّلَ الِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثِ رِوَايَةُ ابْنِ حِبَّانَ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْبَابِ: هِيَ زَوْجَتُكُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالثَّانِي بَعِيدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ سَهْلٍ فِي قِصَّةِ الْوَاهِبَةِ، وَالشَّاهِدُ مِنْهُ لِلتَّرْجَمَةِ قَوْلُهُ فِيهِ: فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي بَابِ التَّزْوِيجِ عَلَى الْقُرْآنِ وَبِغَيْرِ صَدَاقٍ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ كُلَّهُ، كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ السَّرَخْسِيِّ، وَسَاقَ الْبَاقُونَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، قَالَ الْجُمْهُورُ: لَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ الْخَاطِبُ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ. قَالُوا: وَلَا يَنْظُرُ إِلَى غَيْرِ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَجْتَهِدُ وَيَنْظُرُ إِلَى مَا يُرِيدُ مِنْهَا إِلَّا الْعَوْرَةَ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ. يَنْظُرُ إِلَى مَا أَقْبَلَ وَمَا أَدْبَرَ مِنْهَا. وَعَنْ أَحْمَدَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: الْأُولَى كَالْجُمْهُورِ، وَالثَّانِيَةُ: يَنْظُرُ إِلَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا، وَالثَّالِثَةُ: يَنْظُرُ إِلَيْهَا مُتَجَرِّدَةً، وَقَالَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا: يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا إِذَا أَرَادَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِهَا. وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةُ يُشْتَرَطُ إِذْنُهَا. وَنَقَلَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ قَبْلَ الْعَقْدِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ أَجْنَبِيَّةٌ، وَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ.
36 - بَاب مَنْ قَالَ: لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} فَدَخَلَ فِيهِ الثَّيِّبُ، وَكَذَلِكَ الْبِكْرُ
وَقَالَ: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وَقَالَ: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ}
5127 -
حدثنا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، ح وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ، يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ أَوْ ابْنَتَهُ فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا. وَنِكَاحٌ آخَرُ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا: أَرْسِلِي إِلَى فُلَانٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلَا يَمَسُّهَا أَبَدًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا
زَوْجُهَا إِذَا أَحَبَّ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ. وَنِكَاحٌ آخَرُ يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ، فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا، فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ وَمَرَّ عَلَيْهَا لَيَالٍ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا، تَقُولُ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمْ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ، وَقَدْ وَلَدْتُ، فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلَانُ، تُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ، فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِهِ الرَّجُلُ.
وَنِكَاحُ الرَّابِعِ: يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا تمْنعُ منْ جَاءَهَا، وَهُنَّ الْبَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا، فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا جُمِعُوا لَهَا، وَدَعَوْا لَهُمْ الْقَافَةَ، ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِي يَرَوْنَ، فَالْتَاطَته بِهِ، وَدُعِيَ ابْنَهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ هَدَمَ نِكَاحَ الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ، إِلَّا نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ.
5128 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قَالَتْ هَذَا فِي الْيَتِيمَةِ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لَعَلَّهَا أَنْ تَكُونَ شَرِيكَتَهُ فِي مَالِهِ وَهُوَ أَوْلَى بِهَا فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَنْكِحَهَا فَيَعْضُلَهَا لِمَالِهَا وَلَا يُنْكِحَهَا غَيْرَهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَشْرَكَهُ أَحَدٌ فِي مَالِهَا"
5129 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ ابْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ عُمَرُ لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ فَقَالَ سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ لَقِيَنِي فَقَالَ بَدَا لِي أَنْ لَا أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا قَالَ عُمَرُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ"
5130 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ قَالَ حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ قَالَ زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا فَقُلْتُ لَهُ زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ فَطَلَّقْتَهَا ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا لَا وَاللَّهِ لَا تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا وَكَانَ رَجُلًا لَا بَأْسَ بِهِ وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} فَقُلْتُ الْآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ"
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ قَالَ: لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ) اسْتَنْبَطَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْحُكْمَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي سَاقَهَا؛
لِكَوْنِ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ عَلَى غَيْرِ شَرْطِهِ، وَالْمَشْهُورُ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا بِلَفْظِهِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، لَكِنْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِيهِ: وَأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ وَصَلَهُ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَرْسَلَهُ شُعْبَةَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ لَيْسَ فِيهِ أَبُو مُوسَى رِوَايَةٌ، وَمَنْ رَوَاهُ مَوْصُولًا أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوهُ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَشُعْبَةُ، وَسُفْيَانُ وَإِنْ كَانَا أَحْفَظَ وَأَثْبَتَ مِنْ جَمِيعِ مَنْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ لَكِنَّهُمَا سَمِعَاهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ يَسْأَلُ أَبَا إِسْحَاقَ: أَسَمِعْتَ أَبَا بُرْدَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: وَإِسْرَائِيلُ ثَبَتَ فِي أَبِي إِسْحَاقَ.
ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ: مَا فَاتَنِي الَّذِي فَاتَنِي مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ إِلَّا لِمَا اتَّكَلْتُ بِهِ عَلَى إِسْرَائِيلَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْتِي بِهِ أَتَمَّ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ: إِسْرَائِيلُ فِي أَبِي إِسْحَاقَ أَثْبَتُ مِنْ شُعْبَةَ، وَسُفْيَانَ. وَأَسْنَدَ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، وَالذُّهْلِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ صَحَّحُوا حَدِيثَ إِسْرَائِيلَ. وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا ذَكَرْتُهُ عَرَفَ أَنَّ الَّذِينَ صَحَّحُوا وَصْلَهُ لَمْ يَسْتَنِدُوا فِي ذَلِكَ إِلَى كَوْنِهِ زِيَادَةَ ثِقَةٍ فَقَطْ، بَلْ لِلْقَرَائِنِ الْمَذْكُورَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَرْجِيحِ رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي وَصَلَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَسَأُشِيرُ إِلَى بَقِيَّةِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ. عَلَى أَنَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ فِي مَنْعِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ نَظَرًا؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ: فَمَنْ قَدَّرَهُ نَفْيَ الصِّحَّةِ اسْتَقَامَ لَهُ، وَمَنْ قَدَّرَهُ نَفْيَ الْكَمَالِ عَكَّرَ عَلَيْهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْيِيدِ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ بِالْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ وَمَا بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} ؛ أَيْ لَا تَمْنَعُوهُنَّ. وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ مَعْقِلٍ آخِرِ أَحَادِيثِ الْبَابِ بَيَانُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ مِنْهَا لِلتَّرْجَمَةِ.
قَوْلُهُ: (فَدَخَلَ فِيهِ الثَّيِّبُ وَكَذَلِكَ الْبِكْرُ) ثَبَتَ هَذَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَعَلَيْهِ شَرْحُ ابْنِ بَطَّالٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِعُمُومِ لَفْظِ النِّسَاءِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ مِنَ الْآيَةِ وَالَّتِي بَعْدَهَا أَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ بِإِنْكَاحِ الرِّجَالِ وَلَمْ يُخَاطِبْ بِهِ النِّسَاءِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تُنْكِحُوا أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ مَوْلَيَاتِكُمْ لِلْمُشْرِكِينَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} ، وَالْأَيَامَى: جَمْعُ أَيِّمٍ، وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ:
الْأَوَّلُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ، ذَكَرَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، وَمِنْ طَرِيقِ عَنْبَسَةَ بْنِ خَالِدٍ جَمِيعًا عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، الزُّهْرِيِّ، وَقَوْلُهُ: وَقَالَ: يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ هُوَ الْجُعْفِيُّ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى لَفْظِ عَنْبَسَةَ. وَأَمَّا لَفْظُ ابْنِ وَهْبٍ فَلَمْ أَرَهُ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ إِلَى الْآنَ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَصْبَغَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ.
قَوْلُهُ: (عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ) جَمْعُ نَحْوٍ؛ أَيْ ضَرْبٍ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَيُطْلَقُ النَّحْوُ أَيْضًا عَلَى الْجِهَةِ وَالنَّوْعِ، وَعَلَى الْعِلْمِ الْمَعْرُوفِ اصْطِلَاحًا.
قَوْلُهُ: (أَرْبَعَةُ) قَالَ الدَّاوُدِيُّ وَغَيْرُهُ: بَقِيَ عَلَيْهَا أَنْحَاءٌ لَمْ تَذْكُرْهَا: الْأَوَّلُ نِكَاحُ الْخِدْنِ، وَهُوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} كَانُوا يَقُولُونَ: مَا اسْتَتَرَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَمَا ظَهَرَ فَهُوَ لَوْمٌ. الثَّانِي: نِكَاحُ الْمُتْعَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. الثَّالِثُ: نِكَاحُ الْبَدَلِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَانَ الْبَدَلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: انْزِلْ لِي عَنِ امْرَأَتِكَ وَأَنْزِلُ لَكَ عَنِ امْرَأَتِي وَأَزِيدُكَ وَلَكِنْ إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا. قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ لَا يُرَدُّ لِأَنَّهَا أَرَادَتْ ذِكْرَ بَيَانِ نِكَاحِ مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا، أَوْ مَنْ أَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا فِي ذَلِكَ، وَالثَّانِي: يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُرَدَّ؛ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْهُ كَوْنُهُ مُقَدَّرًا بِوَقْتٍ
لَا أَنَّ عَدَمَ الْوَلِيِّ فِيهِ شَرْطٌ، وَعَدَمُ وُرُودِ الثَّالِثِ أَظْهَرُ مِنَ الْجَمِيعِ.
قَوْلُهُ: (وَلِيَّتَهُ أَوِ ابْنَتَهُ) هُوَ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ.
قَوْلُهُ: (فَيُصْدِقُهَا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (ثُمَّ يَنْكِحُهَا)؛ أَيْ يُعَيِّنُ صَدَاقَهَا، وَيُسَمِّي مِقْدَارَهُ ثُمَّ يَعْقِدُ عَلَيْهَا.
قَوْلُهُ: (وَنِكَاحُ الْآخَرِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِالْإِضَاقَةِ؛ أَيْ وَنِكَاحُ الْصَنف الْآخَرِ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ لِنَفْسِهِ عَلَى رَأْي الْكُوفِيِّينَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبَاقِينَ وَنِكَاحٌ آخَرُ بِالتَّنْوِينِ بِغَيْرِ لَامٍ وَهُوَ الْأَشْهَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
قَوْلُهُ: (إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ؛ أَيْ حَيْضِهَا، وَكَأَنَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُسْرِعَ عُلُوقُهَا مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ) بِمُوَحَّدَةٍ بَعْدَهَا ضَادٌ مُعْجَمَةٌ؛ أَيِ اطْلُبِي مِنْهُ الْمُبَاضَعَةَ وَهُوَ الْجِمَاعُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَصْبَغَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ: اسْتَرْضِعِي بِرَاءٍ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ. قَالَ رَاوِيَةُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيِّ: الْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ يَعْنِي بِالْمُوَحَّدَةِ، وَالْمَعْنَى: اطْلُبِي مِنْهُ الْجِمَاعَ لِتَحْمِلِي مِنْهُ، وَالْمُبَاضَعَةُ الْمُجَامَعَةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْبُضْعِ وَهُوَ الْفَرْجُ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ): أَيِ اكْتِسَابًا مِنْ مَاءِ الْفَحْلِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ ذَلِكَ مِنْ أَكَابِرِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ فِي الشَّجَاعَةِ أَوِ الْكَرَمِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ) بِالنَّصْبِ، وَالتَّقْدِيرُ يُسَمَّى، وَبِالرَّفْعِ أَيْ هُوَ.
قَوْلُهُ: (وَنِكَاحٌ آخَرُ يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الرَّهْطِ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا النِّكَاحُ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ ضَبْطِ الْعَدَدِ الزَّائِدِ؛ لِئَلَّا يَنْتَشِرَ.
قَوْلُهُ: (كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا) أَيْ يَطَؤُهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ رِضًا مِنْهَا وَتَوَاطُؤٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا.
قَوْلُهُ: (وَمَرَّ لَيَالٍ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: وَمَرَّ عَلَيْهَا لَيَالٍ.
قَوْلُهُ: (قَدْ عَرَفْتُمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ عَرَفْتَ عَلَى خِطَابِ الْوَاحِدِ.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ وَلَدْتُ) بِالضَّمِّ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُهَا.
قَوْلُهُ: (فَهُوَ ابْنُكَ)؛ أَيْ إِنْ كَانَ ذَكَرًا، فَلَوْ كَانَتْ أُنْثَى لَقَالَتْ: هِيَ ابْنَتُكَ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ ذَكَرًا لِمَا عُرِفَ مِنْ كَرَاهَتِهِمْ فِي الْبِنْتِ، وَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَقْتُلُ بِنْتَهُ الَّتِي يَتَحَقَّقُ أَنَّهَا بِنْتٌ فَضْلًا عَمَّنْ تَجِيءُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.
قَوْلُهُ: (فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ فَيَلْتَحَقُ بِزِيَادَةِ مُثَنَّاةٍ.
قَوْلُهُ: (لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَنِكَاحُ الرَّابِعِ) تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ.
قَوْلُهُ: (لَا تَمْنَعُ مَنْ جَاءَهَا)، وَلِلْأَكْثَرِ لَا تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا.
قَوْلُهُ: (وَهُنَّ الْبَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا) بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ عَلَامَةً. وَأَخْرَجَ الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: تَبَرَّزَ عُمَرُ بِأَجْيَادَ، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَأَتَتْهُ أُمُّ مَهْزُولٍ - وَهِيَ مِنَ الْبَغَايَا التِّسْعِ اللَّاتِي كُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ - فَقَالَتْ: هَذَا مَاءٌ وَلَكِنَّهُ فِي إِنَاءٍ لَمْ يُدْبَغْ، فَقَالَ: هَلُمَّ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْمَاءَ طَهُورًا، وَمِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ يُقَالُ لَهَا أُمُّ مَهْزُولٍ تُسَافِحُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَرَادَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَنَزَلَتْ:{الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} ، وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هُنَّ بَغَايَا، كُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَعْلُومَاتٍ لَهُنَّ رَايَاتٌ يُعْرَفْنَ بِهَا، وَمِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلُهُ، وَزَادَ كَرَايَاتِ الْبَيْطَارِ، وَقَدْ سَاقَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ فِي كِتَابِ الْمَثَالِبِ أَسَامِيَ صَوَاحِبَاتِ الرَّايَاتِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَسَمَّى مِنْهُنَّ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ نِسْوَةٍ مَشْهُورَاتٍ تَرَكْتُ ذِكْرَهُنَّ اخْتِيَارًا.
قَوْلُهُ: (لِمَنْ أَرَادَهُنَّ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِ: فَمَنْ أَرَادَهُنَّ.
قَوْلُهُ: (الْقَافَةُ) جَمْعُ قَائِفٍ بِقَافٍ ثُمَّ فَاءٍ، وَهُوَ الَّذِي يَعْرِفُ شَبَهَ الْوَلَدِ بِالْوَالِدِ بِالْآثَارِ الْخَفِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (فَالْتَاطَتْهُ)، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَالْتَاطَ بِغَيْرِ مُثَنَّاةٍ أَيِ اسْتَلْحَقَتْهُ بِهِ، وَأَصْلُ اللَّوْطِ بِفَتْحِ اللَّامِ اللُّصُوقُ.
قَوْلُهُ: (هَدَمَ نِكَاحُ الْجَاهِلِيَّةِ) فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ: نِكَاحُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (كُلَّهُ) دَخَلَ فِيهِ مَا ذَكَرْتُ وَمَا اسْتَدْرَكَ عَلَيْهَا.
قَوْلُهُ: (إِلَّا نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ) أَيِ الَّذِي بَدَأْتُ بِذِكْرِهِ، وَهُوَ أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فَيُزَوِّجَهُ. احْتَجَّ بِهَذَا عَلَى
اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ عَائِشَةَ وَهِيَ الَّتِي رَوَتْ هَذَا الْحَدِيثَ كَانَتْ تُجِيزُ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، كَمَا رَوَى مَالِكٌ أَنَّهَا زَوَّجَتْ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخِيهَا وَهُوَ غَائِبٌ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: مِثْلِي يُفْتَاتُ عَلَيْهِ فِي بَنَاتِهِ؟ وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ فِي الْخَبَرِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا بَاشَرَتِ الْعَقْدَ، فَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْبِنْتُ الْمَذْكُورَةُ ثَيِّبًا، وَدَعَتْ إِلَى كُفْءٍ، وَأَبُوهَا غَائِبٌ فَانْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ إِلَى الْوَلِيِّ الْأَبْعَدِ أَوْ إِلَى السُّلْطَانِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا: أَنْكَحَتْ رَجُلًا مِنْ بَنِي أَخِيهَا فَضَرَبَتْ بَيْنَهُمْ بِسِتْرٍ، ثُمَّ تَكَلَّمَتْ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعَقْدُ أَمَرَتْ رَجُلًا فَأَنْكَحَ، ثُمَّ قَالَتْ: لَيْسَ إِلَى النِّسَاءِ نِكَاحٌ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ مُوسَى، أَوِ ابْنُ جَعْفَرٍ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ عَنْ عَائِشَةَ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ اعْتِبَارُ الْوَلِيِّ فِي الْجُمْلَةِ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ حَدِيثُ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عَمْرٍو) وَهُوَ النَّيْسَابُورِيُّ، قَاضِيهَا يُكَنَّى أَبَا عَلِيٍّ، وَاسْمُ أَبِي عَمْرٍو حَفْصُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَاشِدٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ) هُوَ ابْنُ طَهْمَانَ: وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ، وَالْحَسَنُ هُوَ الْبَصْرِيُّ.
قَوْلُهُ: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} أَيْ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَلِيِّ النِّكَاحِ أَنْ يُضَارَّ وَلِيَّتَهُ فَيَمْنَعَهَا مِنَ النِّكَاحِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ)، هَذَا صَرِيحٌ فِي رَفْعِ هَذَا الْحَدِيثِ وَوَصْلِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ مُعَلَّقًا لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، وَمَوْصُولًا أَيْضًا لِعَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَبِصُورَةِ الْإِرْسَالِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ يُونُسَ، وَقَوِيَتْ رِوَايَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ بِوَصْلِهِ بِمُتَابَعَةِ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ عَلَى تَصْرِيحِ الْحَسَنِ بِقَوْلِهِ: حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ.
قَوْلُهُ: (زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي)، اسْمُهَا جُمَيْلٌ بِالْجِيمِ مُصَغَّرٌ بِنْتُ يَسَارٍ، وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ مَاكُولَا، وَسَمَّاهَا ابْنُ فَتْحُونَ كَذَلِكَ لَكِنْ بِغَيْرِ تَصْغِيرٍ وَسَيَأْتِي مُسْتَنَدُهُ، وَقِيلَ: اسْمُهَا لَيْلَى حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ فِي مُبْهَمَاتِ الْقُرْآنِ وَتَبِعَهُ الْبَدْرِيُّ، وَقِيلَ: فَاطِمَةُ وَقَعَ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَيَحْتَمِلُ التَّعَدُّدُ بِأَنْ يَكُونَ لَهَا اسْمَانِ وَلَقَبٌ أَوْ لَقَبَانِ وَاسْمٌ.
قَوْلُهُ: (مِنْ رَجُلٍ) قِيلَ: هُوَ أَبُو الْبَدَّاحِ بْنُ عَاصِمٍ الْأَنْصَارِيُّ، هَكَذَا وَقَعَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِإِسْمَاعِيلي الْقَاضِي مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْقِلٍ أَنَّ جُمَيْلَ بِنْتَ يَسَارٍ أُخْتَ مَعْقِلٍ، كَانَتْ تَحْتَ أَبِي الْبَدَّاحِ بْنِ عَاصِمٍ فَطَلَّقَهَا فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا. فَخَطَبَهَا، وَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو مُوسَى فِي ذَيْلِ الصَّحَابَةِ، وَذَكَرَهُ أَيْضًا الثَّعْلَبِيُّ وَلَفْظُهُ: نَزَلَتْ فِي جُمَيْلَةَ بِنْتِ يَسَارٍ أُخْتِ مَعْقِلٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِي الْبَدَّاحِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْعَجْلَانِ، وَاسْتَشْكَلَهُ الذُّهْلِيُّ بِأَنَّ الْبَدَّاحَ تَابِعِيٌّ عَلَى الصَّوَابِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَحَابِيًّا آخَرَ. وَجَزَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّهُ الْبَدَّاحُ بْنُ عَاصِمٍ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَمْرٍو، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَهُوَ أَخُو الْبَدَّاحِ التَّابِعِيِّ. وَوَقَعَ لَنَا فِي كِتَابِ الْمَجَازِ لِلشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ اسْمَ زَوْجِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الْبَزَّارِ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ: فَأَتَانِي ابْنُ عَمٍّ لِي فَخَطَبَهَا مَعَ الْخُطَّابِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ مُزَنِيٌّ، وَأَبُو الْبَدَّاحِ أَنْصَارِيٌّ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ ابْنُ عَمِّهِ لِأُمِّهِ أَوْ مِنَ الرَّضَاعَةِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا) فِي رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ: فَاصْطَحَبَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا طَلَاقًا لَهُ رَجْعَةٌ، ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَخَطَبَهَا.
قَوْلُهُ: (فَجَاءَ يَخْطُبُهَا) أَيْ مِنْ وَلِيِّهَا وَهُوَ أَخُوهَا، كَمَا قَالَ أَوَّلًا: زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ.
قَوْلُهُ: (وَأَفْرَشْتُكَ)؛ أَيْ جَعَلْتُهَا لَكَ فِرَاشًا، فِي رِوَايَةِ الثَّعْلَبِيِّ: وَأَفْرَشْتُكَ كَرِيمَتِي وَآثَرْتُكَ بِهَا عَلَى قَوْمِي. وَهَذَا مِمَّا يُبْعِدُ أَنَّهُ ابْنُ عَمِّهِ.
قَوْلُهُ: (لَا وَاللَّهِ لَا تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا) فِي رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ: لَا أُزَوِّجُكَ أَبَدًا، زَادَ الثَّعْلَبِيُّ وَحَمْزَةُ آنَفَا وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالنُّونِ وَالْفَاءِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ رَجُلًا لَا بَأْسَ
بِهِ)، فِي رِوَايَةِ الثَّعْلَبِيِّ: وَكَانَ رَجُلَ صِدْقٍ قَالَ ابْنُ التِّينِ: أَيْ كَانَ جَيِّدًا. وَهَذَا مِمَّا غَيَّرَتْهُ الْعَامَّةُ فَكَنَّوْا بِهِ عَمَّنْ لَا خَيْرَ فِيهِ كَذَا قَالَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ عِنْدَ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ قَالَ الْحَسَنُ: عَلِمَ اللَّهُ حَاجَةَ الرَّجُلِ إِلَى امْرَأَتِهِ، وَحَاجَةَ الْمَرْأَةِ إِلَى زَوْجِهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} هَذَا صَرِيحٌ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ كَوْنُ ظَاهِرِ الْخِطَابِ فِي السِّيَاقِ لِلْأَزْوَاجِ حَيْثُ وَقَعَ فِيهَا:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} لَكِنَّ قَوْلَهُ فِي بَقِيَّتِهَا: {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْعَضْلَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَوْلِيَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي التَّفْسِيرِ بَيَانُ الْعَضْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْأَوْلِيَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} فَيُسْتَدَلُّ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: الْآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ)؛ أَيْ أَعَادَهَا إِلَيْهِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ: فَقُلْتُ: الْآنَ أَقْبَلُ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ مِنْ طَرِيقِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ: فَسَمِعَ ذَلِكَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ فَقَالَ: سَمْعًا لِرَبِّي وَطَاعَةً، فَدَعَا زَوْجَهَا فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ. وَمِنْ رِوَايَةِ الثَّعْلَبِيِّ: فَإِنِّي أُومِنُ بِاللَّهِ فَأَنْكَحَهَا إِيَّاهُ، وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَفِي رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ فَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: ثُمَّ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَعَنِ السُّدِّيِّ: نَزَلَتْ فِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ زَوْجِ بِنْتِ عَمِّهِ، فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا تَطْلِيقَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ أَرَادَ تَزْوِيجَهَا، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُهُ فَأَبَى جَابِرٌ، فَنَزَلَتْ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اخْتَلَفُوا فِي الْوَلِيِّ فَقَالَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ: الْأَوْلِيَاءُ فِي النِّكَاحِ هُمُ الْعَصَبَةُ، وَلَيْسَ لِلْخَالِ وَلَا وَالِدِ الْأُمِّ وَلَا الْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ وِلَايَةٌ. وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ هُمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَاحْتَجَّ الْأَبْهَرِيُّ بِأَنَّ الَّذِي يَرِثُ الْوَلَاءَ هُمُ الْعَصَبَةُ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ قَالَ: فَذَلِكَ عُقْدَةُ النِّكَاحِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا مَاتَ الْأَبُ فَأَوْصَى رَجُلًا عَلَى أَوْلَادِهِ هَلْ يَكُونُ أَوْلَى مِنَ الْوَلِيِّ الْقَرِيبِ فِي عُقْدَةِ النِّكَاحِ أَوْ مِثْلِهِ، أَوْ لَا وِلَايَةَ لَهُ؟ فَقَالَ رَبِيعَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: الْوَصِيُّ أَوْلَى، وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِأَنَّ الْأَبَ لَوْ جَعَلَ ذَلِكَ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْوِلَايَةَ انْتَقَلَتْ بِالْمَوْتِ فَلَا يُقَاسُ بِحَالِ الْحَيَاةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى ذَلِكَ وَقَالُوا: لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا أَصْلًا، وَاحْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَمِنْ أَقْوَاهَا هَذَا السَّبَبُ الْمَذْكُورُ فِي نُزُولِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ أَصَرْحُ دَلِيلٍ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَلِيِّ وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِعَضْلِهِ مَعْنًى، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَ لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا لَمْ تَحْتَجْ إِلَى أَخِيهَا، وَمَنْ كَانَ أَمْرُهُ إِلَيْهِ لَا يُقَالُ: إِنَّ غَيْرَهُ مَنَعَهُ مِنْهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةُ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ شَرِيفَةٍ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْوَلِيُّ أَصْلًا، وَيَجُوزُ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا وَلَوْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا إِذَا تَزَوَّجَتْ كُفُؤًا، وَاحْتَجَّ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْبَيْعِ فَإِنَّهَا تَسْتَقِلُّ بِهِ، وَحَمْلُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَخُصَّ بِهَذَا الْقِيَاس عُمُومُهَا، وَهُوَ عَمَلٌ سَائِغٌ فِي الْأُصُولِ، وَهُوَ جَوَازُ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ، لَكِنَّ حَدِيثَ مَعْقِلٍ الْمَذْكُورَ رَفَعَ هَذَا الْقِيَاسِ، وَيَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لَيَنْدَفِعَ عَنْ مُولِيَتِهِ الْعَارُ بِاخْتِيَارِ الْكُفْءِ، وَانْفَصَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا الْإِيرَادِ بِالْتِزَامِهِمُ اشْتِرَاطَ الْوَلِيِّ، وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ تَزْوِيجَهَا نَفْسَهَا، وَيَتَوَقَّفُ ذَلِكَ إِجَازَةَ الْوَلِيِّ كَمَا قَالُوا فِي الْبَيْعِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ نَحْوَهُ لَكِنْ قَالَ: يُشْتَرَطُ إِذْنُ الْوَلِيِّ لَهَا فِي تَزْوِيجِ نَفْسِهَا.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ إِذْنَ الْوَلِيِّ لَا يَصِحُّ إِلَّا لِمَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَنُوبُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا، وَلَوْ أَذِنَ لَهَا فِي إِنْكَاحِ نَفْسِهَا صَارَتْ كَمَنْ أُذِنَ لَهَا فِي الْبَيْعِ مِنْ نَفْسِهَا وَلَا
يَصِحُّ. وَفِي حَدِيثِ مَعْقِلٍ أَنَّ الْوَلِيَّ إِذَا عَضَلَ لَا يُزَوِّجُ السُّلْطَانُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْعَضْلِ، فَإِنْ أَجَابَ فَذَاكَ، وَإِنْ أَصَرَّ زَوَّجَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
37 - بَاب إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الْخَاطِبَ،
وَخَطَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ امْرَأَةً هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهَا فَأَمَرَ رَجُلًا فَزَوَّجَهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لِأُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ قَارِظٍ: أَتَجْعَلِينَ أَمْرَكِ إِلَيَّ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكِ وَقَالَ عَطَاءٌ: لِيُشْهِدْ أَنِّي قَدْ نَكَحْتُكِ أَوْ لِيَأْمُرْ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِهَا، وَقَالَ سَهْلٌ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَهَبُ لَكَ نَفْسِي، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا
5131 -
حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي قَوْلِهِ:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ الرَّجُلِ قَدْ شَرِكَتْهُ فِي مَالِهِ فَيَرْغَبُ عَنهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ فَيَدْخُلَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ فَيَحْبِسُهَا، فَنَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.
5132 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جُلُوسًا فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تَعْرِضُ نَفْسَهَا عَلَيْهِ فَخَفَّضَ فِيهَا النَّظَرَ وَرَفَعَهُ فَلَمْ يُرِدْهَا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ زَوِّجْنِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَعِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ قَالَ مَا عِنْدِي مِنْ شَيْءٍ قَالَ وَلَا خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ قَالَ وَلَا خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ وَلَكِنْ أَشُقُّ بُرْدَتِي هَذِهِ فَأُعْطِيهَا النِّصْفَ وَآخُذُ النِّصْفَ قَالَ لَا هَلْ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ قَالَ نَعَمْ قَالَ اذْهَبْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ)؛ أَيْ فِي النِّكَاحِ (هُوَ الْخَاطِبُ) أَيْ هَلْ يُزَوِّجُ نَفْسَهُ، أَوْ يُحْتَاجُ إِلَى وَلِيٍّ آخَرَ؟ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: ذَكَرَ فِي التَّرْجَمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ مَعًا لِيَكِلَ الْأَمْرُ ذَلِكَ إِلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ. كَذَا قَالَ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ تَرْكِهِ الْجَزْمَ بِالْحُكْمِ، لَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ صَنِيعِهِ أَنَّهُ يَرَى الْجَوَازَ، فَإِنَّ الْآثَارَ الَّتِي فِيهَا أَمْرُ الْوَلِيِّ غَيْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ لَيْسَ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِالْمَنْعِ مِنْ تَزْوِيجِهِ نَفْسَهُ. وَقَدْ أَوْرَدَ فِي التَّرْجَمَةِ أَثَرَ عَطَاءٍ الدَّالَّ عَلَى الْجَوَازِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى عِنْدَهُ أَنْ لَا يَتَوَلَّى أَحَدٌ طَرَفَيِ الْعَقْدِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَاللَّيْثُ: يُزَوِّجُ الْوَلِيُّ نَفْسَهُ، وَوَافَقَهُمْ أَبُو ثَوْرٍ. وَعَنْ مَالِكٍ لَوْ قَالَتِ الثَّيِّبُ لِوَلِيِّهَا: زَوِّجْنِي بِمَنْ رَأَيْتَ فَزَوَّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ مِمَّنِ اخْتَارَ لَزِمَهَا ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ تَعْلَمْ عَيْنَ الزَّوْجِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُزَوِّجُهُمَا السُّلْطَانُ أَوْ وَلِيٌّ آخَرُ مِثْلُهُ أَوْ أَقْعَدُ مِنْهُ. وَوَافَقَهُ زُفَرُ، وَدَاوُدُ. وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ الْوِلَايَةَ شَرْطٌ فِي الْعَقْدِ، فَلَا يَكُونُ النَّاكِحُ مُنْكِحًا كَمَا لَا يَبِيعُ مِنْ نَفْسِهِ.
قَوْلُهُ: (وَخَطَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ امْرَأَةً هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهَا، فَأَمَرَ رَجُلًا فَزَوَّجَهُ) هَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ وَكِيعٌ فِي مُصَنَّفِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ: أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً وَهُوَ وَلِيُّهَا، فَجَعَلَ أَمْرَهَا إِلَى رَجُلٍ الْمُغِيرَةُ أَوْلَى مِنْهُ فَزَوَّجَهُ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ وَقَالَ فِيهِ: فَأَمَرَ أَبْعَدَ مِنْهُ فَزَوَّجَهُ، وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ وَلَفْظُهُ: إِنَّ الْمُغِيرَةَ خَطَبَ بِنْتَ عَمِّهِ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ،
فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَقِيلٍ فَقَالَ: زَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ، أَنْتَ أَمِيرُ الْبَلَدِ وَابْنُ عَمِّهَا، فَأَرْسَلَ الْمُغِيرَةُ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ انْتَهَى.
وَالْمُغِيرَةُ هُوَ ابْنُ شُعْبَةَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مُعَتِّبٍ مِنْ وَلَدِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ فَهِيَ بِنْتُ عَمِّهِ لَحًّا. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَقِيلٍ هُوَ ابْنُ عَمِّهِمَا مَعًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ جَدَّهُ هُوَ مَسْعُودٌ الْمَذْكُورُ. وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ ثَقَفِيًّا أَيْضًا لَكِنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَهُمْ إِلَّا فِي جَدِّهِمُ الْأَعْلَى ثَقِيفٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَلَدِ جُشَمَ بْنِ ثَقِيفٍ، فَوَضُحَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ، وَعُرِفَ اسْمُ الرَّجُلِ الْمُبْهَمِ فِي الْأَثَرِ الْمُعَلَّقِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لِأُمِّ حَكِيمِ بِنْتِ قَارِظٍ: أَتَجْعَلِينَ أَمْرَكِ إِلَيَّ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ: فَقَدْ تَزَوَّجْتُكِ) وَصَلَهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ أُمَّ حَكِيمِ بِنْتَ قَارِظٍ قَالَتْ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: إِنَّهُ قَدْ خَطَبَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ، فَزَوِّجْنِي أَيُّهُمْ رَأَيْتَ. قَالَ: وَتَجْعَلِينَ ذَلِكَ إِلَيَّ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: قَدْ تَزَوَّجْتُكِ، قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: فَجَازَ نِكَاحُهُ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أُمَّ حَكِيمٍ فِي النِّسَاءِ اللَّوَاتِي لَمْ يَرْوِينَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَوَيْنَ عَنْ أَزْوَاجِهِ، وَلَمْ يَزِدْ فِي التَّعْرِيفِ بِهَا عَلَى مَا فِي هَذَا الْخَبَرِ، وَذَكَرَهَا فِي تَسْمِيَةِ أَزْوَاجِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي تَرْجَمَتِهِ فَنَسَبَهَا فَقَالَ: أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ قَارِظِ بْنِ خَالِدِ بْنِ عُبَيْدٍ حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ: لِيَشْهَدْ أَنِّي قَدْ نَكَحْتُكِ، أَوْ لِيَأْمُرْ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِهَا) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: امْرَأَةٌ خَطَبَهَا ابْنُ عَمٍّ لَهَا لَا رَجُلَ لَهَا غَيْرُهُ، قَالَ: فَلْتَشْهَدْ أَنَّ فُلَانًا خَطَبَهَا، وَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ نَكَحْتُهُ، أَوْ لِتَأْمُرْ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِهَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَتِ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَهَبُ لَكَ نَفْسِي، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ الْوَاهِبَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي بَابِ تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ، وَفِي بَابِ النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ وَغَيْرِهما، وَوَصَلَهُ فِي الْبَابِ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَأَقْرَبُهَا إِلَى لَفْظِ هَذَا التَّعْلِيقِ رِوَايَةُ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ بِلَفْظِ: إِنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ لِأَهَبَ لَكَ نَفْسِي - وَفِيهِ - فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ مِثْلَهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} أَوْرَدَهُ مُخْتصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي التَّفْسِيرِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَرَغِبَ عَنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، أَوْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ فَيُزَوِّجَهُ، وَبِهِ احْتَجَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا عَاتَبَ الْأَوْلِيَاءَ فِي تَزْوِيجِ مَنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ بِدُونِ سُنَّتِهَا مِنَ الصَّدَاقِ، وَعَاتَبَهُمْ عَلَى تَرْكِ تَزْوِيجِ مَنْ كَانَتْ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَصِحُّ مِنْهُ تَزْوِيجُهَا مِنْ نَفْسِهِ، إِذْ لَا يُعَاتِبُ أَحَدٌ عَلَى تَرْكِ مَا هُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَدَلَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يَتَزَوَّجُهَا وَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يُقْسِطَ لَهَا فِي الصَّدَاقِ، وَلَوْ كَانَتْ بَالِغًا لَمَا مَنَعَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِمَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ لَا أَمْرَ لَهَا فِي نَفْسِهَا. وَقَدْ أُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ بِذَلِكَ السَّفِيهَةُ فَلَا أَثَرَ لِرِضَاهَا بِدُونِ مَهْرٍ مِثْلُهَا كَالْبِكْرِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي الْوَاهِبَةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ قَرِيبًا، وَوَجْهُ الْأَخْذِ مِنْهُ الْإِطْلَاقُ أَيْضًا، لَكِنِ انْفَصَلَ مِنْ مَنْعِ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مَعْدُودٌ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُزَوِّجَ نَفْسَهُ وَبِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ وَلَا اسْتِئْذَانٍ، وَبِلَفْظِ الْهِبَةِ كَمَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: فَلَمْ يُرِدْهَا بِسُكُونِ الدَّالِ مِنَ الْإِرَادَةِ، وَحَكَى بَعْضُ الشُّرَّاحِ تَشْدِيدَ الدَّالِ وَفَتْحَ أَوَّلِهِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ.
38 - بَاب إِنْكَاحِ الرَّجُلِ وَلَدَهُ الصِّغَارَ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} فَجَعَلَ عِدَّتَهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ الْبُلُوغِ
5133 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ، وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِنْكَاحِ الرَّجُلِ وَلَدَهُ الصِّغَارَ) ضُبِطَ وَلَدَهُ بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ عَلَى الْجَمْعِ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَبِفَتْحِهِمَا عَلَى أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ.
قَوْلُهُ: (لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} فَجَعَلَ عِدَّتَهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ الْبُلُوغِ)؛ أَيْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نِكَاحِهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ جَائِزٌ، وَهُوَ اسْتِنْبَاطٌ حَسَنٌ، لَكِنْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالْوَالِدِ وَلَا بِالْبِكْرِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْأَصْلُ فِي الْإيضَاعِ التَّحْرِيمُ إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي تَزْوِيجِ أَبِي بَكْرٍ لَهَا وَهِيَ دُونَ الْبُلُوغِ فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ، وَلِهَذَا السِّرِّ أَوْرَدَ حَدِيثَ عَائِشَةَ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: أَجْمَعُوا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ تَزْوِيجُ ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ الْبِكْرِ وَلَوْ كَانَتْ لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا، إِلَّا أَنَّ الطَّحَاوِيَّ حَكَى عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ مَنْعَهُ فِيمَنْ لَا تُوطَأُ، وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ، عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ مُطْلَقًا أَنَّ الْأَبَ لَا يُزَوِّجُ بِنْتَهُ الْبِكْرَ الصَّغِيرَةَ حَتَّى تَبْلُغَ وَتَأْذَنَ، وَزَعَمَ أَنَّ تَزْوِيجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ كَانَ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَمُقَابِلُهُ تَجْوِيزُ الْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ لِلْأَبِ إِجْبَارِ بِنْتِهِ كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا.
(تَنْبِيهٌ):
وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ إِدْرَاجٌ يَظْهَرُ مِنَ الطَّرِيقِ الَّتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
39 - بَاب تَزْوِيجِ الْأَبِ ابْنَتَهُ مِنْ الْإِمَامِ، وَقَالَ عُمَرُ: خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيَّ حَفْصَةَ فَأَنْكَحْتُهُ
5134 -
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وَبَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ، قَالَ هِشَامٌ: وَأُنْبِئْتُ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُ تِسْعَ سِنِينَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ تَزْوِيجِ الْأَبِ ابْنَتَهُ مِنَ الْإِمَامِ) فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ الْخَاصَّ يُقَدَّمُ عَلَى الْوَلِيِّ الْعَامِّ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ إِلَخْ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ الَّذِي تَقَدَّمَ مَوْصُولًا قَرِيبًا.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَقَوْلَهُ فِيهِ: قَالَ هِشَامٌ يَعْنِي ابْنَ عُرْوَةَ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ. وَقَوْلُهُ: وَأُنْبِئْتُ إِلَخْ لَمْ يُسَمِّ مَنْ أَنْبَأَهُ بِذَلِكَ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ حَمَلَهُ عَنِ امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ جَدَّتِهَا أَسْمَاءَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: دَلَّ حَدِيثُ الْبَابِ عَلَى أَنَّ الْأَبَ أَوْلَى فِي تَزْوِيجِ ابْنَتِهِ مِنَ الْإِمَامِ، وَأَنَّ السُّلْطَانَ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا، وَأَنَّ الْوَلِيَّ مِنْ شُرُوطِ النِّكَاحِ. قُلْتُ: وَلَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثَيْنِ عَلَى اشْتِرَاطِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا فِيهِمَا وُقُوعُ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَنْعُ مَا عَدَاهُ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى. وَقَالَ: وَفِيهِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ إِنْكَاحِ الْبِكْرِ حَتَّى تَسْتَأْذِنَ مَخْصُوصٌ بِالْبَالِغِ حَتَّى يُتَصَوَّرُ مِنْهَا الْإِذْنُ، وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا إِذْنَ لَهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ.
40 - بَاب السُّلْطَانُ وَلِيٌّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ
5135 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنِّي وَهَبْتُ مِنْ نَفْسِي، فَقَامَتْ طَوِيلًا فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ، فقَالَ عليه الصلاة والسلام: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا؟ قَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي، فَقَالَ: إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِيَّاهُ جَلَسْتَ لَا إِزَارَ لَكَ
فَالْتَمِسْ شَيْئًا، فَقَالَ مَا أَجِدُ شَيْئًا، فَقَالَ: الْتَمِسْ وَلَوْ كان خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَلَمْ يَجِدْ، فَقَالَ: أَمَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا لِسُوَرٍ سَمَّاهَا، فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ السُّلْطَانِ وَلِيٌّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ)، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي الْوَاهِبَةِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ بِلَفْظِ: زَوَّجْتُكَهَا بِالْإِفْرَادِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: زَوَّجْنَاكَهَا بِنُونِ التَّعْظِيمِ، وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ السُّلْطَانَ وَلِيٌّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَرْفُوعِ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، حَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطِهِ اسْتَنْبَطَهُ مِنْ قِصَّةِ الْوَاهِبَةِ. وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ، وَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ، وَفِي إِسْنَادِهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَفِيهِ مَقَالٌ، وَأَخْرَجَهُ سُفْيَانُ فِي جَامِعِهِ، وَمِنْ طَرِيقِهِ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ آخَرَ حَسَنٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ أَوْ سُلْطَانٍ.
41 - بَاب لَا يُنْكِحُ الْأَبُ وَغَيْرُهُ الْبِكْرَ وَالثَّيِّبَ إِلَّا بِرِضَاهَا
5136 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ.
[الحديث 5136 - طرفاه في: 6968، 6970]
5137 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ طَارِقٍ قَالَ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى عَائِشَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي قَالَ رِضَاهَا صَمْتُهَا"
[الحديث 5137 - طرفاه في: 6946، 6971]
قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يُنْكِحُ الْأَبُ وَغَيْرُهُ الْبِكْرَ وَالثَّيِّبَ إِلَّا بِرِضَاهُمَا) فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَرْبَعُ صُوَرٍ: تَزْوِيجُ الْأَبِ الْبِكْرَ، وَتَزْوِيجُ الْأَبِ الثَّيِّبَ، وَتَزْوِيجُ غَيْرِ الْأَبِ الْبِكْرَ، وَتَزْوِيجُ غَيْرِ الْأَبِ الثَّيِّبَ. وَإِذَا اعْتَبَرْتَ الْكِبَرَ وَالصِّغَرَ زَادَتِ الصُّوَرُ، فَالثَّيِّبُ الْبَالِغُ لَا يُزَوِّجُهَا الْأَبُ وَلَا غَيْرُهُ إِلَّا بِرِضَاهَا اتِّفَاقًا إِلَّا مَنْ شَذَّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْبِكْرُ الصَّغِيرَةُ يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا اتِّفَاقًا إِلَّا مَنْ شَذَّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالثَّيِّبُ غَيْرُ الْبَالِغِ اخْتُلِفَ فِيهَا فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةُ: يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا كَمَا يُزَوِّجُ الْبِكْرَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: لَا يُزَوِّجُهَا إِذَا زَالَتِ الْبَكَارَةُ بِالْوَطْءِ لَا بِغَيْرِهِ، وَالْعِلَّةُ عِنْدَهُمْ أَنَّ إِزَالَةَ الْبَكَارَةِ تُزِيلُ الْحَيَاءَ الَّذِي فِي الْبِكْرِ، وَالْبِكْرُ الْبَالِغُ يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا وَكَذَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ.
وَاخْتُلِفَ فِي اسْتِئْمَارِهَا، وَالْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا إِجْبَارَ لِلْأَبِ عَلَيْهَا إِذَا امْتَنَعَتْ، وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَسَأَذْكُرُ مَزِيدَ بَحْثٍ فِيهِ. وَقَدْ أَلْحَقَ الشَّافِعِيُّ الْجَدَّ بِالْأَبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ فِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ: يُزَوِّجُهَا كُلُّ وَلِيٍّ، فَإِذَا بَلَغَتْ ثَبَتَ الْخِيَارُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إِذَا بَلَغَتْ تِسْعًا جَازَ لِلْأَوْلِيَاءِ غَيْرِ الْأَبِ نِكَاحُهَا، وَكَأَنَّهُ أَقَامَ الْمَظِنَّةَ مَقَامَ الْمَئِنَّةِ، وَعَنْ مَالِكٍ يَلْتَحِقُ بِالْأَبِ فِي ذَلِكَ وَصِيُّ الْأَبِ دُونَ بَقِيَّةِ الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّهُ إقَامَة مَقَامَهُ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ التَّرْجَمَةَ مَعْقُودَةٌ
لِاشْتِرَاطِ رِضَا الْمُزَوَّجَةِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، لَكِنْ تُسْتَثْنَى الصَّغِيرَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهَا لَا عِبَارَةَ لَهَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ.
قَوْلُهُ: (لَا تُنْكِحُ) بِكَسْرِ الْحَاءِ لِلنَّهْيِ، وَبِرَفْعِهَا لِلْخَبَرِ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْمَنْعِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْأَيِّمِ فِي بَابِ عَرْضِ الْإِنْسَانِ ابْنَتَهُ، وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَيِّمَ هِيَ الثَّيِّبُ الَّتِي فَارَقَتْ زَوْجَهَا بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ لِمُقَابَلَتِهَا بِالْبِكْرِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْأَيِّمِ، وَمِنْهُ قَوْلِهِمْ: الْغَزْوُ مَأْيَمَةٌ؛ أَيْ يَقْتُلُ الرِّجَالَ فَتَصِيرُ النِّسَاءُ أَيَامَى، وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا أَصْلًا، وَنَقَلَهُ عِيَاضٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ، وَإِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ الْقَوْلَيْنِ لِأَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ ابْنِ الْمُنْذِرِ، وَالدَّارِمِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ: لَا تُنْكَحُ الثَّيِّبُ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ الْمُنْذِرِ فِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الثَّيِّبُ تُشَاوَرُ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى تُسْتَأْمَرَ) أَصْلُ الِاسْتِئْمَارِ طَلَبُ الْأَمْرِ، فَالْمَعْنَى لَا يَعْقِدُ عَلَيْهَا حَتَّى يَطْلُبَ الْأَمْرَ مِنْهَا، وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: تُسْتَأْمَرُ أَنَّهُ لَا يَعْقِدُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَأْمُرَ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ فِي حَقِّهَا، بَلْ فِيهِ إِشْعَارٌ بِاشْتِرَاطِهِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ) كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ، فَعَبَّرَ لِلثَّيِّبِ بِالِاسْتِئْمَارِ وَلِلْبِكْرِ بِالِاسْتِئْذَانِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الِاسْتِئْمَارَ يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ الْمُشَاوَرَةِ، وَجَعْلِ الْأَمْرِ إِلَى الْمُسْتَأْمَرَةِ، وَلِهَذَا يَحْتَاجُ الْوَلِيُّ إِلَى صَرِيحِ إِذْنِهَا فِي الْعَقْدِ، فَإِذَا صَرَّحَتْ بِمَنْعِهِ امْتَنَعَ اتِّفَاقًا وَالْبِكْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَالْإِذْنُ دَائِرٌ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالسُّكُوتِ بِخِلَافِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْقَوْلِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ السُّكُوتَ إِذْنًا فِي حَقِّ الْبِكْرِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَسْتَحِي أَنْ تُفْصِحَ.
قَوْلُهُ: (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قُلْنَا، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا هِيَ السَّائِلَةُ عَنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وكَيْفَ إِذْنُهَا) فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: قُلْتُ إِنَّ الْبِكْرِ تَسْتَحِي وَسَتَأْتِي أَلْفَاظُهُ.
الحديث الثاني:
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ طَارِقٍ)؛ أَيِ ابْنُ قُرَّةَ الْهِلَالِيُّ أَبُو حَفْصٍ الْمِصْرِيُّ، وَأَصْلُهُ كُوفِيٌّ، سَمِعَ مِنْ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَيَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ وَغَيْرِهِمْ، رَوَى عَنْهُ الْقُدَمَاءُ مِثْلُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَإِسْحَاقُ الْكَوْسَجُ، وَأَبي عُبَيْدٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ، وَهُوَ مِنْ قُدَمَاءِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَلَمْ أَرَ لَهُ عَنْهُ فِي الْجَامِعِ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَدْ وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَمَاتَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَنْبَأَنَا.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى عَائِشَةَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ ذَكْوَانَ، وَسَيَأْتِي فِي تَرْكِ الْحِيَلِ، وَيَأْتِي فِي الْإِكْرَاهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: عَنْ أَبِي عَمْرٍو هُوَ ذَكْوَانُ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ مُخْتَصَرًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي تَرْكِ الْحِيَلِ: قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ، قُلْتُ فَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَفِي الْإِكْرَاهِ بِلَفْظِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِي أَبْضَاعِهِنَّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَإِنَّ الْبِكْرَ تُسْتَأْمَرُ فَتَسْتَحِي فَتَسْكُتُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْجَارِيَةِ يَنْكِحُهَا أَهْلُهَا، أَتُسْتَأْمَرُ أَمْ لَا؟ قَالَ: نَعَمْ، تُسْتَأْمَرُ. قُلْتُ: فَإِنَّهَا تَسْتَحِي.
قَوْلُهُ: (قَالَ رِضَاهَا صَمْتُهَا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سُكَاتُهَا إِذْنُهَا وَفِي لَفْظٍ لَهُ: قَالَ: إِذْنُهَا صُمَاتُهَا، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَيْضًا قَالَ: فَذَلِكَ إِذْنُهَا إِذَا هِيَ سَكَتَتْ، وَدَلَّتْ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَارِيَةِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْبِكْرُ دُونَ الثَّيِّبِ. وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا وَفِي لَفْظٍ لَهُ: وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:
يُسْتَحَبُّ إِعْلَامُ الْبِكْرِ أَنَّ سُكُوتَهَا إِذْنٌ، لَكِنْ لَوْ قَالَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ مَا عَلِمْتُ أَنَّ صَمْتِي إِذْنٌ لَمْ يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَبْطَلَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ مِنْهُمْ: يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ ثَلَاثًا إِنْ رَضِيتِ فَاسْكُتِي وَإِنْ كَرِهْتِ فَانْطِقِي. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُطَالُ الْمَقَامُ عِنْدَهَا لِئَلَّا تَخْجَلَ فَيَمْنَعَهَا ذَلِكَ مِنَ الْمُسَارَعَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بَلْ ظَهَرَتْ مِنْهَا قَرِينَةُ السُّخْطِ أَوِ الرِّضَا بِالتَّبَسُّمِ مَثَلًا أَوِ الْبُكَاءِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ نَفَرَتْ أَوْ بَكَتْ أَوْ قَامَتْ أَوْ ظَهَرَ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ لَمْ تُزَوَّجُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا أَثَرَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَنْعِ إِلَّا إِنْ قَرَنَتْ مَعَ الْبُكَاءِ الصِّيَاحَ وَنَحْوَهُ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الدَّمْعِ: فَإِنْ كَانَ حَارًّا دَلَّ عَلَى الْمَنْعِ، وَإِنْ كَانَ بَارِدًا دَلَّ عَلَى الرِّضَا.
قَالَ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْبِكْرَ الَّتِي أُمِرَ بِاسْتِئْذَانِهَا هيَ الْبَالِغُ، إِذْ لَا مَعْنَى لِاسْتِئْذَانِ مَنْ لَا تَدْرِي مَا الْإِذْنُ، وَمَنْ يَسْتَوِي سُكُوتُهَا وَسَخَطُهَا.
وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ الْيَتِيمَةِ قَبْلَ إِذْنِهَا وَتَفْوِيضِهَا لَا يَكُونُ رِضًا مِنْهَا، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ بَعْدَ تَفوِيضِهَا إِلَى وَلِيِّهَا. وَخَصَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الِاكْتِفَاءَ بِسُكُوتِ الْبِكْرِ الْبَالِغِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَبِ وَالْجَدِّ دُونَ غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّهَا تَسْتَحِي مِنْهُمَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمَا.
وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ اسْتِعْمَالُ الْحَدِيثِ فِي جَمِيعِ الْأَبْكَارِ بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَبِ يُزَوِّجُ الْبِكْرَ الْبَالِغَ بِغَيْرِ إِذْنِهَا، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ وَوَافَقَهُمْ أَبُو ثَوْرٍ: يُشْتَرَطُ اسْتِئْذَانُهَا، فَلَوْ عَقَدَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لَمْ يَصِحَّ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَهَا وَلَوْ كَانَتْ بَالِغًا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ مَفْهُومُ حَدِيثِ الْبَابِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثَّيِّبَ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ وَلِيَّ الْبِكْرِ أَحَقُّ بِهَا مِنْهَا.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا: تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا، فَإِنْ سَكَتَتْ فَهُوَ إِذْنُهَا قَالَ: فَقُيِّدَ ذَلِكَ بِالْيَتِيمَةِ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرْتُهُ بِلَفْظِ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا، فَنَصَّ عَلَى ذِكْرِ الْأَبِ.
وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ الْمُؤَامَرَةَ قَدْ تَكُونُ عَنِ اسْتِطَابَةِ النَّفْسِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: وَأْمُرُوا النِّسَاءَ فِي بَنَاتِهِنَّ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأُمِّ أَمْرٌ، لَكِنَّهُ عَلَى مَعْنَى اسْتِطَابَةِ النَّفْسِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: زِيَادَةُ ذِكْرِ الْأَبِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: زَادَهَا ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي حَدِيثِهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَالْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ يُزَوِّجُونَ الْأَبْكَارَ لَا يَسْتَأْمِرُونَهُنَّ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَالْمَحْفُوظُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، وَرَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ بِلَفْظِ: وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبِكْرِ الْيَتِيمَةُ. قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَدْفَعُ زِيَادَةَ الثِّقَةِ الْحَافِظِ بِلَفْظِ الْأَبِ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: بَلِ الْمُرَادُ بِالْيَتِيمَةِ الْبِكْرُ لَمْ يُدْفَعْ.
وَتُسْتَأْمَرُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ يَدْخُلُ فِيهِ الْأَبُ وَغَيْرُهُ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي أَنَّ الِاسْتِئْمَارِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ عَلَى مَعْنَى اسْتِطَابَةِ النَّفْسِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ؟ كُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مُحْتَمِلٌ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَحْثٍ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَةَ الثَّيِّبَ لَا إِجْبَارَ عَلَيْهَا؛ لِعُمُومِ كَوْنِهَا أَحَقَّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَعَلَى أَنَّ مَنْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِوَطْءٍ وَلَوْ كَانَ زِنًا لَا إِجْبَارَ عَلَيْهَا لِأَبٍ وَلَا غَيْرِهِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ كَالْبِكْرِ، وَخَالَفَهُ حَتَّى صَاحِبَاهُ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ عِلَّةَ الِاكْتِفَاءِ بِسُكُوتِ الْبِكْرِ هُوَ الْحَيَاءُ، وَهُوَ بَاقٍ فِي هَذِهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِيمَنْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِوَطْءٍ لَا فِيمَنِ اتَّخَذَتِ الزِّنَا دَيْدَنًا وَعَادَةً. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْحَيَاءَ يَتَعَلَّقُ بِالْبِكْرِ، وَقَابَلَهَا بِالثَّيِّبِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَهَذِهِ ثَيِّبٌ لُغَةً وَشَرْعًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِعِتْقِ كُلِّ ثَيِّبٍ فِي مِلْكِهِ دَخَلَتْ إِجْمَاعًا، وَأَمَّا بَقَاءُ حَيَائِهَا
كَالْبِكْرِ فَمَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَحْيِ مِنْ ذِكْرِ وُقُوعِ الْفُجُورِ مِنْهَا، وَأَمَّا ثُبُوتُ الْحَيَاءِ مِنْ أَصْلِ النِّكَاحِ فَلَيْسَتْ فِيهِ كَالْبِكْرِ الَّتِي لَمْ تُجَرِّبْهُ قَطُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ لِلثَّيِّبِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَلَكِنَّهَا لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا، بَلْ تَجْعَلُ أَمْرَهَا إِلَى رَجُلٍ فَيُزَوِّجُهَا، حَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ، عَنْ دَاوُدَ، وَتَعَقَّبَهُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ عَلَيْهَا أَمَرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهَا وَلَا يُجْبِرُهَا، فَإِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَ لَمْ يَجُزْ لَهَا إِلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْبِكْرَ إِذَا أَعْلَنَتْ بِالْمَنْعِ لَمْ يَجُزِ النِّكَاحُ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّرْجَمَةِ، وَإِنْ أَعْلَنَتْ بِالرِّضَا فَيَجُوزُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَشَذَّ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَيْضًا وُقُوفًا عِنْدَ ظَاهِرِ قَوْلِهِ: وَإِذْنُهَا أَنْ تَسْكُتَ
42 - بَاب إِذَا زَوَّجَ الرجل ابْنَتَهُ وَهِيَ كَارِهَةٌ فَنِكَاحُهُ مَرْدُودٌ
5138 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُجَمِّعٍ ابْنَيْ يَزِيدَ بْنِ جَارِيَةَ، عَنْ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِدامٍ الْأَنْصَارِيَّةِ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهْيَ ثَيِّبٌ فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَدَّ نِكَاحَهَا.
[الحديث 5138 - أطرافه في: 5139، 6945، 6969]
5139 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا يَحْيَى أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ وَمُجَمِّعَ بْنَ يَزِيدَ حَدَّثَاهُ أَنَّ رَجُلًا يُدْعَى خِذَامًا أَنْكَحَ ابْنَةً لَهُ نَحْوَهُ"
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ وَهِيَ كَارِهَةٌ فَنِكَاحُهُ مَرْدُودٌ) هَكَذَا أَطْلَقَ، فَشَمِلَ الْبِكْرَ وَالثَّيِّبَ، لَكِنَّ حَدِيثَ الْبَابِ مُصَرَّحٌ فِيهِ بِالثِّيُوبَةِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ، وَرَدُّ النِّكَاحِ إِذَا كَانَتْ ثَيِّبًا فَزُوِّجَتْ بِغَيْرِ رِضَاهَا إِجْمَاعٌ، إِلَّا مَا نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ أَجَازَ إِجْبَارَ الْأَبِ لِلثَّيِّبِ وَلَوْ كَرِهَتْ كَمَا تَقَدَّمَ. وَعَنِ النَّخَعِيِّ إِنْ كَانَتْ فِي عِيَالِهِ جَازَ وَإِلَّا رُدَّ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ بِغَيْرِ رِضَاهَا، فَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ أَجَازَتْهُ جَازَ، وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ أَجَازَتْهُ عَنْ قُرْبٍ جَازَ وَإِلَّا فَلَا، وَرَدَّهُ الْبَاقُونَ مُطْلَقًا.
قَوْلُهُ: (وَمُجَمِّعٌ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْمِيمِ الثَّقِيلَةِ ثُمَّ عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ.
قَوْلُهُ: (ابْنَيْ يَزِيدَ بْنِ جَارِيَةَ) بِالْجِيمِ؛ أَيِ ابْنِ عَامِرِ بْنِ الْعَطَّافِ الْأَنْصَارِيِّ الْأَوْسِيِّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ الصَّحَابِيِّ الَّذِي جَمَعَ الْقُرْآنَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَخْرَجَ لَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَقَدْ وَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ، وَمِنْهُ قِيلَ: إِنَّ لِمُجَمِّعِ بْنِ يَزِيدَ صُحْبَةً ولَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الصُّحْبَةُ لِعَمِّهِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ، وَلَيْسَ لِمُجَمِّعِ بْنِ يَزِيدَ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ قَرَنَهُ فِيهِ بِأَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وُلِدَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَزَمَ بِهِ الْعَسْكَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ أَخُو عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِأُمِّهِ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَلِيَ الْقَضَاءَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ؛ يَعْنِي لَمَّا كَانَ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ، وَمَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ، وَوَثَّقَهُ جَمَاعَةٌ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَدْ وَافَقَ مَالِكًا عَلَى إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ وَإِنِ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنْهُمَا فِي وَصْلِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ خَنْسَاءَ، وَفِي إِرْسَالِهِ حَيْثُ قَالَ بَعْضُهُمْ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُجَمِّعٍ أَنَّ خَنْسَاءَ زُوِّجَتْ، وَكَذَا اخْتَلَفُوا عَنْهُمَا فِي نَسَبِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُجَمِّعٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْقَطَ يَزِيدَ، وَقَالَ
ابْنَيْ جَارِيَةَ، وَالصَّوَابُ وَصْلُهُ وَإِثْبَاتُ يَزِيدَ فِي نَسَبِهِمَا، وَقَدْ أَخْرَجَ طَرِيقَ ابْنِ عُيَيْنَةَ الْمُصَنِّفُ فِي تَرْكِ الْحِيَلِ بِصُورَةِ الْإِرْسَالِ كَمَا سَيَأْتِي، وَأَخْرَجَهَا أَحْمَدُ عَنْهُ كَذَلِكَ، وَأَوْرَدَهَا الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ مَوْصُولَةً، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُوَطِّآتِ مِنْ طَرِيقِ مُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ مَالِكٍ بِصُورَةِ الْإِرْسَالِ أَيْضًا وَالْأَكْثَرُ وَصَلُوهُ عَنْهُ.
وَخَالَفَهُمَا مَعًا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي رَاوٍ مِنَ السَّنَدِ فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ وَدِيعَةَ، عَنْ خَنْسَاءَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْهُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ لَكِنْ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ فِيهِ شَيْخَانِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ وَدِيعَةَ هَذَا لَمْ أَرَ مَنْ تَرْجَمَ لَهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْبُخَارِيُّ وَلَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَلَا ابْنُ حِبَّانَ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَدِيعَةَ بْنِ خَدَامٍ الَّذِي رَوَى عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ فِي غُسْلِ الْجُمُعَةِ وَعَنْهُ الْمَقْبُرِيُّ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ غَيْرُ مَشْهُورٍ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَوَثَّقَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي الصَّحَابَةِ وَخَطَّأَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي ذَلِكَ، وَأَظُنُّ شَيْخَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ ابْنَ أَخِيهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ وَدِيعَةَ هَذَا مِمَّنْ أَغْفَلَهُ الْمِزِّيُّ، وَمَنْ تَبِعَهُ فَلَمْ يَذْكُرُوهُ فِي رِجَالِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِدَامٍ) بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ نُونٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ وَزْنَ حَمْرَاءَ، وَأَبُوهَا بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُهْمَلَةِ، قِيلَ: اسْمُ أَبِيهِ وَدِيعَةُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ اسْمَ أَبِيهِ خَالِدٌ، وَوَدِيعَةُ اسْمُ جَدِّهِ فِيمَا أَحْسَبُ، وَقَعَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ السَّائِبِ مُرْسَلًا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَلَكِنْ قَالَ فِي تَسْمِيَتِهَا خُنَاسٌ بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَزْنَ فُلَانٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَابْنِ السَّكَنِ خَنْسَاءُ، وَوَصَلَ الْحَدِيثَ عَنْهَا فَقَالَ: عَنْ حَجَّاجِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدَّتِهِ خَنْسَاءَ، وَخُنَاسٌ مُشْتَقٌّ مِنْ خَنْسَاءَ كَمَا يُقَالُ فِي زَيْنَبَ زُنَابٌ، وَكُنْيَةُ خِدَامٍ وَالِدِ خَنْسَاءَ أَبُو وَدِيعَةَ، كَنَّاهُ أَبُو نُعَيْمٍ.
وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ خِدَامًا أَبَا وَدِيعَةَ أَنْكَحَ ابْنَتَهُ رَجُلًا الْحَدِيثَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْمُسْتَغْفِرِيِّ مِنْ طَرِيقِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَارِيَةَ أَنَّ وَدِيعَةَ بْنَ خِدَامٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ، وَهُوَ وَهْمٌ فِي اسْمِهِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ: أَنَّ خِدَامًا أَبَا وَدِيعَةَ، فَانْقَلَبَ. وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِوَدِيعَةَ بْنِ خِدَامٍ أَيْضًا صُحْبَةً، وَلَهُ قِصَّةٌ مَعَ عُمَرَ فِي مِيرَاثِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَقَدْ أَطَلْتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لَكِنْ جَرَّ الْكَلَامُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَلَا يَخْلُو مِنْ فَائِدَةٍ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ فَكَرِهَتْ ذَلِكَ)، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ الْمَذْكُورَةِ قَالَتْ: أَنْكَحَنِي أَبِي وَأَنَا كَارِهَةٌ وَأَنَا بِكْرٌ وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ، فَقَدْ ذَكَرَ الْحَدِيثَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ عَمَّ وَلَدِي وَكَذَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجَحْشِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ رَجُلًا مِنِ الْأَنْصَارِ تَزَوَّجَ خَنْسَاءَ بِنْتَ خِدَامٍ فَقُتِلَ عَنْهَا يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَنْكَحَهَا أَبُوهَا رَجُلًا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي أَنْكَحَنِي، وَإِنَّ عَمَّ وَلَدِي أَحَبُّ إِلَيَّ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ وَلَدَتْ مِنْ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، وَاسْتَفَدْنَا مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ نِسْبَةَ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، وَاسْمُهُ أُنَيْسُ بْنُ قَتَادَةَ، سَمَّاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ خَنْسَاءَ، وَوَقَعَ فِي الْمُبْهَمَاتِ لِلْقُطْبِ الْقَسْطَلَّانِيِّ أَنَّ اسْمَهُ أُسَيْرٌ، وَأَنَّهُ اسْتُشْهِدَ بِبَدْرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ مُسْتَنَدًا، وَأَمَّا الثَّانِي الَّذِي كَرِهَتْهُ فَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ إِلَّا أَنَّ الْوَاقِدِيَّ ذَكَرَ بِإِسْنَادٍ لَهُ أَنَّهُ مِنْ بَنِي مُزَيْنَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْهَا أَنَّهُ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ خِدَامًا أَبَا وَدِيعَةَ أَنْكَحَ ابْنَتَهُ رَجُلًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تُكْرِهُوهُنَّ، فَنَكَحَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَا لُبَابَةَ وَكَانَتْ ثَيِّبًا، وَرَوَى
الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَ نَحْوَ
الْقِصَّةِ قَالَ فِيهِ: فَنَزَعَهَا مِنْ زَوْجِهَا وَكَانَتْ ثَيِّبًا، فَنَكَحَتْ بَعْدَهُ أَبَا لُبَابَةَ وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: تَأَيَّمَتْ خَنْسَاءُ، فَزَوَّجَهَا أَبُوهَا الْحَدِيثَ نَحْوَهُ وَفِيهِ: فَرَدَّ نِكَاحَهُ، وَنَكَحَتْ أَبَا لُبَابَةَ.
وَهَذِهِ أَسَانِيدُ يَقْوَى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وكُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ ثَيِّبًا. نَعَمْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلًا زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَهِيَ بِكْرٌ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهَا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا سَنَدٌ ظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ، وَلَكِنْ لَهُ عِلَّةٌ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، فَأَدْخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَطَاءٍ، إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُرَّةَ وَفِيهِ مَقَالٌ، وَأَرْسَلَهُ فَلَمْ يَذْكُرْ فِي إِسْنَادِهِ جَابِرًا.
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ أَيْضًا، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ جَارِيَةً بَكْرًا أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَخَيَّرَهَا وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ: إِنَّهُ خَطَأٌ وَأَنَّ الصَّوَابَ إِرْسَالُهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَدَّ نِكَاحَ بِكْرٍ وَثَيِّبٍ أَنْكَحَهُمَا أَبُوهُمَا وَهُمَا كَارِهَتَانِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ الدَّمَارِيُّ وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَالصَّوَابُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنِ الْمُهَاجِرِ بْنِ عِكْرِمَةَ مُرْسَلٌ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ فِي الْبِكْرِ حُمِلَ عَلَى أَنَّهَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ كُفْءٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَهَذَا الْجَوَابُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، فَإِنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهَا تَعْمِيمًا، وَأَمَّا الطَّعْنُ فِي الْحَدِيثِ فَلَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّ طُرُقَهُ يَقْوَى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَلِقِصَّةِ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِدَامٍ طَرِيقٌ أُخْرَى، أَخْرَجَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ خَنْسَاءَ بِنْتَ خِدَامٍ زَوَّجَهَا أَبُوهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَرَدَّ نِكَاحَهَا، وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ بِكْرًا وَلَا ثَيِّبًا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةُ، عَنْ عُمَرَ مُرْسَلًا، لَمْ يَذْكُرْ أَبَا هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَيَزِيدُ هُوَ ابْنُ هَارُونَ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ.
قَوْلُهُ: (إنَّ رَجُلًا يُدْعَى خِدَامًا أَنْكَحَ ابْنَةَ لَهُ نَحْوَهُ) سَاقَ أَحْمَدُ لَفْظَهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ يُدْعَى خِدَامًا أَنْكَحَ ابْنَتَهُ، فَكَرِهَتْ نِكَاحَ أَبِيهَا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَرَدَّ عَنْهَا نِكَاحَ أَبِيهَا، فَتَزَوَّجَتْ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، فَذَكَرَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهَا كَانَتْ ثَيِّبًا، وَهَذَا يُوَافِقُ مَا تَقَدَّمَ.
وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ يَزِيدَ كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ يَحْيَى كَذَلِكَ.
وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ يَحْيَى كَذَلِكَ، لَكِنِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ مُجَمِّعِ بْنِ يَزِيدَ، وَالَّذِي بَلَّغَ يَحْيَى ذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ، فَسَيَأْتِي فِي تَرْكِ الْحِيَلِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ: إنَّ امْرَأَةً مِنْ وَلَدِ جَعْفَرٍ تَخَوَّفَتْ أَنْ يُزَوِّجَهَا وَلِيُّهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى شَيْخَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ: عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُجَمِّعٍ ابْنَيْ جَارِيَةَ قَالَا: فَلَا تَخْشَيْنَ فَإِنَّ خَنْسَاءَ بِنْتَ خِدَامٍ أَنْكَحَهَا أَبُوهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَرَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ قَالَ سُفْيَانُ: وَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ عَنْ أَبِيهِ أن خَنْسَاءَ انْتَهَى، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَنْسَاءَ مَوْصُولًا، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي مِنْ وَلَدِ جَعْفَرٍ هِيَ أُمُّ جَعْفَرٍ بِنْتُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَوَلِيُّهَا هُوَ عَمُّ أَبِيهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَخْرَجَهُ الْمُسْتَغْفِرِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ رَبِيعَةَ بِإِسْنَادِهِ: أَنَّهَا تَأَيَّمَتْ مِنْ زَوْجِهَا حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَإِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ فَقَالَتْ: إِنِّي لَا آمَنُ مُعَاوِيَةَ أَنْ يَضَعَنِي حَيْثُ لَا يُوَافِقُنِي، فَقَالَ لَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ،
وَلَوْ صَنَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَضْبِطِ اسْمَ وَالِدِ خَنْسَاءَ، وَلَا سَمَّى بِنْتَهُ كَمَا قَدَّمْتُهُ.
وَكُنْتُ ذَكَرْتُ فِي الْمُقَدِّمَةِ فِي تَسْمِيَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ وَلَدِ جَعْفَرٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهَا غَيْرَ الَّذِي هُنَا، وَالْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقَدْ حَصَلَ مِنْ تَحْرِيرِ ذَلِكَ مَا لَا أَظُنُّ أَنَّهُ يُزَادُ عَلَيْهِ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى جَمِيعِ مِنَنِهِ.
43 - بَاب تَزْوِيجِ الْيَتِيمَةِ
؛ لِقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا} وَإِذَا قَالَ لِلْوَلِيِّ: زَوِّجْنِي فُلَانَةَ فَمَكُثَ سَاعَةً، أَوْ قَالَ مَا مَعَكَ؟ فَقَالَ: مَعِي كَذَا وَكَذَا، أَوْ لَبِثَا ثُمَّ قَالَ: زَوَّجْتُكَهَا فَهُوَ جَائِزٌ، فِيهِ سَهْلٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
5140 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَ لَهَا: يَا أُمَّتَاهْ، {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} - إِلَى - {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا ابْنَ أُخْتِي، هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي جَمَالِهَا وَمَالِهَا، وَيُرِيدُ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ صَدَاقِهَا فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: اسْتَفْتَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} - إِلَى - {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْيَتِيمَةَ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ مَالٍ وَجَمَالٍ، ورَغِبُوا فِي نِكَاحِهَا وَنَسَبِهَا وَالصَّدَاقِ، وَإِذَا كَانَتْ مَرْغُوبًا عَنْهَا فِي قِلَّةِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ تَرَكُوهَا وَأَخَذُوا غَيْرَهَا مِنْ النِّسَاءِ، قَالَتْ: فَكَمَا يَتْرُكُونَهَا حِينَ يَرْغَبُونَ عَنْهَا، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْكِحُوهَا إِذَا رَغِبُوا فِيهَا، إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهَا وَيُعْطُوهَا حَقَّهَا الْأَوْفَى مِنْ الصَّدَاقِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ تَزْوِيجِ الْيَتِيمَةِ) لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي التَّفْسِيرِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَزْوِيجِ الْوَلِيِّ غَيْرِ الْأَبِ الَّتِي دُونَ الْبُلُوغِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْيَتِيمَةِ مَنْ كَانَتْ دُونَ الْبُلُوغِ وَلَا أَبَ لَهَا، وَقَدْ أَذِنَ فِي تَزْوِيجِهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُبْخَسَ مِنْ صَدَاقِهَا، فَيَحْتَاجُ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ إِلَى دَلِيلٍ قَوِيٍّ.
وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِحَدِيثِ: لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: الصَّغِيرَةُ لَا تُسْتَأْمَرُ، قُلْنَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَأْخِيرِ تَزْوِيجِهَا حَتَّى تَبْلُغَ فَتَصِيرَ أَهْلًا لِلِاسْتِئْمَارِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا تَكُونُ بَعْدَ الْبُلُوغِ يَتِيمَةً، قُلْنَا: التَّقْدِيرُ لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حَتَّى تَبْلُغَ فَتُسْتَأْمَرَ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَإِذَا قَالَ لِلْوَلِيِّ: زَوِّجْنِي فُلَانَةَ فَمَكَثَ سَاعَةً أَوْ قَالَ: مَا مَعَكَ؟ فَقَالَ: مَعِي كَذَا وَكَذَا أَوْ لَبِثَا، ثُمَّ قَالَ: زَوَّجْتُكَهَا فَهُوَ جَائِزٌ، فِيهِ سَهْلٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ يَعْنِي حَدِيثَ الْوَاهِبَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَيَأْتِي شَرْحُهُ قَرِيبًا، وَمُرَادُهُ مِنْهُ أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ إِذَا كَانَ فِي الْمَجْلِسِ لَا يَضُرُّ وَلَوْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ آخَرُ، وَفِي أَخْذِهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ يَطْرُقُهَا احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ قَبِلَ عَقِبِ الْإِيجَابِ
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ اللَّيْثُ:، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) تَقَدَّمَ طَرِيقُ اللَّيْثِ مَوْصُولًا فِي بَابِ الْأَكْفَاءِ فِي الْمَالِ، وَسَاقَ الْمَتْنَ هُنَاكَ عَلَى لَفْظِهِ،
وَهُنَا عَلَى لَفْظِ شُعَيْبٍ، وَقَدْ أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
44 - بَاب إِذَا قَالَ الْخَاطِبُ لِلْوَلِيِّ: زَوِّجْنِي فُلَانَةَ فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِكَذَا وَكَذَا جَازَ النِّكَاحُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لِلزَّوْجِ: أَرَضِيتَ أَوْ قَبِلْتَ
5141 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ رضي الله عنه: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، فَقَالَ: مَا لِي الْيَوْمَ فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَوِّجْنِيهَا، قَالَ: مَا عِنْدَكَ؟ قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ، قَالَ: أَعْطِهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ، قَالَ: فَمَا عِنْدَكَ مِنْ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا قَالَ: فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَالَ الْخَاطِبُ: زَوِّجْنِي فُلَانَةَ فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِكَذَا وَكَذَا جَازَ النِّكَاحُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لِلزَّوْجِ: أَرَضِيتَ أَوْ قَبِلْتَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: إِذَا قَالَ الْخَاطِبُ لِلْوَلِيِّ وَبِهِ يَتِمُّ الْكَلَامُ، وَهُوَ الْفَاعِلُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ لَمْ يَقُلْ، وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْوَاهِبَةِ أَيْضًا، وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِمَسْأَلَةِ هَلْ يَقُومُ الِالْتِمَاسُ مَقَامَ الْقَبُولِ فَيَصِيرُ كَمَا لَوْ تَقَدَّمَ الْقَبُولُ عَلَى الْإِيجَابِ، كَأَنْ يَقُولُ: تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ عَلَى كَذَا، فَيَقُولُ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَهَا بِذَلِكَ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ الْقَبُولِ؟ فَاسْتَنْبَطَ الْمُصَنِّفُ مِنْ قِصَّةِ الْوَاهِبَةِ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ بَعْدَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ: قَدْ قَبِلْتُ، لَكِنِ اعْتَرَضَهُ الْمُهَلَّبُ فَقَالَ: بِسَاطُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَغْنَى عَنْ تَوْقِيفِ الْخَاطِبِ عَلَى الْقَبُولِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمُرَاوَضَةِ وَالطَّلَبِ وَالْمُعَاوَدَةِ فِي ذَلِكَ، فَمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِ هَذَا الرَّجُلِ الرَّاغِبِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَصْرِيحٍ مِنْهُ بِالْقَبُولِ لِسَبْقِ الْعِلْمِ بِرَغْبَتِهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ تَقُمِ الْقَرَائِنُ عَلَى رِضَاهُ انْتَهَى. وَغَايَتُهُ أَنَّهُ يَسْلَمُ الِاسْتِدْلَالُ لَكِنْ يَخُصُّهُ بِخَاطِبٍ دُونَ خَاطِبٍ، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ وَجْهَ الْخَدْشِ فِي أَصْلِ الِاسْتِدْلَالِ.
قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: (فَقَالَ: مَا لِيَ الْيَوْمَ فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ) فِيهِ إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِي حَدِيثِ: فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ فَهَذَا دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ التَّزْوِيجَ لَوْ أَعْجَبَتْهُ، فَكَانَ مَعْنَى الْحَدِيثِ مَا لِي فِي النِّسَاءِ إِذَا كُنَّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ حَاجَةٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جَوَازُ النَّظَرِ مُطْلَقًا مِنْ خَصَائِصِهِ وَإِنْ لَمْ يُرِدِ التَّزْوِيجَ، وَتَكُونُ فَائِدَتُهُ احْتِمَالَ أَنَّهَا تُعْجِبُهُ فَيَتَزَوَّجُهَا مَعَ اسْتِغْنَائِهِ حِينَئِذٍ عَنْ زِيَادَةٍ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ مِنَ النِّسَاءِ صلى الله عليه وسلم.
45 - بَاب لَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَدَعَ
5142 -
حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا يُحَدِّثُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يَقُولُ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ.
5143 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ الْأَعْرَجِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَأْثُرُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا،
وَكُونُوا إِخْوَانًا.
[الحديث 5143 - أطرافه في: 66064، 6066، 6774]
5144 -
وَلَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَدَعَ) كَذَا أَوْرَدَهُ بِلَفْظِ: أَوْ يَدَعَ، وَذَكَرَهُ فِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: أَوْ يَتْرُكَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ بِلَفْظِ: حَتَّى يَذَرَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَدَعَ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
قَوْلُهُ: (نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْبُيُوعِ، وَالْبَحْثُ فِي اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِ، وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ هُمُ الْمُسْلِمُونَ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَخْطُبْ) بِالْجَزْمِ عَلَى النَّهْيِ، أَيْ وَقَالَ: لَا يَخْطُبُ. وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ نَفْيٌ، وَسِيَاقُ ذَلِكَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ أَبْلَغُ فِي الْمَنْعِ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ يَبِيعَ عَلَى أَنَّ لَا فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَخْطُبْ زَائِدَةٌ، وَيُؤَيِّدُ الرَّفْعَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَلَا يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ بِرَفْعِ الْعَيْنِ مِنْ يَبِيعُ، وَالْبَاءِ مِنْ يَخْطُبُ، وَإِثْبَاتِ التَّحْتَانِيَّةِ فِي يَبِيعُ.
قَوْلُهُ: (أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ)؛ أَيْ حَتَّى يَأْذَنَ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي.
قَوْلُهُ: فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ) لِلَّيْثٍ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فِي قِصَّةِ الْخِطْبَةِ فَقَطْ؛ وَسَأَذْكُرُ لَفْظَهُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةُ يَأْثُرُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ تَقُولُ: آثَرْتُ الْحَدِيثَ آثُرُهُ بِالْمَدِّ أَثْرًا بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، ثُمَّ سُكُونٍ إِذَا ذَكَرْتَهُ عَنْ غَيْرِكَ، وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فَذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا.
قَوْلُهُ: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ إِلَخْ) يَأْتِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مَعَ شَرْحِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِلْحَانِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ شَيْخَ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، فَزَادَ فِي الْمَتْنِ زِيَادَاتٍ ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ مُفَرَّقَةً، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، قَالَ الْجُمْهُورُ: هَذَا النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا النَّهْيُ لِلتَّأْدِيبِ، وَلَيْسَ بِنَهْيِ تَحْرِيمٍ يُبْطِلُ الْعَقْدَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، كَذَا قَالَ، وَلَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ كَوْنِهِ لِلتَّحْرِيمِ وَبَيْنَ الْبُطْلَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ لِلتَّحْرِيمِ وَلَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ، بَلْ حَكَى النَّوَوِيُّ أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِلتَّحْرِيمِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي شُرُوطِهِ فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: مَحِلُّ التَّحْرِيمِ مَا إِذَا صَرَّحَتِ الْمَخْطُوبَةُ أَوْ وَلِيُّهَا الَّذِي أَذِنَتْ لَهُ حَيْثُ يَكُونُ إِذْنُهَا مُعْتَبَرًا بِالْإِجَابَةِ، فَلَوْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِالرَّدِّ فَلَا تَحْرِيمَ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الثَّانِي بِالْحَالِ فَيَجُوزُ الْهُجُومُ عَلَى الْخِطْبَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ، وَإِنْ وَقَعَتِ الْإِجَابَةُ بِالتَّعْرِيضِ كَقَوْلِهَا: لَا رَغْبَةَ عَنْكَ فَقَوْلَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، الْأَصَحُّ وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ لَا يَحْرُمُ أَيْضًا، وَإِذَا لَمْ تَرُدَّ وَلَمْ تَقْبَلْ فَيَجُوزُ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ قَوْلُ فَاطِمَةَ: خَطَبَنِي مُعَاوِيَةُ، وَأَبُو جَهْمٍ فَلَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ عَلَيْهِمَا؛ بَلْ خَطَبَهَا لِأُسَامَةَ، وَأَشَارَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَا خَطَبَا مَعًا أَوْ لَمْ يَعْلَمِ الثَّانِي
بِخِطْبَةِ الْأَوَّلِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَشَارَ بِأُسَامَةَ وَلَمْ يَخْطُبْ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ خَطَبَ فَكَأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لَهَا مَا فِي مُعَاوِيَةَ، وَأَبِي جَهْمٍ ظَهَرَ مِنْهَا الرَّغْبَةُ عَنْهُمَا فَخَطَبَهَا لِأُسَامَةَ.
وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَعْنَى حَدِيثِ الْبَابِ إِذَا خَطَبَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فَرَضِيَتْ بِهِ، وَرَكَنَتْ إِلَيْهِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِرِضَاهَا وَلَا رُكُونِهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَخْطُبَهَا،
وَالْحُجَّةُ فِيهِ قِصَّةُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَإِنَّهَا لَمْ تُخْبِرْهُ بِرِضَاهَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ أَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ لَمْ يُشِرْ عَلَيْهَا بِغَيْرِ مَنِ اخْتَارَتْ فَلَوْ لَمْ تُوجَدْ مِنْهَا إِجَابَةٌ وَلَا رَدٌّ، فَقَطَعَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِالْجَوَازِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى الْقَوْلَيْنِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْبِكْرِ عَلَى أَنَّ سُكُوتَهَا رِضًا بِالْخَاطِبِ، وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ لَا تُمْنَعُ الْخِطْبَةِ إِلَّا عَلَى خِطْبَةِ مَنْ وَقَعَ بَيْنَهُمَا التَّرَاضِي عَلَى الصَّدَاقِ.
وَإِذَا وُجِدَتْ شُرُوطُ التَّحْرِيمِ، وَوَقَعَ الْعَقْدُ لِلثَّانِي فَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَصِحُّ مَعَ ارْتِكَابِ التَّحْرِيمِ، وَقَالَ دَاوُدُ: يُفْسَخُ النِّكَاحُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ خِلَافٌ كَالْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُفْسَخُ قَبْلَهُ لَا بَعْدَهُ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الْخِطْبَةُ، وَالْخِطْبَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ فَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِوُقُوعِهَا غَيْرَ صَحِيحَةٍ، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ: إنَّ هَذَا النَّهْيُ مَنْسُوخٌ بِقِصَّةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، ثُمَّ رَدَّهُ وَغَلَّطَهُ بِأَنَّهَا جَاءَتْ مُسْتَشِيرَةً فَأُشِيرَ عَلَيْهَا بِمَا هُوَ الْأَوْلَى وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خِطْبَةٌ عَلَى خِطْبَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ إِنَّ دَعْوَى النَّسْخِ فِي مِثْلِ هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَشَارَ إِلَى عِلَّةِ النَّهْيِ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ بِالْأُخُوَّةِ، وَهِيَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ، وَعِلَّةٌ مَطْلُوبَةٌ لِلدَّوَامِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَلْحَقَهَا النَّسْخُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْخَاطِبَ الْأَوَّلَ إِذَا أَذِنَ لِلْخَاطِبِ الثَّانِي فِي التَّزْوِيجِ ارْتَفَعَ التَّحْرِيمُ، وَلَكِنْ هَلْ يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْمَأْذُونِ لَهُ أَوْ يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِ؟ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِذْنِ الصَّادِرِ مِنَ الْخَاطِبِ الْأَوَّلِ دَالٌّ عَلَى إِعْرَاضِهِ عَنْ تَزْوِيجِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ وَبِإِعْرَاضِهِ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَخْطُبَهَا، الظَّاهِرُ الثَّانِي فَيَكُونُ الْجَوَازُ لِلْمَأْذُونِ لَهُ بِالتَّنْصِيصِ وَلِغَيْرِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِالْإِلْحَاقِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ أَوْ يَتْرُكَ.
وَصَرَّحَ الرُّويَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ مَحِلَّ التَّحْرِيمِ إِذَا كَانَتِ الْخِطْبَةُ مِنَ الْأَوَّلِ جَائِزَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَمْنُوعَةً كَخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ لَمْ يَضُرَّ الثَّانِيَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنْ يَخْطُبَهَا وَهُوَ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ بِذَلِكَ حَقٌّ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ أَنَّ مَحِلَّ التَّحْرِيمِ إِذَا كَانَ الْخَاطِبُ مُسْلِمًا، فَلَوْ خَطَبَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيَّةً، فَأَرَادَ الْمُسْلِمُ أَنْ يَخْطُبَهَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَوَافَقَهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ جُوَيْرِيَةَ، وَالْخَطَّابِيُّ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عِنْدِ مُسْلِمٍ: الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَتِهِ حَتَّى يَذَرَ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَطَعَ اللَّهُ الْأُخُوَّةُ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ فَيَخْتَصُّ النَّهْيُ بِالْمُسْلِمِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الْأَصْلُ فِي هَذَا الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَرِدَ الْمَنْعُ، وَقَدْ وَرَدَ الْمَنْعُ مُقَيَّدًا بِالْمُسْلِمِ فَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى إِلْحَاقِ الذِّمِّيِّ بِالْمُسْلِمِ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ التَّعْبِيرَ بِأَخِيهِ خُرِّجَ عَلَى الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} وَكَقَوْلِهِ: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَبَنَاهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هَلْ هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَاحْتِرَامِهِ أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ فَالرَّاجِحُ مَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ، وَعَلَى الثَّانِي فَالرَّاجِحُ مَا قَالَ غَيْرُهُ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْبِنَاءِ اخْتِلَافُهُمْ فِي ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلْكَافِرِ فَمَنْ جَعَلَهَا مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ أَثْبَتَهَا لَهُ، وَمَنْ جَعَلَهَا مِنْ حُقُوقِ الْمَالِكِ مَنَعَ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ أَنَّ الْخَاطِبَ الْأَوَّلَ إِذَا كَانَ فَاسِقًا جَازَ لِلْعَفِيفِ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَتِهِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْهُمْ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَخْطُوبَةُ عَفِيفَةً فَيَكُونُ الْفَاسِقُ غَيْرَ كُفْءٍ لَهَا، فَتَكُونُ خِطْبَتُهُ كَلَا خِطْبَةٍ.
وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْجُمْهُورُ ذَلِكَ إِذَا صَدَرَتْ مِنْهَا عَلَامَةُ الْقَبُولِ، وَقَدْ أَطْلَقَ بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ، وَيَلْتَحِقُ بِهَذَا مَا حَكَاهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْجَوَازِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْخَاطِبُ الْأَوَّلُ أَهْلًا فِي الْعَادَةِ لَخِطْبَةِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، كَمَا لَوْ خَطَبَ سُوقِيٌّ بِنْتَ مَلِكٍ وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى التَّكَافُؤِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ خِطْبَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى خِطْبَةِ امْرَأَةٍ أُخْرَى؛ إِلْحَاقًا لِحُكْمِ النِّسَاءِ بِحُكْمِ الرِّجَالِ، وَصُورَتُهُ أَنْ تَرْغَبَ امْرَأَةٌ فِي رَجُلٍ وَتَدْعُوهُ إِلَى تَزْوِيجِهَا فَيُجِيبُهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَتَجِيءُ امْرَأَةٌ أُخْرَى فَتَدْعُوهُ، وَتُرَغِّبُهُ فِي نَفْسِهَا وَتُزَهِّدُهُ فِي
الَّتِي قَبْلَهَا، وَقَدْ صَرَّحُوا بِاسْتِحْبَابِ خِطْبَةِ أَهْلِ الْفَضْلِ مِنَ الرِّجَالِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحِلَّ هَذَا إِذَا كَانَ الْمَخْطُوبُ عَزَمَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ إِلَّا بِوَاحِدَةٍ، فَأَمَّا إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَلَا تَحْرِيمَ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ فِي بَابِ الشُّرُوطِ الَّتِي لَا تَحِلُّ فِي النِّكَاحِ مَزِيدُ بَحْثٍ فِي هَذَا.
قَوْلُهُ: (حَتَّى يَنْكِحَ)؛ أَيْ حَتَّى يَتَزَوَّجَ الْخَاطِبُ الْأَوَّلُ فَيَحْصُلُ الْيَأْسُ الْمَحْضُ، وَقَوْلُهُ:(أَوْ يَتْرُكَ)؛ أَيِ الْخَاطِبُ الْأَوَّلُ التَّزْوِيجَ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ لِلثَّانِي الْخِطْبَةُ، فَالْغَايَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ: الْأُولَى تَرْجِعُ إِلَى الْيَأْسِ، وَالثَّانِيَةُ تَرْجِعُ إِلَى الرَّجَاءِ، وَنَظِيرُ الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى:{حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}
46 - بَاب تَفْسِيرِ تَرْكِ الْخِطْبَةِ
5145 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يُحَدِّثُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ قَالَ عُمَرُ: لَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ إِلَّا أَنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا. تَابَعَهُ يُونُسُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ.
قَوْلُهُ: (بَابُ تَفْسِيرِ تَرْكِ الْخِطْبَةِ) ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ، وَفِي آخِرِهِ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه: وَلَوْ تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى قَبْلَ أَبْوَابٍ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ مَا مُلَخَّصُهُ: تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ تَفْسِيرُ تَرْكِ الْخِطْبَةِ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ، وَحَدِيثُ عُمَرَ فِي قِصَّةِ حَفْصَةَ لَا يَظْهَرُ مِنْهُ تَفْسِيرُ تَرْكِ الْخِطْبَةِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ حَفْصَةَ، قَالَ: وَلَكِنَّهُ قَصَدَ مَعْنًى دَقِيقًا يَدُلُّ عَلَى ثُقُوبِ ذِهْنِهِ وَرُسُوخِهِ فِي الِاسْتِنْبَاطِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ إِلَى عُمَرَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّهُ؛ بَلْ يَرْغَبُ فِيهِ، وَيَشْكُرُ اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَامَ عِلْمُ أَبِي بَكْرٍ بِهَذَا الْحَالِ مَقَامَ الرُّكُونِ وَالتَّرَاضِي، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: كُلُّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُصْرَفُ إِذَا خَطَبَ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَتِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ أَنْ يُحَقِّقَ امْتِنَاعَ الْخِطْبَةِ عَلَى الْخِطْبَةِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ امْتَنَعَ وَلَمْ يَكُنِ انْبَرَمَ الْأَمْرُ بَيْنَ الْخَاطِبِ وَالْوَلِيِّ فَكَيْفَ لَوِ انْبَرَمَ وَتَرَاكَنَا فَكَأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ مِنْهُ بِالْأَوْلَى. قُلْتُ: وَمَا أَبَدَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ أَدَقُّ وَأَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ يُونُسُ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَابْنُ أَبِي عَتِيقٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ)؛ أَيْ بِإِسْنَادِهِ، أَمَّا مُتَابَعَةُ يُونُسَ وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ فَوَصَلَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ مِنْ طَرِيقِ أَصْبَغَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ الْآخَرِينَ فَوَصَلَهَا الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْهُمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلْمُصَنِّفِ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ أَيْضًا.
47 - بَاب الْخُطْبَةِ
5146 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلَانِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا.
[الحديث 5146، طرفه في: 5767]
قَوْلُهُ: (بَابُ الْخُطْبَةِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ؛ أَيْ عِنْدَ الْعَقْدِ، ذكر فيه حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: جَاءَ رَجُلَانِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: سِحْرًا بِغَيْرِ لَامٍ، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ سَيَأْتِي بِتَمَامِهِ فِي الطِّبِّ مَعَ شَرْحِهِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: أَدْخَلَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَلَيْسَ هُوَ مَوْضِعِهِ، قَالَ: وَالْبَيَانُ نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ مَا يُبَيِّنُ بِهِ الْمُرَادُ، وَالثَّانِي: تَحْسِينُ اللَّفْظِ حَتَّى يَسْتَمِيلَ قُلُوبَ السَّامِعِينَ. وَالثَّانِي هُوَ الَّذِي يُشَبَّهُ بِالسَّحَرِ، وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْبَاطِلُ، وَشَبَّهَهُ بِالسَّحَرِ؛ لِأَنَّ السَّحَرَ صَرْفُ الشَّيْءِ عَنْ حَقِيقَتِهِ.
قُلْتُ: فَمِنْ هُنَا تُؤْخَذُ الْمُنَاسَبَةُ، وَيُعْرَفُ أَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْخِطْبَةَ وَإِنْ كَانَتْ مَشْرُوعَةً فِي النِّكَاحِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُقْتَصِدَةً، وَلَا يَكُونَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي صَرْفَ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ بِتَحْسِينِ الْكَلَامِ. وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ لَفْظَ السَّحَرِ عَلَى الصَّرْفِ تَقُولُ: مَا سَحَرَكَ عَنْ كَذَا؟ أَيْ مَا صَرَفَكَ عَنْهُ؟ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ صَخْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَفَعَهُ: إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا. قَالَ: فَقَالَ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، الرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَهُوَ أَلْحَنُ بِالْحُجَّةِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ فَيَسْحَرُ النَّاسَ بَيَانُهُ فَيَذْهَبُ بِالْحَقِّ.
وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: وَجْهُ إِدْخَالِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّ الْخُطْبَةَ فِي النِّكَاحِ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِلْخَاطِبِ؛ لِيَسْهُلَ أَمْرُهُ فَشُبِّهَ حُسْنُ التَّوَصُّلِ إِلَى الْحَاجَةِ بِحُسْنِ الْكَلَامِ فِيهَا بِاسْتِنْزَالِ الْمَرْغُوبِ إِلَيْهِ بِالْبَيَانِ بِالسِّحْرِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ طُبِعَتْ عَلَى الْأَنَفَةِ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْلَيَاتِ فِي أَمْرِ النِّكَاحِ، فَكَانَ حُسْنُ التَّوَصُّلِ لِرَفْعِ تِلْكَ الْأَنَفَةِ وَجْهًا مِنْ وُجُوهِ السِّحْرِ الَّذِي يَصْرِفُ الشَّيْءَ إِلَى غَيْرِهِ. وَوَرَدَ فِي تَفْسِيرِ خُطْبَةِ النِّكَاحِ أَحَادِيثُ مِنْ أَشْهَرِهَا مَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ الْحَدِيثَ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، رَوَاهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ شُعْبَةُ:، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةِ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: فَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ إِسْرَائِيلَ رَوَاهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَجَمَعَهُمَا. قَالَ: وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ بِغَيْرِ خُطْبَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ اهـ. وَقَدْ شَرَطَهُ فِي النِّكَاحِ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَهُوَ شَاذٌّ.
48 - بَاب ضَرْبِ الدُّفِّ فِي النِّكَاحِ وَالْوَلِيمَةِ
5147 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ قَالَ: قَالَتْ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ: جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ حِينَ بُنِيَ عَلَيَّ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي، فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِي يَوْمَ بَدْرٍ؛ إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَالَ: دَعِي هَذِهِ، وَقُولِي بِالَّذِي كُنْتِ تَقُولِينَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ ضَرْبِ الدُّفِّ فِي النِّكَاحِ وَالْوَلِيمَةِ) يَجُوزُ فِي الدُّفِّ ضَمُّ الدَّالِ وَفَتْحُهَا، وَقَوْلُهُ: وَالْوَلِيمَةِ مَعْطُوفٌ عَلَى النِّكَاحِ؛ أَيْ ضَرْبُ الدُّفِّ فِي الْوَلِيمَةِ وَهُوَ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ وَلِيمَةَ النِّكَاحِ خَاصَّةً، وَأَنَّ ضَرْبَ الدُّفِّ يُشْرَعُ فِي النِّكَاحِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَعِنْدَ الدُّخُولِ مَثَلًا، وَعِنْدَ الْوَلِيمَةِ كَذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عَلَى مَا سَأُبَيِّنُهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ) هُوَ الْمَدَنِيُّ يُكَنَّى أَبَا الْحَسَنِ، وَهُوَ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ.
قَوْلُهُ: (جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ عَلَيَّ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَدَخَلَ عَلَيَّ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ فِي أَوَّلِهِ قِصَّةٌ مِنْ طَرِيقِ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ، وَاسْمُهُ خَالِدٌ الْمَدَنِيُّ قَالَ: كُنَّا بِالْمَدِينَةِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَالْجَوَارِي يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَتَغَنَّيْنَ، فَدَخَلْنَا عَلَى الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهَا، فَقَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ الْحَدِيثَ، هَكَذَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَقَالَ: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْخَطْمِيِّ بَدَلَ أَبِي الْحُسَيْنِ.
قَوْلُهُ: (حِينَ بَنَى عَلَيَّ) فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ صَبِيحَةَ عُرْسِي، وَالْبِنَاءُ الدُّخُولُ بِالزَّوْجَةِ، وَبَيَّنَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ حِينَئِذٍ إِيَاسَ بْنَ الْبُكَيْرِ اللَّيْثِيَّ، وَأَنَّهَا وَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدَ بْنَ إِيَاسٍ، قِيلَ: لَهُ صُحْبَةٌ.
قَوْلُهُ: (كَمَجْلِسِكَ) بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ مَكَانِكِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، أَوْ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْحِجَابِ، أَوْ جَازَ النَّظَرُ لِلْحَاجَةِ أَوْ عِنْدِ الْأَمْنِ مِنَ الْفِتْنَةِ اهـ.
وَالْأَخِيرُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَالَّذِي وَضَحَ لَنَا بِالْأَدِلَّةِ الْقَوِيَّةِ أَنَّ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَوَازُ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا، وَهُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ عَنْ قِصَّةِ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فِي دُخُولِهِ عَلَيْهَا، وَنَوْمِهِ عِنْدَهَا، وَتَفْلِيَتِهَا رَأْسَهُ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مَحْرَمِيَّةٌ وَلَا زَوْجِيَّةٌ، وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ: مَجْلَسِكَ بِفَتْحِ اللَّامِ؛ أَيْ جُلُوسِكَ وَلَا إِشْكَالَ فِيهَا.
قَوْلُهُ: (فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا) لَمْ أَقِفُ عَلَى اسْمِهِنَّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِلَفْظِ جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ تكونَ الثِّنْتَانِ هُمَا الْمُغَنِّيَتَانِ، وَمَعَهُمَا مَنْ يَتْبَعُهُمَا أَوْ يُسَاعِدُهُمَا فِي ضَرْبِ الدُّفِّ مِنْ غَيْرِ غِنَاءٍ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ النِّسْوَةِ اللَّاتِي يُهْدِينَ الْمَرْأَةَ إِلَى زَوْجِهَا زِيَادَةٌ فِي هَذَا.
قَوْلُهُ: (وَيَنْدُبْنَ) مِنَ النُّدْبَةِ بِضَمِّ النُّونِ، وَهِيَ ذِكْرُ أَوْصَافِ الْمَيِّتِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَتَعْدِيدِ مَحَاسِنِهِ بِالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ وَنَحْوِهَا.
قَوْلُهُ: (مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِي يَوْمَ بَدْرٍ) تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْمَغَازِي، وَإِنَّ الَّذِي قُتِلَ مِنْ آبَائِهَا إِنَّمَا قُتِلَ بِأُحُدٍ، وَآبَاؤُهَا الَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا مُعَوِّذٌ، وَمُعَاذٌ، وَعَوْفٌ وَأَحَدُهُمْ أَبُوهَا وَالْآخَرَانِ عَمَّاهَا أَطْلَقَتِ الْأُبُوَّةَ عَلَيْهِمَا تَغْلِيبًا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ دَعِي هَذِهِ)؛ أَيِ اتْرُكِي مَا يَتَعَلَّقُ بِمَدْحِي الَّذِي فِيهِ الْإِطْرَاءُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، زَادَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ، فَأَشَارَ إِلَى عِلَّةِ الْمَنْعِ.
قَوْلُهُ: (وَقُولِي بِالَّذِي كُنْتِ تَقُولِينَ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ سَمَاعِ الْمَدْحِ وَالْمَرْثِيَةِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ مُبَالَغَةٌ تُفْضِي إِلَى الْغُلُوِّ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِنِسَاءٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي عُرْسٍ لَهُنَّ وَهُنَّ يُغَنِّينَ:
وَأَهْدَى لَهَا كَبْشًا تَنَحْنَحَ فِي الْمِرْبَدِ
…
وَزَوْجُكِ فِي الْبَادِي وَتَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ
فَقَالَ: لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِعْلَانُ النِّكَاحِ بِالدُّفِّ وَبِالْغِنَاءِ الْمُبَاحِ، وَفِيهِ إِقْبَالُ الْإِمَامِ إِلَى الْعُرْسِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ لَهْوٌ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الْمُبَاحِ. وَفِيهِ جَوَازُ مَدْحِ الرَّجُلِ فِي وَجْهِهِ مَا لَمْ يَخْرُجْ إِلَى مَا لَيْسَ فِيهِ.
وَأَغْرَبَ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: إِنَّمَا نَهَاهَا؛ لِأَنَّ مَدْحَهُ حَقٌّ وَالْمَطْلُوبُ فِي النِّكَاحِ اللَّهْوُ، فَلَمَّا أَدْخَلَتِ الْجَدَّ فِي اللَّهْوِ مَنَعَهَا، كَذَا قَالَ، وَتَمَامُ الْخَبَرِ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ يَرُدُّ عَلَيْهِ، وَسِيَاقُ الْقِصَّةِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمَا لَوِ اسْتَمَرَّتَا عَلَى الْمَرَائي لَمْ يَنْهَهُمَا، وَغَالِبُ حُسْنِ الْمَرَائي جَدٌّ لَا لَهْوٌ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهَا مَا ذُكِرَ مِنَ الْإِطْرَاءِ حَيْثُ أَطْلَقَ عِلْمَ الْغَيْبِ لَهُ، وَهُوَ صِفَةٌ تَخْتَصُّ بِاللَّهِ تَعَالَى، كما قَالَ تَعَالَى:{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} وَقَوْلُهُ لِنَبِيِّهِ: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} وَسَائِرُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ بِهِ مِنَ الْغُيُوبِ بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ لَا أَنَّهُ يَسْتَقِلُّ بِعِلْمِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَحْثِ في مَسْأَلَةِ الْغِنَاءِ فِي الْعُرْسِ بَعْدَ اثْنَيْ عَشَرَ بَابًا
49 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} وَكَثْرَةِ الْمَهْرِ، وَأَدْنَى مَا يَجُوزُ مِنْ الصَّدَاقِ،
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ.
5148 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ، فَرَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَشَاشَةَ الْعُرْسِ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ، وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} وَكَثْرَةِ الْمَهْرِ، وَأَدْنَى مَا يَجُوزُ مِنَ الصَّدَاقِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} . هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ لَا يَتَقَدَّرُ أَقَلُّهُ، وَالْمُخَالِفُ فِي ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِمَّا ذَكَرَهُ الْإِطْلَاقُ مِنْ قَوْلِهِ:{صَدُقَاتِهِنَّ} ، وَمِنْ قَوْلِهِ: فَرِيضَةٌ، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ: وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَكَثْرَةِ الْمَهْرِ فَهُوَ بِالْجَرِّ عُطِفَ عَلَى قَوْلِ اللَّهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلَاهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ كَثْرَةِ الْمَهْرِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّتْ بِذَلِكَ الْمَرْأَةُ الَّتِي نَازَعَتْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَا تُغَالُوا فِي مُهُورِ النِّسَاءِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ يَا عُمَرُ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ عُمَرُ: امْرَأَةٌ خَاصَمَتْ عُمَرَ فَخَصَمَتْهُ وَأَخْرَجَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُنْقَطِعٍ فَقَالَ عُمَرُ: امْرَأَةٌ أَصَابَتْ رَجُلٌ أَخْطَأَ وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عُمَرَ فَذَكَرَهُ مُتَّصِلًا مُطَوَّلًا، وَأَصْلُ قَوْلِ عُمَرَ: لَا تَغَالَوْا فِي صَدَقَاتِ النِّسَاءِ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ قِصَّةُ الْمَرْأَةِ، وَمُحَصِّلُ الِاخْتِلَافِ أَنَّهُ أَقَلُّ مَا يُتَمَوَّلُ، وَقِيلَ: أَقَلُّهُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ وَقِيلَ: خَمْسُونَ، وَأَقَلُّ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَقِيلَ: ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَقِيلَ: خَمْسَةٌ وَقِيلَ: عَشَرَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ الْوَاهِبَةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى بَعْدَ هَذَا، وَيَأْتِي مَزِيدٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ قَلِيلٍ أَيْضًا، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ تَزْوِيجِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَفِيهِ قَوْلُهُ: (تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ الْوَلِيمَةِ وَلَوْ بِشَاةٍ بَعْدَ بِضْعَةَ عَشَرَ بَابًا.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنْهُمَا، فَبَيَّنَ أَنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ صُهَيْبٍ أَطْلَقَ عَنْ أَنَسٍ النَّوَاةَ، وَقَتَادَةُ زَادَ أَنَّهَا مِنْ ذَهَبٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَعَنْ قَتَادَةَ مُعَلَّقًا. وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْحَدِيثَ عَنْ يُوسُفَ الْقَاضِي، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ بِطَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَطْ، وَأَخْرَجَ طَرِيقَ قَتَادَةَ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، وَعَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، وَكَذَا صَنَعَ أَبُو نُعَيْمٍ أَخْرَجَ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ طَرِيقَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَحْدَهُ، وَأَخْرَجَ طَرِيقَ قَتَادَةَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
50 - بَاب التَّزْوِيجِ عَلَى الْقُرْآنِ وَبِغَيْرِ صَدَاقٍ
5149 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ يَقُولُ: إِنِّي لَفِي الْقَوْمِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ قَامَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ، فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ، فَلَمْ يُجِبْهَا شَيْئًا، ثُمَّ قَامَتْ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ، فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ، فَلَمْ يُجِبْهَا شَيْئًا، ثُمَّ قَامَتْ الثَّالِثَةَ فَقَالَتْ: إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ، فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْكِحْنِيهَا، قَالَ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: اذْهَبْ فَاطْلُبْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَذَهَبَ وطَلَبَ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، قَالَ: هَلْ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ؟ قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا، قَالَ: اذْهَبْ فَقَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّزْوِيجِ عَلَى الْقِرَانِ وَبِغَيْرِ صَدَاقٍ)؛ أَيْ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَبِغَيْرِ صَدَاقٍ مَالِيٍّ عَيْنِيٍّ، وَيَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بَعْدَ هَذَا لَكِنْ بِاخْتِصَارٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَتِهِ أَتَمَّ مِنْهُ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ أَتَمُّ مِنَ ابْنِ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيُّ مَقْرُونًا بِرِوَايَةِ مَعْمَرٍ؛ وَأَخْرَجَ رِوَايَةَ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَيْضًا مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ مَدَارُهُ عَلَى أَبِي حَازِمٍ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ الْمَدَنِيِّ وَهُوَ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، حَدَّثَ بِهِ كِبَارَ الْأَئِمَّةِ عَنْهُ مِثْلُ مَالِكٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَتُهُ فِي الْوَكَالَةِ وَقَبْلَ أَبْوَابٍ هُنَا، وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ كَمَا ذَكَرْتُهُ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَرِوَايَتُهُ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَتَقَدَّمَتْ قَبْلَ أَبْوَابٍ هُنَا أَيْضًا وَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ، وَفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ أَبِي غَسَّانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَتُهُمَا قَرِيبًا فِي النِّكَاحِ، وَلَمْ يُخْرِجْهُمَا مُسْلِمٌ، وَيَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْإِسْكَنْدَرانِيُّ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَرِوَايَتُهُمَا فِي النِّكَاحِ أَيْضًا، وَيَعْقُوبُ أَيْضًا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ يَأْتِي فِي اللِّبَاسِ وَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، وَزَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ وَرِوَايَتُهُمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَمَعْمَرٌ وَرِوَايَتُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَهِشَامُ بْنُ سَعْدٍ وَرِوَايَتُهُ فِي صَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ وَالطَّبَرَانِيِّ، وَمُبَشِّرُ بْنُ مُبَشِّرٍ وَرِوَايَتُهُ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ جُرَيْجٍ وَرِوَايَتُهُ عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَقَدْ رَوَى طَرَفًا مِنْهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ.
وَجَاءَتِ الْقِصَّةُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِاخْتِصَارٍ وَالنَّسَائِيُّ مُطَوَّلًا، وَابْنُ مَسْعُودٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي عُمَرَ بْنِ حَيْوَةَ فِي فَوَائِدِهِ، وَضُمَيْرَةُ جَدُّ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَجَاءَتْ مُخْتَصَرَةً مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلَ أَبْوَابٍ، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ طَرَفٌ مِنْهُ آخَرُ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ تَمَّامٍ فِي فَوَائِدِهِ، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ أَخْبَرَهُ.
قَوْلُهُ: (إِنِّي لَفِي الْقَوْمِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ قَامَتِ امْرَأَةٌ) فِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جُلُوسًا فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَتَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ، وَكَذَا
فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيُمْكِنُ رَدُّ رِوَايَةِ سُفْيَانَ إِلَيْهَا بِأَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: قَامَتْ وَقَفَتْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى أَنْ وَقَفَتْ عِنْدَهُمْ، لَا أَنَّهَا كَانَتْ جَالِسَةً فِي الْمَجْلِسِ فَقَامَتْ. وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَأَفَادَ تَعْيِينَ الْمَكَانِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ الْقِصَّةُ.
وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا، وَوَقَعَ فِي الْأَحْكَامِ لِابْنِ الْقَصَّاعِ أَنَّهَا خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ أَوْ أُمُّ شَرِيكٍ، وَهَذَا نَقْلٌ مِنِ اسْمِ الْوَاهِبَةِ الْوَارِدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ اسْمِهَا فِي تَفْسِيرِ الْأَحْزَابِ وَمَا يَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ الْوَاهِبَةِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ) كَذَا فِيهِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، لَكِنْ قَالَ: إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَكَانَ السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنْ تَقُولَ: إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ، وَبِهَذَا اللَّفْظِ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ زَائِدَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ، وَكَذَا الثَّوْرِيُّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ أَهَبُ نَفْسِي لَكَ، وَفِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ: فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تَعْرِضُ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، وَفِي كُلِّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ حَذْفُ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: أَمْرُ نَفْسِي أَوْ نَحْوُهُ، وَإِلَّا فَالْحَقِيقَةُ غَيْرُ مُرَادَةٍ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْحُرِّ لَا تُمْلَكُ، فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: أَتَزَوَّجُكَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ.
قَوْلُهُ: (فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِرَاءٍ وَاحِدَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا فَاءُ التَّعْقِيبِ، وَهِيَ فِعْلُ أَمْرٍ مِنَ الرَّأْيِ، وَلِبَعْضِهِمْ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الرَّاءِ وَكُلٌّ صَوَابٌ، وَوَقَعَ بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ يُجِبْهَا شَيْئًا) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَالثَّوْرِيِّ وَزَائِدَةَ: فَصَمَتَ، وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ، وَابْنِ حَازِمٍ، وَهِشَامِ بْنِ سَعْدٍ: فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ مِنْ صَعَّدَ وَالْوَاوُ مِنْ صَوَّبَ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ نَظَرَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا، وَالتَّشْدِيدُ إِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأَمُّلِ وَإِمَّا لِلتَّكْرِيرِ، وَبِالثَّانِي جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ قَالَ: أَيْ نَظَرَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا مِرَارًا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ: فَخَفَّضَ فِيهَا الْبَصَرَ وَرَفَّعَهُ وَهُمَا بِالتَّشْدِيدِ أَيْضًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ النَّظَرُ بَدَلَ الْبَصَرِ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ: فَصَمَتَ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ: فَلَمْ يَرُدَّهَا، وَقَدْ قَدَّمْتُ ضَبْطَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي بَابِ إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الْخَاطِبَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَامَتْ فَقَالَتْ) وَقَعَ هَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ وَسِيَاقُ لَفْظِهَا كَالْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمَا أَيْضًا: ثُمَّ قَامَتِ الثَّالِثَةُ وَسِيَاقُهَا كَذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَالثَّوْرِيِّ مَعًا عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: فَصَمَتَ، ثُمَّ عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ فَصَمَتَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا قَائِمَةً مَلِيًّا تَعْرِضُ نَفْسَهَا عَلَيْهِ وَهُوَ صَامِتٌ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: فَقَامَتْ طَوِيلًا، وَمِثْلُهُ لِلثَّوْرِيِّ عَنْهُ وَهُوَ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ قِيَامًا طُويلًا، أَوْ لِظَرْفٍ مَحْذُوفٍ أَيْ زَمَانًا طَوِيلًا، وَفِي رِوَايَةِ مُبَشِّرٍ: فَقَامَتْ حَتَّى رَئيْنَا لَهَا مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، زَادَ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ، وَابْنِ أَبِي حَازِمٍ: فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهَا: وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فَقَالَ: مَا لِي فِي النِّسَاءِ حَاجَةٌ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْحَالِ، فَكَأَنَّهُ صَمَتَ أَوَّلًا لِتَفْهَمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهَا، فَلَمَّا أَعَادَتِ الطَّلَبَ أَفْصَحَ لَهَا بِالْوَاقِعِ.
وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا: اجْلِسِي، فَجَلَسَتْ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ، فَقَالَ: اجْلِسِي بَارَكَ اللَّهُ فِيكِ، أَمَّا نَحْنُ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيكِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ وُفُورُ أَدَبِ الْمَرْأَةِ مَعَ شِدَّةِ رَغْبَتِهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُبَالِغْ فِي الْإِلْحَاحِ فِي الطَّلَبِ، وَفَهِمَتْ مِنَ السُّكُوتِ عَدَمَ الرَّغْبَةِ، لَكِنَّهَا لَمَّا لَمْ تَيْأَسْ مِنَ الرَّدِّ جَلَسَتْ تَنْتَظِرُ الْفَرَجَ، وَسُكُوتُهُ صلى الله عليه وسلم إِمَّا حَيَاءً مِنْ مُوَاجَهَتِهَا بِالرَّدِّ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم شَدِيدَ الْحَيَاءِ جِدًّا كَمَا تَقَدَّمَ فِي صِفَتِهِ أَنَّهُ كَانَ أَشَدَّ حَيَاءً
مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، وَإِمَّا انْتِظَارًا لِلْوَحْيِ، وَإِمَّا تَفَكُّرًا فِي جَوَابٍ يُنَاسِبُ الْمَقَامَ.
قَوْلُهُ: (فَقَامَ رَجُلٌ) فِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَالثَّوْرِيِّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فَقَامَ رَجُلٌ أَحْسَبُهُ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَفِي رِوَايَةِ زَائِدَةَ عِنْدَهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ يَنْكِحُ هَذِهِ؟ فَقَامَ رَجُلٌ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْكِحْنِيهَا) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ وَنَحْوُهُ لِيَعْقُوبَ، وَابْنِ أَبِي حَازِمٍ، وَمَعْمَرٍ، وَالثَّوْرِيِّ وَزَائِدَةَ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ لَا حَاجَةَ لِي لِجَوَازِ أَنْ تَتَجَدَّدَ الرَّغْبَةُ فِيهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ) زَادَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ تُصْدِقُهَا، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَلَكَ مَالٌ.
قَوْلُهُ: (قَالَ لَا) فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ، وَابْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَادَ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ: قَالَ: فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ شَيْءٍ، وَفِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: عِنْدَكَ شَيْءٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: إِنَّهُ لَا يَصْلُحُ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ لَا حَاجَةَ لِي: وَلَكِنْ تُمْلِكِينِي أَمْرَكِ، قَالَتْ: نَعَمْ. فَنَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَدَعَا رَجُلًا فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَكِ هَذَا إِنْ رَضِيتِ، قَالَتْ: مَا رَضِيتَ لِي فَقَدْ رَضِيتُ، وَهَذَا إِنْ كَانَتِ الْقِصَّةُ مُتَّحِدَةً يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ نَظَرُهُ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ بَعْدَ أَنْ سَأَلَهُ الرَّجُلُ أَنْ يُزَوِّجَهَا لَهُ فَاسْتَرْضَاهَا أَوَّلًا ثُمَّ تَكَلَّمَ مَعَهُ فِي الصَّدَاقِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقِصَّةُ مُتَعَدِّدَةً فَلَا إِشْكَالَ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي فَوَائِدِ أَبِي عُمَرَ بْنِ حَيْوَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: إِنَّ هَذِهِ امْرَأَةٌ رَضِيَتْ بِي فَزَوِّجْهَا مِنِّي، قَالَ: فَمَا مَهْرُهَا؟ قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ: قَالَ: امْهُرْهَا مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ. قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَمْلِكُ شَيْئًا، وَهَذِهِ الْأَظْهَرُ فِيهَا التَّعَدُّدُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: اذْهَبْ فَاطْلُبْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ، وَابْنِ أَبِي حَازِمٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ: اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ فائض هَلْ تَجِدُ شَيْئًا. فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا وَجَدْتُ شَيْئًا. قَالَ: انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: ثُمَّ ذَهَبَ يَطْلُبُ مَرَّتَيْنِ، لَكِنْ بِاخْتِصَارٍ. وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ: فَذَهَبَ فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا فَرَجَعَ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ شَيْئًا فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَالْتَمِسْ، وَقَالَ فِيهِ: فَقَالَ: وَلَا خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ لَمْ أَجِدْهُ، ثُمَّ جَلَسَ، وَوَقَعَ فِي خَاتَمٍ النَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِالْتَمِسْ، وَالرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِ مَا حَصَلَ لِي وَلَا خَاتَمٌ، وَلَوْ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ خَاتَمًا تَقْلِيلِيَّةٌ، قَالَ عِيَاضٌ: وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ خِلَافَ ذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ: قُمْ إِلَى النِّسَاءِ، فَقَامَ إِلَيْهِنَّ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا، وَالْمُرَادُ بِالنِّسَاءِ أَهْلُ الرَّجُلِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ رِوَايَةُ يَعْقُوبَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ): كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِاخْتِصَارٍ ذِكْرُ الْإِزَارُ، وَثَبَتَ ذِكْرُهُ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ مَنْ قَدَّمَ ذِكْرَهُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْتِمَاسِ الشَّيْءِ أَوِ الْخَاتَمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَّرَهُ، فَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ قَالَ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا إِيَّاهُ؟ قَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي هَذَا. فَقَالَ: إِزَارُكَ إِنْ أَعْطَيْتَهَا جَلَسْتَ لَا إِزَارَ لَكَ، فَالْتَمِسْ شَيْئًا، وَيَجُوزُ فِي قَوْلِهِ: (إِزَارُكَ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ الْخَبَرُ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ إِيَّاهُ، وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِأَعْطَيْتَهَا، وَالْإِزَارُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. وَقَدْ جَاءَ هُنَا مُذَكَّرًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ، وَابْنِ أَبِي حَازِمٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: اذْهَبْ إِلَى أَهْلِك - إِلَى أَنْ قَالَ - وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي قَالَ سَهْلٌ أَيِ ابْنُ سَعْدٍ الرَّاوِي: مَا لَهُ رِدَاءٌ فَلَهَا نِصْفُهُ قَالَ: مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسَتْهُ الْحَدِيثَ.
وَوَقَعَ لِلْقُرْطُبِيِّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَهْمٌ فَإِنَّهُ ظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَهَا نِصْفُهُ مِنْ كَلَامِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَشَرَحَهُ بِمَا نَصَّهُ، وَقَوْلُ سَهْلٍ: مَا لَهُ رِدَاءٌ فَلَهَا نِصْفُهُ ظَاهِرُهُ لَوْ كَانَ لَهُ رِدَاءٌ
لَشَرِكَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ، وَهَذَا بَعِيدٌ إِذْ لَيْسَ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ وَلَا الرَّجُلِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مُرَادَ سَهْلٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ مُضَافٌ إِلَى الْإِزَارِ لَكَانَ لِلْمَرْأَةِ نِصْفُ مَا عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ إِمَّا الرِّدَاءُ وَإِمَّا الْإِزَارُ؛ لِتَعْلِيلِهِ الْمَنْعَ بِقَوْلِهِ: (إِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ عَلَيْكَ ثَوْبٌ تَنْفَرِدُ أَنْتَ بِلُبْسِهِ، وَثَوْبٌ آخَرُ تَأْخُذُهُ هِيَ تَنْفَرِدُ بِلُبْسِهِ لَكَانَ لَهَا أَخْذُهُ، فَإِمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَلَا انْتَهَى.
وَقَدْ أَخَذَ كَلَامَهَ هَذَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَذَكَرَهُ مُلَخَّصًا، وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَهْمِ الَّذِي دَخَلَهُ الْوَهْمُ، وَالَّذِي قَالَ: فَلَهَا نِصْفُهُ هُوَ الرَّجُلُ صَاحِبُ الْقِصَّةِ، وَكَلَامُ سَهْلٍ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ: (مَا لَهُ رِدَاءٌ فَقَطْ وَهِيَ جُمْلَةٌ مُعْتَرَضَةٌ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي فَلَهَا نِصْفُهُ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ وَلَفْظُهُ: وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي وَلَهَا نِصْفُهُ قَالَ سَهْلٌ: وَمَا لَهُ رِدَاءٌ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَقَامَ رَجُلٌ عَلَيْهِ إِزَارٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ، وَمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنْ لَبِسَتْهُ إِلَخْ؛ أَيْ إِنْ لَبِسَتْهُ كَامِلًا وَإِلَّا فَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنْ ضِيقِ حَالِهِمْ وَقِلَّةِ الثِّيَابِ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا لَوْ لَبِسَتْهُ بَعْدَ أَنْ تَشُقَّهُ لَمْ يَسْتُرْهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ نَفْيَ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَنْفِي جُمْلَةَ الشَّيْءِ إِذَا انْتَفَى كَمَالُهُ، وَالْمَعْنَى لَوْ شَقَقْتَهُ بَيْنَكُمَا نِصْفَيْنِ لَمْ يَحْصُلْ كَمَالُ سِتْرِكَ بِالنِّصْفِ إِذَا لَبِسْتَهُ وَلَا هِيَ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مَا وَجَدْتُ وَاللَّهِ شَيْئًا غَيْرَ ثَوْبِي هَذَا، اشْقُقْهُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، قَالَ: مَا فِي ثَوْبِكَ فَضْلٌ عَنْكَ، وَفِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ: وَلَكِنِّي أَشُقُّ بُرْدَتِي هَذِهِ فَأُعْطِيهَا النِّصْفَ وَآخُذُ النِّصْفَ، وَفِي رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ: قَالَ مَا أَمْلِكُ إِلَّا إِزَارِي هَذَا، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَبِسَتْهُ فَأَيَّ شَيْءٍ تَلْبَسُ، وَفِي رِوَايَةِ مُبَشِّرٍ: هَذِهِ الشَّمْلَةُ الَّتِي عَلَيَّ لَيْسَ عِنْدِي غَيْرُهَا، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ: مَا عَلَيْهِ إِلَّا ثَوْبٌ وَاحَدٌ عَاقِدٌ طَرَفَيْهِ عَلَى عُنُقِهِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ: وَاللَّهُ مَا لِي ثَوْبٌ إِلَّا هَذَا الَّذِي عَلَيَّ، وَكُلُّ هَذَا مِمَّا يُرَجِّحُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: فَقَالَ: أَعْطِهَا ثَوْبًا، قَالَ: لَا أَجِدُ، قَالَ: أَعْطِهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَاعْتَلَّ لَهُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَاعْتَلَّ لَهُ أَيِ اعْتَذَرَ بِعَدَمِ وِجْدَانِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ رِوَايَةُ غَيْرِهِ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي غَسَّانَ قَبْلَ قَوْلِهِ: هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَاهُ أَوْ دَعَّى لَهُ، وَفِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَقَامَ طَوِيلًا ثُمَّ وَلَّى، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ الرَّجُلِ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، وَيَعْقُوبَ مِثْلُهُ لَكِنْ قَالَ: فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُوَلِّيًا فَأَمَرَ بِهِ فَدَعَّى لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ يكونَ هَذَا بَعْدَ قَوْلِهِ كَمَا فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ؟ فَاسْتَفْهَمَهُ حِينَئِذٍ عَنْ كَمَّيِّتِهِ، وَوَقَعَ الْأَمْرَانِ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ قَالَ: فَهَلْ تَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَاذَا؟ قَالَ: سُورَةُ كَذَا، وَعُرِفَ بِهَذَا الْمُرَادِ بِالْمَعِيَّةِ، وَأَنَّ مَعْنَاهَا الْحِفْظُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ وَبَيَانُ مَنْ زَادَ فِيهِ: أَتَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَمَعِي سُورَةُ كَذَا، قَالَ: عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا) زَادَ مَالِكٌ تَسْمِيَتَهَا، وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ، وَابْنِ أَبِي حَازِمٍ عَدَّهُنَّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي غَسَّانَ: لِسُوَرٍ يُعَدِّدُهَا، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَوَّجَ رَجُلًا امْرَأَةً عَلَى سُورَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ يُعَلِّمُهَا إِيَّاهُمَا، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا تَحْفَظُ مِنَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ أَوِ الَّتِي تَلِيهَا كَذَا فِي كِتَابَيْ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ بِلَفْظِ: أَوْ وَزَعَمَ بَعْضُ مَنْ لَقِينَاهُ أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِالْوَاوِ، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ بِلَفْظِ: أَوْ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: قَالَ: نَعَمْ، سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَسُورَةُ الْمُفَصَّلِ، وَفِي حَدِيثِ ضُمَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَوَّجَ رَجُلًا عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ، وَفِي حَدِيثِ
أَبِي أُمَامَةَ: زَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ امْرَأَةً عَلَى سُورَةٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ جَعَلَهَا مَهْرَهَا وَأَدْخَلَهَا عَلَيْهِ وَقَالَ: عَلِّمْهَا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ: فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً وَهِيَ امْرَأَتُكَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أُزَوِّجُهَا مِنْكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَهَا أَرْبَعَ - أَوْ خَمْسَ - سُوَرٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَفِي مُرْسَلِ أَبِي النُّعْمَانِ الْأَزْدِيِّ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: زَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةً عَلَى سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ: هَلْ تَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قَالَ: أَصْدِقْهَا إِيَّاهَا، وَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ حَفِظَ مَا لَمْ
يَحْفَظْ بَعْضٌ، أَوْ أَنَّ الْقَصَصَ مُتَعَدِّدَةٌ.
قَوْلُهُ: (اذْهَبْ فَقَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) فِي رِوَايَةِ زَائِدَةَ مِثْلُهُ، لَكِنْ قَالَ فِي آخِرِهِ: فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: قَالَ لَهُ: قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عنْد إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَمُبَشِّرٍ، وَفِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: قَدْ زَوَّجْتُكَهَا عَلَى مَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، وَفِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَفِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، وَمَعْمَرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ، وَابْنِ أَبِي حَازِمٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: قَدْ أَمْلَكْتُكَهَا وَالْبَاقِي مِثْلُهُ، وَقَالَ فِي أُخْرَى: فَرَأَيْتُهُ يَمْضِي وَهِيَ تَتْبَعُهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي غَسَّانَ: أَمْكَنَّاكَهَا وَالْبَاقِي مِثْلُهُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: قَدْ أَنْكَحْتُكَهَا عَلَى أَنْ تُقْرِئَهَا وَتُعَلِّمَهَا، وَإِذَا رَزَقَكَ اللَّهُ عَوَّضْتَهَا، فَتَزَوَّجَهَا الرَّجُلُ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَشْيَاءُ غَيْرُ مَا تَرْجَمَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَفَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَعِدَّةِ تَرَاجِمَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ تَوْجِيهَ التَّرْجَمَةِ وَمُطَابَقَتَهَا لِلْحَدِيثِ وَوَجْهُ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْهَا. وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ وَالتَّوْحِيدِ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ.
وَفِيهِ أَيْضًا أَنْ لَا حَدَّ لِأَقَلِّ الْمَهْرِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَقَلَّ الْمَهْرِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَكَذَا مَنْ قَالَ رُبْعُ دِينَارٍ، قَالَ: لِأَنَّ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ لَا يُسَاوِي ذَلِكَ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: تَعَلَّقَ بِهِ مَنْ أَجَازَ النِّكَاحَ بِأَقَلَّ مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّعْلِيلِ وَلَكِنْ مَالِكٌ قَاسَهُ عَلَى الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ.
قَالَ عِيَاضٌ: تَفَرَّدَ بِهَذَا مَالِكٌ عَنِ الْحِجَازِيِّينَ، لَكِنْ مُسْتَنَدُهُ الِالْتِفَاتُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} وَبِقَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا لَهُ بَالٌ مِنَ الْمَالِ، وَأَقَلُّهُ مَا اسْتُبِيحَ بِهِ قَطْعُ الْعُضْوِ الْمُحْتَرَمِ، قَالَ: وَأَجَازَهُ الْكَافَّةُ بِمَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ، أَوْ مِنَ الْعَقْدِ إِلَيْهِ بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ كَالسَّوْطِ وَالنَّعْلِ إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ، وَبِهِ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو الزِّنَادِ، وَرَبِيعَةُ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ غَيْرَ مَالِكٍ وَمَنْ تَبِعَهُ وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَمُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ فِي أَهْلِ الشَّامِ، وَاللَّيْثُ فِي أَهْلِ مِصْرَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ، غَيْرَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَدَاوُدُ، وَفُقَهَاءُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَابْنُ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَقَلُّهُ عَشَرَةٌ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ أَقَلُّهُ خَمْسَةٌ، وَمَالِكٌ أَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ أَوْ رُبْعُ دِينَارٍ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مِقْدَارِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ.
وَقَدْ قَالَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، لِمَالِكٍ لَمَّا سَمِعَهُ يَذْكُرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ: تَعَرَّقْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَيْ سَلَكْتَ سَبِيلَ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي قِيَاسِهِمْ مِقْدَارَ الصَّدَاقِ عَلَى مِقْدَارِ نِصَابِ السَّرِقَةِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اسْتَدَلَّ مَنْ قَاسَهُ بِنِصَابِ السَّرِقَةِ بِأَنَّهُ عُضْوٌ آدَمِيٌّ مُحْتَرَمٌ فَلَا يُسْتَبَاحُ بِأَقَلَّ مِنْ كَذَا قِيَاسًا عَلَى يَدِ السَّارِقِ، وَتَعَقَّبَهُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابِلِ النَّصِّ فَلَا يَصِحُّ، وَبِأَنَّ الْيَدَ تُقْطَعُ وَتَبِينُ وَلَا كَذَلِكَ الْفَرْجُ، وَبِأَنَّ الْقَدْرَ الْمَسْرُوقَ يَجِبُ عَلَى السَّارِقِ رَدُّهُ مَعَ الْقَطْعِ وَلَا كَذَلِكَ الصَّدَاقُ.
وَقَدْ ضَعَّفَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا هَذَا
الْقِيَاسَ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ: قِيَاسُ قَدْرِ الصَّدَاقِ بِنِصَابِ السَّرِقَةِ لَيْسَ بِالْبَيِّنِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ إِنَّمَا قُطِعَتْ فِي رُبْعِ دِينَارٍ نَكَالًا لِلْمَعْصِيَةِ، وَالنِّكَاحُ مُسْتَبَاحٌ بِوَجْهٍ جَائِزٍ، وَنَحْوُهُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَخَّارِ مِنْهُمْ. نَعَمْ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَدَاقَ الْحُرَّةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ مَالٍ لَهُ قَدْرٌ لِيَحْصُلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَهْرِ الْأَمَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ مَا يُسَمَّى مَالًا فِي الْجُمْلَةِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَقَدْ حَدَّهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى نِصَابِ السَّرِقَةِ، وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ رَدُّهُ إِلَى الْمُتَعَارَفِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَزْنُ الْخَاتَمِ مِنَ الْحَدِيدِ لَا يُسَاوِي رُبْعَ دِينَارٍ، وَهُوَ مِمَّا لَا جَوَابَ عَنْهُ وَلَا عُذْرَ فِيهِ، لَكِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا نَظَرُوا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} فَمَنَعَ اللَّهُ الْقَادِرَ عَلَى الطَّوْلِ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ، فَلَوْ كَانَ الطَّوْلُ دِرْهَمًا مَا تَعَذَّرَ عَلَى أَحَدٍ. ثُمَّ تَعَقَّبَهُ بِأَنَّ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ كَذَلِكَ، يَعْنِي فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِلتَّحْدِيدِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُرَادِ بِالطَّوْلِ.
وَفِيهِ أَنَّ الْهِبَةَ فِي النِّكَاحِ خَاصَّةٌ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِقَوْلِ الرَّجُلِ: زَوِّجْنِيهَا وَلَمْ يَقُلْ: هَبْهَا لِي. وَلِقَوْلِهَا هِيَ: وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ وَسَكَتَ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ لَهُ خَاصَّةً، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وَفِيهِ جَوَازُ انْعِقَادِ نِكَاحِهِ صلى الله عليه وسلم بِلَفْظِ الْهِبَةِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْآخَرُ لَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ النِّكَاحِ أَوِ التَّزْوِيجِ. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ. وَفِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ يُزَوِّجُ مَنْ لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ خَاصٌّ لِمَنْ يَرَاهُ كُفُؤًا لَهَا وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ رِضَاهَا بِذَلِكَ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَهَا وَلَا أَنَّهَا وَكَلَّتْهُ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ؛ يَعْنِي فَيَكُونُ خَاصًّا بِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يُزَوِّجُ مَنْ شَاءَ مِنَ النِّسَاءِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانِهَا لِمَنْ شَاءَ، وَبِنَحْوِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ. وَأَجَابَ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّهَا لَمَّا قَالَتْ لَهُ: وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ كَانَ كَالْإِذْنِ مِنْهَا فِي تَزْوِيجِهَا لِمَنْ أَرَادَ؛ لِأَنَّهَا لَا تُمْلَكُ حَقِيقَةً، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى جَعَلْتُ لَكَ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي تَزْوِيجِي اهـ.
وَلَوْ رَاجَعَا حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَا احْتَاجَا إِلَى هَذَا التَّكَلُّفِ، فَإِنَّ فِيهِ كَمَا قَدَّمْتُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْمَرْأَةِ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَكِ هَذَا إِنْ رَضِيتِ، فَقَالَتْ: مَا رَضِيتَ لِي فَقَدْ رَضِيتُ.
وَفِيهِ جَوَازُ تَأَمُّلِ مَحَاسِنِ الْمَرْأَةِ لِإِرَادَةِ تَزْوِيجِهَا وَإِنْ لَمْ تَتَقَدَّمِ الرَّغْبَةُ فِي تَزْوِيجِهَا وَلَا وَقَعَتْ خِطْبَتُهَا؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَعَّدَ فِيهَا النَّظَرَ وَصَوَّبَهُ، وَفِي الصِّيغَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ رَغْبَةٌ فِيهَا وَلَا خِطْبَةٌ، ثُمَّ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي النِّسَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ أَنَّهُ إِذَا رَأَى مِنْهَا مَا يُعْجِبُهُ أَنَّهُ يَقْبَلُهَا مَا كَانَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَأَمُّلِهَا فَائِدَةٌ. وَيُمْكِنُ الِانْفِصَالُ عَنْ ذَلِكَ بِدَعْوَى الْخُصُوصِيَّةِ لَهُ لِمَحَلِّ الْعِصْمَةِ. وَالَّذِي تَحَرَّرَ عِنْدَنَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إِلَى الْمُؤْمِنَاتِ الْأَجْنَبِيَّاتِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ.
وَسَلَكَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْجَوَابِ مَسْلَكًا آخَرَ فَقَالَ: يَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ الْحِجَابِ، أَوْ بَعْدَهُ لَكِنْهَا كَانَتْ مُتَلَفِّفَةً، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يُبْعِدُ مَا قَالَ.
وَفِيهِ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا قَالَتْ: وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ وَلَمْ يَقُلْ قَبِلْتُ لَمْ يَتِمَّ مَقْصُودُهَا وَلَوْ قَبِلَهَا لَصَارَتْ زَوْجًا لَهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى الْقَائِلِ زَوِّجْنِيهَا، وَفِيهِ جَوَازُ الْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَةِ مَنْ خَطَبَ إِذَا لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمَا رُكُونٌ وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَاحَتْ مَخَايِلُ الرَّدِّ، قَالَهُ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ، وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهَا خِطْبَةٌ لِأَحَدٍ وَلَا مَيْلٌ، بَلْ هِيَ أَرَادَتْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَعَرَضَتْ نَفْسَهَا مَجَّانًا مُبَالَغَةً مِنْهَا فِي تَحْصِيلِ مَقْصُودِهَا فَلَمْ يَقْبَلْ، وَلَمَّا قَالَ: لَيْسَ لِي حَاجَةٌ فِي النِّسَاءِ عَرَفَ الرَّجُلُ أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْهَا فَقَالَ: زَوِّجْنِيهَا، ثُمَّ بَالَغَ فِي الِاحْتِرَازِ فَقَالَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ تَصْرِيحِهِ بِنَفْيِ الْحَاجَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَبْدُوَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَدْعُوهُ إِلَى إِجَابَتِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى وُفُورِ فِطْنَةِ الصَّحَابِيِّ الْمَذْكُورِ وَحُسْنِ أَدَبِهِ.
قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْبَاجِيُّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ
الَّذِي ذَكَرَهُ يُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ لَوْ فَهِمَ أَنَّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا رَغْبَةٌ لَمْ يَطْلُبْهَا، فَكَذَلِكَ مَنْ فَهِمَ أَنَّ لَهُ رَغْبَةً فِي تَزْوِيجِ امْرَأَةٍ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُزَاحِمَهُ فِيهَا حَتَّى يُظْهَرَ عَدَمُ رَغْبَتِهِ فِيهَا إِمَّا بِالتَّصْرِيحِ أَوْ مَا فِي حُكْمِهِ.
وَفِيهِ أَنَّ النِّكَاحَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الصَّدَاقِ لِقَوْلِهِ: (هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تَصْدُقُهَا؟ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَطَأَ فَرْجًا وُهِبَ لَهُ دُونَ الرَّقَبَةِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ. وَفِيهِ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَذْكُرَ الصَّدَاقَ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ أَقْطَعُ لِلنِّزَاعِ وَأَنْفَعُ لِلْمَرْأَةِ، فَلَوْ عَقَدَ بِغَيْرِ ذِكْرِ صَدَاقٍ صَحَّ، وَوَجَبَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ بِالدُّخُولِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ بِالْعَقْدِ. وَوَجْهُ كَوْنِهِ أَنْفَعَ لَهَا أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى أَنْ لَوْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَعْجِيلِ تَسْلِيمِ الْمَهْرِ. وَفِيهِ جَوَازُ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اسْتِحْلَافٍ لِلتَّأْكِيدِ، لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَفِي قَوْلِهِ: (أَعْنَدَكَ شَيْءٌ؟ فَقَالَ: لَا دَلِيلَ عَلَى تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقَرِينَةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ شَيْءٍ يَشْمَلُ الْخَطِيرَ وَالتَّافَهَ، وَهُوَ كَانَ لَا يَعْدَمُ شَيْئًا تَافِهًا كَالنَّوَاةِ وَنَحْوِهَا، لَكِنَّهُ فَهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا لَهُ قِيمَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَلِذَلِكَ نَفَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ.
وَنَقَلَ عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ الَّذِي لَا يُتَمَوَّلُ وَلَا لَهُ قِيمَةٌ لَا يَكُونُ صَدَاقًا وَلَا يَحِلُّ بِهِ النِّكَاحُ، فَإِنْ ثَبَتَ نَقْلُهُ فَقَدْ خَرَقَ هَذَا الْإِجْمَاعَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: يَجُوزُ بِكُلِّ مَا يُسَمَّى شَيْئًا وَلَوْ كَانَ حَبَّةً مِنْ شَعِيرٍ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكَافَّةُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ أَوْرَدَهُ مَوْرِدَ التَّقْلِيلِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا فَوْقُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَاتَمَ مِنَ الْحَدِيدِ لَهُ قِيمَةٌ وَهُوَ أَعْلَى خَطَرًا مِنَ النَّوَاةِ وَحَبَّةِ الشَّعِيرِ، وَمَسَاقُ الْخَبَرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ دُونَهُ يَسْتَحِلُّ بِهِ الْبُضْعُ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي أَقَلِّ الصَّدَاقِ لَا يَثْبُتُ مِنْهَا شَيْءٌ، مِنْهَا عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي لَبِيبَةَ رَفَعَهُ: مَنِ اسْتَحَلَّ بِدِرْهَمٍ فِي النِّكَاحِ فَقَدِ اسْتَحَلَّ، وَمِنْهَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ: مَنْ أَعْطَى فِي صَدَاقِ امْرَأَةٍ سَوِيقًا أَوْ تَمْرًا فَقَدِ اسْتَحَلَّ، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَجَازَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ عَلَى نَعْلَيْنِ، وَعِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِ الْمَهْرِ: وَلَوْ عَلَى سِوَاكٍ مِنْ أَرَاكٍ وَأَقْوَى شَيْءٍ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: كُنَّا نَسْتَمْتِعُ بِالْقَبْضَةِ مِنَ التَّمْرِ وَالدَّقِيقِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَهَى عَنْهَا عُمَرُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنَّمَا نَهَى عُمَرُ عَنِ النِّكَاحِ إِلَى أَجْلٍ لَا عَنْ قَدْرِ الصَّدَاقِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ لِلْجُمْهُورِ لِجَوَازِ النِّكَاحِ بِالْخَاتَمِ الْحَدِيدِ وَمَا هُوَ نَظِيرُ قِيمَتِهِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ: لَا شَكَّ أَنَّ خَاتَمَ الْحَدِيدِ لَا يُسَاوِي رُبْعَ دِينَارٍ، وَهَذَا لَا جَوَابَ عَنْهُ لِأَحَدٍ وَلَا عُذْرَ فِيهِ.
وَانْفَصَلَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ هَذَا الْإِيرَادِ مَعَ قُوَّتِهِ بِأَجْوِبَةٍ: مِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ: (وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ. خُرِّجَ مَخْرَجَ الْمُبَالَغَةِ فِي طَلَبِ التَّيْسِيرِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُرِدْ عَيْنَ الْخَاتَمِ الْحَدِيدِ وَلَا قَدْرَ قِيمَتِهِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: لَا أَجِدُ شَيْئًا عُرِفَ أَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّيْءِ مَا لَهُ قِيمَةٌ فَقِيلَ لَهُ: وَلَوْ أَقَلُّ مَا لَهُ قِيمَةٌ كَخَاتَمِ الْحَدِيدِ، وَمِثْلُهُ: تَصَدَّقُوا وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحَرَّقٍ وَلَوْ بِفِرْسِنِ شَاةٍ، مَعَ أَنَّ الظِّلْفَ وَالْفِرْسِنَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يُتَصَدَّقُ بِهِ، وَمِنْهَا احْتِمَالُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ مَا يُعَجِّلُ نَقْدَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا أَنَّ ذَلِكَ جَمِيعُ الصَّدَاقِ، وَهَذَا جَوَابُ ابْنِ الْقَصَّارِ، وَهَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ حَيْثُ اسْتَحَبُّوا تَقْدِيمَ رُبْعِ دِينَارٍ أَوْ قِيمَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا أَقَلَّ، وَمِنْهَا دَعْوَى اخْتِصَاصِ الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ بِهَذَا الْقَدْرِ دُونَ غَيْرِهِ وَهَذَا جَوَابُ الْأَبْهَرِيِّ، وَتُعَقَّبَ بِأَنَّ الْخُصُوصِيَّةِ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ.
وَمِنْهَا احْتِمَالُ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ إِذْ ذَاكَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ أَوْ رُبْعَ دِينَارٍ. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَوَّجَ رَجُلًا بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ فَصُّهُ فِضَّةٌ: وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الْخَاتَمِ مِنَ الْحَدِيدِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَلَى وُجُوبِ تَعْجِيلِ الصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، إِذْ لَوْ سَاغَ تَأْخِيرُهُ لَسَأَلَهُ هَلْ يَقْدِرُ
عَلَى تَحْصِيلِ مَا يُمْهِرُهَا بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا وَيَتَقَرَّرُ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ، وَيُمْكِنُ الِانْفِصَالُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَشَارَ بِالْأَوْلَى، وَالْحَامِلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ثُبُوتُ جَوَازِ نِكَاحِ الْمُفَوِّضَةِ وَثُبُوتُ جَوَازِ النِّكَاحِ عَلَى مُسَمًّى فِي الذِّمَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهِ أَنَّ إِصْدَاقَ مَا يُتَمَوَّلُ يُخْرِجُهُ عَنْ يَدِ مَالِكِهِ حَتَّى إنَّ مَنْ أَصْدَقَ جَارِيَةً مَثَلًا حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا وَكَذَا اسْتِخْدَامُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ مَنْ أَصْدَقَهَا، وَأَنَّ صِحَّةَ الْمَبِيعِ تَتَوَقَّفُ عَلَى صِحَّةِ تَسْلِيمِهِ فَلَا يَصِحُّ مَا تَعَذَّرَ إِمَّا حِسًّا كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَإِمَّا شَرْعًا كَالْمَرْهُونِ، وَكَذَا الَّذِي لَوْ زَالَ إِزَارُهُ لَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، كَذَا قَالَ عِيَاضٌ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ جَعْلِ الْمَنْفَعَةِ صَدَاقًا وَلَوْ كَانَ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْبَاءَ لِلتَّعْوِيضِ كَقَوْلِكَ: بِعْتُكَ ثَوْبِي بِدِينَارٍ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَإِلَّا لَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى اللَّامِ عَلَى مَعْنَى تَكْرِيمِهِ؛ لِكَوْنِهِ حَامِلًا لِلْقُرْآنِ لَصَارَتِ الْمَرْأَةُ بِمَعْنَى الْمَوْهُوبَةِ وَالْمَوْهُوبَةُ خَاصَّةٌ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اهـ.
وَانْفَصَلَ الْأَبْهَرِيُّ - وَقَبِلَهُ الطَّحَاوِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُمَا كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ - عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِذَلِكَ الرَّجُلِ، لِكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْوَاهِبَةِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُنْكِحَهَا لِمَنْ شَاءَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ، وَنَحْوُهُ لِلدَّاوُدِيِّ وَقَالَ: إِنْكَاحُهَا إِيَّاهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَوَّاهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ مَلَّكْتُكَهَا لَمْ يُشَاوِرْهَا وَلَا اسْتَأْذَنَهَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهَا هيَ أَوَّلًا فَوَّضَتْ أَمْرَهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ: فَرَ فِيَّ رَأْيَكَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ الْخَبَرِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى مُرَاجَعَتِهَا فِي تَقْدِيرِ الْمَهْرِ وَصَارَتْ كَمَنْ قَالَتْ لِوَلِيِّهَا زَوِّجْنِي بِمَا تَرَى مِنْ قَلِيلِ الصَّدَاقِ وَكَثِيرِهِ، وَاحْتَجَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ مُرْسَلِ أَبِي النُّعْمَانِ الْأَزْدِيِّ قَالَ: زَوَّجَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةً عَلَى سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَقَالَ: لَا تَكُونُ لِأَحَدٍ بَعْدَكَ مَهْرًا، وَهَذَا مَعَ إِرْسَالِهِ فِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مَكْحُولٍ قَالَ: لَيْسَ هَذَا لِأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَأَخْرَجَ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ نَحْوُهُ. وَقَالَ عِيَاضٌ: يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ وَجْهَيْنِ أَظْهَرُهُمَا أَنْ يُعَلِّمَهَا مَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا مِنْهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ صَدَاقَهَا، وَقَدْ جَاءَ هَذَا التَّفْسِيرُ عَنْ مَالِكٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ الصَّحِيحَةِ: فَعَلَّمَهَا مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَيَّنَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِقْدَارَ مَا يُعَلِّمُهَا وَهُوَ عِشْرُونَ آيَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ بِمَعْنَى اللَّامِ أَيْ لِأَجَلِ مَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ فَأَكْرَمَهُ بِأَنْ زَوَّجَهُ الْمَرْأَةَ بِلَا مَهْرٍ لِأَجْلِ كَوْنِهِ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ أَوْ لِبَعْضِهِ، وَنَظِيرُهُ قِصَّةُ أَبِي طَلْحَةَ مَعَ أُمِّ سَلِيمٍ وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَطَبَ أَبُو طَلْحَةَ مَعَ أُمِّ سَلِيمٍ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا مِثْلُكَ يُرَدُّ، وَلَكِنَّكَ كَافِرٌ وَأَنَا مُسْلِمَةٌ، وَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَزَوَّجَكَ، فَإِنْ تُسْلِمْ فَذَاكَ مَهْرِي وَلَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، فَأَسْلَمَ، فَكَانَ ذَلِكَ مَهْرَهَا، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: تَزَوَّجَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سَلِيمٍ فَكَانَ صَدَاقُ مَا بَيْنَهُمَا الْإِسْلَامَ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَكَانَ ذَلِكَ صَدَاقَ مَا بَيْنَهُمَا تَرْجَمَ عَلَيْهِ النَّسَائِيُّ التَّزْوِيجُ عَلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ تَرْجَمَ عَلَى حَدِيثِ سَهْلٍ التَّزْوِيجُ عَلَى سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَكَأَنَّهُ مَالَ إِلَى تَرْجِيحِ الِاحْتِمَالِ الثَّانِي.
وَيُؤَيِّدُ أَنَّ الْبَاءَ لِلتَّعْوِيضِ لَا لِلسَّبَبِيَّةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا فُلَانُ، هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ قَالَ: لَا، وَلَيْسَ عِنْدِي مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ، قَالَ: أَلَيْسَ مَعَكَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} الْحَدِيثَ. وَاسْتَدَلَّ الطَّحَاوِيُّ لِلْقَوْلِ الثَّانِي مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ بِأَنَّ النِّكَاحَ إِذَا وَقَعَ عَلَى مَجْهُولٍ كَانَ كَمَا لَمْ يُسَمِّ فَيَحْتَاجُ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْمَعْلُومِ، قَالَ: وَالْأَصْلُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهُ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ بِدِرْهَمٍ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا عَلَى عَمَلٍ مُعَيِّنٍ كَغَسْلِ الثَّوْبِ أَوْ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ،
وَالتَّعْلِيمُ قَدْ لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُ وَقْتِهِ، فَقَدْ يَتَعَلَّمُ فِي زَمَانٍ يَسِيرٍ وَقَدْ يَحْتَاجُ إِلَى زَمَانٍ طَوِيلٍ، وَلِهَذَا لَوْ بَاعَهُ دَارَهُ عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهُ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يَصِحَّ، قَالَ: فَإِذَا كَانَ التَّعْلِيمُ لَا تُمْلَكُ بِهِ الْأَعْيَانُ لَا تُمْلَكُ بِهِ الْمَنَافِعُ.
وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ أَنَّ الْمَشْرُوطَ تَعْلِيمُهُ مُعَيَّنٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِالْجَهْلِ بِمُدَّةِ التَّعْلِيمِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: اغْتُفِرَ ذَلِكَ فِي بَابِ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ اسْتِمْرَارُ عِشْرَتِهِمَا، وَلِأَنَّ مِقْدَارَ تَعْلِيمِ عِشْرِينَ آيَةً لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ أَفْهَامُ النِّسَاءِ غَالِبًا، خُصُوصًا مَعَ كَوْنِهَا عَرَبِيَّةً مِنْ أَهْلِ لِسَانِ الَّذِي يَتَزَوَّجُهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَانْفَصَلَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ زَوَّجَهَا إِيَّاهُ لِأَجْلِ مَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي حَفِظَهُ وَسَكَتَ عَنِ الْمَهْرِ فَيَكُونُ ثَابِتًا لَهَا فِي ذِمَّتِهِ إِذَا أَيْسَرَ كَنِكَاحِ التَّفْوِيضِ، وَإِنْ ثَبَتَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمُ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: فَإِذَا رَزَقَكَ اللَّهُ فَعَوِّضْهَا كَانَ فِيهِ تَقْوِيَةٌ لِهَذَا الْقَوْلِ، لَكِنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ زَوَّجَهُ لِأَجْلِ مَا حَفِظَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَصْدَقَ عَنْهُ، كَمَا كَفَّرَ عَنِ الَّذِي وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ، وَيَكُونُ ذِكْرُ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيضِ عَلَى تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِهِ وَتَنْوِيهًا بِفَضْلِ أَهْلِهِ، قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ التَّعْلِيمَ صَدَاقًا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مَعْرِفَةُ الزَّوْجِ بِفَهْمِ الْمَرْأَةِ، وَهَلْ فِيهَا قَابِلِيَّةُ التَّعْلِيمِ بِسُرْعَةٍ أَوْ بِبُطْءٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا تَتَفَاوَتُ فِيهِ الْأَغْرَاضُ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ الطَّحَاوِيِّ، وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم أَوَّلًا: هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ تُصْدِقُهَا، وَلَوْ قَصَدَ اسْتِكْشَافَ فَضْلِهِ لَسَأَلَهُ عَنْ نَسَبِهِ وَطَرِيقَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ جَعْلَ تَعْلِيمَهَا الْقُرْآنَ مَهْرًا وَقَدْ لَا تَتَعَلَّمُ؟ أُجِيبُ: كَمَا يَصِحُّ جَعْلُ تَعْلِيمِهَا الْكِتَابَةَ مَهْرًا وَقَدْ لَا تَتَعَلَّمُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ عِنْدَ مَنْ أَجَازَ جَعْلَ الْمَنْفَعَةِ مَهْرًا هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْلَمَ حِذْقَ الْمُتَعَلِّمِ أَوْ لَا كَمَا تَقَدَّمَ؟ وَفِيهِ جَوَازُ كَوْنِ الْإِجَارَةِ صَدَاقًا وَلَوْ كَانَتِ الْمَصْدُوقَةَ الْمُسْتَأْجَرَةَ، فَتَقُومُ الْمَنْفَعَةُ مِنَ الْإِجَارَةِ مَقَامَ الصَّدَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِيهِ خِلَافٌ، وَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْحُرِّ وَأَجَازُوهُ فِي الْعَبْدِ إِلَّا فِي الْإِجَارَةِ فِي تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَمَنَعُوهُ مُطْلَقًا؛ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي أَنَّ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ نَقَلَ عِيَاضٌ جَوَازَ الِاسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ عَنِ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إِلَّا الْحَنَفِيَّةَ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: زَوَّجَهُ عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا مِنَ الْقُرْآنِ فَكَأَنَّهَا كَانَتْ إِجَارَةً، وَهَذَا كَرِهَهُ مَالِكٌ وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ بِالتَّعْلِيمِ. وَقَدْ رَوَى يَحْيَى بْنُ مُضَرَ، عَنْ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ ذَلِكَ أُجْرَةٌ عَلَى تَعْلِيمِهَا، وَبَذْلِكَ جَازَ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَبِالْوَجْهَيْنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ: وَإِذَا جَازَ أَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُ الْعِوَضُ جَازَ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا، وَقَدْ أَجَازَهُ مَالِكٌ مِنْ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ فَيَلْزَمُ أَنْ يُجِيزَهُ مِنَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ عَلِّمْهَا نَصٌّ فِي الْأَمْرِ بِالتَّعْلِيمِ، وَالسِّيَاقُ يَشْهَدُ بِأَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ النِّكَاحِ فَلَا يُلْتَفَتُ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ إِكْرَامًا لِلرَّجُلِ فَإِنَّ الْحَدِيثَ يُصَرِّحُ بِخِلَافِهِ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى اللَّامِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لُغَةً وَلَا مَسَاقًا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: زَوِّجْنِي فُلَانَةً فَقَالَ: زَوَّجْتُكَهَا بِكَذَا كَفَى ذَلِكَ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى قَوْلِ الزَّوْجِ قَبِلْتُ قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ مِنْ جِهَةِ طُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ الِاسْتِيجَابِ وَالْإِيجَابِ وَفِرَاقِ الرَّجُلِ الْمَجْلِسِ لِالْتِمَاسِ مَا يَصْدُقُهَا إِيَّاهُ، وَأَجَابَ الْمُهَلَّبُ بِأَنَّ بِسَاطَ الْقِصَّةِ أَغْنَى عَنْ ذَلِكَ، وَكَذَا كُلُّ رَاغِبٍ فِي التَّزْوِيجِ إِذَا اسْتَوْجَبَ، فَأُجِيبَ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَسَكَتَ كَفَى إِذَا ظَهَرَ قَرِينَةُ الْقَبُولِ، وَإِلَّا فَيُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ رِضَاهُ بِالْقَدْرِ الْمَذْكُورِ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ ثُبُوتِ الْعَقْدِ بِدُونِ لَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَخَالَفَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ دِينَارٍ وَغَيْرُهُ. وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازُهُ بِكُلِّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَى مَعْنَاهُ إِذَا قُرِنَ بِذِكْرِ الصَّدَاقِ أَوْ قَصْدِ النِّكَاحِ كَالتَّمْلِيكِ
وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْبَيْعِ، وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ وَلَا الْعَارِيَّةِ وَلَا الْوَصِيَّةِ، وَاخْتُلِفَ عِنْدَهُمْ فِي الْإِحْلَالِ وَالْإِبَاحَةِ، وَأَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ مَعَ الْقَصْدِ، وَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وُرُودُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: مَلَّكْتُكَهَا، لَكِنْ وَرَدَ أَيْضًا بِلَفْظِ: زَوَّجْتُكَهَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذِهِ لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَاخْتُلِفَ فِيهَا مَعَ اتِّحَادِ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاقِعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدُ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ، فَالصَّوَابُ فِي مِثْلِ هَذَا النَّظَرُ إِلَى التَّرْجِيحِ.
وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ الصَّوَابَ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى: زَوَّجْتُكَهَا وَأَنَّهُمْ أَكْثَرُ وَأَحْفَظُ، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: يَحْتَمِلُ صِحَّةُ اللَّفْظَيْنِ، وَيَكُونُ قَالَ: لَفْظَ التَّزْوِيجِ أَوَّلًا، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِالتَّزْوِيجِ السَّابِقِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي تَعْيِينَ لَفْظَةِ قَبِلْتُ لَا تَعَدُّدَهَا وَأَنَّهَا هيَ الَّتِي انْعَقَدَ بِهَا النِّكَاحُ، وَمَا ذَكَرَهُ يَقْتَضِي وُقُوعُ أَمْرٍ آخَرَ انْعَقَدَ بِهِ النِّكَاحُ، وَالَّذِي قَالَهُ بَعِيدٌ جِدًّا، وَأَيْضًا فَلِخَصْمِهِ أَنْ يَعْكِسَ وَيَدَّعِيَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ، ثُمَّ قَالَ: زَوَّجْتُكَهَا بِالتَّمْلِيكِ السَّابِقِ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِرِوَايَةِ أَمْكَنَّاكَهَا مَعَ ثُبُوتِهَا، وَكُلُّ هَذَا يَقْتَضِي تَعَيُّنَ الْمَصِيرِ إِلَى التَّرْجِيحِ اهـ.
وَأَشَارَ بِالْمُتَأَخِّرِ إِلَى النَّوَوِيِّ فَإِنَّهُ كَذَلِكَ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَقَدَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَالتَّزْوِيجِ مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَلَيْسَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ تَسَاوِي الرِّوَايَتَيْنِ فَكَيْفَ مَعَ التَّرْجِيحِ؟ قَالَ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْمَرًا وَهِمَ فِيهِ، وَرُدَّ عَلَيْهِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ مَعْمَرٍ مِثْلَ مَعْمَرٍ اهـ.
وَزَعَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي غَسَّانَ أَنْكَحْتُكَهَا، وَرِوَايَةَ الْبَاقِينَ: زَوَّجْتُكَهَا إِلَّا ثَلَاثَةَ أَنْفُسٍ، وَهُمْ: مَعْمَرٌ، وَيَعْقُوبُ، وَابْنُ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: وَمَعْمَرٌ كَثِيرُ الْغَلَطِ، وَالْآخَرَانِ لَمْ يَكُونَا حَافِظَيْنِ اهـ.
وَقَدْ غَلِطَ فِي رِوَايَةِ أَبِي غَسَّانَ فَإِنَّهَا بِلَفْظِ أَمْكَنَّاكَهَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، نَعَمْ وَقَعَتْ بِلَفْظِ: زَوَّجْتُكَهَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ، وَالْبُخَارِيِّ أَخْرَجَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ بِلَفْظِ: أَمْكَنَّاكَهَا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَعِيدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ: أَنْكَحْتُكَهَا فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ عَنْ أَبِي غَسَّانَ، وَرِوَايَةُ: أَنْكَحْتُكَهَا فِي الْبُخَارِيِّ، لِابْنِ عُيَيْنَةَ كَمَا حَرَّرْتُهُ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الطَّعْنِ فِي الثَّلَاثَةِ مَرْدُودٌ، وَلَا سِيَّمَا عَبْدَ الْعَزِيزِ فَإِنَّ رِوَايَتَهُ تَتَرَجَّحُ بِكُونِ الْحَدِيثُ عَنْ أَبِيهِ، وَآلُ الْمَرْءِ أَعْرَفُ بِحَدِيثِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، نِعْمَ الَّذِي تَحَرَّرَ مِمَّا قَدَّمْتُهُ أَنَّ الَّذِينَ رَوَوْهُ بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ أَكْثَرُ عَدَدًا مِمَّنْ رَوَاهُ بِغَيْرِ لَفْظِ التَّزْوِيجِ، وَلَا سِيَّمَا وَفِيهِم مِنَ الْحُفَّاظِ مِثْلُ مَالِكٍ، وَرِوَايَةُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: أَنْكَحْتُكَهَا مُسَاوِيَةٌ لِرِوَايَتِهِمْ، وَمِثْلُهَا رِوَايَةُ زَائِدَةَ، وَعَدَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِيمَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَرِوَايَتُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَبِلَفْظِ: مَلَّكْتُكَهَا، وَقَدْ تَبِعَ الْحَافِظُ صَلَاحُ الدِّينِ الْعَلَائِيُّ، ابْنَ الْجَوْزِيِّ فَقَالَ فِي تَرْجِيحِ رِوَايَةِ التَّزْوِيجِ: وَلَا سِيَّمَا وَفِيهِمْ مَالِكٌ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ اهـ.
وَقَدْ تَحَرَّرَ أَنَّهُ اخْتُلِفَ عَلَى حَمَّادٍ فِيهَا كَمَا اخْتُلِفَ عَلَى الثَّوْرِيِّ فَظَهَرَ أَنَّ رِوَايَةَ التَّمْلِيكِ وَقَعَتْ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، وَيَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: مَلَّكْتُكَهَا وَهِيَ بِمَعْنَاهَا، وَانْفَرَدَ أَبُو غَسَّانَ بِرِوَايَةِ: أَمْكَنَّاكَهَا، وَأَخْلَقُ بِهَا أَنْ تَكُونَ تَصْحِيفًا مِنْ مَلَّكْنَاكَهَا؛ فَرِوَايَةُ التَّزْوِيجِ أَوِ الْإِنْكَاحِ أَرْجَحُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ تَسَاوِيَ الرِّوَايَاتِ يَقِفُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا لِكُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ.
وَقَدْ قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ لَا حُجَّةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِمَنْ أَجَازَ انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ كَانَ وَاحِدًا فَلَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ إِلَّا وَاحِدًا، وَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ
فِي اللَّفْظِ الْوَاقِعِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ عَلَى وَفْقِ قَوْلِ الْخَاطِبِ زَوِّجْنِيهَا إِذْ هُوَ الْغَالِبُ فِي أَمْرِ الْعُقُودِ؛ إِذْ قَلَّمَا يَخْتَلِفُ فِيهِ لَفْظُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَمِنْ رَوَى بِلَفْظٍ غَيْرَ لَفْظِ التَّزْوِيجِ لَمْ يَقْصِدْ مُرَاعَاةَ اللَّفْظِ الَّذِي انْعَقَدَ بِهِ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْخَبَرَ عَنْ جَرَيَانِ الْعَقْدِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ.
وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَهَمْ رَوَاهُ بِلَفْظِ الْإِمْكَانِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَصِحُّ، كَذَا قَالَ، وَمَا ذُكِرَ كَافٍ فِي دَفْعِ احْتِجَاجِ الْمُخَالِفِ بِانْعِقَادِ النِّكَاحِ بِالتَّمْلِيكِ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ الْعَلَائِيُّ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ كُلَّهَا تِلْكَ السَّاعَةَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ لَفْظَةً مِنْهَا، وَعَبَّرَ عَنْهُ بَقِيَّةُ الرُّوَاةِ بِالْمَعْنَى، فَمَنْ قَالَ بِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ، ثُمَّ احْتَجَّ بِمَجِيئِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِذَا عُورِضَ بِبَقِيَّةِ الْأَلْفَاظِ لَمْ يَنْتَهِضِ احْتِجَاجُهُ، فَإِنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَلَفَّظَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ قَالَ غَيْرَهُ ذَكَرَهُ بِالْمَعْنَى قَلَبَهُ عَلَيْهِ مُخَالِفُهُ، وَادَّعَى ضِدَّ دَعْوَاهُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا التَّرْجِيحُ بِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ، وَلَكِنَّ الْقَلْبَ إِلَى تَرْجِيحِ رِوَايَةِ التَّزْوِيجِ أَمْيَلُ؛ لِكَوْنِهَا رِوَايَةَ الْأَكْثَرِينَ، وَلِقَرِينَةِ قَوْلِ الرَّجُلِ الْخَاطِبِ: زَوِّجْنِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُ رَجَّحَ رِوَايَةَ مَنْ قَالَ زَوَّجْتُكَهَا.
وَبَالَغَ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ رِوَايَةُ زَوَّجْتُكَهَا، وَأَنَّ رِوَايَةَ مَلَّكْتُكَهَا وَهْمٌ، وَتَعَلَّقَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَئِمَّةٌ فَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عِنْدَهُمْ مُتَرَادِفَةٌ مَا عَبَّرُوا بِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كل لَفْظٌ مِنْهَا يَقُومُ مَقَامَ الْآخَرِ عِنْدَ ذَلِكَ الْإِمَامِ، وَهَذَا لَا يَكْفِي فِي الِاحْتِجَاجِ بِجَوَازِ انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِكُلِّ لَفْظَةٍ مِنْهَا، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدْفَعُ مُطَالَبَتَهُمْ بِدَلِيلِ الْحَصْرِ فِي اللَّفْظَيْنِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى إِيقَاعِ الطَّلَاقِ بِالْكِنَايَاتِ بِشَرْطِهَا وَلَا حَصْرَ فِي الصَّرِيحِ، وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَاخْتَلَفَ التَّرْجِيحُ فِي مَذْهَبِهِ فَأَكْثَرُ نُصُوصِهِ تَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَةِ الْجُمْهُورِ، وَاخْتَارَ ابْنُ حَامِدٍ وَأَتْبَاعُهُ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى الْمُوَافِقَةَ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْهُمْ لِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى بِحَدِيثِ: أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، فَإِنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: عَتَقْتُ أَمَتِي وَجَعَلْتُ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا أَنَّهُ يَنْعَقِدُ نِكَاحُهَا بِذَلِكَ، وَاشْتَرَطَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ تَزَوَّجْتُهَا، وَهِيَ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي الْخَبَرِ وَعَلَى نَصِّ أَحْمَدَ، وَأُصُولُهُ تَشْهَدُ بِأَنَّ الْعُقُودَ تَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ.
وَفِيهِ أَنَّ مَنْ رَغِبَ في تَزْوِيجَ مَنْ هُوَ أَعْلَى قَدْرًا مِنْهُ لَا لَوْمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِصَدَدِ أَنْ يُجَابَ إِلَّا إِنْ كَانَ مِمَّا تَقْطَعُ الْعَادَةُ بِرَدِّهِ كَالسُّوقِيِّ يَخْطُبُ مِنَ السُّلْطَانِ بِنْتَهُ أَوْ أُخْتَهُ. وَأَنَّ مَنْ رَغِبَتْ فِي تَزْوِيجِ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهَا لَا عَارَ عَلَيْهَا أَصْلًا، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ هُنَاكَ غَرَضٌ صَحِيحٌ أَوْ قَصْدٌ صَالِحٌ؛ إِمَّا لِفَضْلٍ دِينِيٍّ فِي الْمَخْطُوبِ، أَوْ لِهَوًى فِيهِ يَخْشَى مِنَ السُّكُوتِ عَنْهُ الْوُقُوعُ فِي مَحْذُورٍ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ عِتْقَ الْأَمَةِ عِوَضًا عَنْ بُضْعِهَا، كَذَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَلَفْظُهُ: إِنَّ مَنْ أَعْتَقَ أَمَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَيَجْعَلَ عِتْقَهَا عِوَضًا عَنْ بُضْعِهَا، وَفِي أَخْذِهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بُعْدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ مُفَصَّلًا قَبْلَ هَذَا. وَفِيهِ أَنَّ سُكُوتَ مَنْ عُقِدَ عَلَيْهَا وَهِيَ سَاكِتَةٌ لَازِمٌ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ كَلَامِهَا خَوْفٌ أَوْ حَيَاءٌ أَوْ غَيْرُهُمَا.
وَفِيهِ جَوَازُ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ دُونَ أَنْ تُسْأَلَ هَلْ لَهَا وَلِيٌّ خَاصٌّ أَوْ لَا، وَدُونَ أَنْ تُسْأَلَ هَلْ هِيَ فِي عِصْمَةِ رَجُلٍ أَوْ فِي عِدَّتِهِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ حَمْلًا عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ، وَلَكِنَّ الْحُكَّامَ يَحْتَاطُونَ فِي ذَلِكَ وَيَسْأَلُونَهَا قُلْتُ: وَفِي أَخْذِ هَذَا الْحُكْمِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ نَظَرٌ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اطَّلَعَ عَلَى جَلِيَّةِ أَمْرِهَا أَوْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مَنْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ مِمَّنْ يَعْرِفُهَا، وَمَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا يَنْتَهِضُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُزَوِّجَ امْرَأَةً حَتَّى يَشْهَدَ عَدْلَانِ أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ خَاصٌّ،
وَلَا أَنَّهَا فِي عِصْمَةِ رَجُلٍ وَلَا فِي عِدَّتِهِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ هَلْ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاطِ أَوْ الِاحْتِيَاطِ، وَالثَّانِي الْمُصَحَّحُ عِنْدَهُمْ.
وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ تَقَدُّمُ الْخِطْبَةِ إِذْ لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طَرِيقِ هَذَا الْحَدِيثِ وُقُوعَ حَمْدٍ وَلَا تَشَهُّدٍ وَلَا غَيْرِهِمَا مِنْ أَرْكَانِ الْخُطْبَةِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الظَّاهِرِيَّةُ فَجَعَلُوهَا وَاجِبَةً، وَوَافَقَهُمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَبُو عَوَانَةَ فَتَرْجَمَ فِي صَحِيحِهِ بَابُ وُجُوبِ الْخُطْبَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ.
وَفِيهِ أَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي الْحُرِّيَّةِ وَفِي الدِّينِ وَفِي النَّسَبِ لَا فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ لَا شَيْءَ لَهُ وَقَدْ رَضِيَتْ بِهِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَمَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ ذَاتَ مَالٍ.
وَفِيهِ أَنَّ طَالِبَ الْحَاجَةِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُلِحَّ فِي طَلَبِهَا بَلْ يَطْلُبُهَا بِرِفْقٍ وَتَأَنٍّ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ طَالِبُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ مِنْ مُسْتَفْتٍ وَسَائِلٍ وَبَاحِثٍ عَنْ عِلْمٍ.
وَفِيهِ أَنَّ الْفَقِيرَ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ مَنْ عَلِمَتْ بِحَالِهِ وَرَضِيَتْ بِهِ إِذَا كَانَ وَاجِدًا لِلْمَهْرِ وَكَانَ عَاجِزًا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّ الْمُرَاجَعَةَ وَقَعَتْ فِي وِجْدَانِ الْمَهْرِ وَفَقْدِهِ لَا فِي قَدْرٍ زَائِدٍ قَالَهُ الْبَاجِيُّ، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اطَّلَعَ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ عَلَى أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى اكْتِسَابِ قُوتِهِ وَقُوتِ امْرَأَتِهِ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ ذَلِكَ الْعَصْرِ مِنْ قِلَّةِ الشَّيْءِ وَالْقَنَاعَةِ بِالْيَسِيرِ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَرُدَّ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ظَاهِرًا فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ: لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ.
وتعقب، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ خَاصٌّ، وَالْإِمَامُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ اسْتِمْتَاعِ الرَّجُلِ بِشَوْرَةِ امْرَأَتِهِ، وَمَا يَشْتَرِي بِصَدَاقِهَا لِقَوْلِهِ: إِنْ لَبِسَتْهُ مع أَنَّ النِّصْفَ لَهَا، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مَعَ ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِنِصْفِهِ الَّذِي وَجَبَ لَهَا؛ بَلْ جَوَّزَ لَهُ لُبْسَهُ كُلِّهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْمَنْعُ لِكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوْبٌ آخَرُ قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ، وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ السِّيَاقَ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ تَعَذُّرُ الِاكْتِفَاءِ بِنِصْفِ الْإِزَارِ لَا فِي إِبَاحَةِ لُبْسِهِ كُلِّهِ، وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَلْبَسُهُ مُهَايَأَةً لِثُبُوتِ حَقِّهِ فِيهِ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلرَّجُلِ مَا يَسْتَتِرُ بِهِ إِذَا جَاءَتْ نَوْبَتُهَا فِي لُبْسِهِ قَالَ لَهُ: إِنْ لَبِسَتْهُ جَلَسْتَ وَلَا إِزَارَ لَكَ وَفِيهِ نَظَرُ الْإِمَامِ فِي مَصَالِحِ رَعِيَّتِهِ، وَإِرْشَادُهُ إِلَى مَا يُصْلِحُهُمْ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا الْمُرَاوَضَةُ فِي الصَّدَاقِ، وَخِطْبَةُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ إِعْفَافُ الْمُسْلِمِ بِالنِّكَاحِ كَوُجُوبِ إِطْعَامِهِ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، قَالَ ابْنُ التِّينِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ فَوَائِدَ الْحَدِيثِ: فَهَذِهِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ فَائِدَةً، بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ عَلَى أَكْثَرِهَا. قُلْتُ: وَقَدْ فَصَلْتُ مَا تَرْجَمَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا جَمَعْتُهُ هُنَا عَلِمَ أَنَّهُ يَزِيدُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِقْدَارَ مَا ذَكَرَ أَوْ أَكْثَرَ.
وَوَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَوَّجَ رَجُلًا امْرَأَةً بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَهَذَا هُوَ النُّكْتَةُ فِي ذِكْرِ الْخَاتَمِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْعُرُوضِ، أَخْرَجَهُ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضُمَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْكِحْنِي فُلَانَةَ، قَالَ: مَا تُصْدِقُهَا؟ قَالَ: مَا مَعِي شَيْءٌ. قَالَ: لِمَنْ هَذَا الْخَاتَمُ؟ قَالَ: لِي، قَالَ: فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ، فَأَنْكَحَهُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ ضَعِيفَ السَّنَدِ لَكِنَّهُ يَدْخُلُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمَّهَاتِ.
51 - بَاب الْمَهْرِ بِالْعُرُوضِ وَخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ
5150 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ: تَزَوَّجْ وَلَوْ بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَهْرِ بِالْعُرُوضِ وَخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ) الْعُرُوضُ: بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ جَمْعُ عَرْضٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ
وَسُكُونِ ثَانِيهِ، وَالضَّادُ مُعْجَمَةٌ: مَا يُقَابِلُ النَّقْدِ، وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ هُوَ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ، فَإِنَّ الْخَاتَمَ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ جُمْلَةِ الْعُرُوضِ، وَالتَّرْجَمَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ لِلْخَاتَمِ بِالتَّنْصِيصِ وَالْعُرُوضِ بِالْإِلْحَاقِ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ حَدِيثُ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَأَرْخَصَ لَنَا أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ بِالثَّوْبِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ عِدَّةُ أَحَادِيثَ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ مُوسَى كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ السَّكَنِ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ الرَّجُلُ: تَزَوَّجْ وَلَوْ بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ) هَذَا مُخْتَصَرٌ مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَنْ سَاقَهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ مُطَوَّلًا وَهُوَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، لَكِنَّهُ قَرَنَهُ فِي رِوَايَتِهِ بِمَعْمَرٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَتَمَّ مِمَّا هُنَا، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَا فِي رِوَايَتِهِ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَتَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ فِيهِ مَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
52 - بَاب الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ،
وَقَالَ عُمَرُ: مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ، وَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ فَأَحْسَنَ، قَالَ: حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي، وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي.
5151 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا اللَيْثٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ مِنْ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ)؛ أَيِ الَّتِي تَحِلُّ وَتُعْتَبَرُ، وَقَدْ تَرْجَمَ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ الشُّرُوطُ فِي الْمَهْرِ عِنْدَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ، وَأَوْرَدَ الْأَثَرَ الْمُعَلَّقَ، وَالْحَدِيثَ الْمَوْصُولَ الْمَذْكُورَ هُنَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ: مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي الْمُهَاجِرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عُمَرَ حَيْثُ تَمَسُّ رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ. فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، تَزَوَّجْتُ هَذِهِ وَشَرَطَتْ لَهَا دَارَهَا، وَإِنِّي أَجْمَعُ لِأَمْرِي - أَوْ لِشَأْنِي - أَنْ أَنْتَقِلَ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: لَهَا شَرْطُهَا. فَقَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ الرِّجَالُ إِذْ لَا تَشَاءُ امْرَأَةٌ أَنْ تُطَلِّقَ زَوْجَهَا إِلَّا طَلَّقَتْ. فَقَالَ عُمَرُ: الْمُؤْمِنُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، عِنْدَ مُقَاطِعِ حُقُوقِهِمْ، وَتَقَدَّمَ فِي الشُّرُوطِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ نَحْوُهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ مُقَاطِعَ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ، وَلَهَا مَا اشْتَرَطَتْ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ)، تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْمَنَاقِبِ فِي ذِكْرِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَهُوَ الصِّهْرُ الْمَذْكُورُ، وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ نَسَبَهُ وَالْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَبْوَابِ الْغِيرَةِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ النِّكَاحِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا ثَنَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ لِأَجْلِ وَفَائِهِ بِمَا شَرَطَ لَهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ) هُوَ الطَّيَالِسِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ) تَقَدَّمَ فِي الشُّرُوطِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ اللَّيْثِ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الْخَيْرِ) هُوَ مَرْثَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيُّ، وَعُقْبَةُ هُوَ ابْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ مِنَ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّهُ: أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوفَى بِهِ.
قَوْلُهُ: (مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ)؛ أَيْ أَحَقُّ الشُّرُوطِ بِالْوَفَاءِ شُرُوطُ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ أَحْوَطُ، وَبَابَهُ أَضْيَقُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الشُّرُوطُ فِي النِّكَاحِ مُخْتَلِفَةٌ، فَمِنْهَا مَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ اتِّفَاقًا، وَهُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ
أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ، وَعَلَيْهِ حَمَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ. وَمِنْهَا مَا لَا يُوفَى بِهِ اتِّفَاقًا كَسُؤَالِ طَلَاقِ أُخْتِهَا، وَسَيَأْتِي حُكْمُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.
وَمِنْهَا مَا اخْتُلِفَ فِيهِ كَاشْتِرَاطِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، أَوْ لَا يَتَسَرَّى أَوْ لَا يَنْقُلَهَا مِنْ مَنْزِلِهَا إِلَى مَنْزِلِهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الشُّرُوطُ فِي النِّكَاحِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الصَّدَاقِ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَمَا يَكُونُ خَارِجًا عَنْهُ فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهِ، فَمِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ الزَّوْجِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَمِنْهُ مَا يَشْتَرِطُهُ الْعَاقِدُ لِنَفْسِهِ خَارِجًا عَنِ الصَّدَاقِ وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ الْحُلْوَانُ، فَقِيلَ: هُوَ لِلْمَرْأَةِ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَقِيلَ: هُوَ لِمَنْ شَرَطَهُ قَالَهُ مَسْرُوقٌ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْأَبِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ وَقَعَ نَفْسُ الْعَقْدِ وَجَبَ لِلْمَرْأَةِ مَهْرُ مِثْلِهَا، وَإِنْ وَقَعَ خَارِجًا عَنْهُ لَمْ يَجِبْ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ وَقَعَ فِي حَالِ الْعَقْدِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَهْرِ، أَوْ خَارِجًا عَنْهُ فَهُوَ لِمَنْ وُهِبَ لَهُ، وَجَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ عَلَى صَدَاقٍ أَوْ حَيَاءٍ أَوْ عِدَّةٍ قَبْلَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ فَهُوَ لَهَا، فَمَا كَانَ بَعْدَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ فَهُوَ لِمَنْ أُعْطِيَهُ، وَأَحَقُّ مَا أَكْرَمَ بِهِ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ نَحْوُهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عُمَرُ قَالَ: إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ، وَشَرَطَ أَنْ لَا يُخْرِجَهَا لَزِمَ، وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، كَذَا قَالَ، وَالنَّقْلُ فِي هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ غَرِيبٌ، بَلِ الْحَدِيثُ عِنْدَهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي لَا تُنَافِي مُقْتَضَى النِّكَاحِ بَلْ تَكُونُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ وَمَقَاصِدِهِ كَاشْتِرَاطِهِ الْعِشْرَةَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْإِنْفَاقَ، وَالْكِسْوَةَ، وَالسُّكْنَى وَأَنْ لَا يُقَصِّرَ فِي شَيْءٍ مِنْ حَقِّهَا مِنْ قِسْمَةٍ وَنَحْوِهَا، وَكَشَرْطِهِ عَلَيْهَا أَلَّا تَخْرُجَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تَمْنَعُهُ نَفْسَهَا، وَلَا تَتَصَرَّفُ فِي مَتَاعِهِ إِلَّا بِرِضَاهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَأَمَّا شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى النِّكَاحِ، كَأَنْ لَا يَقْسِمَ لَهَا، أَوْ لَا يَتَسَرَّى عَلَيْهَا، أَوْ لَا يُنْفِقَ أَوْ نَحْوُ
ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ بَلْ إِنْ وَقَعَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ كَفَى، وَصَحَّ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَفِي وَجْهٍ يَجِبُ الْمُسَمَّى وَلَا أَثَرَ لِلشَّرْطِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ يَبْطُلُ النِّكَاحُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ: يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ مُطْلَقًا. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ حَمْلَ الْحَدِيثَ عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي هِيَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ النِّكَاحِ قَالَ: تِلْكَ الْأُمُورُ لَا تُؤَثِّرُ الشُّرُوطُ فِي إِيجَابِهَا، فَلَا تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إِلَى تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِاشْتِرَاطِهَا، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَفْظَ: أَحَقُّ الشُّرُوطِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الشُّرُوطِ يَقْتَضِي الْوَفَاءَ بِهَا وَبَعْضُهَا أَشَدُّ اقْتِضَاءً، وَالشُّرُوطُ هِيَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ مُسْتَوِيَةٌ فِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَالَ عَلِيٌّ: سَبَقَ شَرْطُ اللَّهِ شَرْطَهَا، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَبَعْضِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَالْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ الشُّرُوطُ الْجَائِزَةُ لَا الْمَنْهِيُّ عَنْهَا اهـ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ عَنْ عُمَرَ، فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ: أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَشَرَطَ لَهَا أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ دَارِهَا، فَارْتَفَعُوا إِلَى عُمَرَ فَوَضَعَ الشَّرْطَ، وَقَالَ: الْمَرْأَةُ مَعَ زَوْجِهَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: تَضَادَّتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ عُمَرَ فِي هَذَا، وَقَدْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَمِنَ التَّابِعِينَ طَاوُسٌ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَقَالَ اللَّيْثُ، وَالثَّوْرِيُّ وَالْجُمْهُورُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ حَتَّى لَوْ كَانَ صَدَاقُ مِثْلِهَا مِائَةً مَثَلًا فَرَضِيَتْ بِخَمْسِينَ عَلَى أَنْ لَا يُخْرِجَهَا فَلَهُ إِخْرَاجُهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا الْمُسَمَّى، وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا نَقَصَتْهُ لَهُ مِنَ الصَّدَاقِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَعَنْهُ يَصِحُّ وَتَسْتَحِقُّ الْكُلَّ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالَّذِي نَأْخُذُ بِهِ أَنَّا نَأْمُرُهُ بِالْوَفَاءِ بِشَرْطِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا لَوِ اشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَأَهَا لَمْ يَجِبِ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ الشَّرْطِ فَكَذَلِكَ هَذَا
وَمِمَّا يُقَوِّي حَمْلَ حَدِيثِ عُقْبَةَ عَلَى النَّدْبِ مَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَائِشَةِ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ: كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَالْوَطْءُ وَالْإِسْكَانُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ إِذَا شَرَطَ عَلَيْهِ إِسْقَاطَ شَيْءٍ مِنْهَا كَانَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَبْطُلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ الْإِشَارَةُ إِلَى حَدِيثِ: الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا، وَحَدِيثُ: الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شَرْطِهِمْ مَا وَافَقَ الْحَقَّ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ أُمَّ مُبَشِّرٍ بِنْتَ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ فَقَالَتْ: إِنِّي شَرَطْتُ لِزَوْجِي أَنْ لَا أَتَزَوَّجَ بَعْدَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ، وَقَدْ تَرْجَمَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ تَقَدُّمَةِ شَيْءٍ مِنَ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَفِي انْتِزَاعِهِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ غُمُوضٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
53 - بَاب الشُّرُوطِ الَّتِي لَا تَحِلُّ فِي النِّكَاحِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا تَشْتَرِطْ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا
5152 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ زَكَرِيَّاءَ هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تَسْأَلُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا، فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ الشُّرُوطِ الَّتِي لَا تَحِلُّ فِي النِّكَاحِ) فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى تَخْصِيصِ الْحَدِيثِ الْمَاضِي فِي عُمُومِ الْحَثِّ عَلَى الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ بِمَا يُبَاحُ لَا بِمَا نَهَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ الشُّرُوطَ الْفَاسِدَةَ لَا يَحِلُّ الْوَفَاءُ بِهَا فَلَا يُنَاسِبُ الْحَثُّ عَلَيْهَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا تُشْتَرَطُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا) كَذَا أَوْرَدَهُ مُعَلَّقًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَأُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ بِعَيْنِهِ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَعَلَّهُ لَمَّا لَمْ يَقَعْ لَهُ اللَّفْظُ مَرْفُوعًا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْمُعَلَّقِ؛ إِيذَانًا بِأَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ.
قَوْلُهُ: (لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تَسْأَلُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا، فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا)، هَكَذَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجُنَيْدِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ: لَا يَصْلُحُ لِامْرَأَةٍ أَنْ تَشْتَرِطَ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتُكْفِئَ إِنَاءَهَا، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى لَكِنْ قَالَ: لَا يَنْبَغِي بَدَلَ لَا يَصْلُحُ، وَقَالَ: لِتُكْفِئَ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ ابْنِ الْجُنَيْدِ لَكِنْ قَالَ: لِتُكْفِئَ فَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِلْحَانَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَوَّلُهُ: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ - وَفِيهِ - وَلَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ إِنَاءَ صَاحِبَتِهَا وَلِتُنْكَحَ، فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ اللَّفْظِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ أَوَّلِ الْحَدِيثِ إِلَى قَوْلِهِ: حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ، وَنَبَّهْتُ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي بَابِ لَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى حَدَّثَ بِهِ عَلَى اللَّفْظَيْنِ، أَوِ انْتَقَلَ الذِّهْنُ مِنْ مَتْنٍ إِلَى مَتْنٍ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْقَدَرِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا وَلِتَنْكِحَ، فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا، وَتَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثٍ أَوَّلُهُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ - وَفِي آخِرِهِ - وَلَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتُكْفِئَ مَا فِي إِنَائِهَا.
قَوْلُهُ: (لَا يَحِلُّ) ظَاهِرٌ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبَبٌ يَجُوزُ ذَلِكَ كَرِيبَةٍ فِي الْمَرْأَةِ لَا يَنْبَغِي مَعَهَا أَنْ تَسْتَمِرَّ فِي عِصْمَةِ الزَّوْجِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ النَّصِيحَةِ الْمَحْضَةِ، أَوْ لِضَرَرٍ يَحْصُلُ لَهَا مِنَ الزَّوْجِ، أَوْ لِلزَّوْجِ مِنْهَا، أَوْ يَكُونُ سُؤَالُهَا ذَلِكَ بِعِوَضٍ وَلِلزَّوْجِ رَغْبَةٌ فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ كَالْخُلْعِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: حَمَلَ الْعُلَمَاءُ هَذَا النَّهْيَ عَلَى النَّدْبِ، فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُفْسَخِ النِّكَاحُ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ نَفْيَ الْحِلِّ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ فَسْخُ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا فِيهِ التَّغْلِيظُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَسْأَلَ طَلَاقَ الْأُخْرَى، وَلِتَرْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهَا.
قَوْلُهُ: (أُخْتِهَا) قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ نَهْيُ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ أَنْ تَسْأَلَ رَجُلًا طَلَاقَ زَوْجَتِهِ، وَأَنْ يَتَزَوَّجَهَا هِيَ فَيَصِيرُ لَهَا مِنْ نَفَقَتِهِ وَمَعْرُوفِهِ وَمُعَاشَرَتِهِ مَا كَانَ لِلْمُطَلَّقَةِ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: تُكْفِئُ مَا فِي صَحْفَتِهَا، قَالَ: وَالْمُرَادُ بِأُخْتِهَا غَيْرُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ أُخْتُهَا مِنَ النَّسَبِ أَوِ الرَّضَاعِ أَوِ الدِّينِ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ الْكَافِرَةُ فِي الْحُكْمِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُخْتًا فِي الدِّينِ؛ إِمَّا لِأَنَّ الْمُرَادَ الْغَالِبَ، أَوْ أَنَّهَا أُخْتُهَا فِي الْجِنْسِ الْآدَمِيِّ، وَحَمَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْأُخْتَ هُنَا عَلَى الضَّرَّةِ فَقَالَ: فِيهِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا أَنْ يُطَلِّقَ ضَرَّتَهَا لِتَنْفَرِدَ بِهِ، وَهَذَا يُمْكِنُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بِلَفْظِ: لَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا لَفْظُ الشَّرْطِ فَظَاهِرُهَا أَنَّهَا فِي الْأَجْنَبِيَّةِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِيهَا: وَلِتَنْكِحَ؛ أَيْ وَلِتَتَزَوَّجَ الزَّوْجَ الْمَذْكُورَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يُطَلِّقَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ هُنَا بِالْأُخْتِ الْأُخْتُ فِي الدِّينِ، وَيُؤَيِّدُهُ زِيَادَةُ ابْنِ حِبَّانَ فِي آخِرِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَةَ أُخْتُ الْمُسْلِمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، نَقْلُ الْخِلَافِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْمُسْلِمَةِ، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَيَأْتِي مِثْلُهُ هُنَا، وَيَجِيءُ عَلَى رَأْيِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنْ يُسْتَثْنَى مَا إِذَا كَانَ
الْمَسْئُولُ طَلَاقُهَا فَاسِقَةً، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا فَرْقَ.
قَوْلُهُ: (لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا) يُفَسِّرُ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: تَكْتَفِئَ وَهُوَ بِالْهَمْزِ افْتِعَالٌ مِنْ كَفَأْتُ الْإِنَاءَ إِذَا قَلَبْتُهُ وَأَفْرَغْتُ مَا فِيهِ، وَكَذَا يَكْفَأُ، وَهُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَبِالْهَمْزِ، وَجَاءَ أَكْفَأْتُ الْإِنَاءَ إِذَا أَمَلْتُهُ وَهُوَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ: لِتُكْفِئَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنْ أَكْفَأْتُ، وَهِيَ بِمَعْنَى أَمَلْتُهُ، وَيُقَالُ: بِمَعْنَى أَكْبَبْتُهُ أَيْضًا، وَالْمُرَادُ بِالصَّحْفَةِ مَا يَحْصُلُ مِنَ الزَّوْجِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ، وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الصَّحْفَةُ إِنَاءٌ كَالْقَصْعَةِ الْمَبْسُوطَةِ، قَالَ: وَهَذَا مَثَلٌ، يُرِيدُ الِاسْتِئْثَارَ عَلَيْهَا بِحَظِّهَا فَيَكُونُ كَمَنْ قَلَبَ إِنَاءَ غَيْرِهِ فِي إِنَائِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذِهِ اسْتِعَارَةٌ مُسْتَمْلَحَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، شَبَّهَ النَّصِيبَ وَالْبَخْتَ بِالصَّحْفَةِ، وَحُظُوظِهَا وَتَمَتُّعَاتِهَا بِمَا يُوضَعُ فِي الصَّحْفَةِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ اللَّذِيذَةِ، وَشَبَّهَ الِافْتِرَاقَ الْمُسَبَّبَ عَنِ الطَّلَاقِ بِاسْتِفْرَاغِ الصَّحْفَةِ عَنْ تِلْكَ الْأَطْعِمَةِ، ثُمَّ أَدْخَلَ الْمُشَبَّهَ فِي جِنْسِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَاسْتَعْمَلَ فِي الْمُشَبَّهِ مَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَلِتَنْكِحَ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَبِإِسْكَانِهَا، وَبِسُكُونِ الْحَاءِ عَلَى الْأَمْرِ، وَيَحْتَمِلُ النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: لِتَكْتَفِئَ فَيَكُونُ تَعْلِيلًا لِسُؤَالِ طَلَاقِهَا، وَيَتَعَيَّنُ عَلَى هَذَا كَسْرُ اللَّامِ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ وَلِتَنْكِحَ ذَلِكَ الرَّجُلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِإِخْرَاجِ الضَّرَّةِ مِنْ عِصْمَتِهِ؛ بَلْ تَكِلُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ إِلَى مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ، وَلِهَذَا خَتَمَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا؛ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا وَإِنْ سَأَلَتْ ذَلِكَ وَأَلَحَّتْ فِيهِ وَاشْتَرَطَتْهُ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَتَعَرَّضَ هِيَ لِهَذَا الْمَحْذُورِ الَّذِي لَا يَقَعُ مِنْهُ شَيْءٌ بِمُجَرَّدِ إِرَادَتِهَا، وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْأُخْتَ مِنَ النَّسَبِ أَوِ الرَّضَاعِ لَا تَدْخُلُ فِي هَذَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَلِتَنْكِحَ غَيْرَهُ وَتُعْرِضُ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، أَوِ الْمُرَادُ مَا يَشْمَلُ الْأَمْرَيْنِ، وَالْمَعْنَى: وَلِتَنْكِحَ مَنْ تَيَسَّرَ لَهَا، فَإِنْ كَانَتِ الَّتِي قَبْلَهَا أَجْنَبِيَّةً فَلْتَنْكِحِ
الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ، وَإِنْ كَانَتْ أُخْتَهَا فَلْتَنْكِحْ غَيْرَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
54 - بَاب الصُّفْرَةِ لِلْمُتَزَوِّجِ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
5153 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ: كَمْ سُقْتَ إِلَيْهَا قَالَ: زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الصُّفْرَةِ لِلْمُتَزَوِّجِ) كَذَا قَيَّدَهُ بِالْمُتَزَوِّجِ؛ إِشَارَةٌ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ حَدِيثِ الْبَابِ وَحَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ التَّزَعْفُرِ لِلرِّجَالِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ أَبْوَابٍ. قَوْلُهُ (رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِهِ الَّذِي تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَفِيهِ - جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعَلَيْهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ؛ فَقَالَ: تَزَوَّجْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
وأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدٍ مُخْتَصَرَةً، وَسَيَأْتِي شَرْحُهَا فِي بَابِ الْوَلِيمَةِ وَلَوْ بِشَاةٍ؛ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
55 - باب
5154 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: أَوْلَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِزَيْنَبَ فَأَوْسَعَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا؛ فَخَرَجَ كَمَا يَصْنَعُ إِذَا تَزَوَّجَ؛ فَأَتَى حُجَرَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُو وَيَدْعُونَ لَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَرَأَى رَجُلَيْنِ فَرَجَعَ، لَا أَدْرِي آخْبَرْتُهُ أَوْ أُخْبِرَ بِخُرُوجِهِمَا.
قَوْلُهُ (بَابٌ) كَذَا لَهُمْ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ وَسَقَطَ لَفْظُ بَابٍ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَكَذَا مِنْ شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ، ثُمَّ اسْتَشْكَلَهُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ لَا يَتَعَلَّقُ بِتَرْجَمَةِ الصُّفْرَةِ لِلْمُتَزَوِّجِ، وَأُجِيبَ بِمَا ثَبَتَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ مِنْ لَفْظِ بَابٌ وَالسُّؤَالُ بَاقٍ؛ فَإِنَّ الْإِتْيَانَ بِلَفْظِ بَابٌ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ لَكِنَّهُ كَالْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ كَمَا تَقَرَّرَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ هُنَا حَدِيثُ أَنَسٍ: أَوْلَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِزَيْنَبَ يَعْنِي بِنْتَ جَحْشٍ أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مُطَوَّلًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ مَعَ شَرْحِهِ، وَمُنَاسَبَتِهِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعُ فِي قِصَّةِ تَزْوِيجِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ ذِكْرٌ لِلصُّفْرَةِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: الصُّفْرَةُ لِلْمُتَزَوِّجِ مِنَ الْجَائِزِ لَا مِنَ الْمَشْرُوطِ لِكُلِّ مُتَزَوِّجٍ.
56 - بَاب كَيْفَ يُدْعَى لِلْمُتَزَوِّجِ
5155 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ، فقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ.
قَوْلُهُ (بَابُ كَيْفَ يُدْعَى لِلْمُتَزَوِّجِ) ذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ تَزْوِيجِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مُخْتَصَرَةً مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَفِيهِ: قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، رَدَّ قَوْلِ الْعَامَّةِ عِنْدَ الْعُرْسِ بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ
فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى تَضْعِيفِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ كَحَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ شَهِدَ إمْلَاكَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْكَحَ الْأَنْصَارِيَّ وَقَالَ: عَلَى الْأُلْفَةِ وَالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَالطَّيْرِ الْمَيْمُونِ وَالسَّعَةِ فِي الرِّزْقِ الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَأَخْرَجَهُ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ أَضْعَفَ مِنْهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَمْرٍو الْبَرْقَانِيُّ فِي كِتَابِ مُعَاشَرَةِ الْأَهْلِينَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَزَادَ فِيهِ وَالرِّفَاءُ وَالْبَنِينَ، وَفِي سَنَدِهِ أَبَانٌ الْعَبْدِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَفَّأَ إِنْسَانًا، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ، وَقَوْلُهُ: رَفَّأَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ مَهْمُوزٌ مَعْنَاهُ دَعَا لَهُ فِي مَوْضِعِ قَوْلِهِمْ بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ، وَكَانَتْ كَلِمَةً تَقُولُهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا كَمَا رَوَى بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ مِنْ طَرِيقِ غَالِبٍ، عَنِ الْحَسَنِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ قَالَ: كُنَّا نَقُولُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ عَلَّمَنَا نَبِيُّنَا، قَالَ: قُولُوا بَارَكَ اللَّهُ لَكُمْ وَبَارَكَ فِيكُمْ وَبَارِكْ عَلَيْكُمْ، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَدِمَ الْبَصْرَةَ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَقَالُوا لَهُ: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ، فَقَالَ: لَا تَقُولُوا هَكَذَا وَقُولُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِمْ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعُ مِنْ عَقِيلٍ فِيمَا يُقَالُ، وَدَلَّ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ غَالِبًا حَتَّى سُمِّيَ كُلُّ دُعَاءٍ لِلْمُتَزَوِّجِ تَرْفِئَةً، وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لِأَنَّهُ لَا حَمْدَ فِيهِ وَلَا ثَنَاءَ وَلَا ذِكْرَ لِلَّهِ، وَقِيلَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى بُغْضِ الْبَنَاتِ لِتَخْصِيصِ الْبَنِينَ بِالذِّكْرِ، وَأَمَّا الرِّفَاءُ فَمَعْنَاهُ الِالْتِئَامُ مِنْ رَفَأْتُ الثَّوْبَ وَرَفَوْتُهُ رَفْوًا وَرِفَاءً وَهُوَ
دُعَاءٌ لِلزَّوْجِ بِالِالْتِئَامِ وَالِائْتِلَافِ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ اللَّفْظَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَهُ تَفَاؤُلًا لَا دُعَاءً، فَيَظْهَرُ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِلْمُتَزَوِّجِ بِصُورَةٍ الدُّعَاءِ لَمْ يُكْرَهْ كَأَنْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَهُمَا وَارْزُقْهُمَا بَنِينَ صَالِحِينَ مَثَلًا، أَوْ أَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَكُمَا وَرَزَقَكُمَا وَلَدًا ذَكَرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ الْمَاضِي قَالَ: شَهِدْتُ شُرَيْحًا وَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَقَالَ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَقَالَ: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ، قَالَ حَدَّثْتُ شُرَيْحًا أَنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَقَالَ: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ شُرَيْحًا لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ، وَدَلَّ صَنِيعُ الْمُؤَلِّفِ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لِلْمُتَزَوِّجِ بِالْبَرَكَةِ هُوَ الْمَشْرُوع، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَفْظَةٌ جَامِعَةٌ يَدْخُلُ فِيهَا كُلُّ مَقْصُودٍ مِنْ وَلَدٍ وَغَيْرِهِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَ لَهُ: تَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا قَالَ لَهُ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ.
57 - بَاب الدُّعَاءِ لِلنِّسوة اللَّاتِي يَهْدِينَ الْعَرُوسَ وَلِلْعَرُوسِ
5156 -
حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَتْنِي أُمِّي فَأَدْخَلَتْنِي الدَّارَ، فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي الْبَيْتِ، فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ.
قَوْلُهُ (بَابُ الدُّعَاءِ لِلنِّسْوَةِ اللَّاتِي يُهْدِينَ الْعَرُوسَ وَلِلْعَرُوسِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لِلنِّسَاءِ بَدَلَ النِّسْوَةِ، وَأَوْرَدَ
فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ: تَزَوَّجَنِي صلى الله عليه وسلم فَأَتَتْنِي أُمِّي فَأَدْخَلَتْنِي الدَّارَ، فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنِ الْأَنْصَارِ، فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ. وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ مُطَوَّلٍ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ بِهَذَا السَّنَدِ بِعَيْنِهِ فِي بَابِ تَزْوِيجِ عَائِشَةَ قُبَيْلَ أَبْوَابِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ مُخَالِفٌ لِلتَّرْجَمَةِ فَإِنَّ فِيهِ دُعَاءَ النِّسْوَةِ لِمَنْ أَهْدَى الْعَرُوسَ لَا الدُّعَاءِ لَهُنَّ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَهُ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: لَمْ يَذْكُرْ فِي الْبَابِ الدُّعَاءَ لِلنِّسْوَةِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ كَيْفَ صِفَةُ دُعَائِهِنَّ لِلْعَرُوسِ، لَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يُسَاعِدُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْأُمُّ هِيَ الْهَادِيَةُ لِلْعَرُوسِ الْمُجَهِّزَةُ فَهُنَّ دَعَوْنَ لَهَا وَلِمَنْ مَعَهَا وَلِلْعَرُوسِ، حَيْثُ قُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ جِئْتُنَّ أَوْ قَدِمْتُنَّ عَلَى الْخَيْرِ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ فِي النِّسْوَةِ لِلِاخْتِصَاصِ أَيِ الدُّعَاءِ الْمُخْتَصِّ بِالنِّسْوَةِ اللَّاتِي يُهْدِينَ، وَلَكِنْ يَلْزَمُ مِنْهُ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ اللَّامِ الَّتِي لِلْعَرُوسِ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْمَدْعُوِّ لَهَا وَالَّتِي فِي النِّسْوَةِ لِأَنَّهَا الدَّاعِيَةُ، وَفِي جَوَازِ مِثْلِهِ خِلَافٌ، انْتَهَى.
وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ أَحْسَنُ مَا تُوَجَّهُ بِهِ التَّرْجَمَةُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ بِالنِّسْوَةِ مَنْ يُهْدِي الْعَرُوسَ سَوَاءٌ كُنَّ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَأَنَّ مَنْ حَضَرَ ذَلِكَ يَدْعُو لِمَنْ أَحْضَرَ الْعَرُوسَ، وَلَمْ يُرِدِ الدُّعَاءَ لِلنِّسْوَةِ الْحَاضِرَاتِ فِي الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ الْعَرُوسُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى الْبَاءِ عَلَى حَذْفٍ أَيِ الْمُخْتَصُّ بِالنِّسْوَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ بَدَلٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ دُعَاءُ النِّسْوَةِ الدَّاعِيَاتِ لِلنِّسْوَةِ الْمُهْدِيَاتِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مِنْ أَيِّ الدُّعَاءِ الصَّادِرِ مِنَ النِّسْوَةِ، وَعِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ حَفْصَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِجِوَارٍ بِنَاحِيَةِ بَنِي جَدَرَةَ وَهُنَّ يَقُلْنَ:
فَحَيُّونَا نُحَيِّيكُمْ
فَقَالَ: قُلْنَ حَيَّانَا اللَّهُ وَحَيَّاكُمْ، فَهَذَا فِيهِ دُعَاءٌ لِلنِّسْوَةِ اللَّاتِي يَهْدِينَ الْعَرُوسَ وَقَوْلُهُ يَهْدِينَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنَ الْهِدَايَةِ وَبِضَمِّهِ مِنَ الْهَدِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْعَرُوسُ تُجَهَّزُ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهَا إِلَى الزَّوْجِ احْتَاجَتْ إِلَى مَنْ يَهْدِيهَا الطَّرِيقَ إِلَيْهِ أَوْ أَطْلَقَتْ عَلَيْهَا أَنَّهَا هدِيَّةٌ، فَالضَّبْطَ بِالْوَجْهَيْنِ عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلِلْعَرُوسِ فَهُوَ اسْمٌ لِلزَّوْجَيْنِ عِنْدَ أَوَّلِ اجْتِمَاعِهِمَا يَشْمَلُ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِ النِّسْوَةِ عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَشْمَلُ الْمَرْأَةَ وَزَوْجَهَا، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ كَمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ هُنَاكَ، وَفِيهِ أَنَّ أُمَّهَا لَمَّا أَجْلَسَتْهَا فِي حِجْز رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: هَؤُلَاءِ أَهْلُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِمْ.
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ سَمَّى مِنْهُنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ الْأَنْصَارِيَّةَ، فَقَدْ أَخْرَجَ جَعْفَرٌ الْمُسْتَغْفِرِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ كِلَابِ بْنِ تِلَادٍ، عَنْ تِلَادٍ، عَنْ أَسْمَاءَ مُقَيِّنَةِ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا أَقْعَدْنَا عَائِشَةَ لِنُجْلِيَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَنَا فَقَرَّبَ إِلَيْنَا تَمْرًا وَلَبَنًا الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةُ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِن تِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ وَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ كَانَتْ مَعَ زَوْجِهَا جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالْحَبَشَةِ، وَالْمُقَيِّنَةُ بِقَافٍ وَنُونٍ الَّتِي تُزَيِّنُ الْعَرُوسَ عِنْدَ دُخُولِهَا عَلَى زَوْجِهَا.
58 - بَاب مَنْ أَحَبَّ الْبِنَاءَ قَبْلَ الْغَزْوِ
5157 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمْ يَبْنِ بِهَا.
قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ أَحَبَّ الْبِنَاءَ) أَيْ بِزَوْجَتِهِ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا (قَبْلَ الْغَزْوِ) أَيْ إِذَا حَضَرَ الْجِهَادَ لِيَكُونَ فِكْرُهُ
مُجْتَمِعًا.
ذكر فيه حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَاضِي فِي كِتَابِ الْجِهَادِ ثُمَّ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ، وَقَدْ شَرَحْتُهُ فِيهِ وَبَيَّنْتُ الِاخْتِلَافَ فِي اسْمِ النَّبِيِّ الَّذِي غَزَا هَلْ هُوَ يُوشَعُ أَوْ دَاوُدُ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: يُسْتَفَادُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى الْعَامَّةِ فِي تَقْدِيمِهِمُ الْحَجَّ عَلَى الزَّوَاجِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ التَّعَفُّفَ إِنَّمَا يَتَأَكَّدُ بَعْدَ الْحَجِّ، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَتَعَفَّفَ ثُمَّ يَحُجَّ.
59 - بَاب مَنْ بَنَى بِامْرَأَةٍ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ
5158 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ: تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ وَبَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ، وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعًا.
قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ بَنَى بِامْرَأَةٍ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي مَنَاقِبِهَا.
60 - بَاب الْبِنَاءِ فِي السَّفَرِ
5159 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلَاثًا، يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ، فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلَا لَحْمٍ، أَمَرَ بِالْأَنْطَاعِ فَأُلْقِيَ فِيهَا مِنْ التَّمْرِ وَالْأَقِطِ وَالسَّمْنِ، فَكَانَتْ وَلِيمَتَهُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَقَالُوا: إِنْ حَجَبَهَا فَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ وطأ لَهَا خَلْفَهُ وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ. قَوْلُهُ (بَابُ الْبِنَاءِ) أَيْ بِالْمَرْأَةِ (فِي السَّفَرِ)
ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ النِّكَاحِ.
وَقَوْلُهُ (ثَلَاثًا يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ) أَيْ تُجَلَّى عَلَيْهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ سُنَّةَ الْإِقَامَةِ عِنْدَ الثَّيِّبِ لَا تَخْتَصُّ بِالْحَضَرِ وَلَا تَتَقَيَّدُ بِمَنْ لَهُ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ تَأْخِيرِ الْأَشْغَالِ الْعَامَّةِ لِلشُّغْلِ الْخَاصِّ إِذَا كَانَ لَا يَفُوتُ بِهِ غَرَضٌ، وَالِاهْتِمَامُ بِوَلِيمَةِ الْعُرْسِ وَإِقَامَةُ سُنَّةِ النِّكَاحِ بِإِعْلَامِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ وَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
61 - بَاب الْبِنَاءِ بِالنَّهَارِ بِغَيْرِ مَرْكَبٍ وَلَا نِيرَانٍ
5160 -
حَدَّثَنِا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَتْنِي أُمِّي، فَأَدْخَلَتْنِي الدَّارَ فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضُحًى.
قَوْلُهُ (بَابُ الْبِنَاءِ بِالنَّهَارِ بِغَيْرِ مَرْكَبٍ وَلَا نِيرَانٍ) ذَكَرَ فِيهِ طَرَقا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي تَزْوِيجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَا، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ بِالنَّهَارِ إِلَى أَنَّ الدُّخُولَ عَلَى الزَّوْجَةِ لَا يَخْتَصُّ بِاللَّيْلِ، وَبِقَوْلِهِ وَبِغَيْرِ مَرْكَبٍ وَلَا نِيرَانٍ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ - وَمِنْ طَرِيقِهِ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ - مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَرَظٍ الثَّمَّالِيَّ، وَكَانَ عَامِلَ عُمَرَ عَلَى حِمْصَ، مَرَّتْ بِهِ عَرُوسٌ وَهُمْ يُوقِدُونَ النِّيرَانَ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَضَرَبَهُمْ بِدِرَّتِهِ حَتَّى تَفَرَّقُوا عَنْ عَرُوسِهِمْ، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ عَرُوسَكُمْ أَوْقَدُوا النِّيرَانَ وَتَشَبَّهُوا بِالْكَفَرَةِ وَاللَّهُ مُطْفِئٌ نُورَهُمْ.
62 - بَاب الْأَنْمَاطِ وَنَحْوِهَا لِلنِّسَاءِ
5161 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ اتَّخَذْتُمْ أَنْمَاطًا؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَّى لَنَا أَنْمَاطٌ؟ قَالَ: إِنَّهَا سَتَكُونُ.
قَوْلُهُ (بَابُ الْأَنْمَاطِ وَنَحْوِهِ لِلنِّسَاءِ) أَيْ مِنَ الْكَلَلِ وَالْأَسْتَارِ وَالْفُرُشِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَالْأَنْمَاطُ جَمْعُ نَمَطٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمِيمِ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَقَوْلُهُ وَنَحْوُهُ أَعَادَ الضَّمِيرَ مُفْرَدًا عَلَى مُفْرَدِ الْأَنْمَاطِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْجَوَازِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاتِهِ، فَأَخَذْتُ نَمَطًا فَنَشَرْتُهُ عَلَى الْبَابِ، فَلَمَّا قَدِمَ فَرَأَى النَّمَطَ عَرَفْتُ الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهِ، فَجَذَبَهُ حَتَّى هَتَكَهُ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ، قَالَ فَقَطَعْتُ مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ عَلَيَّ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْأَنْمَاطَ لَا يُكْرَهُ اتِّخَاذُهَا لِذَاتِهَا بَلْ لِمَا يُصْنَعُ بِهَا، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي سَتْرِ الْجُدُرِ فِي بَابِ هَلْ يَرْجِعُ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا مِنْ أَبْوَابِ الْوَلِيمَةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَشُورَةَ لِلْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ، لِقَوْلِ جَابِرٍ لِامْرَأَتِهِ أَخِّرِي عَنِّي أَنْمَاطَكِ كَذَا قَالَ، وَلَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ لِامْرَأَةِ جَابِرٍ حَقِيقَةً فَلِذَلِكَ أَضَافَهَا لَهَا، وَإِلَّا فَفِي نَفْسِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ سَتَكُونُ لَكُمْ أَنْمَاطٌ فَأَضَافَهَا إِلَى أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِيَ اسْتَدَلَّتْ بِهِ امْرَأَةُ جَابِرٍ عَلَى الْجَوَازِ، قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ مَشُورَةَ النِّسَاءِ لِلْبُيُوتِ مِنَ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ الْمُتَعَارَفِ، كَذَا قَالَ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ.
63 - بَاب النِّسْوَةِ اللَّاتِي يَهْدِينَ الْمَرْأَةَ إِلَى زَوْجِهَا وَدُعَائِهِنَّ بِالْبَرَكَةِ
5162 -
حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا زَفَّتْ امْرَأَةً إِلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَائِشَةُ مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ، فَإِنَّ الْأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمْ اللَّهْوُ.
قَوْلُهُ (بَابُ النِّسْوَةِ الَّتِي يُهْدِينَ الْمَرْأَةَ إِلَى زَوْجِهَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ اللَّاتِي بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَهُوَ أَوْلَى.
قَوْلُهُ (وَدُعَائِهِنَّ بِالْبَرَكَةِ) ثَبَتَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ وَسَقَطَتْ لِغَيْرِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَلَا أَبُو نُعَيْمٍ وَلَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، لَكِنْ إِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً فَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ طَرِيقِ بَهِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا زَوَّجَتْ يَتِيمَةً كَانَتْ فِي حِجْرِهَا رَجُلًا مِنِ الْأَنْصَارِ، قَالَتْ: وَكُنْتُ فِيمَنْ أَهْدَاهَا إِلَى زَوْجِهَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا قُلْتُمْ يَا عَائِشَةُ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: سَلَّمْنَا وَدَعَوْنَا اللَّهَ بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ انْصَرَفْنَا.
قَوْلُهُ (إِنَّهَا زَفَّتِ امْرَأَةً إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا صَرِيحًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ يَتِيمَةً فِي حِجْرِ عَائِشَةَ، وَكَذَا لِلطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْكَحَتْ عَائِشَةُ قَرَابَةً لَهَا، وَلِأَبِي الشَّيْخِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ عَائِشَةَ زَوَّجَتْ بِنْتَ أَخِيهَا أَوْ ذَاتَ قَرَابَةٍ مِنْهَا، وَفِي أَمَالِي
الْمَحَامِلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ: نَكَحَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَنْصَارِ بَعْضَ أَهْلِ عَائِشَةَ فَأَهْدَتْهَا إِلَى قُبَاءٍ، وَكُنْتُ ذَكَرْتُ فِي الْمُقَدِّمَةِ تَبَعًا لِابْنِ الْأَثِيرِ فِي أُسْدِ الْغَابَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّ اسْمَ هَذِهِ الْيَتِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْفَارِعَةُ بِنْتُ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، وَأَنَّ اسْمَ زَوْجِهَا نُبَيْطُ بْنُ جَابِرٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَقَالَ فِي تَرْجَمَةِ الْفَارِعَةِ: أَنَّ أَبَاهَا أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ أَوْصَى بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُبَيْطَ بْنَ جَابِرٍ، ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ الْمَوْصِلِيِّ حَدِيثَ عَائِشَةَ الَّذِي ذَكَرْتُهُ أَوَّلًا مِنْ طَرِيقِ بَهِيَّةَ عَنْهَا، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ الْيَتِيمَةُ هِيَ الْفَارِعَةُ الْمَذْكُورَةُ، كَذَا قَالَ، وَهُوَ مُحْت مِلٌ، لَكِنْ مَنَعَ مِنْ تَفْسِيرِهَا بِهَا مَا وَقَعَ مِنَ الزِّيَادَةِ أَنَّهَا كَانَتْ قَرَابَةَ عَائِشَةَ فَيَجُوزُ التَّعَدُّدُ، وَلَا يَبْعُدُ تَفْسِيرُ الْمُبْهَمَةِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِالْفَارِعَةِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ تَقْيِيدٌ بِكَوْنِهَا قَرَابَةَ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ (مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ) فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ، فَقَالَ: فَهَلْ بَعَثْتُمْ مَعَهَا جَارِيَةً تَضْرِبُ بِالدُّفِّ وَتُغَنِّي؟ قُلْتُ:: تَقُولُ مَاذَا؟ قَالَ: تَقُولُ:
أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ
…
فَحَيَّانَا وَحَيَّاكُمْ
وَلَوْلَا الذَّهَبُ الْأَحْمَ
…
رُ مَا حَلَّتْ بِوَادِيكُمْ
وَلَوْلَا الْحِنْطَةُ السَّمْرَا
…
ءُ مَا سَمِنَتْ عَذَارِيكُمْ
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ بَعْضُهُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوَّلُهُ إِلَى قَوْلِهِ وَحَيَّاكُمْ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّ الْأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوُ) فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ قَوْمٌ فِيهِمْ غَزَلٌ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الْمَحَامِلِيِّ أَدْرِكِيهَا يَا زَيْنَبُ، امْرَأَةٌ كَانَتْ تُغَنِّي بِالْمَدِينَةِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَسْمِيَةُ الْمُغَنِّيَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَاضِي فِي الْعِيدَيْنِ؛ حَيْثُ جَاءَ فِيهِ: دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ تُغَنَّيَانِ. وَكُنْتُ ذَكَرْتُ هُنَاكَ أَنَّ اسْمَ إِحْدَاهُمَا حَمَامَةُ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْعِيدَيْنِ لَهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَأَنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الْأُخْرَى، وَقَدْ جَوَّزْتُ الْآنَ أَنْ تَكُونَ هِيَ زَيْنَبَ هَذِهِ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ، وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيَّيْنِ، قَالَ: أَنَّهُ رَخَّصَ لَنَا فِي اللَّهْوِ عِنْدَ الْعُرْسِ. الْحَدِيثَ. وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَقِيلَ لَهُ: أَتُرَخِّصُ فِي هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّهُ نِكَاحٌ لَا سِفَاحٌ، أَشِيدُوا النِّكَاحَ. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ: أَعْلِنُوا النِّكَاحَ، زَادَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَلِأَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ فَصْلُ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الضَّرْبُ بِالدُّفِّ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ وَاضْرِبُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَالْأَحَادِيثُ الْقَوِيَّةُ فِيهَا الْإِذْنُ فِي ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ فَلَا يَلْتَحِقُ بِهِنَّ الرِّجَالُ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِنَّ.
64 - بَاب الْهَدِيَّةِ لِلْعَرُوسِ
5163 -
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، واسْمُهُ الْجَعْدُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: مَرَّ بِنَا فِي مَسْجِدِ بَنِي رِفَاعَةَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَرَّ بِجَنَبَاتِ أُمِّ سُلَيْمٍ دَخَلَ عَلَيْهَا فَسَلَّمَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَرُوسًا بِزَيْنَبَ، فَقَالَتْ لِي أُمُّ سُلَيْمٍ: لَوْ أَهْدَيْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَدِيَّةً؟ فَقُلْتُ لَهَا: افْعَلِي.
فَعَمَدَتْ إِلَى تَمْرٍ وَسَمْنٍ وَأَقِطٍ فَاتَّخَذَتْ حَيْسَةً فِي بُرْمَةٍ فَأَرْسَلَتْ بِهَا مَعِي إِلَيْهِ، فَانْطَلَقْتُ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لِي: ضَعْهَا، ثُمَّ أَمَرَنِي، فَقَالَ:
ادْعُ لِي رِجَالًا سَمَّاهُمْ، وَادْعُ لِي مَنْ لَقِيتَ، قَالَ: فَفَعَلْتُ الَّذِي أَمَرَنِي، فَرَجَعْتُ فَإِذَا الْبَيْتُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى تِلْكَ الْحَيْسَةِ وَتَكَلَّمَ بِهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَدْعُو عَشَرَةً عَشَرَةً يَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَيَقُولُ لَهُمْ: اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ، قَالَ: حَتَّى تَصَدَّعُوا كُلُّهُمْ عَنْهَا، فَخَرَجَ مِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ وَبَقِيَ نَفَرٌ يَتَحَدَّثُونَ، قَالَ: وَجَعَلْتُ أَغْتَمُّ، ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ الْحُجُرَاتِ، وَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهِ، فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ قَدْ ذَهَبُوا، فَرَجَعَ فَدَخَلَ الْبَيْتَ وَأَرْخَى السِّتْرَ وَإِنِّي لَفِي الْحُجْرَةِ، وَهُوَ يَقُولُ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: قَالَ أَنَسٌ: إِنَّهُ خَدَمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ.
قَوْلُهُ (بَابُ الْهَدِيَّةِ لِلْعَرُوسِ) أَيْ صَبِيحَةَ بِنَائِهِ بِأَهْلِهِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ) ابْنُ طَهْمَانَ (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَاسْمُهُ الْجَعْدُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: مَرَّ بِنَا فِي مَسْجِدِ بَنِي رِفَاعَةَ)، يَعْنِي بِالْبَصْرَةِ، قَالَ:(فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَرَّ بِجَنَبَاتِ أُمِّ سُلَيْمٍ) كَذَا فِيهِ، وَالْجَنَبَاتُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالنُّونِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ جَمْعُ جَنَبَةٍ وَهِيَ النَّاحِيَةُ.
قَوْلُهُ (دَخَلَ عَلَيْهَا فَسَلَّمَ عَلَيْهَا) هَذَا الْقَدْرُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَشَارَكَهُ فِي بَقِيَّتِهِ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَمَعمَرُ بْنُ رَاشِدٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِهِمَا، وَلَمْ يَقَعْ لِي مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ إِلَّا أَنَّ بَعْضَ مَنْ لَقِينَاهُ مِنَ الشُّرَّاحِ زَعَمَ أَنَّ النَّسَائِيَّ أَخْرَجَهُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ بَعْدُ.
قَوْلُهُ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرُوسًا بِزَيْنَبَ) يَعْنِي بِنْتَ جَحْشٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ آيَتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَكْثِيرِ الطَّعَامِ وَاضِحًا فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ عِيَاضٌ مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ الْوَلِيمَةَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ كَانَتْ مِنَ الْحَيْسِ الَّذِي أَهْدَتْهُ أُمُّ سُلَيْمٍ، وَأَنَّ الْمَشْهُورَ مِنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ أَوْلَمَ عَلَيْهَا بِالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ، وَلَمْ يَقَعْ فِي الْقِصَّةِ تَكْثِيرُ ذَلِكَ الطَّعَامَ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَشْبَعَ الْمُسْلِمِينَ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَذَكَرَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ أَنَسًا قَالَ: فَقَالَ لِي: ادْعُ رِجَالًا سَمَّاهُمْ وَادْعُ مَنْ لَقِيتَ، وَأَنَّهُ أَدْخَلَهُمْ وَوَضَعَ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَيْسَةِ وَتَكَلَّمَ بِمَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَدْعُو عَشَرَةً عَشَرَةً حَتَّى تَصَدَّعُوا كُلُّهُمْ عَنْهَا، يَعْنِي تَفَرَّقُوا، قَالَ عِيَاضٌ: هَذَا وَهْمٌ مِنْ رَاوِيهِ وَتَرْكِيبُ قِصَّةٍ عَلَى أُخْرَى. وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لَا وَهْمَ فِي ذَلِكَ، فَلَعَلَّ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا وَذَهَبُوا لَمْ يَرْجِعُوا، وَلَمَّا بَقِيَ النَّفَرُ الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ جَاءَ أَنَسٌ بِالْحَيْسَةِ، فَأُمِرَ بِأَنْ يَدْعُوَ نَاسًا آخَرِينَ وَمَنْ لَقِيَ فَدَخَلُوا فَأَكَلُوا أَيْضًا حَتَّى شَبِعُوا، وَاسْتَمَرَّ أُولَئِكَ النَّفَرُ يَتَحَدَّثُونَ. وَهُوَ جَمْعٌ لَا بَأْسَ بِهِ، وَأَوْلَى مِنْهُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ حُضُورَ الْحَيْسَةِ صَادَفَ حُضُورَ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ، فَأَكَلُوا كُلُّهُمْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ.
وَعَجِبْتُ مِنْ إِنْكَارِ عِيَاضٍ وُقُوعَ تَكْثِيرِ الطَّعَامِ فِي قِصَّةِ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ مَعَ أَنَّ أَنَسًا يَقُولُ إِنَّهُ أَوْلَمَ عَلَيْهَا بِشَاةٍ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَيَقُولُ إِنَّهُ أَشْبَعَ الْمُسْلِمِينَ خُبْزًا وَلَحْمًا. وَمَا الَّذِي يَكُونُ قَدْرَ الشَّاةِ حَتَّى يُشْبِعَ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا وَهُمْ يَوْمَئِذٍ نَحْوُ الْأَلْفِ لَوْلَا الْبَرَكَةُ الَّتِي حَصَلَتْ مِنْ جُمْلَةِ آيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَكْثِيرِ الطَّعَامِ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَبَقِيَ نَفَرٌ يَتَحَدَّثُونَ
تَقَدَّمَ بَيَانُ عِدَّتِهِمْ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ. وَقَوْلُهُ وَجَعَلْتُ أَغْتَمُّ هُوَ مِنَ الْغَمِّ، وَسَبَبُهُ مَا فَهِمَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَيَائِهِ مِنْ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْقِيَامِ وَمِنْ غَفْلَتِهِمْ بِالتَّحَدُّثِ عَنِ الْعَمَلِ عَمَّا يَلِيقُ مِنَ التَّخْفِيفِ حِينَئِذٍ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: قَالَ أَبُو عُثْمَانَ قَالَ أَنَسٌ: إِنَّهُ خَدَمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَبْلَ قَلِيلٍ، وَسَيَأْتِي الْإِلْمَامُ بِهِ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
65 - بَاب اسْتِعَارَةِ الثِّيَابِ لِلْعَرُوسِ وَغَيْرِهَا
5164 -
حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلَادَةً فَهَلَكَتْ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي طَلَبِهَا، فَأَدْرَكَتْهُمْ الصَّلَاةُ فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَلَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَكَوْا ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا، فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ قَطُّ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ لَكِ مِنْهُ مَخْرَجًا وَجُعِلَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ بَرَكَةٌ.
قَوْلُهُ (بَابُ اسْتِعَارَةِ الثِّيَابِ لِلْعَرُوسِ وَغَيْرِهَا)؛ أَيْ: وَغَيْرِ الثِّيَابِ، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلَادَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ التَّيَمُّمِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى الْجَامِعِ بَيْنَ الْقِلَادَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَلْبُوسِ الَّذِي يَتَزَيَّنُ بِهِ لِلزَّوْجِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْعُرْسِ أَوْ بَعْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ لِعَائِشَةَ حَدِيثٌ أَخَصُّ مِنْ هَذَا، وَهُوَ قَوْلُهَا: كَانَ لِي مِنْهُنَّ - أَيْ مِنَ الدُّرُوعِ الْقِطْنِيَّةِ - دِرْعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ تَقِينُ بِالْمَدِينَةِ - أَيْ تَتَزَيَّنُ - إِلَّا أَرْسَلَتْ إِلَيَّ تَسْتَعِيرُهُ، وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ الِاسْتِعَارَةُ لِلْعُرْسِ عِنْدَ الْبِنَاءِ، وَيَنْبَغِي اسْتِحْضَارُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَحَدِيثِهَا هُنَا.
66 - بَاب مَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ
5165 -
حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ حِينَ يَأْتِي أَهْلَهُ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، ثُمَّ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ أَوْ قُضِيَ وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا.
قَوْلُهُ (بَابُ مَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ) أَيْ جَامَعَ.
قَوْلُهُ (عَنْ شَيْبَانَ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّحْوِيُّ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ هُوَ أَوَّلُهُمْ.
قَوْلُهُ (أَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ) كَذَا لِلْكُشْميهَنِيِّ هُنَا، وَلِغَيْرِهِ بِحَذْفِ أَنَّ وَتَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ مَنْصُورٍ بِحَذْفِ لَوْ، وَلَفْظُهُ أَمَا أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ، وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ؛ وَهِيَ مُفَسِّرَةٌ لِغَيْرِهَا مِنَ الرِّوَايَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَبْلَ الشُّرُوعِ.
قَوْلُهُ (حِينَ يَأْتِي أَهْلَهُ) فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: أَمَا أَنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ يَقُولُ حِينَ يُجَامِعُ أَهْلَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ في أَنَّ الْقَوْلَ يَكُونُ مَعَ الْفِعْلِ، لَكِنْ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ، وَعِنْدَهُ فِي رِوَايَةِ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَنْصُورٍ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا جَامَعَ امْرَأَتَهُ ذَكَرَ اللَّهَ.
قَوْلُهُ
(بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي) فِي رِوَايَةِ رَوْحٍ: ذَكَرَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ: جَنِّبْنِي بِالْإِفْرَادِ أَيْضًا، وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ جَنِّبْنَا.
قَوْلُهُ (الشَّيْطَانُ) فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: جَنِّبْنِي وَجَنِّبْ مَا رَزَقْتَنِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ أَوْ قُضِيَ وَلَدٌ) كَذَا بِالشَّكِّ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ ثُمَّ قُدِّرَ بَيْنُهَمَا فِي ذَلِكَ - أَيِ الْحَالِ - وَلَدٌ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ: فَإِنْ قَضَى اللَّهُ بَيْنَهُمَا وَلَدًا، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ: فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِهِ فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ جرير ثُمَّ قُدِّرَ أَنْ يَكُونَ وَالْبَاقِي مِثْلُهُ، وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ فَرُزِقَا وَلَدًا.
قَوْلُهُ (لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا) كَذَا بِالتَّنْكِيرِ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَحْمَدَ: لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ أَوْ لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ، وَتَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَإِسْرَائِيلَ، وَرَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ بِلَفْظِ الشَّيْطَانِ، وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ الْمَذْكُورِ فِي لَفْظِ الدُّعَاءِ، وَلِأَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعُمِّيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ: لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ الشَّيْطَانُ أَبَدًا، وَفِي مُرْسَلِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: إِذَا أَتَى الرَّجُلُ أَهْلَهُ فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيمَا رَزَقَتْنَا وَلَا تَجْعَلْ لِلشَّيْطَانِ نَصِيبًا فِيمَا رَزَقْتَنَا، فَكَانَ يُرْجَى إِنْ حَمَلَتْ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا صَالِحًا، وَاخْتُلِفَ فِي الضَّرَرِ الْمَنْفِيِّ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى مَا نَقَلَ عِيَاضٌ عَلَى عَدَمِ الْحَمْلِ عَلَى الْعُمُومِ فِي أَنْوَاعِ الضَّرَرِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي الْحَمْلِ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ مِنْ صِيغَةِ النَّفْيِ مَعَ التَّأْبِيدِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ: إِنَّ كُلَّ بَنِي آدَمَ يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ فِي بَطْنِهِ حِينَ يُولَدُ إِلَّا مَنِ اسْتَثْنَى؛ فَإِنَّ فِي هَذَا الطَّعْنِ نَوْعَ ضَرَرٍ فِي الْجُمْلَةِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ صُرَاخِهِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: الْمَعْنَى لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ بَرَكَةِ التَّسْمِيَةِ، بَلْ يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْعِبَادِ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وَيُؤَيِّدُهُ مُرْسَلُ الْحَسَنِ الْمَذْكُورُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَمْ يُطَعْنَ فِي بَطْنِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِمُنَابَذَتِهِ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَيْسَ تَخْصِيصُهُ بِأَوْلَى مِنْ تَخْصِيصِ هَذَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَمْ يَصْرَعْهُ، وَقِيلَ: لَمْ يَضُرَّهُ فِي بَدَنِهِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَضُرَّهُ فِي دِينِهِ أَيْضًا، وَلَكِنْ يُبْعِدُهُ انْتِفَاءُ الْعِصْمَةِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ اخْتِصَاصَ مَنْ خُصَّ بِالْعِصْمَةِ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ لَا بِطَرِيقِ الْجَوَازِ، فَلَا مَانِعَ أَنْ يُوجَدَ مَنْ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ عَمْدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَاجِبًا لَهُ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ مَعْنَى لَمْ يَضُرَّهُ أَيْ لَمْ يَفْتِنْهُ عَنْ دِينِهِ إِلَى الْكُفْرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ عِصْمَتَهُ مِنْهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَقِيلَ: لَمْ يَضُرَّهُ بِمُشَارَكَةِ أَبِيهِ فِي جِمَاعِ أُمِّهِ كَمَا جَاءَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الَّذِي يُجَامِعُ وَلَا يُسَمِّي يَلْتَفُّ الشَّيْطَانُ عَلَى إِحْلِيلِهِ فَيُجَامِعُ مَعَهُ، وَلَعَلَّ هَذَا أَقْرَبُ الْأَجْوِبَةِ، وَيَتَأَيَّدُ الْحَمْلُ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْكَثِيرَ مِمَّنْ يَعْرِفُ هَذَا الْفَضْلَ الْعَظِيمَ يَذْهَلُ عَنْهُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْمُوَاقَعَةِ، وَالْقَلِيلُ الَّذِي قَدْ يَسْتَحْضِرُهُ وَيَفْعَلُهُ لَا يَقَعُ مَعَهُ الْحَمْلُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ نَادِرًا لَمْ يَبْعُدْ.
وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا اسْتِحْبَابُ التَّسْمِيَةِ وَالدُّعَاءِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى فِي حَالَةِ الْمَلَاذِّ كَالْوِقَاعِ، وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ. وَفِيهِ الِاعْتِصَامُ بِذِكْرِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ وَالتَّبَرُّكِ بِاسْمِهِ وَالِاسْتِعَاذَةُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَسْوَاءِ، وَفِيهِ الِاسْتِشْعَارُ بِأَنَّهُ الْمُيَسِّرُ لِذَلِكَ الْعَمَلُ وَالْمُعِينُ عَلَيْهِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ مُلَازِمٌ لِابْنِ آدَمَ لَا يَنْطَرِدُ عَنْهُ إِلَّا إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ. وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْعِ الْمُحْدِثِ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ، وَيَخْدِشُ فِيهِ الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَهُوَ نَظِيرٌ مَا وَقَعَ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَ الْخَلَاءِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ وَأَشَارَ إِلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ، وَتَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ.
67 - بَاب الْوَلِيمَةُ حَقٌّ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ.
5166 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ مَقْدَمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، فَكَانَ أُمَّهَاتِي يُوَاظِبْنَنِي عَلَى خِدْمَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَخَدَمْتُهُ عَشْرَ سِنِينَ، وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، فَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الْحِجَابِ حِينَ أُنْزِلَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ فِي مُبْتَنَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ؛ أَصْبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَا عَرُوسًا، فَدَعَا الْقَوْمَ فَأَصَابُوا مِنْ الطَّعَامِ ثُمَّ خَرَجُوا، وَبَقِيَ رَهْطٌ مِنْهُمْ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَطَالُوا الْمُكْثَ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ وَخَرَجْتُ مَعَهُ لِكَيْ يَخْرُجُوا، فَمَشَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَشَيْتُ حَتَّى جَاءَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، ثُمَّ ظَنَّ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ لَمْ يَقُومُوا، فَرَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَجَعْتُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا بَلَغَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَظَنَّ أَنَّهُمْ خَرَجُوا، فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ فَإِذَا هُمْ قَدْ خَرَجُوا، فَضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنِي وَبَيْنَهُ بِالسِّتْرِ، وَأُنْزِلَ الْحِجَابُ.
قَوْلُهُ (بَابٌ الْوَلِيمَةُ حَقٌّ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ رَفَعَهُ: الْوَلِيمَةُ حَقٌّ، وَالثَّانِيَةُ مَعْرُوفٌ، وَالثَّالِثَةُ فَخْرٌ.
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْأَعْرَجِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ؛ يُدْعَى الْغَنِيُّ وَيُتْرَكُ الْمِسْكِينُ وَهِيَ حَقٌّ، الْحَدِيثَ. وَلِأَبِي الشَّيْخِ، وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ، مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: الْوَلِيمَةُ حَقٌّ وَسُنَّةٌ، فَمَنْ دُعِيَ فَلَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى. . الْحَدِيثَ، وَسَأَذْكُرُ حَدِيثَ زُهَيْرِ ابْنِ عُثْمَانَ فِي ذَلِكَ وَشَوَاهِدُهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ. وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، قَالَ: لَمَّا خَطَبَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ، قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: إنَّهُ لَا بُدَّ لِلْعَرُوسِ مِنْ وَلِيمَةٍ، وَسَنَدُهُ لَا بَأْسَ بِهِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَوْلُهُ الْوَلِيمَةُ حَقٌّ أَيْ لَيْسَتْ بِبَاطِلٍ بَلْ يُنْدَبُ إِلَيْهَا وَهِيَ سُنَّةٌ فَضِيلَةٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَقِّ الْوُجُوبَ. ثُمَّ قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَهَا. كَذَا قَالَ، وَغَفَلَ عَنْ رِوَايَةٍ فِي مَذْهَبِهِ بِوُجُوبِهَا، نَقَلَهَا الْقُرْطُبِيُّ وَقَالَ: إِنَّ مَشْهُورَ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ. وَابْنُ التِّينِ، عَنْ أَحْمَدَ لَكِنِ الَّذِي فِي الْمُغْنِي أَنَّهَا سُنَّةٌ، بَلْ وَافَقَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي نَفْيِ الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: هِيَ وَاجِبَةٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَلِأَنَّ الْإِجَابَةَ إِلَيْهَا وَاجِبَةٌ فَكَانَتْ وَاجِبَةً. وَأَجَابَ بِأَنَّهُ طَعَامٌ لِسُرُورٍ حَادِثٍ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْأَطْعِمَةِ، وَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِكَوْنِهِ أَمَرَهُ بِشَاةٍ وَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا الْبِنَاءُ فَلَا أَصْلَ لَهُ.
قُلْتُ: وَسَأَذْكُرُ مَزِيدًا فِي بَابِ إِجَابَةِ الدَّاعِي قَرِيبًا. وَالْبَعْضُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ وَجْهٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ جَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ ظَاهِرُ نَصِّ الْأُمِّ، وَنَقَلَهُ عَنِ النَّصِّ أَيْضًا الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي الْمُهَذَّبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ حَزْمٍ، وَأَمَّا سَائِرُ الدَّعَوَاتِ غَيْرِهَا فَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ)، هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ نَفْسِهِ، وَمَنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَيْضًا، وَسَأَذْكُرُ شَرْحَهُ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ وُرُودُ صِيغَةِ الْأَمْرِ بِالْوَلِيمَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ رَخَّصَ فِي تَرْكِهَا لَمَا وَقَعَ الْأَمْرُ بِاسْتِدْرَاكِهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الدُّخُولِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي وَقْتِهَا هَلْ هُوَ عِنْدَ الْعَقْدِ
أَوْ عَقِبِهِ أَوْ عِنْدَ الدُّخُولِ أَوْ عَقِبِهِ أَوْ مُوَسَّعٌ مِنِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ إِلَى انْتِهَاءِ الدُّخُولِ عَلَى أَقْوَالٍ: قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتِحْبَابُهُ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَعِنْدَ ابْنِ حَبِيبٍ عِنْدَ الْعَقْدِ وَبَعْدَ الدُّخُولِ. وَقَالَ في مَوْضِعٌ آخَرُ: يَجُوزُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ السُّبْكِيِّ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: لَمْ أَرَ فِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ تَعَيُّنَ وَقْتِهَا، وَأَنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِنْ قَوْلِ الْبَغَوِيِّ: ضَرْبُ الدُّفِّ فِي النِّكَاحِ جَائِزٌ فِي الْعَقْدِ وَالزِّفَافِ قبل وَبَعْدُ قَرِيبًا مِنْهُ، أَنَّ وَقْتَهَا مُوَسَّعٌ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، قَالَ: وَالْمَنْقُولُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا بَعْدَ الدُّخُولِ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى قِصَّةِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ فِي وَقْتِ الْوَلِيمَةِ اهـ، وَمَا نَفَاهُ مِنْ تَصْرِيحِ الْأَصْحَابِ مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّ الْمَاوَرْدِيَّ صَرَّحَ بِأَنَّهَا عِنْدَ الدُّخُولِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي هَذَا الْبَابِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا بَعْدَ الدُّخُولِ لِقَوْلِهِ فِيهِ أَصْبَحَ عَرُوسًا بِزَيْنَبَ فَدَعَا الْقَوْمَ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ الْبِنَاءِ، وَيَقَعُ الدُّخُولُ عَقِبَهَا وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ الْيَوْمَ، وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهَا لِلدُّخُولِ لَا لِلْإِمْلَاكِ أَنَّ الصَّحَابَةَ بَعْدَ الْوَلِيمَةِ تَرَدَّدُوا هَلْ هِيَ زَوْجَةٌ أَوْ سُرِّيَّةٌ، فَلَوْ كَانَتِ الْوَلِيمَةُ عِنْدَ الْإِمْلَاكِ لَعَرَفُوا أَنَّهَا زَوْجَةٌ لِأَنَّ السُّرِّيَّةَ لَا وَلِيمَةَ لَهَا؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا عِنْدَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ (مَقْدَمَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ زَمَانَ قُدُومِهِ، وَسَيَأْتِي فِي الْأَشْرِبَةِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَأَنَا ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، وَمَاتَ وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ. وَتَقَدَّمَ قَبْلَ بَابَيْنِ فِي الْحَدِيثِ الْمُعَلَّقِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ خَدَمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، وَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْآدَابِ مِنْ طَرِيقِ سَلَامِ بْنِ مِسْكِينٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: خَدَمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ الْحَدِيثَ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ فِي حَدِيثٍ آخِرُهُ: قَالَ أَنَسٌ: وَاللَّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، فَإِنَّ مُدَّةَ خِدْمَتِهِ كَانَتْ تِسْعَ سِنِينَ وَبَعْضَ أَشْهُرٍ؛ فَأَلْغَى الزِّيَادَةَ تَارَةً وَجَبَرَ الْكَسْرَ أُخْرَى.
قَوْلُهُ (فَكُنَّ أُمَّهَاتِي) يَعْنِي أُمَّهُ وَخَالَتَهُ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمَا، وَإِنْ ثَبَتَ كَوْنُ مُلَيْكَةَ جَدَّتَهِ فَهِيَ مُرَادَةٌ هُنَا لَا مَحَالَةَ.
قَوْلُهُ (يُوَاظِبْنَنِي) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِظَاءٍ مُشَالَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ نُونَيْنِ، مِنَ الْمُوَاظَبَةِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِطَاءٍ مُهْمَلَةٍ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٍ مَهْمُوزَةٍ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الْمُوَاطَأَةِ وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ يُوَطِّنَّنِي بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَنُونَيْنِ الْأُولَى مُشَدَّدَةٌ بِغَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ الْوَاوِ وَلَا حَرْفَ آخَرَ بَعْدَ الطَّاءِ مِنَ التَّوْطِينِ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ مِثْلُهُ لَكِنْ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا النُّونَانِ مِنَ التَّوْطِئَةِ، تَقُولُ: وَطْأَتُهُ عَلَى كَذَا؛ أَيْ حَرَّضْتُهُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ (وَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الْحِجَابِ) تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ وَبَسْطُ شَرْحِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ
68 - بَاب الْوَلِيمَةِ وَلَوْ بِشَاةٍ
5167 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا رضي الله عنه، قَالَ: سَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ: كَمْ أَصْدَقْتَهَا؟ قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. وَعَنْ حُمَيْدٍ، قال: سَمِعْتُ أَنَسًا، قَالَ: لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ نَزَلَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الْأَنْصَارِ، فَنَزَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ: أُقَاسِمُكَ مَالِي وَأَنْزِلُ لَكَ عَنْ إِحْدَى امْرَأَتَيَّ؟ قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، فَخَرَجَ إِلَى السُّوقِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى، فَأَصَابَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ فَتَزَوَّجَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ.
5168 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ مَا أَوْلَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَيْءٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ أَوْلَمَ بِشَاةٍ"
5169 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَتَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا بِحَيْسٍ"
5170 -
حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ بَيَانٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ بَنَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ فَأَرْسَلَنِي فَدَعَوْتُ رِجَالًا إِلَى الطَّعَامِ"
قَوْلُهُ (بَابُ الْوَلِيمَةِ وَلَوْ بِشَاةٍ) أَيْ لِمَنْ كَانَ مُوسِرًا كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ كُلَّهَا عَنْ أَنَسٍ: الْأَوَّلُ وَالثَّانِي قِصَّةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَطَعَهَا قِطْعَتَيْنِ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِتَحْدِيثِ حُمَيْدٍ لَهُ وَسَمَاعِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ فَأُمِنَ تَدْلِيسُهُمَا، لَكِنَّهُ فَرَّقَهُ حَدِيثَيْنِ: فَذَكَرَ فِي الْأَوَّلِ سُؤَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ الرَّحْمَنِ عَنْ قَدْرِ الصَّدَاقِ، وَفِي الثَّانِي أَوَّلَ الْقِصَّةِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ نَزَلَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الْأَنْصَارِ، وَعَبَّرَ فِي هَذَا بِقَوْلِهِ: وَعَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا كَمَا قَالَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَهَذَا مَعْطُوفٌ فِيمَا جَزَمَ بِهِ الْمِزِّيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَّادٍ، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، سَمِعْتُ أَنَسًا، وَسَاقَ الْحَدِيثَيْنِ مَعًا، وَأَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَمِنْ طَرِيقِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَنْ سُفْيَانَ بِالْحَدِيثِ كُلِّهِ مُفَرَّقًا، وَقَالَ فِي كُلِّ مِنْهُمَا: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ، وَمِنْ طَرِيقِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، فَقَالَ: عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَسَاقَ الْجَمِيعُ حَدِيثًا وَاحِدًا، وَقَدَّمَ الْقِصَّةَ الثَّانِيَةَ عَلَى الْأُولَى كَمَا فِي وَرَايَةِ غَيْرِ سُفْيَانَ؛ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ وَفِي بَابِ الصُّفْرَةِ لِلْمُتَزَوِّجِ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَفِي فَضْلِ الْأَنْصَارِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، وَفِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَيَأْتِي فِي الْأَدَبِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ كُلُّهُمْ عَنْ حُمَيْدٍ.
وَأَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ مَا يُدْعَى لِلْمُتَزَوِّجِ مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتٍ، وَفِي بَابِ {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، وَقَتَادَةَ كُلُّهُمْ عَنْ أَنَسٍ، وَأَوْرَدَهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْبُيُوعِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ نَفْسِهِ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِي رِوَايَاتِهِمْ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ. وَتَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَنَسٍ بَيَانُ مَنْ زَادَ فِي رِوَايَتِهِ، فَجَعَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَأَكْثَرُ الطُّرُقِ تَجْعَلُهُ مِنْ مُسْنَدِ أَنَسٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَجْمُوعِ الطُّرُقِ أَنَّهُ حَضَرَ الْقِصَّةَ وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْهَا مَا لَمْ يَقَعْ لَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ (لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ لَمَّا قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْمَدِينَةَ.
قَوْلُهُ (نَزَلَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الْأَنْصَارِ) تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ.
قَوْلُهُ (فَنَزَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ) فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ لَمَّا قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْمَدِينَةَ آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ: قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَآخَى، وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ نَفْسِهِ، وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ: آخَى
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ. فَآخَى بَيْنَ سَعْدٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَفِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ: قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَآخَى، زَادَ زُهَيْرٌ فِي رِوَايَتِهِ: وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى، وَفِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ: لَقَدْ عَلِمَتِ الْأَنْصَارُ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِنِّي أَكْثَرُ الْأَنْصَارِ مَالًا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فِي فَضَائِلِ الْأَنْصَارِ، وَقِصَّةُ مَوْتِهِ فِي غَزْوَةِ أَحَدٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم آخَى بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ؛ فَقَالَ عُثْمَانُ، لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِنَّ لِي حَائِطَيْنِ الْحَدِيثَ، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ رَاوِيهِ عُمَارَةَ بْنِ زَاذَانَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: أُقَاسِمُكَ مَالِي وَأَنْزِلُ لَكَ عَنْ إِحْدَى امْرَأَتَيَّ)، فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ: فَانْطَلَقَ بِهِ سَعْدٌ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأَكَلَا، وَقَالَ: لِيَ امْرَأَتَانِ وَأَنْتَ أَخِي لَا امْرَأَةَ لَكَ، فَأَنْزِلُ عَنْ إِحْدَاهُمَا فَتَتَزَوَّجَهَا، قَالَ: لَا وَاللَّهِ، قَالَ: هَلُمَّ إِلَى حَدِيقَتِي أُشَاطِرْكَهَا، قَالَ: فَقَالَ: لَا، وَفِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ: فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاسِمَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَفِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ: وَلِيَ امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَأُطَلِّقُهَا، فَإِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْهَا، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِي، وَانْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ هَوَيْتَ فَأَنْزِلُ لَكَ عَنْهَا فَإِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا، وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَفِي لَفْظٍ فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَسَمِّهَا لِي فَأُطَلِّقْهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجْهَا، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: أَيْ أَخِي، أَنَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَالًا، فَانْظُرْ شَطْرَ مَالِي فَخُذْهُ، وَتَحْتِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَيَّهُمَا أَعْجَبُ إِلَيْكَ حَتَّى أُطَلِّقَهَا، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ امْرَأَتَيْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَّا أَنَّ ابْنَ سَعْدٍ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ أُمُّ سَعْدٍ وَاسْمُهَا جَمِيلَةُ وَأُمُّهَا عَمْرَةُ بِنْتُ حَزْمٍ، وَتَزَوَّجَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أُمَّ سَعْدٍ فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنَهُ خَارِجَةَ، فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا تَسْمِيَةُ إِحْدَى امْرَأَتَيْ سَعْدٍ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي التَّفْسِيرِ قِصَّةَ مَجِيءِ امْرَأَةِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ بِابْنَتَيْ سَعْدٍ لَمَّا اسْتُشْهِدَ، فَقَالَتْ: إِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مِيرَاثَهُمَا، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ، وَسَمَّاهَا إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ بِسَنَدٍ لَهُ مُرْسَلٍ عَمْرَةَ بِنْتَ حَزْمٍ.
قَوْلُهُ (بَارَكَ اللَّهُ فِي أَهْلِكِ وَمَالِكِ) فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ، هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: سُوقُ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُ قَيْنُقَاعَ فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ، زَادَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ فَدَلُّوهُ.
قَوْلُهُ (فَخَرَجَ إِلَى السُّوقِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى، فَأَصَابَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ)، فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ: فَاشْتَرَى وَبَاعَ فَرَبِحَ، فَجَاءَ بِشَيْءٍ مِنْ سَمْنٍ وَأَقِطٍ، وَفِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ، فَرَبِحَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ، وَفِيهِ حَذْفٌ بَيَّنَتْهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، وَفِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ فَمَا رَجَعَ حَتَّى اسْتَفْضَلَ أَقِطًا وَسَمْنًا فَأَتَى بِهِ أَهْلَ مَنْزِلِهِ، وَنَحْوُهُ لِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَكَذَا لِأَحْمَدَ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ حُمَيْدٍ.
قَوْلُهُ (فَتَزَوَّجَ) زَادَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ثُمَّ تَابَعَ الْغَدْوَ؛ يَعْنِي إِلَى السُّوقِ فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ فَمَكَثْنَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَاءَ وَعَلَيْهِ وَضَرُ صُفْرَةٍ وَنَحْوُهُ لِابْنِ عُلَيَّةَ، وَفِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، وَالْأَنْصَارِيِّ: فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، زَادَ ابْنُ سَعْدٍ: فِي سِكَّةٍ مِنْ سِكَكِ الْمَدِينَةِ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفِ أَثَرَ صُفْرَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَعَلَيْهِ رَدْعُ زَعْفَرَانٍ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ ثَابِتٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ خَلُوقٍ، وَأَوَّلُ حَدِيثِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ، وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ نَفْسِهِ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ: فَرَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَشَاشَةَ الْعُرْسِ وَالْوَضَرَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَآخِرُهُ رَاءٌ هُوَ فِي الْأَصْلِ الْأَثَرُ، وَالرَّدْعُ بِمُهْمَلَاتٍ - مَفْتُوحُ الْأَوَّلِ سَاكِنُ الثَّانِي - هُوَ أَثَرُ الزَّعْفَرَانِ، وَالْمُرَادُ بِالصُّفْرَةِ سُفْرَةُ الْخَلُوقِ، وَالْخَلُوقُ طِيبٌ يُصْنَعُ مِنْ زَعْفَرَانٍ وَغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى
(سَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ أَيْ سَأَلَهُ حِينَ تَزَوَّجَ، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ جَزَمَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي كِتَابِ النَّسَبِ أَنَّهَا بِنْتُ أَبِي الْحَيْسَرِ أَنَسِ بْنِ رَافِعِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَفِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مِنْ طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ أَنَّهَا بِنْتُ أَبِي الْحَشَّاشِ وَسَاقَ نَسَبَهُ، وَأَظُنُّهُمَا ثِنْتَيْنِ، فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ قَالَ: وَلَدَتْ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، الْقَاسِمَ، وَعَبْدَ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ: وَلَدَتْ لَهُ إِسْمَاعِيلَ، وَعَبْدَ اللَّهِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْقَدَّاحِ فِي نَسَبِ الْأَوْسِ أَنَّهَا أُمُّ إِيَاسٍ بِنْتُ أَبِي الْحَيْسَرِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ بَيْنَهُمَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ وَآخِرُهُ رَاءٌ وَاسْمُهُ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ الْأَوْسِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَفِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ، وَابْنِ عُلَيَّةَ، وَابْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِمْ؛ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَهْيَمْ؟ وَمَعْنَاهُ: مَا شَأْنُكَ أَوْ مَا هَذَا؟ وَهِيَ كَلِمَةُ اسْتِفْهَامٍ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكُونِ، وَهَلْ هِيَ بَسِيطَةٌ أَوْ مَرْكَبَةٌ؟ قَوْلَانِ لِأَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: هِيَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى أَخْبِرْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ لِلطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ فَقَالَ لَهُ: مَهْيَمْ؟ وَكَانَتْ كَلِمَتَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الشَّيْءِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ مَهْيَنْ بِنُونٍ آخِرَهُ بَدَلَ الْمِيمِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ: قَالَ: مَا هَذَا؟، وَقَالَ فِي جَوَابِهِ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنَ بْنَ عَوْفٍ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ خُضِبَ بِالصُّفْرَةِ، فَقَالَ: مَا هَذَا الْخِضَابُ، أَعْرَسْتَ؟ قَالَ نَعَمْ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ (كَمْ أَصْدَقْتَهَا) كَذَا فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَمَعْمَرٍ، عَنْ ثَابِتٍ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ: عَلَى كَمْ، وَفِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، وَزُهَيْرٍ: مَا سُقْتَ إِلَيْهَا وَكَذَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ نَفْسِهِ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: كَمْ سُقْتَ إِلَيْهَا.
قَوْلُهُ (وَزْنَ نَوَاةٍ) بِنَصْبِ النُّونِ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ أَيْ أَصْدَقْتُهَا، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ أَيِ الَّذِي أَصْدَقْتُهَا هُوَ.
قَوْلُهُ (مِنْ ذَهَبٍ) كَذَا وَقَعَ الْجَزْمُ بِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، وَحُمَيْدٍ، وَفِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ، وَابْنِ عُلَيَّةَ: نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ نَفْسِهِ بِالشَّكِّ، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ، وَعَنْ قَتَادَةَ: عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَمِثْلُ الْأَخِيرِ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَنَسٍ: عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ.
قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: مِنْ ذَهَبٍ، وَرَجَّحَ الدَّاوُدِيُّ رِوَايَةَ مَنْ قَالَ: عَلَى نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَاسْتَنْكَرَ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى وَزْنَ نَوَاةٍ، وَاسْتِنْكَارُهُ هُوَ الْمُنْكَرُ لِأَنَّ الَّذِينَ جَزَمُوا بِذَلِكَ أَئِمَّةٌ حُفَّاظٌ، قَالَ عِيَاضٌ: لَا وَهْمَ فِي الرِّوَايَةِ لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ نَوَاةَ تَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ كَانَ لِلنَّوَاةِ قَدْرٌ مَعْلُومٌ صَلُحَ أَنْ يُقَالَ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَزْنُ نَوَاةٍ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ نَوَاةٌ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ وَاحِدَةُ نَوَى التَّمْرِ كَمَا يُوزَنُ بِنَوَى الْخَرُّوبِ وَأَنَّ الْقِيمَةَ عَنْهَا يَوْمَئِذٍ كَانَتْ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَقِيلَ: كَانَ قَدْرُهَا يَوْمَئِذٍ رُبْعُ دِينَارٍ، وَرُدَّ بِأَنَّ نَوَى التَّمْرِ يَخْتَلِفُ فِي الْوَزْنِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ مِعْيَارًا لِمَا يُوزَنُ بِهِ؟ وَقِيلَ: لَفْظُ النَّوَاةُ مِنْ ذَهَبٍ عِبَارَةٌ عَمَّا قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ مِنَ الْوَرِقِ، وَجَزَمَ بِهِ الْخَطَّابِيُّ وَاخْتَارَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَنَقَلَهُ عِيَاضٌ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قُوِّمَتْ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَقِيلَ: وَزْنُهَا مِنَ الذَّهَبِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، حَكَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ فَارِسٍ، وَجَعَلَهُ الْبَيْضَاوِيُّ الظَّاهِرَ، وَاسْتُبْعِدَ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةَ مَثَاقِيلَ وَنِصْفًا.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ قَتَادَةَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ: قُوِّمَتْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثًا وَإِسْنَادُهُ
ضَعِيفٌ، وَلَكِنْ جَزَمَ بِهِ أَحْمَدُ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةٌ وَرُبْعٌ، وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: النَّوَاةُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ رُبْعُ دِينَارٍ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا وَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ فِي آخِرِ حَدِيثٍ، قَالَ أَنَسٌ: جَاءَ وَزْنُهَا رُبْعَ دِينَارٍ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: النَّوَاةُ رُبْعُ النَّشِّ، وَالنَّشُّ نِصْفُ أُوقِيَّةٍ وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَيَكُونُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ دَفَعَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَهِيَ تُسَمَّى نَوَاةً كَمَا تُسَمَّى الْأَرْبَعُونَ أُوقِيَّةً، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو عَوَانَةَ وَآخَرُونَ.
قَوْلُهُ في آخِرَ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) لَيْسَتْ لَوْ هَذِهِ الِامْتِنَاعِيَّةَ وَإِنَّمَا هيَ الَّتِي لِلتَّقْلِيلِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ قَبْلَ قَوْلِهِ أَوْلِمْ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، وَحُمَيْدٍ، وَزَادَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَلَوْ رَفَعْتُ حَجَرًا لَرَجَوْتُ أَنْ أُصِيبَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً، فَكَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ بِأَنْ يُبَارِكَ اللَّهُ لَهُ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَعْرَسْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَوْلَمْتَ؟ قَالَ: لَا. فَرَمَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ، وَهَذَا لَوْ صَحَّ كَانَ فِيهِ أَنَّ الشَّاةَ مِنْ إِعَانَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ يُعَكِّرُ عَلَى مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الشَّاةَ أَقَلُّ مَا يُشْرَعُ لِلْمُوسِرِ، وَلَكِنَّ الْإِسْنَادَ ضَعِيفٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ ثَابِتٍ: قَالَ أَنَسٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ قُسِمَ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مِائَةُ أَلْفٍ. قُلْتُ: مَاتَ عَنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ فَيَكُونُ جَمِيعُ تَرِكَتِهِ ثَلَاثَةَ آلَافِ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِتَرِكَةِ الزُّبَيْرِ الَّتِي تَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي فَرْضِ الْخُمُسِ قَلِيلٌ جِدًّا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ دَنَانِيرَ وَتِلْكَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ كَثْرَةَ مَالِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَشْهُورَةٌ جِدًّا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَوْكِيدِ أَمْرِ الْوَلِيمَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ.
وَعَلَى أَنَّهَا تَكُونُ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهَا تُسْتَدْرَكُ إِذَا فَاتَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَعَلَى أَنَّ الشَّاةَ أَقَلُّ مَا تُجْزِئُ عَنِ الْمُوسِرِ، وَلَوْلَا ثُبُوتُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَوْلَمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ كَمَا سَيَأْتِي بِأَقَلَّ مِنَ الشَّاةِ لَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الشَّاةَ أَقَلُّ مَا تُجْزِئُ فِي الْوَلِيمَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالْقَادِرِ عَلَيْهَا، وَأَيْضًا فَيُعَكِّرُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ خِطَابٌ وَاحِدٌ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ هَلْ يَسْتَلْزِمُ الْعُمُومَ أَوْ لَا، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ، قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ أَمَرَ بِذَلِكَ غَيْرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَلَا أَعْلَمُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ الْوَلِيمَةَ فَجَعَلَ ذَلِكَ مُسْتَنِدًا فِي كَوْنِ الْوَلِيمَةِ لَيْسَتْ بِحَتْمٍ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ السِّيَاقِ طَلَبُ تَكْثِيرِ الْوَلِيمَةِ لِمَنْ يَقْدِرْ، قَالَ عِيَاضٌ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهَا، وَأَمَّا أَقَلُّهَا فَكَذَلِكَ، وَمَهْمَا تَيَسَّرَ أَجْزَأَ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنَّهَا عَلَى قَدْرِ حَالِ الزَّوْجِ، وَقَدْ تَيَسَّرَ عَلَى الْمُوسِرِ الشَّاةُ فَمَا فَوْقَهَا، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي تَكْرَارِهَا فِي الْأَيَّامِ بَعْدَ قَلِيلٍ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا مَنْقَبَةٌ لِسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فِي إِيثَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا ذَكَرَ، وَلِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي تَنَزُّهِهِ عَنْ شَيْءٍ يَسْتَلْزِمُ الْحَيَاءَ وَالْمُرُوءَةَ اجْتِنَابُهُ وَلَوْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ.
وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْمُؤَاخَاةِ وَحُسْنِ الْإِيثَارِ مِنَ الْغَنِيِّ لِلْفَقِيرِ حَتَّى بِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ، وَاسْتِحْبَابُ رَدِّ مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ آثَرَ بِهِ لِمَا يَغْلِبُ فِي الْعَادَةِ مِنْ تُكَلِّفِ مِثْلِ ذَلِكَ، فَلَوْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّفْ جَازَ. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ بِقَصْدٍ صَحِيحٍ عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّكَسُّبِ، وَأَنْ لَا نَقْصَ عَلَى مَنْ يَتَعَاطَى مِنْ ذَلِكَ مَا يَلِيقُ بِمُرُوءَةِ مِثْلِهِ، وَكَرَاهَةُ قَبُولِ مَا يَتَوَقَّعُ مِنْهُ الذُّلُّ مِنْ هِبَةٍ وَغَيْرِهَا، وَأَنَّ الْعَيْشَ مِنْ عَمَلِ الْمَرْءِ بِتِجَارَةٍ أَوْ حِرْفَةٍ أَوْلَى لِنَزَاهَةِ الْأَخْلَاقِ مِنَ الْعَيْشِ بِالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ لِلْمُتَزَوِّجِ، وَسُؤَالِ الْإِمَامِ وَالْكَبِيرِ أَصْحَابَهُ وَأَتْبَاعَهُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا رَأَى مِنْهُمْ مَا لَمْ يَعْهَدْ.
وَجَوَازُ خُرُوجِ الْعَرُوسِ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الْعُرْسِ مِنْ خَلُوقٍ وَغَيْرِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ التَّزَعْفُرِ لِلْعَرُوسِ، وَخَصَّ بِهِ عُمُومَ النَّهْيِ عَنِ التَّزَعْفُرِ لِلرِّجَالِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الصُّفْرَةِ
كَانَتْ فِي ثِيَابِهِ دُونَ جَسَدِهِ، وَهَذَا الْجَوَابُ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ فِي جَوَازِهِ فِي الثَّوْبِ دُونَ الْبَدَنِ، وَقَدْ نَقَلَ ذَلِكَ مَالِكٌ عَنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ، وَفِيهِ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى رَفَعَهُ: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ رَجُلٍ فِي جَسَدِهِ شَيْءٌ مِنْ خَلُوقٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، فَإِنَّ مَفْهُومَهَ أَنَّ مَا عَدَا الْجَسَدَ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْوَعِيدُ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُمَا فِي الثَّوْبِ أَيْضًا، وَتَمَسَّكُوا بِالْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ وَهِيَ صَحِيحَةٌ، وَفِيهَا مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْمُدَّعِي كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَعَلَى هَذَا فَأُجِيبُ عَنْ قِصَّةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِأَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى تَارِيخٍ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ سِيَاقَ قِصَّةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُشْعِرُ بِأَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ، وَأَكْثَرُ مَنْ رَوَى النَّهْيَ مِمَّنْ تَأَخَّرَتْ هِجْرَتُهُ.
ثَانِيهَا أَنَّ أَثَرَ الصُّفْرَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ تَعَلَّقَتْ بِهِ مِنْ جِهَةِ زَوْجَتِهِ فَكَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مَقْصُودٍ لَهُ، وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَعَزَاهُ لِلْمُحَقِّقِينَ، وَجَعَلَهُ الْبَيْضَاوِيُّ أَصْلًا رَدَّ إِلَيْهِ أَحَدَ الِاحْتِمَالَيْنِ أَبَدَاهُمَا فِي قَوْلِهِ مَهْيَمْ؛ فَقَالَ: مَعْنَاهُ: مَا السَّبَبُ فِي الَّذِي أَرَاهُ عَلَيْكَ؟ فَلِذَلِكَ أَجَابَ بِأَنَّهُ تَزَوَّجَ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّضَمُّخِ بِالْخَلُوقِ، فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: تَزَوَّجْتُ، أَيْ فَتَعَلَّقَ بِي مِنْهَا وَلَمْ أَقْصِدْ إِلَيْهِ. ثَالِثُهَا أَنَّهُ كَانَ قَدِ احْتَاجَ إِلَى التَّطَيُّبِ لِلدُّخُولِ عَلَى أَهْلِهِ فَلَمْ يَجِدْ مَنْ طِيبِ الرِّجَالِ حِينَئِذٍ شَيْئًا فَتَطَيَّبَ مِنْ طِيبِ الْمَرْأَةِ، وَصَادَفَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِ صُفْرَةٌ فَاسْتَبَاحَ الْقَلِيلَ مِنْهُ عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِهِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ فِي التَّطَيُّبِ لِلْجُمْعَةِ وَلَوْ مِنْ طِيبِ الْمَرْأَةِ فَبَقِيَ أَثَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
رَابِعُهَا كَانَ يَسِيرًا وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَثَرُهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ.
خَامِسُهَا وَبِهِ جَزَمَ الْبَاجِيُّ أَنَّ الَّذِي يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ زَعْفَرَانٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الطِّيبِ، وَأَمَّا مَا كَانَ لَيْسَ بِطِيبٍ فَهُوَ جَائِزٌ.
سَادِسُهَا أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّزَعْفُرِ لِلرِّجَالِ لَيْسَ عَلَى التَّحْرِيمِ بِدَلَالَةِ تَقْرِيرِهِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
سَابِعُهَا أَنَّ الْعَرُوسَ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ شَابًّا، ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ، قَالَ: وَكَانُوا يرخصون لِلشَّابِّ فِي ذَلِكَ أَيَّامَ عُرْسِهِ، قَالَ: وَقِيلَ: كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مَنْ تَزَوَّجَ لَبِسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا عَلَامَةً لِزَوَاجِهِ لِيُعَانَ عَلَى وَلِيمَةِ عُرْسِهِ، قَالَ: وَهَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ.
قُلْتُ: وَفِي اسْتِفْهَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ عَنْ ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّزْوِيجِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ بِلَفْظِ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَرَأَى عَلَيَّ بَشَاشَةَ الْعُرْسِ، فَقَالَ: أَتَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَدْ يُتَمَسَّكُ بِهَذَا السِّيَاقِ لِلْمُدَّعِي وَلَكِنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَفِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: مَهْيَمْ أَوْ مَا هَذَا فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَبَشَاشَةُ الْعُرْسِ أَثَرُهُ وَحُسْنُهُ أَوْ فَرَحُهُ وَسُرُورُهُ، يُقَالُ: بَشَّ فُلَانٌ بِفُلَانٍ أَيْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فَرِحًا بِهِ مُلَطِّفًا بِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ صَدَاقٍ لِاسْتِفْهَامِهِ عَلَى الْكَمْيَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ هَلْ أَصْدَقَهَا أَوْ لَا؟ وَيُشْعِرُ ظَاهِرُهُ بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ لِإِطْلَاقِ لَفْظِ كَمْ الْمَوْضُوعَةِ لِلتَّقْدِيرِ، كَذَا قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الِاسْتِخْبَارَ عَنِ الْكَثْرَةِ أَوِ الْقِلَّةِ فَيُخْبِرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا يَلِيقُ بِحَالِ مِثْلِهِ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ الْقَدْرَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ بَلْ أَقَرَّهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَقْلِيلِ الصَّدَاقِ لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ كَانَ مِنْ مَيَاسِيرِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ أَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِصْدَاقِهِ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُ الْيَسَارُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مُلَازَمَةِ التِّجَارَةِ حَتَّى ظَهَرَتْ مِنْهُ مِنَ الْإِعَانَةُ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ مَا اشْتَهَرَ، وَذَلِكَ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْمُوَاعَدَةِ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا إِذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَأَوْفَتِ الْعِدَّةَ، لِقَوْلِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ: انْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ أَعْجَبُ إِلَيْكَ حَتَّى أُطَلِّقَهَا فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا تَزَوَّجْتَهَا وَوَقَعَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ، وَيُعَكِّرُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْمَرْأَةَ عَلِمَتْ بِذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا وَلَمْ يَقَعْ تَعْيِينُهَا، لَكِنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى أَحْوَالِهِمْ إِذْ ذَاكَ يَقْتَضِي أَنَّهُمَا عَلِمَتَا مَعًا لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْحِجَابِ
فَكَانُوا يَجْتَمِعُونَ، وَلَوْلَا وُثُوقُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالرِّضَا مَا جَزَمَ بِذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَا يَسْتَلْزِمُ الْمُوَاعَدَةَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ وُقُوعُ الْمُوَاعَدَةِ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَالْمَرْأَةِ، لِأَنَّهَا إِذَا مُنِعَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ مِنْ خِطْبَتِهَا تَصْرِيحًا فَفِي هَذَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهَا إِذَا طُلِّقَتْ دَخَلَتِ الْعِدَّةَ قَطْعًا، قَالَ: وَلَكِنَّهَا وَإِنِ اطَّلَعَتْ عَلَى ذَلِكَ فَهِيَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالْخِيَارِ، وَالنَّهْيُ إِنَّمَا وَقَعَ عَنِ الْمُوَاعَدَةِ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَالْمَرْأَةِ أَوْ وَلِيِّهَا لَا مَعَ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ. وَفِيهِ جَوَازُ نَظَرِ الرَّجُلِ إِلَى الْمَرْأَةِ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا.
(تَنْبِيهٌ):
حَقُّهُ أَنْ يَذْكُرَ فِي مَكَانِهِ مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ، لَكِنْ تَعَجَّلْتُهُ هُنَا لِتَكْمِيلِ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ تَرْجَمَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ بَابُ الْإِخَاءِ وَالْحَلِفِ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ حُمَيْدٍ وَاخْتَصَرَهُ، فَاقْتَصَرَ مِنْهُ عَلَى قَوْلِهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَآخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ؛ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ، فَرَأَى ذَلِكَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فَظَنَّ أَنَّهُ حَدِيثٌ مُسْتَقِلٌّ؛ فَتَرْجَمَ فِي أَبْوَابِ الْوَلِيمَةِ: ذِكْرُ الْوَلِيمَةِ لِلْإِخَاءِ، ثُمَّ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَقَالَ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَكَوْنُ هَذَا طُرَفًا مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مُمَارَسَةٍ بِهَذَا الْفَنِّ، وَالْبُخَارِيُّ يَصْنَعُ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَالْأَمْرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بِالْوَلِيمَةِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الزَّوَاجِ لَا لِأَجْلِ الْإِخَاءِ، وَقَدْ تَعَرَّضَ الْمُحِبُّ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَكِنَّهُ أَبَدَاهُ احْتِمَالًا، وَلَا يَحْتَمِلُ جَرَيَانُ هَذَا الِاحْتِمَالِ مِمَّنْ يَكُونُ مُحَدِّثًا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ (مَا أَوْلَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَيْءٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ) هِيَ بِنْتُ جَحْشٍ كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَحَمَّادٌ الْمَذْكُورُ فِي إِسْنَادِهِ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ بِحَسَبِ الِاتِّفَاقِ لَا التَّحْدِيدِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدُ، وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَةِ صَاحِبِ التَّنْبِيهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الشَّاةَ حَدٌّ لِأَكْثَرِ الْوَلِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَأَكْمَلُهَا شَاةٌ، لَكِنْ نَقَلَ عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ: أَقَلُّهَا لِلْمُوسِرِ شَاةٌ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الْمَاضِي وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ) وَشُعَيْبٌ هُوَ ابْنُ الْحَبْحَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي بَابِ مَنْ جَعَلَ عِتْقَ الْأَمَةِ صَدَاقَهَا، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا بِحَيْسٍ تَقَدَّمَ فِي بَابِ اتِّخَاذِ السَّرَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْأَنْطَاعِ فَأُلْقِيَ فِيهَا مِنَ التَّمْرِ وَالْأَقِطِ وَالسَّمْنِ فَكَانَتْ وَلِيمَتَهُ، وَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيْسِ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْحَيْسُ يُؤْخَذُ التَّمْرُ فَيُنْزَعُ نَوَاهُ وَيُخْلَطُ بِالْأَقِطِ أَوِ الدَّقِيقِ أَوِ السَّوِيقِ اهـ. وَلَوْ جُعِلَ فِيهِ السَّمْنُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ حَيْسًا.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ.
قَوْلُهُ (زُهَيْرٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ.
قَوْلُهُ (عَنْ بَيَانٍ) هُوَ ابْنُ بِشْرٍ الْأَحْمَسِيُّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، فِيهِ عَنْ زُهَيْرٍ حَدَّثَنَا بَيَانٌ.
قَوْلُهُ (بِامْرَأَةٍ) يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ لِمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي رِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ يَدْعُو رِجَالًا إِلَى الطَّعَامِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ ذَلِكَ وَاضِحًا مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ لِهَذَا الْحَدِيثِ تَامًّا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ بَيَانِ بْنِ بِشْرٍ؛ فَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ إِلَى الطَّعَامِ: فَلَمَّا أَكَلُوا وَخَرَجُوا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى رَجُلَيْنِ جَالِسَيْنِ؛ فَذَكَرَ قِصَّةَ نُزُولِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الْآيَةَ، وَهَذَا فِي قِصَّةِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ لَا مَحَالَةَ كَمَا تَقَدَّمَ سِيَاقُهُ مُطَوَّلًا وَشَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ الْأَحْزَابِ.
69 - بَاب مَنْ أَوْلَمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ
5171 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: ذُكِرَ تَزْوِيجُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ عِنْدَ أَنَسٍ؛
فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْلَمَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَيْهَا، أَوْلَمَ بِشَاةٍ.
قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ أَوْلَمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَوْلَمَ عَلَيْهَا بِشَاةٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لِمَا يَقْتَضِيهِ سِيَاقُهُ، وَأَشَارَ ابْنُ بَطَّالٍ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ قَصْدًا لِتَفْضِيلِ بَعْضِ النِّسَاءِ عَلَى بَعْضِ بَلْ بِاعْتِبَارِ مَا اتَّفَقَ، وَأَنَّهُ لَوْ وَجَدَ الشَّاةَ فِي كُلٍّ مِنْهُنَّ لَأَوْلَمَ بِهَا، لِأَنَّهُ كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَلَكِنْ كَانَ لَا يُبَالِغُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا فِي التَّأَنُّقِ، وَجَوَّزَ غَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَعَلَّ السَّبَبُ فِي تَفْضِيلِ زَيْنَبَ فِي الْوَلِيمَةِ عَلَى غَيْرِهَا كَانَ لِلشُّكْرِ لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ تَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا بِالْوَحْيِ. قُلْتُ: وَنَفي أَنَسٌ أَنْ يَكُونَ لَمْ يُولِمْ عَلَى غَيْرِ زَيْنَبَ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَوْلَمَ عَلَيْهَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا انْتَهَى إِلَيْهِ عِلْمُهُ، أَوْ لِمَا وَقَعَ مِنَ الْبَرَكَةِ فِي وَلِيمَتِهَا حَيْثُ أَشْبَعَ الْمُسْلِمِينَ خُبْزًا وَلَحْمًا مِنَ الشَّاةِ الْوَاحِدَةِ، وَإِلَّا فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَمَّا أَوْلَمَ عَلَى مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ لَمَّا تَزَوَّجَهَا فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ بِمَكَّةَ وَطَلَبَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَحْضُرُوا وَلِيمَتَهَا فَامْتَنَعُوا أَنْ يَكُونَ مَا أَوْلَمَ بِهِ عَلَيْهَا أَكْثَرُ مِنْ شَاةٍ لِوُجُودِ التَّوْسِعَةِ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ، وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مُنْذُ فَتْحِهَا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: يُؤْخَذُ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ النِّسَاءِ عَلَى بَعْضِ فِي الْوَلِيمَةِ جَوَازُ تَخْصِيصِ بَعْضِهِنَّ دُونَ بَعْضٍ بِالْأتْحَافِ وَالْألْطَافِ وَالْهَدَايَا.
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ.
70 - بَاب مَنْ أَوْلَمَ بِأَقَلَّ مِنْ شَاةٍ
5172 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ، عَنْ أُمِّهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، قَالَتْ: أَوْلَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ.
قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ أَوْلَمَ بِأَقَلَّ مِنْ شَاةٍ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا مُسْتَفَادًا مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، لَكِنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ بِالتَّنْصِيصِ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) هُوَ الْفِرْيَابِيُّ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجَيْهِمَا وَمَنْ تَبِعَهُمَا، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ كَلَامِ أَهْلِ النَّقْدِ، وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ يَكُونَ سُفْيَانُ هُوَ ابْنَ عُيَيْنَةَ، وَمُحَمَّدُ ابْنُ يُوسُفَ هُوَ الْبِيكِنْدِيَّ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ بأَنَّ السُّفْيَانَيْنِ رَوَيَا عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْمَجْزُومُ بِهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ. قَالَ الْبَرْقَانِيُّ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَوَكِيعٌ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنِ الثَّوْرِيِّ فَجَعَلُوهُ مِنْ رِوَايَةِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، وَرَوَاهُ أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، وَمُؤَمِّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَيَحْيَى بْنُ الْيَمَانِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ؛ فَقَالُوا فِيهِ عَنْ صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَصَفِيَّةُ لَيْسَتْ بِصَحَابِيَّةٍ وَحَدِيثُهَا مُرْسَلٌ، قَالَ: وَقَدْ نَصَرَ النَّسَائِيُّ قَوْلَ مَنْ لَمْ يَقُلْ عَنْ عَائِشَةَ، وَأَوْرَدَهُ عَنْ بُنْدَارٍ، عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، وَقَالَ: إِنَّهُ مُرْسَلٌ اهـ. وَرِوَايَةُ وَكِيعٍ أَخْرَجَهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْهُ، وَأَصْلَحَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِذِكْرِ عَائِشَةَ، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ فَاعِلِهِ.
وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ الْعَدَنِيِّ، وَأَخْرَجَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي كِتَابِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ الْعَبْدِيِّ كِلَاهُمَا عَنِ الثَّوْرِيِّ كَمَا قَالَ الْفِرْيَابِيُّ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الثَّوْرِيِّ بِذِكْرِ عَائِشَةَ فِيهِ، وَزَعَمَ ابْنُ الْمَوَّاقِ أَنَّ النَّسَائِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَقَالَ: لَيْسَ هُوَ بِدُونِ الْفِرْيَابِيِّ، كَذَا قَالَ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ النَّسَائِيُّ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ الْيَمَانِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَكَذَلِكَ مُؤَمِّلُ
ابْنُ إِسْمَاعِيلَ فِي حَدِيثِهِ عَنِ الثَّوْرِيِّ ضَعْفٌ، وَأَقْوَى مَنْ زَادَ فِيهِ عَائِشَةَ أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، وَالَّذِينَ لَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عَائِشَةَ أَكْثَرُ عَدَدًا وَأَحْفَظُ وَأَعْرَفُ بِحَدِيثِ الثَّوْرِيِّ مِمَّنْ زَادَ، فَالَّذِي يَظْهَرُ عَلَى قَوَاعِدِ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ، وَذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ التَّلِّ، رَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الثَّوْرِيِّ، فَقَالَ فِيهِ: عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، قَالَ: وَهُوَ غَلَطٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادَ بَعْضِ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ يَعْنِي مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ شَيْبَةَ مَا حَضَرَتْ قِصَّةَ زَوَاجِ الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِمَكَّةَ طِفْلَةً أَوْ لَمْ تُولَدْ بَعْدُ، وَتَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَأَمَّا جَزْمُ الْبَرْقَانِيُّ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بِدُونِ
ذِكْرِ عَائِشَةَ يَكُونُ مُرْسَلًا فَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ النَّسَائِيُّ ثُمَّ الدَّارَقُطْنِيُّ، فَقَالَ: هَذَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُعَدُّ فِيمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنَ الْمَرَاسِيلِ، وَكَذَا جَزَمَ ابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ حِبَّانَ بِأَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ شَيْبَةَ تَابِعِيَّةٌ، لَكِنْ ذَكَرَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَحْرِيمِ مَكَّةَ، قَالَ: وَقَالَ أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهُ، قَالَ: وَوَصَلَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. قُلْتُ: وَكَذَا وَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ. ثُمَّ قَالَ الْمِزِّيُّ: لَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ صَرِيحًا فِي صُحْبَتِهَا، لَكِنَّ أَبَانَ بْنَ صَالِحٍ ضَعِيفٌ، كَذَا أَطْلَقَ هُنَا وَلَمْ يَنْقُلْ فِي تَرْجَمَةِ أَبَانِ بْنِ صَالِحٍ فِي التَّهْذِيبِ تَضْعِيفُهُ عَنْ أَحَدٍ، بَلْ نَقَلَ تَوْثِيقَهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَأَبِي حَاتِمٍ، وَأَبِي زُرْعَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي مُخْتَصَرِ التَّهْذِيبِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا ضَعَّفَ أَبَانَ بْنَ صَالِحٍ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ لَمَّا ذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي اسْتِقْبَالِ قَاضِي الْحَاجَةِ الْقِبْلَةَ مِنْ رِوَايَةِ أَبَانِ بْنِ صَالِحٍ الْمَذْكُورِ: هَذَا لَيْسَ صَحِيحًا لِأَنَّ أَبَانَ بْنَ صَالِحٍ ضَعِيفٌ، كَذَا قَالَ وَكَأَنَّهُ الْتَبَسَ عَلَيْهِ بِأَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ الْبَصْرِيِّ صَاحِبِ أَنَسٍ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقٍ، وَهُوَ أَشْهَرُ وَأَكْثَرُ حَدِيثًا وَرُوَاةً مِنْ أَبَانِ بْنِ صَالِحٍ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ.
قُلْتُ: وَلَكِنْ يَكْفِي تَوْثِيقُ ابْنِ مَعِينٍ وَمَنْ ذَكَرَ لَهُ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ أَيْضًا ابْنُ جُرَيْجٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيِّ وَغَيْرُهُمَا، وَأَشْهَرُ مَنْ رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمِزِّيُّ أَيْضًا حَدِيثَ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، قَالَتْ: طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِمِحْجَنٍ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، قَالَ الْمِزِّيُّ: هَذَا يُضَعِّفُ قَوْلَ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ لَهَا رُؤْيَةٌ، فَإِنَّ إِسْنَادَهُ حَسَنٌ. قُلْتُ: وَإِذَا ثَبَتَتْ رُؤْيَتُهَا لَهُ صلى الله عليه وسلم وَضَبَطَتْ ذَلِكَ، فَمَا الْمَانِعُ أَنْ تَسْمَعَ خِطْبَتَهُ وَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً؟!
قَوْلُهُ (عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ) هِيَ أُمُّهُ، وَاسْمُ أَبِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْقُرَشِيُّ الْعَبْدَرِيُّ الْحَجَبَيُّ، قُتِلَ جَدُّهُ الْأَعْلَى الْحَارِثُ يَوْمَ أُحُدٍ كَافِرًا وَكَذَا أَبُوهُ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَلِجَدِّهِ الْأَدْنَى طَلْحَةَ بْنِ الْحَارِثِ رُؤْيَةٌ، وَقَدْ أَغْفَلَ ذِكْرَهُ مَنْ صَنَّفَ فِي الصَّحَابَةِ وَهُوَ وَارِدٌ عَلَيْهِمْ، وَوَقَعَ فِي رِجَالِ الْبُخَارِيِّ، لِلْكَلَابَاذِيِّ أَنَّهُ مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّيْمِيُّ، وَوَهِمَ فِي ذَلِكَ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الرَّضِيُّ الشَّاطِبِيُّ فِيمَا قَرَأْتُ بِخَطِّهِ.
قَوْلُهُ (أَوْلَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ اسْمِهَا صَرِيحًا، وَأَقْرَبُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ أُمُّ سَلَمَةَ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ شَيْخِهِ الْوَاقِدِيِّ بِسَنَدٍ لَهُ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: لَمَّا خَطَبَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ قِصَّةَ تَزْوِيجِهِ بِهَا -؛ فَأَدْخَلَنِي بَيْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ خُزَيْمَةَ، فَإِذَا جَرَّةٌ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ شَعِيرٍ، فَأَخَذْتُهُ فَطَحَنْتُهُ ثُمَّ عَصَدْتُهُ فِي الْبُرْمَةِ، وَأَخَذْتُ شَيْئًا مِنْ إِهَالَةٍ فَأَدَمْتُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ طَعَامُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ أَيْضًا وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ؛ فَذَكَرَ قِصَّةَ خِطْبَتِهَا وَتَزْوِيجِهَا، وَفِيهِ قَالَتْ: فَأَخَذْتُ
ثَفَالِي وَأَخْرَجْتُ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ كَانَتْ فِي جَرَّتِي، وَأَخْرَجْتُ شَحْمًا فَعَصَدْتُهُ لَهُ ثُمَّ بَاتَ ثُمَّ أَصْبَحَ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا لَكِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْمَقْصُودَ هُنَا وَأَصْلَهُ فِي مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِدُونِهِ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: أَوْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ، فَهُوَ وَهْمٌ مِنْ شَرِيكٍ لِأَنَّهُ كَانَ سَيّئَ الْحِفْظِ، أَوْ مِنَ الرَّاوِي عَنْهُ وَهُوَ جَنْدَلُ بْنُ وَالِقٍ فَإِنَّ مُسْلِمًا، وَالْبَزَّارَ ضَعَّفَاهُ وَقَوَّاهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، وَالْبُسْتِيُّ، وَإِنَّمَا هُوَ الْمَحْفُوظُ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ صَفِيَّةَ، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ وَغَيْرِهِ عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ
أَنَسٍ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مُطَوَّلًا فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَأَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ فِي قِصَّةِ صَفِيَّةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِنِسَائِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ أَزْوَاجِهِ، أَيْ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ مِنَ النِّسَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: لَقَدْ أَوْلَمَ عَلِيٌّ بِفَاطِمَةَ فَمَا كَانَتْ وَلِيمَةٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَفْضَلَ مِنْ وَلِيمَتِهِ، رَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِشَطْرِ شَعِيرٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُدَّيْنِ نِصْفُ الصَّاعِ؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ: شَطْرَ صَاعٍ، فَيَنْطَبِقُ عَلَى الْقِصَّةِ الَّتِي فِي الْبَابِ، وَتَكُونُ نِسْبَةُ الْوَلِيمَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَجَازِيَّةً إِمَّا لِكَوْنِهِ الَّذِي وَفَّى الْيَهُودِيَّ ثَمَنَ شَعِيرِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ) كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ كُلِّ مَنْ رَوَاهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ فِيمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِمَّنْ قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ، إِلَّا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ؛ فَوَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ بِصَاعَيْنِ مِنْ شَعِيرٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَتِهِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَحْفَظَ مَنْ رَوَاهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ لَكِنَّ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ أَوْلَى بِالضَّبْطِ مِنَ الْوَاحِدِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي غَيْرِ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
71 - بَاب حَقِّ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ وَالدَّعْوَةِ
وَمَنْ أَوْلَمَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَنَحْوَهُ وَلَمْ يُوَقِّتْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا وَلَا يَوْمَيْنِ
5173 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا.
[الحديث 5173 - طرفه في: 5179]
5174 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فُكُّوا الْعَانِيَ وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ"
5175 -
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ الأَشْعَثِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رضي الله عنهما أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ وَعَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَعَنْ الْمَيَاثِرِ وَالْقَسِّيَّةِ وَالإِسْتَبْرَقِ وَالدِّيبَاجِ تَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَالشَّيْبَانِيُّ عَنْ أَشْعَثَ فِي إِفْشَاءِ السَّلَامِ"
5176 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ دَعَا
أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُرْسِهِ وَكَانَتْ امْرَأَتُهُ يَوْمَئِذٍ خَادِمَهُمْ وَهِيَ الْعَرُوسُ قَالَ سَهْلٌ تَدْرُونَ مَا سَقَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْقَعَتْ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَّا أَكَلَ سَقَتْهُ إِيَّاهُ"
[الحديث 5176 - أطرافه في: 5182، 5183، 5591، 5597، 6685]
قَوْلُهُ (بَابُ حَقِّ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ وَالدَّعْوَةِ) كَذَا عَطَفَ الدَّعْوَةَ عَلَى الْوَلِيمَةِ؛ فَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْوَلِيمَةَ مُخْتَصَّةٌ بِطَعَامِ الْعُرْسِ وَيَكُونُ عَطْفُ الدَّعْوَةِ عَلَيْهَا مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي وَقْتِهِ، وَأَمَّا اخْتِصَاصُ اسْمِ الْوَلِيمَةِ بِهِ فَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ، وَثَعْلَبٍ وَغَيْرِهِمَا وَجَزَمَ بِهِ الْجَوْهَرِيُّ، وَابْنُ الْأَثِيرِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: الْوَلِيمَةُ طَعَامُ الْعُرْسِ وَالْإِمْلَاكِ، وَقِيلَ: كُلُّ طَعَامٍ صُنِعَ لِعُرْسٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ: الْوَلِيمَةُ طَعَامُ النِّكَاحِ، وَقِيلَ الْإِمْلَاكِ وَقِيلَ طَعَامُ الْعُرْسِ خَاصَّةً. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ: تَقَعُ الْوَلِيمَةُ عَلَى كُلِّ دَعْوَةٍ تُتَّخَذُ لِسُرُورٍ حَادِثٍ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ خِتَانٍ وَغَيْرِهِمَا، لَكِنَّ الْأَشْهَرَ اسْتِعْمَالُهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي النِّكَاحِ وَتُقَيَّدَ فِي غَيْرِهِ، فَيُقَالُ وَلِيمَةُ الْخِتَانِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْوَلِيمَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْوَلْمِ وَهُوَ الْجَمْعُ وَزْنًا وَمَعْنًى لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ يَجْتَمِعَانِ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَصْلُهَا مِنْ تَتْمِيمِ الشَّيْءِ وَاجْتِمَاعِهِ، وَجَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ ثُمَّ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّهَا لَا تُطْلَقُ فِي غَيْرِ طَعَامِ الْعُرْسِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ، وَأَمَّا الدَّعْوَةُ فَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الْوَلِيمَةِ، وَهِيَ بِفَتْحِ الدَّالِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَضَمَّهَا قُطْرُبٌ فِي مُثَلَّثَتِهِ وَغَلَّطُوهُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ النَّوَوِيُّ، قَالَ: وَدِعْوَةُ النَّسَبِ بِكَسْرِ الدَّالِ، وَعَكَسَ ذَلِكَ بَنُو تَيْمِ الرِّبَابِ فَفَتَحُوا دَالَ دَعْوَةِ النَّسَبِ وَكَسَرُوا دَالَ دَعْوَةِ الطَّعَامِ اهـ. وَمَا نَسَبَهُ لِبَنِي تَيْمٍ الرِّبَابَ نَسَبَهُ صَاحِبَا الصِّحَاحِ والْمُحْكَمِ لِبَنِي عَدِيِّ الرِّبَابَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِعِيَاضٍ أَنَّ الْوَلَائِمَ ثَمَانِيَةٌ: الْإِعْذَارُ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ لِلْخِتَانِ، وَالْعَقِيقَةُ لِلْوِلَادَةِ، وَالْخُرْسُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ لِسَلَامَةِ الْمَرْأَةِ مِنَ الطَّلْقِ، وَقِيلَ هُوَ طَعَامُ الْوِلَادَةِ، وَالْعَقِيقَةُ تَخْتَصُّ بِيَوْمِ السَّابِعِ. وَالنَّقِيعَةُ لِقُدُومِ الْمُسَافِرِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ النَّقْعِ وَهُوَ الْغُبَارُ. وَالْوَكِيرَةُ لِلسَّكَنِ الْمُتَجَدِّدِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَكْرِ وَهُوَ الْمَأْوَى وَالْمُسْتَقَرُّ. وَالْوَضِيمَةُ بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ لِمَا يُتَّخَذُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَالْمَأْدُبَةُ لِمَا يُتَّخَذُ بِلَا سَبَبٍ وَدَالُهَا مَضْمُومَةٌ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، انْتَهَى. وَالْإِعْذَارُ يُقَالُ فِيهِ أَيْضًا الْعُذْرَةُ بِضَمٍّ ثُمَّ سُكُونٍ، وَالْخُرْسُ يُقَالُ فِيهِ أَيْضًا بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بَدَلَ السِّينِ، وَقَدْ تُزَادُ فِي آخِرِهَا هَاءٌ فَيُقَالُ خُرْسَةٌ وَخُرْصَةٌ وَقِيلَ إِنَّهَا لِسَلَامَةِ الْمَرْأَةِ مِنَ الطَّلْقِ، وَأَمَّا الَّتِي لِلْوِلَادَةِ بِمَعْنَى الْفَرَحِ بِالْمَوْلُودِ فَهِيَ الْعَقِيقَةُ.
وَاخْتُلِفَ فِي النَّقِيعَةُ هَلِ الَّتِي يَصْنَعُهَا الْقَادِمُ مِنَ السَّفَرِ أَوْ تُصْنَعُ لَهُ؟ قَوْلَانِ. وَقِيلَ النَّقِيعَةُ الَّتِي يَصْنَعُهَا الْقَادِمُ، وَالَّتِي تُصْنَعُ لَهُ تُسَمَّى التُّحْفَةُ. وَقِيلَ إِنَّ الْوَلِيمَةَ خَاصٌّ بِطَعَامِ الدُّخُولِ، وَأَمَّا طَعَامُ الْإِمْلَاكِ فَيُسَمَّى الشُّنْدَخُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَقَدْ تُضَمُّ وَآخِرُهُ خَاءٌ مُعْجَمَةٌ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ فَرَسٌ شُنْدَخٌ أَيْ يَتَقَدَّمُ غَيْرَهُ سُمِّيَ طَعَامٌ الْإِمْلَاكِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ الدُّخُولَ. وَأَغْرَبَ شَيْخُنَا فِي التَّدْرِيبِ؛ فَقَالَ: الْوَلَائِمُ سَبْعٌ وَهُوَ وَلِيمَةُ الْإِمْلَاكِ وَهُوَ التَّزَوُّجُ وَيُقَالُ لَهَا النَّقِيعَةُ بِنُونٍ وَقَافٍ، وَوَلِيمَةُ الدُّخُولِ وَهُوَ الْعُرْسُ وَقَلَّ مَنْ غَايَرَ بَيْنَهُمَا انْتَهَى.
وَمَوْضِعُ إِغْرَابِهِ تَسْمِيَةُ وَلِيمَةِ الْإِمْلَاكِ نَقِيعَةً، ثُمَّ رَأَيْتُهُ تَبِعَ فِي ذَلِكَ الْمُنْذِرِيَّ فِي حَوَاشِيهِ وَقَدْ شَذَّ بِذَلِكَ. وَقَدْ فَاتَهُمْ ذِكْرُ الْحِذَاقِ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَآخِرُهُ قَافٌ: الطَّعَامُ الَّذِي يُتَّخَذُ عِنْدَ حِذْقِ الصَّبِيِّ ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الشَّامِلِ. وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ هُوَ الَّذِي يُصْنَعُ عِنْدَ الْخَتْمِ أَيْ خَتْمِ الْقُرْآنِ كَذَا قَيَّدَهُ، وَيَحْتَمِلُ خَتْمُ ختم قَدْرٍ مَقْصُودٍ مِنْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَطَّرِدَ ذَلِكَ
فِي حِذْقِهِ لِكُلِّ صِنَاعَةٍ. وَذَكَرَ الْمَحَامِلِيُّ فِي الرَّوْنَقِ فِي الْوَلَائِمِ الْعَتِيرَةَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ مَكْسُورَةٌ وَهِيَ شَاةٌ تُذْبَحُ فِي أَوَّلِ رَجَبٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْأُضْحِيَّةِ فَلَا مَعْنَى لِذِكْرِهَا مَعَ الْوَلَائِمِ، وَسَيَأْتِي حُكْمُهَا فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْعَقِيقَةِ وَإِلَّا فَلْتُذْكَرْ فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَأَمَّا الْمَأْدُبَةُ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ فَهِيَ النَّقَرَى بِفَتْحِ النُّونِ وَالْقَافِ مَقْصُورٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةٌ فَهِيَ الْجَفَلَى بِجِيمٍ وَفَاءٍ بِوَزْنِ الْأَوَّلِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
نَحْنُ فِي الْمَشْتَاةِ نَدْعُو الْجَفَلَى
…
لَا تَرَى الْآدِبَ مِنَّا يَنْتَقِرُ
وَصَفَ قَوْمَهُ بِالْجُودِ وَأَنَّهُمْ إِذَا صَنَعُوا مَأْدُبَةً دَعَوْا إِلَيْهَا عُمُومًا لَا خُصُوصًا، وَخَصَّ الشِّتَاءَ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ قِلَّةِ الشَّيْءِ وَكَثْرَةِ احْتِيَاجِ مَنْ يُدْعَى، وَالْآدِبُ بِوَزْنِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَيَنْتَقِرُ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّقَرَى. وَقَدْ وَقَعَ فِي آخِرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَوَّلُهُ الْوَلِيمَةُ حَقٌّ وَسُنَّةٌ كَمَا أَشَرْتُ فِي بَابِ الْوَلِيمَةِ حَقٌّ، قَالَ: وَالْخُرْسُ وَالْإِعْذَارُ وَالتَّوْكِيرُ أَنْتَ فِيهِ بِالْخِيَارِ وَفِيهِ تَفْسِيرُ ذَلِكَ، وَظَاهِرُ سِيَاقِهِ الرَّفْعُ وَيَحْتَمِلُ الْوَقْفُ. وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ فِي وَلِيمَةِ الْخِتَانِ لَمْ يَكُنْ يُدْعَى لَهَا، وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ حَقُّ إِجَابَةٍ فَيُشِيرُ إِلَى وُجُوبِ الْإِجَابَةِ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ثُمَّ عِيَاضٌ ثُمَّ النَّوَوِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْإِجَابَةِ لِوَلِيمَةِ الْعُرْسِ وَفِيهِ نَظَرٌ، نَعَمِ الْمَشْهُورُ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ الْوُجُوبُ، وَصَرَّحَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ وَنَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ، وَعَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، وَذَكَرَ اللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَ لِكِيَّةِ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ، وَكَلَامُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِأَنَّهَا سُنَّةٌ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهَا وَجَبَتْ بِالسُّنَّةِ وَلَيْسَتْ فَرْضًا كَمَا عُرِفَ مِنْ قَاعِدَتِهِمْ، وَعَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ هِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَحَكَى ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ أَنَّ مَحِلَّ ذَلِكَ إِذَا عَمَّتِ الدَّعْوَةُ أَمَّا لَوْ خُصَّ كُلَّ وَاحِدٍ بِالدَّعْوَةِ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ تَتَعَيَّنُ.
وَشَرْطُ وُجُوبِهَا أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي مُكَلَّفًا حُرًّا رَشِيدًا، وَأَنْ لَا يَخُصَّ الْأَغْنِيَاءَ دُونَ الْفُقَرَاءِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَأَنْ لَا يَظْهَرَ قَصْدُ التَّوَدُّدِ لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ لِرَغْبَةٍ فِيهِ أَوْ رَهْبَةٍ مِنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ الدَّاعِي مُسْلِمًا عَلَى الْأَصَحِّ وَأَنْ يَخْتَصَّ بِالْيَوْمِ الْأَوَّلِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ، وَأَنْ لَا يَسْبِقَ فَمَنْ سَبَقَ تَعَيَّنَتِ الْإِجَابَةُ لَهُ دُونَ الثَّانِي، وَإِنْ جَاءَا مَعًا قَدَّمَ الْأَقْرَبَ رَحِمًا عَلَى الْأَقْرَبِ جِوَارًا عَلَى الْأَصَحِّ، فَإِنِ اسْتَوَيَا أَقْرَعَ، وَأَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مَنْ يَتَأَذَّى بِحُضُورِهِ مِنْ مُنْكَرٍ وَغَيْرِهِ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ، وَضَبَطَهُ الْمَاوَرْدِيُّ بِمَا يُرَخَّصُ بِهِ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ، هَذَا كُلُّهُ فِي وَلِيمَةِ الْعُرْسِ فَأَمَّا الدَّعْوَةُ فِي غَيْرِ الْعُرْسِ فَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهَا بَعْدَ بَابَيْنِ.
قَوْلُهُ (وَمَنْ أَوْلَمَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَنَحْوَهُ) يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، قَالَتْ: لَمَّا تَزَوَّجَ أَبِي دَعَا الصَّحَابَةَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَنْصَارِ دَعَا أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَغَيْرَهُمَا؛ فَكَانَ أُبَيٌّ صَائِمًا فَلَمَّا طَعِمُوا دَعَا أُبَيٌّ وَأَثْنَى، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَتَمَّ سِيَاقًا مِنْهُ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ إِلَى حَفْصَةَ وَقَالَ فِيهِ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَنَحْوَهُ لِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ لَكِنَّهُ جَنَحَ إِلَى تَرْجِيحِهِ لِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ بِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ بِغَيْرِ تَقْيِيدٍ كَمَا سَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ الَّذِي سَأَذْكُرُهُ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُنِيرِ.
قَوْلُهُ (وَلَمْ يُوَقِّتِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا وَلَا يَوْمَيْنِ) أَيْ لَمْ يَجْعَلْ لِلْوَلِيمَةِ وَقْتًا مُعَيَّنًا يَخْتَصُّ بِهِ الْإِيجَابُ أَوِ الِاسْتِحْبَابُ وَأُخِذَ ذَلِكَ مِنَ الْإِطْلَاقِ، وَقَدْ أَفْصَحَ بِمُرَادِهِ فِي تَارِيخِهِ فَإِنَّهُ أَوْرَدَ فِي تَرْجَمَةِ زُهَيْرِ بْنِ عُثْمَانَ الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ الثَّقَفِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ كَانَ
يُثْنَى عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنِ اسْمُهُ زُهَيْرَ بْنَ عُثْمَانَ، فَلَا أَدْرِي مَا اسْمُهُ يَقُولُهُ قَتَادَةُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْوَلِيمَةُ أَوَّلَ يَوْمٍ حَقٌّ، وَالثَّانِي مَعْرُوفٌ، وَالثَّالِثُ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ وَلَا يَصِحُّ لَهُ صُحْبَةٌ يَعْنِي لِزُهَيْرٍ، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيُجِبْ. وَلَمْ يَخُصَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَا غَيْرَهَا وَهَذَا أَصَحُّ، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا بَنَى بِأَهْلِهِ أَوْلَمَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ؛ فَدَعَا فِي ذَلِكَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَأَجَابَهُ اهـ.
وَقَدْ خَالَفَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَتَادَةَ فِي إِسْنَادِهِ؛ فَرَوَاهُ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا أَوْ مُعْضَلًا لَمْ يَذْكُرْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُثْمَانَ وَلَا زُهَيْرًا، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَرَجَّحَهُ عَلَى الْمَوْصُولِ، وَأَشَارَ أَبُو حَاتِمٍ إِلَى تَرْجِيحِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَقِبَهُ حَدِيثَ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ عَلَى صَفِيَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى أَعْرَسَ بِهَا، فَأَشَارَ إِلَى تَضْعِيفِهِ أَوْ إِلَى تَخْصِيصِهِ، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، وَجَعَلَ الْوَلِيمَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ الْحَدِيثَ.
وَقَدْ وَجَدْنَا لِحَدِيثِ زُهَيْرِ بْنِ عُثْمَانَ شَوَاهِدَ، مِنْهَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَفِيهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حُسَيْنٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَشَرْتُ إِلَيْهَا فِي بَابِ الْوَلِيمَةِ حَقٌّ، وَعَنْ أَنَسٍ مِثْلُهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَفِيهِ بَكْرُ بْنُ خُنَيْسٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَاهُ عَنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَوْفٍ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ نَحْوُهُ؛ فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلٌ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ: طَعَامُ أَوَّلِ يَوْمٍ حَقٌّ، وَطَعَامٌ يَوْمِ الثَّانِي سُنَّةٌ، وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّالِثِ سُمْعَةٌ، وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ. وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيِّ، وَهُوَ كَثِيرُ الْغَرَائِبِ وَالْمَنَاكِيرِ. قُلْتُ: وَشَيْخُهُ فِيهِ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، وَسَمَاعُ زِيَادٍ مِنْهُ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ فَهَذِهِ عِلَّتُهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: طَعَامٌ فِي الْعُرْسِ يَوْمٌ سُنَّةٌ، وَطَعَامُ يَوْمَيْنِ فَضْلٌ، وَطَعَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهَا لَا يَخْلُو عَنْ مَقَالٍ فَمَجْمُوعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيِّ فِي آخِرِ حَدِيثِ زُهَيْرِ بْنِ عُثْمَانَ: قَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ دُعِيَ أَوَّلَ يَوْمٍ وَأَجَابَ، وَدُعِيَ ثَانِي يَوْمٍ فَأَجَابَ، وَدُعِيَ ثَالِثَ يَوْمٍ فَلَمْ يُجِبْ، وَقَالَ: أَهْلُ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ.
فَكَأَنَّهُ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ فَعَمِلَ بِظَاهِرِهِ إِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَقَدْ عَمِلَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا أَوْلَمَ ثَلَاثًا فَالْإِجَابَةُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَكْرُوهَةٌ، وَفِي الثَّانِي لَا تَجِبُ قَطْعًا وَلَا يَكُونُ اسْتِحْبَابُهَا فِيهِ كَاسْتِحْبَابِهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ حَكَى صَاحِبُ التَّعْجِيزِ فِي وُجُوبِهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَجْهَيْنِ، وَقَالَ فِي شَرْحِهِ: أَصَحُّهُمَا الْوُجُوبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُرْجَانِيُّ لِوَصْفِهِ بِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ أَوْ سُنَّةٌ، وَاعْتَبَرَ الْحَنَابِلَةُ الْوُجُوبَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَأَمَّا الثَّانِي فَقَالُوا سُنَّةٌ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ لَفْظِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَفِيهِ بَحْثٌ، وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَأَطْلَقَهُ بَعْضُهُمْ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ.
وَقَالَ الْعِمْرَانِيُّ: إِنَّمَا تُكْرَهُ إِذَا كَانَ الْمَدْعُوُّ فِي الثَّالِثِ هُوَ الْمَدْعُوَّ فِي الْأَوَّلِ، وَكَذَا صَوَّرَهُ الرُّويَانِيُّ وَاسْتَبْعَدَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ لِأَنَّ إِطْلَاقَ كَوْنِهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً يُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ صُنِعَ لِلْمُبَاهَاةِ وَإِذَا كَثُرَ النَّاسُ فَدَعَا فِي كُلِّ يَوْمٍ فِرْقَةً لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُبَاهَاةٌ غَالِبًا، وَإِلَى مَا جَنَحَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، قَالَ عِيَاضٌ اسْتَحَبَّ أَصْحَابُنَا لِأَهْلِ السَّعَةِ كَوْنَهَا أُسْبُوعًا، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَحِلُّهُ إِذَا دَعَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَنْ لَمْ يَدْعُ قَبْلَهُ وَلَمْ يُكَرِّرْ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَا تَقَدَّمَ عَنِ الرُّويَانِيِّ، وَإِذَا حَمَلْنَا الْأَمْرَ فِي كَرَاهَةِ الثَّالِثِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ هُنَاكَ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ وَمُبَاهَاةٌ كَانَ الرَّابِعُ وَمَا بَعْدَهُ كَذَلِكَ فَيُمْكِنُ حَمْلُ مَا وَقَعَ مِنَ السَّلَفِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْيَوْمَيْنِ عِنْدَ الْأَمْنِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَى الثَّالِثِ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ.
أَحَدُهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَوْرَدَهُ
مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا) وسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ بَابَيْنِ، وَقَوْلُهُ فَلْيَأْتِهَا أَيْ فَلْيَأْتِ مَكَانَهَا، وَالتَّقْدِيرُ إِذَا دُعِيَ إِلَى مَكَانِ وَلِيمَةٍ فَلْيَأْتِهَا وَلَا يَضُرُّ إِعَادَةُ الضَّمِيرِ مُؤَنَّثًا.
ثَانِيهَا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى أَوْرَدَهُ لِقَوْلِهِ فِيهِ وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ وقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: قَوْلُهُ وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ يُرِيدُ إِلَى وَلِيمَةِ الْعُرْسِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي قَبْلَهُ يَعْنِي فِي تَخْصِيصِ الْأَمْرِ بِالْإِتْيَانِ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْوَلِيمَةِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَوْلُهُ الدَّاعِي عَامٌّ، وَقَدْ قَالَ الْجُمْهُورُ: تَجِبُ فِي وَلِيمَةِ النِّكَاحِ وَتُسْتَحَبُّ فِي غَيْرِهَا؛ فَيَلْزَمُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ؛ قَالَ: وَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَجَازَهُ، وَحَمَلَهُ غَيْرُهُ عَلَى عُمُومِ الْمَجَازِ اهـ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَالْمُرَادُ بِهِ خَاصٌّ، وَأَمَّا اسْتِحْبَابُ إِجَابَةِ طَعَامِ غَيْرِ الْعُرْسِ فَمِنْ دَلِيلٍ آخَرَ.
ثَالِثُهَا حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ (أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ وَنَهَانَا - وَفِي آخِرِهِ - وَإِجَابَةُ الدَّاعِي)، أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنِ الْأَشْعَثِ وَهُوَ ابْنُ أَبِي الشَّعْثَاءَ سَلِيمٌ الْمَحَارِبِيُّ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: تَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَالشَّيْبَانِيُّ، عَنْ أَشْعَثَ فِي إِفْشَاءِ السَّلَامِ؛ فَأَمَّا مُتَابَعَةُ أَبِي عَوَانَةَ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْأَشْرِبَةِ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَلِيمٍ بِهِ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ الشَّيْبَانِيِّ وَهُوَ أَبُو إِسْحَاقَ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ بِهِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ؛ فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ رَدِّ السَّلَامِ بَدَلَ إِفْشَاءِ السَّلَامِ فَهَذِهِ نُكْتَةُ الِاقْتِصَارِ.
رَابِعُهَا حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، وَذَكَرَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ، وَهُوَ سَهْوٌ إِذْ لَا بُدَّ مِنْ وَاسِطَةٍ بَيْنَهُمَا إِمَّا أَبُوهُ أَوْ غَيْرُهُ، قُلْتُ: لَعَلَّ الرِّوَايَةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، فَتَصَحَّفَتْ عَنْ فَصَارَتْ ابْنُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ.
72 - بَاب مَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ
5177 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُدْعَى لَهَا الْأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ، وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: شَرُّ الطَّعَامِ الْوَلِيمَةُ يُدْعَى لَهَا الْأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ، وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى، عَنْ مَالِكٍ الْمَسَاكِينُ بَدَلَ الْفُقَرَاءِ، وَأَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثِ مَوْقُوفٌ وَلَكِنَّ آخِرَهُ يَقْتَضِي رَفْعَهُ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ بَطَّالٍ قَالَ: وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَبْصَرَ رَجُلًا خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْأَذَانِ؛ فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ، قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ رَأْيًا، وَلِهَذَا أَدْخَلَهُ الْأَئِمَّةُ فِي مَسَانِيدِهِمُ انْتَهَى. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ جُلَّ رُوَاةِ مَالِكٍ لَمْ يُصَرِّحُوا بِرَفْعِهِ، وَقَالَ فِيهِ رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ بِسَنَدِهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى.
وَكَذَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مَسْلَمَةَ ابْنِ قُعْنُبٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ شَيْخِ مَالِكٍ كَمَا قَالَ مَالِكٌ، وَمِنْ
رِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ كَذَلِكَ، وَالْأَعْرَجُ شَيْخُ الزُّهْرِيِّ فِيهِ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ فَذَكَرَهُ. وَلِسُفْيَانَ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ بِإِسْنَادٍ آخَرَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، صَرَّحَ فِيهِ بِرَفْعِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ: سَمِعْتُ زِيَادَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ ثَابِتًا الْأَعْرَجَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا صَرِيحًا، وَأَخْرَجَ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَذَلِكَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ اللَّامَ فِي الدَّعْوَةِ لِلْعَهْدِ مِنَ الْوَلِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَلِيمَةَ إِذَا أُطْلِقَتْ حُمِلَتْ عَلَى طَعَامِ الْعُرْسِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْوَلَائِمِ فَإِنَّهَا تُقَيَّدُ، وَقَوْلُهُ يُدْعَى لَهَا الْأَغْنِيَاءُ أَيْ أَنَّهَا تَكُونُ شَرَّ الطَّعَامِ إِذَا كَانَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا خُصَّ الْغَنِيُّ وَتُرِكَ الْفَقِيرُ أُمِرْنَا أَنْ لَا نُجِيبَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَإِذَا مَيَّزَ الدَّاعِي بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ فَأَطْعَمَ كُلًّا عَلَى حِدَةٍ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، وَقَدْ فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ مَنْ مُقَدَّرَةٍ كَمَا يُقَالُ شَرُّ النَّاسِ مَنْ أَكَلَ وَحْدَهُ أَيْ مِنْ شَرِّهِمْ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ شَرًّا لِمَا ذُكِرَ عَقِبَهُ؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ: شَرُّ الطَّعَامِ الَّذِي شَأْنُهُ كَذَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّامُ فِي الْوَلِيمَةِ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ، إِذْ كَانَ مِنْ عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَدْعُوا الْأَغْنِيَاءَ وَيَتْرُكُوا الْفُقَرَاءَ. وَقَوْلُهُ يُدْعَى إِلَخْ اسْتِئْنَافٌ وَبَيَانٌ لِكَوْنِهَا شَرَّ الطَّعَامِ، وَقَوْلُهُ وَمَنْ تَرَكَ إِلَخْ حَالٌ وَالْعَامِلُ يُدْعَى، أَيْ يُدْعَى الْأَغْنِيَاءُ، وَالْحَالُ أَنَّ الْإِجَابَةَ وَاجِبَةٌ فَيَكُونُ دُعَاؤُهُ سَبَبًا لِأَكْلِ الْمَدْعُوِّ شَرَّ الطَّعَامِ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ ابْنَ حَبِيبٍ رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَنْتُمُ الْعَاصُونَ فِي الدَّعْوَةِ، تَدْعُونَ مَنْ لَا يَأْتِي وَتَدْعُونَ مَنْ يَأْتِي، يَعْنِي بِالْأَوَّلِ الْأَغْنِيَاءَ وَبِالثَّانِي الْفُقَرَاءَ.
قَوْلُهُ (شَرُّ الطَّعَامِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ بِئْسَ الطَّعَامُ وَالْأَوَّلُ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ، وَكَذَا فِي بَقِيَّةِ الطُّرُقِ.
قَوْلُهُ (يُدْعَى لَهَا الْأَغْنِيَاءُ) فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ الْأَعْرَجِ يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِطَعَامِ الْوَلِيمَةِ؛ فَلَوْ دَعَا الدَّاعِي عَامًّا لَمْ يَكُنْ طَعَامُهُ شَرَّ الطَّعَامِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِئْسَ الطَّعَامُ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى إِلَيْهِ الشَّبْعَانُ وَيُحْبَسُ عَنْهُ الْجَيْعَانُ. قَوْلُهُ (وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ) أَيْ تَرَكَ إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَةِ: وَمَنْ دُعِيَ فَلَمْ يُجِبْ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلرِّوَايَةِ الْأُخْرَى.
قَوْلُهُ (فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ) هَذَا دَلِيلُ وُجُوبِ الْإِجَابَةِ، لِأَنَّ الْعِصْيَانَ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ: مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ فَلَمْ يَأْتِهَا؛ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
73 - بَاب مَنْ أَجَابَ إِلَى كُرَاعٍ
5178 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ.
قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ أَجَابَ إِلَى كُرَاعٍ) بِضَمِّ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَآخِرُهُ عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ: هُوَ مُسْتَدَقُّ السَّاقِ مِنَ الرِّجْلِ وَمِنْ حَدِّ الرُّسْغِ مِنَ الْيَدِ، وَهُوَ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِمَنْزِلَةِ الْوَظِيفِ مِنَ الْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ، وَقِيلَ الْكُرَاعُ مَا دُونَ الْكَعْبِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: كُرَاعُ كُلِّ شَيْءٍ طَرَفُهُ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبَدَانُ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، وَأَبُو حَمْزَةَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ هُوَ الْيَشْكُرِيُّ.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي حَازِمٍ) تَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَهُوَ لَا يَرْوِي عَنْ مَشَايِخِهِ إِلَّا مَا ظَهَرَ لَهُ سَمَاعُهُمْ فِيهِ، وَأَبُو حَازِمٍ هَذَا هُوَ سَلْمَانُ بِسُكُونِ اللَّامِ مَوْلَى عَزَّةَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدٍ
الزَّايِ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ الرَّاوِي عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ قَرِيبًا، فَإِنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا مَدَنِيَّيْنِ لَكِنَّ رَاوِيَ حَدِيثِ الْبَابِ أَكْبَرُ مِنِ ابْنِ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ (وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْمَشِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظِ ذِرَاعٌ وَكُرَاعٌ بِالتَّغْيِيرِ، وَالذِّرَاعُ أَفْضَلُ مِنَ الْكُرَاعِ، وَفِي الْمَثَلِ أَنْفَقَ الْعَبْدُ كُرَاعًا وَطَلَبَ ذِرَاعًا، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ وَكَذَا وَقَعَ لِلْغَزالِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُرَاعِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمَكَانُ الْمَعْرُوفُ بِكُرَاعِ الْغَمِيمِ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْمَغَازِي، وَزَعَمَ أَنَّهُ أَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِجَابَةِ وَلَوْ بَعُدَ الْمَكَانُ، لَكِنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الْإِجَابَةِ مَعَ حَقَارَةِ الشَّيْءِ أَوْضَحُ فِي الْمُرَادِ، وَلِهَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُرَاعِ هُنَا كُرَاعُ الشَّاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الْهِبَةِ فِي حَدِيثِ يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسَنَ شَاةٍ، وَأَغْرَبَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ وَلَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ وَلَا أَصْلَ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَصَحَّحَهُ مَرْفُوعًا: لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ، وَلَوْ دُعِيتُ لِمِثْلِهِ لَأَجَبْتُ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ وَادِعٍ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَكْرَهُ الْهَدِيَّةَ؟ فَقَالَ: مَا أَقْبَحَ رَدَّ الْهَدِيَّةِ! فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَيُسْتَفَادُ سَبَبُهُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى حُسْنِ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم وَتَوَاضُعِهِ وَجَبْرِهِ لِقُلُوبِ النَّاسِ، وَعَلَى قَبُولِ الْهَدِيَّةِ وَإِجَابَةِ مَنْ يَدْعُو الرَّجُلَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الَّذِي يَدْعُوهُ إِلَيْهِ شَيْءٌ قَلِيلٌ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: لَا يَبْعَثُ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الطَّعَامِ إِلَّا صِدْقُ الْمَحَبَّةِ وَسُرُورُ الدَّاعِي بِأَكْلِ الْمَدْعُوِّ مِنْ طَعَامِهِ وَالتَّحَبُّبِ إِلَيْهِ بِالْمُؤَاكَلَةِ وَتَوْكِيدِ الذِّمَامِ مَعَهُ بِهَا، فَلِذَلِكَ حَضَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْإِجَابَةِ وَلَوْ نَزَرَ الْمَدْعُوُّ إِلَيْهِ. وَفِيهِ الْحَضُّ عَلَى الْمُوَاصَلَةِ وَالتَّحَابِّ وَالتَّآلُفِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ لِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَقَبُولُ الْهَدِيَّةِ كَذَلِكَ.
74 - بَاب إِجَابَةِ الدَّاعِي فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِهِ
5179 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:، أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَجِيبُوا هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِذَا دُعِيتُمْ لَهَا، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَأْتِي الدَّعْوَةَ فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِ الْعُرْسِ وَهُوَ صَائِمٌ.
قَوْلُهُ (بَابُ إِجَابَةِ الدَّاعِي فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِهِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَجِيبُوا هَذِهِ الدَّعْوَةَ، وَهَذِهِ اللَّامُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ وَلِيمَةُ الْعُرْسِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ الْأُخْرَى: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ إِذَا تَعَدَّدَتْ أَلْفَاظُهُ وَأَمْكَنَ حَمْلُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ تَعَيَّنَ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْعُمُومِ وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ رَاوِي الْحَدِيثِ، فَكَانَ يَأْتِي الدَّعْوَةَ لِلْعُرْسِ وَلِغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْرَجَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا فَقَطْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ رِوَايَتُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ رَوْحِ بْنِ عِبَادَةَ، فَقِيلَ: هُوَ هَذَا نَسَبُهُ إِلَى جَدِّهِ، وَقِيلَ غَيْرُهُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو وَالْمُسْتَمْلِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمَّا حَدَّثَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ هَذَا سُئِلَ عَنْهُ، فَقَالَ: مُتْقِنٌ.
قَوْلُهُ (عَنْ نَافِعٍ) فِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ.
قَوْلُهُ (قَالَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ)، الْقَائِلُ هُوَ نَافِعٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى وَلِيمَةَ
عُرْسٍ فَلْيُجِبْ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُجِبْ عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: مَنْ دُعِيَ إِلَى عُرْسٍ أَوْ نَحْوِهِ فَلْيُجِبْ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا فَهِمَهُ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِجَابَةِ لَا يَخْتَصُّ بِطَعَامِ الْعُرْسِ، وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَالَ بِوُجُوبِ الْإِجَابَةِ إِلَى الدَّعْوَةِ مُطْلَقًا عُرْسًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ بِشَرْطِهِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ قَاضِي الْبَصْرَةِ، وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا نَقَلْنَاهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَهُوَ مِنْ مَشَاهِيرِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ فِي وَلِيمَةِ الْخِتَانِ لَمْ يَكُنْ يُدْعَى لَهَا، لَكِنْ يُمْكِنُ الِانْفِصَالُ عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ لَوْ دُعُوا، وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ دَعَا بِالطَّعَامِ؛ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اعْفِنِي، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّهُ لَا عَافِيَةَ لَكَ مِنْ هَذَا، فَقُمْ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ابْنَ صَفْوَانَ دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي مَشْغُولٌ، وَإِنْ لَمْ تُعْفِنِي جِئْتُهُ.
وَجَزَمَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ فِي غَيْرِ وَلِيمَةِ النِّكَاحِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَالَغَ السَّرَخْسِيُّ مِنْهُمْ فَنَقَلَ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَلَفْظُ الشَّافِعِيِّ: إِتْيَانُ دَعْوَةِ الْوَلِيمَةِ حَقٌّ، وَالْوَلِيمَةُ الَّتِي تُعْرَفُ وَلِيمَةُ الْعُرْسِ، وَكُلُّ دَعْوَةٍ دُعِيَ إِلَيْهَا رَجُلٌ وَلِيمَةٌ فَلَا أُرَخِّصُ لِأَحَدٍ فِي تَرْكِهَا، وَلَوْ تَرَكَهَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لي أَنَّهُ عَاصٍ فِي تَرْكِهَا كَمَا تَبَيَّنَ لِي فِي وَلِيمَةِ الْعُرْسِ.
قَوْلُهُ (فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِ الْعُرْسِ وَهُوَ صَائِمٌ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَيَأْتِيهَا وَهُوَ صَائِمٌ، وَلِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ نَافِعٍ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُجِيبُ صَائِمًا وَمُفْطِرًا، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيَدْعُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ فِي آخِرِهِ: وَالصَّلَاةُ الدُّعَاءُ وَهُوَ مِنْ تَفْسِيرِ هِشَامٍ رَاوِيهِ، وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، وَحَمَلَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ فَقَالَ: إِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيَشْتَغِلْ بِالصَّلَاةِ لِيَحْصُلَ لَهُ فَضْلُهَا، وَيَحْصُلُ لِأَهْلِ الْمَنْزِلِ وَالْحَاضِرِينَ بَرَكَتُهَا. وَفِيهِ نَظَرٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: (لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ لَكِنْ يُمْكِنُ تَخْصِيصُهُ بِغَيْرِ الصَّائِمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ حَقِّ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ لَمَّا حَضَرَ الْوَلِيمَةَ وَهُوَ صَائِمٌ أَثْنَى وَدَعَا، وَعِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ نَافِعٍ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا دُعِيَ أَجَابَ، فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا أَكَلَ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا دَعَا لَهُمْ وَبَرَّكَ ثُمَّ انْصَرَفَ.
وَفِي الْحُضُورِ فَوَائِدُ أُخْرَى كَالتَّبَرُّكِ بِالْمَدْعُوِّ وَالتَّجَمُّلِ بِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِإِشَارَتِهِ وَالصِّيَانَةِ عَمَّا لَا يَحْصُلُ لَهُ الصِّيَانَةُ لَوْ لَمْ يَحْضُرْ، وَفِي الْإِخْلَالِ بِالْإِجَابَةِ تَفْوِيتُ ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى مَا يَقَعُ لِلدَّاعِي مِنْ ذَلِكَ مِنَ التَّشْوِيشِ، وَعُرِفَ مِنْ قَوْلِهِ فَلْيَدْعُ لَهُمْ حُصُولَ الْمَقْصُودِ مِنَ الْإِجَابَةِ بِذَلِكَ وَأَنَّ الْمَدْعُوَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَكْلُ، وَهَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ إِنْ كَانَ صَوْمُهُ تَطَوُّعًا؟ قَالَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ كَانَ يَشُقُّ عَلَى صَاحِبِ الدَّعْوَةِ صَوْمُهُ فَالْأَفْضَلُ الْفِطْرُ وَإِلَّا فَالصَّوْمُ، وَأَطْلَقَ الرُّويَانِيُّ، وَابْنُ الْفَرَّاءِ اسْتِحْبَابَ الْفِطْرِ، وَهَذَا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجَوِّزُ الْخُرُوجَ مِنْ صَوْمِ النَّفْلِ، وَأَمَّا مَنْ يُوجِبُهُ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ الْفِطْرُ كَمَا فِي صَوْمِ الْفَرْضِ، وَيَبْعُدُ إِطْلَاقُ اسْتِحْبَابِ الْفِطْرِ مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ وَقْتُ الْإِفْطَارِ قَدْ قَرُبَ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ عُذْرًا فِي تَرْكِ الْإِجَابَةِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ وُرُودِ الْأَمْرِ لِلصَّائِمِ بِالْحُضُورِ وَالدُّعَاءِ، نَعَمْ لَوِ اعْتَذَرَ بِهِ الْمَدْعُوُّ فَقَبِلَ الدَّاعِي عُذْرَهُ لِكَوْنِهِ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَأْكُلَ إِذَا حَضَرَ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي التَّأَخُّرِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْمُفْطِرَ وَلَوْ حَضَرَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَكْلُ، وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَوُجُوبُ أَكْلِ الْمُفْطِرِ مُحْتَمَلٌ، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ، وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ الْوُجُوبَ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ، وَالْحُجَّةُ لَهُمْ قَوْلُهُ فِي إِحْدَى رِوَايَاتِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَتُحْمَلُ رِوَايَةُ جَابِرٍ عَلَى مَنْ كَانَ صَائِمًا، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ ابْنِ مَاجَهْ فِيهِ بِلَفْظِ: مَنْ دُعِيَ إِلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَيَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى مَنْ كَانَ صَائِمًا نَفْلًا، وَيَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنِ اسْتَحَبَّ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ صِيَامِهِ لِذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: دَعَا رَجُلٌ إِلَى طَعَامٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: دَعَاكُمْ أَخَاكُمْ وَتَكَلَّفَ لَكُمْ، أَفْطِرْ وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ إِنْ شِئْتَ، فِي إِسْنَادِهِ رَاوٍ ضَعِيفٌ لَكِنَّهُ تُوبِعَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
75 - بَاب ذَهَابِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ إِلَى الْعُرْسِ
5180 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: أَبْصَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءً وَصِبْيَانًا مُقْبِلِينَ مِنْ عُرْسٍ، فَقَامَ مُمْتَنًّا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ.
قَوْلُهُ (بَابُ ذَهَابِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ إِلَى الْعُرْسِ) كَأَنَّهُ تَرْجَمَ بِهَذَا لِئَلَّا يَتَخَيَّلَ أَحَدٌ كَرَاهَةَ ذَلِكَ، فَأَرَادَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ. قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ) هُوَ الْعَيْشِيُّ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالشِّينِ، وَلَيْسَ هُوَ أَخَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمَشْهُورِ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ (فَقَامَ مُمْتَنًّا) بِضَمِّ الْمِيمِ بَعْدَهَا مِيمٌ سَاكِنَةٌ وَمُثَنَّاةٌ مَفْتُوحَةٌ وَنُونٌ ثَقِيلَةٌ بَعْدَهَا أَلِفٌ، أَيْ قَامَ قِيَامًا قَوِيًّا، مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُنَّةِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَهِيَ الْقُوَّةُ، أَيْ قَامَ إِلَيْهِمْ مُسْرِعًا مُشْتَدًّا فِي ذَلِكَ فَرِحًا بِهِمْ، وَقَالَ أَبُو مَرْوَانُ بْنُ سِرَاجٍ: وَرَجَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ مِنَ الِامْتِنَانِ لِأَنَّ مَنْ قَامَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَكْرَمَهُ بِذَلِكَ فَقَدِ امْتَنَّ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ لَا أَعْظَمَ مِنْهُ، قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْتُمْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْقَابِسِيِّ قَالَ: قَوْلُهُ (مُمْتَنًّا يَعْنِي مُتَفَضِّلًا عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَمْتَنُّ عَلَيْهِمْ بِمَحَبَّتِهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مَتِينًا بِوَزْنِ عَظِيمٍ، أَيْ قَامَ قِيَامًا مُسْتَوِيًا مُنْتَصِبًا طَوِيلًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ فَقَامَ يَمْشِي، قَالَ عِيَاضٌ: وَهُوَ تَصْحِيفٌ.
قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ التَّأْوِيلَ الْأَوَّلَ مَا تَقَدَّمَ فِي فَضَائِلِ الْأَنْصَارِ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ بِسَنَدِ حَدِيثِ الْبَابِ بِلَفْظِ فَقَامَ مُمْثِلًا بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ مَكْسُورَةٌ وَقَدْ تُفْتَحُ، وَضُبِطَ أَيْضًا بِفَتْحِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْمَعْنَى مُنْتَصِبًا قَائِمًا، قَالَ ابْنُ التِّينِ: كَذَا وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ، وَالَّذِي فِي اللُّغَةِ: مَثُلَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَبِفَتْحِهَا قَائِمًا يَمْثُلُ بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ مُثُولًا فَهُوَ مَاثِلٌ إِذَا انْتَصَبَ قَائِمًا، قَالَ عِيَاضٌ: وَجَاءَ هُنَا مُمَثِّلًا يَعْنِي بِالتَّشْدِيدِ أَيْ مُكَلِّفًا نَفْسَهُ ذَلِكَ اهـ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ: فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ مَثِيلًا بِوَزْنِ عَظِيمٍ وَهُوَ فَعِيلٌ مِنْ مَاثَلَ، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَجَّاجِ مِثْلُهُ، وَزَادَ يَعْنِي مَاثِلًا.
قَوْلُهُ (اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ) زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَتَقْدِيمُ لَفْظِ اللَّهُمَّ يَقَعُ لِلتَّبَرُّكِ أَوْ لِلِاسْتِشْهَادِ بِاللَّهِ فِي صِدْقِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ، وَالْبَاقِي مِثْلُهُ وَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقَدِ اتَّفَقَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي
فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَلَى رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَكَلَّمَهَا، وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ مَرَّتَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ تَأْتِي فِي كِتَابِ النُّذُورِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ومِنْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مُقَدَّرَةٌ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ حَدِيثِ الْبَابِ.
76 - بَاب هَلْ يَرْجِعُ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا فِي الدَّعْوَةِ؟
وَرَأَى ابن مَسْعُودٍ صُورَةً فِي الْبَيْتِ فَرَجَعَ، وَدَعَا ابْنُ عُمَرَ، أَبَا أَيُّوبَ فَرَأَى فِي الْبَيْتِ سِتْرًا عَلَى الْجِدَارِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: غَلَبَنَا عَلَيْهِ النِّسَاءُ، فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهِ فَلَمْ أَكُنْ أَخْشَى عَلَيْكَ، وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُ لَكُمْ طَعَامًا فَرَجَعَ.
5181 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ، وَقَالَ: إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ.
قَوْلُهُ (بَابُ هَلْ يَرْجِعُ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا فِي الدَّعْوَةِ) هَكَذَا أَوْرَدَ التَّرْجَمَةَ بِصُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلَمْ يَبُتَّ الْحُكْمَ لِمَا فِيهَا مِنَ الِاحْتِمَالِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ (وَرَأَى ابْنُ مَسْعُودٍ صُورَةً فِي الْبَيْتِ فَرَجَعَ) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْأَصِيلِيِّ، وَالْقَابِسِيِّ، وَعَبْدُوسٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَاقِي أَبُو مَسْعُودٍ وَالْأَوَّلُ تَصْحِيفٌ فِيمَا أَظُنُّ فَإِنَّنِي لَمْ أَرَ الْأَثَرَ الْمُعَلَّقَ إِلَّا عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا صَنَعَ طَعَامًا فَدَعَاهُ، فَقَالَ: أَفِي الْبَيْتِ صُورَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَبَى أَنْ يَدْخُلَ حَتَّى تُكْسَرَ الصُّورَةُ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ. وَخَالِدُ بْنُ سَعْدٍ هُوَ مَوْلَى أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رِوَايَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا لَكِنْ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ (وَدَعَا ابْنُ عُمَرَ، أَبَا أَيُّوبَ فَرَأَى فِي الْبَيْتِ سِتْرًا عَلَى الْجِدَارِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: غَلَبَنَا عَلَيْهِ النِّسَاءُ. فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهِ فَلَمْ أَكُنْ أَخْشَى عَلَيْكَ، وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُ لَكُمْ طَعَامًا. فَرَجَعَ)، وَصَلَهُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الْوَرَعِ وَمُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ، وَمِنْ طَرِيقِهِ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَعْرَسْتُ فِي عَهْدِ أَبِي، فَآذَنَ أَبِي النَّاسَ، فَكَانَ أَبُو أَيُّوبَ فِيمَنْ آذَنَّا وَقَدْ سَتَرُوا بَيْتِي بِبِجَادٍ أَخْضَرَ، فَأَقْبَلَ أَبُو أَيُّوبَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَسْتُرُونَ الْجُدُرَ؟ فَقَالَ أَبِي وَاسْتَحْيَا: غَلَبَنَا عَلَيْهِ النِّسَاءُ يَا أَبَا أَيُّوبَ، فَقَالَ: مَنْ خَشِيتُ أَنْ تَغْلِبَهُ النِّسَاءُ، فَذَكَرَهُ وَوَقَعَ لَنَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ سَالِمٍ بِمَعْنَاهُ وَفِيهِ: فَأَقْبَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، حَتَّى أَقْبَلَ أَبُو أَيُّوبَ، وَفِيهِ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَتَرْجِعَنَّ، فَقَالَ: وَأَنَا أَعْزِمُ عَلَى نَفْسِي أَنْ لَا أَدْخُلَ يَوْمِي هَذَا، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ وَقَعَ نَحْوُ ذَلِكَ لِابْنِ عُمَرَ فِيمَا بَعْدَ فَأَنْكَرَهُ وَأَزَالَ مَا أَنْكَرَ وَلَمْ يَرْجِعْ كَمَا صَنَعَ أَبُو أَيُّوبَ، فَرُوِّينَا فِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: دَخَلَ ابْنُ عُمَرَ
بَيْتَ رَجُلٍ دَعَاهُ إِلَى عُرْسٍ، فَإِذَا بَيْتُهُ قَدْ سُتِرَ بِالْكُرُورِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَا فُلَانُ مَتَى تَحَوَّلَتِ الْكَعْبَةُ فِي بَيْتِكَ؟ ثُمَّ قَالَ لِنَفَرٍ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم:
لِيَهْتِكْ كُلُّ رَجُلٍ مَا يَلِيهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ وَهْبٍ وَمِنْ طَرِيقِهِ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ دُعِيَ لِعُرْسٍ فَرَأَى الْبَيْتَ قَدْ سُتِرَ فَرَجَعَ، فَسُئِلَ فَذَكَرَ قِصَّةَ أَبِي أَيُّوبَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي الصُّوَرِ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ وَبَيَانُ حُكْمِ الصُّوَرِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ، وَمَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهَا قَامَ عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الدُّخُولُ فِي الدَّعْوَةِ يَكُونُ فِيهَا مُنْكَرٌ مِمَّا نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِظْهَارِ الرِّضَا بِهَا، وَنَقَلَ مَذَاهِبَ الْقُدَمَاءِ فِي ذَلِكَ، وَحَاصِلُهُ إِنْ كَانَ هُنَاكَ مُحَرَّمٌ وَقَدَرَ عَلَى إِزَالَتِهِ فَأَزَالَهُ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلْيَرْجِعْ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ فَلَا يَخْفَى الْوَرَعُ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ ابْنِ عُمَرَ مِنِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي دُخُولِ الْبَيْتِ الَّذِي سُتِرَتْ جُدُرَهُ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا قَعَدَ الَّذِينَ قَعَدُوا وَلَا فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ، فَيُحْمَلُ فِعْلُ أَبِي أَيُّوبَ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو أَيُّوبَ كَانَ يَرَى التَّحْرِيمَ وَالَّذِينَ لَمْ يُنْكِرُوا كَانُوا يَرَوْنَ الْإِبَاحَةَ، وَقَدْ فَصَّلَ الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ عَلَى مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ، قَالُوا: إِنْ كَانَ لَهْوًا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ فَيَجُوزُ الْحُضُورُ، وَالْأَوْلَى التَّرْكُ. وَإِنْ كَانَ حَرَامًا كَشُرْبِ الْخَمْرِ نَظَرَ فَإِنْ كَانَ الْمَدْعُوُّ مِمَّنْ إِذَا حَضَرَ رُفِعَ لِأَجْلِهِ فَلْيَحْضُرْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَفِيهِ لِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَحْضُرُ وَيُنْكِرُ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَحْضُرَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَيْهِ جَرَى الْعِرَاقِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَا بَأْسَ أَنْ يَقْعُدَ وَيَأْكُلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ يُقْتَدَى بِهِ، فَإِنْ كَانَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهِمْ فَلْيَخْرُجْ لِمَا فِيهِ مِنْ شَيْنِ الدِّينِ وَفَتْحِ بَابِ الْمَعْصِيَةِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَعَدَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُقْتَدًى بِهِ، قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الْحُضُورِ، فَإِنْ عَلِمَ قَبْلَهُ لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِجَابَةُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ تَحْرِيمُ الْحُضُورِ لِأَنَّهُ كَالرِّضَا بِالْمُنْكَرِ وَصَحَّحَهُ الْمَرَاوِزَةُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى حَضَرَ فَلْيَنْهَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا فَلْيَخْرُجْ إِلَّا إِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى الْحَنَابِلَةُ. وَكَذَا اعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ فِي وُجُوبِ الْإِجَابَةِ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مُنْكَرٌ، وَإِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْهَيْئَةِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْضُرَ مَوْضِعًا فِيهِ لَهْوٌ أَصْلًا حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَيُؤَيِّدُ مَنْعَ الْحُضُورِ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ إِجَابَةِ طَعَامِ الْفَاسِقِينَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَعَ وُجُودِ الْأَمْرِ الْمُحَرَّمِ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقْعُدْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِيهِ ضَعْفٌ عَنْ جَابِرٍ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِسَنَدٍ فِيهِ انْقِطَاعٌ، وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ.
وَأَمَّا حُكْمُ سِتْرِ الْبُيُوتِ وَالْجُدْرَانِ فَفِي جَوَازِهِ اخْتِلَافٌ قَدِيمٌ، وَجَزَمَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ بِالْكَرَاهَةِ، وَصَرَّحَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ الْمَقْدِسِيُّ مِنْهُمْ بِالتَّحْرِيمِ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ، وَجَذَبَ السِّتْرَ حَتَّى هَتَكَهُ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ تَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ سَتْرِ الْجِدَارِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَنْعَ كَانَ بِسَبَبِ الصُّورَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَ فِي السِّيَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا فِيهِ نَفْيُ الْأَمْرِ لِذَلِكَ، وَنَفْيُ الْأَمْرِ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ النَّهْيِ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُحْتَجَّ بِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَتْكِهِ. وَجَاءَ النَّهْي عَنْ سِتْرِ الْجُدُرِ صَرِيحًا، مِنْهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ وَلَا تَسْتُرُوا الْجُدُرَ بِالثِّيَابِ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَخْرَجَهُ ابْنُ وَهْبٍ ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَعِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ مَوْقُوفًا أَنَّهُ أَنْكَرَ سَتْرَ الْبَيْتِ وَقَالَ: أَمَحْمُومٌ بَيْتُكُمْ أَوْ تَحَوَّلَتِ الْكَعْبَةُ
عِنْدَكُمْ؟ قَالَ: لَا أَدْخُلُهُ حَتَّى يُهْتَكَ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا خَبَرُ أَبِي أَيُّوبَ، وَابْنُ عُمَرَ فِي ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ أَنَّهُ رَأَى بَيْتًا مَسْتُورًا، فَقَعَدَ وَبَكَى وَذَكَرَ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ: كَيْفَ بِكَمْ إِذَا سَتَرْتُمْ بُيُوتَكُمْ؟ الْحَدِيثَ وَأَصْلُهُ فِي النَّسَائِيِّ.
77 - بَاب قِيَامِ الْمَرْأَةِ عَلَى الرِّجَالِ فِي الْعُرْسِ وَخِدْمَتِهِمْ بِالنَّفْسِ
5182 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ، قَالَ: لَمَّا عَرَّسَ أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ دَعَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ، فَمَا صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا وَلَا قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ إِلَّا امْرَأَتُهُ أُمُّ أُسَيْدٍ، بَلَّتْ تَمَرَاتٍ فِي تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ مِنْ اللَّيْلِ، فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الطَّعَامِ أَمَاثَتْهُ لَهُ فَسَقَتْهُ تُتْحِفُهُ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ (بَابُ قِيَامِ الْمَرْأَةِ عَلَى الرِّجَالِ فِي الْعُرْسِ وَخِدْمَتِهِمْ بِالنَّفْسِ) أَيْ بِنَفْسِهَا، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ عُرْسِ أَبِي أُسَيْدٍ، وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ فِي الَّذِي بَعْدَهُ النَّقِيعُ وَالشَّرَابُ الَّذِي لَا يُسْكِرُ فِي الْعُرْسِ وَتَقَدَّمَ قَبْلَ أَبْوَابٍ فِي إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ.
قَوْلُهُ (عَنْ سَهْلٍ) فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ. قَوْلُهُ (لَمَّا عَرَّسَ) كَذَا وَقَعَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ؛ فَقَالَ: أَعْرَسَ وَلَا تَقُلْ عَرَّسَ.
قَوْلُهُ (أَبُو أُسَيْدٍ) فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ: دَعَا أَبُو أُسَيْدٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي عُرْسِهِ، وَزَادَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَأَصْحَابَهُ وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ.
قَوْلُهُ (فَمَا صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا وَلَا قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ إِلَّا امْرَأَتُهُ أُمُّ أُسَيْدٍ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ مِمَّنْ وَافَقَتْ كُنْيَتُهَا كُنْيَةَ زَوْجِهَا، وَاسْمُهَا سَلَّامَةُ بِنْتُ وُهَيْبٍ.
قَوْلُهُ (بَلَّتْ تَمَرَاتٍ) بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ لَامٍ ثَقِيلَةٍ أَيْ أَنْقَعَتْ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَإِنَّمَا ضَبَطْتُهُ لِأَنِّي رَأَيْتُهُ فِي شَرْحِ ابْنِ التِّينِ ثَلَاثَ بِلَفْظِ الْعَدَدِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَزَادَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فَقَالَتْ أَوْ قَالَ كَذَا بِالشَّكِّ لِغَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلَهُ فَقَالَتْ: أَوْ مَا تَدْرُونَ بِالْجَزْمِ، وَتَقَدَّمَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ قَالَ سَهْلٌ وَهِيَ الْمُعْتَمَدَةُ، فَالْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ سَهْلٍ وَلَيْسَ لِأُمِّ أُسَيْدٍ فِيهِ رِوَايَةٌ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ أَتَدْرُونَ مَا أَنْقَعَتْ يَكُونُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ التَّاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَكُونُ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّ التَّاءِ.
قَوْلُهُ (فِي تَوْرٍ) بِالْمُثَنَّاةِ إِنَاءٌ يَكُونُ مِنْ نُحَاسٍ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ حِجَارَةٍ.
قَوْلُهُ (أَمَاثَتْهُ) بِمُثَلَّثَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: كَذَا وَقَعَ رُبَاعِيًّا، وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُونَهُ ثُلَاثِيًّا مَاثَتْهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ أَيْ مَرَسَتْهُ بِيَدِهَا، يُقَالُ: مَاثَهُ يَمُوثُهُ وَيَمِيثُهُ بِالْوَاوِ وَبِالْيَاءِ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: مِثْتُ الْمِلْحَ فِي الْمَاءِ مَيْثًا أَذَبْتَهُ وَقَدِ انْمَاثَ هُوَ اهـ، وَقَدْ أَثْبَتُ الْهَرَوِيُّ اللُّغَتَيْنِ مَاثَهُ وَأَمَاثَهُ ثُلَاثِيًّا وَرُبَاعِيًّا.
قَوْلُهُ (تُحْفَةٌ بِذَلِكَ) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ تُحْفَةٌ بِوَزْنِ لُقْمَةٍ، وَلِلْأَصِيلِيِّ مِثْلُهُ، وَعَنْهُ بِوَزْنِ تَخُصُّهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ لِابْنِ السَّكَنِ بِالْخَاءِ وَالصَّادِ الثَّقِيلَةِ، وَكَذَا هُوَ لِمُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَتْحَفَتْهُ بِذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ تُتْحِفُهُ بِذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ خِدْمَةِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا وَمَنْ يَدْعُوهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحِلَّ ذَلِكَ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ وَمُرَاعَاةِ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنَ السِّتْرِ، وَجَوَازُ اسْتِخْدَامِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَشُرْبِ مَا لَا يُسْكِرُ فِي الْوَلِيمَةِ، وَفِيهِ جَوَازُ إِيثَارَ كَبِيرِ الْقَوْمِ فِي الْوَلِيمَةِ بِشَيْءٍ دُونَ مَنْ مَعَهُ.
78 - بَاب النَّقِيعِ وَالشَّرَابِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ فِي الْعُرْسِ
5183 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ
بْنَ سَعْدٍ أَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ دَعَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِعُرْسِهِ؛ فَكَانَتْ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَهِيَ الْعَرُوسُ؛ فَقَالَتْ أَوْ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا أَنْقَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ أَنْقَعَتْ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنْ اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ.
قَوْلُهُ (بَابُ النَّقِيعِ وَالشَّرَابِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ فِي الْعُرْسِ) تَقَدَّمَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَوْلُهُ (الَّذِي لَا يُسْكِرُ اسْتَنْبَطَهُ مِنْ قُرْبِ الْعَهْدِ بِالنَّقْعِ لِقَوْلِهِ أَنْقَعَتْهُ مِنَ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ أَثْنَاءِ اللَّيْلِ إِلَى أَثْنَاءِ النَّهَارِ لَا يَتَخَمَّرُ، وَإِذَا لَمْ يَتَخَمَّرْ لَمْ يُسْكِرْ.
79 - بَاب الْمُدَارَاةِ مَعَ النِّسَاءِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا الْمَرْأَةُ كَالضِّلَعِ
5184 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمَرْأَةُ كَالضِّلَعِ إِنْ أَقَمْتَهَا كَسَرْتَهَا، وَإِنْ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَفِيهَا عِوَجٌ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُدَارَاةِ) هُوَ بِغَيْرِ هَمْزٍ بِمَعْنَى الْمُجَامَلَةِ وَالْمُلَايَنَةِ، وَأَمَّا بِالْهَمْزِ فَمَعْنَاهُ الْمُدَافَعَةُ، وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا. وَقَوْلُهُ:(مَعَ النِّسَاءِ) وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا الْمَرْأَةُ كَالضِّلَعِ أَوْرَدَهُ فِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ الْمَرْأَةِ كَالضِّلَعِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ إِنَّمَا فِي أَوَّلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْأُوَيْسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ، وَمِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنِ الْأُوَيْسِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ، وَأَوَّلُهُ إِنَّمَا وَكَذَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيِّ، عَنِ الْأُوَيْسِيِّ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ وَأَوَّلُهُ إِنَّ الْمَرْأَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِلَفْظِ أن الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ دَاوُدَ، عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْغَرَائِبِ عَنْ مَالِكٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ وَهُوَ الْأَعْرَجُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَسَاقَ الْمَتْنَ بِنَحْوِ لَفْظِ سُفْيَانَ، لَكِنْ قَالَ: عَلَى خَلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ إِنَّمَا هيَ كَالضِّلَعِ الْحَدِيثَ. وَوَقَعَ لَنَا بِلَفْظِ الْمُدَارَاةِ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ رَفَعَهُ: خُلِقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ ضِلَعٍ، فَإِنْ تُقِمْهَا تَكْسِرْهَا، فَدَارِهَا تَعِشْ بِهَا. أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ.
وَقَوْلُهُ (وَفِيهَا عِوَجٌ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْوَاوِ بَعْدَهَا جِيمٌ لِلْأَكْثَرِ وَبِالْفَتْحِ لِبَعْضِهِمْ، وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْعِوَجُ بِالْفَتْحِ فِي كُلِّ مُنْتَصِبٍ كَالْحَائِطِ وَالْعُودِ وَشِبْهِهِ، وَبِالْكَسْرِ مَا كَانَ فِي بِسَاطٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ مَعَاشٍ أَوْ دِينٍ. وَنَقَلَ ابْنُ قُرْقُولٍ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْفَتْحَ فِي الشَّخْصِ الْمَرْئِيِّ وَالْكَسْرَ فِيمَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِالْفَتْحِ فِي الْأَجْسَامِ وَبِالْكَسْرِ فِي الْمَعَانِي، وَهُوَ نَحْوُ الَّذِي قَبْلَهُ. وَانْفَرَدَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ فَقَالَ: كِلَاهُمَا بِالْكَسْرِ وَمَصْدَرُهُمَا بِالْفَتْحِ.
80 - بَاب الْوَصَاةِ بِالنِّسَاءِ
5185 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ.
[الحديث 5185 - أطرافه في: 6018، 6136، 6138، 6475]
5186 -
"
…
وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ؛ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا.
5187 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ كُنَّا نَتَّقِي الْكَلَامَ وَالِانْبِسَاطَ إِلَى نِسَائِنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَيْبَةَ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا شَيْءٌ فَلَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَكَلَّمْنَا وَانْبَسَطْنَا"
قَوْلُهُ (بَابُ الْوَصَاةِ بِالنِّسَاءِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ مَقْصُورٌ؛ وَهِيَ لُغَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْوِصَايَةُ. قَوْلُهُ (عَنْ مَيْسَرَةَ) هُوَ ابْنُ عَمَّارٍ الْأَشْجَعِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَأَبُو حَازِمٍ هُوَ الْأَشْجَعِيُّ سَلْمَانُ مَوْلَى عَزَّةَ بِمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ زَايٍ ثَقِيلَةٍ.
قَوْلُهُ (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا) الْحَدِيثَ، هُمَا حَدِيثَانِ يَأْتِي شَرْحُ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ شَيْخِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَلَمْ يَذْكُرِ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ، وَذَكَرَ بَدَلَهُ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَإِذَا شَهِدَ امْرُؤٌ فَلْيَتَكَلَّمْ بِخَيْرٍ أَوْ لِيَسْكُتْ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا أَحَادِيثُ كَانَتْ عِنْدَ حُسَيْنٍ الْجُعْفِيِّ، عَنْ زَائِدَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَرُبَّمَا جَمَعَ وَرُبَّمَا أَفْرَدَ، وَرُبَّمَا اسْتَوْعَبَ وَرُبَّمَا اقْتَصَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ مُقْتَصِرًا عَلَى الثَّانِي، وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ ابْنِ يَعْلَى، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْرَائِيلَ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بِالْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ، وَزَادَ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ قِرَى ضَيْفِهِ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ (فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ) بِكَسْرِ الضَّادِ وَالْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَقَدْ تُسَكَّنُ، وَكَأَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمُبْتَدَأِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أن حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ الْأَقْصَرِ الْأَيْسَرِ وَهُوَ نَائِمٌ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ، وَأَغْرَبَ النَّوَوِيُّ فَعَزَاهُ لِلْفُقَهَاءِ أَوْ بَعْضِهِمْ فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ النِّسَاءَ خُلِقْنَ مِنْ أَصْلٍ خُلِقَ مِنْ شَيْءٍ مُعْوَجٍّ، وَهَذَا لَا يُخَالِفُ الْحَدِيثَ الْمَاضِيَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَرْأَةِ بِالضِّلْعِ، بَلْ يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا نُكْتَةُ التَّشْبِيهِ وَأَنَّهَا عَوْجَاءُ مِثْلُهُ لِكَوْنِ أَصْلِهَا مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ (وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ) ذَكَرَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْكَسْرِ، لِأَنَّ الْإِقَامَةَ أَمْرُهَا أَظْهَرُ فِي الْجِهَةِ الْعُلْيَا، أَوْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ أَعْوَجِ أَجْزَاءِ الضِّلْعِ مُبَالَغَةً فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَةِ لَهُنَّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَرَبَ ذَلِكَ مَثَلًا لِأَعْلَى الْمَرْأَةِ لِأَنَّ أَعْلَاهَا رَأْسُهَا، وَفِيهِ لِسَانُهَا وَهُوَ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْهُ الْأَذَى، وَاسْتَعْمَلَ أَعْوَجَ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعُيُوبِ لِأَنَّهُ أَفْعَلَ لِلصِّفَةِ وَأَنَّهُ شَاذٌّ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ عِنْدَ الِالْتِبَاسِ بِالصِّفَةِ فَإِذَا تَمَيَّزَ عَنْهُ بِالْقَرِينَةِ جَازَ الْبِنَاءُ.
قَوْلُهُ (فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ) الضَّمِيرُ لِلضِّلْعِ لَا لِأَعْلَى الضِّلْعِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهُ إِنْ أَقَمْتَهَا كَسَرْتَهَا وَالضَّمِيرُ أَيْضًا لِلضِّلْعِ وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ وَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِكَسْرِهِ الطَّلَاقَ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا.
قَوْلُهُ (وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ) أَيْ وَإِنْ لَمْ تُقِمْهُ، وَقَوْلُهُ فَاسْتَوْصُوا أَيْ أُوصِيكُمْ بِهِنَّ خَيْرًا فَاقْبَلُوا وَصِيَّتِي فِيهِنَّ وَاعْمَلُوا بِهَا، قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ. وَالْحَامِلُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ الِاسْتِيصَاءَ اسْتِفْعَالٌ، وَظَاهِرُهُ
طَلَبُ الْوَصِيَّةِ وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ تَوْجِيهَاتٌ أُخَرُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ (بِالنِّسَاءِ خَيْرًا) كَأنَ فِيهِ رَمْزًا إِلَى التَّقْوِيمِ بِرِفْقٍ بِحَيْثُ لَا يُبَالِغُ فِيهِ فَيَكْسِرُ وَلَا يَتْرُكُهُ فَيَسْتَمِرُّ عَلَى عِوَجِهِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْمُؤَلِّفُ بِاتْبَاعِهِ بِالتَّرْجَمَةِ الَّتِي بَعْدَهُ: بَابُ {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنْ لَا يَتْرُكَهَا عَلَى الِاعْوِجَاجِ إِذَا تَعَدَّتْ مَا طُبِعَتْ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ إِلَى تَعَاطِي الْمَعْصِيَةِ بِمُبَاشَرَتِهَا أَوْ تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يَتْرُكَهَا عَلَى اعْوِجَاجِهَا فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ النَّدْبُ إِلَى الْمُدَارَاةِ لِاسْتِمَالَةِ النُّفُوسِ وَتَأَلُّفِ الْقُلُوبِ. وَفِيهِ سِيَاسَةُ النِّسَاءِ بِأَخْذِ الْعَفْوِ مِنْهُنَّ وَالصَّبْرِ عَلَى عِوَجِهِنَّ، وَأَنَّ مَنْ رَامَ تَقْوِيمَهُنَّ فَإِنَّهُ الِانْتِفَاعُ بِهِنَّ مَعَ أَنَّهُ لَا غِنَى لِلْإِنْسَانِ عَنِ امْرَأَةٍ يَسْكُنُ إِلَيْهَا وَيَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى مَعَاشِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.
قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ
(1)
) قَوْلُهُ (كُنَّا نَتَّقِي) أَيْ نَتَجَنَّبُ، وَقَدْ بَيَّنَ سَبَبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ هَيْبَةً أَنْ يَنْزِلَ فِينَا شَيْءٌ أَيْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَوَقَعَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ. وَقَوْلُهُ فَلَمَّا تُوُفِّيَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الَّذِي كَانُوا يَتْرُكُونَهُ كَانَ مِنَ الْمُبَاحِ، لَكِنَّ الَّذِي يَدْخُلُ تَحْتَ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَكَانُوا يَخَافُونَ أَنْ يَنْزِلَ فِي ذَلِكَ مَنْعٌ أَوْ تَحْرِيمٌ، وَبَعْدَ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ أَمِنُوا ذَلِكَ فَفَعَلُوهُ تَمَسُّكًا بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ.
81 - بَاب {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}
5188 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ؛ فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ.
قَوْلُهُ (بَابُ {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّحْرِيمِ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَمُطَابَقَتُهُ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَرْءِ وَنَفْسَهُ مِنْ جُمْلَةِ رَعِيَّتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى وِقَايَتِهِمْ مِنَ النَّارِ، وَامْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ مَنَاهِيهِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَحْكَامِ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
82 - بَاب حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ الْأَهْلِ
5189 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لَا يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا، قَالَتْ الْأُولَى: زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ، لَا سَهْلٍ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينٍ فَيُنْتَقَلُ، قَالَتْ الثَّانِيَةُ: زَوْجِي لَا أَبُثُّ خَبَرَهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا أَذَرَهُ إِنْ أَذْكُرْهُ أَذْكُرْ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ، قَالَتْ الثَّالِثَةُ: زَوْجِي الْعَشَنَّقُ، إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ. قَالَتْ الرَّابِعَةُ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ، لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ، وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ، قَالَتْ الْخَامِسَةُ: زَوْجِي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ، وَلَا
(1)
بياص في الأصل.
يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ، قَالَتْ السَّادِسَةُ: زَوْجِي إِنْ أَكَلَ لَفَّ، وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ، وَإِنْ اضْطَجَعَ الْتَفَّ، وَلَا يُولِجُ الْكَفَّ لِيَعْلَمَ الْبَثَّ، قَالَتْ السَّابِعَةُ: زَوْجِي غَيَايَاءُ أَوْ عَيَايَاءُ طَبَاقَاءُ، كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ، شَجَّكِ أَوْ فَلَّكِ أَوْ جَمَعَ كُلًّا لَكِ. قَالَتْ الثَّامِنَةُ: زَوْجِي الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ. قَالَتْ التَّاسِعَةُ: زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ، طَوِيلُ النِّجَادِ، عَظِيمُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنْ النَّادِ.
قَالَتْ الْعَاشِرَةُ: زَوْجِي مَالِكٌ وَمَا مَالِكٌ؟ مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكِ، لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ قَلِيلَاتُ الْمَسَارِحِ، وَإِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ، قَالَتْ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ فمَا أَبُو زَرْعٍ؟ أَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيَّ، وَمَلَأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ، وَبَجَّحَنِي فَبَجِحَتْ إِلَيَّ نَفْسِي، وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ، فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ، وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ، فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلَا أُقَبَّحُ وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ، وَأَشْرَبُ فَأَتَقَنَّحُ. أُمُّ أَبِي زَرْعٍ فَمَا أُمُّ أَبِي زَرْعٍ؟ عُكُومُهَا رَدَاحٌ، وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ، ابْنُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا ابْنُ أَبِي زَرْعٍ؟ مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ، بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ، طَوْعُ أَبِيهَا وَطَوْعُ أُمِّهَا، وَمِلْءُ كِسَائِهَا وَغَيْظُ جَارَتِهَا، جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ؟ لَا تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا، وَلَا تُنَقِّثُ مِيرَاثنَا تَنْقِيثًا، وَلَا تَمْلَأُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا، قَالَتْ: خَرَجَ أَبُو زَرْعٍ وَالْأَوْطَابُ تُمْخَضُ، فَلَقِيَ امْرَأَةً مَعَهَا وَلَدَانِ لَهَا كَالْفَهْدَيْنِ يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِرُمَّانَتَيْنِ، فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا، فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلًا سَرِيًّا، رَكِبَ شَرِيًّا، وَأَخَذَ خَطِّيًّا، وَأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا، وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجًا، وَقَالَ: كُلِي أُمَّ زَرْعٍ وَمِيرِي أَهْلَكِ. قَالَتْ: فَلَوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَانِيهِ مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِي زَرْعٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ، قال هِشَامٍ: وَلَا تُعَشِّشُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا، قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَأَتَقَمَّحُ بِالْمِيمِ، وَهَذَا أَصَحُّ.
5190 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ الْحَبَشُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ فَسَتَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَنْظُرُ فَمَا زِلْتُ أَنْظُرُ حَتَّى كُنْتُ أَنَا أَنْصَرِفُ فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ تَسْمَعُ اللَّهْوَ"
قَوْلُهُ (بَابُ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ الْأَهْلِ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: نَبَّهَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ عَلَى أَنَّ إِيرَادَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْحِكَايَةَ - يَعْنِي حَدِيثَ أُمِّ زَرْعٍ - لَيْسَ خَلِيًّا عَنْ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَهِيَ الْإِحْسَانُ فِي مُعَاشَرَةِ الْأَهْلِ.
قُلْتُ: وَلَيْسَ فِيمَا سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْرَدَ الْحِكَايَةَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَلَيْسَتِ الْفَائِدَةُ مِنَ الْحَدِيثِ مَحْصُورَةً فِيمَا ذُكِرَ، بَلْ سَيَأْتِي لَهُ فَوَائِدُ أُخْرَى: مِنْهَا مَا تَرْجَمَ عَلَيْهِ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَدْ شَرَحَ حَدِيثَ أُمِّ زَرْعٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، رَوَيْنَا ذَلِكَ فِي جُزْءِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِيزِيلَ الْحَافِظِ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْهُ، وَأَبُو
عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ نَقَلَ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَحْفَظُ عَدَدَهُمْ، وَتَعَقَّبَ عَلَيْهِ فِيهِ مَوَاضِعَ أَبُو سَعِيدٍ الضَّرِيرُ النَّيْسَابُورِيُّ، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي تَأْلِيفٍ مُفْرَدٍ، وَالْخَطَّابِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَثَابِتُ بْنُ قَاسِمٍ، وَشَرَحَهُ أَيْضًا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ ثُمَّ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ نَاصِحٍ ثُمَّ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ ثُمَّ إِسْحَاقُ الْكَاذِيُّ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ جَمَعَهُ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ السِّكِّيتِ وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَعَنْ غَيْرِهِمَا، ثُمَّ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْحَكِيمِ بْنُ حِبَّانَ الْمِصْرِيُّ ثُمَّ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَائِقِ ثُمَّ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَهُوَ أَجْمَعُهَا وَأَوْسَعُهَا، وَأَخَذَ مِنْهُ غَالِبُ الشُّرَّاحِ بَعْدَهُ، وَقَدْ لَخَّصْتُ جَمِيعَ مَا ذَكَرُوهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنِي، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بِنْتِ شُرَحْبِيلَ الدِّمَشْقِيِّ (وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) بِضِمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ أَيِ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، وَوَقَعَ مَنْسُوبًا كَذَلِكَ عَنِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَأَبِي يَعْلَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنَ جَنَابٍ بِجِيمٍ وَنُونٍ خَفِيفَةٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ هِشَامٍ: أَخْبَرَنِي أَخِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُرْوَةَ، وَهَذَا مِنْ نَوَادِرِ مَا وَقَعَ لِهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي حَدِيثِهِ عَنْ أَبِيهِ حَيْثُ أَدْخَلَ بَيْنَهُمَا أَخًا لَهُ وَاسِطَةٌ، وَمِثْلُهُ مَا سَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ مِنْ طَرِيقِ وُهَيْبٍ، عَنْ هِشَامِ بَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَخِيهِ عُثْمَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، وَمَضَتْ لَهُ فِي الْهِبَةِ رِوَايَةٌ بِوَسَاطَةِ اثْنَيْنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى عِيسَى بْنِ يُونُسَ فِي إِسْنَادِهِ وَسِيَاقِهِ، لَكِنْ حَكَى عِيَاضٌ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ دَاوُدَ الْحَرَّانِيِّ أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ عِيسَى؛ فَقَالَ فِي أَوَّلِهِ: عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَاقَهُ بِطُولِهِ مَرْفُوعًا كُلَّهُ، وَكَذَا حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ وَتَابَعَ عِيسَى بْنَ يُونُسَ عَلَى رِوَايَةٍ مُفَصَّلًا فِيمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ، سُوَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَذَا سعيد بن سلمة، عن أبي حسام كلاهما عن هشام، وستأتي روايته تعليقا وأذكر من وصلها عند الفراغ مَنْ شَرَحَ الْحَدِيثَ، وَخَالَفَهُمُ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ فِيمَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ الْأَفْرَادِ؛ فَرَوَاهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَخِيهِ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَخَطَّأَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ وَصَوَّبَ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُرْوَةَ، وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، وَعَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ وَرِوَايَتُهُمَا عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَالدَّرَاوَرْدِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ وَرِوَايَتُهُما عِنْدَ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ، وَأَبُو أُوَيْسٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُهُ عَنْهُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي
الزِّنَادِ وَرِوَايَتُهُ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَرِوَايَتُهُ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَأَدْخَلَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً، أَيْضًا عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ أَيْضًا فَرَوَاهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ لَكِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَرْفُوعِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ الْبَزَّارُ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَدْفُوعٍ فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو أُوَيْسٍ أَيْضًا وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ اهـ.
وَرَوَاهُ عَنْ عُرْوَةَ أَيْضًا حَفِيدُهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ وَأَبُو الزِّنَادِ وَأَبُو الْأَسْوَدِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يقْتَصِرُ عَلَى الْمَرْفُوعِ مِنْهُ، وَيُنْكِرُ عَلَى هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ سِيَاقَهُ بِطُولِهِ وَيَقُولُ: إِنَّمَا كَانَ عُرْوَةُ يُحَدَّثُنَا بِذَلِكَ فِي السَّفَرِ بِقِطْعَةٍ مِنْهُ، ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْآَجُرِّيُّ فِي أَسْئِلَتِهِ عَنْ أَبِي دَاوُدَ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَرْكِ أَحْمَدَ تَخْرِيجَهُ فِي مُسْنَدِهِ مَعَ كِبَرِهِ، وَقَدْ حَدَّثَ بِهِ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ لَكِنْ عَنْ غَيْرِ أَبِيهِ، وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: لَمْ يَرْفَعْهُ إِلَّا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ. قُلْتُ: الْمَرْفُوعُ مِنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ، وَبَاقِيهِ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ. وَجَاءَ خَارِجَ الصَّحِيحِ مَرْفُوعًا كُلُّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَسَاقَهُ بِسِيَاقٍ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ وَلَفْظُهُ، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ كَانَ أَبُو زَرْعٍ؟ قَالَ: اجْتَمَعَ نِسَاءٌ. .
فَسَاقَ الْحَدِيثَ كُلَّهُ، وَجَاءَ مَرْفُوعًا أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُصْعَبٍ وَالدَّرَاوَرْدِيِّ عِنْدَ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ هِشَامٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الَمْدِينَةِ عَنْ عُرْوَةَ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ أَيْضًا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، وَقَدْ قَدَّمْتُ ذِكْرَ رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ دَاوُدَ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، كَذَلِكَ قَالَ عِيَاضٌ، وَكَذَا ظِاهِرُ رِوَايَةِ حَنْبَلِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ بِسَنَدِهِ الْمُتَقَدِّمِ؛ فَإِنَّ أَوَّلَهُ عِنْدَهُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ، ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ حَدِيثَ أُمِّ زَرْعٍ، قَالَ عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ أَنْشَأَ هُوَ عُرْوَةُ فَلَا يَكُونُ مَرْفُوعًا. وَأَخَذَ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الِاحْتِمَالَ فَجَزَمَ بِهِ وَزَعَمَ أَنَّ مَا عَدَاهُ وَهَمٌ، وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ الصَّحِيحَةِ ثُمَّ أَنْشَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ، وَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا، وَلَفْظُهُ: كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ، ثُمَّ أَنْشَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ، فَانْتَفَى الِاحْتِمَالُ.
وَيُقَوِّي رَفْعَ جَمِيعِهِ أَنَّ التَّشْبِيهَ الْمُتَّفَقَ عَلَى رَفْعِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ الْقِصَّةَ وَعَرَفَهَا فَأَقَرَّهَا فَيَكُونُ كُلُّهُ مَرْفُوعًا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَالْخَطِيبِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ النُّقَّادِ أَنَّ الْمَرْفُوعَ مِنْهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالْبَاقِيَ مَوْقُوفٌ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ هُوَ أَنَّ الَّذِي تَلَفَّظَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سَمِعَ الْقِصَّةَ مِنْ عَائِشَةَ هُوَ التَّشْبِيهُ فَقَطْ وَلَمْ يُرِيدُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَرْفُوعٍ حُكْمًا، وَيَكُونُ مَنْ عَكَسَ ذَلِكَ فَنَسَبَ قَصَّ الْقِصَّةِ مِنِ ابْتِدَائِهَا إِلَى انْتِهَائِهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاهِمًا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
قَوْلُهُ: (جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: التَّقْدِيرُ جَلَسَ جَمَاعَةٌ إِحْدَى عَشْرَةَ وَهُوَ مِثْلُ: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} وفِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ جَلَسَتْ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ فِي مُسْلِمٍ جَلَسْنَ بِالنُّونِ، وفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ اجْتَمَعَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ اجْتَمَعَتْ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى اجْتَمَعْنَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: زِيَادَةُ النُّونِ عَلَى لُغَةِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وَقَدْ أَثْبَتَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَاسْتَشْهَدُوا لَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ} وَحَدِيثِ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
بِحَوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أَقَارِبُهُ
وَقَوْلِهِ:
يُلُومُونَنِي فِي اشْتِرَاءِ النَّخِي
…
لِ قَوْمِي فَكُلُّهُمْ يَعْذِلُ
وَقَدْ تَكَلَّفَ بَعْضُ النُّحَاةِ رَدَّ هَذِهِ اللُّغَةِ إِلَى اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ وَهِيَ أَنْ لَا يُلْحَقَ عَلَامَةُ الْجَمْعِ وَلَا التَّثْنِيَةِ وَلَا التَّأْنِيثِ فِي الْفِعْلِ إِذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْأَسْمَاءِ، وَخَرَّجَ لَهَا وُجُوهًا وَتَقْدِيرَاتٍ فِي غَالِبِهَا نَظَرٌ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِهَا نَقْلًا وَصِحَّتِهَا اسْتِعْمَالًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: الْأَشْهَرُ مَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهُوَ تَوْحِيدُ الْفِعْلِ مَعَ الْجَمْعِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: حُذِفَ اكْتِفَاءً بِمَا ظَهَرَ، تَقُولُ مَثَلًا: قَامَ قَوْمُكَ فَلَوْ تَقَدَّمَ الِاسْمُ لَمْ يُحْذَفْ فَتَقُولُ قَوْمُكَ قَامَ بَلْ قَامُوا، وَمِمَّا يُوَجِّهُ مَا وَقَعَ هُنَا أَنْ يَكُونَ إِحْدَى عَشْرَةَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي اجْتَمَعْنَ، وَالنُّونُ عَلَى هَذَا ضَمِيرٌ لَا حَرْفٌ عَلَامَةٌ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ هُنَّ؟ فَقِيلَ: إِحْدَى عَشْرَةَ، أَوْ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، وَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إِحْدَى عَشْرَةَ نِسْوَةً، قَالَ: فَإِنْ كَانَ بِالنَّصْبِ احْتَاجَ إِلَى إِضْمَارِ أَعْنِي أَوْ بِالرَّفْعِ فَهُوَ بَدَلٌ مِنْ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا} قَالَ الْفَارِسِيُّ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَطَّعْنَاهُمْ وَلَيْسَ بِتَمْيِيزٍ اهـ. وَقَدْ جَوَّزَ غَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ تَمْيِيزًا بِتَأْوِيلٍ يَطُولُ شَرْحُهُ. وَوَقَعَ لِهَذَا الْحَدِيثِ سَبَبٌ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَخَرَتُ بِمَالِ أَبِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ أَلْفَ أَلْفِ أُوقِيَّةٍ - وَفِيهِ -، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اسْكُتِي يَا عَائِشَةُ؛ فَإِنِّي كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ.
وَوَقَعَ لَهُ سَبَبٌ آخَرُ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْحَكِيمِ بْنُ حِبَّانَ بِسَنَدٍ
لَهُ مُرْسَلٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عُفَيْرٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ جَبْرٍ الْمَغَافِرِيِّ،
(1)
قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَائِشَةَ وَفَاطِمَةَ وَقَدْ جَرَى بَيْنَهُمَا كَلَامٌ، فَقَالَ: مَا أَنْتِ بِمُنْتَهِيَةٍ يَا حُمَيْرَاءُ عَنِ ابْنَتِي، إِنَّ مِثْلِي وَمِثْلَكِ كَأَبِي زَرْعٍ مَعَ أُمِّ زَرْعٍ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنَا عَنْهُمَا، فَقَالَ: كَانَتْ قَرْيَةٌ فِيهَا إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً، وَكَانَ الرِّجَالُ خُلُوفًا، فَقُلْنَ: تَعَالَيْنَ نَتَذَاكَرْ أَزْوَاجَنَا بِمَا فِيهِمْ وَلَا نَكْذِبْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ بِلَفْظِ: كَانَ رَجُلٌ يُكَنَّى أَبَا زَرْعٍ وَامْرَأَتُهُ أُمُّ زَرْعٍ، فَتَقُولُ: أَحْسَنَ لِي أَبُو زَرْعٍ، وَأَعْطَانِي أَبُو زَرْعٍ، وَأَكْرَمَنِي أَبُو زَرْعٍ، وَفَعَلَ بِي أَبُو زَرْعٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي بَعْضُ نِسَائِهِ، فَقَالَ يَخُصُّنِي بِذَلِكَ: يَا عَائِشَةُ أَنَا لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَدِيثُ أَبِي زَرْعٍ وَأُمِّ زَرْعٍ؟ قَالَ: إِنَّ قَرْيَةً مِنْ قُرَى الْيَمَنِ كَانَ بِهَا بَطْنٌ مِنْ بُطُونِ الْيَمَنِ وَكَانَ مِنْهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً، وَأَنَّهُنَّ خَرَجْنَ إِلَى مَجْلِسٍ، فَقُلْنَ: تَعَالَيْنَ فَلْنَذْكُرْ بُعُولَتَنَا بِمَا فِيهِمْ وَلَا نَكْذِبْ، فَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَعْرِفَةُ جِهَةِ قَبِيلَتِهِنَّ وَبِلَادِهِنَّ، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْهَيْثَمِ أَنَّهُنَّ كُنَّ بِمَكَّةَ.
وَأَفَادَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِيمَا نَقَلَهُ عِيَاضٌ أَنَّهُنَّ كُنَّ مِنْ خَثْعَمٍ، وَهُوَ يُوَافِقُ رِوَايَةَ الزُّبَيْرِ أَنَّهُنَّ مِنْ أَهْلِ الَيْمَنْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُنَّ كُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَذَا عِنْدَ النَّسَائِيِّ فِي رِوَايَةِ عُقْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ هِشَامٍ، وَحَكَى عِيَاضٌ ثُمَّ النَّوَوِيُّ قَوْلَ الْخَطِيبِ فِي الْمُبْهَمَاتِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا سَمَّى النِّسْوَةَ الْمَذْكُورَاتِ فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ إِلَّا مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي أَذْكُرُهُ وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ سَاقَهُ أَيْضًا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْحَكِيمِ الْمَذْكُورُ مِنَ الطَّرِيقِ الْمُرْسَلَةِ الَّتِي قَدَّمْتُ ذِكْرَهَا فَإِنَّهُ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ بِسَنَدِهِ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنَ الطَّرِيقِ الْمُرْسَلَةِ، وَقَالَ: فَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَهُ، وَسَمَّى ابْنُ دُرَيْدٍ فِي الْوِشَاحِ أُمَّ زَرْعٍ عَاتِكَةَ، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ - يَعْنِي سِيَاقَ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ - أَنَّ الثَّانِيَةَ اسْمُهَا عَمْرَةُ بِنْتُ عَمْرٍو، وَاسْمُ الثَّالِثَةِ حُبَّى بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ مَقْصُورٌ بِنْتُ كَعْبٍ، وَالرَّابِعَةُ مَهْدَدُ بِنْتُ أَبِي هَزُومَةَ، وَالْخَامِسَةُ كَبْشَةُ، وَالسَّادِسَةُ هِنْدٌ، وَالسَّابِعَةُ حُبَّى بِنْتُ عَلْقَمَةَ، وَالثَّامِنَةُ بِنْتُ أَوْسِ بْنِ عَبْدٍ
(2)
، وَالْعَاشِرَةُ كَبْشَةُ بِنْتُ الْأَرْقَمِ اهـ، وْلَمْ يُسَمِّ الْأُولَى وَلَا التَّاسِعَةَ وَلَا أَزْوَاجَهُنَّ وَلَا ابْنَةَ أَبِي زَرْعٍ وَلَا أُمَّهُ وَلَا الْجَارِيَةَ وَلَا الْمَرْأَةَ الَّتِي تَزَوَّجَهَا أَبُو زَرْعٍ وَلَا الرَّجُلَ الَّذِي تَزَوَّجَتْهُ أُمُّ زَرْعٍ، وَقَدْ تَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّرَّاحِ بَعْدَهُ وَكَلَامُهُمْ يُوهِمُ أَنَّ تَرْتِيبَهُنَّ فِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ كَتَرْتِيبِ رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْأَوْلَى عِنْدَ الزُّبَيْرِ وَهِيَ الَّتِي لَمْ يُسَمِّهَا هِيَ الرَّابِعَةُ هنا، الثَّانِيَةُ فِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ هِيَ الثَّامِنَةُ هُنَا، والثَّالِثَةُ عِنْدَ الزُّبَيْرِ هِيَ الْعَاشِرَةُ هُنَا، وَالرَّابِعَةُ عِنْدَ الزُّبَيْرِ هِيَ الْأُولَى هُنَا، وَالْخَامِسَةُ عِنْدَهُ هِيَ التَّاسِعَةُ هُنَا، والسَّادِسَةُ عِنْدَهُ هِيَ السَّابِعَةُ هُنَا، وَالسَّابِعَةُ عِنْدَهُ هِيَ الْخَامِسَةُ هُنَا، وَالثَّامِنَةُ عِنْدَهُ هِيَ السَّادِسَةُ هُنَا، وَالتَّاسِعَةُ عِنْدَهُ هِيَ الثَّانِيَةُ هُنَا، وَالْعَاشِرَةُ عِنْدَهُ هِيَ الثَّالِثَةُ هُنَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ كَثِيرٌ مِنْ رُوَاةِ الْحَدِيثِ فِي تَرْتِيبِهِنَّ، وَلَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ وَلَا أَثَرَ لِلتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِيهِ، إِذ لَمْ يَقَعْ تَسْمِيَتُهُنَّ. نَعَمْ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ مُنَاسَبَةٌ، وَهِيَ سِيَاقُ الْخَمْسَةِ اللَّاتِي ذَمَمْنَ أَزْوَاجَهُنَّ عَلَى حِدَةٍ وَالْخَمْسَةُ اللَّاتِي مَدَحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ عَلَى حِدَةٍ، وَسَأُشِيرُ إِلَى تَرْتِيبِهِنَّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ السَّادِسَةِ هُنَا، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِ عُرْوَةَ عِنْدَ ذِكْرِ الْخَامِسَةِ، فَهَؤُلَاءِ خَمْسٌ يَشُكُونَ، وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَى رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ بِخُصُوصِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ التَّسْمِيَةِ مَعَ الْمُخَالَفَةِ فِي سِيَاقِ الْأَعْدَادِ، فَيَظُنُّ مِنْ
(1)
الأسود بن جبير غير مذكور في الإصابة وسائر السند يحتاج إلى تحقيق.
(2)
في نسخة أخرى: عبد ود.
لَمْ يَقِفْ عَلَى حَقِيقَةِ ذَلِكَ أَنَّ الثَّانِيَةَ الَّتِي سُمِّيَتْ عَمْرَةَ بِنْتَ عَمْرٍو هِيَ الَّتِي قَالَتْ: زَوْجِي لَا أَبُثُّ خَبَرَهُ، وَلَيْسَ كذَلِكَ بَلْ هِيَ الَّتِي قَالَتْ: زَوْجِيَ الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ، وَهَكَذَا إِلَخْ فَلِلتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ) أَيْ ألْزَمْنَ أَنْفُسَهُنَّ عَهْدًا، وَعَقَدْنَ عَلَى الصِّدْقِ مِنْ ضَمَائِرِهِنَّ عَقْدًا.
قَوْلُهُ: (أَنْ لَا يَكْتُمْنَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ وَعُقْبَةَ أَنْ يَتَصَادَقْنَ بَيْنَهُنَّ وَلَا يَكْتُمْنَ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَنْ يَنْعَتْنَ أَزْوَاجَهُنَّ وَيَصْدُقْنَ، وَفِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ فَتَبَايِعْنَ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (قَالَتِ الْأَوْلَى زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ، وَيَجُوزُ جَرُّهُ صِفَةً لِلْجَمَلِ وَرَفْعُهُ صِفَةً لِلَّحْمٍ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَةِ الْخَفْضُ، وَقَالَ ابْنُ نَاصِرٍ: الْجَيِّدُ الرَّفْعُ وَنَقْلَهُ عَنِ التَّبْرِيزِيِّ وَغَيْرِهِ، وَالْغَثُّ الْهَزِيلُ الَّذِي يُسْتَغَثُّ مِنْ هُزَالِهِ أَيْ يُسْتَتْرَكُ وَيُسْتَكْرَهُ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: غَثَّ الْجُرْحُ غثًّا وَغَثِيثًا إِذَا سَالَ مِنْهُ الْقَيْحُ وَاسْتَغَثَّهُ صَاحِبُهُ، وَمِنْهُ أَغَثُّ الْحَدِيثِ، وَمِنْهُ غَثَّ فُلَانٌ فِي خُلُقِهِ، وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مُقَابَلَةِ السَّمِينِ؛ فَيُقَالُ لِلْحَدِيثِ الْمُخْتَلِطِ: فِيهِ الْغَثُّ وَالسَّمِينُ.
قَوْلُهُ: (عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عُبَيدٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَعْرٍ، وَفِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ بْنِ بِكَارٍ وَعْثٍ وَهِيَ أَوْفَقُ لِلسَّجْع، وَالْأَوَّلُ ظَاهِرٌ أَيْ كَثِيرِ الضَّجَرِ شَدِيدِ الْغلظة يَصْعُبُ الرُّقِيُّ إِلَيْهِ، وَالْوَعْثُ بِالْمُثَلَّثَةِ الصَّعْبُ الْمُرْتَقَى بِحَيْثُ تُوحِلُ فِيهِ الْأَقْدَامُ فَلَا يَتَخَلَّصُ مِنْهُ ويَشُقُّ فِيهِ الْمَشْيُ، وَمِنْهُ وَعْثَاءُ السَّفَرِ.
قَوْلُهُ: (لَا سَهْلَ بِالْفَتْحِ بِلَا تَنْوِينٍ وَكَذَا وَلَا سَمِينَ، ويَجُوزُ فِيهَما الرَّفْعُ عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيْ لَا هُوَ سَهْلٌ وَلَا سَمِينٌ، وَيَجُوزُ الْجَرُّ عَلَى أَنَّهُمَا صِفَةُ جَمَلٍ وَجَبَلٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُقْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِالنَّصْبِ مِنْونًا فِيهِمَا لَا سَهْلًا وَلَا سَمِينًا، وَفِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ عِنْدَهُ لَا بِالسَّمِينِ وَلَا بِالسَّهْلِ، قَالَ عِيَاضٌ: أَحْسَنُ الْأَوْجُهِ عِنْدِيَ الرَّفْعُ فِي الْكَلِمَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَتَصْحِيحِ الْمَعْنَى لَا مِنْ جِهَةِ تَقْوِيمِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا أَوْدَعَتْ كَلَامَهَا تَشْبِيهَ شَيْئَيْنِ بِشَيْئَيْنِ: شَبَّهَتْ زَوْجَهَا بِاللَّحْمِ الْغَثِّ وَشَبَّهَتْ سُوءَ خُلُقِهِ بِالْجَبَلِ الْوَعِرِ، ثُمَّ فَسَّرَتْ مَا أَجْمَلَتْ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: لَا الْجَبَلُ سَهْلٌ فَلَا يَشُقُّ ارْتِقَاؤُهُ لِأَخْذِ اللَّحْمِ وَلَوْ كَانَ هَزِيلًا، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمَزْهُودَ فِيهِ قَدْ يُؤْخَذُ إِذَا وُجِدَ بِغَيْرِ نَصَبٍ، ثُمَّ قَالَت: وَلَا اللَّحْمُ سَمِينٌ فَيَتَحَمَّلُ الْمَشَقَّةَ فِي صُعُودِ الْجَبَلِ لِأَجْلِ تَحْصِيلِهِ.
قَوْلُهُ: (فَيُرْتَقَى أَيْ فَيُصْعَدُ فِيهِ وَهُوَ وَصْفٌ لِلْجَبَلِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِي لَا سَهْلَ فَيُرْتَقَى إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا سَمِينٍ فَيُنْتَقَلُ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَبِيدٍ فَيُنْتَقَى وَهَذَا وَصْفُ اللَّحْمِ، وَالْأَوَّلُ مِنَ الِانْتِقَالِ أَيْ أَنَّهُ لِهُزَالِهِ لَا يَرْغَبُ أَحَدٌ فِيهِ فَيُنْتَقَلُ إِلَيْهِ، يُقَالُ: انْتَقَلْتُ الشَّيْءَ أَيْ نَقَلْتُهُ، وَمَعْنَى يُنْتَقَى لَيْسَ لَهُ نِقْيٌ يُسْتَخْرَجُ، وَالنِّقْيُ الْمُخُّ، يُقَالُ: نَقَوْتُ الْعَظْمَ وَنَقَّيْتُهُ وَانْتَقَيْتُهُ إِذَا اسْتَخْرَجْتَ مُخَّهُ، وَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي اخْتِيَارِ الْجَيِّدِ مِنَ الرَّدِيءِ.
قَالَ عِيَاضٌ: أَرَادَتْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نِقْيٌ فَيْطُلَبُ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنَ النِّقْيِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ فِيهِ نِقْيٌ يُطْلَبُ اسْتِخْرَاجُهُ، قَالُوا: آخَرُ مَا يَبْقَى فِي الْجَمَلِ مُخُّ عَظْمِ الْمَفَاصِلِ وَمُخُّ الْعَيْنِ، وَإِذَا نَفِدَا لَمْ يَبْقَ فِيهِ خَيْرٌ، قَالُوا: وَصَفَتْهُ بِقِلَّةِ الْخَيْرِ وَبُعْدِهِ مَعَ الْقِلَّةِ، فَشَبَّهَتْهُ بِاللَّحْمِ الَّذِي صَغُرَتْ عِظَامُهُ عَنِ النِّقْيِ وَخَبُثُ طَعْمُهُ وَرِيحُهُ مَعَ كَوْنِهِ فِي مُرْتَقًى يَشُقُّ الْوُصُولُ إِلَيْهِ فَلَا يَرْغَبُ أَحَدٌ فِي طَلَبِهِ لِيَنْقُلَهُ إِلَيْهِ مَعَ تَوَفُّرِ دَوَاعِي أَكْثَرِ النَّاسِ عَلَى تَنَاوُلِ الشَّيْءِ الْمَبْذُولِ مَجَّانًا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فَسَّرَهُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ قَلِيلُ الْخَيْرِ مِنْ أَوْجُهٍ: مِنْهَا كَوْنُهُ كَلَحْمِ الْجَمَلِ لَا كَلَحْمِ الضَّأْنِ مَثَلًا، وَمِنْهَا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مَهْزُولٌ رَدِيءٌ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الضَّرِيرِ: لَيْسَ فِي اللُّحُومِ أَشَدُّ غَثَاثَةً مِنْ لَحْمِ الْجَمَلِ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ خُبْثَ الطَّعْمِ وَخُبْثَ الرِّيحِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ صَعْبُ التَّنَاوُلِ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، وَذَهَبَ الْخَطَّابِيُّ إِلَى أَنَّ تَشْبِيهَهَا بِالْجَبَلِ الْوَعِرِ إِشَارَةٌ إِلَى سُوءِ خُلُقِهِ، وَأَنَّهُ يَترْفِعُ وَيَتَكَبَّرُ وَيَسْمُو بِنَفْسِهِ فَوْقَ مَوْضِعِهَا، فَيَجْمَعُ الْبُخْلَ وَسُوءَ الْخُلُقِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: شَبَّهَتْ وُعُورَةَ خُلُقِهِ بِالْجَبَلِ
وَبُعْدَ خَيْرِهِ بِبُعْدِ اللَّحْمِ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ، وَالزُّهْدَ فِيمَا يُرْجَى مِنْهُ مَعَ قِلَّتِهِ وَتَعَذُّرِهِ بِالزُّهْدِ فِي لَحْمِ الْجَمَلِ الْهَزِيلِ، فَأَعْطَتِ التَّشْبِيهَ حَقَّهُ وَوَفَّتْهُ قِسْطَهُ.
قَوْلُهُ (قَالَتِ الثَّانِيَةُ: زَوْجِي لَا أَبُثُّ خَبَرَهُ بِالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ الْمُثَلَّثَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا عِيَاضٌ أَنُثُّ بِالنُّونِ بَدَلَ الْمُوَحِّدَةِ أَيْ لَا أُظْهِرُ حَدِيثَهُ، وَعَلَى رِوَايَةِ النُّونِ فَمُرَادُهَا حَدِيثُهُ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ، لِأَنَّ النَّثَّ بِالنُّونِ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ لَا أَنِمُّ بِنُونٍ وَمِيمٍ مِنَ النَّمِيمَةِ.
قَوْلُهُ (إِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا أَذَرَهُ أَيْ أَخَافُ أَنْ لَا أَتْرُكَ مِنْ خَبَرِهِ شَيْئًا، فَالضَّمِيرُ لِلْخَبَرِ أَيْ أَنَّهُ لِطُولِهِ وَكَثْرَتِهِ إِنْ بَدَأْتُهُ لَمْ أَقَدِرْ عَلَى تَكْمِيلِهِ، فَاكْتَفَتْ بِالْإِشَارَةِ إِلَى مَعَايِبِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَطُولَ الْخَطْبُ بِإِيرَادِ جَمِيعِهَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: أَخْشَى أَنْ لَا أَذَرَهُ مِنْ سُوءٍ، وَهَذَا تَفْسِيرُ ابْنِ السِّكِّيتِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ عُقْبَةَ بْنِ خَالِدٍ إِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا أَذَرَهُ، أَذْكُرُهُ وَأَذْكُرُ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الضَّمِيرُ لِزَوْجِهَا وَعَلَيْهِ يَعُودُ ضَمِيرُ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ بِلَا شَكٍّ كَأَنَّهَا خَشِيَتْ إِذَا ذَكَّرَتْ مَا فِيهِ أَنْ يَبْلُغَهُ فَيُفَارِقَهَا، فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: أَخَافُ أَنْ لَا أَقْدِرَ عَلَى تَرْكِهِ لِعَلَاقَتِي بِهِ وَأَوْلَادِي مِنْهُ، وَأَذَرَهُ بِمَعْنَى أُفَارِقُهُ فَاكْتَفَتْ بِالْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ لَهُ مَعَايِبَ وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَتْهُ مِنَ الصِّدْقِ وَسَكَتَتْ عَنْ تَفْسِيرِهَا لِلْمَعْنَى الَّذِي اعْتَذَرَتْ بِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ زَوْجِي مَنْ لَا أَذْكُرُهُ وَلَا أَبُثُّ خَبَرَهُ، وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِالسَّجْعِ.
قَوْلُهُ (عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتَحِ الْجِيمِ فِيهِمَا الْأَوَّلُ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَالثَّانِي بِمُوَحَّدَةٍ جَمْعُ عُجْرَةٍ وَبُجْرَةٍ بِضَمٍّ ثُمَّ سُكُونٍ، فَالْعُجْرَ تَعْقِدُ الْعَصَبَ وَالْعُرُوقَ فِي الْجَسَدِ حَتَّى تَصِيرَ نَاتِئَةً، وَالْبُجَرُ مِثْلُهَا إِلَّا أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالَّتِي تَكُونُ فِي الْبَطْنِ، قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ وغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْعُجْرَةُ نَفْخَةٌ فِي الظَّهْرِ وَالْبُجْرَةُ نَفْخَةٌ فِي السُّرَّةِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: الْعُجَرُ الْعُقَدُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبَطْنِ وَاللِّسَانِ، وَالْبُجْرُ الْعُيُوبُ. وَقِيلَ: الْعُجَرُ فِي الْجَنْبِ وَالْبَطْنِ، وَالْبُجْرُ فِي السُّرَّةِ. هَذَا أَصْلُهُمَا، ثُمَّ اسْتُعْمِلَا فِي الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَلَيٍّ يَوْمَ الْجَمَلِ: أَشْكُو إِلَى اللَّهِ عُجَرِي وَبُجَرِي. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: اسْتُعْمِلَا فِي الْمَعَايِبِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ حَبِيبٍ وَأَبُو عُبَيدٍ الْهَرَوِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيدِ بْنُ سَلَامٍ ثُمَّ ابْنُ السِّكِّيتِ: اسْتُعْمِلَا فِيمَا يَكْتُمُهُ الْمَرْءُ وَيُخْفِيهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَبِهِ جَزَمَ الْمُبَرِّدُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَرَادَتْ عُيُوبَهُ الظَّاهِرَةَ وَأَسْرَارَهُ الْكَامِنْةَ. قَالَ: وَلَعَلَّهُ كَانَ مَسْتُورَ الظَّاهِرِ رَدِيءَ الْبَاطِنِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الضَّرِيرُ: عَنَتْ أَنَّ زَوْجَهَا كَثِيرُ الْمَعَايِبِ مُتَعَقِّدُ النَّفْسِ عَنِ الْمَكَارِمِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْعُجَرُ الْعُقَدُ تَكُونُ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ، وَالْبُجْرُ تَكُونُ فِي الْقَلْبِ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: أَفْضَيْتُ إِلَيْهِ بِعُجَرِي وَبُجَرِي أَيْ بِأَمْرِي كُلِّهِ.
قَوْلُهُ (قَالَتِ الثَّالِثَةُ: زَوْجِيَ الْعَشَنَّقُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ وَآخِرُهُ قَافٌ، قَالَ أَبُو عُبَيدٍ وَجَمَاعَةٌ: هُوَ الطَّوِيلُ، زَادَ الثَّعَالِبِيُّ: الْمَذْمُومُ الطَّولِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ الطَّوِيلُ الْعُنُقِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: الصَّقْرُ مِنَ الرِّجَالِ الْمِقْدَامُ الْجَرِيءُ. وَحَكَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، عَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الْقَصِيرُ، ثُمَّ قَالَ: كَأَنَّهُ عِنْدَهُ مِنَ الْأَضْدَادِ، قَالَ: وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تُصُحِّفَ عَلَيْهِ بِمَا قَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَهُ عِيَاضٌ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: هُوَ الْمِقْدَامُ عَلَى مَا يُرِيدُ، الشَّرِسُ فِي أُمُورِهِ. وَقِيلَ: السَّيِّئُ الْخُلُقِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَرَادتْ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَه أَكْثَرَ مِنْ طُولِهِ بِغَيْرِ نَفْعٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الْمُسْتَكْرَهُ الطُّولِ، وَقِيلَ ذَمَّتْهُ بِالطُّولِ لِأَنَّ الطُّولَ فِي الْغَالِبِ دَلِيلُ السَّفَهِ، وَعُلِّلَ بِبُعْدِ الدِّمَاغِ عَنِ الْقَلْبِ. وَأَغْرَبَ مَنْ قَالَ: مَدَحَتْهُ بِالطُّولِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَتَمَدَّحُ بِذَلِكَ، وتعقب بأن سياقها يقتضي أنها ذمته. وَأَجَابَ عَنْهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ أَرَادَتْ مَدْحَ خَلْقِهِ وَذَمَّ خُلُقِهِ، فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: لَهُ مَنْظَرٌ بِلَا مَخْبَرٍ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الضَّرِيرُ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْعَشَنَّقَ الطَّوِيلُ النَّجِيبُ الَّذِي يَمْلِكُ أَمْرَ نَفْسِهِ وَلَا تَحَكَّمُ النِّسَاءُ فِيهِ بَلْ يَحْكُمُ فِيهِنَّ بِمَا شَاءَ، فَزَوْجَتُهُ تَهَابُهُ
أَنْ تَنْطِقَ بِحَضْرَتِهِ، فَهِيَ تَسْكُتُ عَلَى مَضَضٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهِيَ مِنَ الشِّكَايَةِ الْبَلِيغَةِ انْتَهَى.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ السِّكِّيتِ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي آخِرِهِ وَهُوَ عَلَى حَدِّ السِّنَانِ الْمُذَلَّقِ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيِ الْمُجَرَّدِ بِوَزْنِهِ وَمَعْنَاهُ، تُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَرَادَتْ بِهَذَا أَنَّهُ أَهْوَجُ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى حَالٍ كَالسِّنَانِ الشَّدِيدِ الْحِدَّةِ.
قَوْلُهُ (إِنَّ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ، وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ) أَيْ إِنْ ذَكَرْتُ عُيُوبَهُ فَيَبْلُغُهُ طَلَّقَنِي، وَإِنْ سَكَتُّ عَنْهَا فَأَنَا عِنْدَهُ مُعَلَّقَةٌ لَا ذَاتُ زَوْجٍ وَلَا أَيِّمٌ، كَمَا وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: أَنَا عِنْدَهُ لَا ذَاتُ بَعْلٍ فَأَنْتَفِعُ بِهِ، وَلَا مُطَلَّقَةٌ فَأَتَفَرَّغُ لِغَيْرِهِ، فَهِيَ كَالْمُعَلَّقَةِ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ لَا تَسْتَقِرُّ بِأَحَدِهِمَا، هَكَذَا تَوَارَدَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ تَبَعًا لِأَبِي عُبَيْدٍ. وَفِي الشِّقِّ الثَّانِي عِنْدِي نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُرَادَهَا لَانْطَلَقَتْ لِيُطَلِّقَهَا فَتَسْتَرِيحُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَيْضًا أَنَّهَا أَرَادَتْ وَصْفَ سُوءِ حَالِهَا عِنْدَهُ، فَأَشَارَتْ إِلَى سُوءِ خُلُقِهِ وَعَدَمِ احْتِمَالِهِ لِكَلَامِهَا إِنْ شَكَتْ لَهُ حَالَهَا، وَأَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّهَا مَتَى ذَكَرَتْ لَهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَادَرَ إِلَى طَلَاقِهَا وَهِيَ لَا تُؤْثِرُ تَطْلِيقَهُ لِمَحَبَّتِهَا فِيهِ، ثُمَّ عَبَّرَتْ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا إِنْ سَكَتَتْ صَابِرَةً عَلَى تِلْكَ الْحَالِ كَانَتْ عِنْدَهُ كَالْمُعَلَّقَةِ الَّتِي لَا ذَاتُ زَوْجٍ وَلَا أَيِّمٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهَا: أُعَلَّقْ مُشْتَقًّا مِنْ عَلَاقَةِ الْحُبِّ أَوْ مِنْ عَلَاقَةِ الْوَصْلَةِ، أَيْ إِنْ نَطَقْتُ طَلَّقَنِي وَإِنَّ سَكَتُّ اسْتَمَرَّ بِي زَوْجَةً، وَأَنَا لَا أُوثِرُ تَطْلِيقَهُ لِي فَلِذَلِكَ أَسْكُتُ. قَالَ عِيَاضٌ: أَوْضَحَتْ بِقَوْلِهَا عَلَى حَدِّ السِّنَانِ الْمُذَلَّقِ مُرَادَهَا بِقَوْلِهَا قَبْلُ إِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ، وَإِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ؛ أَيْ أَنَّهَا إِنْ حَادَتْ عَنِ السِّنَانِ سَقَطَتْ فَهَلَكَتْ، وَإِنِ اسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِ أَهْلَكَهَا.
قَوْلُهُ (قَالَتِ الرَّابِعَةُ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ، لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ، وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ) بِالْفَتْحِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ مَبْنِيَّةٌ مَعَ لَا عَلَى الْفَتْحِ، وَجَاءَ الرَّفْعُ مَعَ التَّنْوِينِ فِيهَا وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَكَأَنَّهُ أَشْبَعَ بِالْمَعْنَى أَيْ لَيْسَ فِيهِ حَرٌّ، فَهُوَ اسْمُ لَيْسَ وَخَبَرُهَا مَحْذُوفٌ، قَالَ: وَيُقَوِّيهِ مَا وَقَعَ مِنَ التَّكْرِيرِ، كَذَا قَالَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ الْبِنَاءُ عَلَى الْفَتْحِ فِي الْجَمِيعِ وَالرَّفْعُ مَعَ التَّنْوِينِ وَفَتْحُ الْبَعْضِ وَرَفْعُ الْبَعْضِ، وَذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا بَيْعَ فِيهِ وَلَا خُلَّةَ وَلَا شَفَاعَةَ، وَمِثْلِ:{فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَلَا بَرْدٌ بَدَلَ وَلَا قُرٌّ، زَادَ فِي رِوَايَةِ الْهَيْثَمِ وَلَا خَامَةَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ لَا تَقُلْ عِنْدَهُ، تَصِفُ زَوْجَهَا بِذَلِكَ وَأَنَّهُ لَيِّنُ الْجَانِبِ خَفِيفُ الْوَطْأَةِ عَلَى الصَّاحِبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَقِيَّةِ صِفَةِ اللَّيْلِ، وَفِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ وَالْغَيْثُ غَيْثُ غَمَامَةٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَرَادَتْ أَنْ لَا شَرَّ فِيهِ يُخَافُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَرَادَتْ بِقَوْلِهَا: وَلَا مَخَافَةَ أَيْ أَنَّ أَهْلَ تِهَامَةَ لَا يَخَافُونَ لِتَحَصُّنِهِمْ بِجِبَالِهَا، أَوْ أَرَادَتْ وَصْفَ زَوْجِهَا بِأَنَّهُ حَامِي الذِّمَارِ مَانِعٌ لِدَارِهِ وَجَارِهِ وَلَا مَخَافَةَ عِنْدَ مَنْ يَأْوِي إِلَيْهِ، ثُمَّ وَصَفَتْهُ بِالْجُودِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: قَدْ ضَرَبُوا الْمَثَلَ بِلَيْلِ تِهَامَةَ فِي الطِّيبِ لِأَنَّهَا بِلَادٌ حَارَّةٌ فِي غَالِبِ الزَّمَانِ، وَلَيْسَ فِيهَا رِيَاحٌ بَارِدَةٌ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ كَانَ وَهَجُ الْحَرِّ سَاكِنًا فَيَطِيبُ اللَّيْلِ لِأَهْلِهَا بِالنِّسْبَةِ لِمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ أَذَى حَرِّ النَّهَارِ، فَوَصَفَتْ زَوْجَهَا بِجَمِيلِ الْعِشْرَةِ وَاعْتِدَالِ الْحَالِ وَسَلَامَةِ الْبَاطِنِ؛ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: لَا أَذَى عِنْدَهُ وَلَا مَكْرُوهَ، وَأَنَا آمِنْةٌ مِنْهُ فَلَا أَخَافُ مِنْ شَرِّهِ، وَلَا مَلَلَ عِنْدَهُ فَيَسْأَمُ مِنْ عِشْرَتِي، أَوْ لَيْسَ بِسَيِّئِ الْخُلُقِ فَأَسْأَمُ مِنْ عِشْرَتِهِ، فَأَنَا لَذِيذَةُ الْعَيْشِ عِنْدَهُ كَلَذَّةِ أَهْلِ تِهَامَةَ بِلَيْلِهِمُ الْمُعْتَدِلِ.
قَوْلُهُ (قَالَتِ الْخَامِسَةُ: زَوْجِي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ، وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَهَد بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَهْدِ، وَصَفَتْهُ بِالْغَفْلَةِ عِنْدَ دُخُولِ الْبَيْتِ عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: شَبَّهَتْهُ فِي لِينِهِ وَغَفْلَتِهِ بِالْفَهْدِ، لِأَنَّهُ يُوصَفُ بِالْحَيَاءِ وَقِلَّةِ الشَّرِّ وَكَثْرَةِ النَّوْمِ. وَقَوْلُهُ أَسِدَ بِفَتْحِ الْأَلِفِ وَكَسْرِ السِّينِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَسَدِ أَيْ
يَصِيرُ بَيْنَ النَّاسِ مِثْلَ الْأَسَدِ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: تَصِفُهُ بِالنَّشَاطِ فِي الْغَزْوِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: مَعْنَاهُ إِنْ دَخَلَ الْبَيْتَ وَثْبَ عَلَيَّ وُثُوبِ الْفَهْدِ، وَإِنْ خَرَجَ كَانَ فِي الْإِقْدَامِ مِثْلَ الْأَسَدِ، فَعَلَى هَذَا يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ وَثَبَ عَلَى الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، فَالْأَوَّلُ تُشِيرُ إِلَى كَثْرَةِ جِمَاعِهِ لَهَا إِذَا دَخَلَ فَيَنْطَوِي تَحْتَ ذَلِكَ تَمَدُّحُهَا بِأَنَّهَا مَحْبُوبَةٌ لَدَيْهِ بِحَيْثُ لَا يَصْبِرُ عَنْهَا إِذَا رَآهَا، وَالذَّمُّ إِمَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ غَلِيظُ الطَّبْعِ لَيْسَتْ عِنْدَهُ مُدَاعَبَةٌ وَلَا مُلَاعَبَةٌ قَبْلَ الْمُوَاقَعَةِ، بَلْ يَثِبُ وَثَوْبًا كَالْوَحْشِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَانَ سَيِّئَ الْخُلُقِ يَبْطِشُ بِهَا وَيَضْرِبُهَا، وَإِذَا خَرَجَ عَلَى النَّاسِ كَانَ أَمْرُهُ أَشَدَّ فِي الْجَرْأَةِ وَالْإِقْدَامِ وَالْمَهَابَةِ كَالْأَسَدِ. قَالَ عِيَاضٌ: فِيهِ مُطَابَقَةٌ بَيْنَ خَرَجَ وَدَخَلَ لَفْظِيَّةٌ، وَبَيْنَ فَهِدَ وَأَسِدَ مَعْنَوِيَّةٌ، وَيُسَمَّى أَيْضًا الْمُقَابَلَةَ.
وَقَوْلُهَا: وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ يَحْتَمِلُ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ أَيْضًا، فَالْمَدْحُ بِمَعْنَى أَنَّهُ شَدِيدُ الْكَرَمِ كَثِيرُ التَّغَاضِي لَا يَتَفَقَّدُ مَا ذَهَبَ مِنْ مَالِهِ، وَإِذَا جَاءَ بِشَيْءٍ لِبَيْتِهِ لَا يَسْأَلُ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا يَرَى فِي الْبَيْتِ مِنَ الْمَعَايِبِ، بَلْ يُسَامِحُ وَيُغْضِي. وَيَحْتَمِلُ الذَّمَّ بِمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ مُبَالٍ بِحَالِهَا حَتَّى لَوْ عَرَفَ أَنَّهَا مَرِيضَةٌ أَوْ مُعْوَزَّةٌ وَغَابَ ثُمَّ جَاءَ لَا يَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَتَفَقَّدُ حَالَ أَهْلِهِ وَلَا بَيْتِهِ، بَلْ إِنْ عَرَضَتْ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَثَبَ عَلَيْهَا بِالْبَطْشِ وَالضَّرْبِ، وَأَكْثَرُ الشُّرَّاحِ شَرَحُوهُ عَلَى الْمَدْحِ، فَالتَّمْثِيلُ بِالْفَهْدِ مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ التَّكَرُّمِ أَوِ الْوُثُوبِ، وَبِالْأَسَدِ مِنْ جِهَةِ الشَّجَاعَةِ، وَبِعَدَمِ السُّؤَالِ مِنْ جِهَةِ الْمُسَامَحَةِ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: حَمَلَهُ الْأَكْثَرُ عَلَى الِاشْتِقَاقِ مِنْ خُلُقِ الْفَهْدِ إِمَّا مِنْ جِهَةِ قُوَّةِ وُثُوبِهِ وَإِمَّا مِنْ كَثْرَةِ نَوْمِهِ، وَلِهَذَا ضَرَبُوا الْمَثَلَ بِهِ فَقَالُوا: أَنْوَمُ مِنْ فَهْدٍ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ كَسْبِهِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْمَثَلِ أَيْضًا: أَكْسَبُ مِنْ فَهْدٍ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْفُهُودَ الْهَرِمَةَ تَجْتَمِعُ عَلَى فَهْدٍ مِنْهَا فَتِيٍّ فَيَتَصَيَّدُ عَلَيْهَا كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى يُشْبِعَهَا، فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: إِذَا دَخَلَ الْمَنْزِلَ دَخَلَ مَعَهُ بِالْكَسْبِ لِأَهْلِهِ كَمَا يَجِيءُ الْفَهْدُ لِمَنْ يَلُوذُ بِهِ مِنَ الْفُهُودِ الْهَرِمَةِ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ فِي وَصْفِهَا لَهُ بِخُلُقِ الْفَهْدِ مَا قَدْ يَحْتَمِلُ الذَّمَّ مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ النَّوْمِ رَفَعَتِ اللَّبْسَ بِوَصْفِهَا لَهُ بِخُلُقِ الْأَسَدِ، فَأَفْصَحَتْ أَنَّ الْأَوَّلَ سَجِيَّةُ كَرَمٍ وَنَزَاهَةُ شَمَائِلَ وَمُسَامَحَةٌ فِي الْعِشْرَةِ، لَا سَجِيَّةُ جُبْنٍ وَجوْرٍ فِي الطَّبْعِ.
قَالَ عِيَاضٌ: وَقَدْ قَلَبَ الْوَصْفَ بَعْضُ الرُّوَاةِ يَعْنِي كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ، فَقَالَ: إِذَا دَخَلَ أَسِدَ وَإِذَا خَرَجَ فَهِدَ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَجْلِسِهِ كَانَ عَلَى غَايَةِ الرَّزَانَةِ وَالْوَقَارِ وَحُسْنِ السَّمْتِ، أَوْ عَلَى الْغَايَةِ مِنْ تَحْصِيلِ الْكَسْبِ، وَإِذَا دَخَلَ مَنْزِلَهُ كَانَ مُتَفَضِّلًا مُوَاسِيًا لِأَنَّ الْأَسَدَ يُوصَفُ بِأَنَّهُ إِذَا افْتَرَسَ أَكَلَ مِنْ فَرِيسَتِهِ بَعْضًا وَتَرَكَ الْبَاقِيَ لَمِنْ حَوْلَهُ مِنَ الْوُحُوشِ وَلِمَ يُهَاوِشْهُمْ عَلَيْهَا، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ فِي آخِرِهِ: وَلَا يَرْفَعُ الْيَوْمَ لِغَدٍ، يَعْنِي لَا يُدْخِر مًّا حَصَلَ عِنْدَهُ الْيَوْمَ مِنْ أَجْلِ الْغَدِ، فَكَنَّتْ بِذَلِكَ عَنْ غَايَةِ جُودِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِالْحَزْمِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ فَلَا يُؤَخِّرُ مَا يَجِبُ عَمَلُهُ الْيَوْمَ إِلَى غَدِهِ.
قَوْلُهُ (قَالَتِ السَّادِسَةُ: زَوْجِي إِنَّ أَكَلَ لَفَّ، وَإِنَّ شَرِبَ اشْتَفَّ، وَإِنِ اضْطَجَعَ الْتَفَّ، وَلَا يُولِجُ الْكَفَّ لِيَعْلَمَ الْبَثَّ فِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ إِذَا أَكَلَ اقْتَفَّ وَفِيهِ وَإِذَا نَامَ بَدَلَ اضْطَجَعَ، وَزَادَ وَإِذَا ذَبَحَ اغْتَثَّ أَيْ تَحَرَّى الْغَثَّ وَهُوَ الْهَزِيلُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي شَرْحِ كَلَامِ الْأُولَى. وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ وَلَا يُدْخِلُ بَدَلَ يُولِجُ وإِذَا رَقَدَ بَدَلَ اضْطَجَعَ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَالطَّبَرَانِيِّ فَيَعْلَمُ بِالْفَاءِ بَدَلَ اللَّامِ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ بِاللَّفِّ الْإِكْثَارُ مِنْهُ وَاسْتِقْصَاؤُهُ حَتَّى لَا يَتْرُكَ مِنْهُ شَيْئًا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْإِكْثَارُ مَعَ التَّخْلِيطِ، يُقَالُ: لَفَّ الْكَتِيبَةَ بِالْأُخْرَى إِذَا خَلَطَهَا فِي الْحَرْبِ، وَمِنْهُ اللَّفِيفُ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَتْ أَنَّهُ يَخْلِطُ صُنُوفَ الطَّعَامِ مِنْ نَهْمَتِهِ وَشَرَهِهِ ثُمَّ لَا يُبْقِي مِنْهُ شَيْئًا. وَحَكَى عِيَاضٌ رِوَايَةَ مَنْ رَوَاهُ رَفَّ بِالرَّاءِ بَدَلَ اللَّامِ، قَالَ: وَهِيَ بِمَعْنَاهَا، وَرِوَايَةِ مِنْ رَوَاهُ اقْتَفَّ بِالْقَافِ، قَالَ: وَمَعْنَاهُ التَّجْمِيعُ، قَالَ الْخَلِيلُ: قَفَافُ
كُلِّ شَيْءٍ جِمَاعُهُ وَاسْتِيعَابُهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْقُفَّةُ لِجَمْعِهَا مَا وُضِعَ فِيهَا، وَالِاشْتِفَافُ فِي الشُّرْبِ اسْتِقْصَاؤُهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشُّفَافَةِ بِالضَّمِّ وَالتَّخْفِيفِ وَهِيَ الْبَقِيَّةُ تَبْقَى فِي الْإِنَاءِ، فَإِذَا شَرِبَهَا الَّذِي شَرِبَ الْإِنَاءَ، قِيلَ: اشْتَفَّهَا. وَمِنْهُمْ مِنْ رَوَاهَا بِالْمُهْمَلَةِ وَهِيَ بِمَعْنَاهَا.
وَقَوْلُهُ الْتَفَّ أَيْ رَقَدَ نَاحِيَةً وَتَلَفَّفَ بِكِسَائِهِ وَحْدَهُ وَانْقَبَضَ عَنْ أَهْلِهِ إِعْرَاضًا، فَهِيَ كَئِيبَةٌ حَزِينَةٌ لِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَتْ: وَلَا يُولِجُ الْكَفَّ لِيَعْلَمَ الْبَثَّ، أَيْ لَا يَمُدُّ يَدَهُ لِيَعْلَمَ مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُزْنِ فَيُزِيلَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَرَادَتْ أَنَّهُ يَنَامُ نَوْمَ الْعَاجِزِ الْفَشِلِ الْكَسِلِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَثِّ الْحُزْنُ وَيُقَالُ شِدَّةُ الْحُزْنِ، وَيُطْلَقَ الْبَثُّ أَيْضًا عَلَى الشَّكْوَى وَعَلَى الْمَرَضِ وَعَلَى الْأَمْرِ الَّذِي لَا يُصْبَرُ عَلَيْهِ، فَأَرَادَتْ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي يَقَعُ اهْتِمَامُهَا بِهِ، فَوَصَفَتْهُ بِقِلَّةِ الشَّفَقَةِ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ أن لَوْ رَآهَا عَلِيلَةً لَمْ يُدْخِلْ يَدَهُ فِي ثَوْبِهَا لِيَتَفَقَّدَ خَبَرَهَا كَعَادَةِ الْأَجَانِبِ فَضْلًا عَنِ الْأَزْوَاجِ، أَوْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَرْكِ الْمُلَاعَبَةِ أَوْ عَنْ تَرْكِ الْجِمَاعِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كَانَ فِي جَسَدِهَا عَيْبٌ فَكَّانِ لَا يُدْخِلُ يَدَهُ فِي ثَوْبِهَا لِيَلْمِسِ ذَلِكَ الْعَيْبَ لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَيْهَا، فَمَدَحَتْهُ بِذَلِكَ. وَقَدْ تَعَقَّبَهُ كُلُّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ إِلَّا النَّادِرَ، وقَالُوا: إِنَّمَا شَكَتْ مِنْهُ وَذَمَّتْهُ وَاسْتَقْصَرَتْ حَظَّهَا مِنْهُ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهَا قَبْلُ: وَإِذَا اضْطَجَعَ الْتَفَّ كَأَنَّهَا قَالَتْ إِنَّهُ يَتَجَنَّبُهَا وَلَا يُدْنِيهَا مِنْهُ وَلَا يُدْخِلُ يَدَهِ فِي جَنْبِهَا فَيَلْمِسُهَا وَلَا يُبَاشِرُهَا وَلَا يَكُونُ مِنْهُ مَا يَكُونُ مِنَ الرِّجَالِ، فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ مَحَبَّتُهَا لَهُ وَحُزْنُهَا لِقِلَّةِ حَظِّهَا مِنْهُ، وَقَدْ جَمَعَتْ فِي وَصْفِهَا لَهُ بَيْنَ اللُّؤْمِ وَالْبُخْلِ وَالْنهِمَّةِ وَالْمَهَانَةِ وَسُوءِ الْعِشْرَةِ مَعَ أَهْلِهِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَذُمُّ بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَتَتَمَدَّحُ بِقِلَّتِهَمَا وَبِكَثْرَةِ الْجِمَاعِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى صحةِ الذُّكُورِيَّةِ والفُحُولِيَّةِ. وَانْتَصَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، لِأَبِي عُبَيْدٍ، فَقَالَ: لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تَجْمَعَ الْمَرْأَةُ بَيْنَ مَثَالِبِ زَوْجِهَا ومِنْاقِبِهِ، لِأَنَّهُنَّ كُنْ تَعَاهَدْنَ أَنْ لَا يَكْتُمْنَ مِنْ صِفَاتِهِمْ شَيْئًا، فَمِنْهُنَّ مِنْ وَصَفَتْ زَوْجَهَا بِالْخَيْرِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَمِنْهُنَّ مِنْ وَصْفَتْهُ بِضِدِّ ذَلِكَ، وَمِنْهُنَّ مِنْ جَمَعَتْ.
وَارْتَضَى الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الِانْتِصَارَ، وَاسْتَدَلَّ عِيَاضٌ لِلْجُمْهُورِ بِمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الْحُسَامِ أَنَّ عُرْوَةَ ذَكَرَ هَذِهِ فِي الْخَمْسِ اللَّاتِي يَشُكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ، فَإِنه ذَكَرَ فِي رِوَايَتِهِ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَاتِ هُنَا أَوَّلًا عَلَى الْوَلَاءِ، ثُمَّ السَّابِعَةَ الْمَذْكُورَةَ عَقِبَ هَذَا، ثُمَّ السَّادِسَةَ هَذِهِ فَهِيَ خَامِسَةٌ عِنْدَهُ، وَالسَّابِعَةُ رَابِعَةٌ، قَالَ: وَيُؤَيِّدُ أَيْضًا قَوْلَ الْجُمْهُورِ كَثْرَةُ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ لِهَذِهِ الْكِنَايَةِ عَنْ تَرْكِ الْجِمَاعِ وَالْمُلَاعَبَةِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ فِي قِصَّةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَعَ زَوْجِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو حَيْثُ سَأَلَهَا عَنْ حَالِهَا مَعَ زَوْجِهَا فَقَالَتْ: هُوَ كَخَيْرِ الرِّجَالِ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا، وَسَبَقَ أَيْضًا في حَدِيثِ الْإِفْكِ قَوْلُ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ: مَا كَشَفْتُ كَنَفَ أُنْثَى قَطُّ، فَعَبَّرَ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالنِّسَاءِ بِكَشْفِ الْكَنَفِ وَهُوَ الْغِطَاءُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهَا وَلَا يُولِجُ الْكَفَّ كِنَايَةً عَنْ تَرْكِ تَفَقُّدِهِ أُمُورَهَا وَمَا تَهْتَمُّ بِهِ مِنْ مَصَالِحِهَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: لَمْ يُدْخِلْ يَدَهُ فِي الْأَمْرِ أَيْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِهِ وَلَمْ يَتَفَقَّدْهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ احْتِمَالًا جَزَمَ بِمَعْنَاهُ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ لَا يَنْظُرُ فِي أَمْرِ أَهْلِهِ وَلَا يُبَالِي أَنْ يَجُوعُوا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ نَاصِحٍ: مَعْنَاهُ لَا يَتَفَقَّدُ أُمُورِي لِيَعْلَمَ مَا أَكْرَهُهُ فَيُزِيلَهُ، يُقَالُ: مَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْأَمْرِ أَيْ لَمْ يَتَفَقَّدْهُ.
قَوْلُهُ (قَالَتِ السَّابِعَةُ: زَوْجِي غَيَايَاءُ أَوْ عَيَايَاءُ كَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ خَفِيفَةٌ ثُمَّ أُخْرَى بَعْدَ الْأَلِفِ الْأُولَى وَالَّتِي بَعْدَهَا بِمُهْمَلَةٍ، وَهُوَ شَكٌّ مِنْ رَاوِي الْخَبَرِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَبُو يُعْلَى فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ خَبَّابٍ عَنْهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ غَيَايَاءُ بِمُعْجَمَةٍ بِغَيْرِ شَكٍّ، والْغَيَايَاءُ الطَّبَاقَاءُ الْأَحْمَقُ الَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْعَيَايَاءُ بِالْمُهْمَلَةِ الَّذِي لَا يَضْرِبُ وَلَا يُلَقِّحُ مِنَ الْإِبِلِ وَبِالْمُعْجَمَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالطَّبَاقَاءِ الْأَحْمَقُ الْفَدْمُ: وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الطَّبَاقَاءُ الَّذِي لَا
يُحْسِنُ الضِّرَابَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَأْكِيدًا لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِمْ بُعْدًا وَسُحْقًا. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: قَوْلُهُ غَيَايَاءُ بِالْمُعْجَمَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغَيِّ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَبِالْمُهْمَلَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِيِّ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْعَيَايَاءُ بِالْمُهْمَلَةِ الْعِيُّ الَّذِي تُعْيِيهِ مُبَاضَعَةُ النِّسَاءِ، وَأَرَاهُ مُبَالَغَةً مِنَ الْعِيِّ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: هُوَ الْعَيِيُّ الَّذِي لَا يَهْتَدِي. وَقَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: الْغَيَايَاءُ بِالْمُعْجَمَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنَ الْغَيَايَةِ وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ أَظَلَّ الشَّخْصَ فَوْقَ رَأْسِهِ، فَكَأَنَّهُ مُغَطًّى عَلَيْهِ مِنْ جَهْلِهِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ احْتِمَالًا جَزَمَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَائِقِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: غَيَايَاءُ بِالْمُعْجَمَةِ صَحِيحٌ، وَهُوَ مأخوذٌ مِنَ الْغَيايَةِ وَهِيَ الظُّلْمَةُ، وَكُلُّ مَا أَظَلَّ الشَّخْصَ، وَمَعْنَاهُ لَا يَهْتَدِي إِلَى مَسْلَكٍ.
أَوْ أَنَّهَا وَصَفَتْهُ بِثِقَلِ الرُّوحِ، وَأَنَّهُ كَالظِّلِّ الْمُتَكَاثِفِ الظُّلْمَةِ الَّذِي لَا إِشْرَاقَ فِيهِ، أَوْ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنَّهُ غُطِّيَتْ عَلَيْهِ أُمُورُهُ. أَوْ يَكُونُ غَيَايَاءُ مِنَ الْغَيِّ وَهُوَ الِانْهِمَاكُ فِي الشَّرِّ، أَوْ مِنَ الْغَيِّ الَّذِي هُوَ الْخَيْبَةُ. قَالَ تَعَالَى:{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الطَّبَاقَاءُ الْمُطْبِقُ عَلَيْهِ حُمْقًا. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الَّذِي تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أُمُورُهُ. وَعَنِ الْجَاحِظِ: الثَّقِيلُ الصَّدْرِ عِنْدَ الْجِمَاعِ يَنْطَبِقُ صَدْرُهُ عَلَى صَدْرِ الْمَرْأَةِ فَيَرْتَفِعُ سُفْلُهُ عَنْهَا، وَقَدْ ذَمَّتِ امْرَأَةٌ امْرَأَ الْقَيْسِ فَقَالَتْ لَهُ: ثَقِيلُ الصَّدْرِ، خَفِيفُ الْعُجُزِ، سَرِيعُ الْإِرَاقَةِ، بَطِيءُ الْإِفَاقَةِ.
قَالَ عِيَاضٌ: وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ وَصْفِهَا لَهُ بِالْعَجْزِ عِنْدَ الْجِمَاعِ وَبَيْنَ وَصْفِهَا بِثَقِلِ الصَّدْرِ فِيهِ لِاحْتِمَالِ تَنْزِيلِهِ عَلَى حَالَتَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا مَذْمُومٌ، أَوْ يَكُونُ إِطْبَاقُ صَدْرِهِ مِنْ جُمْلَةِ عَيْبِهِ وَعَجْزِهِ وَتَعَاطِيهِ مَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ، لَكِنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَى مَنْ فَسَّرَ عَيَايَاءَ بِأَنَّهُ الْعِنِّينُ. وَقَوْلُهَا كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ أَيْ كُلُّ شَيْءٍ تَفَرَّقَ فِي النَّاسِ مِنَ الْمَعَايِبِ مَوْجُودٌ فِيهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهَا لَهُ دَاءٌ خَبَرًا لِـ كُلُّ، أَيْ أَنَّ كُلَّ دَاءٍ تَفَرَّقَ فِي النَّاسِ فَهُوَ فِيهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ صِفَةً لِدَاءٍ، وَدَاءٌ خَبَر لِـ كُلُّ، أَيْ كُلُّ دَاءٍ فيه فِي غَايَةِ التَّنَاهِي، كَمَا يُقَالُ: إِنَّ زَيْدًا لَزَيْدٌ، وَإِنَّ هَذَا الْفَرَسَ لَفَرَسٌ. قَالَ عِيَاضٌ: وَفِيهِ مِنْ لَطِيفِ الْوَحْيِ وَالْإِشَارَةِ الغاية لِأَنَّهُ انْطَوَى تَحْتَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ كَلَامٌ كَثِيرٌ. وَقَوْلُهَا: شَجَّكِ بِمُعْجَمَةٍ أَوَّلَهُ وَجِيمٍ ثَقِيلَةٍ أَيْ جَرَحَكِ فِي رَأْسِكِ، وَجِرَاحَاتُ الرَّأْسِ تُسَمَّى شِجَاجًا وَقَوْلُهَا: أَوْ فَلَّكِ بِفَاءٍ ثُمَّ لَامٍ ثَقِيلَةٍ أَيْ جَرَحَ جَسَدَكِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
بِهِنَّ فُلُولٌ
أَيْ ثُلَمٌ جَمْعُ ثُلْمَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَزَعَ مِنْكِ كُلَّ مَا عِنْدَكِ أَوْ كَسَرَكِ بِسَلَاطَةِ لِسَانِهِ وَشِدَّةِ خُصُومَتِهِ. زَادَ ابْنُ السِّكِّيتِ فِي رِوَايَتِهِ أَوْ بَجَّكِ بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ جِيمٍ، أَيْ طَعَنَكِ فِي جِرَاحَتِكِ فَشَقَّهَا، وَالْبَجُّ شَقُّ الْقُرْحَةِ، وَقِيلَ: هُوَ الطَّعْنَةُ. وَقَوْلُهَا أَوْ جَمَعَ كُلًّا لَكِ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ إِنْ حَدَّثْتِهِ سَبَّكِ، وَإِنْ مَازَحْتِهِ فَلَّكِ، وَإِلَّا جَمَعَ كُلًّا لَكِ، وَهِيَ تُوَضِّحُ أَنَّ أَوْ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ لِلتَّقْسِيمِ لَا لِلتَّخْيِيرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَرَادَتْ أَنَّهُ ضَرُوبٌ لِلنِّسَاءِ، فَإِذَا ضَرَبَ إِمَّا أَنْ يَكْسِرَ عَظْمًا أَوْ يَشُجَّ رَأْسًا أَوْ يَجْمَعَهُمَا. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْفَلِّ الطَّرْدَ وَالْإِبْعَادَ، وَبِالشَّجِّ الْكَسْرَ عِنْدَ الضَّرْبِ، وَإِنْ كَانَ الشَّجُّ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي جِرَاحَةِ الرَّأْسِ. قَالَ عِيَاضٌ: وَصَفَتْهُ بِالْحُمْقِ، وَالتَّنَاهِي فِي سُوءِ الْعِشْرَةِ، وَجَمْعِ النَّقَائِصِ بِأَنْ يَعْجِزَ عَنْ قَضَاءِ وَطَرِهَا مَعَ الْأَذَى، فَإِذَا حَدَّثَتْهُ سَبَّهَا، وَإِذَا مَازَحَتْهُ شَجَّهَا، إِذَا أَغْضَبَتْهُ كَسَرَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهَا أَوْ شَقَّ جِلْدَهَا أَوْ أَغَارَ عَلَى مَالِهَا أَوْ جَمَعَ كُلَّ ذَلِكَ مِنَ الضَّرْبِ وَالْجَرْحِ وَكَسْرِ الْعُضْوِ وَمُوجِعِ الْكَلَامِ وَأَخَذِ الْمَالِ.
قَوْلُهُ (قَالَتِ الثَّامِنْةُ: زَوْجِي الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ زَادَ الزُّبَيْرُ فِي رِوَايَتِهِ وَأَنَا أَغْلِبُهُ وَالنَّاسَ يَغْلِبُ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ عُقْبَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ عُمَرَ عِنْدَهُ، وَكَذَا لِلطَّبَرَانِي لَكِنْ بِلَفْظِ وَنَغْلِبُهُ بِنُونِ الْجَمْعِ، وَالْأَرْنَبُ دُوَيْبَةٌ لَيِّنَةُ الْمَسِّ نَاعِمَةُ الْوَبَرِ جِدًّا، وَالزَّرْنَبُ بِوَزْنِ الْأَرْنَبِ لَكِنَّ أَوَّلَهُ زَايٌ وَهُوَ نَبْتٌ طَيِّبُ الرِّيحِ، وَقِيلَ: هُوَ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ بِالشَّامِ بِجَبَلِ لُبْنَانَ لَا تُثْمِرُ لَهَا وَرَقٌ بَيْنَ الْخُضْرَةِ وَالصُّفْرَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ
عِيَاضٌ، وَاسْتَنْكَرَهُ ابْنُ الْبَيْطَارِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْمُفْرَدَاتِ، وَقِيلَ: هُوَ حَشِيشَةٌ دَقِيقَةٌ طَيِّبَةُ الرَّائِحَةِ وَلَيْسَتْ بِبِلَادِ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانُوا ذَكَرُوهَا، قَالَ الشَّاعِرُ:
يَا بِأَبِي أَنْتَ وَفُوكَ الْأَشْنَبُ
…
كَأَنَّمَا ذُرَّ عَلَيْهِ الزَّرْنَبُ وَقِيلَ: هُوَ الزَّعْفَرَانُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَاللَّامُ فِي الْمَسِّ وَالرِّيحِ نَائِبَةٌ عَنِ الضَّمِيرِ أَيْ مَسُّهُ وَرِيحُهُ. أَوْ فِيهِمَا حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ الرِّيحُ مِنْهُ وَالْمَسُّ مِنْهُ، كَقَوْلِهِمْ: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ. وَصَفَتْهُ بِأَنَّهُ لَيِّنُ الْجَسَدِ نَاعِمُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كَنَّتْ بِذَلِكَ عَنْ حُسْنِ خُلُقِهِ وَلِينِ عَرِيكَتِهِ بِأَنَّهُ طَيَّبُ الْعَرَقِ لِكَثْرَةِ نَظَافَتِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ الطِّيبَ تَظَرُّفًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كَنَّتْ بِذَلِكَ عَنْ طِيبِ حَدِيثِهِ أَوْ طِيبِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِجَمِيلِ مُعَاشَرَتِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَأَنَا أَغْلِبُهُ وَالنَّاسَ يَغْلِبُ فَوَصَفَتْهُ مَعَ جَمِيلِ عِشْرَتِهِ لَهَا وَصَبْرِهِ عَلَيْهَا بِالشَّجَاعَةِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ مُعَاوِيَةُ: يَغْلِبْنَ الْكِرَامَ وَيَغْلِبُهُنَّ اللِّئَامُ، قَالَ عِيَاضٌ: هَذَا مِنَ التَّشْبِيهِ بِغَيْرِ أَدَاةٍ، وَفِيهِ حُسْنُ الْمُنَاسَبَةِ وَالْمُوَازِنَةِ وَالتَّسْجِيعِ. وَأَمَّا قَوْلُهَا: وَالنَّاسَ يَغْلِبُ؛ فَفِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْبَدِيعِ يُسَمَّى التَّتْمِيمَ، لِأَنَّهَا لَوِ اقْتَصَرَتْ عَلَى قَوْلِهَا: وَأَنَا أَغْلِبُهُ لَظُنَّ أَنَّهُ جَبَانٌ ضَعِيفٌ، فَلَمَّا قَالَتْ: وَالنَّاسَ يَغْلِبُ دَلَّ عَلَى أَنَّ غَلْبَهَا إِيَّاهُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ كَرَمِ سَجَايَاهُ؛ فَتَمَّمَتْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْمبَالِغَةِ فِي حُسْنِ أَوْصَافِهِ.
قَوْلُهُ (قَالَتِ التَّاسِعَةُ: زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ، طَوِيلُ النِّجَادِ، عَظِيمُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادِ) زَادَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي رِوَايَتِهِ: لَا يَشْبَعُ لَيْلَةً يُضَافُ وَلَا يَنَامُ لَيْلَةً يَخَافُ، وَصَفَتْهُ بِطُولِ الْبَيْتِ وَعُلُوِّهِ فَإِنَّ بُيُوتَ الْأَشْرَافِ كَذَلِكَ يُعْلُونَهَا وَيَضْرِبُونَهَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمُرْتَفِعَةِ لِيَقْصِدَهُمُ الطَّارِقُونَ وَالْوَافِدُونَ، فَطُولُ بُيُوتِهِمْ إِمَّا لِزِيَادَةِ شَرَفِهِمْ أَوْ لِطُولِ قَامَاتِهِمْ، وَبُيُوتُ غَيْرِهِمْ قِصَارٌ، وَقَدْ لَهِجَ الشُّعَرَاءُ بِمَدْحِ الْأَوَّلِ وَذَمِّ الثَّانِي كَقَوْلِهِ:
قِصَارُ الْبُيُوتِ لَا تَرَى صِهْوَاتِهَا،
وَقَالَ آخَرُ:
إِذَا دَخَلُوا بُيُوتَهُمْ أَكَبُّوا
…
عَلَى الرُّكْبَاتِ مِنْ قِصَرِ الْعِمَادِ
وَمِنْ لَازِمِ طُولِ الْبَيْتِ أَنْ يَكُونَ مُتَّسِعًا فَيَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْحَاشِيَةِ وَالْغَاشِيَةِ، وَقِيلَ: كَنَّتْ بِذَلِكَ عَنْ شَرَفِهِ وَرِفْعَةِ قَدْرِهِ. وَالنِّجَادُ بِكَسْرٍ النُّونِ وَجِيمٍ خَفِيفَةٍ حَمَّالَةُ السَّيْفِ، تُرِيدُ أَنَّهُ طَوِيلُ الْقَامَةِ يَحْتَاجُ إِلَى طُولِ نِجَادِهِ، وَفِي ضِمْنِ كَلَامِهَا أَنَّهُ صَاحِبُ سَيْفٍ فَأَشَارَتْ إِلَى شَجَاعَتِهِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَادَحُ بِالطُّولِ وَتَذُمُّ بِالْقِصَرِ. وَقَوْلُهَا عَظِيمُ الرَّمَادِ تَعْنِي أَنَّ نَارَ قِرَاهُ لِلْأَضْيَافِ لَا تُطْفَأُ لِتَهْتَدِيَ الضِّيفَانُ إِلَيْهَا فَيَصِيرُ رَمَادُ النَّارِ كَثِيرًا لِذَلِكَ، وَقَوْلُهَا قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادْ وَقَفَتْ عَلَيْهَا بِالسُّكُونِ لِمُؤَاخَاةِ السَّجْعِ، وَالنَّادِي وَالنَّدِّيُّ مَجْلِسُ الْقَوْمِ، وَصَفَتْهُ بِالشَّرَفِ فِي قَوْمِهِ، فَهُمْ إِذَا تَفَاوَضُوا وَاشْتَوَرُوا فِي أَمْرٍ أَتَوْا فَجَلَسُوا قَرِيبًا مِنْ بَيْتِهِ فَاعْتَمَدُوا عَلَى رَأْيِهِ وَامْتَثَلُوا أَمْرَهُ، أَوْ أَنَّهُ وَضَعَ بَيْتَهُ فِي وَسَطِ النَّاسِ لِيَسْهُلَ لِقَاؤُهُ، وَيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْوَارِدِ وَطَالِبِ الْقِرَى، قَالَ زُهَيْرٌ:
بَسَطَ الْبُيُوتَ لِكَيْ يَكُونَ مَظِنَّةً
…
مِنْ حَيْثُ تُوضَعُ جَفْنَةُ الْمُسْتَرْفدِ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُرِيدَ أَنْ أَهْلَّ النَّادِي إِذَا أَتَوْهُ لَمْ يَصْعُبْ عَلَيْهِمْ لِقَاؤُهُ لِكَوْنِهِ لَا يَحْتَجِبُ عَنْهُمْ وَلَا يَتَبَاعَدُ مِنْهُمْ بَلْ يَقْرُبُ وَيَتَلَقَّاهُمْ وَيُبَادِرُ لِإِكْرَامِهِمْ، وَضِدُّهُ مَنْ يَتَوَارَى بِأَطْرَافِ الْحُلَلِ وَأَغْوَارِ الْمَنَازِلِ، وَيَبْعُدُ عَنْ سَمْتِ الضَّيْفِ لِئَلَّا يَهْتَدُوا إِلَى مَكَانِهِ، فَإِذَا اسْتَبْعَدُوا مَوْضِعَهُ صَدُّوا عَنْهُ وَمَالُوا إِلَى غَيْرِهِ. وَمُحَصِّلُ كَلَامِهَا أَنَّهَا وَصَفَتْهُ بِالسِّيَادَةِ وَالْكَرَمِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَطِيبِ الْمُعَاشَرَةِ. قَوْلُهُ (قَالَتِ الْعَاشِرَةُ: زَوْجِي مَالِكٌ، وَمَا مَالِكٌ؟، مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، لَهُ إِبِلٌ
كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ قَلِيلَاتُ الْمَسَارِحِ، وَإِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَالزُّبَيْرِ الْمَبَارِحُ بَدَلَ الْمَبَارِكِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى الْمَزَاهِرُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَعِنْدَ الزُّبَيْرِ الضَّيْفُ بَدَلَ الْمِزْهَرِ. وَالْمَبَارِكُ بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ مَبْرَكٍ وَهُوَ مَوْضِعُ نُزُولِ الْإِبِلِ، وَالْمَسَارِحُ جَمْعُ مَسْرَحٍ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تُطْلَقُ لِتَرْعَى فِيهِ، وَالْمِزْهَرُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْهَاءِ آلَةٌ مِنْ آلَاتِ اللَّهْوِ، وَقِيلَ: هِيَ الْعُودُ وَقِيلَ دُفٌّ مُرَبَّعٌ، وَأَنْكَرَ أَبُو سَعِيدٍ الضَّرِيرُ تَفْسِيرَ الْمِزْهَرِ بِالْعُودِ؛ فَقَالَ: مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ الْعُودَ إِلَّا مَنْ خَالَطَ الْحَضَرَ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَهُوَ الَّذِي يُوقِدُ النَّارَ فَيُزْهِرُهَا لِلضَّيْفِ، فَإِذَا سَمِعَتِ الْإِبِلُ صَوْتَهُ وَمَعْمَعَانَ النَّارِ عَرَفَتْ أَنَّ ضَيْفًا طَرَقَ فَتَيَقَّنَتِ الْهَلَاكَ.
وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ بِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ رَوَوْهُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الَّذِي أَخْبَرَهُ أَنَّ مَالِكًا الْمَذْكُورَ لَمْ يُخَالِطِ الْحَضَرَ وَلَا سِيَّمَا مَعَ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُنَّ كُنَّ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْيَمَنِ وَفِي الْأُخْرَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَدْ كَثُرَ ذِكْرُ الْمِزْهَرِ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ جَاهِلِيَّتِهَا وَإِسْلَامِهَا بَدَوِيِّهَا وَحَضَرِيِّهَا اهـ. وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَيْضًا وُرُودُهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فَإِنَّهُ بِعَيْنِهِ لِلْآلَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ السِّكِّيتِ، وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ مِنَ الزِّيَادَةِ وَهُوَ أمام الْقَوْمُ فِي الْمَهَالِكِ؛ فَجَمَعَتْ فِي وَصْفِهَا لَهُ بَيْنَ الثَّرْوَةِ وَالْكَرَمِ وَكَثْرَةِ الْقِرَى وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ وَالْمُبَالَغَةِ فِي صِفَاتِهِ، وَوَصَفَتْهُ أَيْضًا مَعَ ذَلِكَ بِالشَّجَاعَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَهَالِكِ الْحُرُوبُ، وَهُوَ لِثِقَتِهِ بِشَجَاعَتِهِ يَتَقَدَّمُ رُفْقَتَهُ، وَقِيلَ: أَرَادَتْ أَنَّهُ هَادٍ فِي السُّبُلِ الْخَفِيَّةِ عَالِمٌ بِالطَّرْقِ فِي الْبَيْدَاءِ، فَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا بِالْمَهَالِكِ الْمَفَاوِزُ، وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ومَا فِي قَوْلِهَا: وَمَا مَالِكٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ يُقَالُ للِتَّعْظِيمِ وَالتَّعَجُّبِ، وَالْمَعْنَى وَأَيُّ شَيْءٍ هُوَ مَالِكٌ مَا أَعْظَمَهُ وَأَكْرَمَهُ. وَتَكْرِيرُ الِاسْمِ أُدْخِلَ فِي بَابِ التَّعْظِيمِ. وَقَوْلُهَا مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الْإِعْظَامِ، وَتَفْسِيرٌ لِبَعْضِ الْإِبْهَامِ، وَأَنَّهُ خَيْرٌ مِمَّا أُشِيرَ إِلَيْهِ مِنْ ثَنَاءٍ وَطِيبِ ذِكْرٍ، وَفَوْقَ مَا اعْتُقِدَ فِيهِ مِنْ سُؤْدُدٍ وَفَخْرٍ، وَهُوَ أَجَلُّ مِمّن أَصِفُهُ لِشُهْرَةِ فَضْلِهِ. وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهَا: ذَلِكَ إِلَى مَا تَعْتَقِدُهُ فِيهِ مِنْ صِفَاتِ الْمَدْحِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ مَالِكٍ، وَالتَّعْمِيمُ يُسْتَفَادُ مِنَ الْمَقَامِ كَمَا قِيلَ: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ، أَيْ كُلُّ تَمْرَةٍ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ جَرَادَةٍ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي ذِهْنِ الْمُخَاطَبِ، أَيْ مَالِكٌ خَيْرٌ مِمَّا فِي ذِهْنِكَ مِنْ مَالِكِ الْأَمْوَالِ وَهُوَ خَيْرٌ مِمَّا سَأَصِفُهُ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تُقُدِّمُ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى الَّذِينَ قَبِلَهُ، وَأَنْ مَالِكًا أَجْمَعُ مِنَ الَّذِينَ قَبْلَهُ لِخِصَالِ السِّيَادَةِ وَالْفَضْلِ. وَمَعْنَى قَوْلِهَا: قَلِيلَاتُ الْمَسَارِحِ أَنَّهُ لِاسْتِعْدَادِهِ لَلضِّيفَانِ بِهَا لَا يُوَجِّهُ مِنْهُنَّ إِلَى الْمَسَارِحِ إِلَّا قَلِيلًا، وَيَتْرُكُ سَائِرَهُنَّ بِفِنَائِهِ، فَإِنْ فَاجَأَهُ ضَيْفٌ وَجَدَ عِنْدَهُ مَا يَقْرِيهِ بِهِ مِنْ لُحُومِهَا وَأَلْبَانِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
حَبَسْنَا وَلَمْ نُسَرِّحْ لِكَيْلا يَلُومَنَا
…
عَلَى حُكْمِهِ صَبْرًا مُعَوِّدَةُ الْحَبْسِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهَا قَلِيلَاتُ الْمَسَارِحِ الْإِشَارَةَ إِلَى كَثْرَةِ طُرُوقِ الضِّيفَانِ، فَالْيَوْمَ الَّذِي يَطْرُقُهُ الضَّيْفُ فِيهِ لَا تُسَرَّحُ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهَا حَاجَتَهُ لِلضِّيفَانِ، وَالْيَوْمَ الَّذِي يَطْرُقُهُ فِيهِ أَحَدٌ أَوْ يَكُونُ هُوَ فِيهِ غَائِبًا تُسَرَّحُ كُلُّهَا، فَأَيَّامُ الطُّرُوقِ أَكْثَرُ مِنْ أَيَّامِ عَدَمِهِ، فَهِيَ لِذَلِكَ قَلِيلَاتُ الْمَسَارِحِ. وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ من قال: لَوْ كَانَتْ قَلِيلَاتِ الْمَسَارِحِ لَكَانَتْ فِي غَايَةِ الْهُزَالِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكَثْرَةِ الْمَبَارِكِ أَنَّهَا كَثِيرًا مَا تُثَارُ فَتَحْلِبُ ثُمَّ تُتْرَكُ فَتَكْثُرُ مَبَارِكُهَا لِذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مَبَارِكَهَا عَلَى الْعَطَايَا وَالْحَمَّالَاتِ وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ وَقِرَى الْأَضْيَافِ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّمَا يَسْرَحُ مِنْهَا مَا فَضَلَ عَنْ ذَلِكَ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهَا فِي الْأَصْلِ كَثِيرَةٌ وَلِذَلِكَ كَانَتْ مَبَارِكُهَا كَثِيرَةً، ثُمَّ إِذَا سَرَحَتْ
صَارَتْ قَلِيلَةً لِأَجْلِ مَا ذَهَبَ مِنْهَا. وَأَمَّا رِوَايَةُ مِنْ رَوَى عَظِيمَاتُ الْمَبَارِكِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهَا مِنْ سِمَنِهَا وَعِظَمِ جُثَّثِهَا تَعْظُمُ مَبَارِكُهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهَا إِذَا بَرَكَتْ كَانَتْ كَثِيرَةً لِكَثْرَةِ مَنْ يَنْضَمُّ إِلَيْهَا مِمَّنْ يَلْتَمِسُ الْقِرَى، وَإِذَا سَرَحَتْ سَرَحَتْ وَحْدَهَا فَكَانَتْ قَلِيلَةً بِالنِّسْبَةِ لِذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقِلَّةِ مَسَارِحِهَا قِلَّةَ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي تَرْعَى فِيهَا مِنَ الْأَرْضِ، وَأَنَّهَا لَا تُمَكَّنُ مِنَ الرَّعْيِ إِلَّا بِقُرْبِ الْمَنَازِلِ لِئَلَّا يَشُقَّ طَلَبُهَا إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهَا. وَيَكُونُ مَا قَرُبَ مِنَ الْمَنْزِلِ كَثِيرَ الْخِصْبِ لِئَلَّا تُهْزَلَ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعْيدِ بْنِ سَلَمَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَبُو مَالِكٍ وَمَا أَبُو مَالِكٍ، ذُو إِبِلٍ كَثِيرَةِ الْمَسَالِكِ قَلِيلَةِ الْمَبَارِكِ، قَالَ عِيَاضٌ: إِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهْمًا فَالْمَعْنَى أَنَّهَا كَثِيرَةٌ فِي حَالِ رَعْيِهَا إِذَا ذَهَبَتْ، قَلِيلَةٌ فِي حَالِ مَبَارِكِهَا إِذَا قَامَتْ، لِكَثْرَةِ مَا يَنْحَرُ مِنْهَا وَمَا يَسْلُكُ مِنْهَا فِيهِ مِنْ مَسَالِكَ الْجُودِ مِنْ رَفْدٍ وَمَعُونَةٍ وَحَمْلٍ وَحَمَّالَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهَا أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ؛ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَثُرَتْ عَادَتُهُ بِنَحْرِ الْإِبِلِ لِقِرَى الضِّيفَانِ، وَمِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَسْقِيَهُمْ وَيُلْهِيَهُمْ أَوْ يَتَلَقَّاهُمْ بِالْغِنَاءِ مُبَالَغَةً فِي الْفَرَحِ بِهِمْ صَارَتِ الْإِبِلُ إِذَا سَمِعَتْ صَوْتَ الْغِنَاءِ عَرَفَتْ أَنَّهَا تُنْحَرُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا لَمْ تُرِدْ فَهْمَ الْإِبِلِ لِهَلَاكِهَا، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْقِلُ أُضِيفَ إِلَى الْإِبِلِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
قَوْلُهُ (قَالَتِ الْحَادِيَةَ عَشَرَ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْحَادِي عَشْرَةَ وَفِي بَعْضِهَا الْحَادِيَةَ عَشَرَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَفِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ وَهِيَ أُمُّ زَرْعٍ بِنْتُ أُكَيْمِلِ بْنِ سَاعِدَةَ.
قَوْلُهُ (زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ نَكَحْتُ أَبَا زَرْعٍ.
قَوْلُهُ (فَمَا أَبُو زَرْعٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَمَا أَبُو زَرْعٍ، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ لِلْأَكْثَرِ، زَادَ الطَّبَرَانِيُّ فِي رِوَايَةٍ صَاحِبُ نَعَمٍ وَزَرْعٍ.
قَوْلُهُ (أَنَاسَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ مُهْمَلَةٌ أَيْ حَرَّكَ.
قَوْلُهُ (مِنْ حُلِيٍّ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ (أُذُنَيَّ بِالتَّثْنِيَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مَلَأَ أُذُنَيْهَا بِمَا جَرَتْ عَادَةُ النِّسَاءُ مِنَ التَّحَلِّي بِهِ مِنْ قُرْطٍ وَشَنْفٍ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: أَنَاسَ أَيْ أَثْقَلَ حَتَّى تَدَلَّى وَاضْطَرَبَ. وَالنَّوْسُ حَرَكَةُ كُلِّ شَيْءٍ مُتَدَلٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ (دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ وَنَوَّسَاتُهَا تَنْطِفُ مَعَ شَرْحِ الْمُرَادِ بِهِ فِي الْمُغَازِي. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السِّكِّيتِ أُذُنَيَّ وَفَرْعَيَّ بِالتَّثْنِيَةِ، قَالَ عِيَاضُ: يُحْتَمَلُ أَنْ تُرِيدَ بِالْفَرْعَيْنِ الْيَدَيْنِ لِأَنَّهُمَا كَالْفَرْعَيْنِ مِنَ الْجَسَدِ، تَعْنِي أَنَّهُ حَلَّى أُذُنَيْهَا وَمِعْصَمَيْهَا، أَوْ أَرَادَتِ الْعُنُقَ وَالْيَدَيْنِ، وَأَقَامَتِ الْيَدَيْنِ مَقَامَ فَرْعٍ وَاحِدٍ، أَوْ أَرَادَتِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ كَذَلِكَ، أَوِ الْغَدِيرَتَيْنِ وَقَرْنَيِ الرَّأْسِ، فَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْمُتْرَفَاتُ بِتَنْظِيمِ غَدَائِرِهِنَّ وَتَحْلِيَةِ نَوَاصِيهِنَّ وَقُرِونِهِنَّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ فَرْعِي بِالْإِفْرَادِ، أَيْ حَلَّى رَأْسِي فَصَارَ يَتَدَلَّى مِنْ كَثْرَتِهِ وَثِقَلِهِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي شَعْرَ الرَّأْسِ فَرْعًا، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: وَفَرْعٍ يَغْشَى الْمَتْنَ أَسْوَدَ فَاحِمٍ. قَوْلُهُ (وَمَلَأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَمْ تُرِدِ الْعَضُدَ وَحْدَهُ وَإِنَّمَا أَرَادَتِ الْجَسَدَ كُلَّهُ، لِأَنَّ الْعَضُدَ إِذَا سَمِنَتْ سَمِنَ سَائِرُ الْجَسَدِ، وَخُصتِ الْعَضُدُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَا يَلِي بَصَرَ الْإِنْسَانِ مِنْ جَسَدِهِ.
قَوْلُهُ (وَبَجَّحَنِي بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ جِيمٍ خَفِيفَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ ثَقِيلَةٌ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ.
قَوْلُهُ (فَبَجِحَتْ بِسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فَتَبَجَّحَتْ إِلَيَّ - التَّشْدِيدِ - نَفسِي، هَذَا هو الْمَشْهُورِ فِي الرِّوَايَاتِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَبَجَّحَ نَفْسِي فَبَجِحَتْ إِلَيَّ، وَفِي أُخْرَى لَهُ وَلِأَبِي عُبَيْدٍ فَبَجِحْتُ بِضَمِّ التَّاءِ وَإِلَى بِالتَّخْفِيفِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ فَرَّحَهَا فَفَرِحَتْ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمَعْنَى عَظَّمَنِي فَعَظُمَتْ إِلَيَّ نَفْسِي، وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْمَعْنَى فَخَّرَنِي فَفَخَرْتُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: مَعْنَاهُ وَسَّعَ عَلِيَّ وَتَرَّفَنِي.
قَوْلُهُ (وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِالْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ مُصَغَّرٌ.
قَوْلُهُ (بِشِقٍّ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَكَذَا الرِّوَايَةُ، وَالصَّوَابُ بِفَتْحِ الشِّينِ وَهُوَ مَوْضِعٌ بِعَيْنِهِ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَصَوَّبَهُ الْهَرَوِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هُوَ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ مَوْضِعٌ،
وَقَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وابْنُ حَبِيبٍ: هُوَ بِالْكَسْرِ، وَالْمُرَادُ شِقُّ جَبَلٍ كَانُوا فِيهِ لِقِلَّتِهِمْ وَسِعَهُمْ سُكْنَى شِقِّ الْجَبَلِ أَيْ نَاحِيَتِهِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْفَتْحِ فَالْمُرَادُ شِقٌّ فِي الْجَبَلِ كَالْغَارِ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةِ وَصَوَّبَهُ نِفْطَوَيْهِ: الْمَعْنَى بِالشِّقِّ بِالْكَسْرِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي شَظَفٍ مِنَ الْعَيْشِ، يُقَالُ: هُوَ بِشِقٍّ مِنَ الْعَيْشِ أَيْ بِشَظَفٍ وَجُهْدٍ، وَمِنْهُ {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ} وَبِهَذَا جَزَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَضَعفٌ غَيْرُهُ. قَوْلُهُ (فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ أَيْ خَيْلٍ (وَأَطِيطٍ أَيْ إِبِلٍ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ وَجَامِلٍ وَهُوَ جَمْعٌ جَمَلٍ، وَالْمُرَادُ اسْمُ فَاعِلٍ لِمَالِكِ الْجَمَالِ كَقَوْلِهِ لَابِنٌ وَتَامِرٌ، وَأَصْلُ الْأَطِيطِ صَوْتُ أَعْوَادِ الْمَحَامِلِ وَالرِّجَالِ عَلَى الْجِمَالِ، فَأَرَادَتْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ مَحَامِلَ، تُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى رَفَاهِيَتِهِمْ، وَيُطْلَقُ الْأَطِيطُ عَلَى كُلِّ صَوْتٍ نَشَأَ عَنْ ضَغْطٍ كَمَا فِي حَدِيثِ بَابِ الْجَنَّةِ لَيَتَأَتَّيَنَّ عَلَيْهِ زَمَانٌ وَلَهُ أَطِيطٌ، وَيُقَالُ: الْمُرَادُ بِالْأَطِيطِ صَوْتُ الْجَوْفِ مِنَ الْجُوعِ.
قَوْلُهُ (وَدَائِسٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الدَّوْسِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ وَدِيَاسٍ قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الدَّائِسُ الَّذِي يَدُوسُ الطَّعَامَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: تَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ دِيَاسِ الطَّعَامِ وَهُوَ دِرَاسُهُ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ يَقُولُونَ: الدِّيَاسُ وَأَهْلُ الشَّامِ الدِّرَاسُ، فَكَأَنَّهَا أَرَادَتْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: الْمُرَادُ أَنَّ عِنْدَهُمْ طَعَامًا مُنَتقًّى وَهُمْ فِي دِيَاسِ شَيْءٍ آخَرَ، فَخَيْرُهُمْ مُتَّصِلٌ.
قَوْلُهُ (ومِنَقٍّ بِكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا أَدْرِي مَعْنَاهُ، وَأَظُنُّهُ بِالْفَتْحِ مِنْ تُنَقِّي الطَّعَامَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: الْمِنَقُّ بِالْكَسْرِ نَقِيقُ أَصْوَاتِ الْمَوَاشِي، تَصِفُ كَثْرَةَ مَالِهِ. وَقَالَ أَبُو سَعْيدٍ الضَّرِيرُ: هُوَ بِالْكَسْرِ مِنْ نَقِيقَةِ الدَّجَاجِ، يُقَالُ أَنَقَّ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ لَهُ دَجَاجٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا يُقَالُ لِشَيْءٍ مِنْ أَصْوَاتِ الْمَوَاشِي نَقٌّ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: نَقَّ الضِّفْدِعُ وَالْعَقْرَبُ وَالدَّجَاجُ، وَيُقَالُ فِي الْهِرِّ بِقِلَّةٍ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ فبعيد لأن العرب لا تتمدح بالدجاج ولا تذكرها في الأموال، وهذا الذي أنكره القرطبي لم يرده أبو سعيد وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا فَهِمَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَقَالَ: كَأَنَّهَا أَرَادَتْ مَنْ يَطْرُدُ الدَّجَاجَ عَنِ الْحَبِّ فَيَنِقُّ، وَحَكَى الْهَرَوِيُّ أَنَّ الْمَنَقَّ بِالْفَتْحِ الْغِرْبَالُ، وَعَنْ بَعْضِ الْمَغَارِبَةِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِسُكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ، أَيْ لَهُ أَنْعَامٌ ذَاتُ نَقًى أَيْ سِمَانٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا ذَكَرَتْ أَنَّهُ نَقَلَهَا مِنْ شَظَفِ عَيْشِ أَهْلِهَا إِلَى الثَّرْوَةِ الْوَاسِعَةِ مِنَ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ والزَرْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَحَلَبْتَ قَاعِدًا، أَيْ صَارَ مَالُكَ غَنَمًا يَحْلِبُهَا الْقَاعِدُ، وَبِالضِّدِّ أَهُلِ الْإِبِلِ وَالْخَيْلِ.
قَوْلُهُ (فَعِنْدَهُ أَقُولُ فِي رِوَايَةِ للنَّسَائِيِّ أَنْطِقُ، وَفِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ أَتَكَلَّمُ.
قَوْلُهُ (فَلَا أُقَبَّحُ أَيْ فَلَا يُقَالُ لِي قَبَّحَكِ اللَّهُ أَوْ لَا يُقَبَّحُ قَوْلِي وَلَا يَرُدُّ عَلَيَّ، أَيْ لِكَثْرَةِ إِكْرَامِهِ لَهَا وَتَدَلُّلِهَا عَلَيْهِ لَا يَرُدُّ لَهَا قولا وَلَا يُقَبِّحُ عَلَيْهَا مَا تَأْتِي بِهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ: فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ أَنَامُ إِلَخْ.
قَوْلُهُ (وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ أَيْ أَنَامُ الصُّبْحَةَ وَهِيَ نَوْمُ أَوَّلِ النَّهَارِ فَلَا أُوقَظُ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ لَهَا مَنْ يَكْفِيهَا مُؤْنَةَ بَيْتِهَا وَمِهْنَةَ أَهْلِهَا.
قَوْلُهُ (وَأَشْرَبُ فَأَتَقَنَّحُ كَذَا وَقَعَ بِالْقَافِ وَالنُّونِ الثَّقِيلَةِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ، قَالَ عِيَاضٌ: لَمْ يَقَعْ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِلَّا بِالنُّونِ، وَرَوَاهُ الْأَكْثَرُ فِي غَيْرِهِمَا بِالْمِيمِ قُلْتُ: وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ حَيْثُ نَقَلَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ بِالْمِيمِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَتَقَمَّحُ أَيْ أُرْوَى حَتَّى لَا أُحِبَّ الشُّرْبَ، مَأْخُوذٌ مِنَ النَّاقَةِ الْقَامِحِ، وَهِيَ الَّتِي تُرِدُ الْحوْضَ فَلَا تَشْرَبُ وَتَرْفَعُ رَأْسَهَا رِيًّا، وَأَمَّا بِالنُّونِ فَلَا أَعْرِفُهُ انْتَهَى. وَأَثْبَتَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى أَتَقَنَّحُ بِمَعْنَى أَتَقَمَّحُ لِأَنَّ النُّونَ وَالْمِيمَ يَتَعَاقَبَانِ مِثْلَ امْتَقَعَ لَوْنُهُ وَانْتَقَعَ، وَحَكَى شِمْرٌ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ: التَّقَنُّحُ الشُّرْبُ بَعْدَ رَيٍّ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: الرِّيُّ بَعْدَ الرِّيِّ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: هُوَ الشُّرْبُ عَلَى مَهَلٍ لِكَثْرَةِ اللَّبَنِ لِأَنَّهَا كَانَتْ آمِنْةً مِنْ قِلَّتِهِ فَلَا تُبَادِرُ إِلَيْهِ مَخَافَةَ عَجْزِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الدَّيْنُوَرِيُّ: قَنَحَتْ مِنَ الشَّرَابِ تَكَارَهَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ الرِّيِّ، وَحَكَى الْقَالِي: قَنَحَتِ الْإِبِلُ تَقَنَّحُ بِفَتْحِ النُّونِ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ قَنْحًا
بِسُكُونِ النُّونِ وَبِفَتْحِهَا أَيْضًا إِذَا تَكَارَهَتِ الشُّرْبَ بَعْدَ الرِّيِّ.
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ وَابْنُ السِّكِّيتِ: أَكْثَرُ كَلَامِهِمْ تَقَنَّحْتُ تَقَنُّحًا بِالتَّشْدِيدِ، وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: مَعْنَى قَوْلِهَا فَأَتَقَنَّحُ أَيْ لَا يَقْطَعُ عَلَيَّ شُرْبِي، فَتَوَارَدَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهَا تَشْرَبُ حَتَّى لَا تَجِدَ مَسَاغًا، أَوْ أَنَّهَا لَا يُقَلَّلُ مَشْرُوبُهَا وَلَا يُقْطَعُ عَلَيْهَا حَتَّى تَتِمَّ شَهْوَتُهَا مِنْهُ، وَأَغْرَبَ أَبُو عُبَيْدٍ فَقَالَ: لَا أَرَاهَا قَالَتْ ذَلِكَ إِلَّا لِعِزَّةِ الْمَاءِ عِنْدَهُمْ، أَيْ فَلِذَلِكَ فَخَرَتْ بِالرِّيِّ مِنَ الْمَاءِ، وَتَعْقُبُوهُ بِأَنَّ السِّيَاقَ لَيْسَ فِيهِ التَّقْيِيدُ بِالْمَاءِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ تُرِيدَ أَنْوَاعَ الْأَشْرِبَةِ مِنْ لَبَنٍ وَخَمْرٍ وَنَبِيذٍ وَسَوِيقٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنِ الْبَغَوِيِّ فَانْفَتَحَ بِالْفَاءِ وَالْمُثَنَّاةِ، قَالَ عِيَاضٌ: إِنْ لَمْ يَكُنْ وَهْمًا فَمَعْنَاهُ التَّكَبُّرُ وَالزَّهْوُ، يُقَالُ فِي فُلَانٍ فُتْحَةٌ إِذَا تَاهَ وَتَكَبُّرَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ تَحَصَّلَ لَهَا مِنْ نَشْأَةِ الشَّرَابِ، أَوْ يَكُونُ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ، أَشَارَتْ بِهِ إِلَى عِزَّتِهَا عِنْدَهُ وَكَثْرَةِ الْخَيْرِ لَدَيْهَا فَهِيَ تَزْهُو لِذَلِكَ، أَوْ مَعْنَى أَتَقَنَّحُ كِنَايَةٌ عَنْ سِمَنِ جِسْمِهَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْهَيْثَمِ وَآكُلُ فَأَتَمَنَّحُ أَيْ أُطْعِمُ غَيْرِي، يُقَالُ: مَنَحَهُ يَمَنَحُهُ إِذَا أَعْطَاهُ، وَأَتَتْ بِالْأَلْفَاظِ كُلِّهَا بِوَزْنِ أَتَفَعَّلُ إِشَارَةً إِلَى تَكْرَارِ الْفِعْلِ وَمُلَازَمَتِهِ وَمُطَالَبَةِ نَفْسِهَا أَوْ غَيْرِهَا بِذَلِكَ، فَإِنْ ثَبَتَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ وَإِلَّا فَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ الشُّرْبِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اللَّبَنُ؛ لأنه هُوَ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ.
قَوْلُهُ (أُمُّ أَبِي زَرْعٍ فَمَا أُمُّ أَبِي زَرْعٍ، عُكُومُهَا رَدَاحٌ، وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ فَيَاحٌ بِتَحْتَانِيَّةٍ خَفِيفَةٍ مِنْ فَاحَ يَفِيحُ إِذَا اتَّسَعَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْعُذْرِيِّ فِيمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ أُمُّ زَرْعٍ وَمَا أُمُّ زَرْعٍ بِحَذْفِ أَدَاةِ الْكُنْيَةِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ كَنَّتْ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهَا.
قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي تَضَافَرَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَمَا أُمُّ أَبِي زَرْعٍ فَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قَوْلِ الْعَاشِرَةِ، وَالْعُكُومُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ عِكْمٍ بِكَسْرِهَا وَسُكُونِ الْكَافِ هِيَ الْأَعْدَالُ وَالْأَحْمَالُ الَّتِي تُجْمَعُ فِيهَا الْأَمْتِعَةُ، وَقِيلَ هِيَ نَمَطٌ تَجْعَلُ الْمَرْأَةُ فِيهَا ذَخِيرَتَهَا حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَرَدَاحٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِفَتْحِهَا وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ أَيْ عِظَامٌ كَثِيرَةُ الْحَشْوِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: مَعْنَاهُ ثَقِيلَةٌ، يُقَالُ لِلْكَتِيبَةِ الْكَبِيرَةِ رَدَاحٌ إِذَا كَانَتْ بَطِيئَةَ السَّيْرِ لِكَثْرَةِ مَنْ فِيهَا، وَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ إِذَا كَانَتْ عَظِيمَةَ الْكِفْلِ ثَقِيلَةَ الْوَرْكِ رَدَاحٌ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إِنَّمَا هُوَ رَدَاحٌ أَيْ مَلْأَى، قَالَ عِيَاضٌ: رَأَيْتُهُ مَضْبُوطًا وَذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ كَذَلِكَ، قَالَ: وَلَيْسَ كَمَا قَالَهُ شُرَّاحُ الْعِرَاقِيِّينَ، قَالَ عِيَاضٌ: وَمَا أَدْرِي مَا أَنْكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ مَعَ أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِمَا فَسَّرَهُ بِهِ أَبُو عُبَيْدٍ مَعَ مُسَاعَدَةِ سَائِرِ الرُّوَاةِ لَهُ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادَهُ أَنْ يَضْبِطَهَا بِكَسْرِ الرَّاءِ لَا بِفَتْحِهَا جَمْعُ رَادِحٍ كَقَائِمٍ وَقِيَامٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ رَدَاحٌ خَبَرَ عُكُومٍ فَيُخْبِرُ عَنِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ مَحْذُوفًا، أَيْ عُكُومُهَا كُلُّهَا رَدَاحٌ عَلَى أَنَّ: رَدَاحٌ وَاحِدٌ جَمْعُهُ رُدُحٌ بِضَمَّتَيْنِ، وَقَدْ سُمِعَ الْخَبَرُ عَنِ الْجَمْعِ بِالْوَاحِدَةِ مِثْلَ أَدْرُعُ دِلَاصٍ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْهُ، وَمِنْهُ {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ عِيَاضٌ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِثْلَ طَلَاقٍ وَكَمَالٍ، أَوْ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ
عُكُومُهَا ذَاتُ رَدَاحٍ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْ جَاءَتِ الرِّوَايَةُ فِي عَكُومٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَكَانَ الْوَجْهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْجَفْنَةَ الَّتِي لَا تَزُولُ عَنْ مَكَانِهَا إِمَّا لِعَظَمِهَا وَإِمَّا لِأَنَّ الْقِرَى مُتَّصِلٌ دَائِمٌ، مِنْ قَوْلِهِمْ وَرَدَ وَلَمْ يَعْكِمْ أَيْ لَمْ يَقِفْ، أَوِ الَّتِي كَثُرَ طَعَامُهَا وَتَرَاكَمَ كَمَا يُقَالُ: اعْتَكَمَ الشَّيْءُ وَارَتْكَمَ، قَالَ: وَالرَّدَاحُ حِينَئِذٍ تَكُونُ وَاقِعَةً فِي مُصَابِهَا مِنْ كَوْنِ الْجَفْنَةِ مَوْصُوفَةً بِهَا، وَفَسَاحٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْمُهْمَلَةِ أَيْ وَاسِعٌ، يُقَالُ: بَيْتٌ فَسِيحٌ وَفَسَاحٌ وفَيَاحٌ بِمَعْنَاهُ، وَمِنْهُمْ مِنْ شَدَّدَ الْيَاءَ مُبَالَغَةً، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا وَصَفَتْ وَالِدَةَ زَوْجِهَا بِأَنَّهَا كَثِيرَةُ الْآلَاتِ وَالْأَثَاثِ وَالْقُمَاشِ وَاسِعَةُ الْمَالِ كَبِيرَةُ الْبَيْتِ، إِمَّا حَقِيقَةٌ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى عِظَمِ الثَّرْوَةِ، وَإِمَّا كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الْخَيْرِ وَرَغَدِ الْعَيْشِ وَالْبِرِّ بمَنْ يَنْزِلُ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ فُلَانٌ رَحْبُ الْمَنْزِلِ أَيْ يُكْرِمُ مَنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ،
وَأَشَارَتْ بِوَصْفِ وَالِدَةِ زَوْجِهَا إِلَى أَنَّ زَوْجَهَا كَثِيرَ الْبِرِّ لِأُمِّهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَطْعَنْ فِي السِّنِّ لِأَنَّ ذَلِكَ هو الْغَالِبِ مِمَّنْ يَكُونُ لَهُ وَالِدَةٌ تُوصَفُ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (ابْنُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا ابْنُ أَبِي زَرْعٍ، مَضْجَعُهُ كَمِسَلِّ شَطْبَةٍ وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَتَرَوِيهِ فَيْقَةُ الْيَعْرَةِ، وَيَمِيسُ فِي حَلْقِ النَّتْرَةِ، فَأَمَّا مِسَلُّ الشَّطْبَةِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَصْلُ الشَّطْبَةِ مَا شَطَبَ مِنَ الْجَرِيدِ وَهُوَ سَعَفَه، فَيُشَقُّ مِنْهُ قُضْبَانٌ رِقَاقٌ تُنْسَجُ مِنْهُ الْحُصْرُ، وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الشَّطْبَةُ مِنْ سَدَى الْحَصِيرِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: هِيَ الْعُودُ الْمُحَدِّدُ كَالْمِسَلَّةِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَرَادَتْ بِمِسَلِّ الشَّطْبَةِ سَيْفًا سُلَّ مِنْ غِمْدِهِ فَمَضْجَعُهُ الَّذِي يَنَامُ فِيهِ فِي الصِّغَرِ كَقَدْرِ مِسَلِّ شَطْبَةٍ وَاحِدَةٍ، أَمَّا عَلَى مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ فَعَلَى قَدْرِ مَا يُسَلُّ مِنَ الْحَصِيرِ فَيَبْقَى مَكَانُهُ فَارِغًا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ فَيَكُونُ كَغِمْدِ السَّيْفِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الضَّرِيرُ: شَبَّهَتْهُ بِسَيْفٍ مَسْلُولٍ ذِي شُطَبٍ، وَسُيُوفُ الْيَمَنِ كُلُّهَا ذَاتُ شُطَبٍ، وَقَدْ شَبَّهْتِ الْعَرَبُ الرِّجَالَ بِالسُّيُوفِ إِمَّا لِخُشُونَةِ الْجَانِبِ وَشِدَّةِ الْمَهَابَةِ، وَإِمَّا لِجَمَالِ الرَّوْنَقِ وَكَمَالِ اللَّأْلَاءِ، وَإِمَّا لِكَمَالِ صُورَتِهَا فِي اعْتِدَالِهَا وَاسْتِوَائِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَسَلُّ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى السَّلِّ يُقَامُ مَقَامَ الْمَسْلُولِ، وَالْمَعْنَى كَمَسْلُولِ الشَّطْبَةِ.
وَأَمَّا الْجَفْرَةُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْفَاءِ فَهِيَ الْأُنْثَى مِنْ وَلَدِ الْمَعْزِ إِذَا كَانَ ابْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَفُصِلَ عَنْ أُمِّهِ وَأُخِذَ فِي الرَّعْيِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنُ دُرَيْدٍ: وَيُقَالَ لِوَلَدِ الضَّأْنِ أَيْضًا إِذَا كَانَ ثَنِيًّا. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْجَفْرُ مِنْ أَوْلَادِ الشَّاءِ مَا اسْتَجْفَرَ أَيْ صَارَ لَهُ بَطْنٌ، وَالْفَيْقَةُ بكسر الفاء وسكون التحتانية بعدها قاف ما يجتمع في الضراع بين الحلبتين، والفواق بضم الفاء الزَّمَانُ الَّذِي بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ، وَالْيَعْرَةُ بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا رَاءٌ: الْعِنَاقُ، وَيَمِيسُ بِالْمُهْمَلَةِ أَيْ يَتَبَخْتَرُ، وَالْمُرَادِ بِحَلْقِ النَّتْرَةِ وَهِيَ بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ ثُمَّ الْمُثَنَّاةِ السَّاكِنَةِ الدِّرْعُ اللَّطِيفَةُ أَوِ الْقَصِيرَةُ، وَقِيلَ: اللَّيِّنَةُ الْمَلْمَسِ، وَقِيلَ: الْوَاسِعَةُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا وَصَفَتْهُ بِهَيْفِ الْقَدِّ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِبَطِينٍ وَلَا جَافٍّ قَلِيلِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مُلَازِمٍ لِآلَةِ الْحَرْبِ يَخْتَالُ فِي مَوْضِعِ الْقِتَالِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا تَتَمَادَحُ بِهِ الْعَرَبُ. وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهَا وَصَفَتْهُ بِأَنَّهُ خَفِيفُ الْوَطْأَةِ عَلَيْهَا لِأَنَّ زَوْجَ الْأَبِ غَالِبًا يَسْتَثْقِلُ وَلَدَهُ مِنْ غَيْرِهَا فَكَانَ هَذَا يُخَفِّفُ عَنْهَا، فَإِذَا دَخَلَ بَيْتَهَا فَاتَّفَقَ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ مَثَلًا لَمْ يَضْطَجِعْ إِلَّا قَدْرَ مَا يُسَلُّ السَّيْفُ مِنْ غِمْدِهِ، ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ مُبَالَغَةً فِي التَّخْفِيفِ عَنْهَا، وَكَذَا قَوْلُهَا: يُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ مَا عِنْدَهَا بِالْأَكْلِ فَضْلًا عَنِ الْأَخْذِ، بَلْ لَوْ طَعِمَ عِنْدَهَا لَاقْتَنَعَ بِالْيَسِيرِ الَّذِي يَسُدُّ الرَّمَقَ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ.
قَوْلُهُ (بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَمَا بِالْوَاوِ بَدَلَ الْفَاءِ. قَوْلُهُ (طَوْعُ أَبِيهَا وَطَوْعُ أُمِّهَا أَيْ أَنَّهَا بَارَّةٌ بِهِمَا، زَادَ فِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ وَزَيْنُ أَهْلِهَا وَنِسَائِهَا أَيْ يَتَجَمَّلُونَ بِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ زَيْنُ أُمِّهَا وَزَيْنُ أَبِيهَا بَدَلَ طَوْعُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ وَقُرَّةُ عَيْنٍ لِأُمِّهَا وَأَبِيهَا، وَزَيْنٌ لِأَهْلِهَا، وَزَادَ الْكَاذِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ وَصِفْرٌ رِدَائهَا، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ قَبَّاءُ هَضِيمَةُ الْحَشَا، جَائِلَةُ الْوِشَاحِ، عَكْنَاءُ فَعْمَاءُ، نَجْلَاءُ دَعْجَاءُ رَجَّاءُ قَنْوَاءُ، مُؤَنَّقَةٌ مُفَنَّقَةٌ.
قَوْلُهُ (وَمِلْءُ كِسَائِهَا كِنَايَةٌ عَنْ كَمَالِ شَخْصِهَا وَنِعْمَةِ جِسْمِهَا.
قَوْلُهُ (وَغَيْظُ جَارَتِهَا فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَعَقْرُ جَارَتِهَا بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ أَيْ دَهَشِهَا أَوْ قَتْلِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ والطَّبَرَانِيِّ وَحَيْرُ جَارَتِهَا بِالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ التَّحْتَانِيَّةِ مِنَ الْحَيْرَةِ، وَفِي أُخْرَى لَهُ وَحَيْنُ جَارَتِهَا بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا نُونٌ أَيْ هَلَاكُهَا، وَفِي رِوَايَةِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ وَعُبْرُ جَارَتِهَا بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحِّدَةِ وَهُوَ مِنَ الْعَبْرَةِ بِالْفَتْحِ أَيْ تَبْكِي حَسَدًا لِمَا تَرَاهُ مِنْهَا، أَوْ بِالْكَسْرِ أَيْ تَعْتَبِرُ بِذَلِكَ.
وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ وَحِبْرُ نِسَائِهَا وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ فَقِيلَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ مِنَ التَّحْبِيرِ، وَقِيلَ بِالْمُعْجَمَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ مِنَ الْخَيْرِيَّةِ، وَالْمُرَادُ
بِجَارَتِهَا ضَرَّتُهَا أَوْ هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ الْجَارَاتِ مِنْ شَأْنِهِنَّ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ وَغَيْرُ جَارَتِهَا بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ مِنَ الْغَيْرَةِ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا قَوْلُ عُمَرَ، لِحَفْصَةَ: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَضْوَأَ مِنْكِ يَعْنِي عَائِشَةَ، وَقَوْلُهَا، صِفْرٌ بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُ نِ الْفَاءِ أَيْ خَالٍ فَارِغٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ رِدَاءَهَا كَالْفَارِغِ الْخَالِي لِأَنَّهُ لَا يَمَسُّ مِنْ جِسْمِهَا شَيْئًا لِأَنَّ رَدْفَهَا وَكَتِفَيْهَا يَمنَعُ مَسَّهُ مِنْ خَلْفِهَا شَيْئًا مِنْ جِسْمِهَا وَنَهْدَهَا يَمْنَعُ مَسَّهُ شَيْئًا مِنْ مُقَدَّمِهَا، وَفِي كَلَامِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ وَغَيْرِهِ: مَعْنَى قَوْلِهَا: صِفْرٌ رِدَاؤُهَا تَصِفُهَا بِأَنَّهَا خَفِيفَةُ مَوْضِعِ التَّرْدِيَةِ وَهُوَ أَعْلَى بَدَنِهَا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ مِلْءُ كِسَائِهَا أَيْ مُمْتَلِئَةُ مَوْضِعِ الْأَزْرَةِ وَهُوَ أَسْفَلُ بَدَنِهَا، وَالصِّفْرُ الشَّيْءُ الْفَارِغُ، قَالَ عِيَاضٌ: وَالْأَوْلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ امْتِلَاءَ مَنْكِبَيْهَا وَقِيَامَ نَهْدِيهَا يَرْفَعَانِ الرِّدَاءَ عَنْ أَعْلَى جَسَدِهَا فَهُوَ لَا يَمَسُّهُ فَيَصِيرُ كَالْفَارِغِ مِنْهَا، بِخِلَافِ أَسْفَلِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَبَتِ الرَّوَادِفُ وَالنُّهُودُ لِقُمُصِهَا
…
مِنْ أَنْ تَمَسَّ بُطُونَهَا وَظُهُورَهَا
وَقَوْلُهَا قَبَّاءُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَبِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ ضَامِرَةُ الْبَطْنِ، وهَضِيمَةُ الْحَشَا هُوَ بِمَعْنَى الَّذِي قَبْلَهُ، وَجَائِلَةُ الْوِشَاحِ أَيْ يَدُورُ وِشَاحُهَا لِضُمُورِ بَطْنِهَا، وعَكْنَاءُ أَيْ ذَاتُ أَعْكَانٍ، وَفَعْمَاءُ بِالْمُهْمَلَةِ أَيْ مُمْتَلِئَةُ الْجِسْمِ، ونَجْلَاءُ بِنُونٍ وَجِيمٍ أَيْ وَاسِعَةُ الْعَيْنِ، ودَعْجَاءُ أَيْ شَدِيدَةُ سَوَادِ الْعَيْنِ، وَرَجَّاءُ بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ أَيْ كَبِيرَةُ الْكِفْلِ تَرْتَجُّ مِنْ عَظَمه إِنْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ بِالرَّاءِ، فَإِنْ كَانَتْ بِالزَّايِ فالْمُرَادُ فِي حَاجِبَيْهَا تَقْوِيسٌ، ومُؤَنَّقَةٌ بِنُونٍ ثَقِيلَةٍ وَقَافٍ، وَمُفَنَّقَةٌ بِوَزْنِهِ أَيْ مُغَذَّيَةٌ بِالْعَيْشِ النَّاعِمِ، وَكُلُّهَا أَوْصَافٌ حِسَانٌ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ بُرُودُ الظِّلِّ أَيْ أَنَّهَا حَسَنَةُ الْعِشْرَةِ كَرِيمَةُ الْجِوَارِ وَفِيُّ الْإِلَى بِتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْإِلَى بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيِ الْعَهْدِ أَوِ الْقَرَابَةِ كَرِيمُ الْخِلِّ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ أَيِ الصَّاحِبُ زَوْجًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافَ مَعَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ مُؤَنَّثٌ لِأَنَّهَا ذَهَبَتْ بِهِ مَذْهَبَ التَّشْبِيهِ أَيْ هِيَ كَرَجُلٍ فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ، أَوْ حَمَلَتْهُ عَلَى الْمَعْنَى كَشَخْصٍ أَوْ شَيْءٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ حَرَامٍ: وَعَفْرَاءُ عَنِّي الْمُعْرِضُ الْمُتَوَانِي
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الرُّوَاةِ نَقَلَ هَذِهِ الصِّفَةَ مِنَ الِابْنِ إِلَى الْبِنْتِ، وَفِي أَكْثَرِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ رَدٌّ عَلَى الزَّجَّاجِيِّ فِي إِنْكَارِهِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسَنِ وَجْهِهِ وَزَعَمَ أَنَّ سِيبَوَيْهِ انْفَرَدَ بِإِجَازَةِ مِثْلِ ذَلِكَ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهُ أَضَافَ الشَّيْءَ إِلَى نَفْسِهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَخْطَأَ الزَّجَّاجِيُّ فِي مَوَاضِعَ فِي مَنْعِهِ وَتَعْلِيلِهِ وَتَخْطِئَتِهِ وَدَعْوَاهُ الشُّذُوذَ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ خَرُوفٍ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِهِ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ، وَكَيْفَ يُخْطِئُ مَنْ تَمَسَّكَ بِالسَّمَاعِ الصَّحِيحِ كَمَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَكَمَا جَاءَ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَئْنٌ أَصَابِعُهُ.
تَنْبِيهٌ: سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ ذِكْرُ ابْنِ أَبِي زَرْعٍ وَوَصْفُ بِنْتِ أَبِي زَرْعٍ؛ فَجَعْلَ وَصْفَ ابْنِ أَبِي زَرْعٍ لِبِنْتِ أَبِي زَرْعٍ، وَرِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ أَوْلَى وَأَتَمُّ.
قَوْلُهُ (جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ خَادِمُ أَبِي زَرْعٍ، وَفِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ وَلِيدُ أَبِي زَرْعٍ وَالْوَلِيدُ الْخَادِمُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.
قَوْلُهُ (لَا تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا بِالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ الْمُثَلَّثَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِالنُّونِ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ وَهُمَا بِمَعْنَى: بَثَّ الْحَدِيثَ وَنَثَّ الْحَدِيثَ أَظْهَرَهُ، وَيُقَالُ بِالنُّونِ فِي الشَّرِّ خَاصَّةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الْأُولَى. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: النَّثَّاثُ الْمُغْتَابُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ وَلَا تُخْرِجُ.
قَوْلُهُ (وَلَا تُنَقِّثُ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ أَيْ تُسْرِعُ فِيهِ بِالْخِيَانَةِ وَتُذْهِبُهُ بِالسَّرِقَةِ، كَذَا فِي الْبُخَارِيِّ وَضَبَطَهُ عِيَاضٌ فِي مُسْلِمٍ بِفَتْحٍ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ النُّونِ وَضَمِّ الْقَافِ، قَالَ: وَجَاءَ تَنْقِيثًا مَصْدَرًا عَلَى غَيْرِ الْأَصْلِ وَهُوَ جَائِزٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي
الطَّرِيقِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ وَهِيَ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ وَلَا تُنَقِّثُ بِالتَّشْدِيدِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ انْتَهَى. وَضَبَطَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالْفَاءِ الثَّقِيلَةِ بَدَلَ الْقَافِ، وَقَالَ فِي شَرْحِهِ: النَّفْثُ وَالتَّفْلُ بِمَعْنًى، وَأَرَادَتِ الْمُبَالَغَةَ فِي بَرَاءَتِهَا مِنَ الْخِيَانَةِ، فَيَحْتَمِلُ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مُسْلِمٍ بِالْقَافِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَالْأُخْرَى بِالْفَاءِ. وَالْمِيرَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا رَاءٌ الزَّادُ، وَأَصْلُهُ مَا يُحَصِّلُهُ الْبَدَوِيُّ مِنَ الْحَضَرِ وَيَحْمِلُهُ إِلَى مَنْزِلِهِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ أَهْلُهُ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: التَّنْقِيثُ إِخْرَاجُ مَا فِي مَنْزِلِ أَهْلِهَا إِلَى غَيْرِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: مَعْنَاهُ لَا تُفْسِدُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ رِوَايَةَ الزُّبَيْرِ وَلَا تُفْسِدُ وَذَكَرَ مُسْلِمٌ أَنَّ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ بِالْفَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ وَلَا تَنْقُلُ وَكَذَا لِلزُّبَيْرِ عَنْ عَمِّهِ مُصْعَبٍ، وَلِأَبِي عَوَانَةَ وَلَا تَنْتَقِلُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَلَا تُغِثُّ بِمُعْجَمَةٍ وَمُثَلَّثَةٍ أَيْ تُفْسِدُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْغُثَّةِ بِالضَّمِّ وَهِيَ الْوَسْوَسَةُ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَلَا تُفِشُّ مِيرَتَنَا تَفْشِيشًا بِفَاءٍ وَمُعْجَمَتَيْنِ مِنَ الْإِفْشَاشِ طَلَبُ الْأَكْلِ مِنْ هُنَا وَهُنَا، وَيُقَالُ: فَشَّ مَا عَلَى الْخِوَانِ إِذَا أَكَلَهُ أَجْمَعَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْخَطَّابِيِّ وَلَا تُفْسِدُ مِيرَتَنَا تَغْشِيشًا بِمُعْجَمَاتٍ، وَقَالَ: مَأْخُوذٌ مِنْ غَشِيشِ الْخُبْزِ إِذَا فَسَدَ، تُرِيدُ أَنَّهَا تُحْسِنُ مُرَاعَاةَ الطَّعَامِ وَتَتَعاهَدُهُ بِأَنْ تُطْعِمَ مِنْهُ أَوَّلًا طَرِيًّا وَلَا تُغْفِلَهُ فَيَفْسَدَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَسَّرَهُ الْخَطَّابِيُّ بِأَنَّهَا لَا تُفْسِدُ الطَّعَامَ الْمَخْبُوزَ بَلْ تَتَعَهَّدُهُ بِأَنْ تُطْعِمَهُمْ مِنْهُ أَوَّلًا فَأَوَّلًا، وَتَبِعَهُ الْمَازِرِيُّ، وَهَذَا إِنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي وَقَعَتْ لِلْخَطَّابِيِّ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الصَّحِيحِ وَلَا تَمْلَأُ فَلَا يَسْتَقِيمُ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَتَعَهَّدُهُ بِالتَّنْظِيفِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرِّوَايَةَ فِي الْأُولَى كَمَا فِي الْأَصْلِ وَلَا تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثًا وَعِنْدَ الْخَطَّابِيِّ وَلَا تُفْسِدُ مِيرَتَنَا تَغْشِيشًا بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَاتَّفَقَتَا فِي الثَّانِيَةِ
(1)
عَلَى وَلَا تَمْلَأُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا وَهِيَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْخَطَّابِيِّ هِيَ أَقْعُدُ بِالسَّجْعِ أَعْنِي تَعْشِيشًا مِنْ تَنْقِيثًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (وَلَا تَمْلَأُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا بِالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ مُعْجَمَتَيْنِ، أَيْ أَنَّهَا مُصْلِحَةٌ لِلْبَيْتِ مُهْتَمَّةٌ بِتَنْظِيفِهِ وَإِلْقَاءِ كُنَاسَتِهِ وَإِبْعَادِهَا مِنْهُ وَأَنَّهَا لَا تَكْتَفِي بِقَمِّ كُنَاسَتِهِ وَتَرْكِهَا فِي جَوَانِبِهِ كَأَنَّهَا الْأَعْشَاشُ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ وَلَا تُعِشُّ بَدَلَ وَلَا تَمْلَأُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ الَّتِي عَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ بَعْدُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ بَدَلَ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ مِنَ الْغِشِّ ضِدُّ الْخَالِصِ، أَيْ لَا تَمْلَؤُهُ بِالْخِيَانَةِ بَلْ هِيَ مُلَازِمَةٌ لِلنَّصِيحَةِ فِيمَا هِيَ فِيهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عِفَّةِ فَرَجِهَا، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا لَا تَمْلَأُ الْبَيْتَ وَسَخًا بِأَطْفَالِهَا مِنَ الزِّنَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كِنَايَةٌ عَنْ وَصْفِهَا بِأَنَّهَا لَا تَأْتِيهِمْ بِشَرٍّ وَلَا تُهْمَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَعْشِيشًا بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَشَّشَتِ النَّخْلَةُ إِذَا قَلَّ سَعَفُهَا أَيْ لَا تَمْلَؤُهُ اخْتِزَالًا وَتَقْلِيلًا لِمَا فِيهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْهَيْثَمِ وَلَا تُنَجِّثُ أَخْبَارَنَا تَنْجِيثًا بِنُونٍ وَجِيمٍ وَمُثَلَّثَةٍ أَيْ تَسْتَخْرِجُهَا، وَأَصْلُ التَّنْجِثَةِ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْبِئْرِ مِنْ تُرَابٍ، وَيُقَالُ أَيْضًا: بِالْمُوَحَّدَةِ بَدَلَ الْجِيمِ، زَادَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْوَرْكَانِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: حَتَّى ذَكَرَتْ كَلْبَ أَبِي زَرْعٍ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْبَغَوِيِّ، عَنِ الْوَرْكَانِيِّ، وَزَادَ الْهَيْثَمُ بْنُ عِيدٍ فِي رِوَايَتِهِ ضَيْفُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا ضَيْفُ أَبِي زَرْعٍ، فِي شِبَعٍ وَرَيٍّ وَرَتَعٍ.
طُهَاةُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا طُهَاةُ أَبِي زَرْعٍ لَا تَفْتُرُ وَلَا تُعَدَّى تُقْدَحُ قِدْرا وَتُنْصَبُ أُخْرَى، فَتَلْحَقُ الْآخِرَةُ بِالْأُولَى. مَالُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا مَالُ أَبِي زَرْعٍ عَلَى الْجَمَمِ مَعْكُوسٌ، وَعَلَى الْعُفَاةِ مَحْبُوسٌ، وَقَوْلُهُ رَيٍّ وَرَتَعٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَبِالْمُثَنَّاةِ أَيْ تَنَعُّمٍ وَمَسَرَّةٍ وَالطُّهَاةُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ الطَّبَّاخُونَ، وَقَوْلُهُ لَا تَفْتُرُ بِالْفَاءِ السَّاكِنَةِ ثُمَّ الْمُثَنَّاةِ الْمَضْمُومَةِ
(1)
كذا، والصواب: في كلام الثانية.
أَيْ لَا تَسْكُنُ وَلَا تَضْعُفُ، وَقَوْلُهُ وَلَا تُعَدَّى بمُهْمَلَةٌ أَيْ تُصْرَفُ، وَتُقْدَحُ بِالْقَافِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ تُفَرَّقُ، وَتُنْصَبُ أَيْ تُرْفَعُ عَلَى النَّارِ، وَالْجَمَمُ بِالْجِيمِ جَمْعُ جَمَّةٍ هُمُ الْقَوْمُ يَسْأَلُونَ فِي الدِّيَةِ وَمَعْكُوسٌ أَيْ مَرْدُودٌ، وَالْعُفَاةُ السَّائِلُونَ، وَمَحْبُوسٌ أَيْ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ (قَالَتْ خَرَجَ أَبُو زَرْعٍ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِي، وَفِي رِوَايَةِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِي.
قَوْلُهُ (وَالْأَوْطَابُ تُمْخَضُ الْأَوْطَابُ جَمْعُ وَطْبٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَهُوَ وِعَاءُ اللَّبَنِ، وَذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ أَنَّ جَمْعَهُ عَلَى أَوْطَابٍ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ فَعْلًا لَا يَجْمَعُ عَلَى أَفْعَالٍ بَلْ عَلَى فِعَالٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ قَالَ الْخَلِيلُ: جَمْعُ الْوَطْبِ وِطَابٌ وَأَوْطَابٌ، وَقَدْ جُمِعَ فَرْدٌ عَلَى أَفْرَادٍ، فَبَطَلَ الْحَصْرُ الَّذِي ادَّعَاهُ، نَعَمِ الْقِيَاسُ فِي فِعْلٍ أَفْعُلٌ فِي الْقِلَّةِ وَفِعَالٌ أَوْ فُعُولٌ فِي الْكَثْرَةِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَرَأَيْتُ فِي رِوَايَةِ حَمْزَةَ، عَنِ النَّسَائِيِّ وَالْأَطَابُ بِغَيْرِ وَاوٍ فَإِنْ كَانَ مَضْبُوطًا فَهُوَ عَلَى إِبْدَالِ الْوَاوِ هَمْزَةً كَمَا قَالُوا إِكَافٌ وَوِكَافٌ، قَالَ يَعْقُوبُ، ابْنُ السِّكِّيتِ: أَرَادَتْ أَنَّهُ يُبَكِّرُ بِخُرُوجِهِ مِنْ مَنْزِلِهَا غُدْوَةً وَقْتَ قِيَامِ الْخَدَمِ وَالْعَبِيدِ لِأَشْغَالِهِمْ، وَانْطَوَى فِي خَبَرِهَا كَثْرَةُ خَيْرِ دَارِهِ وَغَزْرُ لَبَنِهِ وَأَنَّ عِنْدَهُمْ مَا يَكْفِيهِمْ وَيَفَضَلُ حَتَّى يَمْخَضُوهُ وَيَسْتَخْرِجُوا زُبْدَهُ، ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي خَرَجَ فِيهِ كَانَ فِي زَمَنِ الْخِصَبِ وَطِيبِ الرَّبِيعِ. قُلْتُ: وَكَأَنَّ سَبَبَ ذِكْرِ ذَلِكَ تَوْطِئَةٌ لِلْبَاعِثِ عَلَى رُؤْيَةِ أَبِي زَرْعٍ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي رَآهَا عَلَيْهَا، أَيْ أَنَّهَا مِنْ مَخْضِ اللَّبَنِ تَعِبَتْ فَاسْتَلْقَتْ تَسْتَرِيحُ، فَرَآهَا أَبُو زَرْعٍ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (فَلَقِيَ امْرَأَةً مَعَهَا وَلَدَانِ لَهَا كَالْفَهْدَيْنِ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فَأَبْصَرَ امْرَأَةً لَهَا ابْنَانِ كَالْفَهْدَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ كَالصَّقْرَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكَاذِيِّ كَالشِّبْلَيْنِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ سَارَّيْنِ حَسَنَيْنِ نَفِيسَيْنِ، وَفَائِدَةُ وَصْفِهَا لَهُمَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَسْبَابِ تَزْوِيجِ أَبِي زَرْعٍ لَهَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْغَبُونَ فِي أَنْ تَكُونَ أَوْلَادُهُمْ مِنَ النِّسَاءِ الْمُنْجِبَاتِ؛ فَلِذَلِكَ حَرَصَ أَبُو زَرْعٍ عَلَيْهَا لَمَّا رَآهَا، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ فَإِذَا هُوَ بِأُمِّ غُلَامَيْنِ وَوَصْفُهَا لَهُمَا بِذَلِكَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى صِغَرِ سِنِّهِمَا وَاشْتِدَادِ خَلْقِهِمَا، وَتَوَارَدَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّهُمَا ابْنَاهَا، إِلَّا مَا رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ فَإِنَّهُ قَالَ: فَمَرَّ عَلَى جَارِيَةٍ مَعَهَا أَخَوَاهَا، قَالَ عِيَاضٌ: يَتَأَوَّلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمَا وَلَدَاهَا وَلَكِنَّهُمَا جُعِلَا أَخَوَيْهَا فِي حُسْنِ الصُّورَةِ وَكَمَالِ الْخِلْقَةِ، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ أَدَلَّ عَلَى صِغَرِ سِنِّهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ فَمَرَّ بِجَارِيَةٍ شَابَّةٍ كَذَا قَالَ، وَلَيْسَ لِغُنْدَرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ رِوَايَةٌ، وَإِنَّمَا هَذِهِ رِوَايَةُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَهُوَ الْوَرْكَانِيُّ وَلَمْ يُدْرِكِ الْحَارِثُ، مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، غُنْدَرًا، وَيُؤَيِّدُ أَنَّهُ الْوَرْكَانِيُّ أَنَّ غُنْدَرًا مَا لَهُ رِوَايَةٌ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْبَغَوِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْوَرْكَانِيِّ وَلَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، ثُمَّ إِنَّ كَوْنَهُمَا أَخَوَيْهَا يَدُلُّ عَلَى صِغَرِ سِنِّهَا فِيهِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَا مِنْ أَبِيهَا وَوُلِدَا
لَهُ بَعْدَ أَنْ طَعَنَ فِي السِّنِّ وَهِيَ بِكْرُ أَوْلَادِهِ فَلَا تَكُونُ شَابَّةً، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ كَوْنِهِمَا أَخَوَيْهَا وَوَلَدَيْهَا بِأَنْ تَكُونَ لَمَّا وَضَعَتْ وَلَدَيْهَا كَانَتْ أُمُّهَا تُرْضِعُ فَأَرْضَعَتْهُمَا.
قَوْلُهُ (يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرَيْهَا بِرُمَّانَتَيْنِ، فِي رِوَايَةِ الْحَارِثِ مِنْ تَحْتِ دِرْعِهَا، وَفِي رِوَايَةِ الْهَيْثَمِ مِنْ تَحْتِ صَدْرِهَا، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يُرِيدُ أَنَّهَا ذَاتُ كِفْلٍ عَظِيمٍ فَإِذَا اسْتَلْقَتِ ارْتَفَعَ كِفْلُهَا بِهَا مِنَ الْأَرْضِ حَتَّى يَصِيرَ تَحْتَهَا فَجْوَةٌ تَجْرِي فِيهَا الرُّمَّانَةُ، قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى الثَّدْيَيْنِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ اهـ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا جَزَمَ بِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدٍ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَهِيَ مُسْتَلْقِيَةٌ عَلَى قَفَاهَا وَمَعَهُمَا رُمَّانَةٌ يَرْمِيَانِ بِهَا مِنْ تَحْتِهَا فَتَخْرُجُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنْ عِظَمِ إِلْيَتَيْهَا، لَكِنْ رَجَّحَ عِيَاضٌ تَأْوِيلَ الرُّمَّانَتَيْنِ بِالنَّهْدَيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ سِيَاقَ أَبِي مُعَاوِيَةَ هَذَا لَا يُشْبِهُ كَلَامَ أُمِّ زَرْعٍ، قَالَ: فَلَعَلَّهُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ رُوَاتِهِ أَوْرَدَهُ عَلَى
سَبِيلِ التَّفْسِيرِ الَّذِي ظَنَّهُ فَأُدْرِجَ فِي الْخَبَرِ، وَإِلَّا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِلَعِبِ الصِّبْيَانِ وَرَمْيِهِمُ الرُّمَّانَ تَحْتَ أَصْلَابِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَمَا الْحَامِلُ لَهَا عَلَى الِاسْتِلْقَاءِ حَتَّى يَصْنَعَانِ ذَلِكَ وَيَرَى الرِّجَالُ مِنْهَا ذَلِكَ، بَلِ الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهَا يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرها أو صدرها أَيْ أَنَّ ذَلِكَ مَكَانَ الْوَلَدِين مِنْهَا، وَأَنَّهُمَا كَانَا فِي حِضْنَيْهَا أَوْ جَنْبَيْهَا، وَفِي تَشْبِيهِ النَّهْدَيْنِ بِالرُّمَّانَتَيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى صِغَرِ سِنِّهَا، وَأَنَّهَا لَمْ تَتَرَهَّلْ حَتَّى تَنْكَسِرَ
ثَدْيَاهَا وَتَتَدَلَّى اهـ. وَمَا رَدَّهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ، أَمَّا نَفِيُ الْعَادَةِ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنْ مِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعِ اتِّفَاقًا بِأَنْ تَكُونَ لَمَّا اسْتَلْقَتْ وَوَلَدَاهَا مَعَهَا شَغَلَتْهُمَا عَنْهَا بِالرُّمَّانَةِ يَلْعَبَانِ بِهَا لِيَتْرُكَاهَا تَسْتَرِيحُ؟ فَاتَّفَقَ أَنَّهُمَا لَعِبَا بِالْهَيْئَةِ الَّتِي حُكِيَتْ، وَأَمَّا الْحَامِلُ لَهَا عَلَى الِاسْتِلْقَاءِ فَقَدْ قَدَّمْتُ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّعَبِ الَّذِي حَصَلَ لَهَا مِنَ الْمَخْضِ، وَقَدْ يَقَعُ ذَلِكَ لِلشَّخْصِ فَيَسْتَلْقِي فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاسْتِلْقَاءِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْإِدْرَاجِ الَّذِي تَخَيَّلَهُ، وَإِنْ كَانَ مَنِ اخْتَارَهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّمَّانَةِ ثَدْيُهَا أَوْلَى لِأَنَّهُ أَدْخَلَ فِي وَصْفِ الْمَرْأَةِ بِصِغَرِ سِنِّهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا فِي رِوَايَةِ الْحَارِثِ فَأَعْجَبَتْهُ فَطَلَّقَنِي، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَخَطَبَهَا أَبُو زَرْعٍ فَتَزَوَّجَهَا، فَلَمْ تَزَلْ بِهِ حَتَّى طَلَّقَ أُمَّ زَرْعٍ؛ فَأَفَادَ السَّبَبَ فِي رَغْبَةِ أَبِي زَرْعٍ فِيهَا ثُمَّ فِي تَطْلِيقِهِ أُمَّ زَرْعٍ.
قَوْلُهُ (فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلًا فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فَاسْتَبْدَلْتُ، وَكُلُّ بَدَلٍ أَعْوَرُ؛ وَهُوَ مَثَلٌ مَعْنَاهُ أَنَّ الْبَدَلَ مِنَ الشَّيْءِ غَالِبًا لَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ بَلْ هُوَ دُونَهُ وَأَنْزَلُ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ بِالْأَعْوَرِ الْمَعِيبُ، قَالَ ثَعْلَبٌ: الْأَعْوَرُ الرَّدِيءُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، كَمَا يُقَالُ: كَلِمَةٌ عَوْرَاءُ أَيْ قَبِيحَةٌ، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْغَالِبِ وَبِالنِّسْبَةِ، فَأَخْبَرَتْ أُمُّ زَرْعٍ أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ لَمْ يَسُدَّ مَسَدَّ أَبِي زَرْعٍ.
قَوْلُهُ (سَرِيًّا بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ رَاءٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ أَيْ مِنْ سَرَاةِ النَّاسِ وَهُمْ كُبَرَاؤُهُمْ فِي حُسْنِ الصُّورَةِ وَالْهَيْئَةِ، وَالسَّرِيُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خِيَارُهُ، وَفَسَّرَهُ الْحَرْبِيُّ بِالسَّخِيِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ شابا سريا.
قَوْلُهُ (رَكِبَ شَرِيًّا بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ رَاءٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ، قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: تَعْنِي فَرَسًا خِيَارًا فَائِقًا، وَفِي رِوَايَةِ الْحَارِثِ رَكِبَ فَرَسًا عَرَبِيًّا، وَفِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ أَعْوَجِيًّا وَهُوَ مَنْسُ بٌ إِلَى أَعْوَجَ فَرَسٌ مَشْهُورٌ تَنْسُبُ إِلَيْهِ الْعَرَبُ جِيَادَ الْخَيْلِ كَانَ لِبَنِي كِنْدَةَ ثُمَّ لِبَنِي سُلَيْمٍ ثُمَّ لِبَنِي هِلَالٍ، وَقِيلَ لِبَنِي غَنِيٍّ وَقِيلَ لِبَنِي كِلَابٍ، وَكُلُّ هَذِهِ الْقَبَائِلِ بَعْدَ كِنْدَةَ مِنْ قَيْسٍ، قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: كَانَ لِبَعْضِ مُلُوكِ كِنْدَةَ فَغَزَا قَوْمًا مِنْ قَيْسٍ فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا فَرَسَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ رُكِبَ صَغِيرًا رَطْبًا قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ فَاعْوَجَّ وَكَبُرَ عَلَى ذَلِكَ، وَالشَّرِيُّ الَّذِي يَسْتَشْرِي فِي سَيْرِهِ أَيْ يَمْضِي فِيهِ بِلَا فُتُورٍ، وَشَرَى الرَّجُلُ فِي الْأَمْرِ إِذَا لَجَّ فِيهِ وَتَمَادَى، وَشَرَى الْبَرْقُ إِذَا كَثُرَ لَمَعَانُهُ.
قَوْلُهُ (وَأَخَذَ خَطِّيًّا بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ نِسْبَةً إِلَى الْخَطِّ، صِفَةُ مَوْصُوفٍ وَهُوَ الرُّمْحُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَارِثِ وَأَخَذَ رُمْحًا خَطِّيًّا، وَالْخَطُّ مَوْضِعٌ بِنَوَاحِي الْبَحْرِينِ تُجْلَبُ مِنْهُ الرِّمَاحُ، وَيُقَالُ: أَصْلُهَا مِنَ الْهِنْدِ تُحْمَلُ فِي الْبَحْرِ إِلَى الْخَطِّ الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ، وَقِيلَ: إِنْ سَفِينَةً فِي أَوَّلِ الزَّمَانِ كَانَتْ مَمْلُوءَةً رِمَاحًا قَذَفَهَا الْبَحْرُ إِلَى الْخَطِّ فَخَرَجَتْ رِمَاحُهَا فِيهَا فَنُسِبَتْ إِلَيْهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الرِّمَاحَ إِذَا كَانَتْ عَلَى جَانِبِ الْبَحْرِ تَصِيرُ كَالْخَطِّ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَقِيلَ لَهَا الْخَطِّيَّةُ لِذَلِكَ، وَقِيلَ: الْخَطُّ مَنْبَتُ الرِّمَاحِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَلَا يَصِحُّ. وَقِيلَ: الْخَطُّ السَّاحِلُ، وَكُلُّ سَاحِلٍ خَطٌّ. قَوْلُهُ (وَأَرَاحَ بِمُهْمَلَتَيْنِ مِنَ الرَّوَاحِ وَمَعْنَاهُ أَتَى بِهَا إِلَى الْمُرَاحِ وَهُوَ مَوْضِعُ مَبِيتِ الْمَاشِيَةِ، قَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ غَزَا فَغَنِمَ، فَأَتَى بِالنَّعَمِ الْكَثِيرَةِ.
قَوْلُهُ (عَلَيَّ بِالتَّشْدِيدِ وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ وَأَرَاحَ عَلَى بَيْتِي.
قَوْلُهُ (نَعَمًا بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَهُوَ الْإِبِلُ خَاصَّةً، وَيُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ الْمَوَاشِي إِذَا كَانَ فِيهَا إِبِلٌ، وَفِي رِوَايَةٍ حَكَّاهَا عِيَاضٌ نِعَمًا بِكَسْرٍ أَوَّلِهِ جَمْعُ نِعْمَةٍ، وَالْأَشْهُرُ الْأَوَّلُ.
قَوْلُهُ (ثَرِيًّا بِمُثَلَّثَةٍ أَيْ كَثِيرَةً، وَالثَّرِيُّ الْمَالُ الْكَثِيرَ مِنَ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا، يُقَالُ: أَثْرَى فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا كَثَّرَهُ فَكَانَ
فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَذَكَرَ ثَرِيًّا وَإِنْ كَانَ وَصْفَ مُؤَنَّثٍ لِمُرَاعَاةِ السَّجْعِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَيْسَ تَأْنِيثُهُ حَقِيقِيًّا يَجُوزُ فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ.
قَوْلُهُ (وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ بِرَاءٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ وَمُهْمَلَةٍ، فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ ذَابِحَةٍ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ أَيْ مَذْبُوحَةٍ، مِثْلُ عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ أَيْ مَرَضِيَّةٍ، فَالْمَعْنَى أَعْطَانِي مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُذْبَحُ زَوْجًا، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ كُلِّ سَائِمَةٍ، وَالسَّائِمَةُ الرَّاعِيَةُ وَالرَّائِحَةُ الْآتِيَةُ وَقْتَ الرَّوَاحِ وَهُوَ آخِرُ النَّهَارِ.
قَوْلُهُ (زَوْجًا أَيِ اثْنَيْنِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَرْعَى، وَالزَّوْجُ يُطْلَقُ عَلَى الِاثْنَيْنِ وَعَلَى الْوَاحِدِ أَيْضًا، وَأَرَادَتْ بِذَلِكَ كَثْرَةَ مَا أَعْطَاهَا وَأَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْفَرْدِ مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ: كُلِي أُمَّ زَرْعٍ، وَمِيرِي أَهْلَكِ أَيْ صِلِيهِمْ وَأَوْسَعِي عَلَيْهِمْ بِالْمِيرَةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهِيَ الطَّعَامُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا وَصَفَتْهُ بِالسُّؤْدُدِ فِي ذَاتِهِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالْفَضْلِ وَالْجُودِ بِكَوْنِهِ أَبَاحَ لَهَا أَنْ تَأْكُلَ مَا شَاءَتْ مِنْ مَالِهِ وَتَهْدِيَ مِنْهُ مَا شَاءَت لِأَهْلِهَا مُبَالَغَةً فِي إِكْرَامِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَتْ أَحْوَالُهُ عِنْدَهَا مُحْتَقَرَةً بِالنِّسْبَةِ لِأَبِي زَرْعٍ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنْ أَبَا زَرْعٍ كَانَ أَوَّلَ أَزْوَاجِهَا فَسَكَنَتْ مَحَبَّتُهُ فِي قَلْبِهَا كَمَا قِيلَ مَا الْحُبُّ إِلَّا لِلْحَبِيبِ الْأَوَّلِ. زَادَ أَبُو مُعَاوِيَةَ فِي رِوَايَتِهِ فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ آخَرُ فَأَكْرَمَهَا أَيْضًا، فَكَانَتْ تَقُولُ: أَكْرَمَنِي وَفَعَلَ بِي، وَتَقُولُ فِي آخِرِ ذَلِكَ: لَوْ جُمِعَ ذَلِكَ كُلُّهُ.
قَوْلُهُ (قَالَتْ فَلَوْ جَمَعْتُ فِي رِوَايَةِ الْهَيْثَمِ فَجَمَعْتُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ: فَقُلْتُ لَوْ كَانَ هَذَا أُجْمِعَ فِي أَصْغَرِ.
قَوْلُهُ (كُلُّ شَيْءٍ فِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ كُلُّ الَّذِي.
قَوْلُهُ (أَعْطَانِيهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَعْطَانِي بِلَا هَاءٍ.
قَوْلُهُ (مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِي زَرْعٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ مَا مَلَأَ إِنَاءً مِنْ آنِيَةِ أَبِي زَرْعٍ، وَفِي رِوَايَةِ للنَّسَائِيِّ مَا بَلَغَتْ إِنَاءَ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فَلَوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَيْءٍ أَصَبْتُهُ مِنْهُ فَجَعَلْتُهُ فِي أَصْغَرِ وِعَاءٍ مِنْ أَوْعِيَةِ أَبِي زَرْعٍ مَا مَلَأَهُ، لِأَنَّ الْإِنَاءَ أَوِ الْوِعَاءَ لَا يَسَعُ مَا ذَكَرَتْ أَنَّهُ أَعْطَاهَا مِنْ أَصْنَافِ النِّعَمِ، وَيَظْهَرُ لِي حَمْلُهُ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ مُسْتَحِيلٍ وَهِيَ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنَّ الَّذِي أَعْطَاهَا جُمْلَةً أَرَادَ أَنَّهَا تُوَزِّعُهُ عَلَى الْمُدَّةِ إِلَى أَنْ يَجِيءَ أَوَانُ الْغَزْوِ، فَلَوْ وَزَّعَتْهُ لَكَانَ حَظُّ كُلِّ يَوْمٍ مَثَلًا لَا يَمْلَأُ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِي زَرْعٍ الَّتِي كَانَ يُطْبَخُ فِيهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ بِغَيْرِ نَقْصٍ وَلَا قَطْعٍ. قَوْلُهُ (قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، زَادَ الْكَاذِيُّ فِي رِوَايَته يَا عَائِشُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ يَا عَائِشَةُ.
قَوْلُهُ (كُنْتُ لَكِ فِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ فَكُنْتُ لَكِ، وَفِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ: أَنَا لَكِ وَهِيَ تَفْسِيرُ الْمُرَادِ بِرِوَايَةِ كُنْتُ كَمَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} أَيْ أَنْتُمْ، وَمِنْهُ {مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ} أَيْ مَنْ هُوَ فِي الْمَهْدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كَانَ هُنَا عَلَى بَابِهَا، وَالْمُرَادُ بِهَا الِاتِّصَالُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} إِذِ الْمُرَادُ بَيَانُ زَمَانٍ مَاضٍ فِي الْجُمْلَةِ، أَيْ كُنْتُ لَكِ فِي سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ (كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ زَادَ فِي رِوَايَةِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدَيٍّ فِي الْأُلْفَةِ وَالْوَفَاءِ لَا فِي الْفُرْقَةِ وَالْجَلَاءِ، وَزَادَ الزُّبَيْرُ فِي آخِرِهِ إِلَّا أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَإِنِّي لَا أُطَلِّقُكِ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ، وَزَادَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ لَهُ وَالطَّبَرَانِيِّ قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلْ أَنْتَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي زَرْعٍ، وَفِي أَوَّلِ رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ بِأَبِي وَأُمِّي لَأَنْتَ خَيْرٌ لِي مِنْ أَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ، وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ تَطْيِيبًا لَهَا وَطُمَأْنِينَةً لِقَلْبِهَا وَدَفْعًا لِإِبهَامِ عُمُومِ التَّشْبِيهِ بِجُمْلَةِ أَحْوَالِ أَبِي زَرْعٍ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَذُمُّهُ النِّسَاءُ سِوَى ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ الْإِفْصَاحُ بِذَلِكَ، وَأَجَابَتْ هِيَ عَنْ ذَلِكَ جَوَابَ مِثْلِهَا فِي فَضْلِهَا وَعِلْمِهَا.
تَنْبِيهٌ: وَقَعَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ شَابُورَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ جَدِّهِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا حَدَّثَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَبِي زَرْعٍ وَأُمِّ زَرْعٍ وَذَكَرَتْ شِعْرَ أَبِي زَرْعٍ فِي أُمِّ زَرْعٍ، كَذَا فِيهِ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ
طُرُقه عَلَى هَذَا الشِّعْرِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِمْرَانَ، والطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِإِسْنَادِهِ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ أَيْضًا.
قَوْلُهُ (قَالَ سَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ هُوَ ابْنُ أَبِي الْحُسَامِ، وَهُوَ مَدَنِيٌّ صَدُوقٌ مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ.
قَوْلُهُ (قَالَ هِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ يَعْنِي بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْهُ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ بِتَمَامِهِ، بَلْ ذَكَرَ أَنَّ عِنْدَهُ عِيَانًا وَلَمْ يَشُكَّ، وَأَنَّهُ قَالَ: وَصِفْرُ رِدَائِهَا وَخَيْرُ نِسَائِهَا وَعَقْرُ جَارَتِهَا، وَقَالَ: وَلَا تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثًا، وَقَالَ: وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَهَذَا الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا تُعَشِّشُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا. اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ، فَقِيلَ: بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَقِيلَ: بِالْمُهْمَلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ بِطُولِهِ وَإِسْنَادُهُ مُوَافِقٌ لِعِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَأَشَرْتُ إِلَى مَا فِي رِوَايَتِهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ مُفَصَّلًا. وَذَكَرَ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ بِلَفْظِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: وعشش بَيْتَنَا تَعْشِيشًا؛ وَهُوَ خَطَأٌ فِي السَّنَدِ وَالْمَتْنِ، وَالصَّوَابُ وَلَا تُعَشِّشُ، وَقَالَ مُوسَى:، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ هِشَامٍ.
قَوْلُهُ (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ فانقمح بِالْمِيمِ وَهَذَا أَصَحُّ. أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورُ هُوَ الْبُخَارِيُّ الْمُصَنِّفُ، وَهُوَ يُوَضِّحُ أَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي أَصْلِ رِوَايَتِهِ أَتَقَنَّحُ بِالنُّونِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَتَقَمَّحُ بِالْمِيمِ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ أَيْضًا النَّسَائِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ وَالْجَوْزَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ الْمَذْكُورَةِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي ضَبْطِهَا وَمَعْنَاهَا. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ حُسْنُ عِشْرَةِ الْمَرْءِ أَهْلَهُ بِالتَّأْنِيسِ وَالْمُحَادَثَةِ بِالْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ مَا لَمْ يُفْضِ ذَلِكَ إِلَى مَا يَمْنَعُ، وَفِيهِ الْمَزْحُ أَحْيَانًا وَبَسْطُ النَّفْسِ بِهِ وَمُدَاعَبَةُ الرَّجُلِ أَهْلَهُ وَإِعْلَامُهُ بِمَحَبَّتِهِ لَهَا مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى مَفْسَدَةٍ تَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ تَجَنِّيهَا عَلَيْهِ وَإِعْرَاضِهَا عَنْهُ. وَفِيهِ مَنْعُ الْفَخْرِ بِالْمَالِ وَبَيَانُ جَوَازِ ذِكْرِ الْفَضْلِ بِأُمُورِ الدِّينِ وإِخْبَارُ الرَّجُلِ أَهْلَهُ بِصُورَةِ حَالِهِ مَعَهُمْ وَتَذْكِيرُهُمْ بِذَلِكَ لَا سِيَّمَا عِنْدَ وُجُودِ مَا طُبِعْنَ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِ الْإِحْسَانِ. وَفِيهِ ذِكْرُ الْمَرْأَةِ إِحْسَانَ زَوْجِهَا، وَفِيهِ إِكْرَامُ الرَّجُلِ بَعْضَ نِسَائِهِ بِحُضُورِ ضَرَائِرِهَا بِمَا يَخُصُّهَا بِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَمَحِلُّهُ عِنْدَ السَّلَامَةِ مِنَ الْمَيْلِ الْمُفْضِي إِلَى الْجَوْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْهِبَةِ جَوَازُ تَخْصِيصِ بَعْضِ الزَّوْجَاتِ بِالتُّحَفِ وَاللُّطْفِ إِذَا اسْتَوْفَى لِلْأُخْرَى حَقَّهَا. وَفِيهِ جَوَازُ تَحَدُّثِ الرَّجُلِ مَعَ زَوْجَتِهِ فِي غَيْرِ نَوْبَتِهَا.
وَفِيهِ الْحَدِيثُ عَنِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ وَضَرْبُ الْأَمْثَالِ بِهِمُ اعْتِبَارًا، وَجَوَازُ الِانْبِسَاطِ بِذِكْرِ طَرَفِ الْأَخْبَارِ وَمُسْتَطَابَاتِ النَّوَادِرِ تَنْشِيطًا لِلنُّفُوسِ. وَفِيهِ حَضُّ النِّسَاءِ عَلَى الْوَفَاءِ لِبُعُولَتِهِنَّ وَقَصْرُ الطَّرْفِ عَلَيْهِمْ وَالشُّكْرُ لِجَمِيلِهِمْ، وَوَصْفُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا بِمَا تَعْرِفُهُ مِنْ حُسْنٍ وَسُوءٍ، وَجَوَازُ الْمُبَالَغَةِ فِي الْأَوْصَافِ، وَمَحِلُّهُ إِذَا لَمَّ يَصِرْ ذَلِكَ دَيْدَنًا لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى خَرْمِ الْمُرُوءَةِ.
وَفِيهِ تَفْسِيرُ مَا يَجمِلُهُ الْمُخْبِرُ مِنَ الْخَبَرِ إِمَّا بِالسُّؤَالِ عَنْهُ وَإِمَّا ابْتِدَاءً مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَفِيهِ إنَّ ذِكْرَ الْمَرْءِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْعَيْبِ جَائِزٌ إِذَا قُصِدَ التَّنْفِيرُ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ غَيْبَةً، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْخَطَّابِيُّ، وَتَعَقَّبَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ شَيْخُ عِيَاضٍ بِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِذَلِكَ إِنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ الْمَرْأَةَ تَغْتَابُ زَوْجَهَا فَأَقَرَّهَا، وَأَمَّا الْحِكَايَةُ عَمَّنْ لَيْسَ بِحَاضِرٍ فَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ نَظِيرُ مَنْ قَالَ فِي النَّاسِ شَخْصٌ يُسِيءُ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الْخَطَّابِيُّ فَلَا تَعَقُّبَ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: قَالَ بَعْضُهُمْ: ذَكَرَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ أَزْوَاجَهُنَّ بِمَا يَكْرَهُونَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ غِيبَةً لِكَوْنِهِمْ لَا يُعْرَفُونَ بِأَعْيَانِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا الِاعْتِذَارِ لَوْ كَانَ مَنْ تُحُدِّثَ عِنْدَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَمِعَ كَلَامَهُنَّ فِي اغْتِيَابِ أَزْوَاجِهِنَّ فَأَقَرَّهُنَّ عَلَى ذَلِكَ، فَأَمَّا وَالْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ عَائِشَةَ حَكَتْ قِصَّةً عَنْ نِسَاءٍ مَجْهُولَاتٍ غَائِبَاتٍ فَلَا، وَلَوْ أَنَّ
امْرَأَةً وَصَفَتْ زَوْجَهَا بِمَا يَكْرَهُه لَكَانَ غِيبَةً مُحَرَّمَةً عَلَى مَنْ يَقُولُهُ وَيَسْمَعُهُ، إِلَّا إِنْ كَانَتْ فِي مَقَامِ الشَّكْوَى مِنْهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَهَذَا فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ فَأَمَّا الْمَجْهُولُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ فَلَا حَرَجَ فِي سَمَاعِ الْكَلَامِ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَذَّى إِلَّا إِذَا عَرَفَ أَنَّ مَنْ ذُكِرَ عِنْدَهُ يَعْرِفُهُ، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الرِّجَالَ مَجْهُولُونَ لَا تُعْرَفُ أَسْمَاؤُهُمْ وَلَا أَعْيَانُهُمْ فضلا عن أسمائهم، وَلَمْ يَثْبُتْ
لِلنِّسْوَةِ إِسْلَامٌ حَتَّى يَجْرِيَ عَلَيْهِنَّ الْغِيبَةِ فَبَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِمَا ذُكِرَ، وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِمَنْ كَرِهَ نِكَاحَ مِنْ كَانَ لَها زَوْجٌ لِمَا ظَهَرَ مِنِ اعْتِرَافِ أُمِّ زَرْعٍ بِإِكْرَامِ زَوْجِهَا الثَّانِي لَهَا بِقَدْرِ طَاقَتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَحَقَّرَتْهُ وَصَغَّرَتْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ أَنْ الْحُبَّ يَسْتُرُ الْإِسَاءَةَ لِأَنَّ أَبَا زَرْعٍ مَعَ إِسَاءَتِهِ لَهَا بِتَطْلِيقِهَا لِمَ يَمْنَعْهَا ذَلِكَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي وَصْفِهِ إِلَى أَنْ بَلَغَتْ حَدَّ الْإِفْرَاطِ وَالْغُلُوِّ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ إِشَارَةٌ أَنَّ أَبَا زَرْعٍ نَدِمَ عَلَى طَلَاقِهَا، وَقَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا، فَفِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا حَدَّثَتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَبِي زَرْعٍ وَأُمِّ زَرْعٍ وَذَكَرَتْ شِعْرَ أَبِي زَرْعٍ عَلَى أُمِّ زَرْعٍ. وَفِيهِ جَوَازُ وَصْفِ النِّسَاءِ وَمَحَاسِنِهِنَّ لِلرَّجُلِ، لَكِنَّ مَحِلَّهُ إِذَا كُنَّ مَجْهُولَاتٍ، وَالَّذِي يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَصَفُ الْمَرْأَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِحَضْرَةِ الرَّجُلِ أَوْ أَنْ يُذْكَرَ مِنْ وَصْفِهَا مَا لَا يَجُوزُ لِلرَّجالِ تَعَمُّدُ النَّظَرِ إِلَيْهِ. وَفِيهِ أَنَّ التَّشْبِيهَ لَا يَسْتَلْزِمُ مُسَاوَاةَ الْمُشَبَّهِ بِالْمُشَبَّهِ بِهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ، وَالْمُرَادُ مَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْهَيْثَمِ فِي الْأُلْفَةِ إِلَى آخِرِهِ لَا فِي جَمِيعِ مَا وُصِفَ بِهِ أَبُو زَرْعٍ مِنَ الثَّرَوةِ الزَّائِدَةِ وَالِابْنِ وَالْخَادِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ كُلِّهَا.
وَفِيهِ أَنَّ كِنَايَةَ الطَّلَاقِ لَا تُوقِعُهُ إِلَّا مَعَ مُصَاحَبَةِ النِّيَّةِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَشَبَّهَ بَأَبِي زَرْعٍ، وَأَبُو زَرْعٍ قَدْ طَلَّقَ، فَلَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَقْصِدْ إِلَيْهِ. وَفِيهِ جَوَازُ التَّأَسِّي بِأَهْلِ الْفَضْلِ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ لِأَنَّ أُمَّ زَرْعٍ أَخْبَرَتْ عَنْ أَبِي زَرْعٍ بِجَمِيلِ عِشْرَتِهِ، فَامْتَثَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، كَذَا قَالَ الْمُهَلَّبُ وَاعْتَرضَّهُ عِيَاضٌ فَأَجَادَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي السِّيَاقِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَأَسَّى بِهِ بَلْ فِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ حَالَهُ مَعَهَا مِثْلُ حَالِ أُمِّ زَرْعٍ، نَعَمْ مَا اسْتَنْبَطَهُ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْخَبَرَ إِذَا سِيقَ وَظَهَرَ مِنَ الشَّارِعِ تَقْرِيرُهُ مَعَ الِاسْتِحْسَانِ لَهُ جَازَ التَّأَسِّي بِهِ، وَنَحْوٌ مِمَّا قَالَهُ الْمُهَلَّبُ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّ فِيهِ قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ أُمَّ زَرْعٍ أَخْبَرَتْ بِحَالِ أَبِي زَرْعٍ فَامْتَثَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ أَيْضًا فَأَجَادَ، نَعَمْ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْقَبُولُ بِطَرِيقِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّهُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَفِيهِ جَوَازُ قَوْلِ بِأَبِي وَأُمِّي وَمَعْنَاهُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهِ مَدْحُ الرَّجُلِ فِي وَجْهِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُفْسِدُهُ. وَفِيهِ جَوَازُ الْقَوْلِ لِلْمُتَزَوِّجِ: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ إِنْ ثَبَتَتِ اللَّفْظَةُ الزَّائِدَةُ أَخِيرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ قَبْلُ بِأَبْوَابٍ.
وَفِيهِ أَنَّ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ إِذَا تَحَدَّثْنَ أَنْ لَا يَكُونَ حَدِيثُهُنَّ غَالِبًا إِلَّا فِي الرِّجَالِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّجَالِ فَإِنَّ غَالِبَ حَدِيثِهِمْ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الْمَعَاشِ.
وَفِيهِ جَوَازُ الْكَلَامِ بِالْأَلْفَاظِ الْغَرِيبَةِ وَاسْتِعْمَالِ السَّجْعِ فِي الْكَلَامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا، قَالَ عِيَاضٌ مَا مُلَخَّصُهُ: فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ مِنْ فَصَاحَةِ الْأَلْفَاظِ وَبَلَاغَةِ الْعِبَارَةِ وَالْبَدِيعِ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا كَلَامَ أُمِّ زَرْعٍ فَإِنَّهُ مَعَ كَثْرَةِ فُصُولِهِ وَقِلَّةِ فُضُولِهِ مُخْتَارُ الْكَلِمَاتِ، وَاضِحُ السِّمَاتِ نَيِّرُ النَّسَمَاتِ، قَدْ قُدِّرَتْ أَلْفَاظُهُ قَدْرَ مَعَانِيهِ وَقُرِّرَتْ قَوَاعِدُهُ وَشُيِّدَتْ مَبَانِيه، وَفِي كَلَامِهِنَّ وَلَا سِيَّمَا الْأُولَى وَالْعَاشِرَةَ أَيْضًا مِنْ فُنُونِ التَّشْبِيهِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَالْكِنَايَةِ وَالْإِشَارَةِ وَالْمُوَازَنَةِ وَالتَّرْصِيعِ وَالْمُنَاسَبَةِ وَالتَّوْسِيعِ وَالْمُبَالَغَةِ وَالتَّسْجِيعِ وَالتَّوْلِيدِ وَضَرْبِ الْمَثَلِ وَأَنْوَاعِ الْمُجَانَسَةِ وَإِلْزَامِ مَا لَا يَلْزَمُ وَالْإِيغَالِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُطَابَقَةِ وَالِاحْتِرَاسِ وَحُسْنِ التَّفْسِيرِ وَالتَّرْدِيدِ وَغَرَابَةِ التَّقْسِيمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَشْيَاءُ ظَاهِرَةٌ لَمِنْ تَأَمَّلَهَا، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَكَمَّلَ ذَلِكَ أَنَّ غَالِبَ ذَلِكَ أُفْرِغَ فِي قَالَبِ الِانْسِجَامِ، وَأَتَى بِهِ الْخَاطِرُ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ، وَجَاءَ لَفْظُهُ تَابِعًا لِمَعْنَاهُ مُنْقَادًا لَهُ غَيْرَ مُسْتَكْرَهٍ وَلَا مُنَافِرٍ، وَاللَّهُ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ بِمَا شَاءَ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا
هِشَامٌ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ.
قَوْلُهُ (قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ) أَيِ الْقَرِيبَةِ الْعَهْدِ بِالصِّغَرِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي شَرْحِ الْمَتْنِ فِي الْعِيدَيْنِ أَنَّهَا كَانَتْ يَوْمَئِذٍ بِنْتَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ أَزْيَدَ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ الْجَارِيَةُ الْعَرِبَةُ؛ وَهِيَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ.
83 - بَاب مَوْعِظَةِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ لِحَالِ زَوْجِهَا
5191 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} حَتَّى حَجَّ وَحَجَجْتُ مَعَهُ، وَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِإِدَاوَةٍ، فَتَبَرَّزَ ثُمَّ جَاءَ فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْهَا فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} قَالَ: وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! هُمَا عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الْحَدِيثَ يَسُوقُهُ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهُمْ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا؛ فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِمَا حَدَثَ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْوَحْيِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الْأَنْصَارِ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ؛ فَصَخِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي فَرَاجَعَتْنِي فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، قَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ.
فَأَفْزَعَنِي ذَلِكَ فقُلْتُ لَهَا: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكِ مِنْهُنَّ، ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي فَنَزَلْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ لَهَا: أَيْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ؛ فَقُلْتُ: قَدْ خِبْتِ وَخَسِرْتِ، أَفَتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَتَهْلِكِي؟ لَا تَسْتَكْثِرِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَا تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ وَلَا تَهْجُرِيهِ، وَسَلِينِي مَا بَدَا لَكِ، وَلَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يُرِيدُ عَائِشَةَ، قَالَ عُمَرُ: وَكُنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ لِتغَزْوِنَا؛ فَنَزَلَ صَاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ؛ فَرَجَعَ إِلَيْنَا عِشَاءً فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: أَثَمَّ هُوَ؟ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ حَدَثَ الْيَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ: مَا هُوَ؟ أَجَاءَ غَسَّانُ؟ قَالَ: لَا؛ بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَهْوَلُ.
طَلَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ حُنَيْنٍ: سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ؛ فَقَالَ: اعْتَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَزْوَاجَهُ؛ فَقُلْتُ: خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ، وقَدْ كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ؛ فَجَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَصَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَشْرُبَةً لَهُ فَاعْتَزَلَ
فِيهَا، وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ؟ أَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ هَذَا؟ أَطَلَّقَكُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: لَا أَدْرِي، هَاهُوَ ذَا مُعْتَزِلٌ فِي الْمَشْرُبَةِ؛ فَخَرَجْتُ فَجِئْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ الَّتِي فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فَقُلْتُ لِغُلَامٍ لَهُ أَسْوَدَ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ الْغُلَامُ فَكَلَّمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَجَعَ؛ فَقَالَ: كَلَّمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ؛ فَانْصَرَفْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ فَقُلْتُ لِلْغُلَامِ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ؛ فَدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ؛ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ، فَرَجَعْتُ فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْغُلَامَ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ؛ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا، قَالَ: إِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي؛ فَقَالَ: قَدْ أَذِنَ لَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم؛ فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ، مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ إِلَيَّ بَصَرَهُ فَقَالَ: لَا، فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ أَسْتَأْنِسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَنِي وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَنِي وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ لَهَا: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يُرِيدُ عَائِشَةَ، فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَبَسُّمَةً أُخْرَى، فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلَاثَةٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ؛ فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ مُتَّكِئًا؛ فَقَالَ: أَوَفِي هَذَا أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟! إِنَّ أُولَئِكَ قَوْمٌ قد عُجِّلُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَغْفِرْ لِي، فَاعْتَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ قَالَ: مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا، مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ
حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ عز وجل؛ فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَبَدَأَ بِهَا؛ فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ كُنْتَ قَدْ أَقْسَمْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، وَإِنَّمَا أَصْبَحْتَ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا؛ فَقَالَ: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّخَيُّرِ فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ فَاخْتَرْتُهُ، ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ كُلَّهُنَّ فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ.
قَوْلُهُ (بَابُ مَوْعِظَةِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ لِحَالِ زَوْجِهَا) أَيْ لِأَجْلِ زَوْجِهَا.
قَوْلُهُ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ) فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ الْمَاضِيَةِ فِي تَفْسِيرِ التَّحْرِيمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَكَثْتُ سَنَةً أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ.
قَوْلُهُ (عَنِ
الْمَرْأَتَيْنِ) فِي رِوَايَةِ عُبَيْدٍ عَنْ آيَةٍ.
قَوْلُهُ (اللَّتَيْنِ) كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ التِّينِ الَّتِي بِالْإِفْرَادِ وَخَطَّأَهَا، فَقَالَ: الصَّوَابُ اللَّتَيْنِ بِالتَّثْنِيَةِ. قُلْتُ: وَلَوْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً لَأَمْكَنَ تَوْجِيهُهَا.
قَوْلُهُ (حَتَّى حَجَّ وَحَجَجْتُ مَعَهُ) فِي رِوَايَةِ عُبَيْدٍ: فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ، حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا، وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ فَكُنْتُ أَهَابُهُ، حَتَّى حَجَجْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَيْنَا حَجَّنَا، قَالَ: مَرْحَبًا بِابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا حَاجَتُكَ؟
قَوْلُهُ (وَعَدَلَ) أَيْ عَنِ الطَّرِيقِ الْجَادَّةِ الْمَسْلُوكَةِ إِلَى طَرِيقٍ لَا يُسْلَكُ غَالِبًا لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدٍ: فَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا رَجَعْنَا وَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ إِلَى الْأَرَاكِ لِحَاجَةٍ لَهُ، وَبَيَّنَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّ الْمَكَانَ الْمَذْكُورَ هُوَ مَرُّ الظَّهْرَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ فِي الْمَغَازِي.
قَوْلُهُ (وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِإِدَاوَةٍ فَتَبَرَّزَ) أَيْ قَضَى حَاجَتَهُ، وَتَقَدَّمَ ضَبْطُ الْإِدَاوَةِ وَتَفْسِيرِهَا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَأَصْلُ تَبَرَّزَ مِنَ الْبَرَازِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْخَالِي الْبَارِزُ عَنِ الْبُيُوتِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى نَفْسِ الْفِعْلِ، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ الطيَالِسِيِّ: فَدَخَلَ عُمَرُ الْأَرَاكَ فَقَضَى حَاجَتَهُ، وَقَعَدْتُ لَهُ حَتَّى خَرَجَ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا يَجِدُ الْفَضَاءَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ اسْتَتَرَ بِمَا يُمْكِنُهُ السِّتْرُ بِهِ مِنْ شَجَرِ الْبَادِيَةِ.
قَوْلُهُ (فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْهَا فَتَوَضَّأَ) فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ الْمَاضِيَةِ فِي الْمَظَالِمِ: فَسَكَبْتُ مِنَ الْإِدَاوَةِ.
قَوْلُهُ (فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنِ الْمَرْأَتَانِ؟)، فِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ حَدِيثٍ مُنْذُ سَنَةٍ فَتَمْنَعُنِي هَيْبَتُكَ أَنْ أَسْأَلَكَ، وَتَقَدَّمَ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ فَوَقَفْتُ لَهُ حَتَّى فَرَغَ ثُمَّ سِرْتُ مَعَهُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَزْوَاجِهِ؟ قَالَ: تِلْكَ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَكَ. قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، مَا ظَنَنْتَ أَنَّ عِنْدِي مِنْ عِلْمٍ فَاسْأَلْنِي، فَإِنْ كَانَ لِي عِلْمٌ خَبَّرْتُكَ بِهِ، وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ الْمَذْكُورَةِ، فَقَالَ: مَا تَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِذَلِكَ مِنِّي.
قَوْلُهُ (اللَّتَانِ) كَذَا فِي الْأُصُولِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَهُ الَّتِي بِالْإِفْرَادِ، قَالَ: وَالصَّوَابُ اللَّتَانِ بِالتَّثْنِيَةِ. وَقَوْلُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أَيْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا إِنْ تَتُوبَا مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ:{وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} أَيْ تَتَعَاوَنَا كَمَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ، وَمَعْنَى تَظَاهُرِهِمَا أَنَّهُمَا تَعَاوَنَتَا حَتَّى حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَفْسِهِ مَا حَرَّمَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَقَوْلُهُ {قُلُوبُكُمَا} كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ فِي مَوْضِعِ التَّثْنِيَةِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِمْ وَضَعَا رِحَالَهُمَا أَيْ رَحْلَيْ رَاحِلَتَيْهِمَا.
قَوْلُهُ (وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْعِلْمِ وَأَنَّ عُمَرَ تَعَجَّبَ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ شُهْرَتِهِ بِعِلْمِ التَّفْسِيرِ كَيْفَ خَفِيَ عَلَيْهِ هَذَا الْقَدْرُ مَعَ شُهْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ فِي نَفْسِ عُمَرَ وَتَقَدُّمِهِ فِي الْعِلْمِ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّصْرِ، وَمَعَ مَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَشْهُورًا بِهِ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَمُدَاخَلَةِ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ، أَوْ تَعَجَّبَ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى طَلَبِ فُنُونِ التَّفْسِيرِ حَتَّى مَعْرِفَةِ الْمُبْهَمِ، وَوَقَعَ فِي الْكَشَّافِ كَأَنَّهُ كَرِهَ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ. قُلْتُ: وَقَدْ جَزَمَ بِذَلِكَ الزُّهْرِيُّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْهُ، قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ قَالَ عُمَرُ وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَرِهَ وَاللَّهِ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ وَلَمْ يَكْتُمْهُ، وَلَا يَسْتَبْعِدُ الْقُرْطُبِيُّ مَا فَهِمَهُ الزُّهْرِيُّ، وَلَا بُعْدَ فِيهِ. قُلْتُ: وَيَجُوزُ فِي عَجَبًا التَّنْوِينُ وَعَدَمُهُ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَا فِي قَوْلِهِ وَا عَجَبًا إِنْ كَانَ مُنَوَّنًا فَهُوَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى أَعْجَبُ، وَمِثْلُهُ وَاهًا وَوَيْ، وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ عَجَبًا جِيءَ بِهَا تَعَجُّبًا تَوْكِيدًا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ فَالْأَصْلُ فِيهِ وَا عَجَبِي فَأُبْدِلَتِ الْكَسْرَةُ فَتْحَةً فَصَارَتِ
الْيَاءُ أَلِفًا كَقَوْلِهِمْ يَا أَسَفَا وَيَا حَسْرَتَا، وَفِيهِ شَاهِدٌ لِجَوَازِ اسْتِعْمَالِ وَا فِي مُنَادًى غَيْرِ مَنْدُوبٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ وَهُوَ مَذْهَبٌ صَحِيحٌ اهـ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ وَا عَجَبِي لَكَ.
قَوْلُهُ (عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَحْدَهُ عَنْهُ حَفْصَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ كَذَا حَكَاهُ عَنْهُ مُسْلِمٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ، فَقَالَ: عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ مِثْلُ الْجَمَاعَةِ.
تَنْبِيهٌ:
هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ هُوَ الْمُبْتَدِئُ بِسُؤَالِ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنَّا نَسِيرُ فَلَحِقَنَا عُمَرُ وَنَحْنُ نَتَحَدَّثُ فِي شَأْنِ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ، فَسَكَتْنَا حِينَ لَحِقَنَا، فَعَزَمَ عَلَيْنَا أَنْ نُخْبِرَهُ، فَقُلْنَا: تَذَاكَرْنَا شَأْنَ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، وَسَوْدَةَ، فَذَكَرَ طَرَفًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَيْسَ بِتَمَامِهِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ سَابِقَةً وَلَمْ يَتَمَكَّنِ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ سُؤَالِ عُمَرَ عَنْ شَرْحِ الْقِصَّةِ عَلَى وَجْهِهَا إِلَّا فِي الْحَالِ الثَّانِي.
قَوْلُهُ (ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الْحَدِيثَ يَسُوقُهُ) أَيِ الْقِصَّةَ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا.
قَوْلُهُ (كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الْأَنْصَارِ) تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْعِلْمِ، وَمَضَى فِي الْمَظَالِمِ بِلَفْظِ: إِنِّي كُنْتُ وَجَارٌ لِي بِالرَّفْعِ، وَيَجُوزُ فِيهِ النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ إِنِّي.
قَوْلُهُ (فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ) أَيِ ابْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مِنَ الْأَوْسِ.
قَوْلُهُ (وَهُمْ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ) أَيِ السُّكَّانِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ وَهِيَ أَيِ الْقَرْيَةِ، وَالْعَوَالِي جَمْعُ عَالِيَةٍ وَهِيَ قُرًى بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ مِمَّا يَلِي الْمَشْرِقَ وَكَانَتْ مَنَازِلَ الْأَوْسِ، وَاسْمُ الْجَارِ الْمَذْكُورِ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيُّ سَمَّاهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ فَذَكَرَ حَدِيثًا، وَفِيهِ: وَكَانَ عُمَرُ مُؤَاخِيًا أَوْسَ بْنَ خَوْلِيٍّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا إِلَّا حَدَّثَهُ وَلَا يَسْمَعُ عُمَرُ شَيْئًا إِلَّا حَدَّثَهُ، فَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ في العلم عَمَّنْ قَالَ إِنَّهُ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ فَهُوَ مِنْ تَرْكِيبِ ابْنِ بَشْكُوَالَ، فَإِنَّهُ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الْجَارُ الْمَذْكُورُ عِتْبَانَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُمَرَ، لَكِنْ لَا يَلْزَمْ مِنَ الْإِخَاءِ أَنْ يَتَجَاوَرَا، وَالْأَخْذُ بِالنَّصِّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَخْذِ بِالِاسْتِنْبَاطِ، وَقَدْ صَرَّحَتِ الرِّوَايَةُ الْمَذْكُورَةُ عَنِ ابْنِ سَعْدٍ أَنَّ عُمَرَ كَانَ مُؤَاخِيًا لِأَوْسٍ فَهَذَا بِمَعْنَى الصَّدَاقَةِ لَا بِمَعْنَى الْإِخَاءِ الَّذِي كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِهِ ثُمَّ نُسِخَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ ابْنُ سَعْدٍ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم آخَى بَيْنَ أَوْسِ بْنِ خَوْلِيٍّ، وَشُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بِأَنَّهُ آخَى بَيْنَ عُمَرَ، وَعِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ كَانَ مُؤَاخِيًا أَيْ مُصَادِقًا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ وَكَانَ لِي صَاحِبٌ مِنَ الْأَنْصَارِ.
قَوْلُهُ (فَإِذَا نَزَلْتُ) الظَّاهِرُ أَنَّ إِذَا شَرْطِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ظَرْفِيَّةً.
قَوْلُهُ (جِئْتُهُ بِمَا حَدَثَ مِنْ خَبَرٍ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنَ الْوَحْيِ أَوْ غَيْرِهِ)، أَيْ مِنَ الْحَوَادِثِ الْكَائِنَةِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ الْمَذْكُورَةِ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا إِلَّا حَدَّثَهُ بِهِ وَلَا يَسْمَعُ عُمَرُ شَيْئًا إِلَّا حَدَّثَهُ بِهِ، وَسَيَأْتِي فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ بِلَفْظِ: إِذَا غَابَ وَشَهِدْتُ أَتَيْتُهُ بِمَا يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ يَحْضُرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا غِبْتُ وَأَحْضُرُهُ إِذَا غَابَ وَيُخْبِرُنِي وَأُخْبِرُهُ.
قَوْلُهُ (وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ) أَيْ نَحْكُمُ عَلَيْهِنَّ وَلَا يَحْكُمْنَ عَلَيْنَا، بِخِلَافِ الْأَنْصَارِ فَكَانُوا بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ: كُنَّا وَنَحْنُ بِمَكَّةَ لَا يُكَلِّمُ أَحَدٌ امْرَأَتَهُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ قَضَى مِنْهَا حَاجَتَهُ، وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ: مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا، وَفِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ كُنَّا لَا نَعْتَدُّ بِالنِّسَاءِ وَلَا نُدْخِلُهُنَّ فِي أُمُورِنَا.
قَوْلُهُ (فَطَفِقَ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَقَدْ تَفَتَّحَ أَيْ جَعَلَ أَوْ أَخَذَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُنَّ أَخَذْنَ فِي تَعَلُّمِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ) أَيْ مِنْ سِيرَتِهِنَّ وَطَرِيقَتِهِنَّ، وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْمَظَالِمِ مِنْ أَرَبِ بِالرَّاءِ وَهُوَ الْعَقْلُ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَفِي
رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ تَزَوَّجْنَا مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ فَجَعَلْنَ يُكَلِّمْنَنَا وَيُرَاجِعْنَنَا.
قَوْلُهُ (فَسَخِبْتُ) بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بَدَلَ السِّينِ وَهُمَا بِمَعْنًى، وَالصَّخَبُ وَالسَّخَبُ الزَّجْرُ مِنَ الْغَضَبِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ الْمَاضِيَةِ فِي الْمَظَالِمِ فَصِحْتُ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مِنَ الصِّيَاحِ وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ فَبَيْنَمَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَتَأَمَّرُهُ، أَيْ أَتَفَكَّرُ فِيهِ وَأُقَدِّرُهُ، فَقَالَتِ امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا.
قَوْلُهُ (فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي) أَيْ تُرَادِدَنِي فِي الْقَوْلِ وَتُنَاظِرَنِي فِيهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ: فَقُلْتُ لَهَا: وَمَا تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ؟ فَقَالَتْ لِي: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ؟، وَسَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَذَكَرَهُنَّ اللَّهُ رَأَيْنَ لَهُنَّ بِذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِ أَنْ نُدْخِلَهُنَّ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِنَا، وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ امْرَأَتِي كَلَامٌ فَأَغْلَظَتْ لِي، وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ: فَقُمْتُ إِلَيْهَا بِقَضِيبٍ فَضَرَبْتُهَا بِهِ، فَقَالَتْ: يَا عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ.
قَوْلُهُ (وَلِمَ؟) بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْمِيمِ. قَوْلُهُ (تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلَ) فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ: وَإِنَّ ابْنَتَكَ لَتُرَاجِعُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ، وَوَقَعَ فِي الْمَظَالِمِ بِلَفْظِ غَضْبَانًا وَفِيهِ نَظَرٌ، وَفِي رِوَايَتُهُ الَّتِي فِي اللِّبَاسِ قَالَتْ: تَقُولُ لِي هَذَا وَابْنَتُكَ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟، وَفِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ فَقُلْتُ: مَتَى كُنْتِ تَدْخُلِينَ فِي أُمُورِنَا؟ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، مَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُكَلِّمَكَ، وَابْنَتُكَ تُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَظَلَّ غَضْبَانَ.
قَوْلُهُ (لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلَ) بِالنَّصْبِ فِيهِمَا وَبِالْجَرِّ فِي اللَّيْلِ أَيْضًا أَيْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ اللَّيْلُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حَتَّى أَنَّهَا لَتَهْجُرُهُ اللَّيْلَ مُضَافًا إِلَى الْيَوْمِ.
قَوْلُهُ (فَقُلْتُ لَهَا قَدْ خَابَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ خَابَ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ فَقُلْتُ: قَدْ جَاءَتْ مَنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ مِنْهُنَّ بِعَظِيمٍ بِالْجِيمِ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ الْمَجِيءِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا بِعَظِيمٍ، وَأَمَّا سَائِرُ الرِّوَايَاتِ فَفِيهَا خَابَتْ وَخَسِرَتْ فَخَابَتْ بِالْخَاءِ الْمُعَجَّمَةِ لِعَطْفِ وَخَسِرَتْ عَلَيْهَا، وَقَدْ أَغْفَلَ مَنْ جَزَمَ أَنَّ الصَّوَابَ بِالْجِيمِ وَالْمُثَنَّاةِ مُطْلَقًا.
قَوْلُهُ (مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مَنْ فَعَلَتْ فَالتَّذْكِيرُ بِالنَّظَرِ إِلَى اللَّفْظِ وَالتَّأْنِيثُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَعْنَى.
قَوْلُهُ (ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي) أَيْ لَبِسْتُهَا جَمِيعَهَا. فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الشَّخْصَ يَضَعَ فِي الْبَيْتِ بَعْضَ ثِيَابِهِ فَإِذَا خَرَجَ إِلَى النَّاسِ لَبِسَهَا.
قَوْلُهُ (فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ) يَعْنِي ابْنَتَهُ، وَبَدَأَ بِهَا لِمَنْزِلَتِهَا مِنْهُ.
قَوْلُهُ (قَالَتْ: نَعَمْ) فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ إِنَّا لِنُرَاجِعُهُ، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَقُلْتُ أَلَا تَتَّقِينَ اللَّهَ.
قَوْلُهُ (أَفَتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَهْلِكِي؟ كَذَا هُوَ بِالنَّصْبِ لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ فَتَهْلِكِينَ، وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ الْمَعْرِفَةِ مِنْ كِتَابِ الْمَظَالِمِ أَفَتَأْمَنِ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ فَتَهْلِكِينَ؟ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الصَّدَفِيُّ: الصَّوَابُ أَفَتَأْمَنِينَ؟ وَفِي آخِرِهِ فَتَهْلِكِي كَذَا قَالَ، وَلَيْسَ بِخَطَأٍ لِإِمْكَانِ تَوْجِيهِهِ، وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ فَتَهْلَكْنَ بِسُكُونِ الْكَافِ عَلَى خِطَابِ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ، وَعِنْدَهُ فَقُلْتُ تَعَلَّمِينَ وَهُوَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ إِنِّي أُحَذِّرُكَ عُقُوبَةَ اللَّهِ وَغَضَبَ رَسُولِهِ.
قَوْلُهُ (لَا تَسْتَكْثِرِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيْ لَا تَطْلُبِي مِنْهُ الْكَثِيرَ، وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ: لَا تُكَلِّمِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ عِنْدَهُ دَنَانِيرُ وَلَا دَرَاهِمُ، فَمَا كَانَ لَكِ مِنْ حَاجَةٍ حَتَّى دُهْنَةٍ فَسَلِينِي.
قَوْلُهُ (وَلَا تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ) أَيْ لَا تُرَادِدِيهِ فِي الْكَلَامِ وَلَا تَرُدِّي عَلَيْهِ قَوْلَهُ.
قَوْلُهُ (وَلَا تَهْجُرِيهِ) أَيْ وَلَوْ هَجَرَكِ.
قَوْلُهُ (مَا بَدَا لَكِ) أَيْ ظَهَرَ لَكِ. قَوْلُهُ (وَلَا يَغُرَّنَّكِ) بِفَتْحِ الْأَلِفِ وَبِكَسْرِهَا أَيْضًا.
قَوْلُهُ
(جَارَتُكِ) أَيْ ضَرَّتُكِ، أَوْ هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُجَاوِرَةً لَهَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يَحْمِلَ اللَّفْظُ هُنَا عَلَى مَعْنَيَيْهِ لِصَلَاحِيَّتِهِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ عَلَى الضَّرَّةِ جَارَةً لِتَجَاوُرِهِمَا الْمَعْنَوِيِّ لِكَوْنِهِمَا عِنْدَ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِسِّيًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي أَوَاخِرِ شَرْحِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ كُنْتُ بَيْنَ جَارَتَيْنِ يَعْنِي ضَرَّتَيْنِ، فَإِنَّهُ فَسَّرَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَقَالَ امْرَأَتَيْنِ، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ تَسْمِيَتَهَا ضَرَّةً، وَيَقُولُ: إِنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَذْهَبُ مِنْ رِزْقِ الْأُخْرَى بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا هِيَ جَارَةٌ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي صَاحِبَ الرَّجُلِ وَخَلِيطَهُ جَارًا وَتُسَمِّي الزَّوْجَةَ أَيْضًا جَارَةً لِمُخَالَطَتِهَا الرَّجُلَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اخْتَارَ عُمَرُ تَسْمِيَتَهَا جَارَةً أَدَبًا مِنْهُ أَنْ يُضَافَ لَفْظُ الضَّرَرِ إِلَى أَحَدٍ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ.
قَوْلُهُ (أَوْضَأُ) مِنَ الْوَضَاءَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ أَوْسَمُ بِالْمُهْمَلَةِ مِنَ الْوَسَامَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ، وَالْمُرَادُ أَجْمَلُ كَأَنَّ الْجَمَالَ وَسَمَهُ أَيْ أَعْلَمَهُ بِعَلَامَةٍ.
قَوْلُهُ (وَأَحَبُّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَعْنَى لَا تَغْتَرِّي بِكَوْنِ عَائِشَةَ تَفْعَلُ مَا نَهَيْتُكِ عَنْهُ فَلَا يُؤَاخِذُهَا بِذَلِكَ فَإِنَّهَا تَدِلُّ بِجَمَالِهَا وَمَحَبَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا، فَلَا تَغْتَرِّي أَنْتِ بِذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا تَكُونِي عِنْدَهُ فِي تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، فَلَا يَكُونُ لَكِ مِنَ الْإِدْلَالِ مِثْلُ الَّذِي لَهَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا وَلَفْظُهُ: وَلَا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنَهَا حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهَا وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا وَحُبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَاوِ الْعَطْفِ وَهِيَ أَبْيَنُ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ: لَا تَغْتَرِّي بِحُسْنِ عَائِشَةَ وَحُبِّ رَسُولِ اللَّهِ إِيَّاهَا وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إِنَّهُ لَيْسَ لَكِ مِثْلُ حُظْوَةِ عَائِشَةَ وَلَا حُسْنُ زَيْنَبَ يَعْنِي بِنْتَ جَحْشٍ، وَالَّذِي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، وَالطَّيَالِسِيِّ يُؤَيِّدُ مَا حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ حَذْفِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَاسْتَحْسَنَهُ مَنْ سَمِعَهُ وَكَتَبُوهُ حَاشِيَةً، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْفَاعِلِ الَّذِي فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ وَهُوَ هَذِهِ مِنْ قَوْلِهِ لَا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ فَهَذِهِ فَاعِلٌ، وَالَّتِي نَعْتٌ، وَحُبٌّ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، كَمَا تَقُولُ أَعْجَبَنِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَوْمٌ فِيهِ، وَسَرَّنِي زَيْدٌ حُبُّ النَّاسِ لَهُ اهـ.
وَثُبُوتُ الْوَاوِ يَرُدُّ عَلَى رَدِّهِ، وَقَدْ قَالَ عِيَاضٌ: يَجُوزُ فِي حُبِّ الرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، أَوْ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْعَطْفِ، قَالَ: وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: حُبٌّ فَاعِلٌ وَحُسْنَهَا بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ وَالتَّقْدِيرُ أَعْجَبَهَا حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ إِيَّاهَا مِنْ أَجْلِ حُسْنِهَا، قَالَ: وَالضَّمِيرُ الَّذِي يَلِي أَعْجَبَهَا مَنْصُوبٌ فَلَا يَصِحُّ بَدَلُ الْحُسْنِ مِنْهُ وَلَا الْحُبِّ، وَزَادَ عُبَيْدٌ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا يَعْنِي لِأَنَّ أُمَّ عُمَرَ كَانَتْ مَخْزُومِيَّةً مِثْلَ أُمِّ سَلَمَةَ، وَهِيَ أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَوَالِدَةُ عُمَرَ حَنْتَمَةُ بِنْتُ هَاشِمِ بْنِ الْمُغِيرَةَ، فَهِيَ بِنْتُ عَمِّ أُمِّهِ، وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ: وَدَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَكَانَتْ خَالَتِي وَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهَا خَالَةً لِكَوْنِهَا فِي دَرَجَةِ أُمِّهِ، وَهِيَ بِنْتُ عَمِّهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ ارْتَضَعَتْ مَعَهَا أَوْ أُخْتَهَا مِنْ أُمِّهَا.
قَوْلُهُ (دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيْءٍ) يَعْنِي مِنْ أُمُورِ النَّاسِ، وَأَرَادَتِ الْغَالِبَ بِدَلِيلِ قَوْلِهَا: حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَزْوَاجِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ دَخَلَ فِي عُمُومِ قَوْلِهَا كُلِّ شَيْءٍ لَكِنَّهَا لَمْ تَرُدَّهُ. قَوْلُهُ (فَأَخَذَتْنِي وَاللَّهِ أَخْذًا) أَيْ مَنَعَتْنِي مِنَ الَّذِي كُنْتُ أُرِيدُهُ، تَقُولُ: أَخَذَ فُلَانٌ عَلَى يَدِ فُلَانٍ، أَيْ: مَنَعَهُ عَمَّا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ.
قَوْلُهُ (كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ) أَيْ أَخَذَتْنِي بِلِسَانِهَا أَخْذًا دَفَعَنِي عَنْ مَقْصِدِي وَكَلَامِي، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ سَعْدٍ: فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: أَيْ وَاللَّهِ، إِنَّا لِنُكَلِّمُهُ، فَإِنْ تَحَمَّلَ ذَلِكَ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ، وَإِنْ نَهَانَا عَنْهُ كَانَ أَطْوَعَ عِنْدَنَا مِنْكَ، قَالَ عُمَرُ: فَنَدِمْتُ عَلَى كَلَامِي لَهُنَّ، وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ: مَا يَمْنَعُنَا أَنْ نَغَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَزْوَاجُكُمْ يَغَرْنَ عَلَيْكُمْ، وَكَانَ الْحَامِلُ لِعُمَرِ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُ شِدَّةَ شَفَقَتِهِ وَعِظَمِ نَصِيحَتِهِ،
فَكَانَ يَبْسُطُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ لَهُ افْعَلْ كَذَا وَلَا تَفْعَلْ كَذَا، كَقَوْلِهِ احْجُبْ نِسَاءَكَ. وَقَوْلِهِ: لَا تُصَلِّ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْتَمِلُ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِصِحَّةِ نَصِيحَتِهِ وَقُوَّتِهِ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: وَافَقْتُ اللَّهَ فِي ثَلَاثٍ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَبَلَغَنِي مُعَاتَبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْضَ نِسَائِهِ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ فَقُلْتُ: لَئِنِ انْتَهَيْتُنَّ أَوْ لَيُبَدّلَنَّ اللَّهُ رَسُولَهُ خَيْرًا مِنْكُنَّ، حَتَّى أَتَيْتُ إِحْدَى نِسَائِهِ فَقَالَتْ: يَا عُمَرُ، أَمَا فِي رَسُولِ اللَّهِ مَا يَعِظُ نِسَاءَهُ حَتَّى تَعِظَهُنَّ أَنْتَ؟ وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ كَمَا أَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي الْمُبْهَمَاتِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا أُمُّ سَلَمَةَ لِكَلَامِهَا الْمَذْكُورِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ هُنَا، لَكِنَّ التَّعَدُّدَ أَوْلَى، فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ: وَبَلَغَنِي مَا كَانَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَاسْتَقْرَيْتُهُنَّ أَقُولُ لَتَكُفُّنَّ الْحَدِيثَ، وَيُؤَيِّدُ التَّعَدُّدَ اخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ فِي جَوَابَيْ أُمِّ سَلَمَةَ وَزَيْنَبَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (وَكُنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تَنْعَلُ الْخَيْلَ) فِي الْمَظَالِمِ بِلَفْظِ تَنْعَلُ النِّعَالَ أَيْ تَسْتَعْمِلُ النِّعَالَ وَهِيَ نِعَالُ الْخَيْلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ الْمُعْجَمَةِ وَيُؤَيِّدُهُ لَفْظُ الْخَيْلِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وتَنْعَلُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَأَنْكَرَ الْجَوْهَرِيُّ ذَلِكَ فِي الدَّابَّةِ فَقَالَ: أَنْعَلْتُ الدَّابَّةَ وَلَا تَقُلْ نَعَلْتُ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا بِضَمِّ أَوَّلِهِ. وَحَكَى عِيَاضٌ فِي تَنْعَلُ الْخَيْلَ الْوَجْهَيْنِ، وَغَفَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَرَدَّ عَلَيْهِ وَقَالَ: الْمَوْجُودُ فِي الْبُخَارِيِّ تَنْعَلُ النِّعَالَ فَاعْتَمَدَ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْمَظَالِمِ، وَلَمْ يَسْتَحْضِرِ الَّتِي هُنَا وَهِيَ الَّتِي تَكَلَّمَ عَلَيْهَا عِيَاضٌ.
قَوْلُهُ (لِتَغْزُونَا) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ: وَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْنَا، فَقَدِ امْتَلَأَتْ صُدُورُنَا مِنْهُ، وَفِي رِوَايَتِهِ الَّتِي فِي اللِّبَاسِ: وَكَانَ مَنْ حَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِ اسْتَقَامَ لَهُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَلِكُ غَسَّانَ بِالشَّامِ كُنَّا نَخَافُ أَنْ يَأْتِيَنَا، وَفِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ: وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَخْوَفَ عِنْدَنَا مِنْ أَنْ يَغْزُوَنَا مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ.
قَوْلُهُ (فَنَزَلَ صَاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ، فَرَجَعَ إِلَيْنَا عِشَاءً، فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا وَقَالَ: أَثَمَّ هُوَ)؟ أَيْ فِي الْبَيْتِ، وَذَلِكَ لِبُطْءِ إِجَابَتِهِمْ لَهُ فَظَنَّ أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْبَيْتِ، وَفِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ أَنَائِمٌ هُوَ؟ وَهِيَ أَوْلَى.
قَوْلُهُ (فَفَزِعْتُ) أَيْ خِفْتُ مِنْ شِدَّةِ ضَرْبِ الْبَابِ بِخِلَافِ الْعَادَةِ.
قَوْلُهُ (فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: قَدْ حَدَثَ الْيَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. قُلْتُ: مَا هُوَ؟ أَجَاءَ غَسَّانُ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ أَجَاءَتْ، وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ أَجَاءَ الْغَسَّانِيُّ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَسْمِيَتُهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ. قَوْلُهُ (لَا، بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَهْوَلُ) هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُمَرَ، لِكَوْنِ حَفْصَةَ بِنْتَهُ مِنْهُنَّ.
قَوْلُهُ (طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ) كَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ طَلَّقَ بِالْجَزْمِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ عُمَرُ: لَعَلَّ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي شِمْرٍ سَارَ إِلَيْنَا، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: مَا أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا قَدْ طَلَّقَ نِسَاءَهُ، وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَسَمَّى الْأَنْصَارِيَّ أَوْسَ بْنَ خَوْلِيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَوَقَعَ قَوْلُهُ طَلَّقَ مَقْرُونًا بِالظَّنِّ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ حُنَيْنٍ سَمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ) يَعْنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ (فَقَالَ) يَعْنِي الْأَنْصَارِيَّ (اعْتَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَزْوَاجَهُ) لَمْ يَذْكُرِ الْبُخَارِيُّ هُنَا مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ إِلَّا هَذَا الْقَدْرَ، وَأَمَّا مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَقُلْتُ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ فَهُوَ بَقِيَّةُ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّعْلِيقَ قَدْ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّحْرِيمِ بِلَفْظِ: فَقُلْتُ جَاءَ الْغَسَّانِيُّ؟ فَقَالَ: بَلْ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، اعْتَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَزْوَاجَهُ، فَقُلْتُ: رَغِمَ أَنْفِ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ، وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مِنْ قَوْلِهِ اعْتَزَلَ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ مِنْ سِيَاقِ الطَّرِيقِ الْمُعَلَّقِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنْتُهُ، وَالْمُوقِعُ فِي ذَلِكَ
إِيرَادُ الْبُخَارِيُّ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ الْمُعَلَّقَةِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ فِي أَثْنَاءِ الْمَتْنِ الْمُسَاقِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ثَوْرٍ، فَصَارَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَحَوَّلَ إِلَى سِيَاقِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، وَقَدْ سَلِمَ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ النَّسَفِيُّ فَلَمْ يَسُقِ الْمَتْنَ وَلَا الْقَدْرَ الْمُعَلَّقَ بَلْ قَالَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَاجْتَزَأَ بِمَا وَقَعَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ثَوْرٍ فِي الْمَظَالِمِ، وَمِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ فِي تَفْسِيرِ التَّحْرِيمِ، وَوَقَعَ فِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ ذِكْرُ الْقَدْرُ الْمُعَلَّقُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ وَهُوَ طَلَّقَ نِسَاءَهُ لَمْ تَتَّفِقِ الرِّوَايَاتُ عَلَيْهِ، فَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهَا بِالْمَعْنَى، نَعَمْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ زُمَيْلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّ عُمَرَ قَالَ: فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا النَّاسُ يَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، وَعِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: لَقِيَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بِبَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَلَّقَ نِسَاءَهُ، وَهَذَا إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا حُمِلَ عَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَاقَى أَبَاهُ وَهُوَ جَاءٍ مِنْ مَنْزِلِهِ فَأَخْبَرَهُ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ الْأَنْصَارِيُّ، وَلَعَلَّ الْجَزْمَ وَقَعَ مِنْ إِشَاعَةِ بَعْضِ أَهْلِ النِّفَاقِ فَتَنَاقَلَهُ النَّاسُ، وَأَصْلُهُ مَا وَقَعَ مِنِ اعْتِزَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ وَلَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِذَلِكَ فَظَنُّوا أَنَّهُ طَلَّقَهُنَّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَاتِبْ عُمَرُ الْأَنْصَارِيَّ عَلَى مَا جَزَمَ لَهُ بِهِ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ سِمَاكِ بْنِ الْوَلِيدِ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي آخِرِهِ: وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} قَالَ: فَكُنْتُ أَنَا أَسْتَنْبِطُ ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَالْمَعْنَى لَوْ رَدُّوهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُخْبِرَ بِهِ أَوْ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ كَأَكَابِرِ الصَّحَابَةِ لَعَلِمُوهُ لِفَهْمِ الْمُرَادِ مِنْهُ بِاسْتِخْرَاجِهِمْ بِالْفَهْمِ وَالتَّلَطُّفِ مَا يَخْفَى عَنْ غَيْرِهِمْ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالْإِذَاعَةِ قَوْلُهُمْ وَإِشَاعَتُهُمْ أَنَّهُ طَلَّقَ نِسَاءَهُ بِغَيْرِ تَحَقُّقٍ وَلَا تَثَبُّتٍ حَتَّى شَفَى عُمَرُ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى حَقِيقَةِ ذَلِكَ وَفِي الْمُرَادِ بِالْمُذَاعِ، وَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا.
قَوْلُهُ (خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ) إِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِمَكَانَتِهَا مِنْهُ لِكَوْنِهَا بِنْتَهُ. وَلِكَوْنِهِ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِتَحْذِيرِهَا مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حَنِينٍ فَقُلْتُ: رَغِمَ أَنْفُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ وَكَأَنَّهُ خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِمَا كَانَتَا السَّبَبَ فِي ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. قَوْلُهُ (قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ) بِكَسْرِ الشِّينِ مِنْ يُوشِكُ أَيْ يَقْرُبُ، وَذَلِكَ لِمَا كَانَ تَقَدَّمَ لَهُ مِنْ أَنَّ مُرَاجَعَتَهُنَّ قَدْ تَقْضِي إِلَى الْغَضَبِ الْمُفْضِي إِلَى الْفُرْقَةِ.
قَوْلُهُ (فَصَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ سِمَاكٍ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا النَّاسُ يَنْكُثُونَ الْحَصَا وَيَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرْنَ بِالْحِجَابِ كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ غَلَطٌ بَيِّنٌ فَإِنَّ نُزُولَ الْحِجَابِ كَانَ فِي أَوَّلِ زَوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَاضِحًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ كَانَتْ سَبَبَ نُزُولِ آيَةِ التَّخْيِيرِ وَكَانَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فِيمَنْ خُيِّرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ عُمَرَ لَهَا فِي قَوْلِهِ وَلَا حُسْنُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَسَيَأْتِي بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الضُّحَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَصْبَحْنَا يَوْمًا وَنِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَبْكِينَ، فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَجَاءَ عُمَرُ فَصَعِدَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي غُرْفَةٍ لَهُ فَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُخْتَصَرًا، فَحُضُورُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُشَاهَدَتُهُ لِذَلِكَ يَقْتَضِي تَأَخُّرَ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَنِ الْحِجَابِ، فَإِنَّ بَيْنَ الْحِجَابِ وَانْتِقَالِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى الْمَدِينَةِ مَعَ أَبَوَيْهِ نَحْوَ أَرْبَعِ سِنِينَ، لِأَنَّهُمْ قَدِمُوا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَآيَةُ التَّخْيِيرِ عَلَى هَذَا نَزَلَتْ سَنَةَ تِسْعٍ لِأَنَّ الْفَتْحَ كَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَالْحِجَابُ كَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ، وَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي أَخْرَجَ بِهِ مُسْلِمٌ أَيْضًا قَوْلَ أَبِي سُفْيَانَ عِنْدِي أَجْمَلُ الْعَرَبِ أُمُّ حَبِيبَةَ أُزَوِّجُكَهَا، قَالَ: نَعَمْ وَأَنْكَرَهُ الْأَئِمَّةُ وَبَالَغَ ابْنُ حَزْمٍ فِي إِنْكَارِهِ، وَأَجَابُوا بِتَأْوِيلَاتٍ
بَعِيدَةٍ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَذَا الْمَوْضِعِ وَهُوَ نَظِيرُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَأَحْسَنُ مَحَامِلِهِ عِنْدِي أَنْ
يَكُونَ الرَّاوِي لَمَّا رَأَى قَوْلَ عُمَرَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الْحِجَابِ فَجَزَمَ بِهِ، لَكِنَّ جَوَابَهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الدُّخُولِ رَفْعُ الْحِجَابِ فَقَدْ يدخلَ مِنَ الْبَابِ وَتُخَاطِبُهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ وَهْمِ الرَّاوِي فِي لَفْظَةٍ مِنَ الْحَدِيثِ أَنْ يُطْرَحَ حَدِيثُهُ كُلُّهُ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَوْضِعٌ آخَرُ مُشْكِلٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ وَنَزَلْتُ أَتَشَبَّثُ بِالْجِذْعِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّمَا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا يَمَسُّهُ بِيَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كُنْتَ فِي الْغُرْفَةِ تِسْعًا وَعِشْرِينَ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عَقِبَ مَا خَاطَبَهُ عُمَرُ فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ تَأَخَّرَ كَلَامُهُ مَعَهُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَسِيَاقُ غَيْرِهِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ تَكَلَّمَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَكَيْفَ يُمْهِلُ عُمَرَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا لَا يَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مُصَرَّحٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَصْبِرْ سَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَقُومَ وَيَرْجِعَ إِلَى الْغُرْفَةِ وَيَسْتَأْذِنَ، وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ هَذَا سَهْلٌ، وَهُوَ أَنْ يَحْمِلَ قَوْلَهُ فَنَزَلَ أَيْ بَعْدَ أَنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي حَلَفَ عَلَيْهَا، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهٌ عِنْدَ إِرَادَتِهِ النُّزُولَ فَنَزَلَ مَعَهُ، ثُمَّ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ نَسِيَ فَذَكَّرَهُ كَمَا ذَكَّرَتْهُ عَائِشَةَ كما سَيَأْتِي، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ تَأَخُّرَ قِصَّةِ التَّخْيِيرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ الَّتِي قَدَّمْتُ الْإِشَارَةَ إِلَيْهَا فِي الْمَظَالِمِ: وَكَانَ مَنْ حَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِ اسْتَقَامَ لَهُ إِلَّا مَلِكَ غَسَّانَ بِالشَّامِ فَإِنَّ الِاسْتِقَامَةَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا إِنَّمَا وَقَعَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَقَدْ مَضَى فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ
سَلَمَةَ الْجَرْمِيِّ: وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلَامِهِمُ الْفَتْحَ فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ، فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ اهـ. وَالْفَتْحُ كَانَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَرُجُوعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ فِي أَوَاخِرِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا فَلِهَذَا كَانَتْ سَنَةُ تِسْعٍ تُسَمَّى سَنَةَ الْوُفُودِ لِكَثْرَةِ مَنْ وَفَدَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَرَبِ، فَظَهَرَ أَنَّ اسْتِقَامَةَ مَنْ حَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا كَانَتْ بَعْدَ الْفَتْحِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ التَّخْيِيرَ كَانَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ تِسْعٍ كَمَا قَدَّمْتُهُ. وَمِمَّنْ جَزَمَ بِأَنَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ كَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ الدِّمْيَاطِيُّ وَأَتْبَاعُهُ وهو المعتمد.
قَوْلُهُ (وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي) فِي رِوَايَةِ سِمَاكٍ أَنَّهُ: دَخَلَ أَوَّلًا عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَ: يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: مَا لِي وَلَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ عَلَيْكَ بِعَيْبَتِكَ وَهِيَ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ، أَيْ: عَلَيْكَ بِخَاصَّتِكَ وَمَوْضِعِ سِرِّكَ، وَأَصْلُ الْعَيْبَةِ الْوِعَاءُ الَّذِي تُجْعَلُ فِيهِ الثِّيَابُ وَنَفِيسُ الْمَتَاعِ، فَأَطْلَقَتْ عَائِشَةُ عَلَى حَفْصَةَ أَنَّهَا عَيْبَةُ عُمَرَ بِطَرِيقِ التَّشْبِيهِ، وَمُرَادُهَا عَلَيْكَ بِوَعْظِ ابْنَتِكَ.
قَوْلُهُ (أَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ سِمَاكٍ: لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُحِبُّكِ، وَلَوْلَا أَنَا لَطَلَّقَكِ، فَبَكَتْ أَشَدَّ الْبُكَاءِ لِمَا اجْتَمَعَ عِنْدَهَا مِنَ الْحُزْنِ عَلَى فِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِمَا تَتَوَقَّعُهُ مِنْ شِدَّةِ غَضَبِ أَبِيهَا عَلَيْهَا، وَقَدْ قَالَ لَهَا فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: وَاللَّهِ إِنْ كَانَ طَلَّقَكِ لَا أُكَلِّمُكِ أَبَدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالْحَاكِمُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا، وَلِابْنِ سَعْدٍ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَمِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ زَيْدٍ مِثْلُهُ وَزَادَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَقَالَ لِي: رَاجِعْ حَفْصَةَ فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وَهِيَ زَوْجَتُكَ فِي الْجَنَّةِ وَقَيْسٌ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، وَنَحْوُهُ عِنْدَهُ مِنْ مُرْسَلِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ.
قَوْلُهُ (هَا هُوَ ذَا مُعْتَزِلٌ فِي الْمَشْرُبَةِ) فِي رِوَايَةِ سَمَاكٍ فَقُلْتُ لَهَا أَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: هُوَ فِي خِزَانَتِهِ فِي الْمَشْرُبَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُ الْمَشْرُبَةِ وَتَفْسِيرُهَا فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ وَأَنَّهَا بِضَمِّ الرَّاءِ وَبِفَتْحِهَا وَجَمْعُهَا مَشَارِبُ وَمَشْرُبَاتٌ.
قَوْلُهُ (فَخَرَجْتُ فَجِئْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِمْ، وَفِي رِوَايَةِ سِمَاكِ بْنِ الْوَلِيدِ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا النَّاسُ يَنْكُثُونَ بِالْحَصَا أَيْ يَضْرِبُونَ بِهِ الْأَرْضَ كَفِعْلِ الْمَهْمُومِ الْمُفَكِّرِ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ غَلَبَنِي
مَا أَجِدُ) أَيْ مِنْ شُغُلِ قَلْبِهِ بِمَا بَلَغَهُ مِنِ اعْتِزَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ غَضَبٍ مِنْهُ، وَلِاحْتِمَالِ صِحَّةِ مَا أُشِيعَ مِنْ تَطْلِيقِ نِسَائِهِ وَمِنْ جُمْلَتِهِنَّ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ فَتَنْقَطِعُ الْوُصْلَةُ بَيْنَهُمَا، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِ مَا لَا يَخْفَى.
قَوْلُهُ (فَقُلْتُ لِغُلَامٍ لَهُ أَسْوَدَ) فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ: فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَشْرُبَةٍ يَرْقَى عَلَيْهَا بِعَجَلَةٍ وَغُلَامٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْوَدَ عَلَى رَأْسِ الْعَجَلَةِ وَاسْمُ هَذَا الْغُلَامِ رَبَاحٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ سَمَّاهُ سِمَاكٌ فِي رِوَايَتِهِ، وَلَفْظُهُ: فَدَخَلْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ عَلَى أُسْكُفَّةِ الْمَشْرُبَةِ مُدَلٍّ رِجْلَيْهِ عَلَى نَقِيرٍ مِنْ خَشَبٍ، وَهُوَ جِذْعٌ يَرْقَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَنْحَدِرُ، وَعُرِفَ بِهَذَا تَفْسِيرُ الْعَجَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ، وَسَيَأْتِي في حَدِيث أَبِي الضُّحَى الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيه بَحْث فِي ذَلِكَ. وَالْأُسْكُفَّةُ فِي رِوَايَتِهِ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْكَافِ بَيْنَهُمَا مُهْمَلَةٌ ثُمَّ فَاءٌ مُشَدَّدَةٌ هِيَ عَتَبَةُ الْبَابِ السُّفْلَى، وَقَوْلُهُ عَلَى نَقِيرٍ بِنُونٍ ثُمَّ قَافٍ بِوَزْنِ عَظِيمٍ أَيْ مَنْقُورٍ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ بِفَاءٍ بَدَلَ النُّونِ وَهُوَ الَّذِي جُعِلَتْ فِيهِ فِقَرٌ كَالدَّرَجِ.
قَوْلُهُ (اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ) فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ: فَقُلْتُ لَهُ: قُلْ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. قَوْلُهُ (فَصَمَتَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ سَكَتَ، وَفِي رِوَايَةِ سِمَاكٍ فَنَظَرَ رَبَاحٌ إِلَى الْغُرْفَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَتَانِ عَلَى أَنَّهُ أَعَادَ الذَّهَابَ وَالْمَجِيءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ سِمَاكٍ بَلْ ظَاهِرُ رِوَايَتِهِ أَنَّهُ أَعَادَ الِاسْتِئْذَانَ فَقَطْ، وَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَرَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ كَانَ نَائِمًا، أَوْ ظَنَّ أَنَّ عُمَرَ جَاءَ يَسْتَعْطِفُهُ عَلَى أَزَوَاجِهِ لِكَوْنِ حَفْصَةَ ابْنَتِهِ مِنْهُنَّ.
قَوْلُهُ (فَنَكَسْتُ مُنْصَرِفًا) أَيْ رَجَعْتُ إِلَى وَرَائِي (فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي)، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا، وَفِي رِوَايَةِ سِمَاكٍ ثُمَّ رَفَعْتُ صَوْتِي فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِي فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أَنِّي جِئْتُ مِنْ أَجْلِ حَفْصَةَ، وَاللَّهِ لَئِنْ أَمَرَنِي بِضَرْبِ عُنُقِهَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهَا وَهَذَا يُقَوِّي الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ لِأَنَّهُ لَمَّا صَرَّحَ فِي حَقِّ ابْنَتِهِ بِمَا قَالَ كَانَ أَبْعَدَ أَنْ يَسْتَعْطِفَهُ لِضَرَائِرِهَا.
قَوْلُهُ (فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالٍ) بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَقَدْ تُضَمُّ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَلَى رَمْلٍ بِسُكُونِ الْمِيمِ وَالْمُرَادُ بِهِ النَّسْجُ تَقُولُ رَمَلْتُ الْحَصِيرَ وَأَرْمَلْتُهُ إِذَا نَسَجْتُهُ وَحَصِيرٌ مَرْمُولٌ أَيْ مَنْسُوجٌ، وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّ سَرِيرَهُ كَانَ مَرْمُولًا بِمَا يُرْمَلُ بِهِ الْحَصِيرُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَلَى رِمَالِ سَرِيرٍ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سِمَاكٍ عَلَى حَصِيرٍ وَقَدْ أَثَّرَ الْحَصِيرُ فِي جَنْبِهِ وَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ حَصِيرًا تَغْلِيبًا. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: رِمَالُ الْحَصِيرِ ضُلُوعُهُ الْمُتَدَاخِلَةُ بِمَنْزِلَةِ الْخُيُوطِ فِي الثَّوْبِ، فَكَأَنَّهُ عِنْدَهُ اسْمُ جَمْعٍ. وَقَوْلُهُ: لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْتُهُ أَنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى نَسْجِ السَّرِيرِ حَصِيرًا.
قَوْلُهُ (فَقُلْتُ: وَأَنَا قَائِمٌ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ إِلَيَّ بَصَرَهُ فَقَالَ: لَا. فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَمَّا ظَنَّ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ الِاعْتِزَالَ طَلَاقٌ أَوْ نَاشِئٌ عَنْ طَلَاقٍ أَخْبَرَ عُمَرَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ جَازِمًا بِهِ، فَلَمَّا اسْتَفْسَرَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَجِدْ لَهُ حَقِيقَةً كَبَّرَ تَعَجُّبًا مِنْ ذَلِكَ اهـ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَبَّرَ اللَّهَ حَامِدًا لَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ. وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ فَكَبَّرَ عُمَرُ تَكْبِيرَةً سَمِعْنَاهَا وَنَحْنُ فِي بُيُوتِنَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ فَقَالَ لَا فَكَبَّرَ، حَتَّى جَاءَنَا الْخَبَرُ بَعْدُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سِمَاكٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَطَلَّقْتَهُنَّ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: إِنِّي دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَالْمُسْلِمُونَ يَنْكُثُونَ الْحَصَا يَقُولُونَ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، أَفَأَنْزِلُ فَأُخْبِرُهُمْ أَنَّكَ لَمْ تُطَلِّقْهُنَّ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ وَفِيهِ فَقُمْتُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: لَمْ يُطَلِّقْ نِسَاءَهُ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ أَسْتَأْنِسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنِي) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ اسْتِفْهَامًا بِطَرِيقِ الِاسْتِئْذَانِ،
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ وَهُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَجَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّهُ لِلِاسْتِفْهَامِ فَيَكُونُ أَصْلُهُ بِهَمْزَتَيْنِ تُسَهَّلُ إِحْدَاهُمَا وَقَدْ تُحْذَفُ تَخْفِيفًا وَمَعْنَاهُ انْبَسَطَ فِي الْحَدِيثِ وَاسْتَأْذَنَ فِي ذَلِكَ لِقَرِينَةِ الْحَالِ الَّتِي كَانَ فِيهَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ بِنْتَهُ كَانَتِ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ فَخَشِيَ أَنْ يَلْحَقَهُ هُوَ شَيْءٌ مِنَ الْمَعْتَبَةِ، فَبَقِيَ كَالْمُنْقَبِضِ عَنْ الِابْتِدَاءِ بِالْحَدِيثِ حَتَّى اسْتَأْذَنَ فِيهِ.
قَوْلُهُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَنِي وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ) فَسَاقَ مَا تَقَدَّمَ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ أَنَّ قَوْلَهُ أَسْتَأْنِسُ بَعْدَ سِيَاقِ الْقِصَّةِ وَلَفْظُهُ فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، لَوْ رَأَيْتَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - فَسَاقَ الْقِصَّةَ - فَقُلْتُ: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَهَذَا يُعَيِّنُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ فِي الِاسْتِئْنَاسِ فَلَمَّا أَذِنَ لَهُ فِيهِ جَلَسَ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنِي وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ - إِلَى قَوْلِهِ - فَتَبَسَّمَ تَبَسُّمَةً أُخْرَى) الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ أَيْ حَالَ دُخُولِي عَلَيْهَا، وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ: فَذَكَرْتُ لَهُ الَّذِي قُلْتُ لَحَفْصَةَ، وَأُمَّ سَلَمَةَ فَضَحِكَ وَفِي رِوَايَةِ سِمَاكٍ: فَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ حَتَّى تَحَسَّرَ الْغَضَبُ عَنْ وَجْهِهِ، وَحَتَّى كَشَّرَ فَضَحِكَ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ ثَغْرًا صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُهُ تَحَسَّرَ بِمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ تَكَشَّفَ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَقَوْلُهُ كَشَّرَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمُعْجَمَةِ أَيْ أَبْدَى أَسْنَانَهُ ضَاحِكًا، قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: كَشَّرَ وَتَبَسَّمَ وَابْتَسَمَ وَافَتَرَّ بِمَعْنًى، فَإِذَا زَادَ قِيلَ قَهْقَهَ وَكَرْكَرَ، وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَتِهِ صلى الله عليه وسلم: كَانَ ضَحِكُهُ تَبَسُّمًا.
قَوْلُهُ (فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَبَسُّمَةً) بِتَشْدِيدِ السِّينِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ تَبْسِيمَةً.
قَوْلُهُ (فَرَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ) أَيْ نَظَرْتُ فِيهِ.
قَوْلُهُ (غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلَاثَةٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ ثَلَاثٍ، الْأَهَبَةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ وَبِضَمِّهَا أَيْضًا بِمَعْنَى الْأُهُبِ وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَهُوَ جَمْعُ إِهَابٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَهُوَ الْجِلْدُ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَقِيلَ هُوَ الْجِلْدُ مُطْلَقًا دُبِغَ أَوْ لَمْ يُدْبَغْ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا جِلْدٌ شُرِعَ فِي دَبْغِهِ وَلَمْ يَكْمُلْ، لِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ سِمَاكِ بْنِ الْوَلِيدِ فَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ وَالْأَفِيقُ بِوَزْنِ عَظِيمٍ الْجِلْدُ الَّذِي لَمْ يَتِمَّ دِبَاغُهُ، يُقَالُ أَدَمٌ وَأَدِيمٌ، وَأَفَقٌ وَأَفِيقٌ، وَإِهَابٌ وَأَهَبٌ، وَعِمَادٌ وَعَمُودٌ وَعُمُدٌ، وَلَمْ يَجِئْ فَعِيلٌ وَفَعُولٌ عَلَى فَعَلٍ بِفَتْحَتَيْنِ فِي الْجَمْعِ إِلَّا هَذِهِ الْأَحْرُفُ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَجِيءَ فُعُلٌ بِضَمَّتَيْنِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ وَأَنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا - بِقَافٍ وَظَاءٍ مُعْجَمَةٍ - مَصْبُوبًا بِمُوَحَّدَتَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ مَصْبُورًا بِرَاءٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ مَضْبُورًا بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ وَهِيَ لُغَةٌ، وَالْمُرَادُ بِالْمَصْبُورِ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَةِ الْمَجْمُوعُ، وَلَا يُنَافِي كَوْنَهُ مَصْبُوبًا بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَثِرٍ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ وِعَاءٍ بَلْ هُوَ مَصْبُوبٌ مُجْتَمِعٌ، وَفِي رِوَايَةِ سِمَاكٍ فَنَظَرْتُ فِي خِزَانَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، وَمِثْلِهَا قَرَظًا فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ.
قَوْلُهُ (ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ) فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ: فَبَكَيْتُ، فَقَالَ وَمَا يُبْكِيكَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةِ سِمَاكٍ فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ فَقُلْتُ: وَمَا لِيَ لَا أَبْكِي وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى، وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى فِي الْأَنْهَارِ وَالثِّمَارِ: وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَصَفْوَتُهُ.
قَوْلُهُ (فَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: أَوَفِي هَذَا أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ)؟ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ الْمَاضِيَةِ فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ، وَالْمَعْنَى أَأَنْتَ فِي شَكٍّ فِي أَنَّ التَّوَسُّعَ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنَ التَّوَسُّعِ فِي الدُّنْيَا؟ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أَنَّهُ بَكَى مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَهُوَ غَضَبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نِسَائِهِ حَتَّى اعْتَزَلَهُنَّ، فَلَمَّا ذَكَرَ لَهُ أَمْرَ الدُّنْيَا أَجَابَهُ بِمَا أَجَابَهُ.
قَوْلُهُ (إِنَّ أُولَئِكَ قَوْمٌ قَدْ عُجِّلُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ: أَلَا تَرْضَى أَنْ
تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ؟ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: لَهُمَا بِالتَّثْنِيَةِ عَلَى إِرَادَةِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ لِتَخْصِيصِهِمَا بِالذِّكْرِ، وَالْأُخْرَى بِإِرَادَتِهِمَا وَمَنْ تَبِعَهُمَا أَوْ كَانَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِمَا، زَادَ فِي رِوَايَةِ سِمَاكٍ فَقُلْتُ: بَلَى.
قَوْلُهُ (فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِي) أَيْ عَنْ جَرَاءَتِي بِهَذَا الْقَوْلِ بِحَضْرَتِكَ، أَوْ عَنِ اعْتِقَادِي أَنَّ التَّجَمُّلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ مَرْغُوبٌ فِيهَا، أَوْ عَنْ إِرَادَتِي مَا فِيهِ مُشَابَهَةُ الْكُفَّارِ فِي مَلَابِسِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ.
قَوْلُهُ (فَاعْتَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ) كَذَا فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ لَمْ يُفَسِّرِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ الَّذِي أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ، وَفِيهِ أَيْضًا وَكَانَ قَالَ: مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا، مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ وَهَذَا أَيْضًا مُبْهَمٌ وَلَمْ أَرَهُ مُفَسَّرًا، وَكَانَ اعْتِزَالُهُ فِي الْمَشْرُبَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ، فَأَفَادَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَخْزُومِيُّ فِي كِتَابِهِ أَخْبَارُ الْمَدِينَةِ بِسَنَدٍ لَهُ مُرْسَلٌ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبِيتُ فِي الْمَشْرُبَةِ وَيَقِيلُ عِنْدَ أَرَاكَةٍ عَلَى خَلْوَةِ بِئْرٍ كَانَتْ هُنَاكَ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِ حَدِيثِ الْبَابِ إِلَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّحْرِيمِ وَالْمُرَادُ بِالْمُعَاتَبَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الْآيَاتِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الَّذِي حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ وَعُوتِبَ عَلَى تَحْرِيمِهِ كَمَا اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ حَلِفِهِ عَلَى أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى نِسَائِهِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَالَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ الْعَسَلُ كَمَا مَضَى فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ مُخْتَصَرًا مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَسَيَأْتِي بِأَبْسَطَ مِنْهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ.
وَذَكَرْتُ فِي التَّفْسِيرِ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ فِي تَحْرِيمِ جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ، وَذَكَرْتُ هُنَاكَ كَثِيرًا مِنْ طُرُقِهِ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مَا يَجْمَعُ الْقَوْلَيْنِ وَفِيهِ: أَنَّ حَفْصَةَ أُهْدِيَتْ لَهَا عُكَّةٌ فِيهَا عَسَلٌ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا حَبَسَتْهُ حَتَّى تُلْعِقَهُ أَوْ تَسْقِيَهُ مِنْهَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِجَارِيَةٍ عِنْدَهَا حَبَشِيَّةٍ يُقَالُ لَهَا خَضْرَاءُ: إِذَا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَانْظُرِي مَا يَصْنَعُ، فَأَخْبَرَتْهَا الْجَارِيَةُ بِشَأْنِ الْعَسَلِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى صَوَاحِبِهَا فَقَالَتْ: إِذَا دَخَلَ عَلَيْكُنَّ فَقُلْنَ: إِنَّا نَجْدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، فَقَالَ: هُوَ عَسَلٌ، وَاللَّهِ لَا أَطْعَمَهُ أَبَدًا.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ حَفْصَةَ اسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَأْتِيَ أَبَاهَا فَأَذِنَ لَهَا فَذَهَبَتْ فَأَرْسَلَ إِلَى جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ فَأَدْخَلَهَا بَيْتَ حَفْصَةَ، قَالَتْ حَفْصَةُ فَرَجَعْتُ فَوَجَدْتُ الْبَابَ مُغْلَقًا فَخَرَجَ وَوَجْهُهُ يَقْطُرُ وَحَفْصَةُ تَبْكِي، فَعَاتَبَتْهُ فَقَالَ: أُشْهِدُكِ أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ، انْظُرِي لَا تُخْبِرِي بِهَذَا امْرَأَةً وَهِيَ عِنْدَكِ أَمَانَةٌ، فَلَمَّا خَرَجَ قَرَعَتْ حَفْصَةُ الْجِدَارَ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: أَلَا أُبَشِّرُكِ؟ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَرَّمَ أَمَتَهُ، فَنَزَلَتْ، وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ: خَرَجَتْ حَفْصَةُ مِنْ بَيْتِهَا يَوْمَ عَائِشَةَ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ بِجَارِيَتِهِ الْقِبْطِيَّةِ بَيْتَ حَفْصَةَ فَجَاءَتْ فَرَقَبَتْهُ حَتَّى خَرَجَتِ الْجَارِيَةُ فَقَالَتْ لَهُ: أَمَا إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَا صَنَعْتَ، قَالَ: فَاكْتُمِي عَلَيَّ وَهِيَ حَرَامٌ، فَانْطَلَقَتْ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ فَأَخْبَرَتْهَا، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: أَمَّا يَوْمِي فَتَعْرِضُ فِيهِ بِالْقِبْطِيَّةِ وَيَسْلَمُ لِنِسَائِكَ سَائِرُ أَيَّامِهِنَّ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ وَجَاءَ فِي ذَلِكَ ذِكْرُ قَوْلٍ ثَالِثٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَتْ حَفْصَةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيْتَهَا فَوَجَدَتْ مَعَهُ مَارِيَةَ فَقَالَ: لَا تُخْبِرِي عَائِشَةَ حَتَّى أُبَشِّرْكِ بِبِشَارَةٍ، إِنَّ أَبَاكَ يَلِي هَذَا الْأَمْرَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ إِذَا أَنَا مِتُّ، فَذَهَبَتْ إِلَى عَائِشَةَ فَأَخْبَرَتْهَا فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ ذَلِكَ، وَالْتَمَسَتْ مِنْهُ أَنْ يُحَرِّمَ مَارِيَةَ فَحَرَّمَهَا، ثُمَّ جَاءَ إِلَى حَفْصَةَ فَقَالَ: أَمَرْتُكِ أَلَّا تُخْبِرِي عَائِشَةَ فَأَخْبَرْتِهَا، فَعَاتَبَهَا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُعَاتِبْهَا عَلَى
أَمْرِ الْخِلَافَةِ، فَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَفِي عِشْرَةِ النِّسَاءِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ بِتَمَامِهِ وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا ضَعْفٌ، وَجَاءَ فِي سَبَبِ غَضَبِهِ مِنْهُنَّ وَحَلِفِهِ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا
قِصَّةٌ أُخْرَى، فَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَدِيَّةٌ، فَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ نَصِيبَهَا، فَلَمْ تَرْضَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ بِنَصِيبِهَا فَزَادَهَا مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمْ تَرْضَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَقَدْ أَقْمَأَتْ وَجْهَكَ تَرُدُّ عَلَيْكَ الْهَدِيَّةَ، فَقَالَ: لَأَنْتُنَّ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ تُقْمِئْنَنِي، لَا أَدْخُلُ عَلَيْكُنَّ شَهْرًا الْحَدِيثَ. وَمِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوُهُ وَفِيهِ: ذَبَحَ ذَبْحًا فَقَسَمَهُ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى زَيْنَبَ بِنَصِيبِهَا فَرَدَّتْهُ، فَقَالَ زِيدُوهَا ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ تَرُدُّهُ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَالنَّاسُ جُلُوسٌ بِبَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُؤْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فَأُذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ فَدَخَلَ ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ فَوَجَدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا وَحَوْلَهُ نِسَاؤُهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَائِشَةَ وَقَامَ عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ، ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا فَذَكَرَ نُزُولَ آيَةِ التَّخْيِيرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَانَ سَبَبًا لِاعْتِزَالِهِنَّ.
وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِمَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ صلى الله عليه وسلم وَسَعَةِ صَدْرِهِ وَكَثْرَةِ صَفْحِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ حَتَّى تَكَرَّرَ مُوجِبُهُ مِنْهُنَّ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهُنَّ. وَقَصَّرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَنَسَبَ قِصَّةَ الذَّبْحِ لِابْنِ حَبِيبٍ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ وَهِيَ مُسْنَدَةٌ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ، وَأَبْهَمَ قِصَّةَ النَّفَقَةِ وَهِيَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَالرَّاجِحُ مِنَ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا قِصَّةُ مَارِيَةَ لِاخْتِصَاصِ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ بِهَا بِخِلَافِ الْعَسَلِ فَإِنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُنَّ كَمَا سَيَأْتِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْأَسْبَابُ جَمِيعُهَا اجْتَمَعَتْ فَأُشِيرَ إِلَى أَهَمِّهَا، وَيُؤَيِّدُهُ شُمُولُ الْحَلِفِ لِلْجَمِيعِ وَلَوْ كَانَ مَثَلًا فِي قِصَّةِ مَارِيَةَ فَقَطْ لَاخْتَصَّ بِحَفْصَةَ وَعَائِشَةَ. وَمَنِ اللَّطَائِفِ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الشَّهْرِ مَعَ أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْهَجْرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ أَنَّ عِدَّتَهُنَّ كَانَتْ تِسْعَةً فَإِذَا ضُرِبَتْ فِي ثَلَاثَةٍ كَانَتْ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ وَالْيَوْمَانِ لِمَارِيَةَ لِكَوْنِهَا كَانَتْ أَمَةً فَنَقَصَتْ عَنِ الْحَرَائِرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (فَاعْتَزَلَ النَّبِيُّ نِسَاءَهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً) الْعَدَدُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَاعْتَزَلَ نِسَاءَهُ.
قَوْلُهُ (وَكَانَ قَالَ مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا) فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ وَكَانَ آلَى مِنْهُنَّ شَهْرًا أَيْ حَلَفَ أَوْ أَقْسَمَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِيلَاءَ الَّذِي فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ اتِّفَاقًا، وَسَيَأْتِي بَعْدَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ آلَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلَفْظِ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ هُنَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ فِي حَدِيثِ عُمَرَ لَمْ يُعَبِّرُوا بِلَفْظِ الْإِيلَاءِ.
قَوْلُهُ (مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ) أَيْ غَضَبِهِ.
قَوْلُهُ (دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ) فِيهِ أَنَّ مَنْ غَابَ عَنْ أَزْوَاجِهِ ثُمَّ حَضَرَ يَبْدَأُ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَبْدَأَ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ وَلَا أَنْ يُقْرِعَ، كَذَا قِيلَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْبَدَاءَةُ بِعَائِشَةَ لِكَوْنِهِ اتَّفَقَ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَهَا.
قَوْلُهُ (فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ كُنْتَ قَدْ أَقْسَمْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا) تَقَدَّمَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ سِمَاكِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّ عُمَرَ ذَكَّرَهُ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّهُ ذَكَّرَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِهِ مِنَ الْغُرْفَةِ وَعَائِشَةُ ذَكَّرَتْهُ بِذَلِكَ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَكَأَنَّهُمَا تَوَارَدَا عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: فَقُلْنَا فَظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ يُوهِمُ أَنَّهُ مِنْ تَتِمَّةِ حَدِيثِ عُمَرَ فَيَكُونُ عُمَرُ حَضَرَ ذَلِكَ مِنْ عَائِشَةَ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ عِنْدِي، لَكِنْ يَقْوَى أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ تَعَالِيقِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ، فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ عِنْدَهُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْسَمَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَى نِسَائِهِ شَهْرًا، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ. . فَذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا أَصْبَحْتُ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً) فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ لِتِسْعٍ بِاللَّامِ، وَفِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ فِيهَا بِتِسْعٍ بِالْمُوَحَّدَةِ وَهِيَ مُتَقَارِبَةٌ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: مِنْ هُنَا إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ وَقَعَ مُدْرَجًا فِي رِوَايَةِ
شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَوَقَعَ مُفَصَّلًا فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: قَالَ الزُّهْرِيِّ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ. قُلْتُ: وَنِسْبَةُ الْإِدْرَاجِ إِلَى شُعَيْبٍ فِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَظَالِمِ مِنْ رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ طَرِيقَ مَعْمَرٍ كَمَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مُفَصَّلَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْأَحْزَابِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ حَكَى الِاخْتِلَافَ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي قِصَّةِ التَّخْيِيرِ هَلْ هِيَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَوْ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ (فَقَالَ: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً وَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً) فِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى تَأْوِيلِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ وَأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ الْحَصْرُ، أَوْ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ الشَّهْرُ لِلْعَهْدِ مِنَ الشَّهْرِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الشُّهُورُ كُلُّهَا كَذَلِكَ، وَقَدْ أَنْكَرَتْ عَائِشَةُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ رِوَايَتَهُ الْمُطْلَقَةُ أَنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ قَالَ: فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّمَا قَالَ: الشَّهْرُ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُمَرَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْأَخِيرِ الَّذِي جَزَمَتْ بِهِ عَائِشَةُ وَبَيَّنْتُهُ قَبْلَ هَذَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سِمَاكِ بْنِ الْوَلِيدِ مِنَ الْإِشْكَالِ.
قَوْلُهُ (قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّخْيِيرِ) فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ فَأُنْزِلَتْ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الْحَدِيثِ سُؤَالُ الْعَالِمِ عَنْ بَعْضِ أُمُورِ أَهْلِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ غَضَاضَةٌ إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ تُنْقَلُ وَمَسْأَلَةٌ تُحْفَظُ، قَالَهُ الْمُهَلَّبُ، قَالَ: وَفِيهِ تَوْقِيرُ الْعَالِمِ وَمَهَابَتُهُ عَنِ اسْتِفْسَارِ مَا يَخْشَى مِنْ تغيره عند ذِكْرِهِ، وَتَرَقُّبُ خَلَوَاتِ الْعَالِمِ يسْأَل عَمَّا لَعَلَّهُ لَوْ سُئِلَ عَنْهُ بِحَضْرَةِ النَّاسِ أَنْكَرَهُ عَلَى السَّائِلِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ مُرَاعَاةُ الْمُرُوءَةِ. وَفِيهِ أَنَّ شِدَّةَ الْوَطْأَةِ عَلَى النِّسَاءِ مَذْمُومٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِسِيرَةِ الْأَنْصَارِ فِي نِسَائِهِمْ وَتَرَكَ سِيرَةَ قَوْمِهِ. وَفِيهِ تَأْدِيبُ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ وَقَرَابَتَهُ بِالْقَوْلِ لِأَجْلِ إِصْلَاحِهَا لِزَوْجِهَا، وَفِيهِ سِيَاق الْقِصَّةِ عَلَى وَجْهِهَا وَإِنْ لَمْ يَسْأَلِ السَّائِلُ عَنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ مِنْ زِيَادَةِ شَرْحٍ وَبَيَانٍ، وَخُصُوصًا إِذَا كَانَ الْعَالِمُ يَعْلَمُ أَنَّ الطَّالِبَ يُؤْثِرُ ذَلِكَ. وَفِيهِ مَهَابَةُ الطَّالِبِ لِلْعَالِمِ وَتَوَاضُعُ الْعَالِمِ لَهُ وَصَبْرُهُ عَلَى مُسَاءَلَتِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ غَضَاضَةٌ. وَفِيهِ جَوَازُ ضَرْبِ الْبَابِ وَدَقِّهِ إِذَا لَمْ يَسْمَعِ الدَّاخِلُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَدُخُولُ الْآبَاءِ عَلَى الْبَنَاتِ وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ، وَالتَّنْقِيبُ عَنْ أَحْوَالِهِنَّ لَا سِيَّمَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُتَزَوِّجَاتِ. وَفِيهِ حُسْنُ تَلَطُّفِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَشِدَّةُ حِرْصِهِ عَلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى فُنُونِ التَّفْسِيرِ.
وَفِيهِ طَلَبُ عُلُوِّ الْإِسْنَادِ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَقَامَ مُدَّةً طَوِيلَةً يَنْتَظِرُ خَلْوَةَ عُمَرَ لِيَأْخُذَ عَنْهُ؛ وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَخْذُ ذَلِكَ بِوَاسِطَةٍ عَنْهُ مِمَّنْ لَا يَهَابُ سُؤَالَهُ كَمَا كَانَ يَهَابُ عُمَرَ. وَفِيهِ حِرْصُ الصَّحَابَةِ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَالضَّبْطِ بِأَحْوَالِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. وَفِيهِ أَنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَجْعَلُ لِنَفْسِهِ وَقْتًا يَتَفَرَّغُ فِيهِ لِأَمْرِ مَعَاشِهِ وَحَالِ أَهْلِهِ. وَفِيهِ الْبَحْثُ فِي الْعِلْمِ فِي الطُّرُقِ وَالْخَلَوَاتِ وَفِي حَالِ الْقُعُودِ وَالْمَشْيِ. وَفِيهِ إِيثَارُ الِاسْتِجْمَارِ فِي الْأَسْفَارِ وَإِبْقَاءِ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ. وَفِيهِ ذِكْرُ الْعَالِمِ مَا يَقَعُ مِنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ دِينِيَّةٌ وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ حِكَايَةُ مَا يُسْتَهْجَنُ، وَجَوَازُ ذِكْرِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لِسِيَاقِ الْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ، وَبَيَانُ ذِكْرِ وَقْتِ التَّحَمُّلِ. وَفِيهِ الصَّبْرُ عَلَى الزَّوْجَاتِ وَالْإِغْضَاءِ عَنْ خِطَابِهِنَّ وَالصَّفْحُ عَمَّا يَقَعُ مِنْهُنَّ مِنْ زَلَلٍ فِي حَقِّ الْمَرْءِ دُونَ مَا يَكُونُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِيهِ جَوَازُ اتِّخَاذِ الْحَاكِمِ عِنْدَ الْخَلْوَةِ بَوَّابًا يَمْنَعُ مَنْ يَدْخُلُ إِلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُ أَنَسٍ الْمَاضِي فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي وَعَظَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ تَعْرِفْهُ ثُمَّ جَاءَتْ إِلَيْهِ فَلَمْ تَجِدْ لَهُ بَوَّابِينَ مَحْمُولًا عَلَى الْأَوْقَاتِ الَّتِي يَجْلِسُ فِيهَا لِلنَّاسِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَفِيهِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَحْتَجِبَ عَنْ بِطَانَتِهِ وَخَاصَّتِهِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِطَرْقِهِ مِنْ جِهَةِ أَهْلِهِ حَتَّى يَذْهَبَ غَيْظُهُ وَيَخْرُجَ إِلَى النَّاسِ وَهُوَ مُنْبَسِطٌ
إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْكَبِيرَ إِذَا احْتَجَبَ لَمْ يَحْسُنِ الدُّخُولُ إِلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَلَوْ كَانَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ جَلِيلَ الْقَدْرِ عَظِيمَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُ. وَفِيهِ الرِّفْقُ بِالْأَصْهَارِ وَالْحَيَاءُ مِنْهُمْ إِذَا وَقَعَ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِهِ مَا يَقْتَضِي مُعَاتَبَتَهُمْ. وَفِيهِ أَنَّ السُّكُوتَ قَدْ يَكُونُ أَبْلَغَ مِنَ الْكَلَامِ وَأَفْضَلَ فِي بَعْضِ الْأَحَايِينِ، لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَوْ أَمَرَ غُلَامَهُ بِرَدِّ عُمَرَ لَمْ يَجُزْ لِعُمَرَ الْعَوْدُ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَلَمَّا سَكَتَ فَهِمَ عُمَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُؤْثِرْ رَدَّهُ مُطْلَقًا، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْمُهَلَّبُ. وَفِيهِ أَنَّ الْحَاجِبَ إِذَا عَلِمَ مَنْعَ الْإِذْنِ بِسُكُوتِ الْمَحْجُوبِ لَمْ يَأْذَنْ. وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَالَةٍ يُكْرَهُ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا.
وَفِيهِ جَوَازُ تَكْرَارِ الِاسْتِئْذَانِ لِمَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ إِذَا رَجَا حُصُولَ الْإِذْنِ، وَأَنْ لَا يَتَجَاوَزَ بِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ فِي قِصَّةِ أَبِي مُوسَى مَعَ عُمَرَ، وَالِاسْتِدْرَاكُ عَلَى عُمَرَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ لِأَنَّ الَّذِي وَقَعَ مِنَ الْإِذْنِ لَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَقَعَ اتِّفَاقًا، وَلَوْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ يَعُودُ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ لِأَنَّهُ صَرَّحَ كَمَا سَيَأْتِي بِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ ذَلِكَ الْحُكْمُ.
وَفِيهِ أَنَّ كُلَّ لَذَّةٍ أَوْ شَهْوَةٍ قَضَاهَا الْمَرْءُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ اسْتِعْجَالٌ لَهُ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ ذَلِكَ لَادُّخِرَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ إِيثَارَ الْفَقْرِ عَلَى الْغِنَى وَخَصَّهُ الطَّبَرِيُّ بِمَنْ لَمْ يَصْرِفْهُ فِي وُجُوهِهِ وَيُفَرِّقْهُ فِي سُبُلِهِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِوَضْعِهِ فِيهَا، قَالَ: وَأَمَّا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ مَنَازِلِ الِامْتِحَانِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمِحَنِ مَعَ الشُّكْرِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الضَّرَّاءِ وَحْدَهُ، انْتَهَى. قَالَ عِيَاضٌ: هَذِهِ الْقِصَّةُ مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُفَضِّلُ الْفَقِيرَ عَلَى الْغَنِيِّ لِمَا فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ إِنَّ مَنْ تَنَعَّمَ فِي الدُّنْيَا يَفُوتُهُ فِي الْآخِرَةِ بِمِقْدَارِهِ، قَالَ: وَحَاوَلَهُ الْآخَرُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ حَظَّ الْكُفَّارِ هُوَ مَا نَالُوهُ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا إِذْ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، انْتَهَى، وَفِي الْجَوَابِ نَظَرٌ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا السَّلَفُ وَالْخَلَفُ، وَهِيَ طَوِيلَةُ الذَّيْلِ سَيَكُونُ لَنَا بِهَا إِلْمَامٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ. وَفِيهِ أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا رَأَى صَاحِبَهُ مَهْمُومًا اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُحَدِّثَهُ بِمَا يُزِيلُ هَمَّهُ وَيُطَيِّبُ نَفْسَهُ، لِقَوْلِ عُمَرَ: لَأَقُولَنَّ شَيْئًا يُضْحِكُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِئْذَانِ الْكَبِيرِ فِي ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ. وَفِيهِ جَوَازُ الِاسْتِعَانَةِ فِي الْوُضُوءِ بِالصَّبِّ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ، وَخِدْمَةُ الصَّغِيرِ الْكَبِيرَ وَإِنْ كَانَ الصَّغِيرُ أَشْرَفَ نَسَبًا مِنَ الْكَبِيرِ. وَفِيهِ التَّجَمُّلُ بِالثَّوْبِ وَالْعِمَامَةِ عِنْدَ لِقَاءِ الْأَكَابِرِ.
وَفِيهِ تَذْكِيرُ الْحَالِفِ بِيَمِينِهِ إِذَا وَقَعَ مِنْهُ مَا ظَاهِرُهُ نِسْيَانُهَا لَاسِيَّمَا مِمَّنْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِذَلِكَ، لِأَنَّ عَائِشَةَ خَشِيَتْ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم نَسِيَ مِقْدَارَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ شَهْرٌ وَالشَّهْرُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا أَوْ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، فَلَمَّا نَزَلَ فِي تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ ظَنَّتْ أَنَّهُ ذَهِلَ عَنِ الْقَدْرِ أَوْ أَنَّ الشَّهْرَ لَمْ يَهُلَّ، فَأَعْلَمَهَا أَنَّ الشَّهْرَ اسْتَهَلَّ فَإِنَّ الَّذِي كَانَ الْحَلِفُ وَقَعَ فِيهِ جَاءَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ يَمِينَهُ صلى الله عليه وسلم اتُّفِقَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ وَلِهَذَا اقْتَصَرَ عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَإِلَّا فَلَوِ اتُّفِقَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْبِرُّ إِلَّا بِثَلَاثِينَ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ فِي الِاكْتِفَاءِ بِتِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ أَخْذًا بِأَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ يَبَرُّ بِفِعْلِ أَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَالْقِصَّةُ مَحْمُولَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِك عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ أَوَّلَ الْهِلَالِ وَخَرَجَ بِهِ فَلَوْ دَخَلَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ لَمْ يَبَرَّ إِلَّا بِثَلَاثِينَ. وَفِيهِ سُكْنَى الْغُرْفَةِ ذَاتِ الدَّرَجِ وَاتِّخَاذُ الْخِزَانَةِ لِأَثَاثِ الْبَيْتِ وَالْأَمْتِعَةِ. وَفِيهِ التَّنَاوُبَ فِي مَجْلِسِ الْعَالِمِ إِذَا لَمْ تَتَيَسَّرِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى حُضُورِهِ لِشَاغِلٍ شَرْعِيٍّ مِنْ أَمْرٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ.
وَفِيهِ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَوْ كَانَ الْآخِذُ فَاضِلًا وَالْمَأْخُوذُ عَنْهُ مَفْضُولًا، وَرِوَايَةُ الْكَبِيرِ عَنِ الصَّغِيرِ، وَأَنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي تُشَاعُ وَلَوْ كَثُرَ نَاقِلُوهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ مَرْجِعُهَا إِلَى أَمْرٍ حِسِّيٍّ مِنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ سَمَاعٍ لَا تَسْتَلْزِمُ الصِّدْقَ، فَإِنَّ جَزْمَ الْأَنْصَارِيِّ فِي
رِوَايَةٍ بِوُقُوعِ التَّطْلِيقِ وَكَذَا جَزْمُ النَّاسِ الَّذِينَ رَآهُمْ عُمَرُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ بِذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ شَاعَ بَيْنَهُمْ ذَلِكَ مِنْ شَخْصٍ بِنَاءً عَلَى التَّوَهُّمِ الَّذِي تَوَهَّمَهُ مِنِ اعْتِزَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، فَظَنَّ لِكَوْنِهِ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ طَلَّقَهُنَّ، فَأَشَاعَ أَنَّهُ طَلَّقَهُنَّ فَشَاعَ ذَلِكَ فَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِهِ، وَأَخْلَقُ بِهَذَا الَّذِي ابْتَدَأَ بِإِشَاعَةِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ الِاكْتِفَاءُ بِمَعْرِفَةِ الْحُكْمِ بِأَخْذِهِ عَنِ الْقَرِينِ مَعَ إِمْكَانِ أَخْذِهِ عَالِيًا عَمَّنْ أَخَذَهُ عَنْهُ الْقَرِينُ، وَأَنَّ الرَّغْبَةَ فِي الْعُلُوِّ حَيْثُ لَا يَعُوقُ عَنْهُ عَائِقٌ شَرْعِيٌّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْهُ أُصُولَ مَا يَقَعُ فِي غَيْبَتِهِ ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُشَافَهَةً، وَهَذَا أَحَدُ فَوَائِدِ كِتَابَةِ أَطْرَافِ الْحَدِيثِ.
وَفِيهِ مَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ مِنْ مَحَبَّةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى أَحْوَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَلَّتْ أَوْ قَلَّتْ، وَاهْتِمَامُهُمْ بِمَا يَهْتَمُّ لَهُ لِإِطْلَاقِ الْأَنْصَارِيِّ اعْتِزَالَهُ نِسَاءَهُ الَّذِي أَشْعَرَ عِنْدَهُ بِأَنَّهُ طَلَاقَهُنَّ الْمُقْتَضِيَ وُقُوعَ غَمِّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ طُرُوقِ مَلِكِ الشَّامِ الْغَسَّانِيِّ بِجُيُوشِهِ الْمَدِينَةَ لِغَزْوِ مَنْ بِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ يَتَحَقَّقُ أَنَّ عَدُوَّهُمْ وَلَوْ طَرَقَهُمْ مَغْلُوبٌ وَمَهْزُومٌ وَاحْتِمَالُ خِلَافِ ذَلِكَ ضَعِيفٌ، بِخِلَافِ الَّذِي وَقَعَ بِمَا تَوَهَّمَهُ مِنَ التَّطْلِيقِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ مَعَهُ حُصُولُ الْغَمِّ وَكَانُوا فِي الطَّرَفِ الْأَقْصَى مِنْ رِعَايَةِ خَاطِرِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْصُلَ لَهُ تَشْوِيشٌ وَلَوْ قَلَّ وَالْقَلَقُ لِمَا يُقْلِقُهُ وَالْغَضَبُ لِمَا يُغْضِبُهُ وَالْهَمُّ لِمَا يُهِمُّهُ رضي الله عنهم.
وَفِيهِ أَنَّ الْغَضَبَ وَالْحُزْنَ يَحْمِلُ الرَّجُلَ الْوَقُورَ عَلَى تَرْكِ التَّأَنِّي الْمَأْلُوفِ مِنْهُ لِقَوْلِ عُمَرَ: ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَفِيهِ شِدَّةُ الْفَزَعِ وَالْجَزَعِ لِلْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَجَوَازُ نَظَرِ الْإِنْسَانِ إِلَى نَوَاحِي بَيْتِ صَاحِبِهِ وَمَا فِيهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ ذَلِكَ، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ مَا وَقَعَ لِعُمَرَ وَبَيْنَ مَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ فُضُولِ النَّظَرِ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ النَّوَوِيُّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَظَرُ عُمَرَ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَعَ أَوَّلًا اتِّفَاقًا فَرَأَى الشَّعِيرَ وَالْقَرَظَ مَثَلًا فَاسْتَقَلَّهُ فَرَفَعَ رَأْسَهُ لِيَنْظ رَ هَلْ هُنَاكَ شَيْءٌ أَنْفَسُ مِنْهُ فَلَمْ يَرَ إِلَّا الْأُهُبَ فَقَالَ مَا قَالَ، وَيَكُونُ النَّهْيُ مَحْمُولًا عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ وَالتَّفْتِيشِ ابْتِدَاءً. وَفِيهِ كَرَاهَةُ سُخْطِ النِّعْمَةِ وَاحْتِقَارِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ وَطَلَبُ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَإِيثَارُ الْقَنَاعَةِ وَعَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا خُصَّ بِهِ الْغَيْرُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ. وَفِيهِ الْمُعَاقَبَةُ عَلَى إِفْشَاءِ السِّرِّ بِمَا يَلِيقُ بِمَنْ أَفْشَاهُ.
84 - بَاب صَوْمِ الْمَرْأَةِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا تَطَوُّعًا
5192 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: لَا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
قَوْلُهُ (بَابُ صَوْمِ الْمَرْأَةِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا تَطَوُّعًا) هَذَا الْأَصْلُ لَمْ يَذْكُرْهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، وَذَكَرَهُ أَبُو مَسْعُودٍ فِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبَى هُرَيْرَةَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مُسْلِمًا ذَكَرَهُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَوَقَعَ لِلْمِزَّيِّ فِي الْأَطْرَافِ فِيهِ وَهْمٌ بَيَّنْتُهُ فِيمَا كَتَبْتُهُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ (لَا تَصُومُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ وَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ، وَأَغْرَبَ ابْنُ التِّينِ، وَالْقُرْطُبِيُّ فَخَطَّآ رِوَايَةَ الرَّفْعِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلْمُسْتَمْلِي لَا تَصُومَنَّ بِزِيَادَةِ نُونِ التَّوْكِيدِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ بِلَفْظِ لَا تَصُمْ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى بَعْدَ بَابٍ وَاحِدٍ.
85 - بَاب إِذَا بَاتَتْ الْمَرْأَةُ مُهَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا
5193 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ، لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ.
5194 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا بَاتَتْ الْمَرْأَةُ مُهَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تَرْجِعَ.
قَوْلُهُ (بَابُ إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ مُهَاجِرَةً فِرَاشِ زَوْجِهَا) أَيْ بِغَيْرِ سَبَبٍ لَمْ يَجُزْ لَهَا ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) هُوَ بُنْدَارٌ، وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ ابْنُ سِنَانٍ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ نُونَيْنِ وَهُوَ غَلَطٌ.
قَوْلُهُ (عَنْ سُلَيْمَانَ) هُوَ الْأَعْمَشُ، وَأَبُو حَازِمٍ هُوَ سَلْمَانُ الْأَشْجَعِيُّ. وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ زُرَارَةَ هُوَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى قَاضِي الْبَصْرَةِ يُكَنَّى أَبَا حَاجِبٍ، لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثَانِ فَقَطْ هَذَا وَآخَرُ مَضَى فِي الْعِتْقِ، وَلَهُ فِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ حَدِيثٌ آخَرُ يَأْتِي فِي الدِّيَاتِ، وَتَقَدَّمَ لَهُ فِي تَفْسِيرِ عَبَسَ حَدِيثٌ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَهَذَا جَمِيعُ مَا لَهُ فِي الصَّحِيحِ، وَكُلُّهَا مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ (إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ) قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْفِرَاشَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ أَيْ لِمَنْ يَطَأُ فِي الْفِرَاشِ، وَالْكِنَايَةُ عَنِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُسْتَحَى مِنْهَا كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ: وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ اخْتِصَاصُ اللَّعْنِ بِمَا إِذَا وَقَعَ مِنْهَا ذَلِكَ لَيْلًا لِقَوْلِهِ حَتَّى تُصْبِحَ وَكَأَنَّ السِّرَّ تَأَكُّدُ ذَلِكَ الشَّأْنِ فِي اللَّيْلِ وَقُوَّةُ الْبَاعِثِ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا الِامْتِنَاعُ فِي النَّهَارِ، وَإِنَّمَا خُصَّ اللَّيْلُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ الْمَظِنَّةُ لِذَلِكَ اهـ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهَا فَتَأْبَى عَلَيْهِ إِلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ: ثَلَاثَةٌ لَا تُقْبَلُ لَهُمْ صَلَاةٌ وَلَا يَصْعَدُ لَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ حَسَنَةٌ: الْعَبْدُ الْآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ، وَالسَّكْرَانُ حَتَّى يَصْحُوَ، وَالْمَرْأَةُ السَّاخِطُ عَلَيْهَا زَوْجُهَا حَتَّى يَرْضَى، فَهَذِهِ الْإِطْلَاقَاتُ تَتَنَاوَلُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.
قَوْلُهُ (فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ) زَادَ أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا وَبِهَذِهِ الزِّيَادَةِ يُتَّجَهُ وُقُوعُ اللَّعْنِ، لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ ثُبُوتُ مَعْصِيَتِهَا، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَغْضَبْ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ إِمَّا لِأَنَّهُ عَذَرَهَا، وَإِمَّا لِأَنَّهُ تَرَكَ حَقَّهُ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ زُرَارَةَ إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ مُهَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا فَلَيْسَ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي لَفْظِ الْمُفَاعَلَةِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهَا هيَ الَّتِي هَجَرَتْ، وَقَدْ يَأْتِي لَفْظُ الْمُفَاعَلَةِ وَيُرَادُ بِهَا نَفْسُ الْفِعْلِ وَلَا يَتَّجِهُ عَلَيْهَا اللَّوْمُ إِلَّا إِذَا بَدَأَتْ هِيَ بِالْهَجْرِ فَغَضِبَ هُوَ لِذَلِكَ أَوْ هَجَرَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَلَمْ تَسْتَنْصِلْ مِنْ ذَنْبِهَا وَهَجَرَتْهُ، أَمَّا لَوْ بَدَأ هُوَ بِهَجْرِهَا ظَالِمًا لَهَا فَلَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ: إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً بِلَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ.
قَوْلُهُ (لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ) فِي رِوَايَةِ زُرَارَةُ حَتَّى تَرْجِعَ وَهِيَ أَكْثَرُ فَائِدَةً، وَالْأُولَى مَحْمُولَةٌ عَلَى الْغَالِبِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: اثْنَانِ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمَا رُءُوسَهُمَا: عَبْدٌ آبِقٌ، وَامْرَأَةٌ غَضِبَ زَوْجُهَا حَتَّى تَرْجِعَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: هَذَا الْحَدِيثُ يُوجِبُ أَنَّ مَنْعَ الْحُقُوقِ - فِي الْأَبْدَانِ كَانَتْ أَوْ فِي الْأَمْوَالِ - مِمَّا يُوجِبُ سُخْطَ اللَّهِ، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَهَا بِعَفْوِهِ، وَفِيهِ جَوَازُ لَعْنِ الْعَاصِي الْمُسْلِمِ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْإِرْهَابِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُوَاقِعَ الْفِعْلَ، فَإِذَا وَاقَعَهُ فَإِنَّمَا يُدْعَى لَهُ بِالتَّوْبَةِ وَالْهِدَايَةِ. قُلْتُ: لَيْسَ هَذَا التَّقْيِيدُ مُسْتَفَادًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بَلْ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى، وَقَدِ
ارْتَضَى بَعْضُ مَشَايِخُنَا مَا ذَكَرَهُ الْمُهَلَّبُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ لَعْنِ الْعَاصِي الْمُعَيَّنِ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالْحَقُّ أَنَّ مَنْ مَنَعَ اللَّعْنَ أَرَادَ بِهِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ وَهُوَ الْإِبْعَادُ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ أَنْ يُدْعَى بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ بَلْ يُطْلَبُ لَهُ الْهِدَايَةُ وَالتَّوْبَةُ وَالرُّجُوعُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَالَّذِي أَجَازَهُ أَرَادَ بِهِ مَعْنَاهُ الْعُرْفِيِّ وَهُوَ مُطْلَقُ السَّبِّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحِلَّهُ إِذَا كَانَ بِحَيْثُ يَرْتَدِعُ الْعَاصِي بِهِ وَيَنْزَجِرُ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَابِ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَفِيهِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَدْعُو عَلَى أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ مَا دَامُوا فِيهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَدْعُونَ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ مَا دَامُوا فِيهَا، كَذَا قَالَ الْمُهَلَّبُ وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا، قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: وَهَلِ الْمَلَائِكَةُ الَّتِي تَلْعَنُهَا هُمُ الْحَفَظَةُ أَوْ غَيْرُهُمْ؟ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ. قُلْتُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّلًا بِذَلِكَ، وَيُرْشِدُ إِلَى التَّعْمِيمِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ سُكَّانَهَا قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم خَوَّفَ بِذَلِكَ. وَفِيهِ الْإِرْشَادُ إِلَى مُسَاعَدَةِ الزَّوْجِ وَطَلَبِ مَرْضَاتِهِ. وَفِيهِ أَنَّ صَبْرَ الرَّجُلِ عَلَى تَرْكِ الْجِمَاعِ أَضْعَفُ مِنْ صَبْرِ الْمَرْأَةِ. قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ أَقْوَى التَّشْوِيشَاتِ عَلَى الرَّجُلِ دَاعِيَةُ النِّكَاحِ وَلِذَلِكَ حَضَّ الشَّارِعُ النِّسَاءَ عَلَى مُسَاعَدَةِ الرِّجَالِ فِي ذَلِكَ اهـ. أَوِ السَّبَبُ فِيهِ الْحَضُّ عَلَى التَّنَاسُلِ. وَيُرْشِدُ إِلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي التَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ، قَالَ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مُلَازَمَةِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالصَّبْرِ عَلَى عِبَادَتِهِ جَزَاءً عَلَى مُرَاعَاتِهِ لِعَبْدِهِ حَيْثُ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنْ حُقُوقِهِ إِلَّا جَعَلَ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِهِ حَتَّى جَعَلَ مَلَائِكَتَهُ تَلْعَنُ مَنْ أَغْضَبَ عَبْدَهُ بِمَنْعِ شَهْوَةٍ مِنْ شَهَوَاتِهِ، فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُوَفِّيَ حُقُوقَ رَبِّهِ الَّتِي طَلَبَهَا مِنْهُ، وَإِلَّا فَمَا أَقْبَحَ الْجَفَاءَ مِنَ الْفَقِيرِ الْمُحْتَاجِ إِلَى الْغَنِيِّ الْكَثِيرِ الْإِحْسَانِ. اهـ مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ أَبِي جَمْرَةَ رحمه الله.
86 - بَاب لَا تَأْذَنِ الْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا لِأَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ
5195 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ نَفَقَةٍ عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ يُؤَدَّى إِلَيْهِ شَطْرُهُ.
وَرَوَاهُ أَبُو الزِّنَادِ أَيْضًا، عَنْ مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّوْمِ.
قَوْلُهُ (بَابُ لَا تَأْذَنُ الْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا لِأَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ) الْمُرَادُ بِبَيْتِ زَوْجِهَا سَكَنُهُ سَوَاءٌ كَانَ مِلْكَهُ أَوْ لَا.
قَوْلُهُ (عَنِ الْأَعْرَجِ) كَذَا يَقُولُ شُعَيْبٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدُ.
قَوْلُهُ (لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا) يَلْتَحِقُ بِهِ السَّيِّدُ بِالنِّسْبَةِ لِأَمَتِهِ الَّتِي يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ وَبَعْلُهَا وَهِيَ أَفْيَدُ لِأَنَّ ابْنَ حَزْمٍ نَقَلَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْبَعْلَ اسْمٌ لِلزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ، فَإِنْ ثَبَتَ وَإِلَّا أُلْحِقَ السَّيِّدُ بِالزَّوْجِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْمَعْنَى.
قَوْلُهُ (شَاهِدٌ) أَيْ حَاضِرٌ.
قَوْلُهُ (إِلَّا بِإِذْنِهِ) يَعْنِي فِي غَيْرِ صِيَامِ أَيَّامِ رَمَضَانَ، وَكَذَا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ مِنَ الْوَاجِبِ إِذَا تَضَيَّقَ الْوَقْتُ، وَقَدْ خَصَّهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّرْجَمَةِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ بَابٍ بِالتَّطَوُّعِ، وَكَأَنَّهُ تَلَقَّاهُ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَإِنَّ فِيهَا: لَا تَصُومُ الْمَرْأَةُ غَيْرَ رَمَضَانَ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِ: وَمِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ لَا
تَصُومَ تَطَوُّعًا إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَتْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا، وَقَدْ قَدَّمْتُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي لَفْظِ وَلَا تَصُومُ، وَدَلَّتْ رِوَايَةُ الْبَابِ عَلَى تَحْرِيمِ الصَّوْمِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُكْرَهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، قَالَ: فَلَوْ صَامَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ صَحَّ وَأَثِمَتْ لِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ وَأَمْرُ قَبُولِهِ إِلَى اللَّهِ، قَالَهُ الْعِمْرَانِيُّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمُقْتَضَى الْمَذْهَبِ عَدَمُ الثَّوَابِ، وَيُؤَكِّدُ التَّحْرِيمَ ثُبُوتُ الْخَبَرِ بِلَفْظِ النَّهْيِ، وَوُرُودُهُ بِلَفْظِ الْخَبَرِ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ أَبْلَغُ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ الْأَمْرِ فِيهِ فَيَكُونُ تَأَكُّدُهُ بِحَمْلِهِ عَلَى التَّحْرِيمِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَسَبَبُ هَذَا التَّحْرِيمِ أَنَّ لِلزَّوْجِ حَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَحَقُّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ فَلَا يَفُوتُهُ بِالتَّطَوُّعِ وَلَا بِوَاجِبٍ عَلَى التَّرَاخِي، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ لَهَا الصَّوْمُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَإِذَا أَرَادَ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا جَازَ وَيُفْسِدُ صَوْمَهَا لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَهَابُ انْتَهَاكَ الصَّوْمِ بِالْإِفْسَادِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوْلَى لَهُ خِلَافُ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يُثْبِتْ دَلِيلَ كَرَاهَتِهِ، نَعَمْ لَوْ كَانَ مُسَافِرًا فَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ فِي تَقْيِيدِهِ بِالشَّاهِدِ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّطَوُّعِ لَهَا إِذَا كَانَ زَوْجُهَا مُسَافِرًا، فَلَوْ صَامَتْ وَقَدِمَ فِي أَثْنَاءِ الصِّيَامِ فَلَهُ إِفْسَادُ صَوْمِهَا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَفِي مَعْنَى الْغَيْبَةِ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ الْجِمَاعَ، وَحَمَلَ الْمُهَلَّبُ النَّهْيَ الْمَذْكُورَ عَلَى التَّنْزِيهِ فَقَالَ: هُوَ مِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، وَلَهَا أَنْ تَفْعَلَ مِنْ غَيْرِ الْفَرَائِضِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ وَاجِبَاتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ شَيْئًا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ إِذَا دَخَلَتْ فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ اهـ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ آكَدُ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنَ التَّطَوُّعِ بِالْخَيْرِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ وَاجِبٌ وَالْقِيَامُ بِالْوَاجِبِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَامِ بِالتَّطَوُّعِ.
قَوْلُهُ (وَلَا تَأْذَنُ فِي بَيْتِهِ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَهَذَا الْقَيْدُ لَا مَفْهُومَ لَهُ بَلْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَإِلَّا فَغَيْبَةُ الزَّوْجِ لَا تَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْذَنَ لِمَنْ يَدْخُلُ بَيْتَهُ، بَلْ يَتَأَكَّدُ حِينَئِذٍ عَلَيْهَا الْمَنْعُ لِثُبُوتِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْيِ عَنِ الدُّخُولِ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ أَيْ مَنْ غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَفْهُومٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا حَضَرَ تَيَسَّرَ اسْتِئْذَانُهُ وَإِذَا غَابَ تَعَذَّرَ فَلَوْ دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى الدُّخُولِ عَلَيْهَا لَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى اسْتِئْذَانِهِ لِتَعَذُّرِهِ. ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّخُولِ عَلَيْهَا، أَمَّا مُطْلَقُ دُخُولِ الْبَيْتِ بِأَنْ تَأْذَنَ لِشَخْصٍ فِي دُخُولِ مَوْضِعٍ مِنْ حُقُوقِ الدَّارِ الَّتِي هِيَ فِيهَا أَوْ إِلَى دَارٍ مُنْفَرِدَةٍ عَنْ سَكَنِهَا فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مُلْتَحِقٌ بِالْأَوَّلِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَفْتَاتُ عَلَى الزَّوْجِ بِالْإِذْنِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَا تَعْلَمُ رِضَا الزَّوْجِ بِهِ، أَمَّا لَوْ عَلِمَتْ رِضَا الزَّوْجِ بِذَلِكَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهَا، كَمَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِإِدْخَالِ الضِّيفَانِ مَوْضِعًا مُعَدًّا لَهُمْ سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَمْ غَائِبًا فَلَا يَفْتَقِرْ إِدْخَالُهُمْ إِلَى إِذْنٍ خَاصٍّ لِذَلِكَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَابُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ إِذْنِهِ تَفْصِيلًا أَوْ إِجْمَالًا.
قَوْلُهُ (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أَيِ الصَّرِيحِ، وَهَلْ يَقُومُ مَا يَقْتَرِنُ بِهِ عَلَامَةُ رِضَاهُ مَقَامَ التَّصْرِيحِ بِالرِّضَا؟ فِيهِ نَظَرٌ. قَوْلُهُ (وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ نَفَقَةٍ عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ يُؤَدَّى إِلَيْهِ شَطْرُهُ) أَيْ نِصْفُهُ، وَالْمُرَادُ نِصْفُ الْأَجْرِ كَمَا جَاءَ وَاضِحًا فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْبُيُوعِ، وَيَأْتِي فِي النَّفَقَاتِ بِلَفْظِ: إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ. فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فَلَهَا نِصْفُ أَجْرِهِ. وَأَغْرَبَ الْخَطَّابِيُّ فَحَمَلَ قَوْلَهُ يُؤَدَّى إِلَيْهِ شَطْرُهُ عَلَى الْمَالِ الْمُنْفَقِ، وَأَنَّهُ يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ إِذَا أَنْفَقَتْ بِغَيْرِ أَمْرِ زَوْجِهَا زِيَادَةٌ عَلَى الْوَاجِبِ لَهَا أَنْ تَغْرَمَ الْقَدْرَ الزَّائِدَ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالشَّطْرِ فِي الْخَبَرِ لِأَنَّ الشَّطْرَ يُطْلَقُ عَلَى النِّصْفِ وَعَلَى الْجُزْءِ، قَالَ: وَنَفَقَتُهَا مُعَاوَضَةٌ فَتُقَدَّرُ بِمَا يُوَازِيهَا مِنَ الْفَرْضِ وَتَرُدُّ الْفَضْلَ عَنْ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ، وَإِنَّمَا جَازَ لَهَا فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ لِقِصَّةِ هِنْدٍ: خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ اهـ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَرُدُّ عَلَيْهِ. وَقَدِ اسْتَشْعَرَ الْإِيرَادَ فَحُمِلَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ عَلَى مَعْنًى آخَرَ وَجَعَلَهُمَا حَدِيثَيْنِ
مُخْتَلِفَيِ الدَّلَالَةِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُمَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ رُوِيَا بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَأَمَّا تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَقَالَ النَّوَوِيُّ: عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ الصَّرِيحِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ، وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ وُجُودَ إِذْنٍ سَابِقٍ عَامٍّ يَتَنَاوَلُ هَذَا الْقَدْرَ وَغَيْرَهُ إِمَّا بِالصَّرِيحِ وَإِمَّا بِالْعُرْفِ.
قَالَ: وَيَتَعَيَّنُ هَذَا التَّأْوِيلُ لِجَعْلِ الْأَجْرِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا إِذَا أَنْفَقَتْ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَا الصَّرِيحِ وَلَا الْمَأْخُوذِ مِنَ الْعُرْفِ لَا يَكُونُ لَهَا أَجْرٌ بَلْ عَلَيْهَا وِزْرٌ، فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ. قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مَفْرُوضٌ فِي قَدْرٍ يَسِيرٍ يَعْلَمُ رِضَا الْمَالِكِ بِهِ عُرْفًا، فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - يَعْنِي كَمَا مَرَّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَالْبُيُوعِ - إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ قَدْرٌ يُعْلَمُ رِضَا الزَّوْجِ بِهِ فِي الْعَادَةِ، قَالَ: وَنَبَّهَ بِالطَّعَامِ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِمَّا يُسْمَحُ بِهِ عَادَةً، بِخِلَافِ النَّقْدَيْنِ فِي حَقِّ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي شَرْحِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الزَّكَاةِ مَبَاحِثُ لَطِيفَةٌ وَأَجْوِبَةٌ فِي هَذَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّنْصِيفِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ الْحَمْلَ عَلَى الْمَالِ الَّذِي يُعْطِيهِ الرَّجُلُ فِي نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ، فَإِذَا أَنْفَقَتْ مِنْهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَانَ الْأَجْرُ بَيْنَهُمَا: لِلرَّجُلِ لِكَوْنِهِ الْأَصْلَ فِي اكْتِسَابِهِ وَلِكَوْنِهِ يُؤْجَرُ عَلَى مَا يُنْفِقُهُ عَلَى أَهْلِهِ كَمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرِهِ، وَلِلْمَرْأَةِ لِكَوْنِهِ مِنَ النَّفَقَةِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِهَا. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْحَمْلَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا قَالَ فِي الْمَرْأَةِ تَصَدَّقُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا مِنْ قُوتِهَا وَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَصَدَّقَ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْعَبْدِ عَقِبَهُ: هَذَا يُضَعِّفُ حَدِيثَ هَمَّامٍ اهـ، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ يُضَعِّفُ حَمْلَهُ عَلَى التَّعْمِيمِ، أَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الثَّانِي فَلَا، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا كَلٌّ عَلَى آبَائِنَا وَأَزْوَاجِنَا وَأَبْنَائِنَا، فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ؟ قَالَ: الرُّطَبُ تَأْكُلْنَهُ وَتُهْدِينَهُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَفَعَهُ: لَا تُنْفِقُ امْرَأَةٌ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ، قِيلَ: وَلَا الطَّعَامَ؟ قَالَ: ذَاكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا وَظَاهِرُهُمَا التَّعَارُضُ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّطَبِ مَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ فَأَذِنَ فِيهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ طَعَامًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (وَرَوَاهُ أَبُو الزِّنَادِ أَيْضًا عَنْ مُوسَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّوْمِ) يُشِيرُ إِلَى أَنَّ رِوَايَةَ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ اشْتَمَلَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ، وَأَنَّ لِأَبِي الزِّنَادِ فِي أَحَدِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ صِيَامُ الْمَرْأَةِ إِسْنَادًا آخَرَ، وَمُوسَى الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ أَبِي عُثْمَانَ، وَأَبُوهُ أَبُو عُثْمَانَ يُقَالُ لَهُ التَّبَّانُ بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثَقِيلَةٍ وَاسْمُهُ سَعْدٌ وَيُقَالُ عِمْرَانَ، وَهُوَ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ وَصَلَ حَدِيثَهُ الْمَذْكُورَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عُثْمَانَ بِقِصَّةِ الصَّوْمِ فَقَطْ، وَالدَّارِمِيُّ أَيْضًا وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجَ بِهِ، قَالَ أَبُو عَوَانَةَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ ابْنِ الْمَدِينِيِّ: حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عُثْمَانَ، فَرَاجَعْتُهُ فِيهِ فَثَبَتَ عَلَى مُوسَى وَرَجَعَ عَنِ الْأَعْرَجِ. وَرَوَيْنَاهُ عَالِيًا فِي جُزْءِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ نُجَيْدٍ مِنْ رِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ.
وَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَى الْمَالِكِيَّةِ فِي تَجْوِيزِ دُخُولِ الْأَبِ وَنَحْوِهِ بَيْتَ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا، وَأَجَابُوا عَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَجْهِيًّا فَيَحْتَاجُ إِلَى مُرَجِّحِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: صِلَةُ الرَّحِمِ إِنَّمَا تُنْدَبُ بِمَا يَمْلِكُهُ الْوَاصِلُ، وَالتَّصَرُّفُ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ لَا تَمْلِكُهُ الْمَرْأَةُ إِلَّا بِإِذْنِ الزَّوْجِ، فَكَمَا لِأَهْلِهَا أَنْ لَا تَصِلَهُمْ بِمَالِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِذْنُهَا لَهُمْ فِي دُخُولِ الْبَيْتِ كَذَلِكَ.
87 - باب
5196 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنَا التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَكَانَ عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ، وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ.
[الحديث 5196 - طرفه في: 6547]
قَوْلُهُ (بَابٌ) كَذَا لَهُمْ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أُسَامَةَ لِقَوْلِهِ فِيهِ: وَقَفْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ) وَسَقَطَ لِلنَّسَفِيِّ لَفْظُ بَابٌ فَصَارَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ مِنْ جُمْلَةِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَمُنَاسَبَتُهُ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ النِّسَاءَ غَالِبًا يَرْتَكِبْنَ النَّهْيَ الْمَذْكُورَ، وَمِنْ ثَمَّ كُنَّ أَكْثَرَ مَنْ دَخَلَ النَّارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
88 - بَاب كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَهُوَ الزَّوْجُ وَهُوَ الْخَلِيطُ مِنْ الْمُعَاشَرَةِ. فِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
5197 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: خَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رفع ثم سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَقَدْ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ، فَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ هَذَا، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ أَوْ أُرِيتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتْ الدُّنْيَا، وَرَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ، قَالُوا: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِكُفْرِهِنَّ. قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي خُسُوفِ الشَّمْسِ بِطُولِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي آخِرِ أَبْوَابِ الْكُسُوفِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى وُجُودِ سَبَبِ التَّعْذِيبِ لِأَنَّهَا بِذَلِكَ كَالْمُصِرَّةِ عَلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مِنْ أَسْبَابِ الْعَذَابِ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْمُهَلَّبُ.
5198 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ.
تَابَعَهُ أَيُّوبُ وَسَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ.
قَوْلُهُ (بَابُ كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَهُوَ الزَّوْجُ وَالْعَشِيرُ هُوَ الْخَلِيطُ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ) أَيْ أَنَّ لَفْظَ الْعَشِيرِ يُطْلَقُ بِإِزَاءِ شَيْئَيْنِ، فَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الزَّوْجُ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} الْمُخَالِطُ، وَهَذَا تَفْسِيرُ أَبِي
عُبَيْدَةَ قَالَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} : الْمَوْلَى هُنَا ابْنُ الْعَمِّ وَالْعَشِيرُ الْمُخَالِطُ الْمُعَاشِرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ.
وذكر بعده حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ بِمَعْنَى حَدِيثِ أُسَامَةَ الْمَاضِي فِي الْبَابِ قَبْلَهُ.
وَقَوْلُهُ (تَابَعَهُ أَيُّوبُ، وَسَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ) يَعْنِي أَنَّهُمَا تَابَعَا عَوْفًا، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ وَهُوَ الْعُطَارِدِيُّ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ فَضْلِ الْفَقْرِ مِنَ الرِّقَاقِ أَنَّ حَمَّادَ بْنَ نَجِيحٍ، وَصَخْرَ بْنَ جُوَيْرِيَةَ خَالَفَا فِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ فَقَالَا عَنْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمُتَابَعَةُ أَيُّوبَ وَصَلَهَا النَّسَائِيُّ وَاخْتَلَفَ فِيهِ عَلَى أَيُّوبَ فَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْهُ هَكَذَا، وَقَالَ الثَّقَفِيُّ، وَابْنُ عُلَيَّةُ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَمَّا مُتَابَعَةُ سَلْمِ بْنِ زَرِيرٍ فَوَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ، وَفِي بَابِ فَضْلِ الْفَقْرِ مِنَ الرِّقَاقِ، وَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ مَعَ حَدِيثِ أُسَامَةَ فِي بَابِ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
89 - بَاب لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقٌّ. قَالَهُ أَبُو جُحَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
5199 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا.
قَوْلُهُ (بَابُ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقٌّ، قَالَهُ أَبُو جُحَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ فِي قِصَّةِ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَقَدْ مَضَى مَوْصُولًا مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَمَّا ذَكَرَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ حَقَّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ ذَكَرَ فِي هَذَا عَكْسَهُ وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُجْهِدَ بِنَفْسِهِ فِي الْعِبَادَةِ حَتَّى يَضْعُفَ عَنِ الْقِيَامِ بِحَقِّهَا مِنْ جِمَاعٍ وَاكْتِسَابٍ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ كَفَّ عَنْ جِمَاعِ زَوْجَتِهِ فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ أُلْزِمَ بِهِ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَنَحْوُهُ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ يَجِبُ مَرَّةً، وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي كُلِّ أَرْبَعٍ لَيْلَةٌ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ فِي كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً.
90 - بَاب الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا
5200 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْأَمِيرُ رَاعٍ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.
قَوْلُهُ (بَابٌ الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
91 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} - إِلَى قَوْلِهِ - {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}
5201 -
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، وَقَعَدَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ، فَنَزَلَ لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ آلَيْتَ شَهْرا، قَالَ: إِنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ.
قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} إِلَى هُنَا عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ، زَادَ غَيْرُهُ:{بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} - إِلَى قَوْلِهِ - {عَلِيًّا كَبِيرًا} وَبِسِيَاقِ الْآيَةِ تَظْهَرُ مُطَابَقَةُ التَّرْجَمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} فَهُوَ الَّذِي يُطَابِقُ قَوْلَهُ: آلَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ هَجَرَهُنَّ. وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَقَالَ: لَمْ يَتَّضِحْ لِي دُخُولُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ قَرِيبًا فِي آخِرِ حَدِيثِ عُمَرَ الطَّوِيلِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: إِنَّكَ آلَيْتَ شَهْرًا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ: آلَيْتَ عَلَى شَهْرٍ
وَقَوْلُهُ (فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) قَائِلُ ذَلِكَ عَائِشَةُ كَمَا تَقَدَّمَ وَاضِحًا فِي آخِرِ حَدِيثِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ، وَتَقَدَّمَ فِيهِ أَنَّ عُمَرَ وَغَيْرَهُ أَيْضًا سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ.
92 - بَاب هِجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ فِي غَيْرِ بُيُوتِهِنَّ
وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ رَفْعُهُ: غَيْرَ أَنْ لَا تُهْجَرَ إِلَّا فِي الْبَيْتِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ
5202 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ. ح وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ شَهْرًا، فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا غَدَا عَلَيْهِنَّ - أَوْ رَاحَ - فَقِيلَ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، حَلَفْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا، قَالَ: إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا.
5203 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو يَعْفُورٍ قَالَ: تَذَاكَرْنَا عِنْدَ أَبِي الضُّحَى، فَقَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: أَصْبَحْنَا يَوْمًا وَنِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَبْكِينَ عِنْدَ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ أَهْلُهَا، فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ مَلْآنُ مِنْ النَّاسِ، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَصَعِدَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي غُرْفَةٍ لَهُ، فَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ سَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ سَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَنَادَاهُ، فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ آلَيْتُ مِنْهُنَّ شَهْرًا فَمَكَثَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ. الْحَدِيثُ الثَّانِي.
قَوْلُهُ (بَابُ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ فِي غَيْرِ بُيُوتِهِنَّ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَأَنَّهُ تَجُوزُ الْهِجْرَة فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا وَقَعَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَجْرِهِ لِأَزْوَاجِهِ فِي الْمَشْرُبَةِ. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ أَذْكُرُهُ بَعْدُ.
قَوْلُهُ (وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، وَهُوَ جَدُّ بَهْزِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ. قَوْلُهُ (رَفَعَهُ، وَلَا تَهْجُرُ إِلَّا فِي الْبَيْتِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: غَيْرِ أَنْ لَا تَهْجُرَ إِلَّا فِي الْبَيْتِ، وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْخَرَائِطِيُّ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وابْنُ مَنْدَهْ فِي غَرَائِبِ شُعْبَةَ كُلُّهُمْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي قَزَعَةَ سُوَيْدٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِيهِ وَفِيهِ: مَا حَقُّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ؟ قَالَ: يُطْعِمُهَا إِذَا طَعِمَ، وَيَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَى، وَلَا يَضْرِبُ الْوَجْهَ، وَلَا يُقَبِّحُ، وَلَا يَهْجُرُ إِلَّا فِي الْبَيْتِ.
قَوْلُهُ (وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ) يَعْنِي حَدِيثَ أَنَسٍ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، وَهُوَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَمَا سَأَذْكُرُهُ، وَاقْتَضَى صَنِيعَهُ أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ تَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ دُونَ غَيْرِهَا فِي الصِّحَّةِ، وَإِنَّمَا صَدَّرَهَا بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ إِشَارَةً إِلَى انْحِطَاطِ رُتْبَتِهَا. وَوَقَعَ فِي شَرْحِ الْكِرْمَانِيِّ قَوْلُهُ: وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ رَفَعَهُ وَلَا تَهْجُرُ إِلَّا فِي الْبَيْتِ أَيْ وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَلَا تَهْجُرُ إِلَّا فِي الْبَيْتِ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْأَوَّلُ أَيِ الْهِجْرَةُ فِي غَيْرِ الْبُيُوتِ أَصَحُّ إِسْنَادًا، وَفِي بَعْضِهَا أَيْ بَعْضِ النُّسَخِ مِنَ الْبُخَارِيِّ: غَيْرَ أَنْ لَا تَهْجُرَ إِلَّا فِي الْبَيْتِ قَالَ: فَحِينَئِذٍ فَفَاعِلُ يُذْكَرُ هَجْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ فِي غَيْرِ بُيُوتِهِنَّ، أَيْ وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ رَفْعُهُ غَيْرَ أَنْ لَا تَهْجُرَ، أَيْ رُوِيَتْ قِصَّةُ الْهِجْرَةِ عَنْهُ مَرْفُوعَةً إِلَّا أَنَّهُ قَالَ لَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ، وَهَذَا الَّذِي تَلْمَحُهُ غَلَطٌ مَحْضٌ، فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَيْدَةَ مَا رَوَى قِصَّةَ هَجْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَزْوَاجَهُ، وَلَا يُوجَدُ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَسَانِيدِ وَلَا الْأَجْزَاءِ، وَلَيْسَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ مَا ذَكَرَهُ وَإِنَّمَا مُرَادُهُ حِكَايَةُ مَا وَرَدَ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ وَلَا يُقَبِّحْ وَلَا يَضْرِبِ الْوَجْهَ، غَيْرَ أَنْ لَا يَهْجُرَ إِلَّا فِي الْبَيْتِ فَظَنَّ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ تَصَرُّفِ الْبُخَارِيِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ حِكَايَةٌ مِنْهُ عَمَّا وَرَدَ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُهَلَّبُ: هَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَنَّ النَّاسُ بِمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْهَجْرِ فِي غَيْرِ الْبُيُوتِ رِفْقًا بِالنِّسَاءِ، لِأَنَّ هِجْرَانَهُنَّ مَعَ الْإِقَامَةِ مَعَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ آلَمُ لِأَنْفُسِهِنَّ وَأَوْجَعُ لِقُلُوبِهِنَّ بِمَا يَقَعُ مِنَ الْإِعْرَاضِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَلِمَا فِي الْغَيْبَةِ عَنِ الْأَعْيُنِ مِنَ التَّسْلِيَةِ عَنِ الرِّجَالِ، قَالَ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَ بِهِجْرَانِهِنَّ فِي الْمَضَاجِعِ فَضْلًا عَنِ الْبُيُوتِ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُرِدْ مَا فَهِمَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْهِجْرَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْبُيُوتِ وَفِي غَيْرِ الْبُيُوتِ، وَأَنَّ الْحَصْرَ الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ بَلْ يَجُوزُ الْهَجْرُ فِي غَيْرِ الْبُيُوتِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اهـ.
وَالْحَقُّ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، فَرُبَّمَا كَانَ الْهِجْرَانُ فِي الْبُيُوتِ أَشَدَّ مِنَ الْهِجْرَانِ فِي غَيْرِهَا، وَبِالْعَكْسِ بَلِ الْغَالِبُ أَنَّ الْهِجْرَانَ فِي غَيْرِ الْبُيُوتِ آلَمُ لِلنُّفُوسِ وَخُصُوصًا النِّسَاءَ لِضَعْفِ نُفُوسِهِنَّ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي الْمُرَادِ بِالْهِجْرَانِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ تَرْكَ الدُّخُولَ عَلَيْهِنَّ وَالْإِقَامَةَ عِنْدَهُنَّ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَهُوَ مِنَ الْهِجْرَانِ وَهُوَ الْبُعْدُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يُضَاجِعُهَا. وَقِيلَ الْمَعْنَى يُضَاجِعُهَا وَيُوَلِّيهَا ظَهْرَهُ، وَقِيلَ يَمْتَنِعُ مِنْ جِمَاعِهَا، وَقِيلَ يُجَامِعُهَا وَلَا يُكَلِّمُهَا، وَقِيلَ: اهْجُرُوهُنَّ مُشْتَقٌّ مِنَ الْهُجْرِ بِضَمِّ الْهَاءِ وَهُوَ الْكَلَامُ الْقَبِيحُ أَيْ أَغْلِظُوا لَهُنَّ فِي الْقَوْلِ، وَقِيلَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْهِجَارِ وَهُوَ الْحَبْلُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْبَعِيرُ يُقَالُ هَجَرَ الْبَعِيرَ أَيْ رَبَطَهُ، فَالْمَعْنَى أَوْثِقُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ وَاضْرِبُوهُنَّ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَقَوَّاهُ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ، وَوَهَّاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَأَجَادَ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ. الْأَوَّلُ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ.
قَوْلُهُ (عِكْرِمَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ)
أَيِ ابْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَهُوَ أَخُو أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي الصِّيَامِ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ وَحْدَهُ بِهِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ: لَا يَدْخُلُ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ اللَّاتِي أَقْسَمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ هُنَّ مَنْ وَقَعَ مِنْهُنَّ مَا وَقَعَ مِنْ سَبَبِ الْقَسْمِ لَا جَمِيعُ النِّسْوَةِ، لَكِنِ اتَّفَقَ أَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي أَوَائِلِ الصِّيَامِ، فَاسْتَمَرَّ مُقِيمًا فِي الْمَشْرُبَةِ ذَلِكَ الشَّهْرَ كُلَّهُ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ أَنَّ سَبَبَ الْقَسْمِ مَا تَقَدَّمَ فِي مَارِيَةَ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي اخْتِصَاصَ بَعْضِ النِّسْوَةِ دُونَ بَعْضٍ بِخِلَا فِقِصَّةِ الْعَسَلِ فَإِنَّهُنَّ اشْتَرَكْنَ فِيهَا إِلَّا صَاحِبَةَ الْعَسَلِ وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُنَّ بَدَأَتْ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قِصَّةُ طَلَبِ النَّفَقَةِ وَالْغَيْرَةِ فَإِنَّهُنَّ اجْتَمَعْنَ فِيهَا.
قَوْلُهُ (أَبُو يَعْفُورٍ) بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَآخِرُهُ رَاءٌ هُوَ الْأَصْغَرُ. وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُبَيْدٍ، كُوفِيٌّ ثِقَةٌ لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ وَآخَرُ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ حَدَّثَ بِهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي الضُّحَى.
قَوْلُهُ (تَذَاكَرْنَا عِنْدَ أَبِي الضُّحَى فَقَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ) لَمْ يَذْكُرْ مَا تَذَاكَرُوا بِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فَأَوْضَحَهُ، وَلَفْظُهُ: تَذَاكَرْنَا الشَّهْرَ، فَقَالَ بَعْضُنَا: ثَلَاثِينَ، وَقَالَ بَعْضُنَا: تِسْعًا وَعِشْرِينَ، فَقَالَ أَبُو الضُّحَى: ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَقَالَ فِيهِ: تَذَاكَرْنَا الشَّهْرَ عِنْدَ أَبِي الضُّحَى.
قَوْلُهُ (فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ مَلْآنُ مِنَ النَّاسِ) هَذَا ظَاهِرٌ فِي حُضُورِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ، وَحَدِيثُهُ الطَّوِيلُ، بَلِ الَّذِي مَضَى قَرِيبًا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ مَا عَرَفَ الْقِصَّةَ إِلَّا مِنْ عُمَرَ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَرَفَهَا مُجْمَلَةً فَفَصَّلَهَا عُمَرُ لَهُ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ.
قَوْلُهُ (فِي غُرْفَةٍ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فِي عُلَّيَّةٍ بِمُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ وَقَدْ تُكْسَرُ، وَبِلَامٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَتَيْنِ، هِيَ الْمَكَانُ الْعَالِي وَهِيَ الْغُرْفَةُ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ مَشْرُبَةً وَفُسِّرَتْ فِيمَا مَضَى، وَزَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ فِي غُرْفَةٍ لَيْسَ عِنْدَهُ فِيهَا إِلَّا بِلَالٌ.
قَوْلُهُ (فَنَادَاهُ فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَذَا فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا مِنَ الْبُخَارِيِّ بِحَذْفِ فَاعِلٍ فَنَادَاهُ فَإِنَّ الضَّمِيرَ لِعُمَرَ وَهُوَ الَّذِي دَخَلَ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ وَلَفْظُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ فَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَانْصَرَفَ، فَنَادَاهُ بِلَالٌ فَدَخَلَ وَمِثْلُهُ لِلنَّسَائِيِّ لَكِنْ قَالَ: فَنَادَى بِلَالٌ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ وَهُوَ الضَّمِيرُ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَانْحَطَّ، فَدَعَاهُ بِلَالٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ دَخَلَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ سِمَاكِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ اسْمَ الْغُلَامِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ رَبَاحٌ، فَلَوْلَا قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَيْسَ عِنْدَهُ فِيهَا إِلَّا بِلَالٌ لَجَوَّزْتُ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا كَانَا عِنْدَهُ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَصْرُ لِلْعِنْدِيَّةِ الدَّاخِلَةِ وَيَكُونُ رَبَاحٌ كَانَ عَلَى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعِنْدَ الْإِذْنِ نَادَاهُ بِلَالٌ فَأَسْمَعَهُ رَبَاحٌ فَيَجْتَمِعُ الْخَبَرَانِ.
قَوْلُهُ (فَقَالَ لَا، وَلَكِنْ آلَيْتُ مِنْهُنَّ شَهْرًا) أَيْ حَلَفْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَاضِحًا فِي شَرْحِ حَدِيثِ عُمَرَ الْمُطَوَّلِ.
93 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى {وَاضْرِبُوهُنَّ} أَيْ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ
5204 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَجْلِدُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ.
قَوْلُهُ (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ضَرْبَهُنَّ لَا يُبَاحُ مُطْلَقًا، بَلْ فِيهِ مَا يُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ
أَوْ تَحْرِيمٍ عَلَى مَا سَنُفَصِّلُهُ.
قَوْلُهُ (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاضْرِبُوهُنَّ} أَيْ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ) هَذَا التَّفْسِيرُ مُنْتَزَعٌ مِنَ الْمَفْهُومِ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ قَوْلِهِ ضَرْبَ الْعَبْدِ كَمَا سَأُوَضِّحُهُ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ أَنَّهُ شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا وَفِيهِ: فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ. قُلْتُ: وَسَبَقَ التَّنْصِيصُ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ.
قَوْلُهُ (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَمْعَةَ تَقَدَّمَ بَيَانُ نَسَبِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ وَالشَّمْسِ.
قَوْلُهُ (لَا يَجْلِدْ أَحَدُكُمْ) كَذَا فِي نُسَخِ الْبُخَارِيِّ بِصِيغَةِ النَّهْيِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ سُفْيَانَ، النَّسَائِيِّ، عَنِ الْفِرْيَابِيِّ - وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ - بِصِيغَةِ الْخَبَرِ وَلَيْسَ فِي أَوَّلِهِ صِيغَةُ النَّهْيِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْفِرْيَابِيِّ، وَكَذَا تَوَارَدَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَتَقَدَّمَ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ رِوَايَةِ وُهَيْبٍ، وَيَأْتِي فِي الْأَدَبِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَعَنْ وَكِيعٍ وَعَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَعَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، فَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَعَبْدَةَ إِلَامَ يَجْلِدُ، وَفِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ، وَابْنِ نُمَيْرٍ عَلَامَ يَجْلِدُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَعَظَهُمْ فِي النِّسَاءِ فَقَالَ: يَضْرِبُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ سُفْيَانَ، وَلَيْسَ عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صِيغَةُ النَّهْيِ.
قَوْلُهُ (جَلْدَ الْعَبْدِ) أَيْ مِثْلَ جَلْدِ الْعَبْدِ، وَفِي إِحْدَى رِوَايَتَيِ ابْنِ نُمَيْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: ضَرْبَ الْأَمَةِ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: كَمَا يُضْرَبُ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ سُفْيَانَ: جَلْدَ الْبَعِيرِ أَوِ الْعَبْدِ وَسَيَأْتِي فِي الْأَدَبِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: ضَرْبَ الْفَحْلِ أَوِ الْعَبْدِ، وَالْمُرَادُ بِالْفَحْلِ الْبَعِيرُ، وَفِي حَدِيثِ لَقِيطِ بْنِ صُبْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: وَلَا تَضْرِبْ ظَعِينَتَكَ ضَرْبَكَ أَمَتَكَ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ يُجَامِعُهَا) فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَلَعَلَّهُ أَنْ يُضَاجِعَهَا وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عُيَيْنَةَ فِي الْأَدَبِ ثُمَّ لَعَلَّهُ يُعَانِقُهَا. وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْيَوْمِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ آخِرَ اللَّيْلِ، وَلَهُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ آخِرَ النَّهَارِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ وَالْأَكْثَرِ فِي آخِرِ يَوْمِهِ، وَفِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ آخِرَ اللَّيْلِ أَوْ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ تَأْدِيبِ الرَّقِيقِ بِالضَّرْبِ الشَّدِيدِ، وَالْإِيمَاءُ إِلَى جَوَازِ ضَرْبِ النِّسَاءِ دُونَ ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَفِي سِيَاقِهِ اسْتِبْعَادُ وُقُوعِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْعَاقِلِ: أَنْ يُبَالِغَ فِي ضَرْبِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ يُجَامِعَهَا مِنْ بَقِيَّةِ يَوْمِهِ أَوْ لَيْلَتِهِ، وَالْمُجَامَعَةُ أَوِ الْمُضَاجَعَةُ إِنَّمَا تُسْتَحْسَنُ مَعَ مَيْلِ النَّفْسِ وَالرَّغْبَةِ فِي الْعِشْرَةِ، وَالْمَجْلُودُ غَالِبًا يَنْفِرُ مِمَّنْ جَلَدَهُ، فَوَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَمِّ ذَلِكَ وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ وَلَابُدَّ فَلْيَكُنِ التَّأْدِيبُ بِالضَّرْبِ الْيَسِيرِ بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ النُّفُورُ التَّامُّ فَلَا يُفْرِطُ فِي الضَّرْبِ وَلَا يُفْرِطُ فِي التَّأْدِيبِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ جَلْدَ الْعَبْدِ أَنَّ ضَرْبَ الرَّقِيقِ فَوْقَ ضَرْبِ الْحُرِّ لِتَبَايُنِ حَالَتَيْهِمَا، وَلِأَنَّ ضَرْبَ الْمَرْأَةِ إِنَّمَا أُبِيحَ مِنْ أَجْلِ عِصْيَانِهَا زَوْجَهَا فِيمَا يَجِبُ مِنْ حَقِّهِ عَلَيْهَا اهـ.
وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ مُطْلَقًا، فَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ إِيَاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَبِمُوَحَّدَتَيْنِ الْأُولَى خَفِيفَةٌ: لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: قَدْ ذَئِرَ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَضَرَبُوهُنَّ، فَأَطَافَ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءٌ كَثِيرٌ فَقَالَ: لَقَدْ أَطَافَ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعُونَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ يَشْكِينَ أَزْوَاجَهُنَّ، وَلَا تَجِدُونَ أُولَئِكَ خِيَارَكُمْ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، وَآخَرُ مُرْسَلٌ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ
الْبَيْهَقِيِّ، وَقَوْلُهُ ذَئِرَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ بَعْدَهَا رَاءٌ أَيْ نَشَزَ بِنُونٍ وَمُعْجَمَةٍ وَزَايٍ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ غَضِبَ وَاسْتَبَّ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَلَى الِاخْتِيَارِ وَالْإِذْنِ فِيهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ بِضَرْبِهِنَّ ثُمَّ أَذِنَ بَعْدَ نُزُولِهَا فِيهِ، وَفِي قَوْلِهِ لَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ ضَرَبَهُنَّ مُبَاحٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَحِلُّ ذَلِكَ أَنْ يَضْرِبَهَا تَأْدِيبًا إِذَا رَأَى مِنْهَا مَا يَكْرَهُ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا فِيهِ طَاعَتُهُ، فَإِنِ اكْتَفَى بِالتَّهْدِيدِ وَنَحْوِهِ كَانَ أَفْضَلَ، وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْوُصُولُ إِلَى الْغَرَضِ بِالْإِيهَامِ لَا يَعْدِلُ إِلَى الْفِعْلِ، لِمَا فِي وُقُوعِ ذَلِكَ مِنَ النَّفْرَةِ الْمُضَادَّةِ لِحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ الْمَطْلُوبَةِ فِي الزَّوْجِيَّةِ، إِلَّا إِذَا كَانَ فِي أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ فِي الْبَابِ حَدِيثَ عَائِشَةَ: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةً لَهُ وَلَا خَادِمًا قَطُّ، وَلَا ضَرَبَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ تُنْتَهَكُ حُرُمَاتُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى.
94 - بَاب لَا تُطِيعُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِي مَعْصِيَةٍ
5205 -
حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ الْحَسَنِ - هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ -، عَنْ صَفِيَّةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ زَوَّجَتْ ابْنَتَهَا، فَتَمَعَّطَ شَعَرُ رَأْسِهَا، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَتْ: إِنَّ زَوْجَهَا أَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ فِي شَعَرِهَا فَقَالَ: لَا، إِنَّهُ قَدْ لُعِنَ الْمُوصِلَاتُ.
[الحديث 5205 - طرفه في: 5934]
قَوْلُهُ (بَابُ لَا تُطِيعُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ) لَمَّا كَانَ الَّذِي قَبْلَهُ يُشْعِرُ بِنَدْبِ الْمَرْأَةِ إِلَى طَاعَةِ زَوْجِهَا فِي كُلِّ مَا يَرُومُهُ خُصِّصَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَكُونُ فِيهِ مَعْصِيَةُ اللَّهِ، فَلَوْ دَعَاهَا الزَّوْجُ إِلَى مَعْصِيَةٍ فَعَلَيْهَا أَنْ تَمْتَنِعَ، فَإِنْ أَدَّبَهَا عَلَى ذَلِكَ كَانَ الْإِثْمُ عَلَيْهِ.
ثم ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ الَّتِي طَلَبَتْ أَنْ تَصِلَ شَعْرَ ابْنَتِهَا، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ (إِنَّهُ قَدْ لُعِنَ الْمُوَصِّلَاتُ) كَذَا بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَالْمُوَصِّلَاتُ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمَكْسُورَةِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْمُوَصَّلَاتُ وَهُوَ يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْفَتْحِ
95 - بَاب {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا}
5206 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: ({وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قَالَتْ: هِيَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لَا يَسْتَكْثِرُ مِنْهَا فَيُرِيدُ طَلَاقَهَا وَيَتَزَوَّجُ غَيْرَهَا، تَقُولُ لَهُ: أَمْسِكْنِي وَلَا تُطَلِّقْنِي ثُمَّ تَزَوَّجْ غَيْرِي، فَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ النَّفَقَةِ عَلَيَّ وَالْقِسْمَةِ لِي، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} .
قَوْلُهُ (بَابُ {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} لَيْسَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ أَوْ إِعْرَاضًا وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَابُ وَحَدِيثُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَسِيَاقُهُ هُنَا أَتَمُّ، وَذَكَرْتُ هُنَاكَ سَبَبَ نُزُولِهَا وَفِيمَنْ نَزَلَتْ. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَا إِذَا تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ لَا قِسْمَةَ لَهَا هَلْ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ عَمْرٍو، وَإِبْرَاهِيمَ، وَمُجَاهِدٍ، وَغَيْرِهِمْ: إِنْ رَجَعَتْ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْسِمَ لَهَا وَإِنْ شَاءَ
فَارَقَهَا، وَعَنِ الْحَسَنِ: لَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْقُضَ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْأَنْظَارِ وَالْعَارِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
96 - بَاب الْعَزْلِ
5207 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
[الحديث 5207 - طرفاه في: 5208، 5209]
5208 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قال عَمْرٌو:، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أنه سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه يقول: كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ.
5209 -
وعن عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ.
5210 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أَصَبْنَا سَبْيًا فَكُنَّا نَعْزِلُ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ؟ قَالَهَا ثَلَاثًا، مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا هِيَ كَائِنَةٌ.
قَوْلُهُ (بَابُ الْعَزْلِ) أَيِ النَّزْعِ بَعْدَ الْإِيلَاجِ لِيُنْزِلَ خَارِجَ الْفَرْجِ، وَالْمُرَادُ هُنَا بَيَانُ حُكْمِهِ وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ جَابِرٍ.
قَوْلُهُ (يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) هُوَ الْقَطَّانُ.
قَوْلُهُ (عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ: كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا سُئِلَ عَنِ الْعَزْلِ فَقَالَ: كُنَّا نَصْنَعُهُ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ (قَالَ: قَالَ عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ (أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ) هَذَا مِمَّا نَزَلَ فِيهِ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، فَإِنَّهُ سَمِعَ الْكَثِيرَ مِنْ جَابِرٍ نَفْسِهِ، ثُمَّ أَدْخَلَ فِي هَذَا بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً، وَقَدْ تَوَارَدَتِ الرِّوَايَاتُ مِنْ أَصْحَابِ سُفْيَانَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا مَا وَقَعَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ فِي النُّسَخِ الْمُتَأَخِّرَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِسْنَادِ عَطَاءٌ، لَكِنَّهُ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْنَدِ بِإِثْبَاتِهِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.
قَوْلُهُ (كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ، وَعَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ كَانَ يُعْزَلُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الزَّايِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَكَأَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ حَدَّثَ بِهِ مَرَّتَيْنِ: فَمَرَّةً ذَكَرَ فِيهَا الْأَخْبَارَ وَالسَّمَاعَ فَلَمْ يَقُلْ فِيهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَرَّةً ذَكَرَهُ بِالْعَنْعَنَةِ فَذَكَرَهَا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سُفْيَانَ صَرَّحَ فِيهَا بِالتَّحْدِيثِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَزَادَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ سُفْيَانَ: عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَزَادَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى فِي رِوَايَتِهِ عَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ قَالَ حِينَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ: أَيْ لَوْ كَانَ حَرَامًا لَنَزَلَ فِيهِ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ هَذِهِ الزِّيَادَةَ عَنْ إِسْحَاقِ بْنِ رَاهَوَيْهِ، عَنْ سُفْيَانَ فَسَاقَهُ بِلَفْظِ كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ قَالَ سُفْيَانُ: لَوْ كَانَ شَيْئًا يَنْهَى عَنْهُ لَنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ، فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ سُفْيَانَ قَالَهُ اسْتِنْبَاطًا، وَأَوْهَمَ كَلَامَ صَاحِبِ الْعُمْدَةِ وَمَنْ تَبِعَهُ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ فَأَدْرَجَهَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنِّي تَتَبَّعْتُهُ مِنَ الْمَسَانِيدِ فَوَجَدْتُ أَكْثَرَ رُوَاتِهِ عَنْ سُفْيَانَ لَا يَذْكُرُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، وَشَرَحَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَلَى مَا وَقَعَ
فِي الْعُمْدَةِ فَقَالَ: اسْتِدْلَالُ جَابِرٍ بِالتَّقْرِيرِ مِنَ اللَّهِ غَرِيبٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اسْتَدَلَّ بِتَقْرِيرِ الرَّسُولِ لَكِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِعِلْمِهِ بِذَلِكَ انْتَهَى.
وَيَكْفِي فِي عِلْمِهِ بِهِ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: إِنَّهُ فَعَلَهُ فِي عَهْدِهِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ فِي الْأُصُولِ وَفِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَهِيَ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا أَضَافَهُ إِلَى زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ وَأَقَرَّهُ لِتَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى سُؤَالِهِمْ إِيَّاهُ عَنِ الْأَحْكَامِ، وَإِذَا لَمْ يُضِفْهُ فَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَهَذَا مِنَ الْأَوَّلِ فَإِنَّ جَابِرًا صَرَّحَ بِوُقُوعِهِ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ وَرَدَتْ عِدَّةُ طُرُقٍ تُصَرِّحُ بِاطِّلَاعِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الَّذِي اسْتَنْبَطَ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ جَابِرًا أَوْ سُفْيَانَ أَرَادَ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ مَا يُقْرَأُ، أَعَمُّ مِنَ الْمُتَعَبَّدِ بِتِلَاوَتِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يُوحَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: فَعَلْنَاهُ فِي زَمَنِ التَّشْرِيعِ وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ نُقَرَّ عَلَيْهِ، وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: كُنَّا نَتَّقِي الْكَلَامَ وَالِانْبِسَاطَ إِلَى نِسَائِنَا هيْبَةً أَنْ يَنْزِلَ فِينَا شَيْءٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَكَلَّمْنَا وَانْبَسَطْنَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَلَغَ ذَلِكَ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَنْهَنَا وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ لِي جَارِيَةً وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، فَقَالَ: اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا. فَلَبِثَ الرَّجُلُ ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ حَبِلَتْ، قَالَ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ وَوَقَعَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ عِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِإِسْنَادٍ لَهُ آخَرَ إِلَى جَابِرٍ، وَفِي آخِرِهِ: فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ آخَرَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ بِمَعْنَاهُ، فَفِي هَذِهِ الطُّرُقِ مَا أَغْنَى عَنِ الِاسْتِنْبَاطِ، فَإِنَّ فِي إِحْدَاهَا التَّصْرِيحُ بِاطِّلَاعِهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي الْأُخْرَى إِذْنُهُ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ السِّيَاقُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى كَمَا سَأَذْكُرُ الْبَحْثَ فِيهِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ.
قَوْلُهُ (جُوَيْرِيَةُ) هُوَ ابْنُ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ يُشَارِكُ مَالِكًا فِي الرِّوَايَةِ عَنْ نَافِعٍ وَتَفَرَّدَ عَنْهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَبِغَيْرِهِ، وَهُوَ مِنَ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِهِ: صَحِيحٌ غَرِيبٌ تَفَرَّدَ بِهِ جُوَيْرِيَةُ، عَنْ مَالِكٍ. قُلْتُ: وَلَمْ أَرَهُ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) لِمَالِكٍ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْعِتْقِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقٍ عَنْهُ عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ، وَكَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ.
قَوْلُهُ (عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ رَاءٍ ثُمَّ زَايٍ مُصَغَّرًا، اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْقَدْرِ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ الْجُمَحِيُّ وَهُوَ مَدَنِيٌّ سَكَنَ الشَّامَ، وَمُحَيْرِيزٌ أَبُوهُ هُوَ ابْنُ جُنَادَةَ بْنِ وَهْبٍ وَهُوَ مِنْ رَهْطِ أَبِي مَحْذُورَةَ الْمُؤَذِّنِ وَكَانَ يَتِيمًا فِي حِجْرِهِ، وَوَافَقَ مَالِكًا عَلَى هَذَا السَّنَدِ شُعَيْبٌ كَمَا مَضَى فِي الْبُيُوعِ، وَيُونُسُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْقَدَرِ، وَعُقَيْلٌ، وَالزُّبَيْدِيُّ كِلَاهُمَا عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَخَالَفَهُمْ مَعْمَرٌ فَقَالَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَخَالَفَ الْجَمِيعَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ فَقَالَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتَبَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا، قَالَ النَّسَائِيُّ: رِوَايَةُ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ: أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ وَفِي رِوَايَةِ رَبِيعَةَ فِي الْمَغَازِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَرَأَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْعَزْلِ كَذَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو صِرْمَةَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ فَسَأَلَهُ أَبُو صِرْمَةَ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْعَزْلَ؟ وَأَبُو صِرْمَةَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ اسْمُهُ مَالِكٌ، وَقِيلَ: قَيْسٌ، صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلنِّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ
عُثْمَانَ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي صِرْمَةَ قَالَا: أَصَبْنَا سَبَايَا وَالْمَحْفُوظُ الْأَوَّلُ.
قَوْلُهُ (أَصَبْنَا سَبْيًا) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ فِي الْبُيُوعِ، وَيُونُسَ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَادَ يُونُسُ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَفِي رِوَايَةِ رَبِيعَةَ الْمَذْكُورَةِ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَسَبْينَا كَرَائِمَ الْعَرَبِ، وَطَالَتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ وَرَغِبْنَا فِي الْفِدَاءِ فَأَرَدْنَا أَنْ نَسْتَمْتِعَ وَنَعْزِلَ، فَقُلْنَا: نَفْعَلُ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا لَا نَسْأَلُهُ، فَسَأَلْنَاهُ.
قَوْلُهُ (فَكُنَّا نَعْزِلُ) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، وَشُعَيْبٍ فَقَالَ: إِنَّا نُصِيبُ سَبْيًا وَنُحِبُّ الْمَالَ فَكَيْفَ تَرَى فِي الْعَزْلِ وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: ذُكِرَ الْعَزْلُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَمَا ذَلِكُمْ؟ قَالُوا: الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الْمَرْأَةُ تُرْضِعُ لَهُ فَيُصِيبُ مِنْهَا وَيَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ، وَالرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الْأَمَةُ فَيُصِيبُ مِنْهَا وَيَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ، فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ سَبَبَ الْعَزْلِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا كَرَاهَةُ مَجِيءِ الْوَلَدِ مِنَ الْأَمَةِ وَهُوَ إِمَّا أَنَفَةً مِنْ ذَلِكَ، وَإِمَّا لِئَلَّا يَتَعَذَّرَ بَيْعُ الْأَمَةِ إِذَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا سَأَذْكُرُهُ بَعْدَهُ، وَالثَّانِي كَرَاهَةَ أَنْ تَحْمِلَ الْمَوْطُوءَةُ وَهِيَ تُرْضِعُ فَيَضُرُّ ذَلِكَ بِالْوَلَدِ الْمُرْضَعِ. قَوْلُهُ (أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ)؟ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ اطَّلَعَ عَلَى فِعْلِهِمْ ذَلِكَ، فَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرْفُوعٌ مُعْتَلًّا بِأَنَّ الظَّاهِرَ اطِّلَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَقَدَّمَ، فَفِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُمْ فَعَلُوا الْعَزْلَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَتَّى سَأَلُوهُ عَنْهُ، نَعَمْ لِلْقَائِلِ أَنْ يَقُولَ كَانَتْ دَوَاعِيهُمْ مُتَوَفِّرَةً عَلَى سُؤَالِهِ عَنْ أُمُورِ الدِّينِ، فَإِذَا فَعَلُوا الشَّيْءَ وَعَلِمُوا أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ بَادَرُوا إِلَى سُؤَالِهِ عَنِ الْحُكْمِ فِيهِ فَيَكُونُ الظُّهُورُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ رَبِيعَةَ: لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: قَوْلُهُ لَا عَلَيْكُمْ أَقْرَبُ إِلَى النَّهْيِ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ نَحْوُهُ دُونَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: فَحَدَّثْتُ بِهِ الْحَسَنَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لِكَأَنَّ هَذَا زَجْرٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَأَنَّ هَؤُلَاءِ فَهِمُوا مِنْ لَا النَّهْيَ عَمَّا سَأَلُوهُ عَنْهُ فَكَأَنَّ عِنْدَهُمْ بَعْدَ لَا حَذْفًا تَقْدِيرُهُ لَا تَعْزِلُوا وَعَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ وَعَلَيْكُمْ إِلَخْ تَأْكِيدًا لِلنَّهْيِ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ هَذَا التَّقْدِيرِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتْرُكُوا، وَهُوَ الَّذِي يُسَاوِي أَنْ لَا تَفْعَلُوا، وَقَالَ غَيْرُهُ: قَوْلُهُ لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا أَيْ لَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، فَفِيهِ نَفْيُ الْحَرَجِ عَنْ عَدَمِ الْفِعْلِ فَأَفْهَمَ ثُبُوتَ الْحَرَجِ فِي فِعْلِ الْعَزْلِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْحَرَجِ عَنِ الْفِعْلِ لَقَالَ: لَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَّا إِنِ ادَّعَى أَنَّ لَا زَائِدَةٌ، فَيُقَالُ: الْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ الْآتِيَةِ فِي التَّوْحِيدِ تَعْلِيقًا وَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ ذُكِرَ الْعَزْلُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ؟ وَلَمْ يَقُلْ: لَا يَفْعَلْ ذَلِكَ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُمْ بِالنَّهْيِ، وَإِنَّمَا أَشَارَ أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَزْلَ إِنَّمَا كَانَ خَشْيَةَ حُصُولِ الْوَلَدِ فَلَا فَائِدَةَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ إِنْ كَانَ قَدَّرَ خَلْقَ الْوَلَدِ لَمْ يَمْنَعِ الْعَزْلُ ذَلِكَ، فَقَدْ يَسْبِقُ الْمَاءُ وَلَا يَشْعُرُ الْعَازِلُ فَيَحْصُلُ الْعُلُوقُ وَيَلْحَقُهُ الْوَلَدُ وَلَا رَادَّ لِمَا قَضَى اللَّهُ، وَالْفِرَارُ مِنْ حُصُولِ الْوَلَدِ يَكُونُ لِأَسْبَابٍ: مِنْهَا خَشْيَةَ عُلُوقِ الزَّوْجَةِ الْأَمَةِ لِئَلَّا يَصِيرَ الْوَلَدُ رَقِيقًا، أَوْ خَشْيَةَ دُخُولِ الضَّرَرِ عَلَى الْوَلَدِ الْمُرْضَعِ إِذَا كَانَتِ الْمَوْطُوءَةُ تُرْضِعُهُ، أَوْ فِرَارًا مِنْ كَثْرَةِ الْعِيَالِ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُقِلًّا فَيَرْغَبُ عَنْ قِلَّةِ الْوَلَدِ لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ بِتَحْصِيلِ الْكَسْبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُغْنِي شَيْئًا.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عَنِ الْعَزْلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الْوَلَدُ أَهْرَقْتَهُ عَلَى صَخْرَةٍ لَأَخْرَجَ اللَّهُ مِنْهَا وَلَدًا، وَله شَاهِدَانِ فِي الْكَبِيرِ لِلطَّبَرَانِيِّ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي الْأَوْسَطِ لَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَيْسَ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ الَّتِي يَقَعُ الْعَزْلُ بِسَبَبِهَا مَا يَكُونُ الْعَزْلُ فِيهِ رَاجِحًا سِوَى الصُّورَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَهِيَ خَشْيَةِ أَنْ يَضُرَّ الْحَمْلُ بِالْوَلَدِ الْمُرْضَعِ لِأَنَّهُ مِمَّا جُرِّبَ فَضَرَّ غَالِبًا، لَكِنْ وَقَعَ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ الْعَزْلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَقَعَ الْحَمْلُ بِغَيْرِ الِاخْتِيَارِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أَعْزِلُ عَنِ امْرَأَتِي شَفَقَةً عَلَى وَلَدِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا، مَا ضَرَّ ذَلِكَ فَارِسَ وَلَا الرُّومَ. وَفِي الْعَزْلِ أَيْضًا إِدْخَالُ ضَرَرٍ عَلَى الْمَرْأَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ لَذَّتِهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي حُكْمِ الْعَزْلِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يُعْزَلُ عَنِ الزَّوْجَةِ الْحُرَّةِ إِلَّا بِإِذْنِهَا؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مِنْ حَقِّهَا، وَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَلَيْسَ الْجِمَاعُ الْمَعْرُوفُ إِلَّا مَا لَا يَلْحَقُهُ عَزْلٌ.
وَوَافَقَهُ فِي نَقْلِ هَذَا الْإِجْمَاعِ ابْنُ هُبَيْرَةَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْجِمَاعِ أَصْلًا، ثُمَّ فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي جَوَازِ الْعَزْلِ عَنِ الْحُرَّةِ بِغَيْرِ إِذْنِهَا، قَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ: يَجُوزُ، وَهُوَ الْمُصَحَّحُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ لِذَلِكَ بِحَدِيثٍ عَنْ عُمَرَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: نَهَى عَنِ الْعَزْلِ عَنِ الْحُرَّةِ إِلَّا بِإِذْنِهَا وَفِي إِسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ الْجَزْمُ بِالْمَنْعِ إِذَا امْتَنَعَتْ، وَفِيمَا إِذَا رَضِيَتْ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْحُرَّةِ، وَأَمَّا الْأَمَةُ فَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً فَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْحُرَّةِ إِنْ جَازَ فِيهَا فَفِي الْأَمَةِ أَوْلَى، وَإِنِ امْتَنَعَ فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ تَحَرُّزًا مِنْ إِرْقَاقِ الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَتْ سُرِّيَّةً جَازَ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ إِلَّا فِي وَجْهٍ حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ فِي الْمَنْعِ مُطْلَقًا كَمَذْهَبِ ابْنِ حَزْمٍ، وَإِنْ كَانَتِ السُّرِّيَّةُ مُسْتَوْلَدَةً فَالرَّاجِحُ الْجَوَازُ فِيهِ مُطْلَقًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ رَاسِخَةً فِي الْفِرَاشِ، وَقِيلَ حُكْمُهَا حُكْمُ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ. هَذَا وَاتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الثَّلَاثَةُ عَلَى أَنَّ الْحُرَّةَ لَا يَعْزِلُ عَنْهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا وَأَنَّ الْأَمَةَ يَعْزِلُ عَنْهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُزَوَّجَةِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ سَيِّدِهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالرَّاجِحُ عَنْ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَأَحْمَدُ: الْإِذْنُ لَهَا، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَعَنْهُ بِإِذْنِهَا، وَعَنْهُ يُبَاحُ الْعَزْلُ مُطْلَقًا، وَعَنْهُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا.
وَالَّذِي احْتَجَّ بِهِ مَنْ جَنَحَ إِلَى التَّفْصِيلِ لَا يَصِحُّ إِلَّا عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تُسْتَأْمَرُ الْحُرَّةُ فِي الْعَزْلِ وَلَا تُسْتَأْمَرُ الْأَمَةُ السُّرِّيَّةُ، فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً تَحْتَ حُرٍّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْمِرَهَا وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلَوْ كَانَ مَرْفُوعًا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهُ. وَقَدِ اسْتَنْكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْقَوْلَ بِمَنْعِ الْعَزْلِ عَمَّنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْوَطْءِ، وَنَقَلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ لَهَا حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِهِ إِذَا قَصَدَ بِتَرْكِهِ إِضْرَارَهَا. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ: لَا حَقَّ لَهَا فِيهِ إِلَّا فِي وَطْئَةٍ وَاحِدَةٍ يَسْتَقِرُّ بِهَا الْمَهْرُ، قَالَ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهَا حَقٌّ فِي الْعَزْلِ، فَإِنْ خَصُّوهُ بِالْوَطْئَةِ الْأُولَى فَيُمْكِنُ وَإِلَّا فَلَا يَسُوغُ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ اهـ. وَمَا نَقَلَهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ غَرِيبٌ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا أَصْلًا، نَعَمْ جَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ بِوُجُوبِ الْوَطْءِ وَبِتَحْرِيمِ الْعَزْلِ، وَاسْتَنَدَ إِلَى حَدِيثِ جُذَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الْعَزْلِ فَقَالَ: ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَهَذَا مُعَارَضٌ بِحَدِيثَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَتْ لَنَا جِوَارِي وَكُنَّا نَعْزِلُ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ تِلْكَ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كَذَبَتِ الْيَهُودُ، لَوْ أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَهُ لَمْ تَسْتَطِعْ رَدَّهُ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي مُطِيعِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ أَنَّهُ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ يَسْأَلُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْعَزْلِ فَقَالَ: زَعَمَ أَبُو سَعِيدٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، قَالَ: فَسَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ: أَسَمِعْتَهُ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَخْبَرَنِي رَجُلٌ عَنْهُ.
وَالْحَدِيثُ الثَّانِي فِي النَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَذِهِ طُرُقٌ يَقْوَى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَجُمِعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَدِيثِ جُذَامَةَ بِحَمْلِ حَدِيثِ جُذَامَةَ عَلَى التَّنْزِيهِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْبَيْهَقِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَعَّفَ حَدِيثَ جُذَامَةَ بِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا هُوَ أَكْثَرُ طُرُقًا مِنْهُ، وَكَيْفَ يُصَرِّحُ بِتَكْذِيبِ الْيَهُودِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ يُثْبِتُهُ؟ وَهَذَا دَفْعٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِالتَّوَهُّمِ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ لَا رَيْبَ فِيهِ وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ، وَمِنْهُمْ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَرُدَّ بِعَدَمِ مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ جُذَامَةَ عَلَى وَفْقِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ أَوَّلًا مِنْ مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُنْزَّلْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِالْحُكْمِ فَكَذَّبَ الْيَهُودَ فِيمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ رُشْدٍ ثُمَّ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّهُ لَا يَجْزِمُ بِشَيْءٍ تَبَعًا لِلْيَهُودِ ثُمَّ يُصَرِّحُ بِتَكْذِيبِهِمْ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ جُذَامَةَ بِثُبُوتِهِ فِي الصَّحِيحِ، وَضَعَّفَ مُقَابِلَهُ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ فَاضْطَرَبَ، وَرُدَّ بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ إِنَّمَا يَقْدَحُ حَيْثُ لَا يَقْوَى بَعْضُ الْوُجُوهِ فَمَتَى قَوِيَ بَعْضُهَا عُمِلَ بِهِ، وَهُوَ هُنَا كَذَلِكَ وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ.
وَرَجَّحَ ابْنُ حَزْمٍ الْعَمَلَ بِحَدِيثِ جُذَامَةَ بِأَنَّ أَحَادِيثَ غَيْرِهَا تُوَافِقُ أَصْلَ الْإِبَاحَةِ وَحَدِيثُهَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ قَالَ: فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ أُبِيحَ بَعْدَ أَنْ مُنِعَ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ حَدِيثَهَا لَيْسَ صَرِيحًا فِي الْمَنْعِ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَسْمِيَتِهِ وَأْدًا خَفِيًّا عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِالْعَزْلِ عَنِ الْحَامِلِ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ يَحْذَرُهُ الَّذِي يَعْزِلُ مِنْ حُصُولِ الْحَمْلِ، لَكِنْ فِيهِ تَضْيِيعُ الْحَمْلِ لِأَنَّ الْمَنِيَّ يَغْذُوهُ فَقَدْ يُؤَدِّي الْعَزْلُ إِلَى مَوْتِهِ أَوْ إِلَى ضَعْفِهِ الْمُفْضِي إِلَى مَوْتِهِ فَيَكُونُ وَأْدًا خَفِيًّا، وَجَمَعُوا أَيْضًا بَيْنَ تَكْذِيبِ الْيَهُودِ فِي قَوْلِهِمُ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى وَبَيْنَ إِثْبَاتِ كَوْنِهِ وَأْدًا خَفِيًّا فِي حَدِيثِ جُذَامَةَ بِأَنَّ قَوْلَهُمُ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى يَقْتَضِي أَنَّهُ وَأْدٌ ظَاهِرٌ، لَكِنَّهُ صَغِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى دَفْنِ الْمَوْلُودِ بَعْدَ وَضْعِهِ حَيًّا، فَلَا يُعَارِضُ قَوْلُهُ إِنَّ الْعَزْلَ وَأْدٌ خَفِيٌّ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ أَصْلًا فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ وَأْدًا مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي قَطْعِ الْوِلَادَةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ: الْوَأْدُ الْخَفِيُّ وَرَدَ عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ لِأَنَّهُ قَطَعَ طَرِيقَ الْوِلَادَةِ قَبْلَ مَجِيئِهِ فَأَشْبَهَ قَتْلَ الْوَلَدِ بَعْدَ مَجِيئِهِ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الَّذِي كَذَبَتْ فِيهِ الْيَهُودُ زَعْمُهُمْ أَنَّ الْعَزْلَ لَا يُتَصَوَّرُ مَعَهُ الْحَمْلُ أَصْلًا وَجَعَلُوهُ بِمَنْزِلَةِ قَطْعِ النَّسْلِ بِالْوَأْدِ، فَأَكْذَبَهَمْ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْحَمْلَ إِذَا شَاءَ اللَّهُ خَلْقَهُ، وَإِذَا لَمْ يُرِدْ خَلْقَهُ لَمْ يَكُنْ وَأْدًا حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ وَأْدًا خَفِيًّا فِي حَدِيثِ جُذَامَةَ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا يَعْزِلُ هَرَبًا مِنَ الْحَمْلِ فَأَجْرَى قَصْدَهُ لِذَلِكَ مَجْرَى الْوَأْدِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْوَأْدَ ظَاهِرٌ بِالْمُبَاشَرَةِ اجْتَمَعَ فِيهِ الْقَصْدُ وَالْفِعْلُ، وَالْعَزْلُ يَتَعَلَّقُ بِالْقَصْدِ صِرْفًا فَلِذَلِكَ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ خَفِيًّا، فَهَذِهِ عِدَّةُ أَجْوِبَةٍ يَقِفُ مَعَهَا الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ جُذَامَةَ عَلَى الْمَنْعِ. وَقَدْ جَنَحَ إِلَى الْمَنْعِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ابْنُ حِبَّانَ فَقَالَ فِي صَحِيحِهِ: ذِكْرُ الْخَبَرِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مَزْجُورٌ عَنْهُ لَا يُبَاحُ اسْتِعْمَالُهُ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ رَفَعَهُ: ضَعْهُ فِي حَلَالِهِ وَجَنِّبْهُ حَرَامَهُ وَأَقْرِرْهُ، فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ أَحْيَاهُ وَإِنْ شَاءَ أَمَاتَهُ وَلَكَ أَجْرٌ اهـ. وَلَا دَلَالَةَ فِيمَا سَاقَهُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ التَّحْرِيمِ، بَلْ هُوَ أَمْرُ إِرْشَادٍ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْأَخْبَارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ عِنْدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَجْهٌ آخَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْعَزْلُ وَأْدًا، وَقَالَ: الْمَنِيُّ يَكُونُ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ عَظْمًا ثُمَّ يُكْسَى لَحْمًا، قَالَ: وَالْعَزْلُ قَبْلَ ذَلِكَ كُلَّهُ.
وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ
الْخِيَارِ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ فِي قِصَّةِ حَرْبٍ عِنْدَ عُمَرَ وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ النَّهْيِ عَنِ الْعَزْلِ: فَقِيلَ: لِتَفْوِيتِ حَقِّ الْمَرْأَةِ، وَقِيلَ: لِمُعَانَدَةِ الْقَدَرِ، وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مُعْظَمُ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ الْخَبَرِ الْمُفَرِّقِ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: مَوْضِعُ الْمَنْعِ أَنَّهُ يَنْزِعُ بِقَصْدِ الْإِنْزَالِ خَارِجِ الْفَرْجِ خَشْيَةَ الْعُلُوقِ وَمَتَى فُقِدَ ذَلِكَ لَمْ يُمْنَعُ، وَكَأَنَّهُ رَاعَى سَبَبَ الْمَنْعِ فَإِذَا فَقَدَ بَقِيَ أَصْلُ الْإِبَاحَةِ فَلَهُ أَنْ يَنْزِعَ مَتَى شَاءَ حَتَّى لَوْ نَزَعَ فَأَنْزَلَ خَارِجَ الْفَرْجِ اتِّفَاقًا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ النَّهْيُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُنْتَزَعُ مِنْ حُكْمِ الْعَزْلِ حُكْمُ مُعَالَجَةِ الْمَرْأَةِ إِسْقَاطَ النُّطْفَةِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ، فَمَنْ قَالَ بِالْمَنْعِ هُنَاكَ فَفِي هَذِهِ أَوْلَى، وَمَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ يُمْكِنُ أَنْ يَلْتِحَقَ بِهِ هَذَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بِأَنَّهُ أَشَدُّ لِأَنَّ الْعَزْلَ لَمْ يَقَعْ فِيهِ تَعَاطِي السَّبَبِ وَمُعَالَجَةُ السِّقْطِ تَقَعُ بَعْدَ تَعَاطِي السَّبَبِ، وَيَلْتَحِقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَعَاطِي الْمَرْأَةِ مَا يَقْطَعُ الْحَبَلَ مِنْ أَصْلِهِ، وَقَدْ أَفْتَى بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ بِالْمَنْعِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى قَوْلِهِمْ بِإِبَاحَةِ الْعَزْلِ مُطْلَقًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: وَأَصَبْنَا كَرَائِمَ الْعَرَبِ وَطَالَتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ وَأَرَدْنَا أَنْ نَسْتَمْتِعَ وَأَحْبَبْنَا الْفِدَاءَ لِمَنْ أَجَازَ اسْتِرْقَاقَ الْعَرَبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَابِ مَنْ مَلَكَ مِنَ الْعَرَبِ رَقِيقًا فِي كِتَابِ الْعِتْقِ، وَلِمَنْ أَجَازَ وَطْءَ الْمُشْرِكَاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ كَانُوا أَهْلَ أَوْثَانٍ، وَقَدِ انْفَصَلَ عَنْهُ مَنْ مَنَعَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ دَانَ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَبِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ نُسِخَ، وَفِيهِ نَظَرٌ إِذِ النَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَبِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْمَسْبِيَّاتُ أَسْلَمْنَ قَبْلَ الْوَطْءِ وَهَذَا لَا يَتِمُّ مَعَ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: وَأَحْبَبْنَا الْفِدَاءَ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَةَ لَا تُعَادُ لِلْمُشْرِكِ، نَعَمْ يُمْكِنُ حَمْلَ الْفِدَاءِ عَلَى مَعْنًى أَخَصَّ، وَهُوَ أَنَّهُنَّ يَفْدِينَ أَنْفُسَهُنَّ فَيُعْتَقْنَ مِنَ الرِّقِّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِعَادَتُهُنَّ لِلْمُشْرِكِينَ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى إِرَادَةِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْفِدَاءَ الْمُتَخَوَّفَ مِنْ فَوْتِهِ هُوَ الثَّمَنُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْحَمْلَ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا أَصَبْنَا سَبْيًا وَنُحِبُّ الْأَثْمَانَ فَكَيْفَ تَرَى فِي الْعَزْلِ؟ وَهَذَا أَقْوَى مِنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
97 - بَاب الْقُرْعَةِ بَيْنَ النِّسَاءِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا
5211 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أراد سفرا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَطَارَتْ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ سَارَ مَعَ عَائِشَةَ يَتَحَدَّثُ، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: أَلَا تَرْكَبِينَ اللَّيْلَةَ بَعِيرِي وَأَرْكَبُ بَعِيرَكِ تَنْظُرِينَ وَأَنْظُرُ؟ فَقَالَتْ: بَلَى، فَرَكِبَتْ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى جَمَلِ عَائِشَةَ وَعَلَيْهِ حَفْصَةُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلُوا وَافْتَقَدَتْهُ عَائِشَةُ، فَلَمَّا نَزَلُوا جَعَلَتْ رِجْلَيْهَا بَيْنَ الْإِذْخِرِ، وَتَقُولُ: يَا رَبِّ سَلِّطْ عَلَيَّ عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْقُرْعَةِ بَيْنَ النِّسَاءِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا) تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ فِي التَّفْسِيرِ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيْضًا، وَسَاقَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ قِصَّةً أُخْرَى وَلَعَلَّهَا كَانَتْ أَيْضًا فِي تِلْكَ السَّفْرَةِ، وَلَكِنْ بَيَّنْتُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْإِفْكِ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ إِلَّا عَائِشَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ وَالشَّهَادَاتِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ (ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ) هُوَ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يَرْوِي عَنْ عَائِشَةَ تَارَةً بِالْوَاسِطَةِ وَتَارَةً بِغَيْرِهَا.
قَوْلُهُ (إِذَا أَرَادَ سَفَرًا) مَفْهُومُهُ اخْتِصَاصُ الْقُرْعَةِ بِحَالَةِ السَّفَرِ، وَلَيْسَ عَلَى
عُمُومِهِ بَلْ لِتَعَيُّنِ الْقُرْعَةِ مَنْ يُسَافِرُ بِهَا، وَتَجْرِي الْقُرْعَةُ أَيْضًا فِيمَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ فَلَا يَبْدَأُ بِأَيِّهِنَّ شَاءَ بَلْ يَقْرَعُ بَيْنَهُنَّ فَيَبْدَأُ بِالَّتِي تَخْرُجُ لَهَا الْقُرْعَةُ، إِلَّا أَنْ يَرْضَيْنَ بِشَيْءٍ فَيَجُوزُ بِلَا قُرْعَةٍ.
قَوْلُهُ (أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ) زَادَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ: فَكَانَ إِذَا خَرَجَ سَهْمُ غَيْرِي عَرَفَ فِيهِ الْكَرَاهِيَةَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقُرْعَةِ فِي الْقِسْمَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الشَّهَادَاتِ، وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْقُرْعَةِ، قَالَ عِيَاضٌ: هُوَ مَشْهُورٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَطَرِ وَالْقِمَارِ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ إِجَازَتُهَا اهـ، وَقَدْ قَالُوا بِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْبَابِ. وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ بَعْضَ النِّسْوَةِ قَدْ تَكُونُ أَنْفَعُ فِي السَّفَرِ مِنْ غَيْرِهَا فَلَوْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِلَّتِي لَا نَفْعَ بِهَا فِي السَّفَرِ لَأَضَرَّ بِحَالِ الرَّجُلِ، وَكَذَا بِالْعَكْسِ قَدْ يَكُونُ بَعْضُ النِّسَاءِ أَقْوَمَ بِبَيْتِ الرَّجُلِ مِنَ الْأُخْرَى، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النِّسَاءِ، وَتَخْتَصُّ مَشْرُوعِيَّةُ الْقُرْعَةِ بِمَا إِذَا اتَّفَقَتْ أَحْوَالُهُنَّ لِئَلَّا تَخْرُجَ وَاحِدَةٌ مَعَهُ فَيَكُونُ تَرْجِيحًا بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ اهـ. وَفِيهِ مُرَاعَاةٌ لِلْمَذْهَبِ مَعَ الْأَمْنِ مِنْ رَدِّ الْحَدِيثِ أَصْلًا لِحَمْلِهِ عَلَى التَّخْصِيصِ، فَكَأَنَّهُ خَصَّصَ الْعُمُومَ بِالْمَعْنَى.
قَوْلُهُ (فَطَارَتِ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ) أَيْ فِي سَفْرَةٍ مِنَ السَّفْرَاتِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهَا طَارَتْ أَيْ حَصَلَتْ، وَطَيْرُ كُلِّ إِنْسَانٍ نَصِيبُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ قَوْلُ أُمِّ الْعَلَاءِ لَمَّا اقْتَسَمَ الْأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ قَالَتْ: وَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أَيْ حَصَلَ فِي نَصِيبِنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ.
قَوْلُهُ (وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ سَارَ مَعَ عَائِشَةَ يَتَحَدَّثُ) اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُهَلَّبُ عَلَى أَنَّ الْقَسْمَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِأَنَّ عِمَادَ الْقَسْمِ اللَّيْلُ فِي الْحَضَرِ، وَأَمَّا فِي السَّفَرِ فَعِمَادُ الْقَسْمِ فِيهِ النُّزُولُ، وَأَمَّا حَالَةُ السَّيْرِ فَلَيْسَتْ مِنْهُ لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا فَيُقَبِّلُ وَيَلْمِسُ مَا دُونَ الْوِقَاعِ، فَإِذَا جَاءَ إِلَى الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا بَاتَ عِنْدَهَا.
قَوْلُهُ (فَقَالَتْ حَفْصَةُ) أَيْ لِعَائِشَةَ.
قَوْلُهُ (أَلَا تَرْكَبِينَ اللَّيْلَةَ بَعِيرِي إِلَخْ) كَأَنَّ عَائِشَةَ أَجَابَتْ إِلَى ذَلِكَ لِمَا شَوَّقَتْهَا إِلَيْهِ مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا لَمْ تَكُنْ هِيَ تَنْظُرُ، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا حَالَ السَّيْرِ مُتَقَارِبَتَيْنِ بَلْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ جِهَةٍ كَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ مِنْ السَّيْرِ قِطَارَيْنِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَتَا مَعًا لَمْ تَخْتَصَّ إِحْدَاهُمَا بِنَظَرِ مَا لَمْ تَنْظُرْهُ الْأُخْرَى، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُرِيدَ بِالنَّظَرِ وَطْأَةَ الْبَعِيرِ وَجَوْدَةَ سَيْرِهِ.
قَوْلُهُ (فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى جَمَلِ عَائِشَةَ وَعَلَيْهِ) فِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا الْكِرْمَانِيُّ وَعَلَيْهَا وَكَأَنَّهُ عَلَى إِرَادَةِ النَّاقَةِ.
قَوْلُهُ (فَسَلَّمَ عَلَيْهَا) لَمْ يَذْكُرْ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ تَحَدَّثَ مَعَهَا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُلْهِمَ مَا وَقَعَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَحَدَّثَ وَلَمْ يُنْقَلْ.
قَوْلُهُ (وَافْتَقَدَتْهُ عَائِشَةُ) أَيْ حَالَةَ الْمُسَايَرَةِ، لِأَنَّ قَطْعَ الْمَأْلُوفِ صَعْبٌ.
قَوْلُهُ (فَلَمَّا نَزَلُوا جَعَلَتْ رِجْلَيْهَا بَيْنَ الْإِذْخَرِ) كَأَنَّهَا لَمَّا عَرَفَتْ أَنَّهَا الْجَانِيَةُ فِيمَا أَجَابَتْ إِلَيْهِ حَفْصَةَ عَاتَبَتْ نَفْسَهَا عَلَى تِلْكَ الْجِنَايَةِ. وَالْإِذْخَرُ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ تُوجَدُ فِيهِ الْهَوَامُّ غَالِبًا فِي الْبَرِّيَّةِ.
قَوْلُهُ (وَتَقُولُ رَبِّ سَلِّطْ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي يَا رَبِّ سَلِّطْ بِإِثْبَاتِ حَرْفِ النِّدَاءِ وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ (تَلْدَغُنِي) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ.
قَوْلُهُ (وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَلَامُ حَفْصَةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ عَائِشَةَ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِي هَذَا الظَّاهِرُ بَلْ هُوَ كَلَامُ عَائِشَةَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فِي جَمِيعِ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ طُرُقِهِ إِلَّا مَا سَأَذْكُرُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ تَلْدَغُنِي: رَسُولُكِ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا وَرَسُولُكِ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ رَسُولُكِ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ، وَإِنَّمَا لَمْ تَتَعَرَّضْ لِحَفْصَةَ لِأَنَّهَا هيَ الَّتِي أَجَابَتْهَا طَائِعَةً فَعَادَتْ عَلَى نَفْسِهَا بِاللَّوْمِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ
الْبُخَارِيِّ فِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ تَلْدَغُنِي: وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا وَعَلَى هَذَا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ فِي قَوْلِهَا أَنْ أَقُولَ أَيْ أَحْكِيَ لَهُ الْوَاقِعَةَ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَعْذُرُنِي فِي ذَلِكَ، وَظَاهِرُ رِوَايَةِ غَيْرِهِ تُفْهِمُ أَنَّ مُرَادَهَا بِالْقَوْلِ أَنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُولَ فِي حَقِّهِ شَيْئًا كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ الدَّاوُدِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْمُسَايَرَةُ فِي لَيْلَةِ عَائِشَةَ وَلِذَلِكَ غَلَبَتْ عَلَيْهَا الْغَيْرَةُ فَدَعَتْ عَلَى نَفْسِهَا بِالْمَوْتِ، وَيُعَقَّبُ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يُوجِبُ الْقَسْمَ فِي الْمُسَايَرَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذْ لَوْ كَانَ لَمَا كَانَ يَخُصُّ عَائِشَةَ بِالْمُسَايَرَةِ دُونَ حَفْصَةَ حَتَّى تَحْتَاجَ حَفْصَةُ تَتَحَيَّلُ عَلَى عَائِشَةَ، وَلَا يُتَّجَهُ الْقَسْمُ فِي حَالَةِ السَّيْرِ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْخَلْوَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِيهِ بِأَنْ يَرْكَبَ مَعَهَا فِي الْهَوْدَجِ وَعِنْدَ النُّزُولِ يَجْتَمِعُ الْكُلُّ فِي الْخَيْمَةِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ عِمَادُ الْقَسْمِ السَّيْرَ، أَمَّا الْمُسَايَرَةُ فَلَا، وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْقَسْمَ كَانَ وَاجِبًا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مُعْظَمُ الْأَخْبَارِ، وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ بِالْقُرْعَةِ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مُدَّةِ السَّفَرِ لَا يُحَاسِبُ بِهَا الْمُقِيمَةَ بَلْ يَبْتَدِئُ إِذَا رَجَعَ بِالْقَسْمِ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، فَلَوْ سَافَرَ بِمَنْ شَاءَ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ فَقَدَّمَ بَعْضَهُنَّ فِي الْقَسْمِ لَلَزِمَ مِنْهُ إِذَا رَجَعَ أَنْ يُوَفِّيَ مَنْ تَخَلَّفَ حَقُّهَا، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ، فَظَهَرَ أَنَّ لِلْقُرْعَةِ فَائِدَةً وَهِيَ أَنْ لَا يُؤْثِرَ بَعْضَهُنَّ بِالتَّشَهِّي لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ تَرْكِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: لَوْ كَانَ الْمُسَافِرُ يَقْسِمُ لِمَنْ خَلَفَ لَمَا كَانَ لِلْقُرْعَةِ مَعْنَى بَلْ مَعْنَاهَا أَنْ تَصِيرَ هَذِهِ الْأَيَّامُ لِمَنْ خَرَجَ سَهْمُهَا خَالِصَةً انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحِلَّ الْإِطْلَاقِ فِي تَرْكِ الْقَضَاءِ فِي السَّفَرِ مَا دَامَ اسْمُ السَّفَرِ مَوْجُودًا، فَلَوْ سَافَرَ إِلَى بَلْدَةٍ فَأَقَامَ بِهَا زَمَانًا طَوِيلًا ثُمَّ سَافَرَ رَاجِعًا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ وَفِي مُدَّةِ الرُّجُوعِ خِلَافٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَعْنَى فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ أَنَّ الَّتِي سَافَرَتْ وَفَازَتْ بِالصُّحْبَةِ لَحِقَهَا مِنْ تَعَبِ السَّفَرِ وَمَشَقَّتِهِ مَا يُقَابِلُ ذَلِكَ وَالْمُقِيمَةُ عَكْسُهَا فِي الْأَمْرَيْنِ مَعًا.
98 - بَاب الْمَرْأَةِ تَهَبُ يَوْمَهَا مِنْ زَوْجِهَا لِضَرَّتِهَا وَكَيْفَ يَقْسِمُ ذَلِكَ
5212 -
حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ بِيَوْمِهَا وَيَوْمِ سَوْدَةَ. قَوْلُهُ (بَابُ الْمَرْأَةِ تَهَبُ يَوْمَهَا مِنْ زَوْجِهَا لِضَرَّتِهَا) مِنْ يَتَعَلَّقُ بِيَوْمِهَا لَا بـ يَهَبُ، أَيْ يَوْمُهَا الَّذِي يَخْتَصُّ بِهَا.
قَوْلُهُ (وَكَيْفَ يَقْسِمُ ذَلِكَ) قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِذَا وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِضَرَّتِهَا قَسَمَ الزَّوْجُ لَهَا يَوْمَ ضَرَّتِهَا، فَإِنْ كَانَ تَالِيًا لِيَوْمِهَا فَذَاكَ وَإِلَّا لَمْ يُقَدِّمْهُ عَنْ رُتْبَتِهِ فِي الْقَسْمِ إِلَّا بِرِضَا مَنْ بَقِيَ، وَقَالُوا: إِذَا وَهَبَتِ الْمَرْأَةُ يَوْمَهَا لِضَرَّتِهَا فَإِنْ قَبِلَ الزَّوْجُ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْهُوبَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ لَمْ يُكْرَهْ عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِزَوْجِهَا وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِلضَّرَّةِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَخُصَّ وَاحِدَةً إِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنَ اثْنَتَيْنِ، أَوْ يُوَزِّعَهُ بَيْنَ مَنْ بَقِيَ؟ وَلِلْوَاهِبَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ مَتَى أَحَبَّتْ لَكِنْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ لَا فِيمَا مَضَى، وَأَطْلَقَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِسَوْدَةَ الرُّجُوعُ فِي يَوْمِهَا الَّذِي وَهَبَتْهُ لِعَائِشَةَ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) هُوَ أَبُو غَسَّانَ النَّهْدِيُّ، وَزُهَيْرٌ هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ.
قَوْلُهُ (أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ) هِيَ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ بِمَكَّةَ بَعْدَ مَوْتِ خَدِيجَةَ وَدَخَلَ عَلَيْهَا بِهَا وَهَاجَرَتْ مَعَهُ، وَوَقَعَ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ، عَنْ هِشَامٍ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْبَابِ: قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا بَعْدِي، وَمَعْنَاهُ عَقَدَ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ عَقَدَ عَلَى عَائِشَةَ، وَأَمَّا دُخُولُهُ عَلَيْهَا فَكَانَ قَبْلَ دُخُولِهِ عَلَى عَائِشَةَ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
قَوْلُهُ (وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ) تَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بِلَفْظِ: يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا، وَزَادَ فِي آخِرِهِ:
تَبْتَغِي بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُقْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ هِشَامٍ: لَمَّا أَنْ كَبِرَتْ سَوْدَةُ وَهَبَتْ، وَلَهُ نَحْوُهُ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ هِشَامٍ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيثَ وَزَادَ فِيهِ بَيَانُ سَبَبِهِ أَوْضَحُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، فَرَوَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَلَقَدْ قَالَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ حِينَ أَسَنَّتْ وَخَافَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهَا، فَفِيهَا وَأَشْبَاهِهَا نَزَلَتْ:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} الْآيَةَ، وَتَابَعَهُ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ فِي وَصْلِهِ، وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ مُرْسَلًا لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْصُولًا نَحْوُهُ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ بِمَعْنَى ذَلِكَ، فَتَوَارَدَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّهَا خَشِيَتِ الطَّلَاقَ فَوَهَبَتْ، وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ، ابْنِ أَبِي بَزَّةَ مُرْسَلًا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَلَّقَهَا فَقَعَدَتْ لَهُ عَلَى طَرِيقِهِ فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا لِي فِي الرِّجَالِ حَاجَةٌ، وَلَكِنْ أُحِبُّ أَنْ
أُبْعَثَ مَعَ نِسَائِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَنْشُدكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ هَلْ طَلَّقْتَنِي لِمَوْجِدَةٍ وَجَدْتَهَا عَلَيَّ؟ قَالَ: لَا. قَالَتْ: فَأَنْشُدُكَ لَمَا رَاجَعْتَنِي، فَرَاجَعَهَا. قَالَتْ: فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ يَوْمِي وَلَيْلَتِي لِعَائِشَةَ حِبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُه (وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ بِيَوْمِهَا وَيَوْمِ سَوْدَةَ) فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَكَانَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ، وَقَدْ بَيَّنْتُ كَلَامَهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا الْقَسْمِ أَوَّلَ الْبَابِ.
99 - بَاب الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ: وَلَنْ {تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَاسِعًا حَكِيمًا}
قَوْلُهُ (بَابُ الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} أَشَارَ بِذِكْرِ الْآيَةِ إِلَى أَنَّ الْمُنْتَهَى فِيهَا الْعَدْلُ بَيْنَهُنَّ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَبِالْحَدِيثِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدْلِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُنَّ بِمَا يَلِيقُ بِكُلٍّ مِنْهُنَّ، فَإِذَا وَفَّى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كِسْوَتُهَا وَنَفَقَتُهَا وَالْإِيوَاءُ إِلَيْهَا لَمْ يَضُرَّهُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَيْلِ قَلْبٍ أَوْ تَبَرُّعٍ بِتُحْفَةٍ، وَقَدْ رَوَى الْأَرْبَعَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: يَعْنِي بِهِ الْحُبَّ وَالْمَوَدَّةَ، كَذَلِكَ فَسَّرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ مُرْسَلًا، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلَهُ:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا} الْآيَةَ، قَالَ: فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ، وَعَنْ عَبْدَةَ بْنِ عَمْرٍو السَّلْمَانِيِّ مِثْلُهُ.
100 - بَاب إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ
5213 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ - قَالَ: السُّنَّةُ إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا.
[الحديث 5213 - طرفه في: 5212]
قَوْلُهُ (بِشْرٌ) هُوَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ، وَخَالِدٌ هُوَ ابْنُ مِهْرَانَ الْحَذَّاءُ.
قَوْلُهُ (وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ قَالَ السُّنَّةُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنْ خَالِدٍ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: قَالَ خَالِدٌ: لَوْ شِئْتَ أَنْ أَقُولَ رَفَعَهُ لَصَدَقْتَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ السُّنَّةُ فَبَيَّنَ أَنَّهُ قَوْلُ خَالِدٍ، وَهُوَ ابْنُ مِهْرَانَ الْحَذَّاءُ رَاوِيه عَنْ أَبِي قِلَابَةَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِي تَعْيِينِ قَائِلِ ذَلِكَ هَلْ هُوَ خَالِدٌ أَوْ شَيْخُهُ أَبُو قِلَابَةَ، وَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ.
101 - بَاب إِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ
5214 -
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، وَخَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَسَمَ، قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: وَلَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، وَخَالِدٍ، قَالَ خَالِدٌ: وَلَوْ شِئْتُ لقُلْتُ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ (بَابُ إِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ) أَيْ أَوْ عَكَسَ كَيْفَ يَصْنَعُ؟
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا يُوسُفُ بنُ رَاشِدٍ) هُوَ يُوسُفُ بْنُ مُوسَى بْنِ رَاشِدٍ نُسِبَ لِجَدِّهِ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سُفْيَانَ) فِي رِوَايَةِ نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمْزَةَ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَيُّوبُ) هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَخَالِدٌ هُوَ الْحَذَّاءُ.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي قِلَابَةَ) أَيْ أَنَّهُمَا جَمِيعًا رَوَيَاهُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، لَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ سَاقَهُ عَلَى لَفْظِ خَالِدٍ.
قَوْلُهُ (قَالَ مِنَ السُّنَّةِ) أَيْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، هَذَا الَّذِي يَتَبَادَرُ لِلْفَهْمِ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَقَدْ مَضَى فِي الْحَجِّ قَوْلُ سَلَامِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لَمَّا سَأَلَهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، لِلْحَجَّاجِ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ هَلْ تُرِيدُ سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ: وَهَلْ يَعْنُونَ بِذَلِكَ إِلَّا سُنَّتَهُ.
قَوْلُهُ (إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ) أَيْ يَكُونُ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ فَيَتَزَوَّجُ مَعَهَا بِكْرًا كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ عَنْهُ.
قَوْلُهُ (أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ، ثُمَّ قَالَ: أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَسَمَ) كَذَا فِي الْبُخَارِيِّ بِالْوَاوِ فِي الْأُولَى، وَبِلَفْظِ ثُمَّ فِي الثَّانِيَةِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمْزَةَ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ بِلَفْظِ ثُمَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
قَوْلُهُ (قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: وَلَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ أَنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِرَفْعِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكَانَ صَادِقًا وَيَكُونُ رُوِيَ بِالْمَعْنَى وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَهُ، لَكِنَّهُ رَأَى أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى اللَّفْظِ أَوْلَى. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قَوْلُ أَبِي قِلَابَةَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ظَنَّ أَنَّهُ سَمِعَهُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا لَفْظًا فَتَحَرَّزَ عَنْهُ تَوَرُّعًا، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ رَأَى أَنَّ قَوْلَ أَنَسٍ مِنَ السُّنَّةِ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، فَلَوْ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِهِ لَصَحَّ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنَ السُّنَّةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِطَرِيقٍ اجْتِهَادِيٍّ مُحْتَمَلٍ، وَقَوْلُهُ إِنَّهُ رَفَعَهُ نَصٌّ فِي رَفْعِهِ وَلَيْسَ لِلرَّاوِي أَنْ يَنْقُلَ مَا هُوَ ظَاهِرٌ مُحْتَمَلٌ إِلَى مَا هُوَ نَصٌّ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ، انْتَهَى، وَهُوَ بَحْثٌ مُتَّجِهٌ، وَلَمْ يُصِبْ مَنْ رَدَّهُ بِأَنَّ الْأَكْثَرَ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ: مِنَ السُّنَّةِ كَذَا فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ لِاتِّجَاهِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا هُوَ مَرْفُوعٌ وَمَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، لَكِنْ بَابُ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى مُتَّسِعٌ، وَقَدْ وَافَقَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ فِي نِسْبَةِ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى أَبِي قِلَابَةَ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَنَسَبَهُ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، وَهُشَيمٌ
إِلَى خَالِدٍ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَالَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، وَخَالِدٍ) يَعْنِي بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ.
قَوْلُهُ (قَالَ خَالِدٌ وَلَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ سُفْيَانَ، الثَّوْرِيِّ اخْتَلَفَتْ فِي نِسْبَةِ هَذَا الْقَوْلِ هَلْ هُوَ قَوْلُ أَبِي قِلَابَةَ أَوْ قَوْلُ خَالِدٍ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي رِوَايَةِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ دُونَ رِوَايَةِ أَيُّوبَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ خَالِدٍ وَذَكَرَ الزِّيَادَةَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ وَصَلَ طَرِيقَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الْمَذْكُورَةَ مُسْلِمٌ فَقَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَلَفْظُهُ: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ الْبِكْرِ سَبْعًا، قَالَ خَالِدٌ إِلَخْ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ، وَالْقَاسِمُ ابْنُ يَزِيدَ الْجَرْمِيُّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْهُمَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ الْعَدْنِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَشَذَّ أَبُو قِلَابَةَ الرِّقَاشِيُّ فَرَوَاهُ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خَالِدٍ، وَأَيُّوبَ جَمِيعًا، وَقَالَ فِيهِ: قَالَ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ، وَقَالَ: حَدَّثَنَاهُ الصَّغَانِيُّ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَقَالَ: هُوَ غَرِيبٌ لَا أَعْلَمُ مَنْ قَالَهُ غَيْرَ أَبِي قِلَابَةَ انْتَهَى.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ عَنْهُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَرَّحَ بِرَفْعِهِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْتُهُ أَنَّ السِّيَاقَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ لِخَالِدٍ، وَرِوَايَةُ أَيُّوبَ هَذِهِ إِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَبُو قِلَابَةَ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ أَيُّوبَ جَزَمَ بِرَفْعِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا عَنْهُ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، وَصَرَّحَ بِرَفْعِهِ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَيُّوبَ مِثْلَهُ، فَبَيَّنْتُ أَنَّ رِوَايَةَ خَالِدٍ هِيَ الَّتِي قَالَ فِيهَا: مِنَ السُّنَّةِ، وَأَنَّ رِوَايَةَ أَيُّوبَ قَالَ فِيهَا: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَدْلَ يَخْتَصُّ بِمَنْ لَهُ زَوْجَةٌ قَبْلَ الْجَدِيدَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمَرْأَةِ بِسَبَبِ الزِّفَافِ وَسَوَاءٌ كَانَ عِنْدَهُ زَوْجَةٌ أَمْ لَا، وَحَكَى النَّوَوِيُّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ غَيْرُهَا وَإِلَّا فَيَجِبُ.
وَهَذَا يُوَافِقُ كَلَامَ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ، وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ أَنْ لَا فَرْقَ، وَإِطْلَاقُ الشَّافِعِيِّ يُعَضِّدُهُ، وَلَكِنْ يَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَمَسَّكَ لِلْآخَرِ بِسِيَاقِ بِشْرٍ عَنْ خَالِدٍ الَّذِي فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا الْحَدِيثَ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِمَا إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِهَا، لَكِنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ، بَلْ ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ خَالِدٍ التَّقْيِيدُ، فَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنْ خَالِدٍ: إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ الْحَدِيثَ.
وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: ثُمَّ قَسَمَ؛ لِأَنَّ الْقَسْمَ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ عِنْدَهُ زَوْجَةٌ أُخْرَى، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى الْكُوفِيِّينَ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ الْبِكْرَ وَالثَّيِّبَ سَوَاءٌ فِي الثَّلَاثِ، وَعَلَى الْأَوْزَاعِيِّ فِي قَوْلُهُ لِلْبِكْرِ ثَلَاثٌ وَلِلثَّيِّبِ يَوْمَانِ، وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عَنْ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ جِدًّا وَخَصَّ مِنْ عُمُومِ حَدِيثِ الْبَابِ مَا لَوْ أَرَادَتِ الثَّيِّبُ أَنْ يُكْمِلَ لَهَا السَّبْعَ فَإِنَّهُ إِذَا أَجَابَهَا سَقَطَ حَقَّهَا مِنَ الثَّلَاثِ وَقَضَى السَّبْعَ لِغَيْرِهَا، لِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَزَوَّجَهَا أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ، إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: إِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ ثُمَّ دُرْتُ، قَالَتْ: ثَلِّثْ، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي الْمُهَذَّبِ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ يَقْضِي السَّبْعَ أَوِ الْأَرْبَعَ الْمَزِيدَةَ، وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُ: إِنِ اخْتَارَ السَّبْعَ قَضَاهَا كُلَّهَا، وَإِنْ أَقَامَهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا قَضَى الْأَرْبَعَ الْمَزِيدَةَ.
تَنْبِيهٌ:
يُكْرَهُ أَنْ يَتَأَخَّرَ فِي السَّبْعِ أَوِ الثَّلَاثِ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَسَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي كَانَ يَفْعَلُهَا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: هَذَا فِي النَّهَارِ، وَأَمَّا فِي اللَّيْلِ فَلَا؛ لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ لَا يُتْرَكُ
لَهُ الْوَاجِبُ، وَقَدْ قَالَ الْأَصْحَابُ: يُسَوِّي بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْجَمَاعَةِ وَفِي سَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ، فَيَخْرُجُ فِي لَيَالِي الْكُلِّ أَوْ لَا يَخْرُجُ أَصْلًا، فَإِنْ خَصَّصَ حَرُمَ عَلَيْهِ، وَعَدُّوا هَذَا مِنَ الْأَعْذَارِ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أَفْرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فَجَعَلَ مَقَامَهُ عِنْدَهَا عُذْرًا فِي إِسْقَاطِ الْجُمُعَةِ، وَبَالَغَ فِي التَّشْنِيعِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قِيَاسُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ الْمَقَامِ عِنْدَهَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، وَعَنْهُ يُسْتَحَبُّ وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، فَعَلَى الْأَصَحِّ يَتَعَارَضُ عِنْدَهُ الْوَاجِبَانِ، فَقَدَّمَ حَقَّ الْآدَمِيِّ، هَذَا تَوْجِيهُهُ، فَلَيْسَ بِشَنِيعٍ وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا، وَتَجِبُ الْمُوَالَاةُ فِي السَّبْعِ وَفِي الثَّلَاثِ، فَلَوْ فَرَّقَ لَمْ يُحْسَبْ عَلَى الرَّاجِحِ لِأَنَّ الْحِشْمَةَ لَا تَزُولُ بِهِ، ثُمَّ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، وَقِيلَ: هِيَ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرَّةِ وَيُجْبَرُ الْكَسْرُ.
102 - بَاب مَنْ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِي غُسْلٍ وَاحِدٍ
5215 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ.
قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِي غُسْلٍ وَاحِدٍ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَنَدًا وَمَتْنًا فِي كِتَابِ الْغُسْلِ مَعَ شَرْحِهِ وَفَوَائِدِهِ وَالِاخْتِلَافِ عَلَى قَتَادَةَ فِي كَوْنِهِنَّ تِسْعًا أَوْ إِحْدَى عَشَرَةَ وَبَيَانِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ.
وَتَعَلَّقَ بِهِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْقَسْمَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ نَقَلَ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ سَاعَةٌ مِنَ النَّهَارِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا الْقَسْمُ وَهِيَ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَقُلْتُ: إِنِّي لَمْ أَجِدْ لِذَلِكَ دَلِيلًا، ثُمَّ وَجَدْتُ حَدِيثَ عَائِشَةَ الَّذِي فِي الْبَابِ بَعْدَ هَذَا بِلَفْظِ: كَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ الْحَدِيثَ، وَلَيْسَ فِيهِ بَقِيَّةُ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ تِلْكَ السَّاعَةَ هِيَ الَّتِي لَمْ يَكُنِ الْقَسْمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِيهَا وَأَنَّهُ تَرَكَ إِتْيَانَ نِسَائِهِ كُلِّهِنَّ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى تِلْكَ السَّاعَةِ
(1)
، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَهُ تَوْجِيهَاتٌ غَيْرُ هَذِهِ هُنَاكَ، وَذَكَرَ عِيَاضٌ فِي الشِّفَا أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي طَوَافِهِ عَلَيْهِنَّ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ كَانَ لِتَحْصِينِهِنَّ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ عَدَمَ تَشَوُّفِهِنَّ لِلْأَزْوَاجِ، إِذِ الْإِحْصَانُ لَهُ مَعَانٍ مِنْهَا الْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعِفَّةُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِإِرَادَةِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، كَمَا تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي بَابِ كَثْرَةِ النِّسَاءِ. وَفِي التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ نَظَرٌ لِأَنَّهُنَّ حَرُمَ عَلَيْهِنَّ التَّزْوِيجُ بَعْدَهُ وَعَاشَ بَعْضُهُنَّ بَعْدَهُ خَمْسِينَ سَنَةً فَمَا دُونَهَا وَزَادَتْ آخِرُهُنَّ مَوْتًا عَلَى ذَلِكَ.
103 - بَاب دُخُولِ الرَّجُلِ عَلَى نِسَائِهِ فِي الْيَوْمِ
5216 -
حَدَّثَنَا فَرْوَةُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا انْصَرَفَ مِنْ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ ما كَانَ يَحْتَبِسُ.
(1)
قال مصحح طبعة بولاق: لعل فيه سقطا وتحريفا، ولعل الأصل: وإن ترك نسائه كلهن في ساعة واحدة محمول على تلك الساعة أو نحو ذلك.
قَوْلُهُ (بَابُ دُخُولِ الرَّجُلِ عَلَى نِسَائِهِ فِي الْيَوْمِ)
ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا فِي بَابِ {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ.
وَقَوْلُهُ فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ زَادَ فِيهِ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: بِغَيْرِ وِقَاعٍ وَقَدْ بَيَّنْتُهُ فِي بَابِ الْقُرْعَةِ بَيْنَ النِّسَاءِ وَهُوَ مِمَّا يُؤَكِّدُ الرَّدَّ عَلَى ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِيمَا ادَّعَاهُ.
104 - بَاب إِذَا اسْتَأْذَنَ الرَّجُلُ نِسَاءَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ بَعْضِهِنَّ فَأَذِنَّ لَهُ
5217 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ:، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَاتَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ يَدُورُ عَلَيَّ فِيهِ فِي بَيْتِي، فَقَبَضَهُ اللَّهُ وَإِنَّ رَأْسَهُ لَبَيْنَ نَحْرِي وَسَحْرِي، وَخَالَطَ رِيقُهُ رِيقِي.
قَوْلُهُ (بَابُ إِذَا اسْتَأْذَنَ الرَّجُلُ نِسَاءَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ بَعْضِهِنَّ فَأَذِنَّ لَهُ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ فِي آخِرِ الْمَغَازِي، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا أَنَّ الْقَسْمَ لَهُنَّ يَسْقُطُ بِإِذْنِهِنَّ فِي ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُنَّ وَهَبْنَ أَيَّامَهُنَّ تِلْكَ لِلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ.
105 - بَاب حُبِّ الرَّجُلِ بَعْضَ نِسَائِهِ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ
5218 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنهم دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَ: يَا بُنَيَّةِ، لَا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهَا - يُرِيدُ عَائِشَةَ - فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَبَسَّمَ.
قَوْلُهُ (بَابُ حُبِّ الرَّجُلِ بَعْضَ نِسَائِهِ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ) ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَوْعِظَةِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ.
106 - بَاب الْمُتَشَبِّعِ بمَا لَمْ يَنَلْ، وَمَا يُنْهَى مِنْ افْتِخَارِ الضَّرَّةِ
5219 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. ح. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ، حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ، عَنْ أَسْمَاءَ: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي ضَرَّةً، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إِنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ.
قَوْلُهُ (بَابُ الْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَمْ يَنَلْ، وَمَا يُنْهَى مِنِ افْتِخَارِ الضَّرَّةِ) أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ الْخَبَرِ قَالَ: قَوْلُهُ: الْمُتَشَبِّعُ أَيِ الْمُتَزَيِّنُ بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُ يَتَكَثَّرُ بِذَلِكَ وَيَتَزَيَّنُ بِالْبَاطِلِ؛ كَالْمَرْأَةِ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ وَلَهَا ضَرَّةٌ
فَتَدَّعِي مِنَ الْحَظْوَةِ عِنْدَ زَوْجِهَا أَكْثَرَ مِمَّا عِنْدَهُ تُرِيدُ بِذَلِكَ غَيْظَ ضَرَّتِهَا، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الرِّجَالِ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَلْبِسُ الثِّيَابَ الْمُشْبِهَةَ لِثِيَابِ الزُّهَّادِ يُوهِمُ أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَيَظْهَرُ مِنَ التَّخَشُّعِ وَالتَّقَشُّفِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي قَلْبِهِ مِنْهُ، قَالَ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالثِّيَابِ الْأَنْفَسَ، كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ نَقِيُّ الثَّوْبِ إِذَا كَانَ بَرِيئًا مِنَ الدَّنَسِ، وَفُلَانٌ دَنِسُ الثَّوْبِ إِذَا كَانَ مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي دِينِهِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الثَّوْبُ مَثَلٌ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ صَاحِبُ زُورٍ وَكَذِبٍ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ وُصِفَ بِالْبَرَاءَةِ مِنَ الْأَدْنَاسِ: طَاهِرُ الثَّوْبِ، وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْسُ الرَّجُلِ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الضَّرِيرُ: الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ شَاهِدَ الزُّورِ قَدْ يَسْتَعِيرُ ثَوْبَيْنِ يَتَجَمَّلُ بِهِمَا لِيُوهِمَ أَنَّهُ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ اهـ. وَهَذَا نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ قَالَ: كَانَ يَكُونُ فِي الْحَيِّ الرَّجُلُ لَهُ هَيْئَةٌ وَشَارَةٌ، فَإِذَا احْتِيجَ إِلَى شَهَادَةِ زُورٍ لَبِسَ ثَوْبَيْهِ وَأَقْبَلَ فَشَهِدَ فَقُبِلَ لِنُبْلِ هَيْئَتِهِ وَحُسْنِ ثَوْبَيْهِ، فَيُقَالُ أَمْضَاهَا بِثَوْبَيْهِ، يَعْنِي: الشَّهَادَةَ، فَأُضِيفَ الزُّورُ إِلَيْهِمَا فَقِيلَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ.
وَأَمَّا حُكْمُ التَّثْنِيَةِ فِي قَوْلِهِ: ثَوْبَيْ زُورٍ، فَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ كَذِبَ الْمُتَحَلِّي مَثْنًى؛ لِأَنَّهُ كَذَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا لَمْ يَأْخُذْ وَعَلَى غَيْرِهِ بِمَا لَمْ يُعْطِ، وَكَذَلِكَ شَاهِدُ الزُّورِ يَظْلِمُ نَفْسَهُ وَيَظْلِمُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: فِي التَّثْنِيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَالَّذِي قَالَ الزُّورَ مَرَّتَيْنِ مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَجْعَلُ فِي الْكُمِّ كُمًّا آخَرَ يُوهِمُ أَنَّ الثَّوْبَ ثَوْبَانِ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ. قُلْتُ: وَنَحْوُ ذَلِكَ مَا فِي زَمَانِنَا هَذَا فِيمَا يُعْمَلُ فِي الْأَطْوَاقِ وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَلْيَقُ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: هُوَ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبَيْ وَدِيعَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ يَظُنُّ النَّاسُ أَنَّهُمَا لَهُ وَلِبَاسُهُمَا لَا يَدُومُ وَيَفْتَضِحُ بِكَذِبِهِ. وَأَرَادَ بِذَلِكَ تَنْفِيرَ الْمَرْأَةِ عَمَّا ذَكَرْتُ خَوْفًا مِنَ الْفَسَادِ بَيْنَ زَوْجِهَا وَضَرَّتِهَا وَيُورِثُ بَيْنَهُمَا الْبَغْضَاءَ فَيَصِيرُ كَالسِّحْرِ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَائِقِ: الْمُتَشَبِّعُ أَيِ الْمُتَشَبِّهُ بِالشَّبْعَانِ وَلَيْسَ بِهِ، وَاسْتُعِيرَ لِلتَّحَلِّي بِفَضِيلَةٍ لَمْ يُرْزَقْهَا، وَشُبِّهَ بِلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ أَيْ ذِي زُورٍ، وَهُوَ الَّذِي يَتَزَيَّا بِزِيِّ أَهْلِ الصَّلَاحِ رِيَاءً، وَأَضَافَ الثَّوْبَيْنِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُمَا كَالْمَلْبُوسَيْنِ، وَأَرَادَ بِالتَّثْنِيَةِ أَنَّ الْمُتَحَلِّيَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ كَمَنْ لَبِسَ ثَوْبَيِ الزُّورِ ارْتَدَى بِأَحَدِهِمَا وَاتَّزَرَ بِالْآخَرِ، كَمَا قِيلَ: إِذَا هُوَ بِالْمَجْدِ ارْتَدَى وَتَأَزَّرَا، فَالْإِشَارَةُ بِالْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ إِلَى أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالزُّورِ مِنْ رَأْسِهِ إِلَى قَدَمِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ التَّثْنِيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ حَصَلَ بِالتَّشَبُّعِ حَالَتَانِ مَذْمُومَتَانِ: فِقْدَانُ مَا يُتَشَبَّعُ بِهِ وَإِظْهَارُ الْبَاطِلِ. وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: هُوَ الَّذِي يُرَى أَنَّهُ شَبْعَانُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ (عَنْ هِشَامٍ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَيَحْيَى فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَأَفَادَ تَصْرِيحُ هِشَامٍ بِتَحْدِيثِ فَاطِمَةَ وَهِيَ بِنْتُ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهِيَ بِنْتُ عَمِّهِ وَزَوْجَتُهُ، وَأَسْمَاءُ هِيَ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ جَدَّتُهُمَا مَعًا. وَقَدِ اتَّفَقَ الْأَكْثَرُ مِنْ أَصْحَابِ هِشَامٍ عَلَى هَذَا الْإِسْنَادِ، وَانْفَرَدَ مَعْمَرٌ، وَالْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ بِرِوَايَتِهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فَقَالَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ وَقَالَ: إِنَّهُ أَخْطَأَ وَالصَّوَابُ حَدِيثُ أَسْمَاءَ. وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي التَّتَبُّعِ أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَوَكِيعٍ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ مِثْلُ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، قَالَ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ، وَأَحْتَاجُ أَنْ أَنْظُرَ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ فَإِنِّي وَجَدْتُهُ فِي رُقْعَةٍ، وَالصَّوَابُ عَنْ عَبْدَةَ، وَوَكِيعٍ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ لَا عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَكَذَا قَالَ سَائِرُ أَصْحَابِ هِشَامٍ.
قُلْتُ: هُوَ ثَابِتٌ فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ مِنْ مُسْلِمٍ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ، أَوْرَدَهُ عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدَةَ، وَوَكِيعٍ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدَةَ وَحْدَهُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ، فَاقْتَضَى أَنَّهُ عِنْدَ عَبْدَةَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَعِنْدَ وَكِيعٍ بِطَرِيقِ عَائِشَةَ فَقَطْ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ، وَكَذَا أَوْرَدَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ آدَمَ، وَأَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ
أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، وَكَذَا هُوَ فِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي ضَمْرَةَ وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطُّفَاوِيِّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ مُرَجَّى بْنِ رَجَاءٍ كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَحْفُوظَ عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ، وَأَمَّا وَكِيعٌ فَقَدْ أَخْرَجَ رِوَايَتَهُ الْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هَاشِمٍ الطُّوسِيِّ عَنْهُ مِثْلَ مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَلْيُضَمَّ إِلَى مَعْمَرٍ، وَمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ وَيُسْتَدْرَكُ عَلَى الدَّارَقُطْنِيِّ.
قَوْلُهُ (إِنَّ امْرَأَةً قَالَتْ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَلَا عَلَى تَعْيِينِ زَوْجِهَا.
قَوْلُهُ (إِنَّ لِي ضَرَّةً) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ إِنَّ لِي جَارَةً وَهِيَ الضَّرَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ (إِنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقُولُ إِنَّ زَوْجِي أَعْطَانِي مَا لَمْ يُعْطِنِي؟
قَوْلُهُ (الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَهُ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ بِمَا لَمْ يُعْطَهُ.
107 - بَاب الْغَيْرَةِ
وَقَالَ وَرَّادٌ عَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي.
5220 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ.
5221 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ مَا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ تَزْنِي يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا"
5222 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّهِ أَسْمَاءَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا شَيْءَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ"
5223 -
وَعَنْ يَحْيَى أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ح حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ"
5224 -
حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِي الأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلَا مَمْلُوكٍ وَلَا شَيْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ وَغَيْرَ فَرَسِهِ فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ وَأَسْتَقِي الْمَاءَ وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِي مِنْ الأَنْصَارِ وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِي وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ الأَنْصَارِ
فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ إِخْ إِخْ لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي قَدْ اسْتَحْيَيْتُ فَمَضَى فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ فَقُلْتُ لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى رَأْسِي النَّوَى وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَنَاخَ لِأَرْكَبَ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ فَقَالَ وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ قَالَتْ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ تَكْفِينِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي"
5225 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتْ الَّتِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتْ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ فَجَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصَّحْفَةِ ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ غَارَتْ أُمُّكُمْ ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ فيه"
5226 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "دَخَلْتُ الْجَنَّةَ أَوْ أَتَيْتُ الْجَنَّةَ فَأَبْصَرْتُ قَصْرًا فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا قَالُوا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ فَلَمْ يَمْنَعْنِي إِلاَّ عِلْمِي بِغَيْرَتِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوَعَلَيْكَ أَغَارُ"
5227 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جُلُوسٌ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا قَالُوا هَذَا لِعُمَرَ فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا فَبَكَى عُمَرُ وَهُوَ فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ قَالَ أَوَعَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغَارُ"
قَوْلُهُ (بَابُ الْغَيْرَةِ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا رَاءٍ، قَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ تَغَيُّرِ الْقَلْبِ وَهَيَجَانِ الْغَضَبِ بِسَبَبِ الْمُشَارَكَةِ فِيمَا بِهِ الِاخْتِصَاصُ، وَأَشَدُّ مَا يَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. هَذَا فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ، وَأَمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَحْسَنُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ مَا فُسِّرَ بِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَعْنِي الْآتِي فِي هَذَا الْبَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَ عِيَاضٌ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْغَيْرَةُ فِي حَقِّ اللَّهِ الْإِشَارَةَ إِلَى تَغَيُّرِ حَالِ فَاعِلِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْغَيْرَةُ فِي الْأَصْلِ الْحَمِيَّةُ وَالْأَنَفَةُ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِلَازِمِ التَّغَيُّرِ فَيَرْجِعُ إِلَى الْغَضَبِ، وَقَدْ نَسَب سبحانه وتعالى إِلَى نَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ الْغَضَبَ وَالرِّضَا. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: التَّغَيُّرُ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ بِالدَّلَالَةِ الْقَطْعِيَّةِ
فَيَجِبُ تَأْوِيلُهُ بِلَازِمِهِ كَالْوَعِيدِ أَوْ إِيقَاعِ الْعُقُوبَةِ بِالْفَاعِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْكُسُوفِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا يَنْبَغِي اسْتِحْضَارُهُ هُنَا.
ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ أَشْرَفِ وُجُوهِ غَيْرَتِهِ تَعَالَى اخْتِصَاصُهُ قَوْمًا بِعِصْمَتِهِ، يَعْنِي فَمَنِ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ عَاقَبَهُ، قَالَ: وَأَشَدُّ الْآدَمِيِّينَ غَيْرَةً رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ كَانَ يَغَارُ لِلَّهِ وَلِدِينِهِ، وَلِهَذَا كَانَ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ اهـ. وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ تِسْعَةَ أَحَادِيثَ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ
قَوْلُهُ (وَقَالَ وَرَّادٌ) بِفَتْحِ الْوَاو وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ هُوَ كَاتِبُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَمَوْلَاهُ، وَحَدِيثُهُ هَذَا الْمُعَلَّقُ عَنِ الْمُغِيرَةِ سَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْهُ بِلَفْظِهِ لَكِنْ فِيهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَاخْتَصَرَهَا هُنَا، وَيَأْتِي أَيْضًا فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَتَمَّ سِيَاقًا، وَأَغْفَلَ الْمِزِّيُّ التَّنْبِيهَ عَلَى هَذَا التَّعْلِيقِ فِي النِّكَاحِ.
قَوْلُهُ (قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ) هُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَأَحَدُ نُقَبَائِهِمْ.
قَوْلُهُ (لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ) عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ: قَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ وَجَدْتُ مَعَ أَهْلِي رَجُلًا أُمْهِلْهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءٍ؟ قَالَ: نَعَمْ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: قَالَ: كَلَّا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنْ كُنْتُ لِأُعَاجِلُهُ بِالسَّيْفِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَاللَّفْظُ لَهُ وَأَبِي دَاوُدَ، وَالْحَاكِمِ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الْآيَةَ، قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: أَهَكَذَا أُنْزِلَتْ؟ فَلَوْ وَجَدْتُ لَكَاعِ مُتَفَخِّذُهَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِي أَنْ أُحَرِّكَهُ وَلَا أُهَيِّجَهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ فَوَاللَّهِ لَا آتِي بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تَلُمْهُ فَإِنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ، وَاللَّهِ مَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً قَطُّ إِلَّا عَذْرَاءَ، وَلَا طَلَّقَ امْرَأَةً فَاجْتَرَأَ رَجُلٌ مِنَّا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ شِدَّةِ غَيْرَتِهِ، فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّهَا لَحَقٌّ وَأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَكِنِّي عَجِبْتُ.
قَوْلُهُ (غَيْرَ مُصْفِحٍ) قَالَ عِيَاضٌ: هُوَ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، قَالَ: وَرَوَيْنَاهُ أَيْضًا بِفَتْحِ الْفَاءِ، فَمَنْ فَتْحَ جَعَلَهُ وَصْفًا لِلسَّيْفِ وَحَالًا مِنْهُ، وَمَنْ كَسَرَ جَعَلَهُ وَصْفًا لِلضَّارِبِ وَحَالًا مِنْهُ اهـ. وَزَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي سَائِرِ الْأُمَّهَاتِ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَهُوَ مَنْ صَفَّحَ السَّيْفَ أَيْ عَرَّضَهُ وَحَدَّهُ، وَيُقَالُ لَهُ غِرَارٌ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَلِلسَّيْفِ صَفْحَانِ وَحَدَّانِ، وَأَرَادَ أَنَّهُ يَضْرِبُهُ بِحَدِّهِ لَا بِعَرْضِهِ، وَالَّذِي يَضْرِبُ بِالْحَدِّ يَقْصِدُ إِلَى الْقَتْلِ بِخِلَافِ الَّذِي يَضْرِبِ بِالصَّفْحِ فَإِنَّهُ يَقْصِدُ التَّأْدِيبَ. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ غَيْرَ مُصْفِحٍ عَنْهُ، وَهَذِهِ يَتَرَجَّحُ فِيهَا كَسْرُ الْفَاءِ، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ أَيْضًا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَقَدْ أَنْكَرَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَالَ: ظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ مِنَ الصَّفْحِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْعَفْوِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ صَفْحِ السَّيْفِ، قُلْتُ: وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُهَا عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَالصَّفْحُ وَالصَّفْحَةُ بِمَعْنًى. وَقَدْ أَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ لَفْظُهُ عَنْهُ وَكَذَا سَائِرُ مَنْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرُهُ لَمْ يَذْكُرُوهَا.
قَوْلُهُ (أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ) تَمَسَّكَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ مَنْ أَجَازَ فِعْلَ مَا قَالَ سَعْدٌ، وَقَالَ: إِنْ وَقَعَ ذَلِكَ ذَهَبَ دَمُ الْمَقْتُولِ هَدَرًا، نُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ الْمَوَّازِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ وَبَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الحديث الثاني.
قَوْلُهُ (شَقِيقٌ) هُوَ أَبُو وَائِلٍ الْأَسَدِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ (مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ) مِنْ زَائِدَةٌ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَيَجُوزُ فِي أَغْيَرُ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ عَلَى اللُّغَتَيْنِ الْحِجَازِيَّةِ وَالتَّمِيمِيَّةِ فِي مَا، وَيَجُوزُ فِي النَّصْبِ أَنْ يَكُونَ أَغْيَرَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى النَّعْتِ لِأَحَدٍ، وَفِي الرَّفْعِ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِأَحَدٍ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ فِي الْحَالَيْنِ تَقْدِيرُهُ مَوْجُودٌ وَنَحْوُهُ، وَالْكَلَامُ عَلَى غَيْرَةِ اللَّهِ ذُكِرَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَبَقِيَّةُ شَرْحِ الْحَدِيثِ يَأْتِي فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
تَنْبِيهٌ:
وَقَعَ عِنْدَ
الْإِسْمَاعِيلِيِّ قَبْلَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ تَرْجَمَةُ صُورَتِهَا فِي الْغَيْرَةِ وَالْمَدْحِ وَمَا رَأَيْتُ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ، حديث عائشة.
قَوْلُهُ (يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا أَحَدٌ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ أَمَتُهُ تَزْنِي) كَذَا وَقَعَ عِنْدَهُ هُنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ وَهُوَ الْقَعْنَبِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، وَوَقَعَ فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ عَنْ مَالِكٍ: أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ عَلَى وِزَانِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْكُسُوفِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ هَذَا بِهَذَا الْإِسْنَادِ كَالْجَمَاعَةِ، فَيَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ سَبْقِ الْقَلَمِ هُنَا، وَلَعَلَّ لَفْظَةِ تَزْنِي سَقَطَتْ غَلَطًا مِنَ الْأَصْلِ ثُمَّ أُلْحِقَتْ فَأَخَّرَهَا النَّاسِخُ عَنْ مَحَلِّهَا. وَهَذَا الْقَدْرُ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ طَرَفٌ مِنَ الْخُطْبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِ الْكُسُوفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ.
قَوْلُهُ (عَنْ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ. قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
قَوْلُهُ (أَنَّ عُرْوَةَ) فِي رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ أَبِي عُثْمَانِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ، وَرِوَايَةُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عُرْوَةَ مِنْ رِوَايَةِ الْقَرِينِ عَنِ الْقَرِينِ لِأَنَّهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي السِّنِّ وَاللِّقَاءِ، وَإِنْ كَانَ عُرْوَةُ أَسَنَّ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ قَلِيلًا.
قَوْلُهُ (عَنْ أُمِّهِ أَسْمَاءَ) هِيَ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورَةُ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حَدَّثَتْهُ.
قَوْلُهُ (لَا شَيْءَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ حَجَّاجٍ الْمَذْكُورَةِ: لَيْسَ شَيْءٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ وَهُمَا بِمَعْنًى.
الحديث الخامس.
قَوْلُهُ (وَعَنْ يَحْيَى أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى السَّنَدِ الَّذِي قَبْلَهُ فَهُوَ مَوْصُولٌ، وَلَمْ يَسُقِ الْبُخَارِيُّ الْمَتْنَ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ بَلْ تَحَوَّلَ إِلَى رِوَايَةِ شَيْبَانَ فَسَاقَهُ عَلَى رِوَايَتِهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ لَفْظَهُمَا وَاحِدٌ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِتَقْدِيمِ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عُرْوَةَ عَلَى حَدِيثِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَكْسُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَأَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ حَرْبِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَطْ مِثْلَ مَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ شَيْبَانَ، عَنْ يَحْيَى، ثُمَّ أَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ يَحْيَى بِحَدِيثِ أَسْمَاءَ فَقَطْ، فَكَأَنَّ يَحْيَى كَانَ يَجْمَعُهُمَا تَارَةً وَيُفْرِدُ أُخْرَى، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بِحَدِيثِ أَسْمَاءَ فَقَطْ وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ: عَلَى الْمِنْبَرِ.
قَوْلُهُ (إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ حَجَّاجٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ.
قَوْلُهُ (وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ لَكِنْ بِلَفْظِ: مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَزِيَادَةِ عَلَيْهِ وَالضَّمِيرُ لِلْمُؤْمِنِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِزِيَادَةِ لَا وَكَذَا رَأَيْتُهَا ثَابِتَةٌ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَأَفْرَطَ الصَّغَانِيُّ فَقَالَ: كَذَا لِلْجَمِيعِ وَالصَّوَابُ حَذْفُ لَا، كَذَا قَالَ، وَمَا أَدْرِي مَا أَرَادَ بِالْجَمِيعِ، بَلْ أَكْثَرُ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ عَلَى حَذْفِهَا وِفَاقًا لِمَنْ رَوَاهُ غَيْرَ الْبُخَارِيِّ، كَمُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ وَجَّهَهَا الْكِرْمَانِيُّ وَغَيْرُهُ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ غَيْرَةَ اللَّهِ لَيْسَتْ هِيَ الْإِتْيَانَ وَلَا عَدَمَهُ، فَلَابُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مِثْلٍ؛ لِأَنَّ لَا يَأْتِي أَيْ غَيْرَةَ اللَّهِ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْإِتْيَانِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: التَّقْدِيرُ غَيْرَةُ اللَّهِ ثَابِتَةٌ لِأَجْلِ أَنْ لَا يَأْتِيَ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَسْتَقِيمَ الْمَعْنَى بِإِثْبَاتِ لَا فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى زِيَادَتِهَا وَقَدْ عُهِدَتْ زِيَادَتُهَا فِي الْكَلَامِ كَثِيرًا مِثْلُ قَوْلِهِ: {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ} - لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
الحديث السادس.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ) هُوَ ابْنُ غَيْلَانَ الْمَرْوَزِيُّ.
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ أَسْمَاءَ) هِيَ أُمُّهُ الْمُقَدَّمُ ذِكْرُهَا قَبْلُ.
قَوْلُهُ (تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ) أَيِ ابْنُ الْعَوَامِّ (وَمَا لَهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلَا مَمْلُوكٍ وَلَا شَيْءٍ غَيْرِ نَاضِحٍ وَغَيْرِ فَرَسِهِ) أَمَّا عَطْفُ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِ فَعَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَالِ الْإِبِلُ أَوِ الْأَرَاضِي الَّتِي تُزْرَعُ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ لِلْعَرَبِ يُطْلِقُونَ الْمَالَ عَلَى كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِالْمَمْلُوكِ عَلَى هَذَا الرَّقِيقِ مِنَ الْعَبِيدِ
وَالْإِمَاءِ، وَقَوْلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا شَيْءٍ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُتَمَلَّكُ أَوْ يُتَمَوَّلُ لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا لَمْ تُرِدْ إِدْخَالَ مَا لَابُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنْ مَسْكَنٍ وَمَلْبَسٍ وَمَطْعَمٍ وَرَأْسِ مَالِ تِجَارَةٍ، وَدَلَّ سِيَاقُهَا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي يَأْتِي ذِكْرُهَا لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لِلزُّبَيْرِ وَإِنَّمَا كَانَتْ إِقْطَاعًا، فَهُوَ يَمْلِكُ مَنْفَعَتَهَا لَا رَقَبَتَهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ تَسْتَثْنِهَا كَمَا اسْتَثْنَتِ الْفَرَسَ وَالنَّاضِحَ، وَفِي اسْتِثْنَائِهَا النَّاضِحَ وَالْفَرَسَ نَظَرٌ اسْتَشْكَلَهُ الدَّاوُدِيُّ، لِأَنَّ تَزْوِيجَهَا كَانَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَهَاجَرَتْ وَهِيَ حَامِلٌ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي كِتَابِ الْهِجْرَةِ، وَالنَّاضِحُ وَهُوَ الْجَمَلُ الَّذِي يُسْقَى عَلَيْهِ الْمَاءُ إِنَّمَا حَصَلَ لَهُ بِسَبَبِ الْأَرْضِ الَّتِي أُقْطِعَهَا، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِمَكَّةَ فَرَسٌ وَلَا نَاضِحٌ، وَالْجَوَابُ مَنْعُ هَذَا النَّفْيِ وَأَنَّهُ لَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ الْفَرَسُ وَالْجَمَلُ كَانَا لَهُ بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ عَلَى فَرَسٍ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ بَدْرٍ غَزْوَةٌ حَصَلَتْ لَهُمْ مِنْهَا غَنِيمَةٌ، وَالْجَمَلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَانَ لَهُ بِمَكَّةَ وَلَمَّا قَدِمَ بِهِ الْمَدِينَةَ وَأُقْطِعَ الْأَرْضَ
الْمَذْكُورَةَ أَعَدَّهُ لِسَقْيِهَا وَكَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ السَّقْيِ فَلَا إِشْكَالَ.
قَوْلُهُ (فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ) زَادَ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ: وَأَكْفِيهِ مُؤْنَتَه وَأَسُوسُهُ وَأَدُقُّ النَّوَى لِنَاضِحِهِ وَأَعْلِفُهُ، وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أَسْمَاءَ: كُنْتُ أَخْدُمُ الزُّبَيْرَ خِدْمَةَ الْبَيْتِ وَكَانَ لَهُ فَرَسٌ وَكُنْتُ أَسُوسُهُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ خِدْمَتِهِ شَيْءٌ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ سِيَاسَةِ الْفَرَسِ كُنْتُ أَحُشُّ لَهُ وَأَقُومُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ (وَأَسْتَقِي الْمَاءَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلسَّرَخْسِيِّ: وَأَسْقِي بِغَيْرِ مُثَنَّاةٍ وَهُوَ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: وَأَسْقِي الْفَرَسَ أَوِ النَّاضِحَ الْمَاءَ، وَالْأَوَّلُ أَشْمَلُ مَعْنًى وَأَكْثَرُ فَائِدَةً.
قَوْلُهُ (وَأَخْرِزُ) بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ رَاءٍ ثُمَّ زَايٍ (غَرْبَهُ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ هُوَ الدَّلْوُ.
قَوْلُهُ (وَأَعْجِنُ) أَيِ: الدَّقِيقَ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا حَمَلْنَا عَلَيْهِ الْمَالَ، إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ نَفْيَ أَنْوَاعِ الْمَالِ لَانْتَفَى الدَّقِيقُ الَّذِي يُعْجَنُ، لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ مُرَادَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ أَنَّ الزُّبَيْرَ لَاقَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ رَاجِعًا مِنَ الشَّامِ بِتِجَارَةٍ وَأَنَّهُ كَسَاهُمَا ثِيَابًا.
قَوْلُهُ (وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ فَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِي) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَكَانَ يَخْبِزُ لِي وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ فِي كَلَامِهَا شَيْئًا مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ بِمَكَّةَ وَهُوَ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَكُنْتُ أَصْنَعُ كَذَا إِلَخْ، لِأَنَّ النِّسْوَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ إِنَّمَا جَاوَرْنَهَا بَعْدَ قُدُومِهَا الْمَدِينَةَ قَطْعًا، وَكَذَلِكَ مَا سَيَأْتِي مِنْ حِكَايَةِ نَقْلِهَا النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ.
قَوْلُهُ (وَكُنَّ نِسْوَةَ صَدْقٍ) أَضَافَتْهُنَّ إِلَى الصِّدْقِ مُبَالَغَةً فِي تَلَبُّسِهِنَّ بِهِ فِي حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ.
قَوْلُهُ (وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ فَرْضِ الْخُمُسِ بَيَانُ حَالِ الْأَرْضِ الْمَذْكُورَةِ وَأَنَّهَا كَانَتْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ هُنَاكَ.
قَوْلُهُ (وَهِيَ مِنِّي) أَيْ مِنْ مَكَانِ سُكْنَاهَا.
قَوْلُهُ (فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ إِخْ إِخْ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْخَاءِ، كَلِمَةٌ تُقَالُ لِلْبَعِيرِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُنِيخَهُ.
قَوْلُهُ (لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ) كَأَنَّهَا فَهِمَتْ ذَلِكَ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ، وَإِلَّا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يُرْكِبَهَا وَمَا مَعَهَا وَيَرْكَبُ هُوَ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ) هَذَا بَنَتْهُ عَلَى مَا فَهِمَتْهُ مِنَ الِارْتِدَافِ، وَإِلَّا فَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْآخَرَ مَا تَتَعَيَّنُ الْمُرَافَقَةُ.
قَوْلُهُ (وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ، وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ) هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ عَلِمَتْهُ، أَيْ أَرَادَتْ تَفْضِيلَهُ عَلَى أَبْنَاءِ جِنْسِهِ فِي ذَلِكَ، أَوْ مِنْ مُرَادَةٌ، ثُمَّ رَأَيْتُهَا ثَابِتَةً فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَلَفْظُهُ: وَكَانَ مِنْ أَغْيَرِ النَّاسِ.
قَوْلُهُ (وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى عَلَى رَأْسِكِ كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ: كَانَ أَشَدَّ عَلَيْكِ، وَسَقَطَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَوَجْهُ الْمُفَاضَلَةِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الزُّبَيْرُ أَنَّ رُكُوبَهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يَنْشَأُ مِنْهُ
كَبِيرُ أَمْرٍ مِنَ الْغَيْرَةِ لِأَنَّهَا أُخْتُ امْرَأَتِهِ، فَهِيَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يَحِلُّ لَهُ تَزْوِيجُهَا أَنْ لَوْ كَانَتْ خَلِيَّةً مِنَ الزَّوْجِ، وَجَوَازُ أَنْ يَقَعَ لَهَا مَا وَقَعَ لِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّهُ يَزِيدُ عَلَيْهِ لُزُومُ فِرَاقِهِ لِأُخْتِهَا، فَمَا بَقِيَ إِلَّا احْتِمَالُ أَنْ يَقَعَ لَهَا مِنْ بَعْضِ الرِّجَالِ مُزَاحَمَةٌ بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَأَنْ يَنْكَشِفَ مِنْهَا حَالَةَ السَّيْرِ مَا لَا تُرِيدُ انْكِشَافَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ أَخَفُّ مِمَّا تَحَقَّقَ مِنْ تَبَذُّلِهَا بِحَمْلِ النَّوَى عَلَى رَأْسِهَا مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ لِأَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ خِسَّةُ النَّفْسِ وَدَنَاءَةُ الْهِمَّةِ وَقِلَّةُ الْغَيْرَةِ وَلَكِنْ كَانَ السَّبَبُ الْحَامِلُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ شَغْلَ زَوْجِهَا وَأَبِيهَا بِالْجِهَادِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَأْمُرُهُمْ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَيُقِيمُهُمْ فِيهِ، وَكَانُوا لَا يَتَفَرَّغُونَ لِلْقِيَامِ بِأُمُورِ الْبَيْتِ بِأَنْ يَتَعَاطَوْا ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلِضِيقِ مَا بِأَيْدِيهِمْ عَلَى اسْتِخْدَامِ مَنْ يَقُومُ بِذَلِكَ عَنْهُمْ، فَانْحَصَرَ الْأَمْرُ فِي نِسَائِهِمْ فَكُنَّ يَكْفِينَهُمْ مُؤْنَةَ الْمَنْزِلِ وَمَنْ فِيهِ لِيَتَوَفَّرُوا هُمْ عَلَى مَا هَمْ فِيهِ مِنْ نَصْرِ الْإِسْلَامِ مَعَ مَا يَنْضَمُّ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْعَادَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ تَسْمِيَةِ ذَلِكَ عَارًا مَحْضًا.
قَوْلُهُ (حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بِخَادِمٍ تَكْفِينِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَكَفَتْنِي وَهِيَ أَوْجَهُ، لِأَنَّ الْأُولَى تَقْتَضِي أَنَّهُ أَرْسَلَهَا لِذَلِكَ خَاصَّةً، بِخِلَافِ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: جَاءَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ فَأَعْطَاهَا خَادِمًا، قَالَتْ: كَفَتْنِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ فَأَلْقَتْ عَنِّي مُؤْنَتَهُ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ السَّبْيَ لَمَّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى أَبَا بَكْرٍ مِنْهُ خَادِمًا لِيُرْسِلَهُ إِلَى ابْنَتِهِ أَسْمَاءَ فَصَدَقَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُعْطِي، وَلَكِنْ وَصَلَ ذَلِكَ إِلَيْهَا بِوَاسِطَةٍ. وَوَقَعَ عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا بَاعَتْهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَتَصَدَّقَتْ بِثَمَنِهَا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا اسْتَغْنَتْ عَنْهَا بِغَيْرِهَا. وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمَرْأَةِ الْقِيَامَ بِجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ زَوْجُهَا مِنَ الْخِدْمَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ، وَحَمَلَهُ الْبَاقُونَ عَلَى أَنَّهَا تَطَوَّعَتْ بِذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لَازِمًا، أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُهَلَّبُ وَغَيْرُهُ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ وَأَمْثَالَهَا كَانَتْ فِي حَالِ ضَرُورَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا يَطَّرِدُ الْحُكْمُ فِي غَيْرِهَا مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِثْلِ حَالِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ شَكَتْ مَا تَلْقَى يَدَاهَا مِنَ الرَّحَى وَسَأَلَتْ أَبَاهَا خَادِمًا فَدَلَّهَا عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ حَمْلُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ عَلَى عَوَائِدِ الْبِلَادِ فَإِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَفِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ الشَّرِيفَةَ إِذَا تَطَوَّعَتْ بِخِدْمَةِ زَوْجِهَا بِشَيْءٍ لَا يَلْزَمُهَا لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا ذَلِكَ أَبٌ وَلَا سُلْطَانٌ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى مَا أَصْلُهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ تَطَوُّعًا، وَلِخَصْمِهِ أَنْ يَعْكِسَ فَيَقُولَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا مَا سَكَتَ أَبُوهَا مَثَلًا عَلَى ذَلِكَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا، وَلَا أَقَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ مَعَ عَظَمَةِ الصِّدِّيقِ عِنْدَهُ، قَالَ: وَفِيهِ جَوَازُ ارْتِدَافِ الْمَرْأَةِ خَلْفَ الرَّجُلِ فِي مَوْكِبِ الرِّجَالِ، قَالَ: وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا اسْتَتَرَتْ وَلَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهَا بِذَلِكَ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْحِجَابَ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً اهـ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ وَمَشْرُوعِيَّتِهِ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النُّورِ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أَخَذْنَ أُزُرَهُنَّ مِنْ قِبَلِ الْحَوَاشِي فَشَقَقْنَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا وَلَمْ تَزَلْ عَادَةُ النِّسَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا يَسْتُرْنَ وُجُوهَهَنَّ عَنِ الْأَجَانِبِ، وَالَّذِي ذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّ الَّذِي اخْتُصَّ بِهِ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ سِتْرُ شُخُوصِهِنَّ زِيَادَةً عَلَى سِتْرِ أَجْسَامِهِنَّ، وَقَدْ ذَكَرْتُ الْبَحْثَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَفِيهِ غَيْرَةُ الرَّجُلِ عِنْدَ ابْتِذَالِ أَهْلِهِ فِيمَا يَشُقُّ مِنَ الْخِدْمَةِ وَأَنَفَةُ نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ لَاسِيَّمَا إِذَا كَانَتْ ذَاتَ حَسَبٍ، انْتَهَى. وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ لِأَسْمَاءَ وَلِلزُّبَيْرِ، وَلِأَبِي بَكْرٍ وَلِنِسَاءِ الْأَنْصَارِ.
الْحَدِيثُ السَّابِعُ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَابْنُ عُلَيَّةَ اسْمُهُ إِسْمَاعِيلُ. وَقَوْلُهُ عَنْ أَنَسٍ تَقَدَّمَ فِي الْمَظَالِمِ بَيَانُ مَنْ صَرَّحَ عَنْ حُمَيْدٍ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنْ أَنَسٍ، وَكَذَا تَسْمِيَةُ الْمَرْأَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَأَنَّ الَّتِي كَانَتْ فِي بَيْتِهَا هيَ عَائِشَةُ، وَأَنَّ الَّتِي هِيَ أَرْسَلَتِ الطَّعَامَ
زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (غَارَتْ أُمُّكُمْ) الْخِطَابُ لِمَنْ حَضَرَ، وَالْمُرَادُ بِالْأُمِّ هِيَ الَّتِي كَسَرَتِ الصَّحْفَةَ وَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أُمُّكُمْ سَارَّةُ، وَكَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُ: لَا تَتَعَجَّبُوا مِمَّا وَقَعَ مِنْ هَذِهِ مِنَ الْغَيْرَةِ فَقَدْ غَارَتْ قَبْلَ ذَلِكَ أُمُّكُمْ حَتَّى أَخْرَجَ إِبْرَاهِيمُ وَلَدَهُ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ طِفْلٌ مَعَ أُمِّهِ إِلَى وَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَهُ بَعْضُ تَوْجِيهٍ لَكِنَّ الْمُرَادَ خِلَافُهُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ كَاسِرَةُ الصَّحْفَةِ، وَعَلَى هَذَا حَمَلَهُ جَمِيعُ مَنْ شَرَحَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالُوا: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ مُؤَاخَذَةِ الْغَيْرَاءَ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهَا لِأَنَّهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَكُونُ عَقْلُهَا مَحْجُوبًا بِشِدَّةِ الْغَضَبِ الَّذِي أَثَارَتْهُ الْغَيْرَةُ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: أَنَّ الْغَيْرَاءَ لَا تُبْصِرُ أَسْفَلَ الْوَادِي مِنْ أَعْلَاهُ قَالَهُ فِي قِصَّةٍ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْغَيْرَةَ عَلَى النِّسَاءِ، فَمَنْ صَبَرَ مِنْهُنَّ كَانَ لَهَا أَجْرُ شَهِيدٍ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَأَشَارَ إِلَى صِحَّتِهِ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي عُبَيْدِ بْنِ الصَّبَاحِ مِنْهُمْ. وَفِي إِطْلَاقِ الدَّاوُدِيِّ عَلَى سَارَّةَ أَنَّهَا أُمُّ الْمُخَاطَبِينَ نَظَرٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَأُمُّهُمْ هَاجَرُ لَا سَارَّةُ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَصِحَّ أَنَّ أُمَّهُمْ سَارَّةُ.
الْحَدِيثُ الثَّامِنُ.
قَوْلُهُ (مُعْتَمِرٌ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنْ جَابِرٍ مُطَوَّلًا فِي مَنَاقِبِ عُمَرَ مَعَ شَرْحِهِ.
الْحَدِيثُ التَّاسِعُ.
قَوْلُهُ (بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ) هَذَا يُعَيِّنُ أَحَدَ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: دَخَلْتُ الْجَنَّةَ أَوْ أَتَيْتُ الْجَنَّةَ وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْيَقَظَةِ أَوْ فِي النَّوْمِ فَبَيَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي النَّوْمِ.
قَوْلُهُ (فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ) تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنِ الْخَطَّابِيِّ فِي زَعْمِهِ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ تَصْحِيفٌ وَأَنَّ الْقُرْطُبِيَّ عَزَا هَذَا الْكَلَامَ لِابْنِ قُتَيْبَةَ، وَهُوَ كَذَلِكَ أَوْرَدَهُ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَلَقَّاهُ عَنْهُ الْخَطَّابِيُّ فَذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَارْتَضَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ فَقَالَ: يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ الصَّوَابَ. وَتَتَوَضَّأُ تَصْحِيفٌ؛ لِأَنَّ الْحُورَ طَاهِرَاتٌ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِنَّ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَا تَلْزَمُهُ طَهَارَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْتُ الْبَحْثَ مَعَ الْخَطَّابِيِّ فِي هَذَا فِي مَنَاقِبِ عُمَرَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الدَّاوُدِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْحُورَ فِي الْجَنَّةِ يَتَوَضَّأْنَ وَيُصَلِّينَ قُلْتُ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْجَنَّةِ لَا تَكْلِيفَ فِيهَا بِالْعِبَادَةِ أَنْ لَا يَصْدُرَ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ بِاخْتِيَارِهِ مَا شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ عَلِمَ مِنْ صَاحِبِهِ خُلُقًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمَا يُنَافِرُهُ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ نُسِبَ إِلَى مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَةِ صَلَاحٍ مَا يُغَايِرُ ذَلِكَ يُنْكَرُ عَلَيْهِ. وَفِيهِ أَنَّ الْجَنَّةَ مَوْجُودَةٌ وَكَذَلِكَ الْحُورُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَسَائِرُ فَوَائِدِهِ تَقَدَّمَتْ فِي مَنَاقِبِ عُمَرَ.
108 - بَاب غَيْرَةِ النِّسَاءِ وَوَجْدِهِنَّ
5228 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قَالَتْ: فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قُلْتِ: لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ، قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ.
[الحديث 5228 - طرفه في: 6078]
5229 -
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ لِكَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهَا وَثَنَائِهِ عَلَيْهَا وَقَدْ أُوحِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ لَهَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ"
قَوْلُهُ (بَابُ غَيْرَةِ النِّسَاءِ وَوَجْدِهِنَّ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ أَخَصُّ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَالْوَجْدُ بِفَتْحِ الْوَاوِ الْغَضَبُ، وَلَمْ يَبُتَّ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ التَّرْجَمَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ، وَأَصْلُ الْغَيْرَةِ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ لِلنِّسَاءِ، لَكِنْ إِذَا أَفْرَطَتْ فِي ذَلِكَ بِقَدْرٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ تُلَامُ، وَضَابِطُ ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ الْأَنْصَارِيِّ رَفَعَهُ: أَنَّ مِنَ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ، وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ: فَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُ فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ يَتَمَحَّضُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ لِضَرُورَةِ امْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ زَوْجَيْنِ لِلْمَرْأَةِ بِطَرِيقِ الْحِلِّ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَحَيْثُ غَارَتْ مِنْ زَوْجِهَا فِي ارْتِكَابِ مُحَرَّمٍ إِمَّا بِالزِّنَا مَثَلًا وَإِمَّا بِنَقْصِ حَقِّهَا وَجَوْرِهِ عَلَيْهَا لِضَرَّتِهَا وَإِيثَارِهَا عَلَيْهَا، فَإِذَا تَحَقَّقَتْ ذَلِكَ أَوْ ظَهَرَتِ الْقَرَائِنُ فِيهِ فَهِيَ غَيْرَةٌ مَشْرُوعَةٌ، فَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ التَّوَهُّمِ عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَهِيَ الْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُقْسِطًا عَادِلًا وَأَدَّى لِكُلٍّ مِنَ الضَّرَّتَيْنِ حَقَّهَا فَالْغَيْرَةُ مِنْهُمَا إِنْ كَانَتْ لِمَا فِي الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَسْلَمْ مِنْهَا أَحَدٌ مِنَ النِّسَاءِ فَتُعْذَرُ فِيهَا مَا لَمْ تَتَجَاوَزْ إِلَى مَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ: أَحَدُهُمَا:
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عُبَيْدٌ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: حَدَّثَنِي بِالْإِفْرَادِ.
قَوْلُهُ (إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً إِلَخْ) يُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِقْرَاءُ الرَّجُلِ حَالَ الْمَرْأَةِ مِنْ فِعْلِهَا وَقَوْلِهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَيْلِ إِلَيْهِ وَعَدَمِهِ، وَالْحُكْمُ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْقَرَائِنُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَزَمَ بِرِضَا عَائِشَةَ وَغَضَبِهَا بِمُجَرَّدِ ذِكْرِهَا لِاسْمِهِ وَسُكُوتِهَا، فَبَنَى عَلَى تَغَيُّرِ الْحَالَتَيْنِ مِنَ الذِّكْرِ وَالسُّكُوتِ تَغَيُّرَ الْحَالَتَيْنِ مِنَ الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ شَيْءٌ آخَرُ أَصْرَحُ مِنْهُ لَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ. وَقَوْلُ عَائِشَةَ: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْحَصْرُ لَطِيفٌ جِدًّا لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ فِي حَالِ الْغَضَبِ الَّذِي يَسْلِبُ الْعَاقِلَ اخْتِيَارَهُ لَا تَتَغَيَّرُ عَنِ الْمَحَبَّةِ الْمُسْتَقِرَّةِ فَهُوَ كَمَا قِيلَ:
إِنِّي لِأَمْنَحُكَ الصُّدُودَ وَإِنَّنِي
…
قَسَمًا إِلَيْكَ مَعَ الصُّدُودِ لَأَمْيَلُ
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُرَادُهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَتْرُكُ التَّسْمِيَةَ اللَّفْظِيَّةَ وَلَا يَتْرُكُ قَلْبُهَا التَّعَلُّقَ بِذَاتِهِ الْكَرِيمَةِ مَوَدَّةً وَمَحَبَّةً اهـ. وَفِي اخْتِيَارِ عَائِشَةَ ذِكْرُ إِبْرَاهِيمِ عليه الصلاة والسلام دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ دَلَالَةٌ عَلَى مَزِيدِ فِطْنَتِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى النَّاسِ بِهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهَا بُدٌّ مِنْ هَجْرِ الِاسْمِ الشَّرِيفِ أَبْدَلَتْهُ بِمَنْ هُوَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ حَتَّى لَا تَخْرُجَ عَنْ دَائِرَةِ التَّعَلُّقِ فِي الْجُمْلَةِ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِ عَائِشَةَ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى إِذْ لَوْ كَانَ الِاسْمُ عَيْنَ الْمُسَمَّى لَكَانَتْ بِهَجْرِهِ تَهْجُرُ ذَاتَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. ثُمَّ أَطَالَ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَحَلُّ الْبَحْثِ فِيهَا كِتَابُ التَّوْحِيدِ حَيْثُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ، أَعَانَ اللَّهُ تَعَالَى عَل ى الْوُصُولِ إِلَى ذَلِكَ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ.
ثَانِيهِمَا:
قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ) هُوَ أَبُو الْوَلِيدِ الْهَرَوِيُّ، وَاسْمُ أَبِي رَجَاءٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَيُّوبَ.
قَوْلُهُ (مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ) بَيَّنْتُ سَبَبَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ كَثْرَةُ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهَا، وَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً وَقَدْ أَمِنَتْ مُشَارَكَتَهَا لَهَا فِيهِ لَكِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَرْجِيحَهَا عِنْدَهُ، فَهُوَ الَّذِي هَيَّجَ الْغَضَبَ الَّذِي يُثِيرُ الْغَيْرَةَ بِحَيْثُ قَالَتْ مَا تَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبِ خَدِيجَةَ: أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا
مِنْهَا، فَقَالَ: مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ وَاخَذَ عَائِشَةَ لِقِيَامِ مَعْذِرَتِهَا بِالْغَيْرَةِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا النِّسَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ الْحَدِيثِ مِنْ كِتَابِ الْمَنَاقِبِ مُسْتَوْفَاةً.
109 - بَاب ذَبِّ الرَّجُلِ عَنْ ابْنَتِهِ فِي الْغَيْرَةِ وَالْإِنْصَافِ
5230 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: إِنَّ بَنِي هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُوا فِي أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَلَا آذَنُ، ثُمَّ لَا آذَنُ، ثُمَّ لَا آذَنُ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِي وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ، فَإِنَّمَا هِيَ بَضْعَةٌ مِنِّي يُرِيبُنِي مَا أَرَابَهَا، وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا.
قَوْلُهُ (بَابُ ذَبِّ الرَّجُلِ عَنِ ابْنَتِهِ فِي الْغَيْرَةِ وَالْإِنْصَافِ) أَيْ فِي دَفْعِ الْغَيْرَةِ عَنْهَا وَطَلَبِ الْإِنْصَافِ لَهَا.
قَوْلُهُ (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ) كَذَا رَوَاهُ اللَّيْثُ وَتَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَخَالَفَهُمْ أَيُّوبُ فَقَالَ: عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ، وَذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ حَمَلَهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا اهـ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ تَرْجِيحُ رِوَايَةِ اللَّيْثِ لِكَوْنِهِ تُوبِعَ وَلِكَوْنِ الْحَدِيثِ قَدْ جَاءَ عَنِ الْمِسْوَرِ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ وَفِي الْمَنَاقِبِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ الْمِسْوَرِ وَزَادَ فِيهِ فِي الْخُمُسِ قِصَّةَ سَيْفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ سَبَبُ تَحْدِيثِ الْمِسْوَرِ، لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَا يَتَعَلَّقُ بِقِصَّةِ السَّيْفِ عَنْهُ هُنَاكَ، وَلَا أَزَالُ أَتَعَجَّبُ مِنَ الْمِسْوَرِ كَيْفَ بَالَغَ فِي تَعَصُّبِهِ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ حَتَّى قَالَ: إِنَّهُ لَوْ أَوْدَعَ عِنْدَهُ السَّيْفَ لَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنْهُ حَتَّى تَزْهَقَ رُوحُهُ، رِعَايَةً لِكَوْنِهِ ابْنَ ابْنِ فَاطِمَةَ مُحْتَجًّا بِحَدِيثِ الْبَابِ، وَلَمْ يُرَاعِ خَاطِرَهُ فِي أَنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ غَضَاضَةٌ عَلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيهَامِ غَضٍّ مِنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى خِطْبَةِ بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ عَلَى فَاطِمَةَ حَتَّى اقْتَضَى أَنْ يَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِنْكَارِ مَا وَقَعَ، بَلْ أَتَعَجَّبُ مِنَ الْمِسْوَرِ تَعَجُّبًا آخَرَ أَبْلَغَ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَبْذُلَ نَفْسَهُ دُونَ السَّيْفِ رِعَايَةً لِخَاطِرِ وَلَدِ ابْنِ فَاطِمَةَ، وَمَا بَذَلَ نَفْسَهُ دُونَ ابْنِ فَاطِمَةَ نَفْسِهِ - أَعْنِي الْحُسَيْنَ وَالِدَ عَلِيٍّ الَّذِي وَقَعَتْ لَهُ مَعَهُ الْقِصَّةُ - حَتَّى قُتِلَ بِأَيْدِي ظَلَمَةِ الْوُلَاةِ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُذْرَهُ أَنَّ الْحُسَيْنَ لَمَّا خَرَجَ إِلَى الْعِرَاقِ مَا كَانَ الْمِسْوَرُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ يَظُنُّونَ أَنَّ أَمْرَهُ يَئُولُ إِلَى مَا آلَ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ قِصَّةِ السَّيْفِ وَقِصَّةِ الْخِطْبَةِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ. قَوْلُهُ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ) فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الْمِسْوَرِ الْمَاضِيَةِ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ: يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِهِ هَذَا وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مُحْتَلِمٌ قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ: هَذَا غَلَطٌ. وَالصَّوَابُ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِلَفْظِ: كَالْمُحْتَلِمِ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: وَالْمِسْوَرُ لَمْ يَحْتَلِمْ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَيَكُونُ عُمُرُهُ عِنْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيَ سِنِينَ. قُلْتُ: كَذَا جَزَمَ بِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ وُلِدَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى فَيَكُونُ عُمُرُهُ عِنْدَ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ تِسْعَ سِنِينَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ احْتَلَمَ فِي أَوَّلِ سِنِي الْإِمْكَانِ، أَوْ يُحْمَلُ قَوْلُهُ مُحْتَلِمٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالْمُرَادُ التَّشْبِيهُ فَتَلْتَئِمُ الرِّوَايَتَانِ، وَإِلَّا فَابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ لَا يُقَالُ لَهُ مُحْتَلِمٌ وَلَا كَالْمُحْتَلِمِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالتَّشْبِيهِ أَنَّهُ كَانَ كَالْمُحْتَلِمِ فِي الْحِذْقِ
وَالْفَهْمِ وَالْحِفْظِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (إِنَّ بَنِي هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، هَاشِمِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالصَّوَابُ هِشَامٌ لِأَنَّهُ جَدُّ الْمَخْطُوبَةِ.
قَوْلُهُ (اسْتَأْذَنُوا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: اسْتَأْذَنُونِي (فِي أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) هَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ سَبَبَ الْخُطْبَةِ اسْتِئْذَانُ بَنِي هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِسَبَبٍ آخَرَ وَلَفْظُهُ: أَنَّ عَلِيًّا خَطَبَ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ عَلَى فَاطِمَةَ، فَلَمَّا سَمِعَتْ بِذَلِكَ فَاطِمَةُ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنَّ قَوْمَكَ يَتَحَدَّثُونَ كَذَا فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْهُ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ فَاطِمَةَ فَقَالَتْ: إِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لَا تَغْضَبُ لِبَنَاتِكَ، وَهَذَا عَلِيٌّ نَاكِحٌ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ، هَكَذَا أَطْلَقَتْ عَلَيْهِ اسْمَ فَاعِلٍ مَجَازًا لِكَوْنِهِ أَرَادَ ذَلِكَ وَصَمَّمَ عَلَيْهِ فَنَزَّلَتْهُ مَنْزِلَةَ مَنْ فَعَلَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ خَطَبَ وَلَا إِشْكَالَ فِيهَا، قَالَ الْمِسْوَرُ: فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي حَنْظَلَةَ: أَنَّ عَلِيًّا خَطَبَ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ لَهُ أَهْلُهَا: لَا نُزَوِّجُكَ عَلَى فَاطِمَةَ. قُلْتُ: فَكَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَبَبَ اسْتِئْذَانِهِمْ. وَجَاءَ أَيْضًا أَنَّ عَلِيًّا اسْتَأْذَنَ بِنَفْسِهِ، فَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمُخَضْرَمِينَ مِمَّنْ أَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَلْقَهُ.
قَالَ: خَطَبَ عَلِيٌّ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ إِلَى عَمِّهَا الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَاسْتَشَارَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَعَنْ حَسَبِهَا تَسْأَلُنِي؟ فَقَالَ: لَا وَلَكِنْ أَتَأْمُرُنِي بِهَا؟ قَالَ: لَا، فَاطِمَةُ مُضْغَةٌ مِنِّي، وَلَا أَحْسَبُ إِلَّا أَنَّهَا تَحْزَنُ أَوْ تَجْزَعُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا آتِي شَيْئًا تَكْرَهُهُ، وَلَعَلَّ هَذَا الِاسْتِئْذَانَ وَقَعَ بَعْدَ خُطْبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا خَطَبَ وَلَمْ يَحْضُرْ عَلِيٌّ الْخُطْبَةَ الْمَذْكُورَةَ فَاسْتَشَارَ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ لَا لَمْ يَتَعَرَّضْ بَعْدَ ذَلِكَ لِطَلَبِهَا، وَلِهَذَا جَاءَ آخِرُ حَدِيثِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: فَتَرَكَ عَلِيٌّ الْخِطْبَةَ، وَهِيَ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ: فَسَكَتَ عَلِيٌّ عَنْ ذَلِكَ النِّكَاحِ.
قَوْلُهُ (فَلَا آذَنُ، ثُمَّ لَا آذَنُ، ثُمَّ لَا آذَنُ) كَرَّرَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَأْبِيدِ مُدَّةِ مَنْعِ الْإِذْنِ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ رَفْعَ الْمَجَازِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُحْمَلَ النَّفْيُ عَلَى مُدَّةٍ بِعَيْنِهَا، فَقَالَ: ثُمَّ لَا آذَنُ أَيْ: وَلَوْ مَضَتِ الْمُدَّةُ الْمَفْرُوضَةُ تَقْدِيرًا لَا آذَنُ بَعْدَهَا ثُمَّ كَذَلِكَ أَبَدًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ مِنْ أَنَّ بَنِي هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُوا، وَبَنُو هِشَامٍ هُمْ أَعْمَامُ بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ لِأَنَّهُ أَبُو الْحَكَمِ عَمْرُو بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَقَدْ أَسْلمَ أَخَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ عَامَ الْفَتْحِ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ جَوَابُهُمَا الْمُتَقَدِّمُ لِعَلِيٍّ. وَمِمَّنْ يَدْخُلُ فِي إِطْلَاقِ بَنِي هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَقَدْ أَسْلَمَ أَيْضًا وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَاسْمُ الْمَخْطُوبَةِ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَابِ ذِكْرِ أَصْهَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ كِتَابِ الْمَنَاقِبِ، وَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَتَّابُ بْنُ أَسِيدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ لَمَّا تَرَكَهَا عَلِيٌّ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ زِيَادَةٌ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ فِي ذِكْرِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي، وَوَعَدَنِي وَوَفَّى لِي وَتَوْجِيُهُ مَا وَقَعَ مِنْ عَلِيٍّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
قَوْلُهُ (إِلَّا أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِي وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَ مَنْ يُبْغِضُ عَلِيًّا وَشَى بِهِ أَنَّهُ مُصَمِّمٌ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يَسْتَمِرُّ عَلَى الْخِطْبَةِ بَعْدَ أَنِ اسْتَشَارَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَنَعَهُ، وَسِيَاقُ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَ أَنْ تَعْلَمَ بِهِ فَاطِمَةُ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهَا ذَلِكَ وَشَكَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ أَعْلَمَهُ عَلَى أَنَّهُ تَرَكَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ: وَإِنِّي لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلَالًا، وَلَا أُحَلِّلُ حَرَامًا، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَا تُجْمَعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَبَدًا، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: مَكَانًا وَاحِدًا أَبَدًا، وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ عِنْدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَبَدًا، قَالَ ابْنُ التِّينِ: أَصَحُّ مَا تُحْمَلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْقِصَّةُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ عَلَى عَلِيٍّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ ابْنَتِهِ وَبَيْنَ ابْنَةِ أَبِي جَهْلٍ لِأَنَّهُ
عَلَّلَ بِأَنَّ ذَلِكَ يُؤْذِيهِ وَأَذِيَّتُهُ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَا أُحَرِّمُ حَلَالًا أَيْ: هِيَ لَهُ حَلَالٌ لَوْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ فَاطِمَةُ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا الَّذِي يَسْتَلْزِمُ تَأَذِّيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِتَأَذِّي فَاطِمَةَ بِهِ فَلَا، وَزَعَمَ غَيْرُهُ أَنَّ السِّيَاقَ يُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لِعَلِيٍّ، لَكِنَّهُ مَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رِعَايَةً لِخَاطِرِ فَاطِمَةَ، وَقَبِلَ هُوَ ذَلِكَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُعَدَّ فِي خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يُتَزَوَّجَ عَلَى بَنَاتِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا بِفَاطِمَةَ عليها السلام.
قَوْلُهُ (فَإِنَّمَا هيَ بَضْعَةٌ مِنِّي) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ قِطْعَةٌ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ كَمَا تَقَدَّمَ مُضْغَةٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَبِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ، وَالسَّبَبُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ أَنَّهَا كَانَتْ أُصِيبَتْ بِأُمِّهَا ثُمَّ بِأَخَوَاتِهَا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يَبْقَ لَهَا مَنْ تَسْتَأْنِسُ بِهِ مِمَّنْ يُخَفِّفُ عَلَيْهَا الْأَمْرَ مِمَّنْ تُفْضِي إِلَيْهِ بِسِرِّهَا إِذَا حَصَلَتْ لَهَا الْغَيْرَةُ.
قَوْلُهُ (يَرِيبُنِي مَا أَرَابَهَا) كَذَا هُنَا مِنْ أَرَابَ رُبَاعِيًّا، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: مَا رَابَهَا مِنْ رَابَ ثُلَاثِيًّا، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ: وَأَنَا أَتَخَوَّفُ أَنْ تُفْتَنَ فِي دِينِهَا يَعْنِي أَنَّهَا لَا تَصْبِرُ عَلَى الْغَيْرَةِ فَيَقَعُ مِنْهَا فِي حَقِّ زَوْجِهَا فِي حَالِ الْغَضَبِ مَا لَا يَلِيقُ بِحَالِهَا فِي الدِّينِ، وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ يَسُوءَهَا أَيْ تَزْوِيجُ غَيْرِهَا عَلَيْهَا، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: أَنْ يَفْتِنُوهَا وَهِيَ بِمَعْنَى أَنْ تُفْتَنَ.
قَوْلُهُ (وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا) فِي رِوَايَةِ أَبِي حَنْظَلَةَ: فَمَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: يُؤْذِينِي مَا آذَاهَا وَيَنْصِبُنِي مَا أَنْصَبَهَا، وَهُوَ بِنُونٍ وَمُهْمَلَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مِنَ النَّصَبِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ التَّعَبُ، وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنِ الْمِسْوَرِ: يُقْبِضُنِي مَا يُقْبِضُهَا وَيُبْسِطُنِي مَا يُبْسِطُهَا أَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ. وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ فَاطِمَةَ لَوْ رَضِيَتْ بِذَلِكَ لَمْ يُمْنَعْ عَلِيٌّ مِنَ التَّزْوِيجِ بِهَا أَوْ بِغَيْرِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ أَذَى مَنْ يَتَأَذَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَأَذِّيهِ، لِأَنَّ أَذَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَرَامٌ اتِّفَاقًا قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّهُ يُؤْذِيهِ مَا يُؤْذِي فَاطِمَةَ، فَكُلُّ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ فِي حَقِّ فَاطِمَةَ شَيْءٌ فَتَأَذَّتْ بِهِ فَهُوَ يُؤْذِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِشَهَادَةِ هَذَا الْخَبَرِ الصَّحِيحِ، وَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ فِي إِدْخَالِ الْأَذَى عَلَيْهَا مِنْ قَتْلِ وَلَدِهَا، وَلِهَذَا عُرِفَ بِالِاسْتِقْرَاءِ مُعَاجَلَةُ مَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ. وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَقُولُ بِسَدِّ الذَّرِيعَةِ، لِأَنَّ تَزْوِيجَ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدَةِ حَلَالٌ لِلرِّجَالِ مَا لَمْ يُجَاوِزِ الْأَرْبَعَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَالِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ فِي الْمَآلِ. وَفِيهِ بَقَاءُ عَارِ الْآبَاءِ فِي أَعْقَابِهِمْ لِقَوْلِهِ: بِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ فَإِنَّ فِيهِ إِشْعَارًا بِأَنَّ لِلْوَصْفِ تَأْثِيرًا فِي الْمَنْعِ، مَعَ أَنَّهَا هيَ كَانَتْ مُسْلِمَةً حَسَنَةَ الْإِسْلَامِ.
وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ مَنْ مَنَعَ كَفَاءَةَ مَنْ مَسَّ أَبَاهُ الرِّقُّ ثُمَّ أُعْتِقَ بِمَنْ لَمْ يَمَسَّ أَبَاهَا الرِّقُّ، وَمَنْ مَسَّهُ الرِّقُّ بِمَنْ لَمْ يَمَسَّهَا هِيَ بَلْ مَسَّ أَبَاهَا فَقَطْ. وَفِيهِ أَنَّ الْغَيْرَاءَ إِذَا خُشِيَ عَلَيْهَا أَنْ تُفْتَنَ فِي دِينِهَا كَانَ لِوَلِيِّهَا أَنْ يَسْعَى فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ كَمَا فِي حُكْمِ النَّاشِزِ، كَذَا قِيلَ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ شَرْطٌ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهَا مَنْ تَتَسَلَّى بِهِ وَيُخَفِّفُ عَنْهَا الْحَمْلَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ هُنَا يُؤْخَذُ جَوَابُ مَنِ اسْتَشْكَلَ اخْتِصَاصَ فَاطِمَةَ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْغَيْرَةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقْرَبُ إِلَى خَشْيَةِ الِافْتِتَانِ فِي الدِّينِ وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَسْتَكْثِرُ مِنَ الزَّوْجَاتِ وَتُوجَدُ مِنْهُنَّ الْغَيْرَةُ كَمَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَمَعَ ذَلِكَ مَا رَاعَى ذَلِكَ صلى الله عليه وسلم فِي حَقِّهِنَّ كَمَا رَعَاهُ فِي حَقِّ فَاطِمَةَ. وَمُحَصِّلُ الْجَوَابِ أَنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ إِذْ ذَاكَ كَمَا تَقَدَّمَ فَاقِدَةً مَنْ تَرْكَنُ إِلَيْهِ مَنْ يُؤْنِسُهَا وَيُزِيلُ وَحْشَتَهَا مِنْ أُمٍّ أَوْ أُخْتٍ، بِخِلَافِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَانَتْ تَرْجِعُ إِلَى مَنْ يَحْصُلُ لَهَا مَعَهُ ذَلِكَ وَزِيَادَةٌ عَلَيْهِ وَهُوَ زَوْجُهُنَّ صلى الله عليه وسلم لِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْمُلَاطَفَةِ وَتَطْيِيبِ الْقُلُوبِ وَجَبْرِ الْخَوَاطِرِ بِحَيْثُ إِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَرْضَى مِنْهُ لِحُسْنِ خُلُقِهِ وَجَمِيلِ خَلْقِهِ بِجَمِيعِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ بِحَيْثُ لَوْ وُجِدَ مَا يُخْشَى وُجُودُهُ مِنَ الْغَيْرَةِ لَزَالَ عَنْ قُرْبٍ، وَقِيلَ: فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ مَنَعَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ.
وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ إِكْرَامُ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْخَيْرِ أَوِ
الشَّرَفِ أَوِ الدِّيَانَةِ.
110 - بَاب يَقِلُّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرُ النِّسَاءُ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَرَى الرَّجُلَ الْوَاحِدَ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ نسوة يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ
5231 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْحَوْضِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُحَدِّثُكُمْ بِهِ أَحَدٌ غَيْرِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَكْثُرَ الْجَهْلُ، وَيَكْثُرَ الزِّنَا، وَيَكْثُرَ شُرْبُ الْخَمْرِ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ.
قَوْلُهُ (بَابُ يَقِلُّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرُ النِّسَاءُ) أَيْ فِي آخِرِ الزَّمَانِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَتَرَى الرَّجُلَ الْوَاحِدَ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ نِسْوَةً) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: امْرَأَةً وَالْأَوَّلُ عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُوفِ، وَقَوْلُهُ: يَلُذْنَ بِهِ قِيلَ: لِكَوْنِهِنَّ نِسَاءَهُ وَسَرَارِيَّهُ، أَوْ لِكَوْنِهِنَّ قَرَابَاتِهِ، أَوْ مِنَ الْجَمِيعِ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ فِي كِتَابِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ قَالَ: إِذَا عَمَّتِ الْفِتْنَةُ مَيَّزَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ، حَتَّى يَتْبَعَ الرَّجُلَ خَمْسُونَ امْرَأَةً تَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اسْتُرْنِي يَا عَبْدَ اللَّهِ آوِنِي وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى مَوْصُولًا فِي بَابِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ الرَّدِّ مِنْ كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي حَدِيثٍ أَوَّلُهُ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ هَمَّامٌ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهَمَّامٌ، وَهِشَامٌ كِلَاهُمَا مِنْ شُيُوخِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْحَوْضِيُّ، وَسَيَأْتِي فِي الْأَشْرِبَةِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هِشَامٍ.
قَوْلُهُ (إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ) الْحَدِيثَ، تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ (حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً) هَذَا لَا يُنَافِي الَّذِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ دَاخِلَةٌ فِي الْخَمْسِينَ، وَلَعَلَّ الْعَدَدَ بِعَيْنِهِ غَيْرُ مُرَادٍ، بَلْ أُرِيدَ الْمُبَالَغَةُ فِي كَثْرَةِ النِّسَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَالِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ عَدَدُ مَنْ يَلُذْنَ بِهِ وَالْخَمْسِينَ عَدَدُ مَنْ يَتْبَعُهُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنَّهُنَّ يَلُذْنَ بِهِ فَلَا مُنَافَاةَ.
قَوْلُهُ (الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ) أَيِ الَّذِي يَقُومُ بِأُمُورِهِنَّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُكَنَّى بِهِ عَنِ اتِّبَاعِهِنَّ لَهُ لِطَلَبِ النِّكَاحِ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا. وَفِي الْحَدِيثِ الْإِخْبَارُ بِمَا سَيَقَعُ فَوَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ، وَالصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مُطْلَقًا، وَأَمَّا مَا وَرَدَ مُقَدَّرًا بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْ مَبَاحِثِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.
111 - بَاب لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا ذُو مَحْرَمٍ وَالدُّخُولُ عَلَى الْمُغِيبَةِ
5232 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ الْحَمْوُ الْمَوْتُ.
5233 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً وَاكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ.
قَوْلُهُ (بَابُ لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا ذُو مَحْرَمٍ وَالدُّخُولُ عَلَى الْمُغِيبَةَ) يَجُوزُ فِي لَامِ الدُّخُولِ الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ. وَأَحَدُ رُكْنَيِ التَّرْجَمَةِ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ صَرِيحًا فِي الْبَابِ، وَالثَّانِي يُؤْخَذُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ صَرِيحًا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ: لَا تَدْخُلُوا عَلَى الْمُغْيِبَاتِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ، لَكِنَّ مُجَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: لَا يَدْخُلُ رَجُلٌ عَلَى مُغِيبَةٍ إِلَّا وَمَعَهُ رَجُلٌ أَوِ اثْنَانِ، ذَكَرَهُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ، وَالْمُغْيِبَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ ثُمَّ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ: مَنْ غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا، يُقَالُ: أَغَابَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا غَابَ زَوْجُهَا. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا.
قَوْلُهُ (عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ، وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، وَحَيْوَةَ، وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ حَدَّثَهُمْ.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي الْخَيْرِ) هُوَ مَرْثَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيُّ.
قَوْلُهُ (عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ: سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ.
قَوْلُهُ (إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ) بِالنَّصْبِ عَلَى التَّحْذِيرِ، وَهُوَ تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِ عَلَى مَحْذُورٍ لِيَحْتَرِزَ عَنْهُ كَمَا قِيلَ إِيَّاكَ وَالْأَسَدَ، وَقَوْلُهُ إِيَّاكُمْ مَفْعُولٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ اتَّقُوا، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ اتَّقُوا أَنْفُسَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا عَلَى النِّسَاءِ وَالنِّسَاءَ أَنْ يَدْخُلْنَ عَلَيْكُمْ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ بِلَفْظِ: لَا تَدْخُلُوا عَلَى النِّسَاءِ، وَتَضَمَّنَ مَنْعُ الدُّخُولِ مَنْعَ الْخَلْوَةِ بِهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
قَوْلُهُ (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ.
قَوْلُهُ (أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ) زَادَ ابْنُ وَهْبٍ فِي رِوَايَتِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: سَمِعْتُ اللَّيْثَ يَقُولُ: الْحَمْوُ أَخُو الزَّوْجِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ أَقَارِبِ الزَّوْجِ ابْنِ الْعَمِّ وَنَحْوِهِ، وَوَقَعَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بَعْدَ تَخْرِيجِ الْحَدِيثِ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: يُقَالُ هُوَ أَخُو الزَّوْجِ، كُرِهَ لَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا. قَالَ: وَمَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى نَحْوِ مَا رُوِيَ: لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّ ثَالِثُهُمَا الشَّيْطَانَ. اهـ. وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِاللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الْأَحْمَاءَ أَقَارِبُ زَوْجِ الْمَرْأَةِ كَأَبِيهِ وَعَمِّهِ وَأَخِيهِ وَابْنِ أَخِيهِ وَابْنِ عَمِّهِ وَنَحْوِهِمْ، وَأَنَّ الْأَخْتَان أَقَارِبُ زَوْجَةِ الرَّجُلِ، وَأَنَّ الْأَصْهَارَ تَقَعُ عَلَى النَّوْعَيْنِ. اهـ. وَقَدِ اقْتَصَرَ أَبُو عُبَيْدٍ وَتَبِعَهُ ابْنُ فَارِسٍ، وَالدَّاوُدِيُّ عَلَى أَنَّ الْحَمْوَ أَبُو الزَّوْجَةِ، زَادَ ابْنُ فَارِسٍ: وَأَبُو الزَّوْجِ، يَعْنِي أَنَّ وَالِدَ الزَّوْجِ حَمُو الْمَرْأَةِ وَوَالِدِ الزَّوْجَةِ حَمُو الرَّجُلِ، وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ عُرْفُ النَّاسِ الْيَوْمَ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَتَبِعَهُ الطَّبَرِيُّ، وَالْخَطَّابِيُّ مَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ، وَكَذَا نُقِلَ عَنِ الْخَلِيلِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ عَائِشَةَ: مَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَلِيٍّ إِلَّا مَا كَانَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأَحْمَائِهَا. وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ أَقَارِبُ الزَّوْجِ غَيْرُ آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ، لِأَنَّهُمْ مَحَارِمُ لِلزَّوْجَةِ يَجُوزُ لَهُمُ الْخَلْوَةُ بِهَا وَلَا يُوصَفُونَ بِالْمَوْتِ.
قَالَ: وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْأَخُ وَابْنُ الْأَخِ وَالْعَمُّ وَابْنُ الْعَمِّ وَابْنُ الْأُخْتِ وَنَحْوُهُمْ مِمَّا يَحِلُّ لَهَا تَزْوِيجُهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُتَزَوِّجَةً، وَجَرَتِ الْعَادَةُ بِالتَّسَاهُلِ فِيهِ فَيَخْلُو الْأَخُ بِامْرَأَةِ أَخِيهِ فَشَبَّهَهُ بِالْمَوْتِ وَهُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ اهـ. وَقَدْ جَزَمَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَتَبِعَهُ الْمَازِرِيُّ بِأَنَّ الْحَمْوَ أَبُو الزَّوْجِ، وَأَشَارَ الْمَازِرِيُّ إِلَى أَنَّهُ ذُكِرَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَنْعِ غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ وَرَدَّهُ النَّوَوِيُّ فَقَالَ: هَذَا كَلَامٌ فَاسِدٌ مَرْدُودٌ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ اهـ. وَسَيَظْهَرُ فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي تَفْسِيرِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ الْحَمْوُ الْمَوْتُ مَا تَبَيَّنَ مِنْهُ أَنَّ كَلَامَ الْمَازِرِيُّ لَيْسَ بِفَاسِدٍ، وَاخْتُلِفَ فِي
ضَبْطِ الْحَمْوِ فَصَرَّحَ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَمْءٌ بِالْهَمْزِ، وَأَمَّا الْخَطَّابِيُّ فَضَبَطَهُ بِوَاوٍ بِغَيْرِ هَمْزٍ لِأَنَّهُ قَالَ: وَزْنَ دَلْوٍ، وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ، وَابْنُ الْأَثِيرِ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ الَّذِي ثَبَتَ عِنْدَنَا فِي رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ، وَفِيهِ لُغَتَانِ أُخْرَيَانِ إِحْدَاهُمَا حَمٌ بِوَزْنِ أَخٍ، وَالْأُخْرَى حَمَى بِوَزْنِ عَصَا، وَيَخْرُجُ مِنْ ضَبْطِ الْمَهْمُوزِ بِتَحْرِيكِ الْمِيمِ لُغَةٌ أُخْرَى خَامِسَةٌ حَكَاهَا صَاحِبُ الْمُحْكَمِ.
قَوْلُهُ (الْحَمْوُ الْمَوْتُ) قِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ الْخَلْوَةَ بِالْحَمْوِ قَدْ تُؤَدِّي إِلَى هَلَاكِ الدِّينِ إِنْ وَقَعَتِ الْمَعْصِيَةُ، أَوْ إِلَى الْمَوْتِ إِنْ وَقَعَتِ الْمَعْصِيَةُ وَوَجَبَ الرَّجْمُ، أَوْ إِلَى هَلَاكِ الْمَرْأَةِ بِفِرَاقِ زَوْجِهَا إِذَا حَمَلَتْهُ الْغَيْرَةُ عَلَى تَطْلِيقِهَا، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّ خَلْوَةَ الرَّجُلِ بِامْرَأَةِ أَخِيهِ أَوِ ابْنِ أَخِيهِ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمَوْتِ، وَالْعَرَبُ تَصِفُ الشَّيْءَ الْمَكْرُوهَ بِالْمَوْتِ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: هِيَ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ مَثَلًا كَمَا تَقُولُ: الْأَسَدُ الْمَوْتُ، أَيْ لِقَاؤُهُ فِيهِ الْمَوْتُ، وَالْمَعْنَى احْذَرُوهُ كَمَا تَحْذَرُونَ الْمَوْتَ. وَقَالَ صَاحِبُ مَجْمَعِ الْغَرَائِبِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا خَلَتْ فَهِيَ مَحَلُّ الْآفَةِ وَلَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا أَحَدٌ فَلْيَكُنْ حَمْوُهَا الْمَوْتَ، أَيْ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا إِلَّا الْمَوْتُ كَمَا قِيلَ: نِعْمَ الصِّهْرُ الْقَبْرُ، وَهَذَا لَائِقٌ بِكَمَالِ الْغَيْرَةِ وَالْحَمِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَعْنَى قَوْلِهِ الْحَمْوُ الْمَوْتُ أَيْ فَلْيَمُتْ وَلَا يَفْعَلْ هَذَا. وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ فَقَالَ: هَذَا كَلَامٌ فَاسِدٌ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الْخَلْوَةَ بِقَرِيبِ الزَّوْجِ أَكْثَرُ مِنَ الْخَلْوَةِ بِغَيْرِهِ، وَالشَّرُّ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ وَالْفِتْنَةُ بِهِ أَمْكَنُ لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَرْأَةِ وَالْخَلْوَةِ بِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ. وَقَالَ عِيَاضٌ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْخَلْوَةَ بِالْأَحْمَاءِ مُؤَدِّيَةٌ إِلَى الْفِتْنَةِ وَالْهَلَاكِ فِي الدِّينِ فَجَعَلَهُ كَهَلَاكِ الْمَوْتِ وَأَوْرَدَ الْكَلَامَ مَوْرِدَ التَّغْلِيظِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: الْمَعْنَى أَنَّ دُخُولَ قَرِيبِ الزَّوْجِ عَلَى امْرَأَةِ الزَّوْجِ يُشْبِهُ الْمَوْتَ فِي الِاسْتِقْبَاحِ وَالْمَفْسَدَةِ، أَيْ فَهُوَ مُحَرَّمٌ مَعْلُومُ التَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا بَالَغَ فِي الزَّجْرِ عَنْهُ وَشَبَّهَهُ بِالْمَوْتِ لِتَسَامُحِ النَّاسِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ لِإِلْفِهِمْ بِذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ مِنَ الْمَرْأَةِ فَخَرَّجَ هَذَا مَخْرَجَ قَوْلِ الْعَرَبِ: الْأَسَدُ الْمَوْتُ، وَالْحَرْبُ الْمَوْتُ، أَيْ لِقَاؤُهُ يُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ دُخُولُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ قَدْ يُفْضِي إِلَى مَوْتِ الدِّينِ أَوْ إِلَى مَوْتِهَا بِطَلَاقِهَا عِنْدَ غَيْرَةِ الزَّوْجِ أَوْ إِلَى الرَّجْمِ إِنْ وَقَعَتِ الْفَاحِشَةُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: الْمَعْنَى أَنَّ خَلْوَةَ الْمَحْرَمِ بِهَا أَشَدُّ مِنْ خَلْوَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا حَسَّنَ لَهَا أَشْيَاءَ وَحَمَلَهَا عَلَى أُمُورٍ تَثْقُلُ عَلَى الزَّوْجِ مِنِ الْتِمَاسِ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ، فَتَسُوءُ الْعِشْرَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ لَا يُؤْثِرُ أَنْ يَطَّلِعَ وَالِدُ زَوْجَتِهِ أَوْ أَخُوهَا عَلَى بَاطِنِ حَالِهِ وَلَا عَلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ اهـ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْحَمْوُ الْمَوْتُ، أَيْ: لَابُدَّ مِنْهُ وَلَا يُمْكِنُ حَجْبُهُ عَنْهَا، كَمَا أَنَّهُ لَابُدَّ مِنَ الْمَوْتِ، وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْأَخِيرِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ.
تَنْبِيهٌ:
مَحْرَمُ الْمَرْأَةِ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ إِلَّا أُمَّ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ وَالْمُلَاعَنَةِ فَإِنَّهُمَا حَرَامَانِ عَلَى التَّأْبِيدِ وَلَا مَحْرَمِيَّةَ هُنَاكَ، وَكَذَا أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَخْرَجَهُنَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ فِي التَّعْرِيفِ: بِسَبَبٍ مُبَاحٍ لَا لِحُرْمَتِهَا. وَخَرَجَ بِقَيْدِ التَّأْبِيدِ أُخْتُ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتُهَا وَخَالَتُهَا وَبِنْتُهَا إِذَا عَقَدَ عَلَى الْأُمِّ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا.
الحديث الثاني
قَوْلُهُ (سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَقَوْلُهُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ. وَقَدْ وَقَعَ فِي الْجِهَادِ بَعْضُ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَسُفْيَانُ الْمَذْكُورُ هُوَ الثَّوْرِيُّ لَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مُسْتَوْفَاةً فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ، وَسِيَاقُهُ هُنَاكَ أَتَمُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
112 - بَاب مَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ عِنْدَ النَّاسِ
5234 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَخَلَا بِهَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكُم لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ.
قَوْلُهُ (بَابُ مَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ عِنْدَ النَّاسِ) أَيْ لَا يَخْلُو بِهَا بِحَيْثُ تَحْتَجِبُ أَشْخَاصُهُمَا عَنْهُمْ بَلْ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُونَ كَلَامَهُمَا إِذَا كَانَ بِمَا يُخَافِتُ بِهِ كَالشَّيْءِ الَّذِي تَسْتَحْيِ الْمَرْأَةُ مِنْ ذِكْرِهِ بَيْنَ النَّاسِ. وَأَخَذَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ فِي التَّرْجَمَةِ: عِنْدَ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: فَخَلَا بِهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ أَوْ فِي بَعْضِ السِّكَكِ، وَهِيَ الطُّرُقُ الْمَسْلُوكَةُ الَّتِي لَا تَنْفَكُّ عَنْ مُرُورِ النَّاسِ غَالِبًا.
قَوْلُهُ (عَنْ هِشَامٍ) هُوَ ابْنُ زَيْدِ بْنِ أَنَسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَضَائِلِ الْأَنْصَارِ مِنْ طَرِيقِ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ، عَنْ شُعْبَةَ أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ زَيْدٍ وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ (جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَادَ فِي رِوَايَةِ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ: وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَكَلَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ (فَخَلَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: لَمْ يُرِدْ أَنَسٌ أَنَّهُ خَلَا بِهَا بِحَيْثُ غَابَ عَنْ أَبْصَارِ مَنْ كَانَ مَعَهُ، وَإِنَّمَا خَلَا بِهَا بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ مَنْ حَضَرَ شَكْوَاهَا وَلَا مَا دَارَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْكَلَامِ، وَلِهَذَا سَمِعَ أَنَسٌ آخِرَ الْكَلَامِ فَنَقَلَهُ وَلَمْ يَنْقُلْ مَا دَارَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ اهـ. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، فَقَالَ: يَا أُمَّ فُلَانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ نَحْوَ هَذَا السِّيَاقِ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ. قَوْلُهُ (فَقَالَ وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ) زَادَ فِي رِوَايَةِ بَهْزٍ: مَرَّتَيْنِ، وَأَخْرَجَهُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَفِي الْحَدِيثِ مَنْقَبَةٌ لِلْأَنْصَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَضَائِلِ الْأَنْصَارِ تَوْجِيهُ قَوْلِهِ: أَنْتُمْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ حَدِيثُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ مِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ أَيْضًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ، وَفِيهِ سَعَةُ حِلْمِهِ وَتَوَاضُعِهِ صلى الله عليه وسلم وَصَبْرِهِ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَفِيهِ أَنَّ مُفَاوَضَةَ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ سِرًّا لَا يَقْدَحُ فِي الدِّينِ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ: وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ صلى الله عليه وسلم يَمْلِكُ إِرْبَهُ.
113 - بَاب مَا يُنْهَى مِنْ دُخُولِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْمَرْأَةِ
5235 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَهَا، وَفِي الْبَيْتِ مُخَنَّثٌ، فَقَالَ الْمُخَنَّثُ لِأَخِي أُمِّ سَلَمَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ: إِنْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمْ الطَّائِفَ غَدًا أَدُلُّكَ عَلَى ابنة غَيْلَانَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَدْخُلَنَّ هَذَا عَلَيْكُم.
قَوْلُهُ (بَابُ مَا يُنْهَى مِنْ دُخُولِ الْمُتَشَبِّهِينَ بالنساء عَلَى الْمَرْأةِ) أَيْ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا وَحين تَكُونُ مُسَافِرةً مَثَلًا.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدَةُ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ (عَنْ هِشَامٍ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: عَنْ هِشَامٍ فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ هَكَذَا قَالَ أَصْحَابُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وَهُوَ الْمَحْفُوظُ
وَسَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: عَنْ هِشَامٍ أَنَّ عُرْوَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهَا وَخَالَفَهُمْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامٍ فَقَالَ: عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، وَأَرْسَلَهُ مَالِكٌ فَلَمْ يَذْكُرْ فَوْقَ عُرْوَةَ أَحَدًا أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ، وَرِوَايَةُ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَهَا وَفِي الْبَيْتِ) أَيِ الَّتِي هِيَ فِيهِ.
قَوْلُهُ (مُخَنَّثٌ) تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ أَنَّ اسْمَهُ هِيتُ، وَأَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ ذَكَرَهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ، وَذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ عَنْ حَبِيبٍ كَاتِبِ مَالِكٍ قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: إِنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ زَادَ فِي حَدِيثِ بِنْتِ غَيْلَانَ أَنَّ الْمُخَنَّثَ هِيتُ وَلَيْسَ فِي كِتَابِكَ هِيتُ، فَقَالَ: صَدَقَ هُوَ كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَ الْجُوزَجَانِيُّ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ مُخَنَّثٌ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهُ هِيتُ، وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ هِيتًا كَانَ يَدْخُلُ الْحَدِيثَ. وَرَوَى الْمُسْتَغْفِرِيُّ مِنْ مُرْسَلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفَى هِيتًا فِي كَلِمَتَيْنِ تَكَلَّمَ بِهِمَا مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ، قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: إِذَا افْتَتَحْتُمُ الطَّائِفَ غَدًا فَعَلَيْكَ بِابْنَةِ غَيْلَانَ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ، وَزَادَ: اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ رَغِبُوا عَنْ خَلْقِ اللَّهِ وَتَشَبَّهُوا بِالنِّسَاءِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالدَّوْرَقِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ اسْمَ الْمُخَنَّثِ هِيتٌ أَيْضًا، لَكِنْ ذَكَرَ فِيهِ قِصَّةً أُخْرَى.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي أَنَّ اسْمَ الْمُخَنَّثِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مَاتِعٌ وَهُوَ بِمُثَنَّاةٍ، وَقِيلَ بِنُونٍ، فَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ: كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ مَوْلًى لِخَالَتِهِ فَاخِتَةَ بِنْتِ عَمْرِو بْنِ عَائِذٍ مُخَنَّثٌ يُقَالُ لَهُ مَاتِعٌ، يَدْخُلُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَكُونُ فِي بَيْتِهِ لَا يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يَفْطِنُ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ مِمَّا يَفْطِنُ لَهُ الرِّجَالُ وَلَا أَنَّ لَهُ إِرْبَةً فِي ذَلِكَ، فَسَمِعَهُ يَقُولُ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: يَا خَالِدُ إِنِ افْتَتَحْتُمُ الطَّائِفَ فَلَا تَنْفَلِتَنَّ مِنْكَ بَادِيَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ: لَا أُرَى هَذَا الْخَبِيثَ يَفْطِنُ لِمَا أَسْمَعُ، ثُمَّ قَالَ لِنِسَائِهِ: لَا تُدْخِلَنَّ هَذَا عَلَيْكُنَّ، فَحُجِبَ عَنْ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَحَكَى أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي كَوْنِ مَاتِعٍ لَقَبُ هِيتٍ أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ أَنَّهُمَا اثْنَانِ خِلَافًا، وَجَزَمَ الْوَاقِدِيُّ بِالتَّعَدُّدِ فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَ هِيتٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ مَاتِعٌ مَوْلَى فَاخِتَةَ، وَذُكِرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفَاهُمَا مَعًا إِلَى الْحِمَى، وَذَكَرَ الْبَارُودِيُّ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ: أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِمُخَنَّثٍ كَانَ بِالْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهُ أَنَّةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ: أَلَا تَدُلُّنَا عَلَى امْرَأَةٍ نَخْطُبُهَا عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ؟
قَالَ: بَلَى، فَوَصَفَ امْرَأَةً تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، فَسَمِعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا أَنَّةُ اخْرُجْ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ وَلْيَكُنْ بِهَا مَنْزِلُكَ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ اسْمَ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ هِيتٌ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَوَارَدُوا فِي الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ ضَبْطُ هِيتٍ، وَوَقَعَ فِي أَوَّلِ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُخَنَّثٌ وَكَانُوا يَعُدُّونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ وَهُوَ يَنْعَتُ امْرَأَةً الْحَدِيثَ، وَعُرِفَ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ تَسْمِيَةُ الْمَرْأَةِ وَأَنَّهَا أُمُّ سَلَمَةَ وَالْمُخَنَّثُ بِكَسْرِ النُّونِ وَبِفَتْحِهَا مَنْ يُشْبِهُ خَلْقُهُ النِّسَاءَ فِي حَرَكَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ لَوْمٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَكَلَّفَ إِزَالَةَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بِقَصْدٍ مِنْهُ وَتَكَلُّفٍ لَهُ فَهُوَ الْمَذْمُومُ وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ مُخَنَّثٍ سَوَاءٌ فَعَلَ الْفَاحِشَةَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: الْمُخَنَّثُ هُوَ الْمُؤَنَّثُ مِنَ الرِّجَالِ
وَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ، مَأْخُوذٌ مِنَ التَّكَسُّرِ فِي الْمَشْيِ وَغَيْرِهِ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَدَبِ لَعْنُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِمُخَنَّثٍ قَدْ خَضَّبَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ، فَنَفَاهُ إِلَى النَّقِيعِ، فَقِيلَ: أَلَا تَقْتُلُهُ؟ فَقَالَ: إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ.
قَوْلُهُ (فَقَالَ لِأَخِي أُمِّ سَلَمَةَ) تَقَدَّمَ شَرْحُ حَالِهِ فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ، وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى تَعَدُّدِ الْقَوْلِ مِنْهُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا: لِأَخِي عَائِشَةَ، وَلِأَخِي أُمِّ سَلَمَةَ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمَوْصُوفَةَ حَصَلَتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الطَّائِفَ لَمْ يُفْتَحْ حِينَئِذٍ، وَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ فِي حَالِ الْحِصَارِ، وَلَمَّا أَسْلَمَ غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ وَأَسْلَمَتْ بِنْتُهُ بَادِيَةُ تَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَقُدِّرَ أَنَّهَا اسْتُحِيضَتْ عِنْدَهُ وَسَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَتَزَوَّجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ لَيْلَى بِنْتَ الْجُودِيِّ وَقِصَّتُهُ مَعَهَا مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ وَقَعَ حَدِيثٌ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً بِمَكَّةَ فَقَالَ: مَنْ يُخْبِرُنِي عَنْهَا؟ فَقَالَ مُخَنَّثٌ يُقَالُ لَهُ هِيتٌ: أَنَا أَصِفُهَا لَكَ. فَهَذِهِ قِصَصٌ وَقَعَتْ لِهِيتٍ.
قَوْلُهُ (إِنْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمُ الطَّائِفَ غَدًا) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ فِي أَوَّلِهِ: وَهُوَ مُحَاصِرٌ الطَّائِفَ يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ وَاضِحًا. قَوْلُهُ (فَعَلَيْكَ) هُوَ إِغْرَاءٌ مَعْنَاهُ احْرِصْ عَلَى تَحْصِيلِهَا وَالْزَمْهَا.
قَوْلُهُ (غَيْلَانُ) فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: لَوْ قَدْ فُتِحَتْ لَكُمُ الطَّائِفُ لَقَدْ أَرَيْتُكَ بَادِيَةَ بِنْتَ غَيْلَانَ وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ بَادِيَةَ فَالْأَكْثَرُ بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ، وَقِيلَ بِنُونٍ بَدَلَ التَّحْتَانِيَّةِ حَكَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَلِبَادِيَةَ ذِكْرٌ فِي الْمَغَازِي، ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ الطَّائِفَ أَعْطِنِي حُلِيَّ بَادِيَةَ بِنْتِ غَيْلَانَ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْلَى نِسَاءِ ثَقِيفٍ، وَغَيْلَانُ هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ بْنِ مُعَتِّبٍ بِمُهْمَلَةِ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ ثَقِيلَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ابْنُ مَالِكٍ الثَّقَفِيُّ، وَهُوَ الَّذِي أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعًا، وَكَانَ مِنْ رُؤَسَاءِ ثَقِيفٍ وَعَاشَ إِلَى أَوَاخِرِ خِلَافَةِ عُمَرَ رضي الله عنه.
قَوْلُهُ (تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ) قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، عَنْ مَالِكٍ: مَعْنَاهُ أَنَّ أَعْكَانَهَا يَنْعَطِفُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَهِيَ فِي بَطْنِهَا أَرْبَعَ طَرَائِقَ وَتَبْلُغُ أَطْرَافُهَا إِلَى خَاصِرَتِهَا فِي كُلِّ جَانِبٍ أَرْبَعٌ، وَلِإِرَادَةِ الْعُكَنِ ذَكَرَ الْأَرْبَعَ وَالثَّمَانِ. فَلَوْ أَرَادَ الْأَطْرَافَ لَقَالَ بِثَمَانِيَةٍ. ثُمَّ رَأَيْتُ فِي بَابِ إِخْرَاجِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ مِنَ الْبُيُوتِ عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ يَعْنِي بِأَرْبَعِ عُكَنٍ بِبَطْنِهَا فَهِيَ تُقْبِلُ بِهِنَّ، وَقَوْلُهُ: وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، يَعْنِي: أَطْرَافَ هَذِهِ الْعُكَنِ الْأَرْبَعِ لِأَنَّهَا مُحِيطَةٌ بِالْجَنْبِ حِينَ يَتَجَعَّدُ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا قَالَ بِثَمَانٍ وَلَمْ يَقُلْ بِثَمَانِيَةٍ - وَوَاحِدُ الْأَطْرَافِ مُذَكَّرٌ - لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ثَمَانِيَةَ أَطْرَافٍ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ لِقَوْلِهِ ثَمَانٍ بِدُونِ الْهَاءِ تَوْجِيهَيْنِ: إِمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يُصَرِّحْ بِلَفْظِ الْأَطْرَافِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ أَرَادَ الْعُكَنَ، وَتَفْسِيرُ مَالِكٍ الْمَذْكُورُ تَبِعَهُ فِيهِ الْجُمْهُورُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ لَهَا فِي بَطْنِهَا أَرْبَعَ عُكَنٍ فَإِذَا أَقْبَلَتْ رُؤِيَتْ مَوَاضِعُهَا بَارِزَةً مُتَكَسِّرًا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ كَانَتْ أَطْرَافُ هَذِهِ الْعُكَنِ الْأَرْبَعِ عِنْدَ مُنْقَطِعِ جَنْبَيْهَا ثَمَانِيَةً.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ وَصَفَهَا بِأَنَّهَا مَمْلُوءَةُ الْبَدَنِ بِحَيْثُ يَكُونُ لِبَطْنِهَا عُكَنٌ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلسَّمِينَةِ مِنَ النِّسَاءِ، وَجَرَتْ عَادَةُ الرِّجَالِ غَالِبًا فِي الرَّغْبَةِ فِيمَنْ تَكُونُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ: إِنْ أَقْبَلَتْ قُلْتَ تَمْشِي بِسِتٍّ، وَإِنْ أَدْبَرَتْ قُلْتَ تَمْشِي بِأَرْبَعٍ كَأَنَّهُ يَعْنِي يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا وَطَرَفَيْ ذَاكَ مِنْهَا مُقْبِلَةً وَرُدَّ فِيهَا مُدْبِرَةً، وَإِنَّمَا نَقَصَ إِذَا أَدْبَرَتْ لِأَنَّ الثَّدْيَيْنِ يَحْتَجِبَانِ حِينَئِذٍ. وَذَكَرَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ فِي الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ زِيَادَةً بَعْدَ قَوْلِهِ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ: بِثَغْرٍ كَالْأُقْحُوَانِ، إِنْ قَعَدَتْ تَثَنَّتْ، وَإِنْ تَكَلَّمَتْ تَغَنَّتْ، وَبَيْنَ رِجْلَيْهَا مِثْلُ الْإِنَاءِ الْمَكْفُوءِ، مَعَ شِعْرٍ آخَرَ. وَزَادَ الْمَدِينِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلًا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: أَسْفَلُهَا
كَثِيبٌ وَأَعْلَاهَا عَسِيبٌ.
قَوْلُهُ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَدْخُلَنَّ هَذَا عَلَيْكُمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ عَلَيْكُنَّ وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَزَادَ فِي آخِرِ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا أُرَى هَذَا يَعْرِفُ مَا هَهُنَا لَا يَدْخُلُ عَلَيْكُنَّ. قَالَتْ فَحَجَبُوهُ، وَزَادَ أَبُو يَعْلَى فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي آخِرِهِ: وَأَخْرَجَهُ فَكَانَ بِالْبَيْدَاءِ يَدْخُلُ كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ يَسْتَطْعِمُ، وَزَادَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ فِي حَدِيثِهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَقَدْ غَلْغَلْتَ النَّظَرَ إِلَيْهَا يَا عَدُوَّ اللَّهِ، ثُمَّ أَجَلَاهُ عَنِ الْمَدِينَةِ إِلَى الْحِمَى، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ: إِنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً بِمَكَّةَ، فَقَالَ هِيتٌ: أَنَا أَنْعَتُهَا لَكَ: إِذَا أَقْبَلَتْ قُلْتَ تَمْشِي بِسِتٍّ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ قُلْتَ تَمْشِي بِأَرْبَعٍ. وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى سَوْدَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا أُرَاهُ إِلَّا مُنْكَرًا فَمَنَعَهُ.
وَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَفَاهُ، وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ الْمَذْكُورَةِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا لَكَ قَاتَلَكَ اللَّهُ، إِنْ كُنْتُ لَأَحْسَبُكَ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ، وَسَيَّرَهُ إِلَى خَاخٍ بِمُعْجَمَتَيْنِ وَقَدْ ضُبِطَتْ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي حَمَلَتْ كِتَابَ حَاطِبٍ إِلَى قُرَيْشٍ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا حَجَبَهُ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى النِّسَاءِ لَمَّا سَمِعَهُ يَصِفُ الْمَرْأَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي تُهَيِّجُ قُلُوبَ الرِّجَالِ فَمَنَعَهُ لِئَلَّا يَصِفَ الْأَزْوَاجَ لِلنَّاسِ فَيَسْقُطُ مَعْنَى الْحِجَابَ اهـ، وَفِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ حَجَبَهُ لِذَاتِهِ أَيْضًا لِقَوْلِهِ: لَا أُرَى هَذَا يَعْرِفُ مَا هَهُنَا وَلِقَوْلِهِ: وَكَانُوا يَعُدُّونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أُولِي الْإِرْبَةِ فَنَفَاهُ لِذَلِكَ وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ حَجْبُ النِّسَاءِ عَمَّنْ يَفْطِنُ لِمَحَاسِنِهِنَّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي إِبْعَادِ مَنْ يُسْتَرَابُ بِهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَجَازَ بَيْعَ الْعَيْنِ الْمَوْصُوفَةِ بِدُونِ الرُّؤْيَةِ لِقِيَامِ الصِّفَةِ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ فِي بَيْعِ جَارِيَةٍ عَلَى مَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الصِّفَةِ لَمْ يَكْفِ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ اتِّفَاقًا فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ. قُلْتُ: إِنَّمَا أَرَادَ الْمُهَلَّبُ أَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْوَصْفَ يَقُومُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ فَإِذَا اسْتَوْعَبَ الْوَصْفَ حَتَّى قَامَ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ الْمُعْتَبَرَةِ أَجْزَأَ، هَذَا مُرَادُهُ، وَانْتِزَاعُهُ مِنَ الْحَدِيثِ ظَاهِرٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا تَعْزِيرُ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الْبُيُوتِ وَالنَّفْيِ إِذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ طَرِيقًا لِرَدْعِهِ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ وُجُوبُ ذَلِكَ، وَتَشَبُّهُ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ وَالرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ مِنْ قَاصِدٍ مُخْتَارٍ حَرَامٌ اتِّفَاقًا، وَسَيَأْتِي لَعْنُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ.
114 - بَاب نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْحَبَشِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ
5236 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، عَنْ عِيسَى، عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِي أَسْأَمُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ، الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ.
قَوْلُهُ (بَابُ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ) وَظَاهِرُ التَّرْجَمَةِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى جَوَازِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْأَجْنَبِيِّ بِخِلَافِ عَكْسِهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ شَهِيرَةٌ، وَاخْتُلِفَ التَّرْجِيحُ فِيهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَحَدِيثُ الْبَابِ يُسَاعِدُ مَنْ أَجَازَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْعِيدِ جَوَابُ النَّوَوِيِّ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ صَغِيرَةً دُونَ الْبُلُوغِ أَوْ كَانَ قَبْلَ الْحِجَابِ، وَقَوَّاهُ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ لَكِنْ تَقَدَّمَ مَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ وَأَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ قُدُومِ وَفْدِ الْحَبَشَةِ وَأَنَّ قُدُومَهُمْ كَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَلِعَائِشَةَ يَوْمَئِذٍ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً،
فَكَانَتْ بَالِغَةً، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْحِجَابِ، وَحُجَّةُ مَنْ مَنَعَ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورَ: أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا، وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ نَبْهَانَ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْهَا وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ، وَأَكْثَرُ مَا عُلِّلَ بِهِ انْفِرَادُ الزُّهْرِيِّ بِالرِّوَايَةِ عَنْ نَبْهَانَ وَلَيْسَتْ بِعِلَّةٍ قَادِحَةٍ، فَإِنَّ مَنْ يَعْرِفُهُ الزُّهْرِيُّ وَيَصِفُهُ بِأَنَّهُ مُكَاتَبُ أُمِّ سَلَمَةَ وَلَمْ يُجَرِّحْهُ أَحَدٌ لَا تُرَدُّ رِوَايَتُهُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ احْتِمَالُ تَقَدُّمِ الْوَاقِعَةِ أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي قِصَّةِ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ نَبْهَانُ شَيْءٌ يَمْنَعُ النِّسَاءَ مِنْ رُؤْيَتِهِ لِكَوْنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ أَعْمَى فَلَعَلَّهُ كَانَ مِنْهُ شَيْءٌ يَنْكَشِفُ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ، وَيُقَوِّي الْجَوَازَ اسْتِمْرَارُ الْعَمَلِ عَلَى جَوَازِ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ وَالْأَسْفَارِ مُنْتَقِبَاتٍ لِئَلَّا
يَرَاهُنَّ الرِّجَالُ، وَلَمْ يُؤْمَرِ الرِّجَالُ قَطُّ بِالِانْتِقَابِ لِئَلَّا يَرَاهُمُ النِّسَاءُ، فَدَلَّ عَلَى تَغَايُرِ الْحُكْمِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَبِهَذَا احْتَجَّ الْغَزَالِيُّ عَلَى الْجَوَازِ، فَقَالَ: لَسْنَا نَقُولُ إِنَّ وَجْهَ الرَّجُلِ فِي حَقِّهَا عَوْرَةٌ كَوَجْهِ الْمَرْأَةِ فِي حَقِّهِ بَلْ هُوَ كَوَجْهِ الْأَمْرَدِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ فَيَحْرُمُ النَّظَرُ عِنْدَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ فَقَطْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فَلَا، إِذْ لَمْ تَزَلِ الرِّجَالُ عَلَى مَمَرِّ الزَّمَانِ مَكْشُوفِي الْوُجُوهِ وَالنِّسَاءُ يَخْرُجْنَ مُنْتَقِبَاتٍ، فَلَوِ اسْتَوَوْا لَأُمِرَ الرِّجَالُ بِالتَّنَقُّبِ أَوْ مُنِعْنَ مِنَ الْخُرُوجِ اهـ. وَتَقَدَّمَتْ سَائِرُ مَبَاحِثِ حَدِيثِ الْبَابِ فِي أَبْوَابِ الْعِيدَيْنِ.
115 - بَاب خُرُوجِ النِّسَاءِ لِحَوَائِجِهِنَّ
5237 -
حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ لَيْلًا فَرَآهَا عُمَرُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: إِنَّكِ وَاللَّهِ يَا سَوْدَةُ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا، فَرَجَعَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ وَهُوَ فِي حُجْرَتِي يَتَعَشَّى، وَإِنَّ فِي يَدِهِ لَعَرْقًا، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فَرُفِعَ عَنْهُ وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ أَذِنَ اللَّهُ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَوَائِجِكُنَّ.
قَوْلُهُ (بَابُ خُرُوجِ النِّسَاءِ لِحَوَائِجِهِنَّ) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: فِي صِيغَةِ هَذَا الْجَمْعِ نَظَرٌ لِأَنَّ جَمْعَ الْحَاجَةِ حَاجَاتٌ وَجَمْعُ الْجَمْعِ حَاجٌّ وَلَا يُقَالُ حَوَائِجُ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ فَأَجَادَ وَقَالَ: الْحَوَائِجُ جَمْعُ حَاجَةٍ أَيْضًا، وَدَعْوَى أَنَّ حَاجٌّ جَمْعُ الْجَمْعِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ: خَرَجَتْ سَوْدَةُ لِحَاجَتِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ وَتَوْجِيهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِهَا الْآخَرِ فِي نُزُولِ الْحِجَابِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَذَكَرْتُ هُنَاكَ التَّعَقُّبَ عَلَى عِيَاضٍ فِي زَعْمِهِ أَنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِنَّ إِبْرَازُ أَشْخَاصِهِنَّ وَلَوْ كُنَّ مُنْتَقِبَاتٍ مُتَلَفِّفَاتٍ، وَالْحَاصِلُ فِي رَدِّ قَوْلِهِ كَثْرَةُ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ أَنَّهُنَّ كُنَّ يَحْجُجْنَ وَيَطُفْنَ وَيَخْرُجْنَ إِلَى الْمَسَاجِدِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَعْدَهُ.
116 - بَاب اسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ
5238 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَأْذَنَتْ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا.
قَوْلُهُ (بَابُ اسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: تَرْجَمَ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ وَاقْتَصَرَ فِي الْبَابُ عَلَى حَدِيثِ الْمَسْجِدِ، وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّهُ قَاسَهُ عَلَيْهِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، وَيُشْتَرَطُ
فِي الْجَمِيعِ أَمْنُ الْفِتْنَةِ.
قَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.
117 - بَاب مَا يَحِلُّ مِنْ الدُّخُولِ وَالنَّظَرِ إِلَى النِّسَاءِ فِي الرَّضَاعِ
5239 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَ عَمِّي مِنْ الرَّضَاعَةِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيَّ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّهُ عَمُّكِ فَأْذَنِي لَهُ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ عَمُّكِ فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ ضُرِبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ.
قَوْلُهُ (بَابُ مَا يَحِلُّ مِنَ الدُّخُولِ وَالنَّظَرِ إِلَى النِّسَاءِ فِي الرَّضَاعِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَ عَمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ مُسْتَوْفَاةً فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي أَنَّ لِلرَّضَاعِ حُكْمَ النَّسَبِ مِنْ إِبَاحَةِ الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ.
118 - بَاب لَا تُبَاشِرْ الْمَرْأَةُ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا
5240 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تُبَاشِرُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا.
[الحديث 5240 - طرفه في: 5241]
5241 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيقٌ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تُبَاشِرْ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا.
قَوْلُهُ (بَابُ لَا تُبَاشِرِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتُهَا لِزَوْجِهَا) كَذَا اسْتَعْمَلَ لَفْظَ الْحَدِيثِ فِي التَّرْجَمَةِ بِغَيْرِ زِيَادَةٍ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ مِنْ وَجْهَيْنِ: مَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالْأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي شَقِيقٌ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَشَقِيقٌ هُوَ أَبُو وَائِلٍ.
قَوْلُهُ (لَا تُبَاشِرِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ) زَادَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ.
قَوْلُهُ (فَتَنْعَتُهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا) قَالَ الْقَابِسِيُّ: هَذَا أَصْلٌ لِمَالِكٍ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ، فَإِنَّ الْحِكْمَةَ فِي هَذَا النَّهْيِ خَشْيَةُ أَنْ يُعْجِبَ الزَّوْجَ الْوَصْفُ الْمَذْكُورُ فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى تَطْلِيقِ الْوَاصِفَةِ أَوْ الِافْتِتَانِ بِالْمَوْصُوفَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ: لَا تُبَاشِرُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلَا الرَّجُلُ الرَّجُلَ. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ ثَبَتَتْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا وَلَفْظُهُ: لَا يَنْظُرِ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلَا تَنْظُرِ الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُفِضِ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ تَحْرِيمُ نَظَرِ الرَّجُلِ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَكَذَا الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَنَبَّهَ صلى الله عليه وسلم بِنَظَرِ الرَّجُلِ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ
وَالْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَيُسْتَثْنَى الزَّوْجَانِ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا النَّظَرُ إِلَى عَوْرَةِ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنَّ فِي السَّوْأَةِ اخْتِلَافًا وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ لَكِنْ يُكْرَهُ حَيْثُ لَا سَبَبَ، وَأَمَّا الْمَحَارِمُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُبَاحُ نَظَرُ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ لِمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَتَحْتَ الرُّكْبَةِ، قَالَ: وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّحْرِيمِ حَيْثُ لَا حَاجَةَ، وَمِنَ الْجَوَازِ حَيْثُ لَا شَهْوَةَ.
وَفِي الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ مُلَاقَاةِ بَشَرَتَيِ الرَّجُلَيْنِ بِغَيْرِ حَائِلٍ إِلَّا عِنْدَ ضَرُورَةٍ، وَيُسْتَثْنَى الْمُصَافَحَةُ، وَيَحْرُمُ لَمْسُ عَوْرَةِ غَيْرِهِ بِأَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ بَدَنِهِ كَانَ بِالِاتِّفَاقِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَيَتَسَاهَلُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الِاجْتِمَاعُ فِي الْحَمَّامِ فَيَجِبُ عَلَى مَنْ فِيهِ أَنْ يَصُونَ نَظَرَهُ وَيَدَهُ وَغَيْرَهُمَا عَنْ عَوْرَةِ غَيْرِهِ وَأَنْ يَصُونَ عَوْرَتَهُ عَنْ بَصَرِ غَيْرِهِ، وَيَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْقُطُ الْإِنْكَارُ بِظَنِّ عَدَمِ الْقَبُولِ إِلَّا إِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ فِتْنَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلَ هَذَا الْبَابِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ.
119 - بَاب قَوْلِ الرَّجُلِ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِي
5242 -
حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السلام: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ، فَأَطَافَ بِهِنَّ، وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ.
قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِ الرَّجُلِ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِي) تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ بَابُ مَنْ دَارَ عَلَى نِسَائِهِ فِي غُسْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَالْحُكْمُ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الزَّوْجَاتِ إِلَّا إِنِ ابْتَدَأَ الرَّجُلُ الْقَسْمَ بِأَنْ تَزَوَّجَ دَفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ يَقْدُمُ مِنْ سَفَرٍ، وَكَذَا يَجُوزُ إِذَا أَذِنَّ لَهُ وَرَضِينَ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ) هُوَ ابْنُ غَيْلَانَ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ شَيْخُهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعَبَّاسٌ الْعَنْبَرِيُّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، فَقَالَا: تِسْعِينَ امْرَأَةً، وَتَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليهما السلام مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ مُسْتَوْفًى وَكَيْفِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِ مَعَ شَرْحِ بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَمْ يَحْنَثْ أَيْ: لَمْ يَتَخَلَّفْ مُرَادُهُ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ يَمِينٍ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سُلَيْمَانُ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ. قُلْتُ: أَوْ نَزَّلَ التَّأْكِيدَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ قَوْلِهِ لَأَطُوفَنَّ مَنْزِلَةَ الْيَمِينِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ تَخَلُّلِ الْكَلَامِ الْيَسِيرِ، وَفِيهِ نَظَرٌ سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ اتِّصَالَ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْحَلِفِ يُؤَثِّرُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ قَبْلَ فَرَاغِ الْيَمِينِ
120 - بَاب لَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا إِذَا أَطَالَ الْغَيْبَةَ مَخَافَةَ أَنْ يُخَوِّنَهُمْ أَوْ يَلْتَمِسَ عَثَرَاتِهِمْ
5243 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا.
5244 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمْ الْغَيْبَةَ فَلَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا"قَوْلُهُ (بَابُ لَا يَطْرُقُ أَهْلَهُ لَيْلًا إِذَا أَطَالَ الْغَيْبَةَ مَخَافَةَ أَنْ يَتَخَوَّنَهُمْ أَوْ يَلْتَمِسَ عَثَرَاتِهِمْ) كَذَا بِالْمِيمِ فِي يَتَخَوَّنَهُمْ وَعَثَرَاتِهِمْ وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الصَّوَابُ بِالنُّونِ فِيهِمَا، قُلْتُ: بَلْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ بِالْمِيمِ فِيهِمَا عَلَى مَا سَأَذْكُرُهُ وَتَوْجِيهُهُ ظَاهِرٌ، وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي الْبَابِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي إِدْرَاجِهِ فَاقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَى رَفْعِهِ وَاسْتَعْمَلَ بَقِيَّتَهُ فِي التَّرْجَمَةِ، فَقَدْ جَاءَ مِنْ رِوَايَةِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُحَارِبٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلًا يَتَخَوَّنَهُمْ أَوْ يَطْلُبَ عَثَرَاتِهِمْ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سُفْيَانَ كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ بِهِ، لَكِنْ قَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ سُفْيَانُ: لَا أَدْرِي هَذَا فِي الْحَدِيثِ أَمْ لَا يَعْنِي: يَتَخَوَّنَهُمْ أَوْ يَطْلُبَ عَثَرَاتِهِمْ، ثُمَّ سَاقَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَارِبٍ مُقْتَصِرًا عَلَى الْمَرْفُوعِ كَرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَقَوْلُهُ: عَثَرَاتِهِمْ، بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ جَمْعُ عَثْرَةٍ وَهِيَ الزَّلَّةُ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ فِي رِوَايَةٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ: لَا تَلِجُوا عَلَى الْمُغْيِبَاتِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ.
قَوْلُهُ (يُكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا) فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَطْرُقُ أَهْلَهُ لَيْلًا، وَكَانَ يَأْتِيهِمْ غَدْوَةً أَوْ عَشِيَّةً أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الطُّرُوقُ بِالضَّمِّ الْمَجِيءُ بِاللَّيْلِ مِنْ سَفَرٍ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى غَفْلَةٍ، وَيُقَالُ: لِكُلِّ آتٍ بِاللَّيْلِ طَارِقٌ، وَلَا يُقَالُ بِالنَّهَارِ إِلَّا مَجَازًا كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي أَوَاخِرَ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ حَيْثُ قَالَ: لَا يَطْرُقُ أَهْلَهُ لَيْلًا، وَمِنْهُ حَدِيثُ: طَرَقَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَصْلُ الطُّرُوقِ الدَّفْعُ وَالضَّرْبُ، وَبِذَلِكَ سُمِّيَتِ الطَّرِيقُ؛ لِأَنَّ الْمَارَّةَ تَدُقُّهَا بِأَرْجُلِهَا، وَسَمَّى الْآتِيَ بِاللَّيْلِ طَارِقًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ غَالِبًا إِلَى دَقِّ الْبَابِ، وَقِيلَ: أَصْلُ الطُّرُوقِ السُّكُونُ، وَمِنْهُ أَطْرَقَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ يَسْكُنُ فِيهِ سَمَّى الْآتِيَ فِيهِ طَارِقًا.
وَقَوْلُهُ فِي طَرِيقِ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ: إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الْغَيْبَةَ فَلَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا التَّقْيِيدُ فِيهِ بِطُولِ الْغَيْبَةِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ إِنَّمَا تُوجَدُ حِينَئِذٍ، فَالْحُكْمُ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا، فَلَمَّا كَانَ الَّذِي يَخْرُجُ لِحَاجَتِهِ مَثَلًا نَهَارًا وَيَرْجِعُ لَيْلًا لَا يَتَأَتَّى لَهُ مَا يَحْذَرُ مِنَ الَّذِي يُطِيلُ الْغَيْبَةَ كَانَ طُولُ الْغَيْبَةِ مَظِنَّةَ الْأَمْنِ مِنَ الْهُجُومِ، فَيَقَعُ الَّذِي يَهْجُمُ بَعْدَ طُولِ الْغَيْبَةِ غَالِبًا مَا يُكْرَهُ، إِمَّا أَنْ يَجِدَ أَهْلَهُ عَلَى غَيْرِ أُهْبَةٍ مِنَ التَّنَظُّفِ وَالتَّزَيُّنِ الْمَطْلُوبِ مِنَ الْمَرْأَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ النَّفْرَةِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ: كَيْ تَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ، وَتَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ كَرَاهَةُ مُبَاشَرَةِ الْمَرْأَةِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا غَيْرَ مُتَنَظِّفَةٍ لِئَلَّا يَطَّلِعَ مِنْهَا عَلَى مَا يَكُونُ سَبَبًا لِنَفْرَتِهِ مِنْهَا، وَإِمَّا أَنْ يَجِدَهَا عَلَى حَالَةٍ غَيْرِ مُرْضِيَّةٍ وَالشَّرْعُ مُحَرِّضٌ عَلَى السَّتْرِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَتَخَوَّنَهُمْ وَيَتَطَلَّبَ عَثَرَاتِهِمْ فَعَلَى هَذَا مَنْ أَعْلَمَ أَهْلَهُ بِوُصُولِهِ وَأَنَّهُ يَقْدُمُ فِي وَقْتِ كَذَا مَثَلًا لَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا النَّهْيُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، ثُمَّ سَاقَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةٍ فَقَالَ: لَا تَطْرُقُوا النِّسَاءَ، وَأَرْسَلَ مَنْ يُؤَذِّنُ النَّاسَ أَنَّهُمْ قَادِمُونَ.
قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ: فِيهِ النَّهْيُ عَنْ طُرُوقِ الْمُسَافِرِ أَهْلَهُ عَلَى غِرَّةٍ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ إِعْلَامٍ مِنْهُ لَهُمْ بِقُدُومِهِ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ مَا وَقَعَتْ إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي الْحَدِيثِ قَالَ: وَقَدْ خَالَفَ بَعْضُهُمْ فَرَأَى عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلًا فَعُوقِبَ بِذَلِكَ عَلَى مُخَالَفَتِهِ اهـ. وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
أَنْ تُطْرَقَ النِّسَاءُ لَيْلًا، فَطَرَقَ رَجُلَانِ كِلَاهُمَا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ مَا يَكْرَهُ. وَأَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ وَقَالَ فِيهِ: فَكِلَاهُمَا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ مُحَارِبٍ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ أَتَى امْرَأَتَهُ لَيْلًا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ تُمَشِّطُهَا فَظَنَّهَا رَجُلًا فَأَشَارَ إِلَيْهَا بِالسَّيْفِ فَلَمَّا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلًا. أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى التَّوَادِّ وَالتَّحَابِّ خُصُوصًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ رَاعَى ذَلِكَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَعَ اطِّلَاعِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِسِتْرِهِ حَتَّى إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَخْفَى عَنْهُ مِنْ عُيُوبِ الْآخَرِ شَيْءٌ فِي الْغَالِبِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَنَهَى عَنِ الطُّرُوقِ لِئَلَّا يَطَّلِعَ عَلَى مَا تَنْفِرُ نَفْسَهُ عَنْهُ فَيَكُونُ مُرَاعَاةُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الِاسْتِحْدَادَ وَنَحْوَهُ مِمَّا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْمَرْأَةُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ عَنْ تَغْيِيرِ الْخِلْقَةِ، وَفِيهِ التَّحْرِيضُ عَلَى تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِمَا يُوجِبُ سُوءَ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ.
121 - بَاب طَلَبِ الْوَلَدِ
5245 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ سَيَّارٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ، فَلَمَّا قَفَلْنَا تَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ قَطُوفٍ، فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِي، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا يُعْجِلُكَ؟ قُلْتُ: إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ. قَالَ: فَبِكْرًا تَزَوَّجْتَ أَمْ ثَيِّبًا؟ قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا. قَالَ: فَهَلَّا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، فَقَالَ: أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا - أَيْ عِشَاءً - لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: الْكَيْسَ الْكَيْسَ يَا جَابِرُ يَعْنِي: الْوَلَدَ.
5246 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَيَّارٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِذَا دَخَلْتَ لَيْلًا فَلَا تَدْخُلْ عَلَى أَهْلِكَ حَتَّى تَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ وَتَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَعَلَيْكَ بِالْكَيْسِ الْكَيْسِ تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ وَهْبٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَيْسِ"
قَوْلُهُ (بَابُ طَلَبِ الْوَلَدِ) أَيْ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنْ جِمَاعِ الزَّوْجَةِ، أَوِ الْمُرَادُ الْحَثُّ عَلَى قَصْدِ الِاسْتِيلَادِ بِالْجِمَاعِ لَا الِاقْتِصَارِ عَلَى مُجَرَّدِ اللَّذَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ صَرِيحًا لَكِنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى تَفْسِيرِ الْكَيِّسِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو عَمْرٍو النَّوْقَانِيُّ فِي كِتَابِ مُعَاشَرَةِ الْأَهْلِينَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُحَارِبٍ رَفَعَهُ قَالَ: اطْلُبُوا الْوَلَدَ وَالْتَمِسُوهُ فَإِنَّهُ ثَمَرَةُ الْقُلُوبِ وَقُرَّةُ الْأَعْيُنِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْعَاقِرَ وَهُوَ مُرْسَلٌ قَوِيُّ الْإِسْنَادِ.
قَوْلُهُ (عَنْ سَيَّارٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ تَزْوِيجِ الثَّيِّبَاتِ عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ، عَنْ هُشَيْمٍ: قَالَ حَدَّثَنَا سَيَّارٌ، وَكَذَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنْبَأَنَا سَيَّارٌ.
قَوْلُهُ (عَنِ الشَّعْبِيِّ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ شُرَيْحِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ هُشَيْمٍ: حَدَّثَنَا سَيَّارٌ، حَدَّثَنَا الشَّعْبِيُّ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ
قَوْلُهُ (قَفَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ أَيْ رَجَعْنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ تَزْوِيجِ الثَّيِّبَاتِ
قَوْلُهُ (حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا أَيْ عِشَاءً) هَذَا التَّفْسِيرُ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا الْأَمْرِ بِالدُّخُولِ لَيْلًا وَالنَّهْيِ عَنِ الطُّرُوقِ
لَيْلًا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ الدُّخُولُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَبِالنَّهْيِ الدُّخُولُ فِي أَثْنَائِهِ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ فِي طَرِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالدُّخُولِ لَيْلًا لِمَنْ أَعْلَمَ أَهْلَهُ بِقُدُومِهِ فَاسْتَعَدُّوا لَهُ، وَالنَّهْيُ عَمَّنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: الْكَيْسَ الْكَيْسَ يَا جَابِرُ، يَعْنِي الْوَلَدَ) الْقَائِلُ وَحَدَّثَنِي هُوَ هُشَيْمٌ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: كَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ هُشَيْمًا حَمَلَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ عَنْ شُعْبَةَ؛ لِأَنَّهُ أَوْرَدَ طَرِيقَ شُعْبَةَ عَلَى أَثَرِ حَدِيثِ هُشَيْمٍ. وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: الْقَائِلُ وَحَدَّثَنِي هُوَ هُشَيْمٌ أَوِ الْبُخَارِيُّ اهـ. وَهُوَ جَارٍ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْقَائِلَ هُشَيْمٌ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ.
قَوْلُهُ (إِذَا دَخَلْتَ لَيْلًا فَلَا تَدْخُلْ عَلَى أَهْلِكَ) مَعْنَى الدُّخُولِ الْأَوَّلِ: الْقُدُومُ، أَيْ: إِذَا دَخَلْتَ الْبَلَدَ فَلَا تَدْخُلِ الْبَيْتَ.
قَوْلُهُ (قَالَ قَالَ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ: قَالَ وَقَالَ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَلَفْظُهُ: قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا دَخَلْتَ فَعَلَيْكَ بِالْكَيْسِ الْكَيْسِ.
قَوْلُهُ (تَابَعَهُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ وَهْبٍ، عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَيْسِ) عُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، وَوَهْبٌ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ، وَالْمُتَابِعُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ وَهْبٌ لَكِنَّهُ نَسَبَهَا إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ لِتَفَرُّدِهِ بِذَلِكَ عَنْ وَهْبٍ، نَعَمْ قَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ هَذَا الْحَدِيثَ مُطَوَّلًا وَفِيهِ مَقْصُودُ الْبَابِ، لَكِنْ بِلَفْظٍ آخَرَ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ، وَرِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ تَقَدَّمَتْ مَوْصُولَةً فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ أَوَّلُهُ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ فَأَبْطَأَ بِي جَمَلِي فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي قِصَّةِ الْجَمَلِ بِطُولِهَا، وَفِيهِ قِصَّةُ تَزْوِيجِ جَابِرٍ وَقَوْلُهُ: أَفَلَا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ، وَفِيهِ: أَمَّا إِنَّكَ قَادِمٌ، فَإِذَا قَدِمْتَ فالكيس الْكَيْسِ وَقَوْلُهُ فالكيس بِالْفَتْحِ فِيهِمَا عَلَى الْإِغْرَاءِ، وَقِيلَ: عَلَى التَّحْذِيرِ مِنْ تَرْكِ الْجِمَاعِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْكَيْسُ هُنَا بِمَعْنَى الْحَذَرِ، وَقَدْ يَكُونُ الْكَيْسُ بِمَعْنَى الرِّفْقِ وَحُسْنِ التَّأَتِّي. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْكَيْسُ الْعَقْلُ، كَأَنَّهُ جَعَلَ طَلَبَ الْوَلَدِ عَقْلًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَرَادَ الْحَذَرَ مِنَ الْعَجْزِ عَنِ الْجِمَاعِ فَكَأَنَّهُ حَثَّ عَلَى الْجِمَاعِ.
قُلْتُ: جَزَمَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بَعْدَ تَخْرِيجِ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْكَيْسَ الْجِمَاعُ وَتَوْجِيهُهُ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: فَإِذَا قَدِمْتَ فَاعْمَلْ عَمَلًا كَيِّسًا، وَفِيهِ: قَالَ جَابِرٌ: فَدَخَلْنَا حِينَ أَمْسَيْنَا، فَقُلْتُ لِلْمَرْأَةِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي أَنْ أَعْمَلَ عَمَلًا كَيِّسًا، قَالَتْ: سَمْعًا وَطَاعَةً، فَدُونَكَ. قَالَ: فَبِتُّ مَعَهَا حَتَّى أَصْبَحْتُ. أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ. قَالَ عِيَاضٌ: فَسَّرَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ الْكَيْسَ بِطَلَبِ الْوَلَدِ وَالنَّسْلِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، قَالَ صَاحِبُ الْأَفْعَالِ: كَاسَ الرَّجُلُ فِي عَمَلِهِ حَذَقَ، وَكَاسَ وَلَدَ وَلَدًا كَيِّسًا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: كَاسَ الرَّجُلُ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ كَيِّسٌ اهـ. وَأَصْلُ الْكَيْسِ الْعَقْلُ كَمَا ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ، لَكِنَّهُ بِمُجَرَّدِهِ لَيْسَ الْمُرَادَ هُنَا، وَالشَّاهِدُ لِكَوْنِ الْكَيْسِ يُرَادُ بِهِ الْعَقْلُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَإِنَّمَا الشِّعْرُ لُبُّ الْمَرْءِ يَعْرِضُهُ
…
عَلَى الرِّجَالِ فَإِنْ كَيْسًا وَإِنْ حُمْقًا
فَقَابَلَهُ بِالْحُمْقِ وَهُوَ ضِدُّ الْعَقْلِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ: الْكَيِّسِ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَأَمَّا حَدِيثُ: كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْفِطْنَةُ.
122 - بَاب تَسْتَحِدُّ الْمُغِيبَةُ وَتَمْتَشِطُ الشَّعِثَةُ
5247 -
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ، فَلَمَّا قَفَلْنَا كُنَّا قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ، تَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ لِي قَطُوفٍ، فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِي
فَنَخَسَ بَعِيرِي بِعَنَزَةٍ كَانَتْ مَعَهُ، فَسَارَ بَعِيرِي كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ الْإِبِلِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ. قَالَ: أَتَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا. قَالَ: فَهَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ؟ قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، فَقَالَ: أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا - أَيْ عِشَاءً - لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ.
قَوْلُهُ (بَابُ تَسْتَحِدُّ الْمُغِيبَةُ وَتَمْتَشِطُ الشَّعِثَةُ) ضَبْطُ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرَ أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ، وتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
123 - بَاب {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} - إِلَى قَوْلِهِ - {لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}
5248 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ بِأَيِّ شَيْءٍ دُووِيَ جُرْحُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، فَسَأَلُوا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ - وَكَانَ مِنْ آخِرِ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ - فَقَالَ: مَا بَقِيَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، كَانَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام تَغْسِلُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَعَلِيٌّ يَأْتِي بِالْمَاءِ عَلَى تُرْسِهِ، فَأُخِذَ حَصِيرٌ فَحُرِّقَ فَحُشِيَ بِهِ جُرْحُهُ.
قَوْلُهُ (بَابُ {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ إِلَى قَوْلِهِ: عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَبِهَذِهِ الزِّيَادَةِ تَظْهَرُ الْمُطَابَقَةُ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالتَّرْجَمَةِ.
قَوْلُهُ (سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي حَازِمٍ) هُوَ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرَ الْجِهَادِ.
قَوْلُهُ (اخْتَلَفَ النَّاسُ إِلَخْ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَتَّبِعُونَ أَحْوَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي مِثْلِ هَذَا، فَإِنَّ الَّذِي يُدَاوَى بِهِ الْجُرْحُ لَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهِ إِذَا كَانَ طَاهِرًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَتَرَدَّدُوا فِيهِ حَتَّى سَأَلُوا مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (وَكَانَ مِنْ آخِرِ مَنْ بَقِيَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ) فِيهِ احْتِرَازٌ عَمَّنْ بَقِيَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ وَبِغَيْرِ الْمَدِينَةِ، فَأَمَّا الْمَدِينَةُ فَكَانَ بِهَا فِي آخِرِ حَيَاةِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ لَبِيدٍ، وَكِلَاهُمَا لَهُ رُؤْيَةٌ وَعَدٌّ فِي الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ ثَبَتَ سَمَاعُهُمْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَا كَانَ بَقِيَ بِالْمَدِينَةِ حِينَئِذٍ إِلَّا سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَأَمَّا بِغَيْرِ الْمَدِينَةِ فَبَقِيَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ بِالْبَصْرَةِ وَغَيْرُهُ بِغَيْرِهَا، وَقَدِ اسْتَوْعَبْتُ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى عُلُومِ الْحَدِيثِ لِابْنِ الصَّلَاحِ.
قَوْلُهُ (مَا بَقِيَ لِلنَّاسِ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ بَقِيَ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْهُ فَلَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ بَقِيَ مِثْلُهُ، وَلَكِنْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي نَفْيِ الْمِثْلِ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي بَابِ غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا كَوْنُ فَاطِمَةَ عليها السلام بَاشَرَتْ ذَلِكَ مِنْ أَبِيهَا صلى الله عليه وسلم، فَيُطَابِقُ الْآيَةَ وَهِيَ جَوَازُ إِبْدَاءِ الْمَرْأَةِ زِينَتَهَا لِأَبِيهَا وَسَائِرِ مَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَةِ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ مُغَلْطَايْ الِاحْتِجَاجَ بِقِصَّةِ فَاطِمَةَ هَذِهِ لِأَنَّهَا صَدَرَتْ قَبْلَ الْحِجَابِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّمَسُّكَ مِنْهَا بِالِاسْتِصْحَابِ، وَنُزُولُ الْآيَةِ كَانَ مُتَرَاخِيًا عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ وَقَعَ مُطَابِقًا. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ الْعَمَّ وَالْخَالَ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنْ ذَكَرِهِمَا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْعَمَّ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْأَبِ وَالْخَالَ مَنْزِلَةَ الْأُمِّ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمَا يَنْعَتَانِهَا لِوَلَدَيْهِمَا، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَكَرِهَا لِذَلِكَ أَنْ تَضَعَ الْمَرْأَةُ خِمَارَهَا عِنْدَ عَمِّهَا وَخَالِهَا، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُمَا
وَخَالَفَهُمَا الْجُمْهُورُ.
قَوْلُهُ (فَأُخِذَ حَصِيرٌ فَحُرِّقَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِالتَّخْفِيفِ
124 - بَاب {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ}
5249 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما سَأَلَهُ رَجُلٌ: شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعِيدَ، أَضْحًى أَوْ فِطْرًا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْلَا مَكَانِي مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ - يَعْنِي مِنْ صِغَرِهِ - قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَذَانًا وَلَا إِقَامَةً، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ يَدْفَعْنَ إِلَى بِلَالٍ، ثُمَّ ارْتَفَعَ هُوَ وَبِلَالٌ إِلَى بَيْتِهِ.
قَوْلُهُ (بَابُ {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ حُكْمِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ وَرُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهُنَّ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْمَرْوَزِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ.
قَوْلُهُ (وَلَوْلَا مَكَانِي مِنْهُ) أَيْ مَنْزِلَتِي مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ (يَعْنِي مِنْ صِغَرِهِ) فِيهِ الْتِفَاتٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ: مِنْ صِغَرِي وَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ.
قَوْلُهُ (فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ) بِكَسْرِ الْوَاوِ وَبِفَتْحِ أَوَّلِهِ، هَوَى بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَيَهْوِي بِكَسْرِهَا.
قَوْلُهُ (إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ) أَيْ يُخْرِجْنَ الْحُلِيَّ.
قَوْلُهُ (يَدْفَعْنَ) أَيْ ذَلِكَ (إِلَى بِلَالٍ).
قَوْلُهُ (ثُمَّ ارْتَفَعَ هُوَ وَبِلَالٌ إِلَى بَيْتِهِ) أَيْ رَجَعَ: وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْعِيدَيْنِ، وَالْحُجَّةُ مِنْهُ هُنَا مُشَاهَدَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا وَقَعَ مِنَ النِّسَاءِ حِينَئِذٍ وَكَانَ صَغِيرًا فَلَمْ يَحْتَجِبْنَ مِنْهُ، وَأَمَّا بِلَالٌ فَكَانَ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ، كَذَا أَجَابَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ حُرًّا. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يُشَاهِدُهُنَّ مُسْفِرَاتٍ. وَقَدْ أَخَذَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ بِظَاهِرِهِ فَقَالَ: يَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ رُؤْيَةُ وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَكَفَّيْهَا، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ جَابِرًا رَوَى الْحَدِيثَ وَبِلَالٌ بَسَطَ ثَوْبَهُ لِلْأَخْذِ مِنْهُمْ، وَظَاهِرُ الْحَالِ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلَّا بِظُهُورِ وُجُوهِهِنَّ وَأَكُفِّهِنَّ.
125 - بَابُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ: هَلْ أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ وطَعْنِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ فِي الْخَاصِرَةِ عِنْدَ الْعِتَابِ
5250 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: عَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، فَلَا يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي.
قَوْلُهُ (بَابُ طَعْنِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ فِي الْخَاصِرَةِ عِنْدَ الْعِتَابِ) زَادَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي شَرْحِهِ هُنَا: وَقَوْلُ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ هَلْ أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ مَعَهَا، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلرُّكْنِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّرْجَمَةِ. قَالَ: وَيُسْتَفَادُ الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُسْتَثْنًى فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ، فَإِمْسَاكُ الرَّجُلِ خَاصِرَةَ ابْنَتِهِ مَمْنُوعٌ فِي غَيْرِ حَالَةِ التَّأْدِيبِ، وَسُؤَالُ الرَّجُلِ عَمَّا جَرَى لَهُ مَعَ أَهْلِهِ مَمْنُوعٌ فِي غَيْرِ حَالَةِ
الْمُبَاسَطَةِ أَوِ التَّسْلِيَةِ أَوِ الْبِشَارَةِ. قُلْتُ: وَجَدْتُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ مُقَدَّمَةً وَلَفْظُهُ: بَابُ قَوْلِ الرَّجُلِ إِلَخْ وَبَعْدَهُ: وَطَعْنِ الرَّجُلِ إِلَخْ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَخْلَى بَيَاضًا لِيَكْتُبَ فِيهِ الْحَدِيثَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ وَهُوَ: هَلْ أَعْرَسْتُمْ أَوْ شَيْئًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ أَبِي طَلْحَةِ، وَأُمِّ سُلَيْمٍ عِنْدَ مَوْتِ وَلَدَيْهِمَا وَكَتْمِهَا ذَلِكَ عَنْهُ حَتَّى تَعَشَّى وَبَاتَ مَعَهَا، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ أَبُو طَلْحَةَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَسَيَأْتِي بِهَذَا اللَّفْظِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْعَقِيقَةِ، وَقَوْلُهُ يَطْعُنُ هُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ فِي بَابِ مَنْ أَدَّبَ أَهْلَهُ دُونَ السُّلْطَانِ
(خَاتِمَةٌ)
اشْتَمَلَ كِتَابُ النِّكَاحِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى مِائَتَيْنِ وَثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا وَالْمُتَابَعَاتُ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، وَالْمُكَرَّرُ مِنْهُ فِيهِ وَفِيمَا مَضَى مِائَةٌ وَاثْنَانِ وَسِتُّونَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ حَدِيثًا ; وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا وَهِيَ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنِّي شَابٌّ أَخَافُ الْعَنَتَ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ لَوْ نَزَلْتُ وَادِيًا، وَحَدِيثُ خَطَبَ عَائِشَةَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ، وَحَدِيثُ سَهْلٍ مَرَّ رَجُلٌ فَقَالُوا: هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَرُمَ مِنَ النَّسَبِ سَبْعٌ، وَحَدِيثُ دَفْعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَبِيبَتَهُ إِلَى مَنْ يَكْفُلُهَا وَهُوَ مُعَلَّقٌ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُتْعَةِ، وَحَدِيثُ سَلَمَةَ أَيُّمَا رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ تَوَافَقَا الْحَدِيثُ فِي الْمُتْعَةِ مُعَلَّقٌ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ كَانَ النِّكَاحُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ، وَحَدِيثُ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِدَامٍ فِي تَزْوِيجِهَا، وَحَدِيثُ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ فِي ذِكْرِ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ صَبِيحَةَ الْعُرْسِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فَإِنَّ الْأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوُ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ كَانَ إِذَا مَرَّ بِجَنَبَاتِ أُمِّ سُلَيْمٍ دَخَلَ عَلَيْهَا، وَهُوَ مُعَلَّقٌ وَبَقِيَّتُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَحَدِيثُ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ فِي الْوَلِيمَةِ، وَحَدِيثُ لَمْ يُوَقِّتِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي فِي الْوَلِيمَةِ
وَهُوَ مُعَلَّقٌ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي إِكْرَامِ الْجَارِ، وَحَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ لَا هَجْرَ إِلَّا فِي الْبَيْتِ وَهُوَ مُعَلَّقٌ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ هَجْرِ النِّسَاءِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ سِتَّةً وَثَلَاثُونَ أَثَرًا، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
68 - كِتَاب الطَّلَاقِ
1 - بَاب قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}
أَحْصَيْنَاهُ: حَفِظْنَاهُ وَعَدَدْنَاهُ. وَطَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَيُشْهِدَ شَاهِدَيْنِ
5251 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ
وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ. قَوْلُهُ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم - كِتَابُ الطَّلَاقِ) الطَّلَاقُ فِي اللُّغَةِ: حَلُّ الْوَثَاقِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِطْلَاقِ وَهُوَ الْإِرْسَالُ وَالتَّرْكُ. وَفُلَانٌ طَلْقُ الْيَدِ بِالْخَيْرِ أَيْ كَثِيرُ الْبَذْلِ، وَفِي الشَّرْعِ: حَلُّ عُقْدَةِ التَّزْوِيجِ فَقَطْ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِبَعْضِ أَفْرَادِ مَدْلُولِهِ اللُّغَوِيِّ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هُوَ لَفْظٌ جَاهِلِيٌّ وَرَدَّ الشَّرْعُ بِتَقْرِيرِهِ. وَطَلُقَتِ الْمَرْأَةُ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَضَمِّ اللَّامِ وَبِفَتْحِهَا أَيْضًا وَهُوَ أَفْصَحُ، وَطُلِّقَتْ أَيْضًا بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ اللَّامِ الثَّقِيلَةِ، فَإِنْ خُفِّفَتْ فَهُوَ خَاصٌّ بِالْوِلَادَةِ وَالْمُضَارِعُ فِيهِمَا بِضَمِّ اللَّامِ، وَالْمَصْدَرُ فِي الْوِلَادَةِ طَلْقًا سَاكِنَةُ اللَّامِ، فَهِيَ طَالِقٌ فِيهِمَا.
ثُمَّ الطَّلَاقُ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ جَائِزًا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِيمَا إِذَا كَانَ بِدْعِيًّا وَلَهُ صُوَرٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَفِيمَا إِذَا وَقَعَ بِغَيْرِ سَبَبٍ مَعَ اسْتِقَامَةِ الْحَالِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَفِي صُوَرٍ مِنْهَا الشِّقَاقُ إِذَا رَأَى ذَلِكَ الْحَكَمَانِ، وَأَمَّا الرَّابِعُ فَفِيمَا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ عَفِيفَةٍ، وَأَمَّا الْخَامِسُ فَنَفَاهُ النَّوَوِيُّ وَصَوَّرَهُ غَيْرَهُ بِمَا إِذَا كَانَ لَا يُرِيدُهَا وَلَا تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يَتَحَمَّلَ مُؤْنَتَهَا مِنْ غَيْرِ حُصُولِ غَرَضِ الِاسْتِمْتَاعِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يُكْرَهُ.
قَوْلُهُ (وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} فَخِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا أَوْ عَلَى إِرَادَةِ ضَمِّ أُمَّتِهِ إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ وَأُمَّتُهُ. وَقِيلَ هُوَ عَلَى إِضْمَارِ قُلْ أَيْ قُلْ لِأُمَّتِكِ، وَالثَّانِي أَلْيَقُ، فَخَصَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام بِالنِّدَاءِ لِأَنَّهُ إِمَامُ أُمَّتِهِ اعْتِبَارًا بِتَقَدُّمِهِ، وَعَمَّ بِالْخِطَابِ كَمَا يُقَالُ لِأَمِيرِ الْقَوْمِ: يَا فُلَانُ، افْعَلُوا كَذَا.
وَقَوْلُهُ {إِذَا طَلَّقْتُمُ} أَيْ إِذَا أَرَدْتُمُ التَّطْلِيقَ جَزْمًا، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَقَوْلُهُ {لِعِدَّتِهِنَّ} أَيْ عِنْدَ ابْتِدَاءِ شُرُوعِهِنَّ فِي الْعِدَّةِ، وَاللَّامُ لِلتَّوْقِيتِ كَمَا يُقَالُ لَقِيتُهُ لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنَ الشَّهْرِ، قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ قَرَأَهَا كَذَلِكَ، وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عُمَرِ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرُ: وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ وَنُقِلَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَيْضًا عَنْ أُبَيٍّ، وَعُثْمَانَ، وَجَابِرٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَغَيْرِهِمْ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْبَابِ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (أَحْصَيْنَاهُ: حَفِظْنَاهُ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةِ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مَعْنَاهُ عَنِ السُّدِّيِّ، وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ بِحِفْظِ ابْتِدَاءِ وَقْتِ الْعِدَّةِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ الْأَمْرُ بِطُولِ الْعِدَّةِ فَتَتَأَذَّى بِذَلِكَ الْمَرْأَةُ.
قَوْلُهُ (وَطَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ) رَوَى الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلَهُ تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قَالَ: فِي الطُّهْرِ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، وَأَخْرَجَهُ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَذَلِكَ، وَهُوَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا.
قَوْلُهُ (وَيُشْهِدُ شَاهِدَيْنِ) مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَهُوَ وَاضِحٌ، وَكَأَنَّهُ لَمَّحَ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ نَفَرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يُطَلِّقُونَ لِغَيْرِ عِدَّةٍ وَيُرَاجِعُونَ بِغَيْرِ شُهُودٍ، فَنَزَلَتْ. وَقَدْ قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الطَّلَاقَ إِلَى سُنِّيٍّ، وَبِدْعِيٍّ، وَإِلَى قِسْمٍ ثَالِثٍ لَا وَصْفَ لَهُ. فَالْأَوَّلُ مَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي أَنْ يُطَلِّقَ فِي الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَمْرُهَا أَحَمَلَتْ أَمْ لَا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَضَافَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى طَلْقَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ أَضَافَ لَهُ الْخُلْعَ. وَالثَّالِثُ تَطْلِيقُ الصَّغِيرَةِ وَالْآيِسَةِ وَالْحَامِلِ الَّتِي قَرُبَتْ وِلَادَتُهَا، وَكَذَا إِذَا وَقَعَ السُّؤَالُ مِنْهَا فِي وَجْهٍ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ عَالِمَةً بِالْأَمْرِ، وَكَذَا إِذَا وَقَعَ الْخُلْعُ بِسُؤَالِهَا وَقُلْنَا إِنَّهُ طَلَاقٌ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ تَحْرِيمِ طَلَاقِ الْحَائِضِ صُوَرٌ: مِنْهَا مَا لَوْ كَانَتْ حَامِلًا وَرَأَتِ الدَّمَ وَقُلْنَا الْحَامِلُ تَحِيضُ
فَلَا يَكُونُ طَلَاقُهَا بِدْعِيًّا، وَلَا سِيَّمَا إِنْ وَقَعَ بِقُرْبِ الْوِلَادَةِ، وَمِنْهَا إِذَا طَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَى الْمُولِي وَاتَّفَقَ وُقُوعُ ذَلِكَ فِي الْحَيْضِ، وَكَذَا فِي صُورَةِ الْحَكَمَيْنِ إِذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ طَرِيقًا لِرَفْعِ الشِّقَاقِ، وَكَذَلِكَ الْخُلْعُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ) فِي مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَعِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ طَلَّقْتُ امْرَأَتِي وَكَذَا فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ: اسْمُهَا آمِنَةُ بِنْتُ غِفَارٍ قَالَهُ ابْنُ بَاطِيشٍ، وَنَقَلَهُ عَنِ النَّوَوِيِّ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ بَعْدَهُ مِنْهُمُ الذَّهَبِيُّ فِي تَجْرِيدِ الصَّحَابَةِ لَكِنْ قَالَ فِي مُبْهَمَاتِهِ: فَكَأَنَّهُ أَرَادَ مُبْهَمَاتِ التَّهْذِيبِ. وَأَوْرَدَهَا الذَّهَبِيُّ فِي آمِنَةَ بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الْمِيمِ ثُمَّ نُونٍ، وَأَبُوهَا غِفَارٌ ضَبَطَهُ ابْنُ يَقَظَةَ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ مُسْتَنِدَ ابْنِ بَاطِيشٍ فِي أَحَادِيثِ قُتَيْبَةَ جَمَعَ سَعِيدُ الْعَيَّارُ بِسَنَدٍ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ آمِنَةَ بِنْتَ عَمَّارٍ ; كَذَا رَأَيْتُهَا فِي بَعْضِ الْأُصُولِ بِمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مِيمٍ ثَقِيلَةٍ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ مَا رَأَيْتُهُ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ النَّوَارَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا الْحَدِيثَ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَيُونُسُ شَيْخُ أَحْمَدَ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبُ مِنْ رِجَالِهِمَا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ وَلَكِنْ لَمْ تُسَمَّ عِنْدَهُمَا، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ اسْمُهَا آمِنَةَ وَلَقَبُهَا النَّوَارَ.
قَوْلُهُ (وَهِيَ حَائِضٌ) فِي رِوَايَةِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ فِي دَمِهَا حَائِضٌ، وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَيْضِهَا.
قَوْلُهُ (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ وَمِثْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ؛ اسْتِغْنَاءً بِمَا فِي الْخَبَرِ: أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَلْزَمَ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي عَهْدِهِ، وَزَادَ اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ جَوَّدَ اللَّيْثُ فِي قَوْلَهُ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً اهـ، وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ قَالَ: مَكَثْت عِشْرِينَ سَنَةً يُحَدِّثنِي مَنْ لَا أَتَّهِم أَنَّ اِبْن عُمَر طَلَّقَ اِمْرَأَته ثَلَاثًا وَهِيَ حَائِض، فَأُمِرَ أَنْ يُرَاجِعهَا، فَكُنْت لَا أَتَّهِمهُمْ وَلَا أَعْرِف وَجْه الْحَدِيث، حَتَّى لَقِيت أَبَا غَلَّاب يُونُس بْن جُبَيْر وَكَانَ ذَا ثَبَتٍ، فَحَدَّثَنِي أَنَّهُ سَأَلَ اِبْن عُمَر فَحَدَّثَهُ أَنَّهُ طَلَّقَ اِمْرَأَته تَطْلِيقَة وَهِيَ حَائِض وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيق الشَّعْبِيّ قَالَ طَلَّقَ اِبْن عُمَر اِمْرَأَته وَهِيَ حَائِض وَاحِدَة وَمِنْ طَرِيق عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ عَنْ الْحَسَن عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهُ طَلَّقَ اِمْرَأَته تَطْلِيقَة وَهِيَ حَائِض.
قَوْله (فَسَأَلَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ) فِي رِوَايَة اِبْن أَبِي ذِئْب عَنْ نَافِع فَأَتَى عُمَر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَكَذَا سَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ مِنْ رِوَايَة قَتَادَةَ عَنْ يُونُس بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عُمَر، وَكَذَا عِنْد مُسْلِم مِنْ رِوَايَة يُونُس بْن عُبَيْد عَنْ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ عَنْ يُونُس بْن جُبَيْر، وَكَذَا عِنْده فِي رِوَايَة طَاوُسٍ عَنْ اِبْن عُمَر، وَكَذَا فِي رِوَايَة الشَّعْبِيّ الْمَذْكُورَة، وَزَادَ فِيهِ الزُّهْرِيُّ فِي رِوَايَته كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّفْسِير عَنْ سَالِم أَنَّ اِبْن عُمَر أَخْبَرَهُ، فَتَغَيَّظَ فِيهِ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الزِّيَادَة فِي رِوَايَة غَيْر سَالِم، وَهُوَ أَجَلُّ مَنْ رَوَى الْحَدِيث عَنْ اِبْن عُمَر، وَفِيهِ إِشْعَار بِأَنَّ الطَّلَاق فِي الْحَيْض كَانَ تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْهُ. وَإِلَّا لَمْ يَقَع التَّغَيُّظ عَلَى أَمْر لَمْ يَسْبِق النَّهْي عَنْهُ. وَلَا يُعَكِّر عَلَى ذَلِكَ مُبَادَرَة عُمَر بِالسُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون عَرَفَ حُكْم الطَّلَاق فِي الْحَيْض وَأَنَّهُ مَنْهِيّ عَنْهُ وَلَمْ يَعْرِف مَاذَا يَصْنَع مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ: سُؤَال عُمَر مُحْتَمِل لِأَنْ يَكُون أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا قَبْلهَا مِثْلهَا فَسَأَلَ لِيَعْلَم، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون لَمَّا رَأَى فِي الْقُرْآن قَوْله {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وَقَوْله {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} أَرَادَ أَنْ يَعْلَم أَنَّ هَذَا قُرْء أَمْ لَا؟ وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون سَمِعَ مِنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم النَّهْي فَجَاءَ لِيَسْأَل عَنْ الْحُكْم بَعْد ذَلِكَ.
وَقَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد: وَتَغَيُّظُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِمَّا لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَقْتَضِي الْمَنْع كَانَ ظَاهِرًا فَكَانَ مُقْتَضَى الْحَال التَّثَبُّت فِي ذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ مُقْتَضَى الْحَال مُشَاوَرَة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ إِذَا عَزَمَ عَلَيْهِ.
قَوْله (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا) قَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد: يَتَعَلَّق بِهِ مَسْأَلَة أُصُولِيَّة، وَهِيَ أَنَّ الْأَمْر بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ هَلْ هُوَ أَمْر بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعُمَر: مُرْهُ، فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَأْمُرهُ. قُلْت: هَذِهِ الْمَسْأَلَة ذَكَرَهَا اِبْن الْحَاجِب فَقَالَ: الْأَمْر بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ لَيْسَ أَمْرًا بِذَلِكَ الشَّيْء. لَنَا: لَوْ كَانَ لَكَانَ مُرْ عَبْدك بِكَذَا تَعَدِّيًا، وَلَكَانَ يُنَاقِض قَوْلك لِلْعَبْدِ: لَا تَفْعَل. قَالُوا: فُهِمَ ذَلِكَ مِنْ أَمْر اللَّه وَرَسُوله وَمِنْ قَوْل الْمَلِك لِوَزِيرِهِ: قُلْ لِفُلَانٍ: اِفْعَلْ. قُلْنَا: لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُبَلِّغ.
قُلْت: وَالْحَاصِل أَنَّ النَّفْي إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ تَجَرَّدَ الْأَمْر، وَأَمَّا إِذَا وُجِدَتْ قَرِينَة تَدُلّ عَلَى أَنَّ الْآمِر الْأَوَّل أَمَرَ الْمَأْمُور الْأَوَّل أَنْ يُبَلِّغ الْمَأْمُور الثَّانِي فَلَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّلَ كَلَام الْفَرِيقَيْنِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيل، فَيَرْتَفِع الْخِلَاف.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْن الْأَمْرَيْنِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْآمْر الْأَوَّل بِحَيْثُ يَسُوغ لَهُ الْحُكْمُ عَلَى الْمَأْمُور الثَّانِي فَهُوَ آمِر لَهُ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا قَوِيّ، وَهُوَ مُسْتَفَاد مِنْ الدَّلِيل الَّذِي اِسْتَدَلَّ بِهِ اِبْن الْحَاجِب عَلَى النَّفْي، لِأَنَّهُ لَا يَكُون مُتَعَدِّيًا إِلَّا إِذَا أَمَرَ مَنْ لَا حُكْم لَهُ عَلَيْهِ؛ لِئَلَّا يَصِير مُتَصَرِّفًا فِي مِلْك غَيْره بِغَيْرِ إِذْنه، وَالشَّارِع حَاكِم عَلَى الْآمِر وَالْمَأْمُور فَوُجِدَ فِيهِ سُلْطَان التَّكْلِيف عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} فَإِنَّ كُلّ أَحَد يَفْهَم مِنْهُ أَمْر اللَّه لِأَهْلِ بَيْته بِالصَّلَاةِ، وَمِثْله حَدِيث الْبَاب؛ فَإِنَّ عُمَرَ إِنَّمَا اسْتَفْتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ لِيَمْتَثِلَ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ وَيُلْزِمُ ابْنَهُ بِهِ، فَمَنْ مَثَّلَ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ غَالِطٌ، فَإِنَّ الْقَرِينَةَ وَاضِحَةٌ فِي أَنَّ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْكَائِنَةِ كَانَ مَأْمُورًا بِالتَّبْلِيغِ، وَلِهَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا وَفِي رِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، وَيُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ فَلْيُرَاجِعْهَا وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فَرَاجَعَهَا عَبْدُ اللَّهِ كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ لِيُرَاجِعْهَا وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي بِهَذَا وَقَدِ اقْتَضَى كَلَامُ سُلَيْمٍ الرَّازِيِّ فِي التَّقْرِيبِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الثَّانِي الْفِعْلُ جَزْمًا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَسْمِيَتِهِ آمِرًا فَرَجَعَ الْخِلَافُ عِنْدَهُ لَفْظِيًّا.
وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي الْمَحْصُولِ: الْحَقُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا قَالَ لِزَيْدٍ: أَوْجَبْتُ عَلَى عَمْرٍو كَذَا، وَقَالَ لِعَمْرٍو: كُلُّ مَا أَوْجَبَ عَلَيْكَ زَيْدٌ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْكَ، كَانَ الْأَمْرُ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ أَمْرًا بِالشَّيْءِ. قُلْتُ: وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْأَمْرِ الصَّادِرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ غَيْرِهِ، فَمَهْمَا أَمَرَ الرَّسُولُ أَحَدًا أَنْ يَأْمُرَ بِهِ غَيْرَهُ وَجَبَ لِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ طَاعَتَهُ وَهُوَ أَوْجَبَ طَاعَةَ أَمِيرِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي وَأَمَّا غَيْرُهُ مِمَّنْ بَعْدَهُ فَلَا، وَفِيهِمْ تَظْهَرُ صُورَةُ التَّعَدِّي الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا ابْنُ الْحَاجِبِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَرَدَّدَ فِي اقْتِضَاءِ ذَلِكَ الطَّلَبِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِي أَنَّ لَوَازِمَ صِيغَةِ الْأَمْرِ هَلْ هِيَ لَوَازِمُ صِيغَةِ الْأَمْرِ بِالْأَمْرِ أَوْ لَا؟ بِمَعْنَى أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الطَّلَبِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ أَوْ لَا. قُلْتُ: وَهُوَ حَسَنٌ، فَإِنَّ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي انْبَنَى عَلَيْهَا هَذَا الْخِلَافُ حَدِيثُ مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ فَإِنَّ الْأَوْلَادَ لَيْسُوا بِمُكَلَّفِينَ فَلَا يَتَّجِهُ عَلَيْهِمُ الْوُجُوبُ، وَإِنَّمَا الطَّلَبُ مُتَوَجِّهٌ عَلَى أَوْلِيَائِهِمْ أَنْ يُعَلِّمُوهُمْ ذَلِكَ، فَهُوَ مَطْلُوبٌ مِنَ الْأَوْلَادِ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ وَلَيْسَ مُسَاوِيًا لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا إِنَّمَا عَرَضٌ مِنْ أَمْرٍ خَارِجٍ وَهُوَ امْتِنَاعُ تَوَجُّهِ الْأَمْرِ عَلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ، وَهُوَ بِخِلَافِ الْقِصَّةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخِطَابَ إِذَا تَوَجَّهَ لِمُكَلَّفٍ أَنْ يَأْمُرَ مُكَلَّفًا آخَرَ بِفِعْلِ شَيْءٍ كَانَ الْمُكَلَّفُ الْأَوَّلُ مُبَلِّغًا مَحْضًا، وَالثَّانِي مَأْمُورٌ مِنْ قِبَلِ
الشَّارِعِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَأَصْحَابِهِ وَمُرُوهُمْ بِصَلَاةِ كَذَا فِي حِينِ كَذَا وَقَوْلُهُ لِرَسُولِ ابْنَتِهِ صلى الله عليه وسلم مُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ، فَإِذَا أَمَرَ الْأَوَّلُ الثَّانِيَ بِذَلِكَ فَلَمْ يَمْتَثِلْهُ كَانَ عَاصِيًا، وَإِنْ تَوَجَّهَ الْخِطَابُ مِنَ الشَّارِعِ لِمُكَلَّفٍ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ أَوْ تَوَجَّهَ الْخِطَابُ مِنْ غَيْرِ الشَّارِعِ بِأَمْرِ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ أَنْ يَأْمُرَ مَنْ لَا أَمْرَ لِلْأَوَّلِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ أَمْرًا بِالشَّيْءِ فَالصُّورَةُ الْأَوْلَى هِيَ الَّتِي نَشَأَ عَنْهَا الِاخْتِلَافُ وَهُوَ أَمْرُ أَوْلِيَاءِ الصِّبْيَانِ أَنْ يَأْمُرُوا الصِّبْيَانَ، وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي يَتَصَوَّرُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مُتَعَدِّيًا بِأَمْرِهِ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَأْمُرَ الثَّانِيَ، فَهَذَا فَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الْمُرَاجَعَةِ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ - وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ - أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ لَا يَجِبُ فَاسْتِدَامَتُهُ كَذَلِكَ، لَكِنْ صَحَّحَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَالْحُجَّةُ لِمَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ وُرُودُ الْأَمْرِ بِهَا، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ لَمَّا كَانَ مُحَرَّمًا فِي الْحَيْضِ كَانَتِ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ فِيهِ وَاجِبَةً، فَلَوْ تَمَادَى الَّذِي طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ حَتَّى طَهُرَتْ قَالَ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ: يُجْبَرُ عَلَى الرَّجْعَةِ أَيْضًا، وَقَالَ أَشْهَبُ مِنْهُمْ: إِذَا طَهُرَتِ انْتَهَى الْأَمْرُ بِالرَّجْعَةِ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا أَنْ لَا رَجْعَةَ، وَأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ فِي طُهْرٍ قَدْ مَسَّهَا فِيهِ لَا يُؤْمَرُ بِمُرَاجَعَتِهَا، كَذَا نَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ، لَكِنَّ الْخِلَافَ فِيهِ ثَابِتٌ قَدْ حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهًا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهِيَ حَائِضٌ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمُرَاجَعَةِ إِلَّا مَا نُقِلَ عَنْ زُفَرَ فَطَرَدَ الْبَابَ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا) أَيْ يَسْتَمِرَّ بِهَا فِي عِصْمَتِهِ.
قَوْلُهُ (حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ) فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ ثُمَّ لِيَدَعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْهَا وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، وَأَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، وَكَذَا عِنْدَهُمَا مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَالِمٍ بِلَفْظِ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا قَالَ الشَّافِعِيُّ: غَيْرُ نَافِعٍ إِنَّمَا رَوَى حَتَّى تَطْهُرَ مِنَ الْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَنَسُ بْنُ سِيرِينَ، وَسَالِمٌ. قُلْتُ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَكِنَّ رِوَايَةَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ نَافِعٍ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ، وَالزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ حَافِظًا.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِذَلِكَ - أَيْ بِمَا فِي رِوَايَةِ نَافِعٍ - أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ الْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا بِطُهْرٍ تَامٍّ ثُمَّ حَيْضٍ تَامٍّ لِيَكُونَ تَطْلِيقُهَا وَهِيَ تَعْلَمُ عِدَّتَهَا إِمَّا بِحَمْلٍ أَوْ بِحَيْضٍ، أَوْ لِيَكُونَ تَطْلِيقُهَا بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْحَمْلِ وَهُوَ غَيْرُ جَاهِلٍ بِمَا صَنَعَ إِذْ يَرْغَبُ فَيُمْسِكُ لِلْحَمْلِ أَوْ لِيَكُونَ إِنْ كَانَتْ سَأَلَتِ الطَّلَاقَ غَيْرَ حَامِلٍ أَنْ تَكُفَّ عَنْهُ. وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنْ لَا تَصِيرَ الرَّجْعَةُ لِغَرَضِ الطَّلَاقِ، فَإِذَا أَمْسَكَهَا زَمَانًا يَحِلُّ لَهُ فِيهِ طَلَاقُهَا ظَهَرَتْ فَائِدَةُ الرَّجْعَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَطُولُ مَقَامُهُ مَعَهَا، فَقَدْ يُجَامِعُهَا فَيَذْهَبُ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ سَبَبِ طَلَاقِهَا فَيُمْسِكُهَا. وَقِيلَ: إِنَّ الطُّهْرَ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ كَقُرْءٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ طَلَّقَهَا فِيهِ لَكَانَ كَمَنْ طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ، وَهُوَ مُمْتَنَعٌ مِنَ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ، فَلَزِمَ أَنْ يَتَأَخَّرَ إِلَى الطُّهْرِ الثَّانِي.
وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ تَطْلِيقِهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَةَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ. وَفِيهِ لِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الزِّيَادَةِ الَّتِي فِي الْحَدِيثِ. وَعِبَارَةُ الْغَزَالِيِّ فِي الْوَسِيطِ وَتَبِعَهُ مُجَلِّي: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي هَذَا الطُّهْرِ؟ وَجْهَانِ. وَكَلَامُ الْمَالِكِيَّةِ يَقْتَضِي أَنَّ التَّأْخِيرَ مُسْتَحَبٌّ. وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُحَرَّرِ: وَلَا يُطَلِّقْهَا فِي الطُّهْرِ الْمُتَعَقِّبِ لَهُ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ، وَعَنْهُ - أَيْ عَنْ أَحْمَدَ - جَوَازُ ذَلِكَ. وَفِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ
عَنْ أَبِي حَنِيفَةِ الْجَوَازُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ الْمَنْعُ.
وَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّ التَّحْرِيمَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الْحَيْضِ، فَإِذَا طَهُرَتْ زَالَ مُوجِبُ التَّحْرِيمِ فَجَازَ طَلَاقُهَا فِي هَذَا الطُّهْرِ كَمَا يَجُوزُ فِي الطُّهْرِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَكَمَا يَجُوزُ طَلَاقُهَا فِي الطُّهْرِ إِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ طَلَاقٌ فِي الْحَيْضِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حِجَجَ الْمَانِعِينَ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا عَقِبَ تِلْكَ الْحَيْضَةِ كَانَ قَدْ رَاجَعَهَا لِيُطَلِّقَهَا، وَهَذَا عَكْسُ مَقْصُودِ الرَّجْعَةِ فَإِنَّهَا شُرِعَتْ لِإِيوَاءِ الْمَرْأَةِ وَلِهَذَا سَمَّاهَا إِمْسَاكًا فَأَمَرَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ وَأَنْ لَا يُطَلِّقَ فِيهِ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى ثُمَّ تَطْهُرَ لِتَكُونَ الرَّجْعَةُ لِلْإِمْسَاكِ لَا لِلطَّلَاقِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ أَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى حَيْثُ أَمَرَ بِأَنْ يُمْسِكَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ، لِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ مُرْهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَإِذَا طَهُرَتْ أَمْسَكَهَا حَتَّى إِذَا طَهُرَتْ أُخْرَى، فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا فَإِذَا كَانَ قَدْ أَمَرَهُ بِأَنْ يُمْسِكَهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ فَكَيْفَ يُبِيحُ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ؟ وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنِ الطَّلَاقِ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ) فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْهَا قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا أَوْ يُمْسِكَهَا وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا وَفِي رِوايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَالِمٍ ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا وَتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ مَنِ اسْتَثْنَى مِنْ تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ فِي طُهْرٍ جَامَعَ فِيهِ مَا إِذَا ظَهَرَ الْحَمْلُ فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ. وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ الْحَمْلُ فَقَدْ أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ عَلَى بَصِيرَةٍ فَلَا يَنْدَمُ عَلَى الطَّلَاقِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ زَمَنَ الْحَمْلِ زَمَنُ الرَّغْبَةِ فِي الْوَطْءِ فَإِقْدَامُهُ عَلَى الطَّلَاقِ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى رَغْبَتِهِ عَنْهَا، وَمَحِلُّ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ مِنَ الْمُطَلِّقِ، فَلَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ بِأَنْ نَكَحَ حَامِلًا مِنْ زِنًا وَوَطِئَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ وُطِئَتْ مَنْكُوحَةٌ بِشُبْهَةٍ ثُمَّ حَمَلَتْ مِنْهُ فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَكُونُ بِدْعِيًّا، لِأَنَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ تَقَعُ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ وَالنَّقَاءِ مِنَ النِّفَاسِ، فَلَا تُشْرَعُ عَقِبَ الطَّلَاقِ فِي الْعِدَّةِ كَمَا فِي الْحَامِلِ مِنْهُ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي قَوْلُهُ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ: إِذَا طَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَكُونُ مُطَلِّقًا لِلسُّنَّةِ، لِأَنَّ الْمُطَلِّقَ لِلسُّنَّةِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُخَيَّرًا عِنْدَ وُقُوعِ طَلَاقِهِ بَيْنَ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ وَتَرْكِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ فِي طُهْرٍ جَامَعَ فِيهِ حَرَامٌ، وَبِهِ صَرَّحَ الْجُمْهُورُ، فَلَوْ طَلَّقَ هَلْ يُجْبَرُ عَلَى الرَّجْعَةِ كَمَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا إِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ؟ طَرَدَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فِيهِمَا، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمْ إِجْبَارُهُ فِي الْحَائِضِ دُونَ الطَّاهِرِ، وَقَالُوا فِيمَا إِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ: يُجْبَرُ عَلَى الرَّجْعَةِ، فَإِنِ امْتَنَعَ أَدَّبَهُ الْحَاكِمُ، فَإِنْ أَصَرَّ ارْتَجَعَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ. وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا؟ بِذَلِكَ رِوَايَتَانِ لَهُمْ أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ، وَعَنْ دَاوُدَ يُجْبَرُ عَلَى الرَّجْعَةِ إِذَا طَلَّقَهَا حَائِضًا وَلَا يُجْبَرُ إِذَا طَلَّقَهَا نُفَسَاءَ ; وَهُوَ جُمُودٌ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا وَفِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا مِنْ حَيْضِهَا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ طَاهِرًا هَلِ الْمُرَادُ بِهِ انْقِطَاعُ الدَّمِ أَوِ التَّطَهُّرِ بِالْغُسْلِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالرَّاجِحُ الثَّانِي، لِمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ مُرْ عَبْدَ اللَّهِ فَلْيُرَاجِعْهَا، فَإِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ حَيْضَتِهَا الْأُخْرَى فَلَا يَمَسَّهَا حَتَّى يُطَلِّقْهَا، وَإِنْ شَاءَ يُمْسِكْهَا فَلْيُمْسِكْهَا وَهَذَا مُفَسِّرٌ لِقَوْلِهِ فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْيُحْمَلْ عَلَيْهِ، وَيَتَفَرَّعُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعِدَّةَ هَلْ تَنْقَضِي بِانْقِطَاعِ الدَّمِ وَتَرْتَفِعُ الرَّجْعَةُ، أَوْ لَا بُدَّ مِنَ الِاغْتِسَالِ؟ فِيهِ خِلَافٌ أَيْضًا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُرَتَّبَةَ عَلَى الْحَيْضِ نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ يَزُولُ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ كَصِحَّةِ الْغُسْلِ وَالصَّوْمِ وَتَرَتُّبِ الصَّلَاةِ فِي الذِّمَّةِ،
وَالثَّانِي لَا يَزُولُ إِلَّا بِالْغُسْلِ كَصِحَّةِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَجَوَازِ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ، فَهَلْ يَكُونُ الطَّلَاقُ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ أَوْ مِنَ الثَّانِي؟ وَتَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ طَلَاقَ الْحَامِلِ سُنِّيٌّ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةُ أَنَّهُ لَيْسَ بِسُنِّيٍّ وَلَا بِدْعِيٍّ.
قَوْلُهُ (فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ) أَيْ أَذِنَ، وَهَذَا بَيَانٌ لِمُرَادِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وَصَرَّحَ مَعْمَرٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ بِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَقَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الْآيَةَ وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ طْهَارٌ لِلْأَمْرِ بِطَلَاقِهَا فِي الطُّهْرِ، وَقَوْلُهُ {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أَيْ وَقْتَ ابْتِدَاءِ عِدَّتِهِنَّ، وَقَدْ جَعَلَ لِلْمُطَلَّقَةِ تَرَبُّصَ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، فَلَمَّا نَهَى عَنِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ وَقَالَ إِنَّ الطَّلَاقَ فِي الطُّهْرِ هُوَ الطَّلَاقُ الْمَأْذُونُ فِيهِ عُلِمَ أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارُ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَسَأَذْكُرُ بَقِيَّةَ فَوَائِدِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
2 - بَاب إِذَا طُلِّقَتْ الْحَائِضُ تَعْتَدُّ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ
5252 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: لِيُرَاجِعْهَا، قُلْتُ: تُحْتَسَبُ؟ قَالَ: فَمَهْ؟
وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، قُلْتُ: تُحْتَسَبُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَهُ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ.
5253 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ حُسِبَتْ عَلَيَّ بِتَطْلِيقَةٍ"
قَوْلُهُ (بَابُ إِذَا طُلِّقَتِ الْحَائِضُ تَعْتَدُّ بِذَلِكَ الطَّلَاقَ) كَذَا بَتَّ الْحُكْمَ بِالْمَسْأَلَةِ، وَفِيهَا خِلَافٌ قَدِيمٌ عَنْ طَاوُسٍ وَعَنْ خَلَّاسِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ، وَمِنْ ثَمَّ نَشَأَ سُؤَالُ مَنْ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (شُعْبَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لِيُرَاجِعْهَا. قُلْتُ: تُحْتَسَبُ؟ قَالَ: فَمَهْ؟) الْقَائِلُ قُلْتُ هُوَ أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ وَالْمَقُولُ لَهُ ابْنُ عُمَرَ، بَيَّنَ ذَلِكَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ، وَقَدْ سَاقَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ مُطَوَّلًا كَمَا سَأَذْكُرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ فَهُوَ مَوْصُولٌ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، وَلَقَدْ أَفْرَدَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ يُونُسَ بْنَ جُبَيْرٍ.
قَوْلُهُ (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا) هَكَذَا اخْتَصَرَهُ، وَمُرَادُهُ أَنَّ يُونُسَ بْنَ جُبَيْرٍ حَكَى الْقِصَّةَ نَحْوَ مَا ذَكَرَهَا أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ سِوَى مَا بَيَّنَ مِنْ سِيَاقِهِ.
قَوْلُهُ (قُلْتُ تُحْتَسَبُ) هُوَ بِضَمِّ أَوَّلُهُ، وَالْقَائِلُ هُوَ يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ.
قَوْلُهُ (قَالَ أَرَأَيْتَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ وَقَدِ اخْتَصَرَهُ الْبُخَارِيُّ اكْتِفَاءً بِسِيَاقِ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، وَقَدْ سَاقَهُ مُسْلِمٌ حَيْثُ أَفْرَدَهُ
وَلَفْظُهُ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: طَلَّقْتُ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ، فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: لِيُرَاجِعْهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ فَإِنْ شَاءَ فَلْيُطَلِّقْهَا. قالَ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: أَفَيُحْسَبُ بِهَا؟ قَالَ: مَا يَمْنَعُهُ؟ أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ. وَقَالَ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَا حَدَّثَنَا شُعْبَةُ فَذَكَرَهُ أَتَمَّ مِنْهُ وَفِي أَوَّلِهِ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ - وَفِيهِ - فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ إِنْ بَدَا لَهُ طَلَاقُهَا طَلَّقَهَا فِي قُبُلِ عِدَّتِهَا وَفِي قُبُلِ طُهْرِهَا.
قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: أَفَتَحْتَسِبُ طَلَاقَهَا ذَلِكَ طَلَاقًا؟ قَالَ: نَعَمْ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ وَقَدْ سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا نَحْوَ هَذَا السِّيَاقِ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ بِطُولِهِ وَفِيهِ قُلْتُ: فَهَلْ عُدَّ ذَلِكَ طَلَاقًا؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ، أَنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ وَسَيَأْتِي فِي أَبْوَابِ الْعِدَدِ فِي بَابِ مُرَاجَعَةِ الْحَائِضِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ مُخْتَصَرًا، وَفِيهِ قُلْتُ: فَتَعْتَدُّ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مُطَوَّلًا وَلَفْظُهُ فَقُلْتُ لَهُ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ أَيَعْتَدُّ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ؟ قَالَ: فَمَهْ؟ أَوْ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فَقُلْتُ: أَفَتُحْتَسَبُ عَلَيْهِ وَالْبَاقِي مِثْلُهُ. وَقَوْلُهُ فَمَهْ أَصْلُهُ فَمَا، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ فِيهِ اكْتِفَاءٌ، أَيْ: فَمَا يَكُونُ إِنْ لَمْ تُحْتَسَبْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ أَصْلِيَّةً وَهِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ لِلزَّجْرِ، أَيْ: كُفَّ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فَمَهْ مَعْنَاهُ فَأَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ إِذَا لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا؟ إِنْكَارًا لِقَوْلِ السَّائِلِ أَيُعْتَدُّ بِهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَهَلْ مِنْ ذَلِكَ بُدٌّ؟ وَقَوْلُهُ أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ أَيْ إِنْ عَجَزَ عَنْ فَرْضٍ فَلَمْ يُقِمْهُ، أَوِ اسْتَحْمَقَ فَلَمْ يَأْتِ بِهِ أَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ؟ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ أَيُسْقِطُ عَنْهُ الطَّلَاقَ حُمْقُهُ أَوْ يُبْطِلُهُ عَجْزُهُ؟ وَحَذَفَ الْجَوَابُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ إِنْ نَافِيَةً بِمَعْنَى مَا، أَيْ: لَمْ يَعْجَزِ ابْنُ عُمَرَ وَلَا اسْتَحْمَقَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِفْلٍ وَلَا مَجْنُونٍ. قَالَ: وَإِنْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ بِفَتْحِ أَلِفِ أَنْ فَمَعْنَاهُ أَظْهَرُ، وَالتَّاءُ مِنَ اسْتَحْمَقَ مَفْتُوحَةٌ، قَالَهُ ابْنُ الْخَشَّابِ، وَقَالَ: الْمَعْنَى فَعَلَ فِعْلًا يُصَيِّرُهُ أَحْمَقَ عَاجِزًا فَيَسْقُطُ عَنْهُ حُكْمَ الطَّلَاقِ عَجْزُهُ أَوْ حُمْقُهُ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَكَلَّفَ الْحُمْقَ بِمَا فَعَلَهُ مِنْ تَطْلِيقِ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ. وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ بِضَمِّ التَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ، أَيْ إِنَّ النَّاسَ اسْتَحْمَقُوهُ بِمَا فَعَلَ، وَهُوَ مُوَجَّهٌ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: مَعْنَى قَوْلِهِ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ يَعْنِي عَجَزَ فِي الْمُرَاجَعَةِ الَّتِي أُمِرَ بِهَا عَنْ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ أَوْ فَقَدَ عَقْلَهُ فَلَمْ تُمْكِنْ مِنْهُ الرَّجْعَةُ أَتَبْقَى الْمَرْأَةُ مُعَلَّقَةً لَا ذَاتَ بَعْلٍ وَلَا مُطَلَّقَةً؟ وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ أَنْ تُحْتَسَبَ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ الَّتِي أَوْقَعَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، كَمَا أَنَّهُ لَوْ عَجَزَ عَنْ فَرْضٍ آخَرَ لِلَّهِ فَلَمْ يُقِمْهُ وَاسْتَحْمَقَ فَلَمْ يَأْتِ بِهِ مَا كَانَ يُعْذَرُ بِذَلِكَ وَيَسْقُطُ عَنْهُ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَلِلْبَاقِينَ وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ وَبِهِ جَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَسَقَطَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ أَصْلًا.
قَوْلُهُ (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حُسِبَتْ عَلَيَّ بِتَطْلِيقَةٍ) هُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الْحِسَابِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْ أَبِيهِ مِثْلَ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا، وَزَادَ يَعْنِي حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَسَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ قَالَ النَّوَوِيُّ: شَذَّ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ فَقَالَ إِذَا طَلَّقَ الْحَائِضَ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَأَشْبَهَ طَلَاقَ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ يَعْنِي الْآنَ. قَالَ: وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَهُوَ شُذُوذٌ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ بْنَ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ الَّذِي قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي حَقِّهِ: إِبْرَاهِيمُ ضَالٌّ، جَلَسَ فِي بَابِ الضَّوَالِّ يُضِلُّ النَّاسَ. وَكَانَ بِمِصْرَ، وَلَهُ مَسَائِلُ يَنْفَرِدُ بِهَا. وَكَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْهُ الْمَسَائِلُ الشَّاذَّةُ أَبُوهُ، وَحَاشَاهُ، فَإِنَّهُ مِنْ كِبَارِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَكَأَنَّ النَّوَوِيَّ أَرَادَ بِبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ ابْنَ حَزْمٍ، فَإِنَّهُ مِمَّنْ جَرَّدَ الْقَوْلَ بِذَلِكَ وَانْتَصَرَ لَهُ وَبَالَغَ، وَأَجَابَ عَنْ أَمْرِ ابْنِ عُمَرِ بِالْمُرَاجَعَةِ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ اجْتَنَبَهَا فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَهَا إِلَيْهِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ، فَحَمَلَ الْمُرَاجَعَةَ عَلَى مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ مُقَدَّمٌ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ اتِّفَاقًا، وَأَجَابَ عَنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ حُسِبَتْ عَلَيَّ بِتَطْلِيقَةٍ بِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِمَنْ حَسَبَهَا عَلَيْهِ، وَلَا حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ مِثْلُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ أُمِرْنَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إِلَى مَنْ لَهُ الْأَمْرُ حِينَئِذٍ وَهُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، كَذَا قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ أُمِرْنَا بِكَذَا فَإِنَّ ذَاكَ مَحَلُّهُ حَيْثُ يَكُونُ اطِّلَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ صَرِيحًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي قِصَّةِ ابْنِ عُمَرَ هَذِهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْآمِرُ بِالْمُرَاجَعَةِ وَهُوَ الْمُرْشِدُ لِابْنِ عُمَرَ فِيمَا يَفْعَلُ إِذَا أَرَادَ طَلَاقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِذَا أَخْبَرَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ حُسِبَتْ عَلَيْهِ بِتَطْلِيقَةٍ كَانَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي حَسَبَهَا عَلَيْهِ غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعِيدًا جِدًّا مَعَ احْتِفَافِ الْقَرَائِنِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِذَلِكَ، وكَيْفَ يَتَخَيَّلُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ يَفْعَلُ فِي الْقِصَّةِ شَيْئًا بِرَأْيِهِ وَهُوَ يَنْقُلُ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَغَيَّظَ مِنْ صَنِيعِهِ كَيْفَ لَمْ يُشَاوِرْهُ فِيمَا يَفْعَلُ فِي الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ؟
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ وَهْبٍ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ وَاحِدَةٌ قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: وَحَدَّثَنِي حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ سَمِعَ سَالِمًا يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَابْنِ إِسْحَاقَ جَمِيعًا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ هِيَ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَقَدْ أَوْرَدَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ابْنِ حَزْمٍ، فَأَجَابَهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ هِيَ وَاحِدَةٌ لَعَلَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَلْزَمَهُ بِأَنَّهُ نَقَضَ أَصْلَهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَا يُدْفَعُ بِالِاحْتِمَالِ.
وَعِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْقِصَّةِ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَتُحْتَسَبُ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَرِجَالُهُ إِلَى شُعْبَةَ ثِقَاتٌ. وَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي الْبَتَّةَ وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَ: عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَفَارَقْتَ امْرَأَتَكَ. قَالَ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ ابْنَ عُمَرَ أَنْ يُرَاجِعَ امْرَأَتَهُ، قَالَ: إِنَّهُ أَمَرَ ابْنَ عُمَرَ أَنْ يُرَاجِعَهَا بِطَلَاقٍ بَقِيَ لَهُ، وَأَنْتَ لَمْ تُبْقِ مَا تَرْتَجِعُ بِهِ امْرَأَتَكَ وَفِي هَذَا السِّيَاقِ رَدٌّ عَلَى مَنْ حَمَلَ الرَّجْعَةَ فِي قِصَّةِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَقَدْ وَافَقَ ابْنَ حَزْمٍ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَلَهُ كَلَامٌ طَوِيلٌ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ وَالِانْتِصَارِ لَهُ.
وَأَعْظَمُ مَا احْتَجُّوا بِهِ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَفِيهِ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لِيُرَاجِعْهَا، فَرَدَّهَا وَقَالَ: إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ يُمْسِكْ لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَلِلنَّسَائِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ فَرَدَّهَا عَلَيَّ زَادَ أَبُو دَاوُدَ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ فَإِنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَاصِمٍ عَنْهُ، وَقَالَ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ مِثْلُ حَدِيثِ حَجَّاجٍ وَفِيهِ بَعْضُ الزِّيَادَةِ، فَأَشَارَ إِلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَلَعَلَّهُ طَوَى ذِكْرَهَا عَمْدًا. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ الْحَدِيثَ عَنْ رَوْحِ بْنِ
عُبَادَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فَذَكَرَهَا، فَلَا يُتَخَيَّلُ انْفِرَادُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهَا. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ جَمَاعَةٌ، وَأَحَادِيثُهُمْ كُلُّهَا عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَوْلُهُ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا مُنْكَرٌ لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُ أَبِي الزُّبَيْرِ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا خَالَفَهُ فِيهِ مِثْلُهُ فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ أَثْبَتُ مِنْهُ، وَلَوْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ عِنْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ: وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا مُسْتَقِيمًا لِكَوْنِهَا لَمْ تَقَعْ عَلَى السُّنَّةِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ: لَمْ يَرْوِ أَبُو الزُّبَيْرِ حَدِيثًا أَنْكَرَ مِنْ هَذَا، وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا تَحْرُمُ مَعَهُ الْمُرَاجَعَةُ، أَوْ لَمْ يَرَهَا شَيْئًا جَائِزًا فِي السُّنَّةِ مَاضِيًا فِي الِاخْتِيَارِ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ. وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ رِوَايَةَ أَبِي الزُّبَيْرِ فَقَالَ: نَافِعٌ أَثْبَتُ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، وَالْأَثْبَتُ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ إِذَا تَخَالَفَا، وَقَدْ وَافَقَ نَافِعًا غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الثَّبَتِ.
قَالَ: وَبَسَطَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَحَمَلَ قَوْلَهُ لَمْ يَرَهَا شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعُدَّهَا شَيْئًا صَوَابًا غَيْرَ خَطَأٍ، بَلْ يُؤْمَرُ صَاحِبُهُ أَنْ لَا يُقِيمَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْمُرَاجَعَةِ، وَلَوْ كَانَ طَلَّقَهَا طَاهِرًا لَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ، فَهُوَ كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَخْطَأَ فِي فِعْلِهِ أَوْ أَخْطَأَ فِي جَوَابِهِ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا أَيْ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا صَوَابًا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِمَا رُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ لَمْ يَعْتَدَّ بِهَا فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ لَمْ تَعْتَدَّ الْمَرْأَةُ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ فِي الْعِدَّةِ، كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ مَنْصُوصًا أَنَّهُ قَالَ: يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ وَلَا تَعْتَدُّ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ اهـ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوًا مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَخْرَجَهُ ابْنُ حَزْمٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِثْلُهُ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ وَهَذِهِ مُتَابَعَاتٌ لِأَبِي الزُّبَيْرِ، إِلَّا أَنَّهَا قَابِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ الصَّرِيحِ فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ إِنَّهَا حُسِبَتْ عَلَيْهِ بِتَطْلِيقَةٍ. وَهَذَا الْجَمْعُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ يَتَعَيَّنُ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَغْلِيظِ بَعْضِ الثِّقَاتِ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ إِنَّهَا حُسِبَتْ عَلَيْهِ بِتَطْلِيقَةٍ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِرَفْعِ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ فِيهِ تَسْلِيمَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ إِنَّهَا حُسِبَتْ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ مَعَ هَذَا قَوْلُهُ إِنَّهُ لَمْ يَعْتَدَّ بِهَا أَوْ لَمْ يَرَهَا شَيْئًا عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُخَالِفُ؟ لِأَنَّهُ إِنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَزِمَ مِنْهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ خَالَفَ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِخُصُوصِهَا لِأَنَّهُ قَالَ إِنَّهَا حُسِبَتْ عَلَيْهِ بِتَطْلِيقَةٍ فَيَكُونُ مَنْ حَسَبَهَا عَلَيْهِ خَالَفَ كَوْنَهُ لَمْ يَرَهَا شَيْئًا، وَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِ ذَلِكَ مَعَ اهْتِمَامِهِ وَاهْتِمَامِ أَبِيهِ بِسُؤَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ لِيَفْعَلَ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ؟ وَإِنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي لَمْ يَعْتَدَّ بِهَا أَوْ لَمْ يَرَهَا لِابْنِ عُمَرَ لَزِمَ مِنْهُ التَّنَاقُضُ فِي الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ فَيَفْتَقِرُ إِلَى التَّرْجِيحِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَخْذَ بِمَا رَوَاهُ الْأَكْثَرُ وَالْأَحْفَظُ أَوْلَى مِنْ مُقَابِلِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاحْتَجَّ ابْنُ الْقَيِّمِ لِتَرْجِيحِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ شَيْخُهُ بِأَقْيِسَةٍ تَرْجِعُ إِلَى مَسْأَلَةِ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ فَقَالَ: الطَّلَاقُ يَنْقَسِمُ إِلَى حَلَالٍ وَحَرَامٍ، فَالْقِيَاسُ أَنَّ حَرَامَهُ بَاطِلٌ كَالنِّكَاحِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَأَيْضًا فَكَمَا أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ فَكَذَلِكَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَأَيْضًا فَهُوَ طَلَاقٌ مَنَعَ مِنْهُ الشَّرْعُ فَأَفَادَ مَنْعُهُ عَدَمَ جَوَازِ إِيقَاعِهِ فَكَذَلِكَ يُفِيدُ عَدَمَ نُفُوذِهِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلْمَنْعِ فَائِدَةٌ، لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ عَلَى وَجْهٍ فَطَلَّقَهَا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ لَمْ يَنْفُذْ، فَكَذَلِكَ لَمْ يَأْذَنِ الشَّارِعُ لِلْمُكَلَّفِ فِي الطَّلَاقِ إِلَّا إِذَا كَانَ مُبَاحًا، فَإِذَا طَلَّقَ طَلَاقًا مُحَرَّمًا لَمْ يَصِحَّ. وَأَيْضًا فَكُلُّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْعُقُودِ مَطْلُوبُ الْإِعْدَامِ، فَالْحُكْمُ بِبُطْلَانِ مَا حَرَّمَهُ أَقْرَبُ إِلَى
تَحْصِيلِ هَذَا الْمَطْلُوبِ مِنْ تَصْحِيحِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَلَالَ الْمَأْذُونَ فِيهِ لَيْسَ الْحَرَامُ الْمَمْنُوعُ مِنْهُ. ثُمَّ أَطَالَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ بِمُعَارَضَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا تَنْهَضُ مَعَ التَّنْصِيصِ عَلَى صَرِيحِ الْأَمْرِ بِالرَّجْعَةِ فَإِنَّهَا فَرْعُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى تَصْرِيحِ صَاحِبِ الْقِصَّةِ بِأَنَّهَا حُسِبَتْ عَلَيْهِ تَطْلِيقَةً، وَالْقِيَاسُ فِي مُعَارَضَةِ النَّصِّ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ عُورِضَ بِقِيَاسٍ أَحْسَنَ مِنْ قِيَاسِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَيْسَ الطَّلَاقُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ إِزَالَةُ عِصْمَةٍ فِيهَا حَقٌّ آدَمِيٌّ، فَكَيْفَمَا أَوْقَعَهُ وَقَعَ، سَوَاءٌ أُجِرَ فِي ذَلِكَ أَمْ أَثِمَ، وَلَوْ لَزِمَ الْمُطِيعُ وَلَمْ يَلْزَمِ الْعَاصِي لَكَانَ الْعَاصِي أَخَفَّ حَالًا مِنَ الْمُطِيعِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَمْ يَرِدِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ احْتَسَبَ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ إِلَّا فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَلَيْسَ فِيهَا تَصْرِيحٌ بِالرَّفْعِ، قَالَ: فَانْفِرَادُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِذَلِكَ كَانْفِرَادِ أَبِي الزُّبَيْرِ بِقَوْلِهِ لَمْ يَرَهَا شَيْئًا، فَإِمَّا أَنْ يَتَسَاقَطَا وَإِمَّا أَنْ تُرَجَّحَ رِوَايَةُ أَبِي الزُّبَيْرِ لِتَصْرِيحِهَا بِالرَّفْعِ، وَتُحْمَلُ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَلَى أَنَّ أَبَاهُ هُوَ الَّذِي حَسَبَهَا عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَلْزَمَ النَّاسَ فِيهِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِمْ بِهِ ثَلَاثًا إِذَا كَانَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ.
قُلْتُ: وَغَفَلَ رحمه الله عَمَّا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ عَلَى وِفَاقِ مَا رَوَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَفِي سِيَاقِهِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا رَاجَعَهَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَفْظُهُ سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنِ امْرَأَتِهِ الَّتِي طَلَّقَ فَقَالَ: طَلَّقْتُهَا وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْهَا لِطُهْرِهَا، قَالَ: فَرَاجَعْتُهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لِطُهْرِهَا قُلْتُ: فَاعْتَدَدْتَ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ وَهِيَ حَائِضٌ؟ فَقَالَ: مَا لِيَ لَا أَعْتَدُّ بِهَا وَإِنْ كُنْتُ عَجَزْتُ وَاسْتَحْمَقْتُ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ عَنْ سَالِمٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهَا فَرَاجَعَهَا كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَرَاجَعْتُهَا وَحُسِبَتْ لَهَا التَّطْلِيقَةُ الَّتِي طَلَّقْتُهَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُمْ أَرْسَلُوا إِلَى نَافِعٍ يَسْأَلُونَهُ: هَلْ حُسِبَتْ تَطْلِيقَةُ ابْنِ عُمَرَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: نَعَمْ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الرَّجْعَةَ يَسْتَقِلُّ بِهَا الزَّوْجُ دُونَ الْوَلِيِّ وَرِضَا الْمَرْأَةِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} وَفِيهِ: أَنَّ الْأَبَ يَقُومُ عَنِ ابْنِهِ الْبَالِغِ الرَّشِيدِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي تَقَعُ لَهُ مِمَّا يَحْتَشِمُ الِابْنُ مِنْ ذِكْرِهِ، وَيَتَلَقَّى عَنْهُ مَا لَعَلَّهُ يَلْحَقُهُ مِنَ الْعِتَابِ عَلَى فِعْلِهِ شَفَقَةً مِنْهُ وَبِرًّا. وَفِيهِ أَنَّ طَلَاقَ الطَّاهِرَةِ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ إِيقَاعَهُ فِي الْحَيْضِ لَا فِي غَيْرِهِ، وَلِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ. وَفِيهِ أَنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ لِقَوْلِهِ فِي طَرِيقِ سَالِمٍ الْمُتَقَدِّمَةِ ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا فَحَرَّمَ صلى الله عليه وسلم الطَّلَاقَ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ وَأَبَاحَهُ فِي زَمَنِ الْحَمْلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ حَيْضَ الْحَامِلِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ وَلَا تَخْفِيفِهَا لِأَنَّهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَأَبَاحَ الشَّارِعُ طَلَاقَهَا حَامِلًا مُطْلَقًا، وَأَمَّا غَيْرُ الْحَامِلِ فَفَرَّقَ بَيْنَ الْحَائِضِ وَالطَّاهِرِ لِأَنَّ الْحَيْضَ يُؤَثِّرُ فِي الْعِدَّةِ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَامِلِ وَغَيْرِهَا إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ الْحَمْلِ لَا بِسَبَبِ الْحَيْضِ وَلَا الطُّهْرِ. وَفِيهِ أَنَّ الْأَقْرَاءَ فِي الْعِدَّةِ هِيَ الْأَطْهَارُ، وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعِدَّةِ.
وَفِيهِ تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَحْرُمُ ; وَفِي رِوَايَةٍ كَالْجُمْهُورِ، وَرَجَّحَهَا الْفَاكِهَانِيُّ لِكَوْنِهِ شَرَطَ فِي الْإِذْنِ فِي الطَّلَاقِ عَدَمَ الْمَسِيسِ، وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ مَعْدُومٌ عِنْدَ عَدَمِهِ
3 - بَاب مَنْ طَلَّقَ وَهَلْ يُوَاجِهُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالطَّلَاقِ؟
5254 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: أَيُّ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدَنَا مِنْهَا، قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ لَهَا: لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: رَوَاهُ حَجَّاجُ بْنُ أَبِي مَنِيعٍ عَنْ جَدِّهِ، عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عُرْوَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ.
5255 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَسِيلٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْطَلَقْنَا إِلَى حَائِطٍ يُقَالُ لَهُ الشَّوْطُ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى حَائِطَيْنِ فَجَلَسْنَا بَيْنَهُمَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجْلِسُوا هَا هُنَا وَدَخَلَ وَقَدْ أُتِيَ بِالْجَوْنِيَّةِ فَأُنْزِلَتْ فِي بَيْتٍ فِي نَخْلٍ فِي بَيْتِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ النُّعْمَانِ بْنِ شَرَاحِيلَ وَمَعَهَا دَايَتُهَا حَاضِنَةٌ لَهَا فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ هَبِي نَفْسَكِ لِي قَالَتْ وَهَلْ تَهَبُ الْمَلِكَةُ نَفْسَهَا لِلسُّوقَةِ قَالَ فَأَهْوَى بِيَدِهِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتَسْكُنَ فَقَالَتْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ فَقَالَ قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ يَا أَبَا أُسَيْدٍ اكْسُهَا رَازِقِيَّتَيْنِ وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا"
[الحديث 5255 - طرفه في: 5257]
5256، 5257 - وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّيْسَابُورِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ وَأَبِي أُسَيْدٍ قَالَا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَيْمَةَ بِنْتَ شَرَاحِيلَ فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا فَكَأَنَّهَا كَرِهَتْ ذَلِكَ فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ أَنْ يُجَهِّزَهَا وَيَكْسُوَهَا ثَوْبَيْنِ رَازِقِيَّيْنِ"
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْوَزِيرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ حَمْزَةَ عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ بِهَذَا"
[الحديث 5256 - طرفه في: 5637]
5258 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي غَلَابٍ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَقَالَ تَعْرِفُ ابْنَ عُمَرَ إِنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَإِذَا طَهُرَتْ فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا قُلْتُ فَهَلْ عَدَّ ذَلِكَ طَلَاقًا قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ"
قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ طَلَّقَ، وَهَلْ يُوَاجِهُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالطَّلَاقِ) كَذَا لِلْجَمِيعِ وَحَذَفَ ابْنُ بَطَّالٍ مِنَ التَّرْجَمَةِ قَوْلَهُ مَنْ طَلَّقَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ وَجْهُهُ، وَأَظُنُّ الْمُصَنِّفَ قَصَدَ إِثْبَاتَ مَشْرُوعِيَّةِ جَوَازِ الطَّلَاقِ وَحَمَلَ حَدِيثَ أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ عَلَى مَا إِذَا وَقَعَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَأُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ، وَأَمَّا الْمُوَاجَهَةُ فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهَا خِلَافُ الْأَوْلَى لِأَنَّ تَرْكَ الْمُوَاجَهَةِ أَرْفَقُ وَأَلْطَفُ إِلَّا إِنُ احْتِيجَ إِلَى ذِكْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ
الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ.
أَحَدُهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ (إِنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ) زَادَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ الْكَلْبِيَّةَ وَهُوَ بَعِيدٌ عَلَى مَا سَأُبَيِّنُهُ، وَوَقَعَ فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ عَمْرَةَ بِنْتَ الْجَوْنِ تَعَوَّذَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ، قَالَ: لَقَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ الْحَدِيثَ. وَعُبَيْدٌ مَتْرُوكٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ اسْمَهَا أُمَيْمَةُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ شَرَاحِيلَ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ، وَقَالَ مُرَّةُ: أُمَيْمَةُ بِنْتُ شَرَاحِيلَ فَنُسِبَتْ لِجَدِّهَا، وَقِيلَ اسْمُهَا أَسْمَاءُ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ مَعَ شَرْحِهِ مُسْتَوْفًى، وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْكِلَابِيَّةَ فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ الْبَابِ، وَقَوْلُهُ الْكِلَابِيَّةُ غَلَطٌ وَإِنَّمَا هِيَ الْكِنْدِيَّةُ، فَكَأَنَّمَا الْكَلِمَةُ تَصَحَّفَتْ. نَعَمْ لِلْكِلَابِيَّةِ قِصَّةٌ أُخْرَى ذَكَرَهَا ابْنُ سَعْدٍ أَيْضًا بِهَذَا السَّنَدِ إِلَى الزُّهْرِيِّ وَقَالَ: اسْمُهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ، فَاسْتَعَاذَتْ مِنْهُ فَطَلَّقَهَا، فَكَانَتْ تَلْقُطُ الْبَعْرَ وَتَقُولُ: أَنَا الشَّقِيَّةُ. قَالَ: وَتُوُفِّيَتْ سَنَةَ سِتِّينَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ الْكِنْدِيَّةَ لَمَّا وَقَعَ التَّخْيِيرِ اخْتَارَتْ قَوْمَهَا فَفَارَقَهَا، فَكَانَتْ تَقُولُ: أَنَا الشَّقِيَّةُ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ أَنَّهَا اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ فَأَعَاذَهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِ اسْمُهَا الْعَالِيَةُ بِنْتُ ظَبْيَانِ بْنِ عَمْرٍو، وَحَكَى ابْنُ سَعْدٍ أَيْضًا أَنَّ اسْمَهَا عَمْرَةُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَقِيلَ: بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ الْجَوْنِ. وَأَشَارَ ابْنُ سَعْدٍ إِلَى أَنَّهَا وَاحِدَةٌ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الَّتِي اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ هِيَ الْجَوْنِيَّةُ.
وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ: لَمْ تَسْتَعِذْ مِنْهُ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا. قُلْتُ: وَهُوَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا وَقَعَ لِلْمُسْتَعِيذَةِ بِالْخَدِيعَةِ الْمَذْكُورَةِ فَيَبْعُدُ أَنْ تُخْدَعَ أُخْرَى بَعْدَهَا بِمِثْلِ مَا خُدِعَتْ بِهِ بَعْدَ شُيُوعِ الْخَبَرِ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ الْجَوْنِيَّةَ. وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ فِرَاقِهِ فَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا دَعَاهَا فَقَالَتْ: تَعَالَى أَنْتَ. فَطَلَّقَهَا. وَقِيلَ: كَانَ بِهَا وَضَحٌ كَالْعَامِرِيَّةِ. قَالَ: وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ: قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ، وَقَدْ أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنِّي فَطَلَّقَهَا. قَالَ: وَهَذَا بَاطِلٌ، إِنَّمَا قَالَ لَهُ هَذَا امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي الْعَنْبَرِ وَكَانَتْ جَمِيلَةً، فَخَافَ نِسَاؤُهُ أَنْ تَغْلِبَهُنَّ عَلَيْهِ، فَقُلْنَ لَهَا: إِنَّهُ يُعْجِبُهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَفَعَلَتْ، فَطَلَّقَهَا.
كَذَا قَالَ، وَمَا أَدْرِي لِمَ حَكَمَ بِبُطْلَانِ ذَلِكَ مَعَ كَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ فِيهِ وَثُبُوتِهِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَالْقَوْلُ الَّذِي نَسَبَهُ لِقَتَادَةَ ذَكَرَ مِثْلَهُ أَبُو سَعِيدٍ النَّيْسَابُورِيُّ، عَنْ شَرْقِيِّ بْنِ قُطَامِيٍّ.
قَوْلُهُ (رَوَاهُ حَجَّاجُ بْنُ أَبِي مَنِيعٍ عَنْ جَدِّهِ) هُوَ حَجَّاجُ بْنُ يُوسُفُ بْنُ أَبِي مَنِيعٍ، وَأَبُو مَنِيعٍ هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الْوَصَّافِيُّ - بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْفَاءِ - وَكَانَ يَكُونُ بِحَلَبٍ، وَلَمْ يُخْرِجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ إِلَّا مُعَلَّقًا وَكَذَا لِجَدِّهِ. وَهَذِهِ الطَّرِيقُ وَصَلَهَا الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: جَعَلَهَا تَطْلِيقَةً أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَوْلُهُ الْحَقِي بِأَهْلِكِ بِكَسْرِ الْأَلِفِ مِنِ الْحَقِي وَفَتْحِ الْحَاءِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي أَلْحِقْهَا فَإِنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ.
ثَانِيهَا:
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَسِيلٍ) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ ابْنُ الْغَسِيلِ وَهُوَ أَوْجَهُ، وَلَعَلَّهَا كَانَتِ ابْنَ غَسِيلِ الْمَلَائِكَةِ، فَسَقَطَ لَفْظُ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ بَدَلَ الْإِضَافَةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يُنْسَبُ إِلَى جَدِّ أَبِيهِ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَحَنْظَلَةُ هُوَ غَسِيلُ الْمَلَائِكَةِ اسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ وَهُوَ جُنُبٌ فَغَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْجُرْجَانِيِّ عَبْدِ الرَّحِيمِ، وَالصَّوَابُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْجَيَّانِيُّ.
قَوْلُهُ (إِلَى حَائِطٍ يُقَالُ لَهُ الشَّوْطُ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، وَقِيلَ مُعْجَمَةٌ هُوَ بُسْتَانٌ فِي الْمَدِينَةِ مَعْرُوفٌ.
قَوْلُهُ
(حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى حَائِطِينَ جَلَسْنَا بَيْنَهُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اجْلِسُوا هَاهُنَا وَدَخَلَ) أَيْ إِلَى الْحَائِطِ. في رِوَايَةٌ لِابْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةً مِنْ بَنِي الْجَوْنِ، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِهَا، فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَأَنْزَلْتُهَا بِالشَّوْطِ مِنْ وَرَاءِ ذُبَابٍ فِي أُطُمٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَخَرَجَ يَمْشِي وَنَحْنُ مَعَهُ. وَذُبَابٌ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ مُخَفَّفًا جَبَلٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ، وَالْأُطُمُ الْحُصُونُ وَهُوَ الْأُجُمُ أَيْضًا وَالْجَمْعُ آطَامٌ وَآجَامٌ كَعُنُقٍ وَأَعْنَاقٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ سَعْدٍ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ الْجَوْنِ الْكِنْدِيَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُسْلِمًا فَقَالَ: أَلَا أُزَوِّجُكَ أَجْمَلَ أَيِّمٍ فِي الْعَرَبِ؟ فَتَزَوَّجَهَا وَبَعَثَ مَعَهُ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ أَبُو أُسَيْدٍ: فَأَنْزَلْتُهَا فِي بَنِي سَاعِدَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا نِسَاءُ الْحَيِّ فَرِحِينَ بِهَا وَخَرَجْنَ فَذَكَرْنَ مِنْ جَمَالِهَا.
قَوْلُهُ (فَأُنْزِلَتْ فِي بَيْتٍ فِي نَخْلٍ فِي بَيْتٍ أُمَيْمَةُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ شَرَاحِيلَ) هُوَ بِالتَّنْوِينِ فِي الْكُلِّ، وَأُمَيْمَةُ بِالرَّفْعِ إِمَّا بَدَلًا عَنِ الْجَوْنِيَّةِ وَإِمَّا عَطْفُ بَيَانٍ، وَظَنَّ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ بِالْإِضَافَةِ فَقَالَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُمَيْمَةَ بِنْتَ شَرَاحِيلَ، وَلَعَلَّ الَّتِي نَزَلَتْ فِي بَيْتِهَا بِنْتُ أَخِيهَا ; وَهُوَ مَرْدُودٌ فَإِنَّ مَخْرَجُ الطَّرِيقِينَ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْوَهْمُ مِنْ إِعَادَةِ لَفْظِ فِي بَيْتِ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شيبة فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَقَالَ فِي بَيْتٍ فِي النَّخْلِ أُمَيْمَةُ إِلَخْ.
وَجَزَمَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ بِأَنَّهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ شَرَاحِيلَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْجَوْنِ الْكِنْدِيَّةُ، وَكَذَا جَزَمَ بِتَسْمِيَتِهَا أَسْمَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَمُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ وَغَيْرُهُمَا، فَلَعَلَّ اسْمَهَا أَسْمَاءُ وَلَقَبَهَا أُمَيْمَةُ. وَوَقَعَ فِي الْمَغَازِي رِوَايَةُ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَسْمَاءُ بِنْتُ كَعْبٍ الْجَوْنِيَّةُ فَلَعَلَّ فِي نَسَبِهَا مِنِ اسْمِهِ كَعْبٍ نَسَبَهَا إِلَيْهِ، وَقِيلَ هِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ النُّعْمَانِ.
قَوْلُهُ (وَمَعَهَا دَايَتُهَا حَاضِنَةً لَهَا) الدَّايَةُ بِالتَّحْتَانِيَّةِ الظِّئْرُ الْمُرْضِعُ وَهِيَ مُعَرَّبَةٌ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْحَاضِنَةِ.
قَوْلُهُ (هَبِي نَفْسَكِ لِي إِلَخْ) السُّوقَةُ بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ يُقَالُ لِلْوَاحِدِ مِنَ الرَّعِيَّةِ وَالْجَمْعِ، قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ يَسُوقُهُمْ فَيُسَاقُونَ إِلَيْهِ وَيَصْرِفُهُمْ عَلَى مُرَادِهِ، وَأَمَّا أَهْلُ السُّوقِ فَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ سُوقِيٌّ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالسُّوقَةُ عِنْدَهُمْ مَنْ لَيْسَ بِمَلِكٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، فَكَأَنَّهَا اسْتَبْعَدَتْ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَلِكَةَ مَنْ لَيْسَ بِمَلِكٍ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم قَدْ خُيِّرَ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا نَبِيًّا فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا تَوَاضُعًا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم لِرَبِّهِ. وَلَمْ يُؤَاخِذْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَلَامِهَا مَعْذِرَةً لَهَا لِقُرْبِ عَهْدِهَا بِجَاهِلِيَّتِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَحْتَمِلُ أَنَّهَا لَمْ تَعْرِفْهُ صلى الله عليه وسلم فَخَاطَبَتْهُ بِذَلِكَ، وَسِيَاقُ الْقِصَّةِ مِنْ مَجْمُوعِ طُرُقِهَا يَأْبَى هَذَا الِاحْتِمَالَ، نَعَمْ سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرَ الْأَشْرِبَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا فَقَدِمَتْ، فَنَزَلَتْ فِي أُجُمِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَاءَ بِهَا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنَكِّسَةٌ رَأْسَهَا، فَلَمَّا كَلَّمَهَا قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، قَالَ: لَقَدْ أَعَذْتُكِ مِنِّي. فَقَالُوا لَهَا: أَتَدْرِينَ مَنْ هَذَا؟ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ لِيَخْطُبَكِ، قَالَتْ: كُنْتُ أَنَا أَشْقَى مِنْ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَتِ الْقِصَّةُ وَاحِدَةً فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا وَلَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْحَقِي بِأَهْلِكِ تَطْلِيقًا، وَيَتَعَيَّنُ أَنَّهَا لَمْ تَعْرِفْهُ. وَإِنْ كَانَتِ الْقِصَّةُ مُتَعَدِّدَةً وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ فَلَعَلَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ هِيَ الْكِلَابِيَّةُ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الِاضْطِرَابُ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ - بِسَنَدٍ فِيهِ الْعَزْرَمِيُّ الضَّعِيفُ - عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَنَّا بِنْتُ سُفْيَانَ بْنِ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ بْنِ أَبِي بِكْرِ بْنِ كِلَابٍ، قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ يَخْطُبُ عَلَيْهِ امْرَأَةً مِنْ بَنِي عَامِرٍ يُقَالُ لَهَا عَمْرَةُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رُؤَاسِ بْنِ كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: اخْتَلَفَ عَلَيْنَا اسْمُ الْكِلَابِيَّةِ فَقِيلَ فَاطِمَةُ بِنْتُ الضَّحَّاكِ بْنُ سُفْيَانَ وَقِيلَ عَمْرَةُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ عُبَيْدٍ وَقِيلَ سَنَّا بِنْتُ سُفْيَانَ بْنِ عَوْفِ وَقِيلَ الْعَالِيَةُ بِنْتُ ظَبْيَانَ بْنِ
عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ وَاحِدَةٌ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ كُنَّ جَمْعًا وَلَكِنْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ قِصَّةٌ غَيْرُ قِصَّةِ صَاحِبَتِهَا. ثُمَّ تَرْجَمَ الْجَوْنِيَّةَ فَقَالَ: أَسْمَاءُ بِنْتُ النُّعْمَانِ. ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ قَالَ: قَدِمَ النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي الْجَوْنِ الْكِنْدِيُّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْلِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أُزَوِّجُكَ أَجْمَلَ أَيِّمٍ فِي الْعَرَبِ، كَانَتْ تَحْتَ ابْنِ عَمٍّ لَهَا فَتُوُفِّيَ وَقَدْ رَغِبَتْ فِيكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَابْعَثْ مَنْ يَحْمِلُهَا إِلَيْكَ.
فَبَعَثَ مَعَهُ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ. قَالَ أَبُو أُسَيْدٍ: فَأَقَمْتُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ تَحَمَّلَتْ مَعِي فِي مِحَفَّةٍ، فَأَقْبَلْتُ بِهَا حَتَّى قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَأَنْزَلْتُهَا فِي بَنِي سَاعِدَةَ، وَوَجَّهْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَأَخْبَرْتُهُ الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ أَبِي عَوْنٍ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ. ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْجَوْنِيَّةِ فَحَمَلْتُهَا حَتَّى نَزَلْتُ بِهَا فِي أُطُمِ بَنِي سَاعِدَةَ، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَخَرَجَ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْهِ حَتَّى جَاءَهَا الْحَدِيثَ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ: اسْمُ الْجَوْنِيَّةِ أَسْمَاءُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي الْجَوْنِ، قِيلَ لَهَا اسْتَعِيذِي مِنْهُ فَإِنَّهُ أَحْظَى لَكَ عِنْدَهُ، وَخُدِعَتْ لِمَا رُئِيَ مِنْ جَمَالِهَا، وَذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ حَمَلَهَا عَلَى مَا قَالَتْ فَقَالَ: إِنَّهُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ وَكَيْدُهُنَّ. فَهَذِهِ تَتَنَزَّلُ قِصَّتُهَا عَلَى حَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَمَّا الْقِصَّةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ فَيُمْكِنُ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَى هَذِهِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الِاسْتِعَاذَةُ، وَالْقِصَّةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ فِيهَا أَشْيَاءُ مُغَايِرَةٌ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ، فَيَقْوَى التَّعَدُّدُ، وَيَقْوَى أَنَّ الَّتِي فِي حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ اسْمُهَا أُمَيْمَةُ وَالَّتِي فِي حَدِيثِ سَهْلٍ اسْمُهَا أَسْمَاءُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأُمَيْمَةُ كَانَ قَدْ عَقَدَ عَلَيْهَا ثُمَّ فَارَقَهَا وَهَذِهِ لَمْ يُعْقِدْ عَلَيْهَا بَلْ جَاءَ لِيَخْطُبَهَا فَقَطْ.
قَوْلُهُ (فَأَهْوَى بِيَدِهِ) أَيْ أَمَالَهَا إِلَيْهَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ فَأَهْوَى إِلَيْهَا لِيُقَبِّلَهَا، وَكَانَ إِذَا اخْتَلَى النِّسَاءَ أَقْعَى وَقَبَّلَ وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ سَعْدٍ فَدَخَلَ عَلَيْهَا دَاخِلٌ مِنَ النِّسَاءِ وَكَانَتْ مِنْ أَجْمَلَ النِّسَاءِ فَقَالَتْ: إِنَّكِ مِنَ الْمُلُوكِ فَإِنْ كُنْتِ تُرِيدِينَ أَنْ تَحْظَيْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا جَاءَكَ فَاسْتَعِيذِي مِنْهُ. وَوَقَعَ عِنْدَهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْغَسِيلِ بِإِسْنَادِ حَدِيثِ الْبَابِ إِنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ دَخَلَتَا عَلَيْهَا أَوَّلَ مَا قَدِمَتْ فَمَشَّطَتَاهَا وَخَضَّبَتَاهَا، وَقَالَتْ لَهَا إِحْدَاهُمَا: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ مِنَ الْمَرْأَةِ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا أَنْ تَقُولَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ.
قَوْلُهُ (فَقَالَ: قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ) هُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ مَا يُسْتَعَاذُ بِهِ، أَوِ اسْمُ مَكَانِ الْعَوْذِ، وَالتَّنْوِينُ فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ فَقَالَ بِكُمِّهِ عَلَى وَجْهِهِ وَقَالَ: عُذْتِ مَعَاذًا. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَفِي أُخْرَى لَهُ فَقَالَ: أمنُ عَائِذَ اللَّهِ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ: يَا أَبَا أُسَيْدٍ اكْسُهَا رَازِقِيَّيْنِ) بِرَاءٍ ثُمَّ زَايٍ ثُمَّ قَافٍ بِالتَّثْنِيَةِ صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَالرَّازِقِيَّةُ ثِيَابٌ مِنْ كَتَّانٍ بِيضٌ طِوَالٌ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَكُونُ فِي دَاخِلِ بَيَاضِهَا زُرْقَةٌ، وَالرَّازِقِيُّ الصَّفِيقُ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: مَتَّعَهَا بِذَلِكَ إِمَّا وُجُوبًا وَإِمَّا تَفَضُّلًا. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي حُكْمُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ.
قَوْلُهُ (وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَيْسَ فِي هَذَا أَنَّهُ وَاجَهَهَا بِالطَّلَاقِ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَوَّلَ أَحَادِيثِ الْبَابِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَالَ لَهَا الْحَقِي بِأَهْلِكِ، ثُمَّ لَمَّا خَرَجَ إِلَى أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ لَهُ أَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا، فَلَا مُنَافَاةَ، فَالْأَوَّلُ قَصَدَ بِهِ الطَّلَاقَ وَالثَّانِي أَرَادَ بِهِ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ وَهُوَ أَنْ يُعِيدَهَا إِلَى أَهْلِهَا، لِأَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ هُوَ الَّذِي كَانَ أَحْضَرَهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ فَأَمَرَنِي فَرَدَدْتُهَا إِلَى قَوْمِهَا وَفِي أُخْرَى لَهُ فَلَمَّا وَصَلْتُ بِهَا تَصَايَحُوا وَقَالُوا: إِنَّكِ لَغَيْرُ مُبَارَكَةٍ، فَمَا دَهَاكِ؟ قَالَتْ: خُدِعْتُ.
قَالَ: فَتُوُفِّيَتْ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ. قَالَ وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهَا مَاتَتْ كَمَدًا ثُمَّ رُوِيَ بِسَنَدٍ فِيهِ الْكَلْبِيُّ أَنَّ الْمُهَاجِرَ بْنَ
أَبِي أُمَيَّةَ تَزَوَّجَهَا، فَأَرَادَ عُمَرَ مُعَاقَبَتَهَا فَقَالَتْ: مَا ضُرِبَ عَلَيَّ الْحِجَابُ، وَلَا سُمِّيتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ. فَكَفَّ عَنْهَا وَعَنِ الْوَاقِدِيِّ: سَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ خَلَفَ عَلَيْهَا، قَالَ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِثَبْتٍ. وَلَعَلَّ ابْنَ بَطَّالٍ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يُوَاجِهْهَا بِلَفْظِ الطَّلَاقِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ كَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: مَا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كِنْدِيَّةً إِلَّا أُخْتَ بَنِي الْجَوْنِ فَمَلَكَهَا. فَلَمَّا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ نَظَرَ إِلَيْهَا فَطَلَّقَهَا وَلَمْ يَبْنِ بِهَا. فَقَوْلُهُ فَطَلَّقَهَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ قَبْلُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَاجَهَهَا بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِ التَّرْجَمَةِ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ دُونَ بَتِّ الْحُكْمِ.
وَاعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا إِذْ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُ صُورَةِ الْعَقْدِ، وَامْتَنَعَتْ أَنْ تَهَبَ لَهُ نَفْسَهَا فَكَيْفَ يُطَلِّقُهَا؟ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ مِنْ نَفْسِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَرْأَةِ وَبِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا، فَكَانَ مُجَرَّدُ إِرْسَالِهِ إِلَيْهَا وَإِحْضَارِهَا وَرَغْبَتِهِ فِيهَا كَافِيًا فِي ذَلِكَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ هَبِي لِي نَفْسَكِ تَطْيِيبًا لِخَاطِرِهَا وَاسْتِمَالَةً لِقَلْبِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ سَعْدٍ إِنَّهُ اتَّفَقَ مَعَ أَبِيهَا عَلَى مِقْدَارِ صَدَاقِهَا، وَأَنَّ أَبَاهَا قَالَ لَهُ: إِنَّهَا رَغِبَتْ فِيكَ وَخُطِبَتْ إِلَيْكَ.
5256، 5257 - وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّيْسَابُورِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَأَبِي أُسَيْدٍ، قَالَا: تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَيْمَةَ بِنْتَ شَرَاحِيلَ، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَكَأَنَّهَا كَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ أَنْ يُجَهِّزَهَا وَيَكْسُوَهَا ثَوْبَيْنِ رَازِقِيَّيْنِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْوَزِيرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَمْزَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ بِهَذَا.
قَوْلُهُ (وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّيْسَابُورِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ ابْنُ الْغَسِيلِ (عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ وَأَبِي أُسَيْدٍ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أَحْمَدَ الْفَرَّاءِ، عَنِ الْحُسَيْنِ، وَمُرَادُ الْبُخَارِيِّ مِنْهُ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ الْوَلِيدِ شَارَكَ أَبَا نُعَيْمٍ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْغَسِيلِ، لَكِنِ اخْتَلَفَا فِي شَيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَمْزَةُ، وَقَالَ الْحُسَيْنُ: عَبَّاسُ بْنُ سَهْلٍ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقٍ ثَالِثَةٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَبَيَّنَ أَنَّهُ عِنْدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِالْإِسْنَادَيْنِ، لَكِنْ طَرِيقُ أَبِي أُسَيْدٍ، عَنْ حَمْزَةَ ابْنِهِ عَنْهُ، وَطَرِيقُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبَّاسٍ ابْنِهِ عَنْهُ، وَكَأَنَّ حَمْزَةَ حُذِفَ فِي رِوَايَةِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْوَلِيدِ فَصَارَ الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَالتَّحْرِيرُ مَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ وَهِيَ رِوَايَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْوَزِيرِ وَاسْمُ أَبِي الْوَزِيرِ عُمَرُ بْنُ مُطَرِّفٍ، وَهُوَ حِجَازِيٌّ نَزَلَ الْبَصْرَةَ، وَقَدْ أَدْرَكَهُ الْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَلْقَهُ فَحَدَّثَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ، وَذَكَرَهُ فِي تَارِيخِهِ فَقَالَ: مَاتَ بَعْدَ أَبِي عَاصِمٍ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى إِقَامَةِ إِسْنَادِهِ أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ.
تَنْبِيهَانِ:
الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ: الْحُسَيْنُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَلِيِّ النَّيْسَابُورِيُّ الْقُرَشِيُّ مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَمِائَتَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي بَابِ الْحَسَنِ مُكَبَّرًا مِنِ اسْمِهِ الْحَسَنَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَذَكَرَ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ الْحَسَنَ بْنَ الْوَلِيدِ النَّيْسَابُورِيَّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ وَأَبِي أُسَيْدٍ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُمَيْمَةَ بِنْتَ شَرَاحِيلَ كَذَا ذَكَرَهُ مُكَبَّرًا. قُلْتُ: لَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنَ الْبُخَارِيِّ إِلَّا مُصَغَّرًا، وَيُؤَيِّدُهُ اقْتِصَارُهُ عَلَيْهِ فِي تَارِيخِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّانِي: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ فِي السَّنَدِ الْأَوَّلِ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ خَطَأٌ سَقَطَتِ الْوَاوُ مِنْ قَوْلِهِ وَعَنْ عَبَّاسٍ وَقَدْ ثَبَتَتْ عِنْدَ جَمِيعِ الرُّوَاةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ الْحَقِي بِأَهْلِكِ وَأَرَادَ الطَّلَاقَ طَلُقَتْ، فَإِنْ لَمْ يُرِدِ الطَّلَاقَ لَمْ تَطْلُقْ عَلَى مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ تَوْبَتِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ يَعْتَزِلَ امْرَأَتَهُ قَالَ لَهَا: الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَكُونِي فِيهِمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي شَرْحِهِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي طَلَاقِ امْرَأَتِهِ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى قَبْلُ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَتَعْرِفُ ابْنَ عُمَرَ إِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ يَعْرِفُ أَنَّهُ يَعْرِفُهُ وَهُوَ الَّذِي يُخَاطِبُهُ؛ لِيُقَرِّرَهُ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَعَلَى الْقَبُولِ مِنْ نَاقِلِهَا، وَأَنَّهُ يَلْزَمُ الْعَامَّةَ الِاقْتِدَاءُ بِمَشَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، فَقَرَّرَهُ عَلَى
مَا يَلْزَمُهُ مِنْ ذَلِكَ لَا أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَيْسَ فِيهِ مُوَاجَهَةُ ابْنِ عُمَرَ الْمَرْأَةَ بِالطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا فِيهِ طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ الْمُوَاجِهَةُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا طَلَّقَهَا عَنْ شِقَاقٍ اهـ. وَلَمْ يَذْكُرْ مُسْتَنَدَهُ فِي الشِّقَاقِ الْمَذْكُورِ، فَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا تكُونَ عَنْ شِقَاقٍ بَلْ عَنْ سَبَبٍ آخَرَ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ تَحْتِي امْرَأَةٌ أُحِبُّهَا، وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُهَا فَقَالَ: طَلِّقْهَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَطِعْ أَبَاكَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ هَذِهِ، وَلَعَلَّ عُمَرَ لَمَّا أَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا وَشَاوَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَامْتَثَلَ أَمْرَهُ، اتَّفَقَ أَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ وَهِيَ فِي الْحَيْضِ، فَعَلِمَ عُمَرُ بِذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ السِّرُّ فِي تَوَلِّيهِ السُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ؛ لِكَوْنِهِ وَقَعَ مِنْ قِبَلِهِ.
4 - بَاب مَنْ جوز طَلَاقَ الثَّلَاثِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي مَرِيضٍ طَلَّقَ: لَا أَرَى أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتُهُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: تَرِثُهُ، وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: تَزَوَّجُ إِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ الْآخَرُ فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ؟
5259 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَسَأَلَ عَاصِمٌ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ جَاءَ عُوَيْمِرٌ، فَقَالَ: يَا عَاصِمُ، مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ عَاصِمٌ: لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا. قَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ، لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا، فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسْطَ النَّاسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ، فَأْتِ بِهَا. قَالَ سَهْلٌ: فَتَلَاعَنَا، وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ.
5260 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي وَإِنِّي نَكَحْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ الْقُرَظِيَّ وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ لَا حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ"
5261 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ فَطَلَّقَ فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَتَحِلُّ لِلْأَوَّلِ قَالَ لَا حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الأَوَّلُ"
قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ جَوَّزَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِلْأَكْثَرِ مَنْ أَجَازَ. وَفِي التَّرْجَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنَ السَّلَفِ مَنْ لَمْ يُجِزْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالْمَنْعِ مَنْ كَرِهَ الْبَيْنُونَةَ الْكُبْرَى، وَهِيَ بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَجْمُوعَةً أَوْ مُفَرَّقَةً، وَيُمْكِنُ أَنْ يُتَمَسَّكَ لَهُ بِحَدِيثِ أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الطَّلَاقِ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ كَانَ إِذَا أُتِيَ بِرَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أَوْجَعَ ظَهْرَهُ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِعَدَمِ الْجَوَازِ مَنْ قَالَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِذَا أَوْقَعَهَا مَجْمُوعَةً لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشِّيعَةِ وَبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَطَرَدَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ فِي كُلِّ طَلَاقٍ مَنْهِيٍّ كَطَلَاقِ الْحَائِضِ وَهُوَ شُذُوذٌ، وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى وُقُوعِهِ مَعَ مَنْعِ جَوَازِهِ، وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: أُخْبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنَّ مَحْمُودَ بْنَ لَبِيدٍ وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ مِنْهُ سَمَاعٌ، وَإِنْ ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي الصَّحَابَةِ فَلِأَجْلِ الرُّؤْيَةِ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَأَخْرَجَ لَهُ عِدَّةَ أَحَادِيثَ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ صَرَّحَ فِيهِ بِالسَّمَاعِ، وَقَدْ قَالَ النَّسَائِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ غَيْرَ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ يَعْنِي ابْنَ الْأَشَجِّ عَنْ أَبِيهِ اهـ.
وَرِوَايَةُ مَخْرَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ حَدِيثِ مَحْمُودٍ فَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ هَلْ أَمْضَى عَلَيْهِ الثَّلَاثَ مَعَ إِنْكَارِهِ عَلَيْهِ إِيقَاعَهَا مَجْمُوعَةً أَوْ لَا؟ فَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَإِنْ لَزِمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا مَجْمُوعَةً: عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ وَلَهُ أَلْفَاظٌ أُخْرَى نَحْوُ هَذِهِ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَغَيْرِهِ.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيَرُدُّهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ فَيَرْكَبُ الْأُحْمُوقَةَ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟! إِنَّ اللَّهَ قَالَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} وَإِنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَلَا أَجِدُ لَكَ مَخْرَجًا، عَصَيْتَ رَبَّكَ وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ لَهُ مُتَابَعَاتٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ. وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِالتَّحْرِيمِ وَاللُّزُومِ مَنْ قَالَ: إِذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا مَجْمُوعَةً وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ صَاحِبِ الْمَغَازِي، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طَلَّقَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا، فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ طَلَّقْتَهَا؟ قَالَ: ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ، فَارْتَجِعْهَا إِنْ شِئْتَ. فَارْتَجِعْهَا. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ الَّذِي فِي غَيْرِهِ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْآتِي ذِكْرُهَا. وَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ وَشَيْخَهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا، وَأُجِيبُ بِأَنَّهُمُ احْتَجُّوا فِي عِدَّةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ بِمِثْلِ هَذَا الْإِسْنَادِ كَحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ زَيْنَبَ ابْنَتَهُ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ كُلُّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ مَرْدُودًا.
وَالثَّانِي: مُعَارَضَتُهُ بِفَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ ; فَلَا يُظَنُّ بِابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ هَذَا الْحُكْمُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يُفْتِي بِخِلَافِهِ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ ظَهَرَ لَهُ، وَرَاوِي الْخَبَرِ أَخْبَرُ مِنْ غَيْرِهِ بِمَا رَوَى. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِرِوَايَةِ الرَّاوِي لَا بِرَأْيِهِ لِمَا يَطْرُقُ رَأْيَهُ مِنِ احْتِمَالِ النِّسْيَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا كَوْنُهُ تَمَسَّكَ بِمُرَجِّحٍ فَلَمْ يَنْحَصِرْ فِي الْمَرْفُوعِ لِاحْتِمَالِ التَّمَسُّكِ بِتَخْصِيصٍ أَوْ تَقْيِيدٍ أَوْ تَأْوِيلٍ، وَلَيْسَ قَوْلُ مُجْتَهِدٍ حُجَّةً عَلَى مُجْتَهِدٍ آخَرَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ أَبَا دَاوُدَ رَجَّحَ أَنَّ رُكَانَةَ إِنَّمَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ كَمَا أَخْرَجَهُ هُوَ مِنْ طَرِيقِ آلِ بَيْتِ رُكَانَةَ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ قَوِيٌّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ رُوَاتِهِ حَمَلَ الْبَتَّةَ عَلَى الثَّلَاثِ فَقَالَ: طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَبهَذِهِ النُّكْتَةُ يَقِفُ الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ مَذْهَبٌ شَاذٌّ فَلَا يُعْمَلُ بِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ مِثْلُهُ، نَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ مُغِيثٍ فِي كِتَابِ الْوَثَائِقِ لَهُ وَعَزَاهُ لِمُحَمَّدِ بْنِ وَضَّاحٍ، وَنَقَلَ الْغَنَوِيُّ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ مَشَايِخِ قُرْطُبَةَ كَمُحَمَّدِ بْنِ تَقِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْخُشَنِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ.
وَيُتَعَجَّبُ مِنِ ابْنِ التِّينِ حَيْثُ جَزَمَ بِأَنَّ لُزُومَ الثَّلَاثِ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي التَّحْرِيمِ مَعَ ثُبُوتِ الِاخْتِلَافِ كَمَا تَرَى، وَيُقَوِّي حَدِيثَ ابْنِ إِسْحَاقَ الْمَذْكُورَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَتَعْلَمُ إِنَّمَا كَانَتِ الثَّلَاثُ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَثَلَاثًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَلَمِ يَكُنْ طَلَاقُ الثَّلَاثِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاحِدَةً؟ قَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ.
وَهَذِهِ الطَّرِيقُ الْأَخِيرَةُ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ، لَكِنْ لَمْ يُسَمِّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مَيْسَرَةَ وَقَالَ بَدَلَهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ وَلَفْظُ الْمَتْنِ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً الْحَدِيثَ، فَتَمَسَّكَ بِهَذَا السِّيَاقِ مَنْ أَعَلَّ الْحَدِيثَ وَقَالَ: إِنَّمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا.
وَهَذَا أَحَدُ الْأَجْوِبَةِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ، وَهُوَ جَوَابُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَجَمَاعَةٌ، وَبِهِ جَزَمَ زَكَرِيَّا السَّاجِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا تَبِينُ إِذَا قَالَ لَهَا زَوْجُهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا قَالَ ثَلَاثًا لَغَا الْعَدَدَ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ. وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا كَلَامٌ مُتَّصِلٌ غَيْرُ مُنْفَصِلٍ، فَكَيْفَ يَصِحُّ جَعْلُهُ كَلِمَتَيْنِ وَتُعْطَى كُلُّ كَلِمَةٍ حُكْمًا؟ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعْنَاهُ أَنْتِ ذَاتُ الطَّلَاقِ، وَهَذَا اللَّفْظُ يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِالْوَاحِدَةِ وَبِالثَّلَاثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
الْجَوَابُ الثَّانِي: دَعْوَى شُذُوذِ رِوَايَةِ طَاوُسٍ، وَهِيَ طَرِيقَةُ الْبَيْهَقِيِّ، فَإِنَّهُ سَاقَ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلُزُومِ الثَّلَاثِ ثُمَّ نَقَلَ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَحْفَظُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا وَيُفْتِي بِخِلَافِهِ، فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَى التَّرْجِيحِ، وَالْأَخْذُ بِقَوْلِ الْأَكْثَرِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ إِذَا خَالَفَهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا حَدِيثٌ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهِ، فَكَيْفَ يُقَدَّمُ عَلَى الْإِجْمَاعِ؟ قَالَ: وَيُعَارِضُهُ حَدِيثُ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ - يَعْنِي الَّذِي تَقَدَّمَ أَنَّ النَّسَائِيَّ أَخْرَجَهُ - فَإِنَّ فِيهِ التَّصْرِيحَ بِأَنَّ الرَّجُلَ طَلَّقَ ثَلَاثًا مَجْمُوعَةً وَلَمْ يَرُدَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَلْ أَمْضَاهُ، كَذَا قَالَ، وَلَيْسَ فِي سِيَاقِ الْخَبَرِ تَعَرُّضٌ لِإِمْضَاءِ ذَلِكَ وَلَا لِرَدِّهِ.
الْجَوَابُ الثَّالِثُ: دَعْوَى النَّسْخِ، فَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلِمَ شَيْئًا نَسَخَ ذَلِكَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَيُقَوِّيهِ مَا
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَنُسِخَ ذَلِكَ.
وَقَدْ أَنْكَرَ الْمَازِرِيُّ ادِّعَاءَ النَّسْخِ فَقَالَ: زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ. وَهُوَ غَلَطٌ؛ فَإِنَّ عُمَرَ لَا يَنْسَخُ، وَلَوْ نَسَخَ - وَحَاشَاهُ - لَبَادَرَ الصَّحَابَةُ إِلَى إِنْكَارِهِ. وَإِنْ أَرَادَ الْقَائِلُ أَنَّهُ نُسِخَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَمْتَنِعُ، لَكِنْ يَخْرُجُ عَنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِلرَّاوِي أَنْ يُخْبِرَ بِبَقَاءِ الْحُكْمِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَبَعْضِ خِلَافَةِ عُمَرَ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يُجْمِعُ الصَّحَابَةُ وَيُقْبَلُ مِنْهُمْ ذَلِكَ، قُلْنَا إِنَّمَا يُقْبَلُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى نَاسِخٍ، وَأَمَّا أَنَّهُمْ يَنْسَخُونَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ فَمَعَاذَ اللَّهِ لِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ عَلَى الْخَطَأِ وَهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ فَلَعَلَّ النَّسْخَ إِنَّمَا ظَهَرَ فِي زَمَنِ عُمَرَ، قُلْنَا: هَذَا أَيْضًا غَلَطٌ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْخَطَأِ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، وَلَيْسَ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى الرَّاجِحِ.
قُلْتُ: نَقَلَ النَّوَوِيُّ هَذَا الْفَصْلَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَأَقَرَّهُ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ فِي مَوَاضِعَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِي ادَّعَى نَسْخَ الْحُكْمِ لَمْ يَقُلْ إِنَّ عُمَرَ هُوَ الَّذِي نَسَخَ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْهُ مَا ذُكِرَ، وَإِنَّمَا قَالَ مَا تَقَدَّمَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَسَخَ، أَيِ اطَّلَعَ عَلَى نَاسِخٍ لِلْحُكْمِ الَّذِي رَوَاهُ مَرْفُوعًا، وَلِذَلِكَ أَفْتَى بِخِلَافِهِ. وَقَدْ سَلَّمَ الْمَازِرِيُّ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ يَدُلُّ عَلَى نَاسِخٍ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُ مَنِ ادَّعَى النَّسْخَ.
الثَّانِي: إِنْكَارُهُ الْخُرُوجَ عَنِ الظَّاهِرِ عَجِيبٌ، فَإِنَّ الَّذِي يُحَاوِلُ الْجَمْعَ بِالتَّأْوِيلِ يَرْتَكِبُ خِلَافَ الظَّاهِرِ حَتْمًا.
الثَّالِثُ: أَنَّ تَغْلِيطَهُ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ ظُهُورُ النَّسْخِ عَجِيبٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِظُهُورِهِ انْتِشَارُهُ، وَكَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُفْعَلُ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ فَلَا يَلْزَمُ مَا ذُكِرَ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْخَطَأِ، وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ مَسْأَلَةِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ لَا يَجِيءُ هُنَا، لِأَنَّ عَصْرَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَنْقَرِضْ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ بَلْ وَلَا عُمَرَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْعَصْرِ الطَّبَقَةُ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَهُمْ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ بَلْ وَبَعْدَهُمَا طَبَقَةٌ وَاحِدَةٌ.
الْجَوَابُ الرَّابِعُ: دَعْوَى الِاضْطِرَابِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: وَقَعَ فِيهِ - مَعَ الِاخْتِلَافِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - الِاضْطِرَابَ فِي لَفْظِهِ، وَظَاهِرُ سِيَاقِهِ يَقْتَضِي النَّقْلَ عَنْ جَمِيعِهِمْ أَنَّ مُعْظَمَهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ ذَلِكَ، وَالْعَادَةُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَفْشُوَ الْحُكْمَ وَيَنْتَشِرَ فَكَيْفَ يَنْفَرِدُ بِهِ وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ؟ قَالَ: فَهَذَا الْوَجْهُ يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ عَنِ الْعَمَلِ بِظَاهِرِهِ إِنْ لَمْ يَقْتَضِ الْقَطْعَ بِبُطْلَانِهِ.
الْجَوَابُ الْخَامِسُ: دَعْوَى أَنَّهُ وَرَدَ فِي صُورَةٍ خَاصَّةٍ، فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ وَرَدَ فِي تَكْرِيرِ اللَّفْظِ كَأَنْ يَقُولُ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، وَكَانُوا أَوَّلًا عَلَى سَلَامَةِ صُدُورِهِمْ يُقْبَلُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّأْكِيدَ، فَلَمَّا كَثُرَ النَّاسُ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَكَثُرَ فِيهِمُ الْخِدَاعُ وَنَحْوُهُ مِمَّا يَمْنَعُ قَبُولَ مَنِ ادَّعَى التَّأْكِيدَ، حَمَلَ عُمَرُ اللَّفْظَ عَلَى ظَاهِرِ التَّكْرَارِ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا الْجَوَابُ ارْتَضَاهُ الْقُرْطُبِيُّ وَقَوَّاهُ بِقَوْلِ عُمَرَ: إِنَّ النَّاسَ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ هَذَا أَصَحُّ الْأَجْوِبَةِ.
الْجَوَابُ السَّادِسُ: تَأْوِيلُ قَوْلِهِ وَاحِدَةٌ وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ كَأَنَّ الثَّلَاثَ وَاحِدَةٌ أَنَّ النَّاسَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يُطَلِّقُونَ وَاحِدَةً فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُمَرَ كَانُوا يُطَلِّقُونَ ثَلَاثًا، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الطَّلَاقَ الْمَوْقِعَ فِي عَهْدِ عُمَرَ ثَلَاثًا كَانَ يُوقِعُ قَبْلَ ذَلِكَ وَاحِدَةً لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَسْتَعْمِلُونَ الثَّلَاثَ أَصْلًا أَوْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهَا نَادِرًا، وَأَمَّا فِي عَصْرِ عُمَرَ فَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ لَهَا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ وَأَجَازَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ أَنَّهُ صَنَعَ فِيهِ مِنَ الْحُكْمِ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ مَا كَانَ يَصْنَعُ قَبْلَهُ، وَرَجَّحَ هَذَا التَّأْوِيلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ، وَكَذَا أَوْرَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدِي أَنَّ مَا تُطَلِّقُونَ أَنْتُمْ ثَلَاثًا كَانُوا يُطَلِّقُونَ وَاحِدَةً، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْخَبَرُ وَقَعَ عَنِ اخْتِلَافِ عَادَةِ النَّاسِ خَاصَّةً لَا عَنْ تُغَيِّرِ الْحُكْمِ فِي الْوَاحِدَةِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْجَوَابُ السَّابِعُ:
دَعْوَى وَقْفِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَبْلُغُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيُقِرُّهُ، وَالْحُجَّةُ إِنَّمَا هيَ فِي تَقْرِيرِهِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حُكْمِ الرَّفْعِ عَلَى الرَّاجِحِ حَمْلًا عَلَى أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ فَأَقَرَّهُ لِتَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى السُّؤَالِ عَنْ جَلِيلِ الْأَحْكَامِ وَحَقِيرِهَا.
الْجَوَابُ الثَّامِنُ: حَمْلُ قَوْلِهِ ثَلَاثًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا لَفْظُ الْبَتَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ رُكَانَةَ سَوَاءً. وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَهُوَ قَوِيٌّ وَيُؤَيِّدُهُ إِدْخَالُ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ الْآثَارَ الَّتِي فِيهَا الْبَتَّةَ وَالْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيحُ بِالثَّلَاثِ؛ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ الْبَتَّةَ إِذَا أُطْلِقَتْ حُمِلَ عَلَى الثَّلَاثِ إِلَّا إِنْ أَرَادَ الْمُطَلِّقُ وَاحِدَةً فَيُقْبَلُ، فَكَأَنَّ بَعْضَ رُوَاتِهِ حَمَلَ لَفْظَ الْبَتَّةَ عَلَى الثَّلَاثِ لِاشْتِهَارِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فَرَوَاهَا بِلَفْظِ الثَّلَاثِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ لَفْظُ الْبَتَّةَ، وَكَانُوا فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ يَقْبَلُونَ مِمَّنْ قَالَ أَرَدْتُ بِالْبَتَّةِ الْوَاحِدَةَ فَلَمَّا كَانَ عَهْدُ عُمَرَ أَمْضَى الثَّلَاثَ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ فِي اللُّزُومِ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ ظَاهِرَةٌ جِدًّا، وَهُوَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ لِلْمُطَلِّقِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَجْمُوعِهَا وَمُفَرَّقِهَا لُغَةً وَشَرْعًا، وَمَا يَتَخَيَّلُ مِنَ الْفَرْقِ صُورِيٌّ أَلْغَاهُ الشَّرْعُ اتِّفَاقًا فِي النِّكَاحِ وَالْعِتْقِ وَالْأَقَارِيرِ، فَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ أَنْكَحْتُكَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ انْعَقَدَ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْكَحْتُكَ هَذِهِ وَهَذِهِ وَهَذِهِ، وَكَذَا فِي الْعِتْقِ وَالْإِقْرَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ إِنَّ الثَّلَاثَ إِذَا وَقَعَتْ مَجْمُوعَةً حُمِلَتْ عَلَى الْوَاحِدَةِ بِأَنَّ مَنْ قَالَ أَحْلِفُ بِاللَّهِ ثَلَاثًا لَا يُعَدُّ حَلِفُهُ إِلَّا يَمِينًا وَاحِدَةً، فَلْيَكُنِ الْمُطَلِّقُ مِثْلَهُ.
وَتُعُقِّبَ بِاخْتِلَافِ الصِّيغَتَيْنِ فَإِنَّ الْمُطَلِّقَ يُنْشِئُ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ وَقَدْ جُعِلَ أَمَدُ طَلَاقِهَا ثَلَاثًا، فَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ جَمِيعَ الطَّلَاقِ، وَأَمَّا الْحَلِفُ فَلَا أَمَدَ لِعَدَدِ أَيْمَانِهِ فَافْتَرَقَا. وَفِي الْجُمْلَةِ فَالَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظِيرُ مَا وَقَعَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُتْعَةِ سَوَاءً، أَعْنِي قَوْلَ جَابِرٍ إِنَّهَا كَانَتْ تُفْعَلُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، قَالَ: ثُمَّ نَهَانَا عُمَرُ عَنْهَا فَانْتَهَيْنَا، فَالرَّاجِحُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَحْرِيمُ الْمُتْعَةِ وَإِيقَاعُ الثَّلَاثِ لِلْإِجْمَاعِ الَّذِي انْعَقَدَ فِي عَهْدِ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُحْفَظُ أَنَّ أَحَدًا فِي عَهْدِ عُمَرَ خَالَفَهُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَقَدْ دَلَّ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى وُجُودِ نَاسِخٍ وَإِنْ كَانَ خَفِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى ظَهَرَ لِجَمِيعِهِمْ فِي عَهْدِ عُمَرَ، فَالْمُخَالِفُ بَعْدَ هَذَا الْإِجْمَاعِ مُنَابِذٌ لَهُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مَنْ أَحْدَثَ الِاخْتِلَافَ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ أَطَلْتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِالْتِمَاسِ مَنِ الْتَمَسَ ذَلِكَ مِنِّي وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَوْلُهُ (لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} قَدِ اسْتُشْكِلَ وَجْهُ اسْتِدْلَالِ الْمُصَنِّفِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا تَرْجَمَ بِهِ مِنْ تَجْوِيزِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ كَانَ أَرَادَ بِالتَّرْجَمَةِ مُطْلَقَ وُجُودِ الثَّلَاثِ مُفَرَّقَةً كَانَتْ أَوْ مَجْمُوعَةً، فَالْآيَةُ وَارِدَةٌ عَلَى الْمَانِعِ لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ تَجْوِيزَ الثَّلَاثِ مَجْمُوعَةً وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَأَشَارَ بِالْآيَةِ إِلَى أَنَّهَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْمُخَالِفُ لِلْمَنْعِ مِنَ الْوُقُوعِ لِأَنَّ ظَاهِرَهَا أَنَّ الطَّلَاقَ الْمَشْرُوعَ لَا يَكُونُ بِالثَّلَاثِ دَفْعَةً بَلْ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِذَلِكَ عَلَى مَنْعِ جَمِيعِ الثَّلَاثِ غَيْرُ مُتَّجِهٍ إِذْ لَيْسَ فِي السِّيَاقِ الْمَنْعُ مِنْ غَيْرِ الْكَيْفِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، بَلِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ إِيقَاعَ الْمَرَّتَيْنِ لَيْسَ شَرْطًا وَلَا رَاجِحًا، بَلِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ إِيقَاعَ الْوَاحِدَةِ أَرْجَحُ مِنْ إِيقَاعِ الثِّنْتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ مُرَادَهُ دَفْعُ دَلِيلِ الْمُخَالِفِ بِالْآيَةِ لَا الِاحْتِجَاجُ بِهَا لِتَجْوِيزِ الثَّلَاثِ، هَذَا الَّذِي تَرَجَّحَ عِنْدِي.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ بِالْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ جَمْعِ الثِّنْتَيْنِ وَإِذَا جَازَ جَمْعُ الثِّنْتَيْنِ دَفْعَةً جَازَ جَمْعُ الثَّلَاثِ دَفْعَةً كَذَا، قَالَ: وَهُوَ قِيَاسٌ مَعَ وُضُوحِ الْفَارِقِ، لِأَنَّ جَمْعَ الثِّنْتَيْنِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْبَيْنُونَةَ الْكُبْرَى بَلْ تَبْقَى لَهُ الرَّجْعَةُ إِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً وَتَجْدِيدُ الْعَقْدِ بِغَيْرِ
انْتِظَارِ عِدَّةٍ إِنْ كَانَتْ بَائِنًا، بِخِلَافِ جَمْعِ الثَّلَاثِ. ثُمَّ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَوِ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ إِيقَاعَ الثَّلَاثِ دَفْعَةً.
قُلْتُ: وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ لَكِنَّ التَّسْرِيحَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا بَعْدَ إِيقَاعِ الثِّنْتَيْنِ فَلَا يَتَنَاوَلُ إِيقَاعَ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ، فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فِيمَا ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ أَيْ أَكْثَرُ الطَّلَاقِ - الَّذِي يَكُونُ بَعْدَهُ الْإِمْسَاكُ أَوِ التَّسْرِيحُ - مَرَّتَانِ، ثُمَّ حِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ يَخْتَارَ اسْتِمْرَارَ الْعِصْمَةِ فَيُمْسِكَ الزَّوْجَةَ أَوِ الْمُفَارَقَةَ فَيُسَرِّحُهَا بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ نَقَلَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الْجُمْهُورِ، وَنَقَلُوا عَنِ السُّدِّيِّ، وَالضَّحَّاكِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّسْرِيحِ فِي الْآيَةِ تَرْكُ الرَّجْعَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَتَحْصُلَ الْبَيْنُونَةُ، وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ، فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ؟ قَالَ: إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، لَكِنَّهُ مُرْسَلٌ لِأَنَّ أَبَا رَزِينٍ لَا صُحْبَةَ لَهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَ عَنْ أَنَسٍ لَكِنَّهُ شَاذٌّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَحْفُوظُ، وَقَدْ رَجَّحَ الْكِيَا الْهَرَّاسِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فِي كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لَهُ قَوْلُ السُّدِّيِّ، وَدَفَعَ الْخَبَرَ لِكَوْنِهِ مُرْسَلًا، وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ فَائِدَةٍ، وَهِيَ بَيَانُ حَالِ الْمُطَلَّقَةِ، وَأَنَّهَا تَبِينُ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا.
قَالَ: وَتُؤْخَذُ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا} اهـ. وَالْأَخْذُ بِالْحَدِيثِ أَوْلَى فَإِنَّهُ مُرْسَلٌ حَسَنٌ يَعْتَضِدُ بِمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي الثَّالِثَةِ، فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَهَا فَيُحْسِنُ صُحْبَتَهَا أَوْ يُسَرِّحَهَا فَلَا يَظْلِمْهَا مِنْ حَقِّهَا شَيْئًا وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ أَجَازَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وَهَذِهِ إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ إِنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الْفُسْحَةِ لَهُمْ، فَمَنْ ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ لَزِمَهُ، كَذَا قَالَ وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ اللُّزُومِ الْمَذْكُورِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لَا أَرَى أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَةٌ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ مَبْتُوتَتُهُ بِزِيَادَةِ ضَمِيرٍ لِلرَّجُلِ، وَكَأَنَّهُ حُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَصَلَهُ الشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَنِ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فَيَبُتُّهَا ثُمَّ يَمُوتُ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا، قَالَ: أَمَّا عُثْمَانُ فَوَرَّثَهَا، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَرَى أَنْ أُوَرِّثَهَا لِبَيْنُونَتِهِ إِيَّاهَا.
قَوْلُهُ (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ تَرِثُهُ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، والشَّعْبِيُّ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ قَالَ: تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَتَرِثُهُ مَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ قَاضِي الْكُوفَةِ.
قَوْلُهُ (تَزَوَّجُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ آخِرِهِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَحْذُوفُ الْأَدَاةِ.
قَوْلُهُ (إِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ؟ قَالَ: نَعَمْ) هَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّ الْخِطَابَ دَارَ بَيْنَ الشَّعْبِيِّ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، لَكِنِ الَّذِي رَأَيْتُ فِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَّهُ كَانَ مَعَ غَيْرِهِ فَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ، إِنْ مَاتَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ وَرِثَتْهُ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ شُبْرُمَةَ: أَرَأَيْتَ إِنِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ.
قَوْلُهُ (قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ الْآخَرُ فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ) هَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مُخْتَصَرًا، وَالَّذِي فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ الْمَذْكُورَةِ فَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: أَتَتَزَوَّجُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنْ مَاتَ هَذَا وَمَاتَ الْأَوَّلُ أَتَرِثُ زَوْجَيْنِ؟ قَالَ: لَا. فَرَجَعَ إِلَى الْعِدَّةِ فَقَالَ: تَرِثُهُ مَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ. وَلَعَلَّهُ سَقَطَ ذِكْرُ الشَّعْبِيِّ مِنَ الرِّوَايَةِ. وَأَبُو هَاشِمٍ الْمَذْكُورُ هُوَ الرُّمَّانِيُّ بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ اسْمُهُ يَحْيَى، وَهُوَ وَاسِطِيٌّ كَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَى الْكُوفَةِ، وَهُوَ ثِقَةٌ. وَمَحَلُّ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ كِتَابُ الْفَرَائِضِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ هُنَا اسْتِطْرَادًا. وَالْمَبْتُوتَةُ بِمُوَحَّدَةٍ وَمُثَنَّاتَيْنِ مَنْ قِيلَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ الْبَتَّةَ وَتُطْلَقُ عَلَى مَنْ أُبِينَتْ بِالثَّلَاثِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ.
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ:
حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ اللِّعَانِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ، وَقَدْ تُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمُفَارَقَةَ فِي الْمُلَاعَنَةِ وَقَعَتْ بِنَفْسِ اللِّعَانِ فَلَمْ يُصَادِفْ تَطْلِيقُهُ إِيَّاهَا ثَلَاثًا مَوْقِعًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ مِنْ كَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ إِيقَاعَ الثَّلَاثِ مَجْمُوعَةً، فَلَوْ كَانَ مَمْنُوعًا لَأَنْكَرَهُ، وَلَوْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ أَيْضًا أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَتَحِلُّ لِلْأَوَّلِ؟ قَالَ: لَا الْحَدِيثَ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُخْتَصَرًا مِنْ قِصَّةِ رِفَاعَةَ فَقَدْ ذَكَرْتُ تَوْجِيهَ الْمُرَادِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى فَالتَّمَسُّكُ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهَا مَجْمُوعَةً، وَسَيَأْتِي فِي شَرْحِ قِصَّةِ رِفَاعَةَ أَنَّ غَيْرَهُ وَقَعَ لَهُ مَعَ امْرَأَةٍ نَظِيرُ مَا وَقَعَ لِرِفَاعَةَ، فَلَيْسَ التَّعَدُّدُ فِي ذَلِكَ بِبَعِيدٍ.
5 - بَاب مَنْ خَيَّرَ أزواجه، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا}
5262 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاخْتَرْنَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا شَيْئًا.
[الحديث 5262 - طرفه في: 5263]
5263 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَامِرٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ الْخِيَرَةِ فَقَالَتْ خَيَّرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَفَكَانَ طَلَاقًا قَالَ مَسْرُوقٌ لَا أُبَالِي أَخَيَّرْتُهَا وَاحِدَةً أَوْ مِائَةً بَعْدَ أَنْ تَخْتَارَنِي"
قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ خَيَّرَ أَزْوَاجَهُ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْأَحْزَابِ بَيَانُ سَبَبِ التَّخْيِيرِ الْمَذْكُورِ، وَفِيمَا إِذَا وَقَعَ التَّخْيِيرُ، وَمَتَى كَانَ التَّخْيِيرُ؟ وَأَذْكُرُ هُنَا بَيَانَ حُكْمِ مَنْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ مَعَ بَقِيَّةِ شَرْحِ حَدِيثِ الْبَابِ. وَوَقَعَ هُنَا فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ قَبْلَ حَدِيثِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ حَدِيثُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهَا فِي الْمَعْنَى، قَالَ فِيهِ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ح، وَقَالَ اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ الْحَدِيثَ وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِ يُونُسَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الطَّرِيقَانِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَسَاقَ رِوَايَةَ شُعَيْبٍ وَأَوَّلُهَا أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ لَهَا حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ الْحَدِيثَ. ثُمَّ سَاقَ رِوَايَةَ اللَّيْثِ مُعَلَّقَةً أَيْضًا فِي تَرْجَمَةٍ
أُخْرَى.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ) أَيِ ابْنُ غِيَاثٍ الْكُوفِيُّ، وَقَوْلُهُ مُسْلِمٌ هُوَ ابْنُ صُبَيْحٍ بِالتَّصْغِيرِ أَبُو الضُّحَى مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمِهِ، وَفِي طَبَقَتِهِ مُسْلِمٌ الْبَطِينُ وَهُوَ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ لَكِنَّهُ وَإِنْ رَوَى عَنْهُ الْأَعْمَشُ لَا يَرْوِي عَنْ مَسْرُوقٍ، وَفِي طَبَقَتِهِمَا مُسْلِمُ بْنُ كَيْسَانَ الْأَعْوَرُ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ وَلَا لَهُ رِوَايَةٌ عَنْ مَسْرُوقٍ.
قَوْلُهُ (خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ خَيَّرَ نِسَاءَهُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
قَوْلُهُ (فَاخْتَرْنَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَلَمْ يَعُدَّ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ وَضَمِّ الْعَيْنِ مِنَ الْعَدَدِ، وَفِي رِوَايَةٍ فَلَمْ يَعْدُدْ بِفَكِّ الْإِدْغَامِ، وَفِي أُخْرَى فَلَمْ يَعْتَدَّ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ مِنَ الِاعْتِدَادِ، وَقَوْلُهُ فَلَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا شَيْئًا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَلَمْ يَعُدَّهُ طَلَاقًا.
قَوْلُهُ (إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ.
قَوْلُهُ (سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الْخِيَرَةِ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ بِمَعْنَى الْخِيَارِ.
قَوْلُهُ (أَفَكَانَ طَلَاقًا؟) هُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَلِأَحْمَدَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ فَهَلْ كَانَ طَلَاقًا؟ وَكَذَا لِلنَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ.
قَوْلُهُ (قَالَ مَسْرُوقٌ: لَا أُبَالِي أَخَيَّرْتُهَا وَاحِدَةً أَوْ مِائَةً بَعْدَ أَنْ تَخْتَارَنِي) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ فَقَدَّمَ كَلَامَ مَسْرُوقٍ الْمَذْكُورَ وَلَفْظُهُ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ مَا أُبَالِي فَذَكَرَ مِثْلَهُ وَزَادَ أَوْ أَلْفًا، وَلَقَدْ سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَذَكَرَ حَدِيثَهَا، وَبِقَوْلِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ يَقُولُ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ خَيَّرَ زَوْجَتَهُ فَاخْتَارَتْهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ طَلَاقٌ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا هَلْ يَقَعُ طَلْقَةً وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنًا أَوْ يَقَعُ ثَلَاثًا؟ وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ: إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاح دَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَثَلَاثٌ، وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَعَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ: إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَعَنْهُمَا رَجْعِيَّةٌ، وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ.
وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ التَّخْيِيرَ تَرْدِيدٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَلَوْ كَانَ اخْتِيَارُهَا لِزَوْجِهَا طَلَاقًا لَاتَّحَدَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اخْتِيَارَهَا لِنَفْسِهَا بِمَعْنَى الْفِرَاقِ وَاخْتِيَارَهَا لِزَوْجِهَا بِمَعْنَى الْبَقَاءِ فِي الْعِصْمَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ زَاذَانَ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَلِيٍّ فَسُئِلَ عَنِ الْخِيَارِ فَقَالَ: سَأَلَنِي عَنْهُ عُمَرُ فَقُلْتُ: إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنٌ، وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، قَالَ: لَيْسَ كَمَا قُلْتَ، إِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ، قَالَ: فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا مِنْ مُتَابَعَتِهِ، فَلَمَّا وُلِّيتُ رَجَعْتُ إِلَى مَا كُنْتُ أَعْرِفُ، قَالَ عَلِيٌّ: وَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَقَالَ فَذَكَرَ مِثْلَ مَا حَكَاهُ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَلِيٍّ نَظِيرَ مَا حَكَاهُ عَنْهُ زَاذَانُ مِنِ اخْتِيَارِهِ، وَأَخَذَ مَالِكٌ بِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَتْبَاعِهِ لِكَوْنِهَا إِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا يَقَعُ ثَلَاثًا بِأَنَّ مَعْنَى الْخِيَارِ بَتُّ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا الْأَخْذُ، وَإِمَّا التَّرْكُ، فَلَوْ قُلْنَا إِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا تَكُونُ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً لَمْ يُعْمَلْ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ لِأَنَّهَا تَكُونُ بَعْدُ فِي أَسْرِ الزَّوْجِ وَتَكُونُ كَمَنْ خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَاخْتَارَ غَيْرَهُمَا، وَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ فِيمَا إِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْإِيرَادُ السَّابِقُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: التَّخْيِيرُ كِنَايَةٌ، فَإِذَا خَيَّرَ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ وَأَرَادَ بِذَلِكَ تَخْيِيرَهَا بَيْنَ أَنْ تَطْلُقَ مِنْهُ وَبَيْنَ أَنْ تَسْتَمِرَّ فِي عِصْمَتِهِ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَأَرَادَتْ بِذَلِكَ
الطَّلَاقَ طَلُقَتْ، فَلَوْ قَالَتْ: لَمْ أُرِدْ بِاخْتِيَارِ نَفْسِي الطَّلَاقَ صُدِّقَتْ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ فِي التَّخْيِيرِ بِالتَّطْلِيقِ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ جَزْمًا، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ شَيْخُنَا حَافِظُ الْوَقْتِ أَبُو الْفَضْلِ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَنَبَّهَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى اشْتِرَاطِ ذِكْرِ النَّفْسِ فِي التَّخْيِيرِ، فَلَوْ قَالَ مَثَلًا: اخْتَارِي، فَقَالَتِ: اخْتَرْتُ، لَمْ يَكُنْ تَخْيِيرًا بَيْنَ الطَّلَاقِ وَعَدَمِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، لَكِنَّ
مَحِلَّهُ الْإِطْلَاقُ فَلَوْ قَصَدَ ذَلِكَ بِهَذَا اللَّفْظِ سَاغَ، وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَيْضًا: إِنْ قَالَ اخْتَارِي يَنْوِي بِهِ الطَّلَاقَ فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَيَقَعُ بَائِنًا، فَلَوْ لَمْ يَنْوِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَكَذَا لَوْ قَالَ اخْتَارِي فَقَالَتِ اخْتَرْتُ فَلَوْ نَوَى فَقَالَتِ اخْتَرْتُ نَفْسِي وَقَعَتْ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ فَاخْتَرْنَاهُ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا أَنَّهَا لَوِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا لَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا، وَوَافَقَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ فَقَالَ: فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُخَيَّرَةَ إِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَنَّ نَفْسَ ذَلِكَ الِاخْتِيَارِ يَكُونُ طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى نُطْقٍ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ، قَالَ: وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ. قُلْتُ: لَكِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِنْشَاءِ الزَّوْجِ الطَّلَاقَ ; لِأَنَّ فِيهَا {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} أَيْ بَعْدَ الِاخْتِيَارِ، وَدَلَالَةُ الْمَنْطُوقِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي التَّخْيِيرِ هَلْ بِمَعْنَى التَّمْلِيكِ أَوْ بِمَعْنَى التَّوْكِيلِ؟ وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ الْمُصَحَّحُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ بِشَرْطِ مُبَادَرَتِهَا لَهُ حَتَّى لَوْ أَخَّرَتْ بِقَدْرِ مَا يَنْقَطِعُ الْقَبُولُ عَنِ الْإِيجَابِ فِي الْعَقْدِ ثُمَّ طَلُقَتْ لَمْ يَقَعْ، وَفِي وَجْهٍ لَا يَضُرُّ التَّأْخِيرُ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْقَاصِّ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الرَّاجِحُ أَنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْفَوْرُ، بَلْ مَتَى طَلُقَتْ نَفَذَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالطَّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَتَمَسَّكُوا بِحَدِيثِ الْبَابِ حَيْثُ وَقَعَ فِيهِ إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ الْحَدِيثَ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ فَسْح لَهَا إِذْ أَخْبَرَهَا أَنْ لَا تَخْتَارَ شَيْئًا حَتَّى تَسْتَأْذِنَ أَبَوَيْهَا ثُمَّ تَفْعَلَ مَا يُشِيرَانِ بِهِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ اشْتِرَاطِ الْفَوْرِ فِي جَوَابِ التَّخْيِيرِ.
قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ يُشْتَرَطُ الْفَوْرُ أَوْ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَأَمَّا لَوْ صَرَّحَ الزَّوْجُ بِالْفُسْحَةِ فِي تَأْخِيرِهِ بِسَبَبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَيَتَرَاخَى، وَهَذَا الَّذِي وَقَعَ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ خِيَارٍ كَذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
6 - بَاب إِذَا قَالَ فَارَقْتُكِ، أَوْ سَرَّحْتُكِ، أَوْ الْخَلِيَّةُ، الْبَرِيَّةُ، أَوْ مَا عُنِيَ بِهِ الطَّلَاقُ، فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ
وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} وَقَالَ: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} وَقَالَ: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} وَقَالَ: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ
قَوْلُهُ (بَاب إِذَا قَالَ فَارَقْتُكِ أَوْ سَرَّحْتُكِ أَوِ الْخَلِيَّةُ أَوِ الْبَرِيَّةُ أَوْ مَا عُني بِهِ الطَّلَاقَ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ) هَكَذَا بَتَّ الْمُصَنِّفُ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا صَرِيحَ عِنْدَهُ إِلَّا لَفْظُ الطَّلَاقِ أَوْ مَا تَصَرَّفَ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَنَصَّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى أَنَّ الصَّرِيحَ لَفْظُ الطَّلَاقِ وَالْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ لِوُرُودِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الطَّلَاقِ. وَحُجَّةُ الْقَدِيمِ أَنَّهُ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ لَفْظُ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ لِغَيْرِ الطَّلَاقِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ إِلَّا لِلطَّلَاقِ، وَقَدْ رَجَّحَ جَمَاعَةٌ الْقَدِيمَ كَالطَّبَرِيِّ فِي الْعُدَّةِ وَالْمَحَامِلِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَحَكَى الدَّارِمِيُّ، عَنِ ابْنِ خَيْرٍ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ إِلَّا الطَّلَاقَ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي حَقِّهِ فَقَطْ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ قَوِيٌّ، وَنَحْوُهُ لِلرُّويَانِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ قَالَ عَرَبِيٌّ فَارَقْتُكِ وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّهَا صَرِيحَةٌ لَا يَكُونُ صَرِيحًا فِي حَقِّهِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَفْظَ
الطَّلَاقِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ صَرِيحٌ، لَكِنْ أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ رُفِعَ إِلَيْهِ رَجُلٌ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: شَبِّهْنِي، فَقَالَ: كَأَنَّكِ ظَبْيَةٌ، قَالَتْ: لَا.
قَالَ: كَأَنَّكِ حَمَامَةٌ قَالَتْ: لَا أَرْضَى حَتَّى تَقُولَ أَنْتِ خَلِيَّةٌ طَالِقٌ، فَقَالَهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: خُذْ بِيَدِهَا فَهِيَ امْرَأَتُكَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَوْلُهُ خَلِيَّةٌ طَالِقٌ أَيْ نَاقَةٌ كَانَتْ مَعْقُولَةً ثُمَّ أُطْلِقَتْ مِنْ عِقَالِهَا وَخُلِّيَ عَنْهَا، فَتُسَمَّى خَلِيَّةً لِأَنَّهَا خُلِّيَتْ عَنِ الْعِقَالِ ; وَطَالِقٌ لِأَنَّهَا طَلُقَتْ مِنْهُ، فَأَرَادَ الرَّجُلُ أَنَّهَا تُشْبِهُ النَّاقَةَ وَلَمْ يَقْصِدِ الطَّلَاقَ بِمَعْنَى الْفِرَاقِ أَصْلًا، فَأَسْقَطَ عَنْهُ عُمَرُ الطَّلَاقَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهَذَا أَصْلٌ لِكُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَلَمْ يُرِدِ الْفِرَاقَ بَلْ أَرَادَ غَيْرَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى اهـ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، لَكِنَّ الْمُشْكِلَ مِنْ قِصَّةِ عُمَرَ كَوْنُهُ رُفِعَ إِلَيْهِ وَهُوَ حَاكِمٌ، فَإِنْ كَانَ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْفُتْيَا وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حُكْمٌ فَيُوَافَقُ، وَإِلَّا فَهُوَ مِنَ النَّوَادِرِ. وَقَدْ نَقَلَ الْخَطَّابِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِهِ، لَكِنْ أَثْبَتَ غَيْرُهُ الْخِلَافَ وَعَزَاهُ لِدَاوُدَ. وَفِي الْبُوَيْطِيِّ مَا يَقْتَضِيهِ، وَحَكَاهُ الرُّويَانِيُّ، وَلَكِنْ أَوَّلَهُ الْجُمْهُورُ وَشَرَطُوا قَصْدَ لَفْظِ الطَّلَاقِ لِمَعْنَى الطَّلَاقِ لِيَخْرُجَ الْعَجَمِيُّ مَثَلًا إِذَا لُقِّنَ كَلِمَةَ الطَّلَاقِ فَقَالَهَا وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا أَوِ الْعَرَبِيُّ بِالْعَكْسِ، وَشَرَطُوا مَعَ النُّطْقِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ تَعَمُّدَ ذَلِكَ احْتِرَازًا عَمَّا يَسْبِقُ بِهِ اللِّسَانُ وَالِاخْتِيَارُ لِيَخْرُجَ الْمُكْرَهُ، لَكِنْ إِنْ أُكْرِهَ فَقَالَهَا مَعَ الْقَصْدِ إِلَى الطَّلَاقِ وَقَعَ فِي الْأَصَحِّ.
قَوْلُهُ (وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَفْظَ التَّسْرِيحِ بِمَعْنَى الْإِرْسَالِ لَا بِمَعْنَى الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ أَمَرَ مَنْ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنْ يُمَتِّعَ ثُمَّ يُسَرِّحَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ تَطْلِيقُهَا بَعْدَ التَّطْلِيقِ قَطْعًا.
قَوْلُهُ (وَقَالَ: وَأُسَرِّحْكُنَّ) يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} وَالتَّسْرِيحُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُحْتَمِلٌ لِلتَّطْلِيقِ وَالْإِرْسَالِ، وَإِذَا كَانَتْ صَالِحَةً لِلْأَمْرَيْنِ انْتَفَى أَنْ تَكُونَ صَرِيحَةً فِي الطَّلَاقِ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِيمَا خَيَّرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ: هَلْ كَانَ فِي الطَّلَاقِ وَالْإِقَامَةِ، فَإِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا طَلُقَتْ وَإِنِ اخْتَارَتِ الْإِقَامَةَ لَمْ تَطْلُقْ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ؟ أَوْ كَانَ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَمَنِ اخْتَارَتِ الدُّنْيَا طَلَّقَهَا ثُمَّ مَتَّعَهَا ثُمَّ سَرَّحَهَا، وَمَنِ اخْتَارَتِ الْآخِرَةَ أَقَرَّهَا فِي عِصْمَتِهِ؟
قَوْلُهُ (وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُرَادِ بِالتَّسْرِيحِ هُنَا وَأَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّطْلِيقُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ بِلَفْظِ الْفِرَاقِ فِي مَوْضِعِ وُرُودِهَا فِي الْبَقَرَةِ بِلَفْظِ السَّرَاحِ ; وَالْحُكْمُ فِيهِمَا وَاحِدٌ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الطَّلَاقَ بَلِ الْإِرْسَالَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَجَاءَ عَنْ عَلِيٍّ بِأَسَانِيدَ يُعَضِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَأَخْرَجَهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا قَالَ: الْبَرِيَّةُ وَالْخَلِيَّةُ وَالْبَائِنُ وَالْحَرَامُ وَالْبَتُّ ثَلَاثٌ ثَلَاثٌ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْأَوْزَاعِيُّ، لَكِنْ قَالَ فِي الْخَلِيَّةِ إِنَّهَا وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَنَقَلَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي الْبَرِيَّةِ وَالْبَتَّةَ وَالْحَرَامِ ثَلَاثٌ ثَلَاثٌ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ ثَلَاثٌ وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ، وَمِثْلُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي الْبَرِيَّةِ فَقَطْ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ بَائِنٌ وَبَتَّةٌ وَبَتْلَةٌ وَخَلِيَّةٌ وَبَرِيَّةٌ يَتَضَمَّنُ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْتِ طَالِقٌ مِنِّي طَلَاقًا تَبِينِينَ بِهِ مِنِّي، أَوْ تُبَتِّ أَيْ يُقْطَعُ عِصْمَتُكِ مِنِّي، وَالْبَتْلَةُ بِمَعْنَاهُ، أَوْ تَخْلِينَ بِهِ مِنْ زَوْجِيَّتِي أَوْ تَبْرِينَ مِنْهَا، قَالَ: وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إِلَّا ثَلَاثًا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خُلْعٌ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ صَرِيحًا وَالْعِصْمَةُ الثَّابِتَةُ لَا تُرْفَعُ بِالِاحْتِمَالِ، وَبِأَنَّ مَنْ يَقُولُ إِنَّ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَائِنَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خُلْعٌ أَنَّهَا تَقَعُ رَجْعِيَّةً مَعَ التَّصْرِيحِ كَيْفَ لَا يَقُولُ يَلْغُو مَعَ التَّقْدِيرِ
وَبِأَنَّ كُلَّ لَفَظَّةٍ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ إِذَا قُصِدَ بِهَا الطَّلَاقُ وَوَقَعَ وَانْقَضَتِ الْعِدَّةُ أَنَّهُ يَتِمُّ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ، فَلَمْ يَنْحَصِرِ الْأَمْرُ فِيمَا ذَكَرُوا وَإِنَّمَا النَّظَرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَالَّذِي يَتَرَجَّحُ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمَذْكُورَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا كِنَايَاتٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَا إِلَّا مَعَ الْقَصْدِ إِلَيْهِ، وَضَابِطُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ أَفْهَمَ الْفُرْقَةَ وَلَوْ مَعَ دِقَّتِهِ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مَعَ الْقَصْدِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُفْهَمِ الْفُرْقَةُ مِنَ اللَّفْظِ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَوْ قَصَدَ إِلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ كُلِي أَوِ اشْرَبِي أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَهَذَا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ، وَقَالَهُ قَبْلَهُ الشَّعْبِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَغَيْرُهُمْ، وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَاحْتَجَّ لَهُمُ الطَّحَاوِيُّ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي قَرِيبًا: تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا
مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ وَحْدَهَا لَا تُؤَثِّرُ إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنِ الْكَلَامِ أَوِ الْفِعْلِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا خَاطَبَهَا بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ وَقَصَدَ الطَّلَاقَ طَلُقَتْ حَتَّى لَوْ قَالَ يَا فُلَانَةُ يُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ.
قَوْلُهُ (وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ) هَذَا التَّعْلِيقُ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ التَّخْيِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ عَائِشَةَ فِي آخِرِ حَدِيثِ عُمَرَ فِي بَابِ مَوْعِظَةِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ، وَبَيَانُ الِاخْتِلَافِ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي إِسْنَادِهِ، وَأَرَادَتْ عَائِشَةُ بِالْفِرَاقِ هُنَا الطَّلَاقَ جَزْمًا، وَلَا نِزَاعَ فِي الْحَمْلِ عَلَيْهِ إِذَا قَصَدَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْإِطْلَاقِ إِذَا تَقَدَّمَ
(1)
.
7 - بَاب مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ،
وَقَالَ الْحَسَنُ: نِيَّتُهُ، وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، فَسَمَّوْهُ حَرَامًا بِالطَّلَاقِ وَالْفِرَاقِ، وَلَيْسَ هَذَا كَالَّذِي يُحَرِّمُ الطَّعَامَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلطَعَامِ الْحِلِّ حَرَامٌ، وَيُقَالُ لِلْمُطَلَّقَةِ: حَرَامٌ، وَقَالَ فِي الطَّلَاقِ ثَلَاثًا: لَا تَحِلُّ لَهُ من بعد حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ
5264 -
وَقَالَ اللَّيْثُ: عن نَافِعٌ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا قَالَ: لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي بِهَذَا، فَإِنْ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا حَرُمَتْ عليك حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ.
5265 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ فَطَلَّقَهَا وَكَانَتْ مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ فَلَمْ تَصِلْ مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ تُرِيدُهُ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ طَلَّقَهَا فَأَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي وَإِنِّي تَزَوَّجْتُ زَوْجًا غَيْرَهُ فَدَخَلَ بِي وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلاَّ مِثْلُ الْهُدْبَةِ فَلَمْ يَقْرَبْنِي إِلاَّ هَنَةً وَاحِدَةً لَمْ يَصِلْ مِنِّي إِلَى شَيْءٍ فَأَحِلُّ لِزَوْجِي الأَوَّلِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحِلِّينَ لِزَوْجِكِ الأَوَّلِ حَتَّى يَذُوقَ الْآخَرُ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ"
قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ: نِيَّتُهُ) أَيْ يُحْمَلُ عَلَى نِيَّتِهِ. وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَوَقَعَ لَنَا عَالِيًا فِي جُزْءِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا الْأَشْعَثُ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْحَرَامِ إِنْ نَوَى يَمِينًا فَيَمِينٌ، وَإِنْ طَلَاقًا فَطَلَاقٌ وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْحَسَنِ، وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ،
(1)
قال مصحح طبعة بولاق لعله "كما تقدم".
وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَطَاوُسٍ، وَبِهِ قَالَ النَّوَوِيُّ لَكِنْ قَالَ: إِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَهِيَ بَائِنٌ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ مِثْلَهُ، لَكِنْ قَالُوا: إِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَلَاقًا فَهِيَ يَمِينٌ وَيَصِيرُ مُولِيًا، وَهُوَ عَجِيبٌ وَالْأَوَّلُ أَعْجَبُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: يَمِينُ الْحَرَامِ تُكَفَّرُ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَاحْتَجَّ أَبُو ثَوْرٍ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ. وَمِثْلُهُ عَنْ أَحْمَدَ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ مَنْ أَرَادَ بِهِ الظِّهَارَ كَانَ مُظَاهِرًا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ مُغَلَّظَةٍ وَهِيَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، لَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُظَاهِرًا ظِهَارًا حَقِيقَةً، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا وَلَوْ أَرَادَهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَالْحَكَمِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: فِي الْحَرَامِ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ وَلَا يَسْأَلُ عَنْ نِيَّتِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَعَنْ مَسْرُوقٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَرَبِيعَةَ: لَا شَيْءَ فِيهِ، وَبِهِ قَالَ أَصْبَغُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ عَنِ السَّلَفِ بَلَّغَهَا الْقُرْطُبِيُّ الْمُفَسِّرَ إِلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ قَوْلًا، وَزَادَ غَيْرُهُ عَلَيْهَا. وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فِيهَا تَفَاصِيلُ أَيْضًا يَطُولُ اسْتِيعَابُهَا.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: سَبَبُ الِاخْتِلَافِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ صَرِيحًا وَلَا فِي السُّنَّةِ نَصٌّ ظَاهِرٌ صَحِيحٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَتَجَاذَبَهَا الْعُلَمَاءُ، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ قَالَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا يَمِينٌ أَخَذَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وَمَنْ قَالَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْيَمِينِ التَّحْرِيمُ فَوَقَعَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمَعْنَى، وَمَنْ قَالَ تَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ حَمَلَ اللَّفْظَ عَلَى أَقَلِّ وُجُوهِهِ الظَّاهِرَةِ، وَأَقَلُّ مَا تُحَرَّمُ بِهِ الْمَرْأَةُ طَلْقَةٌ تُحَرِّمُ الْوَطْءَ مَا لَمْ يَرْتَجِعْهَا، وَمَنْ قَالَ بَائِنَةٌ فَلِاسْتِمْرَارِ التَّحْرِيمِ بِهَا مَا لَمْ يُجَدِّدِ الْعَقْدَ، وَمَنْ قَالَ ثَلَاثٌ حَمَلَ اللَّفْظَ عَلَى مُنْتَهَى وُجُوهِهِ، وَمَنْ قَالَ ظِهَارٌ نَظَرَ إِلَى مَعْنَى التَّحْرِيمِ وَقَطَعَ النَّظَرَ عَنِ الطَّلَاقِ فَانْحَصَرَ الْأَمْرُ عِنْدَهُ فِي الظِّهَارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ فَسَمَّوْهُ حَرَامًا بِالطَّلَاقِ وَالْفِرَاقِ) أَيْ فَلَا بُدَّ أَنْ يُصَرِّحَ الْقَائِلُ بِالطَّلَاقِ أَوْ يَقْصِدَ إِلَيْهِ، فَلَوْ أَطْلَقَ أَوْ نَوَى غَيْرَ الطَّلَاقِ فَهُوَ مَحَلُّ النَّظَرِ.
قَوْلُهُ (وَلَيْسَ هَذَا كَالَّذِي يُحَرِّمُ الطَّعَامَ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلطَّعَامِ الْحِلِّ حَرَامٌ وَيُقَالُ لِلْمُطَلَّقَةِ حَرَامٌ، وَقَالَ فِي الطَّلَاقِ ثَلَاثًا: لَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) قَالَ الْمُهَلَّبُ: مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا خَفَّفَ عَنْهُمْ أَنَّ مَنْ قَبْلَهُمْ كَانُوا إِذَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ شَيْئًا حَرُمَ عَلَيْهِمْ كَمَا وَقَعَ لِيَعْقُوبَ عليه السلام، فَخَفَّفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ شَيْئًا مِمَّا أُحِلَّ لَهُمْ فَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} اهـ. وَأَظُنُّ الْبُخَارِيُّ أَشَارَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَصْبَغَ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ سَوَّى بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَبَيْنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ كَمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْهُمْ، فَبَيَّنَ أَنَّ الشَّيْئَيْنِ وَإِنِ اسْتَوَيَا مِنْ جِهَةٍ فَقَدْ يَفْتَرِقَانِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَالزَّوْجَةُ إِذَا حَرَّمَهَا الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَرَادَ بِذَلِكَ تَطْلِيقَهَا حَرُمَتْ، وَالطَّعَامُ وَالشَّرَابُ إِذَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَحْرُمْ، وَلِهَذَا احْتَجَّ بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ تَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وَوَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَمِنْ طَرِيقِهِ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهُكَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي جَعَلْتُ امْرَأَتِي حَرَامًا، قَالَ: لَيْسَتْ عَلَيْكَ بِحِرَامٍ.
قَالَ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ
عَلَى نَفْسِهِ} الْآيَةَ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ إِسْرَائِيلَ كَانَ بِهِ عِرْقُ النَّسَا فَجَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ شَفَاهُ اللَّهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ الْعُرُوقَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَتْ بِحَرَامٍ يَعْنِي عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ حَرَّمَ زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ وَلَمْ يَقْصِدِ الطَّلَاقَ وَلَا الظِّهَارَ وَلَا الْعِتْقَ فِعْلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِنْ حَرَّمَ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا فَلَغْوٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ: عَلَيْهِ فِي الْجَمِيعِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ بَقِيَّةِ الِاخْتِلَافِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: آلَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ وَحَرَّمَ، فَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا، وَجَعَلَ فِي الْيَمِينِ كَفَّارَةً قَالَ فَإِنَّ فِي هَذَا الْخَبَرِ تَقْوِيَةً لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ لَفْظَ الْحَرَامِ لَا يَكُونُ بِإِطْلَاقِهِ طَلَاقًا وَلَا ظِهَارًا وَلَا يَمِينًا.
قَوْلُهُ (وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا قَالَ: لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي بِهَذَا، فَإِنْ طَلَّقتهَا ثَلَاثًا حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَإِنْ طَلَّقَهَا وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخْتَصَرٌ مِنْ قِصَّةِ تَطْلِيقِ ابْنِ عُمَرَ امْرَأَتَهُ، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ فِي أَوَّلِ الطَّلَاقِ، وَظَنَّ ابْنُ التِّينِ أَنَّ هَذَا جُمْلَةُ الْخَبَرِ فَاسْتُشْكِلَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ تَطْلِيقَتَيْنِ بِدْعَةٌ، قَالَ: وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَأْمُرُ بِالْبِدْعَةِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْإِشَارَةَ فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي بِذَلِكَ إِلَى مَا أَمَرَهُ مِنِ ارْتِجَاعِ امْرَأَتِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُرِدِ ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ ابْنِ عُمَرَ، فَفَصَّلَ لِسَائِلِهِ حَالَ الْمُطَلِّقِ.
وَقَدْ رُوِّينَا الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ الَّتِي عَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ مُطَوَّلًا مَوْصُولًا عَالِيًا فِي جُزْءِ أَبِي الْجَهْمِ الْعَلَاءِ بْنِ مُوسَى الْبَاهِلِيِّ رِوَايَةَ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ عَنْهُ عَنِ اللَّيْثِ، وَفِي أَوَّلِهِ قِصَّةُ ابْنِ عُمَرَ فِي طَلَاقِ امْرَأَتِهِ، وَبَعْدَهُ قَالَ نَافِعٌ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِلَخْ وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ لَكِنْ لَيْسَ بِتَمَامِهِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَوْلُهُ لَوْ طَلَّقْتَ جَزَاؤُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَكَانَ خَيْرًا أَوْ هُوَ لِلتَّمَنِّي فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلِ الْجَوَابُ: لَكَانَ لَكَ الرَّجْعَةُ لِقَوْلِهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي بِهَذَا وَالتَّقْدِيرُ فَإِنْ كَانَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ كَانَ طَلَاقَ سُنَّةٍ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْحَيْضِ كَانَ طَلَاقَ بِدْعَةٍ، وَمُطَلِّقُ الْبِدْعَةِ يَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ إِلَى الرَّجْعَةِ.
وَلِهَذَا قَالَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي بِهَذَا أَيْ بِالْمُرَاجَعَةِ لَمَّا طَلَّقْتُ الْحَائِضَ، وَقَسِيمُ ذَلِكَ قَوْلُهُ وَإِنْ طَلَّقْتَ ثَلَاثًا وَكَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَلْحَقَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَرَّتَيْنِ بِالْوَاحِدَةِ فَسَوَّى بَيْنَهُمَا، وَإِلَّا فَالَّذِي وَقَعَ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ وَاحِدَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ صَرِيحًا هُنَاكَ، وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِإِيرَادِ هَذَا هُنَا الِاسْتِشْهَادَ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ حَرُمَتْ عَلَيْكَ فَسَمَّاهَا حَرَامًا بِالتَّطْلِيقِ ثَلَاثًا كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهَا لَا تَصِيرُ حَرَامًا بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى يُرِيدَ بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ يُطَلِّقَهَا بَائِنًا، وَخَفِيَ هَذَا عَلَى الشَّيْخِ مُغَلْطَايْ وَمَنْ تَبِعَهُ فَنَفَوْا مُنَاسَبَةَ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ، وَلَكِنْ عَرَّجَ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ تَلْوِيحًا عَلَى شَيْءٍ مِمَّا أَشَرْتُ إِلَيْهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ لِقَوْلِهِ فِيهِ لَا تَحِلِّينَ لِزَوْجِكِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَذُوقَ الْآخَرُ عُسَيْلَتَكِ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ قَرِيبًا. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَلَمْ يَقْرَبْنِي إِلَّا هَنَةً وَاحِدَةً هُوَ بِلَفْظِ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالَّتِي بَعْدَهُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ، وَحَكَى الْهَرَوِيُّ تَشْدِيدَهَا وَقَدْ أَنْكَرَهُ الْأَزْهَرِيُّ قَبْلَهُ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: هِيَ كَلِمَةٌ يُكَني بِهَا عَنِ الشَّيْءِ يُسْتَحَيَا مِنْ ذِكْرِهِ بِاسْمِهِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ مَعْنَاهُ لَمْ يَطَأْنِي إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً يُقَالُ هَنَّ امْرَأَتَهُ إِذَا غَشِيَهَا. وَنَقَلَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ بِمُوَحَّدَةٍ ثَقِيلَةٍ أَيْ مَرَّةً، وَالَّذِي ذَكَرَ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ أَنَّ الَّذِي رَوَاهُ بِالْمُوَحَّدَةِ هُوَ ابْنُ السَّكَنِ قَالَ: وَعِنْدَ الْكَافَّةِ بِالنُّونِ، وَحَكَى فِي مَعْنَى هِبَةٍ بِالْمُوَحَّدَةِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ،
قَالَ: وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْهِبَةِ الْوَقْعَةُ، يُقَالُ: حَدَرَ هِبَةَ السَّيْفِ أَيْ وَقَعَتْهُ، وَقِيلَ هِيَ مِنْ هَبَّ إِذَا احْتَاجَ إِلَى الْجِمَاعِ، يُقَالُ: هَبَّ التَّيْسُ يَهُبُّ هَبِيبًا.
تَنْبِيهٌ:
زَعَمَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ الْبُخَارِيَّ يَرَى أَنَّ التَّحْرِيمَ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، وَشَرَحَ كَلَامَهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ بَعْدَ أَنَّ سَاقَ الِاخْتِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ: وَفِي قَوْلِ مَسْرُوقٍ مَا أُبَالِي حَرَّمْتُ امْرَأَتِي أَوْ جَفْنَةَ ثَرِيدٍ، وَقَوْلُ الشَّعْبِيِّ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَهْوَنُ مِنْ فِعْلِي، هَذَا الْقَوْلُ شُذُوذٌ، وَعَلَيْهِ رَدَّ الْبُخَارِيُّ، قَالَ وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ أَنَّ مَنْ حَرَّمَ زَوْجَتَهُ أَنَّهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَتِ الثَّلَاثُ تُحَرِّمُهَا كَانَ التَّحْرِيمُ ثَلَاثًا، قَالَ: وَإِلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِإِيرَادِ حَدِيثِ رِفَاعَةَ لِأَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَلَمْ تَحِلَّ لَهُ مُرَاجَعَتُهَا إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، فَكَذَلِكَ مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ امْرَأَتَهُ فَهُوَ كَمَنْ طَلَّقَهَا اهـ.
وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْحَرَامَ يَنْصَرِفُ إِلَى نِيَّةِ الْقَائِلِ، وَلِذَلِكَ صَدَّرَ الْبَابَ بِقَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَهَذِهِ عَادَتُهُ فِي مَوْضِعِ الِاخْتِلَافِ مَهْمَا صَدَّرَ بِهِ مِنَ النَّقْلِ عَنْ صَحَابِيٍّ أَوْ تَابِعِيٍّ فَهُوَ اخْتِيَارُهُ، وَحَاشَا الْبُخَارِيُّ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِكَوْنِ الثَّلَاثِ تُحَرِّمُ أَنَّ كُلَّ تَحْرِيمٍ لَهُ حُكْمُ الثَّلَاثِ مَعَ ظُهُورِ مَنْعِ الْحَصْرِ، لِأَنَّ الطَّلْقَةَ الْوَاحِدَةَ تُحَرِّمُ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا مُطْلَقًا وَالْبَائِنُ تُحَرِّمُ الْمَدْخُولَ بِهَا إِلَّا بَعْدَ عَقْدٍ جَدِيدٍ، وَكَذَلِكَ الرَّجْعِيَّةُ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَمْ يَنْحَصِرِ التَّحْرِيمُ فِي الثَّلَاثِ، وَأَيْضًا فَالتَّحْرِيمُ أَعَمُّ مِنَ التَّطْلِيقِ ثَلَاثًا فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِالْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ؟ وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا اخْتَرْنَاهُ أَوَّلًا تَعْقِيبُ الْبُخَارِيِّ الْبَابَ بِتَرْجَمَةِ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ وَسَاقَ فِيهِ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
8 - بَاب {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}
5266 -
حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ الصَبَّاح، سَمِعَ الرَّبِيعَ بْنَ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
5267 -
حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ زَعَمَ عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلْتَقُلْ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ لَا بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ فَنَزَلَتْ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ إِلَى إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} لِقَوْلِهِ بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا"
5268 -
حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْعَسَلَ وَالْحَلْوَاءَ وَكَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ
فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مَا كَانَ يَحْتَبِسُ فَغِرْتُ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لِي أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةً مِنْ عَسَلٍ فَسَقَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ شَرْبَةً فَقُلْتُ أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ فَقُلْتُ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ إِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ فَإِذَا دَنَا مِنْكِ فَقُولِي أَكَلْتَ مَغَافِيرَ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ لَا فَقُولِي لَهُ مَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أَجِدُ مِنْكَ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ فَقُولِي لَهُ جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ وَسَأَقُولُ ذَلِكِ وَقُولِي أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ ذَاكِ قَالَتْ تَقُولُ سَوْدَةُ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَامَ عَلَى الْبَابِ فَأَرَدْتُ أَنْ أُبَادِيَهُ بِمَا أَمَرْتِنِي بِهِ فَرَقًا مِنْكِ فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا قَالَتْ لَهُ سَوْدَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ قَالَ لَا قَالَتْ فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أَجِدُ مِنْكَ قَالَ سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ فَقَالَتْ جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ فَلَمَّا دَارَ إِلَيَّ قُلْتُ لَهُ نَحْوَ ذَلِكَ فَلَمَّا دَارَ إِلَى صَفِيَّةَ قَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا دَارَ إِلَى حَفْصَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَسْقِيكَ مِنْهُ قَالَ لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ قَالَتْ تَقُولُ سَوْدَةُ وَاللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ قُلْتُ لَهَا اسْكُتِي"
قَوْلُهُ (بَابُ {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ لَفْظُ بَابِ وَوَقَعَ بَدَلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي الْحَسَنُ ابْنُ الصَّبَّاحِ) هُوَ الْبَزَّارُ آخِرُهُ رَاءٌ مُهْمَلَةٌ وَهُوَ وَاسِطِيٌ نَزَلَ بَغْدَادَ، وَثَّقَهُ الْجُمْهُورُ وَلَيَّنَهُ النَّسَائِيُّ قَلِيلًا، وَأَخْرَجَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا فَلَمْ يُكْثِرْ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الصَّبَّاحِ الزَّعْفَرَانِيِّ، لَكِنْ إِذَا وَقَعَ هَكَذَا يَكُونُ نُسِبَ لِجَدِّهِ فَهُوَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْبَابِ.
وَفِي الرُّوَاةِ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَمَنْ فِي طَبَقَتِهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ الدُّولَابِيُّ أَخْرَجَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّلَاةِ وَالْبُيُوعِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَيْسَ هُوَ أَخًا لِلْحَسَنِ بْنِ الصَّبَّاحِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْجَرْجَرَائِيُّ أَخْرَجَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَهُوَ غَيْرُ الدُّولَابِيِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ الْعَطَّارُ أَخْرَجَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِهِ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ أَخًا لِلْآخَرِ.
قَوْلُهُ (سَمِعَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ) أَيْ أَنَّهُ سَمِعَ وَلَفْظُ أَنَّهُ يُحْذَفُ خَطًّا وَيُنْطَقُ بِهِ، وَقَلَّ مَنْ نَبَّهَ عَلَيْهِ كَمَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَى لَفْظِ قَالَ. وَالرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ هُوَ أَبُو تَوْبَةَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمِهِ، حَلَبِيٌّ نَزَلَ طَرَسُوسَ، أَخْرَجَ عَنْهُ السِّتَّةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ بِوَاسِطَةٍ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ فَأَخْرَجَ عَنْهُ الْكَثِيرَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَأَخْرَجَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ أَيْضًا. وَأَدْرَكَهُ الْبُخَارِيُّ وَلَكِنْ لَمْ أَرَ لَهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ شَيْئًا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَأَخْرَجَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ إِلَّا الْمَوْضِعَ الْمُتَقَدِّمَ فِي الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ وَلَمْ يَقُلْ حَدَّثَنَا فَمَا أَدْرِي لَقِيَهُ أَوْ لَمْ يَلْقَهُ، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ إِلَّا هَذَانِ الْمَوْضِعَانِ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ) هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَشَيْخُهُ يَحْيَى وَمِنْ فَوْقِهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ.
قَوْلُهُ (إِذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَلِلْأَكْثَرِ لَيْسَتْ أَيِ الْكَلِمَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ مُحَرَّمَةٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ) أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ مُسْتَدِلًّا عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى قِصَّةِ التَّحْرِيمِ، وَقَدْ وَقَعَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّحْرِيمِ، وَذَكَرْتُ فِي بَابِ مَوْعِظَةِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمُطَوَّلِ فِي ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بَيَانَ الِاخْتِلَافِ هَلِ الْمُرَادُ تَحْرِيمُ الْعَسَلِ أَوْ تَحْرِيمُ مَارِيَةَ وَأَنَّهُ قِيلَ فِي
السَّبَبِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاسْتَوْعَبْتُ مَا يَتَعَلَّقُ بِوَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ تِلْكَ الْأَقْوَالِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا، فَلَمْ تَزَلْ بِهِ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ حَتَّى حَرَّمَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وَهَذَا أَصَحُّ طُرُقِ هَذَا السَّبَبِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ التَّابِعِيِّ الشَّهِيرِ قَالَ أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّ إِبْرَاهِيمَ وَلَدِهِ فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيْتِي وَعَلَى فِرَاشِي، فَجَعَلَهَا عَلَيْهِ حَرَامًا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تُحَرِّمُ عَلَيْكَ الْحَلَالَ! فَحَلَفَ لَهَا بِاللَّهِ لَا يُصِيبُهَا، فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: فَقَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ لَغْوٌ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إِنْ حَلَفَ.
وَقَوْلُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالنَّفْيِ التَّطْلِيقَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَوْضِعُهَا فِي الْحَرَامِ يُكَفِّرُ وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُبَارَكِ الصُّورِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَامٍ بِإِسْنَادِ حَدِيثِ الْبَابِ بِلَفْظِ إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّمَا هيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا فَعُرِفَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَيْ لَيْسَ بِطَلَاقٍ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي جَعَلْتُ امْرَأَتِي عَلَيَّ حَرَامًا، قَالَ: كَذَبْتَ مَا هيَ بِحَرَامٍ، ثُمَّ تَلَا {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ثُمَّ قَالَ لَهُ عَلَيْكَ رَقَبَةٌ اهـ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالرَّقَبَةِ لِأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّهُ مُوسِرٌ، فَأَرَادَ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْأَغْلَظِ مِنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَا أَنَّهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ عِتْقُ الرَّقَبَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ شُرْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعَسَلَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَفِيهِ: أَنَّ شُرْبَ الْعَسَلِ كَانَ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَالثَّانِي: مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَفِيهِ أَنَّ شُرْبَ الْعَسَلِ كَانَ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ، فَهَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ شُرْبَ الْعَسَلِ كَانَ عِنْدَ سَوْدَةَ، وَأَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ هُمَا اللَّتَانِ تَوَاطَأَتَا عَلَى وَفْقِ مَا فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي صَاحِبَةِ الْعَسَلِ. وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا الِاخْتِلَافِ الْحَمْلُ عَلَى التَّعَدُّدِ فَلَا يَمْتَنِعُ تَعَدُّدُ السَّبَبِ لِلْأَمْرِ الْوَاحِدِ، فَإِنْ جُنِحَ إِلَى التَّرْجِيحِ فَرِوَايَةُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَثْبَتُ لِمُوَافَقَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَهَا عَلَى أَنَّ الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي التَّفْسِيرِ وَفِي الطَّلَاقِ مِنْ جَزْمِ عُمَرَ بِذَلِكَ، فَلَوْ كَانَتْ حَفْصَةُ صَاحِبَةَ الْعَسَلِ لَمْ تُقْرَنْ فِي التَّظَاهُرِ بِعَائِشَةَ، لَكِنْ يُمْكِنُ تَعَدُّدُ الْقِصَّةِ فِي شُرْبِ الْعَسَلِ وَتَحْرِيمِهِ وَاخْتِصَاصُ النُّزُولِ بِالْقِصَّةِ الَّتِي فِيهَا أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ هُمَا الْمُتَظَاهِرَتَانِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا شُرْبُ الْعَسَلِ عِنْدَ حَفْصَةَ كَانَتْ سَابِقَةً.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْحَمْلَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ الَّتِي فِيهَا أَنَّ شُرْبَ الْعَسَلِ كَانَ عِنْدَ حَفْصَةَ تَعَرُّضٌ لِلْآيَةِ وَلَا لِذِكْرِ سَبَبِ النُّزُولِ، وَالرَّاجِحُ أَيْضًا أَنَّ صَاحِبَةَ الْعَسَلِ زَيْنَبُ لَا سَوْدَةُ لِأَنَّ طَرِيقَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَثْبَتُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ بِكَثِيرٍ، وَلَا جَائِزَ أَنْ تَتَّحِدَ بِطَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ لِأَنَّ فِيهَا أَنَّ سَوْدَةَ كَانَتْ مِمَّنْ وَافَقَ عَائِشَةَ عَلَى قَوْلِهَا أَجِدُ رِيحَ مَغَافِيرَ وَيُرَجِّحُهُ أَيْضًا مَا مَضَى فِي كِتَابِ الْهِبَةِ عَنْ عَائِشَةَ إنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُنَّ حِزْبَيْنِ: أَنَا وَسَوْدَةُ، وَحَفْصَةُ، وَصَفِيَّةُ فِي حِزْبٍ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَأُمُّ سَلَمَةَ وَالْبَاقِيَاتُ فِي حِزْبٍ فَهَذَا يُرَجِّحُ أَنَّ زَيْنَبَ هِيَ صَاحِبَةُ الْعَسَلِ وَلِهَذَا غَارَتْ عَائِشَةُ مِنْهَا لِكَوْنِهَا مِنْ غَيْرِ حِزْبِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَزْمِ الدَّاوُدِيِّ بِأَنَّ تَسْمِيَةَ الَّتِي شَرِبَتِ الْعَسَلَ حَفْصَةُ غَلَطٌ، وَإِنَّمَا هيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ أَوْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَمِمَّنْ جَنَحَ إِلَى التَّرْجِيحِ عِيَاضٌ،
وَمِنْهُ تَلَقَّفَ الْقُرْطُبِيُّ، وَكَذَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ، عَنْ عِيَاضٍ وَأَقَرَّهُ فَقَالَ عِيَاضٌ: رِوَايَةُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَوْلَى لِمُوَافَقَتِهَا ظَاهِرَ كِتَابِ اللَّهِ، لِأَنَّ فِيهِ {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} فَهُمَا ثِنْتَانِ لَا أَكْثَرُ، وَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: فَكَأَنَّ الْأَسْمَاءَ انْقَلَبَتْ عَلَى رَاوِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَتَعَقَّبَ الْكِرْمَانِيُّ مَقَالَةَ عِيَاضٍ فَأَجَادَ فَقَالَ: مَتَى جَوَّزْنَا هَذَا ارْتَفَعَ الْوُثُوقُ بِأَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا أَنَّ الْمُتَظَاهِرَاتِ عَائِشَةُ وَسَوْدَةُ، وَصَفِيَّةُ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ لِأَنَّهَا مُخَالَفَةٌ لِلتِّلَاوَةِ لِمَجِيئِهَا بِلَفْظِ خِطَابِ الِاثْنَيْنِ وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَجَاءَتْ بِخِطَابِ جَمَاعَةِ الْمُؤَنَّثِ. ثُمَّ نَقَلَ عَنِ الْأَصِيلِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ رِوَايَةَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَصَحُّ وَأَوْلَى، وَمَا الْمَانِعُ أَنْ تَكُونَ قِصَّةُ حَفْصَةَ سَابِقَةٌ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ مَا قِيلَ تَرَكَ الشُّرْبَ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِتَحْرِيمٍ وَلَمْ يَنْزِلْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، ثُمَّ لَمَّا شَرِبَ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ تَظَاهَرَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ فَحَرَّمَ حِينَئِذٍ الْعَسَلَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. قَالَ: وَأَمَّا ذِكْرُ سَوْدَةَ مَعَ الْجَزْمِ بِالتَّثْنِيَةِ فِيمَنْ تَظَاهَرَ مِنْهُنَّ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّهَا كَانَتْ كَالتَّابِعَةِ لِعَائِشَةِ وَلِهَذَا وَهَبَتْ يَوْمَهَا لَهَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْهِبَةِ فَلَا اعْتِرَاضَ بِدُخُولِهِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَلَا يَمْتَنِعُ هِبَتُهَا يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ أَنْ يَتَرَدَّدَ إِلَى سَوْدَةَ. قُلْتُ: لَا حَاجَةَ إِلَى الِاعْتِذَارِ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذِكْرَ سَوْدَةَ إِنَّمَا جَاءَ فِي قِصَّةِ شُرْبِ الْعَسَلِ عِنْدَ حَفْصَةَ وَلَا تَثْنِيَةَ فِيهِ وَلَا نُزُولَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْجَمْعِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَأَمَّا قِصَّةُ الْعَسَلِ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ تَوَاطَأْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ فَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا جَزَمَ بِهِ عُمَرُ مِنْ أَنَّ الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَمُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَوَجَدَتْ لِقِصَّةِ شُرْبِ الْعَسَلِ عِنْدَ حَفْصَةَ شَاهِدًا فِي تَفْسِيرِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرُوَاتُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى غَالِبِ أَلْفَاظِهِ، وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ أَنَّ شُرْبَ الْعَسَلِ كَانَ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ مَرْجُوحٌ لِإِرْسَالِهِ وَشُذُوذِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ) هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْمِصِّيصِيُّ. قَوْلُهُ (زَعَمَ عَطَاءٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ يُطْلِقُونَ الزَّعْمَ عَلَى مُطْلَقِ الْقَوْلِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ وَقَدْ مَضَى فِي التَّفْسِيرِ.
قَوْلُهُ (إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا) فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ يَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ ثُمَّ يَمْكُثُ عِنْدَهَا وَلَا مُغَايَرَةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُرَتِّبُ.
قَوْلُهُ (فَتَوَاصَيْتُ) كَذَا هُنَا بِالصَّادِ مِنَ الْمُوَاصَاةِ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ فَتَوَاطَيْتُ بِالطَّاءِ مِنَ الْمُوَاطَأَةِ، وَأَصْلُهُ تَوَاطَأْتُ بِالْهَمْزَةِ فَسُهِّلَتِ الْهَمْزَةُ فَصَارَتْ يَاءً، وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ (أَنْ أَيَّتُنَا دَخَلَ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ أَيَّتُنَا مَا دَخَلَ بِزِيَادَةِ مَا وَهِيَ زَائِدَةٌ.
قَوْلُهُ (إِنِّي لِأَجِدُ رِيحُ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ) فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ بِتَقْدِيمِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ وَتَأْخِيرِ إِنِّي أَجِدُ. وَأَكَلْتَ اسْتِفْهَامٌ مَحْذُوفُ الْأَدَاةِ، وَالْمَغَافِيرُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ وَبِإِثْبَاتِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَ الْفَاءِ فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ مُسْلِمٍ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنَ الْحَدِيثِ بِحَذْفِهَا، قَالَ عِيَاضٌ: وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهَا لِأَنَّهَا عِوَضٌ مِنَ الْوَاوِ الَّتِي فِي الْمُفْرَدِ، وَإِنَّمَا حُذِفَتْ فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ اهـ، وَمُرَادُهُ أَنَّ الْمَغَافِيرَ جَمْعُ مُغْفُورٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَيُقَالُ بِثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ بَدَلَ الْفَاءِ حَكَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيُّ فِي النَّبَاتِ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَفْعُولٌ بِضَمِّ أَوَّلِهِ إِلَّا مُغْفُورٌ وَمُغْزُولٌ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ أَسْمَاءِ الْكَمْأَةِ، وَمُنْخُورِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَنْفِ، وَمُغْلُوقٌ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَاحِدُ الْمَغَالِيقِ، قَالَ: وَالْمُغْفُورُ صَمْغٌ حُلْوٌ لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ الْمُغْفُورَ شَبِيهٌ بِالصَّمْغِ يَكُونُ فِي الرِّمْثِ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ وَهُوَ مِنَ الشَّجَرِ الَّتِي تَرْعَاهَا الْإِبِلُ وَهُوَ مِنَ الْحَمْضِ، وَفِي الصَّمْغِ الْمَذْكُورِ حَلَاوَةٌ، يُقَالُ أَغَفَرَ الرِّمْثُ إِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ فِيهِ. وَذَكَرَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ الْمُغْفُورَ يَكُونُ
أَيْضًا فِي الْعُشَرِ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَفِي الثُّمَامِ وَالسِّلْمِ وَالطَّلْحِ.
وَاخْتُلِفَ فِي مِيمِ مُغْفُورٍ فَقِيلَ زَائِدَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا مِنْ أَصْلِ الْكَلِمَةِ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا مِغْفَارٌ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَمُغْفَرٌ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَبِفَتْحِهِ وَبِكَسْرِهِ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَالْفَاءُ مَفْتُوحَةٌ فِي الْجَمِيعِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: زَعَمَ الْمُهَلَّبُ أَنَّ رَائِحَةَ الْمَغَافِيرِ وَالْعُرْفُطِ حَسَنَةٌ وَهُوَ خِلَافُ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَدِيثُ وَخِلَافُ مَا قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ اهـ، وَلَعَلَّ الْمُهَلَّبَ قَالَ خَبِيثَةٌ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ فَتَصَحَّفَتْ أَوِ اسْتَنَدَ إِلَى مَا نُقِلَ عَنِ الْخَلِيلِ، وَقَدْ نَسَبَهُ ابْنُ بَطَّالٍ إِلَى الْعَيْنِ أَنَّ الْعُرْفُطَ شَجَرُ الْعِضَاهِ، وَالْعِضَاهُ كُلُّ شَجَرٍ لَهُ شَوْكٌ وَإِذَا اسْتَيْكَ بِهِ كَانَتْ لَهُ رَائِحَةٌ حَسَنَةٌ تُشْبِهُ رَائِحَةَ طَيِّبِ النَّبِيذِ اهـ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ رِيحُ عِيدَانِ الْعُرْفُطِ طَيِّبًا وَرِيحُ الصَّمْغِ الَّذِي يَسِيلُ مِنْهُ غَيْرَ طَيِّبَةٍ وَلَا مُنَافَاةَ فِي ذَلِكَ وَلَا تَصْحِيفَ، وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ أَنَّ رَائِحَةَ وَرَقِ الْعُرْفُطِ طَيِّبَةٌ فَإِذَا رَعَتْهُ الْإِبِلُ خَبُثَتْ رَائِحَتُهُ، وَهَذَا طَرِيقٌ آخَرُ فِي الْجَمْعِ حَسَنٌ جِدًّا.
قَوْلُهُ (فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهَا، وَأَظُنُّهَا حَفْصَةَ.
قَوْلُهُ (فَقَالَ لَا بَأْسَ شَرِبْتُ عَسَلًا) كَذَا وَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ شُيُوخِهِ، وَوَقَعَ لِلْبَاقِينَ لَا بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا وَكَذَا وَقَعَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ لِلْجَمِيعِ حَيْثُ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ إِسْنَادًا وَمَتْنًا، وكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ حَجَّاجٍ، وَمُسْلِمٍ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ وَالْمُسْتَخْرَجَاتِ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجٍ، فَظَهَرَ أَنَّ لَفْظَةَ بَأْسَ هُنَا مُغَيَّرَةٌ مِنْ لَفْظِهِ بَلْ وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ.
قَوْلُهُ (وَلَنْ أَعُودَ لَهُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ وَقَدْ حَلَفْتُ لَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا وَبِهَذِهِ الزِّيَادَةِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} قَالَ عِيَاضٌ: حُذِفَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَصَارَ النَّظْمُ مُشْكِلًا، فَزَالَ الْإِشْكَالُ بِرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ.
وَاسْتَدَلَّ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ بِقَوْلِهِ حَلَفْتُ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ الَّتِي أُشِيرُ إِلَيْهَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} هِيَ عَنِ الْيَمِينِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ حَلَفْتُ فَتَكُونُ الْكَفَّارَةُ لِأَجْلِ الْيَمِينِ لَا لِمُجَرَّدِ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ قَوِيٌّ لِمَنْ يَقُولُ إِنَّ التَّحْرِيمَ لَغْوٌ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ بِمُجَرَّدِهِ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ حَلَفْتُ عَلَى التَّحْرِيمِ وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} أَيْ تَلَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَالَ لِعَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ أَيِ الْخِطَابُ لَهُمَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} وَهَذَا أَوْضَحُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} لِقَوْلِهِ بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا) هَذَا الْقَدْرُ بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ، وكُنْتُ أَظُنُّهُ مِنْ تَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ عَلَى ظَاهِرِ مَا سَأَذْكُرُهُ عَنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ حَتَّى وَجَدْتُهُ مَذْكُورًا فِي آخِرِ الْحَدِيثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَكَأَنَّ الْمَعْنَى: وَأَمَّا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} فَهُوَ لِأَجْلِ قَوْلِهِ بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا، وَالنُّكْتَةُ فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَاخِلَةٌ فِي الْآيَاتِ الْمَاضِيَةِ لِأَنَّهَا قَبْلَ قَوْلِهِ {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الْبُخَارِيِّ عَلَى هَذَا إِلَّا النَّسَفِيَّ فَوَقَعَ عِنْدَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ فَنَزَلَتْ:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} مَا صُورَتُهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} لِعَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} لِقَوْلِهِ بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا فَجَعَلَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ تَرْجَمَةً لِلْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ، وَالصَّوَابُ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ لِمُوَافَقَةِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَقِيَّةِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَيْرٍ.
قَوْلُهُ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْعَسَلَ وَالْحَلْوَى) قَدْ أَفْرَدَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَطْعِمَةِ وَفِي الْأَشْرِبَةِ وَفِي غَيْرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَهُوَ عِنْدَهُ بِتَقْدِيمِ الْحَلْوَى عَلَى الْعَسَلِ، وَلِتَقْدِيمِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ جِهَةٌ مِنْ جِهَاتِ التَّقْدِيمِ، فَتَقْدِيمُ الْعَسَلِ لِشَرَفِهِ
وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْحَلْوَى وَلِأَنَّهُ مُفْرَدٌ وَالْحَلْوَى مُرَكَّبَةٌ، وَتَقْدِيمُ الْحَلْوَى لِشُمُولِهَا وَتَنَوُّعِهَا لِأَنَّهَا تُتَّخَذُ مِنَ الْعَسَلِ وَمِنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، وَإِنَّمَا الْعَامُّ الَّذِي يَدْخُلُ الْجَمِيعُ فِيهِ، الْحُلْوُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَلَيْسَ بَعْدَ الْوَاوِ شَيْءٌ، وَوَقَعَتِ الْحَلْوَاءُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ بِالْمَدِّ وَفِي بَعْضِهَا بِالْقَصْرِ وَهِيَ رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، وَذَكَرَتْ عَائِشَةُ هَذَا الْقَدْرَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ تَمْهِيدًا لِمَا سَيَذْكُرُهُ مِنْ قِصَّةِ الْعَسَلِ، وَسَأَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَلْوَى وَالْعَسَلِ مَبْسُوطًا فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ (وَكَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الْعَصْرِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَخَالَفَهُمْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فَقَالَ الْفَجْرُ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ عَنْ حَمَّادٍ، وَيُسَاعِدُهُ رِوَايَةُ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَفِيهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ وَجَلَسَ النَّاسُ حَوْلَهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَى نِسَائِهِ امْرَأَةً امْرَأَةً يُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ وَيَدْعُو لَهُنَّ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ إِحْدَاهُنَّ كَانَ عِنْدَهَا الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الَّذِي كَانَ يَقَعُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ سَلَامًا وَدُعَاءً مَحْضًا، وَالَّذِي فِي آخِرِهِ مَعَهُ جُلُوسٌ وَاسْتِئْنَاسٌ وَمُحَادَثَةٌ، لَكِنَّ الْمَحْفُوظَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ذِكْرُ الْعَصْرِ، وَرِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ شَاذَّةٌ.
قَوْلُهُ (دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ أَجَازَ إِلَى نِسَائِهِ أَيْ مَشَى، وَيَجِيءُ بِمَعْنَى قَطَعَ الْمَسَافَةَ وَمِنْهُ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ أَيْ أَوَّلَ مَنْ يَقْطَعُ مَسَافَةَ الصِّرَاطِ.
قَوْلُهُ (فَيَدْنُو مِنْهُنَّ) أَيْ فَيُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى.
قَوْلُهُ (فَاحْتَبَسَ) أَيْ أَقَامَ، زَادَ أَبُو أُسَامَةَ عِنْدَهَا.
قَوْلُهُ (فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ) وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَيَانُ ذَلِكَ، وَلَفْظُهُ فَأَنْكَرَتْ عَائِشَةَ احْتِبَاسَهُ عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَالَتْ لجُوَيْرِيَة حَبَشِيَّةٍ عَنْدَهَا يُقَالُ لَهَا خَضْرَاءُ: إِذَا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَادْخُلِي عَلَيْهَا فَانْظُرِي مَا يَصْنَعُ.
قَوْلُهُ (أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةَ عَسَلٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا أُهْدِيَتْ لِحَفْصَةَ عُكَّةٌ فِيهَا عَسَلٌ مِنَ الطَّائِفِ.
قَوْلُهُ (فَقُلْتُ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ إِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَوْدَةَ وَقُلْتُ لَهَا: إِنَّهُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْكِ سَيَدْنُو مِنْكِ وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ إِذَا دَخَلَ عَلَى إِحْدَاكُنَّ فَلْتَأْخُذْ بِأَنْفِهَا، فَإِذَا قَالَ: مَا شَأْنُكِ؟ فَقُولِي: رِيحَ الْمَغَافِيرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْمَغَافِيرِ قَبْلُ.
قَوْلُهُ (سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ) فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ إِنَّمَا هيَ عُسَيْلَةٌ سَقَتْنِيهَا حَفْصَةُ.
قَوْلُهُ (جَرَسَتْ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ أَيْ رَعَتْ نَحْلُ هَذَا الْعَسَلِ الَّذِي شَرِبْتُهُ الشَّجَرَ الْمَعْرُوفَ بِالْعُرْفُطِ، وَأَصْلُ الْجَرْسِ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، وَمِنْهُ فِي حَدِيثِ صِفَةِ الْجَنَّةِ يَسْمَعُ جَرْسَ الطَّيْرِ وَلَا يُقَالُ جَرَسَ بِمَعْنَى رَعَى إِلَّا لِلنَّحْلِ، وَقَالَ الْخَلِيلُ جَرَسَتِ النَّحْلُ الْعَسَلَ تَجْرُسُهُ جَرْسًا إِذَا لَحِسَتْهُ، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ جَرَسَتْ نَحْلُهَا الْعُرْفُطَ إِذًا وَالضَّمِيرُ لِلْعُسَيْلَةِ عَلَى مَا وَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ.
قَوْلُهُ (الْعُرْفُطُ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ وَآخِرُهُ طَاءٌ مُهْمَلَةٌ هُوَ الشَّجَرُ الَّذِي صَمْغُهُ الْمَغَافِيرُ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هُوَ نَبَاتٌ مُرٌّ لَهُ وَرَقَةٌ عَرِيضَةٌ تُفْرَشُ بِالْأَرْضِ وَلَهُ شَوْكَةٌ وَثَمَرَةٌ بَيْضَاءُ كَالْقُطْنِ مِثْلُ زِرِّ الْقَمِيصِ، وَهُوَ خَبِيثُ الرَّائِحَةِ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حِكَايَةِ عِيَاضٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِرَائِحَةِ الْعُرْفُطِ وَالْبَحْثُ مَعَهُ فِيهِ قَبْلُ.
قَوْلُهُ (وَقُولِي أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ) أَيْ بِنْتُ حُيَيٍّ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ وَقُولِيهِ أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ أَيْ قُولِي، الْكَلَامَ الَّذِي عَلَّمْتُهُ لِسَوْدَةَ، زَادَ أَبُو أُسَامَةَ فِي رِوَايَتِهِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ أَيِ الْغَيْرُ الطَّيِّبِ، وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَانَ أَشَدُّ شَيْءٍ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ رِيحٌ سَيِّئٌ وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ رِيحٌ كَرِيهَةٌ لِأَنَّهُ يَأْتِيهِ الْمَلَكُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ الطَّيِّبُ.
قَوْلُهُ
(قَالَتْ تَقُولُ سَوْدَةُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَامَ عَلَى الْبَابِ فَأَرَدْتُ أَنْ أُبَادِئَهُ بِالَّذِي أَمَرْتِنِي بِهِ فَرَقًا مِنْكِ) أَيْ خَوْفًا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَوْدَةَ قَالَتْ تَقُولُ سَوْدَةُ: وَاللَّهِ لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أُبَادِرَهُ بِالَّذِي قُلْتِ لِي وَضُبِطَ أُبَادِئُهُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِالْمُوَحَّدَةِ مِنَ الْمُبَادَأَةِ وَهِيَ بِالْهَمْزَةِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالنُّونِ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ مِنَ الْمُنَادَاةِ، وَأَمَّا أُبَادِرُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ فَمِنَ الْمُبَادَرَةِ، وَوَقَعَ فِيهَا عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْأَصِيلِيِّ وَأَبِي الْوَقْتِ كَالْأَوَّلِ بِالْهَمْزَةِ بَدَلَ الرَّاءِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ بِالنُّونِ.
قَوْلُهُ (فَلَمَّا دَارَ إِلَيَّ قُلْتُ نَحْوَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَارَ إِلَى صَفِيَّةَ قَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِلَفْظِ نَحْوَ عِنْدَ إِسْنَادِ الْقَوْلِ لِعَائِشَةَ وَبِلَفْظِ مِثْلَ عِنْدَ إِسْنَادِهِ لِصَفِيَّةَ، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِيهِ أَنَّ عَائِشَةَ لَمَّا كَانَتِ الْمُبْتَكِرَةَ لِذَلِكَ عَبَّرَتْ عَنْهُ بِأَيِّ لَفْظٍ حَسَنٍ بِبَالِهَا حِينَئِذٍ فَلِهَذَا قَالَتْ نَحْوَ وَلَمْ تَقُلْ مِثْلَ، وَأَمَّا صَفِيَّةُ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِقَوْلِ شَيْءٍ فَلَيْسَ لَهَا فِيهِ تَصَرُّفٌ، إِذْ لَوْ تَصَرَّفَتْ فِيهِ لَخَشِيَتْ مِنْ غَضَبِ الْآمِرَةِ لَهَا، فَلِهَذَا عَبَّرَتْ عَنْهُ بِلَفْظِ مِثْلَ، هَذَا الَّذِي ظَهَرَ لِي فِي الْفَرْقِ أَوَّلًا، ثُمَّ رَاجَعْتُ سِيَاقَ أَبِي أُسَامَةَ فَوَجَدْتُهُ عَبَّرَ بِالْمِثْلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ تَغْيِيرَ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (فَلَمَّا دَارَ إِلَى حَفْصَةَ) أَيْ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي.
قَوْلُهُ (لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ) كَأَنَّهُ اجْتَنَبَهُ لِمَا وَقَعَ عِنْدَهُ مِنْ تَوَارُدِ النِّسْوَةِ الثَّلَاثِ عَلَى أَنَّهُ نَشَأَتْ مِنْ شُرْبِهِ لَهُ رِيحٌ مُنْكَرَةٌ فَتَرَكَهُ حَسْمًا لِلْمَادَّةِ.
قَوْلُهُ (تَقُولُ سَوْدَةُ) زَادَ ابْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي رِوَايَتِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ.
قَوْلُهُ (وَاللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ) بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ أَيْ مَنَعْنَاهُ.
قَوْلُهُ (قُلْتُ لَهَا اسْكُتِي) كَأَنَّهَا خَشِيَتْ أَنْ يَفْشُوَ ذَلِكَ فَيَظْهَرَ مَا دَبَّرَتْهُ مِنْ كَيَدِهَا لِحَفْصَةَ.
وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ مِنَ الْغَيْرَةِ، وَأَنَّ الْغَيْرَاءَ تُعْذَرُ فِيمَا يَقَعُ مِنْهَا مِنَ الِاحْتِيَالِ فِيمَا يَدْفَعُ عَنْهَا تَرَفُّعَ ضَرَّتِهَا عَلَيْهَا بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ تَرْكِ الْحِيَلِ مَا يُكْرَهُ مِنِ احْتِيَالِ الْمَرْأَةِ مِنَ الزَّوْجِ وَالضَّرَائِرِ. وَفِيهِ الْأَخْذُ بِالْحَزْمِ فِي الْأُمُورِ وَتَرْكُ مَا يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ فِيهِ مِنَ الْمُبَاحِ خَشْيَةً مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْذُورِ. وَفِيهِ مَا يَشْهَدُ بِعُلُوِّ مَرْتَبَةِ عَائِشَةَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَتْ ضَرَّتُهَا تَهَابُهَا وَتُطِيعُهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ تَأْمُرُهَا بِهِ حَتَّى فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ مَعَ الزَّوْجِ الَّذِي هُوَ أَرْفَعُ النَّاسِ قَدْرًا.
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى وَرَعِ سَوْدَةَ لِمَا ظَهَرَ مِنْهَا مِنَ التَّنَدُّمِ عَلَى مَا فَعَلَتْ لِأَنَّهَا وَافَقَتْ أَوَّلًا عَلَى دَفْعِ تَرَفُّعِ حَفْصَةَ عَلَيْهِنَّ بِمَزِيدِ الْجُلُوسِ عِنْدَهَا بِسَبَبِ الْعَسَلِ، وَرَأَتْ أَنَّ التَّوَصُّلَ إِلَى بُلُوغِ الْمُرَادِ مِنْ ذَلِكَ لِحَسْمِ مَادَّةِ شُرْبِ الْعَسَلِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْإِقَامَةِ، لَكِنْ أَنْكَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَنْعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَمْرٍ كَانَ يَشْتَهِيهِ وَهُوَ شُرْبُ الْعَسَلِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اعْتِرَافِ عَائِشَةَ الْآمِرَةِ لَهَا بِذَلِكَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ، فَأَخَذَتْ سَوْدَةُ تَتَعَجَّبُ مِمَّا وَقَعَ مِنْهُنَّ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ تَجْسُرْ عَلَى التَّصْرِيحِ بِالْإِنْكَارِ، وَلَا رَاجَعَتْ عَائِشَةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَّا قَالَتْ لَهَا اسْكُتِي بَلْ أَطَاعَتْهَا وَسَكَتَتْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنِ اعْتِذَارِهَا فِي أَنَّهَا كَانَتْ تَهَابُهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَهَابُهَا لِمَا تَعْلَمُ مِنْ مَزِيدِ حُبِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهَا أَكْثَرَ مِنْهُنَّ، فَخَشِيَتْ إِذَا خَالَفَتْهَا أَنْ تُغْضِبَهَا، وَإِذَا أَغْضَبَتْهَا لَا تَأْمَنُ أَنْ تُغَيِّرَ عَلَيْهَا خَاطِرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا تَحْتَمِلُ ذَلِكَ، فَهَذَا مَعْنَى خَوْفِهَا مِنْهَا.
وَفِيهِ أَنَّ عِمَادَ الْقَسْمِ اللَّيْلُ، وَأَنَّ النَّهَارَ يَجُوزُ الِاجْتِمَاعُ فِيهِ بِالْجَمِيعِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا تَقَعَ الْمُجَامَعَةُ إِلَّا مَعَ الَّتِي هُوَ فِي نَوْبَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ.
وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ الْكِنَايَاتِ فِيمَا يُسْتَحَيَا مِنْ ذِكْرِهِ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ فَيَدْنُو مِنْهُنَّ وَالْمُرَادُ فَيُقَبِّلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَيُحَقِّقُ ذَلِكَ قَوْلُ عَائِشَةَ لِسَوْدَةَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْكِ فَإِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ، فَقُولِي لَهُ إِنِّي أَجِدُ كَذَا وَهَذَا إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِقُرْبِ الْفَمِ مِنَ الْأَنْفِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الرَّائِحَةُ طَافِحَةً، بَلِ الْمَقَامُ يَقْتَضِي أَنَّ الرَّائِحَةَ لَمْ تَكُنْ طَافِحَةً لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ طَافِحَةً لَكَانَتْ بِحَيْثُ يُدْرِكُهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَأَنْكَرَ عَلَيْهَا عَدَمَ وُجُودِهَا مِنْهُ، فَلَمَّا أَقَرَّ عَلَى ذَلِكَ دَلَّ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ أَنَّهَا لَوْ قُدِّرَ وُجُودُهَا لَكَانَتْ خَفِيَّةً وَإِذَا كَانَتْ خَفِيَّةً لَمْ تُدْرَكْ بِمُجَرَّدِ الْمُجَالَسَةِ وَالْمُحَادَثَةِ
مِنْ غَيْرِ قُرْبِ الْفَمِ مِنَ الْأَنْفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
9 - بَاب لَا طَلَاقَ قَبْلَ نكَاحِ،
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلَ اللَّهُ الطَّلَاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ، وَيُرْوَى فِي ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَعَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ وَشُرَيْحٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَعَامِرِ بْنِ سَعْدٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَمْرِو بْنِ هَرِمٍ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ. قَوْلُهُ (بَابُ لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ مَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ وَثَبَتَ عِنْدَهُ بَابُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فَسَاقَ مِنَ الْآيَةِ إِلَى قَوْلِهِ {مِنْ عِدَّةٍ} وَحَذَفَ الْبَاقِيَ وَقَالَ: الْآيَةَ.
وَاقْتَصَرَ النَّسَفِيُّ عَلَى قَوْلِهِ بَابُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} الْآيَةَ قَالَ ابْنُ التِّينِ: احْتِجَاجُ الْبُخَارِيِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ لِأَنَّهَا إِخْبَارٌ عَنْ صُورَةٍ وَقَعَ فِيهَا الطَّلَاقُ بَعْدَ النِّكَاحِ، وَلَا حَصْرَ هُنَاكَ، وَلَيْسَ فِي السِّيَاقِ مَا يَقْتَضِيهِ. قُلْتُ: الْمُحْتَجُّ بِالْآيَةِ لِذَلِكَ قَبْلَ الْبُخَارِيِّ تَرْجُمَانُ الْقُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ كَمَا سَأَذْكُرُهُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ جَعَلَ اللَّهُ الطَّلَاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ) هَذَا التَّعْلِيقُ طَرَفٌ مِنْ أَثَرٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ حَرْبٌ مِنْ مَسَائِلِهِ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ وَقَالَ: سَنَدُهُ جَيِّدٌ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا قَالَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَإِنْ يَكُنْ قَالَهَا فَزَلَّةٌ مِنْ عَالِمٍ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ إِذَا تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} وَلَمْ يَقُلْ إِذَا طَلَّقْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ نَكَحْتُمُوهُنَّ ; وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الرَّجُلِ يَقُولُ: إِذَا تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ، قَالَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَا مَلَكَ.
قَالُوا: فَابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ إِذَا وَقَّتَ وَقْتًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَقَالَ اللَّهُ إِذَا طَلَّقْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ نَكَحْتُمُوهُنَّ وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَأَلَهُ مَرْوَانُ، عَنْ نَسِيبٍ لَهُ وَقَّتَ امْرَأَةً إِنْ أتَزَوَّجهَا فَهِيَ طَالِقٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا طَلَاقَ حَتَّى تَنْكِحَ، وَلَا عِتْقَ حَتَّى تَمْلِكَ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ آدَمَ مَوْلَى خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَنْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} الْآيَةُ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِنَحْوِهِ، وَرُوِّينَاهُ مَرْفُوعًا فِي فَوَائِدِ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي أُمَيَّةَ أَيُّوبَ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَجَجْتُ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ فَدَخَلْتُ عَلَى عَطَاءٍ، فَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ عُرِضَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ لِيَتَزَوَّجَهَا، فَقَالَ: هِيَ يَوْمُ أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ الْبَتَّةَ، قَالَ: لَا طَلَاقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ عُقْدَتَهُ، يُؤْثَرُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ.
قَوْلُهُ (وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةَ
بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، وَعَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، وَشُرَيْحٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَطَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَعَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَمُجَاهِدٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَمْرِو بْنِ هَرَمٍ، وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ) قُلْتُ: اقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى الْآثَارِ الَّتِي سَاقَهَا فِيهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خَبَرًا مَرْفُوعًا صَرِيحًا، رَمْزًا مِنْهُ إِلَى مَا سَأُبَيِّنُهُ فِي ضِمْنِهَا مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَّا الْأَثَرُ عَنْ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ فَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ عَلِيًّا قَالَ: قُلْتُ إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَيْسَ بِشَيْءٍ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَلِيٍّ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَلِيٍّ، وَمِنْ طَرِيقِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا أَيْضًا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رُقَيْشٍ أَنَّهُ سَمِعَ خَالَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ يَقُولُ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا طَلَاقَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ نِكَاحِ، وَلَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ الْحَدِيثَ لَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ، وَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ مُخْتَصَرَةٌ.
وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ مُطَوَّلًا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مُخْتَصَرًا وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ، وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ طَلَاقِ الرَّجُلِ مَا لَمْ يَنْكِحْ، فَكُلُّهُمْ قَالَ: لَا طَلَاقَ قَبْلَ أَنْ يَنْكِحَ إِنْ سَمَّاهَا وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهَا وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَيَأْتِي لَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى مَعَ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ:، حَدَّثَنَا هُشَيْمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَالَ إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ، فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: كَمْ أَصْدَقَهَا؟ قَالَ لَهُ: الرَّجُلُ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا بَعْدُ، فَكَيْفَ يُصْدِقُهَا؟ فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: فَكَيْفَ يُطَلِّقُ مَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ؟ وَأَمَّا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَقُولُ: كُلُّ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ قَبْلَ الْمِلْكِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَهَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ.
وَأَمَّا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَجَاءَ فِي أَثَرٍ وَاحِدٍ مَجْمُوعًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ بَعْدَهُ وَزِيَادَةِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَرَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدِ بْنِ الْهَادِ عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْحَكَمِ أَنَّ ابْنَ أَخِيهِ خَطَبَ بِنْتَ عَمِّهِ فَتَشَاجَرُوا فِي بَعْضِ الْأَمْرِ. فَقَالَ الْفَتَى: هِيَ طَالِقٌ إِنْ نَكَحْتُهَا حَتَّى آكُلَ الْغَضِيضَ، قَالَ: وَالْغَضِيضُ طَلْعُ النَّخْلِ الذَّكَرِ، ثُمَّ نَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ، فَقَالَ الْمُنْذِرُ: أَنَا آتِيكُمْ بِالْبَيَانِ مِنْ ذَلِكَ فَانْطَلَقَ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَذَكَرَ لَهُ فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، طَلَّقَ مَا لَمْ يَمْلِكْ. قَالَ: ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ سَأَلْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ سَأَلْتُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: هَلْ سَأَلْتَ أَحَدًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَسَمَّاهُمْ، قَالَ: ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى الْقَوْمِ فَأَخْبَرْتُهُمْ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ مَرْفُوعًا فَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ أَنَّهُ سَأَلَ الْبُخَارِيَّ: أَيُّ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ أَصَحُّ؟ فَقَالَ: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَحَدِيثُ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ.
قُلْتُ: إِنَّ الْبِشْرَ بْنَ السَّرِيِّ وَغَيْرَهُ قَالُوا: عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلًا، قَالَ: فَإِنَّ حَمَّادَ بْنَ خَالِدٍ رَوَاهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ فَوَصَلَهُ. قُلْتُ: أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ خَالِدٍ كَذَلِكَ، وَخَالَفَهُمْ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ
فَرَوَاهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، لَكِنَّ هِشَامَ بْنَ سَعْدٍ أَخْرَجَا لَهُ فِي الْمُتَابَعَاتِ فَفِيهِ ضَعْفٌ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَدِيٍّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي مَنَاكِيرِهِ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرِ بْنِ بَكَّارٍ السَّعْدِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا سُفْيَانَ عَلَى نَجْرَانَ فَذَكَرَ قِصَّةً وَفِي آخِرِهِ فَكَانَ فِيهَا عَهْدٌ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَقَالَ: لَا يُطَلِّقَنَّ رَجُلٌ مَا لَمْ يَنْكِحْ، وَلَا يُعْتِقْ مَا لَمْ يَمْلِكْ، وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَمَعْمَرٌ لَيْسَ بِالْحَافِظِ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ سَلَمَةَ الْأُرْدُنِيِّ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَالْوَلِيدُ وَاهٍ، وَلَمَّا أَوْرَدَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْجَامِعِ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَفِي الْبَابِ عَنْ عَلِيٍّ، وَمُعَاذٍ، وَجَابِرٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ. وَقَدْ ذَكَرْتُ في أَثْنَاء الْكَلَامِ عَلَى تَخْرِيجِ أَقْوَالِ مَنْ عَلَّقَ عَنْهُمُ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ رِوَايَاتِ هَؤُلَاءِ الْمَرْفُوعَةَ.
وَفَاتَ التِّرْمِذِيَّ أَنَّهُ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَعَائِشَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ; وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي أَثَرِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ شَامِيٍّ فِيهِ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ وَقَدْ عَنْعَنَهُ وَأَظُنُّ فِيهِ إِرْسَالًا أَيْضًا، وَأَمَّا أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ فَلَمْ أَقِفْ إِلَى الْآنِ عَلَى الْإِسْنَادِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ فَرُوِّينَاهُ فِي الْغَيْلَانِيَّاتِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحَسَنِ يَقُولُ: لَا طَلَاقَ إِلَّا بَعْدَ نِكَاحٍ وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَرُوِّينَا فِي فَوَائِدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَيُّوبَ الْمَخْرَمِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ مِثْلُهُ وَكِلَا السَّنَدَيْنِ صَحِيحٌ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْهُ تَأْتِي مَعَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ يَوْمَ أَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ فَهِيَ طَلَاقٌ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: لَا أَرَى الطَّلَاقَ إِلَّا بَعْدَ نِكَاحٍ. وَأَمَّا شُرَيْحٌ فَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ سعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ قَالَ لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ وَلَفْظُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ يَوْمَ أَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا.
وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمُلْكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ يَوْمَ أَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ فَهِيَ طَلَاقٌ، قَالَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِنَّمَا الطَّلَاقُ بَعْدَ النِّكَاحِ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى تَأْتِي مَعَ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ:، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةَ سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، وَعَلِيَّ بْنَ حُسَيْنٍ عَنِ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ فَلَمْ يَرَيَاهُ شَيْئًا وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هَاشِمٍ الرُّمَّانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ يَوْمَ أَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ، فَقَالَ: طَلَّقَ مَا لَا يَمْلِكُ وَفِي سَنَدِهِ أَبُو خَالِدٍ الْوَاسِطِيُّ، وَهُوَ وَاهٍ. وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ طَرِيقٌ أُخْرَى أَخْرَجَهَا ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ لَا طَلَاقَ إِلَّا بَعْدَ نِكَاحٍ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: قَالَ ابْنُ صَاعِدٍ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ: لَا أَعْلَمُ لَهُ عِلَّةً. قُلْتُ: اسْتَنْكَرُوهُ عَلَى ابْنِ صَاعِدٍ وَلَا ذَنْبَ لَهُ فِيهِ وَإِنَّمَا عِلَّتُهُ ضَعْفُ حِفْظِ عَاصِمٍ. وَأَمَّا الْقَاسِمُ وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَسَالِمٌ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ لَهُ عَنْ هُشَيْمٍ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ كَانَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَا يَرَوْنَ الطَّلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ أَيْضًا.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرِ عَنْ سَالِمٍ، وَالْقَاسِمِ
وُقُوعُهُ فِي الْمُعَيَّنَةِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ:، حَدَّثَنَا حَفْصٌ هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ سُئِلَ الْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: يَوْمَ أَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ، قَالَا: هِيَ كَمَا قَالَ وَعَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ أَنَّهُ سَأَلَ سَالِمًا، وَالْقَاسِمَ، وَأَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: يَوْمَ أَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ الْبَتَّةَ، فَقَالَ كُلُّهُمْ: لَا يَتَزَوَّجُهَا وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ، لِمَا أَخْرَجَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ الْقَاسِمَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَكَرِهَهُ، فَهَذَا طَرِيقُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ مَا نُقِلَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا طَاوُسٌ فَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ كَتَبَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَمْصَارِ أَنْ يَكْتُبُوا إِلَيْهِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ وَكَانَ قَدِ ابْتُلِيَ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِالْيَمَنِ فَدَعَا ابْنَ طَاوُسٍ وَإِسْمَاعِيلَ بْنَ شَرُوسٍ، وَسِمَاكَ بْنَ الْفَضْلِ فَأَخْبَرَهُمُ ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ شَرُوسٍ عَنْ عَطَاءٍ، وَسِمَاكُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ.
قَالَ سِمَاكٌ مِنْ عِنْدَهُ: إِنَّمَا النِّكَاحُ عُقْدَةٌ تُعْقَدُ وَالطَّلَاقُ يَحِلُّهَا، فَكَيْفَ يَحِلُّ عُقْدَةً قَبْلَ أَنْ تُعْقَدَ وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ خَصِيفٍ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ جَمِيعًا، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَمَّنْ سَمِعَ طَاوُسًا يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: لَا طَلَاقَ لِمَنْ لَمْ يَنْكِحَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَهَذَا مُرْسَلٌ وَفِيهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمَّ، وَقِيلَ فِيهِ عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنِ عَدِيٍّ بِسَنَدَيْنِ ضَعِيفَيْنِ عَنْ طَاوُسٍ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا طَلَاقَ إِلَّا بَعْدَ نِكَاحٍ، وَلَا عِتْقَ إِلَّا بَعْدَ مِلْكٍ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ طَاوُسٍ وَمُعَاذٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ عَلَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَرَوَاهُ عَامِرٌ الْأَحْوَلُ، وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ، وَحُسَيْنٌ الْمُعَلَّمُ كُلُّهُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَالْأَرْبَعَةُ ثِقَاتٌ وَأَحَادِيثُهُمْ فِي السُّنَنِ، وَمِنْ ثَمَّ صَحَّحَهُ مَنْ يُقَوِّي حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَهُوَ قَوِيٌّ لَكِنْ فِيهِ عِلَّةُ الِاخْتِلَافِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ اخْتِلَافًا آخَرَ فَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كَانَ أَبِي عَرَضَ عَلَيَّ امْرَأَةً يُزَوِّجُنِيهَا، فَأَبَيْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَهَا وَقُلْتُ: هِيَ
طَالِقٌ الْبَتَّةَ يَوْمَ أَتَزَوَّجُهَا، ثُمَّ نَدِمْتُ، فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا طَلَاقَ إِلَّا بَعْدَ نِكَاحٍ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ مَنْ قَالَ فِيهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ سَلَكَ الْجَادَّةَ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ لِمَا احْتَاجَ أَنْ يَرْحَلَ فِيهِ إِلَى الْمَدِينَةَ وَيَكْتَفِي فِيهِ بِحَدِيثٍ مُرْسَلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ حَكَى عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي الْبَابِ، وَكَذَلِكَ نُقِلَ مَا هُنَا عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْحَسَنُ فَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ قَالَا: لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَلَا عِتْقَ قَبْلَ الْمِلْكِ وَعَنْ هَشَّامٍ، عَنِ الْحَسَنِ مِثْلُهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَيُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا طَلَاقَ إِلَّا بَعْدَ الْمِلْكِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ سَأَلْتُ مَنْصُورًا عَمَّنْ قَالَ: يَوْمَ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَقَالَ: كَانَ الْحَسَنُ لَا يَرَاهُ طَلَاقًا وَأَمَّا عِكْرِمَةُ فَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ نَجِيحٍ قَالَ سَأَلْتُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قُلْتُ: رَجُلٌ قَالُوا لَهُ تَزَوَّجَ فُلَانَةَ قَالَ هِيَ يَوْمَ أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: إِنَّمَا الطَّلَاقُ بَعْدَ النِّكَاحِ وَأَمَّا عَطَاءٌ فَتَقَدَّمَ مَعَ طَاوُسٍ وَيَأْتِي لَهُ طَرِيقٌ مَعَ مُجَاهِدٍ، وَجَاءَ مِنْ طَرِيقِهِ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ مُوسَى بْنِ هَارُونَ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا طَلَاقَ إِلَّا بَعْدَ النِّكَاحِ، وَلَا عِتْقَ إِلَّا بَعْدَ مِلْكٍ. قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: لَمْ يَرْوِهِ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، وَوَكِيعٌ، وَلَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ اهـ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَيْضًا وَصَرَّحَ فِيهِ بِتَحْدِيثِ عَطَاءٍ مِنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا عَطَاءٌ لَكِنْ أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ ضَعِيفٌ.
وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ الْقَزَّازِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ وَصَرَّحَ فِيهِ بِتَحْدِيثِ عَطَاءٍ لِابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَتَحْدِيثِ جَابِرٍ، لِعَطَاءٍ وَفِي كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ نَظَرٌ، وَالْمَحْفُوظُ فِيهِ الْعَنْعَنَةُ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَمَّنْ سَمِعَ عَطَاءً، وَكَذَلِكَ رُوِّينَاهُ فِي الْغَيْلَانِيَّاتِ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَبُو قُرَّةَ فِي السُّنَنِ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَرِوَايَةُ وَكِيعٍ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الطَّبَرَانِيُّ أَخْرَجَهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ عَطَاءٍ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ وَلِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ طَرِيقٌ أُخْرَى أَخْرَجَهَا الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ صَدَقَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ جِئْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ وَأَنَا مُغْضَبٌ فَقُلْتُ: أَنْتَ أَحْلَلْتَ لِلْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ أُمَّ سَلَمَةَ؟ قَالَ: مَا أَنَا، وَلَكِنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا طَلَاقَ لِمَنْ لَا يَنْكِحُ، وَلَا عِتْقَ لِمَنْ لَا يَمْلِكُ وَأَمَّا عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ فَهُوَ الْبَجَلِيُّ الْكُوفِيُّ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَجَزَمَ الْكِرْمَانِيُّ فِي شَرْحِهِ بِأَنَّهُ ابْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَأَمَّا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَهُوَ أَبُو الشَّعْثَاءِ الْبَصْرِيُّ فَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِهِ وَفِي سَنَدِهِ رَجُلٌ لَمْ يُسَمَّ، وَأَمَّا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ أَيِ ابْنُ مُطْعِمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ أَيِ الْقُرَظِيُّ: فَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي
شَيْبَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْهُمَا قَالَا: لَا طَلَاقَ إِلَّا بَعْدَ نِكَاحٍ، وَأَمَّا سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ فَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عَتَّابِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ خَصِيفٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ حَلَفَ فِي امْرَأَةٍ إِنْ أَتَزَوَّجْهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: بَلَغَنِي أَنَّكَ حَلَفْتَ فِي كَذَا ; قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَلَا تُخَلِّي سَبِيلَهَا؟ قَالَ: لَا، فَتَرَكَهُ عُمَرُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا مُجَاهِدٌ فَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ الرَّمَّاحِ سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَمُجَاهِدًا، وَعَطَاءً عَنْ رَجُلٍ قَالَ: يَوْمَ أَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ، فَكُلُّهُمْ قَالَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، زَادَ سَعِيدٌ: أَيَكُونُ سَيْلٌ قَبْلَ مَطَرٍ؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ خِلَافُهُ أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ منْ طَرِيقِ خَصِيفٍ أَنَّ أَمِيرَ مَكَّةَ قَالَ لِامْرَأَتِهِ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، قَالَ خَصِيفٌ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمُجَاهِدٍ، وَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، طَلَّقَ مَا لَمْ يَمْلِكْ. قَالَ: فَكَرِهَ ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَعَابَهُ. وَأَمَّا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ وَاصِلٍ قَالَ: سَأَلْتُ الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: لَا طَلَاقَ إِلَّا بَعْدَ نِكَاحٍ. وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ هَرَمٍ وَهُوَ الْأَزْدِيُّ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ فَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَقَالَتِهِ مَوْصُولَةً، إِلَّا أَنَّ فِي كَلَامِ بَعْضِ الشُّرَّاحِ أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِهِ.
وَأَمَّا الشَّعْبِيُّ فَرَوَاهُ وَكِيعٌ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: إِنْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِذَا وَقَّتَ لَزِمَهُ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: إِذَا عَمَّمَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَمِمَّنْ رَأَى وُقُوعَهُ فِي الْمُعَيَّنَةِ دُونَ التَّعْمِيمِ - غَيْرُ مِنْ تَقَدَّمَ - إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْهُ قَالَ: إِذَا وَقَّتَ وَقَعَ، وَبِإِسْنَادِهِ إِذَا قَالَ كُلٌّ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ مِثْلُ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ ابْنُ
عَبَّاسٍ كَمَا تَقَدَّمَ. فَابْنُ مَسْعُودٍ أَقْدَمُ مَنْ أَفْتَى بِالْوُقُوعِ، وَتَبِعَهُ مَنْ أَخَذَ بِمَذْهَبِهِ كَالنَّخَعِيِّ ثُمَّ حَمَّادٍ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَالَ هِيَ طَالِقٌ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ عُمَرَ سُئِلَ عَمَّنْ قَالَ يَوْمَ أَتَزَوَّجُ فَهِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، قَالَ: لَا يَتَزَوَّجُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ فَلَا يَصِحُّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ وَالْعُمَرِيُّ ضَعِيفٌ وَالْقَاسِمُ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ تَبِعَ أَحْمَدَ فِي تَكْثِيرِ النَّقْلِ عَنِ التَّابِعِينَ، فَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي الْعِلَلِ أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ وَكِيعٍ حَدَّثَهُ قَالَ: أَحْفَظُ عَنْ أَحْمَدَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ فَقَالَ: يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَنَيِّفٍ وَعِشْرِينَ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَنَا قُلْتُهُ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَجَوَّزَ الْبُخَارِيُّ فِي نِسْبَةِ جَمِيعِ مَنْ ذُكِرَ عَنْهُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ مُطْلَقًا، مَعَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُفَصِّلُ وَبَعْضَهُمْ يُخْتَلَفُ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ هُوَ النُّكْتَةُ فِي تَصْدِيرِهِ النَّقْلَ عَنْهُمْ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْخِلَافِيَّاتِ الشَّهِيرَةِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا مَذَاهِبُ: الْوُقُوعُ مُطْلَقًا، وَعَدَمُ الْوُقُوعِ مُطْلَقًا، وَالتَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا إِذَا عَيَّنَ أَوْ عَمَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ: فَقَالَ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ الْجُمْهُورُ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَابْنِ مَهْدِيٍّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَدَاوُدَ وَأَتْبَاعِهِمْ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ بِالْوُقُوعِ مُطْلَقًا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَقَالَ بِالتَّفْصِيلِ رَبِيعَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَتْبَاعُهُ وَمَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَعَنْهُ عَدَمُ الْوُقُوعِ مُطْلَقًا وَلَوْ عَيَّنَ، وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِثْلُهُ، وَعَنْهُ أَنَّهُ تَوَقَّفَ، وكَذَا عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ.
وَقَالَ جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ بِالتَّفْصِيلِ، فَإِنْ سَمَّى امْرَأَةً أَوْ طَائِفَةً أَوْ قَبِيلَةً أَوْ مَكَانًا أَوْ زَمَانًا يُمْكِنُ أَنْ يَعِيشَ إِلَيْهِ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ، وَجَاءَ عَنْ عَطَاءٍ مَذْهَبٌ آخَرُ مُفَصَّلٌ بَيْنَ أَنْ يَشْرِطَ ذَلِكَ فِي عَقْدِ نِكَاحِ امْرَأَتِهِ أَوْ لَا، فَإِنْ شَرَطَهُ لَمْ يَصِحَّ تَزْوِيجُ مَنْ عَيَّنَهَا وَإِلَّا صَحَّ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَتَأَوَّلَ الزُّهْرِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ قَوْلَهُ لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ أَصْلًا، فَإِذَا قِيلَ لَهُ مَثَلًا تَزَوَّجْ فُلَانَةَ فَقَالَ هِيَ طَالِقٌ الْبَتَّةَ لَمْ يَقَعْ بِذَلِكَ شَيْءٌ وَهُوَ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثِ وَأَمَّا إِذَا قَالَ إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ فَإِنَّ الطَّلَاقَ إِنَّمَا يَقَعُ حِينَ تَزَوَّجَهَا، وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ التَّأْوِيلِ تَرُدُّهُ الْآثَارُ الصَّرِيحَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَشَايِخِ الزُّهْرِيِّ فِي أَنَّهُمْ أَرَادُوا عَدَمَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَمَّنْ قَالَ إِنْ تَزَوَّجَتْ فَهِيَ طَالِقٌ سَوَاءٌ خَصَّصَ أَمْ عَمَّمَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ، وَلِشُهْرَةِ الِاخْتِلَافِ كَرِهَ أَحْمَدُ مُطْلَقًا وَقَالَ إِنْ تَزَوَّجَ لَا آمُرُهُ أَنْ يُفَارِقَ، وَكَذَا قَالَ إِسْحَاقُ فِي الْمُعَيَّنَةِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ كَثِيرًا مِنَ الْأَخْبَارِ، ثُمَّ مِنَ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ: هَذِهِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُعْظَمَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَهِمُوا مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّ الطَّلَاقَ أَوِ الْعَتَاقَ الَّذِي عَلَّقَ قَبْلَ النِّكَاحِ وَالْمِلْكِ لَا يَعْمَلُ بَعْدَ وُقُوعِهِمَا، وَأَنَّ تَأْوِيلَ الْمُخَالِفِ فِي حَمْلِهِ عَدَمُ الْوُقُوعِ عَلَى مَا إِذَا وَقَعَ قَبْلَ الْمِلْكِ، وَالْوُقُوعُ فِيمَا إِذَا وَقَعَ بَعْدَهُ، لَيْسَ بِشَيْءٍ. لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ قَبْلَ وُجُودِ عَقْدِ النِّكَاحِ أَوِ الْمِلْكِ فَلَا يَبْقَى فِي الْإِخْبَارِ فَائِدَةٌ، بِخِلَافِ مَا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّ فِيهِ فَائِدَةً وَهُوَ الْإِعْلَامُ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ وَلَوْ بَعْدَ وُجُودِ الْعَقْدِ، فَهَذَا يُرَجِّحُ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ حَمْلِ الْأَخْبَارِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ بِذَلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَإِلَى مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ قَوْمًا بِالْمَدِينَةِ كَانُوا يَقُولُونَ إِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِطَلَاقِ امْرَأَةٍ قَبْلَ أَنْ يَنْكِحَهَا ثُمَّ حَنِثَ لَزِمَ إِذَا نَكَحَهَا، حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ قَالَ: وَتَأَوَّلُوا حَدِيثَ لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ عَلَى مَنْ يَقُولُ امْرَأَةُ فُلَانٍ طَالِقٌ، وَعُورِضَ مَنْ أَلْزَمَ بِذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: إِذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَأْذَنِي لِوَلِيِّكِ أَنْ يُزَوِّجَنِيكِ، فَقَالَتْ: إِذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَقَدْ أَذِنْتُ لِوَلِيِّي فِي ذَلِكَ، أَنَّ فُلَانًا إِذَا قَدِمَ لَمْ يَنْعَقِدِ التَّزْوِيجُ حَتَّى تُنْشِئَ عَقْدًا جَدِيدًا. وَعَلَى
أَنَّ مَنْ بَاعَ سِلْعَةً لَا يَمْلِكُهَا ثُمَّ دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ الْبَيْعُ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ طَلَّقْتُكِ فَقَدْ رَاجَعْتُكِ فَطَلَّقَهَا لَا تَكُونُ مُرْتَجَعَةً، فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ.
وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ قَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قَالَ: وَالتَّعْلِيقُ عَقْدٌ الْتَزَمَهُ بِقَوْلِهِ وَرَبَطَهُ بِنِيَّتِهِ وَعَلَّقَهُ بِشَرْطِهِ، فَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ نَفَذَ. وَاحْتَجَّ آخَرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} وَآخَرُ بِمَشْرُوعِيَّةِ الْوَصِيَّةِ.
وَكُلُّ ذَلِكَ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ مِنَ الْعُقُودِ، وَالنَّذْرُ يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ، وَمِنْ ثَمَّ فَرَّقَ أَحْمَدُ بَيْنَ تَعْلِيقِ الْعِتْقِ وَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ فَأَوْقَعَهُ فِي الْعِتْقِ دُونَ الطَّلَاقِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ مَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقٌ لَزِمَهُ، وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ طَلَاقٌ كَانَ لَغْوًا. وَالْوَصِيَّةُ إِنَّمَا تَنْفُذُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلَوْ عَلَّقَ الْحَيُّ الطَّلَاقَ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَنْفُذْ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِصِحَّةِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ ; وَأَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْ طَلُقَتْ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الطَّلَاقَ حَقٌّ مِلْكُ الزَّوْجِ، فَلَهُ أَنْ يُنْجِزَهُ وَيُؤَجِّلَهُ وَأَنْ يُعَلِّقَهُ بِشَرْطٍ وَأَنْ يَجْعَلَهُ بِيَدِ غَيْرِهِ كَمَا يَتَصَرَّفُ الْمَالِكُ فِي مِلْكِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ زَوْجًا فَأَيُّ شَيْءٍ مَلَكَ حَتَّى يَتَصَرَّفَ؟
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الْأَصْلُ فِي الطَّلَاقِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَنْكُوحَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِقَيْدِ النِّكَاحِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مُطْلَقُ اللَّفْظِ، لَكِنَّ الْوَرَعَ يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ عَنِ الْمَرْأَةِ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ تَجْوِيزَهُ وَإِلْغَاءَ التَّعْلِيقِ، قَالَ: وَنَظَرَ مَالِكٌ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ فِي مَسْألَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُعَيَّنَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ إِذَا عَمَّ سَدَّ عَلَى نَفْسِهِ بَابِ النِّكَاحِ الَّذِي نَدَبَ اللَّهُ إِلَيْهِ فَعَارَضَ عِنْدَهُ الْمَشْرُوعَ فَسَقَطَ، قَالَ: وَهَذَا عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَهُوَ تَخْصِيصُ الْأَدِلَّةِ بِالْمَصَالِحِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ هَذَا لَازِمًا فِي الْخُصُوصِ لَلَزِمَ فِي الْعُمُومِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
10 - بَاب إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهُوَ مُكْرَهٌ: هَذِهِ أُخْتِي، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِسَارَةَ: هَذِهِ أُخْتِي، وَذَلِكَ فِي ذَاتِ اللَّهِ عز وجل.
قَوْلُهُ (بابُ إذا قَالَ لِامْرأَتِهِ وَهُوَ مُكْرَهٌ: هَذِهِ أُخْتِي، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ إِبْرَاهَيمُ لِسَارَّةَ: هَذِهِ أُخْتِي، وذَلِكَ فِي ذَاتِ الله) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَرَادَ بِذَلِكَ رَدَّ مِنْ كَرِهَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ يَا أُخْتِي، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ مَرَّ النُّبي صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ: يَا أُخَيَّةُ، فَزَجَرَهُ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَمِنْ ثَمَّ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: يَصِيرُ بِذَلِكَ مُظَاهِرًا إِذَا قَصَدَ ذلك، فَأَرْشَدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى اجْتِنَابِ اللَّفْظِ الْمُشْكِلِ.
قَالَ: وَلَيْسَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مُعَارَضَةٌ، لِأَنَّ إِبَاهِيمَ إِنَّمَا أَرَادَ بِهَا أُخْتَهُ فِي الدِّينِ، فَمَنْ قَالَ ذَلِكَ وَنَوَى أُخُوَّةَ الدِّينِ لَمْ يَضُرَّهُ. قُلْتُ: حَدِيثُ أَبِي تَمِيمَةَ مُرْسَلٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِقٍ مُرْسلة، وَفِي بَعْضِهَا عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا مُتَّصِلٌ، وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ قَبْلَهُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَة فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَسَارَّةَ، فَكَأَنَّهُ وَافَقَ الْبُخَارِيَّ، وَقَدْ قَيَّدَ الْبُخَارِيُّ بِكَوْنِ قَائِلِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ مُكْرَهًا لَمْ يَضُرَّهُ وَتَعَقَّبَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِكْرَاهٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ لَكِنْ لَا تَعَقُّبَ عَلَى الْبُخَارِيِّ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِذِكْرِ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ لَا يَضُرُّهُ قِيَاسًا عَلَى مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ الْمَلِكِ أَنْ يَغْلِبَهُ عَلَى سَارَّةَ، وَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ لَا يَقْرَبُوا الْخَلِيَّةَ إِلَّا بِخِطْبَةٍ وَرِضًا، بِخِلَافِ الْمُتَزَوِّجَةِ فَكَانُوا يَغْتَصِبُونَهَا مِنْ زَوْجِهَا إِذَا أَحَبُّوا ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ فِي الْمَنَاقِبِ، فَلِخَوْفِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى سَارَّةَ قَالَ إِنَّهَا أُخْتُهُ وَتَأَوَّلَ أُخُوَّةَ الدِّينِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
تَنْبِيهٌ:
أَوْرَدَ النَّسَفِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ جَمِيعَ مَا فِي التَّرْجَمَةِ
الَّتِي بَعْدَهُ، وَعَكَسَ ذَلِكَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
11 - بَاب الطَّلَاقِ فِي الْإِغْلَاقِ وَالْكُرْهِ، وَالسَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ وَأَمْرِهِمَا، وَالْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ فِي الطَّلَاقِ وَالشِّرْكِ وَغَيْرِهِ،
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، وَتَلَا الشَّعْبِيُّ:{لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ إِقْرَارِ الْمُوَسْوِسِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ وَقَالَ عَلِيٌّ: بَقَرَ حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شَارِفَيَّ، فَطَفِقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَلُومُ حَمْزَةَ، فَإِذَا حَمْزَةُ ثَمِلَ مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي؟ فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ، وَقَالَ عُثْمَانُ: لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلَا لِسَكْرَانَ طَلَاقٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَلَاقُ السَّكْرَانِ وَالْمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بِجَائِزٍ، وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: لَا يَجُوزُ طَلَاقُ الْمُوَسْوِسِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا بَدَأ بِالطَّلَاقِ فَلَهُ شَرْطُهُ، وَقَالَ نَافِعٌ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ إِنْ خَرَجَتْ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ خَرَجَتْ فَقَدْ بُتَّتْ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِيمَنْ قَالَ: إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ ثَلَاثًا: يُسْأَلُ عَمَّا قَالَ وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ بِتِلْكَ الْيَمِينِ، فَإِنْ سَمَّى أَجَلًا أَرَادَهُ وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ جُعِلَ ذَلِكَ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنْ قَالَ لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ نِيَّتُهُ، وَطَلَاقُ كُلِّ قَوْمٍ بِلِسَانهِمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا قَالَ إِذَا حَمَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَغْشَاهَا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً فَإِنْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا قَالَ الْحَقِي بِأَهْلِكِ نِيَّتُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الطَّلَاقُ عَنْ وَطَرٍ وَالْعَتَاقُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنْ قَالَ مَا أَنْتِ بِامْرَأَتِي نِيَّتُهُ، وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا فَهُوَ مَا نَوَى. وَقَالَ عَلِيٌّ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يُدْرِكَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ. وَقَالَ عَلِيٌّ: وَكُلُّ الطَّلَاقِ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ.
5269 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ. قَالَ قَتَادَةُ: إِذَا طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
5270 -
حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ زَنَى، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى لِشِقِّهِ الَّذِي أَعْرَضَ، فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: هَلْ بِكَ جُنُونٌ؟ هَلْ أَحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ جَمَزَ، حَتَّى أُدْرِكَ بِالْحَرَّةِ فَقُتِلَ.
[الحديث 5270 - أطرافه في: 5272، 6814، 6816، 6820، 6826، 7168]
5271 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ أَتَى رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الأَخِرَ قَدْ زَنَى يَعْنِي نَفْسَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِي أَعْرَضَ قِبَلَهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الأَخِرَ قَدْ زَنَى فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِي أَعْرَضَ قِبَلَهُ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَتَنَحَّى لَهُ الرَّابِعَةَ فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ فَقَالَ هَلْ بِكَ جُنُونٌ قَالَ لَا، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ وَكَانَ قَدْ أُحْصِنَ"
[الحديث 5271 - أطرافه في: 6815، 6825، 7167]
5272 -
وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ قَالَ كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ جَمَزَ حَتَّى أَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ حَتَّى مَاتَ"
قَوْلُهُ (بَابُ الطَّلَاقِ فِي الْإِغْلَاقِ وَالْكُرْهِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ وَأَمْرِهِمَا، وَالْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ فِي الطَّلَاقِ، وَالشِّرْكِ وَغَيْرِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) اشْتَمَلَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ عَلَى أَحْكَامٍ يَجْمَعُهَا أَنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْعَاقِلِ الْمُخْتَارِ الْعَامِدِ الذَّاكِرِ، وَشَمَلَ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ لِأَنَّ غَيْرَ الْعَاقِلِ الْمُخْتَارِ لَا نِيَّةَ لَهُ فِيمَا يَقُولُ أَوْ يَفْعَلُ، وَكَذَلِكَ الْغَالِطُ وَالنَّاسِي وَالَّذِي يُكْرَهُ عَلَى الشَّيْءِ. وَحَدِيثُ الْأَعْمَالِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ أَوَّلَ الْكِتَابِ، وَوَصَلَهُ بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى فِي أَمَاكِنَ أُخْرَى، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ.
وَقَوْلُهُ الْإِغْلَاقُ هُوَ - بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ - الْإِكْرَاهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، قِيلَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَتَغَلَّقُ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَيَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ تَصَرُّفُهُ، وَقِيلَ هُوَ الْعَمَلُ فِي الْغَضَبِ، وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ أَبُو عُبَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ، وَإِلَى الثَّانِي أَشَارَ أَبُو دَاوُدَ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ حَدِيثَ عَائِشَةَ لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي غِلَاقٍ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَالْغِلَاقُ أَظُنُّهُ الْغَضَبَ، وَتَرْجَمَ عَلَى الْحَدِيثِ الطَّلَاقُ عَلَى غَيْظٍ وَوَقَعَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ فِي أَوَّلِهِ.
وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْإِغْلَاقُ بِالْأَلِفِ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ فَإِنْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ بِغَيْرِ أَلِفٍ هِيَ الرَّاجِحَةُ فَهُوَ غَيْرُ الْإِغْلَاقِ.
قَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: قَوْلُهُمْ إِيَّاكَ وَالْغَلْقَ أَيِ الضَّجِرَ وَالْغَضَبَ، وَرَدَّ الْفَارِسِيُّ فِي مَجْمَعِ الْغَرَائِبِ عَلَى مَنْ قَالَ الْإِغْلَاقُ الْغَضَبُ وَغَلَّطَهُ فِي ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ طَلَاقَ النَّاسِ غَالِبًا إِنَّمَا هُوَ فِي حَالِ الْغَضَبِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَرَابِطِ: الْإِغْلَاقُ حَرَجُ النَّفْسِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ وَقَعَ لَهُ فَارَقَ عَقْلَهُ، وَلَوْ جَازَ عَدَمُ وُقُوعِ طَلَاقِ الْغَضْبَانِ لَكَانَ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ فِيمَا جَنَاهُ: كُنْتُ غَضْبَانًا اهـ. وَأَرَادَ بِذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْغَضَبِ لَا يَقَعُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ بَعْضِ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ وَلَمْ يُوجَدْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ مُتَقَدِّمِيهِمْ إِلَّا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْمَطَالِعِ الْإِغْلَاقُ الْإِكْرَاهُ وَهُوَ مِنْ أَغْلَقْتُ الْبَابَ، وَقِيلَ الْغَضَبُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَهْلُ الْعِرَاقِ، فَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَعُرِفَ بِعِلَّةِ الِاخْتِلَافِ الْمُطْلَقِ إِطْلَاقُ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ، وَإِذَا أَطْلَقَهُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ فَمُرَادُهُ مُقَابِلُ الْمَرَاوِزَةِ مِنْهُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ مَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنْ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ مُطْلَقًا، وَالْمُرَادُ النَّفْيُ عَنْ فِعْلِهِ لَا النَّفْيُ لِحُكْمِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ بَلْ يُطَلِّقُ لِلسُّنَّةِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ. وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ وَالْكُرْهُ هُوَ فِي النُّسَخِ بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَفِي عَطْفِهِ
عَلَى الْإِغْلَاقِ نَظَرٌ، إِلَّا إِنْ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْإِغْلَاقَ الْغَضَبُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْكَافِ مِيمٌ لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ السَّكْرَانَ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ بَابَ حُكْمِ الطَّلَاقِ فِي الْإِغْلَاقِ وَحُكْمِ الْمُكْرَهِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ إِلَخْ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ، فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ يَقَعُ، قَالَ: لِأَنَّهُ شَيْءٌ افْتَدَى بِهِ نَفْسَهُ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الرَّأْيِ، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ تَفْصِيلٌ آخَرُ: إِنْ وَرَّى الْمُكْرَهُ لَمْ يَقَعْ وَإِلَّا وَقَعَ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنْ أَكْرَهَهُ اللُّصُوصُ وَقَعَ وَإِنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ فَلَا، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ اللُّصُوصَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَقْتُلُوا مَنْ يُخَالِفُهُمْ غَالِبًا بِخِلَافِ السُّلْطَانِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مَا يَقَعُ فِيهِ، وَاحْتَجَّ عَطَاءٌ بِآيَةِ النَّحْلِ {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} قَالَ عَطَاءٌ: الشِّرْكُ أَعْظَمُ مِنَ الطَّلَاقِ، أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَقَرَّرَهُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا وَضَعَ الْكُفْرَ عَمَّنْ تَلَفَّظَ بِهِ حَالَ الْإِكْرَاهِ وَأَسْقَطَ عَنْهُ أَحْكَامَ الْكُفْرِ فَكَذَلِكَ يَسْقُطُ عَنِ الْمُكْرَهِ مَا دُونَ الْكُفْرِ لِأَنَّ الْأَعْظَمَ إِذَا سَقَطَ سَقَطَ مَا هُوَ دُونَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِعَطْفِ الشِّرْكِ عَلَى الطَّلَاقِ فِي التَّرْجَمَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالسَّكْرَانُ فَسَيَأْتِي ذِكْرُ حُكْمِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَثَرِ عُثْمَانَ فِي هَذا الْبَابِ، وَقَدْ يَأْتِي السَّكْرَانُ فِي كَلَامِهِ وَفِعْلِهِ بِمَا لَا يَأْتِي بِهِ وَهُوَ صَاحٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فإِنَّ فِيهَا دَلَالَةً عَلَى أَنَّ مَنْ عَلِمَ مَا يَقُولُ لَا يَكُونُ سَكْرَانَ، وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَسَيَأْتِي فِي أَثَرِ عَلِيٍّ مَعَ عُمَرَ.
وَقَوْلُهُ وَأَمَرَهُمَا فَمَعْنَاهُ هَلْ حُكْمُهُمَا وَاحِدٌ أَوْ يَخْتَلِفُ؟ وَقَوْلُهُ وَالْغَلَطُ وَالنِّسْيَانُ فِي الطَّلَاقِ وَالشِّرْكِ وَغَيْرِهِ أَيْ إِذَا وَقَعَ مِنَ الْمُكَلَّفِ مَا يَقْتَضِي الشِّرْكَ غَلَطًا أَوْ نِسْيَانًا هَلْ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهِ، وَإِذَا كَانَ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهِ فَلْيَكُنِ الطَّلَاقُ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ وَغَيْرِهِ أَيْ وَغَيْرِ الشِّرْكِ مِمَّا هُوَ دُونَهُ، وَذَكَرَ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ أَنَّهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَالشَّكِّ بَدَلَ الشِّرْكِ، قَالَ: وَهُوَ الصَّوَابُ، وَتَبِعَهُ الزَّرْكَشِيُّ لَكِنْ قَالَ: وَهُوَ أَلْيَقُ، وَكَأَنَّ مُنَاسَبَةَ لَفْظِ الشِّرْكِ خَفِيَتْ عَلَيْهِمَا، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ النُّسَخِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا بِلَفْظِ الشَّكِّ، فَإِنْ ثَبَتَتْ فَتَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى النِّسْيَانِ لَا عَلَى الطَّلَاقِ. ثُمَّ رَأَيْتُ سَلَفَ شَيْخِنَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ وَالنِّسْيَانِ فِي الطَّلَاقِ وَالشِّرْكِ وَهُوَ خَطَأٌ وَالصَّوَابُ وَالشَّكُّ مَكَانَ الشِّرْكِ اهـ، فَفَهِمَ شَيْخُنَا مِنْ قَوْلِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ أَنَّ فِي بَعْضِهَا بلَفْظ الشَّكِّ فَجَزَمَ بِذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي طَلَاقِ النَّاسِي فَكَانَ الْحَسَنُ يَرَاهُ كَالْعَمْدِ إِلَّا إِنِ اشْتَرَطَ فَقَالَ إِلَّا أَنْ أَنْسَى، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَاهُ شَيْئًا وَيَحْتَجُّ بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الْآتِي كَمَا سَأُقَرِّرُهُ بَعْدُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَكَذَلِكَ اخْتُلِفَ فِي طَلَاقِ الْمُخْطِئِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ، وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ مِمَّنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ شَيْئًا فَسَبَقَهُ لِسَانُهُ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ.
وَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ الْغَلَطُ وَالنِّسْيَانُ إِلَى الْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الثَّلَاثَةِ فِي التَّجَاوُزِ، فَمَنْ حَمَلَ التَّجَاوُزَ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ خَاصَّةً دُونَ الْوُقُوعِ فِي الْإِكْرَاهِ لَزِمَ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي النِّسْيَانِ، وَالْحَدِيثُ قَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي طَلَاقِ الْمُشْرِكِ فَجَاءَ عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَرَبِيعَةَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ، وَنُسِبَ إِلَى مَالِكٍ، وَدَاوُدَ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَقَعُ كَمَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ وَعِتْقُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِ.
قَوْلُهُ (وَتَلَا الشَّعْبِيُّ: {لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} رُوِّينَاهُ مَوْصُولًا فِي فَوَائِدِ هَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ الصَّغِيرِ مِنْ رِوَايَةِ سَلِيمٍ مَوْلَى الشَّعْبِيِّ عَنْهُ بِمَعْنَاهُ.
قَوْلُهُ (وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ إِقْرَارِ الْمُوَسْوِسِ) بِمُهْمَلَتَيْنِ وَالْوَاوُ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَكْسُورَةٌ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ: أَبِكَ جُنُونٌ؟) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ بِلَفْظِ
هَلْ بِكَ جُنُونٌ وَأَوْرَدَهُ فِي الْحُدُودِ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ ذِكْرُ السُّكْرِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ عَلِيٌّ: بَقَرَ حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شَارِفَيَّ) الْحَدِيثَ هُوَ طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ الشَّارِفَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي غَزْوَةِ بَدْرِ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي. وَبَقَرَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ أَيْ شَقَّ، وَالْخَوَاصِرُ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ جَمْعُ خَاصِرَةٍ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ إِنَّهُ ثَمِلٌ بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ بَعْدَهَا لَامٌ أَيْ سَكْرَانُ، وَهُوَ مِنْ أَقْوَى أَدِلَّةِ مَنْ لَمْ يُؤَاخِذِ السَّكْرَانَ بِمَا يَقَعُ مِنْهُ فِي حَالِ سُكْرِهِ مِنْ طَلَاقٍ وَغَيْرِهِ، وَاعْتَرَضَ الْمُهَلَّبُ بِأَنَّ الْخَمْرَ حِينَئِذٍ كَانَتْ مُبَاحَةً، قَالَ: فَبِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ حُكْمُ مَا نَطَقَ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، قَالَ: وَبِسَبَبِ هَذِهِ الْقِصَّةِ كَانَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ اهـ. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّ الِاحْتِجَاجَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ مُؤَاخَذَةِ السَّكْرَانِ بِمَا يُصْدَرُ مِنْهُ، وَلَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الشُّرْبُ مُبَاحًا أَوْ لَا، وَأَمَّا ثَانِيًا فَدَعْوَاهُ أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ كَانَ بِسَبَبِ قِصَّةِ الشَّارِفَيْنِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ قِصَّةَ الشَّارِفَيْنِ كَانَتْ قَبْلَ أُحُدٍ اتِّفَاقًا لِأَنَّ حَمْزَةَ اسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ وَكَانَ ذَلِكَ بَيْنَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ عِنْدَ تَزْوِيجِ عَلِيٍّ بِفَاطِمَةَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ جَمَاعَةً اصْطَبَحُوا الْخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ وَاسْتُشْهِدُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَكَانَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ بَعْدَ أُحُدٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ عُثْمَانُ: لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلَا لِسَكْرَانَ طَلَاقٌ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ شَبَابَةَ، وَرُوِّينَاهُ فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنْ تَارِيخِ أَبِي زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيِّ عَنْ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: طَلَّقْتُ امْرَأَتِي وَأَنَا سَكْرَانُ، فَكَانَ رَأْيُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَعَ رَأْيِنَا أَنْ يَجْلِدَهُ وَيُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، حَتَّى حَدَّثَهُ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمَجْنُونِ وَلَا عَلَى السَّكْرَانِ طَلَاقٌ، قَالَ عُمَرُ: تَأْمُرُونَنِي وَهَذَا يُحَدِّثُنِي عَنْ عُثْمَانَ؟ فَجَلَدَهُ، وَرَدَّ إِلَيْهِ امْرَأَتَهُ.
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَثَرَ عُثْمَانَ ثُمَّ ابْنِ عَبَّاسٍ اسْتِظْهَارًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي قِصَّةِ حَمْزَةَ، وَذَهَبَ إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ طَلَاقِ السَّكْرَانِ أَيْضًا أَبُو الشَّعْثَاءَ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْقَاسِمُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ، وَاللَّيْثُ، وَإِسْحَاقُ، وَالْمُزَنِيُّ، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ لَا يَقَعُ قَالَ: وَالسَّكْرَانُ مَعْتُوهٌ بِسُكْرِهِ. وَقَالَ بِوُقُوعِهِ طَائِفَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: الْمُصَحَّحُ مِنْهُمَا وُقُوعُهُ، وَالْخِلَافُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَكِنَّ التَّرْجِيحَ بِالْعَكْسِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُرَابِطِ: إِذَا تَيَقَّنَّا ذَهَابَ عَقْلِ السَّكْرَانِ. لَمْ يَلْزَمْهُ طَلَاقٌ، وَإِلَّا لَزِمَهُ.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ حَدَّ السُّكْرِ الَّذِي تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ أَنْ لَا يَعْلَمَ مَا يَقُولُ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَا يَأْبَاهُ مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ طَلَاقِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِوُقُوعِهِ مُطْلَقًا بِأَنَّهُ عَاصٍ بِفَعْلِهِ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ الْخِطَابُ بِذَلِكَ، وَلَا الْإِثْمُ لِأَنَّهُ يُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَوَاتِ وَغَيْرِهَا مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ فِي السُّكْرِ أَوْ فِيهِ، وَأَجَابَ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ لَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ فَاقِدِ الْعَقْلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَهَابُ عَقْلِهِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ بِسَبَبٍ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ أَوْ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ كَمَنْ كَسَرَ رِجْلَ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الْقِيَامِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْقِيَامَ انْتَقَلَ إِلَى بَدَلٍ وَهُوَ الْقُعُودُ فَافْتَرَقَا. وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الِاحْتِجَاجِ بِقَضَاءِ الصَّلَوَاتِ بِأَنَّ النَّائِمَ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّلَاةِ وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ فَافْتَرَقَا. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْأَصْلُ فِي السَّكْرَانِ الْعَقْلُ، وَالسُّكْرُ شَيْءٌ طَرَأَ عَلَى عَقْلِهِ، فَمَهْمَا وَقَعَ مِنْهُ مِنْ كَلَامٍ مَفْهُومٍ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَصْلِ حَتَّى يَثْبُتَ ذَهَابُ عَقْلِهِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَلَاقُ السَّكْرَانِ وَالْمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بِجَائِزٍ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ جَمِيعًا عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَلْحَةَ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمُزَنِيِّ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَيْسَ لِسَكْرَانَ وَلَا لِمُضْطَهَدٍ طَلَاقٌ الْمُضْطَهَدُ: بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ طَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ هَاءٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ هُوَ الْمَغْلُوبُ الْمَقْهُورُ، وَقَوْلُهُ لَيْسَ بِجَائِزٍ أَيْ بِوَاقِعٍ، إِذْ لَا عَقْلَ لِلسَّكْرَانِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ وَلَا اخْتِيَارَ لِلْمُسْتَكْرَهِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: لَا يَجُوزُ طَلَاقُ الْمُوَسْوِسِ) أَيْ لَا يَقَعُ، لِأَنَّ الْوَسْوَسَةَ حَدِيثُ النَّفْسِ، وَلَا مُؤَاخَذَةَ بِمَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ (وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا بَدَأَ بِالطَّلَاقِ فَلَهُ شَرْطُهُ) تَقَدَّمَ مَشْرُوحًا فِي بَابِ الشُّرُوطِ فِي الطَّلَاقِ وَتَقَدَّمَ عَنْ عَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ، وَبَيَّنْتُ مَنْ وَصَلَهُ عَنْهُمْ وَمَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ نَافِعٌ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ إِنْ خَرَجَتْ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ خَرَجَتْ فَقَدْ بُتَّتْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ) أَمَّا قَوْلُهُ الْبَتَّةَ فَإِنَّهُ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ.
قَالَ الْكِرْمَانِيُّ هُنَا قَالَ النُّحَاةُ: قَطْعُ هَمْزَةِ الْبَتَّةَ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْقِيَاسِ اهـ، وَفِي دَعْوَى أَنَّهَا يُقَالُ بِالْقَطْعِ نَظَرٌ، فَإِنَّ أَلِفَ الْبَتَّةَ أَلِفُ وَصْلٍ قَطْعًا، وَالَّذِي قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ الْبَتَّةَ الْقَطْعُ وَهُوَ تَفْسِيرُهَا بِمُرَادِفِهَا لَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا تُقَالُ بِالْقَطْعِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ بُتَّتْ فَبِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْمَفْتُوحَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذَا هُنَا - وَإِنْ كَانَتِ الْمَسَائِلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبَتَّةِ تَقَدَّمَتْ - مُوَافَقَةُ ابْنِ عُمَرَ لِلْجُمْهُورِ فِي أَنْ لَا فَرْقَ فِي الشَّرْطِ بَيْنَ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ، وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ أَثَرِ عَطَاءٍ وَكَذَا مَا بَعْدَ هَذَا. وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْخَلِيَّةِ وَالْبَتَّةِ ثَلَاثٌ ثَلَاثٌ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِيمَنْ قَالَ إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ ثَلَاثًا: يُسْأَلُ عَمَّا قَالَ وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبَهُ حِينَ حَلَفَ بِتِلْكَ الْيَمِينِ، فَإِنْ سَمَّى أَجَلًا أَرَادَهُ وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبَهُ حِينَ حَلَفَ جُعِلَ ذَلِكَ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ) أَيْ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مُخْتَصَرًا وَلَفْظُهُ فِي الرَّجُلَيْنِ يَحْلِفَانِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقَةِ عَلَى أَمْرٍ يَخْتَلِفَانِ فِيهِ وَلَمْ يَقُمْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ عَلَى قَوْلِهِ قَالَ: يَدِينَانِ وَيَحْمِلَانِ مِنْ ذَلِكَ مَا تَحَمَّلَا. وَعَنْ مَعْمَرٍ عَمَّنْ سَمِعَ الْحَسَنَ مِثْلُهُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنْ قَالَ لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ نِيَّتُهُ) أَيْ إِنْ قَصَدَ طَلَاقًا طَلُقَتْ وَإِلَّا فَلَا، قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ قَالَ: نِيَّتُهُ. وَعَنْ وَكِيعٍ عَنْ شُعْبَةَ سَأَلْتُ الْحَكَمَ، وَحَمَّادًا قَالَا: إِنْ نَوَى طَلَاقًا فَوَاحِدَةٌ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا.
قَوْلُهُ (وَطَلَاقُ كُلِّ قَوْمٍ بِلِسَانِهِمْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا إِدْرِيسُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي إِدْرِيسَ، وَجَرِيرٌ فَالْأَوَّلُ عَنْ مُطَرِّفٍ وَالثَّانِي عَنِ الْمُغِيرَةِ كِلَاهُمَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: طَلَاقُ الْعَجَمِيِّ بِلِسَانِهِ جَائِزٌ وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ بِالْفَارِسِيَّةِ يَلْزَمُهُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا قَالَ إِذَا حَمَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَغْشَاهَا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً، فَإِنِ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عُرْوَةَ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ لَكِنْ قَالَ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً ثُمَّ يُمْسِكُ حَتَّى تَطْهُرَ وَذَكَرَ بَقِيَّتَهُ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ يَغْشَاهَا إِذَا طَهُرَتْ مِنَ الْحَيْضِ ثُمَّ يُمْسِكُ عَنْهَا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ يَغْشَاهَا حَتَّى تَحْمِلَ وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ: فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ إِنْ وَطِئَهَا مَرَّةً بَعْدَ التَّعْلِيقِ طَلُقَتْ سَوَاءٌ اسْتَبَانَ بِهَا حَمْلَهَا أَمْ لَا، وَإِنْ وَطِئَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي قَالَ لَهَا ذَلِكَ بَعْدَ الْوَطْءِ طَلُقَتْ مَكَانَهَا. وَتَعَقَّبَهُ الطَّحَاوِيُّ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ إِذَا وَقَعَ فِي تَعْلِيقِ الْعِتْقِ لَا يَقَعُ إِلَّا إِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ، قَالَ: فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ فَلْيَكُنْ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا قَالَ الْحَقِي بِأَهْلِكِ نِيَّتُهُ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِلَفْظِ هُوَ مَا نَوَى وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْحَسَنِ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ اخْرُجِي اسْتَبْرِئِي، اذْهَبِي، لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ: هِيَ تَطْلِيقَةٌ إِنْ نَوَى الطَّلَاقَ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الطَّلَاقُ عَنْ وَطَرٍ، وَالْعَتَاقُ مَا أُرِيدَ بِهِ
وَجْهُ اللَّهِ) أَيْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ كَالنُّشُوزِ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ مَطْلُوبٌ دَائِمًا، وَالْوَطَرُ بِفَتْحَتَيْنِ الْحَاجَةُ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: وَلَا يُبْنَى مِنْهَا فِعْلٌ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنْ قَالَ مَا أَنْتِ بِامْرَأَتِي نِيَّتَهُ، وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا فَهُوَ مَا نَوَى) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ لَسْتِ لِي بِامْرَأَةٍ قَالَ: هُوَ مَا نَوَى وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ إِذَا وَاجَهَهَا بِهِ وَأَرَادَ الطَّلَاقَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ إِنْ كَرَّرَ ذَلِكَ مِرَارًا مَا أَرَاهُ أَرَادَ إِلَّا الطَّلَاقَ وَعَنْ قَتَادَةَ إِنْ أَرَادَ طَلَاقًا طَلُقَتْ وَتَوَقَّفَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَقَالَ اللَّيْثُ هِيَ كِذْبَةٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ لَا يَقَعُ بِذَلِكَ طَلَاقٌ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ عَلِيٌّ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يُدْرِكَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ) وَصَلَهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْجَعْدِيَّاتِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ أُتِيَ بِمَجْنُونَةٍ قَدْ زَنَتْ وَهِيَ حُبْلَى، فَأَرَادَ أَنْ يَرْجُمَهَا فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَمَّا بَلَغَكَ أَنَّ الْقَلَمَ قَدْ وُضِعَ عَنْ ثَلَاثَةٍ فَذَكَرَهُ، وَتَابَعَهُ ابْنُ نُمَيْرٍ، وَوَكِيعٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَرَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَصَرَّحَ فِيهِ بِالرَّفْعِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِمَا ابْنَ عَبَّاسٍ، جَعَلَهُ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ عَلِيٍّ وَرُجِّحَ الْمَوْقُوفُ عَلَى الْمَرْفُوعِ، وَأَخَذَ بِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ الْجُمْهُورُ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي إِيقَاعِ طَلَاقِ الصَّبِيِّ، فَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ يَلْزَمُهُ إِذَا عَقَلَ وَمَيَّزَ، وَحَدُّهُ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنْ يُطِيقَ الصِّيَامَ وَيُحْصِيَ الصَّلَاةَ، وَعِنْدَ عَطَاءٍ إِذَا بَلَغَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةٍ، وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةُ إِذَا نَاهَزَ الِاحْتِلَامَ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ عَلِيٌّ: وَكُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ) وَصَلَهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْجَعْدِيَّاتِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْمَشِ عَنْهُ صَرَّحَ فِي بَعْضِهَا بِسَمَاعِ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ مِنْ عَلِيٍّ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَ قَوْلِ عَلِيٍّ وَزَادَ فِي آخِرِهِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ عَجْلَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَالْمُرَادُ بِالْمَعْتُوهِ - وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا هَاءٌ - النَّاقِصُ الْعَقْلِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الطِّفْلُ وَالْمَجْنُونُ وَالسَّكْرَانُ ; وَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ، وَفِيهِ خِلَافٌ قَدِيمٌ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ أَنَّ الْمُحَبِّرَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَكَانَ مَعْتُوهًا فَأَمَرَهَا ابْنُ عُمَرَ بِالْعِدَّةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ مَعْتُوهٌ، فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَسْمَعِ اللَّهَ اسْتَثْنَى لِلْمَعْتُوهِ طَلَاقًا وَلَا غَيْرَهُ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِثْلَ قَوْلِ عَلِيٍّ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَهِشَامُ هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ.
قَوْلُهُ (عَنْ زُرَارَةَ) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي أَوَائِلِ الْعِتْقِ، وَذَكَرْتُ فِيهِ بَعْضَ فَوَائِدِهِ، وَيَأْتِي بَقِيَّتُهَا فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَقَوْلُهُ مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا بِالْفَتْحِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَذَكَرَ الْمُطَرِّزِيُّ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ بِالضَّمِّ يُرِيدُونَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا، وَقَدْ أَسْنَدَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ لَيْسَ عِنْدَ قَتَادَةَ حَدِيثٌ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ فِي أَنَّ الْمُوَسْوَسَ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَالْمَعْتُوهُ وَالْمَجْنُونُ أَوْلَى مِنْهُ بِذَلِكَ، وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِلْجُمْهُورِ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَلاقٌ وَنَوَى فِي نَفْسِهِ ثَلَاثًا أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةً - خِلَافًا لِلشَّافِعَيَّ وَمَنْ وَافَقَهُ - قَالَ: لِأَنَّ الْخَبَرَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِنِيَّةٍ لَا لَفْظَ مَعَهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَفَظَ بِالطَّلَاقِ وَنَوَى الْفُرْقَةَ التَّامَّةَ فَهِيَ نِيَّةٌ صَحِبَهَا لَفْظٌ ; وَاحْتُجَّ بِهِ أَيْضًا لِمَنْ قَالَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا فُلَانَةُ وَنَوَى بِذَلِكَ طَلَاقَهَا أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ، خِلَافًا لِمَالِكٍ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِالنِّيَّةِ دُونَ اللَّفْظِ وَلَمْ
يَأْتِ بِصِيغَةٍ لَا صَرِيحَةٍ وَلَا كِنَايَةٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَتَبَ الطَّلَاقَ طَلُقَتِ امْرَأَتُهُ لِأَنَّهُ عَزَمَ بِقَلْبِهِ وَعَمَلَ بِكِتَابَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَشَرْطُ مَالِكٍ فِيهِ الْإِشْهَادُ عَلَى ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِذَا طَلَّقَ في نَفْسه طَلُقَتْ - وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيِّ - وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ ذَكَرَهَا أَشْهَبُ عَنْهُ وَقَوَّاهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ، بِأَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ الْكُفْرَ بِقَلْبِهِ كَفَرَ وَمَنْ أَصَرَّ
عَلَى الْمَعْصِيَةِ أَثِمَ وَكَذَلِكَ مَنْ رَاءَى بِعَمَلِهِ وَأُعْجِبَ، وَكَذَا مَنْ قَذَفَ مُسْلِمًا بِقَلْبِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ دُونَ اللِّسَانِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ مِنْ فَضَائِلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالْمُصِرُّ عَلَى الْكُفْرِ لَيْسَ مِنْهُمْ، وَبِأَنَّ الْمُصِرَّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ الْآثِمَ مَنْ تَقَدَّمَ لَهُ عَمَلُ الْمَعْصِيَةِ لَا مَنْ لَمْ يَعْمَلْ مَعْصِيَةً قَطُّ، وَأَمَّا الرِّيَاءُ وَالْعُجْبُ وَغَيْرُ ذَلِكَ فَكُلُّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَعْمَالِ. وَاحْتَجَّ الْخَطَّابِيُّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى الظِّهَارِ لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا قَالَ: وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ، وَكَذَا لَوْ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالْقَذْفِ لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا، وَلَوْ كَانَ حَدِيثُ النَّفْسِ يُؤَثِّرُ لَأَبْطَلَ الصَّلَاةَ، وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْحَدِيثِ مَنْدُوبٌ فَلَوْ وَقَعَ لَمْ تَبْطُلْ، وَتَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِ عُمَرَ إِنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ الَّذِي أَقَرَّ بِالزِّنَا فَرُجِمَ، ذَكَرَهَا مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحُدُودِ.
وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي التَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ هَلْ بِكَ جُنُونٌ فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَجْنُونًا لَمْ يُعْمَلْ بِإِقْرَارِهِ، وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ هَلْ كَانَ بِكَ جُنُونٌ أَوْ هَلْ تُجَنُّ تَارَةً وَتُفِيقُ تَارَةً؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ حِينَ الْمُخَاطَبَةِ مُفِيقًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَجَّهَ لَهُ الْخِطَابَ وَالْمُرَادُ اسْتِفْهَامُ مَنْ حَضَرَ مِمَّنْ يَعْرِفُ حَالَهُ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، أَوْرَدَهَا مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ جَمِيعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهَا أَيْضًا فِي الْحُدُودِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْآخِرَ قَدْ زَنَى بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيِ الْمُتَأَخِّرَ عَنِ السَّعَادَةِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْأَرْذَلُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ قَتَادَةُ إِذَا طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ قَالَا: مَنْ طَلَّقَ سِرًّا فِي نَفْسِهِ فَلَيْسَ طَلَاقُهُ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَخَالَفَهُمُ ابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ شِهَابٍ فَقَالَا تَطْلُقُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ.
تَنْبِيهٌ:
وَقَعَ هَذَا الْأَثَرُ عَنْ قَتَادَةَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ عَقِبَ حَدِيثِ قَتَادَةَ الْمَرْفُوعِ الْمَذْكُورِ هُنَا بَعْدُ، فَلَمَّا سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ قَالَ بَعْدَهُ قَالَ قَتَادَةُ فَذَكَرَهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ. الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ (وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ إِلَخْ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبْهَمَهُ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ شُعَيْبًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَدْرُ عِنْدَهُ عَنْ غَيْرِ أَبِي سَلَمَةَ فَأُدْرِجَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَذْلَقَتْهُ بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَقَافٍ أَيْ أَصَابَتْهُ بِحَدِّهَا، وَقَوْلُهُ (جَمَزَ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمِيمِ وَبِزَايٍ أَيْ أَسْرَعَ هَارِبًا.
12 - بَاب الْخُلْعِ، وَكَيْفَ الطَّلَاقُ فِيهِ؟
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {الظَّالِمُونَ} وَأَجَازَ عُمَرُ الْخُلْعَ دُونَ السُّلْطَانِ. وَأَجَازَ عُثْمَانُ الْخُلْعَ دُونَ عِقَاصِ رَأْسِهَا. وَقَالَ طَاوُسٌ: {إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} فِيمَا افْتَرَضَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ، وَلَمْ يَقُلْ قَوْلَ السُّفَهَاءِ لَا يَحِلُّ حَتَّى تَقُولَ: لَا أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ
5273 -
حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ جَمِيلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: لَا يُتَابَعُ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
[الحديث 5273 - أطرافه في: 5274، 5275، 5276، 5277]
5274 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ أُخْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بِهَذَا وَقَالَ تَرُدِّينَ حَدِيقَتَهُ قَالَتْ نَعَمْ فَرَدَّتْهَا وَأَمَرَهُ يُطَلِّقْهَا وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَطَلِّقْهَا"
5275 -
وَعَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ جَاءَتْ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَا أَعْتِبُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ وَلَكِنِّي لَا أُطِيقُهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ قَالَتْ نَعَمْ"
5276 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمُخَرِّمِيُّ حَدَّثَنَا قُرَادٌ أَبُو نُوحٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ جَاءَتْ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنْقِمُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ إِلاَّ أَنِّي أَخَافُ الْكُفْرَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ فَقَالَتْ نَعَمْ فَرَدَّتْ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا"
5277 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ جَمِيلَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ"
قَوْلُهُ (بَابُ الْخُلْعِ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ فِرَاقُ الزَّوْجَةِ عَلَى مَالٍ، مَأْخُوذٌ مِنْ خَلَعَ الثَّوْبَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لِبَاسُ الرَّجُلِ مَعْنًى، وَضُمَّ مَصْدَرُهُ تَفْرِقَةً بَيْنَ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ فِي أَمَالِيهِ أَنَّ أَوَّلَ خُلْعٍ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَنَّ عَامِرَ بْنَ الظَّرِبِ - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٌ - زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنِ ابْنِ أَخِيهِ عَامِرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الظَّرِبِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ نَفَرَتْ مِنْهُ، فَشَكَا إِلى أَبِيهَا فَقَالَ: لَا أَجْمَعُ عَلَيْكَ فِرَاقَ أَهْلِكَ وَمَالِكَ، وَقَدْ خَلَعْتُهَا مِنْكَ بِمَا أَعْطَيْتَهَا، قَالَ: فَزَعَمَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ هَذَا كَانَ أَوَّلَ خُلْعٍ فِي الْعَرَبِ اهـ. وَأَمَّا أَوَّلُ خُلْعٍ فِي الْإِسْلَامِ فَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ بَعْدَ قَلِيلٍ. وَيُسَمَّى أَيْضًا فِدْيَةً وَافْتِدَاءً.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ إِلَّا بَكْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيَّ التَّابِعِيَّ الْمَشْهُورَ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنِ امْرَأَتِهِ فِي مُقَابِلِ فِرَاقِهَا شَيْئًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} فَأَوْرَدُوا عَلَيْهِ {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فَادَّعَى نَسْخَهَا بِآيَةِ النِّسَاءِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ عَنْهُ، وَتُعُقِّبَ مَعَ شُذُوذِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي النِّسَاءِ أَيْضًا {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ} وَبِقَوْلِهِ فِيهَا {فَلا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا} الْآيَةَ، وَبِالْحَدِيثِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَهُ عَلَى اعْتِبَارِهِ وَأَنَّ آيَةَ النِّسَاءِ مَخْصُوصَةٌ بِآيَةِ الْبَقَرَةِ وَبِآيَتَيِ النِّسَاءِ الْآخِرَتَيْنِ.
وَضَابِطُهُ شَرْعًا فِرَاقُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ بِبَذْلٍ قَابِلٍ لِلْعِوَضِ يَحْصُلُ لِجِهَةِ الزَّوْجِ. وَهُوَ مَكْرُوهٌ إِلَّا فِي حَالِ مَخَافَةِ أَنْ لَا يُقِيمَا - أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا - مَا أُمِرَ بِهِ، وَقَدْ يَنْشَأُ ذَلِكَ عَنْ كَرَاهَةِ الْعِشْرَةِ إِمَّا لِسُوءِ خُلُقٍ أَوْ خَلْقٍ، وَكَذَا تُرْفَعُ الْكَرَاهَةُ إِذَا احْتَاجَا إِلَيْهِ خَشْيَةَ حِنْثٍ يَئُولُ إِلَى الْبَيْنُونَةِ الْكُبْرَى.
قَوْلُهُ (وَكَيْفُ الطَّلَاقُ فِيهِ) أَيْ هَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُجَرَّدِهِ أَوْ لَا يَقَعُ حَتَّى يَذْكُرَ الطَّلَاقَ إِمَّا بِاللَّفْظِ وَإِمَّا بِالنِّيَّةِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيمَا إِذَا وَقَعَ الْخُلْعُ مُجَرَّدًا عَنِ الطَّلَاقِ لَفْظًا وَنِيَّةً ثَلَاثَةُ آرَاءٍ وَهِيَ أَقْوَالٌ لِلشَّافِعِيِّ:
أَحَدُهَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، فَإِذَا وَقَعَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ وَمَا تُصُرِّفَ مِنْهُ نَقَصَ الْعَدَدُ، وَكَذَا إِنْ وَقَعَ بِغَيْرِ لَفْظِهِ مَقْرُونًا بِنِيَّتِهِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ صَرَائِحِ الطَّلَاقِ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَفْظٌ لَا يَمْلِكُهُ إِلَّا الزَّوْجُ فَكَانَ طَلَاقًا، وَلَوْ كَانَ فَسْخًا لَمَا جَازَ عَلَى غَيْرِ الصَّدَاقِ كَالْإِقَالَةِ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى جَوَازِهِ بِمَا قَلَّ وَكَثُرَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ.
وَالثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ ذَكَرَهُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مِنَ الْجَدِيدِ أَنَّهُ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، مَا يُقَوِّيهِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ مَنْ جَعَلَ أَمْرَ الْمَرْأَةِ بِيَدِهَا وَنَوَى الطَّلَاقَ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا طَلُقَتْ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَقَعْ لَفْظُ طَلَاقٍ وَلَا نِيَّةٌ وَإِنَّمَا وَقَعَ لَفْظُ الْخُلْعِ صَر يحًا أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُ مِنَ الْأَلْفَاظِ مَعَ النِّيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فَسْخًا تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ، وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَا إِذَا نَوَى بِالْخُلْعِ الطَّلَاقَ وَفَرَّعْنَا عَلَى أَنَّهُ فَسْخٌ هَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ أَوْ لَا؟ وَرَجَّحَ الْإِمَامُ عَدَمَ الْوُقُوعِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي بَابِهِ وَجَدَ نَفَاذًا فِي مَحَلِّهِ فَلَا يَنْصَرِفُ بِالنِّيَّةِ إِلَى غَيْرِهِ، وَصَرَّحَ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَكْثَرُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَنَقَلَهُ الْخُوَارِزْمِيُّ عَنْ نَصِّ الْقَدِيمِ قَالَ: هُوَ فَسْخٌ لَا يُنْقِصُ عَدَدَ الطَّلَاقِ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَا بِهِ الطَّلَاقَ وَيَخْدِشُ فِيمَا اخْتَارَهُ الْإِمَامُ أَنَّ الطَّحَاوِيَّ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا نَوَى بِالْخُلْعِ الطَّلَاقَ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَأَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالطَّلَاقِ وَلَمْ يَنْوِهِ.
وَالثَّالِثُ إِذَا لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِهِ فُرْقَةٌ أَصْلًا وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَقَوَّاهُ السُّبْكِيُّ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ آخِرُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.
قَوْلُهُ (وَقَوْلُهُ عز وجل: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} زَادَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ إِلَى قَوْلِهِ الظَّالِمُونَ وَعِنْدَ النَّسَفِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ يَخَافَا الْآيَةَ وَبِذِكْرِ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ تَمَامُ الْمُرَادِ وَهُوَ بِقَوْلِهِ {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَتَمَسَّكَ بِالشَّرْطِ مِنْ قَوْلِهِ {فَإِنْ خِفْتُمْ} مَنْ مَنَعَ الْخُلْعَ إِلَّا إِذَا حَصَلَ الشِّقَاقُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَعًا، وَسَأَذْكُرُ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَثَرِ طَاوُسٍ بَيَانَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (وَأَجَازَ عُمَرُ الْخُلْعَ دُونَ السُّلْطَانِ) أَيْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ خَيْثَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ أَتَى بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ فِي خُلْعٍ كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ فَلَمْ يُجِزْهُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شِهَابِ الْخَوْلَانِيُّ: قَدْ أَتَى عُمَرُ فِي خُلْعٍ فَأَجَازَهُ وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنْبَأَنَا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: لَا يَجُوزُ الْخُلْعُ دُونَ السُّلْطَانِ وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: كَانُوا يَقُولُونَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} قَالَ: فَجَعَلَ الْخَوْفَ لِغَيْرِ الزَّوْجَيْنِ، وَلَمْ يَقُلْ فَإِنْ خَافَا، وَقَوَّى ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ حَمْزَةَ فِي
آيَةِ الْبَابِ إِلَّا أَنْ يُخَافَا بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ قَالَ: وَالْمُرَادُ الْوُلَاةُ، وَرَدَّهُ النَّحَّاسُ بِأَنَّهُ قَوْلٌ لَا يُسَاعِدُهُ الْإِعْرَابُ وَلَا اللَّفْظُ وَلَا الْمَعْنَى، وَالطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْجَمُّ الْغَفِيرُ، وَمِنْ حَيْثُ النَّظَرُ أَنَّ الطَّلَاقَ جَائِزٌ دُونَ الْحَاكِمِ فَكَذَلِكَ الْخُلْعُ.
ثُمَّ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ وُجُودَ الشِّقَاقِ شَرْطٌ فِي الْخُلْعِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ وَأَجَابُوا عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّهَا جَرَتْ عَلَى حُكْمِ الْغَالِبِ، وَقَدْ أَنْكَرَ قَتَادَةُ هَذَا عَلَى الْحَسَنِ فَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ عَنْ قَتَادَةَ عنِ الْحَسَنِ فَذَكَرَهُ، قَالَ قَتَادَةُ: مَا أَخَذَ الْحَسَنُ هَذَا إِلَّا عَنْ زِيَادٍ، يَعْنِي حَيْثُ كَانَ أَمِيرَ الْعِرَاقِ لِمُعَاوِيَةَ: قُلْتُ: وَزِيَادٌ لَيْسَ أَهْلًا أَنْ يُقْتَدَى بِهِ.
قَوْلُهُ (وَأَجَازَ عُثْمَانُ الْخُلْعَ دُونَ عِقَاصِ رَأْسِهَا) الْعِقَاصُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ وَآخِرُهُ صَادٌ مُهْمَلَةٌ جَمْعُ عِقْصَةٍ وَهُوَ مَا يُرْبَطُ بِهِ شَعْرُ الرَّأْسِ بَعْدَ جَمْعِهِ، وَأَثَرُ عُثْمَانَ هَذَا رَوَيْنَاهُ مَوْصُولًا فِي أَمَالِي أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ بَشْرَانِ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتِ: اخْتَلَعْتُ مِنْ زَوْجِي بِمَا دُونَ عِقَاصِ رَأْسِي فَأَجَازَ ذَلِكَ عُثْمَانُ وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ مُطَوَّلًا وَقَالَ فِي آخِرِهِ فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَجَفْتُ الْبَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى دُونَ سِوَى، أَيْ أَجَازَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمَرْأَةِ فِي الْخُلْعِ مَا سِوَى عِقَاصِ رَأْسِهَا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: كَانَ يُقَالُ الْخُلْعُ مَا دُونَ عِقَاصِ رَأْسِهَا وَعَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ يَأْخُذُ مِنَ الْمُخْتَلِعَةِ حَتَّى عِقَاصَهَا وَمِنْ طَرِيقِ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ إِذَا خَلَعَهَا جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا. ثُمَّ تَلَا:{فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ. وَوَجَدْتُ أَثَرَ عُثْمَانَ بِلَفْظٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي تَرْجَمَةِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ مِنْ طَبَقَاتِ النِّسَاءِ قَالَ أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ عَمِّي كَلَامٌ، وَكَانَ زَوْجَهَا، قَالَتْ فَقُلْتُ لَهُ: لَكَ كُلُّ شَيْءٍ وَفَارِقْنِي. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ.
فَأَخَذَ وَاللَّهِ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى فِرَاشِي، فَجِئْتُ عُثْمَانَ وَهُوَ مَحْصُورٌ فَقَالَ: الشَّرْطُ أَمْلَكُ، خُذْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى عِقَاصَ رَأْسِهَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْخُلْعِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَمْ أَرَ أَحَدًا مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ يَمْنَعُ ذَلِكَ. لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ حُجَّةِ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الزِّيَادَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ طَاوُسٌ: {إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} فِيمَا افْتَرَضَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ، وَلَمْ يَقُلْ قَوْلَ السُّفَهَاءِ لَا يَحِلُّ حَتَّى تَقُولَ لَا أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ) هَذَا التَّعْلِيقُ اخْتَصَرَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ أَثَرٍ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ وَقُلْتُ لَهُ: مَا كَانَ أَبُوكَ يَقُولُ فِي الْفِدَاءِ؟ قَالَ: كَانَ يَقُولُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وَلَمْ يَكُنْ يَقُولُ قَوْلَ السُّفَهَاءِ: لَا يَحِلُّ حَتَّى تَقُولَ لَا أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فِيمَا افْتَرَضَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ.
قَالَ ابْنُ التِّينِ: ظَاهِرُ سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَمْ يَقُلْ إِلَخْ مِنْ كَلَامِهِ، وَلَكِنْ قَدْ نُقِلَ الْكَلَامُ الْمَذْكُورُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ظَهَرَ لَهُ مَا ظَهَرَ لِابْنِ جُرَيْجٍ. قُلْتُ: وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى الْأَثَرِ مَوْصُولًا فَتَكَلَّفَ مَا قَالَ، وَالَّذِي قَالَ وَلَمْ يَقُلْ هُوَ ابْنُ طَاوُسٍ، وَالْمَحْكِيُّ عَنْهُ النَّفْيُ هُوَ أَبُوهُ طَاوُسٌ، وَأَشَارَ ابْنُ طَاوُسٍ بِذَلِكَ إِلَى مَا جَاءَ عَنْ غَيْرِ طَاوُسٍ وَأَنَّ الْفِدَاءَ لَا يَجُوزُ حَتَّى تَعْصِيَ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ فِيمَا يَرُومُهُ مِنْهَا حَتَّى تَقُولَ لَا أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِ، أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِزَوْجِهَا: لَا أُطِيعُ لَكَ أَمْرًا وَلَا أَبَرُّ لَكَ قَسَمًا وَلَا
أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ، قَالَ: إِذَا كَرِهَتْهُ فَلْيَأْخُذْ مِنْهَا وَلْيُخَلِّ عَنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ {إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} قَالَ: ذَلِكَ فِي الْخُلْعِ إِذَا قَالَتْ لَا أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ يَطِيبُ الْخُلْعُ إِذَا قَالَتْ لَا أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ. نَحْوُهُ وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ نَحْوُهُ وَلَكِنْ بِسَنَدٍ وَاهٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَنْقُولَ فِي ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ مَا هُوَ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ وَلَا يَتَعَيَّنُ شَرْطًا فِي جَوَازِ الْخُلْعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ جَاءَ عَنْ غَيْرِ طَاوُسٍ نَحْوُ قَوْلِهِ، فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} قَالَ: فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمَا فِي الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لَهُ الْفِدَاءُ حَتَّى يَكُونَ الْفَسَادُ مِنْ قِبَلِهَا، وَلَمْ يَكُنْ يَقُولُ لَا يَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَقُولَ لَا أَبَرُّ لَكَ قَسَمًا وَلَا أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي أَزْهَرُ بْنُ جَمِيلٍ) هُوَ بَصْرِيٌّ يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ، مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجْ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْجَامِعِ غَيْرَ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْهُ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ لَمْ يُتَابَعْ عَلَى ذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي، لَكِنْ جَاءَ الْحَدِيثُ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا خَالِدُ) هُوَ ابْنُ مِهْرَانَ الْحَذَّاءُ.
قَوْلُهُ (إنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ) أَيِ ابْنِ شَمَّاسٍ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ خَطِيبُ الْأَنْصَارُ، تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْمَنَاقِبِ، وَأَبْهَمَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ اسْمَ الْمَرْأَةِ وَفِي الطُّرُقِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَسُمِّيَتْ فِي آخِرِ الْبَابِ فِي طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا جَمِيلَةَ، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ أُخْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَعْنِي كَبِيرَ الْخَزْرَجِ وَرَأْسَ النِّفَاقِ الَّذِي تَقَدَّمَ خَبَرُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ بَرَاءَةٍ وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهَا جَمِيلَةُ بِنْتُ أُبَيٍّ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَمِيلَةَ بِنْتَ سَلُولَ جَاءَتْ الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَسَلُولُ امْرَأَةٌ اخْتُلِفَ فِيهَا هَلْ هِيَ أُمُّ أُبَيٍّ أَوِ امْرَأَتُهُ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ فَكَسَرَ يَدَهَا، وَهِيَ جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَأَتَى أَخُوهَا يَشْتَكِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فَقَالَ: جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، أَسْلَمَتْ وَبَايَعَتْ وَكَانَتْ تَحْتَ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ غَسِيلِ الْمَلَائِكَةِ، فَقُتِلَ عَنْهَا بِأُحُدٍ وَهِيَ حَامِلٌ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ، فَخَلَفَ عَلَيْهَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنَهُ مُحَمَّدًا، ثُمَّ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَتَزَوَّجَهَا مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُمِ، ثُمَّ خُبَيْبُ بْنُ أَسَافٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ كَانَتْ عِنْدَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ وَكَانَ أَصْدَقَهَا حَدِيقَةً فَكَرِهَتْهُ، الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ مَعَ إِرْسَالِهِ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لَهَا اسْمَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا لَقَبٌ، وَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ بِهَذَا الْجَمْعِ فَالْمَوْصُولُ أَصَحُّ، وَقَدِ اعْتُضِدَ بِقَوْلِ أَهْلِ النَّسَبِ أَنَّ اسْمَهَا جَمِيلَةُ، وَبِهِ جَزَمَ الدِّمْيَاطِيُّ وَذَكَرَ أَنَّهَا كَانَتْ أُخْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ شَقِيقَةَ أُمِّهِمَا خَوْلَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ.
قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ وَالَّذِي وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ أَنَّهَا بِنْتُ أُبَيٍّ وَهْمٌ. قُلْتُ: وَلَا يَلِيقُ إِطْلَاقُ كَوْنِهِ وَهْمًا فَإِنَّ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ أُخْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَهِيَ أُخْتُ عَبْدِ اللَّهِ بِلَا شَكٍّ، لَكِنْ نُسِبَ أَخُوهَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِلَى جَدِّهِ أُبَيٍّ كَمَا نُسِبَتْ هِيَ فِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ إِلَى جَدَّتِهَا سَلُولَ، فَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمُخْتَلَفِ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا ابْنُ الْأَثِيرِ وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ فَجَزَمَا بِأَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَهْمٌ وَأَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهَا أُخْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَا بَلِ الْجَمْعُ أَوْلَى، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِاتِّحَادِ اسْمِ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَأَنَّ ثَابِتًا خَالَعُ الثِّنْتَيْنِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ اتِّحَادِ
الْمَخْرَجِ. وَقَدْ كَثُرَتْ نِسْبَةُ الشَّخْصِ إِلَى جَدِّهِ إِذَا كَانَ مَشْهُورًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّعَدُّدِ حَتَّى يَثْبُتَ صَرِيحًا.
وَجَاءَ فِي اسْمِ امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ قَوْلَانِ آخَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَرْيَمُ الْمَغَالِيَّةُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتِ: اخْتَلَعْتُ مِنْ زَوْجِي فَذَكَرَتْ قِصَّةً فِيهَا وَإِنَّمَا تَبِعَ عُثْمَانُ فِي ذَلِكَ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرْيَمَ الْمَغَالِيَّةِ، وَكَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: اضْطَرَبَ الْحَدِيثُ فِي تَسْمِيَةِ امْرَأَةِ ثَابِتٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْخُلْعُ تَعَدَّدَ مِنْ ثَابِتٍ انْتَهَى. وَتَسْمِيَتُهَا مَرْيَمَ يُمْكِنُ رَدُّهُ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَغَالِيَّةَ - وَهِيَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ - نِسْبَةٌ إِلَى مَغَالَةَ وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ وَلَدَتْ لِعَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ وَلَدُهَ عَدِيًّا، فَبَنُو عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ يُعْرَفُونَ كُلُّهُمْ بِبَنِي مَغَالَةَ، وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، فَإِذَا كَانَ آلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ مِنْ بَنِي مَغَالَةَ فَيَكُونُ الْوَهْمُ وَقَعَ فِي اسْمِهَا، أَوْ يَكُونُ مَرْيَمُ اسْمًا ثَالِثًا، أَوْ بَعْضُهَا لَقَبٌ لَهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي اسْمِهَا أَنَّهَا حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ سَهْلٍ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى الصُّبْحِ فَوَجَدَ حَبِيبَةَ عِنْدَ بَابِهِ فِي الْغَلَسِ [قَالَ]: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: أَنَا حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ. قَالَ: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: لَا أَنَا وَلَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ لِزَوْجِهَا الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ كَانَتْ عِنْدَ ثَابِتٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ اخْتُلِفَ فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، فَذَكَرَ الْبَصْرِيُّونَ أَنَّهَا جَمِيلَةُ بِنْتُ أُبَيٍّ وَذَكَرَ الْمَدَنِيُّونَ أَنَّهَا حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمَا قِصَّتَانِ وَقَعَتَا لِامْرَأَتَيْنِ لِشُهْرَةِ الْخَبَرَيْنِ وَصِحَّةِ الطَّرِيقِينَ وَاخْتِلَافُ السِّيَاقَيْنِ، بِخِلَافِ مَا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي تَسْمِيَةِ جَمِيلَةَ وَنَسَبِهَا فَإِنَّ سِيَاقَ قِصَّتِهَا مُتَقَارِبٌ فَأَمْكَنَ رَدُّ الِاخْتِلَافِ فِيهِ إِلَى الْوِفَاقِ، وَسَأُبَيِّنُ اخْتِلَافَ الْقِصَّتَيْنِ عِنْدَ سِيَاقِ أَلْفَاظِ قِصَّةِ جَمِيلَةَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ قَالَ أَوَّلُ مُخْتَلِعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ، كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ الْحَدِيثَ، وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ التَّعَدُّدِ يَقْتَضِي أَنَّ ثَابِتًا تَزَوَّجَ حَبِيبَةَ قَبْلَ جَمِيلَةَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ثُبُوتِ مَا ذَكَرَهُ الْبَصْرِيُّونَ إِلَّا كَوْنَ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ مِنْ جَمِيلَةَ لَكَانَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ تَزَوُّجِ ثَابِتٍ بِجَمِيلَةَ.
تَنْبِيهٌ:
وَقَعَ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي تَنْقِيحِهِ أَنَّهَا سَهْلَةُ بِنْتُ حَبِيبٍ، فَمَا أَظُنُّهُ إِلَّا مَقْلُوبًا، وَالصَّوَابُ حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهَا ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فَقَالَ: بِنْتُ سَهْلِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَسَاقَ نَسَبَهَا إ لَى مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ وَأَخْرَجَ حَدِيثَهَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ كَانَتْ حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ فِي خُلُقِهِ شِدَّةٌ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ وَزَادَ فِي آخِرِهِ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَمَّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ كَرِهَ ذَلِكَ لِغَيْرَةِ الْأَنْصَارِ وَكَرِهَ أَنْ يَسُوءَهُمْ فِي نِسَائِهِمْ.
قَوْلُهُ (أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ) فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ أَيُّوبَ وَهِيَ الَّتِي عُلِّقَتْ هُنَا وَوَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ جَاءَتِ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَالَتْ بِأَبِي وَأُمِّي أَخْرَجَهَا الْبَيْهَقِيُّ.
قَوْلُهُ (مَا أَعْتُبُ عَلَيْهِ) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا مِنَ الْعِتَابِ يُقَالُ عَتَبْتُ عَلَى فُلَانٍ أَعْتُبُ عَتْبًا وَالِاسْمُ الْمَعْتَبَةُ، وَالْعِتَابُ هُوَ الْخِطَابُ بِالْإِدْلَالِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ مِنَ الْعَيْبِ وَهِيَ أَلْيَقُ بِالْمُرَادِ.
قَوْلُهُ (فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ) بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا، أَيْ لَا أُرِيدُ مُفَارَقَتَهُ لِسُوءِ خُلُقِهِ وَلَا لِنُقْصَانِ دِينِهِ، زَادَ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ
الْمَذْكُورَةِ وَلَكِنِّي لَا أُطِيقُهُ كَذَا فِيهِ لَمْ يَذْكُرْ مُمَيِّزَ عَدَمِ الطَّاقَةِ، وَبَيَّنَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ لَا أُطِيقُهُ بُغْضًا وَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْ بِهَا شَيْئًا يَقْتَضِي الشَّكْوَى مِنْهُ بِسَبَبِهِ، لَكِنْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ أَنَّهُ كَسَرَ يَدَهَا، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنَّهُ سَيِّئُ الْخُلُقِ، لَكِنَّهَا مَا تَعِيبُهُ بِذَلِكَ بَلْ بِشَيْءٍ آخَرَ.
وَكَذَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ حَبِيبَةَ بِنْتِ سَهْلٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ ضَرَبَهَا فَكَسَرَ بَعْضَهَا لَكِنْ لَمْ تَشْكُهُ وَاحِدَةً مِنْهُمَا بِسَبَبِ ذَلِكَ، بَلْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِسَبَبٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ دَمِيمَ الْخِلْقَةِ، فَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ كَانَتْ حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ عِنْدَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَوْلَا مَخَافَةُ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ عَلَيَّ لَبَصَقْتُ فِي وَجْهِهِ وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِي مِنَ الْجَمَالِ مَا تَرَى، وَثَابِتٌ رَجُلٌ دَمِيمٌ وَفِي رِوَايَةِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِي جَرِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوَّلُ خُلْعٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا يَجْتَمِعُ رَأْسِي وَرَأْسُ ثَابِتٍ أَبَدًا، إِنِّي رَفَعْتُ جَانِبَ الْخِبَاءِ فَرَأَيْتُهُ أَقْبَلَ فِي عِدَّةٍ، فَإِذَا هُوَ أَشَدُّهُمْ سَوَادًا وَأَقْصَرُهُمْ قَامَةً وَأَقْبَحُهُمْ وَجْهًا. فَقَالَ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَإِنْ شَاءَ زِدْتُهُ. فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا.
قَوْلُهُ (وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ) أَيْ أَكْرَهُ إِنْ أَقَمْتُ عِنْدَهُ أَنْ أَقَعَ فِيمَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ، وَانْتَفَى أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ يَحْمِلَهَا عَلَى الْكُفْرِ وَيَأْمُرَهَا بِهِ نِفَاقًا بِقَوْلِهَا لَا أَعْتُبُ عَلَيْهِ فِي دَيْنٍ فَتَعَيَّنَ الْحَمْلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ. وَرِوَايَةُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ فِي أَوَاخِرِ الْبَابِ تُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَيْثُ جَاءَ فِيهَا إِلَّا أَنِّي أَخَافُ الْكُفْرَ وَكَأَنَّهَا أَشَارَتْ إِلَى أَنَّهَا قَدْ تَحْمِلُهَا شِدَّةُ كَرَاهَتِهَا لَهُ عَلَى إِظْهَارِ الْكُفْرِ لِيَنْفَسِخَ نِكَاحُهَا مِنْهُ، وَهِيَ كَانَتْ تَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لَكِنْ خَشِيَتْ أَنْ تَحْمِلَهَا شِدَّةُ الْبُغْضِ عَلَى الْوُقُوعِ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُرِيدَ بِالْكُفْرِ كُفْرَانُ الْعَشِيرِ إِذْ هُوَ تَقْصِيرُ الْمَرْأَةِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَعْنَى أَخَافُ عَلَى نَفْسِي فِي الْإِسْلَامِ مَا يُنَافِي حُكْمَهُ مِنْ نُشُوزٍ وَفَرْكٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُتَوَقَّعُ مِنَ الشَّابَّةِ الْجَمِيلَةِ الْمُبْغِضَةِ لِزَوْجِهَا إِذَا كَانَ بِالضِّدِّ مِنْهَا، فَأَطْلَقَتْ عَلَى مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْإِسْلَامِ الْكُفْرَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِهَا إِضْمَارٌ، أَيْ أكرَهُ لَوَازِم الْكُفْرِ مِنَ الْمُعَادَاةِ وَالشِّقَاقِ وَالْخُصُومَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ وَلَكِنِّي لَا أُطِيقُهُ وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَلَكِنْ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ. قَوْلُهُ (أَتَرُدِّينَ) فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ فَتَرُدِّينَ وَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ مَحْذُوفٍ، وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ تَرُدِّينَ وَهِيَ اسْتِفْهَامٌ مَحْذُوفُ الْأَدَاةِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى.
قَوْلُهُ (حَدِيقَتَهُ) أَيْ بُسْتَانَهُ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ أَصْدَقَهَا الْحَدِيقَةَ الْمَذْكُورَةَ وَلَفْظُهُ وَكَانَ تَزَوَّجَهَا عَلَى حَدِيقَةِ نَخْلٍ.
قَوْلُهُ (قَالَتْ نَعَمْ) زَادَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ فَقَالَ ثَابِتٌ: أَيَطِيبُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَوْلُهُ (اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً) هُوَ أَمْرُ إِرْشَادٍ وَإِصْلَاحٍ لَا إِيجَابٍ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ فَرُدَّتْ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِفِرَاقِهَا وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا السِّيَاقِ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يُثْبِتُ ذَلِكَ وَلَا مَا يَنْفِيهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ طَلِّقْهَا إِلَخْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ طَلِّقْهَا عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ طَلَاقًا صَرِيحًا عَلَى عِوَضٍ، وَلَيْسَ الْبَحْثُ فِيهِ، إِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إِذَا وَقَعَ لَفْظُ الْخُلْعِ أَوْ مَا كَانَ فِي حُكْمِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِطَلَاقٍ بِصَرَاحَةٍ وَلَا كِنَايَةٍ، هَلْ يَكُونُ الْخُلْعُ طَلَاقًا وَفَسْخًا؟ وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الْخُلْعَ وَقَعَ قَبْلَ الطَّلَاقِ أَوْ بِالْعَكْسِ، نَعَمْ فِي رِوَايَةِ خَالِدٍ الْمُرْسَلَةِ ثَانِيَةَ أَحَادِيثِ الْبَابِ فَرَدَّتْهَا وَأَمَرَهُ فَطَلَّقَهَا وَلَيْسَ صَرِيحًا فِي تَقْدِيمِ الْعَطِيَّةِ عَلَى الْأَمْرِ بِالطَّلَاقِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنْ أَعْطَتْكَ طَلِّقْهَا، وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا التَّصْرِيحُ بِوُقُوعِ صِيغَةِ الْخُلْعِ، وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ أَبِي الزُّبَيْرِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فَأَخَذَهَا لَهُ وَخَلَّى سَبِيلَهَا وَفِي حَدِيثِ حَبِيبَةَ بِنْتِ سَهْلٍ
فَأَخَذَهَا مِنْهَا وَجَلَسَتْ فِي أَهْلِهَا لَكِنْ مُعْظَمُ الرِّوَايَاتِ فِي الْبَابِ تُسَمِّيهِ خُلْعًا، فَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
قَوْلُهُ (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْبُخَارِيُّ.
قَوْلُهُ (لَا يُتَابَعُ فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) أَيْ لَا يُتَابَعُ أَزْهَرُ بْنُ جَمِيلٍ عَنْ ذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَلْ أَرْسَلَهُ غَيْرُهُ، وَمُرَادُهُ بِذَلِكَ خُصُوصُ طَرِيقِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَلِهَذَا عَقَّبَهُ بِرِوَايَةِ خَالِدٍ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ، عَنْ خَالِدٍ وَهُوَ الْحَذَّاءُ، عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا ثُمَّ بِرِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ مُرْسَلًا وَعَنْ أَيُّوبَ مَوْصُولًا، وَرِوَايَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ أَيُّوبَ الْمَوْصُولَةُ وَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ.
قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ (لَا أُطِيقُهُ) تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَهُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِالْقَافِ، وَذَكَرَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ فِي بَعْضِهَا أُطِيعُهُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ.
ثُمَّ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى أَنَّهُ اخْتُلِفَ عَلَى أَيُّوبَ أَيْضًا فِي وَصْلِ الْخَبَرِ وَإِرْسَالِهِ، فَاتَّفَقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَلَى وَصْلِهِ، وَخَالَفَهُمَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ فَقَالَ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا.
وَيُؤْخَذُ مِنْ إِخْرَاجِ الْبُخَارِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الصَّحِيحِ فَوَائِدُ:
مِنْهَا أَنَّ الْأَكْثَرَ إِذَا وَصَلُوا وَأَرْسَلَ الْأَقَلُّ قُدِّمَ الْوَاصِلُ وَلَوْ كَانَ الَّذِي أَرْسَلَ أَحْفَظَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ تُقَدَّمُ رِوَايَةُ الْوَاصِلِ عَلَى الْمُرْسِلِ دَائِمًا. وَمِنْهَا أَنَّ الرَّاوِيَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا مِنَ الضَّبْطِ وَوَافَقَهُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ اعْتَضَدَ وَقَاوَمَتِ الرِّوَايَتَانِ رِوَايَةَ الضَّابِطِ الْمُتْقِنِ. وَمِنْهَا أَنَّ أَحَادِيثَ الصَّحِيحِ مُتَفَاوِتَةُ الْمَرْتَبَةِ إِلَى صَحِيحٍ وَأَصَحَّ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ - غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ - أَنَّ الشِّقَاقَ إِذَا حَصَلَ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ فَقَطْ جَازَ الْخُلْعُ وَالْفِدْيَةُ، وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِوُجُودِهِ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَأَنَّ ذَلِكَ يُشْرَعُ إِذَا كَرِهَتِ الْمَرْأَةُ عِشْرَةَ الرَّجُلِ وَلَوْ لَمْ يَكْرَهْهَا وَلَمْ يَرَ مِنْهَا مَا يَقْتَضِي فِرَاقَهَا.
وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذَ الْفِدْيَةِ مِنْهَا إِلَّا أَنْ يَرَى عَلَى بَطْنِهَا رَجُلًا، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَكَأَنَّهُمَا لَمْ يَبْلُغْهُمَا الْحَدِيثُ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ سِيرِينَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ فَسَّرَتِ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَعَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ. ثُمَّ ظَهَرَ لِي قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ تَوْجِيهٌ، وَهُوَ تَخْصِيصُهُ بِمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الرَّجُلِ بِأَنْ يَكْرَهَهَا وَهِيَ لَا تَكْرَهُهُ فَيُضَاجِرُهَا لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ. فَوَقَعَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَرَاهَا عَلَى فَاحِشَةٍ وَلَا يَجِدُ بَيِّنَةً وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَفْضَحَهَا فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ أَنْ يَفْتَدِيَ مِنْهَا وَيَأْخُذَ مِنْهَا مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ وَيُطَلِّقَهَا، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِلْحَدِيثِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْكَرَاهَةُ مِنْ قِبَلِهَا، وَاخْتَارَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَقَعَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا جَمِيعًا، وَإِنْ وَقَعَ مِنْ أَحَدِهِمَا لَا يَنْدَفِعُ الْإِثْمُ، وَهُوَ قَوِيٌّ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَتَيْنِ وَلَا يُخَالِفُ مَا وَرَدَ فِيهِ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ، وَالشَّعْبِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَأَجَابَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا لَمْ تَقُمْ بِحُقُوقِ الزَّوْجِ الَّتِي أُمِرَتْ بِهَا كَانَ ذَلِكَ مُنَفِّرًا لِلزَّوْجِ عَنْهَا غَالِبًا وَمُقْتَضِيًا لِبُغْضِهِ لَهَا فَنَسَبَتِ الْمَخَافَةَ إِلَيْهِمَا لِذَلِكَ، وَعَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَفْسِرْ ثَابِتًا: هَلْ أَنْتَ كَارِهُهَا كَمَا كَرِهَتْكَ أَمْ لَا؟ وَفِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ فَطَلَّقَهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ.
فَإِنْ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ صَرِيحًا وَلَا
نَوَيَاهُ فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ قَبْلُ. وَاسْتُدِلَّ لِمَنْ قَالَ بِأَنَّهُ فَسْخٌ بِمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الزِّيَادَةِ، فَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ فِي قِصَّةِ امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ أَنَّ عُثْمَانَ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ قَالَ وَتَبِعَ عُثْمَانُ فِي ذَلِكَ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ، وَالطَّبَرِيِّ مِنْ حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ - فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ - خُذِ الَّذِي لَهَا وَخَلِّ سَبِيلَهَا، قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَرَبَّصَ حَيْضَةً وَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي هَذَا أَقْوَى دَلِيلٍ لِمَنْ قَالَ إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ، إِذْ لَوْ طَلَاقًا لَمْ تَكْتَفِ بِحَيْضَةٍ لِلْعِدَّةِ اهـ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِغَيْرِ زَوْجِهَا حَتَّى يَمْضِيَ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ. فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بَيْنَ كَوْنِهِ فَسْخًا وَبَيْنَ النَّقْصِ مِنَ الْعِدَّةِ تَلَازُمٌ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْفِدْيَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِمَا أَعْطَى الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ عَيْنًا أَوْ قَدْرَهَا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْبَابِ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا وَلَا يَزْدَادُ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ قَالَ أَيُّوبُ لَا أَحْفَظُ وَلَا تَزْدَدْ وَرَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلًا فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَعَبْدِ الْوَهَّابِ عَنْهُ أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا، زَادَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَالِكٍ وَفِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ وَكَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْبَيْهَقِيُّ، قَالَ: وَوَصَلَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ، أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخُ قَالَ: وَهُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، يَعْنِي الصَّوَابُ إِرْسَالُهُ. وَفِي مُرْسَلِ أَبِي الزُّبَيْرِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الَّتِي أَعْطَاكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَزِيَادَةً، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا، وَلَكِنْ حَدِيقَتَهُ، قَالَتْ: نَعَمْ. فَأَخَذَ مَالَهُ وَخَلَّى سَبِيلَهَا. وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ سَمِعَهُ أَبُو الزُّبَيْرُ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَحَابِيٌّ فَهُوَ صَحِيحٌ وَإِلَّا فَيُعْتَضَدُ بِمَا سَبَقَ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الشَّرْطِ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ وَقَعَ عَلَى سَبِيلِ الْإِشَارَةِ رِفْقًا بِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ عَلِيٍّ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا فَوْقَ مَا أَعْطَاهَا وَعَنْ طَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، وَالزُّهْرِيِّ مِثْلُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَخْرَجَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ مَنْ أَخَذَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى لَمْ يُسَرِّحْ بِإِحْسَانٍ وَمُقَابِلُ هَذَا مَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ مَا أُحِبُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا مَا أَعْطَاهَا، لِيَدَعْ لَهَا شَيْئًا وَقَالَ مَالِكٌ لَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ أَنَّ الْفِدْيَةَ تَجُوزُ بِالصَّدَاقِ وَبِأَكْثَرَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَلِحَدِيثِ حَبِيبَةَ بِنْتِ سَهْلٍ، فَإِذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهَا حَلَّ لِلزَّوْجِ مَا أَخَذَ مِنْهَا بِرِضَاهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهَا إِنْ أَخَذَ وَتَمْضِي الْفُرْقَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُؤَدِّيَةٍ لِحَقِّهِ كَارِهَةً لَهُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسًا بِغَيْرِ سَبَبٍ فَبِالسَّبَبِ أَوْلَى.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أَيْ بِالصَّدَاقِ وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَيَّدْ فِي الْآيَةِ بِذَلِكَ.
وَفِيهِ أَنَّ الْخُلْعَ جَائِزٌ فِي الْحَيْضِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَفْصِلْهَا أَحَائِضٌ هِيَ أَمْ لَا؟ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَرَكَ ذَلِكَ لِسَبْقِ الْعِلْمِ بِهِ أَوْ كَانَ قَبْلَ تَقْرِيرِهِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِمَنْ يَخُصُّهُ مِنْ مَنْعِ طَلَاقِ الْحَائِضِ، وَهَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ. وَفِيهِ أَنَّ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي تَرْهِيبِ الْمَرْأَةِ مِنْ طَلَبِ طَلَاقِ زَوْجِهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بِسَبَبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ لِحَدِيثِ ثَوْبَانَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ رَوَاهُ
أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ ; وَيَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهِ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُنْتَزِعَاتُ وَالْمُخْتَلِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْحَسَنَ عِنْدَ الْأَكْثَرِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ أَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ، وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ هَذَا مِنْهُ فَقَطْ وَصَارَ يُرْسِلُ عَنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ فَتَكُونُ قِصَّتُهُ فِي ذَلِكَ كَقِصَّتِهِ مَعَ سَمُرَةَ فِي حَدِيثِ الْعَقِيقَةِ كَمَا يَأْتِي فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَبَا هُرَيْرَةَ.
وَفِيهِ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا أَفْتَى بِخِلَافِ مَا رَوَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا رَوَاهُ لَا مَا رَآهُ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَى قِصَّةَ امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ وَكَانَ يُفْتِي بِأَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، لَكِنِ ادَّعَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ شُذُوذَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ لَا يُعْرَفُ لَهُ أَحَدٌ نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ إِلَّا طَاوُسٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ طَاوُسًا ثِقَةٌ حَافِظٌ فَقِيهٌ فَلَا يَضُرُّهُ تَفَرُّدُهُ، وَقَدْ تَلَقَّى الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ بِالْقَبُولِ. وَلَا أَعْلَمُ مَنْ ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ إِلَّا وَجَزَمَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَرَاهُ فَسْخًا. نَعَمْ أَخْرَجَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ أَنَّ طَاوُسًا لَمَّا قَالَ إِنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ أَهْلُ مَكَّةَ، فَاعْتَذَرَ وَقَالَ: إِنَّمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ إِسْمَاعِيلُ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ غَيْرَهُ اهـ. وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِي كَوْنِ قِصَّةِ ثَابِتٍ صَرِيحَةً فِي كَوْنِ الْخُلْعِ طَلَاقًا.
تَكْمِيلٌ:
نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ هِيَ الَّتِي اخْتَلَعَتْ مِنْ جَمِيعِ مَالِهَا، وَأَنَّ الْمُفْتَدِيَةَ الَّتِي افْتَدَتْ بِبَعْضِ مَالِهَا، وَأَنَّ الْمُبَارِئَةَ الَّتِي بَارَأَتْ زَوْجَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بَعْضُ ذَلِكَ مَوْضِعَ بَعْضٍ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا قُرَادٌ) بِضَمِّ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَآخِرُهُ دَالٌ مُهْمَلَةٌ وَهُوَ لَقَبٌ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَزْوَانَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَأَبُو نُوحٍ كُنْيَتُهُ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الْحُفَّاظِ وَثَّقُوهُ، وَلَكِنْ خَطَّئُوهُ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ حَدَّثَ بِهِ عَنِ اللَّيْثِ خُولِفَ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَوَقَعَ عِنْدَهُ فِي آخِرِهِ فَرُدَّتْ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا كَذَا فِيهِ فَرَدَّتْ عَلَيْهِ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ وَالْمُرَادُ الْحَدِيقَةُ الَّتِي وَقَعَ ذِكْرُهَا. وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَعْطَاهَا وَيُخَلِّيَ سَبِيلَهَا.
13 - بَاب الشِّقَاقِ، وَهَلْ يُشِيرُ بِالْخُلْعِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ؟ وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {خَبِيرًا}
5278 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ بَنِي الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُوا فِي أَنْ يَنْكِحَ عَلِيٌّ ابْنَتَهُمْ فَلَا آذَنُ.
قَوْلُهُ (بَابُ الشِّقَاقِ، وَهَلْ يُشِيرُ بِالْخُلْعِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ؟ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الْآيَةُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيُّ، وَلَكِنْ وَقَعَ عِنْدَهُ الضَّرَرُ وَزَادَ غَيْرُهُمَا {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} - إِلَى قَوْلِهِ - {خَبِيرًا} قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الْحُكَّامُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا} الْحَكَمَانِ، وَأَنَّ الْحَكَمَيْنِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مِنْ جِهَةِ الرَّجُلِ وَالْآخَرُ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ، إِلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ مِنْ أَهْلِهِمَا مَنْ يَصْلُحُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَجَانِبِ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَأَنَّهُمَا إِذَا اخْتَلَفَا لَمْ يَنْفُذْ قَوْلُهُمَا، وَإِنِ اتَّفَقَا نَفَذَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى الْفُرْقَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ: يَنْفُذُ بِغَيْرِ تَوْكِيلٍ وَلَا إِذْنٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ: يَحْتَاجَانِ إِلَى الْإِذْنِ، فَأَمَّا مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ فَأَلْحَقُوهُ بِالْعِنِّينِ وَالْمُولَى فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُطَلِّقُ عَلَيْهِمَا فَكَذَلِكَ هَذَا، وَأَيْضًا فَلَمَّا كَانَ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ الْحُكَّامَ وَأَنَّ الْإِرْسَالَ إِلَيْهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ بُلُوغَ الْغَايَةِ مِنَ الْجَمْعِ أَوِ التَّفْرِيقِ إِلَيْهِمْ، وَجَرَى الْبَاقُونَ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِ
الزَّوْجِ فَإِنْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ وَإِلَّا طَلَّقَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ.
ثُمَّ ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ الْمِسْوَرِ فِي خِطْبَةِ عَلِيٍّ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي النِّكَاحِ، وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا تَرْجَمَ بِهِ، وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ قَبْلَهَ عَنِ الْمُهَلَّبِ قَالَ: إِنَّمَا حَاوَلَ الْبُخَارِيُّ بِإِيرَادِهِ أَنْ يَجْعَلَ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا آذَنُ خُلْعًا، وَلَا يَقْوَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْخَبَرِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِي فَدَلَّ عَلَى الطَّلَاقِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالطَّلَاقِ عَلَى الْخُلْعِ فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْحُكْمُ بِقَطْعِ الذَّرَائِعِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم أَشَارَ بِقَوْلِهِ فَلَا آذَنُ إِلَى أَنَّ عَلِيًّا يَتْرُكُ الْخِطْبَةَ، فَإِذَا سَاغَ جَوَازُ الْإِشَارَةِ بِعَدَمِ النِّكَاحِ الْتَحَقَ بِهِ جَوَازُ الْإِشَارَةِ بِقَطْعِ النِّكَاحِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: تُؤْخَذُ مُطَابَقَةُ التَّرْجَمَةِ مِنْ كَوْنِ فَاطِمَةَ مَا كَانَتْ تَرْضَى بِذَلِكَ، فَكَانَ الشِّقَاقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَلِيٍّ مُتَوَقَّعًا، فَأَرَادَ صلى الله عليه وسلم دَفْعَ وُقُوعِهِ بِمَنْعِ عَلِيٍّ مِنْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ، وَهِيَ مُنَاسَبَةٌ جَيِّدَةٌ.
وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ وَمِنَ الْحَدِيثِ الْعَمَلُ بِسِدِّ الذَّرَائِعِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِبَعْثَةِ الْحُكْمَيْنِ عِنْدَ خَوْفِ الشِّقَاقِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، كَذَا قَالَ الْمُهَلَّبُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْخَوْفِ وُجُودَ عَلَامَاتِ الشِّقَاقِ الْمُقْتَضِي لِاسْتِمْرَارِ النَّكَدِ وَسُوءِ الْمُعَاشَرَةِ
14 - بَاب لَا يَكُونُ بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقًا
5279 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ، إِحْدَى السُّنَنِ أَنَّهَا أُعْتِقَتْ فَخُيِّرَتْ فِي زَوْجِهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْبُرْمَةُ تَفُورُ بِلَحْمٍ، فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ فِيهَا لَحْمٌ؟ قَالُوا: بَلَى، وَلَكِنْ ذَلِكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ وَأَنْتَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، قَالَ: عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ.
قَوْلُهُ (بَابُ لَا يَكُونُ بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقًا) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي طَلَاقَهَا ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ قِصَّةَ بَرِيرَةَ.
قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَمْ يَأْتِ فِي الْبَابِ بِشَيْءٍ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّبْوِيبُ، لَكِنْ لَوْ كَانَتْ عِصْمَتُهَا عَلَيْهِ بَاقِيَةً مَا خُيِّرَتْ بَعْدَ عِتْقِهَا، لِأَنَّ شِرَاءَ عَائِشَةَ كَانَ الْعِتْقُ بِإِزَائِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عَجِيبٌ.
أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّ التَّرْجَمَةَ مُطَابَقَةٌ فَإِنَّ الْعِتْقَ إِذَا لَمْ يَسْتَلْزِمِ الطَّلَاقَ فَالْبَيْعُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّخْيِيرَ الَّذِي جَرَّ إِلَى الْفِرَاقِ لَمْ يَقَعْ إِلَّا بِسَبَبِ الْعِتْقِ لَا بِسَبَبِ الْبَيْعِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَإِنَّهَا لَوْ طَلُقَتْ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْيِيرِ فَائِدَةٌ.
وَأَمَّا ثَالِثًا فَإِنَّ آخِرَ كَلَامِهِ يَرُدُّ أَوَّلِهِ، فَإِنَّهُ يُثْبِتُ مَا نَفَاهُ مِنَ الْمُطَابَقَةِ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ هَلْ يَكُونُ بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقًا؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَكُونُ بَيْعُهَا طَلَاقًا، وَرَوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأُبِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ قَالُوا: يَكُونُ طَلَاقًا وَتَمَسَّكُوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ الْبَابِ، وَهُوَ أَنَّ بَرِيرَةَ عَتَقَتْ فَخُيِّرَتْ فِي زَوْجِهَا، فَلَوْ كَانَ طَلَاقُهَا يَقَعُ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْيِيرِ مَعْنًى. وَمِنْ حَيْثُ النَّظَرُ أَنَّهُ عُقِدَ عَلَى مَنْفَعَةٍ فَلَا يُبْطِلُهُ بَيْعُ الرَّقَبَةِ كَمَا فِي الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمَسْبِيَّاتِ فَهُنَّ الْمُرَادُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ سَبَبِ نُزُولِهَا اهـ مُلَخَّصًا. وَمَا نَقَلَهُ عَنِ الصَّحَابَةِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِأَسَانِيدَ فِيهَا انْقِطَاعٌ، وَفِيهِ عَنْ جَابِرٍ، وَأَنَسٍ أَيْضًا، وَمَا نَقَلَهُ عَنِ التَّابِعِينَ فِيهِ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالشَّعْبِيِّ نَحْوُهُ، وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إِذَا زَوَّجَ عَبْدَهُ بِأَمَتِهِ فَالطَّلَاقُ بِيَدِ الْعَبْدِ وَإِذَا اشْتَرَى أَمَةً لَهَا زَوْجٌ فَالطَّلَاقُ بِيَدِ الْمُشْتَرِي. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ قَالَ: إِبَاقُ الْعَبْدِ طَلَاقُهُ.
وحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ أَوْرَدَه الْمُصَنِّفُ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ وَفِي عِدَّةِ أَبْوَابٍ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، وَطَرِيقُ رَبِيعَةَ الَّتِي أَوْرَدَهَا هُنَا أَوْرَدَهَا مَوْصُولَةً مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْهُ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ، وَأَوْرَدَهَا فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْهُ عَنِ الْقَاسِمِ مُرْسَلًا، وَلَا يَضُرُّ إِرْسَالُهُ لِأَنَّ مَالِكًا أَحْفَظُ مِنْ إِسْمَاعِيلَ وَأَتْقَنُ، وَقَدْ وَافَقَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الْقَاسِمِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، لَكِنْ صَدَّرَهُ بِقِصَّةِ اشْتِرَاطِ الَّذِينَ بَاعُوهَا عَلَى عَائِشَةَ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْوَلَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْعِتْقِ، وَكَذَا رَوَاهُ عُرْوَةُ، وَعَمْرَةُ، وَالْأَسْوَدُ، وَأَيْمَنُ الْمَكِّيُّ عَنْ عَائِشَةَ، وَكَذَا رَوَاهُ نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عَائِشَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ، وَرَوَى قِصَّةَ الْبُرْمَةِ وَاللَّحْمِ أَنَسٌ وَتَقَدَّمَ حَدِيثُهُ فِي الْهِبَةِ وَيَأْتِي، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قِصَّةَ تَخْيِيرِهَا لَمَّا عَتَقَتْ كَمَا يَأْتِي بَعْدُ، وَطُرُقُهُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ.
قَوْلُهُ (كَانَ فِي بَرِيرَةَ) تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا وَضَبْطُ اسْمِهَا فِي أَوَاخِرِ الْعِتْقِ، وَقِيلَ إِنَّهَا نَبَطِيَّةٌ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَقِيلَ إِنَّهَا قِبْطَيَّةٌ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَقِيلَ إِنَّ اسْمَ أَبِيهَا صَفْوَانُ وَأَنَّ لَهُ صُحْبَةً، وَاخْتُلِفَ فِي مَوَالِيهَا فَفِي رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ بَرِيرَةَ كَانَتْ لِنَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَذَا عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ سَمَّاكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ لِآلِ أَبِي لَهَبٍ وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ قَائِلِهِ، انْتَقَلَ وَهْمُهُ مِنْ أَيْمَنَ أَحَدُ رُوَاةِ قِصَّةِ بَرِيرَةَ عَنْ عَائِشَةَ إِلَى بَرِيرَةَ، وَقِيلَ لِآلِ بَنِي هِلَالٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ.
قَوْلُهُ (ثَلَاثُ سُنَنٍ) وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ ثَلَاثُ قَضِيَّاتٍ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ قَضَى فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ قَضِيَّاتٍ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَزَادَ وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ عِدَّةَ الْحُرَّةِ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَمْ تَقَعْ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَتْ عَلَى ثَلَاثٍ، لَكِنْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أَمَرْتُ بَرِيرَةَ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ وَهَذَا مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلُهُ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْحُرَّةِ وَيُخَالِفُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَعْتَدُّ بِحَيْضَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي عِدَّةِ الْمُخْتَلِعَةِ وَأَنَّ مَنْ قَالَ الْخُلْعُ فَسْخٌ قَالَ تَعْتَدُّ بِحَيْضَةٍ، وَهُنَا لَيْسَ اخْتِيَارُ الْعَتِيقَةِ نَفْسَهَا طَلَاقًا فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ بَلْ هُوَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الصِّحَّةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ عِدَّةَ بَرِيرَةَ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ وَهُوَ شَاهِدٌ قَوِيٌّ، لِأَنَّ أَبَا مَعْشَرٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ لَكِنْ يَصْلُحُ فِي الْمُتَابَعَاتِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ عُثْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَآخَرِينَ أَنَّ الْأَمَةَ إِذَا أُعْتِقَتْ تَحْتَ الْعَبْدِ فَطَلَاقُهَا طَلَاقُ عَبْدٍ وَعِدَّتُهَا عِدَّةُ حُرَّةٍ وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي الْعِتْقِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ صَنَّفُوا فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ تَصَانِيفَ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْصَلَهَا إِلَى أَرْبَعِمِائَةِ فَائِدَةٍ، وَلَا يُخَالِفُ ذَلِكَ قَوْلَ عَائِشَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ لِأَنَّ مُرَادَ عَائِشَةَ مَا وَقَعَ مِنَ الْأَحْكَامِ فِيهَا مَقْصُودًا خَاصَّةً، لَكِنْ لَمَّا كَانَ كُلُّ حُكْمٍ مِنْهَا يَشْتَمِلُ عَلَى تَقْعِيدِ قَاعِدَةٍ يَسْتَنْبِطُ الْعَالِمُ الْفَطِنُ مِنْهَا فَوَائِدَ جَمَّةً وَقَعَ التَّكَثُّرُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ غَيْرَ مَقْصُودٍ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَوَائِدَ تُؤْخَذُ بِطَرِيقِ التَّنْصِيصِ أَوْ الِاسْتِنْبَاطِ، أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الثَّلَاثِ أَوِ الْأَرْبَعِ لِكَوْنِهَا أَظْهَرَ مَا فِيهَا وَمَا عَدَاهَا إِنَّمَا يُؤْخَذُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ، أَوْ لِأَنَّهَا أَهَمُّ وَالْحَاجَةُ إِلَيْهَا أَمَسُّ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: مَعْنَى ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ
أَنَّهَا شُرِعَتْ فِي قِصَّتِهَا، وَمَا يَظْهَرُ فِيهَا مِمَّا سِوَى ذَلِكَ فَكَانَ قَدْ عُلِمَ مِنْ غَيْرِ قِصَّتِهَا، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَيْسَ فِي كَلَامِ عَائِشَةَ حَصْرٌ، وَمَفْهُومُ الْعَدَدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِذَارَاتِ الَّتِي لَا تَدْفَعُ سُؤَالَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (إنَّهَا أُعْتِقَتْ فَخُيِّرَتْ) زَادَ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ فِي أَنْ تَقَرَّ تَحْتَ زَوْجِهَا أَوْ تُفَارِقَهُ وَتَقَرُّ بِفَتْحٍ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ تَدُومُ، وَتَقَدَّمَ فِي الْعِتْقِ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ فَدَعَاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَخَيَّرَهَا مِنْ زَوْجِهَا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَفِي رِوَايَةٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبَانِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبَرِيرَةَ: اذْهَبِي فَقَدْ عُتِقَ مَعَكِ بُضْعُكِ. زَادَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا فَاخْتَارِي وَيَأْتِي تَمَامُ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا بِبَابَيْنِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) هَذِهِ السُّنَّةُ الثَّانِيَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ سَبَبِهَا مُسْتَوْفًى فِي الْعِتْقِ وَالشُّرُوطِ، وَفِي رِوَايَةِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ الْمَاضِيَةِ وَكَذَا في عِدَّةِ طُرُقٍ عَنْ عَائِشَةَ إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ.
وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ كَلِمَةَ إِنَّمَا تُفِيدُ الْحَصْرَ وَإِلَّا لَمَا لَزِمَ مِنْ إِثْبَاتِ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ نَفْيُهُ عَنْ غَيْرِهِ وَهُوَ الَّذِي أُرِيدَ مِنَ الْخَبَرِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا وَلَاءَ لِلْإِنْسَانِ عَلَى أَحَدٍ بِغَيْرِ الْعِتْقِ فَيَنْتَفِي مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ أَحَدٌ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْفَرَائِضِ وَأَنَّهُ لَا وَلَاءَ لِلْمُلْتَقِطِ خِلَافًا لِإِسْحَاقَ، وَلَا لِمَنْ حَالَفَ إِنْسَانًا خِلَافًا لِطَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَيُؤْخَذُ مِنْ عُمُومِهِ أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا ثُمَّ أَسْلَمَا أَنَّهُ يَسْتَمِرُّ وَلَاؤُهُ لَهُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِنَّهُ قِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ، وَوَافَقَ عَلَى ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ، وَخَالَفَ أَصْحَابَهُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لِلْعَتِيقِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ يَتَوَلَّى مَنْ يَشَاءُ.
قَوْلُهُ (وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَادَ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ بَيْتَ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ (وَالْبُرْمَةُ تَفُورُ بِلَحْمٍ، فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ) فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلِ بْنِ جَعْفَرٍ فَدَعَا بِالْغَدَاءِ فَأُتِيَ بِخُبْزٍ.
قَوْلُهُ (أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ فِيهَا لَحْمٌ؟ قَالُوا: بَلَى، وَلَكِنْ ذَاكَ لَحْمٌ تُصَدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ وَأَنْتَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ فِي الزَّكَاةِ وَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ فَقَالُوا: هَذَا مَا تُصَدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ وَكَذَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْهِبَةِ، وَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ عَنْهُ أُتِيَ بِهِ وَقِيلَ لَهُ هَلْ ذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ فَأُهْدِيَ لَهَا لَحْمٌ فَقِيلَ هَذَا تُصَدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ لِبَرِيرَةَ فَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَى الصَّدَقَةِ عَلَيْهَا هَدِيَّةً لَهَا، وَإِنْ كَانَ لِعَائِشَةَ فَلِأَنَّ بَرِيرَةَ لَمَّا تَصَدَّقُوا عَلَيْهَا بِاللَّحْمِ أَهْدَتْ مِنْهُ لِعَائِشَةَ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَاجَهْ وَدَخَلَ عَلِيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمِرْجَلُ يَفُورُ بِلَحْمٍ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا؟ قُلْتُ: أَهْدَتْهُ لَنَا بَرِيرَةُ وَتُصَدِّقَ بِهِ عَلَيْهَا وَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَكَانَ النَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهَا فَتُهْدِي لَنَا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَعْنَى.
وَاللَّحْمُ الْمَذْكُورُ وَقَعَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّهُ كَانَ لَحْمَ بَقَرٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ تُصُدِّقَ عَلَى مَوْلَاتِي بِشَاةٍ مِنَ الصَّدَقَةِ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ، وَوَقَعَ بَعْدَ قَوْلِهِ هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هدِيَّةٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْمَذْكُورَةِ فَكُلُوهُ، وَسَأَذْكُرُ فَوَائِدَهُ بَعْدَ بَابَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
15 - بَاب خِيَارِ الْأَمَةِ تَحْتَ الْعَبْدِ
5280 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، وَهَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَيْتُهُ عَبْدًا، يَعْنِي زَوْجَ بَرِيرَةَ.
[الحديث 5280 - أطرافه في: 5281، 5282، 5283]
5281 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ذَاكَ مُغِيثٌ عَبْدُ بَنِي فُلَانٍ يَعْنِي زَوْجَ بَرِيرَةَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتْبَعُهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ يَبْكِي عَلَيْهَا"
5282 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا أَسْوَدَ يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ عَبْدًا لِبَنِي فُلَانٍ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ وَرَاءَهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ"
قَوْلُهُ (بَابُ خِيَارِ الْأَمَةِ تَحْتَ الْعَبْدِ) يَعْنِي إِذَا عَتَقَتْ، وَهَذَا مَصِيرٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ إِلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا، وَقَدْ تَرْجَمَ فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ بَابُ الْحُرَّةِ تَحْتَ الْعَبْدِ وَهُوَ جَزْمٌ مِنْهُ أَيْضًا بِأَنَّهُ كَانَ عَبْدًا، وَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ هُنَاكَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ عَبْدًا، وَإِثْبَاتُ الْخِيَارِ لَهَا لَا يَدُلُّ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ يَدَّعِي أَنْ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الَّذِي يُورِدُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قِصَّةَ بَرِيرَةَ لَمْ تَتَعَدَّدْ، وَقَدْ رَجَحَ عِنْدَهُ أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ عَبْدًا فَلِذَلِكَ جَزَمَ بِهِ، وَاقْتَضَتِ التَّرْجَمَةُ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ أَنَّ الْأَمَةَ إِذَا كَانَتْ تَحْتَ حُرٍّ فَعُتِقَتْ لَمْ يَكُنْ لَهَا خِيَارٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى ذَلِكَ، وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى إِثْبَاتِ الْخِيَارِ لِمَنْ عَتَقَتْ سَوَاءٌ كَانَتْ تَحْتَ حُرٍّ أَمْ عَبْدٍ، وَتَمَسَّكُوا بِحَدِيثِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ حُرًّا، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى راويه هَلْ هُوَ مِنْ قَوْلِ الْأَسْوَدِ أَوْ رَوَاهُ عَنْ عَائِشَةَ أَوْ هُوَ قَوْلُ غَيْرِهِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَحَدُ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَهُوَ مِنْ أَقارنِ مُسْلِمٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ: خَالَفَ الْأَسْوَدُ النَّاسَ فِي زَوْجِ بَرِيرَةَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إِنَّمَا يَصِحُّ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا عَنِ الْأَسْوَدِ وَحْدَهُ، وَمَا جَاءَ عَنْ غَيْرِهِ فَلَيْسَ بِذَاكَ، وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا، وَرَوَاهُ عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ، وَإِذَا رَوَى عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ شَيْئًا وَعَمِلُوا بِهِ فَهُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ، وَإِذَا عُتِقَتِ الْأَمَةُ تَحْتَ الْحُرِّ فَعَقْدُهَا الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ لَا يُفْسَخُ بِأَمْرٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ اهـ.
وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا بَعْدَ بَابَيْنِ وَحَاوَلَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ تَرْجِيحَ رِوَايَةِ مَنْ قَالَ كَانَ حُرًّا عَلَى رِوَايَةِ مَنْ قَالَ كَانَ عَبْدًا، فَقَالَ: الرِّقُّ تَعْقُبُهُ الْحُرِّيَّةُ بِلَا عَكْسٍ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَكِنَّ مَحِلَّ طَرِيقِ الْجَمْعِ إِذَا تَسَاوَتِ الرِّوَايَاتُ فِي الْقُوَّةِ أَمَّا مَعَ التَّفَرُّدِ فِي مُقَابَلَةِ الِاجْتِمَاعِ فَتَكُونُ الرِّوَايَةُ الْمُنْفَرِدَةُ شَاذَّةً وَالشَّاذُّ مَرْدُودٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَعْتَبِرِ الْجُمْهُورُ طَرِيقَ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ مَعَ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَا يُصَارُ إِلَى التَّرْجِيحِ مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ، وَالَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ كَلَامِ مُحَقِّقِيهِمْ وَقَدْ أَكْثَرَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ أَنَّ مَحِلَّ الْجَمْعِ إِذَا لَمْ يَظْهَرِ الْغَلَطُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ التَّسَاوِيَ فِي الْقُوَّةِ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْأَمَةَ إِذَا عُتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَإِنَّ لَهَا الْخِيَارَ، وَالْمَعْنَى فِيهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُكَافِئٍ لِلْحُرَّةِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ، فَإِذَا عَتَقَتْ ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ مِنَ الْبَقَاءِ فِي عِصْمَتِهِ أَوِ الْمُفَارَقَةِ لِأَنَّهَا فِي وَقْتِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ إِنَّ لَهَا الْخِيَارَ وَلَوْ كَانَتْ تَحْتَ حُرٍّ بِأَنَّهَا عِنْدَ التَّزْوِيجِ لَمْ يَكُنْ لَهَا رَأْيٌ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ لِمَوْلَاهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا فَإِذَا عَتَقَتْ تَجَدَّدَ لَهَا حَالٌ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَعَارَضَهُمُ الْآخَرُونَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مُؤَثِّرًا لَثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْبِكْرِ إِذَا زَوَّجَهَا أَبُوهَا ثُمَّ بَلَغَتْ رَشِيدَةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْأَمَةُ تَحْتَ الْحُرِّ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ لَهَا بِالْعِتْقِ حَالٌ تَرْتَفِعُ بِهِ عَنِ
الْحُرِّ فَكَانَتْ كَالْكِتَابِيَّةِ تُسْلِمُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الَّتِي تَخْتَارُ الْفِرَاقَ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ طَلَاقًا أَوْ فَسْخًا؟ فَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ: تَكُونُ طَلْقَةً بَائِنَةً، وَثَبَتَ مِثْلُهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَقَالَ الْبَاقُونَ: يَكُونُ فَسْخًا لَا طَلَاقًا.
قَوْلُهُ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَيْتُهُ عَبْدًا يَعْنِي زَوْجَ بَرِيرَةَ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ لَفْظُ شُعْبَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مِرْبَعٍ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ عَنْ شُعْبَةَ وَحْدَهُ، وَزَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ شُعْبَةَ رَأَيْتُهُ يَبْكِي وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَتْبَعُهَا وَأَمَّا لَفْظُ هَمَّامٍ فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَفَّانَ عَنْهُ بِلَفْظِ أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ يُسَمَّى مُغِيثًا، فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ وَسَاقَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ هَمَّامٍ مُطَوَّلًا وَفِيهِ أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْحُرَّةِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ الْحَدِيثَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي أَحَدِهِمَا ذَاكَ مُغِيثٌ عَبْدُ بَنِي فُلَانٍ يَعْنِي زَوْجَ بَرِيرَةَ، وَفِي الْأُخْرَى كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا أَسْوَدَ يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ وَهَكَذَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ اسْمَهُ مُغِيثٌ، وَضُبِطَ فِي الْبُخَارِيِّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْعَسْكَرِيِّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ، وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ مَاكُولَا وَغَيْرُهُ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْمُسْتَغْفِرِيِّ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ أَنَّ اسْمَ زَوْجِ بَرِيرَةَ مَقْسِمٌ، وَمَا أَظُنُّهُ إِلَّا تَصْحِيفًا.
قَوْلُهُ (عَبْدًا لِبَنِي فُلَانٍ) عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ أَيُّوبَ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ لِبَنِيَّ الْمُغِيرَةِ وَفِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَكَانَ عَبْدًا لِآلِ الْمُغِيرَةِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ وَوَقَعَ فِي الْمَعْرِفَةِ لِابْنِ مَنْدَهْ، مُغِيثٌ مَوْلَى أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ، ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ مِثْلَ مَا وَقَعَ فِي التِّرْمِذِيِّ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدٍ فِيهِ ابْنُ إِسْحَاقَ وَهِيَ عِنْدَ مُغِيثٍ عَبْدٍ لِآلِ أَبِي أَحْمَدَ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَوْلَى بَنِي مُطِيعٍ وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ لِصِحَّةِ إِسْنَادِهِ وَيَبْعُدُ الْجَمْعُ لِأَنَّ بَنِي الْمُغِيرَةِ مِنْ آلِ مَخْزُومٍ كما فِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ وَبَنِي جَحْشٍ مِنْ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ وَبَنِي مُطِيعٍ مِنْ آلِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُدَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ عَلَى بُعْدِهِ، أَوِ انْتَقَلَ.
16 - بَاب شَفَاعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي زَوْجِ بَرِيرَةَ
5283 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ - كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعبَّاسٍ: يَا عَبَّاسُ، أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ رَاجَعْتِهِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ، قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ.
قَوْلُهُ (بَابُ شَفَاعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي زَوْجِ بَرِيرَةَ) أَيْ عِنْدَ بَرِيرَةَ لِتَرْجِعَ إِلَى عِصْمَتِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَوْقِعُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مِنَ الْفِقْهِ تَسْوِيغُ الشَّفَاعَةِ لِلْحَاكِمِ عِنْدَ الْخَصْمِ فِي خَصْمِهِ أَنْ يَحُطَّ عَنْهُ أَوْ يُسْقِطَ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ قِصَّةَ بَرِيرَةَ لَمْ تَقَعِ الشَّفَاعَةُ فِيهَا عِنْدَ التَّرَافُعِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ بَعْدَ الْحُكْمِ ; لَكِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّرَافُعِ إِذْ رُؤْيَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِزَوْجِهَا يَبْكِي، وَقَوْلُ الْعَبَّاسِ وَبَعْدَهُ لَوْ رَاجَعْتِيهِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ عِنْدَ التَّرَافُعِ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ) هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ عَلَى مَا بَيَّنْتُ فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ،
وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدِ بْنِ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيِّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، وَابْنُ بَشَّارٍ، وَابْنُ الْمُثَنَّى مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَحَدَهُمَا.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ) هُو ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ وَخَالِدٌ شَيْخُهُ هُوَ الْحَذَّاءُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ وَهُوَ الثَّقَفِيُّ هَذَا عَنْ أَيُّوبَ، فَكَأَنَّ لَهُ فِيهِ شَيْخَيْنِ لَكِنَّ رِوَايَةَ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ أَتَمُّ سِيَاقًا كَمَا تَرَى، وَطَرِيقُ أَيُّوبَ أَخْرَجَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، وَطَرِيقُ خَالِدٍ أَخْرَجَهَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيِّ، عَنِ الثَّقَفِيِّ أَيْضًا وَسَاقَهُ عَنْهُمَا نَحْوَ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ.
قَوْلُهُ (يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي) فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ، عَنْ أَيُّوبَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ يَتْبَعُهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ يَبْكِي عَلَيْهَا وَالسِّكَكُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْكَافِ جَمْعُ سِكَّةٍ وَهِيَ الطُّرُقُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَنَوَاحِيهَا، وَأَنَّ دُمُوعَهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ يَتَرَضَّاهَا لِتخْتَاره فَلَمْ تَفْعَلْ وَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّ سُؤَالَهُ لَهَا كَانَ قَبْلَ الْفُرْقَةِ، وَظَاهِرُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ الْبَابِ لَوْ رَاجَعْتِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ بَطَّالٍ فَقَالَ: لَوْ كَانَ قَبْلَ الْفُرْقَةِ لَقَالَ لَوِ اخْتَرْتِهِ، قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلُ وَبَعْدُ. وَقَدْ تَمَسَّكَ بِرِوَايَةِ سَعِيدٍ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْفَوْرَ فِي الْخِيَارِ هُنَا، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدُ.
قَوْلُهُ (يَا عَبَّاسُ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَالِدُ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْعَبَّاسِ: يَا عَبَّاسُ وَعِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ قَالَ أَنْبَأَنَا خَالِدٌ هُوَ الْحَذَّاءُ بِسَنَدِهِ أَنَّ الْعَبَّاسَ كَانَ كَلَّمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَطْلُبَ إِلَيْهَا فِي ذَلِكَ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ قِصَّةَ بَرِيرَةَ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ أَوِ الْعَاشِرَةِ، لِأَنَّ الْعَبَّاسَ إِنَّمَا سَكَنَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ مِنْ غَزْوَةِ الطَّائِفِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ ثَمَانٍ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ شَاهَدَ ذَلِكَ، وَهُوَ إِنَّمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ مَعَ أَبَوَيْهِ. وَيُؤَيِّدُ تَأَخُّرَ قِصَّتِهَا أَيْضًا - بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ الْإِفْكِ - أَنَّ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانَتْ صَغِيرَةً، فَيَبْعُدُ وُقُوعُ تِلْكَ الْأُمُورِ وَالْمُرَاجَعَةُ وَالْمُسَارَعَةُ إِلَى الشِّرَاءِ وَالْعِتْقُ مِنْهَا يَوْمَئِذٍ، وَأَيْضًا فَقَوْلُ عَائِشَةَ إِنْ شَاءَ مَوَالِيكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى وُقُوعِ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فِي غَايَةِ الضِّيقِ ثُمَّ حَصَلَ لَهُمُ التَّوَسُّعُ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ قِصَّتَهَا كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً قَبْلَ قِصَّةِ الْإِفْكِ، وَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ وُقُوعُ ذِكْرِهَا فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ هُنَاكَ.
ثُمَّ رَأَيْتُ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ السُّبْكِيَّ اسْتَشْكَلَ الْقِصَّةَ ثُمَّ جَوَّزَ أَنَّهَا كَانَتْ تَخْدُمُ عَائِشَةَ قَبْلَ شِرَائِهَا، أَوِ اشْتَرَتْهَا وَأَخَّرَتْ عِتْقَهَا إِلَى بَعْدِ الْفَتْحِ، أَوْ دَامَ حُزْنُ زَوْجِهَا عَلَيْهَا مُدَّةً طَوِيلَةً أَوْ كَانَ حَصَلَ الْفَسْخُ وَطَلَبَ أَنْ تَرُدَّهُ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ أَوْ كَانَتْ لِعَائِشَةَ ثُمَّ بَاعَتْهَا ثُمَّ اسْتَعَادَتْهَا بَعْدَ الْكِتَابَةِ اهـ، وَأَقْوَى الِاحْتِمَالَاتِ الْأَوَّلُ كَمَا تَرَى.
قَوْلُهُ (لَوْ رَاجَعْتِهِ) كَذَا فِي الْأُصُولِ بِمُثَنَّاةٍ وَاحِدَةٍ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ لَوْ رَاجَعْتِيهِ بِإِثْبَاتِ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْمُثَنَّاةِ وَهِيَ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ فَإِنَّهُ أَبُو وَلَدِكِ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ.
قَوْلُهُ (تَأْمُرُنِي) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ قَالَ لَا وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَنْحَصِرُ فِي صِيغَةِ افْعَلْ لِأَنَّهُ خَاطَبَهَا بِقَوْلِهِ لَوْ رَاجَعْتِهِ. فَقَالَتْ: أَتَأْمُرُنِي أَيْ تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ الْأَمْرَ فَيَجِبُ عَلَيَّ؟ وَعِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ مُرْسَلِ ابْنِ سِيرِينَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَشَيْءٌ وَاجِبٌ عَلَيَّ؟ قَالَ: لَا.
قَوْلُهُ (قَالَ: إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ إِنَّمَا أَشْفَعُ أَيْ أَقُولُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الشَّفَاعَةِ لَهُ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَتْمِ عَلَيْكِ.
قَوْلُهُ (فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ) أَيْ فَإِذَا لَمْ تُلْزِمْنِي بِذَلِكَ لَا أَخْتَارُ الْعَوْدَ إِلَيْهِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ لَوْ أَعْطَانِي كَذَا وَكَذَا مَا كُنْتُ عِنْدَهُ.
17 - باب
5284 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ أَنَّ عَائِشَةَ أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ، فَأَبَى مَوَالِيهَا إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطُوا الْوَلَاءَ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. وَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ، فَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ.
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ وَزَادَ: فَخُيِّرَتْ مِنْ زَوْجِها.
قَوْلُهُ (بَابٌ) كَذَا لَهُمْ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَهُوَ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ مَا قَبْلَهُ، وَأَوْرَدَ فِيهِ قِصَّةَ بَرِيرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ وَهُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ بِمُثَنَّاةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ النَّخَعِيُّ، عَنِ الْأَسْوَدِ، وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ: أَنَّ عَائِشَةَ أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ فَسَاقَ الْقِصَّةَ مُخْتَصَرَةً وَصُورَةُ سِيَاقِهِ الْإِرْسَالُ، لَكِنْ أَوْرَدَهُ فِي كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ مُخْتَصَرًا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ، فَقَالَ فِيهِ: عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ وَكَذَا أَوْرَدَهُ فِي الْفَرَائِضِ عَنْ حَفْصِ، بْنِ عُمَرَ، عَنْ شُعْبَةَ وَزَادَ فِي آخِرِهِ قَالَ الْحَكَمُ: وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا ثُمَّ أَوْرَدَهُ بَعْدَهُ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ: أَنَّ عَائِشَةَ فَسَاقَ نَحْوَ سِيَاقِ الْبَابِ وَزَادَ فِيهِ وَخُيِّرَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، وَقَالَتْ: لَوْ أُعْطِيتُ كَذَا وَكَذَا مَا كُنْتُ مَعَهُ، قَالَ الْأَسْوَدُ: وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَوْلُ الْأَسْوَدِ مُنْقَطِعٌ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَأَيْتُهُ عَبْدًا أَصَحُّ.
وَقَالَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ فِي قَوْلِ الْحَكَمِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ عَقِبَ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ هَذِهِ عَنْ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ لَكِنْ قَالَ وَزَادَ: فَخُيِّرَتْ مِنْ زَوْجِهَا وَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي الزَّكَاةِ عَنْ آدَمَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ آدَمَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، فَجَعَلَ الزِّيَادَةَ مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ وَلَفْظُهُ فِي آخِرِهِ قَالَ الْحَكَمُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا فَخُيِّرَتْ مِنْ زَوْجِهَا فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مُدْرَجَةٌ وَحَذَفَهَا فِي الزَّكَاةِ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهَا هُنَا مُشِيرًا إِلَى أَنَّ أَصْلَ التَّخْيِيرِ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ ثَابِتٌ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى وَقَدْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ: لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا، وَكَذَا قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَأَبُو الْأَسْوَدِ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ.
قُلْتُ: وَقَعَ لِبَعْضِ الرُّوَاةِ فِيهِ غَلَطٌ، فَأَخْرَجَ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ فِي مُصَنَّفِهِ وَابْنُ حَزْمٍ مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ: أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُعَلَّمُ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ حُرًّا وَهَذَا وَهْمٌ مِنْ مُوسَى أَوْ مِنْ أَحْمَدَ، فَإِنَّ الْحُفَّاظَ مِنْ أَصْحَابِ هِشَامٍ وَمِنْ أَصْحَابِ جَرِيرٍ قَالُوا: كَانَ عَبْدًا، مِنْهُمْ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَحَدِيثُهُ عَنِد النَّسَائِيِّ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَحَدِيثُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَعَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ وَحَدِيثُهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَحَالَ بِهِ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَكَذَا قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ.
قُلْتُ: وَرَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: كَانَ حُرًّا، ثُمَّ رَجَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: مَا أَدْرِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِتْقِ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُدَيْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَائِشَةَ: كَانَ حُرًّا وَهُوَ وَهْمٌ، قُلْتُ: فِي شَيْئَيْنِ: فِي قَوْلُهُ حُرٌّ، وَفِي قَوْله عَائِشَةُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا، وَكَذَا جَزَمَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَحَدِيثُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَتْ: كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا
وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا قَوْلُ عَائِشَةَ كَانَ عَبْدًا، وَلَوْ كَانَ حُرًّا لَمْ يُخَيِّرْهَا، فَأَخْبَرَتْ وَهِيَ صَاحِبَةُ الْقِصَّةِ بِأَنَّهُ كَانَ عَبْدًا، ثُمَّ عَلَّلَتْ بِقَوْلِهَا وَلَوْ كَانَ حُرًّا لَمْ يُخَيِّرْهَا وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكَادُ أَحَدٌ يَقُولُهُ إِلَّا تَوْقِيفًا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، وَهِيَ مُدْرَجَةٌ مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ، بَيَّنَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ.
نَعَمْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَتْ بَرِيرَةُ مُكَاتَبَةً لِأُنَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَكَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَأُسَامَةُ فِيهِ مَقَالٌ، وَأَمَّا دَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُقَالُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ فَمَرْدُودَةٌ فَإِنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَجَالًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا تَوْجِيهُهُ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ أَيْضًا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ، عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ: كَانَ حُرًّا. قُلْتُ: وَأَصْرَحُ مَا رَأَيْتُهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ حُرًّا فَلَمَّا عُتِقَتْ خُيِّرَتْ الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ إِدْرِيسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا السَّنَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ حُرًّا وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ النَّخَعِيِّ، عَنِ الْأَسْوَدِ أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهُ أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ حُرًّا حِينَ أُعْتِقَتْ فَدَلَّتِ الرِّوَايَاتُ الْمُفَصَّلَةُ الَّتِي قَدَّمْتُهَا آنِفًا عَلَى أَنَّهُ مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ الْأَسْوَدِ، أَوْ مَنْ دُونَهُ فَيَكُونُ مِنْ أَمْثِلَةِ مَا أُدْرِجَ فِي أَوَّلِ الْخَبَرِ، وَهُوَ نَادِرٌ فَإِنَّ الْأَكْثَرَ أَنْ يَكُونَ فِي آخِرِهِ وَدُونَهُ أَنْ يَقَعَ فِي وَسَطِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا فَتُرَجَّحُ رِوَايَةُ مَنْ قَالَ كَانَ عَبْدًا بِالْكَثْرَةِ، وَأَيْضًا فَآلُ الْمَرْءِ أَعْرَفُ بِحَدِيثِهِ، فَإِنَّ الْقَاسِمَ ابْنُ أَخِي عَائِشَةَ، وَعُرْوَةَ ابْنُ أُخْتِهَا وَتَابَعَهُمَا غَيْرُهُمَا فَرِوَايَتُهُمَا أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ الْأَسْوَدِ، فَإِنَّهُمَا أَقْعَدُ بِعَائِشَةَ وَأَعْلَمُ بِحَدِيثِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَتَرَجَّحُ أَيْضًا بِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْأَمَةَ إِذَا عَتَقَتْ تَحْتَ الْحُرِّ لَا خِيَارَ لَهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا رَوَى الْعِرَاقِيُّونَ عَنْهَا فَكَانَ يَلْزَمُ عَلَى أَصْلِ مَذْهَبِهِمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِقَوْلِهَا وَيَدَعُوا مَا رُوِيَ عَنْهَا لَا سِيَّمَا وَقَدِ اخْتُلِفَ عَنْهَا فِيهِ، وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِحَمْلِ قَوْلِ مَنْ قَالَ كَانَ عَبْدًا عَلَى اعْتِبَارِ مَا كَانَ عَلَيْهِ ثُمَّ أُعْتِقَ، فَلِذَلِكَ قَالَ مَنْ قَالَ كَانَ حُرًّا، وَيَرُدُّ هَذَا الْجَمْعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ كَانَ عَبْدًا وَلَوْ كَانَ حُرًّا لَمْ تُخَيَّرْ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ يَوْمَ أُعْتِقَتْ فَهَذَا يُعَارِضُ الرِّوَايَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَنِ الْأَسْوَدِ، وَيُعَارِضُ الِاحْتِمَالَ الْمَذْكُورَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَالَ كَانَ حُرًّا أَرَادَ مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ، وَإِذَا تَعَارَضَا إِسْنَادًا وَاحْتِمَالًا احْتِيجَ إِلَى التَّرْجِيحِ وَرِوَايَةُ الْأَكْثَرِ يُرَجَّحُ بِهَا وَكَذَلِكَ الْأَحْفَظُ وَكَذَلِكَ الْأَلْزَمُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي جَانِبِ مَنْ قَالَ كَانَ عَبْدًا.
وَفِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ مِنَ الْفَوَائِدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَفِي الزَّكَاةِ وَالْكَثِيرِ مِنْهَا فِي الْعِتْقِ: جَوَازُ الْمُكَاتَبَةِ بِالسُّنَّةِ تَقْرِيرًا لِحُكْمِ الْكِتَابِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْأَوَائِلِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّهَا أَوَّلُ كِتَابَةٍ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ قِصَّةُ سَلْمَانَ، فَيُجْمَعُ بِأَنَّ أَوَّلِيَّتَهُ فِي الرِّجَالِ وَأَوَّلِيَّةَ بَرِيرَةَ فِي النِّسَاءِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ مُكَاتَبٍ فِي الْإِسْلَامِ أَبُو أُمَيَّةَ عَبْدُ عُمَرَ، وَادَّعَى الرُّويَانِيُّ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَخُولِفَ. وَيُؤْخَذُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ نُجُومِ الْكِتَابَةِ الْبَيْعُ إِلَى أَجَلٍ وَالِاسْتِقْرَاضُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَفِيهِ إِلْحَاقُ الْإِمَاءِ بِالْعَبِيدِ لِأَنَّ الْآيَةَ ظَاهِرَةٌ فِي الذُّكُورِ، وَفِيهِ جَوَازُ كِتَابَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الرَّقِيقَيْنِ، وَيُلْحَقُ بِهِ جَوَازُ بَيْعِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَجَوَازُ كِتَابَةِ مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَلَا حِرْفَةَ، كَذَا قِيلَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ طَلَبِهَا مِنْ عَائِشَةَ الْإِعَانَةُ عَلَى حَالِهَا أَنْ يَكُونَ لَا مَالَ لَهَا وَلَا حِرْفَةَ، وَفِيهِ جَوَازُ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ إِذَا رَضِيَ وَلَمْ يُعَجِّزْ نَفْسَهُ إِذَا وَقَعَ التَّرَاضِي بِذَلِكَ، وَحَمَلَهُ مَنْ مَنَعَ عَلَى أَنَّهَا عَجَّزَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ الْبَيْعِ وَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَقِيلَ: إِنَّمَا وَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى نُجُومِ الْكِتَابَةِ وَهُوَ
بَعِيدٌ جِدًّا وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَيَتَفَرَّعُ مِنْهُ إِجْرَاءُ أَحْكَامِ الرَّقِيقِ كُلِّهَا فِي النِّكَاحِ وَالْجِنَايَاتِ وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ أَكْثَرَ بِسَرْدِهَا مَنْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ جَمَعُوا الْفَوَائِدَ الْمُسْتَنْبَطَةَ مِنْ حَدِيثِ بَرِيرَةَ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَدَّى أَكْثَرَ نُجُومِهِ لَا يَعْتِقُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْأَكْثَرِ، وَأَنَّ مَنْ أَدَّى مِنَ النُّجُومِ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ يُعْتَقُ، وَأَنَّ مَنْ أَدَّى بَعْضَ نُجُومِهِ لَمْ يُعْتَقْ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ فِي شِرَاءِ بَرِيرَةَ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ.
وَفِيهِ جَوَازُ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ وَالرَّقِيقِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ، وَأَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ لَيْسَ طَلَاقًا كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ قَرِيبًا وَأَنَّ عِتْقَهَا لَيْسَ طَلَاقًا وَلَا فَسْخًا لِثُبُوتِ التَّخْيِيرِ، فَلَوْ طَلُقَتْ بِذَلِكَ وَاحِدَةً لَكَانَ لِزَوْجِهَا الرَّجْعَةُ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى إِذْنِهَا، أَوْ ثَلَاثًا لَمْ يَقُلْ لَهَا لَوْ رَاجَعْتِهِ لِأَنَّهَا مَا كَانَتْ تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ، وَأَنَّ بَيْعَهَا لَا يُبِيحُ لِمُشْتَرِيهَا وَطَأْهَا لِأَنَّ تَخْيِيرَهَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ عُلْقَةِ الْعِصْمَةِ وَأَنَّ سَيِّدَ الْمُكَاتَبِ لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الِاكْتِسَابِ وَأَنَّ اكْتِسَابَهُ مِنْ حِينِ الْكِتَابَةِ يَكُونُ لَهُ جَوَازُ سُؤَالِ الْمُكَاتَبِ مَنْ يُعِينُهُ عَلَى بَعْضِ نُجُومِهِ وَإِنْ لَمْ تَحِلَّ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي تَعْجِيزَهُ، وَجَوَازُ سُؤَالِ مَا لَا يُضْطَرُّ السَّائِلُ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَجَوَازُ الِاسْتِعَانَةِ بِالْمَرْأَةِ الْمُزَوَّجَةِ، وَجَوَازُ تَصَرُّفِهَا فِي مَالِهَا بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا، وَبَذْلِ الْمَالِ فِي طَلَبِ الْأَجْرِ حَتَّى فِي الشِّرَاءِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ بِالْعِتْقِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ شِرَاءِ مَنْ يَكُونُ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ السِّلْعَةَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا لِأَنَّ عَائِشَةَ بَذَلَتْ نَقْدًا مَا جَعَلُوهُ نَسِيئَةً فِي تِسْعِ سِنِينَ لِحُصُولِ الرَّغْبَةِ فِي النَّقْدِ أَكْثَرَ مِنَ النَّسِيئَةِ، وَجَوَازُ السُّؤَالِ فِي الْجُمْلَةِ لِمَنْ يَتَوَقَّعُ الِاحْتِيَاجَ إِلَيْهِ فَتُحْمَلُ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي الزَّجْرِ عَنِ السُّؤَالِ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ.
وَفِيهِ جَوَازُ سَعْيِ الْمَرْقُوقِ فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ وَلَوْ كَانَ بِسُؤَالِ مَنْ يَشْتَرِي لِيَعْتِقَ وَإِنْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِسَيِّدِهِ لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إِلَى الْعِتْقِ، وَفِيهِ بُطْلَانُ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَصِحَّةُ الشُّرُوطِ الْمَشْرُوعَةِ لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُهُ فِي الشُّرُوطِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنِ اسْتَثْنَى خِدْمَةَ الْمَرْقُوقِ عِنْدَ بَيْعِهِ لَمْ يَصِحَّ شَرْطُهُ، وَأَنَّ مَنْ شَرَطَ شَرْطًا فَاسِدًا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعُقُوبَةَ إِلَّا إِنْ عَلِمَ بِتَحْرِيمِهِ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ، وَأَنَّ سَيِّدَ الْمُكَاتَبِ لَا يَمْنَعُهُ مِنَ السَّعْي فِي تَحْصِيلِ مَالِ الْكِتَابَةِ وَلَوْ كَانَ حَقُّهُ فِي الْخِدْمَةِ ثَابِتًا، وَأَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا أَدَّى نُجُومَهُ مِنَ الصَّدَقَةِ لَمْ يَرُدَّهَا السَّيدُ وَإِذَا أَدَّى نُجُومَهُ قَبْلَ حُلُولِهَا كَذَلِكَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يَعْتِقُ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ مَوَالِي بَرِيرَةَ إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكَ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ فِي قَبُولِ تَعْجِيلِ مَا اتَّفَقُوا عَلَى تَأْجِيلِهِ وَمِنْ لَازِمِهِ حُصُولُ الْعِتْقِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَيْضًا أَنَّ مَنْ تَبَرَّعَ عَنِ الْمُكَاتَبِ بِمَا عَلَيْهِ عَتَقَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْوَضْعِ عَنِ الْمُكَاتَبِ لِقَوْلِ عَائِشَةَ أَعُدُّهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً وَلَمْ يُنْكَرْ، وَأُجِيبَ بِجَوَازِ قَصْدِ دَفْعِهِمْ لَهَا بَعْدَ الْقَبْضِ. وَفِيهِ جَوَازُ إِبْطَالِ الْكِتَابَةِ وَفَسْخِ عَقْدِهَا إِذَا تَرَاضَى السَّيِّدُ وَالْعَبْدُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ إِبْطَالُ التَّحْرِيرِ لِتَقْرِيرِ بَرِيرَةَ عَلَى السَّعْيِ بَيْنَ عَائِشَةَ وَمَوَالِيهَا فِي فَسْخِ كِتَابَتِهَا لِتَشْتَرِيَهَا عَائِشَةُ.
وَفِيهِ ثُبُوتُ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ عِدَّةُ مَسَائِلَ كَعِتْقِ السَّائِبَةِ، وَاللَّقِيطِ، وَالْحَلِيفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كَثُرَ بِهَا الْعَدَدُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ بَرِيرَةَ. وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْخُطْبَةِ فِي الْأَمْرِ الْمُهِمِّ وَالْقِيَامُ فِيهَا، وَتَقْدِمَةُ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، وَقَوْلُ أَمَّا بَعْدُ، عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ فِي الْحَاجَةِ، وَأَنَّ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ مَا يُنْكَرُ اسْتُحِبَّ عَدَمُ تَعْيِينِهِ ; وَأَنَّ اسْتِعْمَالَ السَّجْعِ فِي الْكَلَامِ لَا يُكْرَهُ إِلَّا إِذَا قَصَدَ إِلَيْهِ وَوَقَعَ مُتَكَلَّفًا. وَفِيهِ جَوَازُ الْيَمِينِ فِيمَا لَا تَجِبُ فِيهِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ، وَأَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ لِأَنَّ عَائِشَةَ حَلَفَتْ أَنْ لَا تَشْتَرِطَ ثُمَّ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اشْتَرِطِي، وَلَمْ يَنْقُلْ كَفَّارَةً. وَفِيهِ مُنَاجَاةُ الِاثْنَيْنِ بِحَضْرَةِ الثَّالِثِ فِي الْأَمْرِ يَسْتَحِي مِنْهُ الْمُنَاجِي وَيَعْلَمُ أَنَّ مَنْ نَاجَاهُ يُعْلِمُ الثَّالِثَ بِهِ، وَيُسْتَثْنَى ذَلِكَ مِنَ النَّهْيِ الْوَارِدِ فِيهِ، وَفِيهِ جَوَازُ سُؤَالِ الثَّالِثِ عَنِ الْمُنَاجَاةِ الْمَذْكُورَةِ إِذَا ظَنَّ أَنَّ لَهُ تَعَلُّقًا بِهِ وَجَوَازُ
إِظْهَارِ السِّرِّ فِي ذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُنَاجِي. وَفِيهِ جَوَازُ الْمُسَاوَمَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَالتَّوْكِيلِ فِيهَا وَلَوْ لِلرَّقِيقِ، وَاسْتِخْدَامُ الرَّقِيقِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمَوَالِيهِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنُوا فِي ذَلِكَ بِخُصُوصِهِ. وَفِيهِ ثُبُوتُ الْوَلَاءِ لِلْمَرْأَةِ الْمُعْتِقَةِ فَيُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ الْوَلَاءِ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ فَإِنَّ الْوَلَاءَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْمَرْأَةِ بِالْإِرْثِ بِخِلَافِ النَّسَبِ.
وَفِيهِ أَنَّ الْكَافِرَ يَرِثُ وَلَاءَ عَتِيقِهِ الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَ لَا يَرِثُ قَرِيبَهُ الْمُسْلِمَ، وَأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ فِي الْعِتْقِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُعْطَى الْمَالِكُ لَا مَنْ بَاشَرَ الْإِعْطَاءَ مُطْلَقًا فَلَا يَدْخُلُ الْوَكِيلَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ وَوَلِيَ النِّعْمَةَ وَفِيهِ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلْأَمَةِ إِذَا عَتَقَتْ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ وَأَنَّ خِيَارَهَا يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ لِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ إِنَّهَا عَتَقَتْ فَدَعَاهَا فَخَيَّرَهَا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ:
أَحَدُهَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَعَنْهُ يَمْتَدُّ خِيَارُهَا ثَلَاثًا، وَقِيلَ: بِقِيَامِهَا مِنْ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ، وَقِيلَ: مِنْ مَجْلِسِهَا، وَهُمَا عَنْ أَهْلِ الرَّأْيِ، وَقِيلَ: يَمْتَدُّ أَبَدًا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَأَحَدِ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ مَكَّنَتْهُ مِنْ وَطْئِهَا سَقَطَ خِيَارُهَا، وَتَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِهِ بِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِأَسَانِيدَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ بَرِيرَةَ أُعْتِقَتْ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ إِنْ قَرُبَكِ فَلَا خِيَارَ لَكِ وَرَوَى مَالِكٌ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حَفْصَةَ أَنَّهَا أَفْتَتْ بِذَلِكَ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ لَهُمَا مُخَالِفًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ بِهِ جَمْعٌ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمُ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا لَوْ وَطِئَهَا قَبْلَ عِلْمِهَا بِأَنَّ لَهَا الْخِيَارَ هَلْ يَسْقُطُ أَوْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا فَرْقَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُعْذَرُ بِالْجَهْلِ، وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ: إِنْ وَطِئَكِ فَلَا خِيَارَ لَكِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا وَجَدَتْ بِزَوْجِهَا عَيْبًا ثُمَّ مَكَّنَتْهُ مِنَ الْوَطْءِ بَطَلَ خِيَارُهَا.
وَفِيهِ أَنَّ الْخِيَارَ فَسْخٌ لَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ فِيهِ رَجْعَةٌ، وَتَمَسَّكَ مَنْ قَالَ لَهُ الرَّجْعَةُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَوْ رَاجَعْتِهِ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ وَإِلَّا لَمَا كَانَ لَهَا اخْتِيَارٌ فَتَعَيَّنَ حَمْلُ الْمُرَاجَعَةِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ وَالْمُرَادُ رُجُوعُهَا إِلَى عِصْمَتِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} مَعَ أَنَّهَا فِي الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا. وَفِيهِ إِبْطَالُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ اسْتِحَالَةَ أَنْ يُحِبَّ أَحَدُ الشَّخْصَيْنِ الْآخَرَ وَالْآخَرُ يُبْغِضُهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا؟ نَعَمْ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَكْثَرُ الْأَغْلَبُ، وَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ التَّعَجُّبُ لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَادِ، وَجَوَّزَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا ظَهَرَ مِنْ كَثْرَةِ اسْتِمَالَةِ مُغِيثٍ لَهَا بِأَنْوَاعٍ مِنَ الِاسْتِمَالَاتِ كَإِظْهَارِهِ حُبَّهَا وَتَرَدُّدِهِ خَلْفَهَا وَبُكَائِهِ عَلَيْهَا مَعَ مَا يَنْضَمُّ إِلَى ذَلِكَ مِنِ اسْتِمَالَتِهِ لَهَا بِالْقَوْلِ الْحَسَنِ وَالْوَعْدِ الْجَمِيلِ، وَالْعَادَةُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنْ يَمِيلَ الْقَلْبُ وَلَوْ كَانَ نَافِرًا فَلَمَّا خَالَفَتِ الْعَادَةَ وَقَعَ التَّعَجُّبُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ. وَفِيهِ أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا خُيِّرَ بَيْنَ مُبَاحَيْنِ فَآثَرَ مَا يَنْفَعُهُ لَمْ يُلَمْ وَلَوْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِرَفِيقِهِ. وَفِيهِ اعْتِبَارُ الْكَفَاءَةِ فِي الْحُرِّيَّةِ.
وَفِيهِ سُقُوطُ الْكَفَاءَةِ بِرِضَا الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا وَلِيَّ لَهَا، وَأَنَّ مَنْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ فَاخْتَارَتْ فِرَاقَهُ وَقَعَ وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَأَنَّهَا لَوِ اخْتَارَتِ الْبَقَاءَ مَعَهُ لَمْ يَنْقُصْ عَدَدُ الطَّلَاقِ. وَكَثُرَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ بَرِيرَةَ هُنَا فِي سَرْدِ تَفَارِيعِ التَّخْيِيرِ.
وَفِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ فَقَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي بِهِ، تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ حُكْمُ الْفِرَاقِ، كَذَا قِيلَ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَ اخْتِيَارِهَا الْفِرَاقَ وَلَمْ يَقَعْ إِلَّا بِهَذَا الْكَلَامِ وَفِيهِ مِنَ النَّظَرِ مَا تَقَدَّمَ. وَفِيهِ جَوَازُ دُخُولِ النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ بَيْتَ الرَّجُلِ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ أَمْ لَا. وَفِيهِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَا يَلْحَقُهَا فِي الْعِتْقِ وَلَدُهَا وَلَا زَوْجُهَا. وَفِيهِ تَحْرِيمُ الصَّدَقَةِ عَلَى النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم مُطْلَقًا، وَجَوَازُ التَّطَوُّعِ مِنْهَا عَلَى مَا يَلْحَقُ بِهِ فِي تَحْرِيمِ صَدَقَةِ الْفَرْضِ كَأَزْوَاجِهِ وَمَوَالِيهِ، وَأَنَّ مَوَالِيَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِنَّ الصَّدَقَةُ وَإِنْ حَرُمَتْ عَلَى الْأَزْوَاجِ، وَجَوَازُ أَكْلِ الْغَنِيِّ مَا تُصَدِّقُ بِهِ عَلَى الْفَقِيرِ إِذَا أَهْدَاهُ لَهُ وَبِالْبَيْعِ أَوْلَى، وَجَوَازُ قَبُولِ الْغَنِيِّ هَدِيَّةَ الْفَقِيرِ. وَفِيهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ فِي الْحُكْمِ. وَفِيهِ نُصْحُ أَهْلِ الرَّجُلِ لَهُ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا وَجَوَازُ أَكْلِ الْإِنْسَانِ مِنْ طَعَامِ مَنْ يُسَرُّ بِأَكْلِهِ مِنْهُ وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ بِخُصُوصِهِ، وَبِأَنَّ الْأَمَةَ إِذَا عَتَقَتْ جَازَ لَهَا التَّصَرُّفُ بِنَفْسِهَا فِي أُمُورِهَا وَلَا حَجْرَ لِمُعْتِقِهَا عَلَيْهَا إِذَا كَانَتْ رَشِيدَةً، وَأَنَّهَا تَتَصَرَّفُ فِي كَسْبِهَا دُونَ إِذْنِ زَوْجِهَا إِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ.
وَفِيهِ جَوَازُ الصَّدَقَةِ عَلَى مَنْ يَمُونُهُ غَيْرُهُ لِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَمُونُ بَرِيرَةَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا قَبُولَهَا الصَّدَقَةَ، وَأَنَّ لِمَنْ أُهْدِيَ لِأَهْلِهِ شَيْءٌ أَنْ يُشْرِكَ نَفْسَهُ مَعَهُمْ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ وَهُوَ لَنَا هدِيَّةٌ وَأَنَّ مَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ جَازَ لَهُ أَكْلُ عَيْنِهَا إِذَا تَغَيَّرَ حُكْمُهَا، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُدْخِلَ إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا مَا لَا يَمْلِكُهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، وَأَنْ تَتَصَرَّفَ فِي بَيْتِهِ بِالطَّبْخِ وَغَيْرِهِ بَآلَاتِهِ وَوُقُودِهِ، وَجَوَازُ أَكْلِ الْمَرْءِ مَا يَجِدُهُ فِي بَيْتِهِ إِذَا غَلَبَ الْحِلُّ فِي الْعَادَةِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي تَعْرِيفُهُ بِمَا يَخْشَى تَوَقُّفَهُ عَنْهُ، وَاسْتِحْبَابُ السُّؤَالِ عَمَّا يُسْتَفَادُ بِهِ عِلْمٌ أَوْ أَدَبٌ أَوْ بَيَانُ حُكْمٍ أَوْ رَفْعُ شُبْهَةٍ وَقَدْ يَجِبُ، وَسُؤَالُ الرَّجُلِ عَمَّا لَمْ يَعْهَدَهُ فِي بَيْتِهِ، وَأَنَّ هَدِيَّةَ الْأَدْنَى لِلْأَعْلَى لَا تَسْتَلْزِمُ الْإِثَابَةَ مُطْلَقًا، وَقَبُولُ الْهَدِيَّةِ وَإِنْ نَزَرَ قَدْرُهَا جَبْرٌ لِلْمُهْدِي، وَأَنَّ الْهَدِيَّةَ تُمْلَكُ بِوَضْعِهَا فِي بَيْتِ الْمُهْدِي لَهُ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّصْرِيحِ بِالْقَبُولِ، وَأَنَّ لِمَنْ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ بِصَدَقَةٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِمَا شَاءَ وَلَا يَنْقُصُ أَجْرُ الْمُتَصَدِّقِ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ السُّؤَالُ عَنْ أَصْلِ الْمَالِ الْوَاصِلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلَا عَنِ الذَّبِيحَةِ إِذَا ذُبِحَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ مَنْ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ قَلِيلٌ لَا يَتَسَخَّطُهُ.
وَفِيهِ مُشَاوَرَةُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَسُؤَالُ الْعَالِمِ عَنِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَإِعْلَامُ الْعَالِمِ بِالْحُكْمِ لِمَنْ رَآهُ يَتَعَاطَى أَسْبَابَهُ وَلَوْ لَمْ يَسْأَلْ وَمُشَاوَرَةُ الْمَرْأَةِ إِذَا ثَبَتَ لَهَا حُكْمُ التَّخْيِيرِ فِي فِرَاقِ زَوْجِهَا أَوِ الْإِقَامَةِ عِنْدَهُ، وَأَنَّ عَلَى الَّذِي يُشَاوِرُ بَذْلَ النَّصِيحَةِ. وَفِيهِ جَوَازُ مُخَالَفَةِ الْمُشِيرِ فِيمَا يُشِيرُ بِهِ فِي غَيْرِ الْوَاجِبِ، وَاسْتِحْبَابُ شَفَاعَةِ الْحَاكِمِ فِي الرِّفْقِ بِالْخَصْمِ حَيْثُ لَا ضَرَرَ وَلَا إِلْزَامَ، وَلَا لَوْمَ عَلَى مَنْ خَالَفَ وَلَا غَضَبَ وَلَوْ عَظُمَ قَدْرُ الشَّافِعِ، وَتَرْجَمَ لَهُ النَّسَائِيُّ شَفَاعَةُ الْحَاكِمِ فِي الْخُصُومِ قَبْلَ فَصْلِ الْحُكْمِ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ الْقَبُولُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ التَّصْمِيمَ فِي الشَّفَاعَةِ لَا يَسُوغُ فِيمَا تَشُقُّ الْإِجَابَةُ فِيهِ عَلَى الْمَسْئُولِ بَلْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْعَرْضِ وَالتَّرْغِيبِ. وَفِيهِ جَوَازُ الشَّفَاعَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهَا الْمَشْفُوعُ لَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ مُغِيثًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَشْفَعَ لَهُ، كَذَا قِيلَ، وَقَدْ قَدَّمْتُ أَنَّ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ أَنَّ الْعَبَّاسَ هُوَ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُغِيثٌ سَأَلَ الْعَبَّاسَ فِي ذَلِكَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْعَبَّاسُ ابْتَدَأَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ شَفَقَةً مِنْهُ عَلَى مُغِيثٍ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِ الْمُؤْمِنِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ: فِيهِ أَنَّ الشَّافِعَ يُؤْجَرُ وَلَوْ لَمْ تَحْصُلْ إِجَابَتُهُ، وَأَنَّ الْمَشْفُوعَ عِنْدَهُ إِذَا كَانَ دُونَ قَدْرِ الشَّافِعِ لَمْ تَمْتَنِعِ الشَّفَاعَةُ، قَالَ: وَفِيهِ تَنْبِيهُ الصَّاحِبِ صَاحِبَهُ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ لِتَعْجِيبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعَبَّاسَ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، قَالَ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ نَظَرَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ كُلُّهُ بِحُضُورٍ وَفِكْرٍ، وَأَنَّ كُلَّ مَا خَالَفَ الْعَادَةَ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ وَيُعْتَبَرُ بِهِ. وَفِيهِ حُسْنُ أَدَبِ بَرِيرَةَ لِأَنَّهَا لَمْ تُفْصِحْ بِرَدِّ الشَّفَاعَةِ وَإِنَّمَا قَالَتْ لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. وَفِيهِ أَنَّ فَرْطَ الْحُبِّ يُذْهِبُ الْحَيَاءَ لِمَا ذُكِرَ مِنْ حَالِ مُغِيثٍ وَغَلَبَةِ الْوَجْدِ عَلَيْهِ حَتَّى لَمْ يَسْتَطِعْ كِتْمَانَ حُبِّهَا، وَفِي تَرْكِ النَّكِيرِ عَلَيْهِ بَيَانُ جَوَازِ قَبُولِ عُذْرِ مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِ مِمَّنْ يَقَعُ مِنْهُ مَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ إِذَا وَقَعَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذَا مَعْذِرَةُ أَهْلِ الْمَحَبَّةِ فِي اللَّهِ إِذَا حَصَلَ لَهُمُ الْوَجْدُ مِنْ سَمَاعِ مَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ الْإِشَارَةُ إلى أَحْوَالَهَمْ حَيْثُ
يَظْهَرُ مِنْهُمْ مَا لَا يَصْدُرُ عَنِ اخْتِيَارٍ مِنَ الرَّقْصِ وَنَحْوِهِ.
وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُتَنَافِرَيْنِ سَوَاءٌ كَانَا زَوْجَيْنِ أَمْ لَا، وَتَأْكِيدُ الْحُرْمَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ أَبُو وَلَدِكِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الشَّافِعَ يَذْكُرُ لِلْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ مَا يَبْعَثُ على قَبُولِهِ مِنْ مُقْتَضَى الشَّفَاعَةِ وَالْحَامِلِ عَلَيْهَا، وَفِيهِ جَوَازُ شِرَاءِ الْأَمَةِ دُونَ وَلَدِهَا وَأَنَّ الْوَلَدَ يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ وَالْحُكْمُ بِظَاهِرِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ. قُلْتُ: وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ أَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِ بَرِيرَةَ، وَالْكَلَامُ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ أَبُو وَلَدِهَا بِالْقُوَّةِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَفِيهِ جَوَازُ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَى أُمِّهِ. وَفِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ الثَّيِّبَ لَا إِجْبَارَ عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَتْ مَعْتُوقَةً، وَجَوَازُ خِطْبَةِ الْكَبِيرِ وَالشَّرِيفِ لِمَنْ هُوَ دُونَهُ. وَفِيهِ حُسْنُ الْأَدَبِ فِي الْمُخَاطَبَةِ حَتَّى مِنَ الْأَعْلَى مَعَ الْأَدْنَى، وَحُسْنُ التَّلَطُّفِ فِي الشَّفَاعَةِ.
وَفِيهِ أَنَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَخْطُبَ مُطَلَّقَتَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّده، وَأَنَّ خِطْبَةَ الْمُعْتَدَّةِ لَا تَحْرُمُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ إِذَا خَطَبَهَا لِمُطَلَّقِهَا، وَأَنَّ فَسْخَ النِّكَاحِ لَا رَجْعَةَ فِيهِ إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، وَأَنَّ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لَا لَوْمَ فِيهِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، وَجَوَازُ بُكَاءِ الْمُحِبِّ عَلَى فِرَاقِ حَبِيبِهِ وَعَلَى مَا يَفُوتُهُ مِنَ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَمِنَ الدِّينِيَّةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَأَنَّهُ لَا عَارَ عَلَى الرَّجُلِ فِي إِظْهَارِ حُبِّهِ لِزَوْجَتِهِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَبْغَضَتِ الزَّوْجَ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهَا إِكْرَاهُهَا عَلَى عِشْرَتِهِ، وَإِذَا أَحَبَّتْهُ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهَا التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، وَجَوَازُ مَيْلِ الرَّجُلِ إِلَى امْرَأَةٍ يَطْمَعُ فِي تَزْوِيجِهَا أَوْ رَجَعْتِهَا، وَجَوَازُ كَلَامِ الرَّجُلِ لِمُطَلَّقَتِهِ فِي الطُّرُقِ وَاسْتِعْطَافِهِ لَهَا وَاتِّبَاعِهَا أَيْنَ سَلَكَتْ كَذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحِلَّ الْجَوَازِ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ، وَجَوَازُ الْإِخْبَارِ عَمَّا يَظْهَرُ مِنْ حَالِ الْمَرْءِ وَإِنْ لَمْ تُفْصِحْ بِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْعَبَّاسِ مَا قَالَ.
وَفِيهِ جَوَازُ رَدِّ الشَّافِعِ الْمِنَّةَ عَلَى الْمَشْفُوعِ إِلَيْهِ بِقَبُولِ شَفَاعَتِهِ، لِأَنَّ قَوْلَ بَرِيرَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَتَأْمُرُنِي ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ نَعَمْ لَقَبِلَتْ شَفَاعَتَهُ، فَلَمَّا قَالَ لَا عُلِمَ أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهَا مَا فُهِمَ مِنَ الْمِنَّةِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ، كَذَا قِيلَ وَهُوَ مُتَكَلَّفٌ، بَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ بَرِيرَةَ عَلِمَتْ أَنَّ أَمْرَهُ وَاجِبُ الِامْتِثَالِ، فَلَمَّا عَرَضَ عَلَيْهَا مَا عَرَضَ اسْتَفْصَلَتْ هَلْ هُوَ أَمْرٌ فَيَجِبُ عَلَيْهَا امْتِثَالُهُ، أَوْ مَشُورَةٌ فَتَتَخَيَّرُ فِيهَا؟ وَفِيهِ أَنَّ كَلَامَ الْحَاكِمِ بَيْنَ الْخُصُومِ فِي مَشُورَةٍ وَشَفَاعَةٍ وَنَحْوِهِمَا لَيْسَ حُكْمًا. وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ سُئِلَ قَضَاءَ حَاجَةٍ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الطَّالِبِ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُهُ، لِأَنَّ عَائِشَةَ شَرَطَتْ أَنْ يَكُونَ لَهَا الْوَلَاءُ إِذَا أَدَّتِ الثَّمَنَ دَفْعَةً وَاحِدَةً. وَفِيهِ جَوَازُ أَدَاءِ الدَّيْنِ عَلَى الْمَدِينِ، وَأَنَّهُ يَبْرَأُ بِأَدَاءِ غَيْرِهِ عَنْهُ، وَإِفْتَاءُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ فِيمَا لَهَا حَظٌّ وَغَرَضٌ إِذَا كَانَ حَقًّا، وَجَوَازُ حُكْمِ الْحَاكِمِ لِزَوْجَتِهِ بِالْحَقِّ، وَجَوَازُ قَوْلِ مُشْتَرِي الرَّقِيقِ اشْتَرَيْتُهُ لِأُعْتِقَهُ تَرْغِيبًا لِلْبَائِعِ فِي تَسْهِيلِ الْبَيْعِ، وَجَوَازُ الْمُعَامَلَةِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَدَدًا إِذَا كَانَ قَدْرُهَا بِالْكِتَابَةِ مَعْلُومًا لِقَوْلِهَا أَعُدُّهَا وَلِقَوْلِهَا تِسْعُ أَوَاقٍ وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ جَوَازُ بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ. وَفِيهِ جَوَازُ عَقْدِ الْبَيْعِ بِالْكِتَابَةِ لِقَوْلِهِ خُذِيهَا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ.
وَفِيهِ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْآدَمِيِّ لِقَوْلِهِ شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ وَمِثْلُهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى وَفِيهِ جَوَازُ الِاشْتِرَاكِ فِي الرَّقِيقِ لِتَكَرُّرِ ذِكْرِ أَهْلِ بَرِيرَةَ فِي الْحَدِيثِ، وَفِي رِوَايَةٍ كَانَتْ لِنَاسٍ من الْأَنْصَارِ وَيَحْتَمِلُ مَعَ ذَلِكَ الْوَحْدَةُ وَإِطْلَاقُ مَا فِي الْخَبَرِ عَلَى الْمَجَازِ. وَفِيهِ أَنَّ الْأَيْدِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الْمِلْكِ، وَأَنَّ مُشْتَرِيَ السِّلْعَةِ لَا يُسْأَلُ عَنْ أَصْلِهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ رِيبَةً. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ إِظْهَارِ أَحْكَامِ الْعَقْدِ لِلْعَالِمِ بِهَا إِذَا كَانَ الْعَاقِدُ يَجْهَلُهَا. وَفِيهِ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُغَيِّرُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فَلَا يُحِلُّ حَرَامًا وَلَا عَكْسَهُ. وَفِيهِ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ الثِّقَةِ وَخَبَرِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَرِوَايَتَهُمَا. وَفِيهِ أَنَّ الْبَيَانَ بِالْفِعْلِ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِ، وَجَوَازُ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَفِيهِ أَنَّ الْحَاجَةَ إِذَا اقْتَضَتْ بَيَانَ حُكْمٍ عَامٍّ وَجَبَ إِعْلَانُهُ أَوْ نُدِبَ بِحَسَبِ الْحَالِ. وَفِيهِ جَوَازُ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى وَالِاخْتِصَارِ مِنَ الْحَدِيثِ،
وَالِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِهِ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، فَإِنَّ الْوَاقِعَةَ وَاحِدَةٌ وَقَدْ رُوِيَتْ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَزَادَ بَعْضُ الرُّوَاةِ مَا لَمْ يَذْكُرِ الْآخَرُ وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ عِنْدَ أَحَدِ من الْعُلَمَاءِ.
وَفِيهِ أَنَّ الْعِدَّةَ بِالنِّسَاءِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ عِدَّةَ الْحُرَّةِ، وَلَوْ كَانَ بِالرِّجَالِ لَأُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِعِدَّةِ الْإِمَاءِ. وَفِيهِ أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ إِذَا عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ تَعْتَدُّ بِحَيْضَةٍ فَهُوَ مَرْجُوحٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ أَصْلَهُ تَعْتَدُّ بِحَيْضٍ فَيَكُونُ الْمُرَادُ جِنْسَ مَا تَسْتَبْرِئُ بِهِ رَحِمَهَا لَا الْوَحْدَةُ وَفِيهِ تَسْمِيَةُ الْأَحْكَامِ سُنَنًا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا وَاجِبًا، وَأَنَّ تَسْمِيَةَ مَا دُونَ الْوَاجِبِ سُنَّةً اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ. وَفِيهِ جَوَازُ جَبْرِ السَّيِّدِ أَمَتَهُ عَلَى تَزْوِيجِ مَنْ لَا تَخْتَارُهُ إِمَّا لِسُوءِ خُلُقِهِ أَوْ خَلْقِهِ وَهِيَ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ بَرِيرَةَ كَانَتْ جَمِيلَةً غَيْرَ سَوْدَاءَ بِخِلَافِ زَوْجِهَا وَقَدْ زُوِّجَتْ مِنْهُ وَظَهَرَ عَدَمُ اخْتِيَارِهَا لِذَلِكَ بَعْدَ عِتْقِهَا. وَفِيهِ أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ قَدْ يُبْغِضُ الْآخَرَ وَلَا يُظْهِرُ لَهُ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بَرِيرَةُ مَعَ بُغْضِهَا مُغِيثًا كَانَتْ تَصِبرُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ وَلَا تُعَامِلُهُ بِمَا يَقْتضِيهِ الْبُغْضُ إِلَى أَنْ فَرَّجَ اللَّهِ عَنْهَا.
وَفِيهِ تَنْبِيهُ صَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى مَا وَجَبَ لَهُ إِذَا جَهِلَهُ، وَاسْتِقْلَالُ الْمُكَاتَبِ بِتَعْجِيزِ نَفْسِهِ، وَإِطْلَاقُ الْأَهْلِ عَلَى السَّادَةِ وَإِطْلَاقُ الْعَبِيدِ عَلَى الْأَرِقَّاءِ، وَجَوَازُ تَسْمِيَةِ الْعَبْدِ مُغِيثًا، وَأَنَّ مَالَ الْكِتَابَةِ لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ وَأَنَّ لِلْمُعْتِقِ أَنْ يَقْبَلَ الْهَدِيَّةَ مِنْ مُعْتِقِهِ وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي ثَوَابِ الْعِتْقِ، وَجَوَازُ الْهَدِيَّةِ لِأَهْلِ الرَّجُلِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانِهِ، وَقَبُولُ الْمَرْأَةِ ذَلِكَ حَيْثُ لَا رِيبَةَ، وَفِيهِ سُؤَالُ الرَّجُلِ عَمَّا لَمْ يَعْهَدْهُ فِي بَيْتِهِ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا مَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ أُمِّ زَرْعٍ حَيْثُ وَقَعَ فِي سِيَاقِ الْمَدْحِ وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا يَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ عَهِدَهُ وَفَاتَ فَلَا يَقُولُ لِأَهْلِهِ أَيْنَ ذَهَبَ؟ وَهُنَا سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ رَآهُ وَعَايَنَهُ ثُمَّ أُحْضِرَ لَهُ غَيْرُهُ فَسَأَلَ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ إِحْضَارَهُ لَهُ شُحًّا عَلَيْهِ بَلْ لِتَوَهُّمِ تَحْرِيمِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمُ الْجَوَازَ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَبْسِيطِ الْإِنْسَانِ فِي السُّؤَالِ عَنْ أَحْوَالِ مَنْزِلِهِ وَمَا عَهِدَهُ فِيهِ قَبْلُ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَعِنْدِي أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى خِلَافِ مَا انْبَنَى عَلَيْهِ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ بُنِيَ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِي اللَّحْمِ وَأَنَّهُ مِمَّا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، وَالثَّانِي بُنِيَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْ أَيْنَ هُوَ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِمَّا أُهْدِيَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ مِنْ بَعْضِ إِلْزَامِهَا كَأَقَارِبِهَا مَثَلًا وَلَمْ يَتَعَيَّنِ الْأَوَّلُ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ السُّؤَالُ عَنْ أَصْلِ الْمَالِ الْوَاصِلِ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يُظَنَّ تَحْرِيمُهُ أَوْ تَظْهَرُ فِيهِ شُبْهَةٌ، إِذْ لَمْ يَسْأَلْ صلى الله عليه وسلم عَمَّنْ تَصَدَّقَ عَلَى بَرِيرَةَ وَلَا عَنْ حَالِهِ، كَذَا قِيلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ إِلَى بَرِيرَةَ بِالصَّدَقَةِ فَلَمْ يَتِمَّ هَذَا.
18 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
5285 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَيْثٌ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ النَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا أَعْلَمُ مِنْ الْإِشْرَاكِ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنْ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ رَبُّهَا عِيسَى، وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} كَذَا لِلْأَكْثَرِ ; وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ إِلَى قَوْلِهِ {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} وَلَمْ يَبُتَّ الْبُخَارِيُّ حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ لِقِيَامِ الِاحْتِمَالِ عِنْدَهُ فِي تَأْوِيلِهَا، فَالْأَكْثَرُ أَنَّهَا عَلَى الْعُمُومِ وَأَنَّهَا خُصَّتْ
بِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُشْرِكَاتِ هُنَا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَالْمَجُوسُ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ فِي نِكَاحِ النَّصْرَانِيَّةِ وَقَوْلَهُ: لَا أَعْلَمُ مِنَ الْإِشْرَاكِ شَيْئًا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ رَبُّهَا عِيسَى وَهَذَا مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى اسْتِمْرَارِ حُكْمِ عُمُومِ آيَةِ الْبَقَرَةِ، فَكَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ مَنْسُوخَةٌ وَبِهِ جَزَمَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، وَرَدَّهُ النَّحَّاسُ فَحَمَلَهُ عَلَى التَّوَرُّعِ كَمَا سَيَأْتِي، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ عُمُومَ آيَةِ الْبَقَرَةِ خُصَّ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فَبَقِيَ سَائِرُ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّ عُمُومَ آيَةِ الْبَقَرَةِ أُرِيدَ بِهِ خُصُوصُ آيَةِ الْمَائِدَةِ، وَأَطْلَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ شَذَّ بِذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَوَائِلِ أَنَّهُ حَرَّمَ ذَلِكَ اهـ، لَكِنْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّ عَطَاءً كَرِهَ نِكَاحَ الْيَهُودِيَّاتِ وَالنَّصْرَانِيَّاتِ وَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمَاتُ قَلِيلٌ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ خَصَّ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ دُونَ حَالٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ عَلَى الرُّخْصَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالتَّنَزُّهِ عَنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَرِّمَهُنَّ. وَزَعَمَ ابْنُ الْمُرَابِطِ تَبَعًا لِلنَّحَّاسِ وَغَيْرِهِ أَنَّ هَذَا مُرَادُ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا لَكِنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ السِّيَاقِ، لَكِنَّ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ ابْنُ عُمَرَ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْمَنْعِ بِمَنْ يُشْرِكُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا مَنْ يُوَحِّدُ، وَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ آيَةَ الْحِلِّ عَلَى مَنْ لَمْ يُبَدِّلْ دِينَهُ مِنْهُمْ، وَقَدْ فَصَّلَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيَّةِ بَيْنَ مَنْ دَخَلَ آبَاؤُهَا فِي ذَلِكَ الدِّينِ قَبْلَ التَّحْرِيفِ أَوِ النَّسْخِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَذْهَبِ ابْنِ عُمَرَ بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ بَحْثٌ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ هِرَقْلَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى تَحْرِيمِ النِّسَاءِ الْمَجُوسِيَّاتِ، وَجَاءَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ تَسَرَّى بِمَجُوسِيَّةٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَوْرَدَهُ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَطَائِفَةٍ وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هُوَ مَحْجُوجٌ بِالْجَمَاعَةِ وَالتَّنْزِيلِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا إِجْمَاعَ مَعَ ثُبُوتِ الْخِلَافِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَمَّا التَّنْزِيلُ فَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَجُوسَ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} لَكِنْ لَمَّا أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تجْرِيَ عَلَيْهِمْ بَقِيَّةُ أَحْكَامِ الْكِتَابِيِّينَ، لَكِنْ أُجِيبَ عَنْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ أَنَّهُمُ اتَّبَعُوا فِيهِمُ الْخَبَرَ، وَلَمْ يَرِدْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَالذَّبَائِحِ، وَسَيَأْتِي تَعَرُّضٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
19 - بَاب نِكَاحِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْمُشْرِكَاتِ وَعِدَّتِهِنَّ
5286 -
حَدَّثَنَي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ، كَانُوا مُشْرِكِي أَهْلِ حَرْبٍ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ، وَمُشْرِكِي أَهْلِ عَهْدٍ لَا يُقَاتِلُهُمْ وَلَا يُقَاتِلُونَهُ وَكَانَ إِذَا هَاجَرَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ، فَإِذَا طَهُرَتْ حَلَّ لَهَا النِّكَاحُ، فَإِنْ هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ رُدَّتْ إِلَيْهِ، وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ مِنْهُمْ أَوْ أَمَةٌ فَهُمَا حُرَّانِ، وَلَهُمَا مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ مِثْلَ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ، وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ أَهْلِ الْعَهْدِ لَمْ يُرَدُّوا وَرُدَّتْ أَثْمَانُهُمْ.
5287 -
وَقَالَ عَطَاءٌ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتْ قَرِيبَةُ ابِنْة أَبِي أُمَيَّةَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَطَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَتْ أُمُّ الْحَكَمِ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ تَحْتَ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ الْفِهْرِيِّ، فَطَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمانَ الثَّقَفِيُّ.
قَوْلُهُ (بَابُ نِكَاحِ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكَاتِ وَعِدَّتِهِنَّ) أَيْ قَدْرِهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْحُرَّةِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَكْفِي أَنْ تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ.
قَوْلُهُ: (أَنْبَأَنَا هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ كَانَ فِي جُمْلَةِ أَحَادِيثَ حَدَّثَ بِهَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ عَطَاءٌ كَمَا قَالَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْحَدِيثِ: قَالَ وَقَالَ عَطَاءٌ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ بَعْدَ سِيَاقِهِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ مِثْلُ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عِلَّةٌ كَالَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ نُوحٍ، وَقَدْ قَدَّمْتُ الْجَوَابَ عَنْهَا، وَحَاصِلُهَا أَنَّ أَبَا مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيَّ وَمَنْ تَبِعَهُ جَزَمُوا بِأَنَّ عَطَاءً الْمَذْكُورَ هُوَ الْخُرَاسَانِيُّ، وَأَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ التَّفْسِيرَ وَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَنْ أَبِيهِ عُثْمَانَ عَنْهُ، وَعُثْمَانُ ضَعِيفٌ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ لَمْ يَسْمَعْ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَاصِلُ الْجَوَابُ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ عِنْدَ ابْنِ جُرَيْجٍ بِالْإِسْنَادَيْنِ، لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَى الْبُخَارِيِّ مَعَ تَشَدُّدِهِ فِي شَرْطِ الِاتِّصَالِ، مَعَ كَوْنِ الَّذِي نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ عَلِيُّ ابْنُ الْمَدِينِيِّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ الْمَشْهُورُ بِهِ، وَعَلَيْهِ يُعَوَّلُ غَالِبًا فِي هَذَا الْفَنِّ خُصُوصًا عِلَلَ الْحَدِيثِ. وَقَدْ ضَاقَ مَخْرَجُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ ثُمَّ عَلَى أَبِي نُعَيْمٍ فَلَمْ يُخْرِجَاهُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَفْسِهِ.
قَوْلُهُ: (لَمْ تُخْطَبْ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ) تَمَسَّكَ بِظَاهِرِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْمُرَادَ تَحِيضُ ثَلَاثَ حِيَضٍ، لِأَنَّهَا صَارَتْ بِإِسْلَامِهَا وَهِجْرَتِهَا مِنَ الْحَرَائِرِ بِخِلَافِ مَا لَوْ سُبِيَتْ. وَقَوْلُهُ فَإِنْ هَاجَرَ زَوْجُهَا مَعَهَا يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ مِنْهُمْ) أَيْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ مِثْلَ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْنِيَ بِحَدِيثِ مُجَاهِدٍ الَّذِي وَصَفَهُ بِالْمِثْلِيَّةِ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ بَعْدَ هَذَا وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ إِلَخْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ كَلَامًا آخَرَ يَتَعَلَّقُ بِنِسَاءِ أَهْلِ الْعَهْدِ وَهُوَ أَوْلَى، لِأَنَّهُ قَسَمَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَهْلُ حَرْبٍ، وَأَهْلُ عَهْدٍ. وَذَكَرَ حُكْمَ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ ثُمَّ حُكْمَ أَرِقَّائِهِمْ، فَكَأَنَّهُ أَحَالَ بِحُكْمِ نِسَاءِ أَهْلِ الْعَهْدِ عَلَى حَدِيثِ مُجَاهِدٍ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ حُكْمِ أَرِقَّائِهِمْ. وَحَدِيثُ مُجَاهِدٍ فِي ذَلِكَ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ فِي قَوْلُهُ:{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} أَيْ إِنْ أَصَبْتُمْ مَغْنَمًا مِنْ قُرَيْشٍ فَأَعْطُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا عِوَضًا، وَسَيَأْتِي بَسْطُ هَذَا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) هـ وَمَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ كَمَا بَيَّنْتُهُ قَبْلُ.
قَوْلُهُ: (كَانَتْ قُرَيْبَةُ) بِالْقَافِ وَالْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرَةٌ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَضَبَطَهَا الدِّمْيَاطِيُّ بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَبِعَهُ الذَّهَبِيُّ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ مِنْ طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ. وَكَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَاضِي فِي الشُّرُوطِ. وَلِلْأَكْثَرِ بِالتَّصْعِيرِ كَالَّذِي هُنَا، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ فِي هَذَا الِاسْمِ الْوَجْهَيْنِ، وَقَالَ شَيْخُنَا فِي الْقَامُوسِ بِالتَّصْغِيرِ وَقَدْ تُفْتَحُ.
قَوْلُهُ: (ابْنَةُ أَبِي أُمَيَّةَ) أَيِ ابْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَهِيَ أُخْتُ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَسْلَمَتْ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَفَتْحِ مَكَّةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي النَّسَائِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ فِي قِصَّةِ تَزْوِيجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَا فَفِيهِ: وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ
تُرْضِعُ زَيْنَبَ بِنْتَهَا فَجَاءَ عَمَّارٌ فَأَخَذَهَا، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَيْنَ زُنَابُ؟ فَقَالَتْ قُرَيْبَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ صَادَفَهَا عِنْدَهَا: أَخَذَهَا عَمَّارٌ الْحَدِيثَ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا هَاجَرَتْ قَدِيمًا لِأَنَّ تَزْوِيجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأُمِّ سَلَمَةَ كَانَ بَعْدَ أُحُدٍ وَقَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ جَاءَتْ إِلَى الْمُدِينَةِ زَائِرَةً لِأُخْتِهَا قَبْلَ أَنْ تُسْلِمَ، أَوْ كَانَتْ مُقِيمَةً عِنْدَ زَوْجِهَا عُمَرَ عَلَى دِينِهَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْآيَةُ، وَلَيْسَ فِي مُجَرَّدِ كَوْنِهَا كَانَتْ حَاضِرَةً عِنْدَ تَزْوِيجِ أُخْتِهَا أَنْ تَكُونَ حِينَئِذٍ مُسْلِمَةً.
لَكِنْ يَرُدُّهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ لَمَّا نَزَلَتْ:{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَفِيهَا: فَطَلَّقَ عُمَرُ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ بِمَكَّةَ فَهَذَا يَرُدُّ أَنَّهَا كَانَتْ مُقِيمَةً وَلَا يَرُدُّ أَنَّهَا جَاءَتْ زَائِرَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأُمِّ سَلَمَةَ أُخْتَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا تُسَمَّى قُرَيْبَةَ تَقَدَّمَ إِسْلَامُ إِحْدَاهِمَا وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةً عِنْدَ تَزْوِيجِ أُمِّ سَلَمَةَ وَتَأَخَّرَ إِسْلَامُ الْأُخْرَى وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ هُنَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الثَّانِيَ أَنَّ ابْنَ سَعْدٍ قَالَ فِي الطَّبَقَاتِ قُرَيْبَةُ الصُّغْرَى بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ أُخْتُ أُمِّ سَلَمَةَ تَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَحَفْصَةَ، وَأُمَّ حَكِيمٍ، وَسَاقَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّ قُرَيْبَةَ قَالَتْ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ فِي خُلُقِهِ شِدَّةٌ: لَقَدْ حَذَّرُونِي مِنْكَ، قَالَ: فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ، قَالَتْ: لَا أَخْتَارُ عَلَى ابْنِ الصِّدِّيقِ أَحَدًا، فَأَقَامَ عَلَيْهَا وَتَقَدَّمَ فِي الشُّرُوطِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي آخِرِ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ مَرْوَانَ، وَالْمِسْوَرِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ: وَبَلَغْنَا أَنَّ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ قُرَيْبَةَ وَابْنَةَ أَبِي جَرْوَلٍ، فَتَزَوَّجَ قُرَيْبَةَ مُعَاوِيَةُ وَتَزَوَّجَ الْأُخْرَى أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا هُنَا وَزَائِدٌ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مِثْلُهُ لَكِنْ قَالَ: وَتَزَوَّجَ الْأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا تَزَوَّجَ قَبْلَ الْآخِرِ، وَأَمَّا بِنْتُ أَبِي جَرْوَلٍ فَوَقَعَ فِي الْمَغَازِي الْكُبْرَى لِابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهَا أُمُّ كُلْثُومٍ
بِنْتُ عَمْرِو بْنِ جَرْوَلٍ فَكَأَنَّ أَبَاهَا كَنَّى بِاسْمِ وَالِدِهِ، وَجَرْوَلٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ فِي الشُّرُوطِ أَنَّ الْقَائِلَ: وَبَلَغْنَا هُوَ الزُّهْرِيُّ، وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ مَنْ وَصَلَهُ عَنْهُ مِنَ الرُّوَاةِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ مِنْ رِوَايَةِ بَنِي طَلْحَةَ مُسَلْسَلًا بِهِمْ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} طَلَّقْتُ امْرَأَتِي أَرْوَى بِنْتَ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَطَلَّقَ عُمَرُ قُرَيْبَةَ وَأُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ جَرْوَلٍ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ طَلَّقَ عُمَرُ قُرَيْبَةَ وَأُمَّ كُلْثُومٍ وَطَلَّقَ طَلْحَةُ أَرْوَى بِنْتَ رَبِيعَةَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْإِسْلَامُ، حَتَّى نَزَلَتْ:{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَتْ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي.
وَاخْتُلِفَ فِي تَرْكِ رَدِّ النِّسَاءِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ مَعَ وُقُوعِ الصُّلْحِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ رَدُّوهُ وَمَنْ جَاءَ مِنَ الْمُسْمَلِينَ إِلَيْهِمْ لَمْ يَرُدُّوهُ هَلْ نُسِخَ حُكْمُ النِّسَاءِ مِنْ ذَلِكَ، فَمُنِعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رَدِّهِنَّ أَوْ لَمْ يَدْخُلْنَ فِي أَصْلِ الصُّلْحِ، أَوْ هُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ؟ وَقَدْ تَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِالثَّانِي بِمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عَلَى أَنْ لَا يَأْتِيَكَ مِنَّا رَجُلٌ إِلَّا رَدَدْتَهُ فَمَفْهُومُهُ أَنَّ النِّسَاءَ لَمْ يَدْخُلْنَ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانِ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: رُدَّ عَلَيْنَا مَنْ هَاجَرَ مِنْ نِسَائِنَا، فَإِنَّ شَرْطَنَا أَنَّ مَنْ أَتَاكَ مِنَّا أَنْ تَرُدَّهُ عَلَيْنَا.
فَقَالَ: كَانَ الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ وَلَمْ يَكُنْ فِي النِّسَاءِ، وَهَذَا لَوْ ثَبَتَ كَانَ قَاطِعًا لِلنِّزَاعِ، لَكِنْ يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ وَالثَّالِثَ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الشُّرُوطِ أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ لَمَّا هَاجَرَتْ جَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ رَدَّهَا فَلَمْ يَرُدَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ:{إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ قَوْلُهُ فِيهَا:{فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} وَذَكَرَ ابْنُ الطِّلَاعِ فِي أَحْكَامِهِ أَنَّ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ هَاجَرَتْ فَأَقْبَلَ زَوْجُهَا فِي طَلَبِهَا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَرَدَّ عَلَى زَوْجِهَا
مَهْرَهَا وَالَّذِي أَنْفَقَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَرُدَّهَا، وَاسْتُشْكِلَ هَذَا بِمَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ مَاتَ عَنْهَا سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ وَهُوَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهَا تَقَدَّمَتْ هِجْرَتُهَا وَهِجْرَةُ زَوْجِهَا، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ إِنَّمَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ أَنْ هَاجَرَتْ، وَيَكُونُ الزَّوْجُ الَّذِي جَاءَ فِي طَلَبِهَا وَلَمْ تُرَدَّ عَلَيْهِ آخَرَ لَمْ يُسْلِمْ يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي أَوَّلِ الشُّرُوطِ أَسْمَاءً عِدَّةً مِمَّنْ هَاجَرَ مِنْ نِسَاءِ الْكُفَّارِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ.
20 - بَاب إِذَا أَسْلَمَتْ الْمُشْرِكَةُ أَوْ النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الذِّمِّيِّ أَوْ الْحَرْبِيِّ،
وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا أَسْلَمَتْ النَّصْرَانِيَّةُ قَبْلَ زَوْجِهَا بِسَاعَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، وَقَالَ دَاوُدُ عَنْ إِبْراهِيمَ الصَّائِغِ: سُئِلَ عَطَاءٌ عَنْ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ أَسْلَمَتْ ثُمَّ أَسْلَمَ زَوْجُهَا فِي الْعِدَّةِ أَهِيَ امْرَأَتُهُ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَشَاءَ هِيَ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ وَصَدَاقٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ يَتَزَوَّجُهَا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ فِي مَجُوسِيَّيْنِ أَسْلَمَا: هُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَأَبَى الْآخَرُ بَانَتْ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ: امْرَأَةٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ جَاءَتْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ أَيُعَاوَضُ زَوْجُهَا مِنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} قَالَ: لَا، إِنَّمَا كَانَ ذَلكَ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَهْدِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا كُلُّهُ فِي صُلْحٍ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ قُرَيْشٍ.
5288 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ. ح. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَتْ الْمُؤْمِنَاتُ إِذَا هَاجَرْنَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَمْتَحِنُهُنَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ قَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: انْطَلِقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ، لَا وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ، غَيْرَ أَنَّهُ بَايَعَهُنَّ بِالْكَلَامِ، وَاللَّهِ مَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النِّسَاءِ إِلَّا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ، يَقُولُ لَهُنَّ إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ: قَدْ بَايَعْتُكُنَّ، كَلَامًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا أَسْلَمَتِ الْمُشْرِكَةُ أَوِ النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الذِّمِّيِّ أَوِ الْحَرْبِيِّ) كَذَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ النَّصْرَانِيَّةِ وَهُوَ مِثَالٌ وَإِلَّا فَالْيَهُودِيَّةُ كَذَلِكَ، فَلَوْ عَبَّرَ بِالْكِتَابِيَّةِ لَكَانَ أَشْمَلَ، وَكَأَنَّهُ رَاعَى لَفْظَ الْأَثَرِ الْمَنْقُولِ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَجْزِمْ بِالْحُكْمِ لِإِشْكَالِهِ، بَلْ أَوْرَدَ التَّرْجَمَةَ مَوْرِدَ السُّؤَالِ فَقَطْ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَتُهُ أَنَّ دَلِيلَ الْحُكْمِ إِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لَا يَجْزِمُ بِالْحُكْمِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّرْجَمَةِ بَيَانُ حُكْمِ إِسْلَامِ الْمَرْأَةِ قَبْلَ زَوْجِهَا هَلْ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِمُجَرَّدِ إِسْلَامِهَا، أَوْ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ، أَوْ يُوقَفُ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ اسْتَمَرَّ النِّكَاحُ وَإِلَّا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا؟ وَفِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ وَتَفَاصِيلُ يَطُولُ شَرْحُهَا، وَمَيْلُ الْبُخَارِيِّ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ خَالِدٍ) هُوَ
الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ يَقَعْ لِي مَوْصُولًا عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ، لَكِنْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَامِّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ: (إِذَا أَسْلَمَتِ النَّصْرَانِيَّةُ قَبْلَ زَوْجِهَا بِسَاعَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ) وَهُوَ عَامٌّ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا، وَلَكِنْ قَوْلُهُ: حَرُمَتْ عَلَيْهِ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْمُرَادِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فَهِيَ أَمْلَكُ بِنَفْسِهَا وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ تَكُونُ تَحْتَ الْيَهُودِيِّ أَوِ النَّصْرَانِيِّ فَتُسْلِمُ فَقَالَ: يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا الْإِسْلَامُ، يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ دَاوُدُ) هُوَ ابْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، وَاسْمُ أَبِي الْفُرَاتِ عَمْرُو بْنُ الْفُرَاتِ، وَإِبْرَاهِيمُ الصَّائِغُ هُوَ ابْنُ مَيْمُونٍ.
قَوْلُهُ: (سُئِلَ عَطَاءٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ (عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ أَسْلَمَتْ ثُمَّ أَسْلَمَ زَوْجُهَا فِي الْعِدَّةِ أَهِيَ امْرَأَتُهُ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَشَاءَ هِيَ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ وَصَدَاقٍ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَطَاءٍ بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَلَا تَنْتَظِرُ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ إِذَا أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ يَتَزَوَّجُهَا) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّهُ إِلَخْ) هَذَا ظَاهِرٌ فِي اخْتِيَارِهِ الْقَوْلَ الْمَاضِيَ فَإِنَّهُ كَلَامُ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ مِنْهُ لِتَقْوِيَةِ قَوْلِ عَطَاءٍ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ مُعَارِضٌ فِي الظَّاهِرِ لِرِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ وَهِيَ قَوْلُهُ: لَمْ تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ كَمَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: لَمْ تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ انْتِظَارَ إِسْلَامِ زَوْجِهَا مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا يَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّ تَأْخِيرَ الْخِطْبَةِ إِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِ الْمُعْتَدَّةِ لَا تُخْطَبُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَعَلَى هَذَا الثَّانِي لَا يَبْقَى بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ تَعَارُضٌ، وَبِظَاهِرِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا وَعَطَاءٍ قَالَ طَاوُسٌ، وَالثَّوْرِيُّ وَفُقَهَاءُ الْكُوفَةِ، وَوَافَقَهُمْ أَبُو ثَوْرٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَإِلَيْهِ جَنَحَ الْبُخَارِيُّ، وَشَرَطَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَنْ يُعْرَضَ عَلَى زَوْجِهَا الْإِسْلَامَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فَيَمْتَنِعُ إِنْ كَانَا مَعًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَبِقَوْلِ مُجَاهِدٍ قَالَ قَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقِصَّةِ أَبِي سُفْيَانَ لَمَّا أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فِي لَيْلَةِ دُخُولِ الْمُسْلِمِينَ مَكَّةَ فِي الْفَتْحِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي، فَإِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ أَخَذَتِ امْرَأَتُهُ هِنْدُ بِنْتُ عُقبَةَ بِلِحْيَتِهِ وَأَنْكَرَتْ عَلَيْهِ إِسْلَامَهُ فَأَشَارَ عَلَيْهَا بِالْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَتْ بَعْدُ، وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَلَا ذَكَرَ تَجْدِيدَ عَقْدٍ، وَكَذَا وَقَعَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَسْلَمَتْ نِسَاؤُهُمْ قَبْلَهُمْ كَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِمَا
وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ جُدِّدَتْ عُقُودُ أَنْكِحَتِهِمْ، وَذَلِكَ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَغَازِي لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ عَلَى أَنَّ إِسْلَامَ الرَّجُلِ وَقَعَ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ امْرَأَةً هَاجَرَتْ وَزَوْجُهَا مُقِيمٌ بِدَارِ الْحَرْبِ إِلَّا فَرَّقَتْ هِجْرَتُهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، فَهَذَا مُحْتَمِلٌ لِلْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ قَاطِعَةً وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَوْقُوفَةً وَأَخْرَجَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفَيْهِمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ أَنَّ نَصْرَانِيًّا أَسْلَمَتِ امْرَأَتُهُ فَخَيَّرَهَا عُمَرُ إِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ وَإِنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ فِي مَجُوسِيَّيْنِ أَسْلَمَا: هُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا فَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ) بِالْإِسْلَامِ (لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا). أَمَّا أَثَرُ الْحَسَنِ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: فَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ فَقَدِ انْقَطَعَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ النِّكَاحِ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ صَحِيحٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ وَأَمَّا أَثَرُ قَتَادَةَ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: فَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِالْإِسْلَامِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا إِلَّا بِخِطْبَةٍ وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ وَكِتَابُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَحْوُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ امْرَأَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ جَاءَتْ
إِلَى الْمُسْلِمِينَ أَيُعَاوَضُ زَوْجُهَا مِنْهَا) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ أَيُعَاضُ بِغَيْرِ وَاوٍ.
وَقَوْلُهُ: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} قَالَ: لَا إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَهْدِ). وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَرَأَيْتَ الْيَوْمَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ فَذَكَرَهُ سَوَاءً، وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوَ قَوْلِ مُجَاهِدٍ الْآتِي وَزَادَ: وَقَدِ انْقَطَعَ ذَلِكَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَلَا يُعَاوَضُ زَوْجُهَا مِنْهَا بِشَيْءٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ هَذَا كُلُّهُ فِي صُلْحٍ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ قُرَيْشٍ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} قَالَ: مَنْ ذَهَبَ مِنْ أَزْوَاجِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْكُفَّارِ فَلْيُعْطِهِمُ الْكُفَّارُ صَدُقَاتِهِنَّ وَلْيُمْسِكُوهُنَّ، وَمَنْ ذَهَبَ مِنْ أَزْوَاجِ الْكُفَّارِ إِلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَكَذَلِكَ، هَذَا كُلُّهُ فِي صُلْحٍ كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الشُّرُوطِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: بَلَغْنَا أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا أَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا بِمَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ، أَيْ أَبَوْا أَنْ يَعْمَلُوا بِالْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا جَاءَتْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مُسْلِمَةً لَمْ يَرُدَّهَا الْمُسْلِمُونَ إِلَى زَوْجِهَا الْمُشْرِكِ بَلْ يُعْطُونَهُ مَا أُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ صَدَاقٍ وَنَحْوِهِ وَكَذَا بِعَكْسِهِ، فَامْتَثَلَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ وَأَعْطَوْهُمْ، وَأَبَى الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَمْتَثِلُوا ذَلِكَ فَحَبَسُوا مَنْ جَاءَتْ إِلَيْهِمْ مُشْرِكَةً وَلَمْ يُعْطُوا زَوْجَهَا الْمُسْلِمَ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا، فَلِهَذَا نَزَلَتْ:{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} قَالَ: وَالْعَقِبُ مَا يُؤَدِّي الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَنْ هَاجَرَتِ امْرَأَتُهُ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى الْكُفَّارِ.
وَأَخْرَجَ هَذَا الْأَثَرَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَفِيهِ: فَلَوْ ذَهَبَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ رَدَّ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى زَوْجِهَا النَّفَقَةَ الَّتِي أَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنَ الْعَقَبِ الَّذِي بِأَيْدِيهِمُ الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يَرُدُّوهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ نَفَقَاتِهِمُ الَّتِي أَنْفَقُوا عَلَى أَزْوَاجِهِمُ اللَّاتِي آمَنَّ وَهَاجَرْنَ، ثُمَّ رَدُّوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَضْلًا إِنْ كَانَ بَقِيَ لَهُمْ وَوَقَعَ فِي الْأَصْلِ: فَأَمَرَ أَنْ يُعْطَى مَنْ ذَهَبَ لَهُ زَوْجٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَنْفَقَ مِنْ صَدَاقِ نِسَاءِ الْكُفَّارِ اللَّاتِي هَاجَرْنَ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْعَقَبَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ: {فَعَاقَبْتُمْ} أَيْ أَصَبْتُمْ مِنْ صَدَقَاتِ الْمُشْرِكَاتِ عِوَضَ مَا فَاتَ مِنْ صَدَقَاتِ الْمُسْلِمَاتِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ أَيْ أَصَبْتُمْ غَنِيمَةً فَأَعْطُوا مِنْهَا، وَبِهِ صَرَّحَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ كَمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، لَكِنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنَ الْجِهَةِ الْأَوْلَى شَيْءٌ، وَهُوَ حَمْلٌ حَسَنٌ.
وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ: وَمَا يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ ارْتَدَّتْ بَعْدَ إِيمَانِهَا وَهَذَا النَّفْيُ لَا يَرُدُّهُ ظَاهِرُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْقِصَّةُ، لِأَنَّ مَضْمُونَ الْقِصَّةِ أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ الْمُسْلِمِينَ ذَهَبَتْ إِلَى زَوْجِهَا الْكَافِرِ فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَ زَوْجَهَا الْمُسْلِمَ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ مُسْلِمَةً فَالنَّفْيُ مَخْصُوصٌ بِالْمُهَاجِرَاتِ فَيَحْتَمِلُ كَوْنُ مَنْ وَقَعَ مِنْهَا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْمُهَاجِرَاتِ كَالْأَعْرَابِيَّاتِ مَثَلًا، أَوِ الْحَصْرِ عَلَى عُمُومِهِ فَتَكُونُ نَزَلَتْ فِي الْمَرْأَةِ الْمُشْرِكَةِ إِذَا كَانَتْ تَحْتَ مُسْلِمٍ مَثَلًا فَهَرَبَتْ مِنْهُ إِلَى الْكُفَّارِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ يُونُسَ الْمَاضِيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي أُمِّ الْحَكَمِ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ ارْتَدَّتْ فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ ثَقَفِيٌّ، وَلَمْ تَرْتَدَّ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ غَيْرُهَا، ثُمَّ أَسْلَمَتْ مَعَ ثَقِيفٍ حِينَ أَسْلَمُوا، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا اسْتُثْنِيَ مِنَ الْحَصْرِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، لِأَنَّ أُمَّ الْحَكَمِ هِيَ أُخْتُ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ، وَظَاهِرُ سِيَاقِهِ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} مُشْرِكَةً وَأَنَّ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ فَارَقَهَا لِذَلِكَ فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ الثَّقَفِيُّ، فَهَذَا أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ.
(تَنْبِيهٌ): اسْتَطْرَدَ الْبُخَارِيُّ مِنْ أَصْلِ تَرْجَمَةِ الْبَابِ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِشَرْحِ آيَةِ الِامْتِحَانِ، فَذَكَرَ أَثَرَ عَطَاءٍ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُعَاوَضَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ
مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} ثُمَّ ذَكَرَ أَثَرَ مُجَاهِدٍ الْمُقَوِّيَ لِدَعْوَى عَطَاءٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ خَاصًّا بِذَلِكَ الْعَهْدِ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ وَأَنَّ ذَلِكَ انْقَطَعَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ تَقْرِيرِ الْمُسْلِمَةِ تَحْتَ الْمُشْرِكِ لِانْتِظَارِ إِسْلَامِهِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ مَنْسُوخٌ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآثَارُ مِنِ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِأُولَئِكَ، وَأَنَّ الْحُكْمَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَنْ أَسْلَمَتْ أَنْ لَا تُقَرَّ تَحْتَ زَوْجِهَا الْمُشْرِكِ أَصْلًا وَلَوْ أَسْلَمَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ حَدِيثَانِ مُتَعَارِضَانِ:
أَحَدُهُمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ وَكَانَ إِسْلَامُهَا قَبْلَ إِسْلَامِهِ بِسِتِّ سِنِينَ عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا وَأَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا بَأْسَ بِإِسْنَادِهِ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ بَعْدَ سَنَتَيْنِ، وَفِي أُخْرَى بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَهُوَ اخْتِلَافٌ جُمِعَ بَيْنَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسِّتِّ مَا بَيْنَ هِجْرَةِ زَيْنَبَ وَإِسْلَامِهِ وَهُوَ بَيِّنٌ فِي الْمَغَازِي، فَإِنَّهُ أُسِرَ بِبَدْرٍ فَأَرْسَلَتْ زَيْنَبُ مِنْ مَكَّةَ فِي فَدَائِهِ فَأُطْلِقَ لَهَا بِغَيْرِ فَدَاءٍ، وَشَرَطَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَ لَهُ زَيْنَبَ فَوَفَّى لَهُ بِذَلِكَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَقِّهِ: حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي، وَوَعَدَنِي فَوَفَّى لِي وَالْمُرَادُ بِالسَّنَتَيْنِ أَوِ الثَّلَاثِ مَا بَيْنَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} وَقُدُومِهِ مُسْلِمًا فَإِنَّ بَيْنَهُمَا سَنَتَيْنِ وَأَشْهُرًا.
الْحَدِيثُ الثَّانِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِمَهْرٍ جَدِيدٍ وَنِكَاحٍ جَدِيدٍ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ. ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ أَنَّهُ حَدَّثَ بِالْحَدِيثَيْنِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَعَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ ثُمَّ قَالَ يَزِيدُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَقْوَى إِسْنَادًا، وَالْعَمَلُ عَلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، يُرِيدُ عَمَلَ أَهْلِ الْعِرَاقِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا يُعْرَفُ وَجْهُهُ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ رَدَّهَا إِلَيْهِ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ أَوْ بَعْدَ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ مُشْكِلٌ لِاسْتِبْعَادِ أَنْ تَبْقَى فِي الْعِدَّةِ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَلَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ إِلَى جَوَازِ تَقْرِيرِ الْمُسْلِمَةِ تَحْتَ الْمُشْرِكِ إِذَا تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ عَنْ إِسْلَامِهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَمِمَّنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الظَّاهِرِ قَالَ بِجَوَازِهِ وَرَدِّهِ بِالْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ، وَتُعُقِّبَ بِثُبُوتِ الْخِلَافِ فِيهِ قَدِيمًا وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ عَلِيٍّ وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُمَا بِطُرُقٍ قَوِيَّةٍ، وَبِهِ أَفْتَى حَمَّادٌ شَيْخُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَجَابَ الْخَطَّابِيُّ عَنِ الْإِشْكَالِ بِأَنَّ بَقَاءَ الْعِدَّةِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ مُمْكِنٌ وَإِنْ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ غَالِبًا بِهِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتِ الْمُدَّةُ إِنَّمَا هيَ سَنَتَانِ وَأَشْهُرٌ فَإِنَّ الْحَيْضَ قَدْ يُبْطِئُ عَنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لِعَارِضِ عِلَّةٍ أَحْيَانًا. وَبِحَاصِلِ هَذَا أَجَابَ الْبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ أَوْلَى مَا يَعْتَمِدُ فِي ذَلِكَ. وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ الْمُفْرَدِ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَعِلَّتُهُ تَدْلِيسُ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، وَلَهُ عِلَّةٌ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ وَهِيَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ أَنَّ حَجَّاجًا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَنِ الْعَزْرَمِيِّ، وَالْعَزْرَمِيُّ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ، قَالَ: وَالْعَزْرَمِيُّ لَا يُسَاوِي حَدِيثُهُ شَيْئًا، قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا أُقِرَّا عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ.
وَجَنَحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى تَرْجِيحِ حَدِيثِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يُخَالِفُهُ قَالَ: وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا، فَحَمَلَ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ أَيْ بِشُرُوطِهِ، وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا أَيْ لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا، قَالَ: وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ تُعَضِّدُهُ الْأُصُولُ، وَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِوُقُوعِ عَقْدٍ جَدِيدٍ وَمَهْرٍ جَدِيدٍ وَالْأَخْذُ بِالصَّرِيحِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِالْمُحْتَمَلِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُحْكَى
عَنْهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، فَإِنْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ الْمُخَرَّجَةُ عَنْهُ فِي السُّنَنِ ثَابِتَةً فَلَعَلَّهُ كَانَ يَرَى تَخْصِيصَ مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ أَبِي الْعَاصِ بِذَلِكَ الْعَهْدِ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ عَنْ أَتْبَاعِهِ كَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَلِهَذَا أَفْتَى بِخِلَافِ ظَاهِرِ مَا جَاءَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ، عَلَى أَنَّ الْخَطَّابِيَّ قَالَ فِي إِسْنَادِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَذِهِ نُسْخَةٌ ضَعَّفَهَا عَلِيُّ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، غَيْرَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ رَجَّحُوا إِسْنَادَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ اهـ. وَالْمُعْتَمَدُ تَرْجِيحُ إِسْنَادِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ لِمَا تَقَدَّمَ، وَلِإِمْكَانِ حَمْلِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى وَجْهٍ مُمْكِنٍ.
وَادَّعَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْسُوخٌ وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ ابْنَتَهُ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ بَدْرٍ لَمَّا أُسِرَ فِيهَا ثُمَّ افْتَدَى وَأُطْلِقَ، وَأَسْنَدَ ذَلِكَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنْ ثَبَتَ عَنْهُ فَهُوَ مُؤَوَّلٌ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً عِنْدَهُ بِمَكَّةَ، وَهِيَ الَّتِي أَرْسَلَتْ فِي افْتِدَائِهِ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي الْمَغَازِي، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ رَدَّهَا أَقَرَّهَا، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ. وَالثَّابِتُ أَنَّهُ لَمَّا أُطْلِقَ اشْتُرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهَا فَفَعَلَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا رَدَّهَا عَلَيْهِ حَقِيقَةً بَعْدَ إِسْلَامِهِ. ثُمَّ حَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِمْ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِطَرِيقٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو كَانَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْكُفَّارِ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَائِزًا فَلِذَلِكَ قَالَ: رَدَّهَا عَلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ وَلَمْ يَطَّلِعِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى ذَلِكَ فَلِذَلِكَ قَالَ: رَدَّهَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَظُنُّ بِالصَّحَابَةِ أَنْ يَجْزِمُوا بِحُكْمٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْبِنَاءَ بِشَيْءٍ قَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ، وَكَيْفَ يُظَنُّ بِابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ نُزُولُ آيَةِ الْمُمْتَحِنَةِ وَالْمَنْقُولُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ عَنْهُ يَقْتَضِي اطْلَاعَهُ عَلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ تَحْرِيمُ اسْتِقْرَارِ الْمُسْلِمَةِ تَحْتَ الْكَافِرِ، فَلَوْ قُدِّرَ اشْتِبَاهُهُ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجُزِ اسْتِمْرَارُ الِاشْتِبَاهِ عَلَيْهِ بَعْدَهُ حَتَّى يُحَدِّثَ بِهِ بَعْدَ دَهْرٍ طَوِيلٍ، وَهُوَ يَوْمُ حَدَّثَ بِهِ يَكَادُ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ أَهْلِ عَصْرِهِ.
وَأَحْسَنُ الْمَسَالِكِ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ تَرْجِيحُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا رَجَّحَهُ الْأَئِمَّةُ وَحَمْلُهُ عَلَى تَطَاوُلِ الْعِدَّةِ فِيمَا بَيْنَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ وَإِسْلَامِ أَبِي الْعَاصِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ فَضْلًا عَنْ مُطْلَقِ الْجَوَازِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ مَا مُلَخَّصُهُ: إِنَّ قَوْلَهُ: رَدَّهَا إِلَيْهِ بَعْدَ كَذَا مُرَادُهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَإِلَّا فَإِسْلَامُ أَبِي الْعَاصِ كَانَ قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ تَحْرِيمُ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الْمُشْرِكِ. هَكَذَا زَعَمَ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَغَازِي أَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ فِي الْهُدْنَةِ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ. وَقَدْ سَلَكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِيهِ مَسْلَكًا آخَرَ فَقَرَأْتُ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ لِلْعِمَادِ بْنِ كَثِيرٍ بعْدَ ذِكْرِ بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الظَّاهِرُ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا، وَضَعَّفَ رِوَايَةَ مَنْ قَالَ: جَدَّدَ عَقْدَهَا، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَسْلَمَتْ وَتَأَخَّرَ إِسْلَامُ زَوْجِهَا أَنَّ نِكَاحَهَا لَا يَنْفَسِخُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ بَلْ تَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ أَوْ تَتَرَبَّصَ إِلَى أَنْ يُسْلِمَ فَيَسْتَمِرَّ عَقدُهُ عَلَيْهَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: فَإِنْ هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ رُدَّتْ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي شَأْنِ الِامْتِحَانِ وَبَيَانِهِ لِشِدَّةِ تَعَلُّقِهِ بِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ) ذَكَرَ أَبُو مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَصَلَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَيْضًا الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ وَسَيَأْتِي اللَّفْظُ فِي الْبُخَارِيِّ كَرِوَايَةِ يُونُسَ، فَإِنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ بْنِ السَّرْحِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ كَذَلِكَ، وَأَمَّا لَفْظُ رِوَايَةِ عَقِيلٍ فَتَقَدَّمَتْ فِي أَوَّلِ الشُّرُوطِ، وَأَشَارَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى أَنَّ رِوَايَةَ عَقِيلٍ الْمَذْكُورَةَ فِي الْبَابِ لَا تُخَالِفُهَا.
قَوْلُهُ: (كَانَتِ الْمُؤْمِنَاتُ إِذَا هَاجَرْنَ) أَيْ مِنْ
مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ عَامِ الْفَتْحِ.
قَوْلُهُ: (يَمْتَحِنُهُنَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) أَيْ يَخْتَبِرُهُنَّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِيمَانِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى ظَاهِرِ الْحَالِ دُونَ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا فِي الْقُلُوبِ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ}
قَوْلُهُ: (مُهَاجِرَاتٌ) جَمْعُ مُهَاجِرَةٍ وَالْمُهَاجَرَةُ بِفَتْحِ الْجِيمِ الْمُغَاضَبَةُ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَصْلُ الْهِجْرَةِ خُرُوجُ الْبَدْوِيِّ مِنَ الْبَادِيَةِ إِلَى الْقَرْيَةِ وَإِقَامَتُهُ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِهَا هَهُنَا خُرُوجُ النِّسْوَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُسْلِمَاتٍ.
قَوْلُهُ: (إِلَى آخِرِ الْآيَةِ) يَحْتَمِلُ الْآيَةَ بِعَيْنِهَا وَآخِرُهَا: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْآيَةِ الْقِصَّةَ وَآخِرُهَا: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الشُّرُوطِ مِنْ طَرِيقِ عَقِيلٍ وَحْدَهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَقِبَ حَدِيثِهِ عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ، وَمَرْوَانَ قَالَ عُرْوَةُ: فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} - إِلَى - {غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْمُمْتَحِنَةِ.
قَوْلُهُ: (قَالَتْ عَائِشَةُ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ) يُشِيرُ إِلَى شَرْطِ الْإِيمَانِ، وَأَوْضَحُ مِنْ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ امْتِحَانُهُنَّ أَنْ يَشْهَدْنَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا وَالْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَصْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ: وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ مِنْ بُغْضِ زَوْجٍ، وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ رَغْبَةً عَنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ، وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ الْتِمَاسَ دُنْيَا، وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ إِلَّا حُبًّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْو هَذَا وَلَفْظُهُ: فَاسْأَلُوهُنَّ عَمَّا جَاءَ بِهِنَّ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَضَبٍ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ أَوْ سُخْطِهِ أَوْ غَيْرِهِ وَلَمْ يُؤْمِنَّ فَأَرْجِعُوهُنَّ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ: كَانَتْ مِحْنَتُهُنَّ أَنْ يُسْتَحْلَفْنَ بِاللَّهِ مَا أَخْرَجَكُنَّ نُشُوزٌ، وَمَا أَخْرَجَكُنَّ إِلَّا حُبُّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَإِذَا قُلْنَ ذَلِكَ قُبِلَ مِنْهُنَّ فَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي رِوَايَةَ الْعَوْفِيِّ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى زِيَادَةٍ لَمْ يَذْكُرْهَا.
قَوْلُهُ: (انْطَلِقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ) بَيَّنَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهَا فِي آخِرِ الْحَدِيثِ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ كَلَامًا أَيْ كَلَامًا يَقُولُهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَقِيلٍ الْمَذْكُورَةِ كَلَامًا يُكَلِّمُهَا بِهِ وَلَا يُبَايِعُ بِضَرْبِ الْيَدِ عَلَى الْيَدِ، كَمَا كَانَ يُبَايِعُ الرِّجَالُ وَقَدْ أَوْضَحَتْ ذَلِكَ بِقَوْلِهَا مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ زَادَ فِي رِوَايَةِ عَقِيلٍ فِي الْمُبَايَعَةِ: غَيْرَ أَنَّهُ بَايَعَهُنَّ بِالْكَلَامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْمُمْتَحِنَةِ وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} - الْآيَةَ كُلَّهَا. ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ -: أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: نَعَمْ وَقَدْ وَرَدَ مَا قَدْ يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَلَعَلَّهَا أَشَارَتْ إِلَى رَدِّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي اسْتِمْرَارِ حُكْمِ امْتِحَانِ مَنْ هَاجَرَ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ: فَقِيلَ: مَنْسُوخٌ، بَلِ ادَّعَى بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَى نَسْخِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
21 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} - إلى قوله - {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، {فَإِنْ فَاءُوا} رَجَعُوا
5289 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ أَخِيهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ، وَكَانَتْ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ، فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آلَيْتَ شَهْرًا، فَقَالَ الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ.
5290 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يَقُولُ فِي الإِيلَاءِ الَّذِي سَمَّى اللَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدَ الأَجَلِ إِلاَّ أَنْ يُمْسِكَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يَعْزِمَ بِالطَّلَاقِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عز وجل.
5291 -
وقَالَ لِي إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يُوقَفُ حَتَّى يُطَلِّقَ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ حَتَّى يُطَلِّقَ"
وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَائِشَةَ وَاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ إِلَى {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وَوَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ: بَابُ الْإِيلَاءِ وقَوْله تَعَالَى إِلَخْ. وَوَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ:{فَإِنْ فَاءُوا} : رَجَعُوا، وَهَذَا تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ:{فَإِنْ فَاءُوا} أَيْ رَجَعُوا عَنْ الْيَمِينِ، فَاءَ يَفِيءُ فَيْئًا وَفُيُوءًا اهـ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: الْفَيْءُ الرُّجُوعُ بِاللِّسَانِ، وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ: الْفَيْءُ الرُّجُوعُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ لِمَنْ بِهِ مَانِعٌ عَنِ الْجِمَاعِ، وَفِي غَيْرِهِ بِالْجِمَاعِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْهُمْ عَلْقَمَةُ مِثْلُهُ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَيْضًا: إِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ امْرَأَتَهُ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا فَهُوَ إِيلَاءٌ، إِلَّا إِنْ كَانَ يُجَامِعُهَا وَهُوَ لَا يُكَلِّمُهَا فَلَيْسَ بِمُولٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْفَيْءُ الْجِمَاعُ، وَعَنْ مَسْرُوقٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيِّ مِثْلُهُ، وَالْأَسَانِيدُ بِكُلِّ ذَلِكَ عَنْهُمْ قَوِيَّةٌ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: اخْتِلَافُهُمْ فِي هَذَا مِنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَعْرِيفِ الْإِيلَاءِ، فَمَنْ خَصَّهُ بِتَرْكِ الْجِمَاعِ قَالَ: لَا يَفِيءُ إِلَّا بِفِعْلِ الْجِمَاعِ، وَمَنْ قَالَ: الْإِيلَاءُ الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ كَلَامِهَا أَوْ عَلَى أَنْ يَغِيظَهَا أَوْ يَسُوءَهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْفَيْءِ الْجِمَاعَ، بَلْ رُجُوعُهُ بِفِعْلِ مَا حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ.
وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: لَا يَكُونُ الْإِيلَاءُ إِلَّا أَنْ يَحْلِفَ الْمَرْءُ بِاللَّهِ فِيمَا يُرِيدُ أَنْ يُضَارَّ بِهِ امْرَأَتَهُ مِنِ اعْتِزَالِهَا، فَإِذَا لَمْ يَقْصِدِ الْإِضْرَارَ لَمْ يَكُنْ إِيلَاءٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ وَطَائِفَةٍ: لَا إِيلَاءَ إِلَّا فِي غَضَبٍ، فَإِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَهَا بِسَبَبٍ كَالْخَوْفِ عَلَى الْوَلَدِ الَّذِي يَرْضَعُ مِنْهَا مِنَ الْغِيلَةِ فَلَا إِيلَاءَ. وَمِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ: كُلُّ يَمِينٍ حالت بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَهِيَ إِيلَاءٌ، وَمِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إِنْ كَلَّمْتُكِ سَنَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ: إِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يُكَلِّمِهَا طَلُقَتْ، وَإِنْ كَلَّمَهَا قَبْلَ سَنَةٍ فَهِيَ طَالِقٌ. وَمِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ: مَا فَعَلَتِ امْرَأَتُكَ، لَعَهْدِي بِهَا سَيِّئَةُ الْخُلُقِ؟ قَالَ: لَقَدْ خَرَجْتُ وَمَا أُكَلِّمُهَا. قَالَ: أَدْرِكْهَا قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَإِنْ مَضَتْ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَرَأَ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} يُقْسِمُونَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ عَلَى نِسَائِهِمْ، وَمِنْ بِمَعْنَى عَلَى. وَقَالَ غَيْرُهُ بَلْ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: يَقْسِمُونَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَالْإِيلَاءُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَلِيَّةِ بِالتَّشْدِيدِ وَهِيَ الْيَمِينُ، وَالْجَمْعُ أَلَايَا بِالتَّخْفِيفِ وَزْنَ عَطَايَا، قَالَ الشَّاعِرُ:
قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ
…
فَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ
فَجَمَعَ بَيْنَ الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ أَنَسٍ آلَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ الْحَدِيثَ، وَإِدْخَالُهُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ فِي الْإِيلَاءِ ذِكْرَ الْجِمَاعِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ - يَعْنِي مِنَ
الْمَرْفُوعِ - سِوَى هَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا الْحَدِيثِ. اهـ، وَأَنْكَرَ شَيْخُنَا فِي التَّدْرِيبِ إِدْخَالَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ فَقَالَ: الْإِيلَاءُ الْمَعْقُودُ لَهُ الْبَابُ حَرَامٌ يَأْثَمُ بِهِ مَنْ عَلِمَ بِحَالِهِ فَلَا تَجُوزُ نِسْبَتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اهـ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اشْتِرَاطِ تَرْكِ الْجِمَاعِ فِيهِ، وَقَدْ كُنْتُ أَطْلَقْتُ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ وَالْمَظَالِمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ أَنَسٍ آلَى أَيْ حَلَفَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِيلَاءَ الْعُرْفِيَّ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ اتِّفَاقًا، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ فِيهِ الْخِلَافَ قَدِيمًا فَلْيُقَيَّدْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَلَى رَأْيِ مُعْظَمِ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الْإِيلَاءَ يَنْعَقِدُ حُكْمُهُ بِغَيْرِ ذِكْرِ تَرْكِ الْجِمَاعِ إِلَّا عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ شَيْخِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ مَنْ تَقَدَّمَهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِي كَوْنِهِ حَرَامًا أَيْضًا خِلَافٌ، وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ بَطَّالٍ وَجَمَاعَةٌ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم امْتَنَعَ مِنْ جِمَاعِ نِسَائِهِ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى نَقْلٍ صَرِيحٍ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ دُخُولِهِ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا تَدْخُلَ إِحْدَاهُنَّ عَلَيْهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي اعْتَزَلَ فِيهِ، إِلَّا إِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ مِنَ الْمَسْجِدِ فَيَتِمُّ اسْتِلْزَامُ عَدَمِ الدُّخُولِ عَلَيْهِنَّ مَعَ اسْتِمْرَارِ الْإِقَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْعَزْمَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ لِامْتِنَاعِ الْوَطْءِ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي النِّكَاحِ فِي آخِرِ حَدِيثِ عُمَرَ مِثْلُ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي أَنَّهُ آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، وَمِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَيْضًا آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَقْسَمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ اعْتَزَلَ نِسَاءَهُ شَهْرًا. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ وَحَرَّمَ فَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ، لَكِنْ رَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ إِرْسَالَهُ عَلَى وَصْلِهِ. وَقَدْ يُتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ: حَرَّمَ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ جِمَاعِهِنَّ، لَكِنْ تَقَدَّمَ الْبَيَانُ الْوَاضِحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحْرِيمِ تَحْرِيمُ شُرْبِ الْعَسَلِ أَوْ تَحْرِيمُ وَطْءِ مَارِيَةَ سُرِّيَّتَهُ فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ، وَأَقْوَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ لَفْظُ اعْتَزَلَ مَعَ مَا فِيهِ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ أَخِيهِ) هُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبَحِيُّ ابْنُ عَمِّ مَالِكٍ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَقَدْ نَزَلَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ بِالنِّسْبَةِ لِحُمَيْدٍ دَرَجَتَيْنِ، لِأَنَّهُ أَخْرَجَ فِي كِتَابِهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، وَدَرَجَةً بِالنِّسْبَةِ لِسُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ عَنْهُ الْكَثِيرَ بِوَاسِطَةِ وَاحِدٍ فَقَطْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ فِي الصِّيَامِ وَفِي النِّكَاحِ كَذَلِكَ، وَالنُّكْتَةُ فِي اخْتِيَارِ هَذَا الْإِسْنَادِ النَّازِلِ التَّصْرِيحُ فِيهِ عَنْ حُمَيْدٍ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنْ أَنَسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ قَوْلِهِ: آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا وَشَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ الْكَلَامِ عَلَى شَرْحِ حَدِيثِ عُمَرَ فِي الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ فِي النِّكَاحِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ زِيَادَةُ قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ سُقُوطُهُ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْفَرَسِ وَصَلَاتُهُ بِأَصْحَابِهِ جَالِسًا، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الزِّيَادَةِ هُنَاكَ.
وَمِنْ أَحْكَامِ الْإِيلَاءِ أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَإِنْ حَلَفَ عَلَى أَنْقَصَ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، وَقَالَ إِسْحَاقُ: إِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَ عَلَى يَوْمٍ فَصَاعِدًا ثُمَّ لَمْ يَطَأْ حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ كَانَ إِيلَاءً، وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ مِثْلُهُ وَأَنْكَرَهُ الْأَكْثَرُ، وَصَنِيعُ الْبُخَارِيِّ ثُمَّ التِّرْمِذِيِّ فِي إِدْخَالِ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي بَابِ الْإِيلَاءِ يَقْتَضِي مُوَافَقَةَ إِسْحَاقَ فِي ذَلِكَ، وَحَمَلَ هَؤُلَاءِ قَوْلَهُ تَعَالَى:{تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} عَلَى الْمُدَّةِ الَّتِي تُضْرَبُ لِلْمُولِي، فَإِنْ فَاءَ بَعْدَهَا وَإِلَّا أُلْزِمَ بِالطَّلَاقِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ إِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَ امْرَأَتَهُ - سَمَّى أَجَلًا أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ - فَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يَعْنِي أُلْزِمَ حُكْمَ الْإِيلَاءِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُهَا اللَّيْلَةَ، فَتَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ أَجَلِ يَمِينِهِ تِلْكَ فَهُوَ إِيلَاءٌ وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ إِيلَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، فَوَقَّتَ اللَّهُ لَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَمَنْ كَانَ إِيلَاؤُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يَقُولُ فِي الْإِيلَاءِ الَّذِي سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدَ الْأَجَلِ) الَّذِي يَحْلِفُ عَلَيْهِ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ زَوْجَتِهِ (إِلَّا أَنْ يُمْسِكَ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يَعْزِمَ بالطلاق كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عز وجل هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّ الْمُدَّةَ إِذَا انْقَضَتْ يُخَيَّرُ الْحَالِفُ: فَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ، وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ إِنْ فَاءَ بِالْجِمَاعِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ اسْتَمَرَّتْ عِصْمَتُهُ، وَإِنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِنَفْسِ مُضِيِّ الْمُدَّةِ قِيَاسًا عَلَى الْعِدَّةِ، لِأَنَّهُ لَا تَرَبُّصَ عَلَى الْمَرْأَةِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ التَّفْصِيلُ فِي الْإِيلَاءِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، بِخِلَافِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا شُرِعَتْ فِي الْأَصْلِ لِلْبَائِنَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا بَعْدَ انْقِطَاعِ عِصْمَتِهَا لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ تَفْصِيلٌ وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِسَنَدٍ آخَرَ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ عَلِيٍّ إِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَفِئْ طَلُقَتْ طَلْقَةً بَائِنَةً وَبِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِثْلُهُ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِنَ الْكُوفِيِّينَ وَمِنْ غَيْرِهِمْ كَابْنِ الْحَنَفِيَّةَ، وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ مِثْلُهُ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَرَبِيعَةَ، وَمَكْحُولٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ تَطْلُقُ لَكِنْ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ إِذَا آلَى فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ طَلُقَتْ بَائِنًا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَأَخْرَجَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ إِذَا مَضَتِ الْأَرْبَعَةُ بَانَتْ بِطَلْقَةٍ وَتَعْتَدُّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ وَأَخْرَجَ إِسْمَاعِيلُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ آلَى مِنِ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ. إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ بِتَطْلِيقَةٍ.
(تَنْبِيهٌ): سَقَطَ أَثَرُ ابْنِ عُمَرَ هَذَا وَأَثَرُهُ الْمَذْكُورُ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَذَا مَا بَعْدَهُ إِلَى آخِرِ الْبَابِ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَثَبَتَ لِلْبَاقِينَ.
وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعَائِشَةَ وَاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ لِي إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ الْمَذْكُورُ قَبْلُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ إِسْمَاعِيلُ مُجَرَّدًا وَبِهِ جَزَمَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ فَعَلَّمَ عَلَيْهِ عَلَامَةَ التَّعْلِيقِ، وَالْأَوَّلُ الْمُعْتَمَدُ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يُوقَفُ)، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يُوقِفُهُ (حَتَّى يُطَلِّقَ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ حَتَّى يُطَلِّقَ) كَذَا وَقَعَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُخْتَصَرًا، وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ أَخَصْرُ مِنْهُ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى، عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَيُّمَا رَجُلٍ آلَى مِنِ امْرَأَتِهِ فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يُوقَفُ حَتَّى يُطَلِّقَ أَوْ يَفِيءَ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ إِذَا مَضَتْ حَتَّى يُوقَفَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، عَنْ مَالِكٍ وَزَادَ فَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ وَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ مِنِ ابْنِ عُمَرَ، وَتَفْسِيرُ الصَّحَابَةِ فِي مِثْلِ هَذَا لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ كَمَا نَقَلَهُ الْحَاكِمُ، فَيَكُونُ فِيهِ تَرْجِيحٌ لِمَنْ قَالَ يُوقَفُ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ ذَلِكَ) أَيِ الْإِيقَافُ (عَنْ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعَائِشَةَ وَاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمَّا قَوْلُ عُثْمَانَ فَوَصَلَهُ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ: إنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ يُوقِفُ الْمُولِيَ، فَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ وَفِي سَمَاعِ طَاوُسٍ مِنْ عُثْمَانَ نَظَرٌ، لَكِنْ قَدْ أَخْرَجَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُنْقَطِعٍ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْإِيلَاءَ شَيْئًا وَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ حَتَّى يُوقَفَ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ نَحْوُهُ، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ أَيْضًا، وَالطَّرِيقَانِ عَنْ عُثْمَانَ يُعَضِّدُ أَحَدُهُمَا الْآخِرَ. وَجَاءَ عَنْ عُثْمَانَ خِلَافُهُ: فَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُثْمَانَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ، وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ ذَلِكَ فَرَجَّحَ رِوَايَةَ طَاوُسٍ. وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ فَوَصَلَهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ: أَنَّ عَلِيًّا وَقَّفَ الْمُولِيَ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: إِذَا مَضَتِ الْأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ حَتَّى يُوقَفَ، فَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ وَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ يَعْتَضِدُ بِالَّذِي قَبْلَهُ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى: شَهِدْتُ عَلِيًّا أَوْقَفَ رَجُلًا عِنْدَ الْأَرْبَعَةِ بِالرَّحْبَةِ إِمَّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ وَزَادَ فِي آخِرِهِ وَيُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءَ قَالَ يُوقَفُ فِي الْإِيلَاءِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ، فَإمَّا أَنْ يُطَلِّقَ وَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ إِنْ ثَبَتَ سَمَاعُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مِنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُ عَائِشَةَ فَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ، وَعَائِشَةَ قَالَا فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ. وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: أَنَّهَا كَانَتْ لَا تَرَى الْإِيلَاءَ شَيْئًا حَتَّى يُوقَفَ وَلِلشَّافِعِيِّ عَنْهَا نَحْوُهُ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ أَيْضًا.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ بِذَلِكَ عَنِ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ فَأَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ ثَابِتِ بْنِ عُبَيْدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنِ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: الْإِيلَاءُ لَا يَكُونُ طَلَاقًا حَتَّى يُوقَفَ وَأَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَقَالَ: بِضْعَةَ عَشَرَ وَأَخْرَجَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: الْإِيلَاءُ لَا يَكُونُ طَلَاقًا حَتَّى يُوقَفَ وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ سَأَلْتُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ الرَّجُلِ يُولِي، فَقَالُوا: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَيُوقَفُ، فَإِنْ فَاءَ وَإِلَّا طَلَّقَ، وَأَخْرَجَ إِسْمَاعِيلُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: أَدْرَكْنَا النَّاسَ يَقِفُونَ الْإِيلَاءَ إِذَا مَضَتِ الْأَرْبَعَةُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ وَسَائِرِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ تَفَارِيعُ يَطُولُ شَرْحُهَا: مِنْهَا أَنَّ الْجُمْهُورَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَكُونُ فِيهِ رَجْعِيًّا، لَكِنْ قَالَ مَالِكٌ: لَا تَصِحُّ رَجْعَتُهُ إِلَّا إِنْ جَامَعَ فِي الْعِدَّةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ظَاهِرُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَجَلًا فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ فِيهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ، فَإِذَا انْقَضَتْ فِعْلَيْهِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ، فَلِهَذَا قُلْنَا: لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ الْمُدَّةِ حَتَّى يُحْدِثَ رُجُوعًا أَوْ طَلَاقًا، ثُمَّ رَجَّحَ قَوْلَ الْوَقْفِ بِأَنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ قَالَ بِهِ، وَالتَّرْجِيحُ قَدْ يَقَعُ بِالْأَكْثَرِ مَعَ مُوَافَقَةِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ. وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ قَالَ: لَمْ يَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ أَنَّ الْعَزِيمَةَ عَلَى الطَّلَاقِ تَكُونُ طَلَاقًا، وَلَوْ جَازَ لَكَانَ الْعَزْمُ عَلَى الْفَيْءِ يَكُونُ فَيْئًا وَلَا قَائِلَ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ اللُّغَةِ أَنَّ الْيَمِينَ الَّتِي لَا يَنْوِي بِهَا الطَّلَاقَ تَقْتَضِي طَلَاقًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعَطْفُ عَلَى الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِالْفَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّخْيِيرَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَالَّذِي يَتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِ التَّرَبُّصِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُدَّةُ الْمَضْرُوبَةُ لِيَقَعَ التَّخْيِيرُ بَعْدَهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: جَعَلَ اللَّهُ الْفَيْءَ وَالطَّلَاقَ مُعَلَّقَيْنِ بِفِعْلِ الْمُولِي بَعْدَ الْمُدَّةِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنْ فَاءُوا * وَإِنْ عَزَمُوا} فَلَا يَتَّجِهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ الْمُدَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
22 - بَاب حُكْمِ الْمَفْقُودِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ،
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ إِذَا فُقِدَ فِي الصَّفِّ عِنْدَ الْقِتَالِ تَرَبَّصُ امْرَأَتُهُ سَنَةً، وَاشْتَرَى ابْنُ مَسْعُودٍ جَارِيَةً وَالْتَمَسَ صَاحِبَهَا سَنَةً فَلَمْ يَجِدْهُ وَفُقِدَ، فَأَخَذَ يُعْطِي الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَنْ فُلَانٍ فَإِنْ أَتَى فُلَانٌ فَلِي وَعَلَيَّ، وَقَالَ: هَكَذَا فَافْعَلُوا بِاللُّقَطَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَقَالَ
الزُّهْرِيُّ فِي الْأَسِيرِ يُعْلَمُ مَكَانُهُ: لَا تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ وَلَا يُقْسَمُ مَالُهُ، فَإِذَا انْقَطَعَ خَبَرُهُ فَسُنَّتُهُ سُنَّةُ الْمَفْقُودِ.
5292 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ فَقَالَ: خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ، وَسُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ فَغَضِبَ، وَاحْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، وَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا الْحِذَاءُ وَالسِّقَاءُ، تَشْرَبُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا، وَسُئِلَ عَنْ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا وَعَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ مَنْ يَعْرِفُهَا وَإِلَّا فَاخْلِطْهَا بِمَالِكَ، قَالَ سُفْيَانُ: فَلَقِيتُ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سُفْيَانُ: وَلَمْ أَحْفَظْ عَنْهُ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا، فَقُلْتُ: أَرَأَيْتَ حَدِيثَ يَزِيدَ مَوْلَى المُنْبَعِثِ فِي أَمْرِ الضَّالَّةِ هُوَ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ يَحْيَى: وَيَقُولُ رَبِيعَةُ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ سُفْيَانُ: فَلَقِيتُ رَبِيعَةَ فَقُلْتُ لَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ حُكْمِ الْمَفْقُودِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ) كَذَا أَطْلَقَ وَلَمْ يُفْصِحْ بِالْحُكْمِ، وَدُخُولُ حُكْمِ الْأَهْلِ يَتَعَلَّقُ بِأَبْوَابِ الطَّلَاقِ بِخِلَافِ الْمَالِ، لَكِنْ ذَكَرَهُ مَعَهُ اسْتِطْرَادًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: إِذَا فُقِدَ فِي الصَّفِّ عِنْدَ الْقِتَالِ تَرَبَّصُ امْرَأَتُهُ سَنَةً) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَتَمَّ مِنْهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْهُ قَالَ: إِذَا فُقِدَ فِي الصَّفِّ تَرَبَّصَتِ امْرَأَتُهُ سَنَةً، وَإِذَا فُقِدَ فِي غَيْرِ الصَّفِّ فَأَرْبَعَ سِنِينَ، وَقَوْلُهُ فِي الْأَصْلِ تَرَبَّصُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ عَلَى حَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَاتَّفَقَتِ النُّسَخُ وَالشُّرُوحُ وَالْمُسْتَخْرَجَاتُ عَلَى قَوْلِهِ سَنَةً إِلَّا ابْنَ التِّينِ قَوْقَعَ عِنْدَهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَلَفْظُ سِتَّةَ تَصْحِيفٌ وَلَفْظُ أَشْهُرٍ زِيَادَةٌ، وَإِلَى قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ، لَكِنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا إِذَا وَقَعَ الْقِتَالُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
قَوْلُهُ: (وَاشْتَرَى ابْنُ مَسْعُودٍ جَارِيَةً فَالْتَمَسَ صَاحِبُهَا سَنَةً فَلَمْ يَجِدْهُ وَفُقِدَ، فَأَخَذَ يُعْطِي الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَنْ فُلَانٍ فَإِنْ أَتَى فُلَانٌ فَلِي وَعَلَيَّ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ أَتَى بِالْمُثَنَّاةِ بِمَعْنَى جَاءَ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْمُوَحَّدَةِ مِنَ الِامْتِنَاعِ، وَسَقَطَ هَذَا التَّعْلِيقُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ السَّرَخْسِيِّ، وَقَدْ وَصَلَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي جَامِعِهِ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ بِسَنَدٍ لَهُ جَيِّدٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ اشْتَرَى جَارِيَةً بِسَبْعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَإِمَّا غَابَ صَاحِبُهَا وَإِمَّا تَرَكَهَا، فَنَشَدَهُ حَوْلًا فَلَمْ يَجِدْهُ، فَخَرَجَ بِهَا إِلَى مَسَاكِينَ عِنْدَ سُدَّةِ بَابِهِ فَجَعَلَ يَقْبِضُ وَيُعْطِي وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ عَنْ صَاحِبِهَا، فَإِنْ أَتَى فَمِنِّي وَعَلَيَّ الْغُرْمُ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا وَفِيهِ أَبَى بِالْمُوَحَّدَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ هَكَذَا فَافْعَلُوا بِاللُّقَطَةِ) يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ انْتَزَعَ فِعْلَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ اللُّقَطَةِ لِلْأَمْرِ بِتَعْرِيفِهَا سَنَةً وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا غَرِمَهَا لَهُ، فَرَأَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنْ يَجْعَلَ التَّصَرُّفَ صَدَقَةً فَإِنْ أَجَازَهَا صَاحِبُهَا إِذَا جَاءَ حَصَلَ لَهُ أَجْرُهَا وَإِنْ لَمْ يُجِزْهَا كَانَ الْأَجْرُ لِلْمُتَصَدِّقِ وَعَلَيْهِ الْغُرْمُ لِصَاحِبِهَا، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ فَلِي وَعَلَيَّ أَيْ فَلِيَ الثَّوَابُ وَعَلَيَّ الْغَرَامَةُ، وَغَفَلَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فَقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلِي وَعَلَيَّ: لِيَ الثَّوَابُ، وَعَلَيَّ الْعِقَابُ، أَيْ أَنَّهُمَا مُكْتَسَبَانِ لَهُ بِفِعْلِهِ. وَالَّذِي قُلْتُهُ أَوْلَى لِأَنَّهُ ثَبَتَ مُفَسَّرًا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ كَمَا تَرَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ فَلِي فَمَعْنَاهُ فَلِي ثَوَابُ الصَّدَقَةِ، وَإِنَّمَا حَذَفَهُ لِلْعِلْمِ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ) ثَبَتَ هَذَا التَّعْلِيقُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فَقَطْ عَنِ الْمُسْتَمْلِي، والْكُشْمِيهَنِيِّ خَاصَّةً، وَقَدْ وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ ابْتَاعَ ثَوْبًا مِنْ رَجُلٍ بِمَكَّةَ فَضَلَّ مِنْهُ فِي الزِّحَامِ، قَالَ: فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ فَانْشُدِ الرَّجُلَ فِي
الْمَكَانِ الَّذِي اشْتَرَيْتَ مِنْهُ، فَإِنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ وَإِلَّا تَصَدَّقْ بِهَا ; فَإِنْ جَاءَ فَخَيِّرْهُ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَإِعْطَاءِ الدَّرَاهِمِ وَأَخْرَجَ دَعْلَجٌ فِي مُسْنَدٍ ابْنِ عَبَّاسٍ لَهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْظُرْ هَذِهِ الضَّوَالَّ فَشُدَّ يَدَكَ بِهَا عَامًا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَجَاهِدْ بِهَا وَتَصَدَّقْ، فَإِنْ جَاءَ فَخَيِّرْهُ بَيْنَ الْأَجْرِ وَالْمَالِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي الْأَسِيرِ يُعْلَمُ مَكَانُهُ: لا تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ وَلَا يُقْسَمُ مَالُهُ، فَإِذَا انْقَطَعَ خَبَرُهُ فَسُنَّتُهُ سُنَّةُ الْمَفْقُودِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ الْأَسِيرِ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ مَتَى تُزَوَّجُ امْرَأَتُهُ؟ فَقَالَ: لَا تُزَوَّجُ مَا عَلِمَتْ أَنَّهُ حَيٌّ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: يُوقَفُ مَالُ الْأَسِيرِ وَامْرَأَتُهُ حَتَّى يُسْلِمَا أَوْ يَمُوتَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَسُنَّتُهُ سُنَّةُ الْمَفْقُودِ فَإِنَّ مَذْهَبَ الزُّهْرِيِّ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ أَنَّهَا تَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ عُمَرَ، مِنْهَا لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ قَضَيَا بِذَلِكَ وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ قَالَا: تَنْتَظِرُ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ أَرْبَعَ سِنِينَ وَثَبَتَ أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ فِي رِوَايَةٍ، وَعَنْ جَمْعٍ مِنَ التَّابِعِينَ كَالنَّخَعِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَالزُّهْرِيِّ وَمَكْحُولٍ وَالشَّعْبِيِّ وَاتَّفَقَ أَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ التَّأْجِيلَ مِنْ يَوْمِ تَرْفَعُ أَمْرَهَا لِلْحَاكِمِ، وَعَلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَرْبَعِ سِنِينَ.
وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهَا إِنْ تَزَوَّجَتْ فَجَاءَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ خُيِّرَ بَيْنَ زَوْجَتِهِ وَبَيْنَ الصَّدَاقَ، وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: إِذَا اخْتَارَ الْأَوَّلُ الصَّدَاقَ غَرِمَهُ لَهُ الثَّانِي، وَلَمْ يُفَرِّقْ أَكْثَرُهُمْ بَيْنَ أَحْوَالِ الْفَقْدِ إِلَّا مَا تَقَدَّمَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَفَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَ مَنْ فُقِدَ فِي الْحَرْبِ فَتُؤَجَّلُ الْأَجَلَ الْمَذْكُورَ، وَبَيْنَ مَنْ فُقِدَ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ فَلَا تُؤَجَّلُ بَلْ تَنْتَظِرُ مُضِيَّ الْعُمْرَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: مَنْ غَابَ عَنْ أَهْلِهِ فَلَمْ يُعْلَمْ خَبَرُهُ لَا تَأْجِيلَ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُؤَجَّلُ مَنْ فُقِدَ فِي الْحَرْبِ أَوْ فِي الْبَحْرِ أَوْ فِي نَحْوِ ذَلِكَ. وَجَاءَ عَنْ عَلِيٍّ: إِذَا فَقَدَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا لَمْ تُزَوَّجُ حَتَّى يَقْدَمَ أَوْ يَمُوتَ أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَافَقَ عَلِيًّا فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ أَنَّهَا تَنْتَظِرُهُ أَبَدًا. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ أَيْضًا بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ: لَوْ تَزَوَّجَتْ فَهِيَ امْرَأَةُ الْأَوَّلِ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَوْ لَمْ يَدْخُلْ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ: إِذَا تَزَوَّجَتْ فَبَلَغَهَا أَنَّ الْأَوَّلَ حَيٌّ فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّانِي وَاعْتَدَّتْ مِنْهُ، فَإِنْ مَاتَ الْأَوَّلُ اعْتَدَّتْ مِنْهُ أَيْضًا وَوَرِثَتْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ النَّخَعِيِّ: لَا تُزَوَّجُ حَتَّى يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ وَالشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَاخْتَارَ ابْنُ الْمُنْذِرِ التَّأْجِيلَ لِاتِّفَاقِ خَمْسَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ سَمِعْتُ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ حَدِيثَ اللُّقَطَةِ، وَهَذَا صُورَتُهُ الْإِرْسَالُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ فَرَاغِ الْمَتْنِ: قَالَ سُفْيَانُ فَلَقِيتُ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ سُفْيَانُ: وَلَمْ أَحْفَظْ عَنْهُ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا، فَقُلْتُ: أَرَأَيْتَ حَدِيثَ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ فِي أَمْرِ الضَّالَّةِ هُوَ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ يَحْيَى يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ الَّذِي حَدَّثَهُ مُرْسَلًا، وَيَقُولُ رَبِيعَةُ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، عَنْ زِيدَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ سُفْيَانُ: فَلَقِيتُ رَبِيعَةَ فَقُلْتُ لَهُ، أَيْ قُلْتُ لَهُ الْكَلَامَ الَّذِي تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ حَدِيثَ يَزِيدَ إِلَخْ.
وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ حَدَّثَ بِهِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ مُرْسَلًا، ثُمَّ ذَكَرَ لِسُفْيَانَ أَنَّ رَبِيعَةَ يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فَيُوصِلُهُ فَحَمَلَ ذَلِكَ سُفْيَانُ عَلَى أَنْ لَقِيَ رَبِيعَةَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَاعْتَرَفَ لَهُ بِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ
الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ يَزِيدَ مُرْسَلًا وَعَنْ رَبِيعَةَ مَوْصُولًا وَسَاقَهُ بِسِيَاقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ مِنَ التَّفْصِيلِ أَتْقَنُ وَأَضْبَطُ، فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ السِّيَاقَ لِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَأَنَّ رَبِيعَةَ لَمْ يُحَدِّثْ سُفْيَانَ إِلَّا بِإِسْنَادِهِ فَقَطْ. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ رَبِيعَةَ قَالَ سُفْيَانُ: فَلَقِيتُ رَبِيعَةَ فَقَالَ حَدَّثَنِي بِهِ يَزِيدُ عَنْ زَيْدٍ، وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ إِيهَامٌ، وَرِوَايَةُ ابْنِ الْمَدِينِيِّ أَوْضَحُ وَقَدْ وَافَقَهُ الْحُمَيْدِيُّ وَلَفْظُهُ: قَالَ سُفْيَانُ فَأَتَيْتُ رَبِيعَةَ فَقُلْتُ لَهُ: الْحَدِيثُ الَّذِي يُحَدِّثُهُ يَزِيدُ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ فِي اللُّقَطَةِ هُوَ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ سُفْيَانُ: وكُنْتُ أَكْرَهُهُ لِلرَّأْيِ، أَيْ لِأَجْلِ كَثْرَةِ فَتْوَاهُ بِالرَّأْيِ، قَالَ: فَلِذَلِكَ لَمْ أَسْأَلْهُ إِلَّا عَنْ إِسْنَادِهِ، وَهَذَا السَّبَبُ فِي قِلَّةِ رِوَايَةِ سُفْيَانَ عَنْ رَبِيعَةَ أَوْلَى مِنَ السَّبَبِ الَّذِي أَبَدَاهُ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: كَانَ قَصْدُ سُفْيَانَ لِطَلَبِ الْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِنْ قَصْدِهِ لِطَلَبِ الْفِقْهِ، وَكَانَ الْفِقْهُ عِنْدَ رَبِيعَةَ أَكْثَرَ مِنْهُ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ فَلِذَلِكَ أَكْثَرَ عَنْهُ سُفْيَانُ دُونَ رَبِيعَةَ، مَعَ أَنَّ الزُّهْرِيَّ تَقَدَّمَتْ وَفَاتُهُ عَلَى وَفَاةِ رَبِيعَةَ بِنَحْوِ عَشْرِ سِنِينَ بَلْ أَكْثَرَ اهـ.
وَاقْتَضَى قَوْلُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ هَذَا أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ مَا سَمِعَهُ مِنْ شَيْخِهِ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ مَوْصُولًا وَإِنَّمَا وَصَلَهُ لَهُ رَبِيعَةُ، وَلَكِنْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي اللُّقَطَةِ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ زَيْدٍ مَوْصُولًا، فَلَعَلَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ لِمَا حَدَّثَ بِهِ ابْنَ عُيَيْنَةَ مَا كَانَ يَتَذَكَّرُ وَصَلَهُ أَوْ دَلَّسَهُ لِسُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ حِينَ حَدَّثَهُ بِهِ مَوْصُولًا وَإِنَّمَا سَمِعَ وَصْلَهُ مِنْ رَبِيعَةَ فَأَسْقَطَ رَبِيعَةَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ مَوْصُولًا أَيْضًا، وَمِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَرَبِيعَةَ جَمِيعًا عَنْ يَزِيدَ، عَنْ زَيْدٍ مَوْصُولًا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ حَمَلَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ اللُّقَطَةِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِهَا، وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِذِكْرِهِ هَهُنَا الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي مَالِ الْغَيْرِ إِذَا غَابَ جَائِزٌ مَا لَمْ يَكُنِ الْمَالُ مِمَّا لَا يُخْشَى ضَيَاعُهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمَّا تَعَارَضَتِ الْآثَارُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فَكَانَ فِيهِ أَنَّ ضَالَّةَ الْغَنَمِ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْلَ تَحَقُّقِ وَفَاةِ صَاحِبِهَا، فَكَانَ إِلْحَاقُ الْمَالِ الْمَفْقُودِ بِهَا مُتَّجَهًا.
وَفِيهِ أَنَّ ضَالَّةَ الْإِبِلِ لَا يُتَعَرَّضُ لَهَا لِاسْتِقْلَالِهَا بِأَمْرِ نَفْسِهَا فَاقْتَضَى أَنَّ الزَّوْجَةَ كَذَلِكَ لَا يُتَعَرَّضُ لَهَا حَتَّى يَتَحَقَّقَ خَبَرُ وَفَاتِهِ، فَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُخْشَى ضَيَاعُهُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ صَوْنًا لَهُ عَنِ الضَّيَاعِ، وَمَا لَا فَلَا، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ ضَالَّةِ الْغَنَمِ حُكْمُ الْمَالِ فِي وُجُوبِ تَعْوِيضِهِ لِصَاحِبِهِ إِذَا حَضَرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
23 - بَاب الظِّهَارِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}
- إِلَى قَوْلِهِ - {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} وَقَالَ لِي إِسْمَاعِيلُ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ ظِهَارِ الْعَبْدِ فَقَالَ نَحْوَ ظِهَارِ الْحُرِّ، قَالَ مَالِكٌ: وَصِيَامُ الْعَبْدِ شَهْرَانِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْحُرِّ: ظِهَارُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ مِنْ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ سَوَاءٌ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ إِنَّمَا الظِّهَارُ مِنْ النِّسَاءِ، وَفِي الْعَرَبِيَّةِ لِمَا قَالُوا: أَيْ فِيمَا قَالُوا، وَفِي نقضِ مَا قَالُوا، وَهَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ اللَّهَ تعالى لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْمُنْكَرِ وَقَوْلِ الزُّورِ.
قَوْلُهُ (بَابُ الظِّهَارِ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ، هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَإِنَّمَا خُصَّ الظَّهْرُ بِذَلِكَ دُونَ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الرُّكُوبِ غَالِبًا، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْمَرْكُوبُ ظَهْرًا، فَشُبِّهَتِ الزَّوْجَةُ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مَرْكُوبُ الرَّجُلِ،
فَلَوْ أَضَافَ لِغَيْرِ الظَّهْرِ - كَالْبَطْنِ مثلًا - كَانَ ظِهَارًا عَلَى الْأَظْهَرِ عِنْدِ الشَّافِعِيَّةِ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا إِذَا لَمْ يُعَيِّنِ الْأُمَّ كَأَنْ قَالَ: كَظَهْرِ أُخْتِي مَثَلًا فَعَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ لَا يَكُونُ ظِهَارًا بَلْ يَخْتَصُّ بِالْأُمِّ كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ خَوْلَةَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا أَوْسٌ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يَكُونُ ظِهَارًا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَمْ تُحَرَّمْ عَلَى التَّأْبِيدِ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَعَنْ مَالِكٍ هُوَ ظِهَارٌ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ، فَلَوْ قَالَ: كَظَهْرِ أَبِي مَثَلًا، فَلَيْسَ بِظِهَارٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةُ أَنَّهُ ظِهَارٌ، وَطَرَدَهُ فِي كُلِّ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْؤُهُ حَتَّى فِي الْبَهِيمَةِ. وَيَقَعُ الظِّهَارُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ لَكِنْ بِشَرْطِ اقْتِرَانِهِ بِالنِّيَّةِ، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى قَائِلِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَكِنْ بِشَرْطِ الْعَوْدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الثَّوْرِيِّ وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِمُجَرَّدِ الظِّهَارِ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} - إِلَى قَوْلِهِ - {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَالْأَكْثَرِ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الْآيَاتِ إِلَى الْمَوْضِعِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ:{فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ حَرَامٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ آثَارًا اقْتَصَرَ عَلَى الْآيَةِ وَعَلَيْهَا، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذِكْرِ الْآيَةِ إِلَى الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الْوَارِدِ فِي سَبَبِ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ طُرُقِهِ تَعْلِيقًا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ، وَفِيهِ تَسْمِيَةُ الْمُظَاهِرِ، وَتَسْمِيَةُ الْمُجَادِلَةِ وَهِيَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا وَأَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّهَا خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ ; وَأَنَّهُ أَوَّلُ ظِهَارٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ، كَمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الظِّهَارُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُ النِّسَاءَ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ ظَاهَرَ فِي الْإِسْلَامِ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ خَوْلَةَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سَمِعْتُ مَنْ أَرْضَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ يَقُولُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُطَلِّقُونَ بِثَلَاثٍ الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ وَالطَّلَاقُ، فَأَقَرَّ اللَّهُ الطَّلَاقَ طَلَاقًا وَحَكَمَ فِي الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ بِمَا بَيَّنَ فِي الْقُرْآنِ انْتَهَى. وَجَاءَ مِنْ حَدِيثِ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ نَفْسِهَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ قَالَتْ: ظَاهَرَ مِنِّي زَوْجِي أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشْكُو إِلَيْهِ الْحَدِيثَ.
وَأَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ أَنَّهُ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى حَدِيثِهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ فِي قِصَّةِ الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ، وَأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ قِصَّتَهُ كَانَتْ نَهَارًا. وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَاعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ عَنْكَ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ، وَأَسَانِيدُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ حِسَانٌ. وَحُكْمُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مَنْصُوصٌ بِالْقُرْآنِ، وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَحْكَامِهِ فِي مَوَاضِعَ أَلَمَّ الْبُخَارِيُّ بِبَعْضِهَا فِي الْآثَارِ الَّتِي أَوْرَدَهَا فِي الْبَابِ، وَاسْتَدَلَّ بِآيَةِ الظِّهَارِ وَبِآيَةِ اللِّعَانِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَلَوْ وَرَدَ فِي سَبَبٍ خَاصٍّ، وَاتَّفَقُوا عَلَى دُخُولِ السَّبَبِ، وَأَنَّ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ شَمَلَهُ حُكْمُ الظِّهَارِ، لَكِنِ اسْتَشْكَلَهُ السُّبْكِيُّ مِنْ جِهَةِ تَقَدُّمِ السَّبَبِ وَتَأَخُّرِ النُّزُولِ فَكَيْفَ يَنْعَطِفُ عَلَى مَا مَضَى مَعَ أَنَّ الْآيَةَ لَا تَشْمَلُ إِلَّا مَنْ وُجِدَ مِنْهُ الظِّهَارُ بَعْدَ نُزُولِهَا، لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُبْتَدَأَ تَضَمَّنَ مَعْنَى الشُّرَطِ وَالْخَبَرَ تَضَمَّنَ مَعْنَى الْجَزَاءِ وَمَعْنَى الشَّرْطِ مُسْتَقْبَلٌ، وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ دُخُولَ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ يَسْتَدْعِي الْعُمُومَ فِي كُلِّ مُظَاهِرٍ، وَذَلِكَ يَشْمَلُ الْحَاضِرَ وَالْمُسْتَقْبَلَ، قَالَ: وَأَمَّا دَلَالَةُ الْفَاءِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَفِيهِ نَظَرٌ، كَذَا قَالَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَحْتَجَّ لِلْإِلْحَاقِ بِالْإِجْمَاعِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ لِي إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بِدُونِ حَرْفِ الْجَرِّ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ مَوْصُولٌ، فَعِنْدَ جَمَاعَةٍ أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ هَذِهِ الصِّيغَةَ فِيمَا تَحْمِلُهُ عَنْ شُيُوخِهِ مُذَاكَرَةً، وَالَّذِي ظَهَرَ لِي بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ فِيمَا
يُورِدُهُ مَوْصُولًا مِنَ الْمَوْقُوفَاتِ أَوْ مِمَّا لَا يَكُونُ مِنَ الْمَرْفُوعَاتِ عَلَى شَرْطِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَ بْنَ شِهَابٍ فَذَكَرَ مِثْلَهُ وَزَادَ وَهُوَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ.
قَوْلُهُ: (قَالَ مَالِكٌ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (وَصِيَامُ الْعَبْدِ شَهْرَانِ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ شِهَابٍ الَّذِي نَقَلَ مَالِكٌ عَنْهُ أَنَّ ظِهَارَ الْعَبْدِ نَحْوُ ظِهَارِ الْحُرِّ كَأَنْ يُعْطَى الْعَبْدُ فِي ذَلِكَ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْحُرِّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالتَّشْبِيهِ مُطْلَقَ صِحَّةِ الظِّهَارِ مِنَ الْعَبْدِ كَمَا يَصِحُّ مِنَ الْحُرِّ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُعْطَى جَمِيعَ أَحْكَامِهِ، لَكِنْ نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا ظَاهَرَ لَزِمَهُ، وَأَنَّ كَفَّارَتَهُ بِالصِّيَامِ شَهْرَانِ كَالْحُرِّ، نَعَمِ اخْتَلَفُوا فِي الْإِطْعَامِ وَالْعِتْقِ، فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا الصِّيَامُ فَقَطْ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ: إِنْ أَطْعَمَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ أَجْزَأَهُ. وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ مَرْدُودٌ فَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ظِهَارُ الْعَبْدِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ الرِّقَابَ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ تَحْرِيرَ الرَّقَبَةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ يَجِدُهَا فَكَانَ كَالْمُعْسِرِ فَفَرْضُهُ الصِّيَامُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَدْرِ صِيَامِهِ فَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: لَوْ صَامَ شَهْرًا أَجْزَأَ عَنْهُ. وَعَنِ الْحَسَنِ يَصُومُ شَهْرَيْنِ. وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي رَجُلٍ ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَةٍ أَمَةٍ قَالَ: شَطْرُ الصَّوْمِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْحُرِّ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وَفِي رِوَايَةٍ وَقَالَ الْحَسَنُ فَقَطْ، فَأَمَّا الْحَسَنُ بْنُ الْحُرِّ فَهُوَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ ابْنُ الْحَكَمِ النَّخَعِيُّ الْكُوفِيُّ نَزِيلُ دِمَشْقَ، ثِقَةٌ عِنْدَهُمْ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ ذِكْرٌ إِلَّا في هَذَا الْمَوْضِعَ إِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ فَبِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ نُسِبَ لِجَدِّ أَبِيهِ وَهُوَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ وَاسْمُ حَيٍّ حَيَّانُ كُوفِيٌّ ثِقَةٌ فَقِيهٌ عَابِدٌ مِنْ طَبَقَةِ سُفْيَانَ، الثَّوْرِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَبِيهِ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ هَذَا الْأَثَرَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: الظِّهَارُ مِنَ الْأَمَةِ كَالظِّهَارِ مِنَ الْحُرَّةِ وَقَدْ وَقَعَ لَنَا الْكَلَامُ الْمَذْكُورُ مِنْ قَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ فِي مُعْجَمِهِ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ سُئِلَ قَتَادَةُ عَنْ رَجُلٍ ظَاهَرَ مِنْ سُرِّيَّتِهِ، فَقَالَ: قَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: مِثْلُ ظِهَارِ الْحُرَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَرَبِيعَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ فَرْجٌ حَلَالٌ فَيَحْرُمُ بِالتَّحْرِيمِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ الْحَسَنِ: إِنْ وَطِئَهَا فَهُوَ ظِهَارٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَهَا فَلَا ظِهَارَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنْ ظَاهِرَ مِنْ أَمَتِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، إِنَّمَا الظِّهَارُ مِنَ النِّسَاءِ) وَصَلَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ، وَجَاءَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلُهُ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ رِوَايَةِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنِ الظِّهَارِ مِنَ الْأَمَةِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ شَيْئًا، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {مِنْ نِسَائِهِمْ} أَفَلَيْسَتْ مِنَ النِّسَاءِ؟ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} أَوَلَيْسَ الْعَبِيدُ مِنَ الرِّجَالِ؟ أَفَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبِيدِ؟ وَقَدْ جَاءَ عَنْ عِكْرِمَةَ خِلَافُهُ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُكَفَّرُ عَنْ ظِهَارِ الْأَمَةِ مِثْلُ كَفَّارَةِ الْحُرَّةِ، وَبِقَوْلِ عِكْرِمَةَ الْأَوَّلِ قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مِنْ نِسَائِهِمْ} وَلَيْسَتِ الْأَمَةُ مِنَ النِّسَاءِ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا ثُمَّ أُحِلُّ بِالْكَفَّارَةِ، فَكَمَا لَا حَظَّ لِلْأَمَةِ فِي الطَّلَاقِ لَا حَظَّ لَهَا فِي الظِّهَارِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْقُولَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ فَلَا يَكُونُ بَيْنَ قَوْلَيْهِ اخْتِلَافٌ.
قَوْلُهُ: (وَفِي الْعَرَبِيَّةِ لِمَا قَالُوا أَيْ فِيمَا قَالُوا) أَيْ يُسْتَعْمَلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ
عَادَ لِكَذَا بِمَعْنَى أَعَادَ فِيهِ وَأَبْطَلَهُ.
قَوْلُهُ: (وَفِي نَقْضِ مَا قَالُوا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِنُونٍ وَقَافٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، والْكُشْمِيهَنِيِّ بَعْضِ بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَأْتِي بِفِعْلٍ يَنْقُضُ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُشْتَرَطُ الْفِعْلُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُكَفِّرَ، أَوْ يَكْفِي الْعَزْمُ عَلَى وَطْئِهَا، أَوِ الْعَزْمُ عَلَى إِمْسَاكِهَا وَتَرْكِ فِرَاقِهَا؟ وَالْأَوَّلُ قَوْلُ اللَّيْثِ وَالثَّانِي قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَمَالِكٍ، وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ الْوَطْءُ بِعَيْنِهِ بِشَرْطِ أَنْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، وَحُكِيَ عَنْهُ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ وَالْوَطْءِ مَعًا وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَالثَّالِثُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَثَمَّ قَوْلٌ رَابِعٌ سَنَذْكُرُهُ هُنَا.
قَوْلُهُ: (وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْمُنْكَرِ وَقَوْلِ الزُّورِ) هَذَا كَلَامُ الْبُخَارِيِّ وَمُرَادُهُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ شَرْطَ الْعَوْدِ هُنَا أَنْ يَقَعَ بِالْقَوْلِ وَهُوَ إِعَادَةُ لَفْظِ الظِّهَارِ، فَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ وَجَزَمَ بِأَنَّهُ مَرْجُوحٌ وَإِنْ كَانَ هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَبُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ مِنَ التَّابِعِينَ وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ النَّحْوِيُّ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ:{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أَيْ إِلَى قَوْلِ مَا قَالُوا: وَقَدْ بَالَغَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي إِنْكَارِهِ وَنَسَبَ قَائِلَهُ إِلَى الْجَهْلِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٌ فَكَيْفَ يُقَالُ إِذَا أَعَادَ الْقَوْلَ الْمُحَرَّمَ الْمُنْكَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ ثُمَّ تَحِلُّ لَهُ الْمَرْأَةُ؟ انْتَهَى. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: لَمَّا وَقَعَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {ثُمَّ يَعُودُونَ * فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ وُقُوعُ ضِدِّ مَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ الْمُظَاهَرَةِ، فَإِنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَمَسَّ فَأَعْتِقْ رَقَبَةً قَبْلَ أَنْ تَمَسَّ، لَكَانَ كَلَامًا صَحِيحًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: إِذَا لَمْ تُرِدْ أَنْ تَمَسَّ فَأَعْتِقَ رَقَبَةً قَبْلَ أَنْ تَمَسَّ. وَقَدْ جَرَى بَحْثٌ بَيْنَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ ابْنُ سُرَيْجٍ بِالْإِجْمَاعِ، فَأَنْكَرَهُ ابْنُ دَاوُدَ وَقَالَ: الَّذِينَ خَالَفُوا الْقُرْآنَ لَا أَعُدُّ خِلَافَهُمْ خِلَافًا.
وَأَنْكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنْ يَصِحَّ عَنْ بُكَيْرٍ بن الْأَشَجِّ، وَاخْتَلَفَ الْمُعْرِبُونَ فِي مَعْنَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ:{لِمَا قَالُوا} فَقِيلَ: مَعْنَاهَا ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى الْجِمَاعِ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ لِمَا قَالُوا، أَيْ فَعَلَيْهِمْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ أَجْلِ مَا قَالُوا، فَادَّعَوْا أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ:{لِمَا قَالُوا} مُتَعَلِّقٌ بِالْمَحْذُوفِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِمْ قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى الَّذِينَ كَانُوا يُظَاهِرُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا، أَيْ إِلَى الْمُظَاهَرَةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى عَنْ أَيْ يَرْجِعُونَ عَنْ قَوْلِهِمْ، وَهَذَا مُوَافِقٌ قَوْلَ مَنْ يُوَجِّبُ الْكَفَّارَةَ بِمُجَرَّدِ وُقُوعِ كَلِمَةِ الظِّهَارِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ مَا بِمَعْنَى مِنْ، أَيِ اللَّوَاتِي قَالُوا لَهُنَّ: أَنْتُنَّ عَلَيْنَا كَظُهُورِ أُمَّهَاتِنَا، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَالُوا بِتَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ أَيْ يَعُودُونَ لِلْقَوْلِ فَسَمَّى الْمَقُولَ فِيهِنَّ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ وَهُوَ الْقَوْلُ كَمَا قَالُوا: دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمَيرِ وَهُوَ مَضْرُوبُ الْأَمَيرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
24 - بَاب الْإِشَارَةِ فِي الطَّلَاقِ
وَالْأُمُورِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يُعَذِّبُ اللَّهُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا، فَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ، وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيَّ أَن خُذْ النِّصْفَ، وَقَالَتْ أَسْمَاءُ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكُسُوفِ، فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا شَأْنُ النَّاسِ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى الشَّمْسِ، فَقُلْتُ آيَةٌ؟ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا وهي تصلي، أي نَعَمْ، وَقَالَ أَنَسٌ: أَوْمَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْمَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ لَا حَرَجَ، وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ آحَدٌ مِنْكُمْ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكُلُوا.
5293 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعِيرِهِ، وَكَانَ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ وَكَبَّرَ وَقَالَتْ زَيْنَبُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فُتِحَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ، وَعَقَدَ تِسْعِينَ.
5294 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فَسَأَلَ اللَّهَ خَيْرًا إِلاَّ أَعْطَاهُ وَقَالَ بِيَدِهِ وَوَضَعَ أُنْمُلَتَهُ عَلَى بَطْنِ الْوُسْطَى وَالْخِنْصِرِ قُلْنَا يُزَهِّدُهَا"
5295 -
وَقَالَ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ شُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ عَدَا يَهُودِيٌّ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَارِيَةٍ فَأَخَذَ أَوْضَاحًا كَانَتْ عَلَيْهَا وَرَضَخَ رَأْسَهَا فَأَتَى بِهَا أَهْلُهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ فِي آخِرِ رَمَقٍ وَقَدْ أُصْمِتَتْ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ قَتَلَكِ فُلَانٌ لِغَيْرِ الَّذِي قَتَلَهَا فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لَا قَالَ فَقَالَ لِرَجُلٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي قَتَلَهَا فَأَشَارَتْ أَنْ لَا فَقَالَ فَفُلَانٌ لِقَاتِلِهَا فَأَشَارَتْ أَنْ نَعَمْ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُضِخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ"
5296 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ الْفِتْنَةُ مِنْ هَا هُنَا وَأَشَارَ إِلَى الْمَشْرِقِ"
5297 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَالَ لِرَجُلٍ انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمْسَيْتَ ثُمَّ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمْسَيْتَ إِنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا ثُمَّ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ فَقَالَ إِذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ"
5298 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ نِدَاءُ بِلَالٍ أَوْ قَالَ أَذَانُهُ مِنْ سَحُورِهِ فَإِنَّمَا يُنَادِي أَوْ قَالَ يُؤَذِّنُ لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ كَأَنَّهُ يَعْنِي الصُّبْحَ أَوْ الْفَجْرَ وَأَظْهَرَ يَزِيدُ يَدَيْهِ ثُمَّ مَدَّ إِحْدَاهُمَا مِنْ الأُخْرَى"
5299 -
وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قال رسول
مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ لَدُنْ ثَدْيَيْهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلَا يُنْفِقُ شَيْئًا إِلَّا مَادَّتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُجِنَّ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلَا يُرِيدُ يُنْفِقُ إِلَّا لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَوْضِعَهَا، فَهُوَ يُوسِعُهَا فَلَا تَتَّسِعُ، وَيُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ إِلَى حَلْقِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِشَارَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْأُمُورِ) أَيِ الْحُكْمِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَذَكَرَ فِيهِ عِدَّةَ أَحَادِيثَ مُعَلَّقَةٍ وَمَوْصُولَةٍ: أَوَّلُهَا قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْجَنَائِزِ، وَفِيهِ قِصَّةٌ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَفِيهَا وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ. ثَانِيهَا وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ هُوَ أَيْضًا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْمُلَازَمَةِ وَفِيهَا وَأَشَارَ إِلَى أَنْ خُذِ النِّصْفَ. ثَالِثُهَا وَقَالَتْ أَسْمَاءُ هِيَ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ.
قَوْلُهُ: (صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكُسُوفِ) الْحَدِيثَ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بِلَفْظِ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ وَفِيهِ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَيْ نَعَمْ وَفِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ بِمَعْنَاهُ، وَفِي صَلَاةِ السَّهْوِ بِاخْتِصَارٍ. رَابِعُهَا وَقَالَ أَنَسٌ: أَوْمَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. خَامِسُهَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْعِلْمِ فِي بَابِ مَنْ أَجَابَ الْفُتْيَا بِإِشَارَةِ الْيَدِ وَالرَّأْسِ. وَفِيهِ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ وَلَا حَرَجَ، سَادِسُهَا وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ هُوَ أَيْضًا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي بَابِ لَا يُشِيرُ الْمُحْرِمُ إِلَى الصَّيْدِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ، وَفِيهِ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا. الحديث السابع.
قَوْلُهُ: (أَبُو عَامِرٍ) هُوَ الْعَقَدِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ شَيْخُهُ جَزَمَ الْمِزِّيُّ بِأَنَّهُ ابْنُ طَهْمَانَ، وَزَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي بُكَيْرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ خَالِدٍ وَهُوَ الْحَذَّاءُ، وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَفِيهِ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ. الثَّامِنُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ زَيْنَبُ) هِيَ بِنْتُ جَحْشٍ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ.
قَوْلُهُ: (مِثْلُ هَذِهِ وَهَذِهِ وَعَقَدَ تِسْعِينَ) تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مَوْصُولًا، وَيَأْتِي فِي الْفِتَنِ لَكِنْ بِلَفْظِ وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا وَهِيَ صُورَةُ عَقْدِ التِّسْعِينَ وَسَيَأْتِي فِي الْفِتَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ وَعَقَدَ تِسْعِينَ وَوَجْهُ إِدْخَالِهِ فِي التَّرْجَمَةِ أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ لِإِرَادَةِ عَدَدٍ مَعْلُومٍ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ، فَإِذَا اكْتَفَى بِهَا عَنِ النُّطْقِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ الْإِشَارَةِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى النُّطْقِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
التَّاسِعُ.
قَوْلُهُ (سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَاللَّامِ شَيْخٌ ثِقَةٌ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ وَكَذَا سَائِرُ رَوَاةِ هَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَدْ يَلْتَبِسُ بِمَسْلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ شَيْخٌ بَصْرِيٌّ أَيْضًا لَكِنْ فِي أَوَّلِ اسْمِهِ زِيَادَةُ مِيمٍ وَالْمُهْمَلَةُ سَاكِنَةٌ، وَهُوَ دُونَ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ فِي الطَّبَقَةِ وَالثِّقَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ بِيَدِهِ) أَيْ أَشَارَ بِهَا وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ.
قَوْلُهُ: (وَوَضَعَ أُنْمُلَتَهُ عَلَى بَطْنِ الْوُسْطَى وَالْخِنْصَرِ قُلْنَا يُزَهِّدُهَا) أَيْ يُقَلِّلُهَا، بَيَّنَ أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مُسَدَّدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ هُوَ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ رَاوِيهِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ، فَعَلَ هَذَا فَفِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ إِدْرَاجٌ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِوَضْعِ الْأُنْمُلَةِ فِي وَسَطِ الْكَفِّ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ سَاعَةَ الْجُمُعَةِ فِي وَسَطِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَبِوَضْعِهَا عَلَى الْخِنْصَرِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهَا فِي آخِرِ النَّهَارِ لِأَنَّ الْخِنْصَرَ آخِرُ أَصَابِعِ الْكَفِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ الْأَقَاوِيلِ فِي تَعْيِينِ وَقْتِهَا فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ.
الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْأُوَيْسِيُّ) هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، أَخْرَجَ عَنْهُ الْكَثِيرَ فِي الْعِلْمِ وَفِي غَيْرِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ عَنْهُ، وَيَأْتِي فِي الدِّيَاتِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ مَعَ شَرْحِهِ. وَقَوْلُهُ فِيهِ أَوْضَاحًا
جَمْعُ وَضَحٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالْمُعْجَمَةِ ثُمَّ مُهْمَلَةٌ هُوَ الْبَيَاضُ، وَالْمُرَادُ هُنَا حُلِيٌّ مِنْ فِضَّةٍ. وَقَوْلُهُ: رَضَخَ بِرَاءٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ ضَادٍ وَخَاءٍ مُعْجَمَتَيْنِ أَيْ كَسَرَ رَأْسَهَا، وَهِيَ فِي آخِرِ رَمَقٍ أَيْ نَفَسٍ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَقَوْلُهُ: أُصْمِتَتْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ وَقَعَ بِهَا الصَّمْتُ أَيْ خَرَسٌ فِي لِسَانِهَا مَعَ حُضُورِ ذِهْنِهَا، وَفِيهِ فَأَشَارَتْ أَنْ لَا وَفِيهِ فَأَشَارَتْ أَنْ نَعَمْ.
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي ذِكْرِ الْفِتَنِ، يَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْفِتَنِ، وَفِيهِ وَأَشَارَ إِلَى الْمَشْرِقِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْفَى.
قَوْلُهُ: (فَاجْدَحْ لِي) بِجِيمٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ أَيْ حَرِّكِ السَّوِيقَ بِعُودٍ لِيَذُوبَ فِي الْمَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ مَتَى يَحِلُّ فِطْرُ الصَّائِمِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى مِنْ كِتَابِ الصِّيَامِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: ثُمَّ أَوْمَأَ بِيَدِهِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ.
الثَّالِثَ عَشَرَ حَدِيثُ أَبِي عُثْمَانَ وَهُوَ النَّهْدِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (لِيَرْجِعَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، وَقَائِمَكُمْ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: ولَيْسَ أَنْ يَقُولَ هُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ، وَقَوْلُهُ: كَأَنَّهُ يَعْنِي الصُّبْحَ أَوِ الْفَجْرَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ الْأَذَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ بِلَفْظِ يَقُولُ: الْفَجْرُ بِغَيْرِ شَكٍّ.
قَوْلُهُ: (وَأَظْهَرَ يَزِيدُ) هُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ رَاوِيهِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ مَدَّ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى) تَقَدَّمَ فِي الْأَذَانِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ أُخْرَى، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ لَيْسَ الْفَجْرَ الْمُعْتَرِضَ وَلَكِنِ الْمُسْتَطِيلُ وَبِهِ يَظْهَرُ الْمُرَادُ مِنَ الْإِشَارَةِ الْمَذْكُورَةِ الحديث الرابع عشر.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ) تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى إِسْنَادِهِ فِي أَوَائِلِ الزَّكَاةِ مَعَ شَرْحِهِ، وَقَوْلُهُ هُنَا جُبَّتَانِ بِجِيمٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَادَّتْ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ مِنَ الْمَدِّ، وَأَصْلُهُ مَادَدَتْ فَأُدْغِمَتْ وَذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ بِلَفْظِ مَارَتْ بِرَاءٍ خَفِيفَةٍ بَدَلَ الدَّالِ، وَنُقِلَ عَنِ الْخَلِيلِ مَارَ الشَّيْءُ يَمُورُ مَوْرًا إِذَا تَرَدَّدَ، وَقَوْلُهُ: مِنْ لَدُنْ ثَدْيَيْهِمَا كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِالتَّثْنِيَةِ وَلِغَيْرِهِ ثُدِيِّهِمَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَهُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ ثَدْيَيْنِ فَيَكُونُ لَهُمَا أَرْبَعَةٌ، كَذَا قَالَ، وَلَيْسَتِ الرِّوَايَةُ بِالتَّثْنِيَةِ خَطَأً بَلْ هِيَ مُوَجَّهَةٌ وَالتَّقْدِيرُ ثَدْيَيْ كُلٍّ مِنْهُمَا. وَقَوْلُهُ:(تَجُنُّ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْجِيمِ قَيَّدَهُ ابْنُ التِّينِ قَالَ: وَيَجُوزُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْجِيمِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، قُلْتُ: وَهُوَ الثَّابِتُ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ، وَمَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ وَيُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ إِلَى حَلْقِهِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ إِذَا كَانَتْ مُفْهِمَةً تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ النُّطْقِ، وَخَالَفَهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي جَعَلَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِشَارَةَ قَائِمَةً مَقَامَ النُّطْقِ، وَإِذَا جَازَتِ الْإِشَارَةُ فِي أَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الدِّيَانَةِ فَهِيَ لِمَنْ لَا يُمْكِنُهُ النُّطْقُ أَجَوْزُ وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَخْرَسِ وَغَيْرِهِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنْهَا الْأَصْلُ وَالْعَدَدُ نَافِذ كَاللَّفْظِ اهـ.
وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَوْرَدَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ وَأَحَادِيثَهَا تَوْطِئَةً لِمَا يَذْكُرُهُ مِنَ الْبَحْثِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مَعَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ لِعَانِ الْأَخْرَسِ وَطَلَاقِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ، فَأَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ فَقَالُوا: يَكْفِي وَلَوْ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى النُّطْقِ، وَأَمَّا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالْعُقُودِ وَالْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنِ اعْتُقِلَ لِسَانُهُ، ثَالِثُهَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ مَأْيُوسًا مِنْ نُطْقِهِ، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: إِنِ اتَّصَلَ بِالْمَوْتِ. وَرَجَّحَهُ الطَّحَاوِيُّ. وَعَنِ لْأَوْزَاعِيِّ: إِنْ سَبَقَهُ كَلَامٌ، وَنُقِلَ عَنْ مَكْحُولٍ إِنْ قَالَ فُلَانٌ حُرٌّ ثُمَّ أُصْمِتَ فَقِيلَ لَهُ: وَفُلَانٌ؟ فَأَوْمَأَ صَحَّ. وَأَمَّا الْقَادِرُ عَلَى النُّطْقِ فَلَا تَقُومُ إِشَارَتُهُ مَقَامَ نُطْقِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَاخْتُلِفَ هَلْ يَقُومُ مَقَامَ النِّيَّةِ كَمَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقِيلَ لَهُ: كَمْ طَلْقَةً؟ فَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ.
25 - بَاب اللِّعَانِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ}
-
إِلَى قَوْلِهِ - {مِنَ الصَّادِقِينَ} فَإِذَا قَذَفَ الْأَخْرَسُ امْرَأَتَهُ بِكِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ إِيمَاءٍ مَعْرُوفٍ فَهُوَ كَالْمُتَكَلِّمِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَجَازَ الْإِشَارَةَ فِي الْفَرَائِضِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {إِلا رَمْزًا} إِشَارَةً، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ الطَّلَاقَ بِكِتَابٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ إِيمَاءٍ جَائِزٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْقَذْفِ فَرْقٌ، فَإِنْ قَالَ: الْقَذْفُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِكَلَامٍ، قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ الطَّلَاقُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِكَلَامٍ، وَإِلَّا بَطَلَ الطَّلَاقُ وَالْقَذْفُ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ، وَكَذَلِكَ الْأَصَمُّ يُلَاعِنُ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ: إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ تَبِينُ مِنْهُ بِإِشَارَتِهِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: الْأَخْرَسُ إِذَا كَتَبَ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ، وَقَالَ حَمَّادٌ: الْأَخْرَسُ وَالْأَصَمُّ إِنْ قَالَ بِرَأْسِهِ جَازَ.
5300 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الْأَنْصَارِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو سَاعِدَةَ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ فَقَبَضَ أَصَابِعَهُ، ثُمَّ بَسَطَهُنَّ كَالرَّامِي بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ.
5301 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ أَبُو حَازِمٍ سَمِعْتُهُ مِنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ أَوْ كَهَاتَيْنِ وَقَرَنَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى"
5302 -
حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي ثَلَاثِينَ ثُمَّ قَالَ وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي تِسْعًا وَعِشْرِينَ يَقُولُ مَرَّةً ثَلَاثِينَ وَمَرَّةً تِسْعًا وَعِشْرِينَ"
5303 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ وَأَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ نَحْوَ الْيَمَنِ الإِيمَانُ هَا هُنَا مَرَّتَيْنِ أَلَا وَإِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ"
5304 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَأَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا"
[الحديث 5304 - طرفه في: 6005]
قَوْلُهُ: (بَابُ اللِّعَانِ) هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ اللَّعْنِ، لِأَنَّ الْمُلَاعِنَ يَقُولُ: لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاخْتِيرَ لَفْظُ اللَّعْنِ دُونَ الْغَضَبِ فِي التَّسْمِيَةِ لِأَنَّهُ قَوْلُ الرَّجُلِ، وَهُوَ الَّذِي بُدِئَ بِهِ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ أَيْضًا يَبْدَأُ بِهِ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ فَيَسْقُطُ عَنِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ عَكْسٍ، وَقِيلَ: سُمِّيَ لِعَانًا لِأَنَّ اللَّعْنَ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا خُصَّتِ الْمَرْأَةُ بِلَفْظِ الْغَضَبِ لِعِظَمِ الذَّنْبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ كَاذِبًا لَمْ يَصِلْ ذَنْبُهُ إِلَى أَكْثَرَ مِنَ الْقَذْفِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ كَاذِبَةٌ فَذَنْبُهَا أَعْظَمُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَلْوِيثِ الْفِرَاشِ وَالتَّعَرُّضِ لِإِلْحَاقِ مَنْ لَيْسَ مِنَ الزَّوْجِ بِهِ، فَتَنْتَشِرُ الْمَحْرَمِيَّةُ، وَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ وَالْمِيرَاثُ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُمَا.
وَاللِّعَانُ وَالِالْتِعَانُ وَالْمُلَاعَنَةُ بِمَعْنًى، وَيُقَالُ: تَلَاعَنَا وَالْتَعَنَا وَلَاعَنَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، وَالرَّجُلُ مُلَاعِنٌ وَالْمَرْأَةُ مُلَاعِنَةٌ لِوُقُوعِهِ غَالِبًا مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ اللِّعَانِ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ التَّحَقُّقِ. وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ عَلَى الزَّوْجِ، لَكِنْ لَوْ تَحَقَّقَ أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ قَوِيَ الْوُجُوبُ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} - إِلَى قَوْلِهِ - {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الْآيَاتِ كُلَّهَا، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ تَمَسَّكَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَرْمُونَ} لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِاللَّفْظِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ غَيْرُهُ لِلْجُمْهُورِ بِهَا فِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الِالْتِعَانِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: رَأَيْتُهَا تَزْنِي، وَلَا أَنْ يَنْفِيَ حَمْلَهَا إِنْ كَانَتْ حَامِلًا أَوْ وَلَدَهَا إِنْ كَانَتْ وَضَعَتْ خِلَافًا لِمَالِكٍ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ: إِنَّهَا زَانِيَةٌ أَوْ زَنَتْ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ اللَّهَ شَرَعَ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِرَمْيِ الْمُحْصَنَةِ، ثُمَّ شَرَعَ اللِّعَانَ بِرَمْيِ الزَّوْجَةِ، فَلَوْ أَنَّ أَجْنَبِيًّا قَالَ: يَا زَانِيَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ اللِّعَانِ. وَأَوْرَدُوا عَلَى الْمَالِكِيَّةِ الِاتِّفَاقَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ اللِّعَانِ لِلْأَعْمَى فَانْفَصَلَ عَنْهُ ابْنُ الْقَصَّارِ بِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَقُولَ: لَمَسْتُ فَرْجَهُ فِي فَرْجِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا قَذَفَ الْأَخْرَسُ امْرَأَتَهُ بِكِتَابَةٍ) بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، وَعِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِكِتَابٍ بِلَا هَاءٍ.
قَوْلُهُ: (أَوْ إِشَارَةٍ
أَوْ إِيمَاءٍ مَعْرُوفٍ فَهُوَ كَالْمُتَكَلِّمِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَجَازَ الْإِشَارَةَ فِي الْفَرَائِضِ) أَيْ فِي الْأُمُورِ الْمَفْرُوضَةِ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ) أَيْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: لَمَّا قَالُوا لِمَرْيَمَ: لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا إِلَخْ، أَشَارَتْ إِلَى عِيسَى أَنْ كَلِّمُوهُ، فَقَالُوا: تَأْمُرُنَا أَنْ نُكَلِّمَ مَنْ هُوَ فِي الْمَهْدِ زِيَادَةً عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ مِنَ الدَّاهِيَةِ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ مَرْيَمَ كَانَتْ نَذَرَتْ أَنْ لَا تَتَكَلَّمَ فَكَانَتْ فِي حُكْمِ الْأَخْرَسِ فَأَشَارَتْ إِشَارَةً مُفْهِمَةً اكْتَفَوْا بِهَا عَنْ مُعَاوَدَةِ سُؤَالِهَا وَإِنْ كَانُوا أَنْكَرُوا عَلَيْهَا مَا أَشَارَتْ بِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَنْسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} أَيْ صَمْتًا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الضَّحَّاكُ) أَيِ ابْنُ مُزَاحِمٍ (إِلَّا رَمْزًا إِشَارَةٌ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ فِي تَفْسِيرِ سُفْيَانَ، الثَّوْرِيِّ، وَلَفْظُهُمَا عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} فَاسْتَثْنَى الرَّمْزَ مِنَ الْكَلَامِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ حُكْمَهُ. وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: الضَّحَّاكُ هُوَ ابْنُ شَرَاحِيلَ الْهَمْدَانِيُّ، فَلَمْ يُصِبْ فَإِنَّ الْمَشْهُورَ بِالتَّفْسِيرِ هُوَ ابْنُ مُزَاحِمٍ، وَقَدْ وُجِدَ الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْهُ مُصَرِّحًا أَنَّهُ ابْنُ مُزَاحِمٍ، وَأَمَّا ابْنُ شَرَاحِيلَ وَيُقَالُ ابْنُ شُرَحْبِيلَ فَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ لَكِنْ لَمْ يَنْقُلُوا عَنْهُ شَيْئًا مِنَ التَّفْسِيرِ، بَلْ لَهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ حَدِيثَانِ فَقَطْ أَحَدُهُمَا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ وَالْآخَرُ فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ وَكِلَاهُمَا مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: الرَّمْزُ الْإِشَارَةُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسُ لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ) أَيْ بِالْإِشَارَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ وَغَيْرِهِ (ثُمَّ زَعَمَ إِنْ طَلَّقَ بِكِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ
أَوْ إِيمَاءٍ جَازَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ أَنَّ الطَّلَاقَ بِكِتَابَةٍ إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (وَلَيْسَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْقَذْفِ فَرْقٌ، فَإِنْ قَالَ الْقَذْفُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِكَلَامٍ قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ الطَّلَاقُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِكَلَامٍ) أَيْ وَأَنْتَ وَافَقَتْ عَلَى وُقُوعِهِ بِغَيْرِ الْكَلَامِ فَلَزِمَكَ مِثْلُهُ فِي اللِّعَانِ وَالْحَدِّ.
قَوْلُهُ: (وَإِلَّا بَطَلَ الطَّلَاقُ وَالْقَذْفُ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ) يَعْنِي إِمَّا أَنْ يُقَالَ بِاعْتِبَارِ الْإِشَارَةِ فِيهَا كُلِّهَا أَوْ بِتَرْكِ اعْتِبَارِهَا فَتَبْطُلُ كُلُّهَا بِالْإِشَارَةِ، وَإِلَّا فَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ تَحَكُّمٌ، وَقَدْ وَافَقَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى هَذَا الْبَحْثِ وَقَالَ: الْقِيَاسُ بُطْلَانُ الْجَمِيعِ، لَكِنْ عَمِلْنَا بِهِ فِي غَيْرِ اللِّعَانِ وَالْحَدِّ اسْتِحْسَانًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَنَعْنَاهُ فِي اللِّعَانِ وَالْحَدِّ لِلشُّبْهَةِ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالصَّرِيحِ كَالْقَذْفِ فَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْإِشَارَةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ صَرِيحَةٍ، وَهَذِهِ عُمْدَةُ مَنْ وَافَقَ الْحَنَفِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَرَدَّهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْإِشَارَةُ مُفْهِمَةً إِفْهَامًا وَاضِحًا لَا يَبْقَى مَعَهُ رِيبَةٌ، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَيْضًا أَنَّ الْقَذْفَ يَتَعَلَّقُ بِصَرِيحِ الزِّنَا دُونَ مَعْنَاهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ قَالَ لِآخَرَ: وَطِئْتَ وَطْئًا حَرَامًا لَمْ يَكُنْ قَذْفًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ وَطِئَ وَطْءَ شُبْهَةٍ فَاعْتَقَدَ الْقَائِلُ أَنَّهُ حَرَامٌ، وَالْإِشَارَةُ لَا يَتَّضِحُ بِهَا التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجِبُ الْحَدُّ فِي التَّعْرِيضِ، وَأَجَابَ ابْنُ الْقَصَّارِ بِالنَّقْضِ عَلَيْهِمْ بِنُفُوذِ الْقَذْفِ بِغَيْرِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَنَقَضَ غَيْرُهُ بِالْقَتْلِ فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ إِلَى عَمْدٍ وَشِبْهِ عَمْدٍ وَخَطَأٍ وَيَتَمَيَّزُ بِالْإِشَارَةِ وَهُوَ قَوِيٌّ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ وَشَهَادَةُ الْأَخْرَسِ مَرْدُودَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مَالِكًا ذَكَرَ قَبُولَهَا فَلَا إِجْمَاعَ، وَبِأَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَ الْأَكْثَرِ يَمِينٌ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ الْأَصَمُّ يُلَاعِنُ) أَيْ إِذَا أُشِيرَ إِلَيْهِ حَتَّى فَهِمَ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي أَمْرِهِ إِشْكَالٌ، لَكِنْ قَدْ يَرْتَفِعُ بِتَرْدَادِ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنْ تُفْهَمَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ عَنْهُ. قُلْتُ: وَالْإِطْلَاعُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِذَلِكَ سَهْلٌ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ مِنْ نُطْقِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ: إِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ تَبِينُ مِنْهُ بِإِشَارَتِهِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِلَفْظِ: سُئِلَ الشَّعْبِيُّ فَقَالَ: سُئِلَ رَجُلٌ مَرَّةً: أَطَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ؟ قَالَ: فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ بِأَرْبَعِ أَصَابِعَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فَفَارَقَ امْرَأَتَهُ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَبَّرَ عَمَّا نَوَاهُ مِنَ الْعَدَدِ بِالْإِشَارَةِ فَاعْتَدُّوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: الْأَخْرَسُ إِذَا كَتَبَ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِلَفْظِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْأَثْرَمُ، عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِلَفْظِ الرَّجُلِ يَكْتُبُ الطَّلَاقَ وَلَا يَلْفِظُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَرَاهُ لَازِمًا، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْأَخْرَسَ إِذَا كَتَبَ الطَّلَاقَ أَوْ نَوَاهُ لَزِمَهُ ; وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ طَلَاقًا، يَعْنِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا، أَمَّا لَوْ جَمَعَهُمَا فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ بِالْوُقُوعِ سَوَاءً كَانَ نَاطِقًا أَمْ أَخْرَسَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ حَمَّادٌ: الْأَخْرَسُ وَالْأَصَمُّ إِنْ قَالَ بِرَأْسِهِ جَازَ) هُوَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ شَيْخُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ إِلْزَامَ الْكُوفِيِّينَ بِقَوْلِ شَيْخِهِمْ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحِلَّ الْجَوَازِ حَيْثُ يَسْبِقُ مَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَاءِ بِالرَّأْسِ الْجَوَابُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ تَتَعَلَّقُ بِالْإِشَارَةِ أَيْضًا:
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ فِي فَضْلِ دُورِ الْأَنْصَارِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمَنَاقِبِ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَهُ هُنَاكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، وَأَوْرَدَهُ هُنَا عَنْ أَنَسٍ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَالطَّرِيقَانِ صَحِيحَانِ، وَفِي زِيَادَةِ أَنَسٍ هَذِهِ الْإِشَارَةُ وَلَيْسَتْ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مِنَ الزِّيَادَةِ قِصَّةٌ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْحَدِيثِ هُنَا قَوْلُهُ: ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ فَقَبَضَ أَصَابِعَهُ ثُمَّ بَسَطَهُنَّ كَالرَّامِي بِيَدِهِ فَفِيهِ اسْتِعْمَالُ الْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ مَقْرُونَةً بِالنُّطْقِ، وَقَوْلُهُ: كَالرَّامِي بِيَدِهِ أَيْ كَالَّذِي يَكُونُ بِيَدِهِ الشَّيْءُ قَدْ ضَمَّ أَصَابِعَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ رَمَاهُ فَانْتَشَرَتْ.
الثَّانِي حَدِيثُ سَهْلٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو حَازِمٍ) كَذَا وَقَعَ عِنْدَهُ وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ سُفْيَانَ بِلَفْظِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ وَصَرَّحَ الْحُمَيْدِيُّ،
عَنْ سُفْيَانَ بِالتَّحْدِيثِ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ حَدثنَا أَبُو حَازِمٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَهْلًا أَخْرَجَهُ أبُو نُعَيْمٍ.
قَوْلُهُ: (كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ أَوْ كَهَاتَيْنِ) شَك مِنَ الرَّاوِي، وَاقْتَصَرَ الْحُمَيْدِيُّ عَلَى قَوْلِهِ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ.
قَوْلُهُ: (وَفَرَّقَ وَأَشَارَ سُفْيَانُ بِالسَّبَّابَةِ) سَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَدِ انْقَضَى مِنْ يَوْمِ بَعْثَتِهِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا - يَعْنِي سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَسَبْعمِائَةٍ - سَبْعُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ سَنَةً، فَكَيْفَ تَكُونُ الْمُقَارَبَةُ؟ وَأَجَابَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الَّذِي بَقِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مَضَى قَدْرَ فَضْلِ الْوُسْطَى إِلَى السَّبَّابَةِ. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ حَيْثُ أَشَرْتُ إِلَيْهِ.
الثَّالِثُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الصِّيَامِ.
وَالرَّابِعُ حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ - وَهُوَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو - وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ، والْكُشْمِيهَنِيِّ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ عِيَاضٌ: وَهُوَ وَهْمٌ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ كَذَلِكَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ وَالْمَنَاقِبِ وَالْمَغَازِي مِنْ طُرُقٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَصَرَّحَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ بِاسْمِهِ وَلَفْظِهِ حَدَّثَنِي قَيْسٌ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرِو أَبِي مَسْعُودٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي ذِكْرِ الْجِنِّ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَبَقِيَّةُ شَرْحِهِ فِي أَوَّلِ الْمَنَاقِبِ.
الْخَامِسُ حَدِيثُ سَهْلٍ فِي فَضْلِ كَافِلِ الْيَتِيمِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ فِيهِ بِالسَّبَّابَةِ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالسَّبَّاحَةِ وَهُمَا بِمَعْنًى.
26 - بَاب إِذَا عَرَّضَ بِنَفْيِ الْوَلَدِ
5305 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وُلِدَ لِي غُلَامٌ أَسْوَدُ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنَّى ذَلِكَ؟ قَالَ: لَعَلَّ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا عَرَّضَ بِنَفْيِ الْوَلَدِ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنَ التَّعْرِيضِ، وَهُوَ ذِكْرُ شَيْءٍ يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ لَمْ يُذْكَرْ، وَيُفَارِقُ الْكِنَايَةَ بِأَنَّهَا ذِكْرُ شَيْءٍ بِغَيْرِ لَفْظِهِ الْمَوْضُوعِ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ لِهَذَا الْحَدِيثِ فِي الْحُدُودِ مَا جَاءَ فِي التَّعْرِيضِ وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ يُعَرِّضُ بِنَفْيِهِ، وَقَدِ اعْتَرَضَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فَقَالَ: ذَكَرَ تَرْجَمَةَ التَّعْرِيضِ عَقِبَ تَرْجَمَةِ الْإِشَارَةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي إِفْهَامِ الْمَقْصُودِ، لَكِنَّ كَلَامَهُ يُشْعِرُ بِإِلْغَاءِ حُكْمِ التَّعْرِيضِ فَيَتَنَاقَضُ مَذْهَبُهُ فِي الْإِشَارَةِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِشَارَةَ الْمُعْتَبَرَةَ هِيَ الَّتِي لَا يُفْهَمُ مِنْهَا إِلَّا الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ، بِخِلَافِ التَّعْرِيضِ فَإِنَّ الِاحْتِمَالَ فِيهِ إِمَّا رَاجِحٌ وَإِمَّا مُسَاوٍ فَافْتَرَقَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: ظَاهِرُ قَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ اتَّهَمَ امْرَأَتَهُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ لِقَوْلِهِ وَجْهٌ غَيْرُ الْقَذْفِ لَمْ يَحْكُمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ بِحُكْمِ الْقَذْفِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ فِي التَّعْرِيضِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ لَا يُعْطِي حُكْمَ التَّصْرِيحِ الْإِذْنَ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ بِالتَّعْرِيضِ لَا بِالتَّصْرِيحِ فَلَا يَجُوزُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: أَخْرَجَهُ أَبُو مُصْعَبٍ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ، وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّوَاةِ خَارِجَ الْمُوَطَّأِ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ مَالِكٍ أَنَا الزُّهْرِيُّ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، عَنْ مَالِكٍ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَمَالِكٌ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَطَرِيقُ ابْنِ وَهْبٍ هَذِهِ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ.
قَوْلُهُ: (إنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ أَخْبَرَهُ) كَذَا لِأَكْثَرِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَخَالَفَهُمْ يُونُسُ فَقَالَ
عَنْهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ، وَهُوَ مَصِيرٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ إِلَى أَنَّهُ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ مَعًا، وَقَدْ وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَقَدْ أَطْلَقَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ الْمَحْفُوظَ رِوَايَةُ مَالِكٍ وَمَنْ تَابَعَهُ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالتَّرْجِيحِ، وَأَمَّا طَرِيقُ الْجَمْعِ فَهُوَ مَا صَنَعَهُ الْبُخَارِيُّ، وَيَتَأَيَّدُ أَيْضًا بِأَنَّ عَقِيلًا رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: بَلَغْنَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ عِنْدَهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ عَنْ وَاحِدٍ فَقَطْ كَسَعِيدٍ مَثَلًا لَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (إنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ أَبِي مُصْعَبٍ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ وَكَذَا سَيَأْتِي فِي الْحُدُودِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَلِلنَّسَائِيِّ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ، عَنْ مَالِكٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ الَّتِي عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا مِنْ بَنِي فَزَارَةَ وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَاسْمُ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ ضَمْضَمُ بْنُ قَتَادَةَ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ فِي الْمُبْهَمَاتِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ قُطْبَةَ بِنْتِ عَمْرِو بْنِ هَرَمٍ أَنَّ مَدْلُوكًا حَدَّثَهَا إنَّ ضَمْضَمَ بْنَ قَتَادَةَ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ أَسْوَدُ مِنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عِجْلٍ فَشَكَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟
قَوْلُهُ: (أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ صَرَخَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الْمَرْأَةِ وَلَا عَلَى اسْمِ الْغُلَامِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ وَإِنِّي أَنْكَرْتُهُ أَيِ اسْتَنْكَرْتُهُ بِقَلْبِي وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ أَنْكَرَ كَوْنَهُ ابْنَهُ بِلِسَانِهِ وَإِلَّا لَكَانَ تَصْرِيحًا بِالنَّفْيِ لَا تَعْرِيضًا، وَوَجْهُ التَّعْرِيضِ، أَنَّهُ قَالَ غُلَامًا أَسْوَدَ أَيْ وَأَنَا أَبْيَضُ فَكَيْفَ يَكُونُ مِنِّي؟ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَهُوَ حِينَئِذٍ يُعَرِّضُ بِأَنْ يَنْفِيَهُ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ لَيْسَ قَذْفًا وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِذَلِكَ، وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ إِذَا كَانَ مَفْهُومًا، وَأَجَابُوا عَنِ الْحَدِيثِ بِمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي آخِرِ شَرْحِهِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدٌّ وَلَا تَعْزِيرٌ. قُلْتُ: وَفِي هَذَا الْإِطْلَاقِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَفْتِي بِلَفْظٍ لَا يَقْتَضِي الْقَذْفَ وَبِلَفْظٍ يَقْتَضِيهِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا: إِذَا كَانَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ أَبْيَضَ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ أَسْوَدَ: مَا الْحُكْمُ؟ وَمِنَ الثَّانِي أَنْ يَقُولَ مَثَلًا: إِنَّ امْرَأَتِي أَتَتْ بِوَلَدٍ أَسْوَدَ وَأَنَا أَبْيَضُ فَيَكُونُ تَعْرِيضًا، أَوْ يَزِيدُ فِيهِ مَثَلًا زَنَتْ فَيَكُونُ تَصْرِيحًا، وَالَّذِي وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ هُوَ الثَّانِي فَيَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ. وَقَدْ نَبَّهَ الْخَطَّابِيُّ عَلَى عَكْسِ هَذَا فَقَالَ: لَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ إِذَا صَرَّحَ بِأَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي وَضَعَتْهُ امْرَأَتُهُ لَيْسَ مِنْهُ حَدُّ قَذْف لِجَوَازِ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهَا وُطِئَتْ بشبهة أَوْ وَضَعَتْهُ مِنَ الزَّوْجِ الَّذِي قَبْلَهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا.
قَوْلُهُ: (قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ قَالَ رُمْكٌ وَالْأَرْمَكُ الْأَبْيَضُ إِلَى حُمْرَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ جَمَلِ جَابِرٍ فِي الشَّروطِ.
قَوْلُهُ: (فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ) بِوَزْنِ أَحْمَرَ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا) بِضَمِّ الْوَاوِ بِوَزْنِ حُمْرٍ، وَالْأَوْرَقُ الَّذِي فِيهِ سَوَادٌ لَيْسَ بِحَالِكٍ بَلْ يَمِيلُ إِلَى الْغَبَرَةِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْحَمَامَةِ وَرْقَاءُ.
قَوْلُهُ: (فَأَنَّى ذَلِكَ) بِفَتْحِ النُّونِ الثَّقِيلَةِ أَيْ مِنْ أَيْنَ أَتَاهَا اللَّوْنُ الَّذِي خَالَفَهَا، هَلْ هُوَ بِسَبَبِ فَحْلٍ مِنْ غَيْرِ لَوْنِهَا طَرَأَ عَلَيْهَا أَوْ لِأَمْرٍ آخَرَ؟.
قَوْلُهُ: (لَعَلَّ نَزَعَهُ عِرْقٌ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ لَعَلَّهُ وَلَا إِشْكَالَ فِيهَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَجَزَمَ جَمْعٌ بِأَنَّ الصَّوَابَ النَّصْبُ أَيْ لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ، وَقَالَ الصَّغَانِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَصْلِ لَعَلَّهُ فَسَقَطَتِ الْهَاءِ، وَوَجَّهَهُ ابْنُ مَالِكٍ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ حَذَفَ مِنْهُ ضَمِيرَ الشَّأْنِ، وَيُؤَيِّدُ تَوْجِيهَهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَالْمَعْنَى يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي أُصُولِهَا مَا هُوَ بِاللَّوْنِ الْمَذْكُورِ فَاجْتَذَبَهُ إِلَيْهِ فَجَاءَ عَلَى لَوْنِهِ، وَادَّعَى الدَّاوُدِيُّ أَنَّ لَعَلَّ هُنَا لِلتَّحْقِيقِ.
قَوْلُهُ: (وَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ
بِحَذْفِ الْفَاعِلِ، وَلِغَيْرِهِ نَزَعَهُ عِرْقٌ وَكَذَا فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ، وَالْمُرَادُ بِالْعِرْقِ الْأَصْلُ مِنَ النَّسَبِ شَبَّهَهُ بِعِرْقِ الشَّجَرَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ عَرِيقٌ فِي الْأَصَالَةِ أَيْ أَنَّ أَصْلَهُ مُتَنَاسِبٌ، وَكَذَا مُعْرِقٌ فِي الْكَرْمِ أَوِ اللُّؤْمِ، وَأَصْلُ النَّزْعِ الْجَذْبُ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَيْلِ، وَمِنْهُ مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ حِينَ سُئِلَ عَنْ شَبَهِ الْوَلَدِ بِأَبِيهِ أَوْ بِأُمِّهِ: نَزَعَ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ، وَفِي الْحَدِيثِ ضَرْبُ الْمَثَلِ، وَتَشْبِيهُ الْمَجْهُولِ بِالْمَعْلُومِ تَقْرِيبًا لِفَهْمِ السَّائِلِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ لِصِحَّةِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ أَصْلٌ فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارُ بِالنَّظِيرِ ; وَتَوَقَّفَ فِيهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ: هُوَ تَشْبِيهٌ فِي أَمْرٍ وُجُودِيٍّ، وَالنِّزَاعُ إِنَّمَا هُوَ فِي التَّشْبِيهِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدَةٍ قَوِيَّةٍ. وَفِيهِ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاءُ مِنْ وَلَدِهِ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ، وَأَنَّ الْوَلَدَ يَلْحَقُ بِهِ وَلَوْ خَالَفَ لَوْنُهُ لَوْنَ أُمِّهِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ تَبَعًا لِابْنِ رُشْدٍ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ نَفْيُ الْوَلَدِ بِاخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالْأُدْمَةِ وَالسُّمْرَةِ، وَلَا فِي الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ إِذَا كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ وَلَمْ تَمْضِ مُدَّةُ الِاسْتِبْرَاءِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ فِي مَذْهَبِهِ، وَإِلَّا فَالْخِلَافُ ثَابِتٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِتَفْصِيلٍ فَقَالُوا: إِنْ لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ قَرِينَةُ زِنًا لَمْ يَجُزِ النَّفْيُ، فَإِنِ اتَّهَمَهَا فَأَتَتْ بِوَلَدٍ عَلَى لَوْنِ الرَّجُلِ الَّذِي اتَّهَمَهَا بِهِ جَازَ النَّفْيُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِي فِي اللِّعَانِ مَا يُقَوِّيهِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ النَّفْيِ مَعَ الْقَرِينَةِ مُطْلَقًا، وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ عَدَمِهَا، وَهُوَ عَكْسُ تَرْتِيبِ الْخِلَافِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَفِيهِ تَقْدِيمُ حُكْمِ الْفِرَاشِ عَلَى مَا يُشْعِرُ بِهِ مُخَالَفَةَ الشَّبَهِ. وَفِيهِ الِاحْتِيَاطُ لِلْأَنْسَابِ وَإِبْقَائِهَا مَعَ الْإِمْكَانِ، وَالزَّجْرُ عَنْ تَحْقِيقِ ظَنِّ السُّوءِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُؤْخَذُ مِنْهُ مَنْعُ التَّسَلْسُلِ، وَأَنَّ الْحَوَادِثَ لَا بُدَّ لَهَا أَنْ تَسْتَنِدَ إِلَى أَوَّلَ لَيْسَ بِحَادِثٍ.
وَفِيهِ أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ لَا يُثْبِتُ حُكْمَ الْقَذْفِ حَتَّى يَقَعَ التَّصْرِيحُ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ، وَأَجَابَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةَ أَنَّ التَّعْرِيضَ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْقَذْفُ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْقَذْفُ كَمَا يُفْهَمُ مِنَ التَّصْرِيحِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِدَفْعِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَمْ يُرِدْ قَذْفًا، بَلْ جَاءَ سَائِلًا مُسْتَفْتِيًا عَنِ الْحُكْمِ لِمَا وَقَعَ لَهُ مِنَ الرِّيبَةِ، فَلَمَّا ضُرِبَ لَهُ الْمَثَلُ أَذْعَنَ، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: التَّعْرِيضُ إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ السُّؤَالِ لَا حَدَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ فِي التَّعْرِيضِ إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاجَهَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْأَجْنَبِيِّ فِي التَّعْرِيضِ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ يَقْصِدُ الْأَذِيَّةَ الْمَحْضَةَ، وَالزَّوْجُ قَدْ يُعْذَرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صِيَانَةِ النَّسَبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
27 - بَاب إِحْلَافِ الْمُلَاعِنِ
5306 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَأَحْلَفَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِحْلَافِ الْمُلَاعِنِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ مُخْتَصَرًا بِلَفْظِ فَأَحْلَفَهُمَا وَكَذَا سَيَأْتِي بَعْدَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ النُّورِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ لَاعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَالْمُرَادُ بِالْإِحْلَافِ هُنَا النُّطْقُ بِكَلِمَاتِ اللِّعَانِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: اللِّعَانُ شَهَادَةٌ وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَقِيلَ: شَهَادَةٌ فِيهَا شَائِبَةُ الْيَمِينِ، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَيْسَ بِيَمِينٍ وَلَا شَهَادَةٍ، وَانْبَنَى عَلَى الْخِلَافِ أَنَّ اللِّعَانَ يُشْرَعُ بَيْنَ كُلِّ زَوْجَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ حُرَّيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ عَدْلَيْنِ أَوْ فَاسِقَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ
يَمِينٌ، فَمَنْ صَحَّ يَمِينُهُ صَحَّ لِعَانُهُ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ اللِّعَانُ إِلَّا مِنْ زَوْجَيْنِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ، لِأَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ وَلَا يَصِحُّ مِنْ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَلْأَوَّلِينَ لِتَسْوِيَةِ الرَّاوِي بَيْنَ لَاعَنَ وَحَلَفَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْيَمِينَ مَا دَلَّ عَلَى حَثٍّ أَوْ مَنْعٍ أَوْ تَحْقِيقِ خَبَرٍ وَهُوَ هُنَا كَذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ: احْلِفْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنِّي لِصَادِقٌ، يَقُولُ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا
شَأْنٌ وَاعْتَلَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ يَمِينًا لَمَا تَكَرَّرَتْ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنِ الْقِيَاسِ تَغْلِيظًا لِحُرْمَةِ الْفُرُوجِ كَمَا خَرَجَتِ الْقَسَامَةُ لِحُرْمَةِ الْأَنْفُسِ، وَبِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ شَهَادَةً لَمْ تُكَرَّرْ أَيْضًا. وَالَّذِي تَحَرَّرَ لِي أَنَّهَا مِنْ حَيْثُ الْجَزْمُ بِنَفْيِ الْكَذِبِ وَإِثْبَاتِ الصِّدْقِ يَمِينٌ، لَكِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا شَهَادَةٌ لِاشْتِرَاطِ أَنْ لَا يُكْتَفَى فِي ذَلِكَ بِالظَّنِّ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ عِلْمِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْأَمْرَيْنِ عِلْمًا يَصِحُّ مَعَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ، وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهَا يَمِينًا أَنَّ الشَّخْصَ لَوْ قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ كَانَ كَذَا لَعُدَّ حَالِفًا. وَقَدْ قَالَ الْقَفَّالُ فِي مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ: كُرِّرَتْ أَيْمَانُ اللِّعَانِ لِأَنَّهَا أُقِيمَتْ مَقَامَ أَرْبَعِ شُهُودٍ فِي غَيْرِهِ لِيُقَامَ عَلَيْهَا الْحَدُّ، وَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَتْ شَهَادَاتٍ.
28 - بَاب يَبْدَأُ الرَّجُلُ بِالتَّلَاعُنِ
5307 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَجَاءَ، فَشَهِدَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ ثُمَّ قَامَتْ، فَشَهِدَتْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ يَبْدَأُ الرَّجُلِ بِالتَّلَاعُنِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ مُخْتَصَرًا وَكَأَنَّهُ أَخَذَ التَّرْجَمَةَ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الرَّجُلَ يُقَدَّمُ قَبْلَ الْمَرْأَةِ فِي الْمُلَاعَنَةِ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا سَأَذْكُرُهُ فِي بَابِ صَدَاقِ الْمُلَاعَنَةِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ وَأَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَوِ ابْتَدَأَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ صَحَّ وَاعْتُدَّ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ عَطَفَهُ بِالْوَاوِ وَهِيَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ. وَاحْتُجَّ لَلْأَوَّلِينَ بِأَنَّ اللِّعَانَ شُرِعَ لِدَفْعِ الْحَدِّ عَنِ الرَّجُلِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِهِلَالٍ الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ فَلَوْ بُدِئَ بِالْمَرْأَةِ لَكَانَ دَفَعًا لَأَمْرٍ لَمْ يَثْبُتْ، وَبِأَنَّ الرَّجُلَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ أَنْ يَلْتَعْنَ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَنْدَفِعُ عَنِ الْمَرْأَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَدَأَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) كَذَا وَصَلَهُ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَتَابَعَهُ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ، وَسَاقَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مُطَوَّلًا، وَاخْتُلِفَ عَلَى أَيُّوبَ: فَرَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْهُ مَوْصُولًا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْخِلَافِيَّاتِ وَغَيْرِهَا وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ مَوْصُولًا، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ مُرْسَلًا، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ فَقَالَ: حَدِيثُ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا مَحْفُوظٌ.
قَوْلُهُ: (إنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَجَاءَ فَشَهِدَ) كَذَا أَوْرَدَهُ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ النُّورِ مُطَوَّلًا، وَفِيهِ شَرْحُ قَوْلِهِ: الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ وَفِيهِ قَوْلُ هِلَالٍ: لَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ
الْجَلْدِ فَنَزَلَتْ وَوَقَعَ فِيهِ أَنَّهُ اتَّهَمَهُمَا بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ إنَّ شَرِيكَ بْنَ سَحْمَاءَ كَانَ أَخَا الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ لِأُمِّهِ وَهُوَ مُشْكِلٌ فَإِنَّ أُمَّ الْبَرَاءِ هِيَ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَهِيَ أُمُّ سُلَيْمٍ وَلَمْ تَكُنْ سَحْمَاءَ وَلَا تُسَمَّى سَحْمَاءَ فَلَعَلَّ شَرِيكًا كَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الْخِلَافِيَّاتِ مِنْ مُرْسَلِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ شَرِيكًا كَانَ يَأْوِي إِلَى مَنْزِلِ هِلَالٍ وَفِي تَفْسِيرِ مُقَاتِلٍ: أَنَّ وَالِدَةَ شَرِيكٍ الَّتِي يُقَالُ لَهَا سَحْمَاءُ كَانَتْ حَبَشِيَّةً، وَقِيلَ: كَانَتْ يَمَانِيَّةً، وَعِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ مُرْسَلِ ابْنِ سِيرِينَ كَانَتْ أَمَةً سَوْدَاءَ وَاسْمُ وَالِدِ شَرِيكٍ، عَبْدَةُ بْنُ مُغِيثِ بْنِ الْجَدِّ بْنِ الْعَجْلَانِ، وَحَكَى عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الصَّحَابَةِ أَنَّ لَفْظَ شَرِيكٍ صِفَةٌ لَا اسْمٌ، وَأَنَّهُ كَانَ شَرِيكًا لِرَجُلٍ يَهُودِيٍّ يُقَالُ لَهُ ابْنُ سَحْمَاءَ، وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ شَرِيكَ بْنَ سَحْمَاءَ كَانَ يَهُودِيًّا، وَأَشَارَ عِيَاضٌ إِلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ وَجَزَمَ بِذَلِكَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لَهُ وَقَالَ: كَانَ صَحَابِيًّا، وَكَذَا عَدَّهُ ج مْعٌ فِي الصَّحَابَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَيُعَكِّرُ عَلَى هَذَا قَوْلُ ابْنِ الْكَلْبِيِّ: أنَّهُ شَهِدَ أُحُدًا ; وَكَذَا قَوْلُ غَيْرِهِ أنَّ أَبَاهُ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا ; فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ (فَجَاءَ فَشَهِدَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ) ظَاهِرُهُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ صَدَرَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَالِ مُلَاعَنَتِهِمَا، بِخِلَافِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ قَالَهُ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا، وَزَادَ فِي تَفْسِيرِ النُّورِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَشَهِدَتْ فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْخَامِسَةِ وَقَّفُوهَا وَقَالُوا: إِنَّهَا مُوجِبَةٌ وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَأَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ عَلَى فِيهِ، ثُمَّ عَلَى فِيهَا، وَقَالَ: إِنَّهَا مُوجِبَةٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى قُلْنَا إِنَّهَا تَرْجِعُ، ثُمَّ قَالَتْ: لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ، فَمَضَتْ وَفِيهِ أَيْضًا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ إِلَخْ وَسَأَذْكُرُ شَرْحَهُ فِي بَابِ التَّلَاعُنِ فِي الْمَسْجِدِ.
29 - بَاب اللِّعَانِ، وَمَنْ طَلَّقَ بَعْدَ اللِّعَانِ
5308 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: يَا عَاصِمُ، مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ عَاصِمٌ، لِعُوَيْمِرٍ: لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا، فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَطَ النَّاسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ أُنْزِلَ الله فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا، قَالَ سَهْلٌ: فَتَلَاعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلَاعُنِهِمَا قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ أَمْسَكْتُهَا فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ اللِّعَانِ) تَقَدَّمَ مَعْنَى اللِّعَانِ قَبْلُ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى وَاجِبٍ وَمَكْرُوهٍ وَحَرَامٍ، فَالْأَوَّلُ أَنْ يَرَاهَا تَزْنِي أَوْ أَقَرَّتْ بِالزَّنَا فَصَدَّقَهَا، وَذَلِكَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ ثُمَّ اعْتَزَلَهَا مُدَّةَ الْعِدَّةِ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لَزِمَهُ قَذْفُهَا لِنَفْيِ الْوَلَدِ لِئَلَّا يَلْحَقَهُ فَيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْمَفَاسِدُ. الثَّانِي أَنْ يَرَى أَجْنَبِيًّا يَدْخُلُ عَلَيْهَا بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ، لَكِنْ لَوْ تَرَكَ لَكَانَ أَوْلَى لِلسَّتْرِ لِأَنَّهُ يُمَكِّنُهُ فِرَاقُهَا بِالطَّلَاقِ. الثَّالِثِ مَا عَدَا ذَلِكَ، لَكِنْ لَوِ اسْتَفَاضَ فَوَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، فَمَنْ أَجَازَ تَمَسَّكَ بِحَدِيثِ انْظُرُوا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ فَجَعَلَ الشَّبَهَ دَالًّا عَلَى نَفْيهِ مِنْهُ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ سَبَقَ اللِّعَانَ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَمَنْ منع تَمَسَّكَ بِحَدِيثِ الَّذِي أَنْكَرَ شَبَهَ وَلَدِهِ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ طَلَّقَ) أَيْ بَعْدَ أَنْ لَاعَنَ، فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الْخِلَافِ هَلْ تَقَعُ الْفُرْقَةُ فِي اللِّعَانِ بِنَفْسِ اللِّعَانِ أَوْ بِإِيقَاعِ الْحَاكِمِ بَعْدَ الْفَرَاغِ أَوْ بِإِيقَاعِ الزَّوْجِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُمَا إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ، قَالَ مَالِكٌ وَغَالِبُ أَصْحَابِهِ: بَعْدَ فَرَاغِ الْمَرْأَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَتْبَاعُهُ وَسَحْنُونُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: بَعْدَ فَرَاغِ الزَّوْجِ، وَاعْتُلَّ بِأَنَّ الْتِعَانَ الْمَرْأَةِ إِنَّمَا شُرِعَ لِدَفْعِ الْحَدِّ عَنْهَا، بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّهُ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ فِي حَقِّهِ نَفْيُ النَّسَبِ ولَحَاقِ الْوَلَدِ وَزَوَالِ الْفِرَاشِ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي التَّوَارُثِ لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا عَقِبَ فَرَاغِ الرَّجُلِ، وَفِيمَا إِذَا عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَةً بِفِرَاقِ أُخْرَى ثُمَّ لَاعَنَ الْأُخْرَى.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَتْبَاعُهُمَا: لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ حَتَّى يُوقِعَهَا عَلَيْهِمَا الْحَاكِمُ، وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ مَا وَقَعَ فِي أَحَادِيثِ اللِّعَانِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَحْثٍ فِي ذَلِكَ بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ، وَذَهَبَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ حَتَّى يُوقِعَهَا الزَّوْجُ، وَاعْتَلَّ بِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ، وَلِأَنَّ ظَاهِرَ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي طَلَّقَ ابْتِدَاءً، وَيُقَالُ: إِنَّ عُثْمَانَ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ لَكِنْ نَقَلَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ الْبَصْرِيِّ أَحَدِ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِنْ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ نَحْوَهُ، وَمُقَابِلُهُ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ: أَنَّ الْفُرْقَةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ تَقَعُ بِنَفْسِ الْقَذْفِ وَلَوْ لَمْ يَقَعِ اللِّعَانُ، وَكَأَنَّهُ مُفَرَّعٌ عَلَى وُجُوبِ اللِّعَانِ عَلَى مَنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنَ الْمَرْأَةِ، فَإِذَا أَخَلَّ بِهِ عُوقِبَ بِالْفُرْقَةِ تَغْلِيطًا عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) فِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ، عَنْ مَالِكٍ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ.
قَوْلُهُ: (إنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ) فِي رِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ عُوَيْمِرُ بْنُ أَشْقَرَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفِهْرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَوَقَعَ فِي الِاسْتِيعَابِ عُوَيْمِرُ بْنُ أَبْيَضَ، وَعِنْدَ الْخَطِيبِ فِي الْمُبْهَمَاتِ عُوَيْمِرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فَإِنَّ الطَّبَرِيَّ نَسَبَهُ فِي تَهْذِيبِ الْآثَارِ فَقَالَ: هُوَ عُوَيْمِرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْجَدِّ بْنِ عَجْلَانَ، فَلَعَلَّ أَبَاهُ كَانَ يُلَقَّبُ أَشْقَرَ أَوْ أَبْيَضَ، وَفِي الصَّحَابَةِ ابْنُ أَشْقَرَ آخَرُ وَهُوَ مَازِنِيٌّ أَخْرَجَ لَهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَلَى أَنَّهُ فِي مُسْنَدِ سَهْلٍ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ فِيهِ عَنْ سَهْلٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ: كَانَ عُوَيْمِرٌ رَجُلًا مِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ، فَقَالَ أَيْ عَاصِمٌ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَالْمَحْفُوظُ الْأَوَّلُ، وَسَيَأْتِي عَنْ سَهْلٍ أَنَّهُ حَضَرَ الْقِصَّةَ، فَسَتَأْتِي فِي الْحُدُودِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَ سَهْلُ بْنُ سَعِيدٍ: شَهِدْتُ الْمُتَلَاعِنَين وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةٍ وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِصَّةَ اللِّعَانِ كَانَتْ فِي السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنْ جَزَمَ الطَّبَرِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ بِأَنَّ اللِّعَانَ كَانَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَجَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ قِصَّةَ اللِّعَانِ كَانَتْ بِمُنْصَرَفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَبُوكَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الطَّبَرِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُ،
لَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ الْوَاقِدِيُّ فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَطَرِيقُ شُعَيْبٍ أَصَحُّ.
وَمِمَّا يُوهِنُ رِوَايَةَ الْوَاقِدِيِّ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى تَبُوكَ كَانَ فِي رَجَبٍ، وَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ، وَفِي قِصَّتِهِ أَنَّ امْرَأَتَهُ اسْتَأْذَنَتْ لَهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَخْدُمَهُ فَأَذِنَ لَهَا بِشَرْطٍ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا فَقَالَتْ: إِنَّهُ لَا حِرَاكَ بِهِ، وَفِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ أَنْ مَضَى لَهُمْ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، فَكَيْفُ تَقَعُ قِصَّةُ اللِّعَانِ فِي الشَّهْرِ الَّذِي انْصَرَفُوا فِيهِ مِنْ تَبُوكَ وَيَقَعُ لِهِلَالٍ مَعَ كَوْنِهِ فِيمَا ذَكَرَ مِنَ الشُّغْلِ بِنَفْسِهِ وَهِجْرَانِ النَّاسِ لَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ آيَةَ اللِّعَانِ نَزَلَتْ فِي حَقِّهِ، وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ لَاعَنَ فِي الْإِسْلَامِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَأَحْمَدَ حَتَّى جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ فَوَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلًا الْحَدِيثَ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِصَّةَ اللِّعَانِ تَأَخَّرَتْ عَنْ قِصَّةِ تَبُوكَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ عَشْرٍ لَا تِسْعٍ، وَكَانَتِ الْوَفَاةُ النَّبَوِيَّةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ بِاتِّفَاقٍ، فَيَلْتَئِمُ حِينَئِذٍ مَعَ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ كُنَّا لَيْلَةَ جُمْعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ فِي اللِّعَانِ بِاخْتِصَارٍ، فَعَيَّنَ الْيَوْمَ لَكِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الشَّهْرَ وَلَا السَّنَةَ.
قَوْلُهُ: (جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ) أَيِ ابْنِ الْجَدِّ بْنِ الْعَجْلَانِ الْعَجْلَانِيِّ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ وَالِدِ عُوَيْمِرٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ الَّتِي مَضَتْ فِي التَّفْسِيرِ وَكَانَ عَاصِمٌ سَيِّدَ بَنِي عَجْلَانَ وَالْجَدُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ وَالْعَجْلَانُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ هُوَ ابْنُ حَارِثَةَ بْنِ ضُبَيْعَةَ مِنْ بَنِي بَلِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَافِّ بْنِ قُضَاعَةَ، وَكَانَ الْعَجْلَانُ حَالَفَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَسَكَنَ الْمَدِينَةَ فَدَخَلُوا فِي الْأَنْصَارِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ أَنَّ امْرَأَةَ عُوَيْمِرٍ هِيَ بِنْتُ عَاصِمٍ الْمَذْكُورِ وَأَنَّ اسْمَهَا خَوْلَةُ، وَقَالَ ابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ خَوْلَةُ بِنْتُ عَاصِمٍ الَّتِي قَذَفَهَا زَوْجُهَا فَلَاعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، لَهَا ذِكْرٌ وَلَا تُعْرَفُ لَهَا رِوَايَةٌ، وَتَبِعَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَلَمْ يَذْكُرَا سَلَفَهُمَا فِي ذَلِكَ وَكَأَنَّهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ، وَذَكَرَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ فِيمَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهَا خَوْلَةُ بِنْتُ قَيْسٍ، وَذَكَرَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَنَّهَا بِنْتُ أَخِي عَاصِمٍ، فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ عَاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ لَمَّا نَزَلَتْ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ لِأَحَدِنَا أَرْبَعَةُ شُهَدَاءٍ؟ فَابْتُلِيَ بِهِ فِي بِنْتِ أَخِيهِ وَفِي سَنَدِهِ مَعَ إِرْسَالِهِ ضَعْفٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: لَمَّا سَأَلَ عَاصِمٌ عَنْ ذَلِكَ ابْتُلِيَ بِهِ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ، فَأَتَاهُ ابْنُ عَمِّهِ تَحْتَهُ ابْنَةُ عَمِّهِ رَمَاهَا بِابْنِ عَمَّةِ الْمَرْأَةِ وَالزَّوْجِ وَالْحَلِيلِ ثَلَاثَتُهُمْ بَنُو عَمِّ عَاصِمٍ وَعَنِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ فِي مُرْسَلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى الْمَذْكُورِ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي رَمَى عُوَيْمِرٌ امْرَأَتَهُ بِهِ هُوَ شَرِيكُ بْنُ سَحْمَاءَ. وَهُوَ يَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ ابْنُ عَمِّ عُوَيْمِرٍ كَمَا بَيَّنْتُ نَسَبَهُ فِي الْبَابِ الْمَاضِي، وَكَذَا فِي مُرْسَلِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ عِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ، فَقَالَ الزَّوْجُ لِعَاصِمٍ: يَا ابْنَ عَمِّ أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ شَرِيكَ بْنَ سَحْمَاءَ عَلَى بَطْنِهَا وَإِنَّهَا لَحُبْلَى وَمَا قَرُبْتُهَا مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ لَاعَنَ بَيْنَ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ، فَأَنْكَرَ حَمْلَهَا الَّذِي فِي بَطْنِهَا وَقَالَ: هُوَ لِابْنِ سَحْمَاءَ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُتَّهَمَ شَرِيكُ بْنُ سَحْمَاءَ بِالْمَرْأَتَيْنِ مَعًا. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الشَّامِلِ أَنَّ الْمُزَنِيَّ ذَكَرَ فِي الْمُخْتَصَرِ أَنَّ الْعَجْلَانِيَّ قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ وَهُوَ سَهْوٌ فِي النَّقْلِ، وَإِنَّمَا الْقَاذِفُ بِشَرِيكٍ، هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ مُسْتَنَدَ الْمُزَنِيِّ فِي ذَلِكَ وَإِذَا جَاءَ الْخَبَرُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَإِنَّ بَعْضَهَا يُعَضِّدُ بَعْضًا، وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ فَهُوَ أَوْلَى مِنَ التَّغْلِيطِ.
قَوْلُهُ: (أَرَأَيْتَ رَجُلًا) أَيْ أَخْبِرْنِي عَنْ حُكْمِ رَجُلٍ.
قَوْلُهُ: (وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ
رَجُلًا) كَذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ مَعَ فَاسْتَعْمَلَ الْكِنَايَةَ، فَإِنَّ مُرَادَهُ مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ، وَمُرَادُهُ أَنْ يَكُونَ وَجَدَهُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ.
قَوْلُهُ: (أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ) أَيْ قِصَاصًا لِتَقَدُّمِ عِلْمِهِ بِحُكْمِ الْقِصَاصِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، لَكِنْ فِي طُرُقِهِ احْتِمَالُ أَنْ يُخَصَّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَقَعُ بِالسَّبَبِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهِ غَالِبًا مِنَ الْغَيْرَةِ الَّتِي فِي طَبْعِ الْبَشَرِ، وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ بَابِ الْغَيْرَةِ اسْتِشْكَالُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: لَوْ رَأَيْتُهُ لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصَفَّحٍ وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ النُّورِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْبَيِّنَةُ، وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ وَذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ اللِّعَانُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَتَحَقَّقَ الْأَمْرُ فَقَتَلَهُ هَلْ يُقْتَلُ بِهِ؟ فَمَنَعَ الْجُمْهُورُ الْإِقْدَامَ وَقَالُوا: يُقْتَصُّ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةِ الزِّنَا أَوْ عَلَى الْمَقْتُولِ بِالِاعْتِرَافِ أَوْ يَعْتَرِفُ بِهِ وَرَثَتُهُ فَلَا يُقْتَلُ الْقَاتِلُ بِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مُحْصَنًا، وَقِيلَ: بَلْ يُقْتَلُ بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: بَلْ لَا يُقْتَلُ أَصْلًا وَيُعَزَّرُ فِيمَا فَعَلَهُ إِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ صِدْقِهِ، وَشَرَطَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ وَمَنْ تَبِعَهُمَا أَنْ يَأْتِيَ بِشَاهِدَيْنِ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَوَافَقَهُمُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنْ زَادَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ قَدْ أُحْصِنَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَاهِرُ تَقْرِيرِ عُوَيْمِرٍ عَلَى مَا قَالَ يُؤَيِّدُ قَوْلَهُمْ، كَذَا قَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَمْ مُتَّصِلَةً وَالتَّقْدِيرُ: أَمْ يَصْبِرُ عَلَى مَا بِهِ مِنَ الْمَضَضِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُنْقَطِعَةً بِمَعْنَى الْإِضْرَابِ أَيْ بَلْ هُنَاكَ حُكْمٌ آخَرُ لَا يَعْرِفُهُ وَيُرِيدُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: سَلْ لِي يَا عَاصِمُ. وَإِنَّمَا خَصَّ عَاصِمًا بِذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ كَبِيرَ قَوْمِهِ وَصِهْرَهُ عَلَى ابْنَتِهِ أَوِ ابْنَةِ أَخِيهِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ اطَّلَعَ عَلَى مَخَايِلَ مَا سَأَلَ عَنْهُ لَكِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يُفْصِحْ بِهِ، أَوِ اطَّلَعَ حَقِيقَةً لَكِنْ خَشِيَ إِذَا صَرَّحَ بِهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا مَنْ رَمَى الْمُحْصَنَةَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَقَعْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَكِنِ اتَّفَقَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ إِرَادَةُ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْحُكْمِ فَابْتُلِيَ بِهِ كَمَا يُقَالُ: الْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدِ ابْتُلِيتُ بِهِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي قِصَّةِ الْعَجْلَانِيِّ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدَ رَجُلٌ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، فَإِنْ تَكَلَّمَ بِهِ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَهُ أَيْضًا إِنْ تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ، أَوْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ وَهَذِهِ أَتَمُّ الرِّوَايَاتِ فِي هَذَا الْمَعْنَى.
قَوْلُهُ: (فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى كَبُرَ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ عَظُمَ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَسَبَبُهُ أَنَّ الْحَامِلَ لِعَاصِمٍ عَلَى السُّؤَالِ غَيْرَهُ فَاخْتَصَّ هُوَ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ لِعُوَيْمِرٍ لَمَّا رَجَعَ فَاسْتَفْهَمَهُ عَنِ الْجَوَابِ: لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ.
(تَنْبِيهَانِ): الْأَوَّلُ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ النُّورِ أَنَّ النَّوَوِيَّ نَقَلَ عَنِ الْوَاحِدِيِّ أَنَّ عَاصِمًا أَحَدُ مَنْ لَاعَنَ، وَتَقَدَّمَ إِنْكَارُ ذَلِكَ. ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى مُسْتَنَدِهِ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ لِلْفَرَّاءِ لَكِنَّهُ غَلَطٌ. الثَّانِي وَقَعَ فِي السِّيرَةِ لِابْنِ حِبَالٍ فِي حَوَادِثِ سَنَةِ تِسْعٍ ثُمَّ لَاعَنَ بَيْنَ عُوَيْمِرِ بْنِ الْحَارِثِ الْعَجْلَانِيِّ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ عَاصِمٌ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ شُيُوخِنَا قَوْلَهُ: وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ عَاصِمٌ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ تَحْرِيفٌ، وَكَأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَصْلِ الَّذِي سَأَلَ لَهُ عَاصِمٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسَبَبُ كَرَاهَةِ ذَلِكَ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَتِ الْمَسَائِلُ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ حُكْمٌ زَمَنَ نُزُولِ الْوَحْيِ مَمْنُوعَةً لِئَلَّا يَنْزِلَ الْوَحْيُ بِالتَّحْرِيمِ فِيمَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا فَيُحَرَّمُ، وَيَشْهَدُ لَهُ الْحَدِيثُ الْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحِ أَعْظَمُ النَّاسِ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ كَرَاهَةُ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا، لَا سِيَّمَا مَا كَانَ فِيهِ هَتْكُ سِتْرِ مُسْلِمٍ أَوْ إِشَاعَةُ فَاحِشَةٍ أَوْ شَنَاعَةٌ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَسَائِلَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهَا إِذَا
وَقَعَتْ، فَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْأَلُونَ عَنِ النَّوَازِلِ فَيُجِيبُهُمْ صلى الله عليه وسلم بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي سُؤَالِ عَاصِمٍ شَنَاعَةٌ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَسْلِيطُ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ عَلَى أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ كَرِهَ مَسْأَلَتَهُ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ تَضْيِيقٌ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ التَّيْسِيرَ عَلَى أُمَّتِهِ وَشَوَاهِدُ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ كَثِيرَةٌ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ مَا نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ إِلَّا لِكَثْرَةِ السُّؤَالِ أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ فِي الْمُبْهَمَاتِ مِنْ طَرِيقِ مَجَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ لَا أَنْتَهِي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَا أنْتَهَي أَيْ مَا أَرْجِعُ عَنِ السُّؤَالِ وَلَوْ نُهِيتُ عَنْهُ، زَادَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا سَيَأْتِي في الِاعْتِصَامُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ خَلْفَ عَاصِمٍ أَيْ بَعْدَ أَنْ رَجَعَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي شَأْنِهِ مَا ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَمْرِ الْمُلَاعَنَةِ وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّصْبِ (وَسَطَ النَّاسِ) بِفَتْحِ السِّينِ وَبِسُكُونِهَا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ) ظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ أَنَّهُ كَانَ تَقَدَّمَ مِنْهُ إِشَارَةٌ إِلَى خُصُوصِ مَا وَقَعَ لَهُ مَعَ امْرَأَتِهِ، فَيَتَرَجَّحُ أَحَدُ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ، لَكِنْ ظَهَرَ لِي مِنْ بَقِيَّةِ الطُّرُقِ أَنَّ فِي السِّيَاقِ اخْتِصَارًا، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ الْعَجْلَانِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرِ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدِ ابْتُلِيتُ بِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ امْرَأَتَهُ إِلَّا بَعْدَ أَنِ انْصَرَفَ ثُمَّ عَادَ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنَّ الرَّجُلَ لَمَّا قَالَ: وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ افْتَحْ، وَجَعَلَ يَدْعُو، فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ وَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَقِبَ السُّؤَالِ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَخَلَّلَ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَالنُّزُولِ زَمَنٌ بِحَيْثُ يَذْهَبُ عَاصِمٌ وَيَعُودُ عُوَيْمِرٌ، وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ جِدًّا فِي أَنَّ الْقِصَّةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ عُوَيْمِرٍ، وَيُعَارِضُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ النُّورِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ. فَقَالَ هِلَالٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنَّنِي لَصَادِقٌ، وَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ فِيَّ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الْحَدِيثَ.
وَفِي رِوَايَةِ عَبَّادِ بْن مَنْصُورٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فَقَالَ هِلَالٌ: وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِي فَرَجًا. قَالَ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ وَكَانَ أَخَا الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ لِأُمِّهِ، وَكَانَ أَوَّلَ رَجُلٍ لَاعَنَ فِي الْإِسْلَامِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ هِلَالٍ، وَقَدْ قَدَّمْتُ اخْتِلَافَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الرَّاجِحِ مِنْ ذَلِكَ، وَبَيَّنْتُ كَيْفِيَّةَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النُّورِ بِأَنْ يَكُونَ هِلَالٌ سَأَلَ أَوَّلًا ثُمَّ سَأَلَ عُوَيْمِرٌ فَنَزَلَتْ فِي شَأْنِهِمَا مَعًا، وَظَهَرَ لِيَ الْآنَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ عَاصِمٌ سَأَلَ قَبْلَ النُّزُولِ ثُمَّ جَاءَ هِلَالٌ بَعْدَهُ فَنَزَلَتْ عِنْدَ سُؤَالِهِ، فَجَاءَ عُوَيْمِرٌ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا: إِنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدِ ابْتُلِيتُ بِهِ فَوَجَدَ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ هِلَالٍ، فَأَعْلَمَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، يَعْنِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كُلِّ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِهِلَالٍ. وَكَذَا يُجَابُ عَلَى سِيَاقِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمَّا شَرَعَ يَدْعُو بَعْدَ تَوَجُّهِ الْعَجْلَانِيِّ جَاءَ هِلَالٌ فَذَكَرَ قِصَّتَهُ فَنَزَلَتْ، فَجَاءَ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: قَدْ نَزَلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ.
قَوْلُهُ: (فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا) يَعْنِي فَذَهَبَ فَأَتَى بِهَا. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ يَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَبِأَمْرِهِ، فَلَوْ تَرَاضَيَا بِمَنْ يُلَاعِنُ بَيْنَهُمَا فَلَاعَنَ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ فِي اللِّعَانِ مِنَ التَّغْلِيظِ مَا يَقْتَضِي أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ الْحُكَّامُ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَتَلَاهُنَّ عَلَيْهِ أَيِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ وَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ
الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، قَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا. ثُمَّ دَعَاهَا فَوَعَظَهَا وَذَكَّرَهَا وَأَخْبَرَهَا أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ قَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ.
قَوْلُهُ: (قَالَ سَهْلٌ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمُبْدَأِ بِهِ.
قَوْلُهُ: (فَتَلَاعَنَا) فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَذَهَبَ فَأَتَى بِهَا فَسَأَلَهَا فَأَنْكَرَتْ ; فَأَمَرَ بِاللِّعَانِ فَتَلَاعَنَا.
قَوْلُهُ: (وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَادَ ابْنُ جُرَيْجٍ كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَزَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ الْعَصْرِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَاسْتُدِلَّ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ يَكُونُ بِحَضْرَةِ الْحُكَّامِ وَبِمَجْمَعٍ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ التَّغْلِيظِ. ثَانِيهَا الزَّمَانُ. ثَالِثُهَا الْمَكَانُ. وَهَذَا التَّغْلِيظُ مُسْتَحَبٌّ وَقِيلَ: وَاجِبٌ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ سَهْلٍ صِفَةَ تَلَاعُنِهِمَا إِلَّا مَا فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ الْمَاضِيَةِ فِي التَّفْسِيرِ فَإِنَّهُ قَالَ: فَأَمَرَهُمَا بِالْمُلَاعَنَةِ بِمَا سَمَّى فِي كِتَابِهِ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُمَا لَمْ يَزِيدَا عَلَى مَا فِي الْآيَةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ فِيهِ فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لِمَنِ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَرْأَةِ الْحَدِيثَ. وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُهُ لَكِنْ زَادَ فِيهِ فَذَهَبَتْ لِتَلْتَعِنَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَهْ، فَأَبَتْ، فَالْتَعَنَتْ وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَتَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّكَ لِمَنِ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتَهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا؟ فَشَهِدَ بِذَلِكَ أَرْبَعًا ثُمَّ قَالَ لَهُ فِي الْخَامِسَةِ: وَلَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ؟ فَفَعَلَ، ثُمَّ دَعَاهَا فَذَكَرَ نَحْوَهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْخَامِسَةِ سَكَتَتْ سَكْتَةً حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهَا سَتَعْتَرِفُ، ثُمَّ قَالَتْ: لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ، فَمَضَتْ عَلَى الْقَوْلِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فَدَعَا الرَّجُلُ، فَشَهِدَ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لِمَنِ الصَّادِقِينَ، فَأُمِرَ بِهِ فَأَمْسَكَ عَلَى فِيهِ، فَوَعَظَهُ فَقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ أَهْوَنُ عَلَيْكِ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ. ثُمَّ أَرْسَلَهُ فَقَالَ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ.
وَقَالَ فِي الْمَرْأَةِ نَحْوَ ذَلِكَ وَهَذِهِ الطَّرِيقُ لَمْ يُسَمَّ فِيهَا الزَّوْجُ وَلَا الزَّوْجَةُ، بِخِلَافِ حَدِيثِ أَنَسٍ فَصَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّهَا فِي قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، فَإِنْ كَانَتِ الْقِصَّةُ وَاحِدَةً وَقَعَ الْوَهْمُ فِي تَسْمِيَةِ الْمُلَاعِنِ كَمَا جَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ ذَكَرْتُهُ فِي التَّفْسِيرِ. فَهَذِهِ زِيَادَةٌ مِنْ ثِقَةٍ فَتُعْتَمَدُ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَدِّدَةً فَقَدْ ثَبَتَ بَعْضُهَا فِي قِصَّةِ امْرَأَةِ هِلَالٍ كَمَا ذَكَرْتُهُ فِي آخِرِ بَابِ يَبْدَأُ الرَّجُلُ بِالتَّلَاعُنِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلَاعُنِهِمَا قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا) فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ إِنْ حَبَسْتُهَا فَقَدْ ظَلَمْتُهَا.
قَوْلُهُ: (فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ ظَلَمْتُهَا إِنْ أَمْسَكْتُهَا فَهِيَ الطَّلَاقُ فَهِيَ الطَّلَاقُ وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهَا، وَكَأَنَّهُ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى لِاعْتِقَادِهِ مَنْعَ جَمْعِ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ مِنْ قَبْلُ فِي أَوَائِلِ الطَّلَاقِ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَنَّ الْفُرْقَةَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ تَتَوَقَّفُ عَلَى تَطْلِيقِ الرَّجُلِ كَمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَأُجِيبَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ فَإِنَّ حَدِيثَ سَهْلٍ وَحَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِتَفْرِيقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ وَقَعَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، لِلنَّوَوِيِّ قَوْلُهُ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يا رسول الله إن أمسكتها هو كلام مستقل، وقوله: فطلقها أَيْ ثُمَّ عَقَّبَ قَوْلَهُ ذَلِكَ بِطَلَاقِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ اللِّعَانَ لَا يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ، فَأَرَادَ تَحْرِيمَهَا بِالطَّلَاقِ فَقَالَ: هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا أَيْ لَا مِلْكَ لَكَ عَلَيْهَا فَلَا يَقَعُ طَلَاقُكَ انْتَهَى.
وَهُوَ يُوهِمُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا وَقَعَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم
عَقِبَ قَوْلِ الْمُلَاعِنِ: هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ كَذَلِكَ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الَّذِي شَرَحَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ قَوْلَهُ: لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا، لَمْ يَقَعْ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَقِبَ قَوْلِهِ: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا وَفِيهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي الْحَدِيثَ، كَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا إِنَّمَا اسْتَدَلَّ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ أَصْحَابْنَا لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ مِنْ عُمُومِ لَفْظِهِ لَا مِنْ خُصُوصِ السِّيَاقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَكَانَتْ سُنَّةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ) زَادَ أَبُو دَاوُدَ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ فَكَانَتْ تِلْكَ وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى الْفُرْقَةِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الْبَابِ بَعْدَهُ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ فَرَغَا مِنَ التَّلَاعُنِ، فَفَارَقَهَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ذَلِكَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ كُلِّ مُتَلَاعِنَيْنِ كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَلِلْبَاقِينَ فَكَانَ ذَلِكَ تَفْرِيقًا، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَصَارَ بَدَلَ فَكَانَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِلَفْظِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ذَلِكَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلَاعِنَيْنِ وَهُوَ يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْمُسْتَمْلِي، وَمِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ، قَالَ مُسْلِمٌ: لَكِنْ أُدْرِجَ قَوْلُهُ: وَكَانَ فِرَاقُهُ إِيَّاهَا بَعْدُ سُنَّةً بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَكَذَا ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ عَلَى ابْنِ شِهَابٍ ثُمَّ عَلَى مَالِكٍ فِي تَعْيِينِ مَنْ قَالَ: فَكَانَ فِرَاقُهَا سُنَّةً هَلْ هُوَ مِنْ قَوْلِ سَهْلٍ أَوْ مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ، وَذَكَرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ نِسْبَتَهُ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ لَا تَمْنَعُ نِسْبَتَهُ إِلَى سَهْلٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفِهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَهْلٍ قَالَ: فَطَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ مَا صُنِعَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُنَّةً قَالَ سَهْلٌ: حَضَرْتُ هَذَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
فَمَضَتِ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا فَقَوْلُهُ: فَمَضَتِ السُّنَّةُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ قَوْلِ سَهْلٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ أَوْرَدَ قَوْلَ ابْنِ شِهَابٍ فِي ذَلِكَ بَعْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ سَهْلٍ فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ ذَلِكَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ كُلِّ مُتَلَاعِنَيْنِ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ كَانَتِ السُّنَّةُ بَعْدَهَما أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، ثُمَّ وَجَدْتُ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ في آخِرَ الْحَدِيثِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَوْلُهُ ذَلِكَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ وَلَيْسَ مِنَ الْحَدِيثِ. انْتَهَى، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ سِيَاقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ رَأَى أَنَّهُ مُدْرَجٌ فَنَبَّهَ عَلَيْهِ.
30 - بَاب التَّلَاعُنِ فِي الْمَسْجِدِ
5309 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ الْمُلَاعَنَةِ، وَعَنْ السُّنَّةِ فِيهَا، عَنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَخِي بَنِي سَاعِدَةَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي شَأْنِهِ مَا ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَمْرِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَضَى اللَّهُ فِيكَ وَفِي امْرَأَتِكَ، قَالَ: فَتَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ، فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ فَرَغَا مِنْ التَّلَاعُنِ، فَفَارَقَهَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ذَاكَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ كُلِّ مُتَلَاعِنَيْنِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ السُّنَّةُ بَعْدَهُمَا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَكَانَتْ حَامِلًا، وَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى لِأُمِّهِ، قَالَ: ثُمَّ جَرَتْ السُّنَّةُ فِي مِيرَاثِهَا أَنَّهَا تَرِثُهُ
وَيَرِثُ مِنْهَا مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنْ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ قَصِيرًا كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَلَا أُرَاهَا إِلَّا قَدْ صَدَقَتْ وَكَذَبَ عَلَيْهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ أَعْيَنَ ذَا أَلْيَتَيْنِ فَلَا أُرَاهُ إِلَّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى الْمَكْرُوهِ مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّلَاعُنِ فِي الْمَسْجِدِ) أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى خِلَافِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ اللِّعَانَ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ كَانَ الْإِمَامُ أَوْ حَيْثُ شَاءَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنِ الْمُلَاعَنَةِ وَعَنِ السُّنَّةِ فِيهَا عَنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَخِي بَنِي سَاعِدَةَ) وَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ فِي أَوَّلِ الْإِسْنَادِ زِيَادَةٌ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} نَزَلَتْ فِي هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ فَذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ فَذَكَرَهُ، فَكَأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَشَارَ إِلَى بَيَانِ الِاخْتِلَافِ فِي الَّذِي نَزَلَ ذَلِكَ فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ مِنَ الْفَائِدَةِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ وَكَانَتْ حَامِلًا وَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى لِأُمِّهِ، قَالَ: ثُمَّ جَرَتِ السُّنَّةُ فِي مِيرَاثِهَا أَنَّهَا تَرِثُهُ وَيَرِثُ مِنْهَا مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا) هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا أَقْوَالُ ابْنِ شِهَابٍ، وَهُوَ مَوْصُولٌ إِلَيْهِ بِالسَّنَدِ الْمُبْدَأِ بِهِ، وَقَدْ وَصَلَهُ سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ غَيْرَهُ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَهْلٍ، فَذَكَرَ قِصَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ مُخْتَصَرَةً وَفِيهِ فَفَارَقَهَا، فَكَانَتْ سُنَّةً أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَكَانَتْ حَامِلًا - إِلَى قَوْلِهِ - مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا، وَظَاهِرُه أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ سَهْلٍ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا وَقَعَ وَهِيَ حَامِلٌ، وَيَتَأَيَّدُ بِمَا فِي رِوَايَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ: أَمْسِكِ الْمَرْأَةَ عِنْدَكَ حَتَّى تَلِدَ، وَتَقَدَّمَ فِي أَثْنَاءِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ مُرْسَلِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَيْضًا التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمُبْدَأِ بِهِ.
قَوْلُهُ: (إِنْ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أُحَيْمِرَ بِالتَّصْغِيرِ، وَفِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَشْقَرَ قَالَ ثَعْلَبٌ: الْمُرَادُ بِالْأَحْمَرِ الْأَبْيَضُ، لِأَنَّ الْحُمْرَةَ إِنَّمَا تَبْدُو فِي الْبَيَاضِ، قَالَ: وَالْعَرَبُ لَا تُطْلِقُ الْأَبْيَضَ فِي اللَّوْنِ وَإِنَّمَا تَقُولُهُ فِي نَعْتِ الطَّاهِرِ وَالنَّقِيِّ وَالْكَرِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (قَصِيرًا كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْمُهْمَلَةِ: دُوَيْبَةٌ تَتَرَامَى عَلَى الطَّعَامِ وَاللَّحْمِ فَتُفْسِدُهُ، وَهِيَ مِنْ نَوْعِ الْوَزَغِ.
قَوْلُهُ: (فَلَا أَرَاهَا إِلَّا صَدَقَتْ) فِي رِوَايَةِ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فَهُوَ لِأَبِيهِ الَّذِي انْتَفَى مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ أَعْيَنَ ذَا أَلْيَتَيْنِ) أَيْ عَظِيمَتَيْنِ، وَيُوَضِّحُهُ مَا فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَةِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمَ الْأَلْيَتَيْنِ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ الْمَاضِيَةِ فِي التَّفْسِيرِ وَزَادَ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ وَالدَّعَجُ شِدَّةُ سَوَادِ الْحَدَقَةِ وَالْأَعْيَنُ الْكَبِيرُ الْعَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ الْمَذْكُورَةِ وَإِنْ وَلَدَتْهُ قَطَطَ الشَّعْرِ أَسْوَدَ اللِّسَانِ فَهُوَ لِابْنِ سَحْمَاءَ وَالْقَطَطُ تَفَلْفُلُ الشَّعْرِ.
قَوْلُهُ: (فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى الْمَكْرُوهِ مِنْ ذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَصْدِيقِ عُوَيْمِرٍ وَفِي رِوَايَةِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَةِ قَالَ عَاصِمٌ: فَلَمَّا وَقَعَ أَخَذْتُهُ إِلَيَّ فَإِذَا رَأْسُهُ مِثْلُ فَرْوَةِ الْحَمَلِ الصَّغِيرِ، ثُمَّ أَخَذْتُ بِفَقْمَيْهِ فَإِذَا هُوَ مِثْلُ النَّبْعَةِ، وَاسْتَقْبَلَنِي لِسَانُهُ أَسْوَدَ مِثْلَ التمَرَةِ فَقُلْتُ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْحَمَلُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ وَلَدُ
الضَّأْنِ، وَالنَّبْعَةُ وَاحِدَةُ النَّبْعِ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، وَهُوَ شَجَرٌ يُتَّخَذُ مِنْهُ الْقِسِيُّ وَالسِّهَامُ، وَلَوْنُ قِشْرِهِ أَحْمَرُ إِلَى الصُّفْرَةِ
31 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ..
5310 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ ذُكِرَ التَّلَاعُنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي ذَلِكَ قَوْلًا ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يَشْكُو إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، فَقَالَ عَاصِمٌ: مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا إِلَّا لِقَوْلِي، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا قَلِيلَ اللَّحْمِ سَبْطَ الشَّعَرِ، وَكَانَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ آدَمَ خدلا كَثِيرَ اللَّحْمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ بَيِّنْ، فَجَاءَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ، فَلَاعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَجْلِسِ: هِيَ الَّتِي قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَمْتُ هَذِهِ، فَقَالَ: لَا، تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ فِي الْإِسْلَامِ السُّوءَ، قَالَ أَبُو صَالِحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ: آدَمَ خَدِلًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ) أَيْ مَنْ أَنْكَرَ، وَإِلَّا فَالْمُعْتَرِفُ أَيْضًا يُرْجَمُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ) فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ وَسَيَأْتِي بَعْدَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ) أَيِ ابْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهُوَ وَالِدُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَاوِيهِ عَنْهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ عَنْ أَبِيهِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ ذُكِرَ التَّلَاعُنُ) يَعْنِي أَنَّهُ قَالَ ذَكَرَ فَحَذَفَ لَفْظَ قَالَ وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ الْآتِيَةِ، وَقَوْلُهُ: ذُكِرَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَقَوْلُهُ: التَّلَاعُنُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ الْمُتَلَاعِنَانِ وَالْمُرَادُ ذِكْرُ حُكْمِ الرَّجُلِ يَرْمِي امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّلَاعُنِ بِاعْتِبَارِ مَا آلَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي ذَلِكَ قَوْلًا ثُمَّ انْصَرَفَ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ قَوْلًا أَيْ كَلَامًا لَا يَلِيقُ بِهِ كَعُجْبِ النَّفْسِ وَالنَّخْوَةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْغَيْرَةِ وَعَدَمِ الْمَرَدِّ إِلَى إِرَادَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ. قُلْتُ: وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْوَاقِعِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِ عَاصِمٍ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَنِ الْحُكْمِ الَّذِي أَمَرَهُ عُوَيْمِرٌ أَنْ يَسْأَلَ لَهُ عَنْهُ. وَإِنَّمَا جَزَمْتُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ لِي أَنَّ حَدِيثَيْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ، بِخِلَافِ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهَا فِي قِصَّةٍ أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ النُّورِ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْقَاسِمَ رَوَى قِصَّةَ اللِّعَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ فِي أَنَّ الْمُلَاعِنَ عُوَيْمِرٌ، وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ تَوْجِيهَهُ، وَعَلَى هَذَا فَالْقَوْلُ الْمُبْهَمُ عَنْ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ هَذِهِ هُوَ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ الْحَدِيثَ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَرْوِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْقِصَّتَيْنِ مَعًا، وَيُؤَيِّدُ التَّعَدُّدَ اخْتِلَافُ السِّيَاقَيْنِ وَخُلُوُّ أَحَدِهِمَا عَمَّا وَقَعَ فِي الْآخَرِ وَمَا وَقَعَ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ مِنَ الْمُغَايَرَةِ كَمَا أُبَيِّنُهُ.
قَوْلُهُ:
(فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ) هُوَ عُوَيْمِرٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُهُ بِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَاصِمٍ، لِأَنَّهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ قَيْسٍ مِنْ بَنِي وَاقِفٍ، وَهُوَ مَالِكُ بْنُ امْرِئِ الْقِيسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، فَلَا يَجْتَمِعُ مَعَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الَّذِي يَنْتَهِي عَاصِمٌ إِلَى حِلْفِهِمْ إِلَّا فِي مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ هُوَ ابْنُ مَالِكٍ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ عَاصِمٌ مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا إِلَّا لِقَوْلِي) تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمُرَادِ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ عُوَيْمِرَ بْنَ عَمْرٍو كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ عَاصِمٍ أَوْ بِنْتُ أَخِيهِ فَلِذَلِكَ أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ مَا ابْتُلِيتُ وَقَوْلُهُ إِلَّا بِقَوْلِي أَيْ بِسُؤَالِي عَمَّا لَمْ يَقَعْ، كَأَنَّهُ قَالَ فَعُوقِبْتُ بِوُقُوعِ ذَلِكَ فِي آلِ بَيْتِي، وَزَعَمَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَالَ مَثَلًا لَوْ وَجَدْتُ أَحَدًا يَفْعَلُ ذَلِكَ لَقَتَلْتُهُ، أَوْ عَيَّرَ أَحَدًا بِذَلِكَ فَابْتُلِيَ بِهِ، وَكَلَامُهُ أَيْضًا بِمَعْزِلٍ عَنِ الْوَاقِعِ، فَقَدْ وَقَعَ فِي مُرْسَلِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فَقَالَ عَاصِمٌ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، هَذَا وَاللَّهِ بِسُؤَالِي عَنْ هَذَا الْأَمْرِ بَيْنَ النَّاسِ فَابْتُلِيتُ بِهِ وَالَّذِي كَانَ قَالَ لَوْ رَأَيْتُهُ لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ هُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْغَيْرَةِ وَقَدْ أَوْرَدَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا، وَوَصَلَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: إِنْ أَنَا رَأَيْتُ لَكَاعِ يَفْجُرُ بِهَا رَجُلٌ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَفِيهِ فَوَاللَّهِ مَا لَبِثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ فَذَكَرَ قِصَّتَهُ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَوَضَحَ أَنَّ قَوْلَ عَاصِمٍ كَانَ فِي قِصَّةِ عُوَيْمِرٍ وَقَوْلَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ كَانَ فِي قِصَّةِ هِلَالٍ، فَالْكَلَامَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَهُوَ مِمَّا يُؤَيِّدُ تَعَدُّدَ الْقِصَّةِ، وَيُؤَيِّدُ التَّعَدُّدَ أَيْضًا أَنَّهُ وَقَعَ فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ
أَكْثَرُ غَاشِيَةً مِنْهُ وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ: فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ وَمَا يُدْعَى لِأَبٍ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ عَاشَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَمَانًا، وَقَوْلُهُ: عَلَى مِصْرَ أَيْ مِنَ الْأَمْصَارِ، وَظَنَّ بَعْضُ شُيُوخِنَا أَنَّهُ أَرَادَ مِصْرَ الْبَلَدَ الْمَشْهُورَ فَقَالَ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ أُمَرَاءَ مِصْرَ مَعْرُوفُونَ مَعْدُودُونَ لَيْسَ فِيهِمْ هَذَا، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ أَنَّ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ سَنَتَيْنِ وَمَاتَ، فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُقَوِّي التَّعَدُّدَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ) أَيِ الَّذِي رَمَى امْرَأَتَهُ.
قَوْلُهُ: (مُصْفَرًّا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، أَيْ قَوِيَّ الصُّفْرَةِ، وَهَذَا لَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ أَنَّهُ كَانَ أَحْمَرَ أَوْ أَشْقَرَ لِأَنَّ ذَاكَ لَوْنُهُ الْأَصْلِيُّ وَالصُّفْرَةُ عَارِضَةٌ، وَقَوْلُهُ: قَلِيلُ اللَّحْمِ أَيْ نَحِيفُ الْجِسْمِ، وَقَوْلُهُ: سَبِطُ الشَّعْرِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ هُوَ ضِدُّ الْجُعُودَةِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ آدَمَ) بِالْمَدِّ أَيْ لَوْنُهُ قَرِيبٌ مِنَ السَّوَادِ.
قَوْلُهُ: (خَدَلًّا) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ مُمْتَلِئَ السَّاقَيْنِ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ مُمْتَلِئُ الْأَعْضَاءِ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ غِلَظِ الْعَظْمِ مَعَ اللَّحْمِ.
قَوْلُهُ: (كَثِيرُ اللَّحْمِ) أَيْ فِي جَمِيعِ جَسَدِهِ. يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً شَارِحَةً لِقَوْلِهِ: خَدَلًّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخَدَلَّ الْمُمْتَلِئُ الْبَدَنِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ أَنَّهُ الْمُمْتَلِئُ السَّاقِ فَيَكُونُ فِيهِ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ الْآتِيَةِ جَعْدًا قَطَطًا وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ سَهْلٍ قَرِيبًا، وَهَذِهِ الصِّفَةُ مُوَافَقَةٌ لِلَّتِي فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ حَيْثُ فِيهِ عَظِيمُ الْأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجُ السَّاقَيْنِ إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ بَيِّنْ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ.
قَوْلُهُ: (فَجَاءَتْ) فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ فَوَضَعَتْ.
قَوْلُهُ: (فَلَاعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا) هَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُلَاعَنَةَ بَيْنَهُمَا تَأَخَّرَتْ حَتَّى وَضَعَتْ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَاعَنَ مُعَقَّبٌ بِقَوْلِهِ: فَذَهَبَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، وَاعْتَرَضَ قَوْلَهُ: وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَخْ وَالْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ
مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ الْقَاسِمِ هَذِهِ مُوَافَقَةٌ لِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ.
قَوْلُهُ: (لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ) تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ نُكُولَ الْمَرْأَةِ عَنِ اللِّعَانِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهَا الْحَدَّ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْحُدُودَ لَا تَثْبُتُ بِالنُّكُولِ، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا، لَمْ يَقَعُ بِسَبَبِ اللِّعَانِ فَقَطْ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إِذَا امْتَنَعَتْ تُحْبَسُ، وَأَهَابُ أَنْ أَقُولَ: تُرْجَمُ، لِأَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ صَرِيحًا ثُمَّ رَجَعَتْ لَمْ تُرْجَمْ فَكَيْفَ تُرْجَمُ إِذَا أَبَتْ الِالْتِعَانَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَجْلِسِ) يَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِ قَوْلِ الْإِمَامِ اللَّهُمَّ بَيِّنْ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو صَالِحٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ: آدَمَ خَدْلًا) يَعْنِي بِسُكُونِ الدَّالِ، وَيُقَالُ بِفَتْحِهَا مُخَفَّفًا فِي الْوَجْهَيْنِ وَبِالسُّكُونِ ذَكَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ. وَأَبُو صَالِحٍ هَذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَقَالَ لَنَا أَبُو صَالِحٍ وَرِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْحُدُودِ.
32 - بَاب صَدَاقِ الْمُلَاعَنَةِ
5311 -
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: رَجُلٌ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ: فَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلَانِ، وَقَالَ: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا لكَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ فَأَبَيَا، وَقَالَ: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ فَأَبَيَا، فَقَالَ: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا لكَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ فَأَبَيَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، قَالَ أَيُّوبُ: فَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: إِنَّ فِي الْحَدِيثِ شَيْئًا لَا أَرَاكَ تُحَدِّثُهُ، قَالَ: قَالَ الرَّجُلُ مَالِي، قَالَ: قِيلَ: لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ دَخَلْتَ بِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْكَ.
[الحديث 5311، أطرافه في: 5312، 5349، 5350]
قَوْلُهُ: (بَابُ صَدَاقِ الْمُلَاعَنَةِ) أَيْ بَيَانُ الْحُكْمِ فِيهِ، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْمَدْخُولَ بِهَا تَسْتَحِقُّ جَمِيعَهُ، وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لَهَا النِّصْفَ كَغَيْرِهَا مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقِيلَ: بَلْ لَهَا جَمِيعُهُ قَالَهُ أَبُو الزِّنَادِ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ، وَقِيلَ: لَا شَيْءَ لَهَا أَصْلًا قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: رَجُلٌ قَذَفَ امْرَأَتَهُ) أَيْ مَا الْحُكْمُ فِيهِ؟ وَقَدْ أَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَزَادَ فِي أَوَّلِهِ قَالَ: لَمْ يُفَرِّقِ الْمُصْعَبُ - يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ - بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، أَيْ حَيْثُ كَانَ أَمِيرًا عَلَى الْعِرَاقِ، قَالَ سَعْدٌ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عُمَرَ. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدٍ سُئِلْتُ عَنِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ فِي امْرَأَةِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَمَا دَرَيْتُ مَا أَقُولُ، فَمَضَيْتُ إِلَى مَنْزِلِ ابْنِ عُمَرَ بِمَكَّةَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، الْمُتَلَاعِنَانِ أَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، نَعَمْ، إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، وَعُرِفَ مِنْ قَوْلِهِ بِمَكَّةَ أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا حَذْفًا تَقْدِيرُهُ فَسَافَرْتُ إِلَى مَكَّةَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عُمَرَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كُنَّا بِالْكُوفَةِ نَخْتَلِفُ فِي الْمُلَاعَنَةِ، يَقُولُ بَعْضُنَا: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَيَقُولُ بَعْضُنَا: لَا يُفَرَّقُ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ كَانَ قَدِيمًا، وَقَدِ اسْتَمَرَّ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ مِنْ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ لَا يَقْتَضِي الْفُرْقَةِ كَمَا تَقَدَّمَ نَقْلَهُ عَنْهُ. وَكَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ حَديثُ ابْنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلَانِ) سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ بَابٍ، وَتَقَدَّمَتْ تَسْمِيَتُهُمَا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أَحْمَدِ الْجُرْجَانِيِّ
بَيْنَ أَحَدِ بَنِي الْعَجْلَانِ بِحَاءٍ وَدَالٍ مُهْمَلَتَيْنِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: اللَّهُ يَعْلَمُ أنَّ أَحَدَكُمَا لَكَاذِبٌ) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي وَسَقَطَتِ اللَّامُ لِغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ فَأَبَيَا) ظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ صُدُورِ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا، وَسَيَأْتِي أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَيُّوبُ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمُبْدَأِ بِهِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ شَيْئًا لَا أَرَاكَ تُحَدِّثُهُ، قَالَ: قَالَ الرَّجُلُ: مَالِي، قَالَ: قِيلَ: لَا مَالَ لَكَ إِلَى آخِرِهِ) حَاصِلُهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ، وَأَيُّوبَ سَمِعَا الْحَدِيثَ جَمِيعًا مِنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَحَفِظَ فِيهِ عَمْرٌو مَا لَمْ يَحْفَظْهُ أَيُّوبُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ حَيْثُ رَوَاهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا، فَوَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَمْرٍو بِسَنَدِهِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا. قَالَ: مَالِي؟ قَالَ: لَا مَالَ لَكَ أَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا سَبِيلَ لَكَ أَيْ لَا تَسْلِيطَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَالِي فَإِنَّهُ فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا قَالَ: أَيَذْهَبُ مَالِي؟ وَالْمُرَادُ بِهِ الصَّدَاقُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَوْلُهُ: مَالِي أَيِ الصَّدَاقُ الَّذِي دَفَعْتُهُ إِلَيْهَا، فَأُجِيبَ بِأَنَّكَ اسْتَوْفَيْتَهُ بِدُخُولِكَ عَلَيْهَا، وَتَمْكِينِهَا لَكَ مِنْ نَفْسِهَا. ثُمَّ أَوْضَحَ لَهُ ذَلِكَ بِتَقْسِيمٍ مُسْتَوْعَبٍ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فِيمَا ادَّعَيْتَهُ عَلَيْهَا فَقَدِ اسْتَوْفَيْتَ حَقَّكَ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْ مُطَالَبَتِهَا لِئَلَّا تَجْمَعَ عَلَيْهَا الظُّلْمَ فِي عِرْضِهَا وَمُطَالَبَتِهَا بِمَالٍ قَبَضَتْهُ مِنْكَ قَبْضًا صَحِيحًا تَسْتَحِقُّهُ.
وَعُرِفَ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ اسْمُ الْقَائِلِ لَا مَالَ لَكَ حَيْثُ أُبْهِمَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِلَفْظِ قِيلَ: لَا مَالَ لَكَ مَعَ أَنَّ النَّسَائِيَّ رَوَاهُ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ بِلَفْظِ قَالَ: لَا مَالَ لَكَ وَقَوْلُهُ: فَقَدْ دَخَلْتَ بِهَا فَسَّرَهُ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بِلَفْظِ فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا وَقَوْلُهُ: فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْكَ كَذَا عِنْدَ النَّسَائِيِّ أَيْضًا، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ وَسَيَأْتِي قَبْلَ كِتَابِ النَّفَقَاتِ سَوَاءً مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِلَفْظِ فَذَلِكَ أَبْعَدُ وَأَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا وَكَرَّرَ لَفْظَ أَبْعَدُ تَأْكِيدًا، قَوْلُهُ: ذَلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْكَذِبِ، لِأَنَّهُ مَعَ الصِّدْقِ يَبْعُدُ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقُ إِعَادَةِ الْمَالِ فَفِي الْكَذِبِ أَبْعَدُ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا أَنَّ الْمُلَاعَنَةَ لَوْ أَكَذَبَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ اللِّعَانِ وَأَقَرَّتْ بِالزِّنَا وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَدُّ، لَكِنْ لَا يَسْقُطُ مَهْرُهَا.
33 - بَاب قَوْلِ الْإِمَامِ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ إِنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا من تَائِبٌ
5312 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ حَدِيثِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ فَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا، قَالَ مَالِي، قَالَ: لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ، قَالَ سُفْيَانُ: حَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو، وَقَالَ أَيُّوبُ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: رَجُلٌ لَاعَنَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ، وَفَرَّقَ سُفْيَانُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى: فَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلَانِ، وَقَالَ: اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ سُفْيَانُ: حَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو، وَأَيُّوبَ كَمَا أَخْبَرْتُكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ الْإِمَامِ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ إِنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ) فِيهِ تَغْلِيبُ الْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ، وَقَالَ عِيَاضٌ وَتَبِعَهُ
النَّوَوِيُّ: فِي قَوْلِهِ أَحَدَكُمَا رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ مِنَ النُّحَاةِ: إِنَّ لَفْظَ أَحَدٍ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي النَّفْيِ، وَعَلَى مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْوَصْفِ، وَأَنَّهَا لَا تُوضَعُ مَوْضِعَ وَاحِدٍ وَلَا تُوقَعُ مَوْقِعَهُ. وَقَدْ أَجَازَهُ الْمُبَرِّدُ. وَجَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ وَصْفٍ وَلَا نَفْيٍ وَبِمَعْنًى وَاحِدٍ اهـ. قَالَ الْفَاكِهِيُّ: هَذَا مِنْ أَعْجَبِ مَا وَقَعَ لِلْقَاضِي مَعَ بَرَاعَتِهِ وَحِذْقِهِ، فَإِنَّ الَّذِي قَالَهُ النُّحَاةُ إِنَّمَا هُوَ فِي أَحَدِ الَّتِي لِلْعُمُومِ نَحْوَ مَا فِي الدَّارِ مِنْ أَحَدٍ، وَمَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٌ، وَأَمَّا أَحَدٌ بِمَعْنَى وَاحِدٍ فَلَا خِلَافَ فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي الْإِثْبَاتِ نَحْوُ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَنَحْوُ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} وَنَحْوُ: أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ.
قَوْلُهُ: (فَهَلْ مِنْكُمَا مِنْ تَائِبٍ)؟ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِرْشَادًا لَا أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمَا وَلَا مِنْ أَحَدِهِمَا اعْتِرَافٌ، وَلِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ أَكَذَبَ نَفْسَهُ كَانَتْ تَوْبَةً مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ عَنْ سُفْيَانَ أَنْبَأَنَا عَمْرٌو فَذَكَرَهُ. وَقَدْ بَيَّنْتُ مَا فِيهِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ حَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو) هَذَا كَلَامُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يُرِيدُ بَيَانَ سَمَاعِ سُفْيَانَ لَهُ مِنْ عَمْرٍو.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَيُّوبُ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمُبْدَأِ بِهِ وَلَيْسَ بِتَعْلِيقٍ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ كَانَ عِنْدَ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَعَنْ أَيُّوبَ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَيُّوبُ فِي مَجْلِسِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فَحَدَّثَهُ عَمْرٌو بِحَدِيثِهِ هَذَا فَقَالَ لَهُ أَيُّوبُ: أَنْتَ أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنِّي وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ سَبَبَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ فِيهِ عِنْدَ عَمْرٍو مَا لَيْسَ عِنْدَ أَيُّوبَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ) هُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ، وَقَوْلُهُ: وَفَرَّقَ سُفْيَانُ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ أَرَادَ بِهَا بَيَانَ الْكَيْفِيَّةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُجْزَمُ بِذَلِكَ إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ، وَقَوْلُهُ: فَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَخْ هُوَ جَوَابُ السُّؤَالِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ) قَالَ عِيَاضٌ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ قَالَ هَذَا الْكَلَامِ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنَ اللِّعَانِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ عَرْضُ التَّوْبَةِ عَلَى الْمُذْنِبِ وَلَوْ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ، وَأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَذِبِهِ التَّوْبَةُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ اللِّعَانِ تَحْذِيرًا لَهُمَا مِنْهُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَوْلَى بِسِيَاقِ الْكَلَامِ. قُلْتُ: وَالَّذِي قَالَهُ الدَّاوُدِيُّ أَوْلَى مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ مَشْرُوعِيَّةُ الْمَوْعِظَةِ قَبْلَ الْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَةِ، بَلْ هُوَ أَحْرَى مِمَّا بَعْدَ الْوُقُوعِ، وَأَمَّا سِيَاقُ الْكَلَامِ فَمُحْتَمِلٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ لِلْأَمْرَيْنِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَسِيَاقُهُ ظَاهِرٌ فِيمَا قَالَ الدَّاوُدِيُّ، فَفِي رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، وَالْحَاكِمِ، وَالْبَيْهَقِيِّ فِي قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: فَدَعَاهُمَا حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمُلَاعَنَةِ فَقَالَ: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ فَقَالَ هِلَالٌ: وَاللَّهِ إِنِّي لَصَادِقٌ الْحَدِيثَ، وَقَدْ قَدَّمْتُ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ فِي قِصَّةٍ غَيْرِ الْقِصَّةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَابْنِ عُمَرَ، فَيَصِحُّ الْأَمْرَانِ مَعًا بِاعْتِبَارِ التَّعَدُّدِ.
34 - بَاب التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ
5313 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، قَذَفَهَا، وَأَحْلَفَهُمَا.
5314 -
حَدَّثَنَي مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَاعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا.
قَوْلُهُ (بَابُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ) ثَبَتَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِلْمُسْتَمْلِي، وَذَكَرَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَثَبَتَ عِنْدَ النَّسَفِيِّ بَابٌ
بِلَا تَرْجَمَةٍ، وَسَقَطَ ذَلِكَ لِلْبَاقِينَ، وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ، وَفِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَلَفْظُ الْأَوَّلِ فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ قَذَفَهَا فَأَحْلَفَهُمَا وَلَفْظُ الثَّانِي لَاعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ فَأَحْلَفَهُمَا وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ إِطْلَاقَ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ تَخْطِئَةَ الرِّوَايَةِ بِلَفْظِ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ بِخُصُوصِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَقَالَ بَعْدَهُ لَمْ يُتَابِعِ ابْنَ عُيَيْنَةَ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلَانِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَعَلَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ دَخَلَ عَلَيْهِ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ سُئِلَ عَنِ الْحَدِيثِ فَقَالَ: إِنَّهُ غَلَطٌ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنْ أَرَادَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ فَسَهْلٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مَرْدُودٌ. قُلْتُ: تَقَدَّمَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ سَهْلٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ فَكَانَتْ سُنَّةً فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا وَلَكِنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِهِ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ فَيَكُونُ مُرْسَلًا، وَقَدْ بَيَّنْتُ مَنْ وَصَلَهُ وَأَرْسَلَهُ فِي بَابِ اللِّعَانِ وَمَنْ طَلَّقَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْفُرْقَةَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لَا تَقَعُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ حَتَّى يُوقِعَهَا الْحَاكِمُ، وَرِوَايَةُ ابْنِ جُرَيْجٍ الْمَذْكُورَةُ تُؤَيِّدُ أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ إِرْسَالِهَا فَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِهِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَيَتَأَيَّدُ بِذَلِكَ قَوْلُ مَنْ حَمَلَ التَّفْرِيقَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ بَيَانُ حُكْمٍ لَا إِيقَاعُ فُرْقَةٍ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ جَوَابًا لِسُؤَالِ الرَّجُلِ عَنْ مَالِهِ الَّذِي أَخَذَتْهُ مِنْهُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَشْمَلُ الْمَالَ وَالْبَدَنَ، وَيَقْتَضِي نَفْيَ تَسْلِيطِهِ عَلَيْهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
وَوَقَعَ فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَقَضَى أَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ وَلَا سُكْنَى مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفَّى عَنْهَا وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا بِنَفْسِ اللِّعَانِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ: فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِفِرَاقِهَا أَنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ فَبَادَرَ إِلَى تَطْلِيقِهَا لِشِدَّةِ نُفْرَتِهِ مِنْهَا.
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا عَلَى أَنَّ فُرْقَةَ اللِّعَانِ عَلَى التَّأْبِيدِ وَأَنَّ الْمُلَاعِنَ لَوْ أَكَذَبَ نَفْسَهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَإِنَّمَا يَقَعُ بِاللَّعَّانِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، هَذَا قَوْلُ حَمَّادٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَصَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالُوا: وَيَكُونُ الْمُلَاعِنُ إِذَا أَكَذَبَ نَفْسَهُ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، وَالضَّحَّاكِ: إِذَا أَكَذَبَ نَفْسَهُ رُدَّتْ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا عِنْدِي قَوْلٌ ثَالِثٌ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ رُدَّتْ إِلَيْهِ أَيْ بَعْدَ الْعَقْدِ الْجَدِيدِ فَيُوَافِقُ الَّذِي قَبْلَهُ، قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: لَمْ أَقِفْ عَلَى دَلِيلٍ لِتَأْبِيدِ الْفُرْقَةِ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ، وَإِنَّمَا الْمُتَّبَعُ فِي ذَلِكَ النَّصُّ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَبْدَى بَعْضُ أَصْحَابْنَا لَهُ فَائِدَةٌ وَهُوَ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ مَلْعُونٌ مَعَ غَيْرِ مَلْعُونٍ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَلْعُونٌ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ مَا إِذَا تَزَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ غَيْرَ الْمُلَاعِنِ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَامْتَنَعَ عَلَيْهِمَا مَعًا التَّزْوِيجُ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَلْعُونٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ افْتَرَقَا فِي الْجُمْلَةِ.
قَالَ السَّمْعَانِيُّ: وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ قَوْلَهُ الْمُتَلَاعِنَانِ يَقْتَضِي أَنَّ فُرْقَةَ التَّأْبِيدِ يُشْتَرَطُ لَهَا أَنْ يَقَعَ التَّلَاعُنُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، وَالشَّافِعِيَّةُ يَكْتَفُونَ فِي التَّأْبِيدِ بِلِعَانِ الزَّوْجِ فَقَطْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِعَانُهُ بِسَبَبِ لِعَانِهَا وَصَرِيحُ لَفْظِ اللَّعْنِ يُوجَدُ فِي جَانِبِهِ دُونَهَا سُمِّيَ الْمَوْجُودُ مِنْهُ مُلَاعَنَةً، وَلِأَنَّ لِعَانَهُ سَبَبٌ فِي إِثْبَاتِ الزِّنَا عَلَيْهَا فَيَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ نَسَبِ الْوَلَدِيَّةِ فَيَنْتَفِي الْفِرَاشُ فَإِذَا انْتَفَى الْفِرَاشُ انْقَطَعَ النِّكَاحُ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا أَكَذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ يَلْزَمُ ارْتِفَاعُ الْمُلَاعَنَةِ حُكْمًا وَإِذَا
ارْتَفَعَتْ صَارَتِ الْمَرْأَةُ مَحَلَّ اسْتِمْتَاعٍ، قُلْنَا: اللِّعَانُ عِنْدَكُمْ شَهَادَةٌ، وَالشَّاهِدُ إِذَا رَجَعَ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يَرْتَفِعِ الْحُكْمُ، وَأَمَّا عِنْدنَا فَهُوَ يَمِينٌ وَالْيَمِينُ إِذَا صَارَتْ حُجَّةً وَتَعَلَّقَ بِهَا الْحُكْمُ لَا تَرْتَفِعُ، فَإِذَا أَكَذَبَ نَفْسَهُ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ عَنْهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا يَرْتَفِعُ مُوجِبُ اللِّعَانِ.
35 - بَاب يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِالْمُلَاعِنَةِ
5315 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَاعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ، فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ يَلْحَقُ الْوَلَدِ بِالْمُلَاعَنَةِ) أَيْ إِذَا انْتَفَى الزَّوْجُ مِنْهُ قَبْلَ الْوَضْعِ أَوْ بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَاعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ سَبَبِيَّةٌ أَيِ الْمُلَاعَنَةُ سَبَبُ الِانْتِفَاءِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْمُلَاعَنَةَ سَبَبُ ثُبُوتِ الِانْتِفَاءِ فَجَيِّدٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْمُلَاعَنَةَ سَبَبُ وُجُودِ الِانْتِفَاءِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِنَفْيِ الْوَلَدِ فِي الْمُلَاعَنَةِ لَمْ يَنْتَفِ، وَالْحَدِيثُ فِي الْمُوَطَّأِ بِلَفْظِ وَانْتَفَى بِالْوَاوِ لَا بِالْفَاءِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ وَانْتَقَلَ يَعْنِي بِقَافٍ بَدَلَ الْفَاءِ وَلَامٍ آخِرَهُ وَكَأَنَّهُ تَصْحِيفٌ، وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَمَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي تَفْسِيرِ النُّورِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ إنَّ رَجُلًا رَمَى امْرَأَتَهُ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَأَمَرَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتَلَاعَنَا فَوَضَحَ أَنَّ الِانْتِفَاءَ سَبَبُ الْمُلَاعَنَةِ لَا الْعَكْسُ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ اللِّعَانِ لِنَفْيِ الْوَلَدِ، وَعَنْ أَحْمَدَ يَنْتَفِي الْوَلَدُ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ وَلَوْ لَمْ يَتَعَرَّضِ الرَّجُلُ لِذِكْرِهِ فِي اللِّعَانِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَوِ اسْتَلْحَقَهُ لَحِقَهُ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ لِعَانُ الرَّجُلِ دَفْعَ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ وَثُبُوتَ زِنَا الْمَرْأَةِ ثُمَّ يَرْتَفِعُ عَنْهَا الْحَدُّ بِالْتِعَانِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ نَفَى الْوَلَدَ فِي الْمُلَاعَنَةِ انْتَفَى وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فَلَهُ أَنْ يُعِيدَ اللِّعَانَ لِانْتِفَائِهِ وَلَا إِعَادَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ الرَّفْعُ إِلَى الْحَاكِمِ فَأَخَّرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى وَلَدَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ كَمَا فِي الشُّفْعَةِ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي نَفْيِ الْحَمْلِ تَصْرِيحُ الرَّجُلِ بِأَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْ زِنًا، وَلَا أَنَّهُ اسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ، وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَنْ خَالَفَهُمْ بِأَنَّهُ نَفَى الْحَمْلَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِذَلِكَ بِخِلَافِ اللِّعَانِ النَّاشِئِ عَنْ قَذْفِهَا، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ الْحَامِلَ قَدْ تَحِيضُ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَيْسَ عَنْ هَذَا جَوَابٌ مُقْنِعٌ.
قَوْلُهُ: (فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ مَالِكٌ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ذَكَرُوا أَنَّ مَالِكًا تَفَرَّدَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ جَاءَتْ مِنْ أَوْجُهٍ أُخْرَى فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ ثُمَّ خَرَجَتْ حَامِلًا فَكَانَ الْوَلَدُ إِلَى أُمِّهِ وَمِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَكَانَ الْوَلَدُ يُدْعَى إِلَى أُمِّهِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَلْحَقَ الْوَلَدَ بِأُمِّهِ أَيْ صَيَّرَهُ لَهَا وَحْدَهَا وَنَفَاهُ عَنِ الزَّوْجِ فَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا أُمُّهُ فَتَرِثُ مِنْهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا كَمَا وَقَعَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي شَرْحِ حَدِيثِهِ فِي آخِرِهِ، وَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى لِأُمِّهِ، ثُمَّ جَرَتِ السُّنَّةُ فِي مِيرَاثِهَا أَنَّهَا تَرِثُهُ وَيَرِثُ مِنْهَا مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا.
وَقِيلَ: مَعْنَى إِلْحَاقِهِ بِأُمِّهِ أَنَّهُ صَيَّرَهَا لَهُ أَبَا وَأُمَّا فَتَرِثُ جَمِيعَ مَالِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ مِنْ وَلَدٍ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَوَاثِلَةَ، وَطَائِفَةٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَرَوَى أَيْضًا عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَعَنْهُ مَعْنَاهُ أَنَّ عَصَبَةَ أُمِّهِ تَصِيرُ عَصَبَةً لَهُ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَقِيلَ: تَرِثُهُ أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ مِنْهَا بِالْفَرْضِ وَالرَّدُّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ،
قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَرِثُهُ ذُو فَرْضٍ بِحَالٍ فَعَصَبَتُهُ عَصَبَةُ أُمِّهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ الْمَنْفِيَّ بِاللِّعَانِ لَوْ كَانَ بِنْتًا حَلَّ لِلْمُلَاعِنِ نِكَاحُهَا، وَهُوَ وجْهٌ شَاذٌّ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا تَحْرُمُ لِأَنَّهَا رَبِيبَتُهُ فِي الْجُمْلَةِ.
36 - بَاب قَوْلِ الْإِمَامِ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ
5316 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ الْمُتَلَاعِنَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي ذَلِكَ قَوْلًا ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، فَقَالَ عَاصِمٌ: مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا الْأَمْرِ إِلَّا لِقَوْلِي، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا قَلِيلَ اللَّحْمِ جعدا سَبْطَ الشَّعَرِ، وَكَانَ الَّذِي وَجَدَه عِنْدَ أَهْلِهِ آدَمَ خَدْلًا كَثِيرَ اللَّحْمِ جَعْدًا قَطَطًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ بَيِّنْ، فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَ عِنْدَهَا، فَلَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا فَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَجْلِسِ: هِيَ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هَذِهِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا، تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ السُّوءَ فِي الْإِسْلَامِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ الْإِمَامِ اللَّهُمَّ بَيِّنْ) قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَيْسَ مَعْنَى هَذَا الدُّعَاءِ طَلَبَ ثُبُوتِ صِدْقِ أَحَدِهِمَا فَقَطْ بَلْ مَعْنَاهُ أَنْ تَلِدَ لِيَظْهَرَ الشَّبَهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ دَلَالَتُهَا بِمَوْتِ الْوَلَدِ مَثَلًا فَلَا يَظْهَرُ الْبَيَانُ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ رَدْعُ مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ عَنِ التَّلَبُّسِ بِمِثْلِ مَا وَقَعَ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْقُبْحِ وَلَوِ انْدَرَأَ الْحَدُّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْأَنْصَارِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ) ثَبَتَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ وَكَذَا رِوَايَةُ اللَّيْثِ السَّابِقَةُ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ الَّتِي أَخْرَجَهَا الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَعَتْ فِيهَا تَسْوِيَةٌ، وَيَحْيَى وَإِنْ كَانَ سَمِعَ مِنَ الْقَاسِمِ لَكِنَّهُ مَا سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا مِنْ وَلَدِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَ عِنْدَهَا فَلَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا) ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُلَاعَنَةَ تَأَخَّرَتْ إِلَى وَضْعِ الْمَرْأَةِ لَكِنْ قَدْ أَوْضَحْتُ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ هِيَ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَتَقَدَّمَ قَبْلُ مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ أَنَّ اللِّعَانَ وَقَعَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ أَنْ تَضَعَ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَاعَنَ مُعَقَّبَةً بِقَوْلِهِ: فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا إِلَخْ فَهُوَ كَلَامٌ اعْتَرَضَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ - عَلَى بُعْدٍ - أَنْ تَكُونَ الْمُلَاعَنَةُ وَقَعَتْ مَرَّةً بِسَبَبِ الْقَذْفِ وَأُخْرَى بِسَبَبِ الِانْتِفَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ) هَذَا السَّائِلُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، وَهُوَ ابْنُ خَالَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، سَمَّاهُ أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْحُدُودِ.
قَوْلُهُ: (كَانَتْ تُظْهَرُ فِي الْإِسْلَامِ السُّوءَ) أَيْ كَانَتْ تُعْلِنُ بِالْفَاحِشَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهَا ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ وَلَا اعْتِرَافٍ. قَالَ الدَّاوُدِيُّ: فِيهِ جَوَازُ عَيْبِ مَنْ يَسْلُكُ مَسَالِكَ السُّوءِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يُسَمِّهَا. فَإِنْ أَرَادَ إِظْهَارَ الْعَيْبِ عَلَى الْإِبْهَامِ فَمُحْتَمَلٌ، وَقَدْ مَضَى فِي التَّفْسِيرِ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ أَيْ لَوْلَا مَا سَبَقَ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ، أَيْ أَنَّ اللِّعَانَ يَدْفَعُ الْحَدَّ عَنِ
الْمَرْأَةِ لَأَقَمْتُ عَلَيْهَا الْحَدَّ مِنْ أَجْلِ الشَّبَهِ الظَّاهِرِ بِالَّذِي رُمِيَتْ بِهِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَحْكُمُ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ وَحْيٌ خَاصٌّ فَإِذَا أُنْزِلَ الْوَحْيُ بِالْحُكْمِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ قَطَعَ النَّظَرَ وَعَمِلَ بِمَا نَزَلَ وَأَجْرَى الْأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ وَلَوْ قَامَتْ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَفِي أَحَادِيثِ اللِّعَانِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُفْتِيَ إِذَا سُئِلَ عَنْ وَاقِعَةٍ وَلَمْ يَعْلَمْ حُكْمَهَا وَرَجَا أَنْ يَجِدَ فِيهَا نَصًّا لَا يُبَادِرُ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِيهَا. وَفِيهِ الرِّحْلَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ النَّازِلَةِ، لِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ رَحَلَ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى مَكَّةَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَةِ الْمُلَاعَنَةِ.
وَفِيهِ إِتْيَانُ الْعَالِمَ فِي مَنْزِلِهِ وَلَوْ كَانَ فِي قَائِلَتِهِ إِذَا عَرَفَ الْآتِي أَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ. وَفِيهِ تَعْظِيمُ الْعَالِمِ وَمُخَاطَبَتُهُ بِكُنْيَتِهِ. وَفِيهِ التَّسْبِيحُ عِنْدَ التَّعَجُّبِ، وَإِشْعَارٌ بِسَعَةِ عِلْمِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ عَجِبَ مِنْ خَفَاءِ مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَعَجُّبُهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ كَانَ مَشْهُورًا مِنْ قَبْلُ فَتَعَجَّبَ كَيْفَ خَفِيَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ. وَفِيهِ بَيَانُ أَوَّلِيَّاتِ الْأَشْيَاءِ وَالْعِنَايَةُ بِمَعْرِفَتِهَا لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: أَوَّلُ مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فُلَانٌ وَقَوْلُ أَنَسٍ: أَوَّلُ لِعَانٍ كَانَ وَفِيهِ أَنَّ الْبَلَاءَ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقَعْ بِالنَّاطِقِ وَقَعَ بِمَنْ لَهُ بِهِ صِلَةٌ، وَأَنَّ الْحَاكِمَ يَرْدَعُ الْخَصْمَ عَنِ التَّمَادِي عَلَى الْبَاطِلِ بِالْمَوْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّحْذِيرِ وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَبْلَغَ. وَفِيهِ ارْتِكَابُ أَخَفِّ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِتَرْكِ أَثْقَلِهِمَا، لِأَنَّ مَفْسَدَةَ الصَّبْرِ عَلَى خِلَافِ مَا تُوجِبُهُ الْغَيْرَةُ مَعَ قُبْحِهِ وَشِدَّتِهِ أَسْهَلُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الِاقْتِصَاصِ مِنَ الْقَاتِلِ، وَقَدْ نَهَجَ لَهُ الشَّارِعُ سَبِيلًا إِلَى الرَّاحَةِ مِنْهَا إِمَّا بِالطَّلَاقِ وَإِمَّا بِاللِّعَانِ.
وَفِيهِ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ بِأَرَأَيْتَ كَانَ قَدِيمًا، وَأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُعْمَلُ بِهِ إِذَا كَانَ ثِقَةً، وَأَنَّهُ يُسَنُّ لِلْحَاكِمِ وَعْظُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّلَاعُنِ، وَيَتَأَكَّدُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ، وَنَقَلَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَنِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ خَصُّوهُ بِالْمَرْأَةِ عِنْدَ إِرَادَةِ تَلَفُّظِهَا بِالْغَضَبِ، وَاسْتَشْكَلَهُ بِمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، لَكِنْ قَدْ صَرَّحَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ بِاسْتِحْبَابِ وَعْظِهِمَا مَعًا. وَفِيهِ ذِكْرُ الدَّلِيلِ مَعَ بَيَانِ الْحُكْمِ.
وَفِيهِ كَرَاهَةُ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا هَتْكُ الْمُسْلِمِ أَوِ التَّوَصُّلُ إِلَى أَذِيَّتِهِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ، وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كَرَاهَةَ ذَلِكَ كَانَتْ خَاصَّةً بِزَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ نُزُولِ الْوَحْي لِئَلَّا تَقَعَ الْمَسْأَلَةُ عَنْ شَيْءٍ مُبَاحٍ فَيَقَعُ التَّحْرِيمُ بِسَبَبِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ، وَقَدِ اسْتَمَرَّ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ عَلَى كَرَاهَةِ السُّؤَالِ عَمَّا لَمْ يقَعْ، لَكِنْ عَمِلَ الْأَكْثَرُ عَلَى خِلَافِهِ فَلَا يُحْصَى مَا فَرَّعَهُ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْمَسَائِلِ قَبْلَ وُقُوعِهَا. وَفِيهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْحُكْمِ الَّذِي لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ. وَفِيهِ أَنَّ لِلْعَالِمِ إِذَا كَرِهَ السُّؤَالَ أَنْ يَعِيبَهُ وَيُهْجِنَهُ، وَأَنَّ مَنْ لَقِيَ شَيْئًا مِنَ الْمَكْرُوهِ بِسَبَبِ غَيْرِهِ يُعَاتِبُهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْمُحْتَاجَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ لَا يَرُدُّهُ كَرَاهَةُ الْعَالِمِ لِمَا سَأَلَ عَنْهُ وَلَا غَضَبُهُ عَلَيْهِ وَلَا جَفَاؤُهُ لَهُ بَلْ يُعَاوِدُ مُلَاطَفَتَهُ إِلَى أَنْ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ، وَأَنَّ السُّؤَالَ عَمَّا يَلْزَمُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ مَشْرُوعٌ سِرًّا وَجَهْرًا، وَأَنْ لَا عَيْبَ فِي ذَلِكَ عَلَى السَّائِلِ وَلَوْ كَانَ مِمَّا يُسْتَقْبَحُ. وَفِيهِ التَّحْرِيضُ عَلَى التَّوْبَةِ، وَالْعَمَلُ بِالسِّتْرِ، وَانْحِصَارُ الْحَقِّ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوَاسِطَةِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ وَأَنَّ الْخَصْمَيْنِ الْمُتَكَاذِبَيْنِ لَا يُعَاقَبُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَإِنْ أَحَاطَ الْعِلْمُ بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ.
وَفِيهِ أَنَّ اللِّعَانَ إِذَا وَقَعَ سَقَطَ حَدُّ الْقَذْفِ عَنِ الْمُلَاعِنِ لِلْمَرْأَةِ وَلِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ، لِأَنَّهُ صَرَّحَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ بِتَسْمِيَةِ الْمَقْذُوفِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْقَاذِفَ حُدَّ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَمْ يَقُلْ بِهِ مَالِكٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ وَلَوْ بَلَغَهُ لَقَالَ بِهِ وَأَجَابَ بَعْضُ مَنْ قَالَ يُحَدُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ الْمَقْذُوفَ لَمْ يَطْلُبْ وَهُوَ حَقُّهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْقَاذِفَ حُدَّ لِأَنَّ الْحَدَّ سَقَطَ مِنْ أَصْلِهِ بِاللِّعَانِ. وَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِمُ اعْتَذَرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ شَرِيكًا كَانَ يَهُودِيًّا، وَقَدْ بَيَّنْتُ مَا فِيهِ فِي بَابِ يَبْدَأُ الرَّجُلُ بِالتَّلَاعُنِ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُعْلِمَ الْمَقْذُوفَ بِمَا
وَقَعَ مِنْ قَاذِفِهِ. وَفِيهِ أَنَّ الْحَامِلَ تُلَاعَنُ قَبْلَ الْوَضْعِ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ انْظُرُوا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ إِلَخْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَجَاءَ يَعْنِي الرَّجُلَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ فَتَلَاعَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَعَلَّهَا أَنْ تَجِيءَ بِهِ أَسْوَدَ جَعْدًا، فَجَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ جَعْدًا وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ خِلَافًا لِمَنْ أَبَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ مُعْتَلًّا بِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يُعْلَمُ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ نَفْخَةً، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ اللِّعَانَ شُرِعَ لِدَفْعِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنِ الرَّجُلِ وَدَفْعِ حَدِّ الرَّجْمِ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا، وَلِذَلِكَ يُشْرَعُ اللِّعَانُ مَعَ الْآيِسَةِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الصَّغِيرَةِ: فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَذَفَهَا فَلَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ لِدَفْعِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ دُونَهَا.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنْ لَا كَفَّارَةَ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَبَيَّنْتُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنِ الْحَانِثُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ مُجْمَلًا بِأَنْ يَقُولَ مَثَلًا فَلْيُكَفِّرِ الْحَانِثُ مِنْكُمَا عَنْ يَمِينِهِ كَمَا أَرْشَدَ أَحَدَهُمَا إِلَى التَّوْبَةِ، وَفِي قَوْلِهِ عليه السلام الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَاذِفَ لَوْ عَجَزَ عَنِ الْبَيِّنَةِ فَطَلَبَ تَحْلِيفَ الْمَقْذُوفِ لَا يُجَابُ، لِأَنَّ الْحَصْرَ الْمَذْكُورَ لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ إِلَّا زِيَادَةُ مَشْرُوعِيَّةِ اللِّعَانِ. وَفِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الْأَوْصَافِ الْمَذْمُومَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ لَا يُشْرَعُ إِلَّا لِمَنْ لَيْسَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَوِ اسْتَطَاعَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَاهَا سَاغَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَهَا لِنَفْيِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ فِي الزِّنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُمَا.
وَفِيهِ أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالظَّاهِرِ وَأَمْرُ السَّرَائِرِ مَوْكُولٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ ابْنُ التِّينِ وَبِهِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالظَّاهِرِ فِيمَا لَا يَتَعَلَّقُ فِيهِ حُكْمٌ لِلْبَاطِنِ، وَالزِّنْدِيقُ قَدْ عُلِمَ بَاطِنُهُ بِمَا تَقَدَّمَ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ ظَاهِرُ مَا يُبْدِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَذَا قَالَ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَحَقَّقَ أَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ وَكَانَ قَادِرًا عَلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى عَيْنِ الْكَاذِبِ لَكِنْ أَخْبَرَ أَنَّ الْحُكْمَ بِظَاهِرِ الشَّرْعِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُنَقِّبُ عَنِ الْبَوَاطِنِ، وَقَدْ لَاحَتِ الْقَرَائِنُ بِتَعْيِينِ الْكَاذِبِ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَمَعَ ذَلِكَ فَأَجْرَاهُمَا عَلَى حُكْمِ الظَّاهِرِ وَلَمْ يُعَاقِبِ الْمَرْأَةَ. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَكْتَفِي بِالْمَظِنَّةِ وَالْإِشَارَةِ فِي الْحُدُودِ إِذَا خَالَفَتِ الْحُكْمَ الظَّاهِرَ كَيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا أَنْكَرَ وَلَا بَيِّنَةَ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى إِبْطَالِ الِاسْتِحْسَانِ لِقَوْلِهِ لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ.
وَفِيهِ أَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا بَذَلَ وُسْعَهُ وَاسْتَوْفَى الشَّرَائِطَ لَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ إِلَّا إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ إِخْلَالُ شَرْطٍ أَوْ تَفْرِيطٌ فِي سَبَبٍ. وَفِيهِ أَنَّ اللِّعَانَ يُشْرَعُ فِي كُلِّ امْرَأَةٍ دُخِلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَنَقَلَ فِيهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ، وَفِي صَدَاقِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا خِلَافٌ لِلْحَنَابِلَةِ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي بَابِهِ. فَلَوْ نَكَحَ فَاسِدًا أَوْ طَلَّقَ بَائِنًا فَوَلَدَتْ فَأَرَادَ نَفْيَ الْوَلَدِ فَلَهُ الْمُلَاعَنَةُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ وَلَا نَفْيَ وَلَا لِعَانَ لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ. وَكَذَا لَوْ قَذَفَهَا ثُمَّ أَبَانَهَا بِثَلَاثٍ فَلَهُ اللِّعَانُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ الشَّعْبِيُّ إِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَوَضَعَتْ فَانْتَفَى مِنْهُ فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ، فَقَالَ لَهُ الْحَارِثُ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} أَفَتَرَاهَا لَهُ زَوْجَةً؟ فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ إِذَا رَأَيْتُ الْحَقَّ أَنْ لَا أَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَلَوِ الْتَعْنَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَطْ فَالْتَعَنَتِ الْمَرْأَةُ مِثْلَهُ فَفَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا لَمْ تَقَعِ الْفُرْقَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ أَنَّ الْحَدَّ وَجَبَ عَلَيْهِمَا وَأَنَّهُ لَا يَنْدَفِعُ إِلَّا بِمَا ذُكِرَ فَيَتَعَيَّنُ الْإِتْيَانُ بِجَمِيعِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَخْطَأَ السُّنَّةَ وَتَحْصُلُ الْفُرْقَةُ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْأَكْثَرِ فَتَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الِالْتِعَانَ يَنْتَفِي بِهِ الْحَمْلُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ لِقَوْلِهِ انْظُرُوا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ إِلَخْ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا وَقَدْ أَلْحَقَ الْوَلَدَ مَعَ ذَلِكَ بِأُمِّهِ. وَفِيهِ جَوَازُ الْحَلِفِ عَلَى مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ وَيَكُونُ الْمُسْتَنَدُ
التَّمَسُّكَ بِالْأَصْلِ أَوْ قُوَّةُ الرَّجَاءِ مِنَ اللَّهِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الصِّدْقِ لِقَوْلِ مَنْ سَأَلَهُ هِلَالٌ وَاللَّهِ لَيَجْلِدَنَّكِ وَلِقَوْلِ هِلَالٍ وَاللَّهِ لَا يَضْرِبُنِي وَقَدْ عَلِمَ أَنِّي رَأَيْتُ حَتَّى اسْتَفْتَيْتُ. وَفِيهِ أَنَّ الْيَمِينَ الَّتِي يُعْتَدُّ بِهَا فِي الْحُكْمِ مَا يَقَعُ بَعْدَ إِذْنِ الْحَاكِمِ لِأَنَّ هِلَالًا قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَصَادِقٌ ثُمَّ لَمْ يَحْتَسِبْ بِهَا مِنْ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ الْخَمْسِ. وَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ بِإِلْغَاءِ حُكْمِ الْقَافَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ إِلْغَاءَ حُكْمِ الشَّبَهِ هُنَا إِنَّمَا وَقَعَ حَيْثُ عَارَضَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ بِالشَّرْعِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ حُكْمُ الْقَافَةِ حَيْثُ لَا يُوجَدُ ظَاهِرٌ يُتَمَسَّكُ بِهِ، وَيَقَعُ الِاشْتِبَاهُ فَيُرْجَعُ حِينَئِذٍ إِلَى الْقَافَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
37 - بَاب إِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ زَوْجًا غَيْرَهُ فَلَمْ يَمَسَّهَا
5317 -
حَدَّثَنَي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ح. حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّهُ لَا يَأْتِيهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ هُدْبَةٍ، فَقَالَ: لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ زَوْجًا غَيْرَهُ فَلَمْ يَمَسَّهَا) أَيْ هَلْ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ إِنْ طَلَّقَهَا الثَّانِي بِغَيْرِ مَسِيسٍ؟
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يُفْرِدْ كِتَابَ الْعِدَّةِ عَنْ كِتَابِ اللِّعَانِ فِيمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ النُّسَخِ. وَوَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ قَبْلَ الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا وَهُوَ بَابُ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ: كِتَابُ الْعِدَّةِ وَلِبَعْضِهِمْ أَبْوَابُ الْعِدَّةِ وَالْأَوْلَى إِثْبَاتُ ذَلِكَ هُنَا، فَإِنَّ هَذَا الْبَابَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِاللِّعَانِ لِأَنَّ الْمُلَاعَنَةَ لَا تَعُودُ لِلَّذِي لَاعَنَ مِنْهَا وَلَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ سَوَاءً جَامَعَهَا أَمْ لَمْ يُجَامِعْ.
قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ. وَقَوْلُهُ: حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ إِلَخْ سَاقَهُ عَلَى لَفْظِ عَبْدَةَ، وَإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَى رِوَايَةِ يَحْيَى لِتَصْرِيحِ هِشَامٍ فِي رِوَايَتِهِ بِقَوْلِهِ: حَدَّثَنِي أَبِي.
قَوْلُهُ: (إِنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ) هُوَ رِفَاعَةُ الْقُرَظِيُّ بْنُ سَمَوْأَلٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ ثُمَّ لَامٌ، وَالْقُرَظِيُّ بِالْقَافِ وَالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ فِي أَوَائِلِ الْمَغَازِي.
قَوْلُهُ: (تَزَوَّجَ امْرَأَةً) فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَسَمَّاهَا مَالِكٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزَّبِيرِ نَفْسِهِ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ مَوْصُولًا وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ مُرْسَلٌ تَمِيمَةُ بِنْتُ وَهْبٍ، وَهِيَ بِمُثَنَّاةٍ وَاخْتُلِفَ هَلْ هِيَ بِفَتْحِهَا أَوْ بِالتَّصْغِيرِ وَالثَّانِي أَرْجَحُ وَوَقَعَ مَجْزُومًا بِهِ فِي النِّكَاحِ لِسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ قَتَادَةَ، وَقِيلَ: اسْمُهَا سُهَيْمَةُ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مُصَغَّرٌ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ وَكَأَنَّهُ تَصْحِيفٌ، وَعِنْدَ ابْنِ مَنْدَهْ أُمَيْمَةُ بِأَلِفٍ أَخْرَجَهَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسُمِّيَ أَبَاهَا الْحَارِثُ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ اخْتُلِفَ فِي التَّلَفُّظِ بِاسْمِهَا وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ) سَمَّاهُ مَالِكٌ فِي رِوَايَتِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ وَأَبُوهُ بِفَتْحِ الزَّايِ، وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ رِفَاعَةُ وَالثَّانِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ لَهُ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ تَمِيمَةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ الْقُرَظِيَّةَ كَانَتْ تَحْتَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَهَا فَخَلَفَ عَلَيْهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ، وَتَسْمِيَتُهُ لِأَبِيهَا لَا تُنَافِي رِوَايَةَ مَالِكٍ فَلَعَلَّ اسْمَهُ وَهْبٌ وَكُنْيَتَهُ أَبُو عُبَيْدٍ إِلَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي مِنْ رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ الْفَضْلِ عَنْهُ وَتَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْظَةَ
يُقَالُ لَهَا تَمِيمَةُ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزَّبِيرِ فَطَلَّقَهَا. فَتَزَوَّجَهَا رِفَاعَةَ ثُمَّ فَارَقَهَا، فَأَرَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزَّبِيرِ، وَهُوَ مَعَ إِرْسَالِهِ مَقْلُوبٌ، وَالْمَحْفُوظُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ عَنْ هِشَامٍ، وَقَدْ وَقَعَ لِامْرَأَةٍ أُخْرَى قَرِيبٌ مِنْ قِصَّتِهَا فَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ أَيِ ابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: أَنَّ الْغُمَيْصَاءَ أَوِ الرُّمَيْصَاءَ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَشْكُو مِنْ زَوْجِهَا أَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ فَقَالَ: إِنَّهَا كَاذِبَةٌ وَلَكِنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، فَقَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ لَهَا حَتَّى تَذُوقَ عُسَيْلَتَهُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ لَكِنِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ.
وَوَقَعَ عِنْدَ شَيْخِنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ مُكَبَّرٌ وَتُعُقِّبَ عَلَى ابْنِ عَسَاكِرَ، وَالْمِزِّيِّ أَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْأَطْرَافِ وَلَا تَعَقُّبَ عَلَيْهِمَا فَإِنَّهُمَا ذَكَرَاهُ فِي مُسْنَدِ عُبَيْدِ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَمَاعِهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا أَنَّهُ وُلِدَ فِي عَصْرِهِ فَذُكِرَ لِذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ، وَاسْمُ زَوْجِ الْغُمَيْصَاءِ هَذِهِ عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ طَلَّقَ الْغُمَيْصَاءَ فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَأَرَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ الْحَدِيثَ وَلَمْ أَعْرِفِ اسْمَ زَوْجِهَا الثَّانِي، وَوَقَعَتْ لِثَالِثَةٍ قِصَّةٌ أُخْرَى مَعَ رِفَاعَةَ رَجُلٌ آخَرُ غَيْرُ الْأَوَّلِ وَالزَّوْجُ الثَّانِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ أَيْضًا أَخْرَجَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِهِ وَمِنْ طَرِيقِهِ ابْنُ شَاهِينَ فِي الصَّحَابَةِ ثُمَّ أَبُو مُوسَى قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَائِشَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَقِيلٍ النَّضْرِيَّةِ كَانَتْ تَحْتَ رِفَاعَةَ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَتِيكٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا فَطَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنَّهُ طَلَّقَنِي قَبْلَ أَنْ يَمَسَّنِي أَفَأَرْجِعُ إِلَى ابْنِ عَمِّي زَوْجِي الْأَوَّلِ؟ قَالَ: لَا، الْحَدِيثَ وَهَذَا الْحَدِيثُ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَالْوَاضِحُ مِنْ سِيَاقِهِ أَنَّهَا قِصَّةٌ أُخْرَى
وَأَنَّ كُلًّا مِنْ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ، وَرِفَاعَةَ النَّضْرِيِّ وَقَعَ لَهُ مَعَ زَوْجَةٍ لَهُ طَلَاقٌ فَتَزَوَّجَ كُلًّا مِنْهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَالْحُكْمُ فِي قِصَّتِهِمَا مُتَّحِدٌ مَعَ تَغَايُرِ الْأَشْخَاصِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ خَطَأُ مَنْ وَحَّدَ بَيْنَهُمَا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ سَمَوْأَلٍ هُوَ رِفَاعَةُ بْنُ وَهْبٍ فَقَالَ: اخْتُلِفَ فِي امْرَأَةِ رِفَاعَةَ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ، فَذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي النُّطْقِ بِتَمِيمَةَ وَضَمَّ إِلَيْهَا عَائِشَةَ وَالتَّحْقِيقُ مَا تَقَدَّمَ. وَوَقَعَتْ لِأَبِي رُكَانَةَ قِصَّةٌ أُخْرَى سَأَذْكُرُهَا آخِرَ هَذَا الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ يَظْهَرُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى، فَعِنْدَ الْمُصَنِّفِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ فَلَمْ يَصِلْ مِنْهَا إِلَى شَيْءٍ يُرِيدُهُ وَعِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ هِشَامٍ فَنَكَحَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ فَاعْتُرِضَ عَنْهَا وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزَّبِيرِ نَفْسِهِ وَزَادَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَمَسَّهَا وَقَوْلُهُ: فَاعْتُرِضَ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَآخِرُهُ ضَادٌ مُعْجَمَةٌ أَيْ حَصَلَ لَهُ عَارِضٌ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِتْيَانِهَا إِمَّا مِنَ الْجِنِّ وَإِمَّا مِنَ الْمَرَضِ.
قَوْلُهُ: (فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّهُ لَا يَأْتِيهَا) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ فَلَمْ يَقْرَبْنِي إِلَّا هَنَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَصِلْ مِنِّي إِلَى شَيْءٍ وَالْهَنَةُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ الْحَقِيرَةُ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ هُدْبَةٍ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ مَفْتُوحَةٌ هُوَ طَرَفُ الثَّوْبِ الَّذِي لَمْ يُنْسَجْ مَأْخُوذٌ مِنْ هُدْبِ الْعَيْنِ وَهُوَ شَعْرُ الْجَفْنِ، وَأَرَادَتْ أَنَّ ذَكَرَهُ يُشْبِهُ الْهُدْبَةَ فِي الِاسْتِرْخَاءِ وَعَدَمِ الِانْتِشَارِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ الثَّانِي لَا يَكُونُ مُحَلِّلًا ارْتِجَاعَ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ لِلْمَرْأَةِ إِلَّا إِنْ كَانَ حَالُ وَطْئِهِ مُنْتَشِرًا فَلَوْ كَانَ ذَكَرُهُ أَشَلُّ أَوْ كَانَ هُوَ عِنِّينًا أَوْ طِفْلًا لَمْ يَكْفِ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَا) هَكَذَا وَقَعَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُخْتَصَرًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ كَمَا
تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي بَابِ مِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ: وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ الْهُدْبَةِ فَلَمْ يَقْرَبْنِي إِلَّا هَنَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَصِلْ مِنِّي إِلَى شَيْءٍ أَفَأَحِلُّ لِزَوْجِي الْأَوَّلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَحِلِّينَ لِزَوْجِكِ الْأَوَّلِ الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ كَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا فِي أَوَائِلِ الطَّلَاقِ: وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ، لَا، الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ الزَّبِيرِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَاءَتْ وَعَلَيْهَا خِمَارٌ أَخْضَرُ فَشَكَتْ إِلَيْهَا - أَيْ إِلَى عَائِشَةَ - مِنْ زَوْجِهَا وَأَرَتْهَا خَضْرَةٌ بِجِلْدِهَا، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنِّسَاءُ يُبْصِرْنَ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْتَ مَا يَلْقَى الْمُؤْمِنَاتِ، لَجِلْدُهَا أَشَدُّ خَضْرَةً مِنْ ثَوْبِهَا. وَسَمِعَ زَوْجُهَا فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي إِلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ إِلَّا أَنَّ مَا مَعَهُ لَيْسَ بِأَغْنَى عَنِّي مِنْ هَذِهِ - وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ ثَوْبِهَا - فَقَالَ: كَذَبَتْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأَنْفُضُهَا نَفْضَ الْأَدِيمِ، وَلَكِنَّهَا نَاشِزَةٌ تُرِيدُ رِفَاعَةَ. قَالَ: فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ تَحِلَّ لَهُ، الْحَدِيثَ.
وَكَأَنَّ هَذِهِ الْمُرَاجَعَةَ بَيْنَهُمَا هيَ الَّتِي حَمَلَتْ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَلَى قَوْلِهِ الَّذِي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، فَإِنَّ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ عَنْهُ قَالَ: فَسَمِعَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ قَوْلَهَا وَهُوَ بِالْبَابِ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَا تَنْهَى هَذِهِ عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَوَاللَّهِ مَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى التَّبَسُّمِ. وَفِيهِ مَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ مِنْ سَلُّوكِ الْأَدَبِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْكَارُهُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ أَوْ قَوْلِهِ لِقَوْلِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهُوَ جَالِسٌ أَلَا تَنْهَى هَذِهِ؟ وَإِنَّمَا قَالَ خَالِدٌ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ خَارِجَ الْحُجْرَةِ، فَاحْتَمَلَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ مُبَاشَرَةِ نَهْيِهَا بِنَفْسِهِ، فَأَمَرَ بِهِ أَبَا بَكْرٍ لِكَوْنِهِ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُشَاهِدًا لِصُورَةِ الْحَالِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا رَأَى أَبُو بَكْرٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَبَسَّمُ عِنْدَ مَقَالَتِهَا لَمْ يَزْجُرْهَا، وَتَبَسُّمُهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ تَعَجُّبًا مِنْهَا، إِمَّا لِتَصْرِيحِهَا بِمَا يَسْتَحِي النِّسَاءُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِهِ غَالِبًا، وَإِمَّا لِضَعْفِ عَقْلِ النِّسَاءِ لِكَوْنِ الْحَامِلِ لَهَا عَلَى ذَلِكَ شِدَّةَ بُغْضِهَا فِي الزَّوْجِ الثَّانِي وَمَحَبَّتِهَا فِي الرُّجُوعِ إِلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ وُقُوعِ ذَلِكَ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ مِنْ قَوْلِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، لِأَبِي بَكْرٍ أَلَا تَنْهَى هَذِهِ عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ؟ أَيْ تَرْفَعُ بِهِ صَوْتَهَا، وَذَكَرَهُ الدَّاوُدِيُّ بِلَفْظِ تَهْجُرُ بِتَقْدِيمِ التاء عَلَى الْجِيمِ، وَالْهُجْرُ بِضَمِّ الْهَاءِ الْفُحْشُ مِنَ الْقَوْلِ، وَالْمَعْنَى هُنَا عَلَيْهِ، لَكِنَّ الثَّابِتَ فِي الرِّوَايَاتِ مَا ذَكَرْتُهُ، وَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّهُ وَقَعَ كَذَلِكَ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ. وَتَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي الشَّهَادَاتِ مَعَ مَنِ اسْتَدَلَّ بِكَلَامِ خَالِدٍ هَذَا لِجَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَى الصَّوْتِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ) كَذَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالتَّصْغِيرِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَوْجِيهِهِ فَقِيلَ: هِيَ تَصْغِيرُ الْعَسَلِ لِأَنَّ الْعَسَلَ مُؤَنَّثٌ، جَزَمَ بِهِ الْقَزَّازُ ثُمَّ قَالَ: وَأَحْسَبُ التَّذْكِيرَ لُغَةً. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا حَقرَتِ الشَّيْءِ أَدْخَلَتْ فِيهِ هَاءِ التَّأْنِيثِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: دُرَيْهِمَاتٌ فَجَمَعُوا الدِّرْهَمَ جَمْعَ الْمُؤَنَّثِ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحْقِيرِ، وَقَالُوا أَيْضًا فِي تَصْغِيرِ هِنْدٍ: هُنَيْدَةُ. وَقِيلَ: التَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْوَطْأَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا تَكْفِي فِي الْمَقْصُودِ مِنْ تَحْلِيلِهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَسَلِ وَالتَّصْغِيرُ لِلتَّقْلِيلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْقَدْرَ الْقَلِيلَ كَافٍ فِي تَحْصِيلِ الْحِلِّ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّ مَعْنَى الْعُسَيْلَةِ حَلَاوَةُ الْجِمَاعِ الَّذِي يَحْصُلُ بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ، وَأَنَّثَ تَشْبِيهًا بِقِطْعَةٍ مِنْ عَسَلٍ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: صُغِّرَتْ لِشِدَّةِ شَبَهِهَا بِالْعَسَلِ وَقِيلَ: مَعْنَى الْعُسَيْلَةُ النُّطْفَةُ، وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: ذَوْقُ الْعُسَيْلَةِ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُجَامَعَةِ وَهُوَ تَغْيِيبُ حَشَفَةِ الرَّجُلِ فِي فَرْجِ الْمَرْأَةِ، وَزَادَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: حُصُولُ الْإِنْزَالِ. وَهَذَا الشَّرْطُ انْفَرَدَ بِهِ
عَنِ الْجَمَاعَةِ قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَآخَرُونَ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: شَذَّ الْحَسَنُ فِي هَذَا، وَخَالَفَهُ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ وَقَالُوا: يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَيُحْصِنُ الشَّخْصَ وَيُوجِبُ كَمَالَ الصَّدَاقِ وَيُفْسِدُ الْحَجَّ وَالصَّوْمِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْعُسَيْلَةُ لَذَّةُ الْجِمَاعِ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ تَسْتَلِذُّهُ عَسَلًا، وَهُوَ فِي التَّشْدِيدِ يُقَابِلُ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي الرُّخْصَةِ، وَيَرُدُّ قَوْلَ الْحَسَنِ أَنَّ الْإِنْزَالَ لَوْ كَانَ شَرْطًا لَكَانَ كَافِيًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إِذَا كَانَ بَعِيدَ الْعَهْدِ بِالْجِمَاعِ مَثَلًا أَنْزَلَ قَبْلَ تَمَامِ الْإِيلَاجِ، وَإِذَا أَنْزَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَبْلَ تَمَامِ الْإِيلَاجِ لَمْ يَذُقْ عُسَيْلَةَ صَاحِبِهِ، لَا إِنْ فُسِّرَتِ الْعُسَيْلَةُ بِالْإِمْنَاءِ وَلَا بِلَذَّةِ الْجِمَاعِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْجِمَاعِ لِتَحِلَّ لِلْأَوَّلِ، إِلَّا سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ. ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ الصَّحِيحِ عَنْهُ قَالَ: يَقُولُ النَّاسُ: لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يُجَامِعَهَا الثَّانِي، وَأَنَا أَقُولُ: إِذَا تَزَوَّجَهَا تَزْوِيجًا صَحِيحًا لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إِحْلَالَهَا لِلْأَوَّلِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ. وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنِ اسْتَبْعَدَ صِحَّتَهُ عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا الْقَوْلُ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَهُ عَلَيْهِ إِلَّا طَائِفَةً مِنَ الْخَوَارِجِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثَ فَأَخَذَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: سِيَاقُ كَلَامِهِ يُشْعِرُ بِذَلِكَ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى ضَعْفِ الْخَبَرِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ. وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ رَزِينٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ فِي الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ الْمَرْأَةُ فَيُطَلِّقُهَا ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا آخَرُ فَيُطَلِّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَتَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ، فَقَالَ: لَا، حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ فَقَالَ عَنْ رَزِينِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَحْمَرِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ، قَالَ النَّسَائِيُّ: هَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ الثَّوْرِيَّ أَتْقَنُ وَأَحْفَظُ مِنْ شُعْبَةَ، وَرِوَايَتُهُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ شَيْخَ عَلْقَمَةَ شَيْخُهُمَا هُوَ رَزِينُ بْنُ سُلَيْمَانَ كَمَا قَالَ الثَّوْرِيُّ لَا سَالِمُ بْنُ رَزِينٍ كَمَا قَالَ شُعْبَةُ، فَقَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ عَلْقَمَةَ كَذَلِكَ، مِنْهُمْ غَيْلَانُ بْنُ جَامِعٍ أَحَدُ الثِّقَاتِ.
ثَانِيهُمَا أَنَّ الْحَدِيثَ لَوْ كَانَ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا مَا نَسَبَهُ إِلَى مَقَالَةِ النَّاسِ الَّذِينَ خَالَفَهُمْ، وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّ نَقْلَ أَبِي جَعْفَرٍ النَّحَّاسِ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ وَتَبِعَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ الْقَوْلَ بِذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَهْمٌ، وَأَعْجَبُ مِنْهُ أَنَّ أَبَا حِبَّانَ جَزَمَ بِهِ عَنِ السَّعِيدِينِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ سَنَدٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ، وَكَفَى قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ حُجَّةً فِي ذَلِكَ. وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ، عَنْ دَاوُدَ أَنَّهُ وَافَقَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِأَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ جَمِيعِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ إِلَخْ إِشْعَارٌ بِإِمْكَانِ ذَلِكَ، لَكِنْ قَوْلُهَا: لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ ظَاهِرٌ فِي تَعَذُّرِ الْجِمَاعِ الْمُشْتَرَطِ، فَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ مُرَادَهَا بِالْهُدْبَةِ التَّشْبِيهُ بِهَا فِي الدِّقَّةِ وَالرِّقَّةِ لَا فِي الرَّخَاوَةِ وَعَدَمِ الْحَرَكَةِ وَاسْتُبْعِدَ مَا قَالَ، وَسِيَاقُ الْخَبَرِ يُعْطِي بِأَنَّهَا شَكَتْ مِنْهُ عَدَمَ الِانْتِشَارِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَذُوقِي لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ عَلَى الْإِمْكَانِ وَهُوَ جَائِزُ الْوُقُوعِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اصْبِرِي حَتَّى يَتَأَتَّى مِنْهُ ذَلِكَ، وَإِنْ تَفَارَقَا فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ إِرَادَةِ الرُّجُوعِ إِلَى رِفَاعَةَ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ يَحْصُلُ لَهَا مِنْهُ ذَلِكَ. وَاسْتُدِلَّ بِإِطْلَاقِ وُجُودِ الذَّوْقِ مِنْهُمَا لِاشْتِرَاطٍ عَلَى الزَّوْجَيْنِ بِهِ حَتَّى لَوْ وَطِئَهَا نَائِمَةً أَوْ مُغْمًى عَلَيْهَا لَمْ يَكْفِ وَلَوْ أَنْزَلَ هُوَ. وَبَالَغَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فَنَقَلَهُ عَنْ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ. وَتُعُقِّبَ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ حُجَّةٌ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا نَائِمَةً أَوْ مُغْمًى عَلَيْهَا لَمْ تَحِلَّ. وَجَزَمَ ابْنُ الْقَاسِمِ بِأَنَّ وَطْءَ الْمَجْنُونِ يُحَلِّلُ، وَخَالَفَهُ أَشْهَبُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ رُجُوعِهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ إِذَا حَصَلَ الْجِمَاعُ مِنَ الثَّانِي، لَكِنْ
شَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَنَقَلَ عَنْ عُثْمَانَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنْ لَا يَكُونَ فِي ذَلِكَ مُخَادَعَةٌ مِنَ الزَّوْجِ الثَّانِي وَلَا إِرَادَةُ تَحْلِيلِهَا لِلْأَوَّلِ.
وَقَالَ الْأَكْثَرُ: إِنْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ فَسَدَ وَإِلَّا فَلَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ لَمْ يُحَلِّلْ، وَشَذَّ الْحَكَمُ فَقَالَ يَكْفِي، وَأَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ بَتَّ طَلَاقَهَا ثُمَّ مَلَكَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا وَطِئَهَا حَائِضًا أَوْ بَعْدَ أَنْ طَهُرَتْ قَبْلَ أَنْ تَطْهُرَ أَوْ أَحَدُهُمَا صَائِمٌ أَوْ مُحْرِمٌ.
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: أَخَذَ الْحَنَفِيَّةُ بِالشَّرْطِ الَّذِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ، وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَأْخُذُوا بِحَدِيثِهَا فِي اشْتِرَاطِ خَمْسِ رَضَعَاتٍ لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، فَيَلْزَمُهُمُ الْأَخْذُ بِهِ أَوْ تَرْكُ حَدِيثِ الْبَابِ، وَأَجَابُوا بِأَنَّ النِّكَاحَ عِنْدَهُمْ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ فَالْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهَا بَتَّ طَلَاقِي عَلَى أَنَّ أَلْبَتَّةَ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ، وَهُوَ عَجَبٌ مِمَّنِ اسْتَدَلَّ بِهِ فَإِنَّ الْبَتَّ بِمَعْنَى الْقَطْعِ وَالْمُرَادُ بِهِ قَطْعُ الْعِصْمَةِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالثَّلَاثِ مَجْمُوعَةً أَوْ بِوُقُوعِ الثَّالِثَةِ الَّتِي هِيَ آخِرُ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، وَسَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ صَرِيحًا أَنَّهُ طَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فَبَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. وَنَقَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَوْرَدَ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ مَا مُلَخَّصُهُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْقَوْلِ بِهِ إِمَّا الزِّيَادَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ فَيَسْتَلْزِمُ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الَّتِي لَمْ تَتَوَاتَرْ، أَوْ حَمْلُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِلْبَاسِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الشَّرْطَ إِذَا كَانَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ اللَّفْظِ لَمْ تَكُنْ إِضَافَتُهُ نَسْخًا وَلَا زِيَادَةً، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ النِّكَاحَ فِي الْآيَةِ أُضِيفَ إِلَيْهَا وَهِيَ لَا تَتَوَلَّى الْعَقْدَ بِمُجَرَّدِهَا فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي حَقِّهَا الْوَطْءُ، وَمِنْ شَرْطِهِ اتِّفَاقًا أَنْ يَكُونَ وَطْئًا مُبَاحًا فَيَحْتَاجُ إِلَى سَبَقَ الْعَقْدِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْمَعْنَيَيْنِ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِهِمَا، فَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْجِمَاعِ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ شَكَتْ أَنَّ زَوْجَهَا لَا يَطَؤُهَا وَأَنَّ ذَكَرَهُ لَا يَنْتَشِرُ وَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ مَا يُغْنِي عَنْهَا وَلَمْ يَفْسَخِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِكَاحَهَا بِذَلِكَ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَا يُفْسَخُ بِالْعُنَّةِ وَلَا يُضْرَبُ لِلْعِنِّينِ أَجَلٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَةِ تُطَالِبُ الرَّجُلَ بِالْجِمَاعِ، فَقَالَ الْأَكْثَرُ: إِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ أَنْ دَخَلَ بِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً لَمْ يُؤَجَّلْ أَجَلُ الْعِنِّينِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِنْ تَرَكَ جِمَاعَهَا لِعِلَّةٍ أُجِّلَ لَهُ سَنَةً، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عِلَّةٍ فَلَا تَأْجِيلَ، وَقَالَ عِيَاضٌ، اتَّفَقَ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ حَقًّا فِي الْجِمَاعِ، فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لَهَا إِذَا تَزَوَّجَتِ الْمَجْبُوبَ وَالْمَمْسُوحَ جَاهِلَةً بِهِمَا، وَيُضْرَبُ لِلْعِنِّينِ أَجَلُ سَنَةٍ لِاحْتِمَالِ زَوَالِ مَا بِهِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ دَاوُدَ وَمَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِ بِقِصَّةِ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا، لِأَنَّ فِي بَعْضَ طُرُقِهِ أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ كَانَ أَيْضًا طَلَّقَهَا كَمَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ صَرِيحًا مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ آخَرُ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَأَرَادَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا الْحَدِيثَ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الطَّلَاقِ.
وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ بَعْدَ قَوْلِهِ: لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ قَالَ فَفَارَقَتْهُ بَعْدُ زَادَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ إِنَّهُ - يَعْنِي زَوْجَهَا الثَّانِيَ - مَسَّهَا فَمَنَعَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ وَصَرَّحَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِهِ مُرْسَلًا أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَ مَسَّنِي، فَقَالَ: كَذَبْتِ بِقَوْلِكِ الْأَوَّلِ فَلَنْ أُصَدِّقَكِ فِي الْآخِرِ، وَأَنَّهَا أَتَتْ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ فَمَنَعَاهَا وَكَذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ الْأَخِيرَةُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ الْمَذْكُورَةِ أَخْرَجَهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ، وَوَقَعَ عِنْدَ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ الْمِسْوَرِ
بْنِ رِفَاعَةَ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزَّبِيرِ، زَادَ خَارِجَ الْمُوَطَّأِ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ وَتَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مَالِكٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْغَرَائِبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَمِيمَةَ بِنْتَ وَهْبٍ ثَلَاثًا، فَنَكَحَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَاعْتُرِضَ عَنْهَا فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَمَسَّهَا فَفَارَقَهَا، فَأَرَادَ رِفَاعَةُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الْحَدِيثَ. وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ فَدَخَلَ بِهَا وَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُوَاقِعَهَا أَتَحِلُّ لِلْأَوَّلِ؟ قَالَ: لَا الْحَدِيثَ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ، وَالطَّبَرِيُّ أَيْضًا وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ كَذَلِكَ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ طَلَّقَ الْغُمَيْصَاءَ فَنَكَحَهَا رَجُلٌ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَا، حَتَّى يَذُوقَ الْآخَرُ عُسَيْلَتَهَا وَتَذُوقَ عُسَيْلَتَهُ وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، فَإِنْ كَانَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَفِظَهُ فَهُوَ حَدِيثٌ آخَرُ لِعَائِشَةَ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ قِصَّةِ امْرَأَةِ رِفَاعَةِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ - بِالتَّصْغِيرِ - ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فِي ذِكْرِهِ الْغُمَيْصَاءَ، لَكِنَّ سِيَاقَهُ يُشْبِهُ قِصَّةَ رِفَاعَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ أَنَّهُ وَقَعَ لِكُلٍّ مِنْ رِفَاعَةَ بْنِ سَمَوْأَلٍ، وَرِفَاعَةَ بْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا شَكَتْ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ الْهُدْبَةِ، فَلَعَلَّ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ شَكَتْهُ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهَا وَالْأُخْرَى بَعْدَ أَنْ فَارَقَهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ وَاحِدَةً وَوَقَعَ الْوَهْمُ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ فِي التَّسْمِيَةِ أَوْ فِي النِّسْبَةِ وَتَكُونُ الْمَرْأَةُ شَكَتْ مَرَّتَيْنِ مِنْ قَبْلِ الْمُفَارَقَةِ وَمَنْ بَعْدِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ طَلَّقَ عَبْدُ يَزِيدَ أَبُو رُكَانَةَ أُمَّ رُكَانَةَ وَنَكَحَ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: مَا يُغْنِي عَنِّي إِلَّا كَمَا تُغْنِي هَذِهِ الشَّعْرَةُ - لِشَعْرَةٍ أَخَذَتْهَا مِنْ رَأْسِهَا - فَفَرِّقْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ يَزِيدَ: طَلِّقْهَا وَرَاجِعْ أُمَّ رُكَانَةَ، فَفَعَلَ فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَسْأَلَةِ الْعِنِّينِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
38 - بَاب {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ}
قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ لَمْ تَعْلَمُوا يَحِضْنَ أَوْ لَا يَحِضْنَ، وَاللَّائِي قَعَدْنَ عَنْ الْحِيضِ {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ * فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ}
39 - بَاب {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
5318 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الْأَعْرَجِ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ زَيْنَبَ ابنة أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ - زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهَا سُبَيْعَةُ كَانَتْ تَحْتَ زَوْجِهَا تُوُفِّيَ عَنْهَا، وَهِيَ حُبْلَى، فَخَطَبَهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ، فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا يَصْلُحُ أَنْ تَنْكِحِيهِ حَتَّى تَعْتَدِّي آخِرَ الْأَجَلَيْنِ، فَمَكُثَتْ قَرِيبًا مِنْ عَشْرِ لَيَالٍ ثُمَّ جَاءَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: انْكِحِي.
5319 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ يَزِيدَ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى ابْنِ الأَرْقَمِ أَنْ يَسْأَلَ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ كَيْفَ أَفْتَاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ
أَفْتَانِي إِذَا وَضَعْتُ أَنْ أَنْكِحَ"
5320 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ فَجَاءَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ فَأَذِنَ لَهَا فَنَكَحَتْ"
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} سَقَطَ لَفْظُ بَابٍ لِأَبِي ذَرٍّ وَكَرِيمَةَ وَثَبَتَ لِلْبَاقِينَ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ بَطَّالٍ كِتَابُ الْعِدَّةِ - بَابُ قَوْلِ اللَّهِ إِلَخْ وَالْعِدَّةُ اسْمٌ لِمُدَّةٍ تَتَرَبَّصُ بِهَا الْمَرْأَةُ عَنِ التَّزْوِيجِ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا أَوْ فِرَاقِهِ لَهَا إِمَّا بِالْوِلَادَةِ أَوْ بِالْأَقْرَاءِ أَوِ الْأَشْهُرِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ لَمْ تَعْلَمُوا يَحِضْنَ أَوْ لَا يَحِضْنَ). أَيْ فَسَّرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أَيْ لَمْ تَعْلَمُوا.
وَقَوْلُهُ: (وَاللَّائِي قَعَدْنَ عَنِ الْحَيْضِ) أَيْ حُكْمُهُنَّ حُكْمُ اللَّائِي يَئِسْنَ. وَقَوْلُهُ: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ * فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} أَيْ أَنَّ حُكْمَ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ أَصْلًا وَرَأْسًا حُكْمُهُنَّ فِي الْعِدَّةِ حُكْمُ اللَّائِي يَئِسْنَ، فَكَانَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهَا وَقَعَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ:{فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} وَأَثَرُ مُجَاهِدٍ هَذَا وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الطَّلَاقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: الِارْتِيَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي تَشُكُّ فِي قُعُودِهَا عَنِ الْوَلَدِ وَفِي حَيْضِهَا أَتَحِيضُ أَوْ لَا، وَتَشُكُّ فِي انْقِطَاعِ حَيْضِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ تَحِيضُ وَتَشُكُّ فِي صِغَرِهَا هَلْ بَلَغَتِ الْمَحِيضَ أَمْ لَا؟ وَتَشُكُّ فِي حَمْلِهَا أَبْلَغَتْ أَنْ تَحْمِلَ أَوْ لَا؟ فَمَا ارْتَبْتُمْ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ فَالْعِدَّةُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَهَذَا الَّذِي جَزَمَ بِهِ الزُّهْرِيُّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَمَنِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ تَحِيضُ، فَذَهَبَ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إِلَى أَنَّهَا تَنْتَظِرُ الْحَيْضَ إِلَى أَنْ تَدْخُلَ فِي السِّنِّ الَّذِي لَا يَحِيضُ فِيهِ مِثْلُهَا فَتَعْتَدُّ حِينَئِذٍ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ. وَعَنْ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ تَرَبَّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ حَاضَتْ وَإِلَّا اعْتَدَّتْ ثَلَاثَةً. وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ إِنْ كَانَتْ شَابَّةً فَسَنَةً، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْحُكْمِ لِلْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَأَمَّا الَّتِي تَحِيضُ وَيَتَأَخَّرُ حَيْضُهَا فَلَيْسَتْ آيِسَةً، لَكِنْ لِمَالِكٍ فِي قَوْلِهِ سَلَفٌ وَهُوَ عُمَرُ، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أَيْ فِي الْحُكْمِ لَا فِي الْيَأْسِ.
قَوْلُهُ: (إنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ) أَيِ ابْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي تَفْسِيرِ الطَّلَاقِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَذَلِكَ لَمَّا وَقَعَتِ الْمُرَاجَعَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مَشْرُوحًا هُنَاكَ. وَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَفِيهِ فَدَخَلَ أَبُو سَلَمَةَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَأَوْرَدَ الْقِصَّةَ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنَ بِاخْتِصَارٍ أَيْضًا. الطَّرِيقُ الْأُولَى طَرِيقُ الْأَعْرَجِ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ كَذَا رَوَاهُ الْأَعْرَجُ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الطَّلَاقِ، وَفِيهِ قِصَّةٌ لِأَبِي سَلَمَةَ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا سَلَمَةَ اجْتَمَعَا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَبَعَثُوا كُرَيْبًا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْأَلُهَا عَنْ ذَلِكَ فَذَكَرَتِ الْقِصَّةَ، وَهُوَ شَاهِدٌ لِرِوَايَةِ الْأَعْرَجِ.
وَأَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَمِّ سَلَمَةَ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ أَخْبَرَهُ فَذَكَرَ قِصَّتَهُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ فَأَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى سُبَيْعَةَ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْخَبَرِ، فَإِنَّ لِأَبِي سَلَمَةَ اعْتِنَاءً بِالْقِصَّةِ مِنْ حِينِ تَنَازَعَ هُوَ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِيهَا، فَكَأَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ مِنْ كُرَيْبٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ لَمْ يَقْتَنِعْ بِذَلِكَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا ثُمَّ دَخَلَ عَلَى سُبَيْعَةَ صَاحِبَةِ الْقِصَّةِ نَفْسِهَا ثُمَّ تَحَمَّلَهَا عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا الرَّجُلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ كَمَا يَأْتِي فِي الطَّرِيقِ الثَّالِثَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبَا هُرَيْرَةَ فَإِنَّ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو سَلَمَةَ أَبْهَمَهُ أَوَّلًا لَمَّا قَالَ أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ أَبِي حَسَّانَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ فَذَكَرَ قِصَّتَهُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ فَأَرْسَلُوا إِلَى عَائِشَةَ فَذَكَرَتْ حَدِيثَ سُبَيْعَةَ فَهُوَ شَاذٌّ، وَصَالِحُ بْنُ أَبِي حَسَّانَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ سَبَبُ الْوَهْمِ الَّذِي حَكَاهُ الْحُمَيْدِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَذَكَرْتُهُ فِي تَفْسِيرِ الطَّلَاقِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبَانٍ الْعَطَّارِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} وَأَنَّ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَقَالَ اللَّهُ آخِرَ الْأَجَلَيْنِ؟ أَرَأَيْتَ لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَلَمْ تَضَعْ أَتَتَزَوَّجُ؟ فَقَالَ لِغُلَامِهِ: اذْهَبْ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ. الطَّرِيقَ الثَّانِيَةُ.
قَوْلُهُ: (اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ) قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ فِي حَوَاشِيهِ: هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، وَوَهِمَ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ ابْنُ أَبِي حَبِيبٍ، كَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِلْجانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحِ، عَنِ اللَّيْثِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ ابْنَ شِهَابٍ كَتَبَ إِلَيْهِ) هُوَ حُجَّةٌ فِي جَوَازِ الرِّوَايَةِ بِالْمُكَاتَبَةِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ مِنَ الْمَغَازِي مُعَلَّقًا عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَتَمَّ سِيَاقًا مِمَّا هُنَا، وَوَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ كَذَلِكَ، وَوَافَقَهُ الزُّبَيْدِيُّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَقِيلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فَخَالَفَ فِي بَعْضِ رُوَاتِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَقَدْ سَلَفَ فِي تَفْسِيرِ الطَّلَاقِ أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ حَدَّثَ بِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ سُبَيْعَةَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتَبَةَ لَقَى سُبَيْعَةَ بَعْدَ أَنْ كَانَ بَلَغَهُ عَنْهَا مِمَّنْ سَيَذْكُرُ مِنَ الْوَسَائِطِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرْسَلَهُ عَنْهَا لِابْنِ سِيرِينَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْ خَلَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ سُبَيْعَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (إنَّهُ كَتَبَ إِلَى ابْنِ الْأَرْقَمِ) جَزَمَ جَمْعٌ مِنَ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَرْقَمِ الزُّهْرِيُّ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ، وَوَهِمُوا فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ وَلَدُهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، كَذَلِكَ وَقَعَ وَاضِحًا مُفَسَّرًا فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، وَلَيْسَ لِعُمَرَ الْمَذْكُورِ فِي الصَّحِيحَيْنِ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَقِيلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَاهُ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنِ الْقَ سُبَيْعَةَ فَسَلْهَا كَيْفَ قَضَى لَهَا، قَالَ فَأَخْبَرَنِي زُفَرُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدْثَانِ أَنَّ سُبَيْعَةَ أَخْبَرَتْهُ وَالْقَائِلُ أَخْبَرَنِي زُفَرُ هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بَيَّنَ ذَلِكَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي زَيْدِ بْنِ أُنَيْسَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَوَضَحَ بِذَلِكَ أَنَّ لِابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ فِيهِ طَرِيقَيْنِ. الطَّرِيقُ الثَّالِثَةُ رِوَايَةُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ نُفِسَتْ وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمِسْوَرُ حَمَلَهُ أَوْ أَرْسَلَهُ عَنْ سُبَيْعَةَ أَوْ حَضَرَ الْقِصَّةَ، فَإِنَّهُ حَفِظَ خُطْبَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شَأْنِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ وَكَانَتْ قَبْلَ قِصَّةِ سُبَيْعَةَ، فَلَعَلَّهُ حَضَرَ قِصَّةَ سُبَيْعَةَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى (إنَّ امْرَأَةً مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهَا سُبَيْعَةُ) هِيَ بِمُهْمَلَةِ وَمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ تَصْغِيرُ سَبْعٍ، وَوَقَعَ فِي الْمَغَازِي سُبَيْعَةُ
بِنْتُ الْحَارِثِ وَذَكَرَهَا ابْنُ سَعْدٍ فِي الْمُهَاجِرَاتِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ إِسْحَاقَ عِنْدَ أَحْمَدَ سُبَيْعَةُ بِنْتُ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَهُوَ أَبُو بَرْزَةَ آخَرُ غَيْرُ الصَّحَابِيِّ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ إِمَّا كُنْيَةٌ لِلْحَارِثِ وَالِدِ سُبَيْعَةَ أَوْ نُسِبَتْ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ إِلَى جَدٍّ لَهَا.
قَوْلُهُ: (كَانَتْ تَحْتَ زَوْجِهَا) تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ أَيْضًا تَسْمِيَتُهُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ وَفِيهِ أَنَّهُ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَثَبَتَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ حُلَفَائِهِمْ.
قَوْلُهُ: (تُوُفِّيَ عَنْهَا) تَقَدَّمَ هُنَاكَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الِاتِّفَاقَ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ فَقَدْ ذَكَرَ: مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ، وَقَدْ ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ قُتِلَ، وَمُعْظَمُ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَوَقَعَ لِلْكِرْمَانِيِّ: لَعَلَّ سُبَيْعَةَ قَالَتْ: قُتِلَ، بِنَاءً عَلَى ظَنٍّ مِنْهَا فِي ذَلِكَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ، وَهَذَا الْجَمْعُ يَمُجُّهُ السَّمْعُ، وَإِذَا ظَنَّتْ سُبَيْعَةُ أَنَّهُ قُتِلَ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهَا أَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ فَكَيْفَ تَجْزِمُ بَعْدَ دَهْرٍ طَوِيلٍ بِأَنَّهُ قُتِلَ؟ فَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا قُتِلَ إِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً تَرَجَّحَتْ لِأَنَّهَا لَا تُنَافِي مَاتَ أَوْ تُوُفِّيَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قُتِلَ فَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ.
قَوْلُهُ: (فَخَطَبَهَا أَبُو السَّنَابِلِ) بِمُهْمَلَةٍ وَنُونٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ جَمْعُ سُنْبُلَةٍ، اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَقِيلَ: عَمْرٌو قَالَهُ ابْنُ الْبَرْقِيِّ، عَنِ ابْنِ هِشَامٍ عَمَّنْ يَثِقُ بِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقِيلَ: عَامِرٌ رُوِيَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَقِيلَ: حَبَّةُ بِمُوَحَّدَةٍ بَعْدَ الْمُهْمَلَةِ، وَقِيلَ: بِنُونٍ، وَقِيلَ: لَبَيْدَرَيْهِ، وَقِيلَ: أَصْرَمُ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ، وَقِيلَ: بَغِيضٌ.
قُلْتُ: وَهُوَ غَلَطٌ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ سُئِلَ عَنِ اسْمِهِ فَقَالَ: بَغِيضٌ يَسْأَلُ عَنْ بَغِيضٍ، فَظَنَّ الشَّارِحُ أَنَّهُ اسْمُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ فِي بَقِيَّةِ الْخَبَرِ اسْمُهُ لَبَيْدَرَيْهِ، وَجَزَمَ الْعَسْكَرِيُّ بِأَنَّ اسْمَهُ كُنْيَتُهُ، وَبَعْكَكُ بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ كَافَيْنِ بِوَزْنِ جَعْفَرٍ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمِيلَةَ بْنِ السَّبَّاقِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، وَكَذَا نَسَبَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَقِيلَ: هُوَ ابْنُ بَعْكَكَ بْنِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ السَّبَّاقِ نَقَلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ، ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ: وَكَانَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ وَسَكَنَ الْكُوفَةَ، وَكَانَ شَاعِرًا، وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَعْلَمُ أَنَّ أَبَا السَّنَابِلِ عَاشَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَذَا قَالَ، لَكِنْ جَزَمَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّهُ بَقِيَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَمَنًا، وَقَالَ ابْنُ مَنْدَهْ فِي الصَّحَابَةِ عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَذَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ أَنَّهُ سَكَنَ الْكُوفَةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ خَلِيفَةَ قَالَ: أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى مَاتَ، وَتَبِعَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهُ عَاشَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَوْلُ ابْنُ الْبَرْقِيِّ: أَنَّ أَبَا السَّنَابِلِ تَزَوَّجَ سُبَيْعَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَوْلَدَهَا سَنَابِلَ، بْنَ أَبِي السَّنَابِلِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَبُو السَّنَابِلِ عَاشَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهَا تَزَوَّجَتِ الشَّابَّ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ فَتًى مِنْ قَوْمِهَا، وَتَقَدَّمَ أَنَّ قِصَّتَهَا كَانَتْ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَيَحْتَاجُ -
إِنْ كَانَ الشَّابُّ دَخَلَ عَلَيْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا - إِلَى زَمَانِ عِدَّةٍ مِنْهُ ثُمَّ إِلَى زَمَانِ الْحَمْلِ حَتَّى تَضَعَ وَتَلِدَ سَنَابِلَ حَتَّى صَارَ أَبُوهُ يُكَنَّى بِهِ أَبَا السَّنَابِلِ، وَقَدْ أَفَادَ مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ بَشْكُوَالَ وَغَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّ اسْمَ الشَّابِّ - الَّذِي خَطَبَ سُبَيْعَةَ هُوَ وَأَبُو السَّنَابِلِ فَآثَرَتْهُ عَلَى أَبِي السَّنَابِلِ - أَبُو الْبَشَرِ بْنُ الْحَارِثِ، وَضَبْطُهُ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ قِصَّةَ سُبَيْعَةَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَسْوَدِ عِنْدَ أَبِي السَّنَابِلِ بِسَنَدٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ إِلَى الْأَسْوَدِ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَمْ يُوصَفْ بِالتَّدْلِيسِ، فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، لَكِنَّ الْبُخَارِيَّ عَلَى قَاعِدَتِهِ فِي اشْتِرَاطِ ثُبُوتِ اللِّقَاءِ وَلَوْ مَرَّةً فَلِهَذَا قَالَ مَا نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ.
قَوْلُهُ: (فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَهُ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُوَطَّأِ فَخَطَبَهَا رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا شَابٌّ وَكَهْلٌ، فَحَطَّتْ إِلَى الشَّابِّ، فَقَالَ الْكَهْلُ لَمْ تَحِلِّي، وَكَانَ أَهْلُهَا غُيَّبًا فَرَجَا أَنْ يُؤْثِرُوهُ بِهَا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ وَاللَّهِ مَا يَصْلُحُ أَنْ تَنْكِحِيهِ
حَتَّى تَعْتَدِّي آخِرَ الْأَجَلَيْنِ، فَمَكَثَتْ قَرِيبًا مِنْ عَشْرِ لَيَالٍ ثُمَّ جَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ انْكِحِي) قَالَ عِيَاضٌ: هَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا يَصْلُحُ إِلَّا لِابْنِ السَّكَنِ فَعِنْدَهُ فَقَالَ مَكَانُ فَقَالَتْ وَهُوَ الصَّوَابُ. قُلْتُ: وَكَذَا فِي الْأَصْلِ الَّذِي عِنْدَنَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ مَشَايِخِهِ، بَلْ قَالَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ فَقَالَ إِلَّا عِنْدَ الْقَابِسِيِّ فَقَالَتْ بِزِيَادَةِ التَّاءِ، وَهَذَا أَقْرَبُ مِمَّا قَالَ عِيَاضٌ. ثُمَّ قَالَ عِيَاضٌ: وَالْحَدِيثُ مَبْتُورٌ نَقَصَ مِنْهُ قَوْلُهَا فَنُفِسَتْ بَعْدَ لَيَالٍ فَخُطِبَتْ إِلَخْ. قُلْتُ: قَدْ ثَبَتَ الْمَحْذُوفُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مِلْحَانَ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ وَلَفْظُهُ فَمَكَثَتْ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةٍ ثُمَّ نُفِسَتْ وَقَدْ وَقَعَ لِلْبُخَارَيَّ اخْتِصَارُ الْمَتْنِ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ بِأَبْلَغَ مِنْ هَذَا، فَإِنَّهُ اقْتَصَرَ مِنْهُ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ كَتَبَ إِلَى ابْنِ أَرْقَمَ أَنْ يَسْأَلَ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ كَيْفَ أَفْتَاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: أَفْتَانِي إِذَا حَلَلْتُ أَنْ أَنْكِحَ فَأَبْهَمَ اسْمَ ابْنِ أَرْقَمَ وَنَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ كَمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ وَطَوَى ذِكْرَ أَكْثَرِ الْقِصَّةِ وَتَقْدِيرُهُ: فَأَتَاهَا فَسَأَلَهَا، فَأَخْبَرْتُهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْجَوَابُ: إِنِّي سَأَلْتُهَا فَذَكَرْتُ الْقِصَّةَ، وَفِي آخِرِهَا فَقَالَتْ إِلَخْ.
وَقَدْ وَقَعَ بَيَانُهُ وَاضِحًا فِي تَفْسِيرِ الطَّلَاقِ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَفِيهِ فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَرْقَمِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ يُخْبِرُهُ أَنَّ سُبَيْعَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهِيَ حَامِلٌ، فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكِ تَجَمَّلْتِ لِلْخُطَّابِ تَرْجِينَ النِّكَاحَ؟ فَإِنَّكِ وَاللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى يَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَنِي بِالتَّزْوِيجِ إِنْ بَدَا لِي. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ فَمَكَثَتْ قَرِيبًا مِنْ عَشْرِ لَيَالٍ ثُمَّ جَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ يُخَالِفُ فِي الظَّاهِرِ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ الْمَذْكُورَةِ فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ جَمَعْتُ عَلِيَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهَا تَوَجَّهَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَسَاءِ الْيَوْمِ الَّذِي قَالَ لَهَا فِيهِ أَبُو السَّنَابِلِ مَا قَالَ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهَا: حِينَ أَمْسَيْتُ، عَلَى إِرَادَةِ وَقْتِ تَوَجُّهِهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي قَالَ لَهَا فِيهِ مَا قَالَ.
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ: (إنَّ سُبَيْعَةَ نُفِسَتْ) بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ وَلَدَتْ.
قَوْلُهُ: (بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ) كَذَا أَبْهَمَ الْمُدَّةَ، وَكَذَا في رواية سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِثْلُهُ وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التيمي، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ سُبَيْعَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ فَلَمْ أَمْكُثْ إِلَّا شَهْرَيْنِ حَتَّى وَضَعْتُ وَفِي رِوَايَةِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ فَوَلَدْتُ لِأَدْنَى مِنْ أربعة أشهر وَهَذَا أَيْضًا مُبْهَمٌ، وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْمَاضِيَةِ فِي تَفْسِيرِ الطَّلَاقِ فَوَضَعْتُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةٍ كَذَا فِي رِوَايَةِ شَيَّبَانَ عَنْهُ، وفي رِوَايَةِ حَجَّاجٍ الصَّوَّافِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِعِشْرِينَ لَيْلَةً وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنْ يَحْيَى بعشرين ليلة أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ وَوَقَعَتْ فِي رِوَايَةِ الْأَسْوَدِ فَوَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَوْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا كَذَا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ بِبِضْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَأَنَّ الرَّاوِيَ أَلْغَى الشَّكَّ وَأَتَى بِلَفْظٍ يَشْمَلُ الْأَمْرَيْنِ.
وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ بنصف شَهْرٍ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ بِلَفْظِ خَمْسَةَ عَشَرَ، نِصْفِ شَهْرٍ وَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، والْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ متعذر لاتحاد الْقِصَّةِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِبْهَامِ مَنْ أَبْهَمَ الْمُدَّةَ، إِذْ مَحَلُّ الْخِلَافِ أَنَّ تَضَعَ لِدُونِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
وعشر، وَهُوَ هُنَا كَذَلِكَ، فَأَقَلُّ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ نِصْفُ شَهْرٍ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ فِي الْبُخَارِيِّ رِوَايَةَ عَشْرِ لَيَالٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ ثَمَانٍ أَوْ سَبْعٍ فَهُوَ فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهَا بَعْدَ الْوَضْعِ إِلَى أَنِ اسْتَفْتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا فِي مُدَّةِ بَقِيَّةِ الْحَمْلِ، وَأَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهِ بِالتَّصْرِيحِ شَهْرَيْنِ وَبِغَيْرِهِ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَقَدْ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفَتْوَى فِي الْأَمْصَارِ: إِنَّ الْحَامِلَ إِذَا مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا تَحِلُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَتَنْقَضِي عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ عَلَيٌّ فَقَالَ: تَعْتَدُّ آخِرَ الْأَجَلَيْنِ، ومعناه أنها إن وَضَعَتْ قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ تَرَبَّصَتْ إِلَى انْقِضَائِهَا وَلَا تَحِلُّ بِمُجَرَّدِ الْوَضْعِ، وَإِنِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ قَبْلَ الْوَضْعِ تَرَبَّصَتْ إِلَى الْوَضْعِ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مِنْصورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حَمِيدِ بْنِ عَلِيٍّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَمًّا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ، وَيُقَوِّيهِ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ أَتْبَاعِهِ وِفَاقُ الْجَمَاعَةِ فِي ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الطَّلَاقِ أَنْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى أَنْكَرَ عَلَى ابْنِ سَيْرَيْنِ الْقَوْلَ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالْوَضْعِ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ابْنُ
مَسْعُودٍ قَالَ بِذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ أَنَّهُ كَانَ يُوَافِقُ الْجَمَاعَةَ حَتَّى كَانَ يَقُولُ: مِنْ شَاءَ لَاعَنْتُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَظْهَرُ مِنْ مَجْمُوعِ الطُّرُقِ فِي قِصَّةِ سبيعة أَنَّ أَبَا السَّنَابِلِ رَجَعَ عَنْ فَتْوَاهُ أَوَّلًا أَنَّهَا لَا تَحِلُّ حَتَّى تَمْضِيَ مُدَّةُ عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِأَنَّهُ قَدْ رَوَى قِصَّةَ سُبَيْعَةَ وَرَدَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا أَفْتَاهَا أَبُو السَّنَابِلِ بِهِ مِنْ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ حَتَّى يَمْضِيَ لَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَلَمْ يَرِدْ عَنْ أَبِي السَّنَابِلِ تَصْرِيحٌ فِي حُكْمِهَا لَوِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ قَبْلَ الْوَضْعِ هَلْ كَانَ يَقُولُ بِظَاهِرِ إِطْلَاقِهِ مِنِ انْقِضَاءِ الْعُدَّةِ أَوْ لَا؟ لَكِنْ نَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَنْقَضِي فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ حَتَّى تَضَعَ، وَقَدْ وَافَقَ سَحْنُونُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَلِيًّا نَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَهُوَ شُذُوذٌ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ إِحْدَاثُ خِلَافٍ بَعْدِ اسْتِقْرَارِ الْإِجْمَاعِ، وَالسَّبَبُ الْحَامِلُ لَهُ الْحِرْصُ عَلَى الْعَمَلِ بِالْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَعَارَضَ عُمومُهُمَا، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} عَامُّ فِي كُلِّ مِنْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا، يَشْمَلُ الْحَامِلَ وَغيْرَهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} عَامٌّ أَيْضًا يَشْمَلُ الْمُطْلَقَةَ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا، فَجَمَعَ أُولَئِكَ بَيْنَ الْعُمُومَيْنِ بِقَصْرِ الثَّانِيَةِ عَلَى المُطْلَقَةِ بِقَرِينَةِ ذِكْرِ عَدَدِ الْمُطَلَّقَاتِ، كَالْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ لَمَّ يُهْمِلُوا مَا تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْعُمُومِ، لَكِنْ قَصَرُوهُ عَلَى مِنْ مَضَتْ عَلَيْهَا الْمُدَّةُ وَلَمْ تَضَعْ، فَكَانَ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْعُمُومِ أَوْلَى وَأَقْرَبَ إِلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْآيَتَيْنِ مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا فِي حَقِّ بَعْضِ مَنْ شَمِلَهُ الْعُمُومُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا نَظَرٌ حَسَنٌ، فَإِنَّ الْجَمْعَ أُولَى مِن التَّرْجِيحِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأُصُولِ، لَكِنَّ حَدِيثَ سُبَيْعَةَ نَصَّ بِأَنَّهَا تَحِلُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَكَانَ فِيهِ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} أَنَّهُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ تَضَعْ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِقَوْلِهِ: إِنَّ آيَةَ الطَّلَاقِ نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ الْبَقَرَةِ وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ أَنَّهُ يَرَى نَسْخَ الْأُولَىْ بالَأَخِيرَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادَهُ، وَإِنَّمَا يَعنِي أَنَّهَا مُخَصَّصَةٌ لَهَا فَإِنَّهَا أَخْرَجَتْ مِنْهَا بَعْضَ مُتَنَاوَلَاتِهَا.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَوْلَا حَدِيثُ سُبَيْعَةَ لَكَانَ الْقَوْلُ مَا قَالَ عَلَيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُمَا عَدَّتَانِ مُجْتَمِعَتَانِ بِصِفَتَيْنِ وَقَدِ اجْتَمَعَتَا فِي الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَلَا تَخْرُجُ مِنْ عِدَّتِهَا إِلَّا بِيَقِينٍ وَالْيَقِينُ آخِرُ الْأَجَلَيْنِ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَوْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً فَمَاتَ زَوْجُهَا وَمَاتَ سَيِّدُهَا مَعًا أَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَأتِيَ بِالْعُدَّةِ وَالِاسْتِبْرَاءِ بِأَنْ تَتَرَبَّصَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فِيهَا حَيْضَةٌ أَوْ بَعْدَهَا، وَيَتَرَجَّحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَيْضًا بِأَنَّ الْآيَتَيْنِ وَإِنْ كَانَتَا عَامَّتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ خَاصَّتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ الِاحْتِيَاطَ أَنْ لَا تَنْقَضِيَ الْعُدَّةُ إِلَّا بِآخِرِ الْأَجَلَيْنِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْعُدَّةِ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ - وَلَا سِيَّمَا فِيمَنْ تَحِيضُ - يَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ بِالْوَضْعِ، وَوَافَقَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ سُبَيْعَةَ، وَيُقَوِّيهِ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ
فِي تَأَخُّرِ نُزُولِ آيَةِ الطَّلَاقِ عَنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ.
وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: فَأَفْتَاني بِأَنِّي حَلَلْتُ حِينَ وَضَعَتْ حَمْلِي بِأَنَّهُ يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا إِذَا وَضَعَتْ وَلَوْ لَمْ تَطْهُرْ مِنْ دَمِ النِّفَاسِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ ابْنُ شِهَابٍ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِقَوْلِهِ: وَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ تَتَزَوَّجَ حِينَ وَضَعَتْ، وَإِنْ كَانَتْ فِي دَمِهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَطْهُرَ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: لَا تَنْكِحُ حَتَّى تَطْهُرَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَحَدِيثُ سُبَيْعَةَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: فلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا لِأَنَّ لَفْظَ تَعَلَّتْ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: طَهُرَتْ، جَازَ أَنْ يَكُونَ اسْتَعْلَتْ مِنْ أَلَمِ النِّفَاسِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ الْأَوَّلِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا حِكَايَةُ وَاقِعَةِ سُبَيْعَةَ، وَالْحَجَّةُ إِنَّمَا هُوَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهَا حَلَّتْ حِينَ وَضَعَتْ كَمَا فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ.
وَفِي رِوَايَةِ عُمَرَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: حَلَلْتِ حِينَ وَضَعْتِ حَمْلَكِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ امْرَأَتَهُ أُمَّ الطَّفِيلِ قَالَتْ لِعُمَرَ: قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُبَيْعَةَ أَنْ تَنْكِحَ إِذَا وَضَعَتْ وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فَعَلَّقَ الْحِلَّ بِحِينِ الْوَضْعِ وَقَصَرَهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ إِذَا طَهُرْتِ، وَلَا إِذَا انْقَطَعَ دَمُكِ، فَصَحَّ مَا قَالَ الْجُمْهُوُر. وَفِي قِصَّةِ سُبَيْعَةَ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُفْتُونَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ الْمُفْتِيَ إِذَا كَانَ لَهُ مَيْلٌ إِلَى الشَّيْءِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِيهِ لِئَلَّا يَحْمِلَهُ الْمَيْلُ إِلَيْهِ عَلَى تَرْجِيحِ مَا هُوَ مَرْجُوحٌ، كَمَا وَقَعَ لِأَبِي السَّنَابِلِ حَيْثُ أَفْتَى سُبَيْعَةَ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ بِالْوَضْعِ؛ لِكَوْنِهِ كَانَ خَطَبَهَا فَمَنَعَتْهُ وَرَجَا أَنَّهَا إِذَا قَبِلَتْ ذَلِكَ مِنْهُ وَانْتَظَرَتْ مُضِيَّ الْمُدَّةِ حَضَرَ أَهْلُهَا فَرَغَّبُوهَا فِي زَوَاجِهِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَفِيهِ مَا كَانَ فِي سُبَيْعَةَ مِنَ الشَّهَامَةِ وَالْفِطْنَةِ حَيْثُ تَرَدَّدَتْ فِيمَا أَفْتَاهَا بِهِ حَتَّى حَمَلَهَا ذَلِكَ عَلَى اسْتِيضَاحِ الْحَكَمِ مِنَ الشَّارِعِ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لَمِنَ ارْتَابَ فِي فَتْوَى الْمُفْتِي أَوْ حُكْمِ الْحَاكِمِ فِي مَوَاضِعِ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَبْحَثَ عَنِ النَّصِّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، وَلَعَلَّ مَا وَقَعَ مِنْ أَبِي السَّنَابِلِ مِنْ ذَلِكَ هُوَ السِّرُّ فِي إِطْلَاقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَذَبَ فِي الْفَتْوَى الْمَذْكُورَةِ، كَمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى أَنْ الْخَطَأَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ، وَهُوَ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْحِجَازِ كَثِيرٌ، وَحَمَلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَقَالَ: إِنَّمَا كَذَّبَهُ لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالْقِصَّةِ وَأَفْتَى بِخِلَافِهِ، حَكَاهُ ابْنُ دَاوُدَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي شَرْحِ الْمُخْتَص وَهُوَ بَعِيدٌ، وَفِيهِ الرُّجُوعُ فِي الْوَقَائِعِ إِلَى الْأَعْلَمِ، وَمُبَاشَرَةُ الْمَرْأَةِ السُّؤَالَ عَمَّا يَنْزِلُ بِهَا، وَلَوْ كَانَ مِمَّا يَسْتَحِي النِّسَاءُ مِنْ مَثَلِهِ، لَكِنَّ خُرُوجَهَا مِنْ مَنْزِلِهَا ليلًا يَكُونُ أَسْتَرَ لَهَا كَمَا فَعَلَتْ سُبَيْعَةُ.
وَفِيهِ أَنْ الْحَامِلَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْوَضْعِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ مِنْ مُضْغَةٍ أَوْ مِنْ عَلَقَةٍ، سَوَاءٌ اسْتَبَانَ خُلُقُ الْآدَمِيِّ أَمْ لا؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَتَّبَ الْحِلِّ عَلَى الْوَضْعِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَتَوَقَّفَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْغَالِبَ فِي إِطْلَاقِ وَضْعِ الْحَامِلِ هُوَ الْحَمْلُ التَّامُّ الْمُتَخَلِّقُ، وَأَمَّا خُرُوجُ الْمُضْغَةِ أَوِ الْعَلَقَةِ فَهُوَ نَادِرٌ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْغَالِبِ أَقْوَى، وَلِهَذَا نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ بِأَنَّ الْعُدَّةَ لَا تَنْقَضِي بِوَضْعِ قِطْعَةِ لَحْمٍ لَيْسَ فِيهَا صُورَةٌ بَيِّنَةٌ وَلَا خَفِيَّةٌ، وَأُجِيبُ عَنِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي انْقِضَاءِ الْعُدَّةِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِخُرُوجِ الْمُضْغَةِ أَوِ الْعَلَقَةِ، بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْوِلَادَةُ، وَمَا لَا يُصَدِّقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَصْلٌ آدَمِيٌّ لَا يُقَالُ فِيهِ وَلَدَتْ.
وفِيهِ جَوَازُ تَجَمُّلِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لِمَنْ يَخْطُبُهَا؛ لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ التي فِي الْمُغَازِي: فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكِ تَجَمَّلْتِ لِلْخُطَّابِ؟ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَتَهَيَّأَتْ لِلنِّكَاحِ وَاخْتَضَبَتْ وَفِي رِوَايَةِ مُعَمِّرٍ، عَنِ الزُّهْرِي عِنْدَ أَحْمَدَ: فَلَقِيَهَا أَبُو السَّنَابِلِ وَقَدِ اكْتَحَلَتْ وفي رواية الْأَسْوَدَ فَتَطَيَّبَتْ وَتَصَنَّعَتْ وَذَكَرَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ سبيعَةَ أَنَّ زَوْجَهَا مَاتَ وَهِيَ حَامِلَةٌ، وَفِي مُعْظَمِهَا حَامِلٌ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ؛ لِأَنَّ الْحَمَلَ مِنْ صِفَاتِ النِّسَاءِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ أُرِيدَ بِأَنَّهَا ذَاتُ حَمْلٍ بِالْفِعْلِ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَذْهَلُ كُلُّ
مُرْضِعَةٍ} فَلَوْ أُرِيدَ أَنَّ الْإِرْضَاعَ مِنْ شَأْنِهَا لَقِيلَ: كُلُّ مُرْضِعٍ. اهـ. وَالَّذِي وَقَفَنَا عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ: وَهِيَ حَامِلٌ وَفِي كَلَامِ أَبِي السَّنَابِلِ لَسْتِ بِنَاكِحٍ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا التَّزْوِيجُ؛ لِقَوْلِهَا فِي الْخَبَرِ مِنْ طَرِيقِ الزهري: وَأَمَرَنِي بِالتَّزْوِيجِ إِنَّ بَدَا لِي وَهُوَ مُبَيِّنٌ لِلْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: وَأَمَرَهَا بِالتَّزْوِيجِ فِيكُونُ مَعْنَاهُ: وَأُذِنَ لَهَا، وَكَذَا مَا وَقَعَ فِي الطَّرِيقِ الأُولَى مِنَ الْبَابِ: فَقَالَ: انْكِحِي وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَقَدْ حَلَلْتِ فَتُزَوِّجِي وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأُسُودِ، عَنْ أَبِي السَّنابل عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ فِي آخِرِهِ: فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتِ زَوْجًا صَالِحًا فَتُزَوِّجِي وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: إِذَا أَتَاكِ أَحَدٌ تَرْضَيْنَهُ.
وَفِيهِ أَنَّ الثيِّبَ لَا تُزَوَّجُ إِلَّا بِرِضَاهَا مِنْ تَرْضَاهُ وَلَا إِجْبَارَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ.
40 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ فِي الْعِدَّةِ فَحَاضَتْ عِنْدَهُ ثَلَاثَ حِيَضٍ: بَانَتْ مِنْ الْأَوَّلِ، وَلَا تَحْتَسِبُ بِهِ لِمَنْ بَعْدَهُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: تَحْتَسِبُ وَهَذَا أَحَبُّ إِلَى سُفْيَانَ، يَعْنِي قَوْلَ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: يُقَالُ: أَقْرَأَتْ الْمَرْأَةُ إِذَا دَنَا حَيْضُهَا، وَأَقْرَأَتْ إِذَا دَنَا طُهْرُهَا. وَيُقَالُ: مَا قَرَأَتْ بِسَلًى قَطُّ: إِذَا لَمْ تَجْمَعْ وَلَدًا فِي بَطْنِهَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} سَقَطَ لَفْظُ: بَابٍ لِأَبِي ذَرٍّ، وَالْمُرَادُ بِالْمُطَلَّقَاتِ هُنَا ذَوَاتُ الْحَيْضِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ سُورَةِ الطَّلَاقِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ، وَالْمُرَادُ بِالتَّرَبُّصِ الِانْتِظَارُ وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قُرُوءٍ بِالْهَمْزِ، وَعَنْ نَافِعٍ بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ بِغَيْرِ هَمْزٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ) هُوَ النَّخَعِيُّ (فِيمَنْ تَزَوَّجَ فِي الْعِدَّةِ فَحَاضَتْ عِنْدَهُ ثَلَاثَ حِيَضٍ: بَانَتْ مِنَ الْأَوَّلِ، وَلَا تَحْتَسِبُ بِهِ لِمَنْ بَعْدَهُ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: تَحْتَسِبُ، وَهَذَا أُحِبُّ إِلَى سُفْيَانَ) زَادَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ: يَعْنِي قَوْلَ الزُّهْرِيِّ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ فَحَاضَتْ فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ فَحَاضَتْ، قَالَ: بَانَتْ مِنَ الْأَوَّلِ، وَلَا تَحْتَسِبُ الَّذِي بَعْدَهُ وَعَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: تَحْتَسِبُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِمَّنْ قَالَ الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ يَقُولُ هَذَا غَيْرُ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ لَا تَحِلُّ حَتَّى تَدْخُلَ فِي الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَكَذَا الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ وَأَتْبَاعُهُمْ عَلَى أَنَّهَا إِذَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ طَهُرَتْ بِشَرْطِ أَنْ يَقَعَ طَلَاقُهَا فِي الطُّهْرِ، وَأَمَّا لَوْ وَقَعَ فِي الْحَيْضِ لَمْ تَعْتَدَّ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهَا عِدَّتَانِ أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّتَيْنِ، وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ: يَكْفِي لَهَا عِدَّةٌ وَاحِدَةٌ كَقَوْلِ الزُّهْرِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَعْمَرٌ: يُقَالُ: أَقْرَأَتِ الْمَرْأَةُ، إِلَخْ) مَعْمَرٌ هُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْمُثَنَّى، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عَنْهُ فِي أَوَائِلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ النُّورِ، وَقَوْلُهُ: بِسَلًى بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالتَّنْوِينِ بِغَيْرِ هَمْزٍ، السَّلَى: هُوَ غِشَاءُ الْوَلَدِ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَقْرَأَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا صَارَتْ ذَاتَ حَيْضٍ، وَالْقُرْءُ: انْقِضَاءُ الْحَيْضِ، وَيُقَالُ: هُوَ الْحَيْضُ نَفْسُهُ، وَيُقَالُ: هُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ. وَمُرَادُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ الْقُرْءَ يَكُونُ بِمَعْنَى الطُّهْرِ وَبِمَعْنَى الْحَيْضِ وَبِمَعْنَى الضَّمِّ وَالْجَمْعِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ وَقَالَ: لَمَّا احْتَمَلَتِ الْآيَةُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْأَقْرَاءِ فِيهَا تَرَجَّحَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ حَيْثُ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُطَلِّقَ فِي الطُّهْرِ، وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَقْرَاءِ الْأَطْهَارُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
41 - بَاب قِصَّةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ،
وَقَوْلِهِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} ، {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} - إِلَى قَوْلِهِ: - {بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}
5321، 5322 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَهُمَا يَذْكُرَانِ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ طَلَّقَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ، فَانْتَقَلَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِيِنَ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الحَكَمِ - وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ - اتَّقِ اللَّهَ وَارْدُدْهَا إِلَى بَيْتِهَا. قَالَ مَرْوَانُ فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَكَمِ غَلَبَنِي. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَوَمَا بَلَغَكِ شَأْنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ؟ قَالَتْ: لَا يَضُرُّكَ أَنْ لَا تَذْكُرَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ. فَقَالَ مَرْوَانُ بْنُ الحَكَمِ: إِنْ كَانَ بِكِ شَرٌّ فَحَسْبُكِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ مِنْ الشَّرِّ.
[الحديث 5321 - أطرافه في: 5323، 5325، 3527]
[الحديث 5322 - أطرافه في: 5324، 5326، 5328]
5323، 5324 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ مَا لِفَاطِمَةَ أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ يَعْنِي فِي قَوْلِهَا لَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ"
5325، 5326 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ لِعَائِشَةَ أَلَمْ تَرَيْ إِلَى فُلَانَةَ بِنْتِ الْحَكَمِ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا الْبَتَّةَ فَخَرَجَتْ فَقَالَتْ بِئْسَ مَا صَنَعَتْ قَالَ أَلَمْ تَسْمَعِي فِي قَوْلِ فَاطِمَةَ قَالَتْ أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ لَهَا خَيْرٌ فِي ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَزَادَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَابَتْ عَائِشَةُ أَشَدَّ الْعَيْبِ وَقَالَتْ إِنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ فِي مَكَانٍ وَحْشٍ فَخِيفَ عَلَى نَاحِيَتِهَا فَلِذَلِكَ أَرْخَصَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم"
قَوْلُهُ: (قِصَّةُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِبَعْضِهِمْ: بَابٌ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ بَطَّالٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَفَاطِمَةُ هِيَ بِنْتُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ مِنْ بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ، وَهِيَ أُخْتُ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ الَّذِي وَلِيَ الْعِرَاقَ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَقُتِلَ بِمَرْجِ رَاهِطٍ، وَهُوَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَهِيَ أَسَنُّ مِنْهُ وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ، وَكَانَ لَهَا عَقْلٌ وَجَمَالٌ وَتَزَوَّجَهَا أَبُو عَمْرِو بْنُ حَفْصٍ - وَيُقَالُ: أَبُو حَفْصِ بْنُ عَمْرِو - ابْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَخَرَجَ مَعَ عَلِيٍّ لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا بِتَطْلِيقَةٍ ثَالِثَةٍ بَقِيَتْ لَهَا، وَأَمَرَ ابْنَيْ عَمَّيْهِ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَنْ يَدْفَعَا لَهَا تَمْرًا وَشَعِيرًا، فَاسْتَقَلَّتْ ذَلِكَ، وَشَكَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهَا: لَيْسَ لَكِ
سُكْنَى وَلَا نَفَقَةٌ، هَكَذَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ قِصَّتَهَا مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْهَا، وَلَمْ أَرَهَا فِي الْبُخَارِيِّ وَإِنَّمَا تَرْجَمَ لَهَا كَمَا تَرَى، وَأَوْرَدَ أَشْيَاءَ مِنْ قِصَّتِهَا بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهَا، وَوَهِمَ صَاحِبُ الْعُمْدَةِ فَأَوْرَدَ حَدِيثَهَا بِطُولِهِ فِي الْمُتَّفَقِ. وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ فَاطِمَةَ عَلَى كَثْرَتِهَا عَنْهَا أَنَّهَا بَانَتْ بِالطَّلَاقِ، وَوَقَعَ فِي آخِرِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ الْجَسَّاسَةِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: نَكَحْتُ ابْنَ الْمُغِيرَةِ، وَهُوَ مِنْ خِيَارِ شَبَابِ قُرَيْشٍ يَوْمَئِذٍ، فَأُصِيبَ فِي الْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا تَأَيَّمْتُ خَطَبَنِي أَبُو جَهْمٍ الْحَدِيثَ.
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهْمٌ، وَلَكِنْ أَوَّلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أُصِيبَ بِجِرَاحَةٍ، أَوْ أُصِيبَ فِي مَالِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، حَكَاهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهَا: أُصِيبَ أَيْ: مَاتَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَكَانَ فِي بَعْثِ عَلِيٍّ إِلَى الْيَمَنِ، فَيَصْدُقُ أَنَّهُ أُصِيبَ فِي الْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَيْ: فِي طَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ بَيْنُونَتُهَا مِنْهُ بِالْمَوْتِ، بَلْ بِالطَّلَاقِ السَّابِقِ عَلَى الْمَوْتِ، فَقَدْ ذَهَبَ جَمْعٌ جَمٌّ إِلَى أَنَّهُ مَاتَ مَعَ عَلِيٍّ بِالْيَمَنِ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهَا بِطَلَاقِهَا، فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ اسْتَقَامَ هَذَا التَّأْوِيلُ وَارْتَفَعَ الْوَهْمُ، وَلَكِنْ يَبْعُدُ بِذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ بَقِيَ إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهُ عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} الْآيَةَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلنَّسَفِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ:{بُيُوتِهِنَّ} - إِلَى قَوْلِهِ: - {بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} وَسَاقَ الْآيَاتِ كُلَّهَا إِلَى {يُسْرًا} فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ.
قَوْلُهُ: (إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.
قَوْلُهُ: (يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ) أَيِ: ابْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَكَانَ أَبُوهُ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ لِمُعَاوِيَةَ، وَيَحْيَى هُوَ أَخُو عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ الْمَعْرُوفُ بِالْأَشْدَقِ.
قَوْلُهُ: (طَلَّقَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ) هِيَ بِنْتُ أَخِي مَرْوَانَ الَّذِي كَانَ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ أَيْضًا لِمُعَاوِيَةَ حِينَئِذٍ وَوَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاسْمُهَا عَمْرَةُ فِيمَا قِيلَ، وَسَيَأْتِي فِي الْخَبَرِ الثَّالِثِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ.
قَوْلُهُ: قَالَ مَرْوَانُ فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ غَلَبَنِي) وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ إِلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ الَّذِي فَصَلَ بَيْنَ حَدِيثَيْ شَيْخَيْهِ فَسَاقَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَفْظَ سُلَيْمَانَ وَهُوَ ابْنُ يَسَارٍ وَحْدَهُ، وَلَفْظَ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَحْدَهُ، وَقَوْلُ مَرْوَانَ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ غَلَبَنِي، أَيْ: لَمْ يُطِعْنِي فِي رَدِّهَا إِلَى بَيْتِهَا، وَقِيلَ: مُرَادُهُ غَلَبَنِي بِالْحُجَّةِ؛ لِأَنَّهُ احْتَجَّ بِالشَّرِّ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا.
قَوْلُهُ: (قَالَتْ: لَا يَضُرُّكَ أَنْ لَا تَذْكُرَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ) أَيْ: لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِجَوَازِ انْتِقَالِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْ مَنْزِلِهَا بِغَيْرِ سَبَبٍ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ: إِنْ كَانَ بِكِ شَرٌّ) أَيْ: إِنْ كَانَ عِنْدَكِ أَنَّ سَبَبَ خُرُوجِ فَاطِمَةَ مَا وَقَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَقَارِبِ زَوْجِهَا مِنَ الشَّرِّ فَهَذَا السَّبَبُ مَوْجُودٌ وَلِذَلِكَ قَالَ: فَحَسْبُكِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ مِنَ الشَّرِّ، وَهَذَا مَصِيرٌ مِنْ مَرْوَانَ إِلَى الرُّجُوعِ عَنْ رَدِّ خَبَرِ فَاطِمَةَ، فَقَدْ كَانَ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، كَمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ طَلَّقَ بِنْتَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَلْبَتَّةَ وَأُمُّهَا حُزْمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ، فَأَمَرَتْهَا خَالَتُهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ بِالِانْتِقَالِ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ مَرْوَانُ فَأَنْكَرَ، فَذَكَرَتْ أَنَّ خَالَتَهَا أَخْبَرَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْتَاهَا بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ مَرْوَانُ، قَبِيصَةَ بْنَ ذُؤَيْبٍ إِلَى فَاطِمَةَ يَسْأَلُهَا عَنْ ذَلِكَ فَذَكَرَتِ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ دُونَ مَا فِي أَوَّلِهِ، وَزَادَ: فَقَالَ مَرْوَانُ: لَمْ يُسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثُ إِلَّا مِنِ امْرَأَةٍ، فَسَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي وَجَدْنَا عَلَيْهَا النَّاسَ وَسَيَأْتِي لَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، فَكَأَنَّ مَرْوَانَ أَنْكَرَ الْخُرُوجَ مُطْلَقًا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْجَوَازِ بِشَرْطِ وُجُودِ عَارِضٍ يَقْتَضِي جَوَازَ خُرُوجِهَا مِنْ مَنْزِلِ الطَّلَاقِ، كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) كَذَا فِي الرِّوَايَاتِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا مِنْ طَرِيقِ الْفَرَبْرِيِّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ بُنْدَارٍ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَقَالَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدٍ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، كَذَا
نَسَبَهُ أَبُو مَسْعُودٍ. قُلْتُ: وَلَمْ أَرَهُ غَيْرَ مَنْسُوبٍ إِلَّا فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَكَأَنَّهُ وَقَعَ كَذَلِكَ فِي أَطْرَافِ خَلَفٍ وَمِنْهَا نَقْلُ الْمِزِّيِّ، وَلَمْ أُنَبِّهْ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فِي الْمُقَدِّمَةِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا اتَّصَلَ لَنَا مِنَ الرِّوَايَاتِ إِلَى الْفَرَبْرِيِّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا لِفَاطِمَةَ؟ أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ؟ يَعْنِي فِي قَوْلِهَا: لَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: مَا لِفَاطِمَةَ؟ خَيْرٌ أَنْ تَذْكُرَ هَذَا كَأَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى أَنَّ سَبَبَ الْإِذْنِ فِي انْتِقَالِ فَاطِمَةَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْخَبَرِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَقُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: إِنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ طَلُقَتْ، فَخَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا، فَقَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ لَسُنَّةً وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ.
قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عُرْوَةُ) أَيِ: ابْنُ الزُّبَيْرِ (لِعَائِشَةَ: أَلَمْ تَرَيْ إِلَى فُلَانَةَ بِنْتِ الْحَكَمِ) نَسَبَهَا إِلَى جَدِّهَا، وَهِيَ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ كَمَا فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى.
قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ: بِئْسَ مَا صَنَعَتْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مَا صَنَعَ أَيْ: زَوْجُهَا فِي تَمْكِينِهَا مِنْ ذَلِكَ، أَوْ: أَبُوهَا فِي مُوَافَقَتِهَا، وَلِهَذَا أَرْسَلَتْ عَائِشَةَ إِلَى مَرْوَانَ عَمِّهَا وَهُوَ الْأَمِيرُ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى مَنْزِلِ الطَّلَاقِ.
قَوْلُهُ: (أَلَمْ تَسْمَعِي قَوْلَ فَاطِمَةَ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ قَالَ هُوَ عُرْوَةُ.
قَوْلُهُ: (قَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ لَهَا خَيْرٌ فِي ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: تَزَوَّجَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ فَطَلَّقَهَا وَأَخْرَجَهَا، فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ فَأَخْبَرْتُهَا، فَقَالَتْ: مَا لِفَاطِمَةَ خَيْرٌ فِي أَنْ تَذْكُرَ هَذَا الْحَدِيثَ كَأَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّ الشَّخْصَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا عَلَيْهِ فِيهِ غَضَاضَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَزَادَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ: عَابَتْ عَائِشَةُ أَشَدَّ الْعَيْبِ، وَقَالَتْ: إِنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ فِي مَكَانٍ وَحْشٍ، فَخِيفَ عَلَى نَاحِيَتِهَا، فَلِذَلِكَ أَرْخَصَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ بِلَفْظِ: لَقَدْ عَابَتْ وَزَادَ: يَعْنِي فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ وَقَوْلُهُ: وَحْشٌ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، أَيْ: خَالٍ لَا أَنِيسَ بِهِ، وَلِرِوَايَةِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ هَذِهِ شَاهِدٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، لَكِنْ قَالَ: عَنْ أَبِيهِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلَاثًا، فَأَخَافُ أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيَّ، فَأَمَرَهَا فَتَحَوَّلَتْ وَقَدْ أَخَذَ الْبُخَارِيُّ التَّرْجَمَةَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ فَاطِمَةَ، فَرَتَّبَ الْجَوَازَ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا خَشْيَةَ الِاقْتِحَامِ عَلَيْهَا، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ مِنْهَا عَلَى أَهْلِ مُطَلِّقِهَا فُحْشٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَلَمْ يَرَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي قِصَّةِ فَاطِمَةَ مُعَارَضَةً لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهِمَا مَعًا فِي شَأْنِهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّرْجَمَةِ عِلَّتَيْنِ وَذَكَرَ فِي الْبَابِ وَاحِدَةً فَقَطْ، وَكَأَنَّهُ أَوْمَأَ إِلَى الْأُخْرَى، إِمَّا لِوُرُودِهَا عَلَى غَيْرِ شَرْطِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْخَوْفَ عَلَيْهَا إِذَا اقْتَضَى خُرُوجَهَا، فَمِثْلُهُ الْخَوْفُ مِنْهَا، بَلْ لَعَلَّهُ أَوْلَى فِي جَوَازِ إِخْرَاجِهَا، فَلَمَّا صَحَّ عِنْدَهُ مَعْنَى الْعِلَّةِ الْأُخْرَى ضَمَّنَهَا التَّرْجَمَةَ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الِاقْتِصَارَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ عَلَى بَعْضِهِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ بَعْضٍ آخَرَ إِذَا صَحَّ طَرِيقُهُ، فَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ شَكْوَاهَا مَا تَقَدَّمَ مِنِ اسْتِقْلَالِ النَّفَقَةِ، وَأَنَّهُ اتَّفَقَ أَنَّهُ بَدَا مِنْهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ شَرٌّ لِأَصْهَارِهَا وَاطَّلَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِهِمْ وَخَشِيَ عَلَيْهَا إِنِ اسْتَمَرَّتْ هُنَاكَ أَنْ يَتْرُكُوهَا بِغَيْرِ أَنِيسٍ فَأُمِرَتْ بِالِانْتِقَالِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِالثَّانِي إِلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِ مَرْوَانَ، لِعَائِشَةَ: إِنْ كَانَ بِكِ شَرٌّ فَإِنَّهُ يُومِئُ إِلَى أَنَّ السَّبَبَ فِي تَرْكِ أَمْرِهَا بِمُلَازَمَةِ السَّكَنِ مَا وَقَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَقَارِبِ زَوْجِهَا مِنَ الشَّرِّ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: سِيَاقُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ سَبَبَ الْحُكْمِ أَنَّهَا اخْتَلَفَتْ مَعَ الْوَكِيلِ بِسَبَبِ اسْتِقْلَالِهَا مَا أَعْطَاهَا، وَأَنَّهَا لَمَّا قَالَ لَهَا الْوَكِيلُ: لَا نَفَقَةَ لَكِ، سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَجَابَهَا بِأَنَّهَا لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى، فَاقْتَضَى أَنَّ التَّعْلِيلَ إِنَّمَا هُوَ
بِسَبَبِ مَا جَرَى مِنَ الِاخْتِلَافِ لَا بِسَبَبِ الِاقْتِحَامِ وَالْبَذَاءَةِ، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْ هَذَا الظَّاهِرِ عُمِلَ بِهِ.
قُلْتُ: الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ كَانَ فِي النَّفَقَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ: فَفِي بَعْضِهَا: فَقَالَ: لَا نَفَقَةَ لَكِ وَلَا سُكْنَى وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهَا: لَا نَفَقَةَ لَكِ اسْتَأْذَنَتْهُ فِي الِانْتِقَالِ فَأَذِنَ لَهَا، وَكُلُّهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، فَإِذَا جَمَعَتْ أَلْفَاظَ الْحَدِيثِ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ خَرَجَ مِنْهَا أَنَّ سَبَبَ اسْتِئْذَانِهَا فِي الِانْتِقَالِ مَا ذَكَرَ مِنَ الْخَوْفِ عَلَيْهَا وَمِنْهَا، وَاسْتَقَامَ الِاسْتِدْلَالُ حِينَئِذٍ عَلَى أَنَّ السُّكْنَى لَمْ تَسْقُطْ لِذَاتِهَا، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ لِلسَّبَبِ الْمَذْكُورِ. نَعَمْ كَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ تَجْزِمُ بِإِسْقَاطِ سُكْنَى الْبَائِنِ وَنَفَقَتِهَا، وَتَسْتَدِلُّ لِذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ، وَلِهَذَا كَانَتْ عَائِشَةُ تُنْكِرُ عَلَيْهَا.
تَنْبِيهٌ:
طَعَنَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ الْمُعَلَّقَةِ فَقَالَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَحَكَمَ عَلَى رِوَايَتِهِ هَذِهِ بِالْبُطْلَانِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمَنْ طَعَنَ فِيهِ لَمْ يَذْكُرْ مَا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِهِ فَضْلًا عَنْ بُطْلَانِ رِوَايَتِهِ، وَقَدْ جَزَمَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ بِأَنَّهُ أَثْبَتُ النَّاسِ فِي هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَهَذَا مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ هِشَامٍ، فَلِلَّهِ دَرُّ الْبُخَارِيِّ مَا أَكْثَرَ اسْتِحْضَارَهُ وَأَحْسَنَ تَصَرُّفَهُ فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي نَفَقَةِ الْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنِ وَسُكْنَاهَا: فَقَالَ الْجُمْهُورُ لَا نَفَقَةَ لَهَا. وَلَهَا السُّكْنَى، وَاحْتَجُّوا لِإِثْبَاتِ السُّكْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وَلِإِسْقَاطِ النَّفَقَةِ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّ غَيْرَ الْحَامِلِ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ مَعْنًى، وَالسِّيَاقُ يُفْهِمُ أَنَّهَا فِي غَيْرِ الرَّجْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الرَّجْعِيَّةِ وَاجِبَةٌ لَوْ لَمْ تَكُنْ حَامِلًا.
وَذَهَبَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، وَنَازَعُوا فِي تَنَاوُلِ الْآيَةِ الْأُولَى الْمُطَلَّقَةَ الْبَائِنَ، وَقَدِ احْتَجَّتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ صَاحِبَةُ الْقِصَّةِ عَلَى مَرْوَانَ حِينَ بَلَغَهَا إِنْكَارُهُ بِقَوْلِهَا: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} - إِلَى قَوْلِهِ: - {يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} قَالَتْ: هَذَا لِمَنْ كَانَتْ لَهُ مُرَاجَعَةٌ، فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ؟ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ وَلَيْسَتْ حَامِلًا فَعَلَامَ يَحْبِسُونَهَا؟ وَقَدْ وَافَقَ فَاطِمَةَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} الْمُرَاجَعَةُ قَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْهُمْ وَلَمْ يَحْكِ عَنْ أَحَدٍ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُ، وَحَكَى غَيْرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ مَا يَأْتِي مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ نَسْخٍ أَوْ تَخْصِيصٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَلَمْ يَنْحَصِرْ ذَلِكَ فِي الْمُرَاجَعَةِ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ فِي آخِرِ حَدِيثِهَا مَرْفُوعًا: إِنَّمَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ لِمَنْ يَمْلِكُ الرَّجْعَةُ، فَهُوَ مِنْ أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا، وَقَدْ بَيَّنَ الْخَطِيبُ فِي الْمُدْرَجِ أَنَّ مُجَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ تَفَرَّدَ بِرَفْعِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَمَنْ أَدْخَلَهُ فِي رِوَايَةٍ غَيْرِ رِوَايَةِ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فَقَدْ أَدْرَجَهُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقَدْ تَابَعَ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي رَفْعِهِ مُجَالِدًا لَكِنَّهُ أَضْعَفُ مِنْهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهَا: إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ فَعَلَامَ يَحْبِسُونَهَا؟، فَأَجَابَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنْهُ بِأَنَّ السُّكْنَى الَّتِي تَتْبَعُهَا النَّفَقَةُ هُوَ حَالُ الزَّوْجِيَّةِ الَّذِي يُمْكِنُ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعُ وَلَوْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً، وَأَمَّا السُّكْنَى بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ فَهُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، بِدَلِيلِ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ لَوِ اتَّفَقَا عَلَى إِسْقَاطِ الْعِدَّةِ لَمْ تَسْقُطْ بِخِلَافِ الرَّجْعِيَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ. وَقَدْ قَالَ بِمِثْلِ قَوْلِ فَاطِمَةَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَأَتْبَاعُهُمْ. وَذَهَبَ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ، وَأَجَابُوا عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا قَيَّدَ النَّفَقَةَ بِحَالَةِ الْحَمْلِ؛ لِيَدُلَّ عَلَى إِيجَابِهَا فِي غَيْرِ حَالَةِ الْحَمْلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ تَطُولُ غَالِبًا. وَرَدَّهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ بِمَنْعِ الْعِلَّةِ فِي طُولِ مُدَّةِ الْحَمْلِ، بَلْ تَكُونُ مُدَّةُ الْحَمْلِ أَقْصَرَ مِنْ غَيْرِهَا تَارَةً وَأَطْوَلَ أُخْرَى فَلَا أَوْلَوِيَّةَ، وَبِأَنَّ قِيَاسَ الْحَائِلِ عَلَى الْحَامِلِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِسْقَاطَ تَقْيِيدٍ وَرَدَ بِهِ النَّصُّ فِي
الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.
وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ حَدِيثَ فَاطِمَةَ أَنْكَرَهُ السَّلَفُ عَلَيْهَا كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ عَائِشَةَ، وَكَمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ: كُنْتُ مَعَ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ فِي الْمَسْجِدِ، فَحَدَّثَ الشَّعْبِيُّ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً، فَأَخَذَ الْأَسْوَدُ كَفًّا مِنْ حَصَى فَحَصَبَهُ بِهِ وَقَالَ: وَيْلَكَ تُحَدِّثُ بِهَذَا؟ قَالَ عُمَرُ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ، لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ قَالَ: قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ: وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَالْمَحْفُوظُ: لَا نَدْعُ كِتَابَ رَبِّنَا، وَكَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ لَيْسَتْ فِيهَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ، لَكِنْ ذَلِكَ لَا يَرُدُّ رِوَايَةَ النَّفَقَةِ، وَلَعَلَّ عُمَرَ أَرَادَ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ مِنِ اتِّبَاعِ كِتَابِ اللَّهِ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ سُنَّةً مَخْصُوصَةً فِي هَذَا، وَلَقَدْ كَانَ الْحَقُّ يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: لَا نَدْرِي حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ، قَدْ ظَهَرَ مِصْدَاقُهُ فِي أَنَّهَا أَطْلَقَتْ فِي مَوْضِعِ التَّقْيِيدِ، أَوْ عَمَّمَتْ فِي مَوْضِعِ التَّخْصِيصِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي كَلَامِ عُمَرَ مَا يَقْتَضِي إِيجَابَ النَّفَقَةِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ إِسْقَاطَ السُّكْنَى.
وَادَّعَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ عُمَرَ: لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ، وَرَدَّهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ بِأَنَّهُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمُجَازِفِينَ فَلَا تَحِلُّ رِوَايَتُهُ، وَقَدْ أَنْكَرَ أَحْمَدُ ثُبُوتَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ أَصْلًا، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَا وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عُمَرَ لِكَوْنِهِ لَمْ يَلْقَهُ، وَقَدْ بَالَغَ الطَّحَاوِيُّ فِي تَقْرِيرِ مَذْهَبِهِ فَقَالَ: خَالَفَتْ فَاطِمَةُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَوَى خِلَافَ مَا رَوَتْ، فَخَرَجَ الْمَعْنَى الَّذِي أَنْكَرَ عَلَيْهَا عُمَرُ خُرُوجًا صَحِيحًا، وَبَطَلَ حَدِيثُ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِبِ الْعَمَلُ بِهِ أَصْلًا، وَعُمْدَتُهُ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنَ الْمُخَالَفَةِ مَا رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ؛ فَإِنَّهُ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ.
42 - بَاب الْمُطَلَّقَةِ إِذَا خُشِيَ عَلَيْهَا فِي مَسْكَنِ زَوْجِهَا أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيْهَا أَوْ تَبْذُوَ عَلَى أَهْلِهَا بِفَاحِشَةٍ
5327، 5328 - حَدَّثَنِي حِبَّانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُطَلَّقَةِ إِذَا خُشِيَ عَلَيْهَا فِي مَسْكَنِ زَوْجِهَا أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيْهَا أَوْ تَبْذُوَ عَلَى أَهْلِهَا بِفَاحِشَةٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: عَلَى أَهْلِهِ. وَالِاقْتِحَامُ الْهُجُومُ عَلَى الشَّخْصِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَالْبَذَاءُ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُعْجَمَةِ الْقَوْلُ الْفَاحِشُ.
قَوْلُهُ: (حِبَّانُ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَالْمُوَحَّدَةِ هُوَ ابْنُ مُوسَى، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ: (إنَّ عَائِشَةَ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَةَ) كَذَا أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مُخْتَصَرًا، وَأَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ: أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَسْتَفْتِيهِ فِي خُرُوجِهَا مِنْ بَيْتِهَا، فَأَمَرَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ إِلَى ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، فَأَبَى مَرْوَانُ أَنْ يُصَدِّقَ فِي خُرُوجِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْ بَيْتِهَا، وَقَالَ عُرْوَةُ: إِنَّ عَائِشَةَ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ.
43 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} مِنْ الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ
5329 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْفِرَ، إِذَا صَفِيَّةُ عَلَى بَابِ خِبَائِهَا كَئِيبَةً، فَقَالَ لَهَا: عَقْرَى - أَوْ: حَلْقَى - إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا، أَكُنْتِ أَفَضْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَانْفِرِي إِذًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} مِنَ الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ. وَفَصَّلَ أَبُو ذَرٍّ بَيْنَ أَرْحَامِهِنَّ وَبَيْنَ مِنْ بِدَائِرَةٍ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ التَّفْسِيرُ لَا أَنَّهَا قِرَاءَةٌ، وَسَقَطَ حَرْفُ مِنْ لِلنَّسَفِيِّ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ عَنْ طَائِفَةٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَيْضُ، وَعَنْ آخَرِينَ الْحَمْلُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ كِلَاهُمَا، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ أَمْرَ الْعِدَّةِ لَمَّا دَارَ عَلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَالِاطِّلَاعُ عَلَى ذَلِكَ يَقَعُ مِنْ جِهَةِ النِّسَاءِ غَالِبًا، جُعِلَتِ الْمَرْأَةُ مُؤْتَمَنَةً عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: دَلَّتِ الْآيَةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُعْتَدَّةَ مُؤْتَمَنَةٌ عَلَى رَحِمِهَا مِنَ الْحَمْلِ وَالْحَيْضِ، إِلَّا أَنْ تَأْتِيَ مِنْ ذَلِكَ بِمَا يُعْرَفُ كَذِبُهَا فِيهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنَّ مِنَ الْأَمَانَةِ أَنِ ائْتُمِنَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى فَرْجِهَا، هَكَذَا أَخْرَجَهُ مَوْقُوفًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مُدَّةِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ وَأَقَلِّهِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ وَالِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِصَفِيَّةَ لَمَّا حَاضَتْ فِي أَيَّامِ مِنًى: إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ شَاهِدٌ لِتَصْدِيقِ النِّسَاءِ فِيمَا يَدَّعِينَهُ مِنَ الْحَيْضِ؛ لِكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يُؤَخِّرَ السَّفَرَ وَيَحْبِسَ مَنْ مَعَهُ لِأَجْلِ حَيْضِ صَفِيَّةَ، وَلَمْ يَمْتَحِنْهَا فِي ذَلِكَ وَلَا أَكْذَبَهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمَّا رَتَّبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مُجَرَّدِ قَوْلِ صَفِيَّةَ إِنَّهَا حَائِضٌ تَأْخِيرَهُ السَّفَرَ، أُخِذَ مِنْهُ تَعَدِّي الْحُكْمِ إِلَى الزَّوْجِ، فَتُصَدِّقُ الْمَرْأَةُ فِي الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ بِاعْتِبَارِ رَجْعَةِ الزَّوْجِ وَسُقُوطِهَا وَإِلْحَاقِ الْحَمْلِ بِهِ.
44 - بَاب {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} فِي الْعِدَّةِ
وَكَيْفَ يُرَاجِعُ الْمَرْأَةَ إِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ، وقوله: فلا تعضلوهن
5330 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: زَوَّجَ مَعْقِلٌ أُخْتَهُ فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً.
5331 -
و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ أَنَّ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ كَانَتْ أُخْتُهُ تَحْتَ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا ثُمَّ خَلَّى عَنْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ خَطَبَهَا فَحَمِيَ مَعْقِلٌ مِنْ ذَلِكَ أَنَفًا فَقَالَ خَلَّى عَنْهَا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا ثُمَّ يَخْطُبُهَا فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ عَلَيْهِ فَتَرَكَ الْحَمِيَّةَ وَاسْتَقَادَ لِأَمْرِ اللَّهِ"
5332 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَهِيَ حَائِضٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً
أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضتهَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا حِينَ تَطْهُرُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُجَامِعَهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ لِأَحَدِهِمْ: إِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ.
وَزَادَ فِيهِ غَيْرُهُ عَنْ اللَّيْثِ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي بِهَذَا.
قَوْلُهُ (بَابُ {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} فِي الْعِدَّةِ، وَكَيْفَ يُرَاجِعُ الْمَرْأَةَ إِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ، وَقَوْلُهُ:{فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفَصَّلَ أَبُو ذَرٍّ أَيْضًا بَيْنَ قَوْلِهِ:{بِرَدِّهِنَّ} ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فِي الْعِدَّةِ بِدَائِرَةٍ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَحَقِّيَّةِ الرَّجْعَةِ مَنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، وَسَقَطَ قَوْلُهُ:{فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ فِي تَزْوِيجِ أُخْتِهِ، أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ: الْأُولَى قَوْلُهُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ كَذَا لِلْجَمِيعِ غَيْرَ مَنْسُوبٍ وَهُوَ ابْنُ سَلَّامٍ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ.
الطَّرِيقُ الثَّانِيَةُ: مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، أَنَّ مَعْقِلَ بْنِ يَسَارٍ كَانَتْ أُخْتُهُ تَحْتَ رَجُلٍ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ: زَوَّجَ مَعْقِلٌ أُخْتَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ وَشَرْحُهُ فِي بَابِ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ، وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ مَنْ وَصَلَهُ وَأَرْسَلَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ أَيْضًا مَوْصُولًا وَمُرْسَلًا.
وَقَوْلُهُ: (فَحَمِيَ) بِوَزْنِ عَلِمَ بِكَسْرِ ثَانِيهِ، وَقَوْلُهُ:(أَنَفًا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالنُّونِ مُنَوَّنٌ، أَيْ: تَرَكَ الْفِعْلِ غَيْظًا وَتَرَفُّعًا، وَقَوْلُهُ: فَتَرَكَ الْحَمِيَّةَ) بِالتَّشْدِيدِ، وَقَوْلُهُ:(وَاسْتَقَادَ لِأَمْرِ اللَّهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِقَافٍ، أَيْ: أَعْطَى مَقَادَتَهُ، وَالْمَعْنَى: أَطَاعَ وَامْتَثَلَ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَاسْتَرَادَ بِرَاءٍ بَدَلَ الْقَافِ مِنَ الرَّوْدِ وَهُوَ الطَّلَبُ، أَوِ الْمَعْنَى أَرَادَ رُجُوعَهَا وَرَضِيَ بِهِ. وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ عَنْ رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ: وَاسْتَقَادَّ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَرَدَّهُ بِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ لَا تَجْتَمِعُ مَعَ سِينِ الِاسْتِفْعَالِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَقَوْلُهُ: وَزَادَ فِيهِ غَيْرُهُ عَنِ اللَّيْثِ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ الطَّلَاقِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ فِيهِ: وَقَالَ اللَّيْثُ إِلَخْ وَفِيهِ تَسْمِيَةُ الْغَيْرِ الْمَذْكُورِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ مَا مُلَخَّصُهُ: الْمُرَاجَعَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ، إِمَّا فِي الْعِدَّةِ فَهِيَ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِمُرَاجَعَتِهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ احْتَاجَ إِلَى عَقْدٍ جَدِيدٍ، وَإِمَّا بَعْدَ الْعِدَّةِ فَعَلَى مَا فِي حَدِيثِ مَعْقِلٍ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحُرَّ إِذَا طَلَّقَ الْحُرَّةَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا، وَلَوْ كَرِهَتِ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ فَتَصِيرُ أَجْنَبِيَّةً فَلَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بِنِكَاحٍ مُسْتَأْنَفٍ.
وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الرَّجُلُ مُرَاجِعًا، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا جَامَعَهَا فَقَدْ رَاجَعَهَا، وَجَاءَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ بِشَرْطِ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الرَّجْعَةَ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ كَالْأَوْزَاعِيِّ وَزَادُوا: وَلَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إِلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَكُونُ الرَّجْعَةُ إِلَّا بِالْكَلَامِ، وَانْبَنَى عَلَى هَذَا الْخِلَافِ جَوَازُ الْوَطْءِ وَتَحْرِيمُهُ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الطَّلَاقَ مُزِيلٌ لِلنِّكَاحِ، وَأَقْرَبُ مَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي حِلِّ الْوَطْءِ وَعَدَمِهِ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ مَعْنًى يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِي النِّكَاحِ وَيَعُودَ، كَمَا فِي إِسْلَامِ أَحَدِ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ إِسْلَامِ الْآخَرِ فِي الْعِدَّةِ، وَكَمَا يَرْتَفِعُ بِالصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ وَالْحَيْضِ ثُمَّ يَعُودُ بِزَوَالِ هَذِهِ الْمَعَانِي. وَحُجَّةُ مَنْ أَجَازَ أَنَّ النِّكَاحَ لَوْ زَالَ لَمْ تَعُدِ الْمَرْأَةُ إِلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، وَبِصِحَّةِ الْخُلْعِ فِي الرَّجْعِيَّةِ وَلِوُقُوعِ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْجَوَابُ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ مَا زَالَ أَصْلُهُ وَإِنَّمَا زَالَ وَصْفُهُ، وَقَالَ
ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الْحَقُّ إنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنَّ الطَّلَاقَ إِذَا وَقَعَ زَالَ النِّكَاحُ كَالْعِتْقِ، لَكِنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ الرَّجْعَةَ فِي النِّكَاحِ دُونَ الْعِتْقِ فَافْتَرَقَا.
45 - بَاب مُرَاجَعَةِ الْحَائِضِ
5333 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَسَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قال: مُرْهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، ثُمَّ يُطَلِّقَ مِنْ قُبُلِ عِدَّتِهَا، قُلْتُ: أَفَتَعْتَدُّ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مُرَاجَعَةِ الْحَائِضِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ الطَّلَاقِ.
46 - بَاب تُحِدُّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا أَرَى أَنْ تَقْرَبَ الصَّبِيَّةُ الطِّيبَ؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ ابنة أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ:
5334 -
قَالَتْ زَيْنَبُ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ - زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ - خَلُوقٌ أَوْ غَيْرُهُ - فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً، ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
5335 -
قَالَتْ زَيْنَبُ: فَدَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ ابنة جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
5336 -
قَالَتْ زَيْنَبُ وَسَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَتَكْحُلُهَا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ لَا ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ"
[الحديث 5336 - طرفاه في: 5338، 5706]
5337 -
قَالَ حُمَيْدٌ فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ وَمَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ فَقَالَتْ زَيْنَبُ كَانَتْ الْمَرْأَةُ
إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَائِرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إِلاَّ مَاتَ ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعَرَةً فَتَرْمِي ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ سُئِلَ مَالِكٌ مَا تَفْتَضُّ بِهِ قَالَ تَمْسَحُ بِهِ جِلْدَهَا"
قَوْلُهُ: (بَابُ تُحِدُّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، وَيَجُوزُ بِفَتْحه ثُمَّ ضَمَّة مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي: بَابِ إِحْدَادِ الْمَرْأَةِ عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا مِنْ كِتَابِ الْجَنَائِزِ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَصْلُ الْإِحْدَادِ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَوَّابُ إحدادا لِمَنْعِهِ الدَّاخِلَ، وَسُمِّيَتِ الْعُقُوبَةُ حَدًّا؛ لِأَنَّهَا تَرْدَعُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ. وَقَالَ ابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ: مَعْنَى الْإِحْدَادِ: مَنْعُ الْمُعْتَدَّةِ نَفْسَهَا الزِّينَةَ، وَبَدَنَهَا الطِّيبَ، وَمَنْعُ الْخُطَّابِ خِطْبَتَهَا وَالطَّمَعَ فِيهَا كَمَا مَنَعَ الْحَدُّ الْمَعْصِيَةَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: سُمِّيَ الْحَدِيدُ حَدِيدًا؛ لِلِامْتِنَاعِ بِهِ أَوْ لِامْتِنَاعِهِ عَلَى مُحَاوِلِهِ، وَمِنْهُ تَحْدِيدُ النَّظَرِ بِمَعْنَى امْتِنَاعِ تَقَلُّبِهِ فِي الْجِهَاتِ، وَيُرْوَى بِالْجِيمِ حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ، قَالَ: يُرْوَى بِالْحَاءِ وَالْجِيمِ، وَبِالْحَاءِ أَشْهَرُ، وَالْجِيمُ مَأْخُوذٌ مِنْ جَدَدْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَطَعْتُهُ، فَكَأَنَّ الْمَرْأَةَ انْقَطَعَتْ عَنِ الزِّينَةِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَنْكَرَ الْأَصْمَعِيُّ: حَدَّتْ وَلَمْ يَعْرِفْ إِلَّا أَحَدَّتْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَ الْقُدَمَاءُ يُؤْثِرُونَ أَحَدَّتْ وَالْأُخْرَى أَكْثَرُ مَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا أَرَى أَنْ تَقْرَبَ الصَّبِيَّةُ الطِّيبَ) أَيْ: إِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ فَمَاتَ عَنْهَا.
وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ) أَظُنُّهُ مِنْ تَصَرُّفِ الْمُصَنِّفِ؛ فَإِنَّ أَثَرَ الزُّهْرِيِّ وَصَلَهُ ابْنُ وَهْبٍ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ يُونُسَ عَنْهُ بِدُونِهَا، وَأَصْلُهُ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ بِاخْتِصَارٍ. وَفِي التَّعْلِيلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ سَبَبَ إِلْحَاقِ الصَّبِيَّةِ بِالْبَالِغِ فِي الْإِحْدَادِ وُجُوبُ الْعِدَّةِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا اتِّفَاقًا، وَبَذْلِكَ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا، وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِأَنَّهُ يَحْرُمُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا بَلْ خِطْبَتُهَا فِي الْعِدَّةِ، وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةِ فِي الْبَابِ: أَفَنَكْحُلُهَا؟ فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهَا كَانَتْ صَغِيرَةً، إِذْ لَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَقَالَتْ: أَفَتَكْتَحِلُ هِيَ؟ وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهَا: أَفَنَكْحُلُهَا؟ أَيْ: أَفَنُمَكِّنُهَا مِنَ الِاكْتِحَالِ؟.
قَوْلُهُ: (عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ) أَيِ: ابْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ. وَهِيَ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَزَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهَا لَا رِوَايَةَ لَهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَذَا قَالَ، وَقَدْ أَخْرَجَ لَهَا مُسْلِمٌ حَدِيثَهَا: كَانَ اسْمِي بَرَّةَ فَسَمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبُ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَ لَهَا الْبُخَارِيُّ حَدِيثًا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ) تَقَدَّمَ مِنْهَا الْحَدِيثَانِ الْأَوَّلَانِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ مَعَ كَثِيرٍ مِنْ شَرْحِهِمَا، وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْأَوَّلِ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا، وَفِي الثَّانِي حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا، وَأَنَّهُ سُمِّيَ فِي بَعْضِ الْمُوَطَّآتِ: عَبْدُ اللَّهِ. وَكَذَا هُوَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُصْعَبٍ، وَأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ قُتِلَ بِأُحُدٍ شَهِيدًا، وَزَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ يَوْمَئِذٍ طِفْلَةٌ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ دَخَلَتْ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُبَيْدَ اللَّهِ الْمُصَغَّرَ؛ فَإِنَّ دُخُولَ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عِنْدَ بُلُوغِ الْخَبَرِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِوَفَاتِهِ كَانَ وَهِيَ مُمَيِّزَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ أَبَا أَحْمَدَ بْنَ جَحْشٍ فَإِنَّ اسْمَهُ عَبْدٌ بِغَيْرِ إِضَافَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَاتَ قَبْلَ زَيْنَبَ، لَكِنْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حضَرَ دَفْنَهَا. وَيَلْزَمُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ فِي الِاسْمِ تَغْيِيرٌ، أَوِ الْمَيِّتُ كَانَ أَخَا زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ مِنْ أُمِّهَا أَوْ مِنَ الرَّضَاعَةِ.
قَوْلُهُ: (لَا يَحِلُّ) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الْإِحْدَادِ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجِ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَعَلَى وُجُوبِ الْإِحْدَادِ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى الزَّوْجِ، وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَقَعَ بَعْدَ النَّفْيِ، فَيَدُلُّ عَلَى الْحِلِّ فَوْقَ الثَّلَاثِ عَلَى الزَّوْجِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوُجُوبَ اسْتُفِيدَ مِنْ دَلِيلٍ
آخَرَ كَالْإِجْمَاعِ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ الْإِحْدَادَ لَا يَجِبُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَنَقَلَ الْخَلَّالُ بِسَنَدِهِ عَنْ أَحْمَدَ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَعْرِفُ الْإِحْدَادَ، قَالَ أَحْمَدُ: مَا كَانَ بِالْعِرَاقِ أَشَدُّ تَبَحُّرًا مِنْ هَذَيْنِ - يَعْنِي الْحَسَنَ، وَالشَّعْبِيَّ - قَالَ: وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا، اهـ، وَمُخَالَفَتُهُمَا لَا تَقْدَحُ فِي الِاحْتِجَاجِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا رَدٌّ عَلَى مَنِ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ. وَفِي أَثَرِ الشَّعْبِيِّ تَعَقُّبٌ عَلَى ابْنِ الْمُنْذِرِ حَيْثُ نَفَى الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ إِلَّا عَنِ الْحَسَنِ، وَأَيْضًا فَحَدِيثُ الَّتِي شَكَتْ عَيْنَهَا - وَهُوَ ثَالِثُ أَحَادِيثِ الْبَابِ - دَالٌّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَإِلَّا لَمْ يَمْتَنِعِ التَّدَاوِي الْمُبَاحُ، وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا مُنِعَ مِنْهُ إِذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ كَانَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ دَالًّا بِعَيْنِهِ عَلَى الْوُجُوبِ كَالْخِتَانِ، وَالزِّيَادَةِ عَلَى الرُّكُوعِ فِي الْكُسُوفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (لِامْرَأَةٍ) تَمَسَّكَ بِمَفْهُومِهِ الْحَنَفِيَّةُ، فَقَالُوا: لَا يَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَى الصَّغِيرَةِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا كَمَا تَجِبُ الْعِدَّةُ، وَأَجَابُوا عَنِ التَّقْيِيدِ بِالْمَرْأَةِ أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَعَنْ كَوْنِهَا غَيْرَ مُكَلَّفَةٍ بِأَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِمَنْعِهَا مِمَّا تُمْنَعُ مِنْهُ الْمُعْتَدَّةُ، وَدَخَلَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: امْرَأَةٌ الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، وَلَوْ كَانَتْ مُبَعَّضَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ إِذَا مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا لَا سَيِّدُهَا؛ لِتَقْيِيدِهِ بِالزَّوْجِ فِي الْخَبَرِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنْ لَا إِحْدَادَ عَلَى الذِّمِّيَّةِ لِلتَّقْيِيدِ بِالْإِيمَانِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ النَّسَائِيُّ بِذَلِكَ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ ذُكِرَ تَأْكِيدًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، كَمَا يُقَالُ: هَذَا طَرِيقُ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ يَسْلُكُهُ غَيْرُهُمْ. وَأَيْضًا فَالْإِحْدَادُ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ، وَهُوَ مُلْتَحَقٌ بِالْعِدَّةِ فِي حِفْظِ النَّسَبِ، فَتَدْخُلُ الْكَافِرَةُ فِي ذَلِكَ بِالْمَعْنَى، كَمَا دَخَلَ الْكَافِرُ فِي النَّهْيِ عَنِ السَّوْمِ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لِلزَّوْجِيَّةِ فَأَشْبَهَ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى، وَنَقَلَ السُّبْكِيُّ فِي فَتَاوِيهِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الذِّمِّيَّةَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ: تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَرَدَّ عَلَى قَائِلِهِ وَبَيَّنَ فَسَادَ شُبْهَتِهِ فَأَجَادَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَيَّدَ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِهِ هُوَ الَّذِي يَنْقَادُ لِلشَّرْعِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الذِّمِّيَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا تَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا.
قَوْلُهُ: (عَلَى مَيِّتٍ) اسْتُدِلَّ بِهِ لِمَنْ قَالَ: لَا إِحْدَادَ عَلَى امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَتَحَقَّقْ وَفَاتُهُ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا عَلَى زَوْجٍ) أُخِذَ مِنْ هَذَا الْحَصْرِ أَنْ لَا يُزَادَ عَلَى الثَّلَاثِ فِي غَيْرِ الزَّوْجِ أَبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَصَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى أَبِيهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَعَلَى مَنْ سِوَاهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَوْ صَحَّ لَكَانَ خُصُوصُ الْأَبِ يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، لَكِنَّهُ مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضَلٌ؛ لِأَنَّ جُلَّ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنِ التَّابِعِينَ وَلَمْ يَرْوِ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ عَنْ بَعْضِ صِغَارِ الصَّحَابَةِ.
وَوَهِمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فَتَعَقَّبَ عَلَى أَبِي دَاوُدَ تَخْرِيجَهُ فِي الْمَرَاسِيلِ فَقَالَ: عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ لَيْسَ تَابِعِيًّا، فَلَا يَخْرُجُ حَدِيثُهُ فِي الْمَرَاسِيلِ، وَهَذَا التَّعَقُّبُ مَرْدُودٌ؛ لِمَا قُلْنَاهُ، وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَبُو دَاوُدَ كَانَ لَا يَخُصُّ الْمَرَاسِيلَ بِرِوَايَةِ التَّابِعِيِّ كَمَا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ غَيْرِهِ أَيْضًا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ لِلْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَنْ لَا إِحْدَادَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ، فَأَمَّا الرَّجْعِيَّةُ فَلَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا إِجْمَاعًا، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الْبَائِنِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا إِحْدَادَ، وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ: عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ قِيَاسًا عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ الْإِحْدَادَ شُرِعَ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ مِنَ التَّطَيُّبِ وَاللُّبْسِ وَالتَّزَيُّنِ يَدْعُو إِلَى الْجِمَاعِ، فَمُنِعَتِ الْمَرْأَةُ مِنْهُ زَجْرًا لَهَا عَنْ ذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا فِي حق الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ الْمَوْتُ عَنْ مَنْعِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْهُ عَنِ التَّزْوِيجِ، وَلَا تُرَاعِيهِ هِيَ وَلَا تَخَافُ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْمُطَلِّقِ الْحَيِّ فِي ذَلِكَ، وَمِنْ ثَمَّ وَجَبَتِ الْعِدَّةُ
عَلَى كُلِّ مُتَوَفًّى عَنْهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا بِخِلَافِ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا اتِّفَاقًا وَبِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الْبَائِنَ يُمْكِنُهَا الْعَوْدُ إِلَى الزَّوْجِ بِعَيْنِهِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمُلَاعَنَةَ لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا، وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَرْكَهُ لِفِقْدَانِ الزَّوْجِ بِعَيْنِهِ لَا لِفِقْدَانِ الزَّوْجِيَّةِ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْإِحْدَادِ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجِ مِنْ قَرِيبٍ وَنَحْوِهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَمَا دُونَهَا، وَتَحْرِيمُهُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَكَأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ أُبِيحَ لِأَجْلِ حَظِّ النَّفْسِ وَمُرَاعَاتِهَا وَغَلَبَةِ الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ، وَلِهَذَا تَنَاوَلَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ رضي الله عنهما الطِّيبَ لِتَخْرُجَا عَنْ عُهْدَةِ الْإِحْدَادِ، وَصَرَّحَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا بِأَنَّهَا لَمْ تَتَطَيَّبْ لِحَاجَةٍ؛ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ آثَارَ الْحُزْنِ بَاقِيَةٌ عِنْدَهَا، لَكِنَّهَا لَمْ يَسَعْهَا إِلَّا امْتِثَالُ الْأَمْرِ.
قَوْلُهُ: (أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْوَلَدَ يَتَكَامَلُ تَخْلِيقُهُ وَتُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدَ مُضِيِّ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَهِيَ زِيَادَةٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِنُقْصَانِ الْأَهِلَّةِ فَجُبِرَ الْكَسْرُ إِلَى الْعَقْدِ عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ، وَذَكَرَ الْعَشْرَ مُؤَنَّثًا لِإِرَادَةِ اللَّيَالِي، وَالْمُرَادُ مَعَ أَيَّامِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَلَا تَحِلُّ حَتَّى تَدْخُلَ اللَّيْلَةَ الْحَادِيَةَ عَشَرَ.
وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَبَعْضِ السَّلَفِ: تَنْقَضِي بِمُضِيِّ اللَّيَالِي الْعَشْرِ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَشْهُرِ وَتَحِلُّ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ، وَاسْتُثْنِيَتِ الْحَامِلُ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُ حَالِهَا قَبْلُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ سُبَيْعَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ قَوِيِّ الْإِسْنَادِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْيَوْمَ الثَّالِثَ مِنْ قَتْلِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: لَا تُحِدِّي بَعْدَ يَوْمِكِ هَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ وَلِابْنِ حِبَّانَ، وَالطَّحَاوِيِّ: لَمَّا أُصِيبَ جَعْفَرٌ أَتَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: تَسَلَّبِي ثَلَاثًا، ثُمَّ اصْنَعِي مَا شِئْتِ قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بَعْدَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ كَانَتْ زَوْجَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالِاتِّفَاقِ وَهِيَ وَالِدَةُ أَوْلَادِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُحَمَّدٍ، وَعَوْنٍ وَغَيْرِهِمْ، قَالَ: بَلْ ظَاهِرُ النَّهْيِ أَنَّ الْإِحْدَادَ لَا يَجُوزُ، وَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ جَعْفَرًا قُتِلَ شَهِيدًا، وَالشُّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ. قَالَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي حَقِّ غَيْرِ جَعْفَرٍ مِنَ الشُّهَدَاءِ مِمَّنْ قُطِعَ بِأَنَّهُمْ شُهَدَاءُ كَمَا قُطِعَ لِجَعْفَرٍ - كَحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمِّهِ وَكَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ وَالِدِ جَابِرٍ - اهـ كَلَامُ شَيْخِنَا مُلَخَّصًا.
وَأَجَابَ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَأَنَّ الْإِحْدَادَ كَانَ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ فِي بَعْضِ عِدَّتِهَا فِي وَقْتٍ، ثُمَّ أُمِرَتْ بِالْإِحْدَادِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، ثُمَّ سَاقَ أَحَادِيثَ الْبَابِ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ النَّسْخِ. لَكِنَّهُ يُكْثِرُ مِنِ ادِّعَاءِ النَّسْخِ بِالِاحْتِمَالِ فَجَرَى عَلَى عَادَتِهِ، وَيَحْتَمِلُ وَرَاءَ ذَلِكَ أَجْوِبَةً أُخْرَى:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِحْدَادِ الْمُقَيَّدِ بِالثَّلَاثِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى الْإِحْدَادِ الْمَعْرُوفِ فَعَلَتْهُ أَسْمَاءُ مُبَالَغَةً فِي حُزْنِهَا عَلَى جَعْفَرٍ فَنَهَاهَا عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ الثَّلَاثِ.
ثَانِيهَا: أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا فَوَضَعَتْ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَانْقَضَتِ الْعِدَّةُ، فَنَهَاهَا بَعْدَهَا عَنِ الْإِحْدَادِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اطَّلَعَ عَلَى أَنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي عِنْدَ الثَّلَاثِ.
ثَالِثُهَا: لَعَلَّهُ كَانَ أَبَانَهَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ اسْتِشْهَادِهِ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا إِحْدَادٌ.
رَابِعُهَا: أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ أَعَلَّ الْحَدِيثَ بِالِانْقِطَاعِ، فَقَالَ: لَمْ يَثْبُتْ سَمَاعُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِدَّادٍ مِنْ أَسْمَاءَ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ مَدْفُوعٌ، فَقَدْ صَحَّحَهُ أَحْمَدُ، لَكِنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي الْإِحْدَادِ، قُلْتُ: وَهُوَ مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّهُ يُعِلُّهُ بِالشُّذُوذِ. وَذَكَرَ الْأَثْرَمُ أَنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ حَنْظَلَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: لَا إِحْدَادَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَقَالَ: هَذَا مُنْكَرٌ، وَالْمَعْرُوفُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ رَأْيِهِ. اهـ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ الْمَرْأَةِ الْمُعْتَدَّةِ فَلَا نَكَارَةَ فِيهِ، بِخِلَافِ حَدِيثِ أَسْمَاءَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَغْرَبَ
ابْنُ حِبَّانَ فَسَاقَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ: تَسَلَّمِي بِالْمِيمِ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ، وَفَسَّرَهُ بِأَنَّهُ أَمَرَهَا بِالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَلَا مَفْهُومَ لِتَقْيِيدِهَا بِالثَّلَاثِ بَلِ الْحِكْمَةُ فِيهِ كَوْنُ الْقَلَقِ يَكُونُ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ أَشَدَّ فَلِذَلِكَ قَيَّدَهَا بِالثَّلَاثِ، هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ، فَصَحَّفَ الْكَلِمَةَ وَتَكَلَّفَ لِتَأْوِيلِهَا. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ: فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتَسَلَّبَ ثَلَاثًا فَتَبَيَّنَ خَطَؤُهُ.
قَوْلُهُ: (قَالَتْ زَيْنَبُ: وَسَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الثَّالِثُ، وَوَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ: سَمِعْتُ أُمِّي أُمَّ سَلَمَةَ، زَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَالِكٍ: بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (جَاءَتِ امْرَأَةٌ) زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ: مِنْ قُرَيْشٍ وَسَمَّاهَا ابْنُ وَهْبٍ فِي مُوَطَّئِهِ، وَأَخْرَجَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي أَحْكَامِهِ مِنْ طَرِيقِ عَاتِكَةَ بِنْتِ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ وَهْبٍ: عَنْ أَبِي الْأَسْوَدَ النَّوْفَلِي، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ عَاتِكَةَ بِنْتَ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَتَتْ تَسْتَفْتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَكَانَتْ تَحْتَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، وَهِيَ تُحِدُّ وَتَشْتَكِي عَيْنَهَا الْحَدِيثَ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عِمْرَانَ بْنِ هَارُونَ الرَّمْلِيِّ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، لَكِنَّهُ قَالَ: بِنْتُ نُعَيْمٍ وَلَمْ يُسَمِّهَا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّهَا عَنْ عَاتِكَةَ بِنْتِ نُعَيْمٍ - أُخْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُعَيْمٍ - جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنَّ ابْنَتَهَا تُوُفِّيَ زَوْجُهَا الْحَدِيثَ. وَعَبْدُ للَّهِ بْنُ عُقْبَةَ هُوَ ابْنُ لَهِيعَةَ نَسَبَهُ لِجَدِّهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ أَبُو الْأَسْوَدِ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلِابْنِ لَهِيعَةَ طَرِيقَانِ، وَلَمْ تُسَمَّ الْبِنْتُ الَّتِي تُوُفِّيَ زَوْجُهَا، وَلَمْ تُنْسَبْ فِيمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمُغِيرَةُ الْمَخْزُومِيُّ فَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ أَبِيهِ، وَقَدْ أَغْفَلَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي الصَّحَابَةِ، وَكَذَا أَبُو مُوسَى فِي الذَّيْلِ عَلَيْهِ، وَكَذَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، لَكِنِ اسْتَدْرَكَهُ ابْنُ فَتَحُونَ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يَجُوزُ فِيهِ وَجْهَانِ؛ ضَمُّ النُّونِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ هِيَ الْمُشْتَكِيَةُ، وَفَتْحُهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي اشْتَكَتْ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ وَهِيَ الْمَرْأَةُ وَرَجَّحَ هَذَا، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: عَيْنَاهَا يَعْنِي وَهُوَ يُرَجِّحُ الضَّمَّ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ فِي مُسْلِمٍ، وَعَلَى الضَّمِّ اقْتَصَرَ النَّوَوِيُّ وَهُوَ الْأَرْجَحُ، وَالَّذِي رَجَّحَ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُنْذِرِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَفَنَكْحُلُهَا) بِضَمِّ الْحَاءِ.
قَوْلُهُ: (لَا، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ فَقَالَ: لَا تَكْتَحِلُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الِاكْتِحَالِ عَلَى الْحَادَّةِ سَوَاءٌ احْتَاجَتْ إِلَيْهِ أَمْ لَا. وَجَاءَ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ: اجْعَلِيهِ بِاللَّيْلِ وَامْسَحِيهِ بِالنَّهَارِ وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّهَا إِذَا لَمْ تَحْتَجْ إِلَيْهِ لَا يَحِلُّ، وَإِذَا احْتَاجَتْ لَمْ يَجُزْ بِالنَّهَارِ، وَيَجُوزُ بِاللَّيْلِ مَعَ أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ، فَإِنْ فَعَلَتْ مَسَحَتْهُ بِالنَّهَارِ.
قَالَ: وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْخَوْفُ عَلَى عَيْنِهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ الْمَذْكُورِ: فَخَشُوا عَلَى عَيْنِهَا وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْدَهْ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهَا: رَمِدَتْ رَمَدًا شَدِيدًا، وَقَدْ خَشِيَتْ عَلَى بَصَرِهَا وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّهَا قَالَتْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّهَا تَشْتَكِي عَيْنَهَا فَوْقَ مَا يُظَنُّ، فَقَالَ: لَا وَفِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ أَخْرَجَهَا ابْنُ حَزْمٍ إِنِّي أَخْشَى أَنْ تَنْفَقِئَ عَيْنُهَا، قَالَ: لَا، وَإِنِ انْفَقَأَتْ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَبِمِثْلِ ذَلِكَ أَفْتَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِمَنْعِهِ مُطْلَقًا، وَعَنْهُ يَجُوزُ إِذَا خَافَتْ عَلَى عَيْنِهَا بِمَا لَا طِيبَ فِيهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ مُقَيَّدًا بِاللَّيْلِ، وَأَجَابُوا عَنْ قِصَّةِ الْمَرْأَةِ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ يَحْصُلُ لَهَا الْبُرْءُ بِغَيْرِ الْكُحْلِ كَالتَّضْمِيدِ بِالصَّبْرِ وَنَحْوِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهَا أَحَدَّتْ عَلَى ابْنِ عُمَرَ فَلَمْ تَكْتَحِلْ حَتَّى كَادَتْ عَيْنَاهَا تَزِيغَانِ فَكَانَتْ تَقْطُرُ فِيهِمَا الصَّبْرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ النَّهْيَ عَلَى كُحْلٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ مَا يَقْتَضِي التَّزَيُّنَ بِهِ؛ لِأَنَّ
مَحْضَ التَّدَاوِي قَدْ يَحْصُلُ بِمَا لَا زِينَةَ فِيهِ، فَلَمْ يَنْحَصِرْ فِيمَا فِيهِ زِينَةٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: يَجُوزُ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ، وَحَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّمَا هيَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) كَذَا فِي الْأَصْلِ بِالنَّصْبِ عَلَى حِكَايَةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ، وَلِبَعْضِهِمْ بِالرَّفْعِ وَهُوَ وَاضِحٌ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَقْلِيلِ الْمُدَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَتَهْوِينُ الصَّبْرِ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ، وَفِي التَّقْيِيدِ بِالْجَاهِلِيَّةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْإِسْلَامِ صَارَ بِخِلَافِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا وُصِفَ مِنَ الصَّنِيع، لَكِنَّ التَّقْدِيرَ بِالْحَوْلِ اسْتَمَرَّ فِي الْإِسْلَامِ بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} ثُمَّ نُسِخَتْ بِالْآيَةِ الَّتِي قَبْلُ وَهِيَ: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}
سُئِلَ مَالِكٌ: مَا تَفْتَضُّ بِهِ؟ قَالَ: تَمْسَحُ بِهِ جِلْدَهَا.
قَوْلُهُ: (قَالَ حُمَيْدٌ) هُوَ ابْنُ نَافِعٍ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَبْدُوءِ بِهِ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ) هِيَ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ (وَمَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ؟) أَيْ: بَيِّنِي لِي الْمُرَادَ بِهَذَا الْكَلَامِ الَّذِي خُوطِبَتْ بِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ.
قَوْلُهُ: (كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا إِلَخْ) هَكَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَمْ تُسْنِدْهُ زَيْنَبُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مَرْفُوعًا كُلُّهُ لَكِنَّهُ بِاخْتِصَارٍ وَلَفْظُهُ: فَقَالَ: لَا تَكْتَحِلُ، قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِي شَرِّ أَحْلَاسِهَا - أَوْ شَرِّ بَيْتِهَا - فَإِذَا كَانَ حَوْلٌ فَمَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بِبَعْرَةٍ، فَلَا حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي إِدْرَاجَ رِوَايَةِ الْبَابِ؛ لِأَنَّ شُعْبَةَ مِنْ أَحْفَظِ النَّاسِ فَلَا يَقْضِي عَلَى رِوَايَتِهِ بِرِوَايَةِ غَيْرِهِ بِالِ حْتِمَالِ، وَلَعَلَّ الْمَوْقُوفَ مَا فِي رِوَايَةِ الْبَابِ مِنَ الزِّيَادَةِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ. وَالْحِفْشُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ فَسَّرَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ: الْبَيْتُ الصَّغِيرُ، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ: الْحِفْشُ: الْخُصُّ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْحِفْشُ: الْبَيْتُ الذَّلِيلُ، الشَّعِثُ الْبِنَاءِ، وَقِيلَ: هُوَ شَيْءٌ مِنْ خُوصٍ يُشْبِهُ الْقُفَّةَ تَجْمَعُ فِيهِ الْمُعْتَدَّةُ مَتَاعَهَا مِنْ غَزْلٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَظَاهِرُ سِيَاقِ الْقِصَّةِ يَأْبَى هَذَا خُصُوصًا رِوَايَةَ شُعْبَةَ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَّائِيَّ: عَمَدَتْ إِلَى شَرِّ بَيْتٍ لَهَا فَجَلَسَتْ فِيهِ وَلَعَلَّ أَصْلَ الْحِفْش مَا ذَكَرَ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ الْحَقِيرِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ، وَالْأَحْلَاسُ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ بِمُهْمَلَتَيْنِ جَمْعُ حِلْسٍ بِكَسْرٍ ثُمَّ سُكُونٍ وَهُوَ الثَّوْبُ، أَوِ الْكِسَاءُ الرَّقِيقُ، يَكُونُ تَحْتَ الْبَرْذعَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الرَّاوِيَ شَكَّ فِي أَيِّ اللَّفْظَيْنِ وَقَعَ وَصْفُ ثِيَابِهَا أَوْ وَصْفُ مَكَانِهَا، وَقَدْ ذُكِرَا مَعًا فِي رِوَايَةِ الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى يَمُرَّ بِهَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لَهَا.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ) بِالتَّنْوِينِ (حِمَارٍ) بِالْجَرِّ وَالتَّنْوِينِ عَلَى الْبَدَلِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ شَاةٍ أَوْ طَائِرٍ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ، وَإِطْلَاقُ الدَّابَّةِ عَلَى مَا ذُكِرَ هُوَ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ لَا الْعُرْفِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (فَتَفْتَضُّ) بِفَاءٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ ثُمَّ ضَادٍ مُعْجَمَةٍ ثَقِيلَةٍ، فَسَّرَهُ مَالِكٌ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، فَقَالَ: تَمْسَحُ بِهِ جِلْدَهَا، وَأَصْلُ الْفَضِّ: الْكَسْرُ، أَيْ: تَكْسِرُ مَا كَانَتْ فِيهِ، وَتَخْرُجُ مِنْهُ بِمَا تَفْعَلُهُ بِالدَّابَّةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: تُقْبَصُ بِقَافِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ خَفِيفَةٍ، وَهِيَ رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَبْصُ: الْأَخْذُ بِأَطْرَافِ الْأَنَامِلِ، قَالَ الْأَصْبِهَانِيُّ، وَابْنُ الْأَثِيرِ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِسْرَاعِ، أَيْ: تَذْهَبُ بِعَدْوٍ وَسُرْعَةٍ إِلَى مَنْزِلِ أَبَوَيْهَا؟ لِكَثْرَةِ حَيَائِهَا لِقُبْحِ مَنْظَرِهَا، أَوْ لِشِدَّةِ شَوْقِهَا إِلَى التَّزْوِيجِ لِبُعْدِ عَهْدِهَا بِهِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهَا: بِهِ سَبَبِيَّةٌ، وَالضَّبْطُ الْأَوَّلُ أَشْهَرُ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: سَأَلْتُ الْحِجَازِيِّينَ عَنِ الِافْتِضَاضِ، فَذَكَرُوا أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ كَانَتْ لَا تَمَسُّ مَاءً، وَلَا تُقَلِّمُ ظُفْرًا، وَلَا تُزِيلُ شَعْرًا، ثُمَّ تَخْرُجُ بَعْدَ الْحَوْلِ بِأَقْبَحِ مَنْظَرٍ، ثُمَّ تَفْتَضُّ، أَيْ: تَكْسِرُ مَا هِيَ فِيهِ مِنَ الْعِدَّةِ بِطَائِرٍ تَمْسَحُ بِهِ قُبُلَهَا، وَتَنْبِذُهُ، فَلَا يَكَادُ يَعِيشُ بَعْدَمَا تَفْتَضُّ بِهِ.
قُلْتُ: وَهَذَا لَا يُخَالِفُ تَفْسِيرَ مَالِكٍ، لَكِنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الْجِلْدَ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جِلْدُ الْقُبُلِ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَمْسَحُ بِيَدِهَا عَلَى الدَّابَّةِ وَعَلَى ظَهْرِهِ،
وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَمْسَحُ بِهِ، ثُمَّ تَفْتَضُّ، أَيْ: تَغْتَسِلُ، وَالِافْتِضَاضُ: الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ الْعَذْبِ؛ لِإِزَالَةِ الْوَسَخِ، وَإِرَادَةِ النَّقَاءِ حَتَّى تَصِيرَ بَيْضَاءَ نَقِيَّةً كَالْفِضَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْأَخْفَشُ: مَعْنَاهُ تَتَنَظَّفُ فَتَنْتَقِي مِنَ الْوَسَخِ فَتُشْبِهُ الْفِضَّةَ فِي نَقَائِهَا وَبَيَاضِهَا، وَالْغَرَضُ بِذَلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى إِهْلَاكِ مَا هيَ فِيهِ، وَمِنَ الرَّمْيِ الِانْفِصَالُ مِنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ.
تَنْبِيهٌ:
جَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَتَفْتَضُّ بِهِ لِلتَّعَدِّيَةِ، أَوْ تَكُونَ زَائِدَةً، أَيْ: تَفْتَضُّ الطَّائِرَ، بِأَنْ تَكْسِرَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ، انْتَهَى. وَيَرُدُّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَفْسِيرِ الِافْتِضَاضِ صَرِيحًا.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا.
قَوْلُهُ: (فَتَرْمِي بِهَا) فِي رِوَايَةِ مُطَرَّفٍ، وَابْنِ الْمَاجِشُونِ، عَنْ مَالِكٍ: تَرْمِي بِبَعْرَةٍ مِنْ بَعْرِ الْغَنَمِ أَوِ الْإِبِلِ فَتَرْمِي بِهَا أَمَامَهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِحْلَالًا لَهَا وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ: فَتَرْمِي بِبَعْرَةٍ مِنْ بَعْرِ الْغَنَمِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ الْآتِيَةِ: فَإِذَا كَانَ حَوْلٌ فَمَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بِبَعْرَةٍ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ رَمْيَهَا الْبَعْرَةَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُرُورِ الْكَلْبِ سَوَاءٌ طَالَ زَمَنُ انْتِظَارِ مُرُورِهِ أَمْ قَصُرَ، وَبِهِ جَزَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ. وَقِيلَ: تَرْمِي بِهَا مَنْ عَرَضَ مِنْ كَلْبٍ أَوْ غَيْرِهِ تُرِي مَنْ حَضَرَهَا أَنَّ مُقَامَهَا حَوْلًا أَهْوَنُ عَلَيْهَا مِنْ بَعْرَةٍ تَرْمِي بِهَا كَلْبًا أَوْ غَيْرَهُ. وَقَالَ عِيَاضٌ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْكَلْبَ إِذَا مَرَّ افْتُضَّتْ بِهِ ثُمَّ رَمَتِ الْبَعْرَةَ. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، وَالزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ حَافِظًا؛ فَإِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى الْجَمْعِ. وَاخْتُلَفَ فِي الْمُرَادِ بِرَمْيِ الْبَعْرَةِ، فَقِيلَ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا رَمَتِ الْعِدَّةَ رَمْيَ الْبَعْرَةِ، وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي فَعَلَتْهُ مِنَ التَّرَبُّصِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ لِمَا انْقَضَى كَانَ عِنْدَهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَعْرَةِ الَّتِي رَمَتْهَا اسْتِحْقَارًا لَهُ وَتَعْظِيمًا لِحَقِّ زَوْجِهَا، وَقِيلَ: بَلْ تَرْمِيهَا عَلَى سَبِيلِ التَّفَاؤُلِ بِعَدَمِ عَوْدِهَا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ.
47 - بَاب الْكُحْلِ لِلْحَادَّةِ
5338 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ ابنة أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّهَا، أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّيَ زَوْجُهَا، فَخَشُوا عَلَى عَيْنَيْهَا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَأْذَنُوهُ فِي الْكُحْلِ فَقَالَ: لَا تَكتحلْ؛ قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِي شَرِّ أَحْلَاسِهَا - أَوْ شَرِّ بَيْتِهَا - فَإِذَا كَانَ حَوْلٌ فَمَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بِبَعَرَةٍ، فَلَا، حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ.
5339 -
وَسَمِعْتُ زَيْنَبَ ابنة أُمِّ سَلَمَةَ تُحَدِّثُ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إِلَّا عَلَى زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
5340 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرٌ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ إِلاَّ بِزَوْجٍ
قَوْلُهُ: (بَابُ الْكُحْلِ لِلْحَادَّةِ) كَذَا وَقَعَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الرُّبَاعِيِّ لَقَالَ الْمُحِدَّةِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: الصَّوَابُ الْحَادُّ بِلَا هَاءٍ؛ لِأَنَّهُ نَعْتٌ لِلْمُؤَنَّثِ كَطَالِقٍ وَحَائِضٍ. قُلْتُ: لَكِنَّهُ جَائِزٌ فَلَيْسَ بِخَطَأٍ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَرْجَحَ.
ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ الْمَاضِيَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، وَكَذَا حَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ، أَوْرَدَهُمَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ بِاخْتِصَارٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
مَا فِيهِ قَبْلُ. وَقَوْلُهُ: لَا تَكْتَحِلُ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي بِلَا تَاءٍ بَيْنَ الْكَافِ وَالْحَاءِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ أُمِّ عَطِيَّةَ مُخْتَصَرًا، وَفِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مُطَوَّلًا، وَقَوْلُهُ: إِلَّا بِزَوْجٍ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: إِلَّا عَلَى زَوْجٍ.
48 - بَاب الْقُسْطِ لِلْحَادَّةِ عِنْدَ الطُّهْرِ
5341 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا نَكْتَحِلَ، وَلَا نَطَّيَّبَ، وَلَا نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا فِي نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ، وَكُنَّا نُنْهَى عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْقُسْطِ لِلْحَادَّةِ عِنْدَ الطُّهْرِ) أَيْ: عِنْدَ طُهْرِهَا مِنَ الْمَحِيضِ إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا نُنْهَى) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِرَفْعِهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (وَلَا نَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ) بِمُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ وَهُوَ بِالْإِضَافَةِ، وَهِيَ بُرُودُ الْيَمَنِ يُعْصَبُ غَزْلُهَا، أَيْ: يُرْبَطُ، ثُمَّ يُصْبَغُ، ثُمَّ يُنْسَجُ مَعْصُوبًا، فَيَخْرُجُ مُوشًى؛ لِبَقَاءِ مَا عُصِبَ بِهِ أَبْيَضَ لَمْ يَنْصَبِغْ، وَإِنَّمَا يُعْصَبُ السَّدَى دُونَ اللُّحْمَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَهَى: الْعَصْبُ هُوَ الْمَفْتُولُ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ. وَذَكَرَ أَبُو مُوسَى الْمَدَنِيُّ فِي ذَيْلِ الْغَرِيبِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْيَمَنِ أَنَّهُ مِنْ دَابَّةٍ بَحْرِيَّةٍ تُسَمَّى فَرَسَ فِرْعَوْنَ، يُتَّخَذُ مِنْهَا الْخَرَزُ وَغَيْرُهُ وَيَكُونُ أَبْيَضَ، وَهَذَا غَرِيبٌ، وَأَغْرَبُ مِنْهُ قَوْلُ السُّهَيْلِيِّ: إِنَّهُ نَبَاتٌ لَا يَنْبُتُ إِلَّا بِالْيَمَنِ وَعَزَاهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيِّ، وَأَغْرَبُ مِنْهُ قَوْلُ الدَّاوُدِيِّ: الْمُرَادُ بِالثَّوْبِ الْعَصْبِ الْخَضِرَةُ وَهِيَ الْحِبَرَةُ، وَلَيْسَ لَهُ سَلَفٌ فِي أَنَّ الْعَصْبَ الْأَخْضَرُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْحَادَّةِ لُبْسُ الثِّيَابِ الْمُعَصْفَرَةِ وَلَا الْمُصْبَغَةِ، إِلَّا مَا صُبِغَ بِسَوَادٍ فَرَخَّصَ فِيهِ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِكَوْنِهِ لَا يُتَّخَذُ لِلزِّينَةِ بَلْ هُوَ مِنْ لِبَاسِ الْحُزْنِ، وَكَرِهَ عُرْوَةُ الْعَصْبَ أَيْضًا، وَكَرِهَ مَالِكٌ غَلِيظَهُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَصَحُّ عِنْدِ أَصْحَابِنَا تَحْرِيمُهُ مُطْلَقًا، وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِمَنْ أَجَازَهُ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُؤْخَذُ مِنْ مَفْهُومِ الْحَدِيثِ جَوَازُ مَا لَيْسَ بِمَصْبُوغٍ وَهِيَ الثِّيَابُ الْبِيضُ، وَمَنَعَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ الْمُرْتَفِعَ مِنْهَا الَّذِي يُتَزَيَّنُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْأَسْوَدُ إِذَا كَانَ مِمَّا يُتَزَيَّنُ بِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَرَخَّصَ أَصْحَابُنَا فِيمَا لَا يُتَزَيَّنُ بِهِ وَلَوْ كَانَ مَصْبُوغًا. وَاخْتُلِفَ فِي الْحَرِيرِ، فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْعُهُ مُطْلَقًا مَصْبُوغًا أَوْ غَيْرَ مَصْبُوغٍ؛ لِأَنَّهُ أُبِيحَ لِلنِّسَاءِ لِلتَّزَيُّنِ بِهِ، وَالْحَادَّةُ مَمْنُوعَةٌ مِنَ التَّزَيُّنِ، فَكَانَ فِي حَقِّهَا كَالرِّجَالِ، وَفِي التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَبِاللُّؤْلُؤِ وَنَحْوِهِ وَجْهَانِ، الْأَصَحُّ جَوَازُهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فِي الْمَقْصُودِ بِلُبْسِهِ، وَفِي الْمَقْصُودِ بِالْإِحْدَادِ، فَإِنَّهُ عِنْدَ تَأَمُّلِهَا يَتَرَجَّحُ الْمَنْعُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْضًا، وَقَدْ صَرَّحَ بِرَفْعِهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (عِنْدَ الطُّهْرِ إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا)، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: حَيْضِهَا وَفِي الَّذِي بَعْدَهُ: وَلَا تَمَسُّ طِيبًا إِلَّا أَدْنَى طُهْرِهَا إِذَا طَهُرَتْ.
قَوْلُهُ: (فِي نُبْذَةٍ) بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، أَيْ: قِطْعَةٍ، وَتُطْلَقُ عَلَى الشَّيْءِ الْيَسِيرِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ) كَذَا فِيهِ بِالْكَافِ وَبِالْإِضَافَةِ، وَفِي الَّذِي بَعْدَهُ: مِنْ قُسْطٍ وَأَظْفَارٍ بِقَافٍ وَوَاوٍ عَاطِفَةٍ وَهُوَ أَوْجُهٌ، وَخَطَّأَ عِيَاضٌ الْأَوَّلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ. وَقَالَ بَعْدَهُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْبُخَارِيُّ: الْقُسْطُ وَالْكُسْتُ مِثْلُ الْكَافُورِ وَالْقَافُورِ، أَيْ: يَجُوزُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الْكَافُ
وَالْقَافُ، وَزَادَ الْقُسْطُ أَنَّهُ يُقَالُ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ بَدَلَ الطَّاءِ، فَأَرَادَ الْمِثْلِيَّةَ فِي الْحَرْفِ الْأَوَّلِ فَقَطْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْقُسْطُ وَالْأَظْفَارُ نَوْعَانِ مَعْرُوفَانِ مِنَ الْبَخُورِ وَلَيْسَا مِنْ مَقْصُودِ الطِّيبِ، رُخِّصَ فِيهِ لِلْمُغْتَسِلَةِ مِنَ الْحَيْضِ؛ لِإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، تَتْبَعُ بِهِ أَثَرَ الدَّمِ لَا لِلتَّطَيُّبِ. قُلْتُ: الْمَقْصُودُ مِنَ التَّطَيُّبِ بِهِمَا أَنْ يُخْلَطَا فِي أَجْزَاءٍ أُخَرَ مِنْ غَيْرِهِمَا ثُمَّ تُسْحَقَ فَتَصِيرَ طِيبًا، وَالْمَقْصُودُ بِهِمَا هُنَا كَمَا قَالَ الشَّيْخُ أَنْ تَتَبَّعَ بِهِمَا أَثَرَ الدَّمِ؛ لِإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ لَا لِلتَّطَيُّبِ، وَزَعَمَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا تَسْحَقُ الْقُسْطَ وَتُلْقِيهِ فِي الْمَاءِ آخِرَ غُسْلِهَا؛ لِتَذْهَبَ رَائِحَةُ الْحَيْضِ، وَرَدَّهُ عِيَاضٌ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ يَأْبَاهُ، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ إِلَّا مِنَ التَّبَخُّرِ بِهِ، كَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهَا مِنْ جِنْسِ مَا مُنِعَتْ مِنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّزَيُّنِ أَوِ التَّطَيُّبِ كَالتَّدَهُّنِ بِالزَّيْتِ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ أَوْ غَيْرِهِ.
49 - بَاب تَلْبَسُ الْحَادَّةُ ثِيَابَ الْعَصْبِ
5342 -
حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ؛ فَإِنَّهَا لَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا، إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ.
5343 -
وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَتْنَا حَفْصَةُ، حَدَّثَتْنِي أُمُّ عَطِيَّةَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا تَمَسَّ طِيبًا إِلَّا أَدْنَى طُهْرِهَا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ وَأَظْفَارٍ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: الْقُسْطُ وَالْكُسْتُ مِثْلُ الْكَافُورِ وَالْقَافُورِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ تَلْبَسُ الْحَادَّةُ ثِيَابَ الْعَصْبِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أُمِّ عَطِيَّةَ مُصَرِّحًا بِرَفْعِهِ، وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ الْحَدِيثُ مِثْلُ حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ الْمَاضِي قَبْلَهُ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا عَلَى زَوْجٍ: فَإِنَّهَا لَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَوَقَعَ فِيهِ: فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى: ثَلَاثَ لَيَالٍ وَفِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَجُمِعَ بِإِرَادَةِ اللَّيَالِي بِأَيَّامِهَا، وَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ هُنَا عَلَى الْمُقَيَّدِ الْأَوَّلِ وَلِذَلِكَ أَنَّثَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ثَلَاثُ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا، وَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّهَا تَحُدُّ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَقَطْ، فَإِنْ مَاتَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ أَقْلَعَتْ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَإِنْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ أَوْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ لَمْ تُقْلِعْ إِلَّا فِي صَبِيحَةِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَلَا تَلْفِيقَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَ عَنْهُ الْكَثِيرَ بِوَاسِطَةٍ وَبِلَا وَاسِطَةٍ، وَهِشَامٌ هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ الْمَذْكُورُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا تَمَسُّ طِيبًا) كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مِثْلُ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنَ طَرِيقِ أَبِي حَاتِمِ الرَّازِيِّ عَنِ الْأَنْصَارِيِّ بِلَفْظِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُحِدَّ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ؛ فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَسُّ طِيبًا.
قَوْلُهُ: (إِلَّا أَدْنَى طُهْرِهَا) أَيْ: عِنْدَ قُرْبِ طُهْرِهَا أَوْ أَقَلَّ طُهْرِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَبْلُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أُمِّ حَبِيبَةَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ شَيْخُ مَالِكٍ فِيهِ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ أَيْضًا.
50 - بَاب {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا}
- إِلَى قَوْلِهِ: - {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
5344 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ، تَعْتَدُّ عِنْدَ أَهْلِ زَوْجِهَا وَاجِبًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ} قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ لَهَا تَمَامَ السَّنَةِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَصِيَّةً، إِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فَالْعِدَّةُ كَمَا هِيَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا، زَعَمَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِدَّتَهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ. وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{غَيْرَ إِخْرَاجٍ} وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ شَاءَتْ اعْتَدَّتْ عِنْدَ أَهْلِهَا وَسَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ لِقَوْلِ اللَّهِ:{فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} قَالَ عَطَاءٌ: ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَنَسَخَ السُّكْنَى، فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ وَلَا سُكْنَى لَهَا.
5345 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ ابنة أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ ابنة أَبِي سُفْيَانَ لَمَّا جَاءَهَا نَعِيُّ أَبِيهَا، دَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَحَتْ ذِرَاعَيْهَا، وَقَالَتْ: مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ؛ لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} - إِلَى قَوْلِهِ - {خَبِيرٌ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَالْأَكْثَرِ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الْآيَةَ بِكَمَالِهَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا السَّنَدِ، وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ مَا قِيلَ فِيهِ مِنْ تَعْلِيقٍ وَغَيْرِهِ، وَوَقَعَ هُنَاكَ إِسْحَاقُ غَيْرَ مَنْسُوبٍ وَفُسِّرَ بِابْنِ رَاهْوَيْهِ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ أَنَّهُ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَلَعَلَّهُ كَانَ عِنْدَهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا. وَقَوْلُهُ: كَانَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ، تَعْتَدُّ عِنْدَ أَهْلِ زَوْجِهَا وَاجِبًا كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَذَكَرَ وَاجِبًا، إِمَّا لِأَنَّهُ صِفَةُ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَمْرًا وَاجِبًا، أَوْ ضَمَّنَ الْعِدَّةَ مَعْنَى الِاعْتِدَادِ. وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: وَاجِبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَهَبَ مُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} نَزَلَتْ قَبْلَ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا: {وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} كَمَا هيَ قَبْلَهَا فِي التِّلَاوَةِ، وَكَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ اسْتِشْكَالُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ قَبْلَ الْمَنْسُوخِ، فَرَأَى أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا مُمْكِنٌ بِحُكْمٍ غَيْرِ مُتَدَافِعٍ؛ لِجَوَازِ أَنْ يُوجِبَ اللَّهُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ تَرَبُّصَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَيُوجِبُ عَلَى أَهْلِهَا أَنْ تَبْقَى عِنْدَهُمْ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً تَمَامَ الْحَوْلِ، إِنْ أَقَامَتْ عِنْدَهُمُ. اهـ مُلَخَّصًا.
قَالَ: وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَقْلُهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ غَيْرُهُ، وَلَا تَابَعَهُ عَلَيْهَا مِنَ الْفُقَهَاءِ أَحَدٌ، وَأَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ آيَةَ الْحَوْلِ مَنْسُوخَةٌ، وَأَنَّ السُّكْنَى تَبَعٌ لِلْعِدَّةِ، فَلَمَّا نُسِخَ الْحَوْلُ فِي الْعِدَّةِ بِالْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ نُسِخَتِ السُّكْنَى أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعِدَّةَ بِالْحَوْلِ نُسِخَتْ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ:{غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ نُسِخَ أَيْضًا،
وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فَذَكَرَ حَدِيثَ الْبَابِ، قَالَ: وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِهِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، بَلْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَدْرِهَا مِثْلَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ، فَارْتَفَعَ الْخِلَافُ وَاخْتَصَّ مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ بِمُدَّةِ السُّكْنَى، عَلَى أَنَّهُ أَيْضًا شَاذٌّ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
51 - بَاب مَهْرِ الْبَغِيِّ وَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
إِذَا تَزَوَّجَ مُحَرَّمَةً وَهُوَ لَا يَشْعُرُ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَهَا مَا أَخَذَتْ، وَلَيْسَ لَهَا غَيْرُهُ. ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: لَهَا صَدَاقُهَا
5346 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ.
5347 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَنَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَكَسْبِ الْبَغِيِّ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ.
5348 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَسْبِ الْإِمَاءِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ) الْبَغِيُّ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ بِوَزْنِ فَعِيلٍ مِنَ الْبِغَاءِ وَهُوَ الزِّنَا، يَسْتَوِي فِي لَفْظِهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَقِيلَ: وَزْنُهُ فَعُولٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ بَغُويٌ، أُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً، ثُمَّ كُسِرَتِ الْغَيْنُ لِأَجْلِ الْيَاءٍ الَّتِي بَعْدَهَا، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَهْرُ مَنْ نُكِحَتْ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، أَيْ: بِشُبْهَةٍ مِنْ إِخْلَالِ شَرْطٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ) هُوَ الْبَصْرِيُّ: (إِذَا تَزَوَّجَ مُحَرَّمَةً) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالرَّاءِ وَسُكُونِ الْحَاءِ بَيْنَهُمَا وَبِالضَّمِيرِ، وَبِهَذَا الثَّانِي جَزَمَ ابْنُ التِّينِ وَقَالَ: أَيْ: ذَا مَحْرَمَةٍ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ لَا يَشْعُرُ) احْتِرَازٌ عَمَّا إِذَا تَعَمَّدَ، وَبِهَذَا الْقَيْدِ وَمَفْهُومِهِ يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَهَا الْمُسَمَّى، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَهُمُ الْأَكْثَرُ.
قَوْلُهُ: (فُرِّقَ بَيْنَهُمَا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ.
قَوْلُهُ: (وَلَيْسَ لَهَا غَيْرُهُ. ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: لَهَا صَدَاقُهَا) هَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ مِثْلَهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَيْسَ لَهَا غَيْرُهُ، وَمِنْ طَرِيقِ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنِ الْحَسَنِ نَحْوُهُ وَقَالَ:: لَهَا صَدَاقُهَا، أَيْ: صَدَاقُ مِثْلِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ.
الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ - وَهُوَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرِو الْأَنْصَارِيُّ - فِي النَّهْيِ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَقَوْلُهُ:(عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ: عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ فِي لَعْنِ الْوَاشِمَةِ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَنَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَكَسْبِ الْبَغِيِّ وَلَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ.
الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي النَّهْيِ عَنْ كَسْبِ الْإِمَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ فِي آخِرِ الْبُيُوعِ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَالَ الْجُمْهُورُ: مَنْ عَقَدَ عَلَى مَحْرَمٍ وَهُوَ عَالِمٌ بِالتَّحْرِيمِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِ الْعَقْدِ، فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: الْعَقْدُ شُبْهَةٌ. وَاحْتَجَّ لَهُ بِمَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شَرِكَةٌ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ حِصَّتَهُ مِنَ الْمِلْكِ
اقْتَضَتْ حُصُولَ الشُّبْهَةِ، بِخِلَافِ الْمَحْرَمِ لَهُ فَلَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا أَصْلًا فَافْتَرَقَا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجِبُ الْحَدَّ فِي وَطْءِ الْحُرَّةِ، وَلَا يَجِبُ فِي الْمَمْلُوكَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
52 - بَاب الْمَهْرِ لِلْمَدْخُولِ عَلَيْهَا وَكَيْفَ الدُّخُولُ، أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْمَسِيسِ
5349 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: رَجُلٌ قَذَفَ امْرَأَتَهُ. فَقَالَ: فَرَّقَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلَانِ، وَقَالَ: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ فَأَبَيَا، فَقَالَ: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ فَأَبَيَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. قَالَ أَيُّوبُ: فَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: فِي الْحَدِيثِ شَيْءٌ لَا أَرَاكَ تُحَدِّثُهُ. قَالَ: قَالَ الرَّجُلُ: مَالِي. قَالَ: لَا مَالَ لَكَ؛ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ دَخَلْتَ بِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَهْرِ لِلْمَدْخُولِ عَلَيْهَا) أَيْ: وُجُوبُهُ أَوِ اسْتِحْقَاقُهُ. وَقَوْلُهُ: كَيْفَ الدُّخُولُ يُشِيرُ إِلَى الْخِلَافِ فِيهِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: فَقَدْ دَخَلْتَ بِهَا عَلَى أَنَّ مَنْ أَغْلَقَ بَابًا وَأَرْخَى سِتْرًا عَلَى الْمَرْأَةِ فَقَدْ وَجَبَ لَهَا الصَّدَاقُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَبَذْلِكَ قَالَ اللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَحْمَدُ، وَجَاءَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَابْنِ عُمَرَ، قَالَ الْكُوفِيُّونَ: الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ يَجِبُ مَعَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا سَوَاءٌ وَطِئَ أَمْ لَمْ يَطَأْ، إِلَّا إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَرِيضًا أَوْ صَائِمًا أَوْ مُحْرِمًا أَوْ كَانَتْ حَائِضًا فَلَهَا النِّصْفُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ كَامِلَةً، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الْغَالِبَ عِنْدَ إِغْلَاقِ الْبَابِ وَإِرْخَاءِ السِّتْرِ عَلَى الْمَرْأَةِ وُقُوعُ الْجِمَاعِ، فَأُقِيمَتِ الْمَظِنَّةُ مَقَامَ الْمَئِنَّةِ؛ لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ عَدَمِ الصَّبْرِ عَنِ الْوَقَاعِ غَالِبًا؛ لِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ وَتَوَفُّرِ الدَّاعِيَةِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ كَامِلًا إِلَّا بِالْجِمَاعِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وَقَالَ: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} وَجَاءَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَشُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ.
وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي حَدِيثِ الْبَابِ: فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ: دَخَلْتَ عَلَيْهَا حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ مُجَرَّدَ الدُّخُولِ يَكْفِي. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا دَخَلَ بِالْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهِ صُدِّقَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فِي بَيْتِهَا صُدِّقَ عَلَيْهَا، وَنَقَلَهُ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ. وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى كَقَوْلِ الْكُوفِيِّينَ.
قَوْلُهُ: (أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: التَّقْدِيرُ: أَوْ كَيْفَ طَلَاقُهَا؟ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْفِعْلِ عَنْ ذِكْرِ الْمَصْدَرِ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَوْ كَيْفَ الْحُكْمُ إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ؟
قَوْلُهُ: (وَالْمَسِيسُ) ثَبَتَ هَذَا فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكَيْفَ الْمَسِيسُ؟ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الدُّخُولِ، أَيْ: إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ الْمَسِيسِ.
ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ فِي قِصَّةِ الْمُلَاعَنَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَبْوَابِ اللِّعَانِ.
53 - بَاب الْمُتْعَةِ لِلَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا
؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} - إِلَى قَوْلِهِ: - {بَصِيرٌ} وَقَوْلِهِ: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * كَذَلِكَ يُبَيِّنُ
اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وَلَمْ يَذْكُرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُلَاعَنَةِ مُتْعَةً حِينَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا
5350 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالِي. قَالَ: لَا مَالَ لَكَ؛ إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ وَأَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُتْعَةِ لِلَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} - إِلَى قَوْلِهِ: - {بَصِيرٌ} كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَسَاقَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَسَاقَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي شَرْحِهِ إِلَى قَوْلِهِ:{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} - ثُمَّ قَالَ: إِلَى قَوْلِهِ - {تَعْقِلُونَ} وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وَتَقْيِيدُهُ فِي التَّرْجَمَةِ بِالَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا قَدِ اسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} وَهُوَ مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، فَنَفَى الْجُنَاحَ عَمَّنْ طَلُقَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَا مُتْعَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا نَقَصَتْ عَنِ الْمُسَمَّى، فَكَيْفَ يَثْبُتُ لَهَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَمَّنْ فُرِضَ لَهَا قَدْرٌ مَعْلُومٌ مَعَ وُجُودِ الْمَسِيسِ؟ وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَخْتَصُّ الْمُتْعَةُ بِمِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يُسَمِّ لَهَا صَدَاقًا، وَقَالَ اللَّيْثُ: لَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ أَصْلًا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ أَتْبَاعِهِ بِأَنَّهَا لَمْ تُقَدَّرْ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ عَدَمَ التَّقْدِيرِ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ كَنَفَقَةِ الْقَرِيبِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ شُرَيْحًا يَقُولُ: مَتِّعْ إِنْ كُنْتَ مُحْسِنًا، مَتِّعْ إِنْ كُنْتَ مُتَّقِيًا. وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَرْكِ الْوُجُوبِ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةً مِنِ اسْتِثْنَاءٍ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ مِثْلُهُ وَهُوَ الرَّاجِحُ، وكَذَا تَجِبُ فِي كُلِّ فُرْقَةٍ إِلَّا فِي فُرْقَةٍ وَقَعَتْ بِسَبَبٍ مِنْهَا.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ بِالْعُمُومِ، وَخَصَّهُ مَنْ فَصَلَ بِمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَذْكُرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُلَاعَنَةِ مُتْعَةً حِينَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا) قَدْ تَقَدَّمَتْ أَحَادِيثُ اللِّعَانِ مُسْتَوْفَاةَ الطُّرُقِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِلْمُتْعَةِ ذِكْرٌ، فَكَأَنَّهُ تَمَسَّكَ فِي تَرْكِ الْمُتْعَةِ لِلْمُلَاعَنَةِ بِالْعَدَمِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهَا تَقَعُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ، فَأَجَابَ عَنْ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: فَطَلَّقَهَا بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْحُكْمِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَحِينَئِذٍ فَلَمْ تَدْخُلِ الْمُلَاعَنَةُ فِي عُمُومِ الْمُطَلَّقَاتِ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ الْمُلَاعَنِ وَقَوْلَهُ فِيهِ: وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا.
خَاتِمَةٌ:
اشْتَمَلَ كِتَابُ الطَّلَاقِ وَتَوَابِعِهِ مِنَ اللِّعَانِ وَالظِّهَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى مِائَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا وَالْبَاقِي مَوْصُولٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهُ فِيهِ وَفِيمَا مَضَى اثْنَانِ وَتِسْعُونَ حَدِيثًا وَالْخَالِصُ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَحَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ، وَحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ؛ ثَلَاثَتُهَا فِي قِصَّةِ الْجَوْنِيَّةِ، وَحَدِيثِ عَلِيٍّ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنِ النَّائِمِ الْحَدِيثَ وَهُوَ مُعَلَّقٌ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فِي الْخُلْعِ، وَحَدِيثِهِ فِي زَوْجِ بَرِيرَةَ، وَحَدِيثِهِ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي نِكَاحِ الذِّمِّيَّةِ، وَحَدِيثِهِ فِي تَفْسِيرِ الْإِيلَاءِ، وَحَدِيثِ الْمِسْوَرِ فِي شَأْنِ سُبَيْعَةَ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ: كَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ فِي مَكَانٍ وَحْشٍ وَهُوَ مُعَلَّقٌ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ تِسْعُونَ أَثَرًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
69 - كِتَاب النَّفَقَاتِ
1 - بَاب فَضْلِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَهْلِ، وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل:
{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} وَقَالَ الْحَسَنُ: الْعَفْوُ: الْفَضْلُ
5351 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيَّ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، فَقُلْتُ: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُ نَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ - وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا - كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً.
5352 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "قَالَ اللَّهُ أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ"
5353 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ"
[الحديث 5353 - طرفاه في: 6006، 6007]
5354 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي وَأَنَا مَرِيضٌ بِمَكَّةَ فَقُلْتُ لِي مَالٌ أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ لَا قُلْتُ فَالشَّطْرِ قَالَ لَا قُلْتُ فَالثُّلُثِ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ وَلَعَلَّ اللَّهَ يَرْفَعُكَ يَنْتَفِعُ بِكَ نَاسٌ وَيُضَرُّ بِكَ آخَرُونَ"
قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم - كِتَابُ النَّفَقَاتِ وَفَضْلِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَهْلِ) كَذَا لِكَرِيمَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ: كِتَابُ النَّفَقَاتِ ثُمَّ الْبَسْمَلَةُ ثُمَّ قَالَ: بَابُ فَضْلِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَهْلِ وَسَقَطَ لَفْظُ: بَابٍ لِأَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَوَقَعَ لِلنَّسَفِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ: قُلِ الْعَفْوَ، وَقَدْ قَرَأَ الْأَكْثَرُ: قُلِ الْعَفْوَ، بِالنَّصْبِ، أَيْ: تُنْفِقُونَ الْعَفْوَ أَوْ: أَنْفِقُوا الْعَفْوَ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَقَبْلَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةَ: قُلِ الْعَفْوُ، بِالرَّفْعِ أَيْ: هُوَ الْعَفْوُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ: مَاذَا رَكِبْتَ أَفَرَسٌ أَمْ بَعِيرٌ؟ يَجُوزُ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: الْعَفْوُ الْفَضْلُ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِ الزُّهْدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَزَادَ: وَلَا لَوْمَ عَلَى الْكَفَافِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَنْ لَا تُجْهِدَ مَالَكَ ثُمَّ تَقْعُدَ تَسْأَلُ النَّاسِ فَعُرِفَ بِهَذَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الْفَضْلُ أَيْ: مَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَالِ فَيَمْحَقُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ مُرْسَلِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَيْهِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَثَعْلَبَةَ سَأَلَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَا: إِنَّ لَنَا أَرِقَّاءَ وَأَهْلِينَ، فَمَا نُنْفِقُ مِنْ أَمْوَالِنَا؟ فَنَزَلَتْ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ مِنْ إِيرَادِهَا فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَفْوِ مَا فَضَلَ عَنِ الْأَهْلِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا، وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْعَفْوُ: الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعَفْوُ: مَا لَا يَتَبَيَّنُ فِي الْمَالِ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّدَقَةُ. فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ كَانَ مَا جَاءَ مِنَ السَّبَبِ فِي نُزُولِهَا أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ، وَلَوْ كَانَ مُرْسَلًا. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ.
الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَهُوَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ) تَقَدَّمَ فِي الْإِيمَانِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ: أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، فَقُلْتُ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقَائِلُ: فَقُلْتُ: هُوَ شُعْبَةُ، بَيَّنَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنْ شُعْبَةَ، فَذَكَرَهُ إِلَى أَنْ قَالَ: عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ فَقَالَ: قَالَ شُعْبَةُ: قُلْتُ: قَالَ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ وَتَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِغَيْرِ مُرَاجَعَةٍ، وَذَكَرَ الْمَتْنَ مِثْلَهُ. وَفِي الْمَغَازِي عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مَسْعُودٍ الْبَدْرِيَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ الْمَتْنَ مُخْتَصَرًا، لَيْسَ فِيهِ وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا وَهَذَا مُقَيَّدٌ لِمُطْلَقِ مَا جَاءَ فِي أَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْأَهْلِ صَدَقَةٌ كَحَدِيثِ سَعْدٍ رَابِعِ أَحَادِيثِ الْبَابِ، حَيْثُ قَالَ فِيهِ: وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ وَالْمُرَادُ بِالِاحْتِسَابِ الْقَصْدُ إِلَى طَلَبِ الْأَجْرِ، وَالْمُرَادُ بِالصَّدَقَةِ الثَّوَابُ، وَإِطْلَاقُهَا عَلَيْهِ مَجَازٌ، وَقَرِينَتُهُ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الزَّوْجَةِ الْهَاشِمِيَّةِ مَثَلًا. وَهُوَ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَصْلُ الثَّوَابِ لَا فِي كَمَيِّتِهِ وَلَا كَيْفِيَّتِهِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْأَجْرَ لَا يَحْصُلُ بِالْعَمَلِ إِلَّا مَقْرُونًا بِالنِّيَّةِ، وَلِهَذَا أَدْخَلَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ أَبِي مَسْعُودٍ الْمَذْكُورَ فِي: بَابِ مَا جَاءَ أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ وَحَذَفَ الْمِقْدَارَ مِنْ قَوْلِهِ: إِذَا أَنْفَقَ لِإِرَادَةِ التَّعْمِيمِ؛ لِيَشْمَلَ الْكَثِيرَ وَالْقَلِيلَ.
وَقَوْلُهُ: عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَشْمَلَ الزَّوْجَةَ وَالْأَقَارِبَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَخْتَصَّ الزَّوْجَةَ وَيَلْحَقَ بِهِ مَنْ عَدَاهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ إِذَا ثَبَتَ فِيمَا هُوَ وَاجِبٌ، فَثُبُوتُهُ فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَوْلَى. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: الْإِنْفَاقُ عَلَى الْأَهْلِ وَاجِبٌ، وَالَّذِي يُعْطِيهِ يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ بِحَسَبِ قَصْدِهِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِهَا وَاجِبَةً وَبَيْنَ تَسْمِيَتِهَا صَدَقَةً، بَلْ هِيَ أَفْضَلُ مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: النَّفَقَةُ عَلَى الْأَهْلِ وَاجِبَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا الشَّارِعُ صَدَقَةً خَشْيَةَ أَنْ يَظُنُّوا أَنَّ قِيَامَهُمْ بِالْوَاجِبِ لَا أَجْرَ لَهُمْ فِيهِ، وَقَدْ عَرَفُوا مَا فِي الصَّدَقَةِ مِنَ الْأَجْرِ فَعَرَّفَهُمْ أَنَّهَا لَهُمْ صَدَقَةٌ، حَتَّى لَا يُخْرِجُوهَا إِلَى غَيْرِ الْأَهْلِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكْفُوهُمْ؛ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ قَبْلَ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: تَسْمِيَةُ النَّفَقَةِ صَدَقَةً مِنْ جِنْسِ تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ نِحْلَةً، فَلَمَّا كَانَ احْتِيَاجُ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ كَاحْتِيَاجِهِ إِلَيْهَا - فِي اللَّذَّةِ وَالتَّأْنِيسِ وَالتَّحْصِينِ وَطَلَبِ الْوَلَدِ - كَانَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يَجِبَ لَهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ خَصَّ الرَّجُلَ بِالْفَضْلِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِالْقِيَامِ عَلَيْهَا وَرَفَعَهُ عَلَيْهَا بِذَلِكَ دَرَجَةً، فَمِنْ ثَمَّ جَازَ إِطْلَاقُ النِّحْلَةِ عَلَى الصَّدَاقِ، وَالصَّدَقَةِ عَلَى النَّفَقَةِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ فِي الْمُوَطَّأِ وَهُوَ عَلَى شَرْطِ شَيْخِنَا فِي تَقْرِيبِ الْأَسَانِيدِ، لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْمُوَطَّأِ لَمْ يُخْرِجْهُ كَأَنْظَارِهِ، لَكِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَ اللَّهُ: أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ) أَنْفِقِ الْأُولَى بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْقَافِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ، وَالثَّانِيَةُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْقَافِ عَلَى الْجَوَابِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، وَهُوَ وَعْدٌ بِالْخُلْفِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ هُودٍ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ، وَلَفْظُهُ: قَالَ اللَّهُ: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ وَقَالَ: يَدُ اللَّهِ مَلْأَى الْحَدِيثَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الثَّانِي أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ دَاوُدَ، عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ: صَحِيحٌ تَفَرَّدَ بِهِ سَعِيدٌ، عَنْ مَالِكٍ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ الْأَوَّلَ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِي: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ الْحَدِيثَ، وَفَرَّقَهُ الْبُخَارِيُّ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ قَالَ لِي فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ: يَا ابْنَ آدَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ جِنْسُ بَنِي آدَمَ، وَيَكُونُ تَخْصِيصُهُ صلى الله عليه وسلم بِإِضَافَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ؛ لِكَوْنِهِ رَأْسَ النَّاسِ، فَتَوَجَّهَ الْخِطَابُ إِلَيْهِ؛ لِيَعْمَلَ بِهِ وَيُبَلِّغَ أُمَّتَهُ، وَفِي تَرْكِ تَقْيِيدِ النَّفَقَةِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ مَا يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ الْحَثَّ عَلَى الْإِنْفَاقِ يَشْمَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ حَدِيثِ شُعَيْبٍ مَبْسُوطًا فِي التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ: أَخْبَرَنِي ثَوْرٌ.
قَوْلُهُ: (السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) كَذَا قَالَ جَمِيعُ أَصْحَابِ مَالِكٍ عَنْهُ فِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ، وَأَكْثَرُهُمْ سَاقَهُ عَلَى لَفْظِ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ بِهِ مُرْسَلًا ثُمَّ قَالَ وَعَنْ ثَوْرٍ بِسَنَدِهِ مِثْلُهُ وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَدَبِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ مَالِكٍ كَذَلِكَ، وَاقْتَصَرَ أَبُو قُرَّةَ مُوسَى بْنُ طَارِقٍ عَلَى رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ ثَوْرٍ: فَقَالَ السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ لَهُ صَدَقَةٌ بَيَّنَ ذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُوَطَّآتِ.
قَوْلُهُ: (أَوِ الْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ) هَكَذَا لِلْجَمِيعِ عَنْ مَالِكٍ بِالشَّكِّ لَكِنْ لِأَكْثَرِهِمْ - مِثْلُ مَعْنِ بْنِ عِيسَى، وَابْنِ وَهْبٍ، وَابْنِ بُكَيْرٍ فِي آخَرِينَ - بِلَفْظِ: أَوْ كَالَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ ثَوْرٍ بِمِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ، لَكِنْ قَالَهُ بِالْوَاوِ لَا بِلَفْظِ أَوْ، وَسَيَأْتِي فِي الْأَدَبِ مِنْ رِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: كَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ، وَالصَّائِمُ لَا يُفْطِرُ شَكَّ الْقَعْنَبِيُّ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْأَكْثَرُ بِالشَّكِّ عَنْ مَالِكٍ لَكِنْ بِمَعْنَاهُ، فَيُحْمَلُ اخْتِصَاصُ الْقَعْنَبِيِّ بِاللَّفْظِ الَّذِي أَوْرَدَهُ، وَمَعْنَى السَّاعِي الَّذِي يَذْهَبُ وَيَجِيءُ فِي تَحْصِيلِ مَا يَنْفَعُ الْأَرْمَلَةَ وَالْمِسْكِينَ. وَالْأَرْمَلَةُ بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ: الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا، وَالْمِسْكِينُ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَقَوْلُهُ: الْقَائِمِ اللَّيْلَ يَجُوزُ فِي اللَّيْلِ الْحَرَكَاتُ الثَّلَاثُ، كَمَا فِي قَوْلِهِمُ: الْحَسَنُ الْوَجْهَ، وَمُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ إِمْكَانِ اتِّصَافِ الْأَهْلِ أَيِ الْأَقَارِبِ بِالصِّفَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْفَضْلُ لِمَنْ يُنْفِقُ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ بِقَرِيبٍ مِمَّنِ اتَّصَفَ بِالْوَصْفَيْنِ، فَالْمُنْفِقُ عَلَى الْمُتَّصِفِ أَوْلَى.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ:
حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْوَصَايَا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: دِينَارٌ أَعْطَيْتَهُ مِسْكِينًا، وَدِينَارٌ أَعْطَيْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ أَعْطَيْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، قَالَ: الدِّينَارُ الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ أَعْظَمُ أَجْرًا، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ عَنْ ثَوْبَانَ رَفَعَهُ: أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: بَدَأَ بِالْعِيَالِ، وَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالِهِ، يُعِفُّهُمْ وَيَنْفَعُهُمُ اللَّهُ بِهِ؟ قَالَ الطَّبَرِيُّ: الْبَدَاءَةُ فِي الْإِنْفَاقِ بِالْعِيَالِ، يَتَنَاوَلُ النَّفْسَ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْمَرْءِ مِنْ جُمْلَةِ عِيَالِهِ بَلْ هِيَ
أَعْظَمُ حَقًّا عَلَيْهِ مِنْ بَقِيَّةِ عِيَالِهِ، إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ إِحْيَاءُ غَيْرِهِ بِإِتْلَافِ نَفْسِهِ، ثُمَّ الْإِنْفَاقُ عَلَى عِيَالِهِ كَذَلِكَ.
2 - بَاب وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَهْلِ وَالْعِيَالِ
5355 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ. تَقُولُ الْمَرْأَةُ: إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي، وَيَقُولُ الْعَبْدُ: أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي، وَيَقُولُ الِابْنُ: أَطْعِمْنِي إِلَى مَنْ تَدَعُنِي؟ فَقَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: لَا، هَذَا مِنْ كِيسِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
5356 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَهْلِ وَالْعِيَالِ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَهْلِ فِي التَّرْجَمَةِ الزَّوْجَةُ، وَعَطْفُ الْعِيَالِ عَلَيْهَا مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْأَهْلِ الزَّوْجَةُ وَالْأَقَارِبُ، وَالْمُرَادُ بِالْعِيَالِ الزَّوْجَةُ وَالْخَدَمُ، فَتَكُونُ الزَّوْجَةُ ذُكِرَتْ مَرَّتَيْنِ تَأْكِيدًا لِحَقِّهَا، وَوُجُوبُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ تَقَدَّمَ دَلِيلُهُ أَوَّلَ النَّفَقَاتِ. وَمِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَنِ التَّكَسُّبِ لِحَقِّ الزَّوْجِ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْوُجُوبِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهَا فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا بِالْكِفَايَةِ، وَالشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ - كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ - إِلَى أَنَّهَا بِالْأَمْدَادِ، وَوَافَقَ الْجُمْهُورَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ كَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَبْدَانَ، وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ: هُوَ الْقِيَاسُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ مَا سَيَأْتِي فِي بَابِ إِذَا لَمْ يُنْفِقِ الرَّجُلُ فَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَ بَعْدَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ.
وَتَمَسَّكَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا لَوْ قُدِّرَتْ بِالْحَاجَةِ لَسَقَطَتْ نَفَقَةُ الْمَرِيضَةِ وَالْغَنِيَّةِ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، فَوَجَبَ إِلْحَاقُهَا بِمَا يُشْبِهُ الدَّوَامَ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الِاسْتِقْرَارِ فِي الذِّمَّةِ، وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} فَاعْتَبِرُوا الْكَفَّارَةَ بِهَا وَالْأَمْدَادُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْكَفَّارَةِ وَيَخْدِشُ فِي هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّهُمْ صَحَّحُوا الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ، وَبِأَنَّهَا لَوْ أَكَلَتْ مَعَهُ عَلَى الْعَادَةِ سَقَطَتْ بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ فِيهِمَا، وَالرَّاجِحُ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلُ أَنَّ الْوَاجِبَ الْكِفَايَةُ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ الْإِجْمَاعَ الْفِعْلِيَّ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافُهُ.
قَوْلُهُ: (أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَّلِ الزَّكَاةِ، وَبَيَانُ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَالْيَدُ الْعُلْيَا وَقَوْلُهُ: وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ أَيْ: بِمَنْ يَجِبُ عَلَيْكَ نَفَقَتُهُ، يُقَالُ: عَالَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ إِذَا مَانَهُمْ، أَيْ: قَامَ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ قُوتٍ وَكِسْوَةٍ. وَهُوَ أَمْرٌ بِتَقْدِيمِ مَا يَجِبُ عَلَى مَا لَا يَجِبُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اخْتُلِفَ فِي نَفَقَةِ مَنْ بَلَغَ مِنَ الْأَوْلَادِ وَلَا مَالَ لَهُ وَلَا كَسْبَ، فَأَوْجَبَتْ طَائِفَةٌ النَّفَقَةَ لِجَمِيعِ الْأَوْلَادِ أَطْفَالًا كَانُوا أَوْ بَالِغِينَ، إِنَاثًا وَذُكْرَانًا، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَمْوَالٌ يَسْتَغْنُونَ بِهَا، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِمْ
حَتَّى يَبْلُغَ الذَّكَرُ أَوْ تَتَزَوَّجَ الْأُنْثَى، ثُمَّ لَا نَفَقَةَ عَلَى الْأَبِ إِلَّا إِنْ كَانُوا زَمْنَى، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ أَمْوَالٌ فَلَا وُجُوبَ عَلَى الْأَبِ.
وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيُّ وَلَدَ الْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلَ بِالْوَلَدِ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: تَقُولُ الْمَرْأَةُ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ بِهِ: فَقِيلَ: مَنْ أَعُولُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: امْرَأَتَكَ، الْحَدِيثَ، وَهُوَ وَهْمٌ، وَالصَّوَابُ مَا أَخْرَجَهُ هُوَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ بِهِ، وَفِيهِ: فَسُئِلَ أَبُو هُرَيْرَةُ: مَنْ تَعُولُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَغَفَلَ عَنِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَرَجَّحَ مَا فَهِمَهُ بِمَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمَرْأَةُ تَقُولُ لِزَوْجِهَا: أَطْعِمْنِي وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِي حِفْظِ عَاصِمٍ شَيْئًا، وَالصَّوَابُ التَّفْصِيلُ، وَكَذَا وَقَعَ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِسَنَدِ حَدِيثِ الْبَابِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: تَقُولُ امْرَأَتُكَ إِلَخْ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْبَابِ: لَا هَذَا مِنْ كِيسٍ أَبِي هُرَيْرَةَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ الْمَذْكُورَةِ: قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، شَيْءٌ تَقُولُ مِنْ رَأْيكِ، أَوْ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: هَذَا مِنْ كِيسِي وَقَوْلُهُ: مِنْ كِيسِي هُوَ بِكَسْرِ الْكَافِ لِلْأَكْثَرِ، أَيْ: مِنْ حَاصِلِهِ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مِنَ اسْتِنْبَاطِهِ مِمَّا فَهِمَهُ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ مَعَ الْوَاقِعِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِفَتْحِ الْكَافِ، أَيْ: مِنْ فِطْنَتِهِ.
قَوْلُهُ: (تَقُولُ الْمَرْأَةُ: إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ بِسَنَدِ حَدِيثِ الْبَابِ: إِمَّا أَنْ تُنْفِقَ عَلَيَّ.
قَوْلُهُ: (وَيَقُولُ الْعَبْدُ: أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: وَيَقُولُ خَادِمُكَ: أَطْعِمْنِي وَإِلَّا فَبِعْنِي.
قَوْلُهُ: (وَيَقُولُ الِابْنُ: أَطْعِمْنِي، إِلَى مَنْ تَدَعُنِي؟) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ: تَكِلُنِي وَهُوَ بِمَعْنَاهُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مِنَ الْأَوْلَادِ لَهُ مَالٌ أَوْ حِرْفَةٌ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَقُولُ: إِلَى مِنْ تَدَعُنِي؟ إِنَّمَا هُوَ مَنْ لَا يَرْجِعُ إِلَى شَيْءٍ سِوَى نَفَقَةِ الْأَبِ، وَمَنْ لَهُ حِرْفَةٌ أَوْ مَالٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَوْلِ ذَلِكَ. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي، وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي مَنْ قَالَ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ إِذَا أَعْسَرَ بِالنَّفَقَةِ وَاخْتَارَتْ فِرَاقَهُ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: يَلْزَمُهَا الصَّبْرُ، وَتَتَعَلَّقُ النَّفَقَةُ بِذِمَّتِهِ. وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} وَأَجَابَ الْمُخَالِفُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْفِرَاقُ وَاجِبًا لَمَا جَازَ الْإِبْقَاءُ إِذَا رَضِيَتْ، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْإِبْقَاءِ إِذَا رَضِيَتْ، فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى عُمُومِ النَّهْيِ. وَطَعَنَ بَعْضُهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةً مِنَ التَّابِعِينَ قَالُوا: نَزَلَتْ فِيمَنْ كَانَ يُطَلِّقُ، فَإِذَا كَادَتِ الْعِدَّةُ تَنْقَضِي رَاجَعَ، وَالْجَوَابُ أَنَّ مِنْ قَاعِدَتِهِمْ: أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ. حَتَّى تَمَسَّكُوا بِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: اسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ اتْرُكْ رَفْعَ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ مَعَ أَنَّهُ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْإِشَارَةِ بِالْأَيْدِي فِي التَّشَهُّدِ بِالسَّلَامِ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَهُنَا تَمَسَّكُوا بِالسَّبَبِ.
وَاسْتُدِلَّ لِلْجُمْهُورِ أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَى الرَّقِيقِ وَالْحَيَوَانِ، فَإِنَّ مَنْ أَعْسَرَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ اتِّفَاقًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
3 - بَاب حَبْسِ الرَّجُلِ قُوتَ سَنَةٍ عَلَى أَهْلِهِ، وَكَيْفَ نَفَقَاتُ الْعِيَالِ؟
5357 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: قَالَ لِي مَعْمَرٌ: قَالَ لِي الثَّوْرِيُّ: هَلْ سَمِعْتَ فِي الرَّجُلِ يَجْمَعُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ، أَوْ بَعْضِ السَّنَةِ؟ قَالَ مَعْمَرٌ: فَلَمْ يَحْضُرْنِي، ثُمَّ ذَكَرْتُ حَدِيثًا حَدَّثَنَاهُ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ،
وَيَحْبِسُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ.
5358 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِا عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ - وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ذَكَرَ لِي ذِكْرًا مِنْ حَدِيثِهِ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ مَالِكٌ -: انْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى عُمَرَ إِذْ أَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَأُ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالزُّبَيْرِ، وَسَعْدٍ يَسْتَأْذِنُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ، قَالَ: فَدَخَلُوا وَسَلَّمُوا فَجَلَسُوا، ثُمَّ لَبِثَ يَرْفَأُ قَلِيلًا فَقَالَ لِعُمَرَ: هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمَا، فَلَمَّا دَخَلَا سَلَّمَا وَجَلَسَا، فَقَالَ عَبَّاسٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا، فَقَالَ الرَّهْطُ - عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ -: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنَهُمَا، وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنْ الْآخَرِ، فَقَالَ عُمَرُ: اتَّئِدُوا، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي بِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؛ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ؟ قَالَ الرَّهْطُ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَا: قَدْ قَالَ ذَلِكَ، قَالَ عُمَرُ: فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْمَالِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، قَالَ اللَّهُ:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ} - إِلَى قَوْلِهِ: - {قَدِيرٌ} فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ، وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، لَقَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَ هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ، فَعَمِلَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيَاتَهُ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ لِعَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ.
ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ، فعمل فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْتُمَا حِينَئِذٍ - وَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ - تَزْعُمَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَذَا وَكَذَا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِيهَا صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ جِئْتُمَانِي وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ؛ جِئْتَنِي تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ، وَأَتَى هَذَا يَسْأَلُنِي نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهُ إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلَانِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِمَا عَمِلَ بِهِ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَبِمَا عَمِلْتُ بِهِ فِيهَا مُنْذُ وُلِّيتُهَا، وَإِلَّا فَلَا تُكَلِّمَانِي فِيهَا، فَقُلْتُمَا: ادْفَعْهَا إِلَيْنَا بِذَلِكَ، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ؟ فَقَالَ الرَّهْطُ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا
بِذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ، فَوَالَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا، فَأَنَا أَكْفِيَكُمَاهَا.
قَوْلُهُ (بَابُ حَبْسِ الرَّجُلِ قُوتَ سَنَةٍ عَلَى أَهْلِهِ، وَكَيْفُ نَفَقَاتُ الْعِيَالِ؟) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عُمَرَ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِرُكْنِ التَّرْجَمَةِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّانِي وَهُوَ كَيْفِيَّةُ النَّفَقَةِ عَلَى الْعِيَالِ، فَلَمْ يَظْهَرْ لِي أَوَّلًا وَجْهُ أَخْذِهِ مِنَ الْحَدِيثِ، وَلَا رَأَيْتُ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ، ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ دَلِيلُ التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ نَفَقَةِ السَّنَةِ إِذَا عُرِفَ عُرِفَ مِنْهُ تَوْزِيعُهَا عَلَى أَيَّامِ السَّنَةِ، فَيُعْرَفُ حِصَّةُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِكُلِّ وَاحِدَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ قَدْرٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْمُغَلِّ الْمَذْكُورِ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ التَّسْوِيَةُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ) كَذَا فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَلِلْأَكْثَرِ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَسْبُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ لِي مَعْمَرٌ: قَالَ لِيَ الثَّوْرِيُّ) هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا فَاتَ ابْنَ عُيَيْنَةَ سَمَاعُهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، فَرَوَاهُ عَنْهُ بِوَاسِطَةِ مَعْمَرٍ، وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِأَتَمَّ مِنْ سِيَاقِ مَعْمَرٍ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحَشْرِ. وَأَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا عَنْ سُفْيَانَ عَمِّ مَعْمَرٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ جَمِيعًا عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ رِوَايَةَ مَعْمَرٍ وَحْدَهَا عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ رِوَايَةَ مَعْمَرٍ مُنْفَرِدَةً عَنْ سُفْيَانَ عَنْهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: كَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ مِنْ مَالِ بَنِي النَّضِيرِ، وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ مُطَوَّلًا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَفِي كُلٍّ مِنَ الْإِسْنَادَيْنِ رِوَايَةُ الْأَقْرَانِ؛ فَإِنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَعْمَرٍ قَرِينَانِ، وَعَمْرَو بْنَ دِينَارٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَذَلِكَ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْمُذَاكَرَةُ بِالْعِلْمِ، وَإِلْقَاءُ الْعَالِمِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى نَظِيرِهِ؛ لِيَسْتَخْرِجَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْحِفْظِ، وَتَثَبُّتُ مَعْمَرٍ وَإِنْصَافُهُ؛ لِكَوْنِهِ اعْتَرَفَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْضِرُ إِذْ ذَاكَ فِي الْمَسْأَلَةِ شَيْئًا، ثُمَّ لَمَّا تَذَكَّرَهَا أَخْبَرَ بِالْوَاقِعَةِ كَمَا هيَ وَلَمْ يَأْنَفْ مِمَّا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَيَحْبِسُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ) كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا.
ثُمَّ سَاقَ الْمُصَنِّفُ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ فَرْضِ الْخُمُسِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الِادِّخَارِ لِلْأَهْلِ قُوتَ سَنَةٍ، وَفِي السِّيَاقِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ: كَانَ لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ فَيُحْمَلُ عَلَى الِادِّخَارِ لِنَفْسِهِ، وَحَدِيثُ الْبَابِ عَلَى الِادِّخَارِ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ مُشَارَكَةٌ، لَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمُ الْمَقْصِدُ بِالِادِّخَارِ دُونَهُ حَتَّى لَوْ لَمْ يُوجَدُوا لَمْ يَدَّخِرْ، قَالَ: وَالْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى لِسَانِ الطَّرِيقَةِ جَعَلُوا أَوْ بَعْضُهُمْ مَا زَادَ عَلَى السَّنَةِ خَارِجًا عَنْ طَرِيقَةِ التَّوَكُّلِ، انْتَهَى.
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الطَّبَرِيِّ حَيْثُ اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ الِادِّخَارِ مُطْلَقًا خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَفِي الَّذِي نَقَلَهُ الشَّيْخُ تَقْيِيدٌ بِالسَّنَةِ اتِّبَاعًا لِلْخَبَرِ الْوَارِدِ، لَكِنِ اسْتِدْلَالُ الطَّبَرِيِّ قَوِيٌّ، بَلِ التَّقْيِيدُ بِالسَّنَةِ إِنَّمَا جَاءَ مِنْ ضَرُورَةِ الْوَاقِعِ؛ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ يَدَّخِرُ لَمْ يَكُنْ يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ إِمَّا تَمْرًا وَإِمَّا شَعِيرًا، فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ شَيْئًا مِمَّا يُدَّخَرُ كَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنْ سَنَتَيْنِ إِلَى سَنَتَيْنِ لَاقْتَضَى الْحَالُ جَوَازَ الِادِّخَارِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَعَ كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَحْتَبِسُ قُوتَ سَنَةٍ لِعِيَالِهِ فَكَانَ فِي طُولِ السَّنَةِ رُبَّمَا اسْتَجَرَّهُ مِنْهُمْ لِمَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ وَيُعَوِّضُهُمْ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ مَاتَ صلى الله عليه وسلم وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عَلَى شَعِيرٍ اقْتَرَضَهُ قُوتًا لِأَهْلِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ ادِّخَارِ الْقُوتِ لِمَنْ يَشْتَرِيهِ مِنَ السُّوقِ، قَالَ عِيَاضٌ: أَجَازَهُ قَوْمٌ وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ مِنْ مُغَلِّ الْأَرْضِ، وَمَنَعَهُ قَوْمٌ إِلَّا إِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالسِّعْرِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ إِرْفَاقًا بِالنَّاسِ. ثُمَّ مَحِلُّ هَذَا
الِاخْتِلَافِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي حَالِ الضِّيقِ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ الِادِّخَارُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَصْلًا.
4 - بَاب نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ إِذَا غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَنَفَقَةِ الْوَلَدِ
5359 -
حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنْ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ.
5360 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ إِذَا غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ هِنْدٍ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ
وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا، وَقَدْ مَرَّ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ النِّكَاحِ.
(تَنْبِيهٌ):
وَقَعَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ وَحَدِيثُهَا مُتَأَخِّرَةً عَنِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ عِنْدَ النَّسَفِيِّ.
5 - بَاب وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ - إِلَى قَوْلِهِ: - بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ،
وَقَالَ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} ، وَقَالَ:{وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى * لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} - إِلَى قَوْلِهِ: - {بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} ، وَقَالَ يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ: نَهَى اللَّهُ تعالى أَنْ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا، وَذَلِكَ أَنْ تَقُولَ الْوَالِدَةُ: لَسْتُ مُرْضِعَتَهُ، وَهِيَ أَمْثَلُ لَهُ غِذَاءً وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ وَأَرْفَقُ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَأْبَى بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ نَفْسِهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلُودِ لَهُ أَنْ يُضَارَّ بِوَلَدِهِ وَالِدَتَهُ فَيَمْنَعَهَا أَنْ تُرْضِعَهُ ضِرَارًا لَهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَسْتَرْضِعَا عَنْ طِيبِ نَفْسِ الْوَالِدِ وَالْوَالِدَةِ، {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ. فِصَالُهُ: فِطَامُهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {بَصِيرٌ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَالْأَكْثَرُ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: إِلَى قَوْلِهِ: {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وَقَالَ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} ، وَقَالَ:{وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى * لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} ، قِيلَ: دَلَّتِ الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى إِيجَابِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمُرْضِعَةِ مِنْ أَجْلِ رَضَاعِهَا الْوَلَدَ، كَانَتْ فِي الْعِصْمَةِ أَمْ لَا. وَفِي الثَّانِيَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى قَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَجِبُ ذَلِكَ فِيهَا.
وَفِي الثَّالِثَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى مِقْدَارِ الْإِنْفَاقِ وَأَنَّهُ بِالنَّظَرِ لِحَالِ الْمُنْفِقِ. وَفِيهَا أَيْضًا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْإِرْضَاعَ لَا يَتَحَتَّمُ عَلَى الْأُمِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ فِي بَابِ لَا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ الْبَحْثُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِرْضَاعَ الْحَوْلَيْنِ مُخْتَصٌّ بِمَنْ وَضَعَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَمَهْمَا وَضَعَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ نَقَصَ مِنْ مُدَّةِ
الْحَوْلَيْنِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} . وَتُعُقِّبَ بِمَنْ زَادَ حَمْلُهَا عَلَى ثَلَاثِينَ شَهْرًا؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ إِسْقَاطُ مُدَّةِ الرَّضَاعَةِ وَلَا قَائِلَ بِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَأُخِذَ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ أَنَّ مَنْ وُلِدَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَمَا فَوْقَهَا الْتَحَقَ بِالزَّوْجِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ يُونُسُ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ ابْنُ وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ عَنْ يُونُسَ قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ - فَذَكَرَهُ إِلَى قَوْلِهِ: - وَتَشَاوُرٍ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عُقَيلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ نَحْوَهُ. وَقَوْلُهُ: ضِرَارًا لَهَا إِلَى غَيْرِهَا يَتَعَلَّقُ بِمَنْعِهَا، أَيْ: مَنْعُهَا يَنْتَهِي إِلَى رَضَاعِ غَيْرِهَا، فَإِذَا رَضِيَتْ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ: الْوَالِدَاتُ أَحَقُّ بِرَضَاعِ أَوْلَادِهِنَّ، وَلَيْسَ لِوَالِدَةٍ أَنْ تُضَارَّ وَلَدَهَا فَتَأْبَى رَضَاعَهُ، وَهِيَ تُعْطَى عَلَيْهِ مَا يُعْطَى غَيْرُهَا، وَلَيْسَ لِلْمَوْلُودِ لَهُ أَنْ يَنْزِعَ وَلَدَهُ مِنْهَا ضِرَارًا لَهَا وَهِيَ تَقْبَلُ مِنَ الْأَجْرِ مَا يُعْطَى غَيْرُهَا، فَإِنْ أَرَادَا فِصَالَ الْوَلَدِ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ دُونَ الْحَوْلَيْنِ فَلَا بَأْسَ.
قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ: (فِصَالُهُ: فِطَامُهُ) هُوَ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْهُ وَعَنِ السُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَالْفِصَالُ مَصْدَرٌ يُقَالُ: فَاصَلْتُهُ أُفَاصِلُهُ مُفَاصَلَةً وَفِصَالًا إِذَا فَارَقْتُهُ مِنْ خُلْطَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا، وَفِصَالُ الْوَلَدِ مَنْعُهُ مِنْ شُرْبِ اللَّبَنِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} ، لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِلْزَامِ، كَقَوْلِكِ: حَسْبُكُ دِرْهَمٌ، أَيِ: اكْتَفِ بِدِرْهَمٍ، قَالَ: وَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَالِدَةِ إِرْضَاعُ وَلَدِهَا إِذَا كَانَ أَبُوهُ حَيًّا مُوسِرًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} قَالَ: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا إِرْضَاعُ وَلَدِهَا، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} ، سِيقَ لِمَبْلَغِ غَايَةِ الرَّضَاعَةِ الَّتِي مَعَ اخْتِلَافِ الْوَالِدَيْنِ فِي رَضَاعِ الْمَوْلُودِ جُعِلَتْ حَدًّا فَاصِلًا.
قُلْتُ: وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ أَوْ وَقْفِهِ عَلَى عِكْرِمَةَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلٌ ثَالِثٌ أَنَّ الْحَوْلَيْنِ لِغَايَةِ الْإِرْضَاعِ، وَأَنْ لَا رَضَاعَ بَعْدَهُمَا، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ الزُّهْرِيِّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ أَخْرَجَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا كَانَ مِنْ رَضَاعَةٍ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ فَلَا رَضَاعَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِثْلُهُ، ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ إِرْضَاعُهَا الْحَوْلَيْنِ فَرْضًا، ثُمَّ خُفِّفَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي هُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ، وَلِهَذَا عَقَّبَ الْآيَةَ الْأُولَى بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} ، وَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ مِنْ أَنَّ الْخَبَرَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، لَكِنْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهَا خَبَرٌ عَنِ الْمَشْرُوعِيَّةِ؛ فَإِنَّ بَعْضَ الْوَالِدَاتِ يَجِبُ عَلَيْهِنَّ ذَلِكَ وَبَعْضُهُنَّ لَا يَجِبُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى عُمُومِهِ، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي الْعُدُولِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالْإِلْزَامِ كَأَنْ يُقَالَ: وَعَلَى الْوَالِدَاتِ إِرْضَاعُ أَوْلَادِهِنَّ كَمَا جَاءَ بَعْدَهُ، {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَالِدَاتِ هُنَا الْمَبْتُوتَاتُ الْمُطَلَّقَاتُ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ أُجْرَةَ
الرَّضَاعِ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا خَرَجَتِ الْمُطَلَّقَةُ مِنَ الْعِدَّةِ، وَالْأُمُّ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ أَوْلَى بِالرَّضَاعَةِ إِلَّا إِنْ وَجَدَ الْأَبُ مَنْ يُرْضِعُ لَهُ بِدُونِ مَا سَأَلَتْ، إِلَّا أَنْ لَا يَقْبَلَ الْوَلَدُ غَيْرَهَا فَتُجْبَرُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْمَنْقُولِ هُنَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُتَزَوِّجَةِ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْكُوفِيِّينَ: لَا يَلْزَمُهَا إِرْضَاعُ وَلَدِهَا، وَقَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى مِنَ الْكُوفِيِّينَ: تُجْبَرُ عَلَى إِرْضَاعِ وَلَدِهَا مَا دَامَتْ مُتَزَوِّجَةً بِوَالِدِهِ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا لَا تُجْبَرُ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنْ كَانَ لِحُرْمَةِ الْوَلَدِ فَلَا يُتَّجَهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُجْبَرُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَتْ مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا بِإِجْمَاعٍ، مَعَ أَنَّ حُرْمَةَ الْوَلَدِيَّةِ مَوْجُودَةٌ، وَإِنْ كَانَ لِحُرْمَةِ الزَّوْجِ لَمْ يُتَّجَهْ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا فِي
حَقِّ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَفِي حَقِّ غَيْرِهِ أَوْلَى اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لِحُرْمَتِهَا جَمِيعًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْ مَبَاحِثِ الرَّضَاعِ فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
6 - بَاب عَمَلِ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا
5361 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَكَمُ، عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، أَنَّ فَاطِمَةَ عليهما السلام أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنْ الرَّحَى، وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ، فَلَمْ تُصَادِقهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ، قَالَ: فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا نَقُومُ، فَقَالَ: عَلَى مَكَانِكُمَا، فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا - أَوْ أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا - فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ عَمَلِ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَلِيٍّ فِي طَلَبِ فَاطِمَةَ الْخَادِمَ، وَالْحُجَّةُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي أَوَائِلِ فَرْضِ الْخُمُسِ، وَأَنَّ شَرْحَهُ يَأْتِي فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَسَأَذْكُرُ شَيْئًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ. وَيُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا أَنَّ الَّذِي يُلَازِمُ ذِكْرَ اللَّهِ يُعْطَى قُوَّةً أَعْظَمَ مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي يَعْمَلُهَا لَهُ الْخَادِمُ، أَوْ تَسْهُلُ الْأُمُورُ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَكُونُ تَعَاطِيهِ أُمُورَهُ أَسْهَلَ مِنْ تَعَاطِي الْخَادِمِ لَهَا، هَكَذَا اسْتَنْبَطَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْحَدِيثِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ نَفْعَ التَّسْبِيحِ مُخْتَصٌّ بِالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَنَفْعُ الْخَادِمِ مُخْتَصٌّ بِالدَّارِ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى.
7 - بَاب خَادِمِ الْمَرْأَةِ
5362 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، سَمِعَ مُجَاهِدًا، سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى يُحَدِّثُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّ فَاطِمَةَ عليها السلام أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَقَالَ: أَلَا أُخْبِرُكِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْهُ؟ تُسَبِّحِينَ اللَّهَ عِنْدَ مَنَامِكِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدِينَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرِينَ اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ. ثُمَّ قَالَ سُفْيَانُ: إِحْدَاهُنَّ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ، فَمَا تَرَكْتُهَا بَعْدُ، قِيلَ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قَالَ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ خَادِمِ الْمَرْأَةِ) أَيْ: هَلْ يُشْرَعُ وَيَلْزَمُ الزَّوْجَ إِخْدَامُهَا؟ ذَكَرَ حَدِيثَ عَلِيٍّ الْمَذْكُورَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ وَسِيَاقُهُ أَخْصَرُ مِنْهُ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتْ لَهَا طَاقَةٌ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى خِدْمَةِ بَيْتِهَا فِي خَبْزٍ أَوْ طَحْنٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا أَنَّ مِثْلَهَا يَلِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ.
وَوَجْهُ الْأَخْذِ أَنَّ فَاطِمَةَ لَمَّا سَأَلَتْ أَبَاهَا صلى الله عليه وسلم الْخَادِمَ لَمْ يَأْمُرْ زَوْجَهَا بِأَنْ يَكْفِيَهَا ذَلِكَ، إِمَّا بِإِخْدَامِهَا خَادِمًا، أَوْ بِاسْتِئْجَارِ مَنْ يَقُومُ بِذَلِكَ، أَوْ بِتَعَاطِي ذَلِكَ
بِنَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَتْ كِفَايَةُ ذَلِكَ إِلَى عَلِيٍّ لَأَمَرَهُ بِهِ، كَمَا أَمَرَهُ أَنْ يَسُوقَ إِلَيْهَا صَدَاقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، مَعَ أَنَّ سَوْقَ الصَّدَاقِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ إِذَا رَضِيَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تُؤَخِّرَهُ، فَكَيْفَ يَأْمُرُهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ وَيَتْرُكُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْوَاجِبِ؟ وَحَكَى ابْنُ حَبِيبٍ، عَنْ أَصْبَغَ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّ خِدْمَةَ الْبَيْتِ تَلْزَمُ الْمَرْأَةَ وَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ ذَاتَ قَدْرٍ وَشَرَفٍ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا، قَالَ: وَلِذَلِكَ أَلْزَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ بِالْخِدْمَةِ الْبَاطِنَةِ وَعَلِيًّا بِالْخِدْمَةِ الظَّاهِرَةِ.
وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ بَعْضَ الشُّيُوخِ قَالَ: لَا نَعْلَمُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْآثَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى عَلَى فَاطِمَةَ بِالْخِدْمَةِ الْبَاطِنَةِ، وَإِنَّمَا جَرَى الْأَمْرُ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا تَعَارَفُوهُ مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَجَمِيلِ الْأَخْلَاقِ، وَأَمَّا أَنْ تُجْبَرَ الْمَرْأَةُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْخِدْمَةِ فَلَا أَصْلَ لَهُ، بَلِ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ مُؤْنَةَ الزَّوْجَةِ كُلَّهَا. وَنَقَلَ الطَّحَاوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ لَيْسَ لَهُ إِخْرَاجُ خَادِمِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْخَادِمِ عَلَى حَسْبِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ: يُفْرَضُ لَهَا وَلِخَادِمِهَا النَّفَقَةُ إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ تُخْدَمُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُفْرَضُ لَهَا وَلِخَادِمِهَا إِذَا كَانَتْ خَطِيرَةً، وَشَذَّ أَهْلُ الظَّاهِرِ فَقَالُوا: لَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُخْدِمَهَا وَلَوْ كَانَتْ بِنْتَ الْخَلِيفَةِ، وَحُجَّةُ الْجَمَاعَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَإِذَا احْتَاجَتْ إِلَى مَنْ يَخْدِمُهَا فَامْتَنَعَ لَمْ يُعَاشِرْهَا بِالْمَعْرُوفِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْ مَبَاحِثِ هَذَا الْبَابِ فِي بَابِ الْغَيْرَةِ مِنْ أَوَاخِرِ النِّكَاحِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ.
8 - بَاب خِدْمَةِ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ
5363 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ خِدْمَةِ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ) أَيْ: بِنَفْسِهِ.
قَوْلُهُ: (كَانَ يَكُونُ) سَقَطَ لَفْظُ: يَكُونُ مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُ الْمَهْنَةِ وَأَنَّهُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: ضُبِطَ فِي الْأُمَّهَاتِ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَضَبَطَهُ الْهَرَوِيُّ بِالْفَتْحِ، وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ عَنْ شِمْرٍ عَنْ مَشَايِخِهِ أَنَّ كَسْرَهَا خَطَأٌ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مَعَ شَرْحِ بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي أَبْوَابِ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ.
تَنْبِيهٌ:
وَقَعَ هُنَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ تَرْجَمَةٌ نَصُّهَا: بَابُ هَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ فِي بَنِي أَبِي سَلَمَةَ، وَبَعْدَهُ الْحَدِيثُ الْآتِي فِي: بَابِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ وَالرَّاجِحُ مَا عِنْدَ الْجَمَاعَةِ
9 - بَاب إِذَا لَمْ يُنْفِقْ الرَّجُلُ فَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ
5364 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ هِنْدًا بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، فَقَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا لَمْ يُنْفِقِ الرَّجُلُ فَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ) أَخَذَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ
التَّرْجَمَةَ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ لِتَكْمِلَةِ النَّفَقَةِ، فَكَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ جَمِيعِ النَّفَقَةِ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ.
قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ هِنْدًا بِنْتَ عُتْبَةَ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ هِنْدًا بِالصَّرْفِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ الْمَاضِيَةِ فِي الْمَظَالِمِ بِغَيْرِ صَرْفٍ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ أَيِ: ابْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. وَفِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ هِشَامٍ: أَنَّ هِنْدًا أُمَّ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَتْ هِنْدٌ لَمَّا قُتِلَ أَبُوهَا عُتْبَةُ وَعَمُّهَا شَيْبَةُ وَأَخُوهَا الْوَلِيدُ يَوْمَ بَدْرٍ شَقَّ عَلَيْهَا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَقُتِلَ حَمْزَةُ فَرِحَتْ بِذَلِكَ، وَعَمَدَتْ إِلَى بَطْنِهِ فَشَقَّتْهَا، وَأَخَذَتْ كَبِدَهُ فَلَاكَتْهَا ثُمَّ لَفَظَتْهَا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ وَدَخَلَ أَبُو سُفْيَانَ مَكَّةَ مُسْلِمًا - بَعْدَ أَنْ أَسَرَتْهُ خَيْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَأَجَارَهُ الْعَبَّاسُ - غَضِبَتْ هِنْدٌ لِأَجْلِ إِسْلَامِهِ، وَأَخَذَتْ بِلِحْيَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ جَاءَتْ فَأَسْلَمَتْ وَبَايَعَتْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْمَنَاقِبِ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ خِبَاءٍ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، وَمَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ. فَقَالَ: أَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ.
ثُمَّ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ إِلَخْ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهَا مَاتَتْ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ يَوْمَ مَاتَ أَبُو قُحَافَةَ وَالِدُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا عَاشَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَرَوَى عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنَّ عُمَرَ اسْتَعْمَلَ مُعَاوِيَةَ عَلَى عَمَلِ أَخِيهِ، فَلَمْ يَزَلْ وَالِيًا لِعُمَرَ حَتَّى قُتِلَ وَاسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ فَأَقَرَّهُ عَلَى عَمَلِهِ وَأَفْرَدَهُ بِوِلَايَةِ الشَّامِ جَمِيعًا، وَشَخَصَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَمَعَهُ ابْنَاهُ عُتْبَةُ، وَعَنْبَسَةُ، فَكَتَبَتْ هِنْدٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ قَدْ قَدِمَ عَلَيْكَ أَبُوكَ وَأَخَوَاكَ، فَاحْمِلْ أَبَاكَ عَلَى فَرَسٍ وَأَعْطِهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَاحْمِلْ عُتْبَةَ عَلَى بَغْلٍ وَأَعْطِهِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَاحْمِلْ عَنْبَسَةَ عَلَى حِمَارٍ وَأَعْطِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ هَذَا عَنْ رَأْيِ هِنْدٍ قُلْتُ: كَانَ عُتْبَةُ مِنْهَا وَعَنْبَسَةُ مِنْ غَيْرِهَا أُمُّهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ أَبِي أُزَيْهِرٍ الْأَزْدِيِّ. وَفِي الْأَمْثَالِ لِلْمَيْدَانِيِّ أَنَّهَا عَاشَتْ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي سُفْيَانَ؛ فَإِنَّهُ ذَكَرَ قِصَّةً فِيهَا أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ مُعَاوِيَةَ أَنْ يُزَوِّجَهُ أُمَّهُ فَقَالَ: إِنَّهَا قَعَدَتْ عَنِ الْوَلَدِ. وَكَانَتْ وَفَاةُ أَبِي سُفْيَانَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ) هُوَ صَخْرُ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ زَوْجُهَا، وَكَانَ قَدْ رَأَسَ فِي قُرَيْشٍ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَسَارَ بِهِمْ فِي أُحُدٍ، وَسَاقَ الْأَحْزَابَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، ثُمَّ أَسْلَمَ لَيْلَةَ الْفَتْحِ، كَمَا تَقَدَّمَ مَبْسُوطًا فِي الْمَغَازِي.
قَوْلُهُ: (رَجُلٌ شَحِيحٌ) تَقَدَّمَ قَبْلُ بِثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ: رَجُلٌ مِسِّيكٌ وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ فَالْأَكْثَرُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وَقِيلَ: بِوَزْنِ شَحِيحٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَشْهَرَ فِي الرِّوَايَةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِي كَوْنُ الثَّانِي أَصَحَّ؛ فَإِنَّ الْآخَرَ مُسْتَعْمَلٌ كَثِيرًا مِثْلُ شِرِّيبٍ وَسِكِّيرٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُخَفَّفُ أيضا فِيهِ نَوْعُ مُبَالَغَةٍ لَكِنَّ الْمُشَدَّدَ أَبْلَغُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِبَارَةُ النِّهَايَةِ فِي كِتَابِ الْأَشْخَاصِ حَيْثُ قَالَ: الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ الْفَتْحُ وَالتَّخْفِيفُ. وَفِي كُتُبِ الْمُحَدِّثِينَ الْكَسْرُ وَالتَّشْدِيدُ. وَالشُّحُّ: الْبُخْلُ مَعَ حِرْصٍ، وَالشُّحُّ أَعَمُّ مِنَ الْبُخْلِ؛ لِأَنَّ الْبُخْلَ يَخْتَصُّ بِمَنْعِ الْمَالِ وَالشُّحُّ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَقِيلَ: الشُّحُّ لَازِمٌ كَالطَّبْعِ، وَالْبُخْلُ غَيْرُ لَازِمٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَمْ تُرِدْ هِنْدٌ وَصْفَ أَبِي سُفْيَانَ بِالشُّحِّ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَإِنَّمَا وَصَفَتْ حَالَهَا مَعَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ يُقَتِّرُ عَلَيْهَا وَعَلَى أَوْلَادِهَا، وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ الْبُخْلَ مُطْلَقًا؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الرُّؤَسَاءِ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَعَ أَهْلِهِ، وَيُؤْثِرُ الْأَجَانِبَ اسْتِئْلَافًا لَهُمْ. قُلْتُ: وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ لِقَوْلِ هِنْدٍ هَذَا سَبَبٌ يَأْتِي ذِكْرُهُ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ) زَادَ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: سِرًّا، فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ؟ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ: فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِي
لَهُ عِيَالَنَا؟
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي الْمَظَالِمِ: لَا حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ بِالْمَعْرُوفِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ: خُذِي أَمْرُ إِبَاحَةٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَا حَرَجَ، وَالْمُرَادُ بِالْمَعْرُوفِ الْقَدْرُ الَّذِي عُرِفَ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ الْكِفَايَةُ، قَالَ: وَهَذِهِ الْإِبَاحَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً لَفْظًا لَكِنَّهَا مُقَيَّدَةٌ مَعْنًى، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ صَحَّ مَا ذَكَرْتِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ صِدْقَهَا فِيمَا ذَكَرَتْ فَاسْتَغْنَى عَنِ التَّقْيِيدِ.
وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ ذِكْرِ الْإِنْسَانِ بِمَا لَا يُعْجِبُهُ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِفْتَاءِ وَالِاشْتِكَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُبَاحُ فِيهَا الْغِيبَةُ. وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ جَوَازُ ذِكْرِ الْإِنْسَانِ بِالتَّعْظِيمِ كَاللَّقَبِ وَالْكُنْيَةِ، كَذَا قِيلَ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ مَشْهُورًا بِكُنْيَتِهِ دُونَ اسْمِهِ، فَلَا يَدُلُّ قَوْلُهَا: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ عَلَى إِرَادَةِ التَّعْظِيمِ. وَفِيهِ جَوَازُ اسْتِمَاعِ كَلَامِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فِي غِيبَةِ الْآخِرِ. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ نَسَبَ إِلَى نَفْسِهِ أَمْرًا عَلَيْهِ فِيهِ غَضَاضَةٌ فَلْيَقْرُنْهُ بِمَا يُقِيمُ عُذْرَهُ فِي ذَلِكَ. وَفِيهِ جَوَازُ سَمَاعِ كَلَامِ الْأَجْنَبِيَّةِ عِنْدَ الْحُكْمِ وَالْإِفْتَاءِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إِنَّ صَوْتَهَا عَوْرَةٌ، وَيَقُولُ جَازَ هُنَا لِلضَّرُورَةِ. وَفِيهِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ فِي قَبْضِ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ إِنَّهُ مُنْفِقٌ لَكُلِّفَتْ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى إِثْبَاتِ عَدَمِ الْكِفَايَةِ، وَأَجَابَ الْمَازِرِيُّ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَعْلِيقِ الْفُتْيَا لَا الْقَضَاءِ. وَفِيهِ وُجُوبُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعَيَّ حَكَاهُ الْجُوَيْنِيُّ، وَالْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَدَّرَهَا بِالْأَمْدَادِ فَعَلَى الْمُوسِرِ كُلَّ يَوْمٍ مُدَّانِ وَالْمُتَوَسِّطِ مُدٌّ وَنِصْفٌ وَالْمُعْسِرِ مُدٌّ، وَتَقْرِيرُهَا بِالْأَمْدَادِ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى أَصْحَابِنَا.
قُلْتُ: وَلَيْسَ صَرِيحًا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، لَكِنَّ التَّقْدِيرَ بِالْأَمْدَادِ مُحْتَاجٌ إِلَى دَلِيلٍ فَإِنْ ثَبَتَ حُمِلَتِ الْكِفَايَةُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُقَدَّرِ بِالْأَمْدَادِ، فَكَأَنَّهُ كَانَ يُعْطِيهَا وَهُوَ مُوسِرٌ مَا يُعْطِي الْمُتَوَسِّطُ فَأَذِنَ لَهَا فِي أَخْذِ التَّكْمِلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَهْلِ وَفِيهِ اعْتِبَارُ النَّفَقَةِ بِحَالِ الزَّوْجَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَاخْتَارَ الْخَصَّافُ مِنْهُمْ أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الزَّوْجَيْنِ مَعًا، قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَالْحُجَّةُ فِيهِ ضَمُّ قَوْلِهِ تَعَالَى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} الْآيَةَ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَذَهَبَتِ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجِ تَمَسُّكًا بِالْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَفِيهِ وُجُوبُ نَفَقَةِ الْأَوْلَادِ بِشَرْطِ الْحَاجَةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اعْتِبَارُ الصِّغَرِ أَوِ الزَّمَانَةِ. وَفِيهِ وُجُوبُ نَفَقَةِ خَادِمِ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ رَئِيسَ قَوْمِهِ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ وَأَوْلَادَهُ النَّفَقَةَ، فَكَأَنَّهُ كَانَ يُعْطِيهَا قَدْرَ كِفَايَتِهَا وَوَلَدِهَا دُونَ مَنْ يَخْدِمُهُمْ، فَأَضَافَتْ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهَا؛ لِأَنَّ خَادِمَهَا دَاخِلٌ فِي جُمْلَتِهَا. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُتَمَسَّكَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الِابْنِ عَلَى الْأَبِ وَلَوْ كَانَ الِابْنُ كَبِيرًا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ وَلَا عُمُومَ فِي الْأَفْعَالِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهَا: بَنِيَّ بَعْضَهُمْ، أَيْ، مَنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا زَمِنًا لَا جَمِيعَهُمْ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ حَقٌّ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنِ اسْتِيفَائِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ قَدْرَ حَقِّهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَتُسَمَّى مَسْأَلَةَ الظَّفَرِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ لَا يَأْخُذُ غَيْرَ جِنْسِ حَقِّهِ إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَ جِنْسُ حَقِّهِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَنْعُ، وَعَنْهُ يَأْخُذُ جِنْسَ حَقِّهِ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ إِلَّا أَحَدُ النَّقْدَيْنِ بَدَلَ الْآخَرِ، وَعَنْ مَالِكٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ كَهَذِهِ الْآرَاءِ، وَعَنْ أَحْمَدَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَشْخَاصِ وَالْمُلَازَمَةِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ هِنْدٍ جَوَازُ أَخْذِ الْجِنْسِ وَغَيْرِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ مَنْزِلَ الشَّحِيحِ لَا يَجْمَعُ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَسَائِرِ
الْمَرَافِقِ اللَّازِمَةِ، وَقَدْ أَطْلَقَ لَهَا الْإِذْنَ فِي أَخْذِ الْكِفَايَةِ مِنْ مَالِهِ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْلُهَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ عَلَى بَيْتِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي.
قُلْتُ: وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِمَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّ بَيْتَ الشَّحِيحَ لَا يَحْتَوِي عَلَى كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا نَفَتِ الْكِفَايَةَ مُطْلَقًا، فَتَنَاوَلَ جِنْسَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَدَعْوَاهُ أَنَّ مَنْزِلَ الشَّحِيحِ كَذَلِكَ مُسَلَّمَةٌ، لَكِنْ مِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ مَنْزِلَ أَبِي سُفْيَانَ كَانَ كَذَلِكَ؟ وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ الْقِصَّةِ أَنَّ مَنْزِلَهُ كَانَ فِيهِ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يُمَكِّنُهَا إِلَّا مِنَ الْقَدْرِ الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَتْ أَنْ تَأْخُذَ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، وَقَدْ وَجَّهَ ابْنُ الْمُنِيرِ قَوْلَهُ: إِنَّ فِي قِصَّةِ هِنْدٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ بِحَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى التَّقْوِيمِ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَذِنَ لِهِنْدٍ أَنْ تَفْرِضَ لِنَفْسِهَا وَعِيَالِهَا قَدْرَ الْوَاجِبِ، وَهَذَا هُوَ التَّقْوِيمُ بِعَيْنِهِ بَلْ هُوَ أَدَقُّ مِنْهُ وَأَعْسَرُ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ: مَدْخَلًا فِي الْقِيَامِ عَلَى أَوْلَادِهَا وَكَفَالَتِهِمْ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ اعْتِمَادُ الْعُرْفِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَحْدِيدَ فِيهَا مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ لَفْظًا وَعَمِلَ بِهِ مَعْنًى كَالشَّافِعِيَّةِ، كَذَا قَالَ، وَالشَّافِعِيَّةُ إِنَّمَا أَنْكَرُوا الْعَمَلَ بِالْعُرْفِ إِذَا عَارَضَهُ النَّصُّ الشَّرْعِيُّ، أَوْ لَمْ يُرْشِدِ النَّصُّ الشَّرْعِيُّ إِلَى الْعُرْفِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْخَطَّابِيُّ عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ تَرْجَمَ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ وَأَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ فَأَحْتَاجُ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ، قَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ جَمْعًا مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمِنْ غَيْرِهِمُ اسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ لِذَلِكَ، حَتَّى قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى الْحَنَفِيَّةِ فِي مَنْعِهِمُ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ بِقِصَّةِ هِنْدٍ، وَكَانَ ذَلِكَ قَضَاءً مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى زَوْجِهَا وَهُوَ غَائِبٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ بِمَكَّةَ وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حَاضِرًا بِهَا، وَشَرْطُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ أَنْ يَكُونَ غَائِبًا عَنِ الْبَلَدِ أَوْ مُسْتَتِرًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَوْ مُتَعَزِّزًا، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الشَّرْطُ فِي أَبِي سُفْيَانَ مَوْجُودًا، فَلَا يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ بَلْ هُوَ إِفْتَاءٌ، وَقَدْ وَقَعَ فِي كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ أَنَّهُ كَانَ إِفْتَاءً. اهـ.
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ غَائِبًا بِقَوْلِ هِنْدٍ: لَا يُعْطِينِي إِذْ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَقَالَتْ: لَا يُنْفِقُ عَلَيَّ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي يُبَاشِرُ الْإِنْفَاقَ. وَهَذَا ضَعِيفٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَادَتُهُ أَنْ يُعْطِيَهَا جُمْلَةً وَيَأْذَنَ لَهَا فِي الْإِنْفَاقِ مُفَرَّقًا. نَعَمْ قَوْلُ النَّوَوِيِّ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ حَاضِرًا بِمَكَّةَ حَقٌّ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى الْجَزْمِ بِذَلِكَ السُّهَيْلِيُّ، بَلْ أَوْرَدَ أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ جَالِسًا مَعَهَا فِي الْمَجْلِسِ، لَكِنْ لَمْ يَسُقْ إِسْنَادَهُ، وَقَدْ ظَفِرْتُ بِهِ فِي طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ أَخْرَجَهُ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، إِلَّا أَنَّهُ مُرْسَلٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ هِنْدًا لَمَّا بَايَعَتْ وَجَاءَ قَوْلُهُ: {وَلا يَسْرِقْنَ} قَالَتْ: قَدْ كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَمَا أَصَبْتِ مِنْ مَالِي فَهُوَ حَلَالٌ لَكِ.
قُلْتُ: وَيُمْكِنُ تَعَدُّدُ الْقِصَّةِ وَأَنَّ هَذَا وَقَعَ لَمَّا بَايَعَتْ ثُمَّ جَاءَتْ مَرَّةً أُخْرَى فَسَأَلَتْ عَنِ الْحُكْمِ، وَتَكُونُ فَهِمَتْ مِنَ الْأَوَّلِ إِحْلَالَ أَبِي سُفْيَانِ لَهَا مَا مَضَى فَسَأَلَتْ عَمَّا يُسْتَقْبَلُ، لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَتْ هِنْدٌ لِأَبِي سُفْيَانَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُبَايِعَ، قَالَ: فَإِنْ فَعَلْتِ فَاذْهَبِي مَعَكِ بِرَجُلٍ مِنْ قَوْمِكِ، فَذَهَبَتْ إِلَى عُثْمَانَ فَذَهَبَ مَعَهَا، فَدَخَلَتْ مُنْتَقِبَةً فَقَالَ: بَايِعِي أَنْ لَا تُشْرِكِي الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَلَمَّا فَرَغَتْ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ بَخِيلٌ - الْحَدِيثَ - قَالَ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا سُفْيَانَ؟ قَالَ: أَمَّا يَابِسًا فَلَا، وَأَمَّا رَطْبًا فَأُحِلُّهُ وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ تَفَرَّدَ بِهِ بِهَذَا السِّيَاقِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَوَّلُ حَدِيثِهِ يَقْتَضِي أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمْ يَكُنْ
مَعَهَا وَآخِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَاضِرًا، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا تَوَجَّهَ وَحْدَهُ أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ لَمَّا اشْتَكَتْ مِنْهُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي تَفْسِيرِ الْمُمْتَحِنَةِ مِنَ الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ ذَهَبَ بِهَا وَبِأُخْتِهَا هِنْدٍ يُبَايِعَانِ، فَلَمَّا اشْتَرَطَ وَلَا يَسْرِقْنَ قَالَتْ هِنْدٌ: لَا أُبَايِعُكَ عَلَى السَّرِقَةِ، إِنِّي أَسْرِقُ مِنْ زَوْجِي، فَكَفَّ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ يَتَحَلَّلُ لَهَا مِنْهُ، فَقَالَ: أَمَّا الرَّطْبُ فَنَعَمْ وَأَمَّا الْيَابِسُ فَلَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُرِدْ أَنَّ قِصَّةَ هِنْدٍ كَانَ
قَضَاءً عَلَى أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ غَائِبٌ، بَلِ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى صِحَّةِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَضَاءً عَلَى غَائِبٍ بِشَرْطِهِ، بَلْ لَمَّا كَانَ أَبُو سُفْيَانَ غَيْرَ حَاضِرٍ مَعَهَا فِي الْمَجْلِسِ وَأَذِنَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ قَدْرَ كِفَايَتِهَا كَانَ فِي ذَلِكَ نَوْعُ قَضَاءٍ عَلَى الْغَائِبِ فَيَحْتَاجُ مَنْ مَنَعَهُ أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذَا، وَقَدِ انْبَنَى عَلَى هَذَا خِلَافٌ يَتَفَرَّعُ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَبَ إِذَا غَابَ أَوِ امْتَنَعَ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَذِنَ الْقَاضِي لِلْأُمِّ إِذَا كَانَتْ فِيهَا أَهْلِيَّةُ ذَلِكَ فِي الْأَخْذِ مِنْ مَالِ الْأَبِ إِنْ أَمْكَنَ أَوْ فِي الِاسْتِقْرَاضِ عَلَيْهِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَى الصَّغِيرِ، وَهَلْ لَهَا الِاسْتِقْلَالُ بِذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْقَاضِي؟ وَجْهَانِ يَنْبَنِيَانِ عَلَى الْخِلَافِ فِي قِصَّةِ هِنْدٍ، فَإِنْ كَانَتْ إِفْتَاءً جَازَ لَهَا الْأَخْذُ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَإِنْ كَانَتْ قَضَاءً فَلَا يَجُوزُ إِلَّا بِإِذْنِ الْقَاضِي.
وَمِمَّا رَجَّحَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ قَضَاءً لَا فُتْيَا التَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ حَيْثُ قَالَ لَهَا: خُذِي وَلَوْ كَانَ فُتْيَا لَقَالَ مَثَلًا: لَا حَرَجَ عَلَيْكِ إِذَا أَخَذْتِ، وَلِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا هُوَ الْحُكْمُ. وَمِمَّا رَجَّحَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ فَتْوَى وُقُوعُ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْقِصَّةِ فِي قَوْلِهَا: هَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ وَلِأَنَّهُ فَوَّضَ تَقْدِيرَ الِاسْتِحْقَاقِ إِلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ قَضَاءً لَمْ يُفَوِّضْهُ إِلَى الْمُدَّعِي، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْلِفْهَا عَلَى مَا ادَّعَتْهُ وَلَا كَلَّفَهَا ال بَيِّنَةَ، وَالْجَوَابُ أَنَّ فِي تَرْكِ تَحْلِيفِهَا أَوْ تَكْلِيفِهَا الْبَيِّنَةَ حُجَّةً لِمَنْ أَجَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ، فَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ صِدْقَهَا فِي كُلِّ مَا ادَّعَتْ بِهِ، وَعَنِ الِاسْتِفْهَامِ أَنَّهُ لَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ مِنْ طَالِبِ الْحُكْمِ، وَعَنْ تَفْوِيضِ قَدْرِ الِاسْتِحْقَاقِ أَنَّ الْمُرَادَ الْمَوْكُولُ إِلَى الْعُرْفِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْمَذَاهِبِ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
تَنْبِيهٌ:
أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِهِمُ اسْتِدْلَالُ الْبُخَارِيِّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَسْأَلَةِ الظَّفَرِ فِي كِتَابِ الْأَشْخَاصِ حَيْثُ تَرْجَمَ لَهُ قِصَاصُ الْمَظْلُومِ إِذَا وَجَدَ مَالَ ظَالِمِهِ وَاسْتِدْلَالُهُ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى مَسْأَلَةِ الظَّفَرِ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَسْأَلَةَ هِنْدٍ كَانَتْ عَلَى طَرِيقِ الْفَتْوَى، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا كَانَتْ حُكْمًا. وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ حُكْمٍ يَصْدُرُ مِنَ الشَّارِعِ فَإِنَّهُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْإِفْتَاءِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، فَيَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ لِلْمَسْأَلَتَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْبَابُ مُقَدَّمًا عَلَى بَابَيْنِ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ
10 - بَاب حِفْظِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي ذَاتِ يَدِهِ وَالنَّفَقَةِ
5365 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ.، وَأَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ - وَقَالَ الْآخَرُ: صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ - أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ. وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَابُ حِفْظِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي ذَاتِ يَدِهِ، وَالنَّفَقَةِ) الْمُرَادُ بِذَاتِ الْيَدِ الْمَالُ، وَعَطْفُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَوَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ: وَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِ وَزِيَادَةُ لَفْظَةِ: عَلَيْهِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ،
وَلَيْسَتْ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ فِي شَيْءٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ) اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ. وَأَبُو الزِّنَادِ) هُوَ عَطْفٌ عَلَى ابْنِ طَاوُسٍ لَا عَلَى طَاوُسٍ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِيهِ إِسْنَادَيْنِ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. وَوَقَعَ فِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: صُلَّحٌ بِضَمِّ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ وَهِيَ صِيغَةُ جَمْعٍ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ أَحَدَ شَيْخَيْ سُفْيَانَ اقْتَصَرَ عَلَى نِسَاءِ قُرَيْشٍ، وَزَادَ الْآخَرُ: صَالِحُ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا: صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: نِسَاءُ قُرَيْشٍ وَلَمْ أَرَهُ عَنْ سُفْيَانَ إِلَّا مُبْهَمًا، لَكِنْ ظَهَرَ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ الْمَاضِيَةِ فِي أَوَّلِ النِّكَاحِ وَمِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ الَّذِي زَادَ لَفْظَةَ صَالِحُ هُوَ ابْنُ طَاوُسٍ، وَوَقَعَ فِي أَوَّلِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَيَانُ سَبَبِ الْحَدِيثِ، وَلَفْظُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ وَلِي عِيَالٌ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَلَهُ: أَحْنَاهُ عَلَى بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ نُونٍ مِنَ الْحُنُوِّ وَهُوَ الْعَطْفُ وَالشَّفَقَةُ، وَأَرْعَاهُ مِنَ الرِّعَايَةِ وَهِيَ الْإِبْقَاءُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْحَانِيَةُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ الَّتِي تُقِيمُ عَلَى وَلَدِهَا فَلَا تَتَزَوَّجُ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ فَلَيْسَتْ بِحَانِيَةٍ.
قَوْلُهُ: (فِي ذَاتِ يَدِهِ) قَالَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدَّلَائِلِ: ذَاتُ يَدِهِ وَذَاتُ بَيْنِنَا وَنَحْوُ ذَلِكَ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ مُؤَنَّثٍ كَأَنَّهُ يَعْنِي الْحَالَ الَّتِي هِيَ بَيْنَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِذَاتِ يَدِهِ مَالُهُ وَمَكْسَبُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَقِيتُهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَالْمُرَادُ لُقَاةٌ أَوْ مَرَّةٌ، فَلَمَّا حَذَفَ الْمَوْصُوفَ وَبَقِيَتِ الصِّفَةُ صَارَتْ كَالْحَالِ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمَّا حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ مِثْلَ رِوَايَةِ ابْنِ طَاوُسٍ فِي جُمْلَةِ أَحَادِيثَ وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ، وَفِي بَعْضِهِمْ مَقَالٌ لَا يَقْدَحُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِهِ يُقَالُ لَهَا: سَوْدَةُ، وَكَانَ لَهَا خَمْسَةُ صِبْيَانٍ أَوْ سِتَّةٌ مِنْ بَعْلٍ لَهَا مَاتَ، فَقَالَتْ لَهُ: مَا يَمْنَعُنِي مِنْكَ أَنْ لَا تَكُونَ أَحَبَّ الْبَرِّيَّةَ إِلَيَّ إِلَّا أَنِّي أُكْرِمُكَ أَنْ تَضْغُوَ هَذِهِ الصِّبْيَةُ عِنْدَ رَأْسِكَ، فَقَالَ لَهَا: يَرْحَمُكِ اللَّهُ، إِنَّ خَيْرَ نِسَاءٍ رَكِبْنَ أَعْجَازَ الْإِبِلِ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ الْحَدِيثَ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى أَخْرَجَهَا قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِاخْتِصَارِ الْقِصَّةِ، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أُمَّ هَانِئٍ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَعَلَّهَا كَانَتْ تُلَقَّبُ سَوْدَةَ؛ فَإِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ اسْمَهَا فَاخِتَةُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً أُخْرَى، وَلَيْسَتْ سَوْدَةَ بِنْتَ زِمْعَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا قَدِيمًا بِمَكَّةَ بَعْدَ مَوْتِ خَدِيجَةَ، وَدَخَلَ بِهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِعَائِشَةَ، وَمَاتَ وَهِيَ فِي عِصْمَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ وَاضِحًا، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْمَتْنِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ كِتَابِ النِّكَاحِ.
11 - بَاب كِسْوَةِ الْمَرْأَةِ بِالْمَعْرُوفِ
5366 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: آتَى إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُلَّةً سِيَرَاءَ، فَلَبِسْتُهَا، فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَشَقَّقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي.
قَوْلُهُ: (بَابُ كِسْوَةِ الْمَرْأَةِ بِالْمَعْرُوفِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الْمُطَوَّلِ فِي صِفَةِ
الْحَجِّ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ فِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ: اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ أَشَارَ إِلَيْهِ، وَاسْتَنْبَطَ الْحُكْمَ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ عَلَى شَرْطِهِ.
فَأَوْرَدَ حَدِيثَ عَلِيٍّ فِي الْحُلَّةِ السِّيَرَاءِ. وَقَوْلُهُ: (فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ الْمُطَابَقَةِ أَنَّ الَّذِي حَصَلَ لِزَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ عليها السلام مِنَ الْحُلَّةِ قِطْعَةٌ فَرَضِيَتْ بِهَا اقْتِصَادًا بِحَسَبِ الْحَالِ لَا إِسْرَافًا، وَأَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ مَعَ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ كِسْوَتَهَا وُجُوبًا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكْسُوَهَا مِنَ الثِّيَابِ كَذَا، وَالصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يُحْمَلَ أَهْلُ الْبُلْدَانِ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ مَا يَجْرِي فِي عَادَتِهُمْ بِقَدْرِ مَا يُطِيقُهُ الزَّوْجُ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ لَهَا، وَعَلَى قَدْرِ يُسْرِهِ وَعُسْرِهِ، اهـ. وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ قَرِيبًا وَالْكِسْوَةُ فِي مَعْنَاهَا، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ سَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: آتَى إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِّ أَيْ: أَعْطَى، ثُمَّ ضَمَّنَ أَعْطَى مَعْنَى أَهْدَى أَوْ أَرْسَلَ لِذَلِكَ عَدَّاهُ بِإِلَيَّ وَهِيَ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ بَعَثَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبْدُوسٍ أَهْدَى وَلَا تَضْمِينَ فِيهَا، وَمَنْ قَرَأَ إِلَى بِالتَّخْفِيفِ بِلَفْظِ حَرْفِ الْجَرِّ وَأَتَى بِمَعْنَى جَاءَ لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ: حُلَّةٌ سِيَرَاءُ بِالرَّفْعِ وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَأَعْطَانِيهَا فَلَبِسْتُهَا، إِلَى آخِرِهِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: ضُبِطَ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ أَتَى بِالْقَصْرِ أَيْ: جَاءَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى جَاءَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِحُلَّةٍ فَحَذَفَ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ وَحَذَفَ الْبَاءَ فَانْتَصَبَتْ، وَالْحُلَّةُ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ، وَالسِّيَرَاءُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَبِالْمَدِّ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَرِيرِ.
وَقَوْلُهُ: بَيْنَ نِسَائِي يُوهِمُ زَوْجَاتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حِينَئِذٍ زَوْجَةٌ إِلَّا فَاطِمَةَ، فَالْمُرَادُ بِنِسَائِهِ زَوْجَتُهُ مَعَ أَقَارِبِهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: بَيْنَ الْفَوَاطِمِ.
12 - بَاب عَوْنِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي وَلَدِهِ
5367 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: هَلَكَ أَبِي، وَتَرَكَ سَبْعَ بَنَاتٍ - أَوْ تِسْعَ بَنَاتٍ - فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً ثَيِّبًا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَزَوَّجْتَ يَا جَابِرُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا، قَالَ: فَهَلَّا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ، وَتُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ هَلَكَ، وَتَرَكَ بَنَاتٍ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَجِيئَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ وَتُصْلِحُهُنَّ، فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ: لَكَ، أَوْ خَيْرًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ عَوْنِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي وَلَدِهِ) سَقَطَ فِي وَلَدِهِ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي تَزْوِيجِهِ الثَّيِّبَ لِتَقُومَ عَلَى أَخَوَاتِهِ وَتُصْلِحَهُنَّ، وَكَأَنَّهُ اسْتَنْبَطَ قِيَامَ الْمَرْأَةِ عَلَى وَلَدِ زَوْجِهَا مِنْ قِيَامِ امْرَأَةِ جَابِرٍ عَلَى أَخَوَاتِهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَعَوْنُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي وَلَدِهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جَمِيلِ الْعِشْرَةِ، وَمِنْ شِيمَةِ صَالِحَاتِ النِّسَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى خِدْمَةِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا، هَلْ تَجِبُ عَلَيْهَا أَمْ لَا قَرِيبًا.
13 - بَاب نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ عَلَى أَهْلِهِ
5368 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَقَالَ: هَلَكْتُ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ. قَالَ: فَأَعْتِقْ رَقَبَةً، قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي، قَالَ: فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، قَالَ: فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا، قَالَ: لَا أَجِدُ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ قَالَ: هَا أَنَا ذَا، قَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا، قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، قَالَ: فَأَنْتُمْ إِذًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ عَلَى أَهْلِهِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الَّذِي وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَجْهُ أَخْذِ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَبَاحَ لَهُ إِطْعَامَ أَهْلِهِ التَّمْرَ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ يَجْزِيكَ عَنِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَرْضُ النَّفَقَةِ عَلَى أَهْلِهِ بِوُجُودِ التَّمْرِ وَهُوَ أَلْزَمُ لَهُ مِنَ الْكَفَّارَةِ، كَذَا قَالَ، وَهُوَ يُشْبِهُ الدَّعْوَى فَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْأَخْذَ مِنْ جِهَةِ اهْتِمَامِ الرَّجُلِ بِنَفَقَةِ أَهْلِهِ، حَيْثُ قَالَ لَمَّا قِيلَ لَهُ: تَصَدَّقْ بِهِ، فَقَالَ: أَعْلَى أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَلَوْلَا اهْتِمَامُهُ بِنَفَقَةِ أَهْلِهِ لَبَادَرَ وَتَصَدَّقَ.
14 - بَاب {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْهُ شَيْءٌ؟
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} - إِلَى قَوْلِهِ - {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
5369 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ ابنة أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ فِي بَنِي أَبِي سَلَمَةَ أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْهِمْ؟ وَلَسْتُ بِتَارِكَتِهِمْ هَكَذَا وَهَكَذَا؛ إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ. قَالَ: نَعَمْ، لَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ.
5370 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ هِنْدُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِينِي وَبَنِيَّ؟ قَالَ: خُذِي بِالْمَعْرُوفِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْهُ شَيْءٌ؟ {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِغَيْرِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَبْكَمُ - إِلَى قَوْلِهِ: - {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ مَا مُلَخَّصُهُ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَيْهِ أَنْ لَا يُضَارَّ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْجُمْهُورُ قَالُوا: وَلَا غُرْمَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ وَلَدِ الْمَوْرُوثِ، وَقَالَ آخَرُونَ: عَلَى مَنْ يَرِثُ الْأَبَ مِثْلُ مَا كَانَ عَلَى الْأَبِ مِنْ أَجْرِ الرَّضَاعِ إِذَا كَانَ الْوَلَدُ لَا مَالَ لَهُ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْوَارِثِ، فَقَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ: هُوَ كُلُّ مَنْ يَرِثُ الْأَبَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: هُوَ مَنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ لِلْمَوْلُودِ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَالَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ: هُوَ الْمَوْلُودُ نَفْسُهُ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إِذَا خَلَّفَ أُمًّا وَعَمًّا فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا إِرْضَاعُ الْوَلَدِ بِقَدْرِ مَا يَرِثُ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: وَعَلَى، وَهَلْ عَلَى
الْمَرْأَةِ مِنْهُ شَيْءٌ؟ ثُمَّ أَشَارَ إِلَى رَدِّهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} فَنَزَّلَ الْمَرْأَةَ مِنَ الْوَارِثِ مَنْزِلَةَ الْأَبْكَمِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ. اهـ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ عَنْ قَائِلِهَا، وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ حَمْلُ الْمِثْلِيَّةِ فِي قَوْلِهِ:{مِثْلُ ذَلِكَ} عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ أَوْ عَلَى بَعْضِهِ، وَالَّذِي تَقَدَّمَ الْإِرْضَاعُ وَالْإِنْفَاقُ وَالْكِسْوَةُ وَعَدَمُ الْإِضْرَارِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَرْجِعُ إِلَى الْجَمِيعِ بَلْ إِلَى الْأَخِيرِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْجَمِيعِ فِعْلَيْهِ الدَّلِيلُ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْإِفْرَادِ، وَأَقْرَبُ مَذْكُورٍ هُوَ عَدَمُ الْإِضْرَارِ فَرَجَعَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ فِي سُؤَالِهَا: هَلْ لَهَا أَجْرٌ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى أَوْلَادِهَا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ؟ فَأَخْبَرَهَا أَنَّ لَهَا أَجْرًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ بَنِيهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهَا، إِذْ لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا، لَبَيَّنَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ، وَكَذَا قِصَّةُ هِنْدٍ بِنْتِ عُتْبَةَ فَإِنَّهُ أَذِنَ لَهَا فِي أَخْذِ نَفَقَةِ بَنِيهَا مِنْ مَالِ الْأَبِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ دُونَهَا، فَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمِ الْأُمَّهَاتُ نَفَقَةَ الْأَوْلَادِ فِي حَيَاةِ الْآبَاءِ، فَالْحُكْمُ بِذَلِكَ مُسْتَمِرٌّ بَعْدَ الْآبَاءِ، وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} أَيْ: رِزْقُ الْأُمَّهَاتِ وَكِسْوَتُهُنَّ مِنْ أَجْلِ الرَّضَاعِ لِلْأَبْنَاءِ، فَكَيْفَ يَجِبُ لَهُنَّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ؟ وَيَجِبُ عَلَيْهِنَّ نَفَقَةُ الْأَبْنَاءِ فِي آخِرِهَا؟ وَأَمَّا قَوْلُ قَبِيصَةَ فَيَرُدُّهُ أَنَّ الْوَارِثَ لَفْظٌ يَشْمَلُ الْوَلَدَ وَغَيْرَهُ، فَلَا يُخَصُّ بِهِ وَارِثٌ دُونَ آخَرَ إِلَّا بِحُجَّةٍ، وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ هُوَ الْمُرَادَ لَقِيلَ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ عَلَى الْخَالِ لِابْنِ أُخْتِهِ، وَلَا تَجِبُ عَلَى الْعَمِّ لِابْنِ أَخِيهِ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ وَلَا الْقِيَاسِ قَالَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ وَمَنْ تَابَعَهُ فَتُعُقِّبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فَلَمَّا وَجَبَ عَلَى الْأَبِ الْإِنْفَاقُ عَلَى مَنْ يُرْضِعُ وَلَدَهُ لِيُغَذَّى وَيُرَبَّى، فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا فُطِمَ فَيُغَذِّيهِ
بِالطَّعَامِ، كَمَا كَانَ يُغَذِّيهِ بِالرَّضَاعِ مَا دَامَ صَغِيرًا، وَلَوْ وَجَبَ مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى الْوَارِثِ لَوَجَبَ إِذَا مَاتَ عَنِ الْحَامِلِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْعَصَبَةَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا لِأَجْلِ مَا فِي بَطْنِهَا، وَكَذَا يَلْزَمُ الْحَنَفِيَّةَ إِلْزَامُ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّمَا قَصَدَ الْبُخَارِيُّ الرَّدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأُمَّ يَجِبُ عَلَيْهَا نَفَقَةُ وَلَدِهَا وَإِرْضَاعُهُ بَعْدَ أَبِيهِ؛ لِدُخُولِهَا فِي الْوَارِثِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْأُمَّ كَانَتْ كَلًّا عَلَى الْأَبِ وَاجِبَةَ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ؛ وَمَنْ هُوَ كَلٌّ بِالْأَصَالَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ غَالِبًا، كَيْفَ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى غَيْرِهِ؟ وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ إِنْفَاقَهَا عَلَى أَوْلَادِهَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْفَضْلِ وَالتَّطَوُّعِ، فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا وُجُوبَ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا قِصَّةُ هِنْدٍ فَظَاهِرَةٌ فِي سُقُوطِ النَّفَقَةِ عَنْهَا فِي حَيَاةِ الْأَبِ، فَيُسْتَصْحَبُ هَذَا الْأَصْلُ بَعْدَ وَفَاةِ الْأَبِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ السُّقُوطِ عَنْهَا فِي حَيَاةِ الْأَبِ السُّقُوطُ عَنْهَا بَعْدَ فَقْدِهِ، وَإِلَّا فُقِدَ الْقِيَامُ بِمَصَالِحِ الْوَلَدِ بِفَقْدِهِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ مِنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَهُوَ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فِي إِنْفَاقِهَا عَلَى أَوْلَادِهَا الْجُزْءَ الْأَوَّلَ مِنَ التَّرْجَمَةِ، وَهُوَ أَنَّ وَارِثَ الْأَبِ كَالْأُمِّ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْمَوْلُودِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ، وَمِنَ الْحَدِيثِ الثَّانِي الْجُزْءَ الثَّانِيَ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ شَيْءٌ عِنْدَ وُجُودِ الْأَبِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِمَا بَعْدَ الْأَبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
15 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ
5371 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَسْأَلُ: هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا؟ فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً، صَلَّى، وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ، قَالَ: أَنَا أَوْلَى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ تَرَكَ كَلًّا) بِفَتْحِ الْكَافِ وَالتَّشْدِيدِ وَالتَّنْوِينِ (أَوْ ضَيَاعًا) بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ (فَإِلَيَّ) بِالتَّشْدِيدِ.
ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: مَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَأَمَّا لَفْظُ التَّرْجَمَةِ فَأَوْرَدَهُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإِلَيْنَا وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي، فَأَنَا مَوْلَاهُ وَالضَّيَاعُ تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ وَتَفْسِيرُهُ فِي الْكَفَالَةِ وَفِي الِاسْتِقْرَاضِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي الْكَفَالَةِ وَفِي تَفْسِيرِ الْأَحْزَابِ، وَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِإِدْخَالِهِ فِي أَبْوَابِ النَّفَقَاتِ الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَهُ أَوْلَادٌ وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُمْ شَيْئًا فَإِنَّ نَفَقَتَهُمْ تَجِبُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
16 - بَاب الْمَرَاضِعِ مِنْ الْمَوَالِيَاتِ وَغَيْرِهِنَّ
5372 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْكِحْ أُخْتِي ابنة أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: وَتُحِبِّينَ ذَلِكِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي الْخَيْرِ أُخْتِي، فَقَالَ: إِنَّ ذَلِكِ لَا يَحِلُّ لِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالَ: ابنة أُمِّ سَلَمَةَ؟! فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي؛ إِنَّهَا ابنة أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ؛ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ.
وَقَالَ شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ: قَالَ عُرْوَةُ: ثُوَيْبَةُ، أَعْتَقَهَا أَبُو لَهَبٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَرَاضِعِ مِنَ الْمَوَالِيَاتِ وَغَيْرِهِنَّ) كَذَا لِلْجَمِيعِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: ضُبِطَ فِي رِوَايَةٍ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَبِفَتْحِهَا فِي أُخْرَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ وَالَتْ تُوَالِي. قُلْتُ: وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلِ الْمَضْبُوطُ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ بِالْفَتْحِ، وَهُوَ مِنَ الْمَوَالِي لَا مِنَ الْمُوَالَاةِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: الْمَوْلَيَاتِ جَمْعُ مَوْلَاةٍ، وَأَمَّا الْمَوَالِيَاتُ فَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ جَمَعَ مَوْلَى جَمْعَ التَّكْسِيرِ ثُمَّ جَمَعَ مَوَالِيَ جَمْعَ السَّلَامَةِ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ فَصَارَ مَوَالِيَاتٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أُمِّ حَبِيبَةَ فِي قَوْلِهَا: انْكِحْ أُخْتِي وَفِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا ذَكَرَتْ لَهُ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ: بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ؟ وَإِنَّمَا اسْتَثْبَتَهَا فِي ذَلِكَ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ غَيْرِ أُمِّ سَلَمَةَ تَحِلُّ لَهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَبُو سَلَمَةَ رَضِيعَهُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ رَبِيبَةً، بِخِلَافِ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: قَالَ شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: قَالَ عُرْوَةُ: ثُوَيْبَةُ أَعْتَقَهَا أَبُو لَهَبٍ تَقَدَّمَ هَذَا التَّعْلِيقُ مَوْصُولًا فِي جُمْلَةِ الْحَدِيثِ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ، وَسِيَاقُ مُرْسَلِ عُرْوَةَ أَتَمُّ مِمَّا هُنَا، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ، وَأَرَادَ بِذِكْرِهِ هُنَا إِيضَاحَ أَنَّ ثُوَيْبَةَ كَانَتْ مَوْلَاةً لِيُطَابِقَ التَّرْجَمَةَ، وَوَجْهُ إِيرَادِهَا فِي أَبْوَابِ النَّفَقَاتِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ إِرْضَاعَ الْأُمِّ لَيْسَ مُتَحَتِّمًا بَلْ لَهَا أَنْ تُرْضِعَ وَلَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ، فَإِذَا امْتَنَعَتْ كَانَ لِلْأَبِ أَوِ الْوَلِيِّ إِرْضَاعُ الْوَلَدِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ حُرَّةً؛ كَانَتْ أَوْ أَمَةً، مُتَبَرِّعَةً كَانَتْ أَوْ
بِأُجْرَةٍ، وَالْأُجْرَةُ تَدْخُلُ فِي النَّفَقَةِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَكْرَهُ رَضَاعَ الْإِمَاءِ، وَتَرْغَبُ فِي رَضَاعِ الْعَرَبِيَّةِ لِنَجَابَةِ الْوَلَدِ، فَأَعْلَمَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدْ رَضَعَ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ وَأَنْجَبَ، وَأَنَّ رَضَاعَ الْإِمَاءِ لَا يُهَجِّنُ، اهـ. وَهُوَ مَعْنًى حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْجَوَابَ عَنِ السُّؤَالِ الَّذِي أَوْرَدْتُهُ.
وَكَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُنِيرِ: أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى أَنَّ حُرْمَةَ الرَّضَاعِ تَنْتَشِرُ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْمُرْضِعَةُ حُرَّةً أَمْ أَمَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
خَاتِمَةٌ:
اشْتَمَلَ كِتَابُ النَّفَقَاتِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ، وَجَمِيعُهَا مُكَرَّرٌ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ، وَهِيَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُعَاوِيَةَ فِي نِسَاءِ قُرَيْشٍ وَهُمَا مُعَلَّقَانِ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ دُونَهُمَا. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، ثَلَاثَةُ آثَارٍ: أَثَرُ الْحَسَنِ فِي أَوَّلِهِ، وَأَثَرُ الزُّهْرِيِّ فِي الْوَالِدَاتِ يُرْضِعْنَ، وَأَثَرُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّصِلُ بِحَدِيثِ: أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: تَقُولُ الْمَرْأَةُ: إِمَّا أَنْ تُعطينِي وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي إِلَخْ وَبَيَّنَ فِي آخِرِهِ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ مَوْقُوفٌ مُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ، وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِهِ عَنْ مُسْلِمٍ، بِخِلَافِ غَالِبِ الْآثَارِ الَّتِي يُورِدُهَا فَإِنَّهَا مُعَلَّقَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
70 - كِتَاب الْأَطْعِمَةِ
1 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} الآية
وَقَوْلِهِ: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} وَقَوْلِهِ: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
5373 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ.
قَالَ سُفْيَانُ: وَالْعَانِي: الْأَسِيرُ.
5374 -
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَعَامٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ"
5375 -
وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَصَابَنِي جَهْدٌ شَدِيدٌ فَلَقِيتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَاسْتَقْرَأْتُهُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَدَخَلَ دَارَهُ وَفَتَحَهَا عَلَيَّ فَمَشَيْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ فَخَرَرْتُ لِوَجْهِي مِنْ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي فَقَالَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَقَامَنِي وَعَرَفَ الَّذِي بِي فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَحْلِهِ فَأَمَرَ لِي بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ عُدْ يَا أَبَا هِرٍّ فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ ثُمَّ قَالَ عُدْ فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ حَتَّى اسْتَوَى بَطْنِي فَصَارَ كَالْقِدْحِ قَالَ فَلَقِيتُ عُمَرَ وَذَكَرْتُ لَهُ الَّذِي
كَانَ مِنْ أَمْرِي وَقُلْتُ لَهُ فَوَلَّى اللَّهُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْكَ يَا عُمَرُ وَاللَّهِ لَقَدْ اسْتَقْرَأْتُكَ الْآيَةَ وَلَانَا أَقْرَأُ لَهَا مِنْكَ قَالَ عُمَرُ وَاللَّهِ لَانْ أَكُونَ أَدْخَلْتُكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي مِثْلُ حُمْرِ النَّعَمِ"
[الحديث 5375 - طرفاه في: 6246، 6452]
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم - كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} وَقَوْلُهُ: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: أَنْفِقُوا عَلَى وَفْقِ التِّلَاوَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ: كُلُوا بَدَلَ أَنْفِقُوا، وَهَكَذَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي الْوَقْتِ، وَفِي قَلِيلٍ مِنْ غَيْرِهَا وَعَلَيْهَا شَرْحُ ابْنِ بَطَّالٍ، وَأَنْكَرَهَا وَتَبِعَهُ مَنْ بَعْدَهُ، حَتَّى زَعَمَ عِيَاضٌ أَنَّهَا كَذَلِكَ لِلْجَمِيعِ، وَلَمْ أَرَهَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ إِلَّا عَلَى وَفْقِ التِّلَاوَةِ كَمَا ذَكَرْتُ، وَكَذَا فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ مِنْ رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ تَرْجَمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَحْدَهَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، فَقَالَ: بَابُ قَوْلِهِ: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} ، كَذَا وَقَعَ عَلَى وَفْقِ التِّلَاوَةِ لِلْجَمِيعِ إِلَّا النَّسَفِيَّ، وَعَلَيْهِ شَرْحُ ابْنُ بَطَّالٍ أَيْضًا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ، وَزَعَمَ عِيَاضٌ أَنَّهُ وَقَعَ لِلْجَمِيعِ: كُلُوا إِلَّا أَبَا ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، فَقَالَ: أَنْفِقُوا، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى الصَّوَابِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ حَيْثُ تَرْجَمَ: بَابُ صَدَقَةِ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الرُّوَاةِ فِي ذَلِكَ، وَيَحْسُنُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي أَنَّ التَّغْيِيرَ فِيمَا عَدَاهُ مِنَ النُّسَّاخِ.
وَالطَّيِّبَاتُ جَمْعُ طَيِّبَةٍ، وَهِيَ تُطْلَقُ عَلَى الْمُسْتَلَذِّ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِيهِ وَعَلَى النَّظِيفِ، وَعَلَى مَا لَا أَذَى فِيهِ، وَعَلَى الْحَلَالِ. فَمِنَ الْأَوَّلِ، قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ فِي تَفْسِيرِهَا، إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْحَلَالَ لَمْ يَزِدِ الْجَوَابُ عَلَى السُّؤَالِ، وَمِنَ الثَّانِي {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} وَمِنَ الثَّالِثِ: هَذَا يَوْمٌ طَيِّبٌ، وَهَذِهِ لَيْلَةٌ طَيِّبَةٌ، وَمِنَ الرَّابِعِ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي التَّرْجَمَةِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِهَا فِي الزَّكَاةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتِّجَارَةِ الْحَلَالُ، وَجَاءَ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْجَيِّدُ؛ لِاقْتِرَانِهَا بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِنْفَاقِ مِنَ الْخَبِيثِ وَالْمُرَادُ بِهِ الرَّدِيءُ، كَذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ ذَكَرَهُ فِي: بَابِ تَعْلِيقِ الْقِنْوِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ أَوَائِلِ الصَّلَاةِ مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَوْضَحُ مِنْهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ نَخْلٍ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي بِالْقِنْوِ فَيُعَلِّقُهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ بَعْضُ مَنْ لَا يَرْغَبُ فِي الْخَيْرِ يَأْتِي بِالْقِنْوِ مِنَ الْحَشَفِ وَالشِّيصِ فَيُعَلِّقُهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:{وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ يَجِيءُ الرَّجُلُ بِصَالِحِ مَا عِنْدَهُ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بِنْ حُنَيْفٍ: فَكَانَ النَّاسُ يَتَيَمَّمُونَ شِرَارَ ثِمَارِهِمْ ثُمَّ يُخْرِجُونَهَا فِي الصَّدَقَةِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَيْسَ بَيْنَ تَفْسِيرِ الطَّيِّبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْحَلَالِ وَبِمَا يُسْتَلَذُّ مُنَافَاةٌ، وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ
لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وَقَدْ جَعَلَهَا الشَّافِعِيُّ أَصْلًا فِي تَحْرِيمِ مَا تَسْتَخْبِثُهُ الْعَرَبُ، مِمَّا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ بِشَرْطٍ سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ - حَيْثُ أَوْرَدَ هَذِهِ الْآيَاتِ - لَمَّحَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} الْحَدِيثَ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ، وَهُوَ مِمَّنِ انْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِالِاحْتِجَاجِ بِهِ دُونَ
الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يَهِمُ كَثِيرًا وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ يُخْطِئُ عَلَى الثِّقَاتِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: عِيبَ عَلَى مُسْلِمٍ إِخْرَاجُهُ. فَكَأَنَّ الْحَدِيثَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ اقْتَصَرَ عَلَى إِيرَادِهِ فِي التَّرْجَمَةِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ لَذِيذَ الطَّعَامِ وَاللَّذَّاتِ الْمُبَاحَةَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ تَتَعَلَّقُ بِالْجُوعِ وَالشِّبَعِ. الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى.
قَوْلُهُ: (أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ) الْحَدِيثَ تَقَدَّمَ فِي الْوَلِيمَةِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ: أَجِيبُوا الدَّاعِيَ بَدَلَ: أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَمَخْرَجُهُمَا وَاحِدٌ، وَكَأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظِ الْآخَرُ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْأَمْرُ هُنَا لِلنَّدَبِ، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. اهـ. وَيُؤْخَذُ مِنَ الْأَمْرِ بِإِطْعَامِ الْجَائِعِ جَوَازُ الشِّبَعِ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ قَبْلَ الشِّبَعِ فَصِفَةُ الْجُوعِ قَائِمَةٌ بِهِ، وَالْأَمْرُ بِإِطْعَامِهِ مُسْتَمِرٌّ.
قَوْلُهُ: (وَفُكُّوا الْعَانِيَ) أَيْ: خَلِّصُوا الْأَسِيرَ، مِنْ فَكَكْتُ الشَّيْءَ فَانْفَكَّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ: وَالْعَانِي: الْأَسِيرُ) تَقَدَّمَ بَيَانُ مَنْ أَدْرَجَهُ فِي النِّكَاحِ، وَقِيلَ لِلْأَسِيرِ: عَانٍ مَنْ عَنَا يَعْنُو إِذَا خَضَعَ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ:
قَوْلُهُ: (مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ طَعَامٍ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ بِلَفْظِ: مَا شَبِعَ مُحَمَّدٌ وَأَهْلُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا أَيْ: مُتَوَالِيَةً، وَسَيَأْتِي بَعْدَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ التَّقْيِيدُ أَيْضًا بِثَلَاثٍ، لَكِنَّ فِيهِ: مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: ثَلَاثَ لَيَالٍ وَيُؤْخَذُ مِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَيَّامِ هُنَا بِلَيَاليِهَا، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّيَالِي هُنَاكَ بِأَيَّامِهَا، وَأَنَّ الشِّبَعَ الْمَنْفِيَّ بِقَيْدِ التَّوَالِي لَا مُطْلَقًا. وَلِمُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ: مَا شَبِعَ مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَيُؤْخَذُ مَقْصُودُهُ مِنْ جَوَازِ الشِّبَعِ فِي الْجُمْلَةِ مِنَ الْمَفْهُومِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ سَبَبَ عَدَمِ شِبَعِهِمْ غَالِبًا كَانَ بِسَبَبِ قِلَّةِ الشَّيْءِ عِنْدَهُمْ، عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ يَجِدُونَ وَلَكِنْ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ هَذَا، وَفِي الرِّقَاقِ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ، وَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِي شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:
قَوْلُهُ: (وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَصَابَنِي جَهْدٌ شَدِيدٌ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَذَكَرَ مُحَدِّثُ الدِّيَارِ الْحَلَبِيَّةِ بُرْهَانُ الدِّينِ أَنَّ شَيْخَنَا الشَّيْخَ سِرَاجَ الدِّينِ الْبُلْقِينِيَّ اسْتَشْكَلَ هَذَا التَّرْكِيبَ، وَقَالَ: قَوْلُهُ: وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ لَا يَصِحُّ عَطْفُهُ عَلَى قَوْلِهِ: عَنْ أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ إِسْقَاطُ فُضَيْلٍ، فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا؛ إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: وَلَا يَصِحُّ عَطْفُهُ عَلَى قَوْلِهِ: وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ؛ لِأَنَّ الْمُحَدِّثَ الَّذِي لَمْ يُعَيَّنْ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ فَيَلْزَمُ الِانْقِطَاعُ أَيْضًا. قَالَ: وَكَانَ اللَّائِقُ أَنْ يَقُولَ: وَبِهِ إِلَى أَبِي حَازِمٍ انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ تَلَقَّفَهُ مِنْ شَيْخِنَا فِي مَجْلِسٍ بِسَمَاعِهِ لِلْبُخَارِيِّ، وَإِلَّا فَلَمْ يُسْمَعْ بِأَنَّ الشَّيْخَ شَرَحَ هَذَا الْمَوْضِعَ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ عَطْفِ الرَّاوِي لِحَدِيثٍ عَلَى الرَّاوِي بِعَيْنِهِ لِحَدِيثٍ آخَرَ، فَكَأَنَّ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ بِكَذَا، وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ بِكَذَا، وَاللَّائِقُ الَّذِي ذَكَرَهُ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ، بَلْ لَوْ قَالَ: وَبِهِ إِلَى أَبِيهِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ لَصَحَّ، أَوْ حَذَفَ قَوْلَهُ: عَنْ أَبِيهِ فَقَالَ: وَبِهِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ لَصَحَّ، وَحَدَّثَنَا تَكُونُ بِهِ مُقَدَّرَةً وَالْمُقَدَّرَةُ فِي حُكْمِ الْمَلْفُوظِ.
وَأَوْضَحُ مِنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ إِلَخْ فَحَذَفَ مَا بَيْنَهُمَا لِلْعِلْمِ بِهِ، وَزَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّ هَذَا مُعَلَّقٌ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ بِسَنَدٍ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى السَّنَدِ الْمَذْكُورِ كَمَا قُلْتُهُ أَوَّلًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَوْلُهُ: (أَصَابَنِي جَهْدٌ شَدِيدٌ) أَيْ: مِنَ الْجُوعِ، وَالْجَهْدُ تَقَدَّمَ أَنَّهُ بِالضَّمِّ وَبِالْفَتْحِ بِمَعْنًى،
وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَشَقَّةُ، وَهُوَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ.
قَوْلُهُ: (فَاسْتَقْرَأْتُهُ آيَةً) أَيْ: سَأَلْتُهُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيَّ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ مُعَيَّنَةً عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفَادَةِ، وَفِي غَالِبِ النُّسَخِ: فَاسْتَقْرَيْتُهُ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ، وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى التَّسْهِيلِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ الْهَمْزَةَ.
قَوْلُهُ: (فَدَخَلَ دَارَهُ وَفَتَحَهَا عَلَيَّ) أَيْ: قَرَأَهَا عَلَيَّ وَأَفْهَمَنِي إِيَّاهَا، وَوَقَعَ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْحِلْيَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَفِيهِ: فَقُلْتُ لَهُ: أَقْرِئْنِي، وَأَنَا لَا أُرِيدُ الْقِرَاءَةَ، وَإِنَّمَا أُرِيدُ الْإِطْعَامَ وَكَأَنَّهُ سَهَّلَ الْهَمْزَةَ، فَلَمْ يَفْطِنْ عُمَرُ لِمُرَادِهِ.
قَوْلُهُ: (فَخَرَرْتُ لِوَجْهِي مِنَ الْجَهْدِ) أَيِ: الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَوَّلًا وَهُوَ شِدَّةُ الْجُوعِ، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْحِلْيَةِ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَئِذٍ صَائِمًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مَا يُفْطِرُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (فَأَمَرَ لِي بِعُسٍّ) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ هُوَ الْقَدَحُ الْكَبِيرِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى اسْتَوَى بَطْنِي) أَيِ: اسْتَقَامَ مِنِ امْتِلَائِهِ مِنَ اللَّبَنِ.
قَوْلُهُ: (كَالْقِدْحِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الدَّالِ بَعْدَهَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ، هُوَ السَّهْمُ الَّذِي لَا رِيشَ لَهُ، وَسَيَأْتِي لِأَبِي هُرَيْرَةَ قِصَّةٌ فِي شُرْبِ اللَّبَنِ مُطَوَّلَةٌ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَفِيهَا أَنَّهُ قَالَ: اشْرَبْ، فَقَالَ: لَا أَجِدُ لَهُ مَسَاغًا وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ الشِّبَعِ، وَلَوْ حُمِلَ الْمُرَادُ بِنَفْيِ الْمَسَاغِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ زَادَ عَلَى الشِّبَعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ:
ذَكَرَ لِي مُحَدِّثُ الدِّيَارِ الْحَلَبِيَّةِ بُرْهَانُ الدِّينِ أَنَّ شَيْخَنَا سِرَاجَ الدِّينِ الْبُلْقِينِيَّ قَالَ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَطْعِمَةِ الْمُتَرْجَمِ عَلَيْهَا الْمَتْلُوِّ فِيهَا الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ، قُلْتُ: وَهُوَ ظَاهِرٌ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ ذِكْرِ أَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهَا ذَلِكَ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْوَالِهَا وَصِفَاتِهَا، فَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَحْوَالِهَا النَّاشِئَةِ عَنْهَا الشِّبَعَ وَالْجُوعَ، وَمِنْ جُمْلَةِ صِفَاتِهَا الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ، وَالْمُسْتَلَذُّ وَالْمُسْتَخْبَثُ، وَمِمَّا يَنْشَأُ عَنْهَا الْإِطْعَامُ وَتَرْكُهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ. وَأَمَّا الْآيَاتُ؛ فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتِ الْإِذْنَ فِي تَنَاوُلِ الطَّيِّبَاتِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِالْأَحَادِيثِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنَ الْحَلَالِ، وَلَا الْمُسْتَلَذِّ، وَلَا بِحَالَةِ الشِّبَعِ وَلَا بِسَدِّ الرَّمَقِ، بَلْ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْوِجْدَانِ وَبِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (تَوَلَّى ذَلِكَ) أَيْ: بَاشَرَهُ مِنْ إِشْبَاعِي وَدَفْعِ الْجُوعِ عَنِّي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ فِي رِوَايَةِ: تَوَلَّى اللَّهُ ذَلِكَ، قَالَ وَمَنْ عَلَى هَذَا مَفْعُولٌ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَاعِلٌ انْتَهَى. وَيَكُونُ تَوَلَّى عَلَى الثَّانِي بِمَعْنَى وَلَّى.
قَوْلُهُ: (وَلَأَنَا أَقْرَأُ لَهَا مِنْكَ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ عُمَرَ لَمَّا قَرَأَهَا عَلَيْهِ تَوَقَّفَ فِيهَا أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا حَتَّى سَاغَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ مَا قَالَ، وَلِذَلِكَ أَقَرَّهُ عُمَرُ عَلَى قَوْلِهِ.
قَوْلُهُ: (أَدْخَلْتُكَ) أَيِ: الدَّارَ وَأَطْعَمْتُكَ.
قَوْلُهُ: (حُمْرُ النَّعَمِ) أَيِ: الْإِبِلِ، وَلِلْحُمْرِ مِنْهَا فَضْلٌ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ الْبَحْثُ فِي تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ وَالْمُرَادِ بِهِ، وَتَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: كُنْتُ أَسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الْآيَةَ، وَهِيَ مَعِي، كَيْ يَنْقَلِبَ مَعِي فَيُطْعِمَنِي، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ إِذَا اسْتَقْرَأَ أَحَدُهُمْ صَاحِبَهُ الْقُرْآنَ أَنْ يَحْمِلَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَيُطْعِمَهُ مَا تَيَسَّرَ، وَيُحْمَلُ مَا وَقَعَ مِنْ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَهُ شُغْلٌ عَاقَهُ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُطْعِمُهُ حِينَئِذٍ، انْتَهَى. وَيُبْعِدُ الْأَخِيرُ تَأَسُّفَ عُمَرَ عَلَى فَوْتِ ذَلِكَ. وَذَكَرَ لِي مُحَدِّثُ الدِّيَارِ الْحَلَبِيَّةِ أَنَّ شَيْخَنَا سِرَاجَ الدِّينِ الْبُلْقِينِيَّ اسْتَبْعَدَ قَوْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ، لِعُمَرَ: لَأَنَا أَقْرَأُ لَهَا مِنْكَ يَا عُمَرُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَهَابَةُ عُمَرَ، وَالثَّانِي عَدَمُ اطِّلَاعِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ يَقْرَؤُهَا مِثْلَهُ. قُلْتُ: عَجِبْتُ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ؛ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الطَّعْنَ عَلَى بَعْضِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِالْغَلَطِ مَعَ وُضُوحِ تَوْجِيهِهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ خَاطَبَ عُمَرَ بِذَلِكَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي حَالَةٍ كَانَ عُمَرُ فِيهَا فِي صُورَةِ الْخَجْلَانِ مِنْهُ فَجَسَرَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الثَّاني فَيَعْكِسُ وَيُقَالُ: وَمَا كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ لِيَقُولَ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ اطِّلَاعِهِ، فَلَعَلَّهُ سَمِعَهَا مِنْ لَفْظِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُنْزِلَتْ، وَمَا سَمِعَهَا عُمَرُ - مَثَلًا - إِلَّا بِوَاسِطَةٍ.
2 - بَاب التَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ وَالْأَكْلِ بِالْيَمِينِ
5376 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ: الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنِي، أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ كَيْسَانَ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ: كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ.
[الحديث 5376 - طرفاه في: 5377، 5378]
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ، وَالْأَكْلُ بِالْيَمِينِ) الْمُرَادُ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ، قَوْلُ: بِسْمِ اللَّهِ، فِي ابْتِدَاءِ الْأَكْلِ، وَأَصْرَحُ مَا وَرَدَ فِي صِفَةِ التَّسْمِيَةِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أُمِّ كُلْثُومٍ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا، فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ، فَإِنْ نَسِيَ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أُمَيَّةَ بْنِ مَخْشِيٍّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي أَدَبِ الْأَكْلِ مِنْ الْأَذْكَارِ: صِفَةُ التَّسْمِيَةِ مِنْ أَهَمِّ مَا يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهُ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَإِنْ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، كَفَاهُ وَحَصَلَتِ السُّنَّةُ. فَلَمْ أَرَ لِمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْأَفْضَلِيَّةِ دَلِيلًا خَاصًّا، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي آدَابِ الْأَكْلِ مِنَ الْإِحْيَاءِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي كُلِّ لُقْمَةٍ بِسْمِ اللَّهِ كَانَ حَسَنًا، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ مَعَ الْأُولَى: بِسْمِ اللَّهِ، وَمَعَ الثَّانِيَةِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ، وَمَعَ الثَّالِثَةِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَلَمْ أَرَ لِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ دَلِيلًا، وَالتَّكْرَارُ قَدْ بَيَّنَ هُوَ وَجْهَهُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى لَا يَشْغَلَهُ الْأَكْلُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْأَكْلُ بِالْيَمِينِ فَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ مَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَكَذَا بِغَيْرِهِ بِأَنْ يَحْتَاجَ إِلَى أَنْ يُلْقِمَهُ غَيْرُهُ، وَلَكِنَّهُ بِيَمِينِهِ لَا بِشِمَالِهِ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ: الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنِي) كَذَا وَقَعَ هُنَا وَهُوَ مِنْ تَأْخِيرِ الصِّيغَةِ عَنِ الرَّاوِي، وَهُوَ جَائِزٌ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَّادٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْوَلِيدِ بِالْعَنْعَنَةِ، ثُمَّ قَالَ آخِرَهُ: فَسَأَلُوهُ عَنْ إِسْنَادِهِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي سِيَاقِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ، وَلِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سَنَدٌ آخَرُ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ؛ كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَى هِشَامٍ فِي سَنَدِهِ، فَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ عَرَّجَ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ لِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ) أَيِ: ابْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَاسْمُ أَبِي سَلَمَةَ عَبْدُ اللَّهِ، وَأُمُّ عُمَرَ الْمَذْكُورِ هِيَ أُمُّ سَلَمَة زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ رَبِيبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (كُنْتُ غُلَامًا) أَيْ: دُونَ الْبُلُوغِ، يُقَالُ لِلصَّبِيِّ مِنْ حِينِ يُولَدُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الْحُلُمَ: غُلَامٌ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ وُلِدَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَتَبِعَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّهُ وُلِدَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَدْ صَحَّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَعُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ مَعَ النِّسْوَةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَكَانَ أَكْبَرَ مِنِّي بِسَنَتَيْنِ انْتَهَى. وَمَوْلِدُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى عَلَى الصَّحِيحِ، فَيَكُونُ مَوْلِدُ عُمَرَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ.
قَوْلُهُ (: فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، أَيْ: فِي تَرْبِيَتِهِ، وَتَحْتَ نَظَرِهِ، وَأَنَّهُ يُرَبِّيهِ فِي حِضْنِهِ تَرْبِيَةَ الْوَلَدِ، قَالَ عِيَاضٌ: الْحَجْرُ يُطْلَقُ عَلَى الْحِضْنِ وَعَلَى الثَّوْبِ فَيَجُوزُ فِيهِ الْفَتْحُ وَالْكَسْرُ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الْحَضَانَةِ فَبِالْفَتْحِ لَا غَيْرِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَنْعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فَبِالْفَتْحِ فِي الْمَصْدَرِ
وَبِالْكَسْرِ فِي الِاسْمِ لَا غَيْرُ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ) أَيْ: عِنْدَ الْأَكْلِ، وَمَعْنَى تَطِيشُ - وَهُوَ بِالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بِوَزْنِ تَطِيرُ - تَتَحَرَّكُ، فَتَمِيلُ إِلَى نَوَاحِيَ الْقَصْعَةِ وَلَا تَقْتَصِرُ عَلَى مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ: قَالَ: وَالْأَصْلُ أَطِيشُ بِيَدَيْ فَأَسْنَدَ الطَّيْشَ إِلَى يَدِهِ مُبَالَغَةً، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى تَطِيشُ: تَخِفُّ وَتُسْرِعُ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ بِلَفْظِ: أَكَلْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا، فَجَعَلْتُ آكُلُ مِنْ نَوَاحِيَ الصَّحْفَةِ وَهُوَ يُفَسِّرُ الْمُرَادَ، وَالصَّحْفَةُ مَا تُشْبِعُ خَمْسَةً وَنَحْوَهَا، وَهِيَ أَكْبَرُ مِنَ الْقَصْعَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ: عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ طَعَامٌ، فَقَالَ: ادْنُ يَا بُنَيَّ، وَيَأْتِي فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ: أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِطَعَامٍ وَعِنْدَهُ رَبِيبُهُ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَجِيءَ الطَّعَامِ وَافَقَ دُخُولَهُ.
قَوْلُهُ: (يَا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ فِي أَوَّلِهِ، وَفِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ نَظَرٌ، إِلَّا إِنْ أُرِيدَ بِالِاسْتِحْبَابِ أَنَّهُ رَاجِحُ الْفِعْلِ، وَإِلَّا فَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى وُجُوبِ ذَلِكَ، وَهُوَ قَضِيَّةُ الْقَوْلِ بِإِيجَابِ الْأَكْلِ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ بِالْجَمِيعِ وَاحِدَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَمِمَّا يَلِيكَ) قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: حَمَلَهُ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى النَّدْبِ، وَبِهِ جَزَمَ الْغَزَالِيُّ ثُمَّ النَّوَوِيُّ، لَكِنْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْأُمِّ عَلَى الْوُجُوبِ. قُلْتُ: وَكَذَا ذَكَرَهُ عَنْهُ الصَّيْرَفِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ وَنَقَلَ الْبُوَيْطِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ الْأَكْلَ مِنْ رَأْسِ الثَّرِيدِ وَالتَّعْرِيسَ عَلَى الطَّرِيقِ وَالْقِرَانَ فِي التَّمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ الْأَمْرُ بِضِدِّهِ حَرَامٌ، وَمَثَّلَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي مِنْهَاجِهِ لِلنَّدَبِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: كُلْ مِمَّا يَلِيكَ وَتَعَقَّبَهُ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ فِي شَرْحِهِ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّ مَنْ أَكَلَ مِمَّا لَا يَلِيهِ عَالِمًا بِالنَّهْيِ كَانَ عَاصِيًا آثِمًا. قَالَ: وَقَدْ جَمَعَ وَالِدِي نَظَائِرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابٍ لَهُ سَمَّاهُ كَشْفُ اللَّبْسِ عَنِ الْمَسَائِلِ الْخَمْسِ وَنَصَرَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا لِلْوُجُوبِ. قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْأَكْلِ بِالْيَمِينِ وُرُودُ الْوَعِيدِ فِي الْأَكْلِ بِالشِّمَالِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: كُلْ بِيَمِينِكَ، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ. قَالَ: لَا اسْتَطَعْتَ.
فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ بَعْدُ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ تَأْكُلُ بِشِمَالِهَا، فَقَالَ: أَخَذَهَا دَاءُ غَزَّةَ، فَقَالَ: إِنَّ بِهَا قُرْحَةً، قَالَ: وَإِنْ، فَمَرَّتْ بِغَزَّةَ، فَأَصَابَهَا طَاعُونٌ فَمَاتَتْ، وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ الرَّبِيعِ الْجِيزِيُّ فِي مُسْنَدِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ نَزَلُوا مِصْرَ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ وَثَبَتَ النَّهْيُ عَنِ الْأَكْلِ بِالشِّمَالِ، وَأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَفَعَتْهُ: مَنْ أَكَلَ بِشِمَالِهِ أَكَلَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ الْحَدِيثَ. وَنَقَلَ الطِّيبِيُّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ أَيْ: يَحْمِلُ أَوْلِيَاءَهُ مِنَ الْإِنْسِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِيُضَادَّ بِهِ عِبَادَ اللَّهِ الصَّالِحِينَ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَحْرِيرُهُ لَا تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ كُنْتُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْمِلُ أَوْلِيَاءَهُ عَلَى ذَلِكَ. انْتَهَى. وَفِيهِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحِيلُ ذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ الْخَبَرُ بِهِ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِهِ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي ذَلِكَ احْتِمَالَيْنِ ثُمَّ قَالَ: وَالْقُدْرَةُ صَالِحَةٌ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ عِنْدِ مُسْلِمٍ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ إِذَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، قَالَ: وَهَذَا عِبَارَةٌ عَنْ تَنَاوُلِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اسْتِحْسَانُهُ رَفْعَ الْبَرَكَةِ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ إِذَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ ظَاهِرُهُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَشَبَّهَ بِالشَّيْطَانِ، وَأَبْعَدَ وَتَعَسَّفَ مَنْ أَعَادَ الضَّمِيرَ فِي شِمَالِهِ عَلَى الْآكِلِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ اسْتِحْبَابُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِالْيَمِينِ، وَكَرَاهَةُ ذَلِكَ بِالشِّمَالِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ أَخْذٍ وَعَطَاءٍ كَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ،
وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ جِرَاحَةٍ، فَإِنْ كَانَ فَلَا كَرَاهَةَ، كَذَا قَالَ، وَأَج ابَ عَنِ الْإِشْكَالِ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الرَّجُلِ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ وَاعْتَذَرَ فَلَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ بِأَنَّ عِيَاضًا ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا، وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ جَمَاعَةً ذَكَرُوهُ فِي الصَّحَابَةِ، وَسَمَّوْهُ بُسْرًا بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَاحْتَجَّ عِيَاضٌ بِمَا وَرَدَ فِي خَبَرِهِ أَنَّ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْكِبْرُ، وَرَدَّهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الْكِبْرَ وَالْمُخَالَفَةَ لَا يَقْتَضِي النِّفَاقَ؛ لَكِنَّهُ مَعْصِيَةٌ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ أَمْرَ إِيجَابٍ. قُلْتُ: وَلَمْ يَنْفَصِلْ عَنِ اخْتِيَارِهِ أَنَّ الْأَمْرَ أَمْرُ نَدْبٍ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِإِثْمِ مَنْ أَكَلَ بِشِمَالِهِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يُنْسَبُ إِلَى الشَّيْطَانِ حَرَامٌ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا الْأَمْرُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَشْرِيفِ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ؛ لِأَنَّهَا أَقْوَى فِي الْغَالِبِ وَأَسْبَقُ لِلْأَعْمَالِ وَأَمْكَنُ فِي الْأَشْغَالِ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْيُمْنِ، وَقَدْ شَرَّفَ اللَّهُ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ نَسَبَهُمْ إِلَى الْيَمِينِ، وَعَكْسُهُ فِي أَصْحَابِ الشِّمَالِ قَالَ: وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالْيَمِينُ وَمَا نُسِبَ إِلَيْهَا، وَمَا اشْتُقَّ مِنْهَا مَحْمُودٌ لُغَةً وَشَرْعًا وَدِينًا، وَالشِّمَالُ عَلَى نَقِيضِ ذَلِكَ، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَمِنَ الْآدَابِ الْمُنَاسِبَةِ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالسِّيرَةِ الْحَسَنَةِ عِنْدَ الْفُضَلَاءِ اخْتِصَاصُ الْيَمِينِ بِالْأَعْمَالِ الشَّرِيفَةِ وَالْأَحْوَالِ النَّظِيفَةِ، وَقَالَ أَيْضًا: كُلُّ هَذِهِ الْأَوَامِرِ مِنَ الْمَحَاسِنِ الْمُكَمِّلَةِ وَالْمَكَارِمِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، وَالْأَصْلُ فِيمَا كَانَ مِنْ هَذَا التَّرْغِيبُ وَالنَّدْبُ، قَالَ: وَقَوْلُهُ: كُلْ مِمَّا يَلِيكَ مَحِلُّهُ مَا إِذَا كَانَ الطَّعَامُ نَوْعًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ كَالْحَائِزِ لِمَا يَلِيهِ مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخْذُ الْغَيْرِ لَهُ تَعَدٍّ عَلَيْهِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَقَذُّرِ النَّفْسِ مِمَّا خَاضَتْ فِيهِ الْأَيْدِي، وَلِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ الْحِرْصِ وَالنَّهَمِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ سُوءُ أَدَبٍ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ، أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَنْوَاعُ فَقَدْ أَبَاحَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ. كَذَا قَالَ.
قَوْلُهُ: (فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ) بِكَسْرِ الطَّاءِ، أَيْ: صِفَةُ أَكْلِي، أَيْ لَزِمْتُ ذَلِكَ وَصَارَ عَادَةً لِي. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِالضَّمِّ، يُقَالُ: طَعِمَ إِذَا أَكَلَ، وَالطُّعْمَةُ: الْأَكْلَةُ، وَالْمُرَادُ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِابْتِدَاءِ بِالتَّسْمِيَةِ وَالْأَكْلِ بِالْيَمِينِ مِمَّا يَلِيهِ. وَقَوْلُهُ: بَعْدُ بِالضَّمِّ عَلَى الْبِنَاءِ، أَيِ: اسْتَمَرَّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِي فِي الْأَكْلِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَنْبَغِي اجْتِنَابَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُشْبِهُ أَعْمَالَ الشَّيَاطِينِ وَالْكُفَّارِ، وَأَنَّ لِلشَّيْطَانِ يَدَيْنِ، وَأَنَّهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَأْخُذُ وَيُعْطِي. وَفِيهِ جَوَازُ الدُّعَاءِ عَلَى مَنْ خَالَفَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ. وَفِيهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى فِي حَالِ الْأَكْلِ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَعْلِيمِ أَدَبِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ؛ لِامْتِثَالِهِ الْأَمْرَ وَمُوَاظَبَتِهِ عَلَى مُقْتَضَاهُ.
3 - بَاب الْأَكْلِ مِمَّا يَلِيهِ
وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ.
5377 -
حَدَّثَنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ الدِّيلِيِّ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ - وَهُوَ ابْنُ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَكَلْتُ يَوْمًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا، فَجَعَلْتُ آكُلُ مِنْ نَوَاحِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُلْ مِمَّا يَلِيكَ.
5378 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ أَبِي نُعَيْمٍ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِطَعَامٍ، وَمَعَهُ رَبِيبُهُ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالَ: سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَكْلِ مِمَّا يَلِيهِ، وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ) هَذَا التَّعْلِيقُ
طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْوَلِيمَةِ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْهَدِيَّةِ لِلْعَرُوسِ فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ مُعَلَّقًا مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنِ الْجَعْدِ، وَفِيهِ: ثُمَّ جَعَلَ يَدْعُو عَشَرَةً عَشَرَةً يَأْكُلُونَ، وَيَقُولُ لَهُمْ: اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ هُنَاكَ مَنْ وَصَلَهُ، وَسَيَأْتِي أَصْلُهُ مَوْصُولًا بَعْدَ بَابَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ مَقْصُودُ التَّرْجَمَةِ، وَعَزَاهُ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ تَبَعًا لِمُغُلْطَايْ لِتَخْرِيجِ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ طَرِيقِ بَكْرٍ، وَثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَهُوَ ذُهُولٌ مِنْهُمَا؛ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مَقْصُودُ التَّرْجَمَةِ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى، وَالْبَزَّارِ أَيْضًا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) يَعْنِي ابْنَ أَبِي كَثِيرٍ الْمَدَنِيَّ، وَحَلْحَلَةٌ بِمُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا لَامٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ لَامٌ مَفْتُوحَةٌ.
قَوْلُهُ: (عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، أَبِي نُعَيْمٍ، قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا رَوَاهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُ، وَصُورَتُهُ الْإِرْسَالُ، وَقَدْ وَصَلَهُ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، وَيَحْيَى بْنُ صَالِحٍ الْوُحَاظِيُّ فَقَالَا: عَنْ مَالِكٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرٍ وَهُوَ مُنْكَرٌ، وَإِنَّمَا اسْتَجَازَ الْبُخَارِيُّ إِخْرَاجَهُ - وَإِنْ كَانَ الْمَحْفُوظُ فِيهِ عَنْ مَالِكٍ الْإِرْسَالَ - لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قَبْلَهُ صِحَّةُ سَمَاعِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا قَصُرَ بِإِسْنَادِهِ حَيْثُ لَمْ يُصَرِّحْ بِوَصْلِهِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَوْصُولٌ، وَلَعَلَّهُ وَصَلَهُ مَرَّةً فَحَفِظَ ذَلِكَ عَنْهُ خَالِدٌ، وَيَحْيَى بْنُ صَالِحٍ وَهُمَا ثِقَتَانِ، أَخْرَجَ ذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ عَنْهُمَا، وَاقْتَصَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ عَلَى ذِكْرِ رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ وَحْدَهُ.
4 - بَاب مَنْ تَتَبَّعَ حَوَالَيْ الْقَصْعَةِ مَعَ صَاحِبِهِ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مِنْهُ كَرَاهِيَةً
5379 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَهُ، قَالَ أَنَسٌ: فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَأَيْتُهُ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيْ الْقَصْعَةِ، قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ تَتَبَّعَ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ مَعَ صَاحِبِهِ) حَوَالَيْ بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ، أَيْ: جَوَانِبَ، يُقَالُ: رَأَيْتُ النَّاسَ حَوْلَهُ وَحَوْلَيْهِ وَحَوَالَيْهِ وَاللَّامُ مَفْتُوحَةٌ فِي الْجَمِيعِ، وَلَا يَجُوزُ كَسْرُهَا.
قَوْلُهُ: (إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مِنْهُ كَرَاهِيَةً) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي تَتَبُّعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الدُّبَّاءَ مِنَ الصَّحْفَةِ، وَهَذَا ظَاهِرُهُ يُعَارِضُ الَّذِي قَبْلَهُ فِي الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ مِمَّا يَلِيهِ، فَجَمَعَ الْبُخَارِيُّ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ الْجَوَازِ عَلَى مَا إِذَا عَلِمَ رِضَا مَنْ يَأْكُلْ مَعَهُ، وَرَمَزَ بِذَلِكَ إِلَى تَضْعِيفِ حَدِيثِ عِكْرَاشٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ حَيْثُ جَاءَ فِيهِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ لَوْنًا وَاحِدًا فَلَا يَتَعَدَّى مَا يَلِيهِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ لَوْنٍ فَيَجُوزُ، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فِعْلَهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: كَانَ الطَّعَامُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَرَقٍ وَدُبَّاءٍ وَقَدِيدٍ فَكَانَ يَأْكُلُ مِمَّا يُعْجِبُهُ وَهُوَ الدُّبَّاءُ وَيَتْرُكُ مَا لَا يُعْجِبُهُ وَهُوَ الْقَدِيدُ، وَحَمَلَهُ الْكِرْمَانِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ لَهُ فِي بَابِ الْخَيَّاطِ مِنْ كِتَابِ الْبَيْعِ عَلَى أَنَّ الطَّعَامَ كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ، قَالَ: فَلَوْ كَانَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ لَكَانَ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا يَلِيهِ، قُلْتُ: إِنْ أَرَادَ بِالْوَحْدَةِ أَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَأْكُلْ مَعَهُ فَمَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ أَنَسًا أَكَلَ مَعَهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْمَالِكَ وَأَذِنَ لِأَنَسٍ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ فَلْيَطْرُدْهُ فِي كُلِّ مَالِكٍ وَمُضِيفٍ، وَمَا أَظُنُّ أَحَدًا يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ.
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنْ مَالِكٍ جَوَابًا يَجْمَعُ الْجَوَابَيْنِ
الْمَذْكُورِينَ فَقَالَ: إِنَّ الْمُؤَاكِلَ لِأَهْلِهِ وَخَدَمِهِ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَتْبَعَ شَهْوَتَهُ حَيْثُ رَآهَا إِذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُكْرَهُ مِنْهُ، فَإِذَا عَلِمَ كَرَاهَتَهُمْ لِذَلِكَ لَمْ يَأْكُلْ إِلَّا مِمَّا يَلِيهِ. وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّمَا جَالَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَتَكَرَّهُ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا يَتَقَذَّرُهُ، بَلْ كَانُوا يَتَبَارَكُونَ بِرِيقِهِ وَمُمَاسَّةِ يَدِهِ، بَلْ كَانُوا يَتَبَادَرُونَ إِلَى نُخَامَتِهِ فَيَتَدَلَّكُونَ بِهَا، فَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُتَقَذَّرْ مِنْ مُؤَاكِلِهِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ تَجُولَ يَدُهُ فِي الصَّحْفَةِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: إِذَا أَكَلَ الْمَرْءُ مَعَ خَادِمِهِ وَكَانَ فِي الطَّعَامِ نَوْعٌ مُنْفَرِدٌ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ وَحْدَهُ فَسَيَأْتِي فِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْخَيَّاطَ أَقْبَلَ عَلَى عَمَلِهِ. قُلْتُ: هِيَ رِوَايَةُ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ، لَكِنْ لَا يَثْبُتُ الْمُدَّعَى لِأَنَّ أَنَسًا أَكَلَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (إنَّ خَيَّاطًا) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ غُلَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ مَوْلًى لَهُ خَيَّاطًا دَعَاهُ.
قَوْلُهُ: (لِطَعَامٍ صَنَعَهُ) كَانَ الطَّعَامُ الْمَذْكُورُ ثَرِيدًا كَمَا سَأُبَيِّنُهُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَنَسٌ: فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَأَيْتُهُ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِتَمَامِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ بِالزِّيَادَةِ وَلَفْظُهُ: فَقَرَّبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُبْزًا وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ وَأَفَادَ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ عَنْ مُسْتَخْرَجِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَنَّ الْخُبْزَ الْمَذْكُورَ كَانَ خُبْزَ شَعِيرٍ، وَغَفَلَ عَمَّا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ الْمَرَقِ كَمَا سَيَأْتِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ: خُبْزَ شَعِيرٍ وَالثَّانِي مِثْلُهُ، وَكَذَا أَوْرَدَهُ بَعْدَ بَابٍ آخَرَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ مَالِكٍ بِتَمَامِهِ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ قُتَيْبَةَ أَيْضًا، وَقَدْ أَفْرَدَ الْبُخَارِيُّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ تَرْجَمَةً، وَهِيَ الْمَرَقُ وَالدُّبَّاءُ وَالثَّرِيدُ وَالْقَدِيدُ.
قَوْلُهُ: (الدُّبَّاءُ) بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ مَمْدُودٌ وَيَجُوزُ الْقَصْرُ، حَكَاهُ الْقَزَّازُ، وَأَنْكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، هُوَ الْقَرْعُ، وَقِيلَ: خَاصٌّ بِالْمُسْتَدِيرِ مِنْهُ، وَوَقَعَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ لِلنَّوَوِيِّ أَنَّهُ الْقَرْعُ الْيَابِسُ، وَمَا أَظُنُّهُ إِلَّا سَهْوًا، وَهُوَ الْيِقْطِينُ أَيْضًا وَاحِدُهُ دُبَّاةٌ وَدِبَّةٌ، وَكَلَامُ أَبِي عُبَيْدٍ الْهَرَوِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ الْهَمْزَةَ زَائِدَةٌ؛ فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ فِي دَبَبٍ، وَأَمَّا الْجَوْهَرِيُّ فَأَخْرَجَهُ فِي الْمُعْتَلِّ عَلَى أَنَّ هَمْزَتَهُ مُنْقَلِبَةٌ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، لَكِنْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُ: لَا نَدْرِي هِيَ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ أَوْ يَاءٍ، وَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ: فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ جَعَلْتُ أَجْمَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ: فَجَعَلْتُ أَجْمَعُهُ وَأُدْنِيهِ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ) فِي رِوَايَةِ ثُمَامَةَ: قَالَ أَنَسٌ: لَا أَزَالُ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ بَعْدَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ مَا صَنَعَ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ فَجَعَلْتُ أُلْقِيهِ إِلَيْهِ وَلَا أَطْعَمُهُ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ ثَابِتٍ، وَعَاصِمٍ، عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ ثَابِتٌ: فَسَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: فَمَا صُنِعَ لِي طَعَامٌ بَعْدُ أَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُصْنَعَ فِيهِ دُبَّاءٌ إِلَّا صُنِعَ، وَلِابْنِ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَعَثَتْ مَعِي أُمُّ سُلَيْمٍ بِمِكْتَلٍ فِيهِ رُطَبٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أَجِدْهُ، وَخَرَجَ قَرِيبًا إِلَى مَوْلًى لَهُ دَعَاهُ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَأْكُلُ فَدَعَانِي فَأَكَلْتُ مَعَهُ، قَالَ: وَصُنِعَ لَهُ ثَرِيدَةً بِلَحْمٍ وَقَرْعٍ، فَإِذَا هُوَ يُعْجِبُهُ الْقَرْعُ، فَجَعَلْتُ أَجْمَعُهُ فَأُدْنِيهِ مِنْهُ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ بَعْضَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: كَانَ يُعْجِبُهُ الْقَرْعُ وَلِلنَّسَائِيِّ: كَانَ يُحِبُّ الْقَرْعَ، وَيَقُولُ: إِنَّهَا شَجَرَةُ أَخِي يُونُسَ وَيُجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَلَمْ أَجِدْهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ الْبَابِ ذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَطْلَقَ الْمَعِيَّةَ بِاعْتِبَارِ مَا آلَ إِلَيْهِ الْحَالُ، وَيُحْتَمَلُ تَعَدُّدُ الْقِصَّةِ عَلَى بُعْدٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ أَكْلِ الشَّرِيفِ طَعَامَ مَنْ دُونَهُ مِنْ مُحْتَرِفٍ وَغَيْرِهِ وَإِجَابَةِ دَعَوْتِهِ، وَمُؤَاكَلَةِ الْخَادِمِ، وَبَيَانُ مَا كَانَ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ التَّوَاضُعِ وَاللُّطْفِ بِأَصْحَابِهِ وَتَعَاهُدِهِمْ بِالْمَجِيءِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَفِيهِ الْإِجَابَةُ إِلَى الطَّعَامِ وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا وَمُنَاوَلَةُ الضِّيفَانِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا
مِمَّا وُضِعَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ مَنْ يَأْخُذُ مِنْ قُدَّامِ الْآخَرِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ. وَفِيهِ جَوَازُ تَرْكِ الْمُضِيفِ الْأَكْلَ مَعَ الضَّيْفِ؛ لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ الْخَيَّاطَ قَدَّمَ لَهُمُ الطَّعَامَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَمَلِهِ فَيُؤْخَذُ جَوَازُ ذَلِكَ مِنْ تَقْرِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ كَانَ قَلِيلًا فَآثَرَهُمْ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَانَ مُكْتَفِيًا مِنَ الطَّعَامِ أَوْ كَانَ صَائِمًا أَوْ كَانَ شُغْلُهُ قَدْ تَحَتَّمَ عَلَيْهِ تَكْمِيلُهُ. وَفِيهِ الْحِرْصُ عَلَى التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي الْمَطَاعِمِ وَغَيْرِهَا. وَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأَنَسٍ لِاقْتِفَائِهِ أَثَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى فِي الْأَشْيَاءِ الْجِبِلِّيَّةِ، وَكَانَ يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِاتِّبَاعِهِ فِيهَا، رضي الله عنه.
قَوْلُهُ: (قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كُلْ بِيَمِينِكِ) كَذَا ثَبَتَ هَذَا التَّعْلِيقُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ، والْكُشْمِيهَنِيِّ وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ وَهُوَ الْأَشْبَهُ، وَقَدْ مَضَى مَوْصُولًا قَبْلَ بَابٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ التَّرْجَمَةِ الَّتِي تَلِيهِ.
5 - بَاب التَّيَمُّنِ فِي الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كُلْ بِيَمِينِكَ
5380 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ؛ فِي طُهُورِهِ، وَتَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ. وَكَانَ قَالَ بِوَاسِطٍ قَبْلَ هَذَا: فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّيَمُّنِ فِي الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثِ عَائِشَةَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ التَّيَمُّنَ الْحَدِيثَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ تَكْرَارًا؛ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: بَابُ التَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ، وَالْأَكْلِ بِالْيَمِينِ وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ أَعَمُّ مِنَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْأُولَى لِفِعْلِ الْأَكْلِ فَقَطْ، وَهَذِهِ لِجَمِيعِ الْأَفْعَالِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ بِطَرِيقِ التَّعْمِيمِ، اهـ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْعُمُومِ عُمُومُ مُتَعَلِّقَاتِ الْأَكْلِ، كَالْأَكْلِ مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ، وَتَقْدِيمِ مَنْ عَلَى الْيَمِينِ فِي الْإِتْحَافِ وَنَحْوِهِ عَلَى مَنْ عَلَى الشِّمَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ قَالَ بِوَاسِطَ قَبْلَ هَذَا: فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ) الْقَائِلُ هُوَ شُعْبَةُ، وَالْمَقُولُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بِوَاسِطَ: هُوَ أَشْعَثُ وَهُوَ ابْنُ أَبِي الشَّعْثَاءَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مَعَ مَبَاحِثِ الْحَدِيثِ فِي بَابِ التَّيَمُّنِ مِنْ كِتَابِ الْوُضُوءِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: الْقَائِلُ بِوَاسِطَ هُوَ أَشْعَثُ، كَذَا نُقِلَ، وَلَيْسَ بِصَوَابٍ مِمَّنْ قَالَ.
6 - بَاب مَنْ أَكَلَ حَتَّى شَبِعَ
5381 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ، لِأُمِّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَعِيفًا، أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا، فَلَفَّتْ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ ثَوْبِي، وَرَدَّتْنِي بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: بِطَعَامٍ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ مَعَهُ: قُومُوا فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ، فَقَالَ أَبُو
طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ الطَّعَامِ مَا نُطْعِمُهُمْ، فَقَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ أَبُو طَلْحَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى دَخَلَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ، فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ، فَأَمَرَ بِهِ فَفُتَّ، وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا فَأَدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ،
فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ أَذِنَ لِعَشَرَةٍ، فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا، وَالْقَوْمُ ثَمَانُونَ رَجُلًا.
5382 -
حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ. قَالَ. وَحَدَّثَ أَبُو عُثْمَانَ أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثِينَ وَمِائَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ، فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ أَوْ نَحْوُهُ، فَعُجِنَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَبَيْعٌ أَمْ عَطِيَّةٌ؟ - أَوْ قَالَ: هِبَةٌ - قَالَ: لَا بَلْ بَيْعٌ، قَالَ: فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً فَصُنِعَتْ فَأَمَرَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَوَادِ الْبَطْنِ يُشْوَى، وَايْمُ اللَّهِ مَا مِنْ الثَّلَاثِينَ وَمِائَةٍ إِلَّا قَدْ حَزَّ لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا، إِنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا خَبَأَهَا لَهُ، ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا قَصْعَتَيْنِ، فَأَكَلْنَا أَجْمَعُونَ، وَشَبِعْنَا، وَفَضَلَ فِي الْقَصْعَتَيْنِ، فَحَمَلْتُهُ عَلَى الْبَعِيرِ. أَوْ كَمَا قَالَ.
5383 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ شَبِعْنَا مِنْ الْأَسْوَدَيْنِ التَّمْرِ وَالْمَاءِ.
[الحديث 5383 - طرفه في: 5442]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَكَلَ حَتَّى شَبِعَ) ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:
الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي تَكْثِيرِ الطَّعَامِ بِبَرَكَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ وَفِيهِ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا.
الثَّاني: حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فِي إِطْعَامِ الْقَوْمِ مِنْ سَوَادِ بَطْنِ الشَّاةِ، وَكَانُوا ثَلَاثِينَ وَمِائَةَ رَجُلٍ، وَفِيهِ: فَأَكَلْنَا أَجْمَعُونَ وَشَبِعْنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ.
الثَّالثُ حَدِيثُ عَائِشَةَ: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ شَبِعْنَا مِنَ الْأَسْوَدَيْنِ التَّمْرِ وَالْمَاءِ)، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ شِبَعَهُمْ لَمْ يَقَعْ قَبْلَ زَمَانِ وَفَاتِهِ، قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ: قُلْتُ: لَكِنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ قُلْنَا: الْآنَ نَشْبَعُ مِنَ التَّمْرِ وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا شَبِعْنَا حَتَّى فَتْحَنَا خَيْبَرَ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم شَبِعَ حِينَ شَبِعُوا وَاسْتَمَرَّ شِبَعُهُمْ، وَابْتِدَاؤُهُ مِنْ فَتْحِ خَيْبَرَ، وَذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَمُرَادُ عَائِشَةَ بِمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ مِنَ الشِّبَعِ هُوَ مِنَ التَّمْرِ خَاصَّةً دُونَ الْمَاءِ، لَكِنْ قَرَنَتْهُ بِهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ تَمَامَ الشِّبَعِ حَصَلَ بِجَمْعِهِمَا، فَكَأَنَّ الْوَاوَ فِيهِ بِمَعْنَى مَعَ، لَا أَنَّ الْمَاءَ وَحْدَهُ يُوجَدُ الشِّبَعُ مِنْهُ، وَلِمَا عَبَّرَتْ عَنِ التَّمْرِ بوَصْفٍ
وَاحِدٍ وَهُوَ السَّوَادُ، عَبَّرَتْ عَنِ الشِّبَعِ وَالرِّيِّ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الشِّبَعُ، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ: سَمِعْتُ صَوْتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ: كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ فِي صَوْتِهِ لَمَّا تَكَلَّمَ إِذْ ذَاكَ الْفَخَامَةَ الْمَأْلُوفَةَ مِنْهُ، فَحَمَلَ ذَلِكَ عَلَى الْجُوعِ بِقَرِينَةِ الْحَالِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى دَعْوَى ابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجُوعُ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ: أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي وَتُعُقِّبَ بِالْحَمْلِ عَلَى تَعَدُّدِ الْحَالِ: فَكَانَ يَجُوعُ أَحْيَانَا؛ لِيَتَأَسَّى بِهِ أَصْحَابُهُ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ لَا يَجِدُ مَدَدًا وَأَدْرَكَهُ أَلَمُ الْجُوعِ صَبَرَ
فَضُوعِفَ لَهُ، وَقَدْ بَسَطْتُ هَذَا فِي مَكَانٍ آخَرَ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ قِصَّةِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ مِنْ أَدَبِ مَنْ يُضِيفُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَ الضَّيْفِ إِلَى بَابِ الدَّارِ تَكَرُّمَةً لَهُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ جَوَازُ الشِّبَعِ، وَأَنَّ تَرْكَهُ أَحْيَانَا أَفْضَلُ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ سَلْمَانَ، وَأَبِي جُحَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا فِي الْآخِرَةِ قَالَ الطَّبَرِيُّ: غَيْرَ أَنَّ الشِّبَعِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فَإِنَّ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ سَرَفٌ، وَالْمُطْلَقُ مِنْهُ مَا أَعَانَ الْآكِلَ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ وَلَمْ يَشْغَلْهُ ثِقَلُهُ عَنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ. اهـ.
وَحَدِيثُ سَلْمَانَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ، وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ وَفِي سَنَدِهِ مَقَالٌ أَيْضًا، وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ أَبِي الْهَيْثَمِ إِذْ ذَبَحَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِصَاحِبَيْهِ الشَّاةَ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الشِّبَعِ، وَمَا جَاءَ مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى الشِّبَعِ الَّذِي يُثْقِلُ الْمَعِدَةَ وَيُثَبِّطُ صَاحِبَهُ عَنِ الْقِيَامِ لِلْعِبَادَةِ وَيُفْضِي إِلَى الْبَطَرِ وَالْأَشَرِّ وَالنَّوْمِ وَالْكَسَلِ، وَقَدْ تَنْتَهِي كَرَاهَتُهُ إِلَى التَّحْرِيمِ بِحَسَبِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ. وَذَكَرَ الْكِرْمَانِيُّ تَبَعًا لِابْنِ الْمُنِيرِ أَنَّ الشِّبَعَ الْمَذْكُورَ مَحْمُولٌ عَلَى شِبَعِهِمُ الْمُعْتَادِ مِنْهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الثُّلُثَ لِلطَّعَامِ وَالثُّلُثَ لِلشَّرَابِ وَالثُّلُثَ لِلنَّفْسِ، وَيَحْتَاجُ فِي دَعْوَى أَنَّ تِلْكَ عَادَتُهُمْ إِلَى نَقْلٍ خَاصٍّ، وَإِنَّمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ حَسَنٌ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا مَلَأَ آدَمِيٌ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ غَلَبَ الْآدَمِيَّ نَفْسُهُ، فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ، وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ، وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ: لَوْ سَمِعَ بُقْرَاطُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ، لَعَجِبَ مِنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ قَبْلَهُ فِي بَابِ كَسْرِ الشَّهْوَتَيْنِ مِنْ الْإِحْيَاءِ ذُكِرَ هَذَا الْحَدِيثُ لِبَعْضِ الْفَلَاسِفَةِ فَقَالَ: مَا سَمِعْتُ كَلَامًا فِي قِلَّةِ الْأَكْلِ أَحْكَمَ مِنْ هَذَا. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ أَثَرَ الْحِكْمَةِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَاضِحٌ، وَإِنَّمَا خُصَّ الثَّلَاثَةُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَسْبَابُ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْبَطْنَ سِوَاهَا. وَهَلِ الْمُرَادُ بِالثُّلُثِ التَّسَاوِي عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ، أَوِ التَّقْسِيمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُتَقَارِبَةٍ؟ مَحَلُّ احْتِمَالٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمَّحَ بِذِكْرِ الثُّلُثِ إِلَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: الثُّلُثُ كَثِيرٌ وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَشْرِبَةِ فِي بَابِ شُرْبِ اللَّبَنِ لِلْبَرَكَةِ حَدِيثَ أَنَسٍ، وَفِيهِ قَوْلُهُ: فَجَعَلْتُ لَا آلُو مَا جَعَلْتُ فِي بَطْنِي مِنْهُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الشِّبَعُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ طَعَامُ بَرَكَةٍ. قُلْتُ: وَهُوَ مُحْتَمِلٌ إِلَّا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ثَالِثِ أَحَادِيثِ الْبَابِ، فَإِنَّ الْمُرَادُ بِهِ الشِّبَعُ الْمُعْتَادُ لَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْجُوعِ عَلَى رَأْيَيْنِ ذَكَرَهُمَا فِي الْإِحْيَاءِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَشْتَهِيَ الْخُبْزَ وَحْدَهُ، فَمَتَى طَلَبَ الْأُدْمَ فَلَيْسَ بِجَائِعٍ. ثَانِيهُمَا أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ رِيقُهُ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الذُّبَابُ. وَذَكَرَ أَنَّ مَرَاتِبَ الشِّبَعِ تَنْحَصِرُ فِي سَبْعَةٍ:
الْأَوَّلُ: مَا تَقُومُ بِهِ الْحَيَاةُ.
الثَّانِي: أَنْ يَزِيدَ حَتَّى يَصُومَ وَيُصَلِّيَ عَنْ قِيَامٍ وَهَذَانِ وَاجِبَانِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَزِيدَ حَتَّى يَقْوَى عَلَى أَدَاءِ النَّوَافِلِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَزِيدَ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى التَّكَسُّبِ وَهَذَانِ مُسْتَحَبَّانِ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَمْلَأَ الثُّلُثَ وَهَذَا جَائِزٌ.
السَّادِسُ: أَنْ يَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ وَبِهِ يَثْقُلُ الْبَدَنُ وَيَكْثُرُ النَّوْمُ وَهَذَا مَكْرُوهٌ.
السَّابِعُ: أَنْ يَزِيدَ حَتَّى يَتَضَرَّرَ، وَهِيَ الْبِطْنَةُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا،
وَهَذَا حَرَامٌ. اهـ.
وَيُمْكِنُ دُخُولُ الثَّالِثِ فِي الرَّابِعِ، وَالْأَوَّلُ فِي الثَّانِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ:
وَقَعَ فِي سِيَاقِ السَّنَدِ: مُعْتَمِرٌ وَهُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو عُثْمَانَ أَيْضًا، فَزَعَمَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَ عَنْ غَيْرِ أَبِي عُثْمَانَ، ثُمَّ قَالَ: وَحَدَّثَ أَبُو عُثْمَانَ أَيْضًا. قُلْتُ: وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمُرَادَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ أَبَا عُثْمَانَ حَدَّثَهُ بِحَدِيثٍ سَابِقٍ عَلَى هَذَا، ثُمَّ حَدَّثَهُ بِهَذَا، فَلِذَلِكَ قَالَ: أَيْضًا، أَيْ: حَدَّثَ بِحَدِيثٍ بَعْدَ حَدِيثٍ.
7 - بَاب {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} - إِلَى قَوْلِهِ: - {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وَالنِّهْدُ وَالاِجْتِمَاعُ عَلَى الطَّعَامِ
5384 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: سَمِعْتُ بُشَيْرَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ، فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ - قَالَ يَحْيَى: وَهِيَ مِنْ خَيْبَرَ عَلَى رَوْحَةٍ - دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِطَعَامٍ، فَمَا أُتِيَ إِلَّا بِسَوِيقٍ، فَلُكْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ، فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، فَصَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
قَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْتُهُ مِنْهُ عَوْدًا وَبَدْءًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} إِلَى هُنَا لِلْأَكْثَرِ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ الصِّنْفَيْنِ الْآخَرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: الْآيَةَ وَأَرَادَ بَقِيَّةَ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ، لَا الَّتِي فِي سُورَةِ الْفَتْحِ؛ لِأَنَّهَا الْمُنَاسِبَةُ لِأَبْوَابِ الْأَطْعِمَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ إِلَى قَوْلِهِ:{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وَكَذَا لِبَعْضِ رُوَاةِ الصَّحِيحِ.
قَوْلُهُ: (وَالنِّهْدُ وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى الطَّعَامِ) ثَبَتَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ، وَالنِّهْدُ بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ الْهَاءِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي أَوَّلِ الشَّرِكَةِ حَيْثُ قَالَ: بَابُ الشَّرِكَةِ فِي الطَّعَامِ وَالنِّهْدِ وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ بَيَانُ حُكْمِهِ، وَذَكَرَ فِيهِ عِدَّةَ أَحَادِيثَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ وَفِيهِ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِطَعَامٍ فَلَمْ يُؤْتَ إِلَّا بِسَوِيقٍ الْحَدِيثَ وَلَيْسَ هُوَ ظَاهِرًا فِي الْمُرَادِ مِنَ النِّهْدِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَا جِيءَ بِالسَّوِيقِ إِلَّا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، لَكِنَّ مُنَاسَبَتَهُ لِأَصْلِ التَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ فِي اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى لَوْكِ السَّوِيقِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ أَعْمَى وَبَصِيرٍ وَبَيْنَ صَحِيحٍ وَمَرِيضٍ، وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ قَالَ: مُنَاسَبَةُ الْآيَةِ لِحَدِيثِ سُوَيْدٍ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا اجْتَمَعُوا لِلْأَكْلِ عُزِلَ الْأَعْمَى عَلَى حِدَةٍ، وَالْأَعْرَجُ عَلَى حِدَةٍ، وَالْمَرِيضُ عَلَى حِدَةٍ؛ لِتَقْصِيرِهِمْ عَنْ أَكْلِ الْأَصِحَّاءِ، فَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَتَفَضَّلُوا عَلَيْهِمْ، وَهَذَا عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ: كَانَ الْأَعْمَى يَتَحَرَّجُ أَنْ يَأْكُلَ طَعَامَ غَيْرِهِ لِجَعْلِهِ يَدَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَالْأَعْرَجُ كَذَلِكَ لِاتِّسَاعِهِ فِي مَوْضِعِ الْأَكْلِ، وَالْمَرِيضُ لِرَائِحَتِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَأَبَاحَ لَهُمُ الْأَكْلَ مَعَ غَيْرِهِمْ.
وَفِي حَدِيثِ سُوَيْدٍ مَعْنَى الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَيْدِيَهُمْ فِيمَا حَضَرَ مِنَ الزَّادِ سَوَاءً، مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَكْلُهُمْ بِالسَّوَاءِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ سَوَّغَ لَهُمُ الشَّارِعُ ذَلِكَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَكَانَ مُبَاحًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ كَلَامُهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ أَثَرٌ آخَرُ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: كَانَ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِالْأَعْمَى أَوِ الْأَعْرَجِ أَوِ الْمَرِيضِ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ أَوْ قَرِيبِهِ، فَكَانَ الزَّمْنَى يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: إِنَّمَا يَذْهَبُونَ بِنَا إِلَى بُيُوتِ غَيْرِهِمْ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ رُخْصَةً لَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَوْضِعُ الْمُطَابَقَةِ مِنَ التَّرْجَمَةِ وَسَطُ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} وَهِيَ أَصْلٌ فِي جَوَازِ أَكْلِ الْمُخَارَجَةِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ فِي التَّرْجَمَةِ النِّهْدَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
8 - بَاب الْخُبْزِ الْمُرَقَّقِ، وَالْأَكْلِ عَلَى الْخِوَانِ وَالسُّفْرَةِ
5385 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَنَسٍ، وَعِنْدَهُ خَبَّازٌ لَهُ، فَقَالَ: مَا أَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خُبْزًا مُرَقَّقًا، وَلَا شَاةً مَسْمُوطَةً حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ.
[الحديث 5385 - طرفاه في: 5421، 6357]
5386 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ يُونُسَ قَالَ عَلِيٌّ هُوَ الإِسْكَافُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ مَا عَلِمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ عَلَى سُكْرُجَةٍ قَطُّ وَلَا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ وَلَا أَكَلَ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ قِيلَ لِقَتَادَةَ فَعَلَامَ كَانُوا يَأْكُلُونَ قَالَ عَلَى السُّفَرِ"
[الحديث 5386 - طرفاه في: 5415، 6455]
5387 -
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَبْنِي بِصَفِيَّةَ فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ أَمَرَ بِالأَنْطَاعِ فَبُسِطَتْ فَأُلْقِيَ عَلَيْهَا التَّمْرُ وَالأَقِطُ وَالسَّمْنُ وَقَالَ عَمْرٌو عَنْ أَنَسٍ بَنَى بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ"
5388 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ كَانَ أَهْلُ الشَّأْمِ يُعَيِّرُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُونَ يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ فَقَالَتْ لَهُ أَسْمَاءُ يَا بُنَيَّ إِنَّهُمْ يُعَيِّرُونَكَ بِالنِّطَاقَيْنِ هَلْ تَدْرِي مَا كَانَ النِّطَاقَانِ إِنَّمَا كَانَ نِطَاقِي شَقَقْتُهُ نِصْفَيْنِ فَأَوْكَيْتُ قِرْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَحَدِهِمَا وَجَعَلْتُ فِي سُفْرَتِهِ آخَرَ قَالَ فَكَانَ أَهْلُ الشَّأْمِ إِذَا عَيَّرُوهُ بِالنِّطَاقَيْنِ يَقُولُ إِيهًا وَالإِلَهِ تِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا"
5389 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُمَّ حُفَيْدٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ حَزْنٍ خَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَمْنًا وَأَقِطًا وَأَضُبًّا فَدَعَا بِهِنَّ فَأُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ وَتَرَكَهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَالْمُسْتَقْذِرِ لَهُنَّ وَلَوْ كُنَّ حَرَامًا مَا أُكِلْنَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَمَرَ بِأَكْلِهِنَّ"
قَوْلُهُ: (بَابُ الْخُبْزِ الْمُرَقَّقِ وَالْأَكْلِ عَلَى الْخِوَانِ وَالسُّفْرَةِ) أَمَّا الْخُبْزُ الْمُرَقَّقُ فَقَالَ عِيَاضٌ: قَوْلُهُ: مُرَقَّقًا أَيْ: مُلَيَّنًا مُحَسَّنًا، كَخُبْزِ الْحَوَارِيِّ وَشَبَهِهِ، وَالتَّرْقِيقُ: التَّلْيِينُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مَنَاخِلُ. وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَقَّقُ الرَّقِيقَ الْمُوَسَّعَ، اهـ. وَهَذَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْأَثِيرِ قَالَ: الرِّقَاقُ: الرَّقِيقُ، مِثْلُ طِوَالٍ وَطَوِيلٍ، وَهُوَ الرَّغِيفُ الْوَاسِعُ الرَّقِيقُ، وَأَغْرَبَ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: هُوَ السَّمِيدُ وَمَا يُصْنَعُ مِنْهُ مِنْ كَعْكٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هُوَ الْخَفِيفُ كَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ
الرِّقَاقِ وَهِيَ الْخَشَبَةُ الَّتِي يُرَقَّقُ بِهَا. وَأَمَّا الْخِوَانُ فَالْمَشْهُورُ فِيهِ كَسْرُ الْمُعْجَمَةِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا، وَفِيهِ لُغَةٌ ثَالِثَةٌ: إِخْوَانٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْخَاءِ، وَسُئِلَ ثَعْلَبٌ: هَلْ يُسَمَّى الْخِوَانُ؛ لِأَنَّهُ يُتَخَوَّنُ مَا عَلَيْهِ؟ أَيْ: يُنْتَقَصُ، فَقَالَ: مَا يَبْعُدُ. قَالَ الْجَوَالِيقِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَخْوِنَةٍ فِي الْقِلَّةِ، وَخُونٍ مَضْمُومِ الْأَوَّلِ فِي الْكَثْرَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْخِوَانُ: الْمَائِدَةُ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا طَعَامٌ، وَأَمَّا السُّفْرَةُ فَاشْتُهِرَتْ لِمَا يُوضَعُ عَلَيْهَا الطَّعَامُ، وَأَصْلُهَا الطَّعَامُ نَفْسُهُ.
قَوْلُهُ (: كُنَّا عِنْدَ أَنَسٍ وَعِنْدَهُ خَبَّازٌ لَهُ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ: كُنَّا نَأْتِي أَنَسًا وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ، زَادَ ابْنُ مَاجَهْ: وَخِوَانُهُ مَوْضُوعٌ، فَيَقُولُ: كُلُوا، وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ رَاشِدِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ قَالَ: كَانَ لِأَنَسٍ غُلَامٌ يَعْمَلُ لَهُ النَّقَانِقُ، يَطْبُخُ لَهُ لَوْنَيْنِ طَعَامًا، وَيَخْبِزُ لَهُ الْحُوَّارَى وَيَعْجِنُهُ بِالسَّمْنِ اهـ. وَالْحُوَّارَى بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الرَّاءِ: الْخَالِصُ الَّذِي يُنْخَلُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.
قَوْلُهُ: (مَا أَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خُبْزًا مُرَقَّقًا وَلَا شَاةً مَسْمُوطَةً) الْمَسْمُوطُ: الَّذِي أُزِيلَ شَعْرُهُ بِالْمَاءِ الْمُسَخَّنِ وَشُوِيَ بِجِلْدِهِ أَوْ يُطْبَخُ، وَإِنَّمَا يُصْنَعُ ذَلِكَ فِي الصَّغِيرِ السِّنِّ الطَّرِيِّ، وَهُوَ مِنْ فِعْلِ الْمُتْرَفِينَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْمُبَادَرَةُ إِلَى ذَبْحِ مَا لَوْ بَقِيَ لَازْدَادَ ثَمَنُهُ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمَسْلُوخَ يُنْتَفَعُ بِجِلْدِهِ فِي اللُّبْسِ وَغَيْرِهِ وَالسَّمْطُ يُفْسِدُهُ.
وَقَدْ جَرَى ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى أَنَّ الْمَسْمُوطَ الْمَشْوِيُّ، فَقَالَ مَا مُلَخَّصُهُ: يُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ: أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، وَحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ: أَنَّهَا قَرَّبَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَنْبًا مَشْوِيًّا فَأَكَلَ مِنْهُ بِأَنْ يُقَالَ: مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ لَمْ يُتَّفَقْ أَنْ تُسُمِّطَ لَهُ شَاةٌ بِكَمَالِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدِ احْتَزَّ مِنَ الْكَتِفِ مَرَّةً وَمِنَ الْجَنْبِ أُخْرَى، وَذَلِكَ لَحْمٌ مَسْمُوطٌ. أَوْ يُقَالُ: إِنَّ أَنَسًا قَالَ: لَا أَعْلَمُ وَلَمْ يُقْطَعْ بِهِ، وَمَنْ عَلِمَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَزِّ الْكَتِفِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّاةَ كَانَتْ مَسْمُوطَةً، بَلْ إِنَّمَا حَزُّهَا لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ عَادَتُهَا غَالِبًا أَنَّهَا لَا تُنْضِجُ اللَّحْمَ فَاحْتِيجَ إِلَى الْحَزِّ، قَالَ: وَلَعَلَّ ابْنُ بَطَّالٍ لَمَّا رَأَى الْبُخَارِيَّ تَرْجَمَ بَعْدَ هَذَا بَابُ شَاةٍ مَسْمُوطَةٍ، وَالْكَتِفِ وَالْجَنْبِ ظَنَّ أَنَّ مَقْصُودَهُ إِثْبَاتُ أَنَّهُ أَكَلَ السَّمِيطَ. قُلْتُ: وَلَا يَلْزَمُ أَيْضًا مِنْ كَوْنِهَا مَشْوِيَّةً وَاحْتَزَّ مِنْ كَتِفِهَا أَوْ جَنْبِهَا أَنْ تَكُونَ مَسْمُوطَةً؛ فَإِنَّ شَيَّ الْمَسْلُوخِ أَكْثَرُ مِنْ شَيِّ الْمَسْمُوطِ، لَكِنْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَكَلَ الْكُرَاعَ وَهُوَ لَا يُؤْكَلُ إِلَّا مَسْمُوطًا.
وَهَذَا لَا يَرُدُّ عَلَى أَنَسٍ فِي نَفْيِ رِوَايَةِ الشَّاةِ الْمَسْمُوطَةِ، وَقَدْ وَافَقَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى نَفْيِ أَكْلِ الرُّقَاقِ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ: زَارَ قَوْمَهُ فَأَتَوْهُ بِرُقَاقٍ فَبَكَى، وَقَالَ: مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا بِعَيْنِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُ أَنَسٍ: مَا أَعْلَمُ رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَخْ نَفَى الْعِلْمَ وَأَرَادَ نَفْيَ الْمَعْلُومِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ نَفْيِ الشَّيْءِ بِنَفْيِ لَازِمِهِ، وَإِنَّمَا صَحَّ هَذَا مِنْ أَنَسٍ لِطُولِ لُزُومِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَدَمِ مُفَارَقَتِهِ لَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ يُونُسَ قَالَ عَنْ عَلِيٍّ: هُوَ الْإِسْكَافُ) عَلِيٌّ هُوَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ وَهُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَمُرَادُهُ أَنَّ يُونُسَ وَقَعَ فِي السَّنَدِ غَيْرَ مَنْسُوبٍ فَنَسَبَهُ عَلِيٌّ لِيَتَمَيَّزَ؛ فَإِنَّ فِي طَبَقَتِهِ يُونُسَ بْنَ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيَّ أَحَدَ الثِّقَاتِ الْمُكْثِرِينَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ:، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُثَنًّى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ الْإِسْكَافِ، وَلَيْسَ لِيُونُسَ هَذَا فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ، وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَ مَعْرُوفًا وَلَهُ أَحَادِيثُ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ. لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ، كَذَا قَالَ، وَمَنْ وَثَّقَهُ أَعْرَفُ بِحَالِهِ مِنِ ابْنِ حِبَّانَ، وَالرَّاوِي عَنْهُ هِشَامٌ هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، وَهُوَ مِنَ الْمُكْثِرِينَ عَنْ قَتَادَةَ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ هَذَا، وَفِي الْحَدِيثِ رِوَايَةُ الْأَقْرَانِ؛ لِأَنَّ هِشَامًا،
وَيُونُسَ مِنْ طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، وَصَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ، لَكِنْ ذَكَرَ ابْنُ عَدِيٍّ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ زُرَيْعٍ رَوَاهُ عَنْ سَعِيدٍ فَقَالَ: عَنْ يُونُسَ، عَنْ قَتَادَةَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ أَوَّلًا عَنْ قَتَادَةَ بِوَاسِطَةٍ ثُمَّ حَمَلَهُ عَنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَكَانَ يُحَدِّثُ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ، وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: فَقَالَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَاصِمِ بْنِ حَدْرَةَ، فَقَالَ: مَا أَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى خِوَانٍ قَطُّ الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي الْمَعْرِفَةِ، فَإِنْ كَانَ سَعِيدُ بْنُ بِشْرٍ حَفِظَهُ فَهُوَ حَدِيثٌ آخَرُ لِقَتَادَةَ؛ لِاخْتِلَافِ مَسَاقِ الْخَبَرَيْنِ.
قَوْلُهُ: (عَلَى سُكُرُّجَةٍ) بِضَمِّ السِّينِ وَالْكَافِ وَالرَّاءِ الثَّقِيلَةِ بَعْدَهَا جِيمٌ مَفْتُوحَةٌ، قَالَ عِيَاضٌ: كَذَا قَيَّدْنَاهُ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ مَكِّيٍّ أَنَّهُ صَوَّبَ فَتْحَ الرَّاءِ، قُلْتُ: وَبِهَذَا جَزَمَ التُّورِبِشْتِيُّ وَزَادَ: لِأَنَّهُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَالرَّاءُ فِي الْأَصْلِ مَفْتُوحَةٌ وَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ الْأَعْجَمِيَّ إِذَا نَطَقَتْ بِهِ الْعَرَبُ لَمْ تُبْقِهِ عَلَى أَصْلِهِ غَالِبًا. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالَهُ لَنَا شَيْخُنَا أَبُو مَنْصُورٍ اللُّغَوِيُّ - يَعْنِي الْجَوَالِيقِيَّ - بِفَتْحِ الرَّاءِ، قَالَ: وَكَانَ بَعْضُ أَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُ: الصَّوَابُ أُسْكُرُّجَةُ وَهِيَ فَارِسِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ، وَتَرْجَمَتُهَا مُقَرِّبُ الْخِلِّ، وَقَدْ تَكَلَّمَتْ بِهَا الْعَرَبُ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: فَإِنْ حَقَّرْتَ حَذَفْتَ الْجِيمَ وَالرَّاءَ وَقُلْتَ أَسْكَرَ، وَيَجُوزُ إِشْبَاعُ الْكَافِ حَتَّى تَزِيدَ يَاءً، وَقِيَاسُ مَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ فِي بَرَّيْهِمِ بَرَّيْهِيمُ أَنْ يُقَالَ فِي سُكَيْرَجَةٍ سُكَيْرِيجَةٌ، وَالَّذِي سَبَقَ أَوْلَى.
قَالَ ابْنُ مَكِّيٍّ: وَهِيَ صِحَافٌ صِغَارٌ يُؤْكَلُ فِيهَا، وَمِنْهَا الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ، فَالْكَبِيرَةُ تَحْمِلُ قَدْرَ سِتِّ أَوَاقٍ، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ ثُلُثَيْ أُوقِيَّةٍ إِلَى أُوقِيَّةٍ، قَالَ: وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْعَجَمَ كَانَتْ تَسْتَعْمِلُهُ فِي الْكَوَامِيخِ وَالْجَوَارِشِ لِلتَّشَهِّي وَالْهَضْمِ، وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: السُّكُرُّجَةُ قَصْعَةٌ مَدْهُونَةٌ، وَنَقَلَ ابْنُ قُرْقُولٍ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهَا قَصْعَةٌ ذَاتُ قَوَائِمَ مِنْ عُودٍ كَمَائِدَةٍ صَغِيرَةٍ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: تَرْكُهُ الْأَكْلَ فِي السُّكُرُّجَةِ؛ إِمَّا لِكَوْنِهَا لَمْ تَكُنْ تُصْنَعُ عِنْدَهُمْ إِذْ ذَاكَ، أَوِ اسْتِصْغَارًا لَهَا؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمُ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ لِأَنَّهَا - كَمَا تَقَدَّمَ - كَانَتْ تُعَدُّ لِوَضْعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُعِينُ عَلَى الْهَضْمِ، وَلَمْ يَكُونُوا غَالِبًا يَشْبَعُونَ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَاجَةٌ بِالْهَضْمِ.
قَوْلُهُ: (قِيلَ لِقَتَادَةَ) الْقَائِلُ هُوَ الرَّاوِي.
قَوْلُهُ: (فَعَلَامَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي بِالْإِشْبَاعِ.
قَوْلُهُ: (يَأْكُلُونَ) كَذَا عَدَلَ عَنِ الْوَاحِدِ إِلَى الْجَمْعِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُخْتَصًّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ، بَلْ كَانَ أَصْحَابُهُ يَقْتَفُونَ أَثَرَهُ وَيَقْتَدُونَ بِفِعْلِهِ.
قَوْلُهُ: (عَلَى السُّفَرِ) جَمْعُ سُفْرَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ الطَّوِيلِ فِي الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَنَّ أَصْلَهَا الطَّعَامُ الَّذِي يَتَّخِذُهُ الْمُسَافِرُ، وَأَكْثَرُ مَا يُصْنَعُ فِي جِلْدٍ، فَنُقِلَ اسْمُ الطَّعَامِ إِلَى مَا يُوضَعُ فِيهِ، كَمَا سُمِّيَتِ الْمَزَادَةُ رِوَايَةً.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ صَفِيَّةَ فَسَاقَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ سَاقَهُ فِي غَزْوَةَ خَيْبَرَ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي أَوْرَدَهُ هُنَا بِعَيْنِهِ أَتَمَّ مِنْ سِيَاقِهِ هُنَا، وَلَفْظُهُ: أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةَ ثَلَاثَ لَيَالٍ يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ، وَزَادَ فِيهِ أَيْضًا - بَيْنَ قَوْلِهِ: إِلَى وَلِيمَتِهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَمَرَ بِالْأَنْطَاعِ -: وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلَا لَحْمٍ، وَمَا كَانَ فِيهَا إِلَّا أَنْ أَمَرَ، فَذَكَرَهُ، وَزَادَ - بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالسَّمْنُ -: فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَمْرٌو، عَنْ أَنَسٍ: بَنَى بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطْعٍ) هُوَ أَيْضًا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الْمَغَازِي مُطَوَّلًا مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِتَمَامِهِ.
تِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا.
قَوْلُهُ: (هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ) هِشَامُ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ حَمَلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَقَالَ فِيهِ: عَنْ هِشَامٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ فَقَطْ، وَتَقَدَّمَ أَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ
إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ وَعَنِ امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ كِلَاهُمَا عَنْ أَسْمَاءَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ هِشَامًا حَمَلَهُ عَنْ أَبِيهِ وَعَنِ امْرَأَتِهِ وَعَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، وَلَعَلَّ عِنْدَهُ عَنْ بَعْضِهِمْ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ؛ فَإِنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ لَيْسَ فِيهَا قَوْلُهُ: يُعَيِّرُونَ وَهُوَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْعَارِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الشَّامِ عَسْكَرُ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ حَيْثُ كَانُوا يُقَاتِلُونَهُ مِنْ قِبَلِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، أَوْ عَسْكَرُ الْحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.
قَوْلُهُ: (يُعَيِّرُونَكَ بِالنِّطَاقَيْنِ) قِيلَ: الْأَفْصَحُ أَنْ يُعَدَّى التَّعْيِيرُ بِنَفْسِهِ، تَقُولُ: عَيَّرْتُهُ كَذَا، وَقَدْ سُمِعَ هَكَذَا مِثْلُ مَا هُنَا.
قَوْلُهُ: (وَهَلْ تَدْرِي مَا كَانَ النِّطَاقَيْنِ؟) كَذَا أَوْرَدَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ الصَّوَابَ النِّطَاقَانِ بِالرَّفْعِ، وَأَنَا لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِي النُّسَخِ إِلَّا بِالرَّفْعِ، فَإِنْ ثَبَتَ رِوَايَةً بِغَيْرِ الْأَلِفِ أَمْكَنَ تَوْجِيهُهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَانَ فِي الْأَصْلِ: وَهَلْ تَدْرِي مَا كَانَ شَأْنُ النِّطَاقَيْنِ فَسَقَطَ لَفْظُ شَأْنٍ أَوْ نَحْوُهُ.
قَوْلُهُ: (إِنَّمَا كَانَ نِطَاقِي شَقَقْتُهُ نِصْفَيْنِ فَأَوْكَيْتُ) تَقَدَّمَ فِي الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ هُوَ الَّذِي أَمَرَهَا بِذَلِكَ لَمَّا هَاجَرَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (يَقُولُ: إِيهًا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِبَعْضِهِمْ: ابْنُهَا بِمُوَحَّدَةٍ وَنُونٍ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَقَدْ وُجِّهَ بِأَنَّهُ مَقُولُ الرَّاوِي، وَالضَّمِيرُ لِأَسْمَاءَ، وَابْنُهَا هُوَ ابْنُ الزُّبَي رِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: هُوَ فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ: ابْنُهَا، وَذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ بِلَفْظِ: إِيهًا اهـ.
وَقَوْلُهُ: (وَالْإِلَهُ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ: إِيهًا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِيهًا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَبِالتَّنْوِينِ مَعْنَاهَا الِاعْتِرَافُ بِمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ وَالتَّقْرِيرُ لَهُ، تَقُولُ الْعَرَبُ فِي اسْتِدْعَاءِ الْقَوْلِ مِنَ الْإِنْسَانِ: إِيهًا وَإِيهْ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ ثَعْلَبٌ وَغَيْرُهُ إِذَا اسْتَزَدْتَ مِنَ الْكَلَامِ قُلْتَ: إِيهْ، وَإِذَا أَمَرْتَ بِقَطْعِهِ قُلْتَ: إِيهًا. اهـ. وَلَيْسَ هَذَا الِاعْتِرَاضُ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ غَيْرَ ثَعْلَبٍ قَدْ جَزَمَ بِأَنَّ إِيهًا كَلِمَةُ اسْتِزَادَةٍ، وَارْتَضَاهُ وَحَرَّرَهُ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ: إِيهًا بِالتَّنْوِينِ، لِلِاسْتِزَادَةِ، وَبِغَيْرِ التَّنْوِينِ لِقَطْعِ الْكَلَامِ، وَقَدْ تَأْتِي أَيْضًا بِمَعْنَى كَيْفَ.
قَوْلُهُ: (تِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا) شَكَاةٌ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ مَعْنَاهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْقَوْلِ الْقَبِيحِ، وَلِبَعْضِهِمْ بِكَسْرِ الشِّينِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَهُوَ مَصْدَرُ شَكَا يَشْكُو شِكَايَةً وَشَكْوَى وَشَكَاةً، وَظَاهِرٌ، أَيْ: زَائِلٌ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَيِ ارْتَفَعَ عَنْكَ فَلَمْ يَعْلَقْ بِكَ، وَالظُّهُورُ يُطْلَقُ عَلَى الصُّعُودِ وَالِارْتِفَاعِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: فَمَا {اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} أَيْ: يَعْلُوا عَلَيْهِ مِنْهُ، {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} قَالَ: وَتَمَثَّلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمِصْرَاعِ بَيْتٍ لِأَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ وَأَوَّلُهُ:
وَعَيَّرَهَا الْوَاشُونَ أَنِّي أُحِبُّهَا
يَعْنِي لَا بَأْسَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَلَا عَارَ فِيهِ، قَالَ مُغَلْطَايْ: وَبَعْدَ بَيْتِ الْهُذَلِيِّ: فَإِنْ أَعْتَذِرْ مِنْهَا فَإِنِّي مُكَذَّبٌ وَإِنْ تَعْتَذِرْ يُرْدَدْ عَلَيْكَ اعْتِذَارُهَا وَأَوَّلُ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ:
هَلِ الدَّهْرُ إِلَّا لَيْلَةٌ وَنَهَارُهَا
…
وَإِلَّا طُلُوعُ الشَّمْسِ ثُمَّ غِيَارُهَا
أَبَى الْقَلْبُ إِلَّا أُمَّ عَمْروٍ فَأَصْبَحَتْ
…
تُحْرِّقُ نَارِي بِالشَّكَاةِ وَنَارُهَا
وَبَعْدَهُ
وَعَيَّرَهَا الْوَاشُونَ أَنِّي أُحِبُّهَا
الْبَيْتَ، وَهِيَ قَصِيدَةٌ تَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِينَ بَيْتًا. وَتَرَدَّدَ ابْنُ قُتَيْبَةَ هَلْ أَنْشَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ هَذَا الْمِصْرَاعَ أَوْ أَنْشَدَهُ مُتَمَثِّلًا بِهِ؟ وَالَّذِي جَزَمَ بِهِ غَيْرُهُ الثَّانِي وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ؛ لِأَنَّ هَذَا مَثَلٌ مَشْهُورٌ، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُكْثِرُ التَّمَثُّلَ بِالشِّعْرِ، وَقَلَّمَا أَنْشَأَهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَكْلِ خَالِدٍ الضَّبَّ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ بَعْدُ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ. وَقَوْلُهُ: عَلَى مَائِدَتِهِ أَيِ: الشَّيْءُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ؛ صِيَانَةً لِلطَّعَامِ كَالْمِنْدِيلِ وَالطَّبَقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا حَدِيثَ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا أَكَلَ عَلَى الْخِوَانِ؛ لِأَنَّ
الْخِوَانَ أَخَصُّ مِنَ الْمَائِدَةِ. وَنَفْيُ الْأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَعَمِّ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَوَابِ بَعْضِ الشُّرَّاحِ بِأَنَّ أَنَسًا إِنَّمَا نَفَى عِلْمَهُ، قَالَ: وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُ مَنْ عَلِمَ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمَائِدَةِ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ عِنْدِي مِنْ مَادَ يَمِيدُ إِذَا تَحَرَّكَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مِنْ مَادَ يَمِيدُ إِذَا أَعْطَى، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهِيَ فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، مِنَ الْعَطَاءِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وكُنْتُ لِلْمُنْتَجَعِينَ مَائِدًا
9 - بَاب السَّوِيقِ
5390 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالصَّهْبَاءِ - وَهِيَ عَلَى رَوْحَةٍ مِنْ خَيْبَرَ - فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ، فَدَعَا بِطَعَامٍ، فَلَمْ يَجِدْهُ إِلَّا سَوِيقًا فَلَاكَ مِنْهُ، فَلُكْنَا مَعَهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ، ثُمَّ صَلَّى وَصَلَّيْنَا، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ السَّوِيقِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ.
10 - بَاب مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَأْكُلُ حَتَّى يُسَمَّى لَهُ فَيَعْلَمَ مَا هُوَ
5391 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ الْأَنْصَارِيُّ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ - الَّذِي يُقَالُ لَهُ: سَيْفُ اللَّهِ - أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَيْمُونَةَ - وَهِيَ خَالَتُهُ، وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ - فَوَجَدَ عِنْدَهَا ضَبًّا مَحْنُوذًا، قَدِمَتْ بِهِ أُخْتُهَا حُفَيْدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ مِنْ نَجْدٍ، فَقَدَّمَتْ الضَّبَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ قَلَّمَا يُقَدِّمُ يَدَهُ لِطَعَامٍ حَتَّى يُحَدَّثَ بِهِ وَيُسَمَّى لَهُ، فَأَهْوَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ إِلَى الضَّبِّ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ النِّسْوَةِ الْحُضُورِ: أَخْبِرْنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَدَّمْتُنَّ لَهُ، هُوَ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَنْ الضَّبِّ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: أَحَرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ، قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ إِلَيَّ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَأْكُلُ حَتَّى يُسَمَّى لَهُ فَيَعْلَمَ مَا هُوَ) كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا بِالْإِضَافَةِ، وَشَرَحَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَلَى أَنَّهُ بَابٌ بِالتَّنْوِينِ فَقَالَ: قَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنَّمَا كَانَ يَسْأَلُ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَعَافُ شَيْئًا مِنَ الْمَآكِلِ لِقِلَّتِهَا عِنْدَهُمْ، وَكَانَ هُوَ صلى الله عليه وسلم قَدْ يَعَافُ بَعْضَ الشَّيْءِ، فَلِذَلِكَ كَانَ يَسْأَلُ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ السُّؤَالِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ يُكْثِرُ الْكَوْنَ فِي الْبَادِيَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِكَثِيرٍ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِتَحْرِيمِ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ وَإِبَاحَةِ بَعْضِهَا وَكَانُوا لَا يُحَرِّمُونَ مِنْهَا شَيْئًا، وَرُبَّمَا أَتَوْا بِهِ مَشْوِيًّا أَوْ مَطْبُوخًا، فَلَا يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ إِلَّا بِالسُّؤَالِ عَنْهُ.
ثُمَّ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الضَّبِّ، سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ. وَوَقَعَ فِيهِ:
فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ النِّسْوَةِ الْحُضُورُ كَذَا وَقَعَ بِلَفْظِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ، وَكَأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْأَشْخَاصِ، وَفِيهِ: أَخْبِرْنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا قَدَّمْتُنَّ لَهُ وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا مَيْمُونَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، وَلَفْظُهُ: فَقَالَتْ مَيْمُونَةُ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا هُوَ، فَلَمَّا أَخْبَرُوهُ تَرَكَهُ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَقَالَتْ مَيْمُونَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَحْمُ ضَبٍّ، فَكَفَّ يَدَهُ.
11 - بَاب طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ
5392 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ح
وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ،: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: طَعَامُ الِاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلَاثَةِ، وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ كَافِي الْأَرْبَعَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ طَعَامِ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: طَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الثَّلَاثَةَ، وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ، وَاسْتَشْكَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّرْجَمَةِ وَالْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ قَضِيَّةَ التَّرْجَمَةِ مَرْجِعُهَا النِّصْفُ، وَقَضِيَّةَ الْحَدِيثِ مَرْجِعُهَا الثُّلُثُ ثُمَّ الرُّبْعُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى لَفْظِ حَدِيثٍ آخَرَ وَرَدَ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ، وَبِأَنَّ الْجَامِعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، أَنَّ مُطْلَقَ طَعَامِ الْقَلِيلِ يَكْفِي الْكَثِيرَ؛ لَكِنَّ أَقْصَاهُ الضَّعْفُ، وَكَوْنُهُ يَكْفِي مِثْلَهُ لَا يَنْفِي أَنْ يَكْفِيَ دُونَهُ. نَعَمْ كَوْنُ طَعَامِ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ طَعَامَ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الثَّلَاثَةَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى بِخِلَافِ عَكْسِهِ. وَنُقِلَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الطَّعَامَ الَّذِي يُشْبِعُ الْوَاحِدَ يَكْفِي قُوتُ الِاثْنَيْنِ، وَيُشْبِعُ الِاثْنَيْنِ قُوتُ الْأَرْبَعَةِ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْحَضُّ عَلَى الْمَكَارِمِ وَالتَّقَنُّعُ بِالْكِفَايَةِ، يَعْنِي: وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْحَصْرَ فِي مِقْدَارِ الْكِفَايَةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْمُوَاسَاةُ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلِاثْنَيْنِ إِدْخَالُ ثَالِثٍ لِطَعَامِهِمَا، وَإِدْخَالُ رَابِعٍ أَيْضًا بِحَسَبِ مَنْ يَحْضُرُ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ بِلَفْظِ: طَعَامِ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَأَنَّ طَعَامَ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الثَّلَاثَةَ وَالْأَرْبَعَةَ، وَأَنَّ طَعَامَ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الْخَمْسَةَ وَالسِّتَّةَ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فِي قِصَّةِ أَضْيَافِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ أَوْ سَادِسٍ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَا يُرْشِدُ إِلَى الْعِلَّةِ فِي ذَلِكَ، وَأَوَّلُهُ: كُلُوا جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا؛ فَإِنَّ طَعَامَ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ الْحَدِيثُ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْكِفَايَةَ تَنْشَأُ عَنْ بَرَكَةِ الِاجْتِمَاعِ، وَأَنَّ الْجَمْعَ كُلَّمَا كَثُرَ ازْدَادَتِ الْبَرَكَةُ، وَقَدْ أَشَارَ التِّرْمِذِيُّ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَعِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ نَحْوُ حَدِيثِ عُمَرَ، وَزَادَ بِهِ آخِرَهُ: وَيَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ اسْتِحْبَابُ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّعَامِ، وَأَنْ لَا يَأْكُلَ الْمَرْءُ وَحْدَهُ، اهـ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَاسَاةَ إِذَا حَصَلَتْ حَصَلَتْ مَعَهَا الْبَرَكَةُ فَتَعُمُّ الْحَاضِرِينَ.
وَفِيهِ: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَسْتَحْقِرَ مَا عِنْدَهُ فَيَمْتَنِعَ مِنْ تَقْدِيمِهِ؛ فَإِنَّ الْقَلِيلَ قَدْ يَحْصُلُ بِهِ الِاكْتِفَاءُ، بِمَعْنَى حُصُولِ سَدِّ الرَّمَقِ وَقِيَامِ الْبِنْيَةِ، لَا حَقِيقَةُ الشِّبَعِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَرَدَ حَدِيثٌ بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ شَرْطَ الْبُخَارِيِّ فَاسْتَقْرَأَ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ تَرْكُ الثُّلُثِ أَمْكَنَهُ تَرْكُ النِّصْفِ؛ لِتَقَارُبِهِمَا. انْتَهَى.
وَتَعَقَّبَهُ مُغَلْطَايْ بِأَنَّ التِّرْمِذِيَّ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ؛ فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ وَإِنْ كَانَ أَخْرَجَ لِأَبِي سُفْيَانَ،
لَكِنْ أَخْرَجَ لَهُ مَقْرُونًا بِأَبِي صَالِحٍ، عَنْ جَابِرٍ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ فَقَطْ، فَلَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ، ثُمَّ لَا أَدْرِي لِمَ خَصَّهُ بِتَخْرِيجِ التِّرْمِذِيِّ، مَعَ أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ أَيْضًا، وَلَعَلَّ ابْنَ الْمُنِيرِ اعْتَمَدَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ اب نَ وَهْبٍ رَوَى الْحَدِيثَ بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، وَابْنُ لَهِيعَةَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْبُخَارِيِّ قَطْعًا، لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ ابْنَ بَطَّالٍ قَصَّرَ بِنَسَبِةِ الْحَدِيثِ، وَإِلَّا فَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ وَصَرَّحَ بِطَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِسَمَاعِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ لَكِنْ لَا عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَسَمُرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا فِي الطَّبَرَانِيِّ.
12 - بَاب الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ. فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
5393 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَأْكُلُ حَتَّى يُؤْتَى بِمِسْكِينٍ يَأْكُلُ مَعَهُ، فَأَدْخَلْتُ رَجُلًا يَأْكُلُ مَعَهُ فَأَكَلَ كَثِيرًا، فَقَالَ: يَا نَافِعُ، لَا تُدْخِلْ هَذَا عَلَيَّ؛ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ.
5394 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَإِنَّ الْكَافِرَ أَوْ الْمُنَافِقَ فَلَا أَدْرِي أَيَّهُمَا قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ"
وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ"
[الحديث 5393 - طرفاه في: 5394، 5395]
5395 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ كَانَ أَبُو نَهِيكٍ رَجُلًا أَكُولًا فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الْكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ فَقَالَ فَأَنَا أُومِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ"
5396 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَأْكُلُ الْمُسْلِمُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ"
[الحديث 5396 - طرفه في: 5397]
5397 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا كَثِيرًا فَأَسْلَمَ فَكَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا قَلِيلًا فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ"
قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُؤْمِنِ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ) الْمِعَى بِكَسْرِ الْمِيمِ مَقْصُورٌ، وَفِي لُغَةٍ حَكَاهَا فِي الْمُحْكَمِ بِسُكُونِ الْعَيْنِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ، وَالْجَمْعُ أَمْعَاءٌ مَمْدُودٌ، وَهِيَ الْمَصَارِينُ. وَقَدْ وَقَعَ فِي شِعْرِ الْقُطَامِيِّ بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ فِي الْجَمْعِ، فَقَالَ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ حَكَاهَا أَبُو حَاتِمٍ: حَوَالِبَ غُزْرًا وَمِعًى جِيَاعًا. وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا} وَإِنَّمَا عَدَّى يَأْكُلُ بِفِي؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى يُوقِعُ الْأَكْلِ فِيهَا، وَيَجْعَلُهَا ظَرْفًا لِلْمَأْكُولِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} أَيْ: مِلْءُ بُطُونِهِمْ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ السَّجِسْتَانِيُّ: الْمِعَى مُذَكَّرٌ، وَلَمْ أَسْمَعْ مَنْ أَثِقُ بِهِ يُؤَنِّثُهُ، فَيَقُولُ: مِعًى وَاحِدَةٌ، لَكِنْ قَدْ رَوَاهُ مَنْ لَا يَوْثُقُ بِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مَنْسُوبًا.
قَوْلُهُ: (عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ) هُوَ ابْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (فَأَدْخَلْتُ رَجُلًا يَأْكُلُ مَعَهُ فَأَكَلَ كَثِيرًا) لَعَلَّهُ أَبُو نَهِيكٍ الْمَذْكُورُ بَعْدَ قَلِيلٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَجَعَلَ ابْنُ عُمَرَ يَضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ أَكْلًا كَثِيرًا.
قَوْلُهُ: (لَا تُدْخِلُ هَذَا عَلَيَّ) وَذَكَرَ الْحَدِيثُ هَكَذَا، حَمَلَ ابْنُ عُمَرَ الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَعَلَّهُ كَرِهَ دُخُولَهُ عَلَيْهِ؛ لِمَا رَآهُ مُتَّصِفًا بِصِفَةٍ وُصِفَ بِهَا الْكَافِرُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُؤْمِنِ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَذَا ثَبَتَ هَذَا الْكَلَامُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ السَّرَخْسِيِّ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ هُوَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ، عَنِ السَّرَخْسِيِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ ضَمُّ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ إِلَى تَرْجَمَةِ: طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ وَإِيرَادُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِطُرُقِهِ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِطَرِيقَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا التَّعْلِيقَ، وَهَذَا أَوْجَهُ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِإِعَادَةِ التَّرْجَمَةِ بِلَفْظِهَا مَعْنًى، وَكَذَا ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي التَّرْجَمَةِ، ثُمَّ إِيرَادَهُ فِيهَا مَوْصُولًا مِنْ وَجْهَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِهِ.
قَوْلُهُ: (عَبْدَةُ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّ الْكَافِرَ، أَوِ الْمُنَافِقَ، فَلَا أَدْرِي أَيُّهَمَا قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ) هَذَا الشَّكُّ مِنْ عَبْدَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: الْكَافِرِ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَكَذَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ كَمَا يَأْتِي فِي الْبَابِ، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ ابْنِ عُمَرَ، مِمَّنْ رَوَى الْحَدِيثَ مِنَ الصَّحَابَةِ، إِلَّا أَنَّهُ وَرَدَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بِلَفْظِ: الْمُنَافِقِ بَدَلَ الْكَافِرِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ) هُوَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَوَقَعَ لَنَا فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٍ وَلَفْظُهُ: الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي مَالِكٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُمْ فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ: الْمُسْلِمِ، فَظَهَرَ أَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ بِقَوْلِهِ: مِثْلُهُ أَيْ: مِثْلُ أَصْلِ الْحَدِيثِ، لَا خُصُوصِ الشَّكِّ الْوَاقِعِ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ.
قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِتَحْدِيثِهِ لِسُفْيَانَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ، وَمِنْ طَرِيقِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ.
قَوْلُهُ: (كَانَ أَبُو نَهِيكٍ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْهَاءِ (رَجُلًا أَكُولًا) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ: قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّ أَبَا نَهِيكٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَأْكُلُ أَكْلًا كَثِيرًا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: فَأَنَا أُومِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ: فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا أُومِنُ بِاللَّهِ إِلَخْ وَمِنْ ثَمَّ أَطْبَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى حَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: (يَأْكُلُ الْمُسْلِمُ فِي مِعًى وَاحِدٍ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْمُؤْمِنُ يَشْرَبُ فِي مِعًى وَاحِدٍ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ في الطريق الأخرى: (عَنْ أَبِي حَازِمٍ) هُوَ سَلْمَانُ - بِسُكُونِ اللَّامِ - الْأَشْجَعِيُّ، وَلَيْسَ هُوَ سَلَمَةَ بْنَ دِينَارٍ الزَّاهِدَ؛ فَإِنَّهُ أَصْغَرُ مِنَ الْأَشْجَعِيِّ، وَلَمْ يُدْرِكْ أَبَا هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (إنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْكُلُ أَكَلَا كَثِيرًا فَأَسْلَمَ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي
صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَافَهُ ضَيْفٌ وَهُوَ كَافِرٌ، فَأَمَرَ لَهُ بِشَاةٍ فَحُلِبَتْ، فَشَرِبَ حِلَابَهَا، ثُمَّ أُخْرَى، ثُمَّ أُخْرَى، حَتَّى شَرِبَ حِلَابَ سَبْعِ شِيَاهٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَصْبَحَ فَأَسْلَمَ، فَأَمَرَ لَهُ بِشَاةٍ فَشَرِبَ حِلَابَهَا، ثُمَّ بِأُخْرَى فَلَمْ يَسْتَتِمَّهَا الْحَدِيثَ، وَهَذَا الرَّجُلُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ جَهْجَاهَ الْغِفَارِيَّ، فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ أَنَّهُ قَدِمَ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ، فَحَضَرُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَغْرِبَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ بِيَدِ جَلِيسِهِ، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرِي، فَكُنْتُ رَجُلًا عَظِيمًا طَوِيلًا لَا يُقْدِمُ عَلَيَّ أَحَدٌ، فَذَهَبَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَنْزِلِهِ، فَحَلَبَ لِي عَنْزًا فَأَتَيْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ حَلَبَ لِي آخَرَ، حَتَّى حَلَبَ سَبْعَةَ أَعْنُزٍ فَأَتَيْتُ عَلَيْهَا، ثُمَّ أُتِيتُ بِصَنِيعِ بُرْمَةٍ فَأَتَيْتُ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ أُمُّ أَيْمَنَ: أَجَاعَ اللَّهُ مَنْ أَجَاعَ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: مَهْ يَا أُمَّ أَيْمَنَ؛ أَكَلَ رِزْقَهُ، وَرِزْقُنَا عَلَى اللَّهِ.
فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ وَصَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ صَنَعَ مَا صَنَعَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، فَحَلَبَ لِي عَنْزًا وَرُوِيتُ وَشَبِعْتُ، فَقَالَتْ أُمُّ أَيْمَنَ: أَلَيْسَ هَذَا ضَيْفَنَا؟! قَالَ: إِنَّهُ أَكَلَ فِي مِعًى وَاحِدٍ اللَّيْلَةَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَأَكَلَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ، الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعي وَاحِدٍ وَفِي إِسْنَادِ الْجَمِيعِ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَقَالَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْعَةُ رِجَالٍ، فَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَجُلًا وَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا، فَقَالَ لَهُ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: أَبُو غَزْوَانَ. قَالَ فَحَلَبَ لَهُ سَبْعُ شِيَاهٍ فَشَرِبَ لَبَنَهَا كُلَّهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ لَكَ يَا أَبَا غَزْوَانَ أَنْ تُسْلِمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَسْلَمَ، فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدْرَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ حَلَبَ لَهُ شَاةً وَاحِدَةً فَلَمْ يُتِمَّ لَبَنَهَا، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا غَزْوَانَ؟ قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ نَبِيًّا لَقَدْ رُوِيتُ.
قَالَ: إِنَّكَ أَمْسِ كَانَ لَكَ سَبْعَةُ أَمْعَاءٍ وَلَيْسَ لَكَ الْيَوْمَ إِلَّا مِعًى وَاحِدٌ وَهَذِهِ الطَّرِيقُ أَقْوَى مِنْ طَرِيقِ جَهْجَاهَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ كُنْيَتَهُ، لَكِنْ يُقَوِّي التَّعَدُّدَ أَنَّ أَحْمَدَ أَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا هَاجَرْتُ قَبْلَ أَنْ أُسْلِمَ، فَحَلَبَ لِي شُوَيْهَةً كَانَ يَحْلُبُهَا لِأَهْلِهِ فَشَرِبْتُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَسْلَمْتُ حَلَبَ لِي فَشَرِبْتُ مِنْهَا فَرُوِيتُ، فَقَالَ: أَرُوِيتَ؟ قُلْتُ: قَدْ رُوِيتُ مَا لَا رُوِيتُ قَبْلَ الْيَوْمِ الْحَدِيثَ، وَهَذَا لَا يُفَسَّرُ بِهِ الْمُبْهَمُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا، لَكِنْ لَيْسَ فِي قِصَّتِهِ خُصُوصُ الْعَدَدِ. وَلِأَحْمَدَ أَيْضًا وَلِأَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ، وَقَاسِمِ بْنِ ثَابِتٍ فِي الدَّلَائِلِ وَالْبَغَوِيِّ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْنِ بْنِ نَضْلَةَ الْغِفَارِيِّ حَدَّثَنِي جَدِّي نَضْلَةُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: أَقْبَلْتُ فِي لِقَاحٍ لِي حَتَّى أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمْتُ ثُمَّ أَخَذْتُ عُلْبَةً فَحَلَبْتُ فِيهَا فَشَرِبَتهَا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَشْرَبُهَا مِرَارًا لَا أَمْتَلِئُ وَفِي لَفْظٍ إِنْ كُنْتُ لَأَشْرَبُ السَّبْعَةَ، فَمَا أَمْتَلِئُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ مُبْهَمُ حَدِيثِ الْبَابِ لِاخْتِلَافِ السِّيَاقِ. وَوَقَعَ فِي كَلَامِ النَّوَوِيِّ تَبَعًا لِعِيَاضٍ أَنَّهُ نَضْرَةُ بْنُ نَضْرَةَ الْغِفَارِيُّ، وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ ثُمَامَةَ بْنِ أَثَالٍ أَنَّهُ لَمَّا أُسِرَ ثُمَّ أَسْلَمَ وَقَعَتْ لَهُ قِصَّةٌ تُشْبِهُ قِصَّةَ جَهْجَاهَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ، وَبِهِ صَدَّرَ الْمَازِرِيُّ كَلَامَهُ.
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ فَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ظَاهِرَهُ وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضُرِبَ لِلْمُؤْمِنِ وَزُهْدِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْكَافِرِ وَحِرْصِهِ عَلَيْهَا، فَكَانَ الْمُؤْمِنُ لِتَقَلُّلِهِ مِنَ الدُّنْيَا يَأْكُلُ فِي مِعي وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ لِشِدَّةِ رَغْبَتِهِ فِيهَا وَاسْتِكْثَارِهِ مِنْهَا يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْأَمْعَاءِ وَلَا خُصُوصَ الْأَكْلِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ التَّقَلُّلُ مِنَ الدُّنْيَا وَالِاسْتِكْثَارُ مِنْهَا، فَكَأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ تَنَاوُلِ الدُّنْيَا بِالْأَكْلِ وَعَنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ بِالْأَمْعَاءِ، وَوَجْهُ الْعَلَاقَةِ ظَاهِرٌ، وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ الْحَلَالَ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ الْحَرَامَ، وَالْحَلَالُ أَقَلُّ مِنَ الْحَرَامِ فِي الْوُجُودِ نَقَلَهُ ابْنُ التِّينِ، وَنَقَلَ الطَّحَاوِيُّ نَحْوَ الَّذِي قَبْلَهُ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ فَقَالَ: حَمَلَ قَوْمٌ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا كَمَا تَقُولُ فُلَانٌ يَأْكُلُ
الدُّنْيَا أَكْلًا أَيْ يَرْغَبُ فِيهَا وَيَحْرِصُ عَلَيْهَا، فَمَعْنَى الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعي وَاحِدٍ أَيْ يَزْهَدُ فِيهَا فَلَا يَتَنَاوَلُ مِنْهَا إِلَّا قَلِيلًا، وَالْكَافِرُ فِي سَبْعَةٍ أَيْ يَرْغَبُ فِيهَا فَيَسْتَكْثِرُ مِنْهَا. وَقِيلَ الْمُرَادُ حَضُّ الْمُؤْمِنِ عَلَى قِلَّةِ الْأَكْلِ إِذَا عُلِمَ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَكْلِ صِفَةُ الْكَافِرِ، فَإِنَّ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ تَنْفِرُ مِنَ الِاتِّصَافِ بِصِفَةِ الْكَافِرِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ الْأَكْلِ مِنْ صِفَةِ الْكُفَّارِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ} وَقِيلَ بَلْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَرَدَ فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ وَاللَّامُ عَهْدِيَّةٌ لَا جِنْسِيَّةٌ، جَزَمَ بِذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَقَالَ: لَا سَبِيلَ إِلَى حَمْلِهِ عَلَى الْعُمُومِ لِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ تَدْفَعُهُ، فَكَمْ مِنْ كَافِرٍ يَكُونُ أَقَلَّ أَكْلًا مِنْ مُؤْمِنٍ وَعَكْسُهُ، وَكَمْ مِنْ كَافِرٍ أَسْلَمَ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ مِقْدَارُ أَكْلِهِ، قَالَ: وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَرَدَ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِهِ مَالِكٌ الْحَدِيثَ الْمُطْلَقَ، وَكَذَا الْبُخَارِيُّ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا إِذَا كَانَ كَافِرًا كَانَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ فَلَمَّا أَسْلَمَ عُوفِيَ وَبُورِكَ لَهُ فِي نَفْسِهِ فَكَفَاهُ جُزْءٌ مِنْ سَبْعَةِ أَجْزَاءٍ مِمَّا كَانَ يَكْفِيهِ وَهُوَ كَافِرٌ اهـ. وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُشْكِلِ الْآثَارِ فَقَالَ: قِيلَ إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ كَانَ فِي كَافِرٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الَّذِي شَرِبَ حِلَابَ السَّبْعِ شِيَاهٍ، قَالَ: وَلَيْسَ لِلْحَدِيثِ عِنْدَنَا مَحْمَلٌ غَيْرُ هَذَا الْوَجْهِ، وَالسَّابِقُ إِلَى ذَلِكَ أَوَّلًا أَبُو عُبَيْدَةَ، وَقَدْ تُعُقِّبَ هَذَا الْحَمْلُ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَاوِي الْحَدِيثِ فَهِمَ مِنْهُ الْعُمُومَ فَلِذَلِكَ مَنَعَ الَّذِي رَآهُ يَأْكُلُ كَثِيرًا مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ. ثُمَّ كَيْفَ يَتَأَتَّى حَمْلُهُ عَلَى شَخْصٍ بِعَيْنِهِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَرْجِيحِ بِتَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ وَيُورِدُ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَقِبَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فِي حَقِّ الَّذِي وَقَعَ لَهُ نَحْوُ ذَلِكَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَدِيثَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَلَيْسَتْ حَقِيقَةُ الْعَدَدِ مُرَادَةً، قَالُوا تَخْصِيصُ السَّبْعَةِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّكْثِيرِ كَمَا في قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} وَالْمَعْنَى أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ التَّقَلُّلَ مِنَ الْأَكْلِ لِاشْتِغَالِهِ بِأَسْبَابِ الْعِبَادَةِ وَلِعِلْمِهِ بِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّرْعِ مِنَ الْأَكْلِ مَا يَسُدُّ الْجُوعَ وَيُمْسِكُ الرَّمَقَ وَيُعِينُ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَلِخَشْيَتِهِ أَيْضًا مِنْ حِسَابِ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَالْكَافِرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ فَإِنَّهُ لَا يَقِفُ مَعَ مَقْصُودِ الشَّرْعِ، بَلْ هُوَ تَابِعٌ لِشَهْوَةِ نَفْسِهِ مُسْتَرْسِلٌ فِيهَا غَيْرُ خَائِفٍ مِنْ تَبَعَاتِ الْحَرَامِ، فَصَارَ أَكْلُ الْمُؤْمِنِ - لِمَا ذَكَرْتُهُ - إِذَا نُسِبَ إِلَى أَكْلِ الْكَافِرِ كَأَنَّهُ بِقَدْرِ السُّبْعِ مِنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا اطِّرَادُهُ فِي حَقِّ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، فَقَدْ يَكُونُ فِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَأْكُلُ كَثِيرًا إِمَّا بِحَسَبِ الْعَادَةِ وَإِمَّا لِعَارِضٍ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ مَرَضٍ بَاطِنٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَكُونُ فِي الْكُفَّارِ مَنْ يَأْكُلُ قَلِيلًا إِمَّا لِمُرَاعَاةِ الصِّحَّةِ عَلَى رَأْي الْأَطِبَّاءِ، وَإِمَّا لِلرِّيَاضَةِ عَلَى رَأْيِ الرُّهْبَانِ، وَإِمَّا لِعَارِضٍ كَضَعْفِ الْمَعِدَةِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمُحَصَّلُ الْقَوْلِ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ الْحِرْصُ عَلَى الزَّهَادَةِ وَالِاقْتِنَاعِ بِالْبُلْغَةِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ، فَإِذَا وُجِدَ مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَصْفِ لَا يَقْدَحُ فِي الْحَدِيثِ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الْآيَةَ، وَقَدْ يُوجَدُ مِنَ الزَّانِي نِكَاحُ الْحُرَّةِ وَمِنَ الزَّانِيَةِ نِكَاحُ الْحُرِّ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ التَّامُّ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ مَنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ وَكَمُلَ إِيمَانُهُ اشْتَغَلَ فِكْرُهُ فِيمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ فَيَمْنَعُهُ شِدَّةُ الْخَوْفِ وَكَثْرَةُ الْفِكْرِ وَالْإِشْفَاقُ عَلَى نَفْسِهِ مِنِ اسْتِيفَاءِ شَهْوَتِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ لِأَبِي أُمَامَةَ رَفَعَهُ مَنْ كَثُرَ تَفَكُّرُهُ قَلَّ طُعْمُهُ، وَمَنْ قَلَّ تَفَكُّرُهُ كَثُرَ طُعْمُهُ وَقَسَا قَلْبُهُ وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الصَّحِيحُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِ، مَنْ يَقْتَصِدُ فِي مَطْعَمِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَمِنْ شَأْنِهِ الشَّرَهُ فَيَأْكُلُ بِالنَّهَمِ كَمَا تَأْكُلُ الْبَهِيمَةُ وَلَا يَأْكُلُ بِالْمَصْلَحَةِ لِقِيَامِ الْبِنْيَةِ، وَقَدْ رَدَّ هَذَا الْخَطَّابِيُّ وَقَالَ: قَدْ ذُكِرَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَفَاضِلِ السَّلَفِ الْأَكْلُ الْكَثِيرُ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَقْصًا فِي إِيمَانِهِمْ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ
أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ فَلَا يُشْرِكُهُ الشَّيْطَانُ فَيَكْفِيهِ الْقَلِيلُ، وَالْكَافِرُ لَا يُسَمِّي فَيُشْرِكُهُ الشَّيْطَانُ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ قَبْلُ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ إِنْ لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَقِلُّ حِرْصُهُ عَلَى الطَّعَامِ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ وَفِي مَأْكَلِهِ فَيَشْبَعُ مِنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَافِرُ طَامِحُ الْبَصَرِ إِلَى الْمَأْكَلِ كَالْأَنْعَامِ فَلَا يَشْبَعُهُ الْقَلِيلُ، وَهَذَا يُمْكِنُ ضَمُّهُ إِلَى الَّذِي قَبْلَهُ وَيُجْعَلَانِ جَوَابًا وَاحِدًا مَرْكَبًا.
السَّادِسُ: قَالَ النَّوَوِيُّ الْمُخْتَارُ إنَّ الْمُرَادَ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَإنَّ أَكْثَرَ الْكُفَّارِ يَأْكُلُونَ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبْعَةِ مِثْلَ مِعَى الْمُؤْمِنِ اهـ، وَيَدُلُّ عَلَى تَفَاوُتِ الْأَمْعَاءِ مَا ذَكَرَهُ عِيَاضٌ عَنْ أَهْلِ التَّشْرِيحِ أَنَّ أَمْعَاءَ الْإِنْسَانِ سَبْعَةٌ: الْمَعِدَةُ، ثُمَّ ثَلَاثَةُ أَمْعَاءٍ بَعْدَهَا مُتَّصِلَةٌ بِهَا: الْبَوَّابُ، ثُمَّ الصَّائِمُ. ثُمَّ الرَّقِيقُ وَالثَّلَاثَةُ رِقَاقٌ، ثُمَّ الْأَعْوَرُ، وَالْقَوْلُونُ، وَالْمُسْتَقِيمُ وَكُلُّهَا غِلَاظٌ. فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الْكَافِرَ لِكَوْنِهِ يَأْكُلُ بِشَرَاهَةٍ لَا يُشْبِعُهُ إِلَّا مِلْءُ أَمْعَائِهِ السَّبْعَةِ، وَالْمُؤْمِنُ يُشْبِعُهُ مِلْءُ مِعًى وَاحِدٍ. وَنَقَلَ الْكِرْمَانِيُّ عَنِ الْأَطِبَّاءِ فِي تَسْمِيَةِ الْأَمْعَاءِ السَّبْعَةِ أَنَّهَا الْمَعِدَةُ، ثُمَّ ثَلَاثَةٌ مُتَّصِلَةٌ بِهَا رِقَاقٌ وَهِيَ الِاثْنَا عَشْرِيُّ، وَالصَّائِمُ، وَالْقَوْلُونُ، ثُمَّ ثَلَاثَةٌ غِلَاظٌ وَهِيَ الْفَانَفِيُّ بِنُونٍ وَفَاءَيْنِ أَوْ قَافَيْنِ، وَالْمُسْتَقِيمُ، وَالْأَعْوَرُ.
السَّابِعُ: قَالَ النَّوَوِيُّ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالسَّبْعَةِ فِي الْكَافِرِ صِفَاتٍ هِيَ الْحِرْصُ وَالشَّرَهُ وَطُولُ الْأَمَلِ وَالطَّمَعُ وَسُوءُ الطَّبْعِ وَالْحَسَدُ وَحُبُّ السِّمَنِ، وَبِالْوَاحِدِ فِي الْمُؤْمِنِ سَدَّ خَلَّتِهِ.
الثَّامِنُ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: شَهَوَاتُ الطَّعَامِ سَبْعٌ. شَهْوَةُ الطَّبْعِ، وَشَهْوَةُ النَّفْسِ، وَشَهْوَةُ الْعَيْنِ، وَشَهْوَةُ الْفَمِ، وَشَهْوَةُ الْأُذُنِ، وَشَهْوَةُ الْأَنْفِ، وَشَهْوَةُ الْجُوعِ وَهِيَ الضَّرُورِيَّةُ الَّتِي يَأْكُلُ بِهَا الْمُؤْمِنُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَأْكُلُ بِالْجَمِيعِ. ثُمَّ رَأَيْتُ أَصْلَ مَا ذَكَرَهُ فِي كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ مُلَخَّصًا وَهُوَ أَنَّ الْأَمْعَاءَ السَّبْعَةَ كِنَايَةٌ عَنِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ وَالشَّهْوَةِ وَالْحَاجَةِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ يُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ الْحَضُّ عَلَى التَّقَلُّلِ مِنَ الدُّنْيَا وَالْحَثُّ عَلَى الزُّهْدِ فِيهَا وَالْقَنَاعَةُ بِمَا تَيَسَّرَ مِنْهَا، وَقَدْ كَانَ الْعُقَلَاءُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ يَتَمَدَّحُونَ بِقِلَّةِ الْأَكْلِ وَيَذُمُّونَ كَثْرَةَ الْأَكْلِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ أَنَّهَا قَالَتْ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ لِابْنِ أَبِي زَرْعٍ وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ وَقَالَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ:
فَإِنَّكَ إِنْ أَعْطَيْتَ بَطْنَكَ سُؤْلَهُ
…
وَفَرْجَكَ نَالَا مُنْتَهَى الذَّمِّ أَجْمَعَا
وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: قِيلَ إِنَّ النَّاسَ فِي الْأَكْلِ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ: طَائِفَةٌ تَأْكُلُ كُلَّ مَطْعُومٍ مِنْ حَاجَةٍ وَغَيْرِ حَاجَةٍ وَهَذَا فِعْلُ أَهْلِ الْجَهْلِ، وَطَائِفَةٌ تَأْكُلُ عِنْدَ الْجُوعِ بِقَدْرِ مَا يَسُدُّ الْجُوعَ حَسْبُ، وَطَائِفَةٌ يُجَوِّعُونَ أَنْفُسَهُمْ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ قَمْعَ شَهْوَةِ النَّفْسِ وَإِذَا أَكَلُوا أَكَلُوا مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ اهـ مُلَخَّصًا. وَهُوَ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِتَنْزِيلِ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ وَهُوَ لَائِقٌ بِالْقَوْلِ الثَّانِي.
13 - بَاب الْأَكْلِ مُتَّكِئًا
5398 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ: سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا آكُلُ مُتَّكِئًا.
[الحديث 5398 - 5399]
5399 -
حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ: لَا آكُلُ وَأَنَا مُتَّكِئٌ.
قَوْلُهُ (بَابُ الْأَكْلِ مُتَّكِئًا) أَيْ مَا حُكْمُهُ؟ وَإِنَّمَا لَمْ يَجْزِمْ بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِيهِ نَهْيٌ صَرِيحٌ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ) كَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ فَقَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ فَكَانَ لِأَبِي نُعَيْمٍ فِيهِ شَيْخَانِ.
قَوْلُهُ (عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ) أَيِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْهَمْدَانِيِّ بِسُكُونِ الْمِيمِ الْوَادِعِيِّ الْكُوفِيِّ، ثِقَةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ (سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ وَهَذَا يُوَضِّحُ أَنَّ رِوَايَةَ رُقَيَّةَ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأقْمَرِ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ لِتَصْرِيحِ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ فِي رِوَايَةِ مِسْعَرٍ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنْ أَبِي جُحَيْفَةَ بِدُونِ وَاسِطَةٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ عَوْنِ أَوَّلًا عَنْ أَبِيهِ ثُمَّ لَقِيَ أَبَاهُ، أَوْ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي جُحَيْفَةَ وَثَبَّتَهُ فِيهِ عَوْنٌ.
قَوْلُهُ (إِنِّي لَا آكُلُ مُتَّكِئًا) ذَكَرَ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي بَعْدَهَا لَهُ سَبَبًا مُخْتَصَرًا وَلَفْظُهُ فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ لَا آكُلُ وَأَنَا مُتَّكِئٌ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: اللَّفْظُ الثَّانِي أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ فِي الْإِثْبَاتِ، وَأَمَّا فِي النَّفْيِ فَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ اهـ. وَكَانَ سَبَبُ هَذَا الْحَدِيثِ قِصَّةَ الْأَعْرَابِيِّ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يسْرٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ قَالَ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَأْكُلُ، فَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ: مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ؟ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَلَكٌ لَمْ يَأْتِهِ قَبْلَهَا فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يُخَيِّرُكُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا نَبِيًّا، قَالَ فَنَظَرَ إِلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ لَهُ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَنْ تَوَاضَعْ، فَقَالَ: بَلْ عَبْدًا نَبِيًّا. قَالَ فَمَا أَكَلَ مُتَّكِئًا اهـ. وَهَذَا مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضَلٌ، وَقَدْ وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ مَا رُئِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مُتَّكِئًا قَطُّ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ مَا أَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئًا إِلَّا مَرَّةً ثُمَّ نَزَعَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ تِلْكَ الْمَرَّةَ الَّتِي فِي أَثَرَ مُجَاهِدٌ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ شَاهِينَ فِي نَاسِخِهِ مِنْ مُرْسَلِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ جِبْرِيلَ رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مُتَّكِئًا فَنَهَاهُ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَهَاهُ جِبْرِيلُ عَنِ الْأَكْلِ مُتَّكِئًا لَمْ يَأْكُلْ مُتَّكِئًا بَعْدَ ذَلِكَ وَاخْتُلِفَ فِي صِفَةِ الِاتِّكَاءِ فَقِيلَ: أَنْ يَتَمَكَّنَ فِي الْجُلُوسِ لِلْأَكْلِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ، وَقِيلَ أَنْ يَمِيلَ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ، وَقِيلَ: أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ تَحْسَبُ الْعَامَّةُ أَنَّ الْمُتَّكِئَ هُوَ الْآكِلُ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ الْمُعْتَمِدُ عَلَى الْوِطَاءِ الَّذِي تَحْتَهُ، قَالَ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ إِنَى لَا أَقْعُدُ مُتَّكِئًا عَلَى الْوِطَاءِ عِنْدَ الْأَكْلِ فِعْلَ مَنْ يَسْتَكْثِرُ مِنَ الطَّعَامِ، فَإِنِّي لَا آكُلُ إِلَّا الْبُلْغَةَ مِنَ الزَّادِ فَلِذَلِكَ أَقْعُدُ مُسْتَوْفِزًا.
وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ تَمْرًا وَهُوَ مُقْعٍ وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ مُحْتَفِزٍ وَالْمُرَادُ الْجُلُوسُ عَلَى وَرِكَيْهِ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ: زَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَعْتَمِدَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى عِنْدَ الْأَكْلِ، قَالَ مَالِكٌ هُوَ نَوْعٌ مِنَ الِاتِّكَاءِ. قُلْتُ: وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ مِنْ مَالِكٍ إِلَى كَرَاهَةِ كُلِّ مَا يُعَدُّ الْآكِلُ فِيهِ مُتَّكِئًا، وَلَا يَخْتَصُّ بِصِفَةٍ بِعَيْنِهَا. وَجَزَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَفْسِيرِ الِاتِّكَاءِ بِأَنَّهُ الْمَيْلِ عَلَى أَحَدِ الشِّقَّيْنِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ لِإِنْكَارِ الْخَطَّابِيُّ ذَلِكَ. وَحَكَى ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ أنَّ مَنْ فَسَّرَ الِاتِّكَاءَ بِالْمِيلِ عَلَى أَحَدِ الشِّقَّيْنِ تَأَوَّلَهُ عَلَى مَذْهَبِ الطِّبِّ بِأَنَّهُ لَا يَنْحَدِرُ فِي مَجَارِي الطَّعَامِ سَهْلًا وَلَا يُسِيغُهُ هَنِيئًا وَرُبَّمَا تَأَذَّى بِهِ، وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي حُكْمِ الْأَكْلِ مُتَّكِئًا فَزَعَمَ ابْنُ الْقَاصِّ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْخَصَائِصِ النَّبَوِيَّةِ، وَتَعَقَّبَهُ الْبَيْهَقِيُّ فَقَالَ: قَدْ يُكْرَهُ لِغَيْرِهِ
أَيْضًا لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْمُتَعَظِّمِينَ وَأَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مُلُوكِ الْعَجَمِ، قَالَ فَإِنْ كَانَ بِالْمَرْءِ مَانِعٌ لَا يَتَمَكَّنُ مَعَهُ مِنَ الْأَكْلِ إِلَّا مُتَّكِئًا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ كَرَاهَةٌ، ثُمَّ سَاقَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُمْ أَكَلُوا كَذَلِكَ، وَأَشَارَ إِلَى حَمْلِ ذَلِكَ عَنْهُمْ عَلَى الضَّرُورَةِ، وَفِي الْحَمْلِ نَظَرٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيِّ جَوَازَ ذَلِكَ مُطْلَقًا، وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ مَكْرُوهًا أَوْ خِلَافُ الْأَوْلَى فَالْمُسْتَحَبُّ فِي صِفَةِ الْجُلُوسِ لِلْآكِلِ أَنْ يَكُونَ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَظُهُورُ قَدَمَيْهِ، أَوْ يَنْصِبُ الرِّجْلَ الْيُمْنَى وَيَجْلِسُ عَلَى الْيُسْرَى، وَاسْتَثْنَى الْغَزَالِيُّ مِنْ كَرَاهَةِ الْأَكْلِ مُضْطَجِعًا أَكْلَ الْبَقْلِ، وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ الْكَرَاهَةِ، وَأَقْوَى مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَأْكُلُوا اتِّكَاءَةً مَخَافَةَ أَنْ تَعْظُمَ بُطُونُهُمْ وَإِلَى ذَلِكَ يشير بَقِيَّةُ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْأَخْبَارِ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ فِيهِ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْأَثِيرِ مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
14 - بَاب الشِّوَاءِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَجَاءَ {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} أَيْ: مَشْوِيٍّ
5400 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِضَبٍّ مَشْوِيٍّ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ لِيَأْكُلَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ ضَبٌّ، فَأَمْسَكَ يَدَهُ، فَقَالَ خَالِدٌ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ لَا يَكُونُ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ. فَأَكَلَ خَالِدٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ. قَالَ مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ: بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ. قَوْلُهُ (بَابُ الشِّوَاءِ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْمَدِّ مَعْرُوفٌ.
قَوْلُهُ (وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} كَذَا فِي الْأَصْلِ وَهُوَ سَبْقُ قَلَمٍ وَالتِّلَاوَةُ أَنْ جَاءَ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ (مَشْوِيٌّ) كَذَا ثَبَتَ قَوْلُهُ مَشْوِيٌّ فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ، وَأَوْرَدَهُ النَّسَفِيُّ بِلَفْظِ أَيْ مَشْوِيٌّ وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} أَيْ مَحْنُوذٍ وَهُوَ الْمَشْوِيُّ مِثْلُ قَتِيلٍ فِي مَقْتُولٍ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مِثْلَهُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخَصُّ مِنْهُ قَالَ حَنِيذٌ أَيْ نَضِيجٌ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ الْحَنِيذُ الْمَشْوِيُّ النَّضِيجُ، وَمِنْ طُرُقٍ عَنْ قَتَادَةَ، وَالضِّحَاكِ، وَابْنِ إِسْحَاقَ مِثْلُهُ، وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْحَنِيذُ الْمَشْوِيُّ فِي الرَّضْفِ أَيِ الْحِجَارَةِ الْمُحْمَاةِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَالضِّحَاكِ نَحْوُهُ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَبِهِ جَزَمَ الْخَلِيلُ صَاحِبُ اللُّغَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ: الْحَنِيذُ قَالَ الَّذِي يَقْطُرُ مَاؤُهُ بَعْدَ أَنْ يُشْوَى، وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فِي الضَّبِّ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهَا فِي كِتَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَشَارَ ابْنُ بَطَّالٍ إِلَى أَنَّ أَخْذَ الْحُكْمِ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَهْوَى لِيَأْكُلَ، ثُمَّ لَمْ يَمْتَنِعْ إِلَّا لِكَوْنِهِ ضَبًّا، فَلَوْ كَانَ غَيْرَ ضَبٍّ لَأَكَلَ.
قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ (وَقَالَ مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ) يَأْتِي مَوْصُولًا فِي الذَّبَائِحِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ.
15 - بَاب الْخَزِيرَةِ. قَالَ النَّضْرُ: الْخَزِيرَةُ مِنْ النُّخَالَةِ. وَالْحَرِيرَةُ مِنْ اللَّبَنِ.
5401 -
حَدَّثَني يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ
الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْأَنْصَارِ، أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي، وَأَنَا أُصَلِّي لِقَوْمِي، فَإِذَا كَانَتْ الْأَمْطَارُ سَالَ الْوَادِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ آتِيَ مَسْجِدَهُمْ فَأُصَلِّيَ لَهُمْ، فَوَدِدْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ تَأْتِي فَتُصَلِّي فِي بَيْتِي فَأَتَّخِذُهُ مُصَلًّى. فَقَالَ: سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ عِتْبَانُ: فَغَدَا علي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ، فَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَذِنْتُ لَهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ لِي: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟ فَأَشَرْتُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْبَيْتِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَكَبَّرَ، فَصَفَفْنَا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، وَحَبَسْنَاهُ عَلَى خَزِيرٍ صَنَعْنَاهُ، فَثَابَ فِي الْبَيْتِ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ ذَوُو عَدَدٍ، فَاجْتَمَعُوا، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ مُنَافِقٌ، لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَقُلْ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: قُلْنَا: فَإِنَّا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ.
فَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: ثُمَّ سَأَلْتُ الْحُصَيْنَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيَّ، أَحَدَ بَنِي سَالِمٍ وَكَانَ مِنْ سَرَاتِهِمْ، عَنْ حَدِيثِ مَحْمُودٍ فَصَدَّقَهُ. قَوْلُهُ (بَابُ الْخَزِيرَةِ) بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ زَايٍ مَكْسُورَةٍ وَبَعْدَ التَّحْتَانِيَّةِ السَّاكِنَةِ رَاءٌ هِيَ مَا يُتَّخَذُ مِنَ الدَّقِيقِ عَلَى هَيْئَةِ الْعَصِيدَةِ لَكِنَّهُ أَرَقُّ مِنْهَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: دَقِيقٌ يُخْلَطُ بِشَحْمٍ، وَقَالَ الْقُتَبِيُّ وَتَبِعَهُ الْجَوْهَرِيُّ: الْخَزِيرَةُ أَنْ يُؤْخَذَ اللَّحْمُ فَيُقَطَّعَ صِغَارًا وَيُصَبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ كَثِير فَإِذَا نَضِجَ ذُرَّ عَلَيْهِ الدَّقِيقُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا لَحْمٌ فَهِيَ عَصِيدَةٌ، وَقِيلَ مَرَقٌ يُصَفَّى مِنْ بَلَالَةِ النُّخَالَةِ ثُمَّ يُطْبَخُ، وَقِيلَ حِسَاءٌ مِنْ دَقِيقٍ وَدَسَمٍ.
قَوْلُهُ (قَالَ النَّضْرُ) هُوَ ابْنُ شُمَيْلٍ النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ الْمُحَدِّثُ الْمَشْهُورُ.
قَوْلُهُ (الْخَزِيرَةُ) يَعْنِي بِالْإِعْجَامِ (مِنَ النُّخَالَةِ، وَالْحَرِيرَةِ) يَعْنِي بِالْإِهْمَالِ (مِنَ اللَّبَنِ) وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ النَّضْرُ وَافَقَهُ عَلَيْهِ أَبُو الْهَيْثَمِ، لَكِنْ قَالَ مِنَ الدَّقِيقِ بَدَلَ اللَّبَنِ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى اللَّبَنِ أَنَّهَا تُشْبِهُ اللَّبَنَ فِي الْبَيَاضِ لِشِدَّةِ تَصْفِيَتِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ الْمَسَاجِدِ فِي الْبُيُوتِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ وَحَبَسْنَاهُ عَلَى خَزِيرٍ صَنَعْنَاهُ أَيْ مَنَعْنَاهُ مِنَ الرُّجُوعِ عَنْ مَنْزِلِنَا لِأَجْلِ خَزِيرٍ صَنَعْنَاهُ لَهُ لِيَأْكُلَ مِنْهُ.
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْأَنْصَارِ - أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَنَقَلَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ عِتْبَانَ وَهُوَ أَوْضَحُ قَالَ: وَلِلْأَوَّلِ وَجْهٌ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ أَنَّ الثَّانِيَةُ تَوْكِيدًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} قُلْتُ: فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ أَنَّ عِتْبَانَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَمَا بَيْنَهُمَا أَشْيَاءُ اعْتَرَضَتْ فَيَصِحُّ كَمَا قَالَ، لَكِنْ يَبْقَى ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ فَيَكُونُ مُرْسَلًا لِأَنَّهُ ذَكَرَ قِصَّةً مَا أَدْرَكَهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إِنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ يُسَاوِي مَا لَوْ قَالَ عَنْ عِتْبَانَ إنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ بِأَوْضَحَ
مِنْ هَذَا فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: ثُمَّ سَأَلْتُ الْحُصَيْنَ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَالْحُصَيْنُ بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرٌ، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي الصَّلَاةِ أَنَّ الْقَابِسِيَّ رَوَاهُ بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ وَلَمْ يُوَافِقْ عَلَى ذَلِكَ، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الشَّيْخِ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: لَمْ يُدْخِلِ الْبُخَارِيُّ فِي جَامِعِهِ الْحُضَيْرَ يَعْنِي بِالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الضَّادِ وَآخِرَهُ رَاءٌ وَأَدْخَلَ الْحُصَيْنَ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَنُونٍ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ لِأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَلَمْ يُخْرِجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ، وَهَذَا قُصُورٌ مِمَّنْ قَالَهُ، فَإِنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَتِهِ مَوْصُولًا لَكِنَّهُ عَلَّقَ عَنْهُ وَوَقَعَ ذِكْرَهُ عِنْدَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَلَا يَلِيقُ نَفْيُ إِدْخَالِهِ فِي كِتَابِهِ، عَلَى أَنَّهُ قَلَّمَا يُلْتَبَسُ مِنْ أَجْلِ تَفْرِيقِ النُّونِ وَإِنَّمَا اللَّبْسُ الْحُصَيْنُ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَنُونٍ وَهْمُ جَمَاعَةٍ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى وَالْآبَاءِ، وَالْحُضَيْنُ مِثْلُهُ لَكِنْ بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ، وَهُوَ وَاحِدٌ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ حُضَيْنُ بْنُ مُنْذِرٍ أَبُو سَاسَانَ لَهُ صُحْبَةٌ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى وَهْمِ الْقَابِسِيِّ فِي ذَلِكَ عِيَاضٌ وَأَضَافَ إِلَيْهِ الْأَصِيلِيُّ فَقَالَ: قَالَ الْقَابِسِيُّ لَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ سِوَى الْحُضَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ عِيَاضٌ: وَكَذَا وَجَدْتُ الْأَصِيلِيَّ قَيَّدَهُ فِي أَصْلِهِ وَهُوَ وَهْمٌ وَالصَّوَابُ مَا لِلْجَمَاعَةِ بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ اهـ.
وَمَا نَسَبَهُ إِلَى الْأَصِيلِيِّ لَيْسَ بِمُحَقَّقٍ، لِأَنَّ النُّقْطَةَ فَوْقَ الْحَرْفِ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَاتِبِ الْأَصْلِ بِخِلَافِ الْقَابِسِيِّ فَإِنَّهُ أَفْصَحَ بِهِ حَتَّى قَالَ أَبُو لَبِيدٍ الْوَقْشِيُّ: كَذَا قُرِئَ عَلَيْهِ، قَالُوا وَهُوَ خَطَأٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
16 - بَاب الْأَقِطِ.
وَقَالَ حُمَيْدٌ: سَمِعْتُ أَنَسًا: بَنَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِصَفِيَّةَ، فَأَلْقَى التَّمْرَ وَالْأَقِطَ وَالسَّمْنَ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَنَسٍ: صَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيْسًا.
5402 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَهْدَتْ خَالَتِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ضِبَابًا وَأَقِطًا وَلَبَنًا، فَوُضِعَ الضَّبُّ عَلَى مَائِدَتِهِ، فَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُوضَعْ، وَشَرِبَ اللَّبَنَ وَأَكَلَ الْأَقِطَ.
قَوْلُهُ (بَابُ الْأَقِطِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْقَافِ، وَقَدْ تُسَكَّنُ، بَعْدَهَا طَاءٌ مُهْمَلَةٌ، وَهُوَ جُبْنُ اللَّبَنِ الْمُسْتَخْرَجِ زُبْدُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي بَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ وَغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ حُمَيْدٌ إِلَخْ) تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي بَابِ الْخُبْزِ الْمُرَقَّقِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَنَسٍ) تَقَدَّمَ أَيْضًا فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ لَكِنْ مُعَلَّقًا. وَبَيَّنْتُ الْمَوْضِعَ الَّذِي وَصَلَهُ فِيهِ مَعَ شَرْحِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الضَّبِّ لِقَوْلِهِ فِيهِ أَهْدَتْ خَالَتِي ضِبَابًا وَأَقِطًا وَلَبَنًا وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الذَّبَائِحِ.
17 - بَاب السِّلْقِ وَالشَّعِيرِ
5403 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: إِنْ كُنَّا لَنَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تَأْخُذُ أُصُولَ السِّلْقِ فَتَجْعَلُهُ فِي قِدْرٍ لَهَا، فَتَجْعَلُ فِيهِ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، إِذَا صَلَّيْنَا زُرْنَاهَا فَقَرَّبَتْهُ إِلَيْنَا، وَكُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَمَا كُنَّا نَتَغَدَّى وَلَا نَقِيلُ إِلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ، وَاللَّهِ مَا فِيهِ شَحْمٌ وَلَا وَدَكٌ.
قَوْلُهُ (بَابُ السِّلْقِ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ نَوْعٌ مِنَ الْبَقْلِ مَعْرُوفٌ، فِيهِ تَحْلِيلٌ لِسَدَدِ الْكَبِدِ، وَمِنْهُ صِنْفٌ أَسْوَدُ يَعْقِلُ الْبَطْنَ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْعَجُوزِ الَّتِي كَانَتْ تَصْنَعُ لَهُمْ أُصُولَ السِّلْقِ فِي قَدْرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَأُحِيلَ بِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ، وَقَدْ فَرَّقَهُ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي غَسَّانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ. وَوَقَعَ هُنَا مِنَ الزِّيَادَةِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ وَاللَّهِ مَا فِيهِ شَحْمٌ وَلَا وَدَكٌ وَتَقَدَّمَ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ السِّلْقَ يَكُونُ عَرْقَهُ أَيْ عِوَضًا عَنْ عِرْقِهِ، فَإِنَّ الْعَرْقَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ الْعَظْمُ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ اللَّحْمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ لَحْمٌ فَهُوَ عِرَاقٌ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَحْمٌ وَلَا وَدَكٌ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا كَافٌ وَهُوَ الدَّسَمُ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَعَطْفُهُ عَلَى الشَّحْمِ مِنْ عَطْفِ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ مَا كَانَ السَّلَفُ عَلَيْهِ مِنَ الِاقْتِصَادِ وَالصَّبْرِ عَلَى قِلَّةِ الشَّيْءِ إِلَى أَنْ فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمُ الْفُتُوحَ الْعَظِيمَةَ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَبَسَّطَ فِي الْمُبَاحَاتِ مِنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الدُّونِ مَعَ الْقُدْرَةِ زُهْدًا وَوَرَعًا.
18 - بَاب النَّهْش وَانْتِشَالِ اللَّحْمِ
5404 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: تَعَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتِفًا، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
5405 -
وَعَنْ أَيُّوبَ، وَعَاصِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْتَشَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَرْقًا مِنْ قِدْرٍ فَأَكَلَ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
قَوْلُهُ (بَابُ النَّهْشِ وَانْتِشَالِ اللَّحْمِ) النَّهْشُ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْهَاءِ بَعْدَهَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ أَوْ مُهْمَلَةٌ، وَهُمَا بِمَعْنًى عِنْدَ الْأَصْمَعِيِّ وَبِهِ جَزَمَ الْجَوْهَرِيُّ، وَهُوَ الْقَبْضُ عَلَى اللَّحْمِ بِالْفَمِ وَإِزَالَتُهُ عَنِ الْعَظْمِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ بِالْمُعْجَمَةِ هَذَا وَبِالْمُهْمَلَةِ تَنَاوُلُهُ بِمُقَدَّمِ الْفَمِ، وَقِيلَ النَّهْسُ بِالْمُهْمَلَةِ لِلْقَبْضِ عَلَى اللَّحْمِ وَنَتْرِهِ عِنْدَ الْأَكْلِ، قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ الْأَمْرُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِرْشَادِ، فَإِنَّهُ عَلَّلَهُ بِكَوْنِهِ أَهْنَأَ وَأَمْرَأَ أَيْ أَشَدَّ هَنَاءً وَمَرَاءَةً، وَيُقَالُ هَنِئَ صَارَ هَنِيئًا وَمَرِئَ صَارَ مَرِيئًا وَهُوَ أَنْ لَا يَثْقُلَ عَلَى الْمَعِدَةِ وَيَنْهَضِمَ عَنْهَا، قَالَ: وَلَمْ يَثْبُتِ النَّهْيُ عَنْ قَطْعِ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ بَلْ ثَبَتَ الْحَزُّ مِنَ الْكَتِفِ، فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللَّحْمِ كَمَا إِذَا عَسُرَ نَهْشُهُ بِالسِّنِّ قُطِعَ بِالسِّكِّينِ، وَكَذَا إِذَا لَمْ تَحْضُرِ السِّكِّينُ، وَكَذَا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْعَجَلَةِ وَالتَّأَنِّي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالِانْتِشَالُ بِالْمُعْجَمَةِ التَّنَاوُلُ وَالْقَطْعُ وَالِاقْتِلَاعُ، يُقَالُ نَشَلْتُ اللَّحْمَ مِنَ الْمَرَقِ أَخْرَجْتُهُ مِنْهُ، وَنَشَلْتَ اللَّحْمَ إِذَا أَخَذْتَ بِيَدِكَ عُضْوًا فَتَرَكْتَ مَا عَلَيْهِ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي أَخْذِ اللَّحْمِ قَبْلَ أَنْ يَنْضَجَ، وَيُسَمَّى اللَّحْمُ نَشِيلًا، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: ذَكَرَ الِانْتِشَالَ مَعَ النَّهْشِ، وَالِانْتِشَالُ التَّنَاوُلُ وَالِاسْتِخْرَاجُ، وَلَا يُسَمَّى نَهْشًا حَتَّى يَتَنَاوَلَ مِنَ اللَّحْمِ.
قُلْتُ: فَحَاصِلُهُ أَنَّ النَّهْشَ بَعْدَ الِانْتِشَالِ، وَلَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ سَاقَهُمَا الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ النَّهْشِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بِالْمَعْنَى حَيْثُ قَالَ تَعَرَّقَ كَتِفًا أَيْ تَنَاوَلَ اللَّحْمَ الَّذِي عَلَيْهِ بِفَمِهِ، وَهَذَا هُوَ النَّهْشُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى تَضْعِيفِ الْحَدِيثِ الَّذِي سَأَذْكُرُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي الْبَابَ الَّذِي بَعْدَ هَذَا فِي النَّهْيِ عَنْ قَطْعِ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ.
قَوْلُهُ (عَنْ مُحَمَّدٍ) هُوَ ابْنُ سِيرِينَ. وَوَقَعَ مَنْسُوبًا فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا يَصِحُّ لِابْنِ سِيرِينَ سَمَاعٌ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا مِنِ ابْنِ عُمَرَ. قُلْتُ: سَبَقَ
إِلَى ذَلِكَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ: لَمْ يَسْمَعْ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: بَلَغْنَا. وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ قَالَ شُعْبَةُ: أَحَادِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ إِنَّمَا سَمِعَهَا مِنْ عِكْرِمَةَ، لَقِيَهُ أَيَّامَ الْمُخْتَارِ. قُلْتُ: وكَذَا قَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ: كُلُّ شَيْءٍ يَقُولُ ابْنُ سِيرِينَ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمِعَهُ مِنْ عِكْرِمَةَ اهـ.
وَاعْتِمَادُ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْمَتْنِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى السَّنَدِ الثَّانِي، وَقَدْ ذَكَرْتُ أَنَّ ابْنَ الطَّبَّاعِ أَدْخَلَ فِي الْأَوَّلِ عِكْرِمَةَ بَيْنَ ابْنِ سِيرِينَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِإِيرَادِ السَّنَدِ الثَّانِي إِلَى مَا ذَكَرْتُ مِنْ أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ لَمْ يَسْمَعْ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قُلْتُ: وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ الطَّبَّاعِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فَأَدْخَلَ بَيْنَ مُحَمَّدَ بْنِ سِيرِينَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، عِكْرِمَةَ، وَإِنَّمَا صَحَّ عِنْدَهُ لِمَجِيئِهِ بِالطَّرِيقِ الْأُخْرَى الثَّانِيَةِ فَأَوْرَدَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَمِعَهُ. قَوْلُهُ (تَعَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتِفًا) فِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ أَكَلَ كَتِفًا وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَدِيَّةٍ خُبْزٍ وَلَحْمٍ فَأَكَلَ ثَلَاثَ لُقَمٍ الْحَدِيثَ، فَأَفَادَتْ تَعْيِينَ جِهَةِ اللَّحْمِ وَمِقْدَارِ مَا أَكَلَ مِنْهُ.
قَوْلُهُ (وَعَنْ أَيُّوبَ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى السَّنَدِ الَّذِي قَبْلُهُ، وَأَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ. وَقَدْ أَوْرَدَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنِ الْحَجَبِيِّ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، حَاصِلُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ بِسَنَدَيْنِ عَلَى لَفْظَيْنِ: أَحَدُهَما عَنِ ابْنِ سِيرِينَ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي عَنْهُ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَعَاصِمٍ الْأَحْوَلِ بِاللَّفْظِ الثَّانِي، وَمُفَادُ الْحَدِيثَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ تَرْكُ إِيجَابِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَصَلَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ زِيَادٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُوصِلِيُّ، وَعَارِمٌ، وَيَحْيَى بْنُ غِيلَانَ، وَالْحَوْضِيُّ كُلُّهُمْ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَأَرْسَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ حِسَابٍ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ. قُلْتُ: وَوَصْلُهُ صَحِيحٌ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ وَأَحْفَظُ وَقَدْ وَصَلُوا وَأَرْسَلَ فَالْحُكْمُ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ وَصَلَهُ آخَرُونَ غَيْرَ مِنْ سُمِّيَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
19 - بَاب تَعَرُّقِ الْعَضُدِ
5406 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ الْمَدَنِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ مَكَّةَ. .
5407 -
وحَدَّثَني عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ السَّلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا جَالِسًا مَعَ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَنْزِلٍ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَازِلٌ أَمَامَنَا، وَالْقَوْمُ مُحْرِمُونَ وَأَنَا غَيْرُ مُحْرِمٍ، فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِي، فَلَمْ يُؤْذِنُونِي لَهُ، وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْتُهُ، فَالْتَفَتُّ فَأَبْصَرْتُهُ، فَقُمْتُ إِلَى الْفَرَسِ فَأَسْرَجْتُهُ ثُمَّ رَكِبْتُ، وَنَسِيتُ السَّوْطَ وَالرُّمْحَ، فَقُلْتُ لَهُمْ: نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ، فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ. فَغَضِبْتُ فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتُهُمَا، ثُمَّ رَكِبْتُ فَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَعَقَرْتُهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ وَقَدْ مَاتَ، فَوَقَعُوا فِيهِ يَأْكُلُونَهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إِيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ، فَرُحْنَا، وَخَبَأْتُ الْعَضُدَ مَعِي، فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ
مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ فَأَكَلَهَا حَتَّى تَعَرَّقَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: وَحَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ. . مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ (بَابُ تَعَرُّقِ الْعَضُدِ) مَضَى تَفْسِيرُ التَّعَرُّقِ، وَأَمَّا الْعَضُدُ فَهُوَ الْعَظْمُ الَّذِي بَيْنَ الْكَتِفِ وَالْمِرْفَقِ.
وذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحَجِّ. وَأَبُو حَازِمٍ الْمَدَنِيُّ فِي إِسْنَادِهِ هُوَ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ صَاحِبُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَمُرَادُهُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ فَأَكَلَهَا حَتَّى تَعَرَّقَهَا أَيْ حَتَّى لَمْ يُبْقِ عَلَى عَظْمِهَا لَحْمًا. وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَحَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى السَّنَدِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ - أَيِ ابْنِ أَبِي كَثِيرٍ شَيْخِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ - فِيهِ إِسْنَادَيْنِ، وَوَقَعَ لِلنَّسَفِيِّ وَالْأَكْثَرِ قَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ غَيْرَ مُسَمَّى، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ فَإِنْ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ يُكَنَّى أَبَا جَعْفَرٍ صَحَّتْ رِوَايَةُ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَإِلَّا فَهُوَ ابْنٌ لَا أَبٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
20 - بَاب قَطْعِ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ
5408 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ أَبَاهُ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فِي يَدِهِ، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَأَلْقَاهَا وَالسِّكِّينَ الَّتِي يَحْتَزُّ بِهَا، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
قَوْلُهُ (بَابُ قَطْعِ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ. الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَمَعْنَى يَحْتَزُّ يَقْطَعُ. وأَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةُ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِتُّ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يَحُزُّ لِي مِنْ جَنْبٍ حَتَّى أَذَّنَ بِلَالٌ، فَطَرَحَ السِّكِّينَ، وَقَالَ: مَا لَهُ تَرِبَتْ يَدَاهُ؟ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا الْحَدِيثُ يَرُدَّ حَدِيثَ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَفَعَتْهُ لَا تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بِالسِّكِّينِ فَإِنَّهُ مِنْ صَنِيعِ الْأَعَاجِمِ، وَانْهَشُوهُ فَإِنَّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَهُوَ حَدِيثٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِ. قُلْتُ: لَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ انْهَشُوا اللَّحْمَ نَهْشًا فَإِنَّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ وَقَالَ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْكَرِيمِ اهـ. وَعَبْدُ الْكَرِيمِ هُوَ أَبُو أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الْمُخَارِقِ ضَعِيفٌ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فَهُوَ حَسَنٌ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ مَا زَادَهُ أَبُو مَعْشَرٍ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالنَّهْيِ عَنْ قَطْعِ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ، وَأَكْثَرُ مَا فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ أَنَّ النَّهْشَ أَوْلَى، وَقَدْ وَقَعَ فِي أَوَّلِ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الطَّوِيلِ الْمَاضِي فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمِ الذِّرَاعِ فَنَهَشَ مِنْهَا نَهْشَةً الْحَدِيثَ.
21 - بَاب مَا عَابَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا
5409 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا عَابَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا قَطُّ، إِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ.
قَوْلُهُ (بَابُ مَا عَابَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا) أَيْ مُبَاحًا، أَمَّا الْحَرَامُ فَكَانَ يَعِيبُهُ وَيَذُمُّهُ وَيَنْهَى عَنْهُ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ
إِلَى أَنَّ الْعَيْبَ إِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْخِلْقَةِ كُرِهَ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الصَّنْعَةِ لَمْ يُكْرَهْ، قَالَ: لِأَنَّ صَنْعَةَ اللَّهِ لَا تُعَابُ وَصَنْعَةُ الْآدَمِيِّينَ تُعَابُ. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ التَّعْمِيمُ، فَإِنَّ فِيهِ كَسْرَ قَلْبِ الصَّانِعِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مِنْ آدَابِ الطَّعَامِ الْمُتَأَكِّدَةِ أَنْ لَا يُعَابَ، كَقَوْلِهِ مَالِحٌ حَامِضٌ قَلِيلُ الْمِلْحِ غَلِيظٌ رَقِيقٌ غَيْرُ نَاضِجٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي حَازِمٍ) هُوَ الْأَشْجَعِيُّ، وَلِلْأَعْمَشِ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةِ عَنْهُ عَنْ أَبِي يَحْيَى مَوْلَى جَعْدَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَجَمَاعَةٍ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، وَاقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ لِكَوْنِهِ عَنْ شَرْطِهِ دُونَ أَبِي يَحْيَى، وَأَبُو يَحْيَى مَوْلَى جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ الْمَخْزُومِيِّ مَدَنِيٌّ مَا لَهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَشَارَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ إِلَى أَنَّ أَبَا مُعَاوِيَةَ تَفَرَّدَ بِقَوْلِهِ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي يَحْيَى فَقَالَ لَمَّا أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِهِ يُخَالِفُهُ فِيهِ بِقَوْلِهِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، وَذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِيمَا انْتَقَدَ عَلَى مُسْلِمٍ، وَأَجَابَ عِيَاضٌ بِأَنَّهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُعَلَّلَةِ الَّتِي ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ أَنَّهُ يُورِدُهَا وَيُبَيِّنُ عِلَّتَهَا، كَذَا قَالَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا لَا عِلَّةَ فِيهِ لِرِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا كَانَ يَأْتِي هَذَا لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَبِي يَحْيَى فَيَكُونُ حِينَئِذٍ شَاذًّا، أَمَّا بَعْدَ أَنْ وَافَقَ الْجَمَاعَةَ عَلَى أَبِي حَازِمٍ فَتَكُونُ زِيَادَةً مَحْضَةً حَفِظَهَا أَبُو مُعَاوِيَةَ دُونَ بَقِيَّةِ أَصْحَابِ الْأَعْمَشِ ; وَهُوَ مِنْ أَحْفَظِهِمْ عَنْهُ فَيُقْبَلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ) يَعْنِي مِثْلَ مَا وَقَعَ لَهُ فِي الضَّبِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي يَحْيَى وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِهِ سَكَتَ أَيْ عَنْ عَيْبِهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ، لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ لَا يَشْتَهِي الشَّيْءَ وَيَشْتَهِيهِ غَيْرُهُ، وَكُلٌّ مَأْذُونٌ فِي أَكْلِهِ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ لَيْسَ فِيهِ عَيْبٌ.
22 - بَاب النَّفْخِ فِي الشَّعِيرِ
5410 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ أَنَّهُ سَأَلَ سَهْلًا: هَلْ رَأَيْتُمْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّقِيَّ؟ قَالَ: لَا. فَقُلْتُ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَنْخُلُونَ الشَّعِيرَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ كُنَّا نَنْفُخُهُ.
[الحديث 5410 - طرفه في: 5413]
قَوْلُهُ (بَابُ النَّفْخِ فِي الشَّعِيرِ) أَيْ بَعْدَ طَحْنِهِ لِتَطِيرَ مِنْهُ قُشُورُهُ. وَكَأَنَّهُ نَبَّهَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ النَّفْخِ فِي الطَّعَامِ خَاصٌّ بِالطَّعَامِ الْمَطْبُوخِ.
قَوْلُهُ (أَبُو غَسَّانَ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ، وَأَبُو حَازِمٍ هُوَ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ، وَهُوَ غَيْرُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا تَابِعِيًّا.
قَوْلُهُ (النَّقِيُّ) بِفَتْحِ النُّونِ أَيْ خُبْزُ الدَّقِيقِ الْحُوَّارَي وَهُوَ النَّظِيفُ الْأَبْيَضُ، وَفِي حَدِيثِ الْبَعْثِ يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى أَرْضٍ عَفْرَاءَ كَقَرْصَةِ النَّقِيِّ وَذَكَرَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ أَتَمَّ مِنْهُ.
قَوْلُهُ (قَالَ لَا) هُوَ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ مَا رَأَى مُرَقَّقًا قَطُّ.
قَوْلُهُ (فَهَلْ كُنْتُمْ تَنْخُلُونَ الشَّعِيرَ) أَيْ بَعْدَ طَحْنِهِ.
قَوْلُهُ (وَلَكِنْ كُنَّا نَنْفُخُهُ) ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ بِلَفْظِ هَلْ كَانَتْ لَكُمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنَاخِلُ؟ قَالَ: مَا رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُنْخُلًا مِنْ حِينِ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَظُنُّهُ احْتَرَزَ عَمَّا قَبْلَ الْبَعْثَةِ لِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ سَافَرَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا وَكَانَتِ الشَّامُ إِذْ ذَاكَ مَعَ الرُّومِ، وَالْخُبْزُ النَّقِيُّ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ، وَكَذَا الْمَنَاخِلُ وَغَيْرُهَا مِنْ آلَاتِ التَّرَفُّهِ، فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، فَأَمَّا بَعْدَ الْبَعْثَةِ فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا بِمَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَالْمَدِينَةِ، وَوَصَلَ إِلَى تَبُوكَ وَهِيَ مِنْ أَطْرَافِ الشَّامِ لَكِنْ لَمْ يَفْتَحْهَا وَلَا طَالَتْ إِقَامَتُهُ بِهَا، وَقَوْلُ الْكِرْمَانِيِّ: نَخَلْتُ الدَّقِيقَ أَيْ غَرْبَلْتُهُ، الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: أَيْ أَخْرَجْتُ مِنْهُ النُّخَالَةُ.
23 - بَاب مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ يَأْكُلُونَ
5411 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبَّاسٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ تَمْرًا، فَأَعْطَى كُلَّ إِنْسَانٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَانِي سَبْعَ تَمَرَاتٍ إِحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِنَّ تَمْرَةٌ أَعْجَبَ إِلَيَّ مِنْهَا؟ شَدَّتْ فِي مَضَاغِي.
[الحديث 5411 - طرفاه في: 5441، 5441]
5412 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ سَعْدٍ قَالَ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الْحُبْلَةِ أَوْ الْحَبَلَةِ حَتَّى يَضَعَ أَحَدُنَا مَا تَضَعُ الشَّاةُ ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الإِسْلَامِ خَسِرْتُ إِذًا وَضَلَّ سَعْيِي"
5413 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ سَأَلْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ فَقُلْتُ هَلْ أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّقِيَّ فَقَالَ سَهْلٌ مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّقِيَّ مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ قَالَ فَقُلْتُ هَلْ كَانَتْ لَكُمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنَاخِلُ قَالَ مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنْخُلًا مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ قَالَ قُلْتُ كَيْفَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ غَيْرَ مَنْخُولٍ قَالَ كُنَّا نَطْحَنُهُ وَنَنْفُخُهُ فَيَطِيرُ مَا طَارَ وَمَا بَقِيَ ثَرَّيْنَاهُ فَأَكَلْنَاهُ"
5414 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ فَدَعَوْهُ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ وَقَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ"
5415 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا مُعَاذٌ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ يُونُسَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَا أَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى خِوَانٍ وَلَا فِي سُكْرُجَةٍ وَلَا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قُلْتُ لِقَتَادَةَ عَلَامَ يَأْكُلُونَ قَالَ عَلَى السُّفَرِ"
5416 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ الْبُرِّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ"
[الحديث 5416 - طرفه في: 6454]
قَوْلُهُ (بَابُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ يَأْكُلُونَ) أَيْ فِي زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرَ فِيهِ سِتَّةَ أَحَادِيثَ.
الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِسْمَةِ التَّمْرِ، سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي بَابٍ بَعْدَ بَابِ الْقِثَّاءِ وَالرُّطَبِ) وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ شَدَّتْ فِي مَضَاغِي) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَقَدْ تُكْسَرُ وَتَخْفِيفِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ غَيْنٌ مُعْجَمَةٌ هُوَ مَا يُمْضَغُ أَوْ هُوَ الْمَضْغُ نَفْسُهُ
وَمُرَادُهُ أَنَّهَا كَانَتْ فِيهَا قُوَّةٌ عِنْدَ مَضْغِهَا فَطَالَ مَضْغُهُ لَهَا كَالْعِلْكِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ بِلَفْظِ هِيَ أَشَدُّهُنَّ لِضِرْسِي.
الثَّانِي: حَدِيثُ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ ابْنُ خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَعْدٍ وَهُوَ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَوَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمُلَقِّنِ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ كَأَنَّهُ تَوَهَّمَهُ قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ، فَقَدْ مَضَى الْحَدِيثُ فِي مَنَاقِبِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقٍ قيس وَهُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ سَمِعْتُ سَعْدًا وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ قَيْسٍ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ.
قَوْلُهُ (رَأَيْتُنِي سَابِعُ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قِدَمِ إِسْلَامِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَنَاقِبِهِ مِنْ كِتَابِ الْمَنَاقِبِ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنَّ السَّبْعَةَ الْمَذْكُورِينَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَكَانَ إِسْلَامُ الْأَرْبَعَةِ بِدُعَاءِ أَبِي بَكْرٍ لَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي أَوَائِلِ الْبَعْثَةِ، وَأَمَّا عَلِيٌّ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَأَسْلَمَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ مَا بُعِثَ.
قَوْلُهُ (إِلَّا وَرَقُ الْحَبْلَةِ أَوِ الْحُبُلَة) الْأَوَّلُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالثَّانِي بِضَمِّهِمَا وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِهِ ثَمَرُ الْعِضَاهِ وَثَمَرُ السَّمَرِ، وَهُوَ يُشْبِهُ اللُّوبِيَا، وَقِيلَ الْمُرَادُ عُرُوقُ الشَّجَرِ وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الثَّالثُ: حَدِيثُ سَهْلٍ فِي النَّقِيِّ وَالْمَنَاخِلِ، تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ (وَمَا بَقِيَ ثَرَّيْنَاهُ) بِمُثَلَّثَةٍ وَرَاءٍ ثَقِيلَةٍ أَيْ بَلَلْنَاهُ بِالْمَاءِ.
قَوْلُهُ (فَأَكَلْنَاهُ) يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَكَلُوهُ بِغَيْرِ عَجْنٍ وَلَا خَبْزٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى عَجْنِهِ بَعْدَ الْبَلِّ وَخَبْزِهِ ثُمَّ أَكْلِهِ. وَالْمُنْخُلُ مِنَ الْأَدَوَاتِ الَّتِي جَاءَتْ بِضَمِّ أَوَّلِهَا.
الرَّابِعُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ (مَرَّ بِقَوْمٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ) أَيْ مَشْوِيَّةٌ، وَالصِّلَاءُ بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ الشَّيُّ.
قَوْلُهُ (فَدَعَوْهُ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ) لَيْسَ هَذَا مِنْ تَرْكِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ لِأَنَّهُ فِي الْوَلِيمَةِ لَا فِي كُلِّ الطَّعَامِ، وَكَأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ اسْتَحْضَرَ حِينَئِذٍ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْعَيْشِ فَزَهِدَ فِي أَكْلِ الشَّاةِ وَلِذَلِكَ قَالَ خَرَجَ وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ وَقَدْ مَضَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْأَطْعِمَةِ، وَيَأْتِي مَزِيدٌ لَهُ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ.
الْخَامِسُ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْخِوَانِ وَالسُّكُرُّجَةِ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا.
السَّادِسُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي طَعَامِ الْبُرِّ، تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْأَطْعِمَةِ، وَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ أَيْضًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
24 - بَاب التَّلْبِينَةِ
5417 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ ثُمَّ تَفَرَّقْنَ، إِلَّا أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا، أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ، ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ فَصُبَّتْ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: كُلْنَ مِنْهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ، تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ.
قَوْلُهُ (بَابُ التَّلْبِينَةِ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ نُونٌ: طَعَامٌ يُتَّخَذُ مِنْ دَقِيقٍ أَوْ نُخَالَةٍ، وَرُبَّمَا جُعِلَ فِيهَا عَسَلٌ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِشَبَهِهَا بِاللَّبَنِ فِي الْبَيَاضِ وَالرِّقَّةِ، وَالنَّافِعُ مِنْهُ مَا كَانَ رَقِيقًا نَضِيجًا لَا غَلِيظًا نِيئًا. وَقَوْلُهُ مَجَمَّةٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمِيمِ الثَّقِيلَةِ أَيْ مَكَانُ الِاسْتِرَاحَةِ، وَرُوِيَتْ بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ مُرِيحَةٌ، وَالْجِمَامُ بِكَسْرِ الْجِيمِ الرَّاحَةُ، وَجَمَّ الْفَرَسُ إِذَا ذَهَبَ إِعْيَاؤُهُ.
وسَيَأْتِي شَرْحُ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي كِتَابِ الطِّبِّ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
25 - بَاب الثَّرِيدِ
5418 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجَمَلِيِّ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ.
5419 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي طُوَالَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ.
5420 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ، سَمِعَ أَبَا حَاتِمٍ الْأَشْهَلَ بْنَ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى غُلَامٍ لَهُ خَيَّاطٍ، فَقَدَّمَ إِلَيْهِ قَصْعَةً فِيهَا ثَرِيدٌ، قَالَ: وَأَقْبَلَ عَلَى عَمَلِهِ، قَالَ: فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهُ فَأَضَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: فَمَا زِلْتُ بَعْدُ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ.
قَوْلُهُ (بَابُ الثَّرِيدِ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مَعْرُوفٌ وَهُوَ أَنْ يُثْرَدَ الْخُبْزُ بِمَرَقِ اللَّحْمِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَهُ اللَّحْمُ، وَمِنْ أَمْثَالِهِمُ الثَّرِيدُ أَحَدُ اللَّحْمَيْنِ وَرُبَّمَا كَانَ أَنْفَعَ وَأَقْوَى مِنْ نَفْسِ اللَّحْمِ النَّضِيجِ إِذَا ثُرِدَ بِمَرَقَتِهِ. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ.
الْأَوَّلُ وَالثَّانِي: عَنْ أَبِي مُوسَى، وَأَنَسٍ فِي فَضْلِ عَائِشَةَ، وقَدْ تَقَدَّمَا فِي الْمَنَاقِبِ وَفِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَرْجَمَةِ مُوسَى عليه السلام عِنْدَ ذِكْرِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ وَفِي تَرْجَمَةِ مَرْيَمَ. وَالْجَمَلِيِّ فِي إِسْنَادِ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ نِسْبَةً إِلَى بَنِي جَمَلٍ حَيٌّ مِنْ مُرَادٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ هُنَاكَ، وَتَقْرِيرُ فَضْلِ الثَّرِيدِ، وَوَرَدَ فِيهِ أَخَصُّ مِنْ هَذَا: فَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْبَرَكَةِ فِي السُّحُورِ وَالثَّرِيدِ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ، ولِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ رَفَعَهُ الْبَرَكَةُ فِي ثَلَاثَةٍ: الْجَمَاعَةِ وَالسُّحُورِ وَالثَّرِيدِ وَأَبُو طُوَالَةَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرَمٍ، وَزَعَمَ عِيَاضٌ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ هُنَا عَنِ ابْنِ أَبِي طُوَالَةَ وَهُوَ خَطَأٌ وَلَمْ أَرَهُ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي عِنْدَنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ إِلَّا عَلَى الصَّوَابِ، وَذَكَرَ الْقَابِسِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طُوَالَةَ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ أَبِي طُوَالَةَ
ثَالِثُهَا: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْخَيَّاطِ.
قَوْلُهُ (سَمِعَ أَبَا حَاتِمٍ) هُوَ أَشْهَلُ بْنُ حَاتِمٍ الْبَصْرِيُّ، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ تَسْمِيَتُهُ وَتَسْمِيَةُ أَبِيهِ فِي الْأَصْلِ وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنَا أَشْهَلُ بْنُ حَاتِمٍ، وَابْنُ عَوْنٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ.
قَوْلُهُ (عَلَى غُلَامٍ لَهُ خَيَّاطٍ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي بَابِ مَنْ تَتَبَّعَ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ.
26 - بَاب شَاةٍ مَسْمُوطَةٍ وَالْكَتِفِ وَالْجَنْبِ
5421 -
حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ، قَالَ: كُلُوا، فَمَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ، وَلَا رَأَى شَاةً سَمِيطة بِعَيْنِهِ قَطُّ.
5422 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَامَ فَطَرَحَ السِّكِّينَ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
قَوْلُهُ (بَابُ شَاةٍ مَسْمُوطَةٍ وَالْكَتِفِ وَالْجَنْبِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ وَفِيهِ وَلَا رَأَى شَاةً سَمِيطَةً وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَسْمُوطَةً وَحَدِيثَ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَا قَرِيبًا. وَأَمَّا الْجَنْبُ فَأَشَارَ بِهِ إِلَى حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَرَّبَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَنْبًا مَشْوِيًّا فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ قَطْعِ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ الْإِشَارَةُ إِلَى حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَفِيهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ ضِفْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِجَنْبٍ فَشُوِيَ، فَأَخَذَ الشَّفْرَةَ - فَجَعَلَ يَحْتَزُّ لِي بِهَا مِنْهُ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَكَذَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ وَبَيْنَ قَوْلِ أَنَسٍ إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَا رَأَى شَاةً مَسْمُوطَةً فَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْخُبْزِ الْمُرَقَّقِ وَقَدْ مَضَى الْبَحْثُ فِيهِ مُسْتَوْفًى.
27 - بَاب مَا كَانَ السَّلَفُ يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَأَسْفَارِهِمْ مِنْ الطَّعَامِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ، وَأَسْمَاءُ: صَنَعْنَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ سُفْرَةً
5423 -
حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ؟ قَالَتْ: مَا فَعَلَهُ إِلَّا فِي عَامٍ جَاعَ النَّاسُ فِيهِ، فَأَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ. وَإِنْ كُنَّا لَنَرْفَعُ الْكُرَاعَ فَنَأْكُلُهُ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ. قِيلَ: مَا اضْطَرَّكُمْ إِلَيْهِ؟ فَضَحِكَتْ، قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ بِهَذَا.
[الحديث 5423 - أطرافه في: 5438، 5570، 6687]
5424 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الْهَدْيِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ تَابَعَهُ مُحَمَّدٌ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ أَقَالَ حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَةَ قَالَ لَا"
قَوْلُهُ (بَابُ مَا كَانَ السَّلَفُ يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَأَسْفَارِهِمْ مِنَ الطَّعَامِ وَاللَّحْمِ) لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ لِلطَّعَامِ ذِكْرٌ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهَا بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ، أَوْ مِنْ مُقْتَضَى قَوْلِ عَائِشَةَ مَا شَبِعَ مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ الْمَأْدُومِ ثَلَاثًا فَإِنَّهُ
لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ كَوْنِهِ مَأْدُومًا نَفْيُ كَوْنِهِ مُطْلَقًا، وَفِي وُجُودِ ذَلِكَ ثَلَاثًا مُطْلَقًا دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ تَنَاوُلِهِ وَإِبْقَائِهِ فِي الْبُيُوتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالطَّعَامِ مَا يُطْعَمُ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ إِدَامٍ.
قَوْلُهُ (وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَأَسْمَاءُ: صَنَعْنَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ سُفْرَةً) تَقَدَّمَ حَدِيثُ عَائِشَةَ مَوْصُولًا فِي بَابِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ مُطَوَّلًا، وَحَدِيثُ أَسْمَاءَ تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ وَسَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ قَرِيبًا.
ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ عَنْ أَبِيهِ) هُوَ عَابِسٌ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ ابْنُ رَبِيعَةَ النَّخَعِيُّ الْكُوفِيُّ، تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ، وَيَلْتَبِسُ بِهِ عَابِسُ بْنُ رَبِيعَةَ الْغُطَيْفِيُّ صَحَابِيٌّ ذَكَرَهُ ابْنُ يُونُسَ وَقَالَ: لَهُ صُحْبَةٌ وَشَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ، وَلَمْ أَجِدْ لَهُمْ عَنْهُ رِوَايَةً.
قَوْلُهُ (قَالَتْ مَا فَعَلَهُ إِلَّا فِي عَامٍ جَاعَ النَّاسُ فِيهِ، فَأَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ) بَيَّنَتْ عَائِشَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ نُسِخَ، وَأَنَّ سَبَبَ النَّهْيِ كَانَ خَاصًّا بِذَلِكَ الْعَامِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَتْهَا، وَسَيَأْتِي بَسْطُ هَذَا فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْأَضَاحِيِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَغَرَضُ الْبُخَارِيِّ مِنْهُ قَوْلُهَا وَإِنْ كُنَّا لَنَرْفَعُ الْكُرَاعَ إِلَخْ فَإِنَّ فِيهِ بَيَانَ جَوَازِ ادِّخَارِ اللَّحْمِ وَأَكْلِ الْقَدِيدِ، وَثَبَتَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ قِلَّةُ اللَّحْمِ عِنْدَهُمْ بِحَيْثُ إنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَشْبَعُونَ مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ) هُوَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ، وَغَرَضُهُ تَصْرِيحُ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ بِإِخْبَارِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ لَهُ بِهِ وَقَدْ وَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ بِهِ.
تَابَعَهُ مُحَمَّدٌ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَقَالَ حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَةَ؟ قَالَ: لَا.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَسُفْيَانُ الَّذِي قَبْلَهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هُوَ الثَّوْرِيُّ كَمَا بَيَّنْتُهُ.
قَوْلُهُ (تَابَعَهُ مُحَمَّدٌ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ) قِيلَ إِنَّ مُحَمَّدًا هَذَا هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ. وَقَدْ وَقَعَ لِي الْحَدِيثُ فِي مُسْنَدٍ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ وَلَفْظُهُ كُنَّا نَعْزِلُ عَنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ، وَكُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الْهَدْيِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ إِلَخْ) وَصَلَ الْمُصَنِّفُ أَصْلَ الْحَدِيثِ فِي بَابِ مَا يُؤْكَلُ مِنَ الْبُدْنِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ وَلَفْظُهُ كُنَّا لَا نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلَاثٍ. فَرَخَّصَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كُلُوا وَتَزَوَّدُوا وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، وَقَدْ ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِالسَّنَدِ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِهِ الْبُخَارِيُّ فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ كُلُوا وَتَزَوَّدُوا قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَقَالَ جَابِرٌ حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ كَذَا وَقَعَ عِنْدَهُ بِخِلَافِ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ قَالَ لَا وَالَّذِي وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، فَإِنَّ أَحْمَدَ أَخْرَجَهُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى اخْتِلَافِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ الْحُمَيْدِيُّ فِي جَمْعِهِ وَتَبِعَهُ عِيَاضٌ وَلَمْ يَذْكُرَا تَرْجِيحًا، وَأَغْفَلَ ذَلِكَ شُرَّاحُ الْبُخَارِيِّ أَصْلًا فِيمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَا نَفْيَ الْحُكْمِ بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ جَابِرًا لَمْ يُصَرِّحْ بِاسْتِمْرَارِ ذَلِكَ مِنْهُمْ حَتَّى قَدِمُوا، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الْهَدْيِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَيْ لِتَوَجُّهِنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ بَقَاؤُهَا مَعَهُمْ حَتَّى يَصِلُوا الْمَدِينَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لَكِنْ قَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ قَالَ ذَبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُضْحِيَّتَهُ ثُمَّ قَالَ لِي: يَا ثَوْبَانُ أَصْلِحْ لَحْمَ هَذِهِ، فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمُهُ مِنْهُ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ادِّخَارُ طَعَامٍ لِغَدٍ، وَأَنَّ اسْمَ الْوِلَايَةِ لَا يَسْتَحِقُّ لِمَنِ ادَّخَرَ شَيْئًا وَلَوْ قَلَّ، وَأَنَّ مَنِ ادَّخَرَ أَسَاءَ الظَّنَّ بِاللَّهِ. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كِفَايَةٌ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ ذَلِكَ.
28 - بَاب الْحَيْسِ
5425 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حَنْطَبٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي طَلْحَةَ: الْتَمِسْ غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي، فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ يُرْدِفُنِي وَرَاءَهُ، فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا نَزَلَ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ. فَلَمْ أَزَلْ أَخْدُمُهُ حَتَّى أَقْبَلْنَا مِنْ خَيْبَرَ، وَأَقْبَلَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ قَدْ حَازَهَا، فَكُنْتُ أَرَاهُ يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ، أَوْ بِكِسَاءٍ، ثُمَّ يُرْدِفُهَا وَرَاءَهُ. حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَدَعَوْتُ رِجَالًا فَأَكَلُوا، وَكَانَ ذَلِكَ بِنَاءَهُ بِهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا بَدَا لَهُ أُحُدٌ قَالَ: هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا مِثْلَ مَا حَرَّمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ. اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ.
قَوْلُهُ (بَابُ الْحَيْسِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ مَعَ شَرْحِ حَدِيثِ الْبَابِ فِي قِصَّةِ صَفِيَّةَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي. وَأَصْلُ الْحَيْسِ مَا يُتَّخَذُ مِنَ التَّمْرِ وَالْأَقِطِ وَالسَّمْنِ، وَقَدْ يُجْعَلُ عَوِضَ الْأَقِطِ الْفَتِيتُ أَوِ الدَّقِيقُ.
وقَوْلُهُ فيه (وَضَلَعُ الدَّيْنِ) بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ أَيْ ثِقَلُهُ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ سُكُونَ اللَّامِ وَفَسَّرَهُ بِالْمَيْلِ، وَيَأْتِي مَزِيدٌ لِشَرْحِ هَذَا الدُّعَاءِ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ يَحْوِي بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَوَاوٍ ثَقِيلَةٍ أَيْ يَجْعَلُ لَهَا حَوِيَّةً، وَهُوَ كِسَاءٌ مَحْشُوٌّ يُدَارُ حَوْلَ سَنَامِ الرَّاحِلَةِ يَحْفَظُ رَاكِبَهَا مِنَ السُّقُوطِ وَيَسْتَرِيحُ بِالِاسْتِنَادِ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى بَدَا لَهُ أُحُدٌ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ، وَقَوْلُهُ (مِثْلَ مَا حَرَّمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ مِثْلَ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ بِمِثْلِ مَا حَرَّمَ بِهِ، وَلَيْسَتْ لَفْظَةُ بِهِ زَائِدَةً.
29 - بَاب الْأَكْلِ فِي إِنَاءٍ مُفَضَّضٍ
5426 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ حُذَيْفَةَ، فَاسْتَسْقَى، فَسَقَاهُ مَجُوسِيٌّ، فَلَمَّا وَضَعَ الْقَدَحَ فِي يَدِهِ رَمَاهُ بِهِ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي نَهَيْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَمْ أَفْعَلْ هَذَا، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ.
[الحديث 5426 - أطرافه في 5632، 5633، 5831، 5837]
قَوْلُهُ (بَابُ الْأَكْلِ فِي إِنَاءٍ مُفَضَّضٍ) أَيِ الَّذِي جُعِلَتْ فِيهِ الْفِضَّةُ، كَذَا اقْتَصَرَ مِنَ الْآنِيَّةِ عَلَى هَذَا، وَالْأَكْلُ فِي جَمِيعِ الْآنِيَّةِ مُبَاحٌ إِلَّا إِنَاءَ الذَّهَبِ وَإِنَاءَ الْفِضَّةِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْإِنَاءِ الَّذِي فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِمَّا بِالتَّضْبِيبِ وَإِمَّا بِالْخَلْطِ وَإِمَّا بِالطِّلَاءِ، وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ الَّذِي سَاقَهُ فِي الْبَابِ فِيهِ النَّهْيُ عَنِ الشُّرْبِ فِي آنِيَّةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَيُؤْخَذُ مَنْعُ الْأَكْلِ بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ كَمَا سَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ ذِكْرُ الْأَكْلِ، فَيَكُونُ الْمَنْعُ مِنْهُ بِالنَّصِّ أَيْضًا، وَهَذَا فِي الَّذِي جَمِيعُهُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَمَّا الْمَخْلُوطُ أَوِ الْمُضَبَّبُ
أَوِ الْمُمَوَّهُ وَهُوَ الْمَطْلِيُّ فَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ مَنْ شَرِبَ فِي آنِيَّةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَوْ إِنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي جَوْفِهِ نَارَ جَهَنَّمَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ كَذَلِكَ وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَشْرَبُ مِنْ قَدَحٍ فِيهِ حَلْقَةُ فِضَّةٍ وَلَا ضَبَّةُ فِضَّةٍ، وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَفِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ تَفْضِيضِ الْأَقْدَاحِ، ثُمَّ رَخَّصَ فِيهِ لِلنِّسَاءِ.
قَالَ مُغَلْطَايْ: لَا يُطَابِقُ الْحَدِيثُ التَّرْجَمَةَ إِلَّا إِنْ كَانَ الْإِنَاءُ الَّذِي سَقَى فِيهِ حُذَيْفَةَ كَانَ مُضَبَّبًا فَإِنَّ الضَّبَّةَ مَوْضِعُ الشَّفَةِ عِنْدَ الشُّرْبِ، وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ لَفْظَ مُفَضَّضٍ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِيمَا فِيهِ فِضَّةٌ لَكِنَّهُ يَشْمَلُ مَا إِذَا كَانَ مُتَّخَذًا كُلُّهُ مِنْ فِضَّةٍ، وَالنَّهْيُ عَنِ الشُّرْبِ فِي آنِيَّةِ الْفِضَّةِ يَلْحَقُ بِهِ الْأَكْلُ لِلْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ فَيُطَابِقُ الْحَدِيثُ التَّرْجَمَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
30 - بَاب ذِكْرِ الطَّعَامِ
5427 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ: رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ: لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ: رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ: لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ.
5428 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ.
5429 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ: يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ مِنْ وَجْهِهِ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ.
قَوْلُهُ (بَابُ ذِكْرِ الطَّعَامِ) ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ.
أَحَدُهَا: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَكْرَارُ ذِكْرِ الطَّعْمِ فِيهِ، وَالطَّعَامُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الطَّعْمِ.
ثَانِيهَا: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي فَضْلِ عَائِشَةَ، وَقَدْ مَضَى التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ قَرِيبًا وَذُكِرَ فِيهِ الطَّعَامُ.
ثَالِثُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ ذَكَرَهُ لِقَوْلِهِ فِيهِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ بَعْدَ كِتَابِ الْحَجِّ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْنَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِبَاحَةُ أَكْلِ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ، وَأَنَّ الزُّهْدَ لَيْسَ فِي خِلَافِ ذَلِكَ، فَإِنَّ تَشْبِيهَ الْمُؤْمِنِ بِمَا طَعْمُهُ طَيِّبٌ وَتَشْبِيهَ الْكَافِرِ بِمَا طَعْمُهُ مُرٌّ تَرْغِيبًا فِي أَكْلِ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ وَالْحُلْوِ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَرِهَ السَّلَفُ الْإِدْمَانَ عَلَى أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ خَشْيَةَ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ عَادَةً فَلَا تَصْبِرُ النَّفْسُ عَلَى فَقْدِهَا. قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْآدَمِيَّ لَا بُدَّ لَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ طَعَامٍ يُقِيمُ بِهِ جَسَدَهُ وَيَقْوَى بِهِ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا جَبَلَ النُّفُوسَ عَلَى ذَلِكَ لِقَوَامِ الْحَيَاةِ، لَكِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْخُذُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ إِيثَارِهِ أَمْرَ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا. وَزَعَمَ مُغَلْطَايْ أَنَّ ابْنَ بَطَّالٍ قَالَ قَبْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا مَعْنَاهُ: لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الطَّعَامِ، قَالَ مُغَلْطَايْ: قَوْلُهُ لَيْسَ
فِيهِ ذِكْرُ الطَّعَامِ ذُهُولٌ شَدِيدٌ، فَإِنَّ لَفْظَ الْمَتْنِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ اهـ. وَتَعَقَّبَهُ صَاحِبُهُ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ بْنُ الْمُلَقِّنِ بِأَنَّهُ لَا ذُهُولَ، فَإِنَّ عِبَارَةَ ابْنِ بَطَّالٍ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ أَفْضَلِ الطَّعَامِ وَلَا أَدْنَاهُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ فَلَمْ يَذْهَلْ.
31 - بَاب الْأُدْمِ
5430 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ: أَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تَشْتَرِيَهَا فَتُعْتِقَهَا، فَقَالَ أَهْلُهَا: وَلَنَا الْوَلَاءُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَوْ شِئْتِ شَرَطْتِيهِ لَهُمْ، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، قَالَ: وَأُعْتِقَتْ فَخُيِّرَتْ فِي أَنْ تَقِرَّ تَحْتَ زَوْجِهَا أَوْ تُفَارِقَهُ. وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بَيْتَ عَائِشَةَ وَعَلَى النَّارِ بُرْمَةٌ تَفُورُ، فَدَعَا بِالْغَدَاءِ، فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَأُدْمٍ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: أَلَمْ أَرَ لَحْمًا؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فَأَهْدَتْهُ لَنَا، فَقَالَ: هُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا وَهَدِيَّةٌ لَنَا.
قَوْلُهُ (بَابُ الْأُدُمِ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا، جَمْعُ إِدَامٍ، وَقِيلَ هُوَ بِالْإِسْكَانِ الْمُفْرَدُ وَبِالضَّمِّ الْجَمْعُ. ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ، وَفِيهِ فَأُتِيَ بِأُدْمٍ مِنْ أُدُمِ الْبَيْتِ وَفِيهِ ذِكْرُ اللَّحْمِ الَّذِي تُصَدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْكَلَامِ عَلَى قِصَّةِ بَرِيرَةَ فِي الطَّلَاقِ. وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الطَّبَرِيِّ قَالَ: دَلَّتِ الْقِصَّةُ عَلَى إِيثَارِهِ عليه الصلاة والسلام اللَّحْمَ إِذَا وُجِدَ إِلَيْهِ السَّبِيلُ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ بَرِيرَةَ رَفَعَهُ: سَيِّدُ الْإِدَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّحْمُ. وَأَمَّا مَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ مِنْ إِيثَارِ أَكْلِ غَيْرِ اللَّحْمِ عَلَى اللَّحْمِ فَإِمَّا لِقَمْعِ النَّفْسِ عَنْ تَعَاطِي الشَّهَوَاتِ وَالْإِدْمَانِ عَلَيْهَا، وَإِمَّا لِكَرَاهَةِ الْإِسْرَافِ وَالْإِسْرَاعِ فِي تَبْذِيرِ الْمَالِ لِقِلَّةِ الشَّيْءِ عِنْدَهُمْ إِذْ ذَاكَ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ لَمَّا أَضَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَذَبَحَ لَهُ الشَّاةَ، فَلَمَّا قَدَّمَهَا إِلَيْهِ قَالَ لَهُ: كَأَنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ حُبَّنَا لِلَّحْمِ. وَكَانَ ذَلِكَ لِقِلَّةِ الشَّيْءِ عِنْدَهُمْ فَكَانَ حُبُّهُمْ لَهُ لِذَلِكَ اهـ مُلَخَّصًا. وَحَدِيثُ بَرِيرَةَ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مُطَوَّلًا مِنْ طَرِيقِ نُبَيْحٍ الْعَنْزِيِّ عَنْهُ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأُدْمِ: فَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ مَا يُؤْكَلُ بِهِ الْخُبْزُ بِمَا يُطَيِّبُهُ سَوَاءٌ كَانَ مَرَقًا أَمْ لَا، وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ الِاصْطِنَاعَ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فَقَالَ أَهْلُهَا وَلَنَا الْوَلَاءُ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ نَبِيعُهَا وَلَنَا الْوَلَاءُ، وَفِيهِ فَقَالَ لَوْ شِئْتِ شُرُطَتِيهِ بِإِثْبَاتِ التَّحْتَانِيَّةِ وَهِيَ نَاشِئَةٌ عَنْ إِشْبَاعِ حَرَكَةِ الْمُثَنَّاةِ، وَفِيهِ وَأُعْتِقَتْ، فَخُيِّرَتْ بَيْنَ أَنْ تَقَرَّ تَحْتَ زَوْجِهَا أَوْ تُفَارِقَهُ قَالَ ابْنُ التِّينِ: يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ مِنْ وَقَرَ فَتَكُونُ الرَّاءُ مُخَفَّفَةً يَعْنِي وَالْقَافُ مَكْسُورَةً، يُقَالُ وَقَرْتُ أَقَرُ إِذَا جَلَسْتُ مُسْتَقِرًّا وَالْمَحْذُوفُ فَاءُ الْفِعْلِ، قَالَ: وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْقَافُ مَفْتُوحَةً - يَعْنِي مَعَ تَشْدِيدِ الرَّاءِ - مِنْ قَوْلِهِمْ قَرَرْتُ بِالْمَكَانِ أَقَرُّ، يُقَالُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَيَجُوزُ بِكَسْرِهَا مِنْ قُرَيْقِرٍ اهـ مُلَخَّصًا، وَالثَّالِثُ هُوَ الْمَحْفُوظُ فِي الرِّوَايَةِ.
تَنْبِيهٌ:
أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ هُنَا مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ. وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ أَسْنَدَهُ عَنْ عَائِشَةَ وَتَعَقَّبَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي صَحَّحَهُ مُرْسَلٌ. وَهُوَ كَمَا قَالَ مِنْ ظَاهِرِ سِيَاقِهِ، لَكِنَّ الْبُخَارِيَّ اعْتَمَدَ عَلَى إِيرَادِهِ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، ولَكِنَّهُ
جَرَى عَلَى عَادَتِهِ مِنْ تَجَنُّبِ إِيرَادِ الْحَدِيثِ عَلَى هَيْئَتِهِ كُلِّهَا فِي بَابٍ آخَرَ، وَقَدْ بَيَّنْتُ وَصْلَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ لَا يَكُونُ بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقًا مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
32 - بَاب الْحَلْوَى وَالْعَسَلِ
5431 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْحَلْوَى وَالْعَسَلَ.
5432 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَيْبَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي الْفُدَيْكِ، عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أَلْزَمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِشِبَعِ بَطْنِي، حِينَ لَا آكُلُ الْخَمِيرَ، وَلَا أَلْبَسُ الْحَرِيرَ، وَلَا يَخْدُمُنِي فُلَانٌ وَلَا فُلَانَةُ، وَأُلْصِقُ بَطْنِي بِالْحَصْبَاءِ، وَأَسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الْآيَةَ، وَهِيَ مَعِي، كَيْ يَنْقَلِبَ بِي فَيُطْعِمَنِي. وَخَيْرُ النَّاسِ لِلْمَسَاكِينِ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: يَنْقَلِبُ بِنَا فَيُطْعِمُنَا مَا كَانَ فِي بَيْتِهِ، حَتَّى إِنْ كَانَ لَيُخْرِجُ إِلَيْنَا الْعُكَّةَ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، فَنَشْتَقُّهَا، فَنَلْعَقُ مَا فِيهَا.
قَوْلُهُ (بَابُ الْحَلْوَى وَالْعَسَلِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ مَقْصُورٌ، وَلِغَيْرِهِ مَمْدُودٌ وَهُمَا لُغَتَانِ، قَالَ ابْنُ وَلَّادٍ: هِيَ عِنْدَ الْأَصْمَعِيِّ بِالْقَصْرِ تُكْتَبُ بِالْيَاءِ، وَعِنْدَ الْفَرَّاءِ بِالْمَدِّ تُكْتَبُ بِالْأَلِفِ، وَقِيلَ تُمَدُّ وَتُقْصَرُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: الْأَكْثَرُ عَلَى الْمَدِّ، وَهُوَ كُلُّ حُلْوٍ يُؤْكَلُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: اسْمُ الْحَلْوَى لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى مَا دَخَلَتْهُ الصَّنْعَةُ. وَفِي الْمُخَصَّصِ لِابْنِ سِيدَهْ: هِيَ مَا عُولِجَ مِنَ الطَّعَامِ بِحَلَاوَةٍ، وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْفَاكِهَةِ.
قَوْلُهُ (يُحِبُّ الْحَلْوَى وَالْعَسَلَ) كَذَا فِي الرِّوَايَةِ لِلْجَمِيعِ بِالْقَصْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الطَّلَاقِ بِالْوَجْهَيْنِ. وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ التَّخْيِيرِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْحَلْوَى وَالْعَسَلُ مِنْ جُمْلَةِ الطَّيِّبَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُسْتَلَذُّ مِنَ الْمُبَاحَاتِ. وَدَخَلَ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ كُلُّ مَا يُشَابِهُ الْحَلْوَى وَالْعَسَلَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَآكِلِ اللَّذِيذَةِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ التِّينِ: لَمْ يَكُنْ حُبُّهُ صلى الله عليه وسلم لَهَا عَلَى مَعْنَى كَثْرَةِ التَّشَهِّي لَهَا وَشِدَّةِ نِزَاعِ النَّفْسِ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا كَانَ يَنَالُ مِنْهَا إِذَا أُحْضِرَتْ إِلَيْهِ نَيْلًا صَالِحًا فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تُعْجِبُهُ.
وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ اتِّخَاذِ الْأَطْعِمَةِ مِنْ أَنْوَاعٍ شَتَّى، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْوَرَعِ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَلَا يُرَخِّصُ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْحَلَاوَةِ إِلَّا مَا كَانَ حُلْوُهُ بِطَبْعِهِ كَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَوَرَّعَ عَنْ ذَلِكَ مِنَ السَّلَفِ مَنْ آثَرَ تَأْخِيرَ تَنَاوُلِ الطَّيِّبَاتِ إِلَى الْآخِرَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَوَاضُعًا لَا شُحًّا. وَوَقَعَ فِي كِتَابِ فِقْهِ اللُّغَةِ لِلثَّعَالِبِيِّ أَنَّ حَلْوَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الَّتِي كَانَ يُحِبُّهَا هيَ الْمَجِيعُ بِالْجِيمِ وَزْنَ عَظِيمٍ، وَهُوَ ثَمَرٌ يُعْجَنُ بِلَبَنٍ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ لَوْنَيْنِ ذِكْرُ مَنْ رَوَى حَدِيثَ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الزُّبْدَ وَالتَّمْرَ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَلْوَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَشْرَبُ كُلَّ يَوْمٍ قَدَحَ عَسَلٍ يُمْزَجُ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا الْحَلْوَى الْمَصْنُوعَةُ فَمَا كَانَ يَعْرِفُهَا. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْحَلْوَى الْفَالُوذَجُ لَا الْمَعْقُودَةُ عَلَى النَّارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَيْبَةَ) هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شَيْبَةَ الْحِزَامِيُّ بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ الْمَدَنِيُّ نَسَبَهُ إِلَى جَدِّ أَبِيهِ، وَغَلِطَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَلَفْظُ أَبِي
زِيَادَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْغَلَطِ الْمَحْضِ، وَمَا لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى مَوْضِعَيْنِ هَذَا أَحَدُهُمَا. قَوْلُهُ (ابْنُ أَبِي الْفُدَيْكِ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَأَكْثَرُ مَا يَرِدُ بِغَيْرِ أَلْفٍ وَلَامٍ.
قَوْلُهُ (كُنْتُ أَلْزَمُ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَأَوَّلُهُ يَقُولُ النَّاسُ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ (لِشِبَعِ بَطْنِي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِشِبَعِ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ، فَإِنَّ الَّذِي بِالْبَاءِ يُشْعِرُ بِالْمُعَاوَضَةِ لَكِنَّ رِوَايَةَ اللَّامِ لَا تَنْفِيهَا.
قَوْلُهُ (وَلَا أَلْبَسُ الْحَرِيرَ) كَذَا هُنَا لِلْجَمِيعِ. وَتَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ بِلَفْظِ الْحَبِيرِ بِالْمُوَحَّدَةِ بَدَلَ الرَّاءِ الْأُولَى، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِرَاءَيْنِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: هُوَ بِالْمُوَحَّدَةِ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ، وَالْأَصِيلِيِّ، وَعَبْدُوسٍ، وَكَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ وَكَذَا هُوَ لِلنَّسَفِيِّ، وَلِلْبَاقِينَ بِرَاءَيْنِ كَالَّذِي هُنَا، وَرَجَّحَ عِيَاضٌ الرِّوَايَةَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَقَالَ: هُوَ الثَّوْبُ الْمُحَبَّرُ، وَهُوَ الْمُزَيَّنُ الْمُلَوَّنُ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّحْبِيرِ وَهُوَ التَّحْسِينُ، وَقِيلَ الْحَبِيرُ ثَوْبُ وَشْيٍ مُخَطَّطٌ، وَقِيلَ هُوَ الْجَدِيدُ. وَإِنَّمَا كَانَتْ رِوَايَةُ الْحَرِيرِ مَرْجُوحَةً لِأَنَّ السِّيَاقَ يُشْعِرُ بِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يَفْعَلُهُ، وَهُوَ كَانَ لَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ لَا أَوَّلًا وَلَا آخِرًا، بِخِلَافِ أَكْلِهِ الْخَمِيرَ وَلُبْسِهِ الْحَبِيرَ فَإِنَّهُ صَارَ يَفْعَلُهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يَجِدُهُ.
قَوْلُهُ (وَلَا يَخْدِمُنِي فُلَانٌ وَفُلَانَةٌ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ هُوَ الَّذِي كَنَّى وَقَصَدَ الْإِبْهَامَ لِإِرَادَةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمَّى مُعَيَّنًا وَكَنَّى عَنْهُ الرَّاوِي. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَجِيرٌ لِابْنِ عَفَّانَ وَبِنْتِ غَزْوَانَ بِطَعَامِ بَطْنِي وَعُقْبَةِ رِجْلِي أَسُوقُ بِهِمْ إِذَا ارْتَحَلُوا وَأَخْدُمُهُمْ إِذَا نَزَلُوا، فَقَالَتْ لِي يَوْمًا، لَتَرِدَنَّ حَافِيًا وَلَتَرْكَبَنَّ قَائِمًا، فَزَوَّجَنِيهَا اللَّهُ تَعَالَى فَقُلْتُ لَهَا لَتَرِدِنَّ حَافِيَةً وَلَتَرْكَبِنَّ قَائِمَةً وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ فِي آخِرِ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ أَيْضًا وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ سَلِيمِ بْنِ حَيَّانَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: نَشَأْتُ يَتِيمًا، وَهَاجَرْتُ مِسْكِينًا، كُنْتُ أَجِيرًا لِبُسْرَةَ بِنْتِ غَزْوَانَ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ (وَأَسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الْآيَةَ وَهِيَ مَعِي) تَقَدَّمَ شَرْحُ قِصَّتِهِ فِي ذَلِكَ مَعَ عُمَرَ فِي أَوَائِلِ الْأَطْعِمَةِ، وَقِصَّتُهُ فِي ذَلِكَ مَعَ جَعْفَرٍ فِي كِتَابِ الْمَنَاقِبِ.
قَوْلُهُ (وَخَيْرُ النَّاسِ لِلْمَسَاكِينِ جَعْفَرٌ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمَنَاقِبِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَانَ جَعْفَرٌ يُحِبُّ الْمَسَاكِينَ وَيَجْلِسُ إِلَيْهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ وَيُحَدِّثُونَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَنِّيهِ أَبَا الْمَسَاكِينِ قُلْتُ: وَإِبْرَاهِيمُ الْمَخْزُومِيُّ هُوَ ابْنُ الْفَضْلِ وَيُقَالُ ابْنُ إِسْحَاقَ الْمَخْزُومِيُّ مَدَّنِيٌّ ضَعِيفٌ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ هَذَا الْكِتَابِ، وَقَدْ أَوْرَدْتُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي الْمَنَاقِبِ عَنِ التِّرْمِذِيِّ وَهِيَ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ أَيْضًا وَأَشَارَ إِلَى ضَعْفِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُنَاسَبَةُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ الْحَلْوَى تُطْلَقُ عَلَى الشَّيْءِ الْحُلْوِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْعُكَّةُ يَكُونُ فِيهَا غَالِبًا الْعَسَلُ وَرُبَّمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ نَاسَبَ التَّبْوِيبَ. قُلْتُ: إِذَا كَانَ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ الْعَسَلُ طَابَقَ التَّرْجَمَةَ لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ الْحَلْوَى وَالْعَسَلِ مَعًا، فَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ أَحَدُ رُكْنَيِ التَّرْجَمَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَشْتَمِلَ كُلُّ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ عَلَى جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ التَّرْجَمَةُ بَلْ يَكْفِي التَّوْزِيعُ، وَإِطْلَاقُ الْحَلْوَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حُلْوٍ خِلَافُ الْعُرْفِ، وَقَدْ جَزَمَ الْخَطَّابِيُّ بِخِلَافِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.
قَوْلُهُ (فَنَشْتَفهَا) قَيَّدَهُ عِيَاضٌ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ، وَرَجَّحَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ بِالْقَافِ لِأَنَّ مَعْنَى الَّذِي بِالْفَاءِ أَنْ يَشْرَبَ مَا فِي الْإِنَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُمْ لَعِقُوا مَا فِي الْعُكَّةِ بَعْدَ أَنْ قَطَعُوهَا لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ.
33 - بَاب الدُّبَّاءِ
5433 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى مَوْلًى لَهُ خَيَّاطًا، فَأُتِيَ بِدُبَّاءٍ فَجَعَلَ يَأْكُلُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّهُ مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُهُ.
قَوْلُهُ (بَابُ الدُّبَّاءِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْخَيَّاطِ مِنْ طَرِيقِ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ وَضَبْطُهُ، وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَوْضِعِ شَرْحِهِ قَرِيبًا، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ حَكِيمِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ وَعِنْدَهُ هَذَا الدُّبَّاءُ فَقُلْتُ مَا هَذَا؟ قَالَ الْقَرْعُ، وَهُوَ الدُّبَّاءُ، نُكَثِّرُ بِهِ طَعَامَنَا.
34 - بَاب الرَّجُلِ يَتَكَلَّفُ الطَّعَامَ لِإِخْوَانِهِ
5434 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: كَانَ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ، وَكَانَ لَهُ غُلَامٌ لَحَّامٌ، فَقَالَ: اصْنَعْ لِي طَعَامًا أَدْعُو رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَدَعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ دَعَوْتَنَا خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَهَذَا رَجُلٌ قَدْ تَبِعَنَا، فَإِنْ شِئْتَ أَذِنْتَ لَهُ، وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْتَهُ، قَالَ: بَلْ أَذِنْتُ لَهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيْلَ يَقُولُ: إِذَا كَانَ الْقَوْمُ عَلَى الْمَائِدَةِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُتنَاوِلُوا مِنْ مَائِدَةٍ إِلَى مَائِدَةٍ أُخْرَى، وَلَكِنْ يُنَاوِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي تِلْكَ الْمَائِدَةِ أَوْ يَدَعُوا.
قَوْلُهُ (بَابُ الرَّجُلِ يَتَكَلَّفُ الطَّعَامَ لِإِخْوَانِهِ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ وَجْهُ التَّكَلُّفِ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ حَصَرَ الْعَدَدَ بِقَوْلِهِ خَامِسُ خَمْسَةٍ، وَلَوْلَا تَكَلُّفُهُ لَمَا حَصَرَ، وَسَبَقَ إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ ابْنُ التِّينِ وَزَادَ أَنَّ التَّحْدِيدَ يُنَافِي الْبَرَكَةَ، وَلِذَلِكَ لِمَا لَمْ يُحَدِّدْ أَبُو طَلْحَةَ حَصَلَتْ فِي طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ حَتَّى وَسِعَ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ حَدَّثَنَا شَقِيقٌ وَهُوَ أَبُو وَائِلٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ وَسَيَأْتِي بَعْدَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ بَابًا. وَلِلْأَعْمَشِ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ مَقْرُونًا بِرِوَايَةِ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ وَهُوَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ تَصْحِيفٌ.
قَوْلُهُ (كَانَ مِنَ الْأَنْصَارِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ أَنَّ ابْنَ نُمَيْرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْمَحَامِلِيِّ رَوَاهُ عَنِ الْأَعْمَشِ فَقَالَ فِيهِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي شُعَيْبٍ جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ أَبِي شُعَيْبٍ.
قَوْلُهُ (وَكَانَ لَهُ غُلَامٌ لَحَّامٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظِ قَصَّابٌ وَمَضَى تَفْسِيرُهُ.
قَوْلُهُ (فَقَالَ اصْنَعْ لِي طَعَامًا أَدْعُو رَسُولَ اللَّهِ خَامِسَ خَمْسَةٍ) زَادَ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ اجْعَلْ لِي طَعَامًا يَكْفِي خَمْسَةً فَإِنِّي أُرِيدَ أَنْ أَدْعُوَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ عَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْجُوعَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ اجْعَلْ لِي طُعَيِّمًا وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ مُسْلِمٍ اصْنَعْ لَنَا طَعَامًا لِخَمْسَةِ نَفَرٍ.
قَوْلُهُ (فَدَعَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ) فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَصَنَعَ فَدَعَاهُ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَسَاقَ لَفْظَهَا فَدَعَاهُ وَجُلَسَاءَهُ الَّذِينَ مَعَهُ وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَةً وَهُوَ
خَامِسُهُمْ، يُقَالُ خَامِسُ أَرْبَعَةٍ وَخَامِسُ خَمْسَةٍ بِمَعْنَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} وَقَالَ {ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَابِعُ أَرْبَعَةٍ وَمَعْنَى خَامِسِ أَرْبَعَةٍ أَيْ زَائِدٌ عَلَيْهِمْ وَخَامِسُ خَمْسَةٍ أَيْ أَحَدُهُمْ، وَالْأَجْوَدُ نَصْبُ خَامِسٍ عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفٍ أَيْ وَهُوَ خَامِسٌ أَوْ وَأَنَا خَامِسٌ وَالْجُمْلَةُ حِينَئِذٍ حَالِيَّةٌ.
قَوْلُهُ (فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ فِي الْمَظَالِمِ فَاتَّبَعَهُمْ وَهِيَ بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى تَبِعَهُمْ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، وَأَبِي مُعَاوِيَةَ، وَذَكَرَهَا الدَّاوُدِيُّ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ، وَتَكَلَّفَ ابْنُ التِّينِ فِي تَوْجِيهِهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ فَجَاءَ مَعَهُمْ رَجُلٌ.
قَوْلُهُ (وَهَذَا رَجُلٌ تَبِعَنَا) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ، وَجَرِيرٍ اتَّبَعَنَا بِالتَّشْدِيدِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا حِينَ دَعَوْتَنَا.
قَوْلُهُ (فَإِنْ شِئْتَ أَذِنْتَ لَهُ وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْتَهُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ وَإِنْ شِئْتَ أَنْ يَرْجِعَ رَجَعَ وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ وَإِنْ شِئْتَ رَجَعَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَإِنَّهُ اتَّبَعَنَا وَلَمْ يَكُنْ مَعَنَا حِينَ دَعَوْتَنَا فَإِنْ أَذِنْتَ لَهُ دَخَلَ
قَوْلُهُ (بَلْ أَذِنْتُ لَهُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ لَا بَلْ أَذِنْتُ لَهُ وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ لَا بَلْ أَذِنْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَقَدْ أَذِنَّا لَهُ فَلْيَدْخُلْ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الرَّجُلِ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا عَلَى اسْمِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ جَوَازُ الِاكْتِسَابِ بِصَنْعَةِ الْجِزَارَةِ وَاسْتِعْمَالِ الْعَبْدِ فِيمَا يُطِيقُ مِنَ الصَّنَائِعِ وَانْتِفَاعِهِ بِكَسْبِهِ مِنْهَا. وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الضِّيَافَةِ وَتَأَكُّدُ اسْتِحْبَابِهَا لِمَنْ غَلَبَتْ حَاجَتُهُ لِذَلِكَ. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ صَنَعَ طَعَامًا لِغَيْرِهِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُرْسِلَهُ إِلَيْهِ أَوْ يَدْعُوَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَأَنَّ مَنْ دَعَا أَحَدًا اسْتُحِبَّ أَنْ يَدْعُوَ مَعَهُ مَنْ يَرَى مِنْ أَخِصَّائِهِ وَأَهْلِ مُجَالَسَتِهِ.
وَفِيهِ الْحُكْمُ بِالدَّلِيلِ لِقَوْلِهِ إِنِّي عَرَفْتُ فِي;; وَجْهِهِ الْجُوعَ. وَأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُدِيمُونَ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِهِ تَبَرُّكًا بِهِ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُطِيلُ النَّظَرَ فِي وَجْهِهِ حَيَاءً مِنْهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَجُوعُ أَحْيَانًا، وَفِيهِ إِجَابَةُ الْإِمَامِ وَالشَّرِيفِ وَالْكَبِيرِ دَعْوَةَ مَنْ دُونَهُمْ وَأَكْلُهُمْ طَعَامَ ذِي الْحِرْفَةِ غَيْرِ الرَّفِيعَةِ كَالْجَزَّارِ وَأَنَّ تَعَاطِيَ مِثْلِ تِلْكَ الْحِرْفَةِ لَا يَضَعُ قَدْرَ مَنْ يَتَوَقَّى فِيهَا مَا يَكْرَهُ وَلَا تَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ تَعَاطِيهَا شَهَادَتَهُ، وَأنَّ مَنْ صَنَعَ طَعَامًا لِجَمَاعَةٍ فَلْيَكُنْ عَلَى قَدْرِهِمْ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَكْثَرَ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ قَدْرِهِمْ مُسْتَنِدًا إِلَى أَنَّ طَعَامَ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ دَعَا قَوْمًا مُتَّصِفِينَ بِصِفَةٍ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حِينَئِذٍ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الدَّعْوَةِ، وَإِنْ قَالَ قَوْمٌ إِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْهَدِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ جُلَسَاءَ الْمَرْءِ شُرَكَاؤُهُ فِيمَا يُهْدَى إِلَيْهِ، وَأَنَّ مَنْ تَطَفَّلَ فِي الدَّعْوَةِ كَانَ لِصَاحِبِ الدَّعْوَةِ الِاخْتِيَارُ فِي حِرْمَانِهِ فَإِنْ دَخَلَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ لَهُ إِخْرَاجُهُ، وَأَنَّ مَنْ قَصَدَ التَّطْفِيلَ لَمْ يُمْنَعِ ابْتِدَاءً لِأَنَّ الرَّجُلَ تَبِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرُدَّهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَطِيبَ نَفْسُ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ بِالْإِذْنِ لَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلًا فِي جَوَازِ التَّطْفِيلِ لَكِنْ يُقَيَّدُ بِمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَقَدْ جَمَعَ الْخَطِيبُ فِي أَخْبَارِ الطُّفَيْلِيِّينَ جُزْءًا فِيهِ عِدَّةُ فَوَائِدَ: مِنْهَا أَنَّ الطُّفَيْلِيَّ مَنْسُوبٌ إِلَى
رَجُلٍ كَانَ يُقَالُ لَهُ طُفَيْلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَطَفَانَ كَثُرَ مِنْهُ الْإِتْيَانُ إِلَى الْوَلَائِمِ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ فَسُمِّيَ طُفَيْلُ الْعَرَائِسِ فَسُمِّيَ مَنِ اتَّصَفَ بَعْدُ بِصِفَتِهِ طُفَيْلِيًّا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّيهِ الْوَارِشَ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ وَتَقُولُ لِمَنْ يَتْبَعُ الْمَدَّعُوَّ بِغَيْرِ دَعَوْةٍ ضَيْفِينٌ بِنُونٍ زَائِدَةٍ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ مُنَاسَبَةُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى فِي التَّبَعِيَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَابِعٌ لِلضَّيْفِ وَالنُّونُ تَابِعَةٌ لِلْكَلِمَةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَنْعِ اسْتِتْبَاعِ الْمَدْعُوِّ غَيْرَهُ إِلَّا إِذَا عَلِمَ مِنَ الدَّاعِي الرِّضَا بِذَلِكَ، وَأَنَّ الطُّفَيْلِيَّ يَأْكُلُ حَرَامًا، وَلِنَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيِّ فِي ذَلِكَ قِصَّةٌ جَرَتْ لَهُ مَعَ طُفَيْلِيٍّ، وَاحْتَجَّ نَصْرٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ مَنْ دَخَلَ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ دَخَلَ سَارِقًا وَخَرَجَ مُغِيرًا وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ الطُّفَيْلِيُّ بِأَشْيَاءَ يُؤْخَذُ مِنْهَا تَقْيِيدُ الْمَنْعِ بِمَنْ لَا
يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ مِمَّنْ يَتَطَفَّلُ، وَبِمَنْ يَتَكَرَّهُ صَاحِبُ الطَّعَامِ الدُّخُولَ إِلَيْهِ إِمَّا لِقِلَّةِ الشَّيْءِ أَوِ اسْتِثْقَالِ الدَّاخِلِ، وَهُوَ يُوَافِقُ قَوْلَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَجُوزُ التَّطْفِيلُ إِلَّا لِمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الدَّارِ انْبِسَاطٌ.
وَفِيهِ أَنَّ الْمَدْعُوَّ لَا يَمْتَنِعُ مِنَ الْإِجَابَةِ إِذَا امْتَنَعَ الدَّاعِي مِنَ الْإِذْنِ لِبَعْضِ مَنْ صَحِبَهُ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ فَارِسِيًّا كَانَ طَيِّبَ الْمَرَقِ صَنَعَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا ثُمَّ دَعَاهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَهَذِهِ لِعَائِشَةَ؟ قَالَ: لَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا.
فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الدَّعْوَةَ لَمْ تَكُنْ لِوَلِيمَةٍ وَإِنَّمَا صَنَعَ الْفَارِسِيُّ طَعَامًا بِقَدْرِ مَا يَكْفِي الْوَاحِدَ فَخَشِيَ إِنْ أَذِنَ لِعَائِشَةَ أَنْ لَا يَكْفِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ حَاضِرَةً عِنْدَ الدَّعْوَةِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ، وَأَيْضًا فَالْمُسْتَحَبُّ لِلدَّاعِي أَنْ يَدْعُوَ خَوَاصَّ الْمَدْعُوِّ مَعَهُ كَمَا فَعَلَ اللَّحَّامُ بِخِلَافِ الْفَارِسِيِّ فَلِذَلِكَ امْتَنَعَ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَّا أَنْ يَدْعُوَهَا، أَوْ عَلِمَ حَاجَةَ عَائِشَةَ لِذَلِكَ الطَّعَامِ بِعَيْنِهِ، أَوْ أَحَبَّ أَنْ تَأْكُلَ مَعَهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ مَوْصُوفًا بِالْجَوْدَةِ وَلَمْ يُعْلَمْ مِثْلُهُ فِي قِصَّةِ اللَّحَّامِ، وَأَمَّا قِصَّةُ أَبِي طَلْحَةَ حَيْثُ دَعَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْعَصِيدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ فَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ: قُومُوا، فَأَجَابَ عَنْهُ الْمَازِرِيُّ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ رِضَا أَبِي طَلْحَةَ فَلَمْ يَسْتَأْذِنْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ رِضَا أَبِي شُعَيْبٍ فَاسْتَأْذَنَهُ، وَلِأَنَّ الَّذِي أَكَلَهُ الْقَوْمُ عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ كَانَ مِمَّا خَرَقَ اللَّهُ فِيهِ الْعَادَةَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ جُلُّ مَا أَكَلُوهُ مِنَ الْبَرَكَةِ الَّتِي لَا صَنِيعَ لِأَبِي طَلْحَةَ فِيهَا فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى اسْتِئْذَانِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَصَّابِ مِنَ الْمَوَدَّةِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي طَلْحَةَ، أَوْ لِأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ صَنَعَ الطَّعَامَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَصَرَّفَ فِيهِ كَيْفَ أَرَادَ وَأَبُو شُعَيْبٍ صَنَعَهُ لَهُ وَلِنَفْسِهِ وَلِذَلِكَ حَدَّدَ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ لِيَكُونَ مَا يَفْضُلُ عَنْهُمْ لَهُ وَلِعِيَالِهِ مَثَلًا وَاطَّلَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
عَلَى ذَلِكَ فَاسْتَأْذَنَهُ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يُصْلِحُ نَفْسَهُ وَعِيَالَهُ.
وَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنِ اسْتُؤْذِنَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنْ يَأْذَنَ لِلطَّارِئِ كَمَا فَعَلَ أَبُو شُعَيْبٍ وَذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَلَعَلَّهُ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْمَاضِيَ طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ أَوْ رَجَا أَنْ يَعُمَّ الزَّائِدَ بَرَكَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا اسْتَأْذَنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَطْيِيبًا لِنَفْسِهِ، وَلَعَلَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الطَّارِئُ. وَأَمَّا تَوَقُّفُ الْفَارِسِيِّ فِي الْإِذْنِ لِعَائِشَةَ ثَلَاثًا وَامْتِنَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِجَابَتِهِ فَأَجَابَ عِيَاضٌ بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ إِنَّمَا صَنَعَ قَدْرَ مَا يَكْفِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ وَعَلِمَ حَاجَتَهُ لِذَلِكَ فَلَوْ تَبِعَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَسُدَّ حَاجَتَهُ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَدَ عَلَى مَا أَلِفَ مِنْ إِمْدَادِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِالْبَرَكَةِ وَمَا اعْتَادَهُ مِنَ الْإِيثَارِ عَلَى نَفْسِهِ وَمِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مَعَ أَهْلِهِ، وَكَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يُرَاجَعَ بَعْدَ ثَلَاثٍ فَلِذَلِكَ رَجَعَ الْفَارِسِيُّ عَنِ الْمَنْعِ، وَفِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ اتَّبَعَنَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا حِينَ دَعَوْتَنَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُمْ حَالَةَ الدَّعْوَةِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ عَلَيْهِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الدَّاعِيَ لَوْ قَالَ لِرَسُولِهِ ادْعُ فُلَانًا وَجُلَسَاءَهُ جَازَ لِكُلِّ مَنْ كَانَ جَلِيسًا لَهُ أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يُسْتَحَبُّ أَوْ لَا يَجِبُ حَيْثُ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ إِلَّا بِالتَّعْيِينِ.
وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُظْهِرَ الدَّاعِي الْإِجَابَةَ وَفِي نَفْسِهِ الْكَرَاهَةُ لِئَلَّا يُطْعِمَ مَا تَكْرَهُهُ نَفْسُهُ، وَلِئَلَّا يَجْمَعَ الرِّيَاءَ وَالْبُخْلَ وَصِفَةَ ذِي الْوَجْهَيْنِ، كَذَا اسْتَدَلَّ بِهِ عِيَاضٌ، وَتَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ فِيهِ مُطْلَقُ الِاسْتِئْذَانِ وَالْإِذْنِ وَلَمْ يُكَلِّفْهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى رِضَاهُ بِقَلْبِهِ ; قَالَ: وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي يَكْرَهُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ فَيَنْبَغِي لَهُ مُجَاهَدَةُ نَفْسِهِ عَلَى دَفْعِ تِلْكَ الْكَرَاهَةِ.
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ النَّفْسَ تَكُونُ بِذَلِكَ طَيِّبَةً لَا شَكَّ أَنَّهُ أَوْلَى لَكِنْ لَيْسَ فِي سِيَاقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالتَّعَقُّبُ عَلَيْهِ وَاضِحٌ لِأَنَّهُ سَاقَهُ مَسَاقَ مَنْ يَسْتَنْبِطُهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِيهِ، وَفِي قَوْله صلى الله عليه وسلم اتَّبَعَنَا رَجُلٌ فَأَبْهَمَهُ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ أَدَبٌ حَسَنٌ لِئَلَّا يَنْكَسِرَ خَاطِرُ الرَّجُلِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى هَذَا أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَ لَا يَرُدُّهُ وَإِلَّا فَكَانَ يَتَعَيَّنُ فِي ثَانِي الْحَالِ فَيَحْصُلُ كَسْرُ خَاطِرِهِ، وَأَيْضًا فَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ إِنَّ هَذَا اتَّبَعَنَا وَيُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ
بِأَنَّهُ أَبْهَمَهُ لَفْظًا وَعَيَّنَهُ إِشَارَةً، وَفِيهِ نَوْعُ رِفْقٍ بِهِ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ.
تَنْبِيهٌ:
وَقَعَ هُنَا عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ وَهُوَ الْفِرْيَابِيُّ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ هُوَ الْبُخَارِيُّ يَقُولُ: إِذَا كَانَ الْقَوْمُ عَلَى الْمَائِدَةِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُنَاوِلُوا مِنْ مَائِدَةٍ إِلَى مَائِدَةٍ أُخْرَى، وَلَكِنْ يُنَاوِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي تِلْكَ الْمَائِدَةِ أَوْ يَدَعُوا أَيْ يَتْرُكُوا، وَكَأَنَّهُ اسْتَنْبَطَ ذَلِكَ مِنِ اسْتِئْذَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الدَّاعِيَ فِي الرَّجُلِ الطَّارِئِ، وَوَجْهُ أَخْذِهِ مِنْهُ أَنَّ الَّذِينَ دُعُوا صَارَ لَهُمْ بِالدَّعْوَةِ عُمُومُ إِذْنٍ بِالتَّصَرُّفِ فِي الطَّعَامِ الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُدْعَ فَيَتَنَزَّلُ مَنْ وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ الشَّيْءُ مَنْزِلَةَ مَنْ دُعِيَ لَهُ أَوْ يُنَزَّلُ الشَّيْءُ الَّذِي وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْ غَيْرِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يُدْعَ إِلَيْهِ، وَأَغْفَلَ مَنْ وَقَفْتُ عَلَى كَلَامِهِ مِنَ الشُّرَّاحِ التَّنْبِيهَ عَلَى ذَلِكَ
35 - بَاب مَنْ أَضَافَ رَجُلًا إِلَى طَعَامٍ، وَأَقْبَلَ هُوَ عَلَى عَمَلِهِ
5435 -
حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ، سَمِعَ النَّضْرَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى غُلَامٍ لَهُ خَيَّاطٍ، فَأَتَاهُ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ وَعَلَيْهِ دُبَّاءٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ جَعَلْتُ أَجْمَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: فَأَقْبَلَ الْغُلَامُ عَلَى عَمَلِهِ، قَالَ أَنَسٌ: لَا أَزَالُ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ بَعْدَ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ مَا صَنَعَ.
قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ أَضَافَ رَجُلًا وَأَقْبَلَ هُوَ عَلَى عَمَلِهِ) أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَتَحَتَّمُ عَلَى الدَّاعِي أَنْ يَأْكُلَ مَعَ الْمَدْعُوِّ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْخَيَّاطِ، وقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّ قَوْلَهُ وَأَقْبَلَ عَلَى عَمَلِهِ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ، قَالَ: وَإِنَّمَا أَرَادَ الْبُخَارِيُّ إِيرَادَهُ مِنْ رِوَايَةِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ. قُلْتُ: بَلْ لِتَرْجَمَتِهِ فَائِدَةٌ، وَلَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْفَائِدَتَيْنِ الْإِسْنَادِيَّةِ وَالْمَتْنِيَّةِ، وَمَعَ اعْتِرَافِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِغَرَابَةِ الْحَدِيثِ مِنْ حَدِيثِ النَّضْرِ فَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَزْهَرَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ لَهُ مِنْ حَدِيثِ النَّضْرِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا أَعْلَمُ فِي اشْتِرَاطِ أَكْلِ الدَّاعِي مَعَ الضَّيْفِ إِلَّا أَنَّهُ أَبْسَطُ لِوَجْهِهِ، وَأَذْهَبُ لِاحْتِشَامِهِ، فَمَنْ فَعَلَ فَهُوَ أَبْلَغُ فِي قِرَى الضَّيْفِ وَمَنْ تَرَكَ فَجَائِزٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ أَضْيَافِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُمُ امْتَنَعُوا أَنْ يَأْكُلُوا حَتَّى يَأْكُلَ مَعَهُمْ وَأَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ.
36 - بَاب الْمَرَقِ
5436 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَنَّ خَيَّاطًا دَعَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَهُ، فَذَهَبْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَرَّبَ خُبْزَ شَعِيرٍ، وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ، فرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيْ الْقَصْعَةِ، فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ بَعْدَ يَوْمِئِذٍ.
قَوْلُهُ (بَابُ الْمَرَقِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ الْمَذْكُورَ قِيلَ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: فِي قِصَّةِ الْخَيَّاطِ رِوَايَاتٌ فِيمَا أَحْضُرُ، فَفِي بَعْضِهَا قَرَّبَ مَرَقًا وَفِي بَعْضِهَا قَدِيدًا وَفِي أُخْرَى خُبْزَ شَعِيرٍ وَفِي أُخْرَى ثَرِيدًا، قَالَ:
وَالزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ.
قَالَ الدَّاوُدِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَكْتُبُونَ فَرُبَّمَا غَفَلَ الرَّاوِي عِنْدَ مَا يَحْدُثُ عَنْ كَلِمَةٍ، يَعْنِي وَيَحْفَظُهَا غَيْرُهُ مِنَ الثِّقَاتِ فَيَعْتَمِدُ عَلَيْهَا، قُلْتُ: أَتَمُّ الرِّوَايَاتِ مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ مَالِكٍ فَقَرَّبَ خُبْزَ شَعِيرٍ وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ فَلَمْ يَفُتْهَا إِلَّا ذِكْرَ الثَّرِيدِ، وَفِي خُصُوصِ التَّنْصِيصِ عَلَى الْمَرَقِ حَدِيثٌ صَرِيحٌ لَيْسَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَكَذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَفَعَهُ وَفِيهِ وَإِذَا طَبَخْتَ قِدْرًا فَأَكْثِرْ مَرَقَتَهُ، وَاغْرِفْ لِجَارِكَ مِنْهُ وَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ نَحْوُهُ. وَفِي الْبَابِ عَنْ جَابِرٍ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي صِفَةِ الْحَجِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ ثُمَّ أَخَذَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بَضْعَةً وَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ وَطُبِخَتْ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلِيٌّ مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا.
37 - بَاب الْقَدِيدِ
5437 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِمَرَقَةٍ فِيهَا دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ، فَرَأَيْتُهُ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ يَأْكُلُهَا.
قَوْلُهُ (بَابُ الْقَدِيدِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ الْمَذْكُورَ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ.
5438 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا فَعَلَهُ إِلَّا فِي عَامٍ جَاعَ النَّاسُ، أَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ، وَإِنْ كُنَّا لَنَرْفَعُ الْكُرَاعَ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَمَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلَاثًا.
وَحَدِيثَ عَائِشَةَ مَا فَعَلَهُ إِلَّا فِي عَامٍ جَاعَ النَّاسُ أَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ الْحَدِيثَ، قُلْتُ: وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثِهَا الْمَاضِي فِي بَابِ مَا كَانَ السَّلَفُ يَدَّخِرُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا وَأَوَّلُهُ سُؤَالُ التَّابِعِيِّ عَنِ النَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ مِنْ لُحُومِ الْأَضَاحِي فَوْقَ ثَلَاثٍ فَأَجَابَتْ بِذَلِكَ، فَيُعْرَفُ مِنْهُ أَنَّ مَرْجِعَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهَا مَا فَعَلَهُ إِلَى النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ.
38 - بَاب مَنْ نَاوَلَ، أَوْ قَدَّمَ إِلَى صَاحِبِهِ، عَلَى الْمَائِدَةِ شَيْئًا
قَالَ: وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَا بَأْسَ أَنْ يُنَاوِلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يُنَاوِلُ مِنْ هَذِهِ الْمَائِدَةِ إِلَى مَائِدَةٍ أُخْرَى
5439 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَهُ، قَالَ أَنَسٌ: فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَقَرَّبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُبْزًا مِنْ شَعِيرٍ، وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ، قَالَ أَنَسٌ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوْلِ القصعة، فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ. وَقَالَ ثُمَامَةُ عَنْ أَنَسٍ: فَجَعَلْتُ أَجْمَعُ الدُّبَّاءَ بَيْنَ يَدَيْهِ.
قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ نَاوَلَ أَوْ قَدَّمَ إِلَى صَاحِبِهِ عَلَى الْمَائِدَةِ شَيْئًا. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَا بَأْسَ أَنْ يُنَاوِلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يُنَاوِلُ مِنْ هَذِهِ الْمَائِدَةِ إِلَى مَائِدَةٍ أُخْرَى) تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى قَرِيبًا وَالْأَثَرُ فِيهِ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ مَوْصُولٌ عَنْهُ فِي كِتَابِ
الْبِرِّ وَالصِّلَةِ لَهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْخَيَّاطِ وَفِيهِ وَقَالَ ثُمَامَةُ، عَنْ أَنَسٍ: فَجَعَلْتُ أَجْمَعُ الدُّبَّاءَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَصَلَهُ قَبْلَ بَابَيْنِ مِنْ طَرِيقِ ثُمَامَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَنْ تَتَبَّعَ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ فَجَعَلْتُ أَجْمَعُهُ فَأُدْنِيهِ مِنْهُ وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلتَّرْجَمَةِ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُنَاوِلَهُ مِنْ إِنَاءٍ أَوْ يَضُمَّ ذَلِكَ إِلَيْهِ فِي نَفْسِ الْإِنَاءِ الَّذِي يَأْكُلُ مِنْهُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا جَازَ أَنْ يُنَاوِلَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا فِي مَائِدَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ ذَلِكَ الطَّعَامَ قُدِّمَ لَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ، فَلَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوهُ كُلَّهُ وَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْأَمْرُ بِأَكْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا يَلِيهِ فَمَنْ نَاوَلَ صَاحِبَهُ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ فَكَأَنَّهُ آثَرَهُ بِنَصِيبِهِ مَعَ مَا لَهُ فِيهِ مَعَهُ مِنَ الْمُشَارَكَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ كَانَ عَلَى مَائِدَةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لِلْمُنَاوِلِ حَقٌّ فِيمَا بَيْنَ يَدَيْهِ لَكِنْ لَا حَقَّ لِلْآخَرِ فِي تَنَاوُلِهِ مِنْهُ إِذْ لَا شَرِكَةَ لَهُ فِيهِ، وَقَدْ أَشَارَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى أَنَّ قِصَّةَ الْخَيَّاطِ لَا حُجَّةَ فِيهَا لِجَوَازِ الْمُنَاوَلَةِ لِأَنَّهُ طَعَامٌ اتُّخِذَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقُصِدَ بِهِ، وَالَّذِي جَمَعَ لَهُ الدُّبَّاءَ بَيْنَ يَدَيْهِ خَادِمُهُ، يَعْنِي فَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ لِجَوَازِ مُنَاوَلَةِ الضِّيفَانِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا مُطْلَقًا.
39 - بَاب الْقِثَّاءِ بالرطب
5440 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ.
قَوْلُهُ (بَابُ الْقِثَّاءِ بِالرُّطَبِ) أَيْ أَكْلِهِمَا مَعًا، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ بَعْدَ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ الْجَمْعُ بَيْنَ اللَّوْنَيْنِ.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ.
قَوْلُهُ (رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فِي الْحَدِيثِ أَكْلُ الرُّطَبِ بِالْقِثَّاءِ وَالتَّرْجَمَةُ بِالْعَكْسِ، وَأَجَابَ بِأَنَّ الْبَاءَ لِلْمُصَاحَبَةِ أَوْ لِلْمُلَاصَقَةِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُصَاحِبٌ لِلْآخَرِ أَوْ مُلَاصِقٌ. قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَتِ التَّرْجَمَةُ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ عَلَى وَفْقِ لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ جَمِيعًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ بِسَنَدِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ يَأْكُلُ الْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ كَلَفْظِ التَّرْجَمَةِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْحَدِيثِ فِي بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ اللَّوْنَيْنِ.
40 - باب
5441 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبَّاسٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: تَضَيَّفْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ سَبْعًا، فَكَانَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَخَادِمُهُ يَعْتَقِبُونَ اللَّيْلَ أَثْلَاثًا: يُصَلِّي هَذَا، ثُمَّ يُوقِظُ هَذَا. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَصْحَابهِ تَمْرًا، فَأَصَابَنِي سَبْعُ تَمَرَاتٍ إِحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ.
5441 م- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَنَا تَمْرًا، فَأَصَابَنِي مِنْهُ خَمْسٌ: أَرْبَعُ تَمَرَاتٍ وَحَشَفَةٌ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْحَشَفَةَ هِيَ أَشَدُّهُنَّ لِضِرْسِي.
قَوْلُهُ (بَابٌ) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ الْجَمِيعِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَسَقَطَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَاعْتَرَضَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ لِلرُّطَبِ وِالْقِثَّاءِ
ذِكْرٌ، وَالَّذِي أَظُنُّهُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُتَرْجِمَ بِهِ لِلتَّمْرِ وَحْدَهُ أَوْ لِنَوْعٍ مِنْهُ وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَمْرًا فَأَصَابَنِي سَبْعُ تَمَرَاتٍ إِحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَبَّاسٍ الْجَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلُ بِثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ بِلَفْظِ فَأَصَابَنِي خَمْسُ تَمَرَاتٍ أَرْبَعٌ تَمْرٌ وَحَشَفَةٌ قَالَ ابْنُ التِّينِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهْمًا أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ مَرَّتَيْنِ.
قُلْتُ: الثَّانِي بَعِيدٌ لِاتَّحَادِ الْمَخْرَجِ، وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بَأَنْ لَا مُنَافَاةَ إِذِ التَّخْصِيصُ بِالْعَدَدِ لَا يَنْفِي الزَّائِدَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْقِسْمَةَ أَوَّلًا اتَّفَقَتْ خَمْسًا خَمْسًا ثُمَّ فَضَلَتْ فَضْلَةٌ فَقُسِمَتْ ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ فَذَكَرَ أَحَدُ الرَّاوِيَتَيْنِ مُبْتَدَأَ الْأَمْرِ وَالْآخَرُ مُنْتَهَاهُ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ اخْتِلَافٌ أَشَدُّ مِنْ هَذَا فَإِنَّ التِّرْمِذِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طِرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَبَّاسٍ الْجَرِيرِيِّ بِلَفْظِ أَصَابَهُمْ جُوعٌ فَأَعْطَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَمْرَةً تَمْرَةً وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ قَسَمَ سَبَعَ تَمَرَاتٍ بَيْنَ سَبْعَةٍ أَنَا فِيهِمْ وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ أَصَابَهُمْ جُوعٌ وَهُمْ سَبْعَةٌ فَأَعْطَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ تَمَرَاتٍ لِكُلِّ إِنْسَانٍ تَمْرَةٌ وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى وَمُخَالِفَةٌ لِرِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَأَنَّهَا رَجَحَتْ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَلَى رِوَايَةِ شُعْبَةَ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا وَأَيَّدَهَا بِرِوَايَةِ عَاصِمٍ لَأَنَّهَا تُوَافِقُهَا مِنْ حَيْثَيَّةِ الزَّيَادَةِ عَلَى الْوَاحِدَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى (تَضَيَّفْتُ) بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ وَفَاءٍ أَيْ نَزَلْتُ بِهِ ضَيْفًا، وَقَوْلُهُ (سَبْعًا) أَيْ سَبْعَ لَيَالٍ.
قَوْلُهُ (فَكَانَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ) تَقَدَّمَ أَنَّهَا بُسْرَةُ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بِنْتُ غَزْوَانَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ، وَهِيَ صَحَابِيَّةٌ أُخْتُ عُتْبَةَ الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ أَمِيرِ الْبَصْرَةِ.
قَوْلُهُ (وَخَادِمُهُ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِه.
قَوْلُهُ (يَعْتَقِبُونَ) بِالْقَافِ أَيْ يَتَنَاوَلُونَ قِيَامَ اللَّيْلِ وَقَوْلُهُ (أَثْلَاثًا) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُومُ ثُلُثَ اللَّيْلِ، فَمَنْ بَدَأَ إِذَا فَرَغَ مِنْ ثُلُثِهِ أَيْقَظَ الْآخَرَ.
قَوْلُهُ (وَسَمِعَتْهُ يَقُولُ) الْقَائِلُ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ وَالْمَسْمُوعُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ ثُمَّ يُوقِظُ هَذَا قُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كَيْفَ تَصُومُ؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ثَلَاثًا، فَإِنْ حَدَثَ لِي حَدَثٌ كَانَ لِي أَجْرُ شَهْرٍ قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ قَسَمَ وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ حَذَفَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لِكَوْنِهَا مَوْقُوفَةً. وَقَدْ أَخْرَجَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي الصَّلَاةِ التَّحْرِيضَ عَلَى صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ فِي الصِّيَامِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، وَهُوَ السَّبَبُ فِي سُؤَالِ أَبِي عُثْمَانَ، أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ كَيْفِيَّةِ صَوْمِهِ - يَعْنِي مِنْ أَيِّ الشَّهْرِ تَصُومُ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ - وَقَدْ سَبَقَ بَيَانٌ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ.
قَوْلُهُ (إِحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ) زَادَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِنَّ تَمْرَةٌ أَعْجَبُ إِلَيَّ مِنْهَا الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ.
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ (أَرْبَعٌ تَمْرٌ) بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ فِيهِمَا وَهُوَ وَاضِحٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَرْبَعٌ تَمْرَةٌ بِزِيَادَةِ هَاءٍ فِي آخِرِهِ أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأَرْبَعِ تَمْرَةٌ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فَإِنْ وَقَعَ بِالْإِضَافَةِ وَالْجَرِّ فَشَاذٌّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا جَاءَ فِي مِثْلِ ثَلَاثِمِائَةٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
قَوْلُهُ (وَحَشَفَةٌ) بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ فَاءٌ: أَيْ رَدِيئَةٌ، وَالْحَشَفُ رَدِيءُ التَّمْرِ، وَذَلِكَ أَنْ تَيْبَسَ الرُّطَبَةُ فِي النَّخْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ طِيبُهَا، وَقِيلَ لَهَا حَشَفَةٌ لِيُبْسِهَا، وَقِيلَ مُرَادُهُ صَلْبَةٌ، قَالَ عِيَاضٌ: فَعَلَى هَذَا فَهُوَ بِسُكُونِ الشِّينِ، قُلْتُ: بَلِ الثَّابِتُ فِي الرِّوَايَاتِ بِالتَّحْرِيكِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِهَا رَدِيئَةً وَصَلْبَةً.
تَنْبِيهٌ:
أَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ طَرِيقَ عَاصِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي يَعْلَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَكَّارٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زَكَرِيَّا بِسَنَدِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ وَزَادَ فِي آخِرِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ أَبْخَلَ النَّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلَامِ، وَأَعْجَزَ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ الدُّعَاءِ وَهَذَا مَوْقُوفٌ صَحِيحٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ حَذَفَهُ لِكَوْنِهِ مَوْقُوفًا وَلِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِالْبَابِ، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
41 - بَاب الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}
5442 -
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ، حَدَّثَتْنِي أُمِّي، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ شَبِعْنَا مِنْ الْأَسْوَدَيْنِ: التَّمْرِ وَالْمَاءِ.
5443 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن أَبِي رَبِيعَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ يَهُودِيٌّ وَكَانَ يُسْلِفُنِي فِي تَمْرِي إِلَى الْجِدَادِ وَكَانَتْ لِجَابِرٍ الأَرْضُ الَّتِي بِطَرِيقِ رُومَةَ فَجَلَسَتْ فَخَلَا عَامًا فَجَاءَنِي الْيَهُودِيُّ عِنْدَ الْجَدَادِ وَلَمْ أَجُدَّ مِنْهَا شَيْئًا فَجَعَلْتُ أَسْتَنْظِرُهُ إِلَى قَابِلٍ فَيَأْبَى فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ امْشُوا نَسْتَنْظِرْ لِجَابِرٍ مِنْ الْيَهُودِيِّ فَجَاءُونِي فِي نَخْلِي فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكَلِّمُ الْيَهُودِيَّ فَيَقُولُ أَبَا الْقَاسِمِ لَا أُنْظِرُهُ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَامَ فَطَافَ فِي النَّخْلِ ثُمَّ جَاءَهُ فَكَلَّمَهُ فَأَبَى فَقُمْتُ فَجِئْتُ بِقَلِيلِ رُطَبٍ فَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَ ثُمَّ قَالَ أَيْنَ عَرِيشُكَ يَا جَابِرُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ افْرُشْ لِي فِيهِ فَفَرَشْتُهُ فَدَخَلَ فَرَقَدَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَجِئْتُهُ بِقَبْضَةٍ أُخْرَى فَأَكَلَ مِنْهَا ثُمَّ قَامَ فَكَلَّمَ الْيَهُودِيَّ فَأَبَى عَلَيْهِ فَقَامَ فِي الرِّطَابِ فِي النَّخْلِ الثَّانِيَةَ ثُمَّ قَالَ يَا جَابِرُ جُدَّ وَاقْضِ فَوَقَفَ فِي الْجَدَادِ فَجَدَدْتُ مِنْهَا مَا قَضَيْتُهُ وَفَضَلَ مِنْهُ فَخَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَبَشَّرْتُهُ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ عُرُوشٌ وَعَرِيشٌ بِنَاءٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْرُوشَاتٍ مَا يُعَرَّشُ مِنْ الْكُرُومِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يُقَالُ عُرُوشُهَا أَبْنِيَتُهَا. قال محمد بن يوسف قال أبو جعفر قال محمد بن إسماعيل فحلا ليس عندي مقيدا ثم قال فخلا ليس فيه شك"
قَوْلُهُ (بَابُ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ) كَذَا لِلْجَمِيعِ فِيمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، إِلَّا ابْنَ بَطَّالٍ فَفِيهِ بَابُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ وَقَعَ فِيهِ بِمُوَحَّدَةٍ بَدَلَ الْوَاوِ، وَوَقَعَ لِعِيَاضٍ فِي بَابِ ح ل أَنَّ فِي الْبُخَارِيِّ بَابَ أَكْلِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ وَلَيْسَ فِي حَدِيثَيِ الْبَابِ مَا يَدُلُّ لِذَلِكَ أَصْلًا.
قَوْلُهُ (وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} الْآيَةَ) وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ شَيْئًا لِلنُّفَسَاءِ خَيْرٌ مِنَ الرُّطَبِ لَأَمَرَ مَرْيَمَ بِهِ وَمِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ لَيْسَ لِلنُّفَسَاءِ خَيْرٌ مِنَ الرُّطَبِ أَوِ التَّمْرِ وَمِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ خَثِيمٍ قَالَ لَيْسَ لِلنُّفَسَاءِ مِثْلُ الرُّطَبِ، وَلَا لِلْمَرِيضِ مِثْلُ الْعَسَلِ أَسَانِيدُهَا صَحِيحَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَفَعَهُ قَالَ أَطْعِمُوا نُفَسَاءَكُمُ الْوَلَدَ الرُّطَبَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُطَبٌ فَتَمْرٌ وَلَيْسَ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ شَجَرَةٍ نَزَلَتْ تَحْتَهَا مَرْيَمُ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. وَقَدْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ تَسَّاقَطُ بِتَشْدِيدِ السِّينِ وَأَصْلُهُ تَتَسَاقَطُ، وَقِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو التَّخْفِيفُ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَفِيهَا قِرَاءَاتٌ أُخْرَى فِي الشَّوَاذِّ. ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) هُوَ الْفِرْيَابِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ
وَشَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ الْأَطْعِمَةِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ مَنْصُورٍ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ ثُمَّ الشَّيْبِيُّ الْحَجَبِيُّ وَأُمُّهُ هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَمِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَهْدِيٍّ كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بِلَفْظِ وَمَا شَبِعْنَا وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَنْصُورٍ بِلَفْظِ حِينَ شَبِعَ النَّاسُ وَإِطْلَاقُ الْأَسْوَدِ عَلَى الْمَاءِ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ، وَكَذَا إِطْلَاقُ الشِّبَعِ مَوْضِعَ الرِّيِّ، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الشَّيْئَيْنِ يَصْطَحِبَانِ فَتُسَمِّيهِمَا مَعًا بِاسْمِ الْأَشْهَرِ مِنْهُمَا، وَأَمَّا التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّمْرِ مَعَ أَنَّ الْمَاءَ كَانَ عِنْدَهُمْ مُتَيَسِّرًا لِأَنَّ الرِّيَّ مَعَهُ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الشِّبَعِ مِنَ الطَّعَامِ لِمَضَرَّةِ شُرْبِ الْمَاءِ صِرْفًا بِغَيْرِ أَكْلٍ، لَكِنَّهَا قَرَنَتْ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ التَّمَتُّعِ بِأَحَدِهِمَا إِذَا فَاتَ ذَلِكَ مِنَ الْآخَرِ، ثُمَّ عَبَّرَتْ عَنِ الْأَمْرَيْنِ الشِّبَعِ وَالرِّيِّ بِفِعْلِ أَحَدِهَا كَمَا عَبَّرَتْ عَنِ التَّمْرِ وَالْمَاءِ بِوَصْفِ أَحَدِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي بَابِ مَنْ أَكَلَ حَتَّى شَبِعَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: فَخلَّا لَيْسَ عِنْدِي مُقَيَّدًا، ثُمَّ قَالَ: فجلى لَيْسَ فِيهِ شَكٌّ.
الثَّانِي حَدِيثُ جَابِرٍ.
قَوْلُهُ (أَبُو غَسَّانَ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ، وَأَبُو حَازِمٍ هُوَ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ (عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ) هُوَ الْمَخْزُومِيُّ، وَاسْمُ أَبِي رَبِيعَةَ عَمْرٌو وَيُقَالُ حُذَيْفَةُ وَكَانَ يُلَقَّبُ ذَا الرُّمْحَيْنِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ وَوَلِيَ الْجُنْدَ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ لِعُمَرَ فَلَمْ يَزَلْ بِهَا إِلَى أَنْ جَاءَ سَنَةَ حَصْرِ عُثْمَانَ لِيَنْصُرَهُ فَسَقَطَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَمَاتَ، وَلِإِبْرَاهِيمَ عَنْهُ رِوَايَةٌ فِي النَّسَائِيِّ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ إِنَّهَا مُرْسَلَةٌ، وَلَيْسَ لِإِبْرَاهِيمَ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَأُمُّهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَلَهُ رِوَايَةٌ عَنْ أُمِّهِ وَخَالَتِهِ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ (كَانَ بِالْمَدِينَةِ يَهُودِيٌّ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.
قَوْلُهُ (وَكَانَ يُسَلِّفُنِي فِي تَمْرِي إِلَى الْجِذَاذِ) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَالذَّالُ مُعْجَمَةٌ وَيَجُوزُ إِهْمَالُهَا، أَيْ زَمَنَ قَطْعِ ثَمَرِ النَّخْلِ وَهُوَ الصِّرَامُ، قَدِ اسْتَشْكَلَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ ذَلِكَ وَأَشَارَ إِلَى شُذُوذِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَقَالَ: هَذِهِ الْقِصَّةُ - يَعْنِي دُعَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّخْلِ بِالْبَرَكَةِ - رَوَاهَا الثِّقَاتُ الْمَعْرُوفُونَ فِيمَا كَانَ عَلَى وَالِدِ جَابِرٍ مِنَ الدَّيْنِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ التِّينِ: الَّذِي فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الدَّيْنَ كَانَ عَلَى وَالِدِ جَابِرٍ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَالسَّلَفُ إِلَى الْجَذَاذِ مِمَّا لَا يُجِيزُهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ نَظَرٌ. قُلْتُ: لَيْسَ فِي الْإِسْنَادِ مَنْ يُنْظَرُ فِي حَالِهِ سِوَى إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِينَ، وَرَوَى عَنْهُ أَيْضًا وَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَأَمَّا ابْنُ الْقَطَّانِ فَقَالَ: لَا يَعْرِفُ حَالَهُ. وَأَمَّا السَّلَفُ إِلَى الْجِذَاذِ فَيُعَارِضُهُ الْأَمْرُ بِالسَّلَمِ إِلَى أَجْلٍ مَعْلُومٍ فَيَحْمِلُ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْجِذَاذِ اخْتِصَارٌ وَأَنَّ الْوَقْتَ كَانَ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ مُعَيَّنًا، وَأَمَّا الشُّذُوذُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فَيَنْدَفِعُ بِالتَّعَدُّدِ، فَإِنَّ فِي السِّيَاقِ اخْتِلَافًا ظَاهِرًا، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَرَّكَ فِي النَّخْلِ الْمُخَلَّفِ عَنْ وَالِدِ جَابِرٍ حَتَّى وَفَى مَا كَانَ عَلَى أَبِيهِ مِنَ التَّمْرِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ طُرُقِهِ وَاخْتِلَافُ أَلْفَاظِهِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ بَرَّكَ أَيْضًا فِي النَّخْلِ الْمُخْتَصِّ بِجَابِرٍ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ مِنَ الدَّيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (وَكَانَتْ لِجَابِرٍ الْأَرْضُ الَّتِي بِطَرِيقِ رُومَةَ) فِيهِ الْتِفَاتٌ، أَوْ هُوَ مَدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، لَكِنْ يَرُدُّهُ وَيُعَضِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الرَّمَادِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ وَكَانَتْ لِيَ الْأَرْضُ الَّتِي بِطَرِيقِ رُومَةَ وَرُومَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ هِيَ الْبِئْرُ الَّتِي اشْتَرَاهَا عُثْمَانُ رضي الله عنه وَسَبَّلَهَا وَهِيَ فِي نَفْسِ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ رُومَةَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ كَانَتْ لَهُ الْبِئْرُ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا عُثْمَانُ نُسِبَتْ إِلَيْهِ، وَنَقَلَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ دُومَةَ بِدَالٍ بَدَلَ الرَّاءِ قَالَ وَلَعَلَّهَا دُومَةُ الْجَنْدَلِ. قُلْتُ: وَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّ دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ لَمْ تَكُنْ إِذْ ذَاكَ فُتِحَتْ حَتَّى يُمْكِنَ أَنْ يَكُونَ لِجَابِرٍ فِيهَا أَرْضٌ، وَأَيْضًا فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَشَى إِلَى أَرْضِ جَابِرٍ وَأَطْعَمَهُ
مِنْ رُطَبِهَا وَنَامَ فِيهَا وَقَامَ فَبَرَّكَ فِيهَا حَتَّى أَوْفَاهُ، فَلَوْ كَانَتْ بِطَرِيقِ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ لَاحْتَاجَ إِلَى السَّفَرِ، لِأَنَّ بَيْنَ دُومَةَ الْجَنْدَلِ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ عَشْرَ مَرَاحِلَ كَمَا بَيَّنَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ، وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ إِلَى أَنَّ دُومَةَ هَذِهِ هِيَ بِئْرُ رُومَةَ الَّتِي اشْتَرَاهَا عُثْمَانُ وَسَبَّلَهَا وَهِيَ دَاخِلَ الْمَدِينَةِ فَكَأَنَّ أَرْضَ جَابِرٍ كَانَتْ بَيْنَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَرُومَةَ.
قَوْلُهُ (فَجَلَسَتْ فَخَلَّا عَامًا) قَالَ عِيَاضٌ: كَذَا لِلْقَابِسِيِّ، وَأَبِي ذَرٍّ وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ بِالْجِيمِ وَاللَّامِ، قَالَ: وَكَانَ أَبُو مَرْوَانَ بْنُ سِرَاجٍ يُصَوِّبُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ إِلَّا أَنَّهُ يَضْبِطُهَا فَجَلَسْتُ أَيْ بِسُكُونِ السِّينِ وَضَمِّ التَّاءِ عَلَى أَنَّهَا مُخَاطَبَةُ جَابِرٍ وَتَفْسِيرُهُ. أَيْ تَأَخَّرْتُ عَنِ الْقَضَاءِ، فَخَلَّا بِفَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَلَامٍ مُشَدَّدَةٍ مِنَ التَّخْلِيَةِ أَوْ مُخَفَّفَةٍ مِنَ الْخُلُوِّ أَيْ تَأَخُّرَ السَّلَفُ عَامًا، قَالَ عِيَاضٌ: لَكِنْ ذِكْرُ الْأَرْضِ أَوَّلَ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ عَنِ الْأَرْضِ لَا عَنْ نَفْسِهِ. انْتَهَى، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ ضَبْطَ الرِّوَايَةِ عِنْدَ عِيَاضٍ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّاءِ وَالضَّمِيرُ لِلْأَرْضِ، وَبَعْدَهُ نَخْلًا بِنُونٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ أَيْ تَأَخَّرَتِ الْأَرْضُ عَنِ الْإِثْمَارِ مِنْ جِهَةِ النَّخْلِ، قَالَ: وَوَقَعَ لِلْأَصِيلِيِّ فَحَبَسَتْ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، وَعِنْدَ أَبِي الْهَيْثَمِ فَخَاسَتْ بَعْدَ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَلْفٌ أَيْ خَالَفَتْ مَعْهُودَهَا وَحَمْلَهَا، يُقَالُ خَاسَ عَهْدَهُ إِذَا خَانَهُ أَوْ تَغَيَّرَ عَنْ عَادَتِهِ وَخَاسَ الشَّيْءُ إِذَا تَغَيَّرَ قَالَ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَثْبَتُهَا.
قُلْتُ: وَحَكَى غَيْرُهُ خَنَسَتْ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ نُونٍ أَيْ تَأَخَّرَتْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، فَمَا أَدْرِي بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ أَوْ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ نُونٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَخَنَسَتْ عَلَيَّ عَامًا وَأَظُنُّهَا بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ ثَقِيلَةٍ وَبَعْدَهَا عَلَيَّ بِفَتْحَتَيْنِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ، فَكَأَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي الْأَصْلِ بِصُورَةِ نَخْلًا وَكَذَا فَخَلَّا تَصْحِيفٌ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَهِيَ عَلَى كَتْبِ الْيَاءِ بِأَلِفٍ ثُمَّ حَرَّفَ الْعَيْنَ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ هُوَ الْفَرَبْرِيُّ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرَّاقُ الْبُخَارِيِّ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ هُوَ الْبُخَارِيُّ: فَحَلَّا لَيْسَ عِنْدِي مُقَيَّدًا أَيْ مَضْبُوطًا، ثُمَّ قَالَ فَخَلَّا لَيْسَ فِيهِ شَكٌّ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ، لَكِنِّي وَجَدْتُهُ فِي النُّسْخَةِ بِجِيمٍ وَبِالْخاءِ الْمُعْجَمَةِ أَظْهَرُ.
قَوْلُهُ (وَلَمْ أَجِدَّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ.
قَوْلُهُ (أَسْتَنْظِرُهُ) أَيْ أَسْتَمْهِلُهُ إِلَى قَابِلٍ) أَيْ إِلَى عَامٍ ثَانٍ.
قَوْلُهُ (فَأُخْبِرَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِضَمِّ الرَّاءِ عَلَى صِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ وَالْفَاعِلُ جَابِرٌ، وَذَكَرَهُ كَذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي اسْتِحْضَارِ صُورَةِ الْحَالِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ فَأَخْبَرْتُ.
قَوْلُهُ (فَيَقُولُ أَبَا الْقَاسِمِ لَا أُنْظِرُهُ) كَذَا فِيهِ بِحَذْفِ أَدَاةِ النِّدَاءِ.
قَوْلُهُ (أَيْنَ عَرِيشُكَ) أَيِ الْمَكَانُ الَّذِي اتَّخَذْتَهُ فِي الْبُسْتَانِ لِتَسْتَظِلَّ بِهِ وَتَقِيلَ فِيهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ (فَجِئْتُهُ بِقَبْضَةٍ أُخْرَى) أَيْ مِنْ رُطَبٍ.
قَوْلُهُ (فَقَامَ فِي الرِّطَابِ فِي النَّخْلِ الثَّانِيَةِ) أَيِ الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فَقَامَ فَطَافَ بَدَلَ قَوْلِهِ فِي الرِّطَابِ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ قَالَ يَا جَابِرُ جُذَّ) فِعْلُ أَمْرٍ بِالْجِذَاذِ (وَاقْضِ) أَيْ أَوْفِ.
قَوْلُهُ (فَقَالَ أَشْهَدُ أَنِّي رَسُولَ اللَّهِ) قَالَ ذَلِكَ صلى الله عليه وسلم لِمَا فِيهِ مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ الظَّاهِرَ مِنْ إِيفَاءِ الْكَثِيرِ مِنَ الْقَلِيلِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يُظَنُّ أَنَّهُ يُوَفِّي مِنْهُ الْبَعْضُ فَضْلًا عَنِ الْكُلِّ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَفْضُلَ فَضْلَةٌ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَفْضُلَ قَدْرُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ.
قَوْلُهُ (عَرْشٌ وَعَرِيشٌ بِنَاءٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْرُوشَاتٌ مَا يُعَرَّشُ مِنَ الْكَرْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، يُقَالُ عُرُوشُهَا أَبْنِيَتُهَا) ثَبَتَ هَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالنَّقْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَفِيهِ النَّقْلُ عَنْ غَيْرِهِ بِأَنَّ الْمَعْرُوشَ مِنَ الْكَرْمِ مَا يَقُومُ عَلَى سَاقٍ، وَغَيْرَ الْمَعْرُوشِ مَا يُبْسَطُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَقَوْلُهُ عَرْشٌ وَعَرِيشٌ بِنَاءٌ هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ الْأَعْرَافِ،
وَقَوْلُهُ عُرُوشُهَا أَبْنِيَتُهَا هُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ {خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَالْمُرَادُ هُنَا تَفْسِيرُ عَرْشِ جَابِرٍ الَّذِي رَقَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ، فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَسْتَظِلُّ بِهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ السَّرِيرُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَخْلُونَ مِنْ دَيْنٍ لِقِلَّةِ الشَّيْءِ إِذْ ذَاكَ عِنْدَهُمْ، وَأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ مِنَ الدَّيْنِ أُرِيدَ بِهَا الْكَثِيرُ مِنْهُ أَوْ مَا لَا يَجِدُ لَهُ وَفَاءً، وَمِنْ ثَمَّ مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عَلَى شَعِيرٍ أَخَذَهُ لِأَهْلِهِ. وَفِيهِ زِيَارَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ وَدُخُولُ الْبَسَاتِينِ وَالْقَيْلُولَةُ فِيهَا وَالِاسْتِظْلَالُ بِظِلَالِهَا، وَالشَّفَاعَةُ فِي إِنْظَارِ الْوَاجِدِ غَيْرَ الْعَيْنِ الَّتِي اسْتُحِقَّتْ عَلَيْهِ لِيَكُونَ أَرْفَقَ بِهِ.
42 - بَاب أَكْلِ الْجُمَّارِ
5444 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جُلُوسٌ؛ إِذَا أُتِيَ بِجُمَّارِ نَخْلَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِي النَّخْلَةَ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ الْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشَرَةٍ أَنَا أَحْدَثُهُمْ، فَسَكَتُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هِيَ النَّخْلَةُ.
قَوْلُهُ (بَابُ أَكْلِ الْجُمَّارِ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّخْلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مُسْتَوْفًى، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى خُصُوصِ التَّرْجَمَةِ بِأَكْلِ الْجُمَّارِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.
43 - بَاب الْعَجْوَةِ
5445 -
حَدَّثَنَا جُمْعَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، أَخْبَرَنَا هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ، أَخْبَرَنَا عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ.
[الحديث 5445 - أطرافه في 5768، 5769، 5779]
قَوْلُهُ (بَابُ الْعَجْوَةِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ نَوْعٌ مِنَ التَّمْرِ مَعْرُوفٌ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا جُمْعَةُ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ (ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنُ زِيَادِ بْنِ شَدَّادٍ السُّلَمِيُّ أَبُو بَكْرٍ الْبَلْخِيُّ، يُقَالُ إِنَّ اسْمَهُ يَحْيَى وَجُمْعَةُ لَقَبُهُ. وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا أَبُو خَاقَانَ، كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الرَّأْيِ أَوَّلًا ثُمَّ صَارَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَمَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ بَلْ وَلَا فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ حَدِيثِ الْعَجْوَةِ فِي كِتَابِ الطِّبِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ هُنَا مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ بِزِيَادَةِ الْبَاءِ فِي أَوَّلِهِ فَقَالَ بِسَبْعِ.
44 - بَاب الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ
5446 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ قَالَ: أَصَابَنَا عَامُ سَنَةٍ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَرَزَقَنَا تَمْرًا، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِنَا، وَنَحْنُ نَأْكُلُ، وَيَقُولُ: لَا تُقَارِنُوا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
نَهَى عَنْ الْإقِرَانِ، ثُمَّ يَقُولُ: إِلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ. قَالَ شُعْبَةُ: الْإِذْنُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ. قَوْلُهُ (بَابُ الْقِرَانِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ، أَيْ ضَمِّ تَمْرَةٍ إِلَى تَمْرَةٍ لِمَنْ أَكَلَ مَعَ جَمَاعَةٍ.
قَوْلُهُ (جَبَلَةُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ الْخَفِيفَةِ.
قَوْلُهُ (ابْنُ سُحَيْمٍ) بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرٌ كُوفِيٌّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ غَيْر ابْنِ عُمَر رضي الله عنهما شَيْءٌ.
قَوْلُهُ (أَصَابَنَا عَامُ سَنَةٍ) بِالْإِضَافَةِ أَيْ عَامُ قَحْطٍ، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ.
قَوْلُهُ (مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ) يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ لَمَّا كَانَ خَلِيفَةً، وَتَقَدَّمَ فِي الْمَظَالِمِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فِي بَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ.
قَوْلُهُ (فَرُزِقْنَا تَمْرًا) أَيْ أَعْطَانَا فِي أَرْزَاقنَا تَمْرًا، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يُصْرَفُ لَهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ مَالِ الْخَرَاجِ وَغَيْرِهِ بَدَلَ النَّقْدِ تَمْرًا لِقِلَّةِ النَّقْدَ إِذْ ذَاكَ بِسَبَبِ الْمَجَاعَةِ الَّتِي حَصَلَتْ.
قَوْلُهُ (وَيَقُولُ لَا تُقَارِنُوا) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَلِيدِ فِي الشَّرِكَةِ فَيَقُولُ لَا تَقْرُنُوا وَكَذَا لِأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ فِي مُسْنَدِهِ.
قَوْلُهُ (عَنِ الْإِقْرَانِ) كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ وَقَدْ أَوْضَحْتُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ أَنَّ اللُّغَةَ الْفُصْحَى بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ بِلَفْظِ الْقُرْانِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَقَالَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ الْإِقْرَانُ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَوَقَعَ عِنْدَ جَمِيعِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ الْإِقْرَانُ وَفِي تَرْجَمَةِ أَبِي دَاوُدَ بَابُ الْإِقْرَانِ فِي التَّمْرِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مَعْرُوفَةً، وَأَقْرَنَ مِنَ الرُّبَاعِيِّ وَقَرَنَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ وَهُوَ الصَّوَابُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَلَا يُقَالُ أَقْرَنَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ أَقْرَنَ لِمَا قُوِيَ عَلَيْهِ وَأَطَاقَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} قَالَ: لَكِنْ جَاءَ فِي اللُّغَةِ أَقْرَنَ الدَّمَ فِي الْعِرْقِ أَيْ كَثُرَ فَيُحْمَلُ حَمْلُ الْإِقْرَانِ فِي الْخَبَرِ عَلَى ذَلِكَ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْإِكْثَارِ مِنْ أَكْلِ التَّمْرِ إِذَا كَانَ مَعَ غَيْرِهِ، وَيَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى الْقِرَانِ الْمَذْكُورِ. قُلْتُ: لَكِنْ يَصِيرُ أَعَمَّ مِنْهُ. وَالْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مِنِ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ، وَقَدْ مَيَّزَ أَحْمَدُ بَيْنَ مَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ أَقْرَنَ وَبِلَفْظِ قَرَنَ مِنْ أَصْحَابِ شُعْبَةَ، وَكَذَا قَالَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ الْقِرَانُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الشَّيْبَانِيِّ الْإِقْرَانُ، وَفِي رِوَايَةِ مِسْعَرٍ الْقِرَانُ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ يَقُولُ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ) أَيْ فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ جَازَ، وَالْمُرَادُ بِالْأَخِ رَفِيقُهُ الَّذِي اشْتَرَكَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ التَّمْرِ. قَوْلُهُ (قَالَ شُعْبَةُ: الْإِذْنُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ مُدْرَجًا، وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي الشَّرِكَةِ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَصْلُهُ لِمُسْلِمٍ كَذَلِكَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَزِيدَ، وَبَهْزٍ وَغَيْرِهِمَا عَنْ شُعْبَةَ، وَتَابَعَ آدَمَ عَلَى فَصْلِ الْمَوْقُوفِ مِنَ الْمَرْفُوعِ شَبَابَةُ بْنُ سِوَارٍ، عَنْ شُعْبَةَ أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِهِ مِثْلَ مَا سَاقَهُ آدَمُ إِلَى قَوْلِهِ الْإِقْرَانُ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَخَاهُ وَكَذَا قَالَ عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ أَرَى الْإِذْنَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ، وَقَدْ فَصَّلَهُ أَيْضًا عَنْ شُعْبَةَ سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ الضُّبَعِيُّ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ، قَالَ شُعْبَةُ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ هُوَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ أَيْضًا إِلَّا أَنَّ سَعِيدًا أَخْطَأَ فِي اسْمِ التَّابِعِيِّ فَقَالَ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالْمَحْفُوظُ جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ كَمَا قَالَ الْجَمَاعَةُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَصْحَابَ شُعْبَةَ اخْتَلَفُوا فَأَكْثَرُهُمْ رَوَاهُ عَنْهُ مُدْرَجًا: وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ رَوَوْا عَنْهُ التَّرَدُّدَ فِي كَوْنِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ مَرْفُوعَةً أَوْ مَوْقُوفَةً، وَشَبَابَةُ فَصَّلَ عَنْهُ، وَآدَمُ جَزَمَ عَنْهُ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَتَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ إِلَّا أَنَّهُ خَالَفَ فِي التَّابِعِيِّ، فَلَمَّا اخْتَلَفُوا عَلَى شُعْبَةَ وَتَعَارَضَ جَزْمُهُ وَتَرَدُّدُهُ وَكَانَ الَّذِي رَوَوْا عَنْهُ التَّرَدُّدَ أَكْثَرَ نَظَرْنَا فِيمَنْ رَوَاهُ غَيْرُهُ مِنَ التَّابِعِينَ فَرَأَيْنَاهُ قَدْ وَرَدَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، وَمِسْعَرٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، فَأَمَّا الثَّوْرِيُّ
فَتَقَدَّمَتْ رِوَايَتُهُ فِي الشَّرِكَةِ وَلَفْظُهُ نَهَى أَنْ يَقْرُنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ جَمِيعًا حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ وَهَذَا ظَاهِرُهُ الرَّفْعُ مَعَ احْتِمَالِ الْإِدْرَاجِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الشَّيْبَانِيِّ فَأَخْرَجَهَا أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ نَهَى عَنِ الْإِقْرَانِ إِلَّا أَنْ تَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَكَ وَالْقَوْلُ فِيهَا كَالْقَوْلِ فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، وَأَمَّا رِوَايَةُ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ فَأَخْرَجَهَا ابْنُ حِبَّانَ فِي النَّوْعِ الثَّامِنِ وَالْخَمْسِينَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ صَحِيحِهِ بِلَفْظِ مَنْ أَكَلَ مَعَ قَوْمٍ مِنْ تَمْرٍ فَلَا يَقْرُنْ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَأْذِنْهُمْ، فَإِنْ أَذِنُوا فَلْيَفْعَلْ وَهَذَا أَظْهَرُ فِي الرَّفْعِ مَعَ احْتِمَالِ الْإِدْرَاجِ أَيْضًا.
ثُمَّ نَظَرْنَا فِيمَنْ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرِ ابْنِ عُمَرَ فَوَجَدْنَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسِيَاقُهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِئْذَانِ مَرْفُوعٌ، وَذَلِكَ أَنَّ إِسْحَاقَ فِي مُسْنَدِهِ وَمِنْ طَرِيقِهِ ابْنُ حِبَّانَ أَخْرَجَا مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كُنْتُ فِي أَصْحَابِ الصُّفَّةِ فَبَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَمْرَ عَجْوَةٍ فَكَبَّ بَيْنَنَا فَكُنَّا نَأْكُلُ الثِّنْتَيْنِ مِنَ الْجُوعِ، فَجَعَلَ أَصْحَابُنَا إِذَا قَرَنَ أَحَدُهُمْ قَالَ لِصَاحِبِهِ إِنِّي قَدْ قَرَنْتُ فَاقْرِنُوا وَهَذَا الْفِعْلُ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَشْرُوعًا لَهُمْ مَعْرُوفًا، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ كُنَّا نَفْعَلُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَذَا لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَأَصْرَحُ مِنْهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَفْظُهُ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَمْرًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقْرُنُ، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْرُنَ إِلَّا بِإِذْنِ أَصْحَابِهِ فَالَّذِي تَرَجَّحَ عِنْدِي أَنْ لَا إِدْرَاجَ فِيهِ. وَقَدِ اعْتَمَدَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَتَرْجَمَ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ وَفِي الشَّرِكَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ ابْنِ عُمَرَ ذَكَرَ الْإِذْنَ مَرَّةً غَيْرَ مَرْفُوعٍ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَنَدُهُ فِيهِ الرَّفْعَ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ اسْتُفْتِيَ فِي ذَلِكَ فَأَفْتَى، وَالْمُفْتِي قَدْ لَا يَنْشَطُ فِي فَتْوَاهُ إِلَى بَيَانِ الْمُسْتَنَدِ، فَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مِسْعَرٍ، عَنْ صِلَةَ قَالَ سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ قِرَانِ التَّمْرِ قَالَ: لَا تَقْرُنْ، إِلَّا أَنْ تَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَكَ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا حَدَّثَ بِالْقِصَّةِ ذَكَرَهَا كُلَّهَا مَرْفُوعَةً، وَلَمَّا اسْتُفْتِيَ أَفْتَى بِالْحُكْمِ الَّذِي حَفِظَهُ عَلَى وَفْقِهِ. وَلَمْ يُصَرِّحْ حِينَئِذٍ بِرَفْعِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ: قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي هَذَا النَّهْيِ هَلْ هُوَ عَلَى التَّحْرِيمِ أَوِ الْكَرَاهَةِ؟ وَالصَّوَابُ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ فَالْقِرَانُ حَرَامٌ إِلَّا بِرِضَاهُمْ، وَيَحْصُلُ بِتَصْرِيحِهِمْ أَوْ بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ قَرِينَةِ حَالٍ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لِغَيْرِهِمْ حَرُمَ وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ وَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْأَكْلِ اشْتُرِطَ رِضَاهُ، وَيَحْرُمُ لِغَيْرِهِ وَيَجُوزُ لَهُ هُوَ إِلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الْآكِلِينَ مَعَهُ، وَحَسُنَ لِلْمُضِيفِ أَنْ لَا يَقْرُنَ لِيُسَاوِيَ ضَيْفَهُ، إِلَّا إِنْ كَانَ الشَّيْءُ كَثِيرًا يَفْضُلُ عَنْهُمْ، مَعَ أَنَّ الْأَدَبَ فِي الْأَكْلِ مُطْلَقًا تَرْكُ مَا يَقْتَضِي الشَّرَهَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْجِلًا يُرِيدُ الْإِسْرَاعَ لِشُغْلٍ آخَرَ. وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ شَرْطَ هَذَا الِاسْتِئْذَانُ إِنَّمَا كَانَ فِي زَمَنِهِمْ حَيْثُ كَانُوا فِي قِلَّةٍ مِنَ الشَّيْءِ. فَأَمَّا الْيَوْمَ مَعَ اتِّسَاعِ الْحَالِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْذَانٍ. وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الصَّوَابَ التَّفْصِيلُ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، كَيْفَ وَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ.
قُلْتُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي قَدَّمْتُهُ يُرْشِدُ إِلَيْهِ وَهُوَ قَوِيٌّ، وَقِصَّةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ كَذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: إِنَّمَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنِ الْقِرَانِ لِأَنَّ فِيهِ شَرَهًا وَذَلِكَ يُزْرِي بِصَاحِبِهِ، أَوْ لِأَنَّ فِيهِ غَبْنًا بِرَفِيقِهِ، وَقِيلَ إِنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْعَيْشِ وَقِلَّةِ الشَّيْءِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يُوَاسُونَ مِنَ الْقَلِيلِ وَإِذَا اجْتَمَعُوا رُبَّمَا آثَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنِ اشْتَدَّ جُوعُهُ حَتَّى يَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الْقَرْنِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ أَوْ تَعْظِيمِ اللُّقْمَةِ فَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ فِي ذَلِكَ تَطْييِبًا لِنُفُوسِ الْبَاقِينَ، وَأَمَّا قِصَّةُ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ فَظَاهِرُهَا أَنَّهَا مِنْ أَجْلِ الْغَبَنِ وَلِكَوْنِ مِلْكِهِمْ فِيهِ سَوَاءً، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَصْحَابِ الصُّفَّةِ انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ شَاهِينَ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَهُوَ فِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ، وَأَنَّ
اللَّهَ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ فَاقْرِنُوا فَلَعَلَّ النَّوَوِيَّ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفًا، قَالَ الْحَازِمِيُّ: حَدِيثُ النَّهْيِ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ، إِلَّا أَنَّ الْخَطْبَ فِيهِ يَسِيرٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْعِبَادَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَيَكْتفِي فِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَيُعَضِّدُهُ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ.
كَذَا قَالَ، وَمُرَادُهُ بِالْجَوَازِ فِي حَالِ كَوْنِ الشَّخْصِ مَالِكًا لِذَلِكَ الْمَأْكُولِ وَلَوْ بِطَرِيقِ الْإِذْنِ لَهُ فِيهِ كَمَا قَرَّرَهُ النَّوَوِيُّ، وَإِلَّا فَلَمْ يُجِزْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَسْتَأْثِرَ أَحَدٌ بِمَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، حَتَّى لَوْ قَامَتْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي وَضَعَ الطَّعَامَ بَيْنَ الضِّيفَانِ لَا يُرْضِيهِ اسْتِئْثَارُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ حَرُمَ الِاسْتِئْثَارُ جَزْمًا، وَإِنَّمَا تَقَعُ الْمُكَارَمَةُ فِي ذَلِكَ إِذَا قَامَتْ قَرِينَةُ الرِّضَا. وَذَكَرَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي ذَيْلِ الْغَرِيبَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ اسْتِقْبَاحَ الْقِرَانِ لِمَا فِيهِ مِنَ الشَّرَهِ وَالطَّمَعِ الْمُزْرِي بِصَاحِبِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ بِجَمِيلٍ أَنْ يَأْكُلَ أَكْثَرَ مِنْ رُفْقَتِهِ.
تَنْبِيهٌ:
فِي مَعْنَى التَّمْرِ الرُّطَبِ وَكَذَا الزَّبِيبُ وَالْعِنَبُ وَنَحْوُهُمَا، لِوُضُوحِ الْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: حَمَلَ أَهْلُ الظَّاهِرِ هَذَا النَّهْيَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَهُوَ سَهْوٌ مِنْهُمْ وَجَهْلٌ بِمَسَاقِ الْحَدِيثِ وَبِالْمَعْنَى، وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى حَالِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْأَكْلِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ فَهْمِ ابْنِ عُمَرَ رَاوِيهِ وَهُوَ أَفْهَمُ لِلْمَقَالِ وَأَقْعَدُ بِالْحَالِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مِمَّنْ يُوضَعُ الطَّعَامُ بَيْنَ يَدَيْهِ مَتَى يَمْلِكُهُ؟ فَقِيلَ بِالْوَضْعِ، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ إِلَى فِيهِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، فَعَلَى الْأَوَّلِ فَمِلْكُهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْرُنَ إِلَّا بِإِذْنِ الْبَاقِينَ، وَعَلَى الثَّانِي يَجُوزُ أَنْ يَقْرُنَ ; لَكِنَّ التَّفْصِيلَ الَّذِي تَقَدَّمَ هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ. نَعَمْ مَا يُوضَعُ بَيْنَ يَدَيِ الضِّيفَانِ وَكَذَلِكَ النِّثَارُ فِي الْأَعْرَاسِ سَبِيلُهُ فِي الْعُرْفِ سَبِيلُ الْمُكَارَمَةِ لَا التَّشَاحِّ، لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي مِقْدَارِ الْأَكْلِ، وَفِي الِاحْتِيَاجِ إِلَى التَّنَاوُلِ مِنَ الشَّيْءِ، وَلَوْ حُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى تَسَاوِي السُّهْمَانِ بَيْنَهُمْ لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى الْوَاضِعِ وَالْمَوْضُوعِ لَهُ، وَلَمَا سَاغَ لِمَنْ لَا يَكْفِيهِ الْيَسِيرُ أَنْ يَتَنَاوَلَ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِ مَنْ يُشْبِعُهُ الْيَسِيرُ، وَلَمَا لَمْ يَتَشَاحَّ النَّاسُ فِي ذَلِكَ وَجَرَى عَمَلُهُمْ عَلَى الْمُسَامَحَةِ فِيهِ عُرِفَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي كُلِّ حَالَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
45 - بَاب الْقِثَّاءِ
5447 -
حَدَّثَنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ.
قَوْلُهُ (بَابُ الْقِثَّاءِ) يَأْتِي شَرْحُ حَدِيثِهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
46 - بَاب بَرَكَةِ النَّخْلِة
5448 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً تَكُونُ مِثْلَ الْمُسْلِمِ، وَهِيَ النَّخْلَةُ.
قَوْلُهُ (بَابُ بَرَكَةِ النَّخْلَةِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مُخْتَصَرًا وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ قَرِيبًا وَأَنَّهُ مَرَّ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.
47 - بَاب جَمْعِ اللَّوْنَيْنِ، أَوْ الطَّعَامَيْنِ، بِمَرَّةٍ
5449 -
حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ.
قَوْلُهُ (بَابُ جَمْعِ اللَّوْنَيْنِ، أَوِ الطَّعَامَيْنِ، بِمَرَّةٍ) أَيْ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ بِمَرَّةٍ مَرَّةٍ وَلَمْ أَرَ التَّكْرَارَ فِي الْأُصُولِ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ لَمَّحَ إِلَى تَضْعِيفِ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِإِنَاءٍ - أَوْ بِقَعْبٍ - فِيهِ لَبَنٌ وَعَسَلٌ فَقَالَ: أدْمَانِ فِي إِنَاءٍ، لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَفِيهِ رَاوٍ مَجْهُولٌ.
قَوْلُهُ (عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِخْرَاجُ الْبُخَارِيِّ لِهَذَا الْحَدِيثِ قَبْلَ هَذَا الْبَابِ سَوَاءً وَكَذَا فِيمَا قَبْلَهُ بِأَبْوَابٍ بِأَعْلَى مِنْ هَذَا دَرَجَةً وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَدَارَهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ.
قَوْلُهُ (يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ كَيْفِيَّةُ أَكْلِهِ لَهُمَا، فَأَخْرَجَ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ رَأَيْتُ فِي يَمِينِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قِثَّاءً وَفِي شِمَالِهِ رُطَبًا وَهُوَ يَأْكُلُ مِنْ ذَا مَرَّةً وَمِنْ ذَا مَرَّةً وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ، وَأَخْرَجَ فِيهِ وَهُوَ فِي الطِّبِّ لِأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ كَانَ يَأْخُذُ الرُّطَبَ بِيَمِينِهِ وَالْبِطِّيخَ بِيَسَارِهِ، فَيَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْبِطِّيخِ، وَكَانَ أَحَبَّ الْفَاكِهَةِ إِلَيْهِ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الرُّطَبِ وَالْخِرْبِزِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا زَايٌ نَوْعٌ مِنَ الْبِطِّيخِ الْأَصْفَرِ، وَقَدْ تَكْبُرُ الْقِثَّاءُ فَتَصْفَرُّ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فَتَصِيرُ كَالْخِرْبِزِ كَمَا شَاهَدْتُهُ كَذَلِكَ بِالْحِجَازِ، وَفِي هَذَا تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبِطِّيخِ فِي الْحَدِيثِ الْأَخْضَرُ، وَاعْتَلَّ بِأَنَّ فِي الْأَصْفَرِ حَرَارَةً كَمَا فِي الرُّطَبِ، وَقَدْ وَرَدَ التَّعْلِيلُ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُطْفِئُ حَرَارَةَ الْآخَرِ، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ فِي الْأَصْفَرِ بِالنِّسْبَةِ لِلرُّطَبِ بُرُودَةً وَإِنْ كَانَ فِيهِ - لِحَلَاوَتِهِ - طَرَفُ حَرَارَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي النَّسَائِيِّ أَيْضًا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ جَمَعَ بَيْنَ الْبِطِّيخَ وَالرُّطَبِ جَمِيعًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ أَرَادَتْ أُمِّي تُعَالِجُنِي لِلسُّمْنَةِ لِتُدْخِلَنِي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَا اسْتَقَامَ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى أَكَلْتُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ فَسَمِنْتُ كَأَحْسَنَ سُمْنَةٍ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِهَا لَمَّا تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَالَجُونِي بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَأَطْعَمُونِي الْقِثَّاءَ بِالتَّمْرِ فَسَمِنْتُ عَلَيْهِ كَأَحْسَنِ الشَّحْمِ وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَبَوَيْهَا بِذَلِكَ وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ بُسْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحِبُّ الزُّبْدَ وَالتَّمْرَ الْحَدِيثَ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَتَمَجَّعُ لَبَنًا بِتَمْرٍ فَقَالَ: ادْنُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمَّاهُمَا الْأَطْيَبَيْنِ وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي حَدِيثِ الْبَابِ جَوَازُ أَكْلِ الشَّيْئَيْنِ مِنَ الْفَاكِهَةِ وَغَيْرِهَا مَعًا وَجَوَازُ أَكْلِ طَعَامَيْنِ مَعًا، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ التَّوَسُّعِ فِي الْمَطَاعِمِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ ذَلِكَ. وَمَا نُقِلَ عَنِ السَّلَفِ مِنْ خِلَافِ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ مَنْعًا لِاعْتِيَادِ التَّوَسُّعِ وَالتَّرَفُّهِ وَالْإِكْثَارِ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ، يُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ مُرَاعَاةِ صِفَاتِ الْأَطْعِمَةِ وَطَبَائِعِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِهَا عَلَى قَاعِدَةِ الطِّبِّ، لِأَنَّ فِي الرُّطَبِ حَرَارَةً وَفِي الْقِثَّاءِ بُرُودَةً، فَإِذَا أُكِلَا مَعًا اعْتَدَلَا، وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الْمُرَكَّبَاتِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ. وَتَرْجَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ بَابُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُؤْكَلُ مَعَ الرُّطَبِ لِيَذْهَبَ ضَرَرُهُ فَسَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرِ الزِّيَادَةَ الَّتِي تَرْجَمَ بِهَا، وَهِيَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ بِلَفْظِ كَانَ يَأْكُلُ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ فَيَقُولُ: يُكْسَرُ حَرُّ هَذَا بِبَرْدِ هَذَا وَبَرْدُ هَذَا بِحَرِّ هَذَا وَالطِّبِّيخُ بِتَقْدِيمِ الطَّاءِ لُغَةً فِي الْبِطِّيخِ بِوَزْنِهِ، وَالْمُرَادُ
بِهِ الْأَصْفَرُ بِدَلِيلِ وُرُودِ الْحَدِيثِ بِلَفْظِ الْخِرْبِزِ بَدَلَ الْبِطِّيخِ، وَكَانَ يُكْثِرُ وُجُودُهُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ بِخِلَافِ الْبِطِّيخِ الْأَخْضَرِ.
تَنْبِيهٌ:
سَقَطَتْ هَذَا التَّرْجَمَةُ وَحَدِيثُهَا مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْهُمَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا.
48 - بَاب مَنْ أَدْخَلَ الضِّيفَانَ عَشَرَةً عَشَرَةً، وَالْجُلُوسِ عَلَى الطَّعَامِ عَشَرَةً عَشَرَةً
5450 -
حَدَّثَني الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ سِنَانٍ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ، أُمَّهُ، عَمَدَتْ إِلَى مُدٍّ مِنْ شَعِيرٍ جَشَّتْهُ وَجَعَلَتْ مِنْهُ خَطِيفَةً، وَعَصَرَتْ عُكَّةً عِنْدَهَا، ثُمَّ بَعَثَتْنِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ، وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ، فَدَعَوْتُهُ. قَالَ: وَمَنْ مَعِي. فَجِئْتُ فَقُلْتُ: إِنَّهُ يَقُولُ: وَمَنْ مَعِي. فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ صَنَعَتْهُ أُمُّ سُلَيْمٍ. فَدَخَلَ، فَجِيءَ بِهِ وَقَالَ: أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً، فَأدَخَلُوا فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا. ثُمَّ قَالَ: أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً، فَدَخَلُوا فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ قَالَ: أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً. . حَتَّى عَدَّ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ أَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَامَ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ هَلْ نَقَصَ مِنْهَا شَيْءٌ؟
قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ أَدْخَلَ الضِّيفَانَ عَشَرَةً عَشَرَةً، وَالْجُلُوسِ عَلَى الطَّعَامِ عَشَرَةً عَشَرَةً) أَيْ إِذَا احْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ لِضِيقِ الطَّعَامِ أَوْ مَكَانِ الْجُلُوسِ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ (عَنِ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ سِنَانِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ أَنَسٍ) هَذِهِ الْأَسَانِيدُ الثَّلَاثَةُ لِحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ حَسَّانَ، وَمُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، وَسِنَانٌ أَبُو رَبِيعَةَ قَالَ عِيَاضٌ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ، سِنَانُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَهُوَ خَطَأٌ وَإِنَّمَا هُوَ سِنَانٌ أَبُو رَبِيعَةَ، وَأَبُو رَبِيعَةَ كُنْيَتُهُ. قُلْتُ: الْخَطَأُ فِيهِ مِمَّنْ دُونَ ابْنِ السَّكَنِ، وَسِنَانٌ هُوَ ابْنُ رَبِيعَةَ وَهُوَ أَبُو رَبِيعَةَ وَافَقَتْ كُنْيَتُهُ اسْمَ أَبِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ مَقْرُونٌ بِغَيْرِهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَهُ أَحَادِيثُ قَلِيلَةٌ، وَأَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ.
قَوْلُهُ (جَشَّتْهُ) بِجِيمٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ أَيْ جَعَلَتْهُ جَشِيشًا، وَالْجَشِيشُ دَقِيقٌ غَيْرُ نَاعِمٍ.
قَوْلُهُ (خَطِيفَةً) بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَطَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَزْنَ عَصِيدَةٍ وَمَعْنَاهُ، كَذَا تَقَدَّمَ الْجَزْمُ بِهِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ وَقِيلَ أَصْلُهُ أَنْ يُؤْخَذَ لَبَنٌ وَيُدرُّ عَلَيْهِ دَقِيقٌ وَيُطْبَخُ وَيَلْعَقُهَا النَّاسُ فَيَخْطَفُونَهَا بِالْأَصَابِعِ وَالْمَلَاعِقِ فَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ، وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْقِصَّةِ مُسْتَوْفًى فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ هُنَاكَ أَتَمُّ مِمَّا هُنَا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةُ إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ صَنَعَتْهُ أُمُّ سُلَيْمٍ أَيْ هُوَ شَيْءٌ قَلِيلٌ، لِأَنَّ الَّذِي يَتَوَلَّى صَنْعَتَهُ امْرَأَةٌ بِمُفْرَدِهَا لَا يَكُونُ كَثِيرًا فِي الْعَادَةِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ أَنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي سِيَاقِ الْبَابِ هُنَا اخْتِصَارًا مِثْلَ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَرْسَلْتُ أَنَسًا يَدْعُوكَ وَحْدَكَ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا مَا يُشْبِعُ مِنْ أَرَى وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسٍ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: إِنَّمَا هُوَ قُرْصٌ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ سَيُبَارَكُ فِيهِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الِاجْتِمَاعُ عَلَى الطَّعَامِ مِنْ أَسْبَابِ الْبَرَكَةِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ رَفَعَهُ اجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ يُبَارَكْ لَكُمْ قَالَ: وَإِنَّمَا أَدْخَلَهُمْ عَشَرَةً عَشَرَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّهَا كَانَتْ قَصْعَةً وَاحِدَةً وَلَا يُمْكِنُ الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ أَنْ يَقْدِرُوا
عَلَى التَّنَاوُلِ مِنْهَا مَعَ قِلَّةِ الطَّعَامِ، فَجَعَلَهُمْ عَشَرَةً عَشَرَةً لِيَتَمَكَّنُوا مِنَ الْأَكْلِ وَلَا يَزْدَحِمُوا، قَالَ: وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الْمَنْعُ عَنِ اجْتِمَاعِ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ عَلَى الطَّعَامِ.
49 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ الثُّومِ وَالْبُقُولِ. فِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
5451 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: قِيلَ لِأَنَسٍ: مَا سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي الثُّومِ؟ فَقَالَ: مَنْ أَكَلَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا.
5452 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءٌ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما زَعَمَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا.
قَوْلُهُ (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الثُّومِ وَالْبُقُولِ) أَيِ الَّتِي لَهَا رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، وَهَلِ النَّهْيُ عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ لِآكْلِهَا عَلَى التَّعْمِيمِ أَوْ عَلَى مَنْ أَكَلَ النِّيءَ مِنْهَا دُونَ الْمَطْبُوخِ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ. أَحَدُهَا.
قَوْلُهُ (فِيهِ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ قُبَيْلَ كِتَابِ الْجُمُعَةِ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - يَعْنِي الثُّومَ - فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا وَوَقَعَ لَنَا سَبَبُ هَذَا الْحَدِيثِ: فَأَخْرَجَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَمْرٍو هُوَ بِشْرُ بْنُ حَرْبٍ عَنْهُ قَالَ جَاءَ قَوْمٌ مَجْلِسَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَكَلُوا الثُّومَ وَالْبَصَلَ، فَكَأَنَّهُ تَأَذَّى بِذَلِكَ فَقَالَ فَذَكَرَهُ. ثَانِيهَا: حَدِيثُ أَنَسٍ أَوْرَدَهُ عَنْ مُسَدَّدٍ، وَتَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ هُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ.
ثَالِثُهَا: حَدِيثُ جَابِرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا هُنَاكَ مَوْصُولًا وَمُعَلَّقًا وَفِيهِ ذِكْرُ الْبُقُولِ، وَلَكِنَّهُ اخْتَصَرَهُ هُنَا. وَقَوْلُهُ كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مِنْ لَا تُنَاجِي فِيهِ إِبَاحَتُهُ لِغَيْرِهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ لَا يَتَأَذَّى بِهِ الْمُصَلُّونَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. وَاخْتُلِفَ فِي حَقِّهِ هُوَ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَكْرُوهً لِعُمُومِ قَوْلِهِ لَا فِي جَوَابِ أَحَرَامٌ هُوَ؟ وَحُجَّةُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْمَنْعِ مُلَازَمَةُ الْمَلَكِ لَهُ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ مَا مِنْ سَاعَةٍ إِلَّا وَمَلَكٌ يُمْكِنُ أَنْ يَلْقَاهُ فِيهَا.
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بَيَانُ جَوَازِ أَكْلِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ، إِلَّا أَنَّ مَنْ أَكَلَهَا يُكْرَهُ لَهُ حُضُورُ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ أَلْحَقَ بِهَا الْفُقَهَاءُ مَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْبُقُولِ الْكَرِيهَةِ الرَّائِحَةِ كَالْفُجْلِ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ فِي الطَّبَرَانِيِّ وَقَيَّدَهُ عِيَاضٌ بِمَنْ يَتَجَشَّى مِنْهُ، وَأَلْحَقَ بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الشَّدِيدَ الْبَخْرِ وَمَنْ بِهِ جِرَاحَةٌ تَفُوحُ رَائِحَتُهَا، وَاخْتُلِفَ فِي الْكَرَاهِيَةِ: فَالْجُمْهُورُ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَعَنِ الظَّاهِرِيَّةِ التَّحْرِيمُ، وَأَغْرَبَ عِيَاضٌ فَنَقَلَ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ تَحْرِيمُ تَنَاوُلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُطْلَقًا لِأَنَّهَا تَمْنَعُ حُضُورَ الْجَمَاعَةِ، وَالْجَمَاعَةُ فَرْضُ عَيْنٍ، وَلَكِنْ صَرَّحَ ابْنُ حَزْمٍ بِالْجَوَازِ، ثُمَّ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ حُضُورُ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَذْهَبِهِ مِنْ غَيْرِهِ.
50 - بَاب الْكَبَاثِ، وَهُوَ ثَمَرُ الْأَرَاكِ
5453 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ:
أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَرِّ الظَّهْرَانِ نَجْنِي الْكَبَاثَ، فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ مِنْهُ فَإِنَّهُ أَيْطَبُ، فَقَالَ: أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا رَعَاهَا.
قَوْلُهُ (بَابُ الْكَبَاثِ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ مُثَلَّثَةٌ.
قَوْلُهُ (وَهُوَ وَرَقُ الْأَرَاكِ) كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ مَشَايِخِهِ وَقَالَ: كَذَا فِي الرِّوَايَةِ، وَالصَّوَابُ ثَمَرُ الْأَرَاكِ انْتَهَى. وَوَقَعَ لِلنَّسَفِيِّ ثَمَرُ الْأَرَاكِ وَلِلْبَاقِينَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ، وَابْنِ بَطَّالٍ وَرَقُ الْأَرَاكِ، وَتَعَقَّبَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ ثَمَرُ الْأَرَاكِ وَهُوَ الْبَرِيرُ - يَعْنِي بِمُوَحَّدَةٍ وَزْنَ الْحَرِيرِ - فَإِذَا اسْوَدَّ فَهُوَ الْكَبَاثُ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْكَبَاثُ ثَمَرُ الْأَرَاكِ الْغَضُّ مِنْهُ، وَالْبَرِيرُ ثَمَرُ الرُّطَبِ وَالْيَابِسِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: قَوْلُهُ وَرَقُ الْأَرَاكِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَالَّذِي فِي اللُّغَةِ أَنَّهُ ثَمَرُ الْأَرَاكِ، وَقِيلَ هُوَ نَضِيجُهُ، فَإِذَا كَانَ طَرِيًّا فَهُوَ مَوْزٌ، وَقِيلَ عَكْسُ ذَلِكَ وَأَنَّ الْكَبَاثَ الطَّرِيُّ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ ثَمَرُ الْأَرَاكِ إِذَا يَبِسَ وَلَيْسَ لَهُ عَجَمٌ. قَالَ أَبُو زِيَادٍ: يُشْبِهُ التِّينَ يَأْكُلُهُ النَّاسُ وَالْإِبِلُ وَالْغَنَمُ، وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: هُوَ حَارٌّ كَأَنَّ فِيهِ مِلْحًا انْتَهَى. وَقَالَ عِيَاضٌ: الْكَبَاثُ ثَمَرُ الْأَرَاكِ وَقِيلَ نَضِيجُهُ وَقِيلَ غَضُّهُ، قَالَ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ: وَالَّذِي رَأَيْنَاهُ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ ثَمَرُ الْأَرَاكِ عَلَى الصَّوَابِ، كَذَا قَالَ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ وَرَقُ الْأَرَاكِ قِيلَ وَهُوَ خِلَافُ اللُّغَةِ.
قَوْلُهُ (بِمَرِّ الظَّهْرَانِ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ قَبْلَهَا مِيمٌ مَفْتُوحَةٌ وَالظَّاءُ مُعْجَمَةٌ بِلَفْظِ تَثْنِيَةِ الظَّهْرِ، مَكَانٌ مَعْرُوفٌ على مَرْحَلَةٍ مِنْ مَكَّةَ.
قَوْلُهُ (نَجْنِي) أَيْ نَقْتَطِفُ.
قَوْلُهُ (فَإِنَّهُ أَيْطَبُ) كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَهُوَ لُغَةٌ بِمَعْنَى أَطْيَبَ وَهُوَ مَقْلُوبُهُ، كَمَا قَالُوا جَذَبَ وَجَبَذَ.
قَوْلُهُ (فَقِيلَ أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟) فِي السُّؤَالِ اخْتِصَارٌ وَالتَّقْدِيرُ: أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ حَتَّى عَرَفْتَ أَطْيَبَ الْكَبَاثِ؟ لِأَنَّ رَاعِيَ الْغَنَمِ يُكْثِرُ تَرَدُّدَهُ تَحْتَ الْأَشْجَارِ لِطَلَبِ الْمَرْعَى مِنْهَا وَالِاسْتِظْلَالِ تَحْتَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ مُوسَى مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحِكْمَةِ فِي رَعْيِ الْأَنْبِيَاءِ الْغَنَمَ فِي أَوَائِلِ الْإِجَارَةِ، وَأَفَادَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي اخْتِصَاصِهَا بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا لَا تُرْكَبُ فَلَا تَزْهُو نَفْسُ رَاكِبِهَا، قَالَ: وَفِيهِ إِبَاحَةُ أَكْلِ ثَمَرِ الشَّجَرِ الَّذِي لَا يُمْلَكُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَقْوَاتِ، فَإِذْ قَدْ أَغْنَى اللَّهُ عِبَادَهُ بِالْحِنْطَةِ أَوِ الْحُبُوبِ الْكَثِيرَةِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى ثَمَرِ الْأَرَاكِ. قُلْتُ: إِنْ أَرَادَ بِهَذَا الْكَلَامِ الْإِشَارَةَ إِلَى كَرَاهَةِ تَنَاوُلِهِ فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ مَا ذُكِرَ مَنْعُ مَا أُبِيحَ بِغَيْرِ ثَمَنٍ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْوَرَعِ لَهُمْ رَغْبَةٌ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُبَاحَاتِ أَكْثَرُ مِنْ تَنَاوُلِ مَا يُشْتَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَكْمِلَةٌ:
أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ بِسَنَدِهِ الْمَاضِي فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى جَابِرٍ فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ وَقَالَ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ يَوْمَ جُمْعَةٍ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ رَمَضَانَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ دُونَ التَّارِيخِ، يَعْنِي دُونَ قَوْلِهِ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ إِلَخْ وَهُوَ كما قَالَ، وَلَعَلَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنِ ابْنِ شِهَابٍ أَحَدِ رُوَاتِهِ.
51 - بَاب الْمَضْمَضَةِ بَعْدَ الطَّعَامِ
5454 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ بن عبد الله، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ، فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ دَعَا بِطَعَامٍ، فَمَا أُتِيَ إِلَّا بِسَوِيقٍ، فَأَكَلْنَا،
فَقَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَتَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا.
5455 -
قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ بُشَيْرًا يَقُولُ: حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ، فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ، قَالَ يَحْيَى: وَهِيَ مِنْ خَيْبَرَ عَلَى رَوْحَةٍ، دَعَا بِطَعَامٍ، فَمَا أُتِيَ إِلَّا بِسَوِيقٍ، فَلُكْنَاهُ فَأَكَلْنَا مَنهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وَقَالَ سُفْيَانُ: كَأَنَّكَ تَسْمَعُهُ مِنْ يَحْيَى.
قَوْلُهُ (بَابُ الْمَضْمَضَةِ بَعْدَ الطَّعَامِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ فِي الْمَضْمَضَةِ بَعْدَ السَّوِيقِ، وَسَاقَهُ بِسَنَدٍ وَاحِدٍ بِلَفْظَيْنِ قَالَ فِي أَحَدِهِمَا فَأَكَلْنَا وَزَادَ فِي الْآخِرِ فَلُكْنَاهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ بِإِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ فِي أَوَائِلِ الْأَطْعِمَةِ. وَقَالَ فِي آخِرِهِ هُنَاكَ قَالَ سَمِعْتُهُ مِنْهُ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ وَقَالَ فِي آخِرِهِ هُنَا قَالَ سُفْيَانُ: كَأَنَّكَ تَسْمَعُهُ مِنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا وَهُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ سَمِعَهُ مِنْ سُفْيَانَ مِرَارًا فَرُبَّمَا غَيَّرَ فِي بَعْضِهَا بَعْضَ الْأَلْفَاظِ.
52 - بَاب لَعْقِ الْأَصَابِعِ وَمَصِّهَا قَبْلَ أَنْ تُمْسَحَ بِالْمِنْدِيلِ
5456 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا.
قَوْلُهُ (بَابُ لَعْقِ الْأَصَابِعِ وَمَصِّهَا قَبْلَ أَنْ تُمْسَحَ بِالْمِنْدِيلِ) كَذَا قَيَّدَهُ بِالْمِنْدِيلِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ فَلَا يَمْسَحُ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ لَكِنْ حَدِيثُ جَابِرٍ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنَادِيلُ، وَمَفْهُومُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ كَانَتْ لَهُمْ مَنَادِيلُ لَمَسَحُوا بِهَا، فَيُحْمَلُ حَدِيثُ النَّهْيِ عَلَى مَنْ وَجَدَ وَلَا مَفْهُومَ لَهُ بَلِ الْحُكْمُ كَذَلِكَ لَوْ مَسَحَ بِغَيْرِ الْمِنْدِيلِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ وَمَصِّهَا فَيُشِيرُ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عَنْ جَابِرٍ أَيْضًا، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْهُ بِلَفْظِ إِذَا طَعِمَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَمُصَّهَا وَذَكَرَ الْقَفَّالُ فِي مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِنْدِيلِ هُنَا الْمِنْدِيلُ الْمُعَدُّ لِإِزَالَةِ الزُّهُومَةِ، لَا الْمِنْدِيلُ الْمُعَدُّ لِلْمَسْحِ بَعْدَ الْغُسْلِ.
قَوْلُهُ (عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ وَمِنْ طَرِيقِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ.
قَوْلُهُ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ سَمِعْتُ عَطَاءً سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ زَادَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ سُفْيَانَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ قَيْسٍ يَسْأَلُ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: هُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فَإِنَّ عَطَاءً حَدَّثَنَاهُ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ حَفِظْنَاهُ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْنَا جَابِرٌ اهـ. وَهَذَا إِنْ كَانَ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ حَفِظَهُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَطَاءٌ سَمِعَهُ مِنْ جَابِرٍ بَعْدَ أَنْ سَمِعَهُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيُؤَيِّدُهُ ثُبُوتُهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ عَطَاءٍ، وَفِي سِيَاقِهِ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَفِي أَوَّلِهِ إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ الْبَابِ، وَفِي آخِرِهِ زِيَادَةٌ أَيْضًا سَأَذْكُرُهَا، فَلَعَلَّ ذَلِكَ سَبَبُ أَخْذِ عَطَاءٍ لَهُ عَنْ جَابِرٍ.
قَوْلُهُ (إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ) زَادَ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَآخَرِينَ عَنْ سُفْيَانَ طَعَامًا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ مِنَ الطَّعَامِ.
قَوْلُهُ (فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ) فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعٍ، فَإِذَا فَرَغَ لَعِقَهَا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَطْلَقَ عَلَى الْأَصَابِعِ الْيَدَ، وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْيَدِ الْكَفَّ كُلَّهَا فَيَشْمَلُ الْحُكْمَ مَنْ أَكَلَ بِكَفِّهِ كُلِّهَا أَوْ بِأَصَابِعِهِ فَقَطْ أَوْ بِبَعْضِهَا: وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: يَدُلُّ عَلَى الْأَكْلِ بِالْكَفِّ كُلِّهَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَعَرَّقُ الْعَظْمَ وَيَنْهَشُ اللَّحْمَ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ عَادَةً إِلَّا بِالْكَفِّ كُلِّهَا. وَقَالَ شَيْخُنَا: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ بِالثَّلَاثِ، سَلَّمْنَا لَكِنْ هُوَ مُمْسِكٌ بِكَفِّهِ كُلِّهَا لَا آكُلُ بِهَا، سَلَّمْنَا لَكِنْ مَحَلُّ الضَّرُورَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ السُّنَّةَ الْأَكْلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعٍ وَإِنْ كَانَ الْأَكْلُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا جَائِزًا، وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ابْنِ أَبِي يَزِيدَ أَنَّهُ رَأَى ابْنَ عَبَّاسٍ إِذَا أَكَلَ لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ قَالَ عِيَاضٌ: وَالْأَكْلُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا مِنَ الشَّرَهِ وَسُوءِ الْأَدَبِ وَتَكْبِيرِ اللُّقْمَةِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى ذَلِكَ لِجَمْعِهِ اللُّقْمَةَ وَإِمْسَاكِهَا مِنْ جِهَاتِهَا الثَّلَاثِ، فَإِنِ اضْطَرَّ إِلَى ذَلِكَ لِخِفَّةِ الطَّعَامِ وَعَدَمِ تَلْفِيفِهِ بِالثَّلَاثِ فَيَدْعَمُهُ بِالرَّابِعَةِ أَوِ الْخَامِسَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ مُرْسَلِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَكَلَ أَكَلَ بِخَمْسٍ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ كَعْبٍ بِاخْتِلَافِ الْحَالِ.
قَوْلُهُ (حَتَّى يَلْعَقَهَا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ أَيْ يَلْعَقَهَا هُوَ (أَوْ يُلْعِقَهَا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ أَيْ يَلْعَقَهَا غَيْرُهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ إِلْعَاقُ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَتَقَذَّرُ ذَلِكَ مِنْ زَوْجَةٍ وَجَارِيَةٍ وَخَادِمٍ وَوَلَدٍ، وَكَذَا مَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ كَتِلْمِيذٍ يَعْتَقِدُ الْبَرَكَةَ بِلَعْقِهَا، وَكَذَا لَوْ أَلْعَقَهَا شَاةً وَنَحْوَهَا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنَّ قَوْلَهُ أَوْ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ كَانَا جَمِيعًا مَحْفُوظَيْنِ فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُلْعِقَهَا صَغِيرًا أَوْ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَتَقَذَّرُ بِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنْ يُلْعِقَ إِصْبَعَهُ فَمَهُ فَيَكُونُ بِمَعْنَى يَلْعَقُهَا، يَعْنِي فَتَكُونُ أَوْ لِلشَّكِّ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: جَاءَتْ عِلَّةُ هَذَا مُبَيَّنَةً فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ وَقَدْ يُعَلَّلُ بِأَنَّ مَسْحَهَا قَبْلَ ذَلِكَ فِيهِ زِيَادَةُ تَلْوِيثٍ لِمَا يُمْسَحُ بِهِ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالرِّيقِ، لَكِنْ إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ بِالتَّعْلِيلِ لَمْ يُعْدَلْ عَنْهُ.
قُلْتُ: الْحَدِيثُ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي آخِرِ حَدِيثِ جَابِرٍ وَلَفْظُهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ مَا أَصَابَهَا مِنْ أَذًى وَلْيَأْكُلْهَا، وَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ زَادَ فِيهِ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَا يَرْفَعُ الصَّحْفَةَ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ بِلَفْظِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ يُبَارَكُ لَهُ وَلِمُسْلِمٍ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، وَالْعِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ لَا تَمْنَعُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ، فَقَدْ يَكُونُ لِلْحُكْمِ عِلَّتَانِ فَأَكْثَرُ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى وَاحِدَةٍ لَا يَنْفِي غَيْرَهَا، وَقَدْ أَبْدَى عِيَاضٌ عِلَّةً أُخْرَى فَقَالَ: إِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ لِئَلَّا يُتَهَاوَنَ بِقَلِيلِ الطَّعَامِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ: أَنَّ الطَّعَامَ الَّذِي يَحْضُرُ الْإِنْسَانَ فِيهِ بَرَكَةٌ لَا يَدْرِي أَنَّ تِلْكَ الْبَرَكَةَ فِيمَا أَكَلَ أَوْ فِيمَا بَقِيَ عَلَى أَصَابِعِهِ أَوْ فِيمَا بَقِيَ فِي أَسْفَلِ الْقَصْعَةِ أَوْ فِي اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافَظَ عَلَى هَذَا كُلِّهِ لِتَحْصِيلِ الْبَرَكَةِ اهـ.
وَقَدْ وَقَعَ لِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ أَوَّلَ الْحَدِيثِ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ، حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمُ اللُّقْمَةَ فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى ثُمَّ لِيَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ وَلَهُ نَحْوُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَزَادَ وَأَمَرَ بِأَنْ تُسْلَتَ الْقَصْعَةُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: السَّلْتُ تَتَبُّعُ مَا بَقِيَ فِيهَا مِنَ الطَّعَامِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالْبَرَكَةِ مَا تَحْصُلُ بِهِ التَّغْذِيَةُ وَتَسْلَمُ عَاقِبَتُهُ مِنَ الْأَذَى وَيُقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ. وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَنْ كَرِهَ لَعْقِ الْأَصَابِعِ اسْتِقْذَارًا، نَعَمْ يَحْصُلُ ذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ فِي أَثْنَاءِ الْأَكْلِ لِأَنَّهُ يُعِيدُ أَصَابِعَهُ فِي الطَّعَامِ وَعَلَيْهَا أَثَرُ رِيقِهِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: عَابَ قَوْمٌ أَفْسَدَ
عَقْلَهُمُ التَّرَفُّهُ فَزَعَمُوا أَنَّ لَعْقَ الْأَصَابِعِ مُسْتَقْبَحٌ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الطَّعَامَ الَّذِي عَلِقَ بِالْأَصَابِعِ أَوِ الصَّحْفَةِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ مَا أَكَلُوهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ سَائِرُ أَجْزَائِهِ مُسْتَقْذَرًا لَمْ يَكُنِ الْجُزْءُ الْيَسِيرُ مِنْهُ مُسْتَقْذَرًا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَكْبَرُ مِنْ مَصِّهِ أَصَابِعَهَ بِبَاطِنِ شَفَتَيْهِ. وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي أَنْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، فَقَدْ يُمَضْمِضُ الْإِنْسَانُ فَيُدْخِلُ إِصْبَعَهُ فِي فِيهِ فَيُدَلِّكُ أَسْنَانَهُ وَبَاطِنَ فَمِهِ ثُمَّ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّ ذَلِكَ قَذَارَةٌ أَوْ سُوءُ أَدَبٍ.
وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ مَسْحِ الْيَدِ بَعْدَ الطَّعَامِ، قَالَ عِيَاضٌ: مَحِلُّهُ فِيمَا لَمْ يَحْتَجْ فِيهِ إِلَى الْغَسْلِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ غَمْرٌ وَلُزُوجَةٌ مِمَّا لَا يُذْهِبُهُ إِلَّا الْغَسْلُ، لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي غَسْلِهِ وَالْحَذَرِ مِنْ تَرْكِهِ. كَذَا قَالَ. وَحَدِيثُ الْبَابِ يَقْتَضِي مَنْعَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ بِغَيْرِ لَعْقٍ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْأَمْرِ بِاللَّعْقِ دُونَهُمَا تَحْصِيلًا لِلْبَرَكَةِ، نَعَمْ قَدْ يَتَعَيَّنُ النَّدْبُ إِلَى الْغَسْلِ بَعْدَ اللَّعْقِ لِإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ غَمْرٌ وَلَمْ يَغْسِلْهُ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَ إِلَّا نَفْسَهُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ دُونَ قَوْلِهِ وَلَمْ يَغْسِلْهُ وَفِيهِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى عَدَمِ إِهْمَالِ شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ كَالْمَأْكُولِ أَوِ الْمَشْرُوبِ وَإِنْ كَانَ تَافِهًا حَقِيرًا فِي الْعُرْفِ.
تَكْمِلَةٌ:
وَقَعَ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ صِفَةُ لَعْقِ الْأَصَابِعِ وَلَفْظُهُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ: بِالْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا وَالْوُسْطَى، ثُمَّ رَأَيْتُهُ يَلْعَقُ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا: الْوُسْطَى، ثُمَّ الَّتِي تَلِيهَا، ثُمَّ الْإِبْهَامُ قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْح التِّرْمِذِيِّ كَأَنَّ السِّرَّ فِيهِ أَنَّ الْوُسْطَى أَكْثَرُ تَلْوِيثًا لِأَنَّهَا أَطْوَلُ فَيَبْقَى فِيهَا مِنَ الطَّعَامِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّهَا لِطُولِهَا أَوَّلُ مَا تَنْزِلُ فِي الطَّعَامِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الَّذِي يَلْعَقُ يَكُونُ بَطْنُ كَفِّهِ إِلَى جِهَةِ وَجْهِهِ، فَإِذَا ابْتَدَأَ بِالْوُسْطَى انْتَقَلَ إِلَى السَّبَّابَةِ عَلَى جِهَةِ يَمِينِهِ وَكَذَلِكَ الْإِبْهَامُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
53 - بَاب الْمِنْدِيلِ
5457 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ، فَقَالَ: لَا، قَدْ كُنَّا زَمَانَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا نَجِدُ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ الطَّعَامِ إِلَّا قَلِيلًا، فَإِذَا نَحْنُ وَجَدْنَاهُ لَمْ يَكُنْ لَنَا مَنَادِيلُ إِلَّا أَكُفَّنَا وَسَوَاعِدَنَا وَأَقْدَامَنَا، ثُمَّ نُصَلِّي وَلَا نَتَوَضَّأُ.
قَوْلُهُ (بَابُ الْمِنْدِيلِ) تَرْجَمَ لَهُ ابْنُ مَاجَهْ مَسْحُ الْيَدِ بِالْمِنْدِيلِ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ) أَيِ ابْنُ سُلَيْمَانَ الْمَدَنِيُّ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ) أَيِ ابْنِ أبي الْمُعَلَّى الْأَنْصَارِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدٍ، فَجَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي يَحْيَى هُوَ ابْنُ فُلَيْحٍ لِأَنَّ فُلَيْحًا يُكَنَّى أَبَا يَحْيَى وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَحْيَى الْأَسْلَمِيُّ وَالِدُ إِبْرَاهِيمَ شَيْخِ الشَّافِعِيِّ، وَاسْمُ أَبِي يَحْيَى، سَمْعَانُ، وَكَأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى ذَلِكَ كَوْنُ ابْنِ وَهْبٍ يَرْوِي عَنْ فُلَيْحٍ نَفْسِهِ فَاسْتَبْعَدَ قَائِلُ ذَلِكَ أَنْ يُرْوَى عَنِ ابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ فُلَيْحٍ عَنْهُ، وَلَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ. وَالَّذِي تَرَجَّحَ عِنْدِي الْأَوَّلُ فَإِنَّ لَفْظَهُمَا وَاحِدٌ.
قَوْلُهُ (سَأَلَهُ عَنِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ فُلَيْحٍ، عَنْ سَعِيدٍ قُلْتُ لِجَابِرٍ: هَلْ عَلَيَّ فِيمَا مَسَّتِ النَّارُ وُضُوءٌ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُ الْمَسْحِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَحُكْمُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ
النَّارُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ.
54 - بَاب مَا يَقُولُ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ
5458 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، غَيْرَ مَكْفِيٍّ، وَلَا مُوَدَّعٍ، وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ، رَبَّنَا.
[الحديث 5458 - طرفه في: 5459]
5459 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ وَقَالَ مَرَّةً إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانَا وَأَرْوَانَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مَكْفُورٍ وَقَالَ مَرَّةً الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّنَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى رَبَّنَا"
قَوْلُهُ (بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِحْبَابِ الْحَمْدِ بَعْدَ الطَّعَامِ، وَوَرَدَتْ فِي ذَلِكَ أَنْوَاعٌ، يَعْنِي لَا يَتَعَيَّنُ شَيْءٌ مِنْهَا.
قَوْلُهُ (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ هُوَ الشَّامِيُّ، وَأَوَّلُ اسْمِ أَبِيهِ يَاءٌ تَحْتَانِيَّةٌ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْإِسْنَادَ عَنْ ثَوْرٍ نَازِلًا ثُمَّ أَوْرَدَهُ عَالِيًا عَنْهُ وَمَدَارُهُ فِي أَكْثَرِ الطُّرُقِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَابَعَهُ فِي بَعْضِهِ عَامِرُ بْنُ جَشِيبٍ وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ وَزْنَ عَظِيمٍ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ طَرِيقِهِ فَقَالَ فِي سِيَاقِهِ عَنْ عَامِرٍ، عَنْ خَالِدٍ قَالَ: شَهِدْنَا صَنِيعًا - أَيْ وَلِيمَةً - فِي مَنْزِلِ عَبْدِ الْأَعْلَى وَمَعَنَا أَبُو أُمَامَةَ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَقَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ هِلَالٍ السُّلَمِيُّ.
قَوْلُهُ (إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ) قَدْ ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ بِلَفْظِ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ ثَوْرٍ بِلَفْظِ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ وَرُفِعَتْ مَائِدَتُهُ فَجَمَعَ اللَّفْظَيْنِ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ ثَوْرٍ بِلَفْظِ إِذَا رَفَعَ طَعَامَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَامِرِ بْنِ جَشِيبٍ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقُولُ عِنْدَ فَرَاغِي مِنَ الطَّعَامِ وَرَفْعِ الْمَائِدَةِ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْكُلْ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ، وَقَدْ فَسَّرُوا الْمَائِدَةَ بِأَنَّهَا خِوَانٌ عَلَيْهِ طَعَامٌ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ أَجَابَ أَنَّ أَنَسًا مَا رَأَى ذَلِكَ وَرَآهُ غَيْرُهُ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، أَوِ الْمُرَادُ بِالْخِوَانِ صِفَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَالْمَائِدَةُ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا يُوضَعُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ لِأَنَّهَا إِمَّا مِنْ مَادَ يَمِيدُ إِذَا تَحَرَّكَ أَوْ أَطْعَمَ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَدْ تُطْلَقُ الْمَائِدَةُ وَيُرَادُ بِهَا نَفْسُ الطَّعَامِ أَوْ بَقِيَّتُهُ أَوْ إِنَاؤُهُ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَكَلَ الطَّعَامَ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ رُفِعَ قِيلَ رُفِعَتِ الْمَائِدَةُ.
قَوْلُهُ (الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا) فِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ، عَنْ ثَوْرٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا.
قَوْلُهُ (غَيْرُ مَكْفِيٍّ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَفَأْتُ الْإِنَاءَ، فَالْمَعْنَى: غَيْرُ مَرْدُودٍ عَلَيْهِ إِنْعَامُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْكِفَايَةِ أَيْ إِنَّ اللَّهَ غَيْرُ مَكْفِيٍّ رِزْقَ عِبَادِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَكْفِيهِمْ أَحَدٌ غَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: أَيْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى أَحَدٍ، لَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُطْعِمُ عِبَادَهُ وَيَكْفِيهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ. وَقَالَ الْقَزَّازُ: مَعْنَاهُ أَنَا غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِي عَنْ كِفَايَتِهِ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَعْنَاهُ لَمْ أَكْتَفِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: وَقَوْلُ الْخَطَّابِيِّ أَوْلَى لِأَنَّ مَفْعُولًا بِمَعْنَى مُفْتَعَلٍ فِيهِ بُعْدٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْحَمْدِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: الضَّمِيرُ لِلطَّعَامِ، وَمَكْفِيٌّ بِمَعْنَى
مَقْلُوبٌ مِنَ الْإِكْفَاءِ وَهُوَ الْقَلْبُ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَكْفِي الْإِنَاءَ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيِّ أَنَّ الصَّوَابَ غَيْرُ مُكَافَأٍ بِالْهَمْزَةِ، أَيْ إِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُكَافَأُ. قُلْتُ: وَثَبَتَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ هَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَكِنَّ الَّذِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ غَيْرُ مَكْفِيٍّ بِالْيَاءِ، وَلِكُلٍّ مَعْنًى.
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (كَفَانَا وَأَرْوَانَا) هَذَا يُؤَيِّدُ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْكَافِي لَا الْمُكَفِّي، وَكَفَانَا هُوَ مِنَ الْكِفَايَةِ، وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الشِّبَعِ وَالرِّيِّ وَغَيْرِهِمَا، فَأَرْوَانَا عَلَى هَذَا مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ وَآوَانَا بِالْمَدِّ مِنَ الْإِيوَاءِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى وَسَوَّغَهُ وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي أُمَامَةَ وَزِيَادَةً فِي حَدِيثٍ مُطَوَّلٍ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ الْمِصْرِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَهُ رَجُلٌ خَدَمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ثَمَانَ سِنِينَ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قُرِّبَ إِلَيْهِ طَعَامُهُ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ، فَإِذَا فَرَغَ قَالَ: اللَّهُمَّ أَطْعَمْتَ وَسَقَيْتَ وَأَغْنَيْتَ وَأَقْنَيْتَ وَهَدَيْتَ وَأَحْيَيْتَ، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَعْطَيْتَ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخَرَى (وَلَا مَكْفُورٌ) أَيْ مَجْحُودٌ فَضْلُهُ وَنِعْمَتُهُ، وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي أَنَّ الضَّمِيرَ لِلَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ (وَلَا مُوَدَّعٌ) بِفَتْحِ الدَّالِ الثَّقِيلَةِ أَيْ غَيْرُ مَتْرُوكٍ، وَيُحْتَمَلُ كَسْرُهَا عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْقَائِلِ أَيْ غَيْرُ تَارِكٍ.
قَوْلُهُ (وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ) بِفَتْحِ النُّونِ وَبِالتَّنْوِينِ.
قَوْلُهُ (رَبُّنَا) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ رَبُّنَا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مُتَقَدِّمٌ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى الْمَدْحِ أَوْ الِاخْتِصَاصِ أَوْ إِضْمَارِ أَعني، قَالَ ابْنُ التِّينِ وَيَجُوزُ الْجَرُّ عَلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الضَّمِيرِ فِي عَنْهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الِاسْمِ فِي قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رَبَّنَا بِالنَّصْبِ عَلَى النِّدَاءِ مَعَ حَذْفِ أَدَاةِ النِّدَاءِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: بِحَسَبِ رَفْعِ غَيْرِ أَيْ وَنَصْبِهِ وَرَفْعِ رَبِّنَا وَنَصْبِهِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ يُكْثِرُ التَّوْجِيهَاتِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
55 - بَاب الْأَكْلِ مَعَ الْخَادِمِ
5460 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ، أَوْ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَعِلَاجَهُ.
قَوْلُهُ (بَابُ الْأَكْلِ مَعَ الْخَادِمِ) أَيْ عَلَى قَصْدِ التَّوَاضُعِ، وَالْخَادِمُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَقِيقًا أَوْ حُرًّا، مَحِلُّهُ فِيمَا إِذَا كَانَ السَّيِّدُ رَجُلًا أَنْ يَكُونَ الْخَادِمُ إِذَا كَانَ أُنْثَى مِلْكَهُ أَوْ مَحْرَمَهُ أَوْ مَا فِي حُكْمِهِ وَبِالْعَكْسِ.
قَوْلُهُ (مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ) هُوَ الْجُمَحِيُّ.
قَوْلُهُ (إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ) بِالنَّصْبِ (خَادِمُهُ) بِالرَّفْعِ.
قَوْلُهُ (فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَلْيُقْعِدْهُ مَعَهُ فَلْيَأْكُلْ وَفِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلِيِّ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ فَلْيُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، عَنْ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَادْعُهُ فَإِنْ أَبَى فَأَطْعِمْهُ مِنْهُ وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلْيَدْعُهُ فَلْيَأْكُلْ مَعَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَفَاعِلُ أَبَى وَكَذَا إِنْ لَمْ يَفْعَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السَّيِّدَ، وَالْمَعْنَى إِذَا تَرَفَّعَ عَنْ مُؤَاكَلَةِ غُلَامِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَادِمَ إِذَا تَوَاضَعَ عَنْ مُؤَاكَلَةِ سَيِّدِهِ، وَيُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ أُمِرْنَا أَنْ نَدْعُوَهُ، فَإِنْ كَرِهَ أَحَدُنَا
أَنْ يَطْعَمَ مَعَهُ فَلْيُطْعِمْهُ فِي يَدِهِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
قَوْلُهُ (فَلْيُنَاوِلْهُ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيِ اللُّقْمَةِ، وَأَوْ لِلتَّقْسِيمِ بِحَسَبِ حَالِ الطَّعَامِ وَحَالِ الْخَادِمِ، وَقَوْلُهُ أَوْ لُقْمَةٌ أَوْ لُقْمَتَيْنِ هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ لُقْمَةٍ فَقَطْ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ الطَّعَامُ قَلِيلًا وَلَفْظُهُ فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مَشْفُوهًا قَلِيلًا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ يَعْنِي قَلِيلًا فَلْيَضَعْ فِي يَدِهِ مِنْهُ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: يَعْنِي لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الطَّعَامَ إِذَا كَانَ كَثِيرًا فَإِمَّا أَنْ يُقْعِدَهُ مَعَهُ وَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَ حَظَّهُ مِنْهُ كَثِيرًا.
قَوْلُهُ (فَإِنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ) أَيْ عِنْدَ الطَّبْخِ (وَعِلَاجَهُ) أَيْ عِنْدَ تَحْصِيلِ آلَاتِهِ، وَقَبْلَ وَضْعِ الْقِدْرِ عَلَى النَّارِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ فِي مَعْنَى الطَّبَّاخِ حَامِلَ الطَّعَامِ لِوُجُودِ الْمَعْنَى فِيهِ وَهُوَ تَعَلُّقُ نَفْسِهِ بِهِ، بَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ الِاسْتِحْبَابُ فِي مُطْلَقِ خَدَمِ الْمَرْءِ مِمَّنْ يُعَانِي ذَلِكَ، وَإِلَى ذَلِكَ يُومِئُ إِطْلَاقُ التَّرْجَمَةِ، وَفِي هَذَا تَعْلِيلُ الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ لِلْعَيْنِ حَظًّا فِي الْمَأْكُولِ فَيَنْبَغِي صَرْفُهَا بِإِطْعَامِ صَاحِبِهَا مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ لِتَسْكُنَ نَفْسُهُ فَيَكُونُ أَكَفَ لِشَرِّهِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: هَذَا الْحَدِيثُ يُفَسِّرُ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ فِي الْأَمْرِ بِالتَّسْوِيَةِ مَعَ الْخَادِمِ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الْخِيَارَ إِلَى السَّيِّدِ فِي إِجْلَاسِ الْخَادِمِ مَعَهُ وَتَرْكِهِ. قُلْتُ: وَلَيْسَ فِي الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَطْعَمُونَ إِلْزَامٌ بِمُؤَاكَلَةِ الْخَادِمِ، بَلْ فِيهِ أَنْ لَا يَسْتَأْثِرَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ بَلْ يُشْرِكَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لَكِنْ بِحَسَبِ مَا يَدْفَعُ بِهِ شَرَّ عَيْنِهِ.
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْوَاجِبَ إِطْعَامُ الْخَادِمِ مِنْ غَالِبِ الْقُوتِ الَّذِي يَأْكُلُ مِنْهُ مِثْلَهُ فِي تِلْكَ الْبَلَدِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْأُدْمِ وَالْكِسْوَةِ، وَأَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِالنَّفِيسِ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يُشْرِكَ مَعَهُ الْخَادِمَ فِي ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاخْتَلَفَ حُكْمُ هَذَا الْأَمْرِ بِالْإِجْلَاسِ أَوِ الْمُنَاوَلَةِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْحَدِيثَ: هَذَا عِنْدَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَوَّلُهُمَا بِمَعْنَاهُ أَنَّ إِجْلَاسَهُ مَعَهُ أَفْضَلُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، أَوْ يَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُجْلِسَهُ أَوْ يُنَاوِلَهُ، وَقَدْ يَكُونُ أَمْرُهُ اخْتِيَارًا غَيْرَ حَتْمٍ اهـ. وَرَجَّحَ الرَّافِعِيُّ الِاحْتِمَالَ الْأَخِيرَ، وَحَمَلَ الْأَوَّلَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْإِجْلَاسَ لَا يَتَعَيَّنُ، لَكِنْ إِنْ فَعَلَهُ كَانَ أَفْضَلَ وَإِلَّا تَعَيَّنَتِ الْمُنَاوَلَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدَبِ مُطْلَقًا.
تَنْبِيهٌ:
فِي قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَإِنْ كَانَ الطَّعَامَ مَشْفُوهًا بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ فَسَّرَهُ بِالْقَلِيلِ، وَأَصْلُهُ الْمَاءُ الَّذِي تَكْثُرُ عَلَيْهِ الشِّفَاهُ حَتَّى يَقِلَّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَحِلَّ الْإِجْلَاسِ أَوِ الْمُنَاوَلَةِ مَا إِذَا كَانَ الطَّعَامُ قَلِيلًا وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَثِيرًا وَسِعَ السَّيِّدَ وَالْخَادِمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَمْرِ بِذَلِكَ أَنْ تَسْكُنَ نَفْسُ الْخَادِمِ بِذَلِكَ، وَهُوَ حَاصِلٌ مَعَ الْكَثْرَةِ دُونَ الْقِلَّةِ، فَإِنَّ الْقِلَّةَ مَظِنَّةُ أَنْ لَا يَفْضُلَ مِنْهُ شَيْءٌ. وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ فَإِنْ كَانَ مَشْفُوهًا أَنَّ الْأَمْرَ الْوَارِدَ لِمَنْ طَبَخَ بِتَكْثِيرِ الْمَرَقِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
56 - بَاب: الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ مِثْلُ الصَّائِمِ الصَّابِرِ. فِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قَوْلُهُ (بَابُ الطَّاعِمِ الشَّاكِرِ مِثْلُ الصَّائِمِ الصَّابِرِ. فِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُعَلَّقَةِ الَّتِي لَمْ تَقَعْ فِي هَذَا الْكِتَابِ مَوْصُولَةً، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّارِيخِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُرَّةَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ عَنْ عَمِّهِ حَكِيمِ بْنِ أَبِي حُرَّةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَغَرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ إِنَّ لِلطَّاعِمِ الشَّاكِرِ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَا لِلصَّائِمِ الصَّابِرِ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مُحَمَّدٍ فَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْهُ عَنْ عَمِّهِ حَكِيمٍ، عَنْ سِنَانِ بْنِ سَنَةَ الْأَسْلَمِيِّ وَقِيلَ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ،
عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمِّهِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ، لَكِنْ صَرَّحَ الدَّرَاوَرْدِيُّ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُرَّةَ أَخْبَرَهُ، فَلَعَلَّهُ كَانَ حَمَلَهُ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْهُ ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْهُ، وَقَدْ رَجَّحَ أَبُو زُرْعَةَ رِوَايَةَ الدَّرَاوَرْدِيِّ هَذِهِ.
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ مِنْ رِوَايَةِ وُهَيْبٍ، عَنْ مُوسَى بْنَ عُقْبَةَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ أَبِي حُرَّةَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْنٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَحَنْظَلَةُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَسْلَمِيُّ بِالْبَقِيعِ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَحَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ بِهِ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مَعْنَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَمَلَهُ عَنْ سَعِيدٍ ثُمَّ حَمَلَهُ عَنْ حَنْظَلَةَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ بِهِ لَكِنْ في هَذِهِ الرِّوَايَةُ انْقِطَاعٌ خَفِيَ عَلَى ابْنِ حِبَّانَ فَقَدْ رُوِّينَاهُ فِي مُسْنَدِ مُسَدَّدٍ عَنْ مُعْتَمِرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي جَامِعِهِ عَنْ مَعْمَرٍ، وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ مَعْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيُّ فِيمَا أَظُنُّ لِاشْتِهَارِ الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَالَ ابْنُ التِّينِ: الطَّاعِمُ هُوَ الْحَسَنُ الْحَالِ فِي الْمَطْعَمِ وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا مِنْ تَفَضُّلِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ جَعَلَ لِلطَّاعِمِ إِذَا شَكَرَ رَبَّهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ ثَوَابَ الصَّائِمِ الصَّابِرِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: التَّشْبِيهُ هُنَا فِي أَصْلِ الثَّوَابِ لَا فِي الْكَمِّيَّةِ وَلَا الْكَيْفِيَّةِ، وَالتَّشْبِيهُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْمُمَاثَلَةَ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْجُهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: رُبَّمَا تَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ ثَوَابَ الشُّكْرِ يَقْصُرُ عَنْ ثَوَابَ الصَّبْرِ فَأُزِيلُ تَوَهُّمُهُ، أَوْ وَجْهُ الشَّبَهِ اشْتِرَاكُهُمَا فِي حَبْسِ النَّفْسِ، فَالصَّابِرُ يَحْبِسُ نَفْسَهُ عَلَى طَاعَةِ الْمُنْعِمِ وَالشَّاكِرُ يَحْبِسُ نَفْسَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ اهـ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى شُكْرِ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ نِعَمِهِ إِذْ لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْأَكْلِ. وَفِيهِ رُفِعَ الِاخْتِلَافُ الْمَشْهُورُ فِي الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ وَالْفَقِيرِ الصَّابِرِ وَأَنَّهُمَا سَوَاءٌ، كَذَا قِيلَ، وَمَسَاقُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي تَفْضِيلَ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ أَعْلَى دَرَجَةً مِنَ الْمُشَبَّهِ، وَالتَّحْقِيقُ عِنْدَ أَهْلِ الْحِذْقِ أَنْ لَا يُجَابَ فِي ذَلِكَ بِجَوَابٍ كُلِّيٍّ، بَلْ يَخْتَلِفُ الْحَالُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ. نَعَمْ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَفَرْضُ رَفْعِ الْعَوَارِضِ بِأَسْرِهَا، فَالْفَقِيرُ أَسْلَمُ عَاقِبَةً فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْدَلَ بِالسَّلَامَةِ شَيْءٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَكُونُ لَنَا عَوْدَةٌ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا فِي أَوَاخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ قُبَيْلَ كِتَابِ الْجُمُعَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى.
57 - بَاب الرَّجُلِ يُدْعَى إِلَى طَعَامٍ فَيَقُولُ: وَهَذَا مَعِي
وَقَالَ أَنَسٌ: إِذَا دَخَلْتَ عَلَى مُسْلِمٍ لَا يُتَّهَمُ فَكُلْ مِنْ طَعَامِهِ، وَاشْرَبْ مِنْ شَرَابِهِ
5461 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا شَقِيقٌ، حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُكْنَى أَبَا شُعَيْبٍ، وَكَانَ لَهُ غُلَامٌ لَحَّامٌ، أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ، فَعَرَفَ الْجُوعَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَهَبَ إِلَى غُلَامِهِ اللَّحَّامِ فَقَالَ: اصْنَعْ لِي طَعَيمًا يَكْفِي خَمْسَةً لَعَلِّي أَدْعُو النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَصَنَعَ لَهُ طُعَيِّمًا، ثُمَّ أَتَاهُ فَدَعَاهُ، فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا شُعَيْبٍ، إِنَّ رَجُلًا، تَبِعَنَا، فَإِنْ شِئْتَ أَذِنْتَ لَهُ، وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْتَهُ. قَالَ: لَا، بَلْ أَذِنْتُ لَهُ.
قَوْلُهُ (بَابُ الرَّجُلِ يُدْعَى إِلَى طَعَامٍ فَيَقُولُ: وَهَذَا مَعِي) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي مَسْعُودٍ فِي قِصَّةِ الْغُلَامِ اللَّحَّامِ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى قَبْلَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ بَابًا، وَاعْتَرَضَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: تَرْجَمَ الْبَابَ بِالطَّاعِمِ الشَّاكِرِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ شَيْئًا وَقَالَ وَهَذَا مَعِي ثُمَّ نَازَعَهُ فِي أَنَّ الْقِصَّةَ لَيْسَ فِيهَا مَا ذَكَرَ، وَأَنَّ الرَّجُلَ تَبِعَهُمْ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.
قُلْتُ: أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ سَقَطَ مِنْ رِوَايَتِهِ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَمَّا الثَّانِي فَأَشَارَ بِهِ الْبُخَارِيُّ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْخَيَّاطِ الَّذِي دَعَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ وَهَذِهِ يَعْنِي عَائِشَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى، وَإِنَّمَا عَدَلَ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِيرَادِ حَدِيثَ أَنَسٍ هُنَا إِلَى حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ إِشَارَةً مِنْهَا إِلَى تَغَايُرِ الْقِصَّتَيْنِ وَاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ أَنَسٌ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى مُسْلِمٍ لَا يُتَّهَمُ فَكُلْ مِنْ طَعَامِهِ وَاشْرَبْ مِنْ شَرَابِهِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عُمَيْرٍ الْأَنْصَارِيِّ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ مِثْلَهُ لَكِنْ قَالَ عَلَى رَجُلٍ لَا تَتَّهِمُهُ وَجَاءَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَأَطْعَمَهُ طَعَامًا فَلْيَأْكُلْ مِنْ طَعَامِهِ وَلَا يَسْأَلْهُ عَنْهُ. قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ. قُلْتُ: وَفِيهِ مَقَالٌ لَكِنْ أَخْرَجَ لَهُ الْحَاكِمُ شَاهِدٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً بِنَحْوِهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَوْقُوفًا، وَمُطَابَقَةُ الْأَثَرِ لِلْحَدِيثِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ اللَّحَّامِ لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا، وَأَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَعَامِهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُ، وَعَلَى هَذَا الْقَيْدِ يُحْمَلُ مُطْلَقُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
58 - بَاب إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ فَلَا يَعْجَلْ عَنْ عَشَائِهِ
5462 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ أَبَاهُ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فِي يَدِهِ، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَلْقَاهَا وَالسِّكِّينَ الَّتِي كَانَ يَحْتَزُّ بِهَا، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
5463 -
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ.
وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.
5464 -
وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ تَعَشَّى مَرَّةً وَهُوَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ.
5465 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَحَضَرَ الْعَشَاءُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ"
قَالَ وُهَيْبٌ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامٍ إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ"
قَوْلُهُ (بَابُ إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ فَلَا يَعْجَلْ عَنْ عَشَائِهِ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ الْعِشَاءُ فِي التَّرْجَمَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ضِدُّ الْغَدَاءِ وَهُوَ بِالْفَتْحِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَهِيَ بِالْكَسْرِ وَلَفْظُ عَنْ عَشَائِهِ بِالْفَتْحِ لَا غَيْرَ. قُلْتُ:
الرِّوَايَةُ عِنْدَنَا بِالْفَتْحِ، وَإِنَّمَا فِي التَّرْجَمَةِ عُدُولٌ عَنِ الْمُضْمَرِ إِلَى الْمُظْهَرِ لِمَعْنًى قَصَدَهُ، وَيُبْعِدُ الْكَسْرَ أَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ تَسْمِيَتِهَا عِشَاءً، وَلَفْظُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَقَعَ مَعْنَاهُ فِي حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّلَاةِ فِي أَوَائِلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ إِذَا قُدِّمَ الْعَشَاءُ فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، وَلَا تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ وَأَوْرَدَهُ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ وَلَا يَعْجَلْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ) أَيِ ابْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) وَصَلَهُ الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ، عَنْ يُونُسَ.
قَوْلُهُ (فَأَلْقَاهَا) أَيِ الْقِطْعَةَ اللَّحْمَ الَّتِي كَانَ احْتَزَّهَا، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الضَّمِيرُ لِلْكَتِفِ، وَأَنَّثَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ اكْتَسَبَ التَّأْنِيثَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَوْ هُوَ مُؤَنَّثٌ سَمَاعِيٌّ، قَالَ: وَدَلَالَتُهُ عَلَى التَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِنِ اشْتِغَالِهِ صلى الله عليه وسلم بِالْأَكْلِ وَقْتَ الصَّلَاةِ. قُلْتُ: وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ بِتَقْدِيمِ هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ بِتَرْكِ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الصَّلَاةِ قَبْلَ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ.
قَوْلُهُ (وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوُهُ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى السَّنَدِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ وُهَيْبٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَكَذَا أَثَرُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ تَعَشَّى مَرَّةً وَهُوَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ أَسَدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ الثَّانِي وَلَفْظُهُ إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَ أَثَرَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ وَلَفْظُهُ قَالَ فَتَعَشَّى ابْنُ عُمَرَ لَيْلَةً وَهُوَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ.
قَوْلُهُ فِي الطَّرَيقِ الْأُخْرَى فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ (قَالَ وُهَيْبٌ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامٍ) يَعْنِي ابْنَ عُرْوَةَ (إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ) يَعْنِي أَنَّ هَذَيْنِ رَوَيَاهُ عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ إِذَا وُضِعَ بَدَلَ إِذَا حَضَرَ وَهِيَ الَّتِي وَصَلَهَا فِي الْبَابِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ هِشَامٍ، فَأَمَّا رِوَايَةُ وُهَيْبٍ فَوَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ حِسَانَ، وَمُعَلَّى بْنِ أَسَدٍ قَالَا حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ بِهِ وَلَفْظُهُ إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ وَأَمَّا رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ الْقَطَّانُ فَوَصَلَهَا أَحْمَدُ عَنْهُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَيْضًا، وَقَدْ أَخْرَجَهَا الْمُصَنِّفُ بِلَفْظِ إِذَا حَضَرَ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وُضِعَ وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِلَفْظِ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَقُرِّبَ الْعَشَاءُ فَكُلُوا ثُمَّ صَلُّوا وَذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِ هِشَامٍ رَوَوْهُ عَنْهُ بِلَفْظِ إِذَا وُضِعَ وَأَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ إِذَا حَضَرَ وَجَاءَ عَنْ شُعْبَةَ وُضِعَ وَحَضَرَ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ إِذَا قُدِّمَ. قُلْتُ: قُدِّمَ وَقُرِّبَ وَوُضِعَ مُتَقَارِبَاتُ الْمَعْنَى، فَيُحْمَلُ حَضَرَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا فِي الْأَصْلِ أَعَمَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
59 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا}
5466 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ أَنَسًا قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْحِجَابِ، كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَسْأَلُنِي عَنْهُ، أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرُوسًا بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَكَانَ تَزَوَّجَهَا بِالْمَدِينَةِ، فَدَعَا النَّاسَ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ وَجَلَسَ مَعَهُ رِجَالٌ بَعْدَ مَا قَامَ الْقَوْمُ، حَتَّى قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَشَى وَمَشَيْتُ مَعَهُ، حَتَّى بَلَغَ بَابَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، ثُمَّ
ظَنَّ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فَرَجَعْتُ مَعَهُ فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ مَكَانَهُمْ فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ بَابَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ فَإِذَا هُمْ قَدْ قَامُوا فَضَرَبَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سِتْرًا وَأُنْزِلَ الْحِجَابُ"
قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَالْبِنَاءُ عَلَيْهَا وَنُزُولُ آيَةِ الْحِجَابِ وَقَوْلُهُ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرُوسًا بِزَيْنَبَ الْعَرُوسُ نَعْتٌ يَسْتَوِي فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْعُرْسُ مُدَّةُ بِنَاءِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ وَأَصْلُهُ اللُّزُومُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي الْأَمْرِ بِالِانْتِشَارِ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي أَوَّلِ الْبَيْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} وَأَمَّا الِانْتِشَارُ هُنَا بَعْدَ الْأَكْلِ فَالْمُرَادُ بِهِ التَّوَجُّهُ عَنْ مَكَانِ الطَّعَامِ لِلتَّخْفِيفِ عَنْ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ كما هُوَ مُقْتَضَى الْآيَةِ، وَقَدْ مَرَّ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ.
خَاتِمَةٌ:
اشْتَمَلَ كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى مِائَةِ حَدِيثٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ طَرِيقًا وَالْبَاقِي مَوْصُولٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهُ فِيهِ وَفِيمَا مَضَى تِسْعُونَ حَدِيثًا وَالْخَالِصُ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي اسْتِقْرَائِهِ عُمَرَ الْآيَةَ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ مَا رَأَى شَاةً سَمِيطًا، وَحَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ لَا آكُلُ مُتَّكِئًا، وَحَدِيثِ سَهْلٍ مَا رَأَى النَّقِيَّ، وَحَدِيثِ جَابِرٍ فِي وَفَاءِ دَيْنِهِ لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهَا قِصَّةٌ لَهُ غَيْرُ قِصَّتِهِ فِي وَفَاءِ دَيْنِ أَبِيهِ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ إِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ وَالصَّلَاةُ، وَحَدِيثِ جَابِرٍ فِي الْمَنَادِيلِ، وَحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ فِي الدُّعَاءِ بَعْدَ الْأَكْلِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الطَّاعِمِ الشَّاكِرِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ سِتَّةُ آثَارٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
71 - كتاب الْعَقِيقَةِ
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم - كِتَابُ الْعَقِيقَةِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُذْبَحُ عَنِ الْمَوْلُودِ. وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهَا، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَالْأَصْمَعِيُّ: أَصْلُهَا الشَّعْرُ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَى رَأْسِ الْمَوْلُودِ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَسُمِّيَتِ الشَّاةُ الَّتِي تُذْبَحُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ عَقِيقَةً لِأَنَّهُ يُحْلَقُ عَنْهُ ذَلِكَ الشَّعْرِ عِنْدَ الذَّبْحِ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَقِّ وَهُوَ الشَّقُّ وَالْقَطْعُ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَطَائِفَةٌ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْعَقِيقَةُ اسْمُ الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ عَنِ الْوَلَدِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُعَقُّ مَذَابِحُهَا أَيْ تُشَقُّ وَتَقْطَعُ. قَالَ: وَقِيلَ هِيَ الشَّعْرُ الَّذِي يُحْلَقُ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الشَّاةُ الَّتِي تُذْبَحُ وَالشَّعْرُ كُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى عَقِيقَةً، يُقَالُ عَقَّ يَعُقُّ إِذَا حَلَقَ عَنِ ابْنِهِ عَقِيقَتَهُ وَذَبَحَ لِلْمَسَاكِينِ شَاةً.
وَقَالَ الْقَزَّازُ: أَصْلُ الْعَقِّ الشَّقُّ، فَكَأَنَّهَا قِيلَ لَهَا عَقِيقَةٌ بِمَعْنَى مَعْقُوقَةٍ، وَسُمِّيَ شَعْرُ الْمَوْلُودِ عَقِيقَةً بِاسْمِ مَا يَعُقُّ عَنْهُ، وَقِيلَ بِاسْمِ الْمَكَانِ الَّذِي انْعَقَّ عَنْهُ فِيهِ، وَكُلُّ مَوْلُودٍ مِنَ الْبَهَائِمِ فَشَعْرُهُ عَقِيقَةٌ، فَإِذَا سَقَطَ وَبَرُ الْبَعِيرِ ذَهَبَ عَقُّهُ. وَيُقَالُ: أَعَقَتِ الْحَامِلُ نَبَتَتْ عَقِيقَةُ وَلَدِهَا فِي بَطْنِهَا. قُلْتُ: وَمِمَّا وَرَدَ فِي تَسْمِيَةِ الشَّاةِ عَقِيقَةً مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ لِلْغُلَامِ عَقِيقَتَانِ وَلِلْجَارِيَةِ عَقِيقَةٌ وَقَالَ: لَا نَعْلَمُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ اهـ. وَوَقَعَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ.
1 - بَاب تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ غَدَاةَ يُولَدُ لِمَنْ لَمْ يَعُقَّ عَنْهُ، وَتَحْنِيكِهِ
5467 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي بُرَيْدٌ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: وُلِدَ لِي غُلَامٌ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ، فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَدَفَعَهُ إِلَيَّ. وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَبِي مُوسَى.
[الحديث 5467 - طرفه في: 6198]
5468 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِصَبِيٍّ يُحَنِّكُهُ فَبَالَ عَلَيْهِ فَأَتْبَعَهُ الْمَاءَ"
5469 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ قَالَتْ فَخَرَجْتُ وَأَنَا مُتِمٌّ فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَنَزَلْتُ قُبَاءً فَوَلَدْتُ بِقُبَاءٍ ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعْتُهُ فِي حَجْرِهِ ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ حَنَّكَهُ بِالتَّمْرَةِ ثُمَّ دَعَا لَهُ فَبَرَّكَ عَلَيْهِ وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الإِسْلَامِ فَفَرِحُوا بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا لِأَنَّهُمْ قِيلَ لَهُمْ إِنَّ الْيَهُودَ قَدْ سَحَرَتْكُمْ فَلَا يُولَدُ لَكُمْ"
5470 -
حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ كَانَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ يَشْتَكِي فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ فَقُبِضَ الصَّبِيُّ فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ مَا فَعَلَ ابْنِي قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ هُوَ أَسْكَنُ مَا كَانَ فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ وَارُوا الصَّبِيَّ فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ أَعْرَسْتُمْ اللَّيْلَةَ قَالَ نَعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا فَوَلَدَتْ غُلَامًا قَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ احْفَظْهُ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَرْسَلَتْ مَعَهُ بِتَمَرَاتٍ فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَمَعَهُ شَيْءٌ قَالُوا نَعَمْ تَمَرَاتٌ فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَمَضَغَهَا ثُمَّ أَخَذَ مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا فِي فِي الصَّبِيِّ وَحَنَّكَهُ بِهِ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسٍ وَسَاقَ الْحَدِيثَ"
قَوْلُهُ (بَابُ تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ غَدَاةَ يُولَدُ لِمَنْ لَمْ يَعُقَّ عَنْهُ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَسَقَطَ لَفْظَةُ عَنْ لِلْجُمْهُورِ، وَلِلنَّسَفِيِّ وَإِنْ لَمْ يَعُقَّ عَنْهُ بَدَلَ لِمَنْ لَمْ يَعُقَّ عَنْهُ وَرِوَايَةُ الْفَرَبْرِيِّ أَوْلَى لِأَنَّ قَضِيَّةَ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ تُعَيِّنُ التَّسْمِيَةَ غَدَاةَ الْوِلَادَةِ سَوَاءٌ حَصَلَتِ الْعَقِيقَةُ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْلُودِ أَمْ لَا، وَهَذَا يُعَارِضُهُ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي التَّسْمِيَةِ يَوْمَ السَّابِعِ كَمَا
سَأَذْكُرُهَا قَرِيبًا.
وَقَضِيَّةُ رِوَايَةِ الْفَرَبْرِيِّ أَنَّ مَنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَعُقَّ عَنْهُ لَا يُؤَخِّرُ تَسْمِيَتَهُ إِلَى السَّابِعِ كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مُوسَى، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَكَذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ عُقَّ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَمَنْ أُرِيدَ أَنْ يُعَقَّ عَنْهُ تُؤَخَّرُ تَسْمِيَتُهُ إِلَى السَّابِعِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى، وَهُوَ جَمْعٌ لَطِيفٌ لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِ الْبُخَارِيِّ.
قَوْلُهُ (وَتَحْنِيكُهُ) أَيْ غَدَاةَ يُولَدُ، وَكَأَنَّهُ قَيَّدَ بِالْغَدَاةِ اتِّبَاعًا لِلَفْظِ الْخَبَرِ. وَالْغَدَاةُ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا مُطْلَقُ الْوَقْتِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَإِنَّمَا اتَّفَقَ تَأْخِيرُ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ الْوَاقِعِ، فَلَوِ اتَّفَقَ أَنَّهَا تَلِدُ نِصْفَ النَّهَارِ مَثَلًا فَوَقْتُ التَّحْنِيكِ وَالتَّسْمِيَةِ بَعْدَ الْغَدَاةِ قَطْعًا. وَالتَّحْنِيكُ مَضْغُ الشَّيْءِ وَوَضْعُهُ فِي فَمِ الصَّبِيِّ وَدَلْكُ حَنَكِهِ بِهِ، يُصْنَعُ ذَلِكَ بِالصَّبِيِّ لِيَتَمَرَّنَّ عَلَى الْأَكْلِ وَيَقْوَى عَلَيْهِ. وَيَنْبَغِي عِنْدَ التَّحْنِيكِ أَنْ يَفْتَحَ فَاهُ حَتَّى يَنْزِلَ جَوْفَهُ، وَأَوْلَاهُ التَّمْرُ فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ تَمْرٌ فَرُطَبٌ، وَإِلَّا فَشَيْءٌ حُلْوٌ، وَعَسَلُ النَّحْلِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ مَا لَمْ تَمَسَّهُ نَارٌ كَمَا فِي نَظِيرِهِ مِمَّا يُفْطِرُ الصَّائِمُ عَلَيْهِ. وَيُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَعُقَّ عَنْهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْعَقِيقَةَ لَا تَجِبُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ أَفْرَطَ فِيهَا رَجُلَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا هِيَ بِدْعَةٌ وَالْآخَرُ قَالَ وَاجِبَةٌ ; وَأَشَارَ بِقَائِلِ الْوُجُوبِ إِلَى اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْوُجُوبَ إِلَّا عَنْ دَاوُدَ فَقَالَ: لَعَلَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ غَيْرَ دَاوُدَ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلَعَلَّ هُنَا مَعْنَى بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ مَاتَ وَلِدَاوُدَ أَرْبَعُ سِنِينَ، وَقَدْ جَاءَ الْوُجُوبُ أَيْضًا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَالَّذِي نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَنْكَرَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ أَنْ تَكُونَ سُنَّةً وَخَالَفُوا فِي ذَلِكَ الْآثَارَ الثَّابِتَةَ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ سَئلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ: لَا أُحِبُّ الْعُقُوقَ كَأَنَّهُ كَرِهَ الِاسْمَ وَقَالَ مَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسَكَ عَنْهُ فَلْيَفْعَلْ. وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ عَنْ عَمِّهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسْأَلُ عَنِ الْعَقِيقَةِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ بِعَرَفَةَ فَذَكَرَهُ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَيَقْوَى أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ بِالْآخَرِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا أَعْلَمُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا عَنْ هَذَيْنِ. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَقِيقَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِنَفْيِ مَشْرُوعِيَّتِهَا. بَلْ آخِرُ الْحَدِيثِ يُثْبِتُهَا، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ تُسَمَّى نَسِيكَةً أَوْ ذَبِيحَةً وَأَنْ لَا تُسَمَّى عَقِيقَةً. وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ أَبِي الدَّمِ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ قَالَ كَمَا فِي تَسْمِيَةِ الْعِشَاءِ عَتَمَةً، وَادَّعَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ نَسْخَهَا بِحَدِيثِ نَسَخَ الْأَضْحَى كُلُّ ذَبْحٍ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ.
وَأَمَّا نَفْيُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وُرُودَهُ فَمُتَعَقَّبٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَثْبُتَ أَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً ثُمَّ نُسِخَ وُجُوبُهَا فَيَبْقَى الِاسْتِحْبَابُ كَمَا جَاءَ فِي صَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ أَيْضًا لِمَنْ نَفَى مَشْرُوعِيَّتَهَا. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى.
قَوْلُهُ (بُرَيْدٌ) بِالْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ مُصَغَّرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ وَهُوَ يَرْوِي عَنْ جَدِّهِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ نَسْخُهُ
(1)
وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي مُوسَى الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ فِي الصَّحَابَةِ لِمَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ لَهُ رِوَايَةٌ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الصَّحَابَةِ وَقَالَ: لَمْ يَسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، ثُمَّ ذَكَرَهُ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِينَ وَلَيْسَ ذَلِكَ تَنَاقُضًا مِنْهُ بَلْ هُوَ بِالِاعْتِبَارَيْنِ.
قَوْلُهُ (فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ فَحَنَّكَهُ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ أَسْرَعَ بِإِحْضَارِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ تَحْنِيكَهُ كَانَ بَعْدَ تَسْمِيَتِهِ،
(1)
كذا في النسخ، والذي يظهر انها زائدة.
فَفِيهِ تَعْجِيلُ تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ وَلَا يُنْتَظَرُ بِهَا إِلَى السَّابِعِ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ فِي حَدِيثِ الْعَقِيقَةِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ وَيُسَمَّى فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ هَلْ هِيَ يُسَمَّى أَوْ يُدْمَى بِالدَّالِ بَدَلَ السِّينِ؟ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَا تَخْتَصُّ بِالسَّابِعِ مَا تَقَدَّمَ فِي النِّكَاحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِابْنِهِ حِينَ وُلِدَ فَسَمَّاهُ الْمُنْذِرَ وَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ قَالَ وُلِدَ لِيَ اللَّيْلَةَ غُلَامٌ فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى أُمِّ سَيْفٍ الْحَدِيثَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَسْمِيَةُ الْمَوْلُودِ حِينَ يُولَدُ أَصَحُّ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي تَسْمِيَتِهِ يَوْمَ السَّابِعِ.
قُلْتُ: قَدْ وَرَدَ فِيهِ غَيْرُ مَا ذُكِرَ، فَفِي الْبَزَّارِ وَصَحِيحَيِ ابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ عَقَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ يَوْمَ السَّابِعِ وَسَمَّاهُمَا وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ لِسَابِعِهِ وَهَذَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَتَعَيَّنُ فِيهَا أَنَّ الْجَدَّ هُوَ الصَّحَابِيُّ لَا جَدَّ عَمْرٍو الْحَقِيقِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَبْعَةٌ مِنَ السُّنَّةِ فِي الصَّبِيِّ: يَوْمَ السَّابِعِ يُسَمَّى وَيُخْتَنُ وَيُمَاطُ عَنْهُ الْأَذَى وَتُثْقَبُ أُذُنُهُ وَيُعَقُّ عَنْهُ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُلَطَّخُ مِنْ عَقِيقَتِهِ وَيُتَصَدَّقُ بِوَزْنِ شَعْرِ رَأْسِهِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ، وَفِيهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ السَّابِعِ لِلْمَوْلُودِ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى وَسَمُّوهُ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي.
قَوْلُهُ (يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ.
قَوْلُهُ (أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِصَبِيٍّ يُحَنِّكُهُ) تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ التَّحْنِيكِ، وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ مَا قِيلَ فِي اسْمِهِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ.
حَدِيثُ أَسْمَاءَ فِي وِلَادَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي سَنَدِهِ. وَوَقَعَ فِي آخِرِهِ هُنَا مِنَ الزِّيَادَةِ فَفَرِحُوا بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا لِأَنَّهُمْ قِيلَ لَهُمْ إِنَّ الْيَهُودَ قَدْ سَحَرَتْكُمْ فَلَا يُولَدُ لَكُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَدَّمْتُهُ أَنَّ وِلَادَتَهُ كَانَتْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، وَمَا وَقَعَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ وَلَدَتْهُ بِقُبَاءٍ ثُمَّ أَتَتْ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرِدْ أَنَّهَا أَحْضَرَتْهُ لَهُ بِقُبَاءٍ، وَإِنَّمَا حَمَلَتْهُ مِنْ قُبَاءٍ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ أَقَامُوا لَا يُولَدُ لَهُمْ، فَقَالُوا: سَحَرَتْنَا يَهُودٌ، حَتَّى كَثُرَتْ فِي ذَلِكَ الْقَالَةُ، فَكَانَ أَوَّلُ مَوْلُودٍ بَعْدَ الْهِجْرَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ تَكْبِيرَةً وَاحِدَةً حَتَّى ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ تَكْبِيرًا وَقَوْلُهُ وَأَنَا مُتِمٌّ بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ أَيْ شَارَفْتُ تَمَامَ الْحَمْلِ، وَقَوْلُهُ تَفَلَ بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ فَاءٍ وَبَرَّكَ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ دَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ.
حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ وَالِدُ إِسْحَاقَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْجَنَائِزِ وَفِي الزَّكَاةِ.
قَوْلُهُ (أَعْرَسْتُمْ)؟ هُوَ اسْتِفْهَامٌ مَحْذُوفُ الْأَدَاةِ وَالْعَيْنُ سَاكِنَةٌ، أَعْرَسَ الرَّجُلُ إِذَا بَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْوَطْءِ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْبِنَاءَ غَالِبًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ أَعَرَّسْتُمْ؟ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ فَقَالَ عِيَاضٌ: هُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ التَّعْرِيسَ النُّزُولَ، وَأَثْبَتَ غَيْرُهُ أَنَّهَا لُغَةٌ، يُقَالُ أَعْرَسَ وَعَرَّسَ إِذَا دَخَلَ بِأَهْلِهِ وَالْأَفْصَحُ أَعْرَسَ قَالَهُ ابْنُ التَّيْمِيِّ فِي كِتَابِ التَّحْرِيرِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لَهُ.
قَوْلُهُ (قَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ احْفَظْهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ احْفَظِيهِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى - إِلَى أَنْ قَالَ - وَسَاقَ الْحَدِيثَ) هَذَا يُوهِمُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْحَدِيثَ الَّذِي قَبْلَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَهُمَا حَدِيثَانِ عِنْدَ ابْنِ عَوْنٍ: أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ هُنَا، وَالثَّانِي عِنْدَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ، وَقَدْ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ فِي اللِّبَاسِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَلَفْظُهُ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ قَالَتْ لِي: يَا أَنَسُ، انْظُرْ هَذَا الْغُلَامَ
فَلَا تُصِيبَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَغَدَوْتُ بِهِ فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ لَهُ وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ وَهُوَ يَسِمُ الظَّهْرَ الَّذِي قَدِمَ عَلَيْهِ فِي الْفَتْحِ ثُمَّ وَجَدْتُ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ وَسَاقَ الْحَدِيثَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ اخْتَلَفَا فِي أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَيْ أَنَّ ابْنَ أَبِي عَدِيٍّ، وَيَزِيدَ بْنَ هَارُونَ اخْتَلَفَا فِي شَيْخِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ وَهَذَا يَتَعَيَّنُ أَنَّهُمَا عِنْدَهُ حَدِيثٌ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُ. وَذَكَرَ الْمِزِّيُّ أَنَّ حَمَّادَ بْنَ سَعْدٍ وَافَقَ ابْنَ أَبِي عَدِيٍّ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِهِ لَكِنِّي لَمْ أَرَهُ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ مُسَمًّى بَلْ قَالَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَيُؤَيِّدُ رِوَايَةَ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ أَنَّ أَحْمَدَ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ مُطَوَّلًا مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ.
2 - بَاب إِمَاطَةِ الْأَذَى عَنْ الصَّبِيِّ فِي الْعَقِيقَةِ
5471 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ. وَقَالَ حَجَّاجٌ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، وَقَتَادَةُ، وَهِشَامٌ، وَحَبِيبٌ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ سَلْمَانَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: عَنْ عَاصِمٍ، وَهِشَامٍ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ الرَّبَابِ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ سَلْمَانَ. . قَوْلَهُ.
[الحديث 5471 - طرفه في: 5472]
5472 -
وَقَالَ أَصْبَغُ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ حَدَّثَنَا سَلْمَانُ بْنُ عَامِرٍ الضَّبِّيُّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى" حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ قَالَ أَمَرَنِي ابْنُ سِيرِينَ أَنْ أَسْأَلَ الْحَسَنَ مِمَّنْ سَمِعَ حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ مِنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ.
قَوْلُهُ (بَابُ إِمَاطَةِ الْأَذَى عَنِ الصَّبِيِّ فِي الْعَقِيقَةِ) الْإِمَاطَةُ الْإِزَالَةُ.
قَوْلُهُ (عَنْ مُحَمَّدٍ) هُوَ ابْنُ سِيرِينَ.
قَوْلُهُ (عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ) هُوَ الضَّبِّيُّ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ سَكَنَ الْبَصْرَةَ، مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا مَوْصُولًا مِنَ الطَّرِيقِ الْأُولَى لَكِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِرَفْعِهِ فِيهَا ; وَمُعَلَّقًا مِنَ الطُّرُقِ الْأُخْرَى صَرَّحَ فِي طَرِيقٍ مِنْهَا بِوَقْفِهِ وَمَا عَدَاهَا مَرْفُوعٌ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ لَمْ يُخْرِجِ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ حَدِيثًا صَحِيحًا عَلَى شَرْطِهِ، أَمَّا حَدِيثُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ يَعْنِي الَّذِي أَوْرَدَهُ مَوْصُولًا فَجَاءَ بِهِ مَوْقُوفًا وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ إِمَاطَةِ الْأَذَى الَّذِي تَرْجَمَ بِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ فَذَكَرَهُ بِلَا خَبَرٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ فِي الِاحْتِجَاجِ.
قُلْتُ: أَمَّا حَدِيثُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، لَكِنَّهُ أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، فَكَأَنَّهُ سَمِعَهُ كَذَلِكَ مِنْ شَيْخِهِ أَبِي النُّعْمَانِ، وَاكْتَفَى بِهِ كَعَادَتِهِ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ الَّذِي يُورِدُهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فَزَادَ فِي الْمَتْنِ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى وَلَمْ يُصَرِّحْ بِرَفْعِهِ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَصَرَّحَ بِرَفْعِهِ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، وَسَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ سَلْمَانَ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ
بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ فَقَالَ فِيهِ رَفَعَهُ وَأَمَّا حَدِيثُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ وَقَوْلُهُ إِنَّهُ ذَكَرَهُ بِلَا خَبَرٍ، يَعْنِي لَمْ يَقُلْ فِي أَوَّلِ الْإِسْنَادِ أَنْبَأَنَا أَصْبَغُ بَلْ قَالَ قَالَ أَصْبَغُ لَكِنَّ أَصْبَغَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ قَدْ أَكْثَرَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ، فَعَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ هُوَ مَوْصُولٌ كَمَا قَرَّرَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَزْمٍ هُوَ مُنْقَطِعٌ وَهَذَا كَلَامُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ يُشِيرُ إِلَى مُوَافَقَتِهِ، وَقَدْ زَيَّفَ النَّاسُ كَلَامَ ابْنِ حَزْمٍ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا كَوْنُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَلَى شَرْطِهِ فِي الِاحْتِجَاجِ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يَضُرُّهُ إِيرَادُهُ لِلِاسْتِشْهَادِ كَعَادَتِهِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ حَجَّاجٌ) هُوَ ابْنُ مِنْهَالٍ، وَحَمَّادٌ هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ، وَقَدْ وَصَلَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ بِهِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَفَّانَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ حِبَّانَ بْنِ هِلَالٍ، وَعَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَجَّاجِ كُلُّهُمْ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَزَادُوا مَعَ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ الْبُخَارِيُّ - وَهُمْ أَيُّوبُ، وَقَتَادَةُ، وَهِشَامٌ وَهُوَ ابْنُ حَسَّانَ، وَحَبِيبٌ وَهُوَ ابْنُ الشَّهِيدِ - يُونُسَ وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ، وَيَحْيَى بْنُ عَتِيقٍ، لَكِنْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ عَنْ حَمَّادٍ مَا لَمْ يَذْكُرِ الْآخَرُ، وَسَاقَ الْمَتْنَ كُلَّهُ عَلَى لَفْظِ حِبَّانَ، وَصَرَّحَ بِرَفْعِهِ وَلَفْظُهُ فِي الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِقُوا عَنْهُ الدَّمَ، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَقَدْ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ مَوْصُولًا مُجَرَّدًا ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حُذَيْفَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَيُّوبَ كَذَلِكَ، فَاتَّفَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، وَخَالَفَهُمْ وُهَيْبٌ فَقَالَ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مَعَ الْغُلَامِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً، أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ رِوَايَةِ حَوْثَرَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي هِشَامٍ، عَنْ وُهَيْبٍ بِهِ، وَوُهَيْبٌ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ وَأَبُو هِشَامٍ اسْمُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ وَأَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَوَثَّقَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَحَوْثَرَةُ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَمُثَلَّثَةٍ وَزْنَ جَوْهَرَةٍ بَصْرِيٌّ
يُكَنَّى أَبَا الْأَزْهَرِ احْتَجَّ بِهِ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَأَخْرَجَ عَنْهُ مِنَ السِّتَّةِ ابْنُ مَاجَهْ، وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ رَوَى عَنْهُ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْوَحْيِ خَارِجَ السُّنَنِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، فَالْإِسْنَادُ قَوِيٌّ إِلَّا أَنَّهُ شَاذٌّ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، فَلَعَلَّ بَعْضَ رُوَاتِهِ دَخَلَ عَلَيْهِ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَهِشَامٍ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنِ الرَّبَابِ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرِ الضَّبِّيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ مِنَ الَّذِينَ أَبْهَمَهُمْ عَنْ عَاصِمٍ، سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَصَرَّحَ بِرَفْعِهِ، وَذَكَرَ الْمَتْنَ الْمَذْكُورَ وَحَدِيثَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي الْفِطْرِ عَلَى التَّمْرِ، وَالثَّانِي فِي الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الْقَرَابَةِ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَالنَّسَائِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ الزُّهْرِيِّ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِقِصَّةِ الْعَقِيقَةِ حَسْبُ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الرَّبَابِ عَنْ عَمِّهَا سَلْمَانَ بِهِ، وَالرَّبَابُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَبِمُوَحَّدَتَيْنِ مُخَفَّفًا مَا لَهَا فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ عَنْ هِشَامٍ بِالْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ هِشَامٍ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ لَكِنْ لَمْ يَذْكُرِ الرَّبَابَ فِي إِسْنَادِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ السَّهْمِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ.
قَوْلُهُ (وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ سَلْمَانَ قَوْلُهُ) قُلْتُ: وَصَلَهُ الطَّحَاوِيُّ فِي بَيَانِ الْمُشْكِلِ فَقَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خُزَيْمَةَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بِهِ مَوْقُوفًا.
قوله: "وقال أصبغ أخبرني ابن وهب إلخ" وصله الطحاوي عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب به قال الإسماعيلي: ذكر البخاري ابن وهب بلا خبر، وقد قال أحمد بن حنبل: حديث جرير بن حازم
كَأَنَّهُ عَلَى التَّوَهُّمِ أَوْ كَمَا قَالَ. قُلْتُ: لَفْظُ الْأَثْرَمِ، عَنْ أَحْمَدَ حَدَّثَ بِالْوَهْمِ بِمِصْرَ وَلَمْ يَكُنْ يَحْفَظُ، وَكَذَا ذَكَرَ السَّاجِيُّ اهـ. وَهَذَا مِمَّا حَدَّثَ بِهِ جَرِيرٌ بِمِصْرَ، لَكِنْ قَدْ وَافَقَهُ غَيْرُهُ عَلَى رَفْعِهِ عَنْ أَيُّوبَ، نَعَمْ قَوْلُهُ عَنْ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سَلْمَانُ بْنُ عَامِرٍ هُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الطُّرُقُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَالْحَدِيثُ مَرْفُوعٌ لَا يَضُرُّهُ رِوَايَةُ مَنْ وَقَفَهُ.
قَوْلُهُ (مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ) تَمَسَّكَ بِمَفْهُومِهِ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ فَقَالَا: يُعَقُّ عَنِ الصَّبِيِّ وَلَا يُعَقُّ عَنِ الْجَارِيَةِ، وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: يُعَقُّ عَنِ الْجَارِيَةِ أَيْضًا، وَحُجَّتُهُمُ الْأَحَادِيثُ الْمُصَرِّحَةُ بِذِكْرِ الْجَارِيَةِ، وَسَأَذْكُرُهَا بَعْدَ هَذَا، فَلَوْ وُلِدَ اثْنَانِ فِي بَطْنٍ اسْتُحِبَّ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ عَقِيقَةٌ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنِ اللَّيْثِ وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافَهُ.
قَوْلُهُ (فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا) كَذَا أَبْهَمَ مَا يُهْرَاقُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَكَذَا فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ الْآتِي بَعْدَهُ، وَفَسَّرَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ مِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مَاهُكَ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - أَيِ ابْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - فَسَأَلُوهَا عَنِ الْعَقِيقَةِ، فَأَخْبَرَتْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُمْ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ وَأَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ كُرْزٍ أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ: عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَا يَضُرُّكُمْ ذُكْرَانًا كُنَّ أَوْ إِنَاثًا قَالَ التِّرْمِذِيُّ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَفَعَهُ أَثْنَاءَ حَدِيثٍ قَالَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْسَكَ عَنْ وَلَدِهِ فَلْيَفْعَلْ: عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ قَالَ دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ رِوَايَةً عَنْ عَمْرٍو: سَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ عَنْ قَوْلِهِ مُكَافِئَتَانِ فَقَالَ: مُتَشَابِهَتَانِ تُذْبَحَانِ جَمِيعًا أَيْ لَا يُؤَخَّرُ ذَبْحُ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى وَحَكَى أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ الْمُكَافِئَتَانِ الْمُتَقَارِبَتَانِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَيْ فِي السِّنِّ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ مُتَعَادِلَتَانِ لِمَا يَجْزِي فِي الزَّكَاةِ وَفِي الْأُضْحِيَّةِ، وَأَوْلَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ فِي حَدِيثِ أُمِّ كُرْزٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ بِلَفْظِ شَاتَانِ مِثْلَانِ وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي حَدِيثٍ آخَرَ قِيلَ: مَا الْمُكَافِئَتَانِ؟ قَالَ الْمِثْلَانِ وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ مِنْ ذَبْحِ إِحْدَاهُمَا عَقِبَ الْأُخْرَى حَسَنٌ، وَيُحْتَمَلُ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ مَعًا، وَرَوَى الْبَزَّارُ، وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ أَنَّ الْيَهُودَ تَعُقُّ عَنِ الْغُلَامِ كَبْشًا وَلَا تَعُقُّ عَنِ الْجَارِيَةِ، فَعُقُّوا عَنِ الْغُلَامِ كَبْشَيْنِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ كَبْشًا وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعَقِيقَةُ حَقٌّ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ، وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوَّلَ الْبَابِ، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ، وَعَنْ مَالِكٍ هُمَا سَوَاءٌ فَيَعُقُّ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةً، وَاحْتَجَّ لَهُ بِمَا جَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَبْشًا كَبْشًا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ كَبْشَيْنِ كَبْشَيْنِ وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مِثْلَهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يُرَدُّ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَارِدَةُ فِي التَّنْصِيصِ عَلَى التَّثْنِيَةِ لِلْغُلَامِ، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِصَارِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَدَدَ لَيْسَ شَرْطًا بَلْ مُسْتَحَبٌّ. وَذَكَرَ الْحَلِيمِيُّ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِ الْأُنْثَى عَلَى النِّصْفِ مِنَ الذَّكَرِ أَنَّ الْمَقْصُودَ اسْتِبْقَاءُ النَّفْسِ فَأَشْبَهَتِ الدِّيَةَ، وَقَوَّاهُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ ذَكَرًا أَعْتَقَ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهُ، وَمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَتَيْنِ كَذَلِكَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا تَيَسَّرَ الْعَدَدُ. وَاسْتَدَلَّ بِإِطْلَاقِ الشَّاةِ وَالشَّاتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَقِيقَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَأَصَحُّهُمَا يُشْتَرَطُ وَهُوَ بِالْقِيَاسِ
لَا بِالْخَبَرِ، وَيُذْكَرُ الشَّاةُ وَالْكَبْشُ عَلَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْغَنَمُ لِلْعَقِيقَةِ، وَبِهِ تَرْجَمَ أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبِهَانِيُّ وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا نَصَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ غَيْرُهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى إِجْزَاءِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ أَيْضًا، وَفِيهِ حَدِيثٌ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَأَبِي الشَّيْخِ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ يَعُقُّ عَنْهُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى اشْتِرَاطِ كَامِلَةٍ، وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ بَحْثًا أَنَّهَا تَتَأَدَّى بِالسَّبْعِ كَمَا فِي الْأُضْحِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (وَأَمِيطُوا) أَيْ أَزِيلُوا وَزْنًا وَمَعْنًى.
قَوْلُهُ (الْأَذَى) وَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَذَى حَلْقَ الرَّأْسِ فَلَا أَدْرِي مَا هُوَ وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ لَمْ أَجِدْ مَنْ يُخْبِرُنِي عَنْ تَفْسِيرِ الْأَذَى اهـ. وَقَدْ جَزَمَ الْأَصْمَعِيُّ بِأَنَّهُ حَلْقُ الرَّأْسِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْحَسَنِ كَذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَأَمَرَ أَنْ يُمَاطَ عَنْ رُءُوسِهِمَا الْأَذَى وَلَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ، فَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَيُمَاطُ عَنْهُ الْأَذَى وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ فَعَطَفَهُ عَلَيْهِ، فَالْأَوْلَى حَمْلُ الْأَذَى عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ حَلْقِ الرَّأْسِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَيُمَاطُ عَنْهُ أَقْذَارُهُ رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ.
- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ قَالَ: أَمَرَنِي ابْنُ سِيرِينَ أَنْ أَسْأَلَ الْحَسَنَ: مِمَّنْ سَمِعَ حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: مِنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ - نُسِبَ لِجَدِّ جَدِّهِ - وَرُبَّمَا يُنْسَبُ لِجَدِّ أَبِيهِ فَقِيلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَسْوَدِ مَعْرُوفٌ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَشَيْخُهُ قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ يُكَنَّى أَبَا أَنَسٍ، كَانَ قَدْ تَغَيَّرَ سَنَةَ ثَلَاثِ وَمِائَتَيْنِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ سِتَّ سِنِينَ، فَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَسَمَاعُهُ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ عَنْهُ، وَلَمْ أَرَهُ فِي نُسَخِ الْجَامِعِ إِلَّا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَد، فَكَأَنَّ لَهُ فِيهِ شَيْخَيْنِ. وَقَدْ تَوَقَّفَ الْبَرْزَنْجِيُّ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَجْلِ اخْتِلَاطِ قُرَيْشٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ وَأَنَّهُ وَهْمٌ، وَكَأَنَّهُ تَبِعَ فِي ذَلِكَ مَا حَكَاهُ الْأَثْرَمُ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ضَعَّفَ حَدِيثَ قُرَيْشٍ هَذَا وَقَالَ: مَا أَرَاهُ بِشَيْءٍ لَكِنْ وَجَدْنَا لَهُ مُتَابِعًا أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَزَّارُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا سَأَذْكُرُهُ، وَأَيْضًا فَسَمَاعُ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَأَقْرَانِهِ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِ، فَلَعَلَّ أَحْمَدَ إِنَّمَا ضَعَّفَهُ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ إِنَّمَا حَدَّثَ بِهِ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ.
قَوْلُهُ (حَدِيثُ الْعَقِيقَةِ) لَمْ يَقَعْ فِي الْبُخَارِيِّ بَيَانُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَكَأَنَّهُ اكْتَفَى عَنْ إِيرَادِهِ بِشُهْرَتِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْغُلَامُ مُرْتَهِنٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ، وَيُسَمَّى قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الْعَقِيقَةِ مِنْ رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُخْتَارِ عَنْهُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، فَكَأَنَّ ابْنَ سِيرِينَ لَمَّا كَانَ الْحَدِيثُ عِنْدَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَبَلَغَهُ أَنَّ الْحَسَنَ يُحَدِّثُ بِهِ احْتَمَلَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا وَعَنْ غَيْرِهِ فَسَأَلَ فَأَخْبَرَ الْحَسَنُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ سَمُرَةَ فَقَوَّى الْحَدِيثَ بِرِوَايَةِ هَذَيْنِ التَّابِعِيَّيْنِ الْجَلِيلَيْنِ عَنِ الصَّحَابِيَّيْنِ، وَلَمْ تَقَعْ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ الْأَخِيرَةُ وَهِيَ وَيُسَمَّى وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا أَصْحَابُ قَتَادَةَ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ يُسَمَّى بِالسِّينِ. وَقَالَ هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ يُدْمَى بِالدَّالِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: خُولِفَ هَمَّامٌ وَهُوَ وَهْمٌ مِنْهُ وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ، قَالَ: وَيُسَمَّى أَصَحُّ.
ثُمَّ ذَكَرَهُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ قَتَادَةَ بِلَفْظِ وَيُسَمَّى وَاسْتُشْكِلَ مَا قَالَهُ أَبُو دَاوُدَ بِمَا فِي بَقِيَّةِ رِوَايَةِ هَمَّامٍ عِنْدَهُ أَنَّهُمْ سَأَلُوا قَتَادَةَ عَنِ الدَّمِ كَيْفَ يُصْنَعُ بِهِ فَقَالَ إِذَا ذُبِحَتِ الْعَقِيقَةُ أُخِذَتْ مِنْهَا صُوفَةٌ وَاسْتُقْبِلَتْ بِهِ أَوْدَاجُهَا ثُمَّ تُوضَعُ عَلَى يَافُوخِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَسِيلَ عَلَى رَأْسِهِ مِثْلُ الْخَيْطِ ثُمَّ يُغْسَلُ رَأْسُهُ بَعْدُ وَيُحْلَقُ. فَيَبْعُدُ مَعَ هَذَا الضَّبْطِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَمَّامًا وَهِمَ عَنْ
قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ وَيُدْمَى إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ أَصْلَ الْحَدِيثِ وَيُسَمَّى وَأَنَّ قَتَادَةَ ذَكَرَ الدَّمَ حَاكِيًا عَمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَصْنَعُونَهُ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يُحْتَمَلُ هَمَّامٌ فِي هَذَا الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ حَفِظَهُ فَهُوَ مَنْسُوخٌ اهـ. وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ حَزْمٍ رِوَايَةَ هَمَّامٍ وَحَمَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلُهُ وَيُسَمَّى عَلَى التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ، لِمَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ يُسَمَّى عَلَى الْعَقِيقَةِ كَمَا يسَمَّى عَلَى الْأُضْحِيَّةِ: بِسْمِ اللَّهِ عَقِيقَةُ فُلَانٍ وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ نَحْوُهُ وَزَادَ اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ، عَقِيقَةُ فُلَانٍ، بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ يذَبَحَ وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: يُسَمَّى يَوْمَ يُعَقُّ عَنْهُ ثُمَّ يُحْلَقُ، وَكَانَ يَقُولُ: يُطْلَى رَأْسُهُ بِالدَّمِ.
وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ، مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا عَقُّوا عَنِ الصَّبِيِّ خَضَّبُوا قُطْنَةً بِدَمِ الْعَقِيقَةِ، فَإِذَا حَلَقُوا رَأْسَ الصَّبِيِّ وَضَعُوهَا عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اجْعَلُوا مَكَانَ الدَّمِ خَلُوقًا زَادَ أَبُو الشَّيْخِ وَنَهَى أَنْ يُمَسَّ رَأْسُ الْمَوْلُودِ بِدَمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يُعَقُّ عَنِ الْغُلَامِ، وَلَا يُمَسُّ رَأْسُهُ بِدَمٍ وَهَذَا مُرْسَلٌ، فَإِنَّ يَزِيدَ لَا صُحْبَةَ لَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَقَالَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَ ذَلِكَ فَقَالُوا إِنَّهُ مُرْسَلٌ، وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِرَفْعِهِ، قَالَ فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ كُنَّا نَذْبَحُ شَاةً وَنَحْلِقُ رَأْسَهُ وَنُلَطِّخُهُ بِزَعْفَرَانٍ وَهَذَا شَاهِدٌ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ، وَلِهَذَا كَرِهَ الْجُمْهُورُ التَّدْمِيَةَ.
وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ اسْتِحْبَابَ التَّدْمِيَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ وَلَمْ يَنْقُلِ ابْنُ الْمُنْذِرِ اسْتِحْبَابَهَا إِلَّا عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، بَلْ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَ التَّدْمِيَةَ، وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّسْمِيَةِ وَآدَابِهَا فِي كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ مُرْتَهِنٌ بِعَقِيقَتِهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا، وَأَجْوَدُ مَا قِيلَ فِيهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: هَذَا فِي الشَّفَاعَةِ، يُرِيدُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعَقَّ عَنْهُ فَمَاتَ طِفْلًا لَمْ يَشْفَعْ فِي أَبَوَيْهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَقِيقَةَ لَازِمَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا، فَشَبَّهَ الْمَوْلُودَ فِي لُزُومِهَا وَعَدَمِ انْفِكَاكِهِ مِنْهَا بِالرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَهَذَا يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّهُ مَرْهُونٌ بِأَذَى شَعْرِهِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى اهـ وَالَّذِي نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ قَالَهُ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ أَسْنَدَهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَأَخْرَجَ ابْنُ حَزْمٍ، عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يُعْرَضُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْعَقِيقَةِ كَمَا يُعْرَضُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَهَذَا لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ قَوْلًا آخَرَ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْعَقِيقَةِ، قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَمِثْلُهُ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ. وَقَوْلُهُ يُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْعَقِيقَةَ مُؤَقَّتَةٌ بِالْيَوْمِ السَّابِعِ، وَأَنَّ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَهُ لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعَ، وَأَنَّهَا تَفُوتُ بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ مَنْ مَاتَ قَبْلَ السَّابِعِ سَقَطَتِ الْعَقِيقَةُ.
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ: إنَّ مَنْ لَمْ يُعَقَّ عَنْهُ فِي السَّابِعِ الْأَوَّلِ عُقَّ عَنْهُ فِي السَّابِعِ الثَّانِي، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يُعَقَّ عَنْهُ فِي السَّابِعِ الثَّالِثِ. وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ تُذْبَحَ الْعَقِيقَةُ يَوْمَ السَّابِعِ، فَإِنْ لَمْ يَتَهَيَّأْ فَيَوْمُ الرَّابِعِ عَشَرَ، فَإِنْ لَمْ يَتَهَيَّأْ عَقَّ عَنْهُ يَوْمَ أَحَدَ وَعِشْرِينَ وَلَمْ أَرَ هَذَا صَرِيحًا إِلَّا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُوشَنْجِيِّ، وَنَقَلَهُ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ. وَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَإِسْمَاعِيلُ ضَعِيفٌ، وَذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي اعْتِبَارِ الْأَسَابِيعِ بَعْدَ ذَلِكَ رِوَايَتَانِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ ذِكْرَ الْأَسَابِيعِ لِلِاخْتِيَارِ لَا لِلتَّعْيِينِ، فَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ يَدْخُلُ وَقْتُهَا بِالْوِلَادَةِ، قَالَ: وَذِكْرُ السَّابِعِ فِي الْخَبَرِ بِمَعْنَى أَنْ لَا تُؤَخَّرَ عَنْهُ اخْتِيَارًا، ثُمَّ قَالَ:
وَالِاخْتِيَارُ أَنْ لَا تُؤَخَّرَ عَنِ الْبُلُوغِ فَإِنْ أُخِّرَتْ عَنِ الْبُلُوغِ سَقَطَتْ عَمَّنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَعُقَّ عَنْهُ، لَكِنْ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَعُقَّ عَنْ نَفْسِهِ فَعَلَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي لَمْ يُعَقَّ عَنِّي لَعَقَقْتُ عَنْ نَفْسِي. وَاخْتَارَهُ الْقَفَّالُ. وَنَقَلَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الْبُوَيْطِيِّ أَنَّهُ لَا يُعَقُّ عَنْ كَبِيرٍ، وَلَيْسَ هَذَا نَصًّا فِي مَنْعِ أَنْ يَعُقَّ الشَّخْصُ عَنْ نَفْسِهِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ لَا يَعُقَّ عَنْ غَيْرِهِ إِذَا كَبِرَ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ لَا يَثْبُتُ. وَهُوَ كَذَلِكَ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَرَّرٍ - وَهُوَ بِمُهْمَلَاتٍ - عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ الْبَزَّارُ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ اهـ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: إنَّهُمْ تَرَكُوا حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَرَّرٍ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَلَعَلَّ إِسْمَاعِيلَ سَرَقَهُ مِنْهُ.
ثَانِيهُمَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الْمُسْتَمْلِي، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ جَمِيلٍ، وَدَاوُدَ بْنِ الْمُحبِّرِ قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمَثْنَى، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ، وَدَاوُدُ ضَعِيفٌ لَكِنَّ الْهَيْثَمَ ثِقَةٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ، فَالْحَدِيثُ قَوِيُّ الْإِسْنَادِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ السَّرَّاجِ، عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَسْعُودٍ كِلَاهُمَا عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ جَمِيلٍ وَحْدَهُ بِهِ، فَلَوْلَا مَا فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى مِنَ الْمَقَالِ لَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحًا، لَكِنْ قَدْ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَا أُخْرِجُ حَدِيثَهُ، وَقَالَ السَّاجِيُّ: فِيهِ ضَعْفٌ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ رَوَى مَنَاكِيرَ، وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَا يُتَابَعُ عَلَى أَكْثَرِ حَدِيثِهِ، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ: رُبَّمَا أَخْطَأَ، وَوَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا، فَهَذَا مِنَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ إِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمْ بِالْحَدِيثِ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً، وَقَدْ مَشَى الْحَافِظُ الضِّيَاءُ عَلَى ظَاهِرِ الْإِسْنَادِ فَأَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَارَةِ مِمَّا لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ كَانَ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالُوا فِي تَضْحِيَتِهِ عَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِهِ، وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ مَنْ لَمْ يَعُقَّ عَنْهُ أَجْزَأْتَهُ أُضْحِيَتُهُ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَالْحَسَنِ يُجْزِئُ عَنِ الْغُلَامِ الْأُضْحِيَّةُ مِنَ الْعَقِيقَةِ وَقَوْلُهُ يَوْمَ السَّابِعِ أَيْ مِنْ يَوْمِ الْوِلَادَةِ، وَهَلْ يُحْسَبُ يَوْمُ الْوِلَادَةِ؟ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ نَصَّ مَالِكٌ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ السَّبْعَةِ الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ الْوِلَادَةِ، إِلَّا إِنْ وُلِدَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْبُوَيْطِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ وَجْهَيْنِ وَرَجَّحَ الْحُسْبَانَ، وَاخْتَلَفَ تَرْجِيحُ النَّوَوِيِّ.
وَقَوْلُهُ يُذْبَحُ بِالضَّمِّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، فِيهِ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنِ الذَّابِحُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَتَعَيَّنُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْمَوْلُودِ، وَعَنِ الْحَنَابِلَةِ يَتَعَيَّنُ الْأَبُ إِلَّا إِنْ تَعَذَّرَ بِمَوْتٍ أَوِ امْتِنَاعٍ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَكَأَنَّ الْحَدِيثَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنِ الْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ مُؤَوَّلٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبَوَاهُ حِينَئِذٍ كَانَا مُعْسِرَيْنِ أَوْ تَبَرَّعَ بِإِذْنِ الْأَبِ، أَوْ قَوْلُهُ عَقَّ أَيْ أَمَرَ، أَوْ هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا ضَحَّى عَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِهِ، وَقَدْ عَدَّهُ بَعْضُهُمْ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَنَصَّ مَالِكٌ عَلَى أَنَّهُ يُعَقُّ عَنِ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيَّةُ، وَقَوْلُهُ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ أَيْ جَمِيعَهُ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْ الْقَزَعِ كَمَا سَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ كَرَاهَةَ حَلْقِ رَأْسِ الْجَارِيَةِ، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ يُحْلَقُ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَالْحَاكِمِ فِي حَدِيثِ الْعَقِيقَةِ عَنِ الْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ يَا فَاطِمَةُ احْلِقِي رَأْسَهُ وَتَصَدَّقِي بِزِنَةِ شَعْرِهِ، قَالَ فَوَزَنَّاهُ فَكَانَ دِرْهَمًا أَوْ بَعْضَ دِرْهَمٍ وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ لَمَّا وَلَدَتْ فَاطِمَةُ حَسَنًا قَالَتْ. يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَعُقُّ عَنِ ابْنِي بِدَمٍ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنِ احْلِقِي رَأْسَهُ وَتَصَدَّقِي بِوَزْنِ شَعْرِهِ فِضَّةً، فَفَعَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ حُسَيْنًا فَعَلَتْ مِثْلَ ذَلِكَ.
قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَقَّ عَنْهُ ثُمَّ اسْتَأْذَنَتْهُ فَاطِمَةُ
أَنْ تَعُقَّ هِيَ عَنْهُ أَيْضًا فَمَنَعَهَا، قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنَعَهَا لَضِيقِ مَا عِنْدَهُمْ حِينَئِذٍ فَأَرْشَدَهَا إِلَى نَوْعٍ مِنَ الصَّدَقَةِ أَخَفَّ، ثُمَّ تَيَسَّرَ لَهُ عَنْ قُرْبِ مَا عَقَّ بِهِ عَنْهُ، وَعَلَى هَذَا فَقَدْ يُقَالُ يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَنْ لَمْ يَعُقَّ عَنْهُ، لَكِنْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ مُرْسَلِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ صَحِيحًا إِنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ إِذًا وَلَدَتْ وَلَدًا حَلَقَتْ شَعْرَهُ وَتَصَدَّقَتْ بِزِنَتِهِ وَرِقًا وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ يُذْبَحُ وَيُحْلَقُ وَيُسَمَّى بِالْوَاوِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّرْتِيبُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي الشَّيْخِ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ يُذْبَحُ يَوْمَ سَابِعِهِ ثُمَّ يُحْلَقُ وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ يَبْدَأُ بِالذَّبْحِ قَبْلَ الْحَلْقِ، وَحَكَى عَنْ عَطَاءٍ عَكْسَهُ، وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي التَّهْذِيبِ يُسْتَحَبُّ الذَّبْحُ قَبْلَ الْحَلْقِ، وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
3 - بَاب الْفَرَعِ
5473 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، حدثنا الزُّهْرِيُّ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا فَرَعَ، وَلَا عَتِيرَةَ.
وَالْفَرَعُ: أَوَّلُ النِّتَاجِ، كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِطَوَاغِيتِهِمْ. وَالْعَتِيرَةُ: فِي رَجَبٍ.
[الحديث 5473، طرفه: 5474]
قَوْلُهُ (بَابُ الْفَرَعِ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ - وَهُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ -، عَنْ مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، وَفِيهِ تَفْسِيرُ الْفَرَعِ وَالْعَتِيرَةِ، وَظَاهِرُهُ الرَّفْعُ. وَوَقَعَ فِي الْمُحْكَمِ أَنَّ الْفَرَعَ أَوَّلُ نِتَاجِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَهُ لِأَصْنَامِهِمْ، وَالْفَرَعُ ذَبْحٌ كَانُوا إِذَا بَلَغَتِ الْإِبِلُ مَا تَمَنَّاهُ صَاحِبُهَا ذَبَحُوهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا بَلَغَتِ الْإِبِلُ مِائَةً يَعْتَرُ مِنْهَا بَعِيرًا كُلَّ عَامٍ وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ هُوَ وَلَا أَهْلُ بَيْتِهِ، وَالْفَرَعُ أَيْضًا طَعَامٌ يُصْنَعُ لِنِتَاجِ الْإِبِلِ كَالْخَرَسِ لِلْوِلَادَةِ، وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي الْعَتِيرَةِ آخِرَ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الْبُخَارِيِّ حَدِيثَ الْفَرَعِ مَعَ الْعَقِيقَةِ.
4 - بَاب الْعَتِيرَةِ
5474 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ.
قَالَ: وَالْفَرَعُ أَوَّلُ النِتَاجٍ كَانَ يُنْتَجُ لَهُمْ، كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِطَوَاغِيَتِهِمْ. وَالْعَتِيرَةُ فِي رَجَبٍ. ثم قَال:(بَابُ الْعَتِيرَةِ)، وَذَكَرَ فِيهِ الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِهِ، وَشَذَّ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فَرَوَاهُ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ إِنَّهُ مِنْ فَرائِدِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ.
قَوْلُهُ (وَلَا عَتِيرَةَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ بِوَزْنِ عَظِيمَةٍ، قَالَ الْقَزَّازُ سُمِّيَتْ عَتِيرَةً بِمَا يُفْعَلُ مِنَ الذَّبْحِ وَهُوَ الْعَتْرُ فَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ هَكَذَا جَاءَ بِلَفْظِ النَّفْيِ وَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ، وَقَدْ وَرَدَ بِصِيغَةِ النَّهْيِ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ بِلَفْظِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ فِي الْإِسْلَامِ.
قَوْلُهُ (قَالَ وَالْفَرَعُ) لَمْ يَتَعَيَّنْ هَذَا الْقَائِلُ هُنَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ مَوْصُولًا التَّفْسِيرُ بِالْحَدِيثِ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ الْفَرَعُ أَوَّلُ النِّتَاجِ الْحَدِيثَ جَعَلَهُ مَوْقُوفًا عَلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَحْسَبُ التَّفْسِيرَ فِيهِ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ. قُلْتُ: قَدْ أَخْرَجَ أَبُو قُرَّةَ فِي السُّنَنِ الْحَدِيثَ عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَصَرَّحَ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّ تَفْسِيرَ الْفَرَعِ وَالْعَتِيرَةِ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (أَوَّلُ النِّتَاجِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ نِتَاجٍ بِغَيْرِ أَلْفٍ وَلَامٍ، وَهُوَ بِكَسْرِ النُّونِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ خَفِيفَةٌ وَآخِرُهُ جِيمٌ.
قَوْلُهُ (كَانَ يُنْتَجُ لَهُمْ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ: يُقَالُ نُتِجَتِ النَّاقَةُ بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ إِذَا وَلَدَتْ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا الْفِعْلُ إِلَّا هكَذَا وَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ.
قَوْلُهُ (كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِطَوَاغِيتِهِمْ) زَادَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ بَعْضِهِمْ ثُمَّ يَأْكُلُونَهُ وَيُلْقَى جِلْدُهُ عَلَى الشَّجَرِ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عِلَّةِ النَّهْيِ، وَاسْتَنْبَطَ الشَّافِعِيُّ مِنْهُ الْجَوَازُ إِذَا كَانَ الذَّبْحُ لِلَّهِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ الْفَرَعُ حَقٌّ وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْد اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، كَذَا فِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْفَرَعِ، قَالَ: الْفَرَعُ حَقٌّ، وَأَنْ تَتْرُكَهُ حَتَّى يَكُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ أَوِ ابْنَ لَبُونٍ فَتَحْمِلَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ تُعْطِيَهُ أَرْمَلَةً خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذْبَحَهُ يُلْصَقُ لَحْمُهُ بِوَبَرِهِ وَتُولَهُ نَاقَتُكَ وَلِلْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ قَوْلِهِ الْفَرَعَةُ حَقٌّ ; وَلَا تَذْبَحْهَا وَهِيَ تُلْصَقُ فِي يَدِكَ، وَلَكِنْ أَمْكِنْهَا مِنَ اللَّبَنِ حَتَّى إِذَا كَانَتْ مِنْ خِيَارِ الْمَالِ فَاذْبَحْهَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْمُزَنِيِّ عَنْهُ: الْفَرَعُ شَيْءٌ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَهُ يَطْلُبُونَ بِهِ الْبَرَكَةَ فِي أَمْوَالِهِمْ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَذْبَحُ بِكْرَ نَاقَتِهِ أَوْ شَاتِهِ رَجَاءَ الْبَرَكَةِ فِيمَا يَأْتِي بَعْدَهُ، فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ حُكْمِهَا فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَأَمَرَهُمُ اسْتِحْبَابًا أَنْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى يَحْمِلَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ حَقٌّ أَيْ لَيْسَ بِبَاطِلٍ، وَهُوَ كَلَامٌ خَرَجَ عَلَى جَوَابِ السَّائِلِ، وَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ الْآخَرِ لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ لَا فَرَعَ وَاجِبٌ وَلَا عَتِيرَةَ وَاجِبَةٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ أَيْ لَيْسَا فِي تَأَكُّدِ الِاسْتِحْبَابِ كَالْأُضْحِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي حَرْمَلَةٍ عَلَى أَنَّ الْفَرَعَ وَالْعَتِيرَةَ مُسْتَحَبَّانِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ نُبَيْشَةَ - بِنُونٍ وَمُوَحَّدَةٍ وَمُعْجَمَةٍ مُصَغَّرٌ - قَالَ نَادَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا كُنَّا نَعْتِرُ عَتِيرَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي رَجَبٍ، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: اذْبَحُوا لِلَّهِ فِي أَيِّ شَهْرٍ كَانَ. قَالَ: إِنَّا كُنَّا نُفَرِّعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ: فِي كُلُّ سَائِمَةٍ فَرَعٌ تُغَذُّوهُ مَاشِيَتَكَ حَتَّى إِذَا اسْتَحْمَلَ ذَبَحْتَهُ فَتَصَدَّقْتَ بِلَحْمِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ السَّائِمَةُ مِائَةٌ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُبْطِلِ الْفَرَعَ وَالْعَتِيرَةَ مِنْ أَصْلِهِمَا، وَإِنَّمَا أَبْطَلَ صِفَةً مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَمِنَ الْفَرَعِ كَوْنُهُ يُذْبَحُ أَوَّلَ مَا يُولَدُ، وَمِنَ الْعَتِيرَةِ خُصُوصُ الذَّبْحِ فِي شَهْرِ رَجَبٍ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَمَلَةَ، عَنْ مِخْنَفِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلِيمٍ قَالَ كُنَّا وُقُوفًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلٍّ عَامٍ أُضْحِيَّةٌ وَعَتِيرَةٌ، هَلْ تَدْرُونَ مَا الْعَتِيرَةُ؟ هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الرَّجَبِيَّةَ فَقَدْ ضَعَّفَهُ الْخَطَّابِيُّ، لَكِنْ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَجَاءَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ. وَيُمْكِنُ رَدُّهُ إِلَى مَا حُمِلَ عَلَيْهِ حَدِيثُ نُبَيْشَةَ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْعَتَائِرُ وَالْفَرَائِعُ؟ قَالَ: مَنْ شَاءَ عَتَّرَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُعَتِّرْ
وَمَنْ شَاءَ فَرَّعَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُفَرِّعْ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي عَدَمِ الْوُجُوبِ لَكِنْ لَا يَنْفِي الِاسْتِحْبَابَ وَلَا يُثْبِتُهُ، فَيُؤْخَذُ الِاسْتِحْبَابُ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْعُشَرَاءِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الْعَتِيرَةِ فَحَسَّنَهَا وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعِ بْنِ عُدَيْسٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نَذْبَحُ ذَبَائِحَ فِي رَجَبٍ فَنَأْكُلُ وَنُطْعِمُ مَنْ جَاءَنَا، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ.
قَالَ وَكِيعُ بْنُ عُدَيْسٍ: فَلَا أَدْعُهُ وَجَزَمَ أَبُو عُبَيْدٍ بِأَنَّ الْعَتِيرَةَ تُسْتَحَبُّ، وَفِي هَذَا تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ ابْنَ سِيرِينَ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ. وَنَقَلَ الطَّحَاوِيُّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ، وَمَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى هَذَا وَقَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُمَا وَفَعَلَهُمَا بَعْضُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِالْإِذْنِ، ثُمَّ نَهَى عَنْهُمَا، وَالنَّهْيُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ شَيْءٍ كَانَ يُفْعَلُ، وَمَا قَالَ أَحَدٌ إِنَّهُ نَهَى عَنْهُمَا ثُمَّ أَذِنَ فِي فِعْلِهِمَا ثُمَّ نُقِلَ عَنِ الْعُلَمَاءِ تَرْكُهُمَا إِلَّا ابْنَ سِيرِينَ، وَكَذَا ذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى النَّسْخِ، وَبِهِ جَزَمَ الْحَازِمِيُّ، وَمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ - وَاللَّفْظُ لَهُ - بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْفَرَعَةِ فِي كُلِّ خَمْسِينَ وَاحِدَةً.
قَوْلُهُ (وَالْعَتِيرَةُ فِي رَجَبٍ) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ وَالْعَتِيرَةُ الشَّاةُ تُذْبَحُ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ فِي رَجَبٍ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْعَتِيرَةُ هِيَ الرَّجَبِيَّةُ ذَبِيحَةٌ كَانُوا يَذْبَحُونَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي رَجَبٍ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا لِأَصْنَامِهِمْ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعَتِيرَةُ نَذْرٌ كَانُوا يَنْذُرُونَهُ، مَنْ بَلَغَ مَالُهُ كَذَا أَنْ يَذْبَحَ مِنْ كُلِّ عَشَرَةٍ مِنْهَا رَأْسًا فِي رَجَبٍ. وَذَكَرَ ابْنُ سِيدَهْ أَنَّ الْعَتِيرَةَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَقُولُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِنْ بَلَغَ إبلي مِائَةٍ عُتِرَتْ مِنْهَا عَتِيرَةٌ، زَادَ فِي الصِّحَاحِ فِي رَجَبٍ. وَنَقَلَ أَبُو دَاوُدَ تَقْيِيدَهَا بِالْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ رَجَبٍ، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ.
خَاتِمَةٌ:
اشْتَمَلَ كِتَابُ الْعَقِيقَةِ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْفَرَعِ وَالْعَتِيرَةِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى ثَمَانِيَةٌ وَالْخَالِصُ أَرْبَعَةٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَاخْتَصَّ بِتَخْرِيجِ حَدِيثِ سَلْمَانَ وَسَمُرَةَ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ قَوْلُ سَلْمَانَ فِي الْعَقِيقَةِ، وَتَفْسِيرُ الْفَرَعِ وَالْعَتِيرَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
72 - كِتَاب الذَّبَائِحِ وَالصَّيْدِ
قَوْلُه (كِتَابُ الذَّبَائِحِ وَالصَّيْدِ) كَذَا لِكَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَفِي أُخْرَى لَهُ وَلِأَبِي الْوَقْتِ بَابٌ وَسَقَطَ لِلنَّسَفِيِّ، وَثَبَتَتْ لَهُ الْبَسْمَلَةُ لَاحِقَةً، وَلِأَبِي الْوَقْتِ سَابِقَةً.
1 - بَاب التَّسْمِيَةِ عَلَى الصَّيْدِ،
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} - إِلَى قَوْلِهِ - عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ:{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ، {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعُقُودُ: الْعُهُودُ، مَا أُحِلَّ وَحُرِّمَ. {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} الْخِنْزِيرُ. {يَجْرِمَنَّكُمْ} يَحْمِلَنَّكُمْ. {شَنَآنُ} عَدَاوَةُ. الْمُنْخَنِقَه: تُخْنَقُ فَتَمُوتُ. الموقوذة: تُضْرَبُ بِالْخَشَبِ، يُوقِذُهَا فَتَمُوتُ. {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} تَتَرَدَّى مِنْ الْجَبَلِ. {وَالنَّطِيحَةُ} تُنْطَحُ الشَّاةُ، فَمَا أَدْرَكْتَهُ يَتَحَرَّكُ بِذَنَبِهِ
أَوْ بِعَيْنِهِ فَاذْبَحْ وَكُلْ.
5475 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ، قَالَ: مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْهُ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ، وَسَأَلْتُهُ عَنْ صَيْدِ الْكَلْبِ، فَقَالَ: مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْ، فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاةٌ، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ، أَوْ كِلَابِكَ، كَلْبًا غَيْرَهُ، فَخَشِيتَ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مَعَهُ، وَقَدْ قَتَلَهُ، فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تَذْكُرْهُ عَلَى غَيْرِهِ.
قَوْلُهُ (بَابُ التَّسْمِيَةِ عَلَى الصَّيْدِ) سَقَطَ بَابٌ لِكَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَثَبَتَ لِلْبَاقِينَ. وَالصَّيْدُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ صَادَ يَصِيدُ صَيْدًا، وَعُومِلَ مُعَامَلَةَ الْأَسْمَاءِ فَأُوقِعَ عَلَى الْحَيَوَانِ الْمُصَادِ.
قَوْلُهُ: وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدَّمَ وَأَخَّرَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ الصَّيْدُ:{تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَعِنْدَ النَّسَفِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} الْآيَتَيْنِ، وَكَذَا لِأَبِي الْوَقْتِ لَكِنْ قَالَ: إِلَى قَوْلِهِ: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} وَفَرَّقَهُمَا فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ.
قَوْلُهُ (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعُقُودُ الْعُهُودُ، مَا أَحَلَّ وَحَرَّمَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَتَمَّ مِنْهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} يَعْنِي بِالْعُهُودِ، مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَمَا حَرَّمَ وَمَا فَرَضَ وَمَا حَدَّ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَنْكُثُوا. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُفَرَّقًا، وَنُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ، وَنُقِلَ عَنْ قَتَادَةَ: الْمُرَادُ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْحَلِفِ. وَنُقِلَ عَنْ غَيْرِهِ: هِيَ الْعُقُودُ الَّتِي يَتَعَاقَدُهَا النَّاسُ. قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ اللَّهَ أَتْبَعَ ذَلِكَ الْبَيَانَ عَمَّا أَحَلَّ وَحَرَّمَ، قَالَ: وَالْعُقُودُ جَمْعُ عَقْدٍ، وَأَصْلُ عَقْدِ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ وَصْلُهُ بِهِ كَمَا يُعْقَدُ الْحَبْلُ بِالْحَبْلِ.
قَوْلُهُ {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} الْخِنْزِيرَ، وَصَلَهُ أَيْضًا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ:{إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} يَعْنِي الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ.
قَوْلُهُ (يَجْرِمَنَّكُمْ: يَحْمِلَنَّكُمْ) يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} أَيْ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ عَلَى الْعُدْوَانِ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا مِنَ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ غَيْرِهِ غَيْرَ ذَلِكَ لَكِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَاهُ.
قَوْلُهُ (الْمُنْخَنِقَةُ إِلَخْ) وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِتَمَامِهِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَمَا أَدْرَكْتَهُ مِنْ هَذَا يَتَحَرَّكُ لَهُ ذَنَبٌ أَوْ تَطْرُفُ لَهُ عَيْنٌ فَاذْبَحْ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَهُوَ حَلَالٌ وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ الْمُنْخَنِقَةُ الَّتِي تُخْنَقُ فَتَمُوتُ، وَالْمَوْقُوذَةُ الَّتِي تُضْرَبُ بِالْخَشَبِ حَتَّى يُوقِذَهَا فَتَمُوتُ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ الَّتِي تَتَرَدَّى مِنَ الْجَبَلِ، وَالنَّطِيحَةُ الشَّاةُ تَنْطَحُ الشَّاةَ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مَا أَخَذُ السَّبُعُ، إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ إِلَّا مَا أَدْرَكْتُمْ ذَكَاتَهُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ يَتَحَرَّكُ لَهُ ذَنَبٌ أَوْ تَطْرُفُ لَهُ عَيْنٌ فَاذْبَحْ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَهُوَ حَلَالٌ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ وَأَكِيلُ السَّبُعِ وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ كُلُّ مَا ذُكِرَ غَيْرَ الْخِنْزِيرِ إِذَا أَدْرَكْتَ مِنْهُ عَيْنًا تَطْرُفُ أَوْ ذَنَبًا يَتَحَرَّكُ أَوْ قَائِمَةً تَرْتَكِضُ فَذَكَّيْتَهُ فَقَدْ أُحِلُّ لَكَ وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ نَحْوُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَضْرِبُونَ الشَّاةَ بِالْعَصَا حَتَّى إِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا
قَالَ: وَالْمُتَرَدِّيَةُ الَّتِي تَتَرَدَّى فِي الْبِئْرِ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا) هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، وَعَامِرٌ هُوَ الشَّعْبِيُّ، وَهَذَا السَّنَدُ كُوفِيُّونَ.
قَوْلُهُ (عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ) هُوَ الطَّائِيُّ، فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ زَكَرِيَّا، حَدَّثَنَا عَامِرٌ، حَدَّثَنَا عَدِّيٌّ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: ذَكَرْتُهُ بِقَوْلِهِ حَدَّثَنَا عَامِرٌ، حَدَّثَنَا عَدِيٌّ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ زَكَرِيَّا مُدَلِّسٌ وَقَدْ عَنْعَنَهُ. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ حَدَّثَنِي الشَّعْبِيُّ سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ وَكَانَ لَنَا جَارًا وَدَخِيلًا وَرَبِيطًا بِالنَّهَرَيْنِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُوهُ حَاتِمٌ هُوَ الْمَشْهُورُ بِالْجُودِ، وَكَانَ هُوَ أَيْضًا جَوَادًا، وَكَانَ إِسْلَامُهُ سَنَةَ الْفَتْحِ، وَثَبَتَ هُوَ وَقَوْمُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَشَهِدَ الْفُتُوحَ بِالْعِرَاقِ، ثُمَّ كَانَ مَعَ عَلِيٍّ وَعَاشَ إِلَى سَنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ.
قَوْلُهُ (الْمِعْرَاضُ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ، قَالَ الْخَلِيلُ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ: سَهْمٌ لَا رِيشَ لَهُ وَلَا نَصْلَ. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ وَتَبِعَهُ ابْنُ سِيدَهْ: سَهْمٌ طَوِيلٌ لَهُ أَرْبَعُ قُذَذٍ رِقَاقٍ، فَإِذَا رَمَى بِهِ اعْتَرَضَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمِعْرَاضُ نَصْلٌ عَرِيضٌ لَهُ ثِقَلٌ وَرَزَانَةٌ، وَقِيلَ: عُودٌ رَقِيقُ الطَّرَفَيْنِ غَلِيظُ الْوَسَطِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْحُذَافَةِ، وَقِيلَ: خَشَبَةٌ ثَقِيلَةٌ آخِرُهَا عَصًا مُحَدَّدٌ رَأْسُهَا وَقَدْ لَا يُحَدَّدُ ; وَقَوَّى هَذَا الْأَخِيرَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِعِيَاضٍ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ الْمَشْهُورُ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمِعْرَاضُ عَصًا فِي طَرَفِهَا حَدِيدَةٌ يَرْمِي الصَّائِدُ بِهَا الصَّيْدَ، فَمَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَهُوَ ذَكِيٌّ فَيُؤْكَلُ، وَمَا أَصَابَ بِغَيْرِ حَدِّهِ فَهُوَ وَقِيذٌ.
قَوْلُهُ (وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ بِعَرْضِهِ فَقُتِلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلَا تَأْكُلْ وَقِيذٌ بِالْقَافِ وَآخِرَهُ ذَالٌ مُعْجَمَةٌ وَزْنَ عَظِيمٍ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ مَا قُتِلَ بِعَصًا أَوْ حَجَرٍ أَوْ مَا لَا حَدَّ لَهُ، وَالْمَوْقُوذَةُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا وَأَنَّهَا الَّتِي تُضْرَبُ بِالْخَشَبَةِ حَتَّى تَمُوتَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَدِيٍّ الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابٍ قُلْتُ إِنَّا نَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ قَالَ: كُلْ مَا خَزَقَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالزَّايِ بَعْدَهَا قَافٌ أَيْ نَفَذَ، يُقَالُ: سَهْمٌ خَازِقٌ أَيْ نَافِذٌ، وَيُقَالُ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ بَدَلَ الزَّايِ، وَقِيلَ الْخَزْقُ - بِالزَّايِ وَقِيلَ تُبْدَلُ سِينًا - الْخَدْشُ وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ بِالرَّاءِ فَهُوَ أَنْ يَثْقُبَهُ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ السَّهْمَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ إِذَا أَصَابَ الصَّيْدَ بِحَدِّهِ حَلَّ وَكَانَتْ تِلْكَ ذَكَاتَهُ، وَإِذَا أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ لَمْ يَحِلَّ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْخَشَبَةِ الثَّقِيلَةِ وَالْحَجَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمُثَقَّلِ، وَقَوْلُهُ بِعَرْضِهِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، أَيْ بِغَيْرِ طَرَفِهِ الْمُحَدَّدِ، وَهُوَ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ فِي التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ، وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّامِ حَلَّ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ (وَسَأَلْتُهُ عَنْ صَيْدِ الْكَلْبِ فَقَالَ: مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْ، فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاةٌ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي السَّفَرِ إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَسَمَّيْتَ فَكُلْ وَفِي رِوَايَةِ بَيَانِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ الشَّعْبِيِّ الْآتِيَةِ بَعْدَ أَبْوَابٍ إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ وَالْمُرَادُ بِالْمُعَلَّمَةِ الَّتِي إِذَا أَغْرَاهَا صَاحِبُهَا عَلَى الصَّيْدِ طَلَبَتْهُ، وَإِذَا زَجَرَهَا انْزَجَرَتْ وَإِذَا أَخَذَتِ الصَّيْدَ حَبَسَتْهُ عَلَى صَاحِبِهَا. وَهَذَا الثَّالِثُ مُخْتَلَفٌ فِي اشْتِرَاطِهِ، وَاخْتُلِفَ مَتَى يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهَا فَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي التَّهْذِيبِ: أَقَلُّهُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ يَكْفِي مَرَّتَيْنِ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: لَمْ يُقَدِّرْهُ الْمُعْظَمُ لِاضْطِرَابِ الْعُرْفِ وَاخْتِلَافِ طِبَاعِ الْجَوَارِحِ فَصَارَ الْمَرْجِعُ إِلَى الْعُرْفِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيٍّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ أَمَّا التِّرْمِذِيُّ فَلَفْظُهُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَيْدِ الْبَازِي فَقَالَ: مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْ وَأَمَّا أَبُو دَاوُدَ فَلَفْظُهُ: مَا عَلَّمْتَ مِنْ كَلْبٍ أَوْ بَازٍ ثُمَّ أَرْسَلْتَهُ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ. قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلَ؟ قَالَ: إِذَا قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ بِصَيْدِ الْبَازِ وَالصُّقُورِ بَأْسًا، اهـ.
وَفِي مَعْنَى الْبَازِ الصَّقْرُ وَالْعُقَابُ وَالْبَاشِقُ وَالشَّاهِينُ، وَقَدْ فَسَّرَ مُجَاهِدٌ الْجَوَارِحَ فِي الْآيَةِ
بِالْكِلَابِ وَالطُّيُورِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ صَيْدِ الْكَلْبِ وَالطَّيْرِ. قَوْلُهُ (إِذْ أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ الْمُعَلَّمَةَ فَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ) فِي رِوَايَةِ بَيَانٍ: وَإِنْ خَالَطَهَا كِلَابٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا تَأْكُلْ وَزَادَ فِي رِوَايَتِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: {مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وَإِنْ قَتَلْنَ، إِلَّا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي السَّفَرِ: قُلْتُ، فَإِنْ أَكَلَ؟ قَالَ: فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ لَمْ يُمْسِكْ عَلَيْكَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ زِيَادَةٌ فِي رِوَايَةِ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي رَمْي الصَّيْدِ إِذَا غَابَ عَنْهُ وَوَجَدَهُ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ. وَفِي الْحَدِيثِ اشْتِرَاطُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الصَّيْدِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهَا شَرْطًا فِي حِلِّ الْأَكْلِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ - وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ - أَنَّهَا سُنَّةٌ، فَمَنْ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا لَمْ يَقْدَحْ فِي حِلِّ الْأَكْلِ.
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي الرَّاجِحِ عَنْهُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَطَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِجَعْلِهَا شَرْطًا فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ، وَلِإِيقَافِ الْإِذْنِ فِي الْأَكْلِ عَلَيْهَا فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ، وَالْمُعَلَّقُ بِالْوَصْفِ يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَائِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ، وَالشَّرْطُ أَقْوَى مِنَ الْوَصْفِ، وَيَتَأَكَّدُ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ بِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ، وَمَا أُذِنَ فِيهِ مِنْهَا تُرَاعَى صِفَتُهُ، فَالْمُسَمَّى عَلَيْهَا وَافَقَ الْوَصْفَ وَغَيْرُ الْمُسَمَّى بَاقٍ عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى الْجَوَازِ لِمَنْ تَرَكَهَا سَاهِيًا لَا عَمْدًا، لَكِنِ اخْتُلِفَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ: هَلْ تَحْرُمُ أَوْ تُكْرَهُ؟ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَحْرُمُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْعَمْدِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا يُكْرَهُ الْأَكْلُ، وَقِيلَ خِلَافُ الْأُولَى، وَقِيلَ: يَأْثَمُ بِالتَّرْكِ وَلَا يَحْرُمُ الْأَكْلُ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الصَّيْدِ وَالذَّبِيحَةِ، فَذَهَبَ فِي الذَّبِيحَةِ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ الثَّالِثِ، وَسَيَأْتِي حُجَّةُ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ فِيهَا فِي الذَّبَائِحِ مُفَصَّلَةً، وَفِيهِ إِبَاحَةُ الِاصْطِيَادِ بِالْكِلَابِ الْمُعَلَّمَةِ، وَاسْتَثْنَى أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ وَقَالَا: لَا يَحِلُّ الصَّيْدُ بِهِ لِأَنَّهُ شَيْطَانٌ وَنُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَقَتَادَةَ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَفِيهِ جَوَازُ أَكْلِ مَا أَمْسَكَهُ الْكَلْبُ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَوْ لَمْ يُذْبَحْ لِقَوْلِهِ إِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاةٌ فَلَوْ قَتَلَ الصَّيْدَ بِظُفُرِهِ أَوْ نَابِهِ حَلَّ، وَكَذَا بِثِقَلِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ الْكَلْبُ لَكِنْ تَرَكَهُ وَبِهِ رَمَقٌ وَلَمْ يَبْقَ زَمَنٌ يُمْكِنُ صَاحِبَهُ فِيهِ لَحَاقُهُ وَذَبْحُهُ فَمَاتَ حَلَّ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاةٌ وَهَذَا فِي الْمُعَلَّمِ، فَلَوْ وَجَدَهُ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً وَأَدْرَكَ ذَكَاتَهُ لَمْ يَحِلَّ إِلَّا بِالتَّذْكِيَةِ، فَلَوْ لَمْ يَذْبَحْهُ مَعَ الْإِمْكَانِ حَرُمَ، سَوَاءٌ كَانَ عَدَمُ الذَّبْحِ اخْتِيَارًا أَوْ إِضْرَارًا كَعَدَمِ حُضُورِ آلَةِ الذَّبْحِ، فَإِنْ كَانَ الْكَلْبُ غَيْرَ مُعَلَّمٍ اشْتَرَطَ إِدْرَاكَ تَذْكِيَتِهِ، فَلَوْ أَدْرَكَهُ مَيِّتًا لَمْ يَحِلَّ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُ مَا شَارَكَهُ فِيهِ كَلْبٌ آخَرُ فِي اصْطِيَادِهِ، وَمَحِلُّهُ مَا إِذَا اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَرْسَلَهُ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ، فَإِنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ حَلَّ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ أرسلاهما مَعًا فَهُوَ لَهُمَا وَإِلَّا فَلِلْأَوَّلِ، وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنَ التَّعْلِيلِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرْسِلَ لَوْ سَمَّى عَلَى الْكَلْبِ لَحَلَّ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ بَيَانٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ وَإِنْ خَالَطَهَا كِلَابٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا تَأْكُلْ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ حَيًّا وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَذَكَّاهُ حَلَّ، لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي الْإِبَاحَةِ عَلَى التَّذْكِيَةِ لَا عَلَى إِمْسَاكِ الْكَلْبِ. وَفِيهِ تَحْرِيمُ أَكْلِ الصَّيْدِ الَّذِي أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ الْكَلْبُ مُعَلَّمًا، وَقَدْ عَلَّلَ فِي الْحَدِيثِ بِالْخَوْفِ مِنْ أَنَّهُ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ مِنْ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ - وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَنَقَلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ - يَحِلُّ، وَاحْتَجُّوا بِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا يُقَالُ لَهُ أَبُو ثَعْلَبَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي كِلَابًا مُكَلَّبَةً، فَأَفْتِنِي فِي صَيْدِهَا. قَالَ: كُلْ مِمَّا
أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ. قَالَ: وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ؟ قَالَ: وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَلَا بَأْسَ بِسَنَدِهِ.
وَسَلَكَ النَّاسُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ طُرُقًا: مِنْهَا لِلْقَائِلِينَ بِالتَّحْرِيمِ حَمْلُ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ: عَلَى مَا إِذَا قَتَلَهُ وَخَلَّاهُ ثُمَّ عَادَ فَأَكَلَ مِنْهُ، وَمِنْهَا التَّرْجِيحُ فَرِوَايَةُ عَدِيٍّ فِي الصَّحِيحَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهَا، وَرِوَايَةُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْمَذْكُورَةُ فِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ مُخْتَلَفٌ فِي تَضْعِيفِهَا، وَأَيْضًا فَرِوَايَةُ عَدِيٍّ صَرِيحَةٌ مَقْرُونَةٌ بِالتَّعْلِيلِ الْمُنَاسِبِ لِلتَّحْرِيمِ وَهُوَ خَوْفُ الْإِمْسَاكِ عَلَى نَفْسِهِ مُتَأَيِّدَةٌ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَيْتَةِ التَّحْرِيمُ، فَإِذَا شَكَكْنَا فِي السَّبَبِ الْمُبِيحِ رَجَعْنَا إِلَى الْأَصْلِ وَظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فَإِنَّ مُقْتَضَاهَا أَنَّ الَّذِي يُمْسِكُهُ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالٍ لَا يُبَاحُ، وَيَتَقَوَّى أَيْضًا بِالشَّاهِدِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: إِذَا أَرْسَلْتَ الْكَلْبَ فَأَكَلَ الصَّيْدَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ. وَإِذَا أَرْسَلْتَهُ فَقَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ فَكُلْ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى صَاحِبِهِ وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ بِمَعْنَاهُ، وَلَوْ كَانَ مُجَرَّدُ الْإِمْسَاكِ كَافِيًا لِمَا احْتِيجَ إِلَى زِيَادَةِ عَلَيْكُمْ. وَمِنْهَا لِلْقَائِلِينَ بِالْإِبَاحَةِ حَمْلُ حَدِيثِ عَدِيٍّ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمُنَاسَبَةُ ذَلِكَ أَنَّ عَدِيًّا كَانَ مُوسِرًا فَاخْتِيرَ لَهُ الْحَمْلُ عَلَى الْأَوْلَى، بِخِلَافِ أَبِي ثَعْلَبَةَ فَإِنَّهُ كَانَ بِعَكْسِهِ. وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا التَّمَسُّكُ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالتَّعْلِيلِ فِي الْحَدِيثِ بِخَوْفِ الْإِمْسَاكِ عَلَى نَفْسِهِ.
وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا هُوَ عَامٌّ فَيُحْمَلُ عَلَى الَّذِي أَدْرَكَهُ مَيِّتًا مِنْ شِدَّةِ الْعَدْوِ أَوْ مِنَ الصَّدْمَةِ فَأَكَلَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ صَارَ عَلَى صِفَةٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْإِرْسَالُ وَلَا الْإِمْسَاكُ عَلَى صَاحِبِهِ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ أَيْ لَا يُوجَدُ مِنْهُ غَيْرُ مُجَرَّدِ الْأَكْلِ دُونَ إِرْسَالِ الصَّائِدِ لَهُ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَقْطُوعَةً عَمَّا قَبْلَهَا. وَلَا يَخْفَى تَعَسُّفُ هَذَا وَبُعْدُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: مُجَرَّدُ إِرْسَالِنَا الْكَلْبَ إِمْسَاكٌ عَلَيْنَا، لِأَنَّ الْكَلْبَ لَا نِيَّةَ لَهُ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ مَيْزُهَا، وَإِنَّمَا يَتَصَيَّدُ بِالتَّعْلِيمِ ; فَإِذَا كَانَ الِاعْتِبَارُ بِأَنْ يُمْسِكَ عَلَيْنَا أَوْ عَلَى نَفْسِهِ وَاخْتَلَفَ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَتَمَيَّزَ ذَلِكَ بِنِيَّةِ مَنْ لَهُ نِيَّةٌ وَهُوَ مُرْسِلُهُ، فَإِذَا أَرْسَلَهُ فَقَدْ أَمْسَكَ عَلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يُرْسِلْهُ لَمْ يُمْسِكْ عَلَيْهِ، كَذَا قَالَ: وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ أَيْضًا وَمُصَادَمَتُهُ لِسِيَاقِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} صِدْنَ لَكُمْ، وَقَدْ جَعَلَ الشَّارِعُ أَكْلَهُ مِنْهُ عَلَامَةً عَلَى أَنَّهُ أَمْسَكَ لِنَفْسِهِ لَا لِصَاحِبِهِ فَلَا يُعْدَلُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: إِنْ شَرِبَ مِنْ دَمِهِ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّهُ لَمْ يُعَلَّمْ مَا عَلَّمْتَهُ وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي أَكْلِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ التَّعْلِيمَ الْمُشْتَرَطَ. وَسَلَكَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ التَّرْجِيحَ فَقَالَ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ ذَكَرَهَا الشَّعْبِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْهَا هَمَّامٌ، وَعَارَضَهَا حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ، وَهَذَا تَرْجِيحٌ مَرْدُودٌ لِمَا تَقَدَّمَ.
وَتَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ أَكْلِهِ إِذَا أَخَذَهُ الْكَلْبُ بِفِيهِ وَهَمَّ بِأَكْلِهِ فَأُدْرِكَ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَ، قَالَ فَلَوْ كَانَ أَكْلُهُ مِنْهُ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ لَكَانَ تَنَاوُلُهُ بِفِيهِ وَشُرُوعُهُ فِي أَكْلِهِ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقِفَ الصَّائِدُ حَتَّى يَنْظُرَ هَلْ يَأْكُلُ أَوْ لَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهِ إِبَاحَةُ الِاصْطِيَادِ لِلِانْتِفَاعِ بِالصَّيْدِ لِلْأَكْلِ وَالْبَيْعِ وَكَذَا اللَّهْوُ، بِشَرْطِ قَصْدِ التَّذْكِيَةِ وَالِانْتِفَاعِ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ، وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ.
قَالَ اللَّيْثُ: لَا أَعْلَمُ حَقًّا أَشْبَهَ بِبَاطِلٍ مِنْهُ، فَلَوْ لَمْ يَقْصِدِ الِانْتِفَاعَ بِهِ حَرُمَ لِأَنَّهُ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِإِتْلَافِ نَفْسٍ عَبَثًا. وَيَنْقَدِحُ أَنْ يُقَالَ: يُبَاحُ، فَإِنْ لَازَمَهُ وَأَكْثَرَ مِنْهُ كُرِهَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَشْغَلُهُ عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا وَآخَرُ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ شَرِيكٌ. وَفِيهِ جَوَازُ اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ لِلصَّيْدِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي حَدِيثِ مَنِ اقْتَنَى
كَلْبًا وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ كَلْبِ الصَّيْدِ لِلْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ كَلْبُكَ وَأَجَابَ مَنْ مَنَعَ بِأَنَّهَا إِضَافَةُ اخْتِصَاصٍ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى طَهَارَةِ سُؤْرِ كَلْبِ الصَّيْدِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْكِلَابِ لِلْإِذْنِ فِي الْأَكْلِ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَكَلَ مِنْهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْغَسْلَ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْحَاجَةِ إِلَى الْبَيَانِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُعْفَى عَنْ مَعَضِّ الْكَلْبِ وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَجَابَ مَنْ قَالَ بِنَجَاسَتِهِ بِأَنَّ وُجُوبَ الْغَسْلِ كَانَ قَدِ اشْتَهَرَ عِنْدَهُمْ وَعُلِمَ فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ يَتَقَوَّى الْقَوْلُ بِالْعَفْوِ لِأَنَّهُ بِشِدَّةِ الْجَرْيِ يَجِفُّ رِيقُهُ فَيُؤْمَنُ مَعَهُ مَا يُخْشَى مِنْ إِصَابَةِ لُعَابِهِ مَوْضِعَ الْعَضِّ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ كُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ بِأَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ فَاصْطَادَ غَيْرَهُ حَلَّ، لِلْعُمُومِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ مَا أَمْسَكَ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَحِلُّ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْبُوَيْطِيِّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَيْسَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرَ مِنَ الْآيِ وَالْأَحَادِيثِ تَعَرُّضٌ لِلتَّسْمِيَةِ الْمُتَرْجَمِ عَلَيْهَا إِلَّا آخِرُ حَدِيثِ عَدِيٍّ، فَكَأَنَّهُ عَدَّهُ بَيَانًا لِمَا أَجْمَلَتْهُ الْأَدِلَّةُ مِنَ التَّسْمِيَةِ، وَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ خِلَافٌ فِي الْمُجْمَلِ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ مُبَيِّنَةٌ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ الدَّلِيلُ الْمُجْمَلُ مَعَهَا أَوْ إِيَّاهَا خَاصَّةً؟ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ الْأَحَادِيثَ يُوهِمُ أَنَّ فِي الْبَابِ عِدَّةَ أَحَادِيثَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ إِلَّا حَدِيثَ عَدِيٍّ، نَعَمْ ذَكَرَ فِيهِ تَفَاسِيرَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَكَأَنَّهُ عَدَّهَا أَحَادِيثَ، وَبَحْثُهُ فِي التَّسْمِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي آخِرِ حَدِيثِ عَدِيٍّ مَرْدُودٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ، وَإِنَّمَا جَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الَّذِي يُورِدُهُ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَكُلْ وَمِنْ رِوَايَةِ بَيَانٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ فَلَمَّا كَانَ الْأَخْذُ بِقَيْدِ الْمُعَلَّمِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى كَانَتِ التَّسْمِيَةُ كَذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
2 - بَاب صَيْدِ الْمِعْرَاضِ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي الْمَقْتُولَةِ بِالْبُنْدُقَةِ: تِلْكَ الْمَوْقُوذَةُ. وَكَرِهَهُ سَالِمٌ وَالْقَاسِمُ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ، وَكَرِهَ الْحَسَنُ رَمْيَ الْبُنْدُقَةِ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ، وَلَا يَرَى بَأْسًا فِيمَا سِوَاهُ
5476 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمِعْرَاضِ؟ فَقَالَ: إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، فَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلَا تَأْكُلْ. فَقُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِي. قَالَ: إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَكُلْ. قُلْتُ: فَإِنْ أَكَلَ؟ قَالَ: فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ لَمْ يُمْسِكْ عَلَيْكَ، إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ. قُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ. قَالَ: لَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى الآخَر.
قَوْلُهُ (بَابُ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي الْمَقْتُولَةِ بِالْبُنْدُقَةِ: تِلْكَ الْمَوْقُوذَةُ، وَكَرِهَهُ سَالِمٌ، وَالْقَاسِمُ، وَمُجَاهِدٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ) أَمَّا أَثَرُ ابْنِ عُمَرَ فَوَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ، عَنْ زُهَيْرٍ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْمَقْتُولَةُ بِالْبُنْدُقَةِ تِلْكَ الْمَوْقُوذَةُ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ مَا أَصَابَتِ الْبُنْدُقَةُ وَلِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ
نَافِعٍ رَمَيْتُ طَائِرَيْنِ بِحَجَرٍ فَأَصَبْتُهُمَا، فَأمَّا أَحَدُهُمَا فَمَاتَ فَطَرَحَهُ ابْنُ عُمَرَ. وَأَمَّا سَالِمٌ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْقَاسِمُ وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْهُمَا إنَّهُمَا كَانَا يَكْرَهَانِ الْبُنْدُقَةَ، إِلَّا مَا أُدْرِكَتْ ذَكَاتُهُ. وَلِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ كَانَ يَكْرَهُ مَا قُتِلَ بِالْمِعْرَاضِ وَالْبُنْدُقَةِ. وَأَمَّا مُجَاهِدٌ فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَنَّهُ كَرِهَهُ، زَادَ فِي أَحَدِهِمَا لَا تَأْكُلْ إِلَّا أَنْ يُذَكَّى. وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ النَّخَعِيُّ فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْهُ لَا تَأْكُلْ مَا أَصَبْتَ بِالْبُنْدُقَةِ إِلَّا أَنْ يُذَكَّى.
وَأَمَّا عَطَاءٌ فَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ عَطَاءٌ: إِنْ رَمَيْتَ صَيْدًا بِبُنْدُقَةٍ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْهُ، وَإِلَّا فَلَا تَأْكُلْهُ وَأَمَّا الْحَسَنُ وَهُوَ الْبَصْرِيُّ فَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ: إِذَا رَمَى الرَّجُلُ الصَّيْدَ بِالْجُلَّاهِقَةِ فَلَا تَأْكُلْ، إِلَّا أَنْ تُدْرِكَ ذَكَاتَهُ. وَالْجُلَّاهِقَةُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْهَاءِ بَعْدَهَا قَافٌ هِيَ الْبُنْدُقَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالْجَمْعُ جُلَّاهِقُ.
قَوْلُهُ (وَكَرِهَ الْحَسَنُ رَمْيَ الْبُنْدُقَةِ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ، وَلَا يَرَى بِهِ بَأْسًا فِيمَا سِوَاهُ) وَصَلَهُ
(1)
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
3 - بَاب مَا أَصَابَ الْمِعْرَاضُ بِعَرْضِهِ
5477 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نُرْسِلُ الْكِلَابَ الْمُعَلَّمَةَ. قَالَ: كُلْ مَا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ. قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلْنَ؟ قَالَ: وَإِنْ قَتَلْنَ. قُلْتُ: وَإِنَّا نَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ. قَالَ: كُلْ مَا خَرقَ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ.
قَوْلُهُ (بَابُ مَا أَصَابَ الْمِعْرَاضُ بِعَرْضِهِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْهُ مُخْتَصَرًا وَقَدْ بَيَّنْتُ مَا فِيهِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ.
4 - بَاب صَيْدِ الْقَوْسِ:
وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ: إِذَا ضَرَبَ صَيْدًا فَبَانَ مِنْهُ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ لَا تَأْكُلُ الَّذِي بَانَ وَكُلْ سَائِرَهُ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِذَا ضَرَبْتَ عُنُقَهُ أَوْ وَسَطَهُ فَكُلْهُ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ زَيْدٍ: اسْتَعْصَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ حِمَارٌ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضْرِبُوهُ حَيْثُ تَيَسَّرَ دَعُوا مَا سَقَطَ مِنْهُ وَكُلُوهُ.
5478 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابِ، أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ وَبِأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، وَبِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ، فَمَا يَصْلُحُ لِي؟ قَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا، وَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَذَكَرْتَ
(1)
بياض بأصله.
اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ.
[الحديث 5478 - طرفاه في: 5488، 5496]
قَوْلُهُ (بَابُ صَيْدِ الْقَوْسِ) الْقَوْسُ مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ مُرَكَّبَةٌ وَغَيْرُ مُرَكَّبَةٍ، وَيُطْلَقُ لَفْظُ الْقَوْسِ أَيْضًا عَلَى الثَّمَرِ الَّذِي يَبْقَى فِي أَسْفَلِ النَّخْلَةِ
(1)
وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا.
قَوْلُهُ (وَقَالَ الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ: إِذَا ضَرَبَ صَيْدًا فَبَانَ مِنْهُ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ لَا تَأْكُلُ الَّذِي بَانَ وَكُلْ سَائِرَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَيَأْكُلُ سَائِرَهُ أَمَّا أَثَرُ الْحَسَنِ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ فِي رَجُلٍ ضَرَبَ صَيْدًا فَأَبَانَ مِنْهُ يَدًا أَوْ رِجْلًا وَهُوَ حَيٌّ ثُمَّ مَاتَ قَالَ: لَا تَأْكُلْهُ وَلَا تَأْكُلْ مَا بَانَ مِنْهُ إِلَّا أَنْ تَضْرِبَهُ فَتَقْطَعَهُ فَيَمُوتَ مِنْ سَاعَتِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلْيَأْكُلْهُ. وَقَوْلُهُ فِي الْأَصْلِ سَائِرُهُ يَعْنِي بَاقِيَهُ. وَأَمَّا أَثَرُ إِبْرَاهِيمَ فَرُوِّينَاهُ مِنْ رِوَايَتِهِ لَا مِنْ رَأْيِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَتَعَقَّبْهُ فَكَأَنَّهُ رَضِيَهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: إِذَا ضَرَبَ الرَّجُلُ الصَّيْدَ فَبَانَ مِنْهُ عُضْوٌ تَرَكَ مَا سَقَطَ وَأَكَلَ مَا بَقِيَ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ: لَا تَأْكُلِ الْعُضْوَ مِنْهُ، وَذَكِّ الصَّيْدَ وَكُلْهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنْ عَدَا حَيًّا بَعْدَ سُقُوطِ الْعُضْوِ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلِ الْعُضْوَ وَذَكِّ الصَّيْدَ وَكُلْهُ، وَإِنْ مَاتَ حِينَ ضَرَبَهُ فَكُلْهُ كُلَّهُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ: لَا فَرْقَ أَنْ يَنْقَطِعَ قِطْعَتَيْنِ أَوْ أَقَلَّ إِذَا مَاتَ مِنْ تِلْكَ الضَّرْبَةِ. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ: إِنْ قَطَعَهُ نِصْفَيْنِ أُكِلَا جَمِيعًا، وَإِنْ قَطَعَ الثُّلُثَ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ فَكَذَلِكَ، وَمِمَّا يَلِي الْعَجُزَ أُكِلَ الثُّلُثَيْنِ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ وَلَا يَأْكُلُ الثُّلُثَ الَّذِي يَلِي الْعَجُزَ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ) هُوَ النَّخَعِيُّ (إِذَا ضَرَبْتَ عُنُقَهُ أَوْ وَسَطَهُ) هُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَأَمَّا الْوَسْطُ بِالسُّكُونِ فَهُوَ الْمَكَانُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ زَيْدٍ: اسْتَعْصَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ حِمَارٌ إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: سئل ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ رَجُلٍ ضَرَبَ رِجْلَ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ فَقَطَعَهَا؟ فَقَالَ: دَعُوا مَا سَقَطَ وَذَكُّوا مَا بَقِيَ وَكُلُوهُ. فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ نِسْبَةُ زَيْدٍ وَأَنَّهُ ابْنُ وَهْبٍ التَّابِعِيُّ الْكَبِيرُ وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَنَّ الْحِمَارَ كَانَ حِمَارَ وَحْشٍ. وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي مِنْ آلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَلَمْ أَعْرِفِ اسْمَهُ. وَقَدْ رَدَّدَ ابْنُ التِّينِ فِي شَرْحِهِ النَّظَرَ هَلْ هُوَ حِمَارٌ وَحْشِيٌّ أَوْ أَهْلِيٌّ؟ وَشَرَعَ فِي حِكَايَةِ الْخِلَافِ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَمُطَابَقَةُ هَذِهِ الْآثَارِ لِحَدِيثِ الْبَابِ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاطِ الذَّكَاةِ فِي قَوْلِهِ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّ الصَّيْدَ إِذَا مَاتَ بِالصَّدْمَةِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُدْرَكَ ذَكَاتَهُ لَا يُؤْكَلُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ السَّهْمَ إِذَا أَصَابَ الصَّيْدَ فَجَرَحَهُ جَازَ أَكْلُهُ وَلَوْ لَمْ يَدْرِ هَلْ مَاتَ بِالْجَرْحِ أَوْ مِنْ سُقُوطِهِ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مِنْ وُقُوعِهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ عَلَى جَبَلٍ مَثَلًا فَتَرَدَّى مِنْهُ فَمَاتَ لَا يُؤْكَلُ، وَأَنَّ السَّهْمَ إِذَا لَمْ يَنْفُذْ مَقَاتِلَهُ لَا يُؤْكَلُ إِلَّا إِذَا أُدْرِكَتْ ذَكَاتُهُ.
وَقَالَ ابْنُ التِّينِ إِذَا قُطِعَ مِنَ الصَّيْدِ مَا لَا يُتَوَهَّمُ حَيَاتُهُ بَعْدَهُ فَكَأَنَّهُ أَنْفَذَهُ بِتِلْكَ الضَّرْبَةِ فَقَامَتْ مَقَامَ التَّذْكِيَةِ، وَهَذَا مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ) هُوَ الْمُقْرِيُّ، وَحَيْوَةُ هُوَ ابْنُ شُرَيْحٍ.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ) بِضَمِّ الْخَاءِ وَفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَتَيْنِ ثُمَّ نُونٍ، نِسْبَةً إِلَى بَنِي خُشَيْنٍ بَطْنٌ مِنَ النَّمِرِ بْنِ وَبَرَةَ بْنِ تَغْلِبَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ ابْنُ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِّ بْنِ قُضَاعَةَ.
قَوْلُهُ (قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ
(1)
في نسخة "الخلة"
كِتَابٍ) يَعْنِي بِالشَّامِ، وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ قَدْ سَكَنُوا الشَّامَ وَتَنَصَّرُوا مِنْهُمْ آلُ غَسَّانَ وَتَنُوخُ وَبَهْزٌ وَبُطُونٌ مِنْ قُضَاعَةَ مِنْهُمْ بَنُو خُشَيْنٍ آلُ أَبِي ثَعْلَبَةَ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ أَبِي ثَعْلَبَةَ، فَقِيلَ جُرْثُومٌ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَقِيلَ جُرْهُمٌ، وَقِيلَ نَاشِبٌ، وَقِيلَ جَرْثَمٌ وَهُوَ كَالْأَوَّلِ لَكِنْ بِغَيْرِ إِشْبَاعٍ، وَقِيلَ جُرْثُومَةُ وَهُوَ كَالْأَوَّلِ لَكِنْ بِزِيَادَةِ هَاءٍ، وَقِيلَ غُرْنُوقٌ، وَقِيلَ نَاشِرٌ، وَقِيلَ لَاشِرٌ، وَقِيلَ لَاشٌ، وَقِيلَ لَاشِنٌ، وَقِيلَ لَا شُومَهْ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ أَبِيهِ، فَقِيلَ عَمْرٌو، وَقِيلَ نَاشِبٌ، وَقِيلَ نَاسِبٌ بِمُهْمَلَةٍ، وَقِيلَ بِمُعْجَمَةٍ، وَقِيلَ نَاشِرٌ، وَقِيلَ لَاشِرٌ، وَقِيلَ لَاشٌ، وَقِيلَ لَاشِنٌ، وَقِيلَ لَاشِمٌ، وَقِيلَ لَاسِمٌ، وَقِيلَ جُلْهُمٌ، وَقِيلَ حِمْيَرٌ، وَقِيلَ جُرْهُمٌ، وَقِيلَ جُرْثُومٌ. وَيَجْتَمِعُ مِنِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ بِالتَّرْكِيبِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَانَ إِسْلَامُهُ قَبْلَ خَيْبَرَ وَشَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَتَوَجَّهَ إِلَى قَوْمِهِ فَأَسْلَمُوا، وَلَهُ أَخٌ يُقَالُ لَهُ عَمْرٌو أَسْلَمَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ (فِي آنِيَتِهِمْ) جَمْعُ إِنَاءٍ وَالْأَوَانِي جَمْعُ آنِيَةٍ، وَقَدْ وَقَعَ الْجَوَابُ عَنْهُ فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا فَتَمْسَّكَ بِهَذَا الْأَمْرِ مَنْ رَأَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ آنِيَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْغَسْلِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِمُ النَّجَاسَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَدَيَّنُ بِمُلَابَسَتِهَا، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى تَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالْغَالِبِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ بِأَنَّ الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنَ الْغَالِبِ رَاجِحٌ عَلَى الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْأَصْلِ، وَأَجَابَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَصْلِ حَتَّى تَتَحَقَّقَ النَّجَاسَةُ بِجَوَابَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْغَسْلِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ احْتِيَاطًا جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا دَلَّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْأَصْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ حَالُ مَنْ يَتَحَقَّقُ النَّجَاسَةُ فِيهِ، وَيُؤَيِّدُهُ ذِكْرُ الْمَجُوسِ لِأَنَّ أَوَانِيَهُمْ نَجِسَةٌ لِكَوْنِهِمْ لَا تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْآنِيَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ آنِيَةُ مَنْ يَطْبُخُ فِيهَا لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَيَشْرَبُ فِيهَا الْخَمْرَ كَمَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ إِنَّا نُجَاوِرُ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَهُمْ يَطْبُخُونَ فِي قُدُورِهِمُ الْخِنْزِيرَ وَيَشْرَبُونَ فِي آنِيَتِهِمُ الْخَمْرَ فَقَالَ فَذَكَرَ الْجَوَابَ.
وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَمُرَادُهُمْ مُطْلَقُ آنِيَّةِ الْكُفَّارِ الَّتِي لَيْسَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي النَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا وَلَوْ لَمْ تُغْسَلْ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى الْغَسْلَ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ لَا لِثُبُوتِ الْكَرَاهَةِ فِي ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُهَا بِلَا غَسْلٍ مَكْرُوهًا بِنَاءً عَلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ، وَأَنَّ اسْتِعْمَالَهَا مَعَ الْغَسْلِ رُخْصَةٌ إِذَا وَجَدَ غَيْرَهَا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ جَازَ بِلَا كَرَاهَةٍ لِلنَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ فِيهَا مُطْلَقًا وَتَعْلِيقُ الْإِذْنِ عَلَى عَدَمِ غَيْرِهَا مَعَ غَسْلِهَا، وَتَمَسَّكَ بِهَذَا بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ يَتَعَيَّنُ كَسْرُ آنِيَّةِ الْخَمْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَاسْتَدَلَّ بِالتَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ الْغَسْلَ لَوْ كَانَ مُطَهِّرًا لَهَا لَمَا كَانَ لِلتَّفْصِيلِ مَعْنًى، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي كَوْنِ الْعَيْنِ تَصِيرُ نَجِسَةً بِحَيْثُ لَا تَطْهُرُ أَصْلًا بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّفْصِيلُ لِلْأَخْذِ بِالْأَوْلَى، فَإِنَّ الْإِنَاءَ الَّذِي يُطْبَخُ فِيهِ الْخِنْزِيرُ يُسْتَقْذَرُ وَلَوْ غُسِلَ كَمَا يُكْرَهُ الشُّرْبُ فِي الْمِحْجَمَةِ وَلَوْ غُسِلَتِ اسْتِقْذَارًا، وَمَشَى ابْنُ حَزْمٍ عَلَى طاهِرِيَّتِهِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ آنِيَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَجِدَ غَيْرَهَا، وَالثَّانِي: غَسْلُهَا.
وَأُجِيبَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ أَمْرَهُ بِالْغَسْلِ عِنْدَ فَقْدِ غَيْرِهَا دَالٌّ عَلَى طَهَارَتِهَا بِالْغَسْلِ، وَالْأَمْرُ بِاجْتِنَابِهَا عِنْدَ وُجُودِ غَيْرِهَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْفِيرِ عَنْهَا كَمَا فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ الْآتِي بَعْدُ فِي الْأَمْرِ بِكَسْرِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَتْ فِيهَا الْمَيْتَةُ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَوْ نَغْسِلُهَا؟ فَقَالَ: أَوْ ذَاكَ. فَأَمَرَ بِالْكَسْرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْفِيرِ عَنْهَا ثُمَّ أَذِنَ فِي الْغَسْلِ تَرْخِيصًا، فَكَذَلِكَ يُتَّجَهُ هَذَا هُنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (وَبِأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي) فَقَالَ فِي جَوَابِهِ وَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ أَوْجَبَ التَّسْمِيَةَ عَلَى الصَّيْدِ وَعَلَى الذَّبِيحَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَكَذَا تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ السُّؤَالِ الثَّالِثِ وَهُوَ الصَّيْدُ بِالْكَلْبِ، وَقَوْلُهُ فَكُلْ وَقَعَ مُفَسَّرًا فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا يُقَالُ لَهُ أَبُو ثَعْلَبَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي كِلَابًا مُكَلَّبَةً - الْحَدِيثَ وَفِيهِ - وَأَفْتِنِي فِي قَوْسِي، قَالَ: كُلْ مَا رَدَّتْ عَلَيْكَ قَوْسُكَ ذَكِيًّا وَغَيْرَ ذَكِيٍّ. قَالَ: وَإِنْ تَغَيَّبَ عَنِّي؟ قَالَ: وَإِنْ تَغَيَّبَ عَنْكَ مَا لَمْ يَصِلَّ أَوْ تَجِدَ فِيهِ أَثَرًا غَيْرَ سَهْمِكَ وَقَوْلُهُ يَصِلُّ بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ وَلَامٍ ثَقِيلَةٍ أَيْ يُنْتِنُ، وَسَيَأْتِي مَبَاحِثُ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ فِي بَابِ الصَّيْدِ إِذَا غَابَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ جَمْعُ الْمَسَائِلِ وَإِيرَادُهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً وَتَفْصِيلُ الْجَوَابِ عَنْهَا وَاحِدَةً وَاحِدَةً بِلَفْظِ أَمَّا وَأَمَّا.
5 - بَاب الْخَذْفِ وَالْبُنْدُقَةِ
5479 -
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ - وَاللَّفْظُ لِيَزِيدَ -، عَنْ كَهْمَسِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَخْذِفُ فَقَالَ لَهُ: لَا تَخْذِفْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْخَذْفِ - أَوْ كَانَ يَكْرَهُ الْخَذْفَ - وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ وَلَا يُنْكَأ بِهِ عَدُوٌّ وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ. ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْذِفُ فَقَالَ لَهُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْخَذْفِ - أَوْ كَرِهَ الْخَذْفَ - وَأَنْتَ تَخْذِفُ؟ لَا أُكَلِّمُكَ كَذَا وَكَذَا.
قَوْلُهُ (بَابُ الْخَذْفِ وَالْبُنْدُقَةِ) أَمَّا الْخَذْفُ فَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ فِي الْبَابِ، وَأَمَّا الْبُنْدُقَةُ مَعْرُوفَةٌ تُتَّخَذُ مِنْ طِينٍ وَتَيْبَسُ فَيُرْمَى بِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَشْيَاءُ تَتَعَلَّقُ بِهَا فِي بَابِ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ) وَهُوَ يُوسُفُ بْنُ مُوسَى بْنُ رَاشِدِ بْنِ بِلَالٍ الْقَطَّانُ الرَّازِيُّ نَزِيلُ بَغْدَادَ، نَسَبَهُ الْبُخَارِيُّ إِلَى جَدِّهِ، وَفِي طَبَقَتِهِ يُوسُفُ بْنُ مُوسَى التُّسْتَرِيُّ نَزَيلَ الرَّيَّ. فَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ كَانَ يَخْشَى أَنْ يَلْتَبِسَ بِهِ.
قَوْلُهُ (وَاللَّفْظُ لِيَزِيدَ) قُلْتُ: قَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ الْحَدِيثَ عَنْ وَكِيعٍ مُقْتَصِرًا عَلَى الْمَتْنِ دُونَ الْقِصَّةِ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَوَكِيعٌ، كِلَاهُمَا عَنْ كَهْمَسٍ مَقْرُونًا وَقَالَ: إِنَّ السِّيَاقَ لِيَحْيَى، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
قَوْلُهُ (إِنَّهُ رَأَى رَجُلًا) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ كَهْمَسٍ رَأَى رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ قَرِيبٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ.
قَوْلُهُ (يَخْذِفُ) بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَآخِرُهُ فَاءٌ، أَيْ يَرْمِي بِحَصَاةٍ أَوْ نَوَاةٍ بَيْنَ سَبَّابَتَيْهِ أَوْ بَيْنَ الْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ أَوْ عَلَى ظَاهِرِ الْوُسْطَى وَبَاطِنِ الْإِبْهَامِ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: خَذَفْتَ الْحَصَاةَ رَمَيْتَهَا بَيْنَ أُصْبُعَيْكَ، وَقِيلَ فِي حَصَى الْخَذْفِ: أَنْ يَجْعَلَ الْحَصَاةَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ مِنَ الْيُمْنَى وَالْإِبْهَامِ مِنَ الْيُسْرَى ثُمَّ يَقْذِفُهَا بِالسَّبَّابَةِ مِنَ الْيَمِينِ، وَقَ لَ ابْنُ سِيدَهْ: خَذَفَ بِالشَّيْءِ يَخْذِفُ فَارِسِيٌّ، وَخَصَّ بَعْضُهُمْ بِهِ الْحَصَى، قَالَ: وَالْمِخْذَفَةُ الَّتِي يُوضَعُ فِيهَا الْحَجْرُ وَيُرْمَى بِهَا الطَّيْرُ وَيُطْلَقُ عَلَى الْمِقْلَاعِ أَيْضًا قَالَهُ فِي الصِّحَاحِ.
قَوْلُهُ (نَهَى عَنِ الْخَذْفِ، أَوْ كَانَ يَكْرَهُ الْخَذْفَ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ وَكِيعٍ نَهَى عَنِ الْخَذْفِ وَلَمْ يَشُكَّ، وَأَخْرَجَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ كَهْمَسٍ بِالشَّكِّ وَبَيَّنَ أَنَّ الشَّكَّ مِنْ كَهْمَسٍ.
قَوْلُهُ (إِنَّهُ لَا يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ) قَالَ الْمُهَلَّبُ: أَبَاحَ اللَّهُ الصَّيْدَ عَلَى صِفَةٍ فَقَالَ: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} وَلَيْسَ الرَّمْيُ بِالْبُنْدُقَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ وَقِيذٌ، وَأَطْلَقَ الشَّارِعُ أَنَّ الْخَذْفَ لَا يُصَادُ بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمُجْهِزَاتِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ - إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ - عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ مَا قَتَلَتْهُ الْبُنْدُقَةُ وَالْحَجَرُ، انْتَهَى. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ الصَّيْدَ بِقُوَّةِ رَامِيهِ لَا بِحَدِّهِ.
قَوْلُهُ (وَلَا يَنْكَأُ بِهِ عَدُوٌّ) قَالَ عِيَاضٌ: الرِّوَايَةُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَبِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ وَهِيَ لُغَةٌ،
وَالْأَشْهَرُ بِكَسْرِ الْكَافِ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: لَا يَنْكَأُ بِفَتْحِ الْكَافِ مَهْمُوزٌ، وَرَوَى لَا يَنْكِي بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَهُوَ أَوْجَهُ لِأَنَّ الْمَهْمُوزَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ نَكَأْتُ الْقُرْحَةَ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ فَإِنَّهُ مِنَ النِّكَايَةِ، لَكِنْ قَالَ فِي الْعَيْنِ نَكَأْتُ لُغَةٌ فِي نَكَيْتُ، فَعَلَى هَذَا تَتَوَجَّهُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ قَالَ: وَمَعْنَاهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْأَذَى. وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: نَكَأَ الْعَدُوُّ نِكَايَةً أَصَابَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: نَكَأْتُ الْعَدُوَّ أَنْكَؤُهُمْ لُغَةً فِي نَكَيْتُهُمْ، فَظَهَرَ أَنَّ الرِّوَايَةَ صَحِيحَةُ الْمَعْنَى وَلَا مَعْنَى لِتَخْطِئَتِهَا. وَأَغْرَبَ ابْنُ التِّينِ فَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي بِالْهَمْزِ أَصْلًا بَلْ شَرَحَهُ عَلَى الَّتِي بِكَسْرِ الْكَافِ بِغَيْرِ هَمْزٍ، ثُمَّ قَالَ: وَنَكَأْتُ الْقُرْحَةَ بِالْهَمْزِ.
قَوْلُهُ (وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكْسِرُ السِّنَّ) أَيِ الرَّمْيَةُ، وَأَطْلَقَ السِّنَّ فَيَشْمَلُ سِنَّ الْمُرْمَى وَغَيْرَهُ مِنْ آدَمِيٍّ وَغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ (لَا أُكَلِّمُكَ كَذَا وَكَذَا) فِي رِوَايَةِ مُعَاذٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ: لَا أُكَلِّمُكَ كَلِمَةً كَذَا وَكَذَا وَكَلِمَةً بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ، كَذَا وَكَذَا أَبْهَمَ الزَّمَانَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ هِجْرَانِ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ وَتَرْكِ كَلَامِهِ، وَلَا يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْهَجْرِ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَنْ هَجَرَ لِحَظِّ نَفْسِهِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، وَفِيهِ تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ وَمَنْعُ الرَّمْيِ بِالْبُنْدُقَةِ لِأَنَّهُ إِذَا نَفَى الشَّارِعُ أَنَّهُ لَا يَصِيدُ فَلَا مَعْنَى لِلرَّمْيِ بِهِ بَلْ فِيهِ تَعْرِيضٌ لِلْحَيَوَانِ بِالتَّلَفِ لِغَيْرِ مَالِكِهِ وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ، نَعَمْ قَدْ يُدْرِكُ ذَكَاةَ مَا رُمِيَ بِالْبُنْدُقَةِ فَيَحِلُّ أَكْلُهُ، وَمِنْ ثَمَّ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِهِ فَصَرَّحَ مُجَلِّي فِي الذَّخَائِرِ بِمَنْعِهِ وَبِهِ أَفْتَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ بحله لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إِلَى الِاصْطِيَادِ، وَالتَّحْقِيقُ التَّفْصِيلُ: فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ الرَّمْيِ مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ امْتَنَعَ، وَإِنْ كَانَ عَكْسَهُ جَازَ وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمُرْمَى مِمَّا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الرَّمْيُ إِلَّا بِذَلِكَ ثُمَّ لَا يَقْتُلُهُ غَالِبًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ بَابَيْنِ مِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ الْحَسَنِ فِي كَرَاهِيَةِ رَمْيِ الْبُنْدُقَةِ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ فِي الْفَلَاةِ، فَجَعَلَ مَدَارَ النَّهْيِ عَلَى خَشْيَةِ إِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
6 - بَاب مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ
5480 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيَةٍ نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطَانِ.
[الحديث 5480 - طرفاه في: 5481، 5482]
5481 -
حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ سَمِعْتُ سَالِمًا يَقُولُ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إِلاَّ كَلْبًا ضَارِيًا لِصَيْدٍ أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ"
5482 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إِلاَّ كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيًا نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ"
قَوْلُهُ (بَابُ مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ) يُقَالُ: اقْتَنَى الشَّيْءَ إِذَا اتَّخَذَهُ لِلِادِّخَارِ، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ طُرُقٍ عَنْهُ، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى لَيْسَ بِكَلْبِ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيَةٍ وَفِي الثَّانِيَةِ إِلَّا كَلْبًا ضَارِيًا لِصَيْدٍ أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ وَفِي الثَّالِثَةِ إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيًا فَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ تُفَسِّرُ الْأُولَى وَالثَّالِثَةَ، فَالْأُولَى إِمَّا لِلِاسْتِعَارَةِ عَلَى أَنَّ ضَارِيًا صِفَةٌ لِلْجَمَاعَةِ الضَّارِينَ أَصْحَابِ الْكِلَابِ الْمُعْتَادَةِ الضَّارِيَةِ عَلَى الصَّيْدِ، يُقَالُ: ضَرَا عَلَى الصَّيْدِ ضَرَاوَةً، أَيْ تَعَوَّدَ ذَلِكَ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ، وَضَرَا الْكَلْبُ وَأَضْرَاهُ صَاحِبُهُ، أَيْ عَوَّدَهُ وَأَغْرَاهُ بِالصَّيْدِ، وَالْجَمْعُ ضَوَارٍ، وَإِمَّا لِلتَّنَاسُبِ لِلَفْظِ مَاشِيَةٍ، مِثْلُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، وَالْأَصْلُ تَلَوْتَ، وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ فِيهَا حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: أَوْ كَلْبًا ضَارِيًا.
وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ إِلَّا كَلْبَ ضَارِي بِالْإِضَافَةِ وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ، أَوْ لَفْظُ ضَارِي صِفَةٌ لِلرَّجُلِ الصَّائِدِ أَيْ إِلَّا كَلْبَ رَجُلٍ مُعْتَادٍ لِلصَّيْدِ، وَثُبُوتُ الْيَاءِ فِي الِاسْمِ الْمَنْقُوصِ مَعَ حَذْفِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنْهُ لُغَةً. وَقَدْ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمُزَارَعَةِ وَفِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَأَوْرَدَهُ فِيهِمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْمَتْنِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ، وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى زِيَادَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ فِي الْحَدِيثِ أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ، وَفِي لَفْظٍ حَرْثٍ وَكَذَا وَقَعَتِ الزِّيَادَةُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ.
7 - باب إِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} مُكَلِّبِينَ: الْكَوَاسِبُ. {اجْتَرَحُوا} اكْتَسَبُوا. {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: سَرِيعُ الْحِسَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ فَقَدْ أَفْسَدَهُ، إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَاللَّهُ يَقُولُ:{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} فَتُضْرَبُ وَتُعَلَّمُ حَتَّى تتْرُكَ. وَكَرِهَهُ ابْنُ عُمَرَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ شَرِبَ الدَّمَ وَلَمْ يَأْكُلْ فَكُلْ.
5483 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: إِنَّا قَوْمٌ نَصِيدُ بِهَذِهِ الْكِلَابِ. قَالَ: إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْك وَإِنْ قَتَلْنَ، إِلَّا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَهَا كِلَابٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا تَأْكُلْ.
قَوْلُهُ (بَابُ إِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ مِنْ رِوَايَةِ بَيَانِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ (وَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} الْآيَةَ. مُكَلِّبِينَ الْكَوَاسِبَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الصَّوَائِدَ وَجَمَعَهُمَا فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ، وَهُوَ صِفَةُ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ الْكِلَابُ الصَّوَائِدُ أَوِ الْكَوَاسِبُ، وَقَوْلُهُ مُكَلِّبِينَ أَيْ مُؤَدِّبِينَ أَوْ مُعَوِّدِينَ، قِيلَ وَلَيْسَ هُوَ تَفْعِيلٌ مِنَ الْكَلْبِ الْحَيَوَانِ الْمَعْرُوفِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْكَلَبِ بِفَتْحِ اللَّامِ وَهُوَ الْحِرْصُ، نَعَمْ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِيهِ لِمَا طُبِعَ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْحِرْصِ، وَلِأَنَّ الصَّيْدَ غَالِبًا إِنَّمَا يَكُونُ بِالْكِلَابِ، فَمَنْ عَلِمَ الصَّيْدَ مِنْ غَيْرِهَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ مُكَلِّبِينَ: أَيْ أَصْحَابُ كِلَابٍ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْكَلَّابُ وَالْمُكَلِّبُ الَّذِي يُعَلِّمُ الْكِلَابَ.
قَوْلُهُ (اجْتَرَحُوا: اكْتَسَبُوا) هُوَ تَفْسِيرُ
أَبِي عُبَيْدَةَ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا اسْتِطْرَادًا لِبَيَانِ أَنَّ الِاجْتِرَاحَ يُطْلَقُ عَلَى الِاكْتِسَابِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُكَلِّبِينَ الْمُعَلِّمِينَ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمَادَّةِ الْكِلَابَ لَكِنْ لَيْسَ الْكَلْبُ شَرْطًا فَيَصِحُّ الصَّيْدُ بِغَيْرِ الْكَلْبِ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَوَارِحِ، وَلَفْظُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ أَيِ الصَّوَائِدِ، وَيُقَالُ فُلَانُ جَارِحَةُ أَهْلِهِ أَيْ كَاسِبُهُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَمَنْ يَجْتَرِحُ أَيْ يَكْتَسِبُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ اكْتَسَبُوا.
(تَنْبِيهٌ):
اعْتَرَضَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَلَى قَوْلِهِ الْكَوَاسِبُ وَالْجَوَارِحُ فَإِنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةٍ فِي الْهَوَالِكِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَأَلْزَمَهُ التَّنَاقُضُ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلِ الَّذِي هُنَا عَلَى الْأَصْلِ فِي جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ فَقَدْ أَفْسَدَهُ، إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَاللَّهُ يَقُولُ: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} فَتُضْرَبُ وَتُعَلَّمُ حَتَّى تَتْرُكَ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مُخْتَصَرًا مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ. وَأ خْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ فَسَمَّيْتَ فَأَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، وَإِذَا أَكَلَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ صَاحِبَهُ فَلَيْسَ بِعَالِمٍ لِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل:{مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} وَيَنْبَغِي إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَنْ يَضْرِبَهُ حَتَّى يَدَعَ ذَلِكَ الْخُلُقَ، فَعُرِفَ بِهَذَا الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ حَتَّى يَتْرُكَ أَيْ يَتْرُكَ خُلُقَهُ فِي الشَّرَهِ وَيَتَمَرَّنُ عَلَى الصَّبْرِ عَنْ تَنَاوُلِ الصَّيْدِ حَتَّى يَجِئَ صَاحِبُهُ.
قَوْلُهُ (وَكَرِهَهُ ابْنُ عُمَرَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ صَيْدِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ. وَأَخْرَجَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ الرُّخْصَةَ فِيهِ. وَكَذَا أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ عَطَاءٌ إِنْ شَرِبَ الدَّمَ وَلَمْ يَأْكُلْ فَكُلْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ بِلَفْظِ إِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ وَإِنْ شَرِبَ فَلَا وَتَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ.
8 - بَاب الصَّيْدِ إِذَا غَابَ عَنْهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً
5484 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَأَمْسَكَ وَقَتَلَ فَكُلْ، وَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا خَالَطَ كِلَابًا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا فَأَمْسَكْنَ فقَتَلْنَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُّهَا قَتَلَ، وَإِنْ رَمَيْتَ الصَّيْدَ فَوَجَدْتَهُ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَيْسَ بِهِ إِلَّا أَثَرُ سَهْمِكَ فَكُلْ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ.
قَوْلُهُ (بَابُ الصَّيْدِ إِذَا غَابَ عَنْهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً) أَيْ عَنِ الصَّائِدِ. قَوْلُهُ (ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ) هُوَ أَبُو زَيْدٍ الْبَصْرِيُّ الْأَحْوَلُ وَحَكَى الْكَلَابَاذِيُّ أَنَّهُ قِيلَ فِيهِ ثَابِتُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
قُلْتُ: زَيْدٌ كُنْيَتُهُ لَا اسْمُ أَبِيهِ، وَشَيْخُهُ عَاصِمٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلُ وَقَدْ زَادَ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ قِصَّةُ السَّهْمِ.
قَوْلُهُ (وَإِنْ رَمَيْتَ الصَّيْدَ فَوَجَدْتَهُ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَيْسَ بِهِ إِلَّا أَثَرُ سَهْمِكَ فَكُلْ) وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِنْ وَجَدَ فِيهِ أَثَرَ غَيْرِ سَهْمِهِ لَا يَأْكُلْ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلْبِ مِنَ التَّفْصِيلِ فِيمَا إِذَا خَالَطَ الْكَلْبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ الصَّائِدُ كَلْبٌ آخَرُ، لَكِنِ التَّفْصِيلُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلْبِ فِيمَا
إِذَا شَارَكَ الْكَلْبَ فِي قَتْلِهِ كَلْبٌ آخَرُ، وَهُنَا الْأَثَرُ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ سَهْمِ الرَّامِي أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَثَرَ سَهْمِ رَامٍ آخَرَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْقَاتِلَةِ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ مَعَ التَّرَدُّدِ، وَقَدْ جَاءَتْ فِيهِ زِيَادَةٌ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالطَّحَاوِيُّ بِلَفْظِ إِذَا وَجَدْتَ سَهْمَكَ فِيهِ وَلَمْ تَجِدْ بِهِ أَثَرَ سَبُعٍ وَعَلِمْتَ أَنَّ سَهْمَكَ قَتَلَهُ فَكُلْ مِنْهُ قَالَ الرَّافِعِيُّ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ جَرَحَهُ ثُمَّ غَابَ ثُمَّ جَاءَ فَوَجَدَهُ مَيِّتًا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُخْتَصَرِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْحِلُّ أَصَحُّ دَلِيلًا. وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ كُلْ مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ: مَعْنَى مَا أَصْمَيْتَ مَا قَتَلَهُ الْكَلْبُ وَأَنْتَ تَرَاهُ، وَمَا أَنْمَيْتَ وَمَا غَابَ عَنْكَ مَقْتَلُهُ. قَالَ: وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدِي غَيْرُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ شَيْءٌ فَيَسْقُطُ كُلُّ شَيْءٍ خَالَفَ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَقُومُ مَعَهُ رَأْيٌ وَلَا قِيَاسٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ ثَبَتَ الْخَبَرُ يَعْنِي حَدِيثَ الْبَابِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ.
قَوْلُهُ (وَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ) يُؤْخَذُ سَبَبُ مَنْعِ أَكْلِهِ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَقَعُ التَّرَدُّدُ هَلْ قَتَلَهُ السَّهْمُ أَوِ الْغَرَقُ فِي الْمَاءِ؟ فَلَوْ تَحَقَّقَ أَنَّ السَّهْمَ أَصَابَهُ فَمَاتَ فَلَمْ يَقَعْ فِي الْمَاءِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ قَتَلَهُ السَّهْمُ فَهَذَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إِذَا وُجِدَ الصَّيْدُ فِي الْمَاءِ غَرِيقًا حَرُمَ بِالِاتِّفَاقِ اهـ، وَقَدْ صَرَّحَ الرَّافِعِيُّ بِأَنَّ مَحِلَّهُ مَا لَمْ يَنْتَهِ الصَّيْدُ بِتِلْكَ الْجِرَاحَةِ إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، فَإِنِ انْتَهَى إِلَيْهَا بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ مَثَلًا فَقَدْ تَمَّتْ ذَكَاتُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي الْمَاءُ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُكُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ سَهْمَهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ أَنَّهُ يَحِلُّ.
5485 -
وَقَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَدِيٍّ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَرْمِي الصَّيْدَ فيفتقر أَثَرَهُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ ثُمَّ يَجِدُهُ مَيِّتًا وَفِيهِ سَهْمُهُ، قَالَ: يَأْكُلُ إِنْ شَاءَ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى) يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْأَعْلَى السَّامِيَّ بِالْمُهْمَلَةِ الْبَصْرِيَّ، وَدَاوُدُ هُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ، وَعَامِرٌ هُوَ الشَّعْبِيُّ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بِهِ.
قَوْلُهُ (فَيَفْتَقِرُ) بِفَاءٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ ثُمَّ قَافٍ أَيْ يَتْبَعُ فَقَارَهُ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ اقْتَصَرَ ابْنُ بَطَّالٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَيَقْتَفِي أَيْ يَتْبَعَ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ، وَالْأَصِيلِيِّ وَفِي رِوَايَةِ فَيَقْفُو وَهِيَ أَوْجَهُ.
قَوْلُهُ (الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ) فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَيَغِيبُ عَنْهُ اللَّيْلَةَ وَاللَّيْلَتَيْنِ وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ بِسَنَدٍ فِيهِ مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ إِذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَغَابَ عَنْكَ فَأَدْرَكْتَهُ فَكُلْ مَا لَمْ يُنْتِنْ وَفِي لَفْظٍ فِي الَّذِي يَدْرِكُ الصَّيْدَ بَعْدَ ثَلَاثٍ كُلْهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ وَنَحْوُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ قَرِيبًا، فَجَعَلَ الْغَايَةَ أَنْ يُنْتِنَ الصَّيْدُ فَلَوْ وَجَدَهُ مَثَلًا بَعْدَ ثَلَاثٍ وَلَمْ يُنْتِنْ حَلَّ، وَإِنْ وَجَدَهُ بدونها وَقَدْ أَنْتَنَ فَلَا، هَذَا ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَأَجَابَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ أَكْلِهِ إِذَا أَنْتَنَ لِلتَّنْزِيهِ، وَسَأَذْكُرُ فِي ذَلِكَ بَحْثًا فِي بَابِ صَيْدِ الْبَحْرِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّامِيَ لَوْ أَخَّرَ الصَّيْدَ عَقِبَ الرَّمْيِ إِلَى أَنْ يَجِدَهُ أَنْ يَحِلَّ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِفْصَالٍ عَنْ سَبَبِ غَيْبَتِهِ عَنْهُ أَكَانَ مَعَ الطَّلَبِ أَوْ عَدَمِهِ، لَكِنْ يُسْتَدَلُّ لِلطَّلَبِ بِمَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ حَيْثُ قَالَ فَيَقْتَفِي أَثَرَهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ خَرَجَ عَلَى حَسَبِ السُّؤَالِ، فَاخْتَصَرَ بَعْضُ الرُّوَاةِ السُّؤَالَ، فَلَا يَتَمَسَّكُ فِيهِ بِتَرْكِ الِاسْتِفْصَالِ. وَاخْتُلِفَ فِي صِفَةِ الطَّلَبِ: فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِنْ أَخَّرَ سَاعَةً فَلَمْ يَطْلُبْ لَمْ يَحِلَّ، وَإِنِ اتَّبَعَهُ عَقِبَ الرَّمْيِ فَوَجَدَهُ مَيِّتًا حَلَّ. وَعَنِ الشَّافِعِيَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَتْبَعَهُ.
وَفِي اشْتِرَاطِ الْعَدْوِ وَجْهَانِ أَظْهَرُهُمَا يَكْفِي الْمَشْيُ عَلَى عَادَتِهِ حَتَّى لَوْ أَسْرَعَ وَجَدَهُ حَيًّا حَلَّ، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا بُدَّ مِنَ الْإِسْرَاعِ قَلِيلًا لِيَتَحَقَّقَ صُورَةُ الطَّلَبِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ نَحْوُ هَذَا الِاخْتِلَافِ.
9 - بَاب إِذَا وَجَدَ مَعَ الصَّيْدِ كَلْبًا آخَرَ
5486 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرْسِلُ كَلْبِي وَأُسَمِّي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَأَخَذَ فَقَتَلَ فَأَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ. قُلْتُ: إِنِّي أُرْسِلُ كَلْبِي أَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَخَذَهُ؟ فَقَالَ: لَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ. وَسَأَلْتُهُ عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ؟ فَقَالَ: إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَإِذَا أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلَا تَأْكُلْ.
قَوْلُهُ (بَابُ إِذَا وَجَدَ مَعَ الصَّيْدِ كَلْبًا آخَرَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ.
10 - بَاب مَا جَاءَ فِي التَّصَيُّدِ
5487 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنِي ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: إِنَّا قَوْمٌ نَتَصَيَّدُ بِهَذِهِ الْكِلَابِ؟ فَقَالَ: إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ، إِلَّا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَهَا كَلْبٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا تَأْكُلْ.
5488 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ. وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ رضي الله عنه يَقُولُ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ الْكِتَابِ، نَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ، وَأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي، وَأَصِيدُ بِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ وَالَّذِي لَيْسَ مُعَلَّمًا، فَأَخْبِرْنِي مَا الَّذِي يَحِلُّ لَنَا مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ من أَنَّكَ بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ الْكِتَابِ تَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَ آنِيَتِهِمْ فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا ثُمَّ كُلُوا فِيهَا. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ من أَنَّكَ بِأَرْضِ صَيْدٍ فَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ كُلْ وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ كُلْ وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الَّذِي لَيْسَ مُعَلَّمًا فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ.
5489 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَوْا عَلَيْهَا حَتَّى لَغِبُوا، فَسَعَيْتُ عَلَيْهَا حَتَّى أَخَذْتُهَا، فَجِئْتُ بِهَا إِلَى أَبِي طَلْحَةَ، فَبَعَثَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِوَرِكَيْهَا أَوْ فَخِذَيْهَا، فَقَبِلَهُ.
5490 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ تَخَلَّفَ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِينَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ، فَرَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ، ثُمَّ سَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطًا فَأَبَوْا، فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ فَأَبَوْا، فَأَخَذَهُ ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَى بَعْضُهُمْ، فَلَمَّا أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ.
5491 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، مِثْلَهُ. إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ؟
قَوْلُهُ (بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّصَيُّدِ). قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ مَقْصُودُهُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالصَّيْدِ لِمَنْ هُوَ عَيْشُهُ بِهِ مَشْرُوعٌ، وَلِمَنْ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ وَعَيْشُهُ بِغَيْرِهِ مُبَاحٌ، وَأَمَّا التَّصَيُّدُ لِمُجَرَّدِ اللَّهْوِ فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ. وَذَكَرَ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ.
الْأَوَّلُ: حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ مِنْ رِوَايَةِ بَيَانِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ.
الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ أَخْرَجَهُ عَالِيًا عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ حَيْوَةَ، وَنَازِلًا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَيْوَةَ وَهُوَ ابْنُ شُرَيْحٍ، وَسَاقَهُ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَسَيَأْتِي لَفْظُ أَبِي عَاصِمٍ حَيْثُ أَفْرَدَهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَالِيًا.
الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَنَسٍ أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا يَأْتِي شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ الذَّبَائِحِ، حَيْثُ عَقَدَ لِلْأَرْنَبِ تَرْجَمَةً مُفْرَدَةً، وَمَعْنَى أَنْفَجْنَا أَثَرْنَا. وَقَوْلُهُ هُنَا لَغِبُوا بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ بَعْدَ اللَّامِ أَيْ تَعِبُوا وَزْنَهُ وَمَعْنَاهُ، وَثَبَتَ بِلَفْظِ تَعِبُوا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَقَوْلُهُ بِوَرِكِهَا كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْإِفْرَادِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِوَرِكَيْهَا بِالتَّثْنِيَةِ.
الرَّابِعُ: حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهَا مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحَجِّ.
11 - بَاب التَّصَيُّدِ عَلَى الْجِبَالِ
5492 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْجُعْفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرٌو، أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، وَأَبِي صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ، سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ، وَأَنَا رَجُلٌ حِلٌّ عَلَى فَرَسي، وَكُنْتُ رَقَّاءً عَلَى الْجِبَالِ، فَبَيْنَا أَنَا عَلَى ذَلِكَ إِذْ رَأَيْتُ النَّاسَ مُتَشَوِّفِينَ لِشَيْءٍ، فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ حِمَارُ وَحْشٍ، فَقُلْتُ لَهُمْ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: لَا نَدْرِي. قُلْتُ: هُوَ حِمَارٌ وَحْشِيٌّ. فَقَالُوا: هُوَ مَا رَأَيْتَ. وَكُنْتُ نَسِيتُ سَوْطِي، فَقُلْتُ لَهُمْ: نَاوِلُونِي سَوْطِي. فَقَالُوا: لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ، فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتُهُ، ثُمَّ ضَرَبْتُ فِي أَثَرِهِ فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا ذَاكَ حَتَّى عَقَرْتُهُ، فَأَتَيْتُ إِلَيْهِمْ فَقُلْتُ لَهُمْ: قُومُوا فَاحْتَمِلُوا. قَالُوا: لَا نَمَسُّهُ. فَحَمَلْتُهُ حَتَّى جِئْتُهُمْ بِهِ، فَأَبَى بَعْضُهُمْ وَأَكَلَ بَعْضُهُمْ، فَقُلْتُ: أَنَا أَسْتَوْقِفُ لَكُمْ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَدْرَكْتُهُ، فَحَدَّثْتُهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ لِي: أَبَقِيَ مَعَكُمْ شَيْءٌ مِنْهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: كُلُوا، فَهُوَ طُعْمٌ أَطْعَمَكُمُوهُ اللَّهُ.
قَوْلُهُ (بَابُ التَّصَيُّدِ عَلَى الْجِبَالِ) هُوَ بِالْجِيمِ جَمْعُ جَبَلٍ بِالتَّحْرِيكِ. أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ لِقَوْلِهِ فِيهِ كُنْتُ رَقَّاءً عَلَى الْجِبَالِ وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ مَهْمُوزٌ أَيْ كَثِيرُ الصُّعُودِ عَلَيْهَا.
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ الْمِصْرِيُّ، وَأَبُو النَّضْرِ هُوَ الْمَدَنِيُّ وَاسْمُهُ سَالِمٌ.
قَوْلُهُ (وَأَبِي صَالِحٍ) هُوَ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ وَاسْمُهُ نَبْهَانُ، لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ، وَقَرَنَهُ بِنَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ. وَغَفَلَ الدَّاوُدِيُّ فَظَنَّ أَنَّ أَبَا صَالِحٍ هَذَا هُوَ وَلَدُهُ صَالِحٌ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ فَقَالَ: إِنَّهُ تَغَيَّرَ بِأخرَةٍ، فَمَنْ أَخَذَ عَنْهُ قَدِيمًا مِثْلُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّ أَبَا أَحْمَدَ كَتَبَ عَلَى حَاشِيَةِ نُسْخَتِهِ مُقَابِلَ وَأَبِي صَالِحٍ: هَذَا خَطَأٌ، يَعْنِي أَنَّ الصَّوَابَ عَنْ نَافِعٍ، وَصَالِحٍ، قَالَ: وَلَيْسَ هُوَ كَمَا ظَنَّ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ مَحْفُوظٌ لِنَبْهَانَ لَا لِابْنِهِ صَالِحٍ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ، فَقَالَ: هَذَا خَطَأٌ إِنَّمَا هُوَ عَنْ نَافِعٍ، وَأَبِي صَالِحٍ وَهُوَ وَالِدُ صَالِحٍ، وَلَمْ يَأْتِ عَنْهُ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ فَلِذَلِكَ غَلِطَ فِيهِ.
وَالتَّوْأَمَةُ ضُبِطَتْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ حَكَاهُ عِيَاضٌ عَنِ الْمُحَدِّثِينَ قَالَ: وَالصَّوَابُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْقُلُ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ فَيَفْتَحُ بِهَا الْوَاوَ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ التُّوَمَةُ بِوَزْنِ الْحُطَمَةِ وَلَعَلَّ هَذِهِ الضَّمَّةَ أَصْلُ مَا حُكِيَ عَنِ الْمُحَدِّثِينَ، وَقَوْلُهُ (رَقَّاءٌ عَلَى الْجِبَالِ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ دُونَ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: نَبَّهَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ عَلَى جَوَازِ ارْتِكَابِ الْمَشَاقِّ لِمَنْ لَهُ غَرَضٌ لِنَفْسِهِ أَوْ لِدَابَّتِهِ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مُبَاحًا، وَأَنَّ التَّصَيُّدَ فِي الْجِبَالِ كَهُوَ فِي السَّهْلِ، وَأَنَّ إِجْرَاءَ الْخَيْلِ فِي الْوَعْرِ جَائِزٌ لِلْحَاجَةِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ.
12 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} وَقَالَ عُمَرُ: صَيْدُهُ مَا اصْطِيدَ، {وَطَعَامُهُ} مَا رَمَى بِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الطَّافِي حَلَالٌ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {طَعَامِهِ} مَيْتَتُهُ، إِلَّا مَا قَذِرْتَ مِنْهَا. وَالْجِرِّيُّ لَا تَأْكُلُهُ الْيَهُودُ وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ
وَقَالَ شُرَيْحٌ صَاحِبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْبَحْرِ مَذْبُوحٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَمَّا الطَّيْرُ فَأَرَى أَنْ يَذْبَحَهُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ صَيْدُ الْأَنْهَارِ وَقِلَاتِ السَّيْلِ، أَصَيْدُ بَحْرٍ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ تَلَا: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} وَرَكِبَ الْحَسَنُ عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودِ كِلَابِ الْمَاءِ
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ أَنَّ أَهْلِي أَكَلُوا الضَّفَادِعَ لَأَطْعَمْتُهُمْ. وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بِالسُّلَحْفَاةِ بَأْسًا
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ، نَصْرَانِيٍّ أَوْ يَهُودِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: فِي الْمُرِي ذَبَحَ الْخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْسُ
5493 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه يَقُولُ: غَزَوْنَا جَيْشَ الْخَبَطِ، وَأُمِّرَ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَجُعْنَا جُوعًا شَدِيدًا، فَأَلْقَى الْبَحْرُ حُوتًا مَيِّتًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، يُقَالُ لَهُ الْعَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ، فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَظْمًا مِنْ عِظَامِهِ فَمَرَّ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ.
5494 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: بَعَثَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مِائَةِ رَاكِبٍ وَأَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ نَرْصُدُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ فَسُمِّيَ جَيْشَ الْخَبَطِ وَأَلْقَى الْبَحْرُ حُوتًا يُقَالُ لَهُ الْعَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا نِصْفَ شَهْرٍ، وَادَّهَنَّا بِوَدَكِهِ حَتَّى صَلَحَتْ أَجْسَامُنَا، قَالَ: فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنَصَبَهُ فَمَرَّ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ، وَكَانَ فِينَا رَجُلٌ، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْجُوعُ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ نَهَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} كَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَاقْتَصَرَ الْبَاقُونَ عَلَى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}
قَوْلُهُ (وَقَالَ عُمَرُ) هُوَ ابْنُ الْخَطَّابِ (صَيْدُهُ مَا اصْطِيدَ، وَطَعَامُهُ مَا رَمَى بِهِ) وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّارِيخِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ الْبَحْرَيْنِ سَأَلَنِي أَهْلُهَا عَمَّا قَذَفَ الْبَحْرُ، فَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوهُ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ - فَذَكَرَ قِصَّةً - قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: قَالَ اللَّهُ عز وجل فِي كِتَابِهِ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} فَصَيْدُهُ مَا صِيدَ، وَطَعَامُهُ مَا قَذَفَ بِهِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ) هُوَ الصِّدِّيقُ (الطَّافِي حَلَالٌ) وَصَلَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّحَاوِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَشِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ السَّمَكَةُ الطَّافِيَةُ حَلَالٌ زَادَ الطَّحَاوِيُّ لِمَنْ أَرَادَ أَكْلَهُ وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَكَذَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْهَا وَفِي بَعْضِهَا أَشْهَدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ أَكَلَ السَّمَكَ الطَّافِيَ عَلَى الْمَاءِ اهـ. وَالطَّافِي بِغَيْرِ هَمْزٍ مِنْ طَفَا يَطْفُو إِذَا عَلَا الْمَاءَ وَلَمْ يُرَسَّبْ، وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ: إِنَّ اللَّهَ ذَبَحَ لَكُمْ مَا فِي الْبَحْرِ، فَكُلُوهُ كُلَّهُ فَإِنَّهُ ذَكِيٌّ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَعَامُهُ مَيْتَتُهُ إِلَّا مَا قَذِرَتْ مِنْهَا) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} قَالَ: طَعَامُهُ مَيْتَتُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ صَيْدَ الْبَحْرِ: لَا تَأْكُلُ مِنْهُ طَافِيًا. فِي سَنَدِهِ الْأَجْلَحُ وَهُوَ لَيِّنٌ، وَيُوهِنُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَاضِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ (وَالْجَرِيُّ لَا تَأْكُلُهُ الْيَهُودُ وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سئل عَنِ الْجَرِيِّ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا هُوَ كَرِهَتْهُ الْيَهُودُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ بِهِ، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْجَرِّيِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا تُحَرِّمُهُ الْيَهُودُ وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ. وَهَذَا عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ. وَأَخْرَجَ عَنْ عَلِيٍّ وَطَائِفَةٍ نَحْوَهُ. وَالْجَرِّيُ بِفَتْحِ الْجِيمِ قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَفِي نُسْخَةٍ بِالْكَسْرِ - وَهُوَ ضَبْطُ الصِّحَاحِ - وَكَسْرِ الرَّاءِ الثَّقِيلَةِ قَالَ: وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا الْجِرِّيت وَهُوَ مَا لَا قِشْرَ لَهُ. قَالَ وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَا أَكْرَهُهُ لِأَنَّهُ يُقَالُ إِنَّهُ مِنَ الْمَمْسُوخِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْجِرِّيت نَوْعٌ مِنَ السَّمَكِ يُشْبِهُ الْحَيَّاتِ، وَقِيلَ: سَمَكٌ لَا قِشْرَ لَهُ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: الْمَرْمَاهِي وَالسِّلَّوْرُ مِثْلُهُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ ضَرْبٌ مِنَ السَّمَكِ يُشْبِهُ الْحَيَّاتِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: نَوْعٌ عَرِيضُ الْوَسَطِ دَقِيقُ الطَّرَفَيْنِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ
شُرَيْحٌ صَاحِبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْبَحْرِ مَذْبُوحٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَمَّا الطَّيْرُ فَأَرَى أَنْ تَذْبَحَهُ) وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّارِيخِ وَابْنُ مَنْدَهْ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا سَمِعَا شُرَيْحًا صَاحِبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْبَحْرِ مَذْبُوحٌ. قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَطَاءٍ فَقَالَ: أَمَّا الطَّيْرُ فَأَرَى أَنْ تَذْبَحَهُ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الصَّحَابَةِ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ شُرَيْحٍ، وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ سَمِعْتُ شَيْخًا كَبِيرًا يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا فِي الْبَحْرِ دَابَّةٌ إِلَّا قَدْ ذَبَحَهَا اللَّهُ لِبَنِي آدَمَ وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ رَفَعَهُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ ذَبَحَ كُلَّ مَا فِي الْبَحْرِ لِبَنِي آدَمَ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ. وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ نَحْوَهُ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدَيْنِ جَيِّدَيْنِ عَنْ عُمَرَ ثُمَّ عَنْ عَلِيٍّ: الْحُوتُ ذَكِيٌّ كُلُّهُ.
تَنْبِيهٌ:
سَقَطَ هَذَا التَّعْلِيقُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ، وَابْنُ السَّكَنِ، وَالْجُرْجَانِيِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ وَهُوَ وَهْمٌ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ وَتَبِعَ عِيَاضٌ وَزَادَ: وَهُوَ شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ أَبُو هَانِئٍ كَذَا قَالَ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ غَيْرُهُ وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ ذِكْرٌ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَشُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ لِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، وَأَمَّا هُوَ فَلَهُ إِدْرَاكٌ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ سَمَاعٌ وَلَا لِقَاءٌ. وَأَمَّا شُرَيْحٌ الْمَذْكُورُ فَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَقَالَ: لَهُ صُحْبَةٌ. وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ صَيْدُ الْأَنْهَارِ وَقِلَاتُ السَّيْلِ أَصَيْدُ بَحْرٍ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ تَلَا:{هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهَذَا سَوَاءً، وَأَخْرَجَهُ الْفَاكِهِيُّ فِي كِتَابِ مَكَّةَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَتَمَّ مِنْ هَذَا وَفِيهِ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ حِيتَانِ بِرْكَةِ الْقُشَيْرِيِّ - وَهِيَ بِئْرٌ عَظِيمَةٌ فِي الْحَرَمِ - أَتُصَادُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَسَأَلْتُهُ عَنْ ابْنِ الْمَاءِ وَأَشْبَاهِهِ أَصَيْدُ بَحْرٍ أَمْ صَيْدُ بَرٍّ؟ فَقَالَ حَيْثُ يَكُونُ أَكْثَرَ فَهُوَ صَيْدٌ. وَقِلَاتٌ بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَآخِرُهُ مُثَنَّاةٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ مُثَلَّثَةٌ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ: جَمْعُ قَلْتٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِثْلُ بَحْرٍ وَبِحَارٍ هُوَ النُّقْرَةُ فِي الصَّخْرَةِ يَسْتَنْقِعُ فِيهَا الْمَاءُ.
قَوْلُهُ (وَرَكِبَ الْحَسَنُ عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودِ كِلَابِ الْمَاءِ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ أَنَّ أَهْلِي أَكَلُوا الضَّفَادِعَ لَأَطْعَمْتُهُمْ، وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بِالسُّلَحْفَاةِ بَأْسًا) أَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ الْأَوَّلُ فَقِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ عَلِيٍّ، وَقِيلَ: الْبَصْرِيُّ ; وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ وَرَكِبَ الْحَسَنُ عليه السلام وَقَوْلُهُ عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودٍ أَيْ مُتَّخَذٌ مِنْ جُلُودِ كِلَابِ الْمَاءِ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ فالضَّفَادِعُ جَمْعُ ضِفْدَعٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَبِفَتْحِ الدَّالِ وَبِكَسْرِهَا أَيْضًا، وَحُكِيَ ضَمُّ أَوَّلِهِ مَعَ فَتْحِ الدَّالِ، وَالضَّفَادِي بِغَيْرِ عَيْنٍ لُغَةٌ فِيهِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ. لَمْ يُبَيِّنِ الشَّعْبِيُّ هَلْ تُذَكَّى أَمْ لَا؟ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا تُؤْكَلُ بِغَيْرِ تَذْكِيَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ مَا مَأْوَاهُ الْمَاءُ وَغَيْرِهِ، وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ لَا بُدَّ مِنَ التَّذْكِيَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ فِي السُّلَحْفَاةِ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بِأَكْلِ السُّلَحْفَاةِ بَأْسًا، وَمِنْ طَرِيقِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا، كُلْهَا. وَالسُّلَحْفَاةُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا فَاءٌ ثُمَّ أَلِفٌ ثُمَّ هَاءٌ، وَيَجُوزُ بَدَلَ الْهَاءِ هَمْزَةٌ، حَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ وَهِيَ رِوَايَةُ عَبْدُوسٍ، وَحَكَى أَيْضًا فِي الْمُحْكَمِ سُكُونَ اللَّامِ وَفَتْحَ الْحَاءِ، وَحَكَى أَيْضًا سُلَحْفِيَةً كَالْأَوَّلِ لَكِنْ بِكَسْرِ الْفَاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ نَصْرَانِيٌّ أَوْ يَهُودِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: كَذَا فِي النُّسَخِ الْقَدِيمَةِ وَفِي بَعْضِهَا مَا صَادَهُ قَبْلَ لَفْظِ نَصْرَانِيٌّ. قُلْتُ: وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُلْ مَا أَلْقَى الْبَحْرُ وَمَا صِيدَ مِنْهُ صَادَهُ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ
أَوْ مَجُوسِيٌّ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: مَفْهُومُهُ أَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ لَا يُؤْكَلُ إِنْ صَادَهُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ قَوْمٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَبِسَنَدٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَاهِيَةَ صَيْدِ الْمَجُوسِيِّ السَّمَكَ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي الْمُرْيِ ذَبَحَ الْخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْسُ) قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: ذَبَحَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي وَنَصْبُ رَاءِ الْخَمْرِ عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ، قَالَ: وَيُرْوَى بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى الْإِضَافَةِ وَالْخَمْرُ بِالْكَسْرِ أَيْ تَطْهِيرِهَا.
قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ وَهَذَا الْأَثَرُ سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَقَدْ وَصَلَهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَذَكَرَهُ سَوَاءً، قَالَ الْحَرْبِيُّ: هَذَا مُرْيٌ يُعْمَلُ بِالشَّامِ: يُؤْخَذُ الْخَمْرُ فَيُجْعَلُ فِيهِ الْمِلْحُ وَالسَّمَكُ وَيُوضَعُ فِي الشَّمْسِ فَيَتَغَيَّرُ عَنْ طَعْمِ الْخَمْرِ. وَأَخْرَجَ أَبُو بِشْرٍ الدُّولَابِيُّ فِي الْكُنَى مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ فِي مُرْيِ النِّينَانِ: غَيَّرَتْهُ الشَّمْسُ.
وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: لَا بَأْسَ بِالْمُرْيِ ذَبَحَتْهُ النَّارُ وَالْمِلْحُ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ مُغَلْطَايْ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَاعْتَرَضُوا عَلَى جَزْمِ الْبُخَارِيِّ بِهِ وَمَا عَثَرُوا عَلَى كَلَامِ الْحَرْبِيِّ، وَهُوَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ جَزْمًا، وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى أَخْرَجَهَا الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ: أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءَ كَانَ يَأْكُلُ الْمُرِيَ الَّذِي يُجْعَلُ فِيهِ الْخَمْرُ وَيَقُولُ: ذَبَحَتْهُ الشَّمْسُ وَالْمِلْحُ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِآخَرَ - فَذَكَرَ قِصَّةً فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُرْيِ - فَأَتَيَا أَبَا الدَّرْدَاءَ فَسَأَلَاهُ فَقَالَ: ذَبَحَتْ خَمْرَهَا الشَّمْسُ وَالْمِلْحُ وَالْحِيتَانُ. وَرُوِّينَاهُ فِي جُزْءِ إِسْحَاقَ بْنِ الْفَيْضَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: سُئِلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنْ أَكْلِ الْمُرْيِ فَقَالَ: ذَبَحَتِ الشَّمْسُ سَكَرَ الْخَمْرِ، فَنَحْنُ نَأْكُلُ، لَا نَرَى بِهِ بَأْسًا.
قَالَ أَبُو مُوسَى فِي ذَيْلِ الْغَرِيبِ: عَبَّرَ عَنْ قُوَّةِ الْمِلْحِ وَالشَّمْسِ وَغَلَبِتِهِمَا عَلَى الْخَمْرِ وَإِزَالَتِهِمَا طَعْمَهَا وَرَائِحَتَهَا بِالذَّبْحِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ النِّينَانَ دُونَ الْمِلْحِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِدُونِهِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ النِّينَانَ وَحْدَهَا هيَ الَّتِي خَلَّلَتْهُ. قَالَ: وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مِمَّنْ يُفْتِي بِجَوَازِ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ فَقَالَ: إِنَّ السَّمَكَ بِالْآلَةِ الَّتِي أُضِيفَتْ إِلَيْهِ يَغْلِبُ عَلَى ضَرَاوَةِ الْخَمْرِ وَيُزِيلُ شِدَّتَهَا، وَالشَّمْسُ تُؤَثِّرُ فِي تَخْلِيلِهَا فَتَصِيرُ حَلَالًا. قَالَ: وَكَانَ أَهْلُ الرِّيفِ مِنَ الشَّامِ يَعْجِنُونَ الْمُرْيَ بِالْخَمْرِ وَرُبَّمَا يَجْعَلُونَ فِيهِ أَيْضًا السَّمَكَ الَّذِي يُرَبَّى بِالْمِلْحِ وَالْأَبْزَارِ مِمَّا يُسَمُّونَهُ الصَّحْنَاءَ، وَالْقَصْدُ مِنَ الْمُرْيِ هَضْمُ الطَّعَامِ فَيُضِيفُونَ إِلَيْهِ كُلَّ ثَقِيفٍ أَوْ حِرِّيفٍ لِيَزِيدَ فِي جَلَاءِ الْمَعِدَةِ وَاسْتِدْعَاءِ الطَّعَامِ بِحَرَافَتِهِ. وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يَأْكُلُونَ هَذَا الْمُرْيَ الْمَعْمُولَ بِالْخَمْرِ وَأَدْخَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي طَهَارَةِ صَيْدِ الْبَحْرِ يُرِيدُ أَنَّ السَّمَكَ طَاهِرٌ حَلَالٌ وَأَنَّ طَهَارَتَهُ وَحِلَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ كَالْمِلْحِ حَتَّى يَصِيرَ الْحَرَامُ النَّجِسُ بِإِضَافَتِهَا إِلَيْهِ طَاهِرًا حَلَالًا، وَهَذَا رَأْيُ مَنْ يُجَوِّزُ تَحْلِيلَ الْخَمْرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَجَمَاعَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ اسْتَعَارَ الذَّبْحَ لِلْإِحْلَالِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: كَمَا أَنَّ الذَّبْحَ يُحِلُّ أَكْلَ الْمَذْبُوحَةِ دُونَ الْمَيْتَةِ فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ إِذَا وُضِعَتْ فِي الْخَمْرِ قَامَتْ مَقَامَ الذَّبْحِ فَأَحَلَّتْهَا.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: يُرِيدُ أَنَّهَا حَلَّتْ بِالْحُوتِ الْمَطْرُوحِ فِيهَا وَطَبْخِهَا بِالشَّمْسِ، فَكَانَ ذَلِكَ كَالذَّكَاةِ لِلْحَيَوَانِ، وَقَالَ غَيْرُهُ مَعْنَى ذَبَحَتْهَا أَبْطَلَتْ فِعْلَهَا، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي النَّوْعِ الْعِشْرِينَ مِنْ عُلُومِ الْحَدِيثِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ: اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ لَا خَيْرَ فِي الْخَمْرِ، وَأَنَّهَا إِذَا أُفْسِدَتْ لَا خَيْرَ فِيهَا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُفْسِدُهَا فَيَطِيبُ حِينَئِذٍ الْخَلُّ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَسَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ يَسْأَلُ عَنْ خَمْرٍ جُعِلَتْ فِي قُلَّةٍ وَجُعِلَ مَعَهَا مِلْحٌ وَأَخْلَاطٌ كَثِيرَةٌ ثُمَّ تُجْعَلُ فِي الشَّمْسِ حَتَّى تَعُودَ
مُرْيًا، فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: شَهِدْتُ قَبِيصَةَ يَنْهَى أَنْ يُجْعَلَ الْخَمْرُ مُرْيًا إِذَا أُخِذَ وَهُوَ خَمْرٌ.
قُلْتُ: وَقَبِيصَةُ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ وَأَبُوهُ صَحَابِيٌّ وَوُلِدَ هُوَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذُكِرَ فِي الصَّحَابَةِ لِذَلِكَ، وَهَذَا يُعَارِضُ أَثَرَ أَبِي الدَّرْدَاءِ الْمَذْكُورَ وَيُفَسِّرُ الْمُرَادَ بِهِ. وَالنِّينَانُ بِنُونَيْنِ الْأُولَى مَكْسُورَةٌ بَيْنَهُمَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ جَمْعُ نُونٍ وَهُوَ الْحُوتُ، وَالْمُرْيُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ، وَضُبِطَ فِي النِّهَايَةِ تَبَعًا لِلصِّحَاحِ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ نِسْبَةً إِلَى الْمُرِّ وَهُوَ الطَّعْمُ الْمَشْهُورُ، وَجَزَمَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بِالْأَوَّلِ، وَنَقَلَ الْجَوَالِيقِيُّ فِي لَحْنِ الْعَامَّةِ أَنَّهُمْ يُحَرِّكُونَ الرَّاءَ وَالْأَصْلُ بِسُكُونِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ جَيْشِ الْخَبَطِ مِنْ طَرِيقَيْنِ: إِحْدَاهُمَا رِوَايَةُ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو وَهُوَ ابْنُ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ فِي الْمَغَازِي، وَزَادَ هُنَاكَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، وَتَقَدَّمَتْ مَشْرُوحَةً مَعَ شَرْحِ سَائِرِ الْحَدِيثِ.
الطَّرِيقُ الثَّانِيَةُ رِوَايَةُ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَيْضًا، وَفِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَكَانَ فِينَا رَجُلٌ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ ثُمَّ ثَلَاثَ جَزَائِرَ ثُمَّ نَهَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي الْمَغَازِي، وَكَانَ اشْتَرَى الْجُزُرَ مِنْ أَعْرَابِيٍّ جُهَنِيٍّ كُلُّ جَزُورٍ بِوَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ يُوفِيهِ إِيَّاهُ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ ذَلِكَ - وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ - سَأَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ أَنْ يَنْهَى قَيْسًا عَنِ النَّحْرِ، فَعَزَمَ عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يَنْتَهِيَ عَنْ ذَلِكَ فَأَطَاعَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ هُنَاكَ أَيْضًا.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ جَزَائِرَ جَمْعُ جَزُورٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ جَزَائِرَ جَمْعُ جَزِيرَةٍ وَالْجَزُورُ إِنَّمَا يُجْمَعُ عَلَى جُزُرٍ بِضَمَّتَيْنِ، فَلَعَلَّهُ جَمْعُ الْجَمْعِ، وَالْغَرَضُ مِنْ إِيرَادِهِ هُنَا قِصَّةُ الْحُوتِ فَإِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْهَا جَوَازُ أَكْلِ مَيْتَةِ الْبَحْرِ لِتَصْرِيحِهِ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ فَأَلْقَى الْبَحْرُ حُوتًا مَيِّتًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ يُقَالُ لَهُ الْعَنْبَرُ وَتَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مِنْهُ، وَبِهَذَا تَتِمُّ الدَّلَالَةُ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ أَكْلِ الصَّحَابَةِ مِنْهُ وَهُمْ فِي حَالَةِ الْمَجَاعَةِ قَدْ يُقَالُ إِنَّهُ لِلِاضْطِرَارِ، وَلَا سِيَّمَا وَفِيهِ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ مَيْتَةٌ ثُمَّ قَالَ لَا بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَتَقَدَّمَتْ لِلْمُصَنِّفِ فِي الْمَغَازِي مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لَكِنْ قَالَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ كُلُوا وَلَمْ يَذْكُرْ بَقِيَّتَهُ.
وَحَاصِلُ قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ بَنَاهُ أَوَّلًا عَلَى عُمُومِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، ثُمَّ تَذَكَّرَ تَخْصِيصَ الْمُضْطَرِّ بِإِبَاحَةِ أَكْلِهَا إِذَا كَانَ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ، وَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي طَاعَةِ رَسُولِهِ وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ آخِرِ الْحَدِيثِ أَنَّ جِهَةَ كَوْنِهَا حَلَالًا لَيْسَتْ سَبَبَ الِاضْطِرَارِ بَلْ كَوْنُهَا مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ، فَفِي آخِرِهِ عِنْدَهُمَا جَمِيعًا فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كُلُوا رِزْقًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ، أَطْعِمُونَا إِنْ كَانَ مَعَكُمْ فَأَتَاهُ بَعْضُهُمْ بِعُضْوٍ فَأَكَلَهُ فَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ حَلَالٌ مُطْلَقًا. وَبَالَغَ فِي الْبَيَانِ بِأَكْلِهِ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ إِبَاحَةُ مَيْتَةِ الْبَحْرِ سَوَاءً مَاتَ بِنَفْسِهِ أَوْ مَا مَاتَ بِالِاصْطِيَادِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ يُكْرَهُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ مَا لَفَظَهُ فَمَاتَ وَبَيْنَ مَا مَاتَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ، وَتَمَسَّكُوا بِحَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ مَا أَلْقَاهُ الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ، وَمَا مَاتَ فِيهِ فَطَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، وَأَيُّوبُ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ هَذَا الْحَدِيثَ مَوْقُوفًا. وَقَدْ أُسْنِدَ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ الْبُخَارِيَّ عَنْهُ فَقَالَ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ، وَيُرْوَى عَنْ جَابِرٍ خِلَافُهُ اهـ. وَيَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ صَدُوقٌ وَصَفُوهُ بِسُوءِ الْحِفْظِ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: إِذَا حَدَّثَ مِنْ كِتَابِهِ فَحَدِيثُهُ حَسَنٌ، وَإِذَا حَدَّثَ حِفْظًا يُعْرَفُ وَيُنْكَرُ.
وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: لَمْ يَكُنْ بِالْحَافِظِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ: كَانَ يُخْطِئُ، وَقَدْ تُوبِعَ عَلَى رَفْعِهِ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ، عَنِ
الثَّوْرِيِّ مَرْفُوعًا لَكِنْ قَالَ: خَالَفَهُ وَكِيعٌ وَغَيْرُهُ فَوَقَفُوهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ مَرْفُوعًا وَلَا يَصِحُّ وَالصَّحِيحُ مَوْقُوفٌ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إِلَّا مَوْقُوفًا فَقَدْ عَارَضَهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي حِلَّهُ، لِأَنَّهُ سَمَكٌ لَوْ مَاتَ فِي الْبَرِّ لَأُكِلَ بِغَيْرِ تَذْكِيَةٍ، وَلَوْ نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ أَوْ قَتَلَتْهُ سَمَكَةٌ أُخْرَى فَمَاتَ لَأُكِلَ، فَكَذَلِكَ إِذَا مَاتَ وَهُوَ فِي الْبَحْرِ. وَيُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ جَوَازُ أَكْلِ اللَّحْمِ وَلَوْ أَنْتَنَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاللَّحْمُ لَا يَبْقَى غَالِبًا بِلَا نَتْنٍ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لَا سِيَّمَا فِي الْحِجَازِ مَعَ شِدَّةِ الْحَرِّ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا مَلَّحُوهُ وَقَدَّدُوهُ فَلَمْ يَدْخُلْهُ نَتْنٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا قَوْلُ النَّوَوِيِّ: إِنَّ النَّهْيَ عَنْ أَكْلِ اللَّحْمِ إِذَا أَنْتَنَ لِلتَّنْزِيهِ إِلَّا إِنْ خِيفَ مِنْهُ الضَّرَرُ فَيَحْرُمُ، وَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَلَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ حَمَلُوهُ عَلَى التَّحْرِيمِ مُطْلَقًا. وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَأْتِي فِي الطَّافِي نَظِيرُ مَا قَالَهُ فِي النَّتِنِ إِذَا خُشِيَ مِنْهُ الضَّرَرُ، وَفِيهِ جَوَازُ أَكْلِ حَيَوَانِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الصَّحَابَةِ نَصٌّ يَخُصُّ الْعَنْبَرَ وَقَدْ أَكَلُوا مِنْهُ، كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَيَخْدِشُ فِيهِ أَنَّهُمْ أَوَّلًا إِنَّمَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِاضْطِرَارِ، وَيُجَابُ بِأَنَّهُمْ أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مُطْلَقًا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ صَيْدَ الْبَحْرِ ثُمَّ تَوَقَّفُوا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَيْتَةً، فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ الْإِقْدَامِ عَلَى أَكْلِ مَا صِيدَ مِنَ الْبَحْرِ، وَبَيَّنَ لَهُمُ الشَّارِعُ آخِرًا أَنْ مَيْتَتَهُ أَيْضًا حَلَالٌ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ طَافٍ وَلَا غَيْرِهِ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهُمْ أَقَامُوا يَأْكُلُونَ مِنْهُ أَيَّامًا، فَلَوْ كَانُوا أَكَلُوا مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ مَيْتَةٌ بِطَرِيقِ الِاضْطِرَارِ مَا دَاوَمُوا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُضْطَرَّ إِذَا أَكَلَ الْمَيْتَةَ يَأْكُلُ مِنْهَا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ لِطَلَبِ الْمُبَاحِ غَيْرِهَا، وَجَمَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ بِحَمْلِ النَّهْيِ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى الْجَوَازِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي حِلِّ السَّمَكِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، وَإِنَّمَا اخْتُلِفَ فِيمَا كَانَ عَلَى صُورَةِ حَيَوَانِ الْبَرِّ كَالْآدَمِيِّ وَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالثُّعْبَانِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ - يَحْرُمُ مَا عَدَا السَّمَكَ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّ الْحُوتَ الْمَذْكُورَ لَا يُسَمَّى سَمَكًا. وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ فِي الْحُوتِ نَصًّا، وَعَنِ الشَّافِعِيَّةِ الْحِلَّ مُطْلَقًا عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَّا الْخِنْزِيرَ فِي رِوَايَةٍ، وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} وَحَدِيثُ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ، وَعَنِ الشَّافِعِيَّةِ مَا يُؤْكَلُ نَظِيرُهُ فِي الْبَرِّ حَلَالٌ وَمَا لَا فَلَا، وَاسْتَثْنَوْا عَلَى الْأَصَحِّ مَا يَعِيشُ فِي الْبَحْرِ وَالْبَرِّ وَهُوَ نَوْعَانِ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا وَرَدَ فِي مَنْعِ أَكْلِهِ شَيْءٌ يَخُصُّهُ كَالضِّفْدَعِ، وَكَذَا اسْتَثْنَاهُ أَحْمَدُ لِلنَّهْيِ عَنْ قَتْلِهِ وَرَدَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالْحَاكِمُ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ، وَآخَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَزَادَ: فَإِنَّ نَقِيقَهَا تَسْبِيحٌ. وَذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ أَنَّ الضِّفْدَعَ نَوْعَانِ بَرِّيٌّ وَبَحْرِيٌّ، فَالْبَرِّيُّ يَقْتُلُ آكِلَهُ وَالْبَحْرِيُّ يَضُرُّهُ. وَمِنَ الْمُسْتَثْنَى أَيْضًا التِّمْسَاحُ لِكَوْنِهِ يَعْدُو بِنَابِهِ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَةٍ، وَمِثْلُهُ الْقِرْشُ فِي الْبَحْرِ الْمِلْحِ خِلَافًا لِمَا أَفْتَى بِهِ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ، وَالثُّعْبَانُ وَالْعَقْرَبُ وَالسَّرَطَانُ وَالسُّلَحْفَاةُ لِلِاسْتِخْبَاثِ وَالضَّرَرِ اللَّاحِقِ مِنَ السُّمِّ، وَدنيلسُ قِيلَ إِنَّ أَصْلَهُ السَّرَطَانُ فَإِنْ ثَبَتَ حَرُمَ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ مَانِعٌ فَيَحِلُّ لَكِنْ بِشَرْطِ التَّذْكِيَةِ، كَالْبَطِّ وَطَيْرِ الْمَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ:
وَقَعَ فِي أَوَاخِرِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَى جَابِرٍ فَرَأَوْهُ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ الْحَدِيثَ وَفِيهِ قِصَّةُ النُّخَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَفِيهِ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فِي غَزَاةٍ بِبَطْنِ بُوَاطٍ، وَفِيهِ قِصَّةُ الْحَوْضِ، وَفِيهِ قِيَامُ الْمَأْمُومِينَ خَلْفَ الْإِمَامِ كُلُّ ذَلِكَ مُطَوَّلٌ، وَفِيهِ قَالَ سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ قُوتُ كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا تَمْرَةً
كُلَّ يَوْمٍ فَكَانَ يَمُصُّهَا وَكُنَّا نَخْتَبِطُ بِقِسِيِّنَا وَنَأْكُلُ، وَسِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَزَلْنَا وَادِيًا أَفْيَحَ فَذَكَرَ قِصَّةَ الشَّجَرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ الْتَقَتَا بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَسَتَّرَ بِهِمَا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَفِيهِ قِصَّةُ الْقَبْرَيْنِ اللَّذَيْنِ غَرَسَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا غُصْنًا، وَفِيهِ فَأَتَيْنَا الْعَسْكَرَ فَقَالَ: يَا جَابِرُ، نَادِ الْوُضُوءَ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا فِي نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَفِيهِ: وَشَكَا النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجُوعَ، فَقَالَ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يُطْعِمَكُمْ. فَأَتَيْنَا سِيفَ الْبَحْرِ، فزجر الْبَحْرُ زجرة فَأَلْقَى دَابَّةً فَأَوْرَيْنَا عَلَى شِقِّهَا النَّارَ فَاطَّبَخْنَا وَاشْتَوَيْنَا وَأَكَلْنَا وَشَبِعْنَا.
وَذَكَرَ أَنَّهُ دَخَلَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ فِي عَيْنِهَا، وَذَكَرَ قِصَّةَ الَّذِي دَخَلَ تَحْتَ ضِلْعِهَا مَا يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ وَهُوَ أَعْظَمُ رَجُلٍ فِي الرَّكْبِ عَلَى أَعْظَمِ جَمَلٍ، وَظَاهِرُ سِيَاقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ يَقْتَضِي مُغَايَرَةَ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَهِيَ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ أَيْضًا، حَتَّى قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ: هَذِهِ وَاقِعَةٌ أُخْرَى غَيْرُ تِلْكَ، فَإِنَّ هَذِهِ كَانَتْ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِنَصٍّ فِي ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ فِي قَوْلِ جَابِرٍ فَأَتَيْنَا سِيفَ الْبَحْرِ هِيَ الْفَصِيحَةُ وَهِيَ مُعَقِّبَةٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ فَأَرْسَلَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ فَأَتَيْنَا سِيفَ الْبَحْرِ فَتَتَّحِدُ الْقِصَّتَانِ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدِي، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّعَدُّدِ.
وَمِمَّا نُنَبِّهُ عَلَيْهِ هُنَا أَيْضًا أَنَّ الْوَاقِدِيَّ زَعَمَ أَنَّ قِصَّةَ بَعْثِ أَبِي عُبَيْدَةَ كَانَتْ فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَهُوَ عِنْدِي خَطَأٌ لِأَنَّ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ خَرَجُوا يَتَرَصَّدُونَ عِيرَ قُرَيْشٍ وَقُرَيْشٌ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هُدْنَةٍ، وَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَغَازِي، وَجَوَّزْتُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الْهُدْنَةِ فِي سَنَةِ سِتٍّ أَوْ قَبْلَهَا، ثُمَّ ظَهَرَ لِيَ الْآنَ تَقْوِيَةُ ذَلِكَ بِقَوْلِ جَابِرٍ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ هَذِهِ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فِي غَزَاةِ بُوَاطٍ وَغَزَاةُ بُوَاطٍ كَانَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِي مِائَتَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَعْتَرِضُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ فِيهَا أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ فَبَلَغَ بُوَاطًا، وَهِيَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ جِبَالٌ لِجُهَيْنَةَ مِمَّا يَلِي الشَّامَ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، فَلَمْ يَلْقَ أَحَدًا فَرَجَعَ، فَكَأَنَّهُ أَفْرَدَ أَبَا عُبَيْدَةَ فِيمَنْ مَعَهُ يَرْصُدُونَ الْعِيرَ الْمَذْكُورَةَ. وَيُؤَيِّدُ تَقَدُّمَ أَمْرِهَا مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْقِلَّةِ وَالْجَهْدِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُمْ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ كَانَ حَالُهُمُ اتَّسَعَ بِفَتْحِ خَيْبَرَ وَغَيْرِهَا، وَالْجَهْدُ الْمَذْكُورُ فِي الْقِصَّةِ يُنَاسِبُ ابْتِدَاءَ الْأَمْرِ فَيُرَجَّحُ مَا ذَكَرْتُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
13 - بَاب أَكْلِ الْجَرَادِ
5495 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ - أَوْ سِتًّا - كُنَّا نَأْكُلُ مَعَهُ الْجَرَادَ.
قَالَ سُفْيَانُ وَأَبُو عَوَانَةَ وَإِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى: سَبْعَ غَزَوَاتٍ.
قَوْلُهُ (بَابُ أَكْلِ الْجَرَادِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ مَعْرُوفٌ وَالْوَاحِدَةُ جَرَادَةٌ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ كَالْحَمَامَةِ وَيُقَالُ إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَرْدِ لِأَنَّهُ لَا يَنْزِلُ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا جَرَّدَهُ، وَخِلْقَةُ الْجَرَادِ عَجِيبَةٌ فِيهَا عَشَرَةٌ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ ذَكَرَ بَعْضَهَا ابْنُ الشَّهْرُزُورِيِّ فِي قَوْلِهِ:
لَهَا فَخِذَا بَكْرٍ وَسَاقَا نَعَامَةٍ
…
وَقَادِمَتَا نَسْرٍ وَجُؤْجُؤُ ضَيْغَمٍ
حَبَتْهَا أَفَاعِي الرَّمَلِ بَطْنًا وَأَنْعَمَتْ
…
عَلَيْهَا جِيَادُ الْخَيْلِ بِالرَّأْسِ وَالْفَمِ
قِيلَ: وَفَاتَهُ عَيْنُ الْفِيلِ، وَعُنُقُ الثَّوْرِ، وَقَرْنُ الْأَيِّلِ، وَذَنَبُ الْحَيَّةِ.
وَهُوَ صِنْفَانِ: طَيَّارٌ وَوَثَّابٌ، وَيَبِيضُ فِي الصَّخْرِ
فَيَتْرُكُهُ حَتَّى يَيْبَسَ وَيَنْتَشِرَ فَلَا يَمُرُّ بِزَرْعٍ إِلَّا اجْتَاحَهُ، وَقِيلَ؛
(1)
وَاخْتُلِفَ فِي أَصْلِهِ فَقِيلَ: إِنَّهُ نَثْرَةُ حُوتٍ فَلِذَلِكَ كَانَ أَكْلُهُ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ، وَهَذَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ أنَّ الْجَرَادَ نَثْرَةُ حُوتٍ مِنَ الْبَحْرِ وَمِنْ حَدِيثِ أَبَى هُرَيْرَةَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجٍّ أَوْ عَمْرَةٍ فَاسْتَقْبَلَنَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ، فَجَعَلْنَا نَضْرِبُ بِنِعَالِنَا وَأَسْوَاطِنَا، فَقَالَ: كُلُوهُ فَإِنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ لَا جَزَاءَ فِيهِ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَمْ يَقُلْ لَا جَزَاءَ فِيهِ غَيْرُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَاخْتُلِفَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَإِذَا ثَبَتَ فِيهِ الْجَزَاءُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بَرِّيٌّ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ أَكْلِهِ بِغَيْرِ تَذْكِيَةٍ إِلَّا أَنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ اشْتِرَاطُ تَذْكِيَتِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَتِهَا فَقِيلَ بِقَطْعِ رَأْسِهِ، وَقِيلَ إِنْ وَقَعَ فِي قِدْرٍ أَوْ نَارٍ حَلَّ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْذُهُ ذَكَاتُهُ، وَوَافَقَ مُطَرِّفٌ مِنْهُمُ الْجُمْهُورَ فِي أَنَّهُ لَا يُفْتَقَرُ إِلَى ذَكَاتِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: السَّمَكُ وَالْجَرَادُ وَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مَرْفُوعًا، وَقَالَ: إِنَّ الْمَوْقُوفَ أَصَحُّ، وَرَجَّحَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا الْمَوْقُوفَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ إِنَّ لَهُ حُكْمَ الرَّفْعِ.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ) بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْفَاءِ هُوَ الْعَبْدِيِّ، وَاسْمُهُ وَقْدَانُ وَقِيلَ وَاقِدٌ، وَقَالَ مُسْلِمٌ اسْمُهُ وَاقِدٌ وَلَقَبُهُ وَقْدَانُ، وَهُوَ الْأَكْبَرُ، وَأَبُو يَعْفُورٍ الْأَصْغَرُ اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُبَيْدٍ، وَكِلَاهُمَا ثِقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَلَيْسَ لِلْأَكْبَرِ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرُ تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ فِي أَبْوَابِ الرُّكُوعِ مِنْ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ كَلَامَ النَّوَوِيِّ فِيهِ وَجَزْمَهُ بِأَنَّهُ الْأَصْغَرُ وَأَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ الْأَكْبَرُ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْكَلَابَاذِيُّ وَغَيْرُهُ وَالنَّوَوِيُّ تَبِعَ فِي ذَلِكَ ابْنَ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرَهُ وَالَّذِي يُرَجِّحُ كَلَامَ الْكَلَابَاذِيِّ جَزْمُ التِّرْمِذِيِّ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ بِأَنَّ رَاوِيَ حَدِيثِ الْجَرَادِ هُوَ الَّذِي اسْمُهُ وَاقِدٌ، وَيُقَالُ وَقْدَانُ، وَهَذَا هُوَ الْأَكْبَرُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَنَّ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ جَزَمَ فِي تَرْجَمَةِ الْأَصْغَرِ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى.
قَوْلُهُ (سَبْعَ غَزَوَاتٍ أَوْ سِتًّا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ أَوْ سِتَّ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَوَقَعَ فِي تَوْضِيحِ ابْنِ مَالِكٍ، سَبْعَ غَزَوَاتٍ أَوْ ثَمَانِيَ وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ: الْأَجْوَدُ أَنْ يُقَالَ سَبْعُ غَزَوَاتٍ أَوْ ثَمَانِيَةً بِالتَّنْوِينِ لِأَنَّ لَفْظَ ثَمَانٍ وَإِنْ كَانَ كَلَفْظِ جَوَارٍ فِي أَنَّ ثَالِثَ حُرُوفِهِ أَلِفٌ بَعْدَهَا حَرْفَانِ ثَانِيهُمَا يَاءٌ فَهُوَ يُخَالِفُهُ فِي أَنَّ جَوَارِيَ جَمْعٌ وَثَمَانِيَةٌ لَيْسَ بِجَمْعٍ وَاللَّفْظُ بِهِمَا فِي الرَّفْعِ وَالْجَرِّ سَوَاءٌ، وَلَكِنَّ تَنْوِينَ ثَمَانٍ تَنْوِينُ صَرْفٍ وَتَنْوِينَ جَوَارٍ تَنْوِينُ عِوَضٍ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ بِالنَّصْبِ. وَاسْتَمَرَّ يَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: وَفِي ذِكْرِهِ لَهُ بِلَا تَنْوِينٍ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَجْوَدُهَا أَنْ يَكُونَ حَذَفَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ وَأَبْقَى الْمُضَافَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْحَذْفِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
خَمْسُ ذُودٍ أَوْ سِتُّ عُوِّضَتْ مِنْهَا
الْبَيْتَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَنْصُوبُ كُتِبَ بِغَيْرِ أَلِفٍ عَلَى لُغَةِ رَبِيعَةَ، وَذَكَرَ وَجْهًا آخَرَ يَخْتَصُّ. بِالثَّمَانِ، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ لَا فِي الْبُخَارِيِّ وَلَا فِي غَيْرِهِ بِلَفْظِ ثَمَانٍ، فَمَا أَدْرِي كَيْفَ وَقَعَ هَذَا. وَهَذَا الشَّكُّ فِي عَدَدِ الْغَزَوَاتِ مِنْ شُعْبَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ بِالشَّكِّ أَيْضًا ; وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَتِهِ بِلَفْظِ السِّتِّ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ فَقَالَ غَزَوَاتٌ وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا.
قَوْلُهُ (وَكُنَّا نَأْكُلُ مَعَهُ الْجَرَادَ) يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْمَعِيَّةِ مُجَرَّدَ الْغَزْوِ دُونَ مَا تَبِعَهُ مِنْ أَكْلِ الْجَرَادِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ مَعَ أَكْلِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى الثَّانِي أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ
(1)
بياض في الأصل.
فِي الطِّبِّ وَيَأْكُلُ مَعَنَا وَهَذَا إِنْ صَحَّ يَرُدُّ عَلَى الصَّيْمَرِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَافَهُ كَمَا عَافَ الضَّبَّ. ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى مُسْتَنَدِ الصَّيْمَرِيِّ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْجَرَادِ فَقَالَ: لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ وَالصَّوَابُ مُرْسَلٌ، وَلِابْنِ عَدِيٍّ فِي تَرْجَمَةِ ثَابِتِ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الضَّبِّ فَقَالَ: لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ، وَسُئِلَ عَنِ الْجَرَادِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ وَهَذَا لَيْسَ ثَابِتًا لِأَنَّ ثَابِتًا قَالَ فِيهِ النَّسَائِيُّ لَيْسَ بِثِقَةٍ، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى حِلِّ أَكْلِ الْجَرَادِ، لَكِنْ فَصَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ بَيْنَ جَرَادِ الْحِجَازِ وَجَرَادِ الْأَنْدَلُسِ فَقَالَ فِي جَرَادِ الْأَنْدَلُسِ: لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ. وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَضُرُّ أَكْلُهُ بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ سُمِّيَّةٌ تَخُصُّهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ جَرَادِ الْبِلَادِ تَعَيَّنَ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ وَقَدْ وَصَلَهُ الدَّارِمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ وَهُوَ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ وَلَفْظُهُ غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الثَّوْرِيِّ وَأَفَادَ أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ لَكِنْ قَالَ سِتَّ غَزَوَاتٍ.
قُلْتُ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ جَازِمًا بِالسِّتِّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: كَذَا قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ سِتَّ وَقَالَ غَيْرُهُ سَبْعَ. قُلْتُ: وَدَلَّتْ رِوَايَةُ شُعْبَةَ عَلَى أَنَّ شَيْخَهُمْ كَانَ يَشُكُّ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ جَزَمَ مَرَّةً بِالسَّبْعِ ثُمَّ لَمَّا طَرَأَ عَلَيْهِ الشَّكُّ صَارَ يَجْزِمُ بِالسِّتِّ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْحَمْلَ أَنَّ سَمَاعَ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ عَنْهُ مُتَأَخِّرٌ دُونَ الثَّوْرِيِّ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، وَلَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْوَلِيدِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ سَبْعًا أَوْ سِتًّا، يَشُكُّ شُعْبَةُ.
قَوْلُهُ (وَأَبُو عَوَانَةُ) وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي كَامِلٍ عَنْهُ وَلَفْظُهُ مِثْلُ الثَّوْرِيِّ، وَذَكَرَهُ الْبَزَّارُ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ حَمَّادِ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ فَقَالَ مَرَّةً عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ وَمَرَّةً عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، وَأَشَارَ إِلَى تَرْجِيحِ كَوْنِهِ عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ صَرِيحًا أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ.
قَوْلُهُ (وَإِسْرَائِيلُ) وَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ عَنْهُ وَلَفْظُهُ سَبْعَ غَزَوَاتٍ فَكُنَّا نَأْكُلُ مَعَهُ الْجَرَادَ.
14 - بَاب آنِيَةِ الْمَجُوسِ وَالْمَيْتَةِ
5496 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ، وَبِأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي، وَأَصِيدُ بِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ، وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ إنَّكَ بِأَرْضِ أَهْلِ كِتَابٍ فَلَا تَأْكُلُوا فِي آنِيَتِهِمْ إِلَّا أَنْ لَا تَجِدُوا بُدًّا فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بُدًّا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فيها. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكُمْ بِأَرْضِ صَيْدٍ، فَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْهُ.
5497 -
حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ لَمَّا أَمْسَوْا يَوْمَ فَتَحُوا خَيْبَرَ أَوْقَدُوا النِّيرَانَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عَلَامَ أَوْقَدْتُمْ هَذِهِ النِّيرَانَ قَالُوا لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ قَالَ أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا وَاكْسِرُوا قُدُورَهَا فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَقَالَ نُهَرِيقُ مَا فِيهَا وَنَغْسِلُهَا فَقال
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوْ ذَاكَ.
قَوْلُهُ (بَابُ آنِيَةِ الْمَجُوسِ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: كَذَا تَرْجَمَ وَأَتَى بِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ وَفِيهِ ذِكْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلَعَلَّهُ يَرَى أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: تَرْجَمَ لِلْمَجُوسِ وَالْأَحَادِيثُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ بَنَى عَلَى أَنَّ الْمَحْذُورَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ عَدَمُ تَوَقِّيهِمُ النَّجَاسَاتِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَوْ حُكْمُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْآخَرِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَجُوسَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ.
قُلْتُ: وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ مَنْصُوصًا عَلَى الْمَجُوسِ، فَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قُدُورِ الْمَجُوسِ، فَقَالَ: أَنْقُوهَا غَسْلًا وَاطْبُخُوا فِيهَا، وَفِي لَفْظٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبَى ثَعْلَبَةَ قُلْتُ: إِنَّا نَمُرُّ بِهَذَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ فَلَا تَجِدُ غَيْرَ آنِيَتِهِمْ، الْحَدِيثَ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ يُكْثِرُ مِنْهَا الْبُخَارِيُّ فَمَا كَانَ فِي سَنَدِهِ مَقَالٌ يُتَرْجِمُ بِهِ ثُمَّ يُورِدُ فِي الْبَابِ مَا يُؤْخَذُ الْحُكْمُ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ وَنَحْوِهِ.
وَالْحُكْمُ فِي آنِيَةِ الْمَجُوسِ لَا يَخْتَلِفُ مَعَ الْحُكْمِ فِي آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إِنْ كَانَتْ لِكَوْنِهِمْ تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ كَأَهْلِ الْكِتَابِ فَلَا إِشْكَالَ، أَوْ لَا تَحِلُّ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ أَبْوَابٍ فَتَكُونُ الْآنِيَةُ الَّتِي يَطْبُخُونَ فِيهَا ذَبَائِحَهُمْ ويغرفون قَدْ تَنَجَّسَتْ بِمُلَاقَاةِ الْمَيْتَةِ، فَأَهْلُ الْكِتَابِ كَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ لَا يَتَدَيَّنُونَ بِاجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ وَبِأَنَّهُمْ يَطْبُخُونَ فِيهَا الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُونَ فِيهَا الْخَمْرَ وَغَيْرَهَا، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِيَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَزَّارُ، عَنْ جَابِرٍ كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنُصِيبُ مِنْ آنِيَةِ الْمُشْرِكِينَ فَنَسْتَمْتِعُ بِهَا فَلَا يَعِيبُ ذَلِكَ عَلَيْنَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ فَنَغْسِلُهَا وَنَأْكُلُ فِيهَا.
قَوْلُهُ (وَالْمَيْتَةُ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: نَبَّهَ بِذِكْرِ الْمَيْتَةِ عَلَى أَنَّ الْحَمِيرَ لَمَّا كَانَتْ مُحَرَّمَةً لَمْ تُؤَثِّرْ فِيهَا الذَّكَاةُ فَكَانَتْ مَيْتَةً، وَلِذَلِكَ أَمَرَ بِغَسْلِ الْآنِيَةِ مِنْهَا.
ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ أَبِي ثَعْلَبَةَ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ عَالِيًا وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَبْلُ.
ثُمَّ حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فِي الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ أَوْرَدَهُ عَالِيًا وَهُوَ مِنْ ثُلَاثِيَّاتِهِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ بَعْدَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَابًا.
15 - بَاب التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَمَنْ تَرَكَ مُتَعَمِّدًا
وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ نَسِيَ فَلَا بَأْسَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وَالنَّاسِي لَا يُسَمَّى فَاسِقًا. وَقَوْلُهُ تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}
5498 -
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، فَأَصَبْنَا إِبِلًا وَغَنَمًا - وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ - فَعَجِلُوا فَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَدُفِعَ إِلَيْهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا. قَالَ: قَالَ جَدِّي: إِنَّا لَنَرْجُو أَوْ نَخَافُ أَنْ نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ فَقَالَ: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْهُ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأَمَّا
الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ.
قَوْلُهُ (بَابُ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَمَنْ تَرَكَ مُتَعَمِّدًا) كَذَا لِلْجَمِيعِ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ هُنَا كِتَابُ الذَّبَائِحِ وَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّهُ تَرْجَمَ أَوَّلًا كِتَابَ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ أَوْ كِتَابَ الذَّبَائِحِ وَالصَّيْدِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكْرَارٍ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ مُتَعَمِّدًا إِلَى تَرْجِيحِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُتَعَمِّدِ لِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ فَلَا تَحِلُّ تَذْكِيَتُهُ وَمَنْ نَسِيَ فَتَحِلُّ، لِأَنَّهُ اسْتَظْهَرَ لِذَلِكَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِمَا ذَكَرَ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ثُمَّ قَالَ: وَالنَّاسِي لَا يُسَمَّى فَاسِقًا يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فَاسْتَنْبَطَ مِنْهَا أَنَّ الْوَصْفَ لِلْعَامِدِ فَيَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِهِ، وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ النَّاسِي وَالْعَامِدِ فِي الذَّبِيحَةِ قَوْلُ أَحْمَدَ وَطَائِفَةٍ وَقَوَّاهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ مُحْتَجًّا بِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ الْإِيجَابُ مُطْلَقًا وَكَذَلِكَ الْأَخْبَارُ، وَأَنَّ الْأَخْبَارَ الدَّالَّةَ عَلَى الرُّخْصَةِ تَحْتَمِلُ التَّعْمِيمَ وَتَحْتَمِلُ الِاخْتِصَاصَ بِالنَّاسِي فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ أَوْلَى لِتَجْرِيَ الْأَدِلَّةُ كُلُّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَيُعْذَرُ النَّاسِي دُونَ الْعَامِدِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ نَسِيَ فَلَا بَأْسَ) وَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي الْمُسْلِمِ يَذْبَحُ وَيَنْسَى التَّسْمِيَةَ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَبِهِ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ حَدَّثَنِي ع عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَقَالَ فِي سَنَدِهِ عَنْ ع يَعْنِي عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَنْ ذَبَحَ وَنَسِيَ التَّسْمِيَةَ فَقَالَ: الْمُسْلِمُ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ التَّسْمِيَةَ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ. وَذَكَرَهُ مَالِكٌ بَلَاغًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا.
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} فَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى الزَّجْرِ عَنْ الِاحْتِجَاجِ لِجَوَازِ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ وَحَمْلِهَا عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهَا لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ لِيَصُدَّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَأَنَّهُ لَمَّحَ بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} قَالَ كَانُوا يَقُولُونَ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ فَلَا تَأْكُلُوهُ وَمَا لَمْ يُذْكَرْ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ فَكُلُوهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَتِ الْيَهُودُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: تَأْكُلُ مِمَّا قَتَلْنَا وَلَا تَأْكُلُ مِمَّا قَتَلَهُ اللَّهُ؟ فَنَزَلَتْ: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ وَسَاقَ إِلَى قَوْلِهِ: لَمُشْرِكُونَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ فِيمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} قَالَ: جَادَلَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِي الذَّبِيحَةِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ: مَا قَوْلُهُ {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ؟ قَالَ: يَأْمُرُكُمْ بِذِكْرِ اسْمِهِ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالذَّبْحِ، قُلْتُ: فَمَا قَوْلُهُ: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قَالَ: يَنْهَى عَنْ ذَبَائِحَ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى الْأَوْثَانِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: مَنْ قَالَ إِنَّ مَا ذَبَحَهُ الْمُسْلِمُ فَنَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ لَا يَحِلُّ فَهُوَ قَوْلٌ بَعِيدٌ مِنَ الصَّوَابِ لِشُذُوذِهِ وَخُرُوجِهِ عَمَّا عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّ أَكْلَ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنَ الْمَيْتَةِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فِسْقٌ، وَلَمْ يَحْكِ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَحَدٍ خِلَافَ ذَلِكَ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ كَوْنَ قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} مَنْسُوقًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى طَلَبِيَّةٌ وَهَذِهِ خَبَرِيَّةٌ وَهَذَا غَيْرُ سَائِغٍ، وَرُدَّ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ سِيبَوَيْهِ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ يُجِيزُونَ ذَلِكَ، وَلَهُمْ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ، وَادَّعَى الْمَانِعَ أَنَّ الْجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ أَيْ لَا تَأْكُلُوهُ وَالْحَالُ أَنَّهُ فِسْقٌ
أَيْ لَا تَأْكُلُوهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ فِسْقًا، وَالْمُرَادُ بِالْفِسْقِ قَدْ بُيِّنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فَرَجَعَ الزَّجْرُ إِلَى النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَلَيْسَتِ الْآيَةُ صَرِيحَةً فِي فِسْقِ مَنْ أَكَلَ مَا ذُبِحَ بِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ، اهـ. وَلَعَلَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ الَّذِي حَذَّرَتْ مِنْهُ الْآيَةُ، وَقَدْ نُوزِعَ الْمَذْكُورُ فِيمَا حَمَلَ عَلَيْهِ الْآيَةَ وَمُنِعَ مَا ادَّعَاهُ مِنْ كَوْنِ الْآيَةِ مُجْمَلَةً وَالْأُخْرَى مُبَيِّنَةً لِأَنَّ ثَمَّ شُرُوطًا لَيْسَتْ هُنَا.
قَوْلُهُ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ) هُوَ الثَّوْرِيُّ وَالِدُ سُفْيَانَ، وَمَدَارُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ (عَنْ عَبَايَةَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ تَحْتَانِيَّةٌ.
قَوْلُهُ (عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) كَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ كِتَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ. وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ عَبَايَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَلَيْسَ لِرِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ ذِكْرٌ فِي كُتُبِ الْأَقْدَمِينَ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي الرِّجَالِ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا وَلَدَهُ عَبَايَةَ بْنَ رِفَاعَةَ.
نَعَمْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِينَ، وَقَالَ: إِنَّهُ يُكَنَّى أَبَا خَدِيجٍ، وَتَابَعَ أَبَا الْأَحْوَصَ عَلَى زِيَادَتِهِ فِي الْإِسْنَادِ حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكِرْمَانِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ عَبَايَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ، قَالَ: وَكَذَا قَالَ مُبَارَكُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِيهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الطَّبَرَانِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مُبَارَكٍ فَلَمْ يَقُلْ فِي الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِيهِ، فَلَعَلَّهُ اخْتُلِفَ عَلَى الْمُبَارَكِ فِيهِ فَإِنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ لَا يَتَكَلَّمُ فِي هَذَا الْفَنِّ جُزَافًا، وَرِوَايَةُ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَقَدْ أَغْفَلَ الدَّارَقُطْنِيُّ ذِكْرَ طَرِيقِ حَسَّانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ الْجَيَّانِيُّ: رَوَى الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ رَافِعٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ فَقَالَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ هَكَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ، وَسَقَطَ قَوْلُهُ عَنْ أَبِيهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ عِنْدَ الْفَرَبْرِيِّ وَحْدَهُ وَأَظُنُّهُ مِنْ إِصْلَاحِ ابْنِ السَّكَنِ فَإِنَّ ابْنَ أَبِي شَيْبَةَ أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ بِإِثْبَاتِ قَوْلِهِ عَنْ أَبِيهِ ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِي هَذَا السَّنَدِ عَنْ أَبِيهِ غَيْرُ أَبِي الْأَحْوَصِ، اهـ. وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي بَابِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ ذِكْرَ مَنْ تَابَعَ أَبَا الْأَحْوَصِ عَلَى ذَلِكَ.
ثُمَّ نَقَلَ الْجَيَّانِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ حَافِظِ مِصْرَ أَنَّهُ قَالَ: خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَلَى الصَّوَابِ، يَعْنِي بِإِسْقَاطِ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَهُوَ أَصْلٌ يَعْمَلُ بِهِ مَنْ بَعْدَ الْبُخَارِيِّ إِذَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ خَطَأٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، قَالَ: وَإِنَّمَا يَحْسُنُ هَذَا فِي النَّقْصِ دُونَ الزِّيَادَةِ فَيُحْذَفُ الْخَطَأُ، قَالَ الْجَيَّانِيُّ: وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ عَبْدُ الْغَنِيِّ عَلَى مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ مِنْ عَمَلِ الْبُخَارِيِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَكْثَرَ رَوَوْهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ بِإِثْبَاتِ قَوْلِهِ عَنْ أَبِيهِ.
قَوْلُهُ (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةَ) زَادَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِيهِ مِنْ تِهَامَةَ تَقَدَّمَتْ فِي الشَّرِكَةِ، وَذُو الْحُلَيْفَةِ هَذَا مَكَانٌ غَيْرُ مِيقَاتِ الْمَدِينَةِ، لِأَنَّ الْمِيقَاتَ فِي طَرِيقِ الذَّاهِبِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَمِنَ الشَّامِ إِلَى مَكَّةَ، وَهَذِهِ بِالْقُرْبِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ بَيْنَ الطَّائِفِ وَمَكَّةَ، كَذَا جَزَمَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الْحَازِمِيُّ وَيَاقُوتٌ، وَوَقَعَ لِلْقَابِسِيِّ أَنَّهَا الْمِيقَاتُ الْمَشْهُورُ وَكَذَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ قَالُوا: وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ رُجُوعِهِمْ مِنَ الطَّائِفِ سَنَةَ ثَمَانٍ. وَتِهَامَةُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا نَزَلَ مِنْ بِلَادِ الْحِجَازِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِنَ التَّهَمِ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَالْهَاءِ وَهُوَ شِدَّةُ الْحَرِّ وَرُكُودُ الرِّيحِ، وَقِيلَ: تَغَيُّرُ الْهَوَاءِ.
قَوْلُهُ (فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ) كَأَنَّ الصَّحَابِيَّ قَالَ هَذَا مُمَهِّدًا لِعُذْرِهِمْ فِي ذَبْحِهِمُ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ الَّتِي أَصَابُوا.
قَوْلُهُ (فَأَصَبْنَا إِبِلًا وَغَنَمًا) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ وَتَقَدَّمَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَأَصَابُوا مِنَ الْمَغَانِمِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ الْآتِيَةِ بَعْدَ أَبْوَابٍ فَأَصَبْنَا نَهْبَ إِبِلٍ وَغَنَمٍ.
قَوْلُهُ (وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ) أُخْرَيَاتٌ جَمْعٌ أُخْرَى، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ فِي آخِرِ النَّاسِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ ذَلِكَ صَوْنًا لِلْعَسْكَرِ
وَحِفْظًا، لِأَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَهُمْ لَخَشِيَ أَنْ يَنْقَطِعَ الضَّعِيفُ مِنْهُمْ دُونَهُ، وَكَانَ حِرْصُهُمْ عَلَى مُرَافَقَتِهِ شَدِيدًا فَيَلْزَمُ مِنْ سَيْرِهِ فِي مَقَامِ السَّاقَةِ صَوْنُ الضُّعَفَاءِ لِوُجُودِ مَنْ يَتَأَخَّرُ مَعَهُ قَصْدًا مِنَ الْأَقْوِيَاءِ.
قَوْلُهُ (فَعَجِلُوا فَنَصَبُوا الْقُدُورَ) يَعْنِي مِنَ الْجُوعِ الَّذِي كَانَ بِهِمْ، فَاسْتَعْجَلُوا فَذَبَحُوا الَّذِي غَنِمُوهُ وَوَضَعُوهُ فِي الْقُدُورِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ دَاوُدَ بْنِ عِيسَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ فَانْطَلَقَ نَاسٌ مِنْ سَرَعَانِ النَّاسِ فَذَبَحُوا وَنَصَبُوا قُدُورَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقْسِمَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الشَّرِكَةِ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ وَفِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ فَأَغْلَوُا الْقُدُورَ أَيْ أَوْقَدُوا النَّارَ تَحْتَهَا حَتَّى غَلَتْ، وَفِي رِوَايَةِ زَائِدَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَلَى مُسْلِمٍ وَسَاقَ مُسْلِمٌ إِسْنَادَهَا فَعَجَّلَ أَوَّلُهُمْ فَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ.
قَوْلُهُ (فَدُفِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ) دُفِعَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِمْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ زَائِدَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ فَانْتَهَى إِلَيْهِمْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ.
قَوْلُهُ (فَأَمَرَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ أَيْ قُلِبَتْ وَأُفْرِغَ مَا فِيهَا، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْمَكَانِ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا سَبَبُ الْإِرَاقَةِ، وَالثَّانِي هَلْ أُتْلِفَ اللَّحْمُ أَمْ لَا؟
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَالَ عِيَاضٌ: كَانُوا انْتَهَوْا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْمَحَلُّ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِيهِ الْأَكْلُ مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ إِلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَأَنَّ مَحِلَّ جَوَازِ ذَلِكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ إِنَّمَا هُوَ مَا دَامُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ كَوْنُهُمُ انْتَهَبُوهَا، وَلَمْ يَأْخُذُوهَا بِاعْتِدَالٍ وَعَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ. قَالَ: وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ مَا يَدُلُّ لِذَلِكَ، يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ وَلَهُ صُحْبَةٌ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ وَجَهْدٌ فَأَصَابُوا غَنَمًا فَانْتَهَبُوهَا، فَإِنَّ قُدُورَنَا لَتَغْلِي بِهَا إِذْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَرَسِهِ فَأَكْفَأَ قُدُورَنَا بِقَوْسِهِ، ثُمَّ جَعَلَ يُرَمِّلُ اللَّحْمَ بِالتُّرَابِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ النُّهْبَةَ لَيْسَتْ بِأَحَلَّ مِنَ الْمَيْتَةِ اهـ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عاملهم مِنْ أَجْلِ اسْتِعْجَالِهِمْ بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ كَمَا عُومِلَ الْقَاتِلُ بِمَنْعِ الْمِيرَاثِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَأْمُورُ بِهِ مِنْ إِرَاقَةِ الْقُدُورِ إِنَّمَا هُوَ إِتْلَافُ الْمَرَقِ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَأَمَّا اللَّحْمُ فَلَمْ يُتْلِفُوهُ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ جُمِعَ وَرُدَّ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَلَا يُظَنُّ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِتْلَافِهِ مَعَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ وَهَذَا مِنْ مَالِ الْغَانِمِينَ، وَأَيْضًا فَالْجِنَايَةُ بِطَبْخِهِ لَمْ تَقَعْ مِنْ جَمِيعِ مُسْتَحِقِّي الْغَنِيمَةِ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَطْبُخْ وَمِنْهُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلْخُمُسِ، فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ حَمَلُوا اللَّحْمَ إِلَى الْمَغْنَمِ قُلْنَا: وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ أَحْرَقُوهُ أَوْ أَتْلَفُوهُ، فَيَجِبُ تَأْوِيلُهُ عَلَى وَفْقِ الْقَوَاعِدِ، اهـ.
وَيَرُدُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ فَإِنَّهُ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ وَتَرْكُ تَسْمِيَةِ الصَّحَابِيِّ لَا يَضُرُّ، وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَا يُقَالُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَتْرِيبِ اللَّحْمِ إِتْلَافُهُ لِإِمْكَانِ تَدَارُكِهِ بِالْغَسْلِ، لِأَنَّ السِّيَاقَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ أُرِيدَ الْمُبَالَغَةُ فِي الزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَلَوْ كَانَ بِصَدَدِ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَبِيرُ زَجْرٍ، لِأَنَّ الَّذِي يَخُصُّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ نَزْرٌ يَسِيرٌ فَكَانَ إِفْسَادُهَا عَلَيْهِمْ مَعَ تَعَلُّقِ قُلُوبِهِمْ بِهَا وَحَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا وَشَهْوَتِهِمْ لَهَا أَبْلَغَ فِي الزَّجْرِ. وَأَبْعَدَ الْمُهَلَّبُ فَقَالَ: إِنَّمَا عَاقَبَهُمْ لِأَنَّهُمُ اسْتَعْجَلُوا وَتَرَكُوهُ فِي آخِرِ الْقَوْمِ مُتَعَرِّضًا لِمَنْ يَقْصِدُهُ مِنْ عَدُوٍّ وَنَحْوِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُخْتَارًا لِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَلَا مَعْنَى لِلْحَمْلِ عَلَى الظَّنِّ مَعَ وُرُودِ النَّصِّ بِالسَّبَبِ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَبْحَ مَنْ لَا يَمْلِكُ الشَّيْءَ كُلُّهُ لَا يَكُونُ مُذَكِّيًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ تَعَجَّلُوا إِلَى الِاخْتِصَاصِ بِالشَّيْءِ دُونَ بَقِيَّةٍ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْسَمَ وَيُخْرَجَ مِنْهُ الْخُمُسُ، فَعَاقَبَهُمْ بِالْمَنْعِ مِنْ تَنَاوُلِ مَا سَبَقُوا إِلَيْهِ زَجْرًا لَهُمْ عَنْ مُعَاوَدَةِ مِثْلِهِ، ثُمَّ رَجَّحَ الثَّانِيَ وَزَيَّفَ الْأَوَّلَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُ الْبَعِيرِ النَّادِّ الَّذِي رَمَاهُ أَحَدُهُمْ بِسَهْمٍ، إِذْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمُ الْكُلُّ فِي رَمْيِهِ، مَعَ أَنَّ رَمْيَهُ ذَكَاةٌ لَهُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ حَدِيثِ الْبَابِ، اهـ مُلَخَّصًا.
وَقَدْ جَنَحَ الْبُخَارِيُّ إِلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ الْأَضَاحِي، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَمَّا أَلْزَمَهُ بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ قِصَّةِ الْبَعِيرِ بِأَنْ يَكُونَ الرَّامِي رَمَى بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْجَمَاعَةِ فَأَقَرُّوهُ، فَدَلَّ سُكُوتُهُمْ عَلَى رِضَاهُمْ بِخِلَافِ مَا ذَبَحَهُ أُولَئِكَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ، فَافْتَرَقَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةُ مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ) فِي رِوَايَةٍ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ قِيمَةَ الْغَنَمِ إِذْ ذَاكَ، فَلَعَلَّ الْإِبِلَ كَانَتْ قَلِيلَةً أَوْ نَفِيسَةً وَالْغَنَمُ كَانَتْ كَثِيرَةً أَوْ هَزِيلَةً بِحَيْثُ كَانَتْ قِيمَةُ الْبَعِيرِ عَشْرَ شِيَاهٍ، وَلَا يُخَالِفُ ذَلِكَ الْقَاعِدَةَ فِي الْأَضَاحِي مِنْ أَنَّ الْبَعِيرَ يُجْزِئُ عَنْ سَبْعِ شِيَاهٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَالِبُ فِي قِيمَةِ الشَّاةِ وَالْبَعِيرِ الْمُعْتَدِلَيْنِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْقِسْمَةُ فَكَانَتْ وَاقِعَةَ عَيْنٍ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّعْدِيلُ لِمَا ذُكِرَ مِنْ نَفَاسَةِ الْإِبِلِ دُونَ الْغَنَمِ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ صَرِيحٌ فِي الْحُكْمِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ وَالْبَدَنَةُ تُطْلَقُ عَلَى النَّاقَةِ وَالْبَقَرَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَحَضَرَ الْأَضْحَى فَاشْتَرَكْنَا فِي الْبَقَرَةِ تِسْعَةٌ وَفِي الْبَدَنَةِ عَشَرَةٌ فَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَعَضَّدَهُ بِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ هَذَا. وَالَّذِي يَتَحَرَّرُ فِي هَذَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْبَعِيرَ بِسَبْعَةٍ مَا لَمْ يَعْرِضْ عَارِضٌ مِنْ نَفَاسَةٍ وَنَحْوِهَا فَيَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَبِهَذَا تَجْتَمِعُ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْقِسْمَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِيمَا عَدَا مَا طُبِخَ وَأُرِيقَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ الَّتِي كَانُوا غَنِمُوهَا، وَيَحْتَمِلُ - إِنْ كَانَتِ الْوَاقِعَةُ تَعَدَّدَتْ - أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ أُتْلِفَ فِيهَا اللَّحْمُ لِكَوْنِهِ كَانَ قُطِعَ لِلطَّبْخِ وَالْقِصَّةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ رَافِعٍ طُبِخَتِ الشِّيَاهُ صِحَاحًا مَثَلًا فَلَمَّا أُرِيقَ مَرَقُهَا ضُمَّتْ إِلَى الْمَغْنَمِ لِتُقْسَمَ ثُمَّ يَطْبُخُهَا مَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ النُّكْتَةُ فِي انْحِطَاطِ قِيمَةِ الشِّيَاهِ عَنِ الْعَادَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (فَنَدَّ) بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ، أَيْ هَرَبَ نَافِرًا.
قَوْلُهُ (مِنْهَا) أَيْ مِنَ الْإِبِلِ الْمَقْسُومَةِ.
قَوْلُهُ (وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ) فِيهِ تَمْهِيدٌ لِعُذْرِهِمْ فِي كَوْنِ الْبَعِيرِ الَّذِي نَدَّ أَتْعَبَهُمْ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى تَحْصِيلِهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ كَانَ فِيهِمْ خُيُولٌ كَثِيرَةٌ لَأَمْكَنَهُمْ أَنْ يُحِيطُوا بِهِ فَيَأْخُذُوهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ خَيْلٌ أَيْ كَثِيرَةٌ أَوْ شَدِيدَةُ الْجَرْيِ، فَيَكُونُ النَّفْيُ لِصِفَةٍ فِي الْخَيْلِ لَا لِأَصْلِ الْخَيْلِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ. قَوْلُهُ (فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ) أَيْ أَتْعَبَهُمْ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى تَحْصِيلِهِ.
قَوْلُهُ (فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ) أَيْ قَصَدَ نَحْوَهُ وَرَمَاهُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الرَّامِي.
قَوْلُهُ (فَحَبَسَهُ اللَّهُ) أَيْ أَصَابَهُ السَّهْمُ فَوَقَفَ.
قَوْلُهُ (إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ) فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ وَشُعْبَةَ الْمَذْكُورَتَيْنِ بَعْدُ إِنَّ لِهَذِهِ الْإِبِلِ قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ: هَذِهِ اللَّامُ تُفِيدُ مَعْنَى مِنْ لِأَنَّ الْبَعْضِيَّةَ تُسْتَفَادُ مِنِ اسْمِ إِنَّ لِكَوْنِهِ نَكِرَةً.
قَوْلُهُ (أَوَابِدُ) جَمْعُ آبِدَةٍ بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ غَرِيبَةٌ، يُقَالُ جَاءَ فُلَانٌ بِآبِدَةٍ أَيْ بِكَلِمَةٍ أَوْ فَعْلَةٍ مُنَفِّرَةٍ، يُقَالُ: أَبَدَتْ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ تَأْبُدُ بِضَمِّهَا وَيَجُوزُ الْكَسْرُ أُبُودًا، وَيُقَالُ: تَأَبَّدَتْ أَيْ تَوَحَّشَتْ، وَالْمُرَادُ أَنَّ لَهَا تَوَحُّشًا.
قَوْلُهُ (فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا) فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ فَمَا فَعَلَ مِنْهَا هَذَا فَافْعَلُوا مِثْلَ هَذَا زَادَ عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ أَبِيهِ فَاصْنَعُوا بِهِ ذَلِكَ وَكُلُوهُ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ جَوَازُ أَكْلِ مَا رُمِيَ بِالسَّهْمِ فَجُرِحَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ جَسَدِهِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ وَحْشِيًّا أَوْ مُتَوَحِّشًا، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ جَدِّي) زَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ فِي رِوَايَتِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَذَا صُورَتُهُ مُرْسَلٌ، فَإِنَّ
عَبَايَةَ ابْنَ رِفَاعَةَ لَمْ يُدْرِكْ زَمَانَ الْقَوْلِ، وَظَاهِرُ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ عَبَايَةَ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ جَدِّهِ، فَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ عُبَيْدٍ الْآتِيَةِ أَيْضًا قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَوْلُهُ (إِنَّا لَنَرْجُو أَوْ نَخَافُ) هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَفِي التَّعْبِيرِ بِالرَّجَاءِ إِشَارَةٌ إِلَى حِرْصِهِمْ عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ لِمَا يَرْجُونَهُ مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ أَوِ الْغَنِيمَةِ، وَبِالْخَوْفِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ بَغْتَةً، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ إِنَّا نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا بِالْجَزْمِ، وَلَعَلَّهُ عَرَفَ ذَلِكَ بِخَبَرِ مَنْ صَدَّقَهُ أَوْ بِالْقَرَائِنِ، وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنِ الثَّوْرِيِّ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَلَى مُسْلِمٍ إِنَّا نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا وَإِنَّا نَرْجُو كَذَا بِحَذْفِ مُتَعَلَّقِ الرَّجَاءِ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ الْغَنِيمَةُ.
قَوْلُهُ (وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى) بِضَمِّ أَوَّلِهِ - مُخَفَّفٌ مَقْصُورٌ - جَمْعُ مُدْيَةٍ بِسُكُونِ الدَّالِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ وَهِيَ السِّكِّينُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقْطَعُ مَدَى الْحَيَوَانِ أَيْ عُمْرَهُ، وَالرَّابِطُ بَيْنَ قَوْلِهِ: نَلْقَى الْعَدُوَّ وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُمْ إِذَا لَقُوُا الْعَدُوَّ صَارُوا بِصَدَدِ أَنْ يَغْنَمُوا مِنْهُمْ مَا يَذْبَحُونَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَى ذَبْحِ مَا يَأْكُلُونَهُ لِيَتَقَوَّوْا بِهِ عَلَى الْعَدُوِّ إِذَا لَقَوْهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قِسْمَةِ الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ بَيْنَهُمْ فَكَانَ مَعَهُمْ مَا يَذْبَحُونَهُ، وَكَرِهُوا أَنْ يَذْبَحُوا بِسُيُوفِهِمْ لِئَلَّا يَضُرَّ ذَلِكَ بِحَدِّهَا وَالْحَاجَةُ مَاسَةٌ لَهُ. فَسَأَلَ عَنِ الَّذِي يُجْزِئُ فِي الذَّبْحِ غَيْرِ السِّكِّينِ وَالسَّيْفُ، وَهَذَا وَجْهُ الْحَصْرِ فِي الْمُدْيَةِ وَالْقَصَبِ وَنَحْوِهِ مَعَ إِمْكَانِ مَا فِي مَعْنَى الْمُدْيَةِ وَهُوَ السَّيْفُ. وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثٍ غَيْرِ هَذَا إِنَّكُمْ لَاقُو الْعَدُوِّ غَدًا وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَنَدَبَهُمْ إِلَى الْفِطْرِ لِيَتَقَوَّوْا.
قَوْلُهُ (أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ)؟ يَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ بَابَيْنِ.
قَوْلُهُ (مَا أَنْهَرَ الدَّمَ) أَيْ أَسَالَهُ وَصَبَّهُ بِكَثْرَةِ، شُبِّهَ بِجَرْيِ الْمَاءِ فِي النَّهَرِ. قَالَ عِيَاضٌ: هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَاتِ بِالرَّاءِ، وَذَكَرَهُ أَبُو ذَرٍّ الْخُشَنِيُّ بِالزَّايِ وَقَالَ: النهز بِمَعْنَى الرَّفْعِ وَهُوَ غَرِيبٌ، ومَا مَوْصُولَةٌ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهَا فَكُلُوا وَالتَّقْدِيرُ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ فَهُوَ حَلَالٌ فَكُلُوا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الثَّوْرِيِّ كُلُّ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ ذَكَاةٌ ومَا فِي هَذَا مَوْصُوفَةٌ.
قَوْلُهُ (وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ) هَكَذَا وَقَعَ هُنَا، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِحَذْفِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ وَثَبَتَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الشَّرِكَةِ، وَكَلَامُ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ يُوهِمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْبُخَارِيِّ إِذْ قَالَ: هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ كُلِّهَا يَعْنِي مِنْ مُسْلِمٍ وَفِيهِ مَحْذُوفٌ أَيْ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَوْ مَعَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ اهـ. فَكَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرَهَا فِي الذَّبَائِحِ مِنَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَزَاهَا لِأَبِي دَاوُدَ، إِذْ لَوِ اسْتَحْضَرَهَا مِنَ الْبُخَارِيِّ مَا عَدَلَ عَنِ التَّصْرِيحِ بِذِكْرِهَا فِيهِ اشْتِرَاطُ التَّسْمِيَةِ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْإِذْنَ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ وَهُمَا الْإِنْهَارُ وَالتَّسْمِيَةُ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى شَيْئَيْنِ لَا يُكْتَفَى فِيهِ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا وَيَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ أَوَّلَ الْبَابِ، وَيَأْتِي أَيْضًا قَرِيبًا.
قَوْلُهُ (لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ بِلَيْسَ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ أَيْ لَيْسَ السِّنُّ وَالظُّفُرُ مُبَاحًا أَوْ مُجْزِئًا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ مَا لَمْ يَكُنْ سِنٌّ أَوْ ظُفُرٌ وَفِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ عُبَيْدٍ غَيْرُ السِّنِّ وَالظُّفُرِ، وَفِي رِوَايَةِ دَاوُدَ بْنِ عِيسَى إِلَّا سِنًّا أَوْ ظُفُرًا.
قَوْلُهُ (وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَسَأُخْبِرُكُمْ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ وَهَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَرْفُوعِ أَوْ مُدْرَجٌ فِي بَابِ إِذَا أَصَابَ قَوْمٌ غَنِيمَةً قُبَيْلَ كِتَابِ الْأَضَاحِي.
قَوْلُهُ (أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ) قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: هُوَ قِيَاسٌ حُذِفَتْ مِنْهُ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ لِشُهْرَتِهَا عِنْدَهُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَكُلُّ عَظْمٍ لَا يَحِلُّ الذَّبْحُ بِهِ، وَطَوَى النَّتِيجَةَ لِدَلَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي
مُشْكِلِ الْوَسِيطِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ قَدْ قَرَّرَ كَوْنَ الذَّكَاةِ لَا تَحْصُلُ بِالْعَظْمِ فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ فَعَظْمٌ، قَالَ: وَلَمْ أَرَ بَعْدَ الْبَحْثِ مِنْ نَقْلٍ لِلْمَنْعِ مِنَ الذَّبْحِ بِالْعَظْمِ مَعْنًى يُعْقَلُ، وَكَذَا وَقَعَ فِي كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثَ لَا تَذْبَحُوا بِالْعِظَامِ فَإِنَّهَا تُنَجَّسُ بِالدَّمِ وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْ تَنْجِيسِهَا لِأَنَّهَا زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ، اهـ. وَهُوَ مُحْتَمَلٌ وَلَا يُقَالُ كَانَ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهَا بَعْدَ الذَّبْحِ بِهَا لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِهَا كَذَلِكَ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُشْكِلِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذَّبْحَ بِالْعَظْمِ كَانَ مَعْهُودًا عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ، وَقَرَّرَهُمُ الشَّارِعُ عَلَى ذَلِكَ وَأَشَارَ إِلَيْهِ هُنَا. قُلْتُ: وَسَأَذْكُرُ بَعْدَ بَابَيْنِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا لِذَلِكَ إِنْ ثَبَتَ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ) أَيْ وَهُمْ كُفَّارٌ وَقَدْ نُهِيتُمْ عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ: وَقِيلَ نَهَى عَنْهُمَا لِأَنَّ الذَّبْحَ بِهِمَا تَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ، وَلَا يَقَعُ بِهِ غَالِبًا إِلَّا الْخَنْقُ الَّذِي لَيْسَ هُوَ عَلَى صُورَةِ الذَّبْحِ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الْحَبَشَةَ تُدْمِي مَذَابِحَ الشَّاةِ بِالظُّفُرِ حَتَّى تَزْهَقَ نَفْسُهَا خَنْقًا. وَاعْتُرِضَ عَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَامْتَنَعَ الذَّبْحُ بِالسِّكِّينِ وَسَائِرِ مَا يَذْبَحُ بِهِ الْكُفَّارُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الذَّبْحَ بِالسِّكِّينِ هُوَ الْأَصْلُ وَأَمَّا مَا يَلْتَحِقُ بِهَا فَهُوَ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّشْبِيهُ لِضَعْفِهَا، وَمِنْ ثَمَّ كَانُوا يَسْأَلُونَ عَنْ جَوَازِ الذَّبْحِ بِغَيْرِ السِّكِّينِ وَشَبَهِهَا كَمَا سَيَأْتِي وَاضِحًا، ثُمَّ وَجَدْتُ فِي الْمَعْرِفَةِ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ حَمَلَ الظُّفُرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى النَّوْعِ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْبَخُورِ فَقَالَ: مَعْقُولٌ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ السِّنَّ إِنَّمَا يُذَكَّى بِهَا إِذَا كَانَتْ مُنْتَزَعَةً، فَأَمَّا وَهِيَ ثَابِتَةٌ فَلَوْ ذُبِحَ بِهَا لَكَانَتْ مُنْخَنِقَةً، يَعْنِي فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسِّنِّ السِّنُّ الْمُنْتَزَعَةُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا نُقِلَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ جَوَازِهِ بِالسِّنِّ الْمُنْفَصِلَةِ قَالَ: وَأَمَّا الظُّفُرُ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ ظُفُرَ الْإِنْسَانِ لَقَالَ فِيهِ مَا قَالَ فِي السِّنِّ، لَكِنِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الظُّفُرَ الَّذِي هُوَ طِيبٌ مِنْ بِلَادِ الْحَبَشَةِ وَهُوَ لَا يَفْرِي فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْخَنْقِ.
وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ تَحْرِيمُ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ وَلَوْ قُلْتَ وَلَوْ وَقَعَ الِاحْتِيَاجُ إِلَيْهَا، وَفِيهِ انْقِيَادُ الصَّحَابَةِ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى فِي تَرْكِ مَا بِهِمْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ الشَّدِيدَةُ. وَفِيهِ أَنَّ لِلْإِمَامِ عُقُوبَةَ الرَّعِيَّةِ بِمَا فِيهِ إِتْلَافُ مَنْفَعَةٍ وَنَحْوِهَا إِذَا غَلَبَتِ الْمَصْلَحَةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَأَنَّ قِسْمَةَ الْغَنِيمَةِ يَجُوزُ فِيهَا التَّعْدِيلُ وَالتَّقْوِيمُ، وَلَا يُشْتَرَطُ قِسْمَةُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى حِدَةٍ، وَأَنَّ مَا تَوَحَّشَ مِنَ الْمُسْتَأْنَسِ يُعْطَى حُكْمُ الْمُتَوَحِّشِ وَبِالْعَكْسِ، وَجَوَازُ الذَّبْحِ بِمَا يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ سَوَاءٌ كَانَ حَدِيدًا أَمْ لَا، وَجَوَازُ عَقْرِ الْحَيَوَانِ النَّادِّ لِمَنْ عَجَزَ عَنْ ذَبْحِهِ كَالصَّيْدِ الْبَرِّيِّ وَالْمُتَوَحِّشِ مِنَ الْإِنْسِيِّ وَيَكُونُ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ مَذْبَحًا فَإِذَا أُصِيبَ فَمَاتَ مِنَ الْإِصَابَةِ حَلَّ، أَمَّا الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ فَلَا يُبَاحُ إِلَّا بِالذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ إِجْمَاعًا. وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ لِبَقَاءِ دَمِهَا فِيهَا.
وَفِيهِ مَنْعُ الذَّبْحِ بِالسِّنِّ وَالظُّفُرِ مُتَّصِلًا كَانَ أَوْ مُنْفَصِلًا طَاهِرًا كَانَ أَوْ مُتَنَجِّسًا، وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ السِّنِّ وَالظُّفُرِ الْمُتَّصِلَيْنِ فَخَصُّوا الْمَنْعَ بِهِمَا وَأَجَازُوهُ بِالْمُنْفَصِلَيْنِ، وَفَرَّقُوا بِأَنَّ الْمُتَّصِلَ يَصِيرُ فِي مَعْنَى الْخَنْقِ وَالْمُنْفَصِلُ فِي مَعْنَى الْحَجْرِ، وَجَزَمَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِحَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى الْمُتَّصِلَيْنِ ثُمَّ قَالَ: وَاسْتَدَلَّ بِهِ قَوْمٌ عَلَى مَنْعِ الذَّبْحِ بِالْعَظْمِ مُطْلَقًا لِقَوْلِهِ: أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ فَعُلِّلَ مَنْعُ الذَّبْحِ بِهِ لِكَوْنِهِ عَظْمًا، وَالْحُكْمُ يَعُمُّ بِعُمُومِ عِلَّتِهِ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ ثَالِثُهَا يَجُوزُ بِالْعَظْمِ دُونَ السِّنِّ مُطْلَقًا رَابِعُهَا يَجُوزُ بِهِمَا مُطْلَقًا، حَكَاهَا ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ الْجَوَازَ مُطْلَقًا عَنْ قَوْمٍ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَمِرَّ الدَّمَ بِمَا شِئْتَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، لَكِنْ عُمُومُهُ مَخْصُوصٌ بِالنَّهْيِ الْوَارِدِ صَحِيحًا فِي حَدِيثِ رَافِعٍ عَمَلًا بِالْحَدِيثَيْنِ، وَسَلَكَ الطَّحَاوِيُّ طَرِيقًا آخَرَ فَاحْتَجَّ لِمَذْهَبِهِ بِعُمُومِ حَدِيثِ عَدِيٍّ قَالَ: وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي حَدِيثِ رَافِعٍ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذَا الْعُمُومِ، لَكِنَّهُ فِي الْمَنْزُوعِينَ غَيْرُ مُحَقَّقٍ وَفِي غَيْرِ
الْمَنْزُوعِينَ مُحَقَّقٌ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ، وَأَيْضًا فَالذَّبْحُ بِالْمُتَّصِلِينَ يُشْبِهُ الْخَنْقَ وَبِالْمَنْزُوعِينَ يُشْبِهُ الْآلَةَ الْمُسْتَقِلَّةَ مِنْ حَجَرٍ وَخَشَبٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
16 - بَاب مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَالْأَصْنَامِ
5499 -
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْنِي ابْنَ الْمُخْتَارِ -، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ، وَذَاكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيُ، فَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُفْرَةً لَحْمٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لَا آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ وَلَا آكُلُ إِلَّا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ (بَابُ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَالْأَصْنَامِ) النُّصُبُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَبِفَتْحِهِ وَاحِدُ الْأَنْصَابِ، وَهِيَ حِجَارَةٌ كَانَتْ تُنْصَبُ حَوْلَ الْبَيْتِ يُذْبَحُ عَلَيْهَا بِاسْمِ الْأَصْنَامِ، وَقِيلَ: النُّصُبُ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَعَلَى هَذَا فَعَطْفُ الْأَصْنَامِ عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ وَهُوَ اللَّائِقُ بِحَدِيثِ الْبَابِ.
ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَوَقَعَ فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ نَظِيرُ مَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي أَوَاخِرِ الْمَنَاقِبِ، وَهُوَ أَنَّهُ وَقَعَ لِلْأَكْثَرِ فَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُفْرَةً وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَقَدَّمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُفْرَةً وَجَمَعَ ابْنُ الْمُنِيرِ بَيْنَ هَذَا الِاخْتِلَافِ بِأَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا هُنَاكَ قَدَّمُوا السُّفْرَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدَّمَهَا لِزَيْدٍ، فَقَالَ زَيْدٌ مُخَاطِبًا لِأُولَئِكَ الْقَوْمِ مَا قَالَ، وَقَوْلُهُ سُفْرَةُ لَحْمٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ سُفْرَةٌ فِيهَا لَحْمٌ وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ الْمَنَاقِبِ.
17 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ
5500 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ، قَالَ: ضَحَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أضحاة ذَاتَ يَوْمٍ، فَإِذَا أُنَاسٌ قَدْ ذَبَحُوا ضَحَايَاهُمْ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَآهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ قَدْ ذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ كَانَ لَمْ يَذْبَحْ حَتَّى صَلَّيْنَا فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي ذَبْحِ الضَّحَايَا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَفِيهِ اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِذْنَ فِي الذَّبِيحَةِ حِينَئِذٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرَ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَضَاحِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ الْمُنِيرِ عَلَى اشْتِرَاطِ تَسْمِيَةِ الْعَامِدِ دُونَ النَّاسِي، وَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَوَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ضَحَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَضْحَاةً بِفَتْحِ أَوَّلِهِ بِمَعْنَى الْأُضْحِيَّةِ.
18 - بَاب مَا أَنْهَرَ الدَّمَ مِنْ الْقَصَبِ وَالْمَرْوَةِ وَالْحَدِيدِ
5501 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، سَمِعَ ابْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ،
يُخْبِرُ ابْنَ عُمَرَ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ جَارِيَةً لَهُمْ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا مَوْتًا، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا به، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: لَا تَأْكُلُوا حَتَّى آتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْأَلَهُ، أَوْ حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْهِ مَنْ يَسْأَلُهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ بَعَثَ إِلَيْهِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَكْلِهَا.
5502 -
حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ تَرْعَى غَنَمًا لَهُ بِالْجُبَيْلِ الَّذِي بِالسُّوقِ وَهُوَ بِسَلْعٍ فَأُصِيبَتْ بشاة، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا بِهِ، فَذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهَا.
5503 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ لَنَا مُدًى. فَقَالَ: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلْ، لَيْسَ الظُّفُرَ وَالسِّنَّ، أَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ، وَأَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ. وَنَدَّ بَعِيرٌ فَحَبَسَهُ، فَقَالَ: إِنَّ لِهَذِهِ الْإِبِلِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا.
قَوْلُهُ (بَابُ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ مِنَ الْقَصَبِ وَالْمَرْوَةِ وَالْحَدِيدِ) أَنْهَرَ أَيْ أَسَالَ، وَالْمَرْوَةُ حَجَرٌ أَبْيَضُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُقْدَحُ مِنْهُ النَّارُ. وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِذِكْرِهَا إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ رَافِعٍ، فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ حَبِيبِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ وَالْمَرْوَةِ؟ وَفِي رِوَايَةِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ عَبَايَةَ أَنَذْبَحُ بِالْمَرْوَةِ وَشِقَّةِ الْعَصَا؟ وَوَقَعَ ذِكْرُ الذَّبْحِ بِالْمَرْوَةِ فِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَفْوَانَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَيْفِيٍّ قَالَ: ذَبَحْتُ أَرْنَبَيْنِ بِمَرْوَةَ، فَأَمَرَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَكْلِهِمَا وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ رَفَعَهُ: اذْبَحُوا بِكُلِّ شَيْءٍ فَرَى الْأَوْدَاجَ مَا خَلَا السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خِرَاشٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ نَحْوُهُ، وَالْأَشْهَرُ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ مَنْ ذَكَرَ أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ وَأَمَّا الْحَدِيدُ فَمِنْ قَوْلِهِ وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الذَّبْحَ بِالْحَدِيدِ كَانَ مُقَرَّرًا عِنْدَهُمْ جَوَازُهُ، وَالْمُرَادُ بِالسُّؤَالِ عَنِ الذَّبْحِ بِالْمَرْوَةِ جِنْسُ الْأَحْجَارِ لَا خُصُوصُ الْمَرْوَةِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ فِي الْبَابِ حَدِيثَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَفِيهِ التَّنْصِيصُ عَلَى الذَّبْحِ بِالْحَجَرِ.
قَوْلُهُ (مُعْتَمِرٌ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ.
قَوْلُهُ (عَنْ نَافِعٍ سَمِعَ ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) جَزَمَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ بِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ، وَقَدْ سَبَقَ مَا فِيهِ فِي الْوَكَالَةِ، وَأَنَّ الَّذِي يَتَرَجَّحُ أَنَّهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى نَافِعٍ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ (أَنَّ جَارِيَةً لَهُمْ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا.
قَوْلُهُ (بِسَلْعٍ) بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَحُكِيَ فَتْحُهَا وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ: جَبَلٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ (فَأَبْصَرَتْ بِشَاةٍ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْ غَنَمِهَا.
قَوْلُهُ (مَوْتًا) فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي مَوْتَهَا.
قَوْلُهُ (فَذَبَحَتْهَا بِهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَذَكَّتْهَا وَسَقَطَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ بِهِ.
قَوْلُهُ (أَوْ حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْهِ) هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي.
قَوْلُهُ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ) هَكَذَا جَزَمَ بِهِ عَبْدَانُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ شُعْبَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ أَكْبَرُ عِلْمِي أَنِّي
سَمِعْتُهُ مِنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ وَحَدَّثَنِي بِهِ سُفْيَانُ يَعْنِي الثَّوْرِيَّ عَنْهُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ غُنْدَرٍ فَبَيَّنَ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي كَانَ يَشُكُّ شُعْبَةُ فِي سَمَاعِهِ لَهُ مِنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ هُوَ قَوْلُهُ وَجَعَلَ عَشْرًا مِنَ الشَّاء بِبَعِيرٍ قُلْتُ: وَلِهَذِهِ النُّكْتَةُ اقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ مِنَ الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ هَذِهِ عَلَى مَا عَدَا قِصَّةَ تَعْدِيلِ الْعَشْرِ شِيَاهٍ بِالْبَعِيرِ، إِذْ هُوَ الْمُحَقَّقُ مِنَ السَّمَاعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ الْحَدِيثِ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ (عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رَافِعٍ وَرَافِعٌ جَدُّ عَبَايَةَ وَأَبُوهُ رِفَاعَةُ فَنُسِبَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِلَى جَدِّهِ وَلَوْ أُخِذَ بِظَاهِرِهَا لَكَانَ الْحَدِيثُ عَنْ خَدِيجٍ وَالِدِ رَافِعٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَنَدَّ بَعِيرٌ فَحَبَسَهُ فِيهِ اخْتِصَارٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ وَنَدَّ بَعِيرٌ مِنْهَا فَسَعَوْا لَهُ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ.
19 - بَاب ذَبِيحَةِ الْمَرْأَةِ وَالْأَمَةِ
5504 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ امْرَأَةً ذَبَحَتْ شَاةً بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِأَكْلِهَا. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنَا نَافِعٌ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ يُخْبِرُ عَبْدَ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبٍ. . بِهَذَا.
5505 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ سَعْدٍ، أَوْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، أَخْبَرَهُ: أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسَلْعٍ فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا، فَأَدْرَكَتْهَا فَذَبَحَتْهَا بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كُلُوهَا.
قَوْلُهُ (بَابُ ذَبِيحَةِ الْأَمَةِ وَالْمَرْأَةِ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَقَدْ نَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَتَهُ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ جَوَازُهُ، وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ يُكْرَهُ ذَبْحُ الْمَرْأَةِ الْأُضْحِيَّةَ، وَعِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي ذَبِيحَةِ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ: لَا بَأْسَ إِذَا أَطَاقَ الذَّبِيحَةَ وَحَفِظَ التَّسْمِيَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
قَوْلُهُ (عَبْدَةُ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ الْكِلَابِيُّ الْكُوفِيُّ وَافَقَ مُعْتَمِرَ بْنَ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيَّ الْبَصْرِيَّ عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ غَيْرَهُمَا رَوَاهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ.
قُلْتُ: وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ، وَكَذَا عَلَّقَهُ هُنَا مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ، وَوَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، عَنِ اللَّيْثِ بِهِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ وَهُوَ أَشْبَهُ، وَسَلَكَ الْجَادَّةَ قَوْمٌ مِنْهُمْ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، فَقَالَ: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَكَذَا قَالَ مَرْحُومٌ الْعَطَّارُ، عَنْ دَاوُدَ الْعَطَّارِ، عَنْ نَافِعٍ، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ غَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ رَوَوْهُ كَذَلِكَ، قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلَهُ عَنْ نَافِعٍ وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَأَغْفَلَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ أَوَاخِرَ الْبَابِ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ سَعْدٍ أَوْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبٍ وَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي الْمُوَطَّآتِ لَهُ كَذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ عَنْ مَالِكٍ، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مُعَاذُ بْنُ سَعْدٍ أَوْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأَشَارَ إِلَى تَفَرُّدِ مُحَمَّدٍ بِذَلِكَ، وَقَالَ الْبَاقُونَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ سَعْدٍ أَوْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَمِنْهُمُ ابْنُ وَهْبٍ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِهِ كَالْجَمَاعَةِ قَالَ: وَأَخْرَجَهُ ابْنُ وَهْبٍ فِي غَيْرِ الْمُوَطَّأِ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فَذَكَرَهُ وَقَالَ: الصَّوَابُ مَا فِي الْمُوَطَّأِ، يَعْنِي عَنْ مَالِكٍ، وَأَمَّا عَنْ غَيْرِهِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ وَهْبٍ أَرَادَ اللَّيْثَ وَحَمَلَ
رِوَايَةَ مَالِكٍ عَلَى رِوَايَتِهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: فِيهِ رِوَايَةُ صَحَابِيٍّ عَنْ تَابِعِيٍّ لِأَنَّ ابْنَ
كَعْبٍ تَابِعِيٌّ وَابْنَ عُمَرَ صَحَابِيٌّ قُلْتُ: لَكِنْ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَاهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا فِيهَا أَنَّ ابْنَ كَعْبٍ حَدَّثَ ابْنَ عُمَرَ بِذَلِكَ فَحَمَلَهُ عَنْهُ نَافِعٌ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ رَاوِيهَا فِيهَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنَ كَعْبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا شَاذَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي فِي مُعَاذِ بْنِ سَعْدٍ أَوْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لَا يَقْدَحُ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ عُدُولٌ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَكِنِ الرَّاوِي الَّذِي لَمْ يُسَمَّ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْخَبَرِ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ بِالطَّرِيقِ الْأُخْرَى أَنَّ لَهُ أَصْلًا.
قَوْلُهُ (جَارِيَةً) وَفِي لَفْظٍ أَمَةً لَا يُنَافِي قَوْلَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى امْرَأَةً لِأَنَّهَا أَعَمُّ، فَيُؤْخَذُ بِقَوْلِ مَنْ زَادَ فِي رِوَايَتِهِ صِفَةً وَهِيَ كَوْنُهَا أَمَةً.
قَوْلُهُ (فَذَبَحَتْهَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَذَكَّتْهَا وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى، عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ فَأَدْرَكَتْ ذَكَاتَهَا بِحَجَرٍ. قَوْلُهُ (فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا بِهِ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: كُلُوهَا فَيُسْتَفَادُ مِنْ رِوَايَتِهِ تَعْيِينُ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ فَذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِيهِ عَلَى الشَّكِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي الْحَدِيثِ تَصْدِيقُ الْأَجِيرِ الْأَمِينِ فِيمَا اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ حَتَّى يَظْهَرَ عَلَيْهِ دَلِيلُ الْخِيَانَةِ. وَفِيهِ جَوَازُ تَصَرُّفِ الْأَمِينِ كَالْمُودِعِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ بِالْمَصْلَحَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَةُ الْمُصَنِّفِ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِذَا ذَبَحَ الرَّاعِي شَاةً بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ وَقَالَ خَشِيتُ عَلَيْهَا الْمَوْتَ لَمْ يَضْمَنْ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْجَارِيَةَ كَانَتْ أَمَةً لِصَاحِبِ الْغَنَمِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَضْمِينُهَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مِلْكِهِ فَلَمْ يُنْقَلْ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَرَادَ تَضْمِينَهَا، وَكَذَا لَوْ أَنْزَى عَلَى الْإِنَاثِ فَحْلًا بِغَيْرِ إِذْنٍ فَهَلَكَتْ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ مِنْ صَلَاحِ الْمَالِ، وَقَدْ أَوْمَأَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ إِلَى مُوَافَقَتِهِ حَيْثُ قَدَّمَ الْجَوَازَ بِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ.
وَفِيهِ جَوَازُ أَكْلُ مَا ذُبِحَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ وَلَوْ ضَمِنَ الذَّابِحُ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ طَاوُسٌ، وَعِكْرِمَةُ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الذَّبَائِحِ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، وَإِلَيْهِ جَنَحَ الْبُخَارِيُّ لِأَنَّهُ أَوْرَدَ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ حَدِيثَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي الْأَمْرِ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ وَقَدْ سَبَقَ مَا فِيهِ، وَعُورِضَ بِحَدِيثِ الْبَابِ، وَبِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ فِي قِصَّةِ الشَّاةِ الَّتِي ذَبَحَتْهَا الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهَا فَامْتَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَكْلِهَا لَكِنَّهُ قَالَ أَطْعِمُوهَا الْأُسَارَى فَلَوْ لَمْ تَكُنْ ذَكِيَّةً مَا أَمَرَ بِإِطْعَامِهَا الْأُسَارَى. وَفِيهِ جَوَازُ أَكْلِ مَا ذَبَحَتْهُ الْمَرْأَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً طَاهِرًا أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِأَكْلِ مَا ذَبَحَتْهُ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ الْبَابِ.
20 - بَاب لَا يُذَكَّى بِالسِّنِّ وَالْعَظْمِ وَالظُّفُرِ
5506 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كُلْ - يَعْنِي مَا أَنْهَرَ الدَّمَ - إِلَّا السِّنَّ وَالظُّفُرَ.
قَوْلُهُ (بَابُ لَا يُذَكَّى بِالسِّنِّ وَالْعَظْمِ وَالظُّفُرِ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: السِّنُّ عَظْمٌ خَاصٌّ وَكَذَلِكَ الظُّفُرُ وَلَكِنَّهُمَا فِي الْعُرْفِ لَيْسَا بِعَظْمَيْنِ، وَكَذَا عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَذِكْرُ الْعَظْمِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ ثُمَّ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: تَرْجَمَ
بِالْعَظْمِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْحَدِيثِ وَلَكِنَّ حُكْمَهُ يُعْلَمُ مِنْهُ. قُلْتُ: وَالْبُخَارِيُّ فِي هَذَا مَاشٍ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ أَصْلُ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ فِيهِ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ تُذْكَرْ هُنَا لَكِنَّهَا ثَابِتَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كُلْ يَعْنِي مَا أَنْهَرَ الدَّمَ إِلَّا السِّنَّ وَالظُّفُرَ) كَذَا عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَلَمْ أَرَهُ عِنْدَ أَحْمَدَ مِمَّنْ رَوَاهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَكُلْ فِعْلُ أَمْرٍ بِالْأَكْلِ وَلَفْظُ يَعْنِي تَفْسِيرٌ، كَأَنَّ الرَّاوِيَ قَالَ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْبَاغَنْدِيِّ، عَنْ قَبِيصَةَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَصَابَ النَّاسُ إِبِلًا وَغَنَمًا قَالَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ وَزَادَ فِي آخِرِهِ قَالَ عَبَايَةُ: ثُمَّ إِنَّ نَاضِحًا تَرَدَّى بِالْمَدِينَةِ فَذُبِحَ مِنْ قِبَلِ شَاكِلَتِهِ، فَأَخَذَ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ عَشِيرًا بِدِرْهَمَيْنِ وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ بَعْدَ قَلِيلٍ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ مُطَوَّلًا.
21 - بَاب ذَبِيحَةِ الْأَعْرَابِ وَنَحْوِهِمْ
5507 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ حَفْصٍ الْمَدَنِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ قَوْمًا يَأْتُوننَا بلحم لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ. قَالَتْ: وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ. تَابَعَهُ عن عَلِيّ الدَّرَاوَرْدِيّ، وَتَابَعَهُ أَبُو خَالِدٍ وَالطُّفَاوِيُّ.
قَوْلُهُ (بَابُ ذَبِيحَةِ الْأَعْرَابِ وَنَحْوِهِمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْوَاوِ وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالرَّاءِ بَدَلَ الْوَاوِ وَكَذَا هُوَ عِنْدَ النَّسَفِيِّ وَلِكُلٍّ وَجْهٌ.
قَوْلُهُ (أُسَامَةُ بْنُ حَفْصٍ الْمَدَنِيُّ) هُوَ شَيْخٌ لَمْ يَزِدِ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ فِي تَعْرِيفِهِ عَلَى مَا فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ رَوَى عَنْهُ أَيْضًا يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي قُتَيْلَةَ بِالْقَافِ وَالْمُثَنَّاةِ مُصَغَّرٌ، وَلَمْ يَحْتَجَّ الْبُخَارِيُّ، بِأُسَامَةَ هَذَا لِأَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ الطُّفَاوِيِّ وَغَيْرِهِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ.
قَوْلُهُ (تَابَعَهُ عَلِيٌّ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ) هُوَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمَدِينِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَالدّرَاوَرْدِيُّ هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَإِنَّمَا يُخَرِّجُ لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَمُرَادُ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الدَّرَاوَرْدِيَّ رَوَاهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ مَرْفُوعًا كَمَا رَوَاهُ أُسَامَةُ بْنُ حَفْصٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنَ حُمَيْدٍ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ بِهِ.
قَوْلُهُ (وَتَابَعَهُ أَبُو خَالِدٍ، وَالطُّفَاوِيُّ) يَعْنِي عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي رَفْعِهِ أَيْضًا، فَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي خَالِدٍ - وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ حِبَّانَ الْأَحْمَرُ - فَقَدْ وَصَلَهَا عَنْهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ وَقَالَ عَقِبَهُ: وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ، وَأُسَامَةُ بْنُ حَفْصٍ وَأَمَّا رِوَايَةُ الطُّفَاوِيِّ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَدْ وَصَلَهَا عَنْهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَخَالَفَهُمْ مَالِكٌ فَرَوَاهُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا لَيْسَ فِيهِ عَائِشَةُ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ: رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَمُحَاضِرُ بْنُ الْمُوَرِّعِ، وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وَآخَرُونَ عَنْ هِشَامٍ مَوْصُولًا وَرَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا عَنْ هِشَامٍ، وَوَافَقَ مَالِكًا عَلَى إِرْسَالِهِ الْحَمَّادَانِ وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَالْقَطَّانُ، عَنْ هِشَامٍ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ يَحْيَى بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ مَالِكٍ مَوْصُولًا. قُلْتُ: رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّحِيمِ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَرِوَايَةُ النَّضْرِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَرِوَايَةُ مُحَاضِرٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ هِشَامٍ مُرْسَلًا.
وَيُسْتَفَادُ مِنْ صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْحَدِيثَ إِذَا اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ حُكِمَ لِلْوَاصِلِ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَزِيدَ عَدَدُ مَنْ وَصَلَهُ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ، وَالْآخَرُ: أَنْ يَحْتَفَّ بِقَرِينَةٍ تُقَوِّي
الرِّوَايَةَ الْمَوْصُولَةَ، لِأَنَّ عُرْوَةَ مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ عَائِشَةَ مَشْهُورٌ بِالْأَخْذِ عَنْهَا، فَفِي ذَلِكَ إِشْعَارٌ بِحِفْظِ مَنْ وَصَلَهُ عَنْ هِشَامٍ دُونَ مَنْ أَرْسَلَهُ. وَيُؤْخَذُ مِنْ صَنِيعِهِ أَيْضًا أَنَّهُ وَإِنِ اشْتَرَطَ فِي الصَّحِيحِ أَنْ يَكُونَ رَاوِيهِ مِنْ أَهْلِ الضَّبْطِ وَالْإتْقَانِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي الرَّاوِي قُصُورٌ عَنْ ذَلِكَ وَوَافَقَهُ عَلَى رِوَايَةِ ذَلِكَ الْخَبَرِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ انْجَبَرَ ذَلِكَ الْقُصُورُ بِذَلِكَ وَصَحَّ الْحَدِيثُ عَلَى شَرْطِهِ.
قَوْلُهُ (أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهِمْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ (إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِلَحْمٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي خَالِدٍ يَأْتُونَا بِلُحْمَانٍ وَفِي رِوَايَةِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ إِنَّ نَاسًا مِنَ الْأَعْرَابِ وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ مِنَ الْبَادِيَةِ.
قَوْلُهُ (لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) كَذَا هُنَا بِضَمِّ الذَّالِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِي رِوَايَةِ الطُّفَاوِيِّ الْمَاضِيَةِ فِي الْبُيُوعِ اذْكُرُوا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي خَالِدٍ لَا نَدْرِي يَذْكُرُونَ زَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَتِهِ أَمْ لَمْ يَذْكُرُوا، أَفَنَأْكُلُ مِنْهَا؟.
قَوْلُهُ (سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوا) فِي رِوَايَةِ الطُّفَاوِيِّ سَمُّوا اللَّهَ وَفِي رِوَايَةِ النَّضْرِ، وَأَبِي خَالِدٍ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ زَادَ أَبُو خَالِدٍ أَنْتُمْ.
قَوْلُهُ (قَالَتْ وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ) وَفِي لَفْظِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ وَهِيَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةُ قُدِّمَ خَبَرُهَا وَوَقَعَتْ صِفَةً لِقَوْلِهِ أَقْوَامًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا بَعْدَ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ يَأْتُونَنَا بِلَحْمٍ.
قَوْلُهُ بِالْكُفْرِ وَفِي لَفْظٍ بِكُفْرٍ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي خَالِدٍ بِشِرْكٍ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ بِجَاهِلِيَّةٍ زَادَ مَالِكٌ فِي آخِرِهِ وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ قَوْمٌ فَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ تَعَلُّقٌ ضَعِيفٌ، وَفِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ مَا يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ فِيهِ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْأَكْلِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ نَزَلَتْ بِالْأَمْرِ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَأَيْضًا فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَنْعَامَ مَكِّيَّةٌ وَأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةُ جَرَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنَّ الْأَعْرَابَ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ فِي الْحَدِيثِ هُمْ بَادِيَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَزَادَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي رِوَايَتِهِ اجْتَهِدُوا أَيْمَانَهُمْ وَكُلُوا أَيْ حَلِّفُوهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ سَمَّوْا حِينَ ذَبَحُوا، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ غَرِيبَةٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ ثِقَةٌ لَكِنْ رِوَايَتُهُ هَذِهِ مُرْسَلَةٌ، نَعَمْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوَهُ لَكِنْ قَالَ: اجْتَهَدُوا أَيْمَانَهُمْ أَنَّهُمْ ذَبَحُوهَا وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَلِلطَّحَاوِيِّ فِي الْمُشْكِلِ: سَأَلَ نَاسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: أَعَارِيبُ يَأْتُونَنَا بِلُحْمَانٍ وَجُبْنٍ وَسَمْنٍ مَا نَدْرِي مَا كُنْهُ إِسْلَامِهِمْ، قَالَ: انْظُرُوا مَا حَرَّمَ اللَّهَ عَلَيْكُمْ فَأَمْسِكُوا عَنْهُ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَقَدْ عَفَا لَكُمْ عَنْهُ، وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا، اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ الْمُهَلَّبُ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي أَنَّ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ لَا تَجِبُ، إِذْ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَاشْتُرِطَتْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الْأَكْلِ لَيْسَتْ فَرْضًا، فَلَمَّا نَابَتْ عَنِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبْحِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنُوبُ عَنِ الْفَرْضِ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ، وَأَبِي ثَعْلَبَةَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا كَانَا يَصِيدَانِ عَلَى مَذْهَبِ الْجَاهِلِيَّةِ فَعَلَّمَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمْرَ الصَّيْدِ وَالذَّبْحِ فَرْضَهُ وَمَنْدُوبَهُ لِئَلَّا يُوَاقِعَا شُبْهَةً مِنْ ذَلِكَ، وَلْيَأْخُذَا بِأَكْمَلِ الْأُمُورِ فِيمَا يَسْتَقْبِلَانِ، وَأَمَّا الَّذِينَ سَأَلُوا عَنْ هَذِهِ الذَّبَائِحِ فَإِنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ أَمْرٍ قَدْ وَقَعَ وَيَقَعُ لِغَيْرِهِمْ لَيْسَ فِيهِ قُدْرَةٌ عَلَى الْأَخْذِ بِالْأَكْمَلِ، فَعَرَّفَهُمْ بِأَصْلِ الْحِلِّ فِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ التِّين: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالتَّسْمِيَةِ هُنَا عِنْدَ الْأَكْلِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ النَّوَوِيُّ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَأَمَّا التَّسْمِيَةُ عَلَى ذَبْحٍ تَوَلَّاهُ غَيْرُهُمْ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِمْ فَلَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ الصِّحَّةِ إِذَا تَبَيَّنَ خِلَافُهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ تَسْمِيَتَكُمُ الْآنَ تَسْتَبِيحُونَ بِهَا أَكْلَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا إِذَا كَانَ الذَّابِحُ مِمَّنْ تَصِحُّ ذَبِيحَتُهُ إِذَا سَمَّى.
وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ مَا يُوجَدُ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ، وَكَذَا مَا ذَبَحَهُ أَعْرَابُ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُمْ عَرَفُوا التَّسْمِيَةَ،
وَكَذَا الْأَخِيرُ جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَقَالَ: فِيهِ أَنَّ مَا ذَبَحَهُ الْمُسْلِمُ يُؤْكَلُ وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ سَمَّى، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُظَنُّ بِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الْخَيْرُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُ ذَلِكَ، وَعَكَسَ هَذَا الْخَطَّابِيُّ فَقَالَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ غَيْرُ شَرْطٍ عَلَى الذَّبِيحَةِ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ شَرْطًا لَمْ تُسْتَبَحِ الذَّبِيحَةُ بِالْأَمْرِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ، كَمَا لَوْ عَرَضَ الشَّكُّ فِي نَفْسِ الذَّبْحِ فَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ وَقَعَتِ الذَّكَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ أَوْ لَا، وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ حَيْثُ وَقَعَ الْجَوَابُ فِيهِ فَسَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ لَا تَهْتَمُّوا بِذَلِكَ بَلِ الَّذِي يُهِمُّكُمْ أَنْتُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَتَأْكُلُوا، وَهَذَا مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الطِّيبِيُّ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الِاشْتِرَاطِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} فَأَبَاحَ الْأَكْلَ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ مَعَ وُجُودِ الشَّكِّ فِي أَنَّهُمْ سَمَّوْا أَمْ لَا.
تَكْمِلَةٌ:
قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإحْيَاءِ فِي مَرَاتِبِ الشُّبُهَاتِ: الْمَرْتَبَةُ الْأَوْلَى مَا يَتَأَكَّدُ الِاسْتِحْبَابُ فِي التَّوَرُّعِ عَنْهُ. هُوَ مَا يَقْوَى فِيهِ دَلِيلُ الْمُخَالِفِ، فَمِنْهُ التَّوَرُّعُ عَنْ أَكْلِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ، فَإِنَّ الْآيَةَ ظَاهِرَةٌ فِي الْإِيجَابِ، وَالْأَخْبَارَ مُتَوَاتِرَةٌ بِالْأَمْرِ بِهَا، وَلَكِنْ لَمَّا صَحَّ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم الْمُؤْمِنُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَامًّا مُوجِبًا لِصَرْفِ الْآيَةِ وَالْإِخْبَارِ عَنْ ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُخَصَّصَ بِالنَّاسِي وَيَبْقَى مَنْ عَدَاهُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: الْحَدِيثُ الَّذِي اعْتَمَدَ عَلَيْهِ وَحَكَمَ بِصِحَّتِهِ بَالَغَ النَّوَوِيُّ فِي إِنْكَارِهِ، فَقَالَ: هُوَ مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ، قَالَ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ: مُنْكَرٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ عَنِ الصَّلْتِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ قُلْتُ: الصَّلْتُ يُقَالُ لَهُ السَّدُوسِيُّ، ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ جَيِّدٌ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ مَرْوَانُ بْنُ سَالِمٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَلَكِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ بَابِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَاخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى الْمُرْسَلِ الْمَذْكُورِ قَوِيَ، أَمَّا كَوْنُهُ يَبْلُغُ دَرَجَةَ الصِّحَّةِ فَلَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
22 - بَاب ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَشُحُومِهَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهِمْ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ نَصَارَى الْعَرَبِ، وَإِنْ سَمِعْتَهُ يُسَمِّي لِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا تَأْكُلْ وَإِنْ لَمْ تَسْمَعْهُ فَقَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ وَعَلِمَ كُفْرَهُمْ. وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ: لَا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ الْأَقْلَفِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَعَامُهُمْ ذبَائِحُهُمْ.
5508 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَرَ، فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ، فَنَزَوْتُ لِآخُذَهُ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ.
قَوْلُهُ (بَابُ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَشُحُومِهَا، مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهِمْ) أَشَارَ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ تَحْرِيمُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ كَالشُّحُومِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لِأَنَّ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ طَعَامَهُمْ، وَلَيْسَ الشُّحُومُ مِنْ طَعَامِهِمْ وَلَا يَقْصِدُونَهَا عِنْدَ الذكاة. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ طَعَامَهُمْ بِذَبَائِحِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي آخِرَ
الْبَابِ، وَإِذَا أُبِيحَتْ ذَبَائِحُهُمْ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى قَصْدِهِمْ أَجْزَاءَ الْمَذْبُوحِ، وَالتَّذْكِيَةُ لَا تَقَعُ عَلَى بَعْضِ أَجْزَاءِ الْمَذْبُوحِ دُونَ بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَتِ التَّذْكِيَةُ شَائِعَةً فِي جَمِيعِهَا دَخَلَ الشَّحْمُ لَا مَحَالَةَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى نَصَّ بِأَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، فَكَانَ يَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ أَنَّ الْيَهُودِيَّ إِذَا ذَبَحَ مَا لَهُ ظُفُرٌ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَكْلُهُ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ أَيْضًا يُحَرِّمُونَ أَكْلَ الْإِبِلِ فَيَقَعُ الْإِلْزَامُ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ (وَقَوْلُهُ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ إِلَى قَوْلِهِ:{حِلٌّ لَهُمْ} وَبِهَذِهِ الزِّيَادَةِ يَتَبَيَّنُ مُرَادُهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحِلِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَخُصَّ ذِمِّيًّا مِنْ حَرْبِيٍّ وَلَا خَصَّ لَحْمًا مِنْ شَحْمٍ، وَكَوْنُ الشُّحُومِ مُحَرَّمَةً عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَضُرُّ، لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ لَا عَلَيْنَا، وَغَايَتُهُ بَعْدَ أَنْ يَتَقَرَّرَ أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ لَنَا حَلَالٌ أَنَّ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا مَسْكُوتٌ فِي شَرْعِنَا عَنْ تَحْرِيمِهِ عَلَيْنَا فَيَكُونُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ نَصَارَى الْعَرَبِ. وَإِنْ سَمِعْتَهُ يُهِلُّ لِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا تَأْكُلْ، وَإِنْ لَمْ تَسْمَعْهُ فَقَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَكَ وَعَلِمَ كُفْرَهُمْ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَزَادَ فِي آخِرِهِ قَالَ: وَإِهْلَالُهُ أَنْ يَقُولَ: بِاسْمِ الْمَسِيحِ، وَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ إِنْ كَانَ لَهُمْ ذَبْحٌ يُسَمُّونَ عَلَيْهِ غَيْرَ اسْمِ اللَّهِ مِثْلَ اسْمِ الْمَسِيحِ لَمْ يَحِلَّ، وَإِنْ ذَكَرَ الْمَسِيحَ عَلَى مَعْنَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لَمْ يَحْرُمْ، وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَلِيمِيِّ بَحْثًا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إِنَّمَا يَذْبَحُونَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُمْ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ لَا يَقْصِدُونَ بِعِبَادَتِهِمْ إِلَّا اللَّهَ، فَإِذَا كَانَ قَصْدُهُمْ فِي الْأَصْلِ ذَلِكَ اعْتُبِرَتْ ذَبِيحَتُهُمْ وَلَمْ يَضُرَّ قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ مَثَلًا: بِاسْمِ الْمَسِيحِ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إِلَّا اللَّهَ وَإِنْ كَانَ قَدْ كَفَرَ بِذَلِكَ الِاعْتِقَادِ.
قَوْلُهُ (وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوُهُ) لَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ وَصَلَهُ، وَكَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ.
بَلْ قَدْ جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ صَحِيحٍ الْمَنْعُ مِنْ ذَبَائِحِ بَعْضِ نَصَارَى الْعَرَبِ أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيَّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَا تَأْكُلُوا ذَبَائِحَ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنْ دِينِهِمْ إِلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ لِأَنَّ مَنْعَ الَّذِي مَنَعَهُ فِيهِ أَخَصُّ مِنَ الَّذِي نُقِلَ فِيهِ عَنْهُ الْجَوَازُ
قَوْلُهُ (وَقَالَ الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ لَا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ الْأَقْلَفِ) بِالْقَافِ ثُمَّ الْفَاءِ: هُوَ الَّذِي لَمْ يُخْتَنْ، وَالْقُلْفَةُ بِالْقَافِ وَيُقَالُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ الْغُرْلَةُ وَهِيَ الْجِلْدَةُ الَّتِي تَسْتُرُ الْحَشَفَةَ، وَأَثَرُ الْحَسَنِ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يُرَخِّصُ فِي الرَّجُلِ إِذَا أَسْلَمَ بَعْدَمَا يَكْبَرُ فَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ إِنِ اخْتُتِنَ أَنْ لَا يُخْتَتَنَ، وَكَانَ لَا يَرَى بِأَكْلِ ذَبِيحَتِهِ بَأْسًا. وَأَمَّا أَثَرُ إِبْرَاهِيمَ فَأَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ الْأَقْلَفِ. وَقَدْ وَرَدَ مَا يُخَالِفُهُ فَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَقْلَفُ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَلَا تُقْبَلُ صَلَاتُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ تَجُوزُ ذَبِيحَتُهُ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُخْتَتَنُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ طَعَامُهُمْ ذَبَائِحُهُمْ) كَذَا ثَبَتَ هَذَا التَّعْلِيقُ هُنَا عِنْدَ الْمُسْتَمْلِي، وَثَبَتَ عِنْدَ السَّرَخْسِيِّ، وَالْحَمَوِيِّ فِي آخِرِ الْبَابِ عَقِبَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَهُوَ مَوْصُولٌ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} قَالَ: ذَبَائِحُهُمْ، وَقَائِلُ هَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُجِيزَ ذَبِيحَةَ الْأَقْلَفِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يُخْتَتَنُونَ، وَقَدْ خَاطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هِرَقْلَ وَقَوْمَهُ بِقَوْلِهِ:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} وَهِرَقْلُ وَقَوْمُهُ مِمَّنْ لَا يُخْتَتَنُ وَقَدْ سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَرَ، فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ فَنَزَوْتُ) بِنُونٍ وَزَايٍ أَيْ وَثَبْتُ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَبَدَرْتُ أَيْ سَارَعْتُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ مَنَعَ مَا حُرِّمَ
عَلَيْهِمْ كَالشُّحُومِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ ابْنَ مُغَفَّلٍ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِالْجِرَابِ الْمَذْكُورِ، وَفِيهِ جَوَازُ أَكْلِ الشَّحْمِ مِمَّا ذَبَحَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَلَوْ كَانُوا أَهْلَ حَرْبٍ.
23 - بَاب مَا نَدَّ مِنْ الْبَهَائِمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَحْشِ
وَأَجَازَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أَعْجَزَكَ مِنْ الْبَهَائِمِ مِمَّا فِي يَدَيْكَ فَهُوَ كَالصَّيْدِ وَفِي بَعِيرٍ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ مِنْ حَيْثُ قَدَرْتَ عَلَيْهِ فَذَكِّهِ. وَرَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ
5509 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَاقُو الْعَدُوِّ غَدًا وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى؟ فَقَالَ: اعْجَلْ، أَوْ أَرِنْ، مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأُحَدِّثُكَ: أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ. وَأَصَبْنَا نَهْبَ إِبِلٍ وَغَنَمٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لِهَذِهِ الْإِبِلِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْءٌ فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا.
قَوْلُهُ (بَابُ مَا نَدَّ) أَيْ نَفَرَ (مِنَ الْبَهَائِمِ) أَيِ الْإِنْسِيَّةِ (فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَحْشِ) أَيْ فِي جَوَازِ عَقْرِهِ عَلَى أَيْ صِفَةٍ اتَّفَقَتْ، وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْءٌ فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ لِهَذِهِ الْإِبِلِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ تَقْدِيمَ ذِكْرِ هَذَا التَّشْبِيهِ كَالتَّمْهِيدِ لِكَوْنِهَا تُشَارِكُ الْمُتَوَحِّشَ فِي الْحُكْمِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهَا تَنْفِرُ كَمَا يَنْفِرُ الْوَحْشُ لَا أَنَّهَا تُعْطَى حُكْمُهَا، كَذَا قَالَ، وَآخِرُ الْحَدِيثِ يَرُدُّ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ (وَأَجَازَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ) يُشِيرُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ صَيْدِ الْقَوْسِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعُمَيْسِ، عَنْ غَضْبَانَ بْنِ يَزِيدَ الْبَجَلِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَعْرَسَ رَجُلٌ مِنَ الْحَيِّ فَاشْتَرَى جَزُورًا فَنَدَّتْ فَعَرْقَبَهَا وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ، فَأَمَرَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ - أَنْ يَأْكُلُوا، فَمَا طَابَتْ أنفعهم حَتَّى جَعَلُوا لَهُ مِنْهَا بِضْعَةً ثُمَّ أَتَوْهُ بِهَا فَأَكَلَ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أَعْجَزَكَ مِنَ الْبَهَائِمِ مِمَّا فِي يَدَيْكَ فَهُوَ كَالصَّيْدِ، وَفِي بَعِيرٍ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ فَذَكِّهِ مِنْ حَيْثُ قَدَرْتَ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ مِنْ حَيْثُ قَدَرْتَ عَلَيْهِ فَذَكِّهِ. أَمَّا الْأَثَرُ الْأَوَّلُ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ بِهَذَا قَالَ: فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ قَالَ: إِذَا وَقَعَ الْبَعِيرُ فِي الْبِئْرِ فَاطْعَنْهُ مِنْ قِبَلِ خَاصِرَتِهِ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ وَكُلْ.
قَوْلُهُ (وَرَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ) أَمَّا أَثَرُ عَلِيٍّ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَاشِدٍ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: كُنْتُ أَرْعَى مَنَائِحَ لِأَهْلِي بِظَهْرِ الْكُوفَةِ، فَتَرَدَّى مِنْهَا بَعِيرٌ، فَخَشِيتُ أَنْ يَسْبِقَنِي بِذَكَاتِهِ فَأَخَذْتُ حَدِيدَةً فَوَجَأْتُ بِهَا فِي جَنْبِهِ أَوْ سَنَامِهِ، ثُمَّ قَطَّعْتُهُ أَعْضَاءَ وَفَرَّقْتُهُ عَلَى أَهْلِي، فَأَبَوْا أَنْ يَأْكُلُوهُ، فَأَتَيْتُ عَلِيًّا فَقُمْتُ عَلَى بَابِ قَصْرِهِ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: يَا لَبَّيْكَاهُ يَا لَبَّيْكَاهُ، فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرَهُ، فَقَالَ: كُلْ وَأَطْعِمْنِي.
وَأَمَّا أَثَرُ ابْنِ عُمَرَ فَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي أَثَرِ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ لَا يُذَكَّى بِالسِّنِّ وَالْعَظْمِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبَايَةَ بِلَفْظِ تَرَدَّى بَعِيرٌ فِي رَكِيَّةٍ، فَنَزَلَ رَجُلٌ لِيَنْحَرَهُ فَقَالَ: لَا أَقْدِرُ عَلَى نَحْرِهِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: اذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ اقْتُلْ
شَاكِلَتَهُ - يَعْنِي خَاصِرَتَهُ - فَفَعَلَ وَأُخْرِجَ مُقَطَّعًا، فَأَخَذَ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ عَشِيرًا بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ أَرْبَعَةٍ. وَأَمَّا أَثَرُ عَائِشَةَ فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ بَعْدُ مَوْصُولًا ; وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنِ الْجُمْهُورِ، وَخَالَفَهُمْ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَنُقِلَ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَرَبِيعَةَ فَقَالُوا: لَا يَحِلُّ أَكْلُ الْإِنْسِيِّ إِذَا تَوَحَّشَ إِلَّا بِتَذْكِيَتِهِ فِي حَلْقِهِ أَوْ لَبَّتِهِ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ رَافِعٍ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قِصَّةَ نَصْبِ الْقُدُورِ وَإِكْفَائِهَا وَذَكَرَ سَائِرَ الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ فِيهِ (عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ خَدِيجٍ) كَذَا فِيهِ نُسِبَ رِفَاعَةُ إِلَى جَدِّهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ بِغَيْرِ نَقْصٍ فِيهِ.
قَوْلُهُ (فَقَالَ اعْجَلْ أَوْ أَرِنْ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ النُّونِ، وَكَذَا ضَبَطَهُ الْخَطَّابِيُّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِسُكُونِ الرَّاءِ وَكَسْرِ النُّونِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي هُنَا وَأَرِنِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ آخِرَهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا حَرْفٌ طَالَمَا اسْتَثْبَتَ فِيهِ الرُّوَاةُ، وَسَأَلْتُ عَنْهُ أَهْلَ اللُّغَةِ فَلَمْ أَجِدْ عِنْدَهُمْ مَا يَقْطَعُ بِصِحَّتِهِ، وَقَدْ طَلَبْتُ لَهُ مَخْرَجًا. فَذَكَرَ أَوْجُهًا: أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ عَلَى الرِّوَايَةِ بِكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ أَرَانَ الْقَوْمَ إِذَا هَلَكَتْ مَوَاشِيهِمْ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَهْلِكْهَا ذَبْحًا. ثَانِيهَا أَنْ يَكُونَ عَلَى الرِّوَايَةِ بِسُكُونِ الرَّاءِ بِوَزْنِ أَعْطِ يَعْنِي انظروا نظروا نتظر بِمَعْنًى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَمَّنْ قَالَ:{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} أَيْ انْظِرُونَا، أَوْ هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى أَدِمِ الْحَزَّ مِنْ قَوْلِكَ: رَنَوْتُ، إِذَا أَدَمْتَ النَّظَرَ إِلَى الشَّيْءِ، وَأَرَادَ أَدِمُ النَّظَرَ إِلَيْهِ وَرَاعِهِ بِبَصَرِكَ. ثَالِثُهَا أَنْ يَكُونَ مَهْمُوزًا مِنْ قَوْلِكَ أَرِن يأرن إِذَا نَشِطَ وَخَفَّ، كَأَنَّهُ فِعْلُ أَمْرٍ بِالْإِسْرَاعِ لِئَلَّا يَمُوتَ خَنْقًا وَرَجَّحَ فِي شَرْحِ السُّنَنِ هَذَا الْوَجْهَ الْأَخِيرَ فَقَالَ: صَوَابُهُ أَرْئِنْ بِهَمْزَةٍ وَمَعْنَاهُ خِفَّ وَاعْجَلْ لِئَلَّا تَخْنُقَهَا، فَإِنَّ الذَّبْحَ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ الْحَدِيدِ احْتَاجَ صَاحِبُهُ إِلَى خِفَّةِ يَدٍ وَسُرْعَةٍ فِي إِمْرَارِ تِلْكَ الْآلَةِ وَالْإِتْيَانِ عَلَى الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ كُلِّهَا قَبْلَ أَنْ تَهْلَكَ الذَّبِيحَةُ بِمَا يَنَالُهَا مِنْ أَلَمِ الضَّغْطِ قَبْلَ قَطْعِ مَذَابِحِهَا.
ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذَا الْحَرْفَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَذَكَرْتُ فِيهِ وُجُوهًا يَحْتَمِلُهَا التَّأْوِيلُ وَكَانَ قَالَ فِيهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ تَصَحَّفَتْ، وَكَانَ فِي الْأَصْلِ أَزَزَ بِالزَّايِ مِنْ قَوْلِكَ أَزَزَ الرَّجُلُ إِصْبَعَهُ إِذَا جَعَلَهَا فِي الشَّيْءِ، وَأَزَزَتِ الْجَرَادَةُ أَزَزًا إِذَا أَدْخَلَتْ ذَنَبَهَا فِي الْأَرْضِ، وَالْمَعْنَى شُدَّ يَدَكَ عَلَى النَّحْرِ. وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ أَقْرَبُ الْجَمِيعِ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: عَرَضْتُ كَلَامَ الْخَطَّابِيِّ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ النَّقْدِ فَقَالَ: أَمَّا أَخْذُهُ مِنْ أَرَانَ الْقَوْمَ فَمُعْتَرَضٌ لِأَنَّ أَرَانَ لَا يَتَعَدَّى وَإِنَّمَا يُقَالُ أَرَانَ هُوَ وَلَا يُقَالُ أَرَانَ الرَّجُلُ غَنَمَهُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي صَوَّبَهُ فَفِيهِ نَظَرٌ وَكَأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الرِّوَايَةَ لَا تُسَاعِدُهُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي جَعَلَهُ أَقْرَبَ الْجَمِيعِ فَهُوَ أَبْعَدُهَا لِعَدَمِ الرِّوَايَةِ بِهِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: ضَبَطَهُ الْأَصِيلِيُّ أَرِنِي فِعْلُ أَمْرٍ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَمِثْلُهُ فِي مُسْلِمٍ لَكِنِ الرَّاءَ سَاكِنَةٌ قَالَ: وَأَفَادَنِي بَعْضُهُمْ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي مُسْنَدِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَضْبُوطَةً هَكَذَا أَرِنِي أَوِ اعْجَلْ، فَكَأَنَّ الرَّاوِيَ شَكَّ فِي أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْمَقْصُودُ الذَّبْحُ بِمَا يُسْرِعُ الْقَطْعَ وَيُجْرِي الدَّمَ، وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ أَنْ أَرِنْ بِمَعْنَى اعْجَلْ وَأَنَّهُ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَضَبَطَ اعْجَلْ بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَرْنِي بِسُكُونِ الرَّاءِ وَبَعْدَ النُّونِ يَاءٌ أَيْ أَحْضِرْنِي الْآلَةَ الَّتِي تَذْبَحُ بِهَا لِأَرَاهَا ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَوِ اعْجَلْ، وَأَوْ تَجِيءُ لِلْإِضْرَابِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ لَا يَتَيَسَّرُ إِحْضَارُ الْآلَةِ فَيَتَأَخَّرُ الْبَيَانُ فَعُرِفَ الْحُكْمُ فَقَالَ: اعْجَلْ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ إِلَخْ، قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الشَّكِّ.
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ هَلْ هِيَ بِوَزْنِ أَعْطِ أَوْ بِوَزْنِ أَطِعْ أَوْ هِيَ فِعْلُ أَمْرٍ مِنَ الرُّؤْيَةِ؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ الْمَعْنَى أَدِمِ الْحَزَّ مِنْ رَنَوْتَ إِذَا أَدَمْتَ النَّظَرَ، وَعَلَى الثَّانِي أَهْلِكْهَا ذَبْحًا مِنْ أَرَانَ الْقَوْمَ إِذَا هَلَكَتْ مَوَاشِيهِمْ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْنَى كُنْ ذَا
شَاةٍ هَالِكَةٍ إِذَا أَزْهَقْتَ نَفْسَهَا بِكُلِّ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ. وَأَمَّا عَلَى أَنَّهُ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْأَمْرِ فَمَعْنَاهُ أَرِنِي سَيَلَانَ الدَّمِ، وَمَنْ سَكَّنَ الرَّاءَ اخْتَلَسَ الْحَرَكَةَ، وَمَنْ حَذَفَ الْيَاءَ جَازَ، وَقَوْلُهُ: وَاعْجَلْ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ فِعْلُ أَمْرٍ مِنَ الْعَجَلَةِ أَيِ اعْجَلْ لَا تَمُوتُ الذَّبِيحَةُ خَنْقًا قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِصِيغَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ أَيْ لِيَكُنِ الذَّبْحُ أَعْجَلَ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، قُلْتُ: وَهَذَا وَإِنْ تَمَشَّى عَلَى رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ بِتَقْدِيمِ لَفْظِ أَرِنِي عَلَى أعْجَلْ لَمْ يَسْتَقِمْ عَلَى رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ بِتَأْخِيرِهَا، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ فِي رِوَايَةِ أَرْنِ بِسُكُونِ الرَّاءِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَرْنَانِي حُسْنَ مَا رَأَيْتُهُ أَيْ حَمَلَنِي عَلَى الرُّنُوِّ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَحْسِنِ الذَّبْحَ حَتَّى تُحِبَّ أَنْ نَنْظُرَ إِلَيْكَ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ إِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدْ سَبَقَتْ مَبَاحِثُ هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفَاةً قَبْلُ، وَسِيَاقُهُ هُنَاكَ أَتَمُّ مِمَّا هُنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
24 - بَاب النَّحْرِ وَالذَّبْحِ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ: لَا ذَبْحَ وَلَا نَحْرَ إِلَّا فِي الْمَذْبَحِ وَالْمَنْحَرِ. قُلْتُ: أَيَجْزِي مَا يُذْبَحُ أَنْ أَنْحَرَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. ذَكَرَ اللَّهُ ذَبْحَ الْبَقَرَةِ، فَإِنْ ذَبَحْتَ شَيْئًا يُنْحَرُ جَازَ، وَالنَّحْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَالذَّبْحُ قَطْعُ الْأَوْدَاجِ، قُلْتُ: فَيُخَلِّفُ الْأَوْدَاجَ حَتَّى يَقْطَعَ النِّخَاعَ؟ قَالَ: لَا إِخَالُ. وَأَخْبَرَنِي نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ نَهَى عَنْ النَّخْعِ، يَقُولُ: يَقْطَعُ مَا دُونَ الْعَظْمِ، ثُمَّ يَدَعُ حَتَّى يمُوتَ. وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} - إلى - {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} وَقَالَ سَعِيدٌ بن جبير عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٌ: إِذَا قَطَعَ الرَّأْسَ فَلَا بَأْسَ
5510 -
حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عن هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، قَالَ: أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ امْرَأَتِي، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما، قَالَتْ: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ.
[الحديث 5510 - أطرافه في: 5511، 5512، 5519]
5511 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، سَمِعَ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: ذَبَحْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا - وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ - فَأَكَلْنَاهُ.
5512 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ. تَابَعَهُ وَكِيعٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامٍ فِي النَّحْرِ.
قَوْلُهُ (بَابُ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَالذَّبَائِحِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَكَأَنَّهُ جَمَعَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ الْأَكْثَرُ فَالنَّحْرُ فِي الْإِبِلِ خَاصَّةً، وَأَمَّا غَيْرُ الْإِبِلِ فَيُذْبَحُ، وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ فِي ذَبْحِ الْإِبِلِ وَفِي نَحْرِ غَيْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الْأَصْلُ فِي الْإِبِلِ النَّحْرُ، وَفِي الشَّاةِ وَنَحْوِهَا الذَّبْحُ، وَأَمَّا الْبَقَرُ فَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ ذَبْحِهَا وَفِي السُّنَّةِ ذِكْرُ نَحْرِهَا، وَاخْتُلِفَ فِي ذَبْحِ مَا يُنْحَرُ وَنَحْرِ مَا يُذْبَحُ فَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ وَمَنَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ إِلَخْ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ مُقَطَّعًا، وَقَوْلُهُ: وَالذَّبْحُ قَطْعُ الْأَوْدَاجِ جَمْعُ وَدَجٍ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ وَهُوَ الْعِرْقُ الَّذِي فِي الْأَخْدَعِ، وَهُمَا عِرْقَانِ مُتَقَابِلَانِ، قِيلَ: لَيْسَ لِكُلِّ بَهِيمَةٍ غَيْرُ وَدَجَيْنِ فَقَطْ، وَهُمَا مُحِيطَانِ
بِالْحُلْقُومِ، فَفِي الْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ نَظَرٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَضَافَ كُلَّ وَدَجَيْنِ إِلَى الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا، هَكَذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَبَقِيَ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَى مَا يَقْطَعُ فِي الْعَادَةِ وَدَجًا تَغْلِيبًا، فَقَدْ قَالَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ فِي كُتُبِهِمْ: إِذَا قَطَعَ مِنَ الْأَوْدَاجِ الْأَرْبَعَةِ ثَلَاثَةً حَصَلَتِ التَّذْكِيَةُ، وَهُمَا الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَعِرْقَانِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: إِذَا قَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ وَأَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْأَوْدَاجِ أَجْزَأَ، فَإِنْ قَطَعَ أَقَلَّ فَلَا خَيْرَ فِيهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَكْفِي وَلَوْ لَمْ يَقْطَعْ مِنَ الْوَدَجَيْنِ شَيْئًا، لِأَنَّهُمَا قَدْ يُسَلَّانِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ فَيَعِيشُ. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ إِنْ قَطَعَ الْوَدَجَيْنِ أَجْزَأَ وَلَوْ لَمْ يَقْطَعِ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ، وَعَنْ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ يُشْتَرَطُ قَطْعُ الْوَدَجَيْنِ وَالْحُلْقُومَ فَقَطْ، وَاحْتُجَّ لَهُ بِمَا فِي حَدِيثِ رَافِعٍ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَإِنْهَارُهُ إِجْرَاؤُهُ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ لِأَنَّهَا مَجْرَى الدَّمِ، وَأَمَّا الْمَرِيءُ فَهُوَ مَجْرَى الطَّعَامِ وَلَيْسَ بِهِ مِنَ الدَّمِ مَا يَحْصُلُ بِهِ إِنْهَارٌ، كَذَا قَالَ.
وَقَوْلُهُ فَأَخْبَرَنِي نَافِعٌ الْقَائِلُ هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَوْلُهُ النَّخْعُ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فَسَّرَهُ فِي الْخَبَرِ بِأَنَّهُ قَطْعَ مَا دُونَ الْعَظْمِ، وَالنُّخَاعُ عِرْقٌ أَبْيَضُ فِي فَقَارِ الظَّهْرِ إِلَى الْقَلْبِ، يُقَالُ لَهُ خَيْطُ الرَّقَبَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: النَّخْعُ أَنْ تُذْبَحَ الشَّاةُ ثُمَّ يُكْسَرُ قَفَاهَا مِنْ مَوْضِعِ الْمَذْبَحِ، أَوْ تُضْرَبَ لِيُعَجَّلَ قَطْعُ حَرَكَتِهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْغَرِيبِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْفَرَسِ فِي الذَّبِيحَةِ، ثُمَّ حَكَى عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ الْفَرَسَ هُوَ النَّخْعُ، يُقَالُ: فَرَسْتُ الشَّاةَ وَنَخَعْتُهَا، وَذَلِكَ أَنْ يَنْتَهِيَ بِالذَّبْحِ إِلَى النُّخَاعِ وَهُوَ عَظْمٌ فِي الرَّقَبَةِ، قَالَ: وَيُقَالُ أَيْضًا هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي فَقَارِ الصُّلْبِ شَبِيهٌ بِالْمُخِّ وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِالْقَفَا، نَهَى أَنْ يُنْتَهَى بِالذَّبْحِ إِلَى ذَلِكَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَمَّا النَّخْعُ فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ، وَأَمَّا الْفَرَسُ فَيُقَالُ هُوَ الْكَسْرُ، وَإِنَّمَا نَهَى أَنْ تُكْسَرَ رَقَبَةُ الذَّبِيحَةِ قَبْلَ أَنْ تَبْرُدَ. وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ وَلَا تُعَجِّلُوا الْأَنْفُسَ قَبْلَ أَنْ تَزْهَقَ قُلْتُ: يَعْنِي فِي حَدِيثِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ، عَنْ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} إِلَى - {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} زَادَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} وَهَذَا مِنْ تَمَامِ التَّرْجَمَةِ، وَأَرَادَ أَنْ يُفَسِّرَ بِهِ قَوْلَ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الْأَثَرِ الْمَذْكُورِ ذَكَرَ اللَّهُ ذَبْحَ الْبَقَرَةِ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى اخْتِصَاصِ الْبَقَرِ بِالذَّبْحِ، وَقَدْ رَوَى شَيْخُهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ مَالِكٍ مَنْ نَحَرَ الْبَقَرِ فَبِئْسَ مَا صَنَعَ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَعَنْ أَشْهَبَ إِنْ ذَبَحَ بَعِيرًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لَمْ يُؤْكَلْ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ عُمَرَ مِثْلُهُ، وَجَاءَ مَرْفُوعًا مِنْ وَجْهٍ وَاهٍ. وَاللَّبَّةُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ هِيَ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ مِنَ الصَّدْرِ وَهِيَ الْمَنْحَرُ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّحَ بِضَعْفِ الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الْمَعْشَرِ الدَّارِمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إِلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، قَالَ: لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذِهَا لَأَجْزَأَكَ لَكِنْ مَنْ قَوَّاهُ حَمَلَهُ عَلَى الْوَحْشِ وَالْمُتَوَحِّشِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٌ: إِذَا قَطَعَ الرَّأْسَ فَلَا بَأْسَ) أَمَّا أَثَرُ ابْنِ عُمَرَ فَوَصَلَهُ أَبُو مُوسَى الزَّمِنُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مِجْلَزٍ سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ ذَبِيحَةٍ قُطِعَ رَأْسُهَا، فَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ بِأَكْلِهَا وَأَمَّا أَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَمَّنْ ذَبَحَ دَجَاجَةً فَطَيَّرَ رَأْسَهَا فَقَالَ ذَكَاةٌ وَحِيَّةٌ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ ثَقِيلَةٌ أَيْ سَرِيعَةٌ، مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْوَحَاءِ وَهُوَ الْإِسْرَاعُ وَالْعَجَلَةُ. وَأَمَّا
أَثَرُ أَنَسٍ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ جَزَّارًا لِأَنَسٍ ذَبَحَ دَجَاجَةً فَاضْطَرَبَتْ فَذَبَحَهَا مِنْ قَفَاهَا فَأَطَارَ رَأْسَهَا، فَأَرَادُوا طَرْحَهَا، فَأَمَرَهُمْ أَنَسٌ بِأَكْلِهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي أَكْلِ الْفَرَسِ، أَوْرَدَهُ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ مَوْصُولًا بِلَفْظِ نَحَرْنَا وَقَالَ فِي آخِرِهِ تَابَعَهُ وَكِيعٌ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامٍ فِي النَّحْرِ، وَأَوْرَدَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدَةَ وَهُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ ذَبَحْنَا وَرِوَايَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا سَتَأْتِي مَوْصُولَةً بَعْدَ بَابَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ بِهِ وَقَالَ نَحَرْنَا. وَرِوَايَةُ وَكِيعٍ أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ عَنْهُ بِلَفْظِ نَحَرْنَا، وَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا أَبِي وَحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، وَوَكِيعٌ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ نَحَرْنَا، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَالثَّوْرِيِّ جَمِيعًا عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ نَحَرْنَا وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: قَالَ هَمَّامٌ، وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ، وَعَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ نَحَرْنَا.
وَاخْتُلِفَ عَلَى حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِمَا نَحَرْنَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ ذَبَحْنَا، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُؤَمِّلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَوُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ وَمِنْ رِوَايَةِ ابْنِ ثَوْبَانَ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ وَمِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ ذَبَحْنَا وَمِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ انْتَحَرْنَا وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَأَبِي أُسَامَةَ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَسَاقَهُ أَبُو عَوَانَةَ عَنْهُمَا بِلَفْظِ نَحَرْنَا وَهَذَا الِاخْتِلَافُ كُلُّهُ عَنْ هِشَامٍ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ كَانَ تَارَةً يَرْوِيهِ بِلَفْظِ - ذَبَحْنَا وَتَارَةً بِلَفْظِ نَحَرْنَا، وَهُوَ مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى اسْتِوَاءِ اللَّفْظَيْنِ فِي الْمَعْنَى، وَأَنَّ النَّحْرَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ ذَبْحٌ وَالذَّبْحُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ نَحْرٌ وَلَا يَتَعَيَّنُ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ مَا هُوَ الْحَقِيقَةُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَجَازِ إِلَّا إِنْ رَجَّحَ أَحَدَ الطَّرِيقَيْنِ، وَأَمَّا أَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ جَوَازُ نَحْرِ الْمَذْبُوحِ وَذَبْحِ الْمَنْحُورِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فَبَعِيدٌ، لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ وَقَعَ مَرَّتَيْنِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّعَدُّدِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَخْرَجِ، وَقَدْ جَرَى النَّوَوِيُّ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْحَمْلِ عَلَى التَّعَدُّدِ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ فِي قَوْلِهَا نَحَرْنَا وَذَبَحْنَا: يُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ، فَمَرَّةً نَحَرُوهَا وَمَرَّةً ذَبَحُوهَا: ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قِصَّةً وَاحِدَةً وَأَحَدُ اللَّفْظَيْنِ مَجَازٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، كَذَا قَالَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
25 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ الْمُثْلَةِ وَالْمَصْبُورَةِ وَالْمُجَثَّمَةِ
5513 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَنَسٍ عَلَى الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ فَرَأَى غِلْمَانًا - أَوْ فِتْيَانًا - نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا، فَقَالَ أَنَسٌ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ.
5514 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَغُلَامٌ مِنْ بَنِي يَحْيَى رَابِطٌ دَجَاجَةً يَرْمِيهَا فَمَشَى إِلَيْهَا ابْنُ عُمَرَ حَتَّى حَلَّهَا ثُمَّ أَقْبَلَ بِهَا وَبِالْغُلَامِ مَعَهُ فَقَالَ ازْجُرُوا غُلَامَكُمْ عَنْ أَنْ يَصْبِرَ هَذَا الطَّيْرَ لِلْقَتْلِ فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ أَوْ غَيْرُهَا لِلْقَتْلِ"
5515 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَمَرُّوا بِفِتْيَةٍ أَوْ بِنَفَرٍ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا فَلَمَّا رَأَوْا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا عَنْهَا وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مَنْ فَعَلَ هَذَا إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ مَنْ فَعَلَ هَذَا تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ عَنْ شُعْبَةَ حَدَّثَنَا الْمِنْهَالُ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ وَقَالَ عَدِيٌّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"
5516 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ النُّهْبَةِ وَالْمُثْلَةِ"
قَوْلُهُ (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْمُثْلَةِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ هِيَ قَطْعُ أَطْرَافِ الْحَيَوَانِ أَوْ بَعْضِهَا وَهُوَ حَيٌّ، يُقَالُ مَثَّلْتُ بِهِ أُمَثِّلُ بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ.
قَوْلُهُ (وَالْمَصْبُورَةُ) بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ، (وَالْمُجْثَمَةُ) بِالْجِيمِ وَالْمُثَلَّثَةِ الْمَفْتُوحَةِ: الَّتِي تُرْبَطُ وَتُجْعَلُ غَرَضًا لِلرَّمْيِ، فَإِذَا مَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهَا، وَالْجُثُومُ لِلطَّيْرِ وَنَحْوِهَا بِمَنْزِلَةِ الْبُرُوكِ لِلْإِبِلِ، فَلَوْ جَثَمَتْ بِنَفْسِهَا فَهِيَ جَاثِمَةٌ وَمُجَثِمَةٌ بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ، وَتِلْكَ إِذَا صِيدَتْ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ فَذُبِحَتْ جَازَ أَكْلُهَا، وَإِنْ رُمِيَتْ فَمَاتَتْ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مُوقَذَةً. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَنَسٍ.
قَوْلُهُ (عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ) يَعْنِي ابْنَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.
قَوْلُهُ (دَخَلْتُ مَعَ أَنَسٍ عَلَى الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ) يَعْنِي ابْنَ أَبِي عُقَيْلٍ الثَّقَفِيَّ ابْنَ عَمِّ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ وَنَائِبَهُ عَلَى الْبَصْرَةِ وَزَوْجَ أُخْتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ يُوسُفَ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ جَرِيرٌ يَمْدَحُهُ:
حَتَّى أَنَخْنَاهَا عَلَى بَابِ الْحَكَمِ
…
خَلِيفَةِ الْحَجَّاجِ غَيْرِ الْمُتَّهَمِ
وَقَعَ ذِكْرُهُ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ، وَكَانَ يُضَاهِي فِي الْجَوْرِ ابْنَ عَمِّهِ، وَلِيَزِيدَ الضَّبِّيِّ مَعَهُ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَوْرَدَهَا أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِ أَنَسٍ لَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِلَفْظِ خَرَجْتُ مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ دَارِ الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ أَمِيرِ الْبَصْرَةِ.
قَوْلُهُ (فَرَأَى غِلْمَانًا أَوْ فِتْيَانًا) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَسْمَائِهِمْ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ (أَنْ تُصْبَرَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ تُحْبَسَ لِتُرْمَى حَتَّى تَمُوتَ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَبْرِ الرُّوحِ وَأَصْلُ الصَّبْرِ الْحَبْسُ، وَأَخْرَجَ الْعُقَيْلِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُصْبَرَ الْبَهِيمَةُ، وَأَنْ يُؤْكَلَ لَحْمُهَا إِذَا صُبِرَتْ قَالَ الْعُقَيْلِيُّ: جَاءَ فِي النَّهْيِ عَنْ صَبْرِ الْبَهِيمَةِ أَحَادِيثُ جِيَادٌ، وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ أَكْلِهَا فَلَا يُعْرَفُ إِلَّا فِي هَذَا. قُلْتُ: إِنْ ثَبَتَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا مَاتَتْ بِذَلِكَ بِغَيْرِ تَذْكِيَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَقْتُولِ بِالْبُنْدُقَةِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ. قَوْلُهُ (أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) أَيِ ابْنِ الْعَاصِ وَهُوَ أَخُو عَمْرٍو الْمَعْرُوفِ بِالْأَشْدَقِ ابْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَالِدِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو رَاوِيهِ مِنِ ابْنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ (وَغُلَامٌ مِنْ بَنِي يَحْيَى) أَيِ ابْنِ سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَكَانَ لِيَحْيَى مِنَ الذُّكُورِ عُثْمَانُ، وَعَنْبَسَةُ، وَأَبَانٌ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَسَعِيدٌ، وَمُحَمَّدٌ، وَهِشَامٌ، وَعَمْرٌو، وَكَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَدْ وَلِيَ إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ وَكَذَا أَخُوهُ عَمْرٌو. قَوْلُهُ (فَمَشَى إِلَيْهَا ابْنُ عُمَرَ حَتَّى حَلَّهَا) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي حَمْلَهَا وَرِوَايَةُ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَوْضَحُ لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ رَابِطٌ دَجَاجَةً وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ: فَحَلَّ الدَّجَاجَةَ.
قَوْلُهُ (ازْجُرُوا غُلَامَكُمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ غِلْمَانَكُمْ.
(عَنْ أَنْ يَصْبِرَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَنْ يَصْبِرُوا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَهُوَ عَلَى نَسَقِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَزَادَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ وَإِنْ أَرَدْتُمْ ذَبْحَهَا فَاذْبَحُوهَا.
قَوْلُهُ (هَذَا الطَّيْرُ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هَذَا عَلَى لُغَةٍ قَلِيلَةٍ وَهِيَ إِطْلَاقُ الطَّيْرِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَاللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الْوَاحِدِ طَائِرٌ وَالْجَمْعُ الطَّيْرُ. قُلْتُ: وَهُوَ هُنَا مُحْتَمِلٌ لِإِرَادَةِ الْجَمْعِ، بَلِ الْأَوْلَى أَنَّهُ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ.
قَوْلُهُ (أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ أَوْ غَيْرُهَا لِلْقَتْلِ) أَوْ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ، وَهُوَ زَائِدٍ عَلَى حَدِيثِ أَنَسٍ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْبَهَائِمُ وَالطُّيُورُ وَغَيْرُهُمَا، وَنَحْوُهُ حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَتْ دَجَاجَةً مَا صَبَرْتُهَا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ قَتْلِ الصَّبْرِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ، وَيَجْمَعُ ذَلِكَ حَدِيثُ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ رَفَعَهُ إِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: فِيهِ رَحْمَتُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ حَتَّى فِي حَالِ الْقَتْلِ، فَأَمَرَ بِالْقَتْلِ، وَأَمَرَ بِالرِّفْقِ فِيهِ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ قَهْرُهُ لِجَمِيعِ عِبَادِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ لِأَحَدٍ التَّصَرُّفَ فِي شَيْءٍ إِلَّا وَقَدْ حَدَّ لَهُ فِيهِ كَيْفِيَّةً.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي بِشْرٍ) هُوَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيَّةَ.
قَوْلُهُ (فَمَرُّوا بِفِتْيَةٍ أَوْ بِنَفَرٍ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَإِذَا فِتْيَةٌ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا وَلَهُ كُلُّ خَاطِئَةٍ يَعْنِي أَنَّ الَّذِي يُصِيبُهَا يَأْخُذُ السَّهْمَ الَّذِي تُرْمَى بِهِ إذَ لَمْ يُصِبْهَا.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَتَفَرَّقُوا.
قَوْلُهُ (إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ مَنْ فَعَلَ هَذَا) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا بِمُعْجَمَتَيْنِ وَالْفَتْحَ أَيْ مَنْصُوبًا لِلرَّمْيِ. وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ بِالْبَهَائِمِ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مَنْ تَجَثَّمَ وَاللَّعْنُ مِنْ دَلَائِلِ التَّحْرِيمِ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَرَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ مَنْ مَثَّلَ بِذِي رُوحٍ ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مَثَّلَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
قَوْلُهُ (تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ) هُوَ ابْنُ حَرْبٍ.
قَوْلُهُ (لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ) أَيْ صَيَّرَهُ مُثْلَةً بِضَمِّ الْمِيمِ وَبِالْمُثَلَّثَةِ، وَهَذِهِ الْمُتَابَعَةُ وَصَلَهَا الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَزَادَ فِيهِ أَيْضًا قِصَّةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ خَرَجَ فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ فَرَأَى غِلْمَانًا، فَذَكَرَ مِثْلَ رِوَايَةِ أَبِي بِشْرٍ، وَفِيهِ فَلَمَّا رَأَوْهُ فَرُّوا فَغَضِبَ الْحَدِيثَ. وَوَهِمَ مُغَلْطَايْ وَتَبِعَهُ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ وَغَيْرُهُ فَجَزَمُوا بِأَنَّ سُلَيْمَانَ هَذَا هُوَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، وَاسْتَنَدَ إِلَى أَنَّ أَبَا نُعَيْمٍ أَخْرَجَهُ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَلِيفَةَ، عَنِ الطَّيَالِسِيِّ. قُلْتُ: وَهُوَ غَلَطٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الطَّيَالِسِيَّ الَّذِي يَرْوِي عَنْهُ أَبُو خَلِيفَةَ هُوَ أَبُو الْوَلِيدِ وَاسْمُهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَلَمْ يُدْرِكْ أَبُو خَلِيفَةَ، أَبَا دَاوُدَ الطَّيَالِسِيَّ فَإِنَّ مَوْلِدَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِسَنَتَيْنِ، مَاتَ أَبُو دَاوُدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَوُلِدَ أَبُو خَلِيفَةَ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ، وَالْمِنْهَالُ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ هُوَ ابْنُ عَمْرٍو، يَعْنِي أَنَّهُ تَابَعَ أَبَا بِشْرٍ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَخَالَفَهُمَا عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ فَرَوَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا بَيَّنَهُ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي بَعْدَهَا. الحديث الثالث والرابع.
قَوْلُهُ (وَقَالَ عَدِيٌّ) هُوَ ابْنُ ثَابِتٍ (عَنْ سَعِيدٍ) هُوَ ابْنُ جُبَيْرٍ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي سَاقَهُ إِلَى عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، وَقَدْ سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ الَّذِي سَاقَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بِهِ، وَلَكِنْ لَفْظُهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا.
قَوْلُهُ (سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ) هُوَ الْخَطْمِيُّ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ.
قَوْلُهُ (نَهَى عَنِ النُّهْبَى) بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْهَاءِ ثُمَّ بِالْمُوَحَّدَةِ مَقْصُورٌ، أَيْ أَخْذِ مَالِ الْمُسْلِمِ قَهْرًا جَهْرًا، وَمِنْهُ أَخْذُ مَالِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ اخْتِطَافًا بِغَيْرِ تَسْوِيَةٍ.
قَوْلُهُ (وَالْمُثْلَةُ) تَقَدَّمَ ضَبْطُهَا وَتَفْسِيرُهَا وَتَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي فِي بَابِ
قِصَّةِ عُكْلَ وَعُرَيْنَةَ لِهَذَا الْحَدِيثِ طَرِيقٌ أُخْرَى، وَذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الِاخْتِلَافَ عَلَى شُعْبَةَ فِيهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيَّ رَوَاهُ عَنْ شُعْبَةَ كَمَا قَالَ حَجَّاجُ بْنُ مُنْهَالٍ، لَكِنْ أَدْخَلَ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ وَالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَبَا أَيُّوبَ، وَرِوَايَةُ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحَاقَ الْمَذْكُورَةُ وَصَلَهَا الطَّبَرَانِيُّ. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَحْرِيمُ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ قُوَّةُ أَنَسٍ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِشِدَّةِ الْأَمِيرِ الْمَذْكُورِ، لَكِنْ كَانَ الْخَلِيفَةُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ نَهَى الْحَجَّاجَ عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ صَدَرَ مِنَ الْحَجَّاجِ فِي حَقِّهِ خُشُونَةً، فَشَكَاهُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ فَأَغْلَظَ لِلْحَجَّاجِ وَأَمَرَهُ بِإِكْرَامِهِ.
26 - بَاب لَحْمِ الدَّجَاجِ
5517 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ زَهْدَمٍ الْجَرْمِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى - يَعْنِي الْأَشْعَرِيَّ رضي الله عنه، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ دَجَاجًا.
5518 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ أَبِي تَمِيمَةَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جَرْمٍ إِخَاءٌ فَأُتِيَ بِطَعَامٍ فِيهِ لَحْمُ دَجَاجٍ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ جَالِسٌ أَحْمَرُ فَلَمْ يَدْنُ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ ادْنُ فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مِنْهُ قَالَ إِنِّي رَأَيْتُهُ أَكَلَ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ فَحَلَفْتُ أَنْ لَا آكُلَهُ فَقَالَ ادْنُ أُخْبِرْكَ أَوْ أُحَدِّثْكَ إِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ فَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ وَهُوَ يَقْسِمُ نَعَمًا مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ فَاسْتَحْمَلْنَاهُ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَنَا قَالَ مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ثُمَّ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَهْبٍ مِنْ إِبِلٍ فَقَالَ أَيْنَ الأَشْعَرِيُّونَ أَيْنَ الأَشْعَرِيُّونَ قَالَ فَأَعْطَانَا خَمْسَ ذَوْدٍ غُرَّ الذُّرَى فَلَبِثْنَا غَيْرَ بَعِيدٍ فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي نَسِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ فَوَاللَّهِ لَئِنْ تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ لَا نُفْلِحُ أَبَدًا فَرَجَعْنَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا اسْتَحْمَلْنَاكَ فَحَلَفْتَ أَنْ لَا تَحْمِلَنَا فَظَنَنَّا أَنَّكَ نَسِيتَ يَمِينَكَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ حَمَلَكُمْ إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا"
قَوْلُهُ (بَابُ لَحْمِ الدَّجَاجِ) هُوَ اسْمُ جِنْسٍ مُثَلَّثُ الدَّالِ، ذَكَرَهُ الْمُنْذِرِيُّ فِي الْحَاشِيَةِ وَابْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يَحْكِ النَّوَوِيُّ الضَّمَّ، وَالْوَاحِدَةُ دَجَاجَةٌ مُثَلَّثٌ أَيْضًا، وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمَّ فِيهِ ضَعِيفٌ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: دَخَلَتْهَا الْهَاءُ لِلْوَحْدَةِ مِثْلَ الْحَمَامَةِ، وَأَفَادَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَنَّ الدَّجَاجَ بِالْكَسْرِ اسْمٌ لِلذُّكْرَانِ دُونَ الْإِنَاثِ وَالْوَاحِدُ مِنْهَا دِيكٌ، وَبِالْفَتْحِ الْإِنَاثُ دُونَ الذُّكْرَانِ وَالْوَاحِدَةُ دَجَاجَةٌ بِالْفَتْحِ أَيْضًا، قَالَ: وَسُمِّيَ لِإِسْرَاعِهِ فِي الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ مِنْ دَجَّ يَدُجُّ إِذَا أَسْرَعَ. قُلْتُ: وَدَجَاجَةُ اسْمُ امْرَأَةٍ وَهِيَ بِالْفَتْحِ فَقَطْ، وَيُسَمَّى بِهَا الْكُبَّةُ مِنَ الْغَزْلِ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ مُوسَى الْبَلْخِيُّ، نَسَبَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ السَّكَنِ، وَجَزَمَ الْكَلَابَاذِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ
بِأَنَّهُ ابْنُ جَعْفَرٍ.
قَوْلُهُ (عَنْ أَيُّوبَ) فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ ابْنُ أَبِي تَمِيمَةَ وَهُوَ السَّخْتِيَانِيُّ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، حَدَّثَنِي أَبُو قِلَابَةَ.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي قِلَابَةَ) كَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ وَوَافَقَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَهَكَذَا قَالَ عَبْدُ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَيُّوبَ كَمَا مَضَى فِي الْمَغَازِي، وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْقَاسِمِ بَدَلَ أَبِي قِلَابَةَ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ كَمَا يَأْتِي فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ أَيْضًا، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، وَالْقَاسِمِ قَالَ: وَأَنَا لِحَدِيثِ قَاسِمٍ أَحْفَظُ أَخْرَجَهُ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ، وَكَذَا قَالَ وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْهُمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ (عَنْ زَهْدَمٍ) بِفَتْحِ الزَّايِ هُوَ ابْنُ مُضَرِّبٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَبِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ (الْجَرْمِيُّ) بِفَتْحِ الْجِيمِ، بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ، لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى حَدِيثَيْنِ: هَذَا الْحَدِيثُ وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي مَوَاضِعَ لَهُ، وَحَدِيثٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ تَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ وَذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى أَيْضًا.
قَوْلُهُ (رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ دَجَاجًا) كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَكَذَا سَاقَهُ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيعٍ، وَأَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ أَتَمَّ مِنْهُ، وَسَاقَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُطَوَّلًا، كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْقَاسِمِ وَهُوَ ابْنُ عَاصِمٍ التَّمِيمِيُّ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَدْ أَوْرَدَهُ عَنْهُ فِي مَوَاضِعَ مَقْرُونًا وَمُفْرَدًا مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا مُشْتَمِلًا عَلَى قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ الدَّجَاجِ وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، وَفَتْوَى أَبِي مُوسَى لَهُ بِأَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَيَأْكُلَ، وَقَصَّ لَهُ الْحَدِيثَ فِي ذَلِكَ وَسَبَبَهُ، وَهُوَ طَلَبُهُمْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْمِلَهُمْ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ قِصَّةَ الِاسْتِحْمَالِ وَمَا يَلِيهَا مِنْ حُكْمِ الْيَمِينِ وَكَفَّارَتِهِ دُونَ قِصَّةِ الدَّجَاجِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ، وَأَوْرَدَهَا أَيْضًا فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ جَدِّهِ أَبِي بُرْدَةَ أَتَمَّ سِيَاقًا مِنْهُ فِي قِصَّةِ الِاسْتِحْمَالِ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَقَدْ أَحَلْتُ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ وَفِي الْمَغَازِي بِشَرْحِهِ عَلَى كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، فَأَذْكُرُ هُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّجَاجِ.
قَوْلُهُ (كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَه هَذَا الْحَيِّ) بِالْخَفْضِ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي بَيْنَهُ كَذَا قَالَ ابْنُ التِّينِ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ زَهْدَمًا الْجَرْمِيَّ قَالَ: كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جَرْمٍ إِخَاءٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمُرَادُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ أَبَا مُوسَى وَقَوْمَهُ الْأَشْعَرِيِّينَ كَانُوا أَهْلَ مَوَدَّةٍ وَإِخَاءٍ لِقَوْمِ زَهْدَمٍ وَهُمْ بَنُو جَرْمٍ، وَقَدْ وَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذَا الْحَيِّ وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْقَاسِمِ، وَأَبِي قِلَابَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا قَالَ ابْنُ التِّينِ إِلَّا أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَصِحُّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، وَالْقَاسِمِ كِلَاهُمَا عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ كَانَ بَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جَرْمٍ وَبَيْنَ الْأَشْعَرِيِّينَ وُدٌّ أَوْ إِخَاءٌ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الْمُعْتَمَدَةُ.
قَوْلُهُ (إِخَاءٌ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَالْمَدِّ قَالَ ابْنُ التِّينِ ضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِالْقَصْرِ وَهُوَ خَطَأٌ.
قَوْلُهُ (وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ جَالِسٌ أَحْمَرُ) أَيِ اللَّوْنِ، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ أَحْمَرُ كَأَنَّهُ مِنَ الْمَوَالِي أَيِ الْعَجَمِ، وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ زَهْدَمٌ الرَّاوِي أَبْهَمَ نَفْسَهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي مُوسَى وَهُوَ يَأْكُلُ دَجَاجًا فَقَالَ: ادْنُ فَكُلْ، فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُهُ مُخْتَصَرًا.
وَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا لِكَوْنِهِ وَصَفَ الرَّجُلَ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ بِأَنَّهُ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ وَزَهْدَمٌ مِنْ بَنِي جَرْمٍ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا امْتَنَعَا مَعًا زَهْدَمٌ وَالرَّجُلُ التَّيْمِيُّ، وَحَمَلَهُ عَلَى دَعْوَى التَّعَدُّدِ اسْتِبْعَادُ أَنْ يَكُونَ
الشَّخْصُ الْوَاحِدُ يُنْسَبُ إِلَى تَيْمِ اللَّهِ وَإِلَى جَرْمٍ، وَلَا بُعْدَ فِي ذَلِكَ بَلْ قَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ هُوَ الْعَدَنِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ هُوَ الثَّوْرِيُّ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ يُقَالُ لَهُ زَهْدَمٌ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى، فَأَتَى بِلَحْمِ دَجَاجٍ فَعَلَى هَذَا فَلَعَلَّ زَهْدَمًا كَانَ تَارَةً يُنْسَبُ إِلَى بَنِي جَرْمٍ وَتَارَةً إِلَى بَنِي تَيْمِ اللَّهِ، وَجَرْمٌ قَبِيلَةٌ فِي قُضَاعَةَ يُنْسَبُونَ إِلَى جَرْمِ بْنِ زَبَّانَ بِزَايٍ وَمُوَحَّدَةٍ ثَقِيلَةٍ ابْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِّ بْنِ قُضَاعَةَ، وَتَيْمُ اللَّهِ بَطْنٌ مِنْ بَنِي كَلْبٍ وَهُمْ قَبِيلَةٌ فِي قُضَاعَةَ أَيْضًا يُنْسَبُونَ إِلَى تَيْمِ اللَّهِ بْنِ رُفَيْدَةَ - بِرَاءٍ وَفَاءٍ مُصَغَّرًا - ابْنِ ثَوْرِ بْنِ كَلْبِ بْنِ وَبَرَةَ بْنِ تَغْلِبَ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِّ بْنِ قُضَاعَةَ، فَحُلْوَانُ عَمُّ جَرْمٍ، قَالَ الرَّشَاطِيُّ فِي الْأَنْسَابِ: وَكَثِيرًا مَا يَنْسُبُونَ الرَّجُلَ إِلَى أَعْمَامِهِ.
قُلْتُ: وَرُبَّمَا أَبْهَمَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، فَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يَكُونَ زَهْدَمٌ صَاحِبَ الْقِصَّةِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّعَدُّدِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْفِرْيَابِيِّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَى زَهْدَمٍ قَالَ رَأَيْتُ أَبَا مُوسَى يَأْكُلُ الدَّجَاجَ فَدَعَانِي فَقُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ نَتِنًا، قَالَ ادْنُهُ فَكُلْ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ. وَمِنْ طَرِيقِ الصَّعْقِ بْنِ حَزْنٍ، عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي مُوسَى وَهُوَ يَأْكُلُ لَحْمَ دَجَاجٍ فَقَالَ: ادْنُ فَكُلْ، فَقُلْتُ: إِنِّي حَلَفْتُ لَا آكُلُهُ الْحَدِيثَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ، عَنِ الصَّعْقِ لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ زَهْدَمٍ نَحْوَهُ وَقَالَ فِيهِ فَقَالَ لِي: ادْنُ فَكُلْ، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أُرِيدُهُ الْحَدِيثَ.
فَهَذِهِ عِدَّةُ طُرُقٍ صَرَّحَ زَهْدَمٌ فِيهَا بِأَنَّهُ صَاحِبُ الْقِصَّةِ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ إِلَّا مَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِمَّا ظَاهِرُهُ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ زَهْدَمٍ وَالْمُمْتَنِعِ مِنْ أَكْلِ الدَّجَاجِ، فَفِي رِوَايَةٍ عَنْ زَهْدَمٍ كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ أَحْمَرُ شَبِيهٌ بِالْمَوَالِي فَقَالَ: هَلُمَّ، فَتَلَكَّأَ الْحَدِيثَ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ الدَّاخِلَ دَخَلَ وَزَهْدَمٌ جَالِسٌ عِنْدَ أَبِي مُوسَى، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ زَهْدَمٍ بِقَوْلِهِ كُنَّا قَوْمَهُ الَّذِينَ دَخَلُوا قَبْلَهُ عَلَى أَبِي مُوسَى، وَهَذَا مَجَازٌ قَدِ اسْتَعْمَلَ غَيْرُهُ مِثْلَهُ كَقَوْلِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ خَطَبَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَيْ خَطَبَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ، وَلَمْ يُدْرِكْ ثَابِتٌ خُطْبَةَ عِمْرَانَ الْمَذْكُورَةَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ زَهْدَمٌ دَخَلَ فَجَرَى لَهُ مَا ذَكَرَ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ أَبْهَمَ نَفْسَهُ، وَلَا عَجَبَ فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ) بِكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ إِنِّي رَأَيْتُهَا تَأْكُلُ قَذِرًا وَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهَا أَكْثَرَتْ مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ صَارَتْ جَلَّالَةً فَبَيَّنَ لَهُ أَبُو مُوسَى أَنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ أَوْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ تِلْكَ الدَّجَاجَةِ الَّتِي رَآهَا كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ الدَّجَاجِ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ (فَقَالَ ادْنُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ فِعْلُ أَمْرٍ مِنَ الدُّنُوِّ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ إِذًا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَبِذَالٍ مُعْجَمَةٍ مَعَ التَّنْوِينِ حَرْفُ نَصْبٍ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَقَوْلُهُ أُخْبِرْكَ مَجْزُومٌ، وَعَلَى الثَّانِي هُوَ مَنْصُوبٌ، وَقَوْلُهُ أَوْ أُحَدِّثْكَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي.
قَوْلُهُ (إِنِّي أَتَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَقَوْلُهُ فَأَعْطَانَا خَمْسَ ذَوْدٍ غُرَّ الذُّرَى الْغُرُّ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ أَغَرَّ وَالْأَغَرُّ الْأَبْيَضُ. وَالذُّرَى بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَالْقَصْرِ جَمْعُ ذِرْوَةٍ وَذِرْوَةُ كُلِّ شَيْءٍ أَعْلَاهُ، وَالْمُرَادُ هُنَا أَسْنِمَةُ الْإِبِلِ وَلَعَلَّهَا كَانَتْ بَيْضَاءَ حَقِيقَةً، أَوْ أَرَادَ وَصْفَهَا بِأَنَّهَا لَا عِلَّةَ فِيهَا وَلَا دَبَرَ، وَيَجُوزُ فِي غُرٍّ النَّصْبُ وَالْجَرُّ، وَقَوْلُهُ خَمْسُ ذَوْدٍ كَذَا وَقَعَ بِالْإِضَافَةِ، وَاسْتَنْكَرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ فِي غَرِيبِهِ قَالَ: وَالصَّوَابُ تَنْوِينُ خَمْسٍ وَأَنْ يَكُونَ ذَوْدٌ بَدَلًا مِنْ خَمْسٍ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ لَتَغَيَّرَ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْعَدَدَ الْمُضَافَ غَيْرُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ خَمْسُ ذَوْدٍ خَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا لِأَنَّ الْإِبِلَ الذَّوْدَ ثَلَاثَةٌ انْتَهَى، وَمَا أَدْرِي كَيْفَ يُحْكَمُ بِفَسَادِ الْمَعْنَى إِذَا كَانَ الْعَدَدُ كَذَا ; وَلْيَكُنْ عَدَدُ الْإِبِلِ خَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا فَمَا الَّذِي يَضُرُّ؟ وَقَدْ ثَبَتَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ خُذْ هَذَيْنِ
الْقَرِينَيْنِ وَالْقَرِينَيْنِ إِلَى أَنْ عَدَّ سِتَّ مَرَّاتٍ، وَالَّذِي قَالَهُ إِنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لَوْ جَاءَتْ رِوَايَةٌ صَرِيحَةٌ أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِمْ سِوَى خَمْسَةِ أَبْعِرَةٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ فَأَطْلَقَ لَفْظَ ذَوْدٍ عَلَى الْوَاحِدِ مَجَازًا كَإِبِلٍ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ لَا تَمْنَعُ إِمْكَانَ التَّصْوِيرِ.
وَفِي الْحَدِيثِ دُخُولُ الْمَرْءِ عَلَى صَدِيقِهِ فِي حَالِ أَكْلِهِ، وَاسْتِدْنَاءُ صَاحِبِ الطَّعَامِ الدَّاخِلَ وَعَرْضُهُ الطَّعَامَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا، لِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْجَمَاعَةِ عَلَى الطَّعَامِ سَبَبٌ لِلْبَرَكَةِ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِيهِ جَوَازُ أَكْلِ الدَّجَاجِ إِنْسِيِّهِ وَوَحْشِيِّهِ، وَهُوَ بِالِاتِّفَاقِ إِلَّا عَنْ بَعْضِ الْمُتَعَمِّقِينَ عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَثْنَى الْجَلَّالَةَ وَهِيَ مَا تَأْكُلُ الْأَقْذَارَ، وَظَاهِرُ صَنِيعِ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ لَمْ يُبَالِ بِذَلِكَ، وَالْجَلَّالَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الدَّابَّةِ الَّتِي تَأْكُلُ الْجِلَّةَ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالتَّشْدِيدِ وَهِيَ الْبَعْرُ، وَادَّعَى ابْنُ حَزْمٍ اخْتِصَاصَ الْجَلَّالَةِ بِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَالْمَعْرُوفُ التَّعْمِيمُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَحْبِسُ الدَّجَاجَةَ الْجَلَّالَةَ ثَلَاثًا، وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْجَلَّالَةِ مِنَ الدَّجَاجِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ النَّهْيُ عَنْهَا لِلتَّقَذُّرِ.
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ مِنْ طُرُقٍ أَصَحُّهَا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُجْثَمَةِ، وَعَنْ لَبَنِ الْجَلَّالَةِ، وَعَنِ الشُّرْبِ مِنْ فِي السِّقَاءِ وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ فِي رِجَالِهِ، إِلَّا أَنَّ أَيُّوبَ رَوَاهُ عَنْ عِكْرِمَةَ فَقَالَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْبَزَّارُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْجَلَّالَةِ وَعَنْ شُرْبِ أَلْبَانِهَا وَأَكْلِهَا وَرُكُوبِهَا وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْجَلَّالَةِ أَنْ يُؤْكَلَ لَحْمُهَا أَوْ يُشْرَبَ لَبَنُهَا، وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَعَنِ الْجَلَّالَةِ، عن رُكُوبِهَا وَأَكْلِ لَحْمِهَا وَسَنَدُهُ حَسَنٌ. وَقَدْ أَطْلَقَ الشَّافِعِيَّةُ كَرَاهَةَ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ إِذَا تَغَيَّرَ لَحْمُهَا بِأَكْلِ النَّجَاسَةِ، وَفِي وَجْهٍ إِذَا أَكْثَرَتْ مِنْ ذَلِكَ، وَرَجَّحَ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، وَهُوَ قَضِيَّةُ صَنِيعِ أَبِي مُوسَى، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَنَّ الْعَلَفَ الطَّاهِرَ إِذَا صَارَ فِي كَرِشِهَا تَنَجَّسَ فَلَا تَتَغَذَّى إِلَّا بِالنَّجَاسَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُحْكَمُ عَلَى اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ بِالنَّجَاسَةِ. فَكَذَلِكَ هَذَا.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْعَلَفَ الطَّاهِرَ إِذَا تَنَجَّسَ بِالْمُجَاوَرَةِ جَازَ إِطْعَامُهُ لِلدَّابَّةِ لِأَنَّهَا إِذَا أَكَلَتْهُ لَا تَتَغَذَّى بِالنَّجَاسَةِ وَإِنَّمَا تَتَغَذَّى بِالْعَلَفِ، بِخِلَافِ الْجَلَّالَةِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَنِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَالْقَفَّالُ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْبَغَوِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ وَأَلْحَقُوا بِلَبَنِهَا وَلَحْمِهَا بَيْضَهَا، وَفِي مَعْنَى الْجَلَّالَةِ مَا يَتَغَذَّى بِالنَّجِسِ كَالشَّاةِ تَرْضَعُ مِنْ كَلْبَةٍ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي جَوَازِ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ زَوَالُ رَائِحَةِ النَّجَاسَةِ بَعْدَ أَنْ تُعْلَفَ بِالشَّيْءِ الطَّاهِرِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَجَاءَ عَنِ السَّلَفِ فِيهِ تَوْقِيتٌ فَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَحْبِسُ الدَّجَاجَةَ الْجَلَّالَةَ ثَلَاثًا، كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ نَظَرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ حَتَّى تُعْلَفَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
27 - بَاب لُحُومِ الْخَيْلِ
5519 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ، قَالَتْ: نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلْنَاهُ.
5520 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهم قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ"
قَوْلُهُ (بَابُ لُحُومِ الْخَيْلِ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَذْكُرِ الْحُكْمَ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، كَذَا قَالَ، وَدَلِيلُ الْجَوَازِ ظَاهِرُ الْقُوَّةِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ (سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ. وَفَاطِمَةُ هِيَ بِنْتُ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّ هِشَامٍ الْمَذْكُورِ وَزَوْجَتُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي بَابِ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَنَدِهِ عَلَى هِشَامٍ فَقَالَ أَيُّوبُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ ثَوْبَانَ مِنْ رِوَايَةِ عُتْبَةَ بْنِ حَمَّادٍ عَنْهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ الِاخْتِلَافَ ثُمَّ رَجَّحَ رِوَايَةَ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ.
قَوْلُهُ (نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلْنَاهُ) زَادَ عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامٍ وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ قَبْلَ بَابَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ فَأَكَلْنَاهُ نَحْنُ وَأَهْلُ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقَدَّمَ الِاخْتِلَافُ فِي قَوْلِهَا نَحَرْنَا وذَبَحْنَا وَاخْتَلَفَ الشَّارِحُونَ فِي تَوْجِيهِهِ، فَقِيلَ: يُحْمَلُ النَّحْرُ عَلَى الذَّبْحِ مَجَازًا.
وَقِيلَ: وَقَعَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، وَإِلَيْهِ جَنَحَ النَّوَوِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّعَدُّدِ وَالْمَخْرَجُ مُتَّحِدٌ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ عَلَى هِشَامٍ: فَبَعْضُ الرُّوَاةِ قَالَ عَنْهُ نَحَرْنَا وَبَعْضُهُمْ قَالَ ذَبَحْنَا، وَالْمُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُمْ وَقِيَامُ أَحَدِهِمَا فِي التَّذْكِيَةِ مَقَامَ الْآخَرِ، وَإِلَّا لَمَا سَاغَ لَهُمُ الْإِتْيَانُ بِهَذَا مَوْضِعَ هَذَا، وَأَمَّا الَّذِي وَقَعَ بِعَيْنِهِ فَلَا يَتَحَرَّرُ لِوُقُوعِ التَّسَاوِي بَيْنَ الرُّوَاةِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهَا وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ فَرْضِ الْجِهَادِ، فَيَرُدُّ عَلَى مَنِ اسْتَنَدَ إِلَى مَنْعِ أَكْلِهَا بِعِلَّةِ أَنَّهَا مِنْ آلَاتِ الْجِهَادِ، وَمِنْ قَوْلِهَا نَحْنُ وَأَهْلُ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يُرَدْ لَمْ يُظَنَّ بِآلِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا وَعِنْدَهُمُ الْعِلْمُ بِجَوَازِهِ، لِشِدَّةِ اخْتِلَاطِهِمْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَدَمِ مُفَارَقَتِهِمْ لَهُ، هَذَا مَعَ تَوَفُّرِ دَاعِيَةِ الصَّحَابَةِ إِلَى سُؤَالِهِ عَنِ الْأَحْكَامِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الرَّاجِحُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا قَالَ كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ اطِّلَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ وَتَقْرِيرُهُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي مُطْلَقِ الصَّحَابِيِّ فَكَيْفَ بِآلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي.
قَوْلُهُ (حَمَّادٌ) هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَيِ ابْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ الْبَاقِرُ أَبُو جَعْفَرٍ كَذَا أَدْخَلَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ بَيْنَ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَبَيْنَ جَابِرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ وَلَمَّا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ قَالَ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ حَمَّادًا عَلَى ذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، وَأَخْرَجَهُ هُوَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرٍ لَيْسَ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَمَالَ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا إِلَى تَرْجِيحِ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَقَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَقُولُ: ابْنُ عُيَيْنَةَ أَحْفَظُ مِنْ حَمَّادٍ.
قُلْتُ: لَكِنِ اقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَقَدْ وَافَقَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرٍو عَلَى إِدْخَالِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ عَمْرٍو، وَجَابِرٍ لَكِنَّهُ لَمْ يُسَمِّهِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ جَابِرٍ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ صَحِيحًا عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ أَيْضًا، وَأَغْرَبَ الْبَيْهَقِيُّ فَجَزَمَ بِأَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ جَابِرٍ، وَاسْتَغْرَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ دَعْوَى التِّرْمِذِيِّ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَصَحُّ مَعَ إِشَارَةِ الْبَيْهَقِيِّ إِلَى أَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ، وَهُوَ ذُهُولٌ فَإِنَّ كَلَامَ التِّرْمِذِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صَحَّ عِنْدَهُ اتِّصَالُهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ دَعْوَى الْبَيْهَقِيِّ انْقِطَاعَهُ كَوْنُ التِّرْمِذِيِّ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ إِنْ وُجِدَتْ رِوَايَةٌ فِيهَا تَصْرِيحُ عَمْرٍو بِالسَّمَاعِ مِنْ جَابِرٍ فَتَكُونُ رِوَايَةُ حَمَّادٍ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ وَإِلَّا فَرِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ هِيَ الْمُتَّصِلَةُ وَعَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ التَّعَارُضِ
مِنْ كُلِّ جِهَةٍ فَلِلْحَدِيثِ طُرُقٌ أُخْرَى عَنْ جَابِرٍ غَيْرُ هَذِهِ، فَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
قَوْلُهُ (يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ الْأَهْلِيَّةِ.
قَوْلُهُ (وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَأَذِنَ بَدَلَ رَخَّصَ، وَلَهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَكَلْنَا زَمَنَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ وَحُمُرَ الْوَحْشِ، وَنَهَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ أَمَرَ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى كَرَاهَةِ أَكْلِ الْخَيْلِ وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ وَغَيْرُهُمَا، وَاحْتَجُّوا بِالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي حِلِّهَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ لَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَيْلِ وَالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَرْقٌ، وَلَكِنَّ الْآثَارَ إِذَا صَحَّتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى أَنْ يُقَالَ بِهَا مِمَّا يُوجِبُهُ النَّظَرُ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ أَخْبَرَ جَابِرٌ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَبَاحَ لَهُمْ لُحُومَ الْخَيْلِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي مَنَعَهُمْ فِيهِ مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حُكْمِهِمَا. قُلْتُ: وَقَدْ نَقَلَ الْحِلَّ بَعْضُ التَّابِعِينَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ أَحَدٍ، فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: لَمْ يَزَلْ سَلَفُكَ يَأْكُلُونَهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لَهُ: أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: نَعَمْ.
وَأَمَّا مَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ كَرَاهَتِهَا فَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدَيْنِ ضَعِيفَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ ذَلِكَ عَنْهُ مَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ صَحِيحًا عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ لِإِبَاحَةِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} فَإِنَّ هَذَا إِنْ صَلُحَ مُسْتَمْسَكًا لِحِلِّ الْحُمُرِ صَلُحَ لِلْخَيْلِ وَلَا فَرْقَ، وَسَيَأْتِي فِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي سَبَبِ الْمَنْعِ مِنْ أَكْلِ الْحُمُرِ هَلْ كَانَ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا أَوْ بِسَبَبِ كَوْنِهَا كَانَتْ حَمُولَةَ النَّاسِ؟ وَهَذَا يَأْتِي مِثْلُهُ مِنَ الْخَيْلِ أَيْضًا فَيَبْعُدُ أَنْ يَثْبُتَ عَنْهُ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ الْخَيْلِ وَالْقَوْلُ بِالتَّوَقُّفِ فِي الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، بَلْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا مِثْلَ حَدِيثِ جَابِرٍ وَلَفْظُهُ: نَهَى رَسُولُ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَأَمَرَ بِلُحُومِ الْخَيْلِ وَصَحَّ الْقَوْلُ بِالْكَرَاهَةِ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَمَالِكٍ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ التَّحْرِيمُ، وَقَالَ الْفَاكِهِيُّ: الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْكَرَاهَةُ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمُ التَّحْرِيمُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَكْرَهُ لَحْمَ الْخَيْلِ فَحَمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَلَى التَّنْزِيهِ وَقَالَ: لَمْ يُطْلِقْ أَبُو حَنِيفَةَ فِيهِ التَّحْرِيمَ وَلَيْسَ هُوَ عِنْدَهُ كَالْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ، وَصَحَّحَ عَنْهُ أَصْحَابُ الْمُحِيطِ وَالْهِدَايَةِ وَالذَّخِيرَةِ التَّحْرِيمَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ يَأْثَمُ آكِلُهُ وَلَا يُسَمَّى حَرَامًا، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ
الْمَنْعَ وَأَنَّهُ احْتَجَّ بِالْآيَةِ الْآتِي ذِكْرُهَا، وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْآثَارِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ بِسَنَدٍ لَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: مَذْهَبُ مَالِكٍ الْكَرَاهَةُ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ ابْنُ بَطَّالٍ بِالْآيَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الشَّبَهُ الْخِلْقِيُّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ مِمَّا يُؤَكِّدُ الْقَوْلَ بِالْمَنْعِ، فَمِنْ ذَلِكَ هَيْئَتُهَا وَزُهُومَةُ لَحْمِهَا، وَغِلَظُهُ، وَصِفَةُ أَرْوَاثِهَا، وَأَنَّهَا لَا تَجْتَرُّ، قَالَ: وَإِذَا تَأَكَّدَ الشَّبَهُ الْخِلْقِيُّ الْتَحَقَ بِنَفْيِ الْفَارِقِ وَبَعُدَ الشَّبَهُ بِالْأَنْعَامِ الْمُتَّفَقِ عَلَى أَكْلِهَا، اهـ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الطَّحَاوِيِّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: الدَّلِيلُ فِي الْجَوَازِ مُطْلَقًا وَاضِحٌ، لَكِنْ سَبَبُ كَرَاهَةِ مَالِكٍ لِأَكْلِهَا لِكَوْنِهَا تُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فِي الْجِهَادِ، فَلَوِ انْتَفَتِ الْكَرَاهَةُ لَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ وَلَوْ كَثُرَ لَأَدَّى إِلَى قَتْلِهَا فَيُفْضِي إِلَى فَنَائِهَا فَيَئُولُ إِلَى النَّقْصِ مِنْ إِرْهَابِ الْعَدُوِّ الَّذِي وَقَعَ الْأَمْرُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} . قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا فَالْكَرَاهَةُ لِسَبَبٍ خَارِجٍ وَلَيْسَ الْبَحْثُ فِيهِ، فَإِنَّ الْحَيَوَانَ الْمُتَّفَقَ عَلَى إِبَاحَتِهِ لَوْ حَدَثَ أَمْرٌ يَقْتَضِي أَنْ لَوْ ذُبِحَ لَأَفْضَى إِلَى ارْتِكَابِ مَحْذُورٍ لَامْتَنَعَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: إِنَّ وُقُوعَ أَكْلِهَا فِي الزَّمَنِ النَّبَوِيِّ كَانَ نَادِرًا، فَإِذَا قِيلَ بِالْكَرَاهَةِ قَلَّ اسْتِعْمَالُهُ فَيُوَافِقُ مَا وَقَعَ قَبْلَ، انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَنْهَضُ دَلِيلًا لِلْكَرَاهَةِ بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ خِلَافَ الْأَوْلَى، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ أَصْلِ
الْحَيَوَانِ حَلَّ أَكْلُهُ فَنَاؤُهُ بِالْأَكْلِ. وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الْمَانِعِينَ لَوْ كَانَتْ حَلَالًا لَجَازَتِ الْأُضْحِيَّةُ بِهَا فَمُنْتَقَضٌ بِحَيَوَانِ الْبَرِّ فَإِنَّهُ مَأْكُولٌ وَلَمْ تُشْرَعِ الْأُضْحِيَّةُ بِهِ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِي كَوْنِ الْخَيْلِ لَا تُشْرَعُ الْأُضْحِيَّةُ بِهَا اسْتِبْقَاؤُهَا لِأَنَّهُ لَوْ شُرِعَ فِيهَا جَمِيعُ مَا جَازَ فِي غَيْرِهَا لَفَاتَتِ الْمَنْفَعَةُ بِهَا فِي أَهَمِّ الْأَشْيَاءِ مِنْهَا وَهُوَ الْجِهَادُ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يُضَعِّفُونَ عِكْرِمَةَ بْنَ عَمَّارٍ. قُلْتُ: لَا سِيَّمَا فِي يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، فَإِنَّ عِكْرِمَةَ وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِي تَوْثِيقِهِ فَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ، لَكِنْ إِنَّمَا أَخْرَجَ لَهُ مِنْ غَيْرِ رِوَايَتِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَقَدْ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ: أَحَادِيثُهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ضَعِيفَةٌ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثُهُ عَنْ يَحْيَى مُضْطَرِبٌ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ إِلَّا فِي يَحْيَى.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُهُ عَنْ غَيْرِ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ مُضْطَرِبٌ، وَهَذَا أَشَدُّ مِمَّا قَبْلَهُ، وَدَخَلَ فِي عُمُومِهِ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَيْضًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ هَذِهِ الطَّرِيقِ فَقَدِ اخْتُلِفَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِيهَا، فَإِنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ لَيْسَ فِيهِ لِلْخَيْلِ ذِكْرٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي زَادَهُ حَفِظَهُ فَالرِّوَايَاتُ الْمُتَنَوِّعَةُ عَنْ جَابِرٍ الْمُفَصِّلَةُ بَيْنَ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْحُمُرِ فِي الْحُكْمِ أَظْهَرُ اتِّصَالًا وَأَتْقَنُ رِجَالًا وَأَكْثَرُ عَدَدًا، وَأَعَلَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ حَدِيثَ جَابِرٍ بِمَا نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ خَيْبَرَ، وَلَيْسَ بِعِلَّةٍ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ يَكُونَ مُرْسَلُ صَحَابِيٍّ، وَمِنْ حُجَجِ مَنْ مَنَعَ أَكْلَ الْخَيْلِ حَدِيثُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمُخَرَّجُ فِي السُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْخَيْلِ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ شَاذٌّ مُنْكَرٌ، لِأَنَّ فِي سِيَاقِهِ أَنَّهُ شَهِدَ خَيْبَرَ، وَهُوَ خَطَأٌ فَإِنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ إِلَّا بَعْدَهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَالَّذِي جَزَمَ بِهِ الْأَكْثَرُ أَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ سَنَةَ الْفَتْحِ، وَالْعُمْدَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ وَهُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِقُرَيْشٍ قَالَ: كَتَبَ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى خَالِدٍ حِينَ فَرَّ مِنْ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ حَتَّى لَا يَرَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ فِي سَبَبِ إِسْلَامِ خَالِدٍ، وَكَانَتْ عُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ بَعْدَ خَيْبَرَ جَزْمًا، وَأُعِلَّ أَيْضًا بِأَنَّ فِي السَّنَدِ رَاوِيًا مَجْهُولًا، لَكِنْ قَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ خَالِدٍ، فَذَكَرَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَخَيْلَهَا وَبِغَالَهَا، وَأُعِلَّ بِتَدْلِيسِ يَحْيَى وَإِبْهَامِ الرَّجُلِ، وَادَّعَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّ حَدِيثَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ مَنْسُوخٌ وَلَمْ يُبَيِّنْ نَاسِخَهُ، وَكَذَا قَالَ النَّسَائِيُّ: الْأَحَادِيثُ فِي الْإِبَاحَةِ أَصَحُّ، وَهَذَا إِنْ صَحَّ كَانَ مَنْسُوخًا، وَكَأَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ عِنْدَهُ الْخَبَرَانِ وَرَأَى فِي حَدِيثِ خَالِدٍ نَهَى وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَذِنَ حَمَلَ الْإِذْنَ عَلَى نَسْخِ التَّحْرِيمِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ النَّهْيِ سَابِقًا عَلَى الْإِذْنِ أَنْ يَكُونَ إِسْلَامَ خَالِدٍ سَابِقًا عَلَى فَتْحِ خَيْبَرَ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى خِلَافِهِ وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَقَدْ قَرَّرَ الْحَازِمِيُّ النَّسْخَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَدِيثَ خَالِدٍ وَقَالَ: هُوَ شَامِيُّ الْمَخْرَجِ، جَاءَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ بِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ رَخَّصَ وأَذِنَ لِأَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّ الْمَنْعَ كَانَ سَابِقًا وَالْإِذْنَ مُتَأَخِّرًا فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، قَالَ: وَلَوْ لَمْ تَرِدْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لَكَانَتْ دَعْوَى النَّسْخِ مَرْدُودَةً لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ، اهـ.
وَلَيْسَ فِي لَفْظِ رَخَّصَ وَأَذِنَ مَا يَتَعَيَّنُ مَعَهُ الْمَصِيرُ إِلَى النَّسْخِ، بَلِ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ كَانَ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَلَمَّا نَهَاهُمُ الشَّارِعُ يَوْمَ خَيْبَرٍ عَنِ الْحُمُرِ وَالْبِغَالِ خُشِيَ أَنْ يَظُنُّوا أَنَّ الْخَيْلَ كَذَلِكَ لِشَبَهِهَا بِهَا فَأَذِنَ فِي أَكْلِهَا دُونَ الْحَمِيرِ وَالْبِغَالِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ بَيَانِ حُكْمِهَا فِي الشَّرْعِ لَا تُوصَفُ لَا بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ فَلَا يَثْبُتُ النَّسْخُ فِي هَذَا. وَنَقَلَ الْحَازِمِيُّ أَيْضًا تَقْرِيرَ النَّسْخِ بِطَرِيقٍ أُخْرَى فَقَالَ: إِنَّ النَّهْيَ عَنْ أَكْلِ الْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ كَانَ عَامًّا مِنْ أَجْلِ أَخْذِهِمْ لَهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَالتَّخْمِيسِ، وَلِذَلِكَ أَمَرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ، ثُمَّ بَيَّنَ بِنِدَائِهِ بِأَنَّ لُحُومَ الْحُمُرِ رِجْسٌ أَنَّ تَحْرِيمَهَا
لِذَاتِهَا، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْخَيْلِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ تَرْكِ الْقِسْمَةِ خَاصَّةً.
وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَمْرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ إِنَّمَا كَانَ بِطَبْخِهِمْ فِيهَا الْحُمُرَ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الصَّحِيحِ لَا الْخَيْلَ فَلَا يَتِمُّ مُرَادُهُ، وَالْحَقُّ أَنَّ حَدِيثَ خَالِدٍ وَلَوْ سَلِمَ أَنَّهُ ثَابِتٌ لَا يَنْهَضُ مُعَارِضًا لِحَدِيثِ جَابِرٍ الدَّالِّ عَلَى الْجَوَازِ، وَقَدْ وَافَقَهُ حَدِيثُ أَسْمَاءَ، وَقَدْ ضَعَّفَ حَدِيثَ خَالِدٍ، أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُوسَى بْنُ هَارُونَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْخَطَّابِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَعَبْدُ الْحَقِّ وَآخَرُونَ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَخَالِدٍ بِأَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ دَالٌّ عَلَى الْجَوَازِ فِي الْجُمْلَةِ وَحَدِيثَ خَالِدٍ دَالٌّ عَلَى الْمَنْعِ فِي حَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ، لِأَنَّ الْخَيْلَ فِي خَيْبَرَ كَانَتْ عَزِيزَةً وَكَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَيْهَا لِلْجِهَادِ، فَلَا يُعَارِضُ النَّهْيَ الْمَذْكُورَ، وَلَا يَلْزَمُ وَصْفُ أَكْلِ الْخَيْلِ بِالْكَرَاهَةِ الْمُطْلَقَةِ فَضْلًا عَنِ التَّحْرِيمِ.
وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ كَانَتْ لَنَا فَرَسٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَرَادَتْ أَنْ تَمُوتَ فَذَبَحْنَاهَا فَأَكَلْنَاهَا وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ فَلَعَلَّ تِلْكَ الْفَرَسَ كَانَتْ كَبِرَتْ بِحَيْثُ صَارَتْ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا فِي الْجِهَادِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنِ الْخَيْلِ لِمَعْنًى خَارِجٍ لَا لِذَاتِهَا، وَهُوَ جَمْعٌ جَيِّدٌ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي الْبَابِ دَالٌّ عَلَى التَّحْرِيمِ لِقَوْلِهِ رَخَّصَ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ اسْتِبَاحَةُ الْمَخْطُورِ مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُمْ فِيهَا بِسَبَبِ الْمَخْمَصَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ بِخَيْبَرَ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْحِلِّ الْمُطْلَقِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ جَاءَ بِلَفْظِ الْإِذْنِ وَبَعْضُهَا بِالْأَمْرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ رَخَّصَ أَذِنَ لَا خُصُوصُ الرُّخْصَةِ بِاصْطِلَاحِ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ.
وَنُوقِضَ أَيْضًا بِأَنَّ الْإِذْنَ فِي أَكْلِ الْخَيْلِ لَوْ كَانَ رُخْصَةً لِأَجْلِ الْمَخْمَصَةِ لَكَانَتِ الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةِ أَوْلَى بِذَلِكَ لِكَثْرَتِهَا وَعِزَّةِ الْخَيْلِ حِينَئِذٍ، وَلِأَنَّ الْخَيْلَ يُنْتَفَعُ بِهَا فِيمَا يُنْتَفَعُ بِالْحَمِيرِ مِنَ الْحَمْلِ وَغَيْرِهِ، وَالْحَمِيرُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا فِيمَا يُنْتَفَعُ بِالْخَيْلِ مِنَ الْقِتَالِ عَلَيْهَا، وَالْوَاقِعُ كَمَا سَيَأْتِي صَرِيحًا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِإِرَاقَةِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَتْ فِيهَا الْحُمُرُ مَعَ مَا كَانَ بِهِمْ مِنَ الْحَاجَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ فِي أَكْلِ الْخَيْلِ إِنَّمَا كَانَ لِلْإِبَاحَةِ الْعَامَّةِ لَا لِخُصُوصِ الضَّرُورَةِ، وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الِاحْتِجَاجِ لِلْمَنْعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} فَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَا أَكْثَرُ الْقَائِلِينَ بِالتَّحْرِيمِ، وَقَرَّرُوا ذَلِكَ بِأَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّامَ لِلتَّعْلِيلِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُخْلَقْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمَنْصُوصَةَ تُفِيدُ الْحَصْرَ فَإِبَاحَةُ أَكْلِهَا تَقْتَضِي خِلَافَ ظَاهِرِ الْآيَةِ.
ثَانِيهَا: عَطْفُ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكِهَا مَعَهَا فِي حُكْمِ التَّحْرِيمِ فَيَحْتَاجُ مَنْ أَفْرَدَ حُكْمَهَا عَنْ حُكْمِ مَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ إِلَى دَلِيلٍ.
ثَالِثُهَا: أَنَّ الْآيَةَ سيقت مَسَاقَ الِامْتِنَانِ، فَلَوْ كَانَتْ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي الْأَكْلِ لَكَانَ الِامْتِنَانُ بِهِ أَعْظَمَ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ بَقَاءُ الْبِنْيَةِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَالْحَكِيمُ لَا يَمْتَنُّ بِأَدْنَى النِّعَمِ وَيَتْرُكُ أَعْلَاهَا، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ وَقَعَ الِامْتِنَانُ بِالْأَكْلِ فِي الْمَذْكُورَاتِ قَبْلَهَا.
رَابِعُهَا: لَوْ أُبِيحَ أَكْلُهَا لَفَاتَتِ الْمَنْفَعَةُ بِهَا فِيمَا وَقَعَ بِهِ الِامْتِنَانُ مِنَ الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ، هَذَا مُلَخَّصُ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْجَوَابُ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ أَنَّ آيَةَ النَّحْلِ مَكِّيَّةٌ اتِّفَاقًا وَالْإِذْنُ فِي أَكْلِ الْخَيْلِ كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ بِأَكْثَرَ مِنْ سِتِّ سِنِينَ، فَلَوْ فَهِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْآيَةِ الْمَنْعَ لَمَا أَذِنَ فِي الْأَكْلِ. وَأَيْضًا فَآيَةُ النَّحْلِ لَيْسَتْ نَصًّا فِي مَنْعِ الْأَكْلِ، وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي جَوَازِهِ. وَأَيْضًا عَلَى سَبِيلِ التَّنَزُّلِ فَإِنَّمَا يَدُلُّ مَا ذُكِرَ عَلَى تَرْكِ الْأَكْلِ، وَالتَّرْكُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِلتَّنْزِيهِ أَوْ خِلَافِ الْأَوْلَى، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ وَاحِدٌ مِنْهَا بَقِيَ التَّمَسُّكُ بِالْأَدِلَّةِ الْمُصَرِّحَةِ بِالْجَوَازِ وَعَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ:
أَمَّا أَوَّلًا: فَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ اللَّامَ لِلتَّعْلِيلِ لَمْ نُسَلِّمْ إِفَادَةَ الْحَصْرِ فِي الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ، فَإِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِالْخَيْلِ فِي غَيْرِهِمَا وَفِي غَيْرِ الْأَكْلِ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الرُّكُوبُ وَالزِّينَةُ لِكَوْنِهِمَا أَغْلَبَ مَا تُطْلَبُ لَهُ الْخَيْلُ، وَنَظِيرُهُ حَدِيثُ الْبَقَرَةِ الْمَذْكُورُ فِي الصَّحِيحَيْنِ حِينَ خَاطَبَتْ رَاكِبَهَا فَقَالَتْ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ أَصَرْحَ فِي الْحَصْرِ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْأَغْلَبُ، وَإِلَّا
فَهِيَ تُؤْكَلُ وَيُنْتَفَعُ بِهَا فِي أَشْيَاءَ غَيْرِ الْحَرْثِ اتِّفَاقًا، وَأَيْضًا فَلَوْ سَلِمَ الِاسْتِدْلَالُ لَلَزِمَ مَنْعُ حَمْلِ الْأَثْقَالِ عَلَى الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَلَا قَائِلَ بِهِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا: فَدَلَالَةُ الْعَطْفِ إِنَّمَا هيَ دَلَالَةُ اقْتِرَانٍ، وَهِيَ ضَعِيفَةٌ.
وَأَمَّا ثَالِثًا: فَالِامْتِنَانُ إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ غَالِبًا مَا كَانَ يَقَعُ بِهِ انْتِفَاعُهُمْ بِالْخَيْلِ فَخُوطِبُوا بِمَا أَلِفُوا وَعَرَفُوا، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ أَكْلَ الْخَيْلِ لِعِزَّتِهَا فِي بِلَادِهِمْ، بِخِلَافِ الْأَنْعَامِ فَإِنَّ أَكْثَرَ انْتِفَاعِهِمْ بِهَا كَانَ لِحَمْلِ الْأَثْقَالِ وَلِلْأَكْلِ فَاقْتُصِرَ فِي كُلٍّ مِنَ الصِّنْفَيْنِ عَلَى الِامْتِنَانِ بِأَغْلَبِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، فَلَوْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ الْحَصْرُ فِي هَذَا الشِّقِّ لَلَزِمَ مِثْلُهُ فِي الشِّقِّ الْآخَرِ.
وَأَمَّا رَابِعًا: فَلَوْ لَزِمَ مِنَ الْإِذْنِ فِي أَكْلِهَا أَنْ تَفْنَى لَلَزِمَ مِثْلُهُ فِي الْبَقَرِ وَغَيْرِهَا مِمَّا أُبِيحَ أَكْلُهُ وَوَقَعَ الِامْتِنَانُ بِمَنْفَعَةٍ لَهُ أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
28 - بَاب لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ فِيهِ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
5521 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَالِمٍ، وَنَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ.
5522 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ. تَابَعَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ. وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَالِمٍ.
5523 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنهم قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُتْعَةِ عَامَ خَيْبَرَ وَعَنْ لُحُومِ حُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ.
5524 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ.
5525، 5526 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَدِيٌّ، عَنْ الْبَرَاءِ، وَابْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهم، قَالَا: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ.
5527 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَبَا إِدْرِيسَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ. تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ وَعُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَمَعْمَرٌ وَالْمَاجِشُونُ وَيُونُسُ وَابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ.
5528 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أُكِلَتْ الْحُمُرُ. ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أُكِلَتْ الْحُمُرُ. ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أُفْنِيَتْ الْحُمُرُ. فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى فِي النَّاسِ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ،
فَإِنَّهَا رِجْسٌ. فَأُكْفِئَتْ الْقُدُورُ، وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ.
5529 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ حُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَاكَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ. وَلَكِنْ أَبَى ذلك الْبَحْرُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَرَأَ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}
قَوْلُهُ (بَابُ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ) الْقَوْلُ فِي عَدَمِ جَزْمِهِ بِالْحُكْمِ فِي هَذَا كَالْقَوْلِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، لَكِنِ الرَّاجِحُ فِي الْحُمُرِ الْمَنْعُ بِخِلَافِ الْخَيْلِ، وَالْإِنْسِيَّةُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْإِنْسِ، وَيُقَالُ فِيهِ أَنَسِيَّةٌ بِفَتْحَتَيْنِ، وَزَعَمَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ فِي كَلَامِ أَبِي مُوسَى الْمَدِينِيِّ مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا بِالضَّمِّ ثُمَّ السُّكُونِ لِقَوْلِهِ الْأُنْسِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَأْلَفُ الْبُيُوتَ، وَالْأُنْسُ ضِدَّ الْوَحْشَةِ، وَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ أَبَا مُوسَى إِنَّمَا قَالَهُ بِفَتْحَتَيْنِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَّ الْأَنَسَ بِفَتْحَتَيْنِ ضِدَّ الْوَحْشَةِ، وَلَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ بِضَمٍّ ثُمَّ سُكُونٍ مَعَ احْتِمَالِ جَوَازِهِ، نَعَمْ زَيَّفَ أَبُو مُوسَى الرِّوَايَةَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ ثُمَّ السُّكُونَ، فَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: إِنْ أَرَادَ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ فَعَسَى، وَإِلَّا فَهُوَ ثَابِتٌ فِي اللُّغَةِ. وَنِسْبَتُهَا إِلَى الْإنْسِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ وَغَيْرِهِ الْأَهْلِيَّةُ بَدَلَ الْإنْسِيَّةِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ التَّقْيِيدِ بِهَا جَوَازُ أَكْلِ الْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فِي الْحَجِّ.
قَوْلُهُ (فِيهِ سَلَمَةُ) هُوَ ابْنُ الْأَكْوَعِ وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُهُ مَوْصُولًا فِي الْمَغَازِي مُطَوَّلًا. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ أَحَادِيثَ. الْأَوَّلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ. قَوْلُهُ (عَبْدَةُ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ وَعُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ الْعُمَرِيُّ.
قَوْلُهُ (عَنْ سَالِمٍ، وَنَافِعٍ) كَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْهُ كَمَا سَبَقَ فِي الْمَغَازِي، ثُمَّ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ وَحْدَهُ، وَقَوْلُهُ تَابَعَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الْمَغَازِي.
قَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَالِمٍ) وَصَلَهُ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِهِ، وَفَصَلَ فِي رِوَايَتِهِ بَيْنَ أَكْلِ الثُّومِ وَالْحُمُرِ، فَبَيَّنَ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الثُّومِ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ فَقَطْ، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْحُمُرِ عَنْ سَالِمٍ فَقَطْ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ بَالِغٌ، لَكِنْ يَحْيَى الْقَطَّانُ حَافِظٌ فَلَعَلَّ عُبَيْدَ اللَّهِ لَمْ يُفَصِّلْهُ إِلَّا لِأَبِي أُسَامَةَ، وَكَانَ يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ سَالِمٍ، وَنَافِعٍ مَعًا مُدْمِجًا فَاقْتَصَرَ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْهُ عَلَى أَخْذِ شَيْخِهِ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ الْإِطْلَاقِ.
الثَّانِي: حَدِيثُ عَلِيٍّ، ذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا وَتَقَدَّمَ مُطَوَّلًا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.
الثَّالِثُ: حَدِيثُ جَابِرٍ، وقَدْ سَبَقَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ: حَدِيثُ الْبَرَاءِ، وَابْنِ أَبِي أَوْفَى أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُمَا أَتَمَّ سِيَاقًا مِنْ هَذَا فِي الْمَغَازِي، وَأَفْرَدَهُ عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى هُنَا وَفِي فَرْضِ الْخُمُسِ وَفِيهِ زِيَادَةُ اخْتِلَافِهِمْ فِي السَّبَبِ.
السَّادِسُ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَيِ ابْنُ سَعِيدٍ، وَصَالِحٌ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ.
قَوْلُهُ (حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ) تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ، وَعُقَيْلٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَرِوَايَةُ الزُّبَيْدِيِّ وَصَلَهَا النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ - وَلَفْظُهُ - نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَرِوَايَةُ عُقَيْلٍ وَصَلَهَا أَحْمَدُ بِلَفْظِ الْبَابِ وَزَادَ وَلَحْمُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعٍ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ هَذَا. وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ فِيهِ قِصَّةٌ وَلَفْظُهُ غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ وَالنَّاسُ جِيَاعٌ، فَوَجَدُوا حُمُرًا إِنْسِيَّةً فَذَبَحُوا مِنْهَا، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَنَادَى: أَلَا إِنَّ لُحُومَ الْحُمُرِ الْإنْسِيَّةِ لَا تَحِلُّ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ مَالِكٌ، وَمَعْمَرٌ، وَالْمَاجِشُونَ، وَيُونُسَ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ) يَعْنِي لَمْ يَتَعَرَّضُوا فِيهِ لِذِكْرِ الْحُمُرِ، فَأَمَّا حَدِيثُ مَالِكٍ
فَسَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ مَعْمَرٍ، وَيُونُسَ فَوَصَلَهُمَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْهُمَا، وَأَمَّا حَدِيثُ الْمَاجِشُونِ وَهُوَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ فَوَصَلَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عَنْهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ إِسْحَاقَ فَوَصَلَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْهُ.
الْحَدِيثُ السَّابِعُ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي النِّدَاءِ بِالنَّهْيِ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ الَّذِي نَادَى بِذَلِكَ هُوَ أَبُو طَلْحَةَ وَعَزَاهُ النَّوَوِيُّ لِرِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى فَنُسِبَ إِلَى التَّقْصِيرِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا أَنَّ بِلَالًا نَادَى بِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا عِنْدَ النَّسَائِيِّ أَنَّ الْمُنَادِيَ بِذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَلَعَلَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ نَادَى أَوَّلًا بِالنَّهْيِ مُطْلَقًا، ثُمَّ نَادَى أَبُو طَلْحَةَ، وَبِلَالٌ بِزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ فَإِنَّهَا رِجْسٌ، فَأُكْفِئَتِ الْقُدُورُ وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ وَوَقَعَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِلرَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُنَادِيَ بِذَلِكَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ خَيْبَرَ وَإِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ فَتْحِهَا.
قَوْلُهُ (جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أُكِلَتِ الْحُمُرُ) لَمْ أَعْرِفِ اسْمَ هَذَا الرَّجُلِ وَلَا اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا وَاحِدًا فَإِنَّهُ قَالَ أَوَّلًا: أَكَلْتُ فَإِمَّا لَمْ يَسْمَعْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَإِمَّا لَمْ يَكُنْ أَمَرَ فِيهَا بِشَيْءٍ، وَكَذَا فِي الثَّانِيَةِ، فَلَمَّا قَالَ الثَّالِثَةَ أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ أَيْ لِكَثْرَةِ مَا ذُبِحَ مِنْهَا لِتُطْبَخَ صَادَفَ نُزُولَ الْأَمْرِ بِتَحْرِيمِهَا، وَلَعَلَّ هَذَا مُسْتَنَدُ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا لِكَوْنِهَا كَانَتْ حَمُولَةَ النَّاسِ كَمَا سَيَأْتِي.
الْحَدِيثُ الثَّامِنُ. قَوْلُهُ (سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ (قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ) هُوَ أَبُو الشَّعْثَاءِ بِمُعْجَمَةٍ وَمُثَلَّثَةٍ الْبَصْرِيُّ.
قَوْلُهُ (يَزْعُمُونَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنِ دِينَارٍ رَوَى ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَّ مِنَ الرُّوَاةِ مَنْ قَالَ عَنْهُ عَنْ جَابِرٍ بِلَا وَاسِطَةٍ.
قَوْلُهُ (قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ) زَادَ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ بِهَذَا السَّنَدِ قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ مَضْمُومًا إِلَى حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي النَّهْيِ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ مَرْفُوعًا. وَلَمْ يُصَرِّحْ بِرَفْعِ حَدِيثِ الْحَكَمِ.
قَوْلُهُ (وَلَكِنْ أَبَى ذَلِكَ الْبَحْرُ ابْنُ عَبَّاسٍ) وَأَبَى مِنَ الْإِبَاءِ أَيِ امْتَنَعَ، وَالْبَحْرُ صِفَةٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ قِيلَ لَهُ لِسَعَةِ عِلْمِهِ، وَهُوَ مِنْ تَقْدِيمِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ مُبَالَغَةً فِي تَعْظِيمِ الْمَوْصُوفِ كَأَنَّهُ صَارَ عَلَمًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِشُهْرَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ خَفَائِهِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَأَبَى ذَلِكَ الْبَحْرُ يُرِيدُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ إِدْرَاجًا.
قَوْلُهُ (وَقَرَأَ {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ تَقَذُّرًا فَبَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ وَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، فَمَا أَحَلَّ فِيهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فِيهِ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ.
وَتَلَا هَذِهِ: {قُلْ لا أَجِدُ} إِلَى آخِرِهَا وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا لِلْحِلِّ إِنَّمَا يَتِمُّ فِيمَا لَمْ يَأْتِ فِيهِ نَصٌّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِتَحْرِيمِهِ، وَقَدْ تَوَارَدَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ وَالتَّنْصِيصُ عَلَى التَّحْرِيمِ مُقَدَّمٌ عَلَى عُمُومِ التَّحْلِيلِ وَعَلَى الْقِيَاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْحُمُرِ: هَلْ كَانَ لِمَعْنًى خَاصٍّ، أَوْ لِلتَّأْيِيدِ؟ فَفِيهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَدْرِي أَنَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ حَمُولَةَ النَّاسِ فَكَرِهَ أَنْ تَذْهَبَ حُمُولَتُهُمْ، أَوْ حَرَّمَهَا الْبَتَّةَ يَوْمَ خَيْبَرَ؟ وَهَذَا التَّرَدُّدُ أَصَحُّ مِنَ الْخَبَرِ الَّذِي جَاءَ عَنْهُ بِالْجَزْمِ بِالْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَذَا فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ مَخَافَةَ قِلَّةِ الظَّهْرِ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَتَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى: فَتَحَدَّثْنَا أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا لِأَنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ نَهَى
عَنْهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ.
قُلْتُ: وَقَدْ أَزَالَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ مِنْ كَوْنِهَا لَمْ تُخَمَّسْ أَوْ كَانَتْ جَلَّالَةً أَوْ كَانَتِ انْتُهِبَتْ حَدِيثُ أَنَسٍ الْمَذْكُورُ قَبْلَ هَذَا حَيْثُ جَاءَ فِيهِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ وَكَذَا الْأَمْرُ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ فَإِنَّهَا رِجْسٌ ظَاهِرٌ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى الْحُمُرِ لِأَنَّهَا الْمُتَحَدَّثُ عَنْهَا الْمَأْمُورُ بِإِكْفَائِهَا مِنَ الْقُدُورِ وَغَسْلِهَا، وَهَذَا حُكْمُ الْمُتَنَجِّسِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى تَحْرِيمِهَا لِعَيْنِهَا لَا لِمَعْنًى خَارِجٍ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْأَمْرُ بِإِكْفَاءِ الْقِدْرِ ظَاهِرٌ أَنَّهُ سَبَبُ تَحْرِيمِ لَحْمِ الْحُمُرِ، وَقَدْ وَرَدَتْ عِلَلٌ أُخْرَى إِنْ صَحَّ رَفْعُ شَيْءٍ مِنْهَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، لَكِنْ لَا مَانِعَ أَنْ يُعَلَّلَ الْحُكْمُ بِأَكْثَرَ مِنْ عِلَّةٍ، وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ. وَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِخَشْيَةِ قِلَّةِ الظَّهْرِ فَأَجَابَ عَنْهُ الطَّحَاوِيُّ بِالْمُعَارَضَةِ بِالْخَيْلِ، فَإِنَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ النَّهْيَ عَنِ الْحُمُرِ وَالْإِذْنَ فِي الْخَيْلِ مَقْرُونًا، فَلَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ لِأَجْلِ الْحَمُولَةِ لَكَانَتِ الْخَيْلُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ لِقِلَّتِهَا عِنْدَهُمْ وَعِزَّتِهَا وَشِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا.
وَالْجَوَابُ عَنْ آيَةِ الْأَنْعَامِ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَخَبَرُ التَّحْرِيمِ مُتَأَخِّرٌ جِدًّا فَهُوَ مُقَدَّمٌ، وَأَيْضًا فَنَصُّ الْآيَةِ خَبَرٌ عَنِ الْحُكْمِ الْمَوْجُودِ عِنْدَ نُزُولِهَا، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ فِي تَحْرِيمِ الْمَأْكُولِ إِلَّا مَا ذُكِرَ فِيهَا، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرُ مَا فِيهَا، وَقَدْ نَزَلَ بَعْدَهَا فِي الْمَدِينَةِ أَحْكَامٌ بِتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ غَيْرِ مَا ذُكِرَ فِيهَا كَالْخَمْرِ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ، وَفِيهَا أَيْضًا تَحْرِيمُ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةِ إِلَى آخِرِهِ، وَكَتَحْرِيمِ السِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ بِتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ نَجِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا لَهُمْ إِلَّا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ثَالِثُهَا الْكَرَاهَةُ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ غَالِبِ بْنِ الْحُرِّ قَالَ: أَصَابَتْنَا سَنَةٌ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي مَا أُطْعِمُ أَهْلِي إِلَّا سِمَانَ حُمُرٍ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: إِنَّكَ حَرَّمْتَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَقَدْ أَصَابَتْنَا سَنَةٌ، قَالَ: أَطْعِمْ أَهْلَكَ مِنْ سَمِينِ حُمُرِكَ، فَإِنَّمَا حَرَّمْتُهَا مِنْ أَجْلِ حَوَالَيِ الْقَرْيَةِ يَعْنِي الْجَلَّالَةَ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَالْمَتْنُ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، فَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أُمِّ نَصْرٍ الْمُحَارِبِيَّةِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَقَالَ: أَلَيْسَ تَرْعَى الْكَلَأَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَصِبْ مِنْ لُحُومِهَا وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مُرَّةَ قَالَ سَأَلْتُ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، فَفِي السَّنَدَيْنِ مَقَالٌ، وَلَوْ ثَبَتَا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَوْ تَوَاتَرَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ لَكَانَ النَّظَرُ يَقْتَضِي حِلَّهَا لِأَنَّ كُلَّ مَا حُرِّمَ مِنَ الْأَهْلِيِّ أُجْمِعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ إِذَا كَانَ وَحْشِيًّا كَالْخِنْزِيرِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى حِلِّ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ فَكَانَ النَّظَرُ يَقْتَضِي حِلَّ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ.
قُلْتُ: مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحَيَوَانِ الْأَهْلِيِّ مُخْتَلَفٌ فِي نَظِيرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْوَحْشِيِّ كَالْهِرِّ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الذَّكَاةَ لَا تُطَهِّرُ مَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَإنَّ كُلَّ شَيْءٍ تَنَجَّسَ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ يَكْفِي غَسْلُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً لِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ بِالْغَسْلِ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ بِالِامْتِثَالِ بِالْمَرَّةِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا زِيَادَةَ عَلَيْهَا، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ لِكَوْنِ الصَّحَابَةِ أَقْدَمُوا عَلَى ذَبْحِهَا وَطَبْخِهَا كَسَائِرِ الْحَيَوَانِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُسْتَأْمَرُوا مَعَ تَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى السُّؤَالِ عَمَّا يُشْكِلُ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِأَمِيرِ الْجَيْشِ تَفَقُّدُ أَحْوَالِ رَعِيَّتِهِ، وَمَنْ رَآهُ فَعَلَ مَا لَا يَسُوغُ فِي الشَّرْعِ أَشَاعَ مَنْعَهُ إِمَّا بِنَفْسِهِ كَأَنْ يُخَاطِبَهُمْ وَإِمَّا بِغَيْرِهِ بِأَنْ يَأْمُرَ مُنَادِيًا فَيُنَادِيَ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ مَنْ رَآهُ فَيَظُنَّهُ جَائِزًا.
29 - بَاب أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ
5530 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ.
تَابَعَهُ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَالْمَاجِشُونُ عَنْ الزُّهْرِيِّ.
قَوْلُهُ (بَابُ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ) لَمْ يُبَتَّ الْقَوْلُ بِالْحُكْمِ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ أَوْ لِلتَّفْصِيلِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ. قَوْلُهُ (مِنَ السِّبَاعِ) يَأْتِي فِي الطِّبِّ بِلَفْظِ مِنَ السَّبْعِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْإِفْرَادِ بَلْ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي الطِّبِّ أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ وَلَمْ أَسْمَعْهُ حَتَّى أَتَيْتُ الشَّامَ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَلَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ عُلَمَائِنَا بِالْحِجَازِ حَتَّى حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ وَكَانَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الشَّامِ وَكَأَنَّ الزُّهْرِيَّ لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ عُبَيْدَةَ بْنِ سُفْيَانَ وَهُوَ مَدَنِيٌّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِهِ وَلَفْظُهُ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَالْمِخْلَبُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ وَهُوَ لِلطَّيْرِ كَالظُّفُرِ لِغَيْرِهِ لَكِنَّهُ أَشَدُّ مِنْهُ وَأَغْلَظُ وَأَحَدُّ فَهُوَ لَهُ كَالنَّابِ لِلسَّبْعِ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ قَالَ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحُمُرَ الْإِنْسِيَّةَ وَلُحُومَ الْبِغَالِ وَكُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَمِنْ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ مِثْلُهُ وَزَادَ يَوْمَ خَيْبَرَ.
قَوْلُهُ (تَابَعَهُ يُونُسُ، وَمَعْمَرٌ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَالْمَاجِشُونُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) تَقَدَّمَ بَيَانُ مَنْ وَصَلَ أَحَادِيثَهُمْ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، إِلَّا ابْنَ عُيَيْنَةَ فَقَدْ أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ قَرِيبًا، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ لَا يَحْرُمُ، وَحَكَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ مَالِكٍ كَالْجُمْهُورِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمَشْهُورُ عَنْهُ الْكَرَاهَةُ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَجَابِرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ {قُلْ لا أَجِدُ} وَالْجَوَابُ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَحَدِيثُ التَّحْرِيمِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ.
ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ نَصَّ الْآيَةِ عَدَمُ تَحْرِيمِ غَيْرِ مَا ذُكِرَ إِذْ ذَاكَ، فَلَيْسَ فِيهَا نَفْيُ مَا سَيَأْتِي، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ خَاصَّةٌ بِبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ قَبْلَهَا حِكَايَةٌ عَنِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ مِنَ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ بِآرَائِهِمْ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ:{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} أَيْ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ إِلَّا الْمَيْتَةَ مِنْهَا وَالدَّمَ الْمَسْفُوحَ، وَلَا يَرِدُ كَوْنُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ ذُكِرَ مَعَهَا لِأَنَّهَا قُرِنَتْ بِهِ عِلَّةُ تَحْرِيمِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ رِجْسًا، وَنَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَقُولُ بِخُصُوصِ السَّبَبِ إِذَا وَرَدَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ الْآيَةَ حَاصِرَةً لِمَا يَحْرُمُ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ مَعَ وُرُودِ صِيغَةِ الْعُمُومِ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُحِلُّونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَيُحَرِّمُونَ كَثِيرًا مِمَّا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ، فَكَأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْآيَةِ إِبَانَةُ حَالِهِمْ وَأَنَّهُمْ يُضَادُّونَ الْحَقَّ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَلَلْتُمُوهُ مُبَالَغَةً فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ الْمَذْكُورَةَ نَزَلَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَتَكُونُ نَاسِخَةً، وَرُدَّ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ مِنَ الرَّدِّ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي تَحْرِيمِهِمْ مَا حَرَّمُوهُ مِنَ الْأَنْعَامِ وَتَخْصِيصِهِمْ بَعْضَ ذَلِكَ بِآلِهَتِهِمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالتَّحْرِيمِ فِي الْمُرَادِ بِمَا لَهُ نَابٌ فَقِيلَ: إِنَّهُ مَا يَتَقَوَّى بِهِ وَيَصُولُ عَلَى غَيْرِهِ وَيَصْطَادُ وَيَعْدُو بِطَبْعِهِ غَالِبًا كَالْأَسَدِ وَالْفَهْدِ وَالصَّقْرِ وَالْعُقَابِ، وَأَمَّا مَا لَا يَعْدُو كَالضَّبُعِ وَالثَّعْلَبِ فَلَا، وَإِلَى
هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَاللَّيْثُ وَمَنْ تَبِعَهُمَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي حِلِّ الضَّبُعِ أَحَادِيثُ لَا بَأْسَ بِهَا، وَأَمَّا الثَّعْلَبُ فَوَرَدَ فِي تَحْرِيمِهِ حَدِيثُ خُزَيْمَةَ بْنِ جَزْءٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَلَكِنْ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ.
[الحديث 5530 - طرفاه في: 5780، 5781]
5532 -
حَدَّثَنَا خَطَّابُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَنْزٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ: مَا عَلَى أَهْلِهَا لَوْ انْتَفَعُوا بِإِهَابِهَا.
30 - بَاب جُلُودِ الْمَيْتَةِ
5531 -
حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ: هَلَّا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟ قَالُوا: إِنَّهَا مَيِّتَةٌ. قَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا.
قَوْلُهُ (بَابُ جُلُودِ الْمَيْتَة) زَادَ فِي الْبُيُوعِ قَبْلَ أَنْ تُدْبَغَ فَقَيَّدَهُ هُنَاكَ بِالدِّبَاغِ وَأَطْلَقَ هُنَا، فَيُحْمَلُ مُطْلَقُهُ عَلَى مُقَيَّدِهِ.
قَوْلُهُ (عَنْ صَالِحٍ) هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ.
قَوْلُهُ (مَرَّ بِشَاةٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَزَادَ فِي بَعْضِ الرُّوَاةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحُفَّاظِ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ لَيْسَ فِيهِ مَيْمُونَةُ، نَعَمْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَيْمُونَةَ أَخْبَرَتْهُ.
قَوْلُهُ (بِإِهَابِهَا) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْهَاءِ هُوَ الْجِلْدُ قَبْلَ أَنْ يُدْبَغَ، وَقِيلَ: هُوَ الْجِلْدُ دُبِغَ أَوْ لَمْ يُدْبَغْ، وَجَمْعُهُ أَهَبٌ بِفَتْحَتَيْنِ وَيَجُوزُ بِضَمَّتَيْنِ، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ قَالَ أَلَا أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ.
قَوْلُهُ (قَالُوا إِنَّهَا مَيِّتَةٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ الْقَائِلِ.
قَوْلُهُ (قَالَ إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا) قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: فِيهِ مُرَاجَعَةُ الْإِمَامِ فِيمَا لَا يَفْهَمُ السَّامِعُ مَعْنَى مَا أَمَرَهُ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا كَيْفَ تَأْمُرُنَا بِالِانْتِفَاعِ بِهَا وَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا؟ فَبَيَّنَ لَهُ وَجْهَ التَّحْرِيمِ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ، لِأَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وَهُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فِي كُلِّ حَالٍ، فَخَصَّتِ السُّنَّةُ ذَلِكَ بِالْأَكْلِ، وَفِيهِ حُسْنُ مُرَاجَعَتِهِمْ وَبَلَاغَتِهِمْ فِي الْخِطَابِ لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا مَعَانِيَ كَثِيرَةً فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُمْ إِنَّهَا مَيْتَةٌ وَاسْتَدَلَّ بِهِ الزُّهْرِيُّ بِجَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَدُبِغَ أَمْ لَمْ يُدْبَغْ، لَكِنْ صَحَّ التَّقْيِيدُ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى بِالدِّبَاغِ، وَهِيَ حُجَّةُ الْجُمْهُورِ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَيْتَاتِ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا لِنَجَاسَةِ عَيْنِهَا عِنْدَهُ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ أَبُو يُوسُفَ، وَدَاوُدُ شَيْئًا أَخْذًا بِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفْعَهُ إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ وَلَفْظُ الشَّافِعِيِّ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ إِسْنَادَهَا وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهَا، فَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: دِبَاغُهُ طُهُورُهُ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَزَّارِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَالَ دِبَاغُ الْأَدِيمِ طُهُورُهُ وَجَزَمَ الرَّافِعِيُّ وَبَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ
وَرَدَ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ، وَلَكِنْ لَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ صَرِيحًا مَعَ قُوَّةِ الِاحْتِمَالِ فِيهِ لِكَوْنِ الْجَمِيعِ مِنْ رِوَايَةِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِخُصُوصِ هَذَا السَّبَبِ فَقَصَرَ الْجَوَازَ عَلَى الْمَأْكُولِ لِوُرُودِ الْخَبَرِ فِي الشَّاةِ، وَيَتَقَوَّى ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ بِأَنَّ الدِّبَاغَ لَا يَزِيدُ فِي التَّطْهِيرِ عَلَى الذَّكَاةِ، وَغَيْرُ الْمَأْكُولِ لَوْ ذُكِّيَ لَمْ يَطْهُرْ بِالذَّكَاةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ فَكَذَلِكَ الدِّبَاغُ، وَأَجَابَ مَنْ عَمَّمَ بِالتَّمَسُّكِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ خُصُوصِ السَّبَبِ وَبِعُمُومِ الْإِذْنِ بِالْمَنْفَعَةِ، وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ طَاهِرٌ يُنْتَفَعُ بِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَكَانَ الدِّبَاغُ بَعْدَ الْمَوْتِ قَائِمًا لَهُ مَقَامَ الْحَيَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ مِنَ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ سَوَاءٌ دُبِغَ الْجِلْدُ أَمْ لَمْ يُدْبَغْ، وَتَمَسَّكُوا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مَوْتِهِ أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّافِعِيِّ، وَلِأَحْمَدَ، وَلِأَبِي دَاوُدَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كَانَ أَحْمَدُ يَذْهَبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: هَذَا آخِرُ الْأَمْرِ، ثُمَّ تَرَكَهُ لَمَّا اضْطَرَبُوا فِي إِسْنَادِهِ، وَكَذَا قَالَ الْخَلَّالُ نَحْوَهُ.
وَرَدَّ ابْنُ حِبَّانَ عَلَى مَنِ ادَّعَى فِيهِ الِاضْطِرَابَ وَقَالَ: سَمِعَ ابْنُ عُكَيْمٍ الْكِتَابَ يُقْرَأُ وَسَمِعَهُ مِنْ مَشَايِخَ مِنْ جُهَيْنَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا اضْطِرَابَ، وَأَعَلَّهُ بَعْضُهُمْ بِالِانْقِطَاعِ وَهُوَ مَرْدُودٌ، وَبَعْضُهُمْ بِكَوْنِهِ كِتَابًا وَلَيْسَ بِعِلَّةٍ قَادِحَةٍ ; وَبَعْضُهُمْ بِأَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى رَاوِيَهُ عَنِ ابْنِ عُكَيْمٍ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ لِمَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ عَنْهُ أَنَّهُ انْطَلَقَ وَنَاسٌ مَعَهُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: فَدَخَلُوا وَقَعَدْتُ عَلَى الْبَابِ، فَخَرَجُوا إِلَيَّ فَأَخْبَرُونِي فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ فِي السَّنَدِ مَنْ لَمْ يُسَمَّ، وَلَكِنْ صَحَّ تَصْرِيحُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى بِسَمَاعِهِ مِنَ ابْنِ عُكَيْمٍ فَلَا أَثَرَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ أَيْضًا، وَأَقْوَى مَا تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِظَاهِرِهِ مُعَارَضَةُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ لَهُ وَأَنَّهَا عَنْ سَمَاعٍ وَهَذَا عَنْ كِتَابَةٍ وَأَنَّهَا أَصَحُّ مَخَارِجَ، وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِحَمْلِ الْإِهَابِ عَلَى الْجِلْدِ قَبْلَ الدِّبَاغِ وَأَنَّهُ بَعْدَ الدِّبَاغِ لَا يُسَمَّى إِهَابًا إِنَّمَا يُسَمَّى قِرْبَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ كَالنَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ ابْنِ شَاهِينَ، وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَأَبْعَدَ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ النَّهْيِ عَلَى جِلْدِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ لِكَوْنِهِمَا لَا يُدْبَغَانِ، وَكَذَا مَنْ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى بَاطِنِ الْجِلْدِ وَالْإِذْنَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا مَاتَ كَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ سَنَةٌ، وَهُوَ كَلَامٌ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلًا.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا خَطَّابُ بْنُ عُثْمَانَ) هُوَ الْفَوْزِيُّ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا زَايٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَأَخْطَأَ مَنْ قَالَهُ بِالتَّصْغِيرِ، وَهُوَ قُضَاعِيٌّ حِمْصِيٌّ، وَكَذَا شَيْخُهُ وَالرَّاوِي عَنْهُ حِمْصِيُّونَ مَا لَهُمْ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ حِمْيَرَ وَلَهُ آخَرُ سَبَقَ فِي الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَمَّا ثَابِتٌ فَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَدُحَيْمٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ: أَنَا أَتَوَقَّفُ فِيهِ، وَسَاقَ لَهُ ابْنُ عَدِيٍّ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ غَرَائِبَ قَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَا يُتَابِعُ فِي حَدِيثِهِ، وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرٍ فَوَثَّقَهُ أَيْضًا ابْنُ مَعِينٍ، وَدُحَيْمٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَأَمَّا خَطَّابٌ فَوَثَّقَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ لَكِنْ قَالَ رُبَّمَا أَخْطَأَ، فَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَجْلِ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُتَابَعَاتِ لَا مِنَ الْأُصُولِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ خُرُوجُ الْحَدِيثِ عَنِ الْغَرَابَةِ، وَقَدِ ادَّعَى الْخَطِيبُ تَفَرُّدَ هَؤُلَاءِ الرُّوَاةِ بِهِ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ الْحَرَّانِيِّ حَدَّثَنَا جَدِّي خَطَّابُ بْنُ عُثْمَانَ بِهِ هَذَا حَدِيثٌ عَزِيزٌ ضَيِّقُ الْمَخْرَجِ انْتَهَى.
وَقَدْ وَجَدْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ حِمْيَرَ فِيهِ مُتَابِعًا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصغائي، عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ، وَوَجَدْتُ لِخَطَّابٍ فِيهِ مُتَابِعًا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ بَحْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حِمْيَرَ، وَلِابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثٌ آخَرُ فِي الْمَعْنَى سَيَأْتِي فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ عَنْ سَوْدَةَ قَالَتْ مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا الْحَدِيثَ، وَالْمَسْكُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ الْجِلْدُ، وَهَذَا غَيْرُ حَدِيثِ الْبَابِ جَزْمًا، وَهُوَ مِمَّا يَتَأَيَّدُ بِهِ مَنْ زَادَ ذِكْرَ الدِّبَاغِ فِي الْحَدِيثِ ; وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مُطَوَّلًا مِنْ
طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَاتَتْ شَاةٌ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاتَتْ فُلَانَةُ، فَقَالَ: فَلَوْلَا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا، فَقَالَتْ: نَأْخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} الْآيَةَ وَإِنَّكُمْ لَا تُطْعِمُونَهُ، إِنْ تَدْبُغُوهُ تَنْتَفِعُوا بِهِ، قَالَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهَا فَسَلَخَتْ مَسْكَهَا فَدَبَغَتْهُ فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ قِرْبَةً. الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ (بِعَنْزٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ بَعْدَهَا زَايٌ هِيَ الْمَاعِزَةُ وَهِيَ الْأُنْثَى مِنَ الْمَعْزِ، وَلَا يُنَافِي رِوَايَةَ سِمَاكٍ مَاتَتْ شَاةٌ لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا شَاةٌ كَالضَّأْنِ.
31 - بَاب الْمِسْكِ
5533 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ.
5534 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً.
قَوْلُهُ (بَابُ الْمِسْكِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ الطِّيبُ الْمَعْرُوفُ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ فِي الذَّبَائِحِ أَنَّهُ فَضْلَةٌ مِنَ الظَّبْيِ. قُلْتُ: وَمُنَاسَبَتُهُ لِلْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ وَهُوَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ تَطْهَّرَ مِمَّا سَأَذْكُرُهُ، قَالَ الْجَاحِظُ: هُوَ مِنْ دُوَيْبَةٍ تَكُونُ فِي الصِّينِ تُصَادُ لِنَوَافِجِهَا وَسُرُرِهَا، فَإِذَا صِيدَتْ شُدَّتْ بِعَصَائِبَ وَهِيَ مُدْلِيَةٌ يَجْتَمِعُ فِيهَا دَمُهَا، فَإِذَا ذُبِحَتْ قُوِّرَتِ السُّرَّةُ الَّتِي عُصِبَتْ وَدُفِنَتْ فِي الشَّعْرِ حَتَّى يَسْتَحِيلَ ذَلِكَ الدَّمُ الْمُخْتَنِقُ الْجَامِدُ مِسْكًا ذَكِيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يُرَامُ مِنَ النَّتْنِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّهَا تَنْدَبِغُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمِسْكِ فَتَطْهُرُ كَمَا يَطْهُرُ غَيْرُهَا مِنَ الْمَدْبُوغَاتِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ غَزَالَ الْمِسْكِ كَالظَّبْيِ لَكِنْ لَوْنُهُ أَسْوَدُ وَلَهُ نَابَانِ لَطِيفَانِ أَبْيَضَانِ فِي فَكِّهِ الْأَسْفَلِ، وَإنَّ الْمِسْكَ دَمٌ يَجْتَمِعُ فِي سُرَّتِهِ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ مِنَ السَّنَةِ فَإِذَا اجْتَمَعَ وَرِمَ الْمَوْضِعُ فَمَرِضَ الْغَزَالُ إِلَى أَنْ يَسْقُطَ مِنْهُ، وَيُقَالُ إِنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْبِلَادِ يَجْعَلُونَ لَهَا أَوْتَادًا فِي الْبَرِّيَّةِ تَحْتَكُّ بِهَا لِيَسْقُطَ. وَنَقَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي مُشْكِلِ الْوَسِيطِ أَنَّ النَّافِجَةَ فِي جَوْفِ الظَّبْيَةِ كَالْإِنْفَحَةِ فِي جَوْفِ الْجَدْيِ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيِّ، الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُلْقِيهَا مِنْ جَوْفِهَا كَمَا تُلْقِي الدَّجَاجَةُ الْبَيْضَةَ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهَا تُلْقِيهَا مِنْ سُرَّتِهَا فَتَتَعَلَّقُ بِهَا إِلَى أَنْ تَحْتَكَّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمِسْكَ طَاهِرٌ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ.
وَنَقَلَ أَصْحَابُنَا عَنِ الشِّيعَةِ فِيهِ مَذْهَبًا بَاطِلًا وَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنَ الْقَاعِدَةِ: مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ اهـ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ ابْنِ شَعْبَانَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ فَأْرَةَ الْمِسْكِ إِنَّمَا تُؤْخَذُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ أَوْ بِذَكَاةِ مَنْ لَا تَصِحُّ ذَكَاتُهُ مِنَ الْكَفَرَةِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهَا لِأَنَّهَا تَسْتَحِيلُ عَنْ كَوْنِهَا دَمًا حَتَّى تَصِيرَ مِسْكًا كَمَا يَسْتَحِيلُ الدَّمُ إِلَى اللَّحْمِ فَيَطْهُرَ وَيَحِلَّ أَكْلُهُ، وَلَيْسَتْ بِحَيَوَانٍ حَتَّى يُقَالَ نَجِسَتْ بِالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا هِيَ شَيْءٌ يَحْدُثُ بِالْحَيَوَانِ كَالْبِيضِ، وَقَدْ أَجْمَعَ
الْمُسْلِمُونَ عَلَى طَهَارَةِ الْمِسْكِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ عُمَرَ مِنْ كَرَاهَتِهِ، وَكَذَا حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَصِحُّ الْمَنْعُ فِيهِ إِلَّا عَنْ عَطَاءٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ جُزْءٌ مُنْفَصِلٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمِسْكُ أَطْيَبُ الطِّيبِ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مُقْتَصِرًا مِنْهُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ.
قَوْلُهُ (مَا مِنْ مَكْلُومٍ) أَيْ مَجْرُوحٍ (وَكَلْمُهُ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ (يَدْمَى) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اخْتِصَاصُهُ بِمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ، لَكِنْ يَلْتَحِقُ بِهِ مَنْ قُتِلَ فِي حَرْبِ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَإِقَامَةِ الْمَعْرُوفِ لِاشْتَرَاكِ الْجَمِيعِ فِي كَوْنِهِمْ شُهَدَاءَ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَصْلُ الْحَدِيثِ فِي الْكُفَّارِ وَيَلْتَحِقُ هَؤُلَاءِ بِهِمْ بِالْمَعْنَى، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَتَوَقَّفَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي دُخُولِ مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ صَوْنَ مَالِهِ بِدَاعِيَةِ الطَّبْعِ، وَقَدْ أَشَارَ فِي الْحَدِيثِ إِلَى اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالْمُخْلِصِ حَيْثُ قَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُمْكِنُ فِيهِ الْإِخْلَاصُ مَعَ إِرَادَةِ صَوْنِ الْمَالِ، ك أَنْ يَقْصِدَ بِقِتَالِ مَنْ أَرَادَ أَخَذَهُ مِنْهُ صَوْنَ الَّذِي يُقَاتِلُهُ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ وَامْتِثَالِ أَمْرِ الشَّارِعِ بِالدَّفْعِ، وَلَا يُمَحَّضُ الْقَصْدُ لِصَوْنِ الْمَالِ، فَهُوَ كَمَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا مَعَ تَشَوُّفِهِ إِلَى الْغَنِيمَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ اسْتِدْلَالِ الْبُخَارِيِّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى طَهَارَةِ الْمِسْكِ وَكَذَا بِالَّذِي بَعْدَهُ وُقُوعُ تَشْبِيهِ دَمِ الشَّهِيدِ بِهِ، لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ التَّكْرِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَكَانَ مِنَ الْخَبَائِثِ وَلَمْ يَحْسُنِ التَّمْثِيلُ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي الْجَلِيسِ الصَّالِحِ فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ يُحْذِيَكَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَمُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ أَيْ يُعْطِيَكَ وَزْنًا وَمَعْنًى.
32 - بَاب الْأَرْنَبِ
5535 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا وَنَحْنُ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغِبُوا، فَأَخَذْتُهَا فَجِئْتُ بِهَا إِلَى أَبِي طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا فَبَعَثَ بِوَرِكَيْهَا - أَوْ قَالَ بِفَخِذَيْهَا - إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَبِلَهَا.
قَوْلُهُ (بَابُ الْأَرْنَبِ) هُوَ دُوَيْبَّةٌ مَعْرُوفَةٌ تُشْبِهُ الْعَنَاقِ لَكِنْ فِي رِجْلَيْهَا طُولٌ بِخِلَافِ يَدَيْهَا، وَالْأَرْنَبُ اسْمُ جِنْسٍ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَيُقَالُ لِلذَّكَرِ أَيْضًا الْخُزَزُ وَزْنَ عُمَرَ بِمُعْجَمَاتٍ، وَلِلْأُنْثَى عِكْرِشَةٌ، وَلِلصَّغِيرِ خِرْنَقٌ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ النُّونِ بَعْدَهَا قَافٌ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَقَالَ الْجَاحِظُ: لَا يُقَالُ أَرْنَبٌ إِلَّا لِلْأُنْثَى، وَيُقَالُ إِنَّ الْأَرْنَبَ شَدِيدَةُ الْجُبْنِ كَثِيرَةُ الشَّبَقِ وَأَنَّهَا تَكُونُ سَنَةً ذَكَرًا وَسَنَةً أُنْثَى وَأَنَّهَا تَحِيضُ، وَسَأَذْكُرُ مَنْ خَرَّجَهُ، وَيُقَالُ إِنَّهَا تَنَامُ مَفْتُوحَةَ الْعَيْنِ.
قَوْلُهُ (أَنْفَجْنَا) بِفَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَجِيمٍ سَاكِنَةٍ أَيْ أَثَرْنَا، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ اسْتَنْفَجْنَا وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْهُ، يُقَالُ نَفَجَ الْأَرانَبُ إِذَا ثَارَ وَعَدَا، وَانْتَفَجَ كَذَلِكَ، وَأَنْفَجْتُهُ إِذَا أَثَّرْتُهُ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَيُقَالُ إِنَّ الِانْتِفَاجَ الِاقْشِعْرَارُ فَكَأَنَّ الْمَعْنَى جَعَلْنَاهَا بِطَلَبِنَا لَهَا تَنْتَفِجُ، وَالِانْتِفَاجُ أَيْضًا ارْتِفَاعُ الشَّعْرِ وَانْتِفَاشُهُ. وَوَقَعَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلْمَازِرِيِّ بَعَجْنَا بِمُوَحَّدَةٍ وَعَيْنٍ مَفْتُوحَةٍ، وَفَسَّرَهُ بِالشَّقِّ مِنْ بَعَجَ بَطْنَهُ إِذَا شَقَّهُ، وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ بِأَنَّهُ تَصْحِيفٌ، وَبِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعْنَاهُ مِنْ سِيَاقِ الْخَبَرِ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّهُمْ سَعَوْا فِي طَلَبِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ شَقُّوا بَطْنَهَا كَيْفَ كَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَى السَّعْيِ خَلْفَهَا.
قَوْلُهُ (بِمَرِّ الظَّهْرَانِ) مَرِّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَالظَّهْرَانِ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ بِلَفْظِ تَثْنِيَةِ الظَّهْرِ، اسْمُ مَوْضِعٍ عَلَى مَرْحَلَةٍ مِنْ مَكَّةَ. وَقَدْ يُسَمَّى بِإِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ تَخْفِيفًا، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي
تُسَمِّيهِ عَوَامُّ الْمِصْرِيِّينَ بَطْنُ مَرْوَ وَالصَّوَابُ مَرُّ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ. قَوْلُهُ (فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغِبُوا) بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ أَيْ تَعِبُوا وَزْنَهُ وَمَعْنَاهُ، وَوَقَعَ بِلَفْظِ تَعِبُوا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَتَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ بَيَانُ مَا وَقَعَ لِلدَّاوُدِيِّ فِيهِ مِنْ غَلَطٍ.
قَوْلُهُ (فَأَخَذْتُهَا) زَادَ فِي الْهِبَةِ فَأَدْرَكْتُهَا فَأَخَذْتُهَا وَلِمُسْلِمٍ فَسَعَيْتُ حَتَّى أَدْرَكْتُهَا وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ وَكُنْتُ غُلَامًا حَزَوَّرًا وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ وَالْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ بَعْدَهَا رَاءٌ وَيَجُوزُ سُكُونُ الزَّايِ وَتَخْفِيفُ الْوَاوِ وَهُوَ الْمُرَاهِقُ.
قَوْلُهُ (إِلَى أَبِي طَلْحَةَ) وَهُوَ زَوْجُ أُمِّهِ.
قَوْلُهُ (فَذَبَحَهَا) زَادَ فِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ بِمَرْوَةَ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ الْمَذْكُورَةِ فَشَوَيْتُهَا.
قَوْلُهُ (فَبَعَثَ بِوَرِكَيْهَا أَوْ قَالَ بِفَخِذَيْهَا) هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ بِعَجُزِهَا.
قَوْلُهُ (فَقَبِلَهَا) أَيِ الْهَدِيَّةَ، وَتَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قُلْتُ وَأَكَلَ مِنْهُ؟ قَالَ: وَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: فَقَبِلَهُ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ فِيهِ فَأَكَلَهُ، قُلْتُ: أَكَلَهُ؟ قَالَ قَبِلَهُ وَهَذَا التَّرْدِيدُ لَهِشَامِ بْنِ زَيْدٍ وَقَّفَ جَدُّهُ أَنَسًا عَلَى قَوْلِهِ أَكَلَهُ فَكَأَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي الْجَزْمِ بِهِ وَجَزَمَ بِالْقَبُولِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْنَبٌ وَأَنَا نَائِمَةٌ فَخَبَّأَ لِي مِنْهَا الْعَجُزَ، فَلَمَّا قُمْتُ أَطْعَمَنِي وَهَذَا لَوْ صَحَّ لَأَشْعَرَ بِأَنَّهُ أَكَلَ مِنْهَا، لَكِنْ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ.
وَوَقَعَ فِي الْهِدَايَةِ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مِنَ الْأَرْنَبِ حِينَ أُهْدِيَ إِلَيْهِ مَشْوِيًّا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْأَكْلِ مِنْهُ، وَكَأَنَّهُ تَلَقَّاهُ مِنْ حَدِيثَيْنِ: فَأَوَّلُهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ وَقَدْ ظَهَرَ مَا فِيهِ، وَالْآخَرُ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَرْنَبٍ قَدْ شَوَاهَا فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَمْسَكَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَأْكُلُوا وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ أَكْلِ الْأَرْنَبِ وَهُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إِلَّا مَا جَاءَ فِي كَرَاهَتِهَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَعَنْ عِكْرِمَةَ مِنَ التَّابِعِينَ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي لَيْلَى مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ خُزَيْمَةَ بْنِ جَزْءٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي الْأَرْنَبِ؟ قَالَ لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ، قَالَتْ فَإِنِّي آكُلُ مَا لَا تُحَرِّمُهُ. وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّهَا تَدْمَى وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدُ، وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِلَفْظِ جِيءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَأْكُلْهَا وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا زَعَمَ أَنَّهَا تَحِيضُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ عُمَرَ عِنْدَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ حَرَّمَهَا، وَغَلَّطَهُ النَّوَوِيُّ فِي النَّقْلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا جَوَازُ اسْتِثَارَةِ الصَّيْدِ وَالْغُدُوِّ فِي طَلَبِهِ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ مَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ وَاظَبَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَشْغَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَغَيْرِهَا.
وَفِيهِ أَنَّ آخِذَ الصَّيْدِ يَمْلِكُهُ بِأَخْذِهِ وَلَا يُشَارِكُهُ مَنِ أثَارَهُ مَعَهُ. وَفِيهِ هَدِيَّةُ الصَّيْدِ وَقَبُولُهَا مِنَ الصَّائِدِ وَإِهْدَاءُ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الْكَبِيرَ الْقَدْرِ إِذَا عُلِمَ مِنْ حَالِهِ الرِّضَا بِذَلِكَ، وَفِيهِ أَنَّ وَلِيَّ الصَّبِيِّ يَتَصَرَّفُ فِيمَا يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ بِالْمَصْلَحَةِ. وَفِيهِ اسْتِثْبَاتُ الطَّالِبِ شَيْخَهُ عَمَّا يَقَعُ فِي حَدِيثِهِ مِمَّا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَضْبِطَهُ كَمَا وَقَعَ لَهِشَامِ بْنِ زَيْدٍ مَعَ أَنَسٍ رضي الله عنه.
33 - بَاب الضَّبِّ
5536 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يقول: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الضَّبُّ لَسْتُ آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ.
5537 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ، فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ، فَقَالُوا: هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَقُلْتُ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ. قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ.
قَوْلُهُ (بَابُ الضَّبِّ) هُوَ دُوَيْبَةٌ تُشْبِهُ الْجِرْذَوْنَ، لَكِنَّهُ أَكْبَرُ مِنَ الْجِرْذَوْنِ، وَيُكَنَّى أَبَا حِسْلٍ بِمُهْمَلَتَيْنِ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ سَاكِنَةٍ، وَيُقَالُ لِلْأُنْثَى ضَبَّةٌ، وَبِهِ سُمِّيَتِ الْقَبِيلَةُ، وَبِالْخِيفِ مِنْ مِنًى جَبَلٌ يُقَالُ لَهُ ضَبٌّ، وَالضَّبُّ دَاءٌ فِي خُفِّ الْبَعِيرِ، وَيُقَالُ إِنَّ لِأَصْلِ ذَكَرِ الضَّبِّ فَرْعَيْنِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: لَهُ ذَكَرَانِ. وَذَكَرَ ابْنُ خَالَوَيْهِ أَنَّ الضَّبَّ يَعِيشُ سَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ، وَأَنَّهُ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ، وَيَبُولُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَطْرَةً، وَلَا يَسْقُطُ لَهُ سِنٌّ، وَيُقَالُ بَلْ أَسْنَانُهُ قِطْعَةٌ وَاحِدَةٌ، وَحَكَى غَيْرُهُ أَنَّ أَكْلَ لَحْمِهِ يُذْهِبُ الْعَطَشَ، وَمِنَ الْأَمْثَالِ لَا أَفْعَلُ كَذَا حَتَّى يَرِدَ الضَّبُّ يَقُولُهُ مَنْ أَرَادَ أَنْ لَا يَفْعَلَ الشَّيْءَ لِأَنَّ الضَّبَّ لَا يَرِدُ بَلْ يَكْتَفِي بِالنَّسِيمِ وَبَرْدِ الْهَوَاءِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ جُحْرِهِ فِي الشِّتَاءِ. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ (الضَّبُّ لَسْتُ آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ) كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ بِلَفْظِ سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الضَّبِّ، فَقَالَ: لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ وَمِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَادَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ نَافِعٍ أَيْضًا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهَذَا السَّائِلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خُزَيْمَةَ بْنَ جَزْءٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِهِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ، قَالَ: قُلْتُ فَإِنِّي آكُلُ مَا لَمْ تُحَرِّمْ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. وَعِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا بِأَرْضٍ مُضِبَّةٍ، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ أَمَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُسِخَتْ، فَلَمْ يَأْمُرْ وَلَمْ يَنْهَ وَقَوْلُهُ مُضِبَّةٌ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ كَثِيرَةُ الضِّبَابِ، وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ بِثَابِتِ بْنِ وَدِيعَةَ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ: أَصَبْتُ ضِبَابًا فَشَوَيْتُ مِنْهَا ضَبًّا، فَأَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ عُودًا فَعَدَّ بِهِ أَصَابِعَهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ أُمَّةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُسِخَتْ دَوَابَّ فِي الْأَرْضِ، وَإِنِّي لَا أَدْرِي أَيُّ الدَّوَابِّ هِيَ، فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَنْهَ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي.
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ) أَيِ ابْنِ حُنَيْفٍ الْأَنْصَارِيِّ، لَهُ رُؤْيَةٌ وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي أَوَائِلِ الْأَطْعِمَةِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو أُمَامَةَ.
قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ سَيْفُ اللَّهِ أَخْبَرَهُ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى الزُّهْرِيِّ هَلْ هُوَ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ مِنْ مُسْنَدِ خَالِدٍ، وَكَذَا اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مَالِكٍ فَقَالَ الْأَكْثَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ خَالِدٍ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ فِي الْمُوَطَّأِ وَطَائِفَةٌ عَنْ مَالِكٍ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَخَالِدٍ أَنَّهُمَا دَخَلَا، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَخَالِدٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْهُ وَكَذَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ بِضَبَّيْنِ مَشْوِيَّيْنِ
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ مَعْمَرٍ كَالْجُمْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْأَطْعِمَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ حَاضِرًا لِلْقِصَّةِ فِي بَيْتِ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ، وَكَأَنَّهُ اسْتَثْبَتَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ لِكَوْنِهِ الَّذِي كَانَ بَاشَرَ السُّؤَالَ عَنْ حُكْمِ الضَّبِّ وَبَاشَرَ أَكْلَهُ أَيْضًا، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رُبَّمَا رَوَاهُ عَنْهُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ حَدَّثَ بِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ وَعِنْدَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِلَحْمِ ضَبٍّ الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَكَذَا رَوَاهُ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خَالِدًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَطْعِمَةِ.
قَوْلُهُ (إِنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ) زَادَ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ وَهِيَ خَالَتُهُ وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ. قُلْتُ: وَاسْمُ أُمِّ خَالِدٍ لُبَابَةُ الصُّغْرَى، وَاسْمُ أُمِّ ابْنِ عَبَّاسٍ لُبَابَةُ الْكُبْرَى وَكَانَتْ تُكَنَّى أُمَّ الْفَضْلِ بِابْنِهَا الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَهُمَا أُخْتَا مَيْمُونَةَ وَالثَّلَاثُ بَنَاتُ الْحَارِثِ بْنِ حَزْنٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ الْهِلَالِيِّ.
قَوْلُهُ (فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ) بِمُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ وَنُونٍ مَضْمُومَةٍ وَآخِرُهُ ذَالٌ مُعْجَمَةٌ أَيْ مَشْوِيٌّ بِالْحِجَارَةِ الْمُحْمَاةِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ بِضَبٍّ مَشْوِيٍّ، وَالْمَحْنُوذُ أَخَصُّ وَالْحَنِيذُ بِمَعْنَاهُ، زَادَ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ قَدِمَتْ بِهِ أُخْتُهَا حُفَيْدَةُ وَهِيَ بِمُهْمَلَةٍ وَفَاءٍ مُصَغَّرٌ وَمَضَى فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جَبْرٍ أَنَّ أُمَّ حُفَيْدَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ حَزْنٍ خَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَهْدَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَمْنًا وَأَقِطًا وَأَضُبًّا وَفِي رِوَايَةِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ الطَّحَاوِيِّ جَاءَتْ أُمُّ حُفَيْدَةَ بِضَبٍّ وَقُنْفُذٍ وَذِكْرُ الْقُنْفُذِ فِيهِ غَرِيبٌ، وَقَدْ قِيلَ فِي اسْمِهَا هُزَيْلَةُ بِالتَّصْغِيرِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُوَطَّأِ مِنْ مُرْسَلِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَعَلَّ لَهَا اسْمَيْنِ أَوِ اسْمٌ وَلَقَبٌ، وَحَكَى بَعْضُ شُرَّاحِ الْعُمْدَةِ فِي اسْمِهَا حُمَيْدَةُ بِمِيمٍ وَفِي كُنْيَتِهَا أُمُّ حُمَيْدٍ بِمِيمٍ بِغَيْرِ هَاءٍ، وَفِي رِوَايَةٍ بِهَاءٍ وَبِفَاءٍ وَلَكِنْ بِرَاءٍ بَدَلَ الدَّالِ وَبِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ بَدَلَ الْحَاءِ بِغَيْرِ هَاءٍ، وَكُلُّهَا تَصْحِيفَاتٌ.
قَوْلُهُ (فَأَهْوَى) زَادَ يُونُسُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَلَّ مَا يُقَدِّمُ يَدَهُ لِطَعَامٍ حَتَّى يُسَمَّى لَهُ وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ ابْنِ الْحَوْتَكِيَّةِ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَرْنَبٍ يُهْدِيهَا إِلَيْهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَأْكُلُ مِنَ الْهَدِيَّةِ حَتَّى يَأْمُرَ صَاحِبَهَا فَيَأْكُلَ مِنْهَا مِنْ أَجْلِ الشَّاةِ الَّتِي أُهْدِيَتْ إِلَيْهِ بِخَيْبَرَ الْحَدِيثَ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.
قَوْلُهُ (فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ، فَقَالُوا: هُوَ ضَبٌّ) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ النِّسْوَةِ الْحُضُورِ: أَخْبِرْنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا قَدَّمْتُنَّ لَهُ، هُوَ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَأَنَّ الْمَرْأَةَ أَرَادَتْ أَنَّ غَيْرَهَا يُخْبِرُهُ، فَلَمَّا لَمْ يُخْبِرُوا بَادَرَتْ هِيَ فَأَخْبَرَتْ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ إِجَازَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ سَعْدٌ يَعْنِي ابْنَ أَبِي وَقَّاصٍ فَذَهَبُوا يَأْكُلُونَ مِنْ لَحْمٍ فَنَادَتْهُمُ امْرَأَةٌ مِنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ وَعِنْدَهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَامْرَأَةٌ أُخْرَى إِذْ قُرِّبَ إِلَيْهِمْ خِوَانٌ عَلَيْهِ لَحْمٌ، فَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْكُلَ قَالَتْ لَهُ مَيْمُونَةُ إِنَّهُ لَحْمُ ضَبٍّ، فَكَفَّ يَدَهُ، وَعُرِفَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ اسْمُ الَّتِي أُبْهِمَتْ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ صَحِيحٍ فَقَالَتْ مَيْمُونَةُ أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا هُوَ.
قَوْلُهُ (فَرَفَعَ يَدَهُ) زَادَ يُونُسُ عَنِ الضَّبِّ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْ غَيْرِ الضَّبِّ مِمَّا كَانَ قُدِّمَ لَهُ مِنْ غَيْرِ الضَّبِّ، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِ غَيْرُ الضَّبِّ، وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَطْعِمَةِ، قَالَ فَأَكَلَ الْأَقِطَ وَشَرِبَ اللَّبَنَ.
قَوْلُهُ (لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي) فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ هَذَا لَحْمٌ لَمْ آكُلْهُ قَطُّ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اعْتَرَضَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي بِأَنَّ الضِّبَابَ كَثِيرَةٌ بِأَرْضِ الْحِجَازِ،
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَإِنْ كَانَ أَرَادَ تَكْذِيبَ الْخَبَرِ فَقَدْ كَذَبَ هُوَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِأَرْضِ الْحِجَازِ مِنْهَا شَيْءٌ، أَوْ ذُكِرَتْ لَهُ بِغَيْرِ اسْمِهَا أَوْ حَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَا أَنْكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَمَنْ تَبِعَهُ أَنْ يَكُونَ بِبِلَادِ الْحِجَازِ شَيْءٌ مِنَ الضِّبَابِ. قُلْتُ: وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا بَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم بِأَرْضِ قَوْمِي قُرَيْشاً فَقَطْ فَيَخْتَصُّ النَّفْيُ بِمَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً بِسَائِرِ بِلَادِ الْحِجَازِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ دَعَانَا عَرُوسٌ بِالْمَدِينَةِ فَقَرَّبَ إِلَيْنَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ ضَبًّا، فَآكِلٌ وَتَارِكٌ الْحَدِيثَ، فَبِهَذَا يُدَلُّ عَلَى كَثْرَةِ وِجْدَانِهَا بِتِلْكَ الدِّيَارِ.
قَوْلُهُ (فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ) بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَفَاءٍ خَفِيفَةٍ أَيْ أَتَكَرَّهُ أَكْلَهُ، يُقَالُ عِفْتُ الشَّيْءَ أَعَافُهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَتَرَكَهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَالْمُتَقَذِّرِ لَهُنَّ، وَلَوْ كُنَّ حَرَامًا لَمَا أُكِلْنَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمَا أَمَرَ بِأَكْلِهِنَّ كَذَا أَطْلَقَ الْأَمْرَ وَكَأَنَّهُ تَلَقَّاهُ مِنَ الْإِذْنِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ التَّقْرِيرِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ إِلَّا فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَإِنَّ فِيهَا فَقَالَ لَهُمْ كُلُوا، فَأَكَلَ الْفَضْلُ، وَخَالِدٌ وَالْمَرْأَةُ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كُلُوا وَأَطْعِمُوا فَإِنَّهُ حَلَالٌ - أَوْ قَالَ لَا بَأْسَ بِهِ - وَلَكِنَّهُ لَيْسَ طَعَامِي، وَفِي هَذَا كُلِّهِ بَيَانُ سَبَبِ تَرْكِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ مَا اعْتَادَهُ، وَقَدْ وَرَدَ لِذَلِكَ سَبَبٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ مِنْ مُرْسَلِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ فَذَكَرَ مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي آخِرِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كُلَا - يَعْنِي لِخَالِدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ - فَإِنَّنِي يَحْضُرُنِي مِنَ اللَّهِ حَاضِرَةٌ قَالَ الْمَازِرِيُّ: يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، وَكَأَنَّ لِلحْمِ الضَّبِّ رِيحًا فَتَرَكَ أَكْلَهُ لِأَجْلِ رِيحِهِ، كَمَا تَرَكَ أَكْلَ الثُّومِ مَعَ كَوْنِهِ حَلَالًا. قُلْتُ: وَهَذَا إِنْ صَحَّ يُمْكِنُ ضَمُّهُ إِلَى الْأَوَّلِ وَيَكُونُ لِتَرْكِهِ الْأَكْلَ مِنَ الضَّبِّ سَبَبَانِ.
قَوْلُهُ (قَالَ خَالِدٌ فَاجْتَرَرْتُهُ) بِجِيمٍ وَرَائَيْنِ، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَضَبَطَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمُهَذَّبِ بِزَايٍ قَبْلَ الرَّاءِ وَقَدْ غَلَّطَهُ النَّوَوِيُّ.
قَوْلُهُ (يَنْظُرُ) زَادَ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ إِلَى. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ جَوَازُ أَكْلِ الضَّبِّ، وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ قَوْمٍ تَحْرِيمَهُ وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ كَرَاهَتَهُ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ وَقَالَ: لَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ، فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالنُّصُوصِ وَبِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ. قُلْتُ: قَدْ نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عَلِيٍّ، فَأَيُّ إِجْمَاعٍ يَكُونُ مَعَ مُخَالَفَتِهِ؟ وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ كَرَاهَتَهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ ; وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي مَعَانِي الْآثَارِ: كَرِهَ قَوْمٌ أَكْلَ الضَّبِّ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُهْدِيَ لَهُ ضَبٌّ فَلَمْ يَأْكُلْهُ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ سَائِلٌ، فَأَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تُعْطِيَهُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتُعْطِينَهُ مَا لَا تَأْكُلِينَ؟ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: مَا فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ عَافَتْهُ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يَكُونَ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ إِلَّا مِنْ خَيْرِ الطَّعَامِ، كَمَا نَهَى أَنْ يُتَصَدَّقَ بِالتَّمْرِ الرَّدِيءِ اهـ.
وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنِ الضَّبِّ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ ضَمْضَمِ بْنِ زُرْعَةَ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي رَاشِدِ الْحَبْرَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَيَّاشٍ عَنِ الشَّامِيِّينَ قَوِيٌّ، وَهَؤُلَاءِ شَامِيُّونَ ثِقَاتٌ، وَلَا يُغْتَرُّ بِقَوْلِ الْخَطَّابِيِّ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ، وَقَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ: فِيهِ ضُعَفَاءُ وَمَجْهُولُونَ، وَقَوْلُ الْبَيْهَقِيِّ: تَفَرَّدَ بِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَقَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ: لَا يَصِحُّ، فَفِي كُلِّ ذَلِكَ تَسَاهُلٌ لَا يَخْفَى، فَإِنَّ رِوَايَةَ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الشَّامِيِّينَ قَوِيَّةٌ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ صَحَّحَ التِّرْمِذِيُّ بَعْضَهَا، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنَةَ نَزَلْنَا أَرْضًا كَثِيرَةَ الضِّبَابِ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَنَّهُمْ طَبَخُوا مِنْهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أُمَّةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُسِخَتْ دَوَابَّ فِي الْأَرْضِ فَأَخْشَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ فَأَكْفِئُوهَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّحَاوِيُّ وَسَنَدُهُ عَلَى شَرْطِ
الشَّيْخَيْنِ إِلَّا الضَّحَّاكَ فَلَمْ يُخَرِّجَا لَهُ.
وَلِلطَّحَاوِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ وَوَافَقَهُ الْحَارِثُ بْنُ مَالِكٍ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، وَوَكِيعٌ فِي آخِرِهِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ النَّاسَ قَدِ اشْتَوَوْهَا أَكَلُوهَا، فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ وَالْأَحَادِيثُ الْمَاضِيَةُ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى الْحِلِّ تَصْرِيحًا وَتَلْوِيحًا نَصًّا وَتَقْرِيرًا، فَالْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذَا حَمَلَ النَّهْيَ فِيهِ عَلَى أَوَّلِ الْحَالِ عِنْدَ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا مُسِخَ وَحِينَئِذٍ أَمَرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ، ثُمَّ تَوَقَّفَ فَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ، وَحُمِلَ الْإِذْنُ فِيهِ عَلَى ثَانِي الْحَالِ لِمَا عُلِمَ أَنَّ الْمَمْسُوخَ لَا نَسْلَ لَهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ يَسْتَقْذِرُهُ فَلَا يَأْكُلُهُ وَلَا يُحَرِّمُهُ، وَأَكَلَ عَلَى مَائِدَتِهِ فَدَلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَتَكُونُ الْكَرَاهَةُ لِلتَّنْزِيهِ فِي حَقِّ مَنْ يَتَقَذَّرُهُ، وَتُحْمَلُ أَحَادِيثُ الْإِبَاحَةِ عَلَى مَنْ لَا يَتَقَذَّرُهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُكْرَهُ مُطْلَقًا. وَقَدْ أَفْهَمَ كَلَامُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ فِي حَقِّ مَنْ يَتَقَذَّرُهُ لِمَا يَتَوَقَّعُ فِي أَكْلِهِ مِنَ الضَّرَرِ وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِهَذَا، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ أَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ بِقِصَّةِ الضَّبِّ، فَأَكْثَرَ الْقَوْمُ حَوْلَهُ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا آكُلُهُ وَلَا أَنْهَى عَنْهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِئْسَ مَا قُلْتُمْ، مَا بُعِثَ نَبِيُّ اللَّهِ إِلَّا مُحَرِّمًا أَوْ مُحَلِّلًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: ظَنَّ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الَّذِي أَخْبَرَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَا آكُلُهُ أَرَادَ لَا أُحِلُّهُ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّ خُرُوجَهُ مِنْ قِسْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُحَالٌ.
وَتَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ بِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا لَمْ يَتَّضِحْ إِلْح اقُهُ بِالْحَلَالِ أَوِ الْحَرَامِ يَكُونُ مِنَ الشُّبُهَاتِ فَيَكُونُ مِنْ حُكْمِ الشَّيْءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَالْأَصَحُّ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهَا بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ.
قُلْتُ: وَفِي كَوْنِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ نَظَرٌ، لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ إِذَا تَعَارَضَ الْحُكْمُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ، أَمَّا الشَّارِعُ إذَا سُئِلَ عَنْ وَاقِعَةٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ فِيهَا الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَجَعَلَ مَحَطَّ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ. ثُمَّ وَجَدْتُ فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةَ لَفْظَةٍ سَقَطَتْ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَبِهَا يَتَّجِهُ إِنْكَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيُسْتَغْنَى عَنْ تَأْوِيلِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ لَا آكُلُهُ بِلَا أُحِلُّهُ وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي شَيْبَةَ وَهُوَ شَيْخُ مُسْلِمٍ فِيهِ أَخْرَجَهُ فِي مُسْنَدِهِ بِالسَّنَدِ الَّذِي سَاقَهُ بِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ لَا آكُلُهُ وَلَا أَنْهَى عَنْهُ وَلَا أُحِلُّهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ وَلَعَلَّ مُسْلِمًا حَذَفَهَا عَمْدًا لِشُذُوذِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ لَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَأَشْهَرُ مَنْ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ ابْنُ عُمَرَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِ لَا أُحِلُّهُ بَلْ جَاءَ التَّصْرِيحُ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَلَالٌ فَلَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ لَا أُحِلُّهُ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ وَهُوَ ثِقَةٌ لَكِنَّهُ أَخْبَرَ بِهَا عَنْ قَوْمٍ كَانُوا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَكَانَتْ رِوَايَةً عَنْ مَجْهُولٍ، وَلَمْ يَقُلْ يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ إِنَّهُمْ صَحَابَةٌ حَتَّى يُغْتَفَرَ عَدَمُ تَسْمِيَتِهِمْ.
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ مَنْ مَنَعَ أَكْلَهُ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ أُمَّةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُسِخَتْ وَقَدْ ذَكَرْتُهُ وَشَوَاهِدَهُ قَبْلُ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الْجَزْمُ بِأَنَّ الضَّبَّ مِمَّا مُسِخَ، وَإِنَّمَا خَشِيَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ فَتَوَقَّفَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنَّ الْمَمْسُوخَ لَا يَنْسِلُ، وَبِهَذَا أَجَابَ الطَّحَاوِيُّ ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ أَهِيَ مِمَّا مُسِخَ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا - أَوْ يَمْسَخْ قَوْمًا - فَيَجْعَلْ لَهُمْ نَسْلًا وَلَا عَاقِبَةً وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي مُسْلِمٍ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرْهُ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَيَتَعَجَّبُ مِنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ حَيْثُ قَالَ: قَوْلُهُ إِنَّ الْمَمْسُوخَ لَا يَنْسِلُ دَعْوَى، فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ النَّقْلُ، وَلَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.
كَذَا قَالَ ثُمَّ قَالَ الطَّحَاوِيُّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طُرُقٍ ثُمَّ أَخْرَجَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْآثَارِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الضَّبِّ، وَبِهِ أَقُولُ. قَالَ: وَقَدِ احْتَجَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لِأَصْحَابِهِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ، فَسَاقَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ
أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَأْكُلْهُ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ سَائِلٌ، فَأَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تُعْطِيَهُ فَقَالَ لَهَا: أَتُعْطِيهِ مَا لَا تَأْكُلِينَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ: دَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَرَاهَتِهِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ وَتَعَقَّبَهُ الطَّحَاوِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} ثُمَّ سَاقَ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى كَرَاهَةِ التَّصَدُّقِ بِحَشَفِ التَّمْرِ، وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي بَابِ تَعْلِيقِ الْقِنْوِ فِي الْمَسْجِدِ وَبِحَدِيثِ الْبَرَاءِ كَانُوا يُحِبُّونَ الصَّدَقَةَ بِأَرْدَاءِ تَمْرِهِمْ، فَنَزَلَتْ {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} الْآيَةَ. قَالَ: فَلِهَذَا الْمَعْنَى كَرِهَ لِعَائِشَةَ الصَّدَقَةَ بِالضَّبِّ لَا لِكَوْنِهِ حَرَامًا اهـ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فُهِمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِيهِ لِلتَّحْرِيمِ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ فِيهِ كَرَاهَةُ التَّنْزِيَهِ. وَجَنَحَ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّحْرِيمِ وَقَالَ: اخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ وَتَعَذَّرَتْ مَعْرِفَةُ الْمُتَقَدِّمِ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ التَّحْرِيمِ تَقْلِيلًا لِلنَّسْخِ اهـ. وَدَعْوَاهُ التَّعَذُّرَ مَمْنُوعَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَتَعَجَّبُ مِنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ حَيْثُ قَالَ: قَوْلُهُمْ إِنَّ الْمَمْسُوخَ لَا يَنْسِلُ دَعْوَى، فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ النَّقْلُ، وَلَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، كَذَا قَالَ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرْهُ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ كَوْنِ الضَّبِّ مَمْسُوخًا فَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ أَكْلِهِ لِأَنَّ كَوْنَهُ آدَمِيًّا قَدْ زَالَ حُكْمُهُ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا كَرِهَ صلى الله عليه وسلم الْأَكْلَ مِنْهُ لِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ كَمَا كَرِهَ الشُّرْبَ مِنْ مِيَاهِ ثَمُودَ اهـ. وَمَسْأَلَةُ جَوَازِ أَكْلِ الْآدَمِيِّ إِذَا مُسِخَ حَيَوَانًا مَأْكُولًا لَمْ أَرَهَا فِي كُتُبِ فُقَهَائِنَا. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا الْإِعْلَامُ بِمَا شَكَّ فِيهِ لِإِيضَاحِ حُكْمِهِ، وَأَنَّ مُطْلَقَ النُّفْرَةِ وَعَدَمَ الِاسْتِطَابَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّحْرِيمَ، وَأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ لَا يَعِيبُ الطَّعَامَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا صَنَعَهُ الْآدَمِيُّ لِئَلَّا يَنْكَسِرَ خَاطِرُهُ وَيُنْسَبَ إِلَى التَّقْصِيرِ فِيهِ ; وَأَمَّا الَّذِي خُلِقَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ نُفُورُ الطَّبْعِ مِنْهُ مُمْتَنِعًا.
وَفِيهِ أَنَّ وُقُوعَ مِثْلِ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَعِيبٍ مِمَّنْ يَقَعُ مِنْهُ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَنَطِّعَةِ. وَفِيهِ أَنَّ الطِّبَاعَ تَخْتَلِفُ فِي النُّفُورِ عَنْ بَعْضِ الْمَأْكُولَاتِ، وَقَدْ يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَنَّ اللَّحْمَ إِذَا أَنْتَنَ لَمْ يَحْرُمْ لِأَنَّ بَعْضَ الطِّبَاعِ لَا تَعَافُهُ. وَفِيهِ دُخُولُ أَقَارِبِ الزَّوْجَةِ بَيْتَهَا إِذَا كَانَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ رِضَاهُ، وَذَهَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هُنَا ذُهُولًا فَاحِشًا فَقَالَ: كَانَ دُخُولُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بَيْتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ، وَغَفَلَ عَمَّا ذَكَرَهُ هُوَ أَنَّ إِسْلَامَ خَالِدٍ كَانَ بَيْنَ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ وَالْفَتْحِ، وَكَانَ الْحِجَابُ قَبْلَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ قَالَ خَالِدٌ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَلَوْ كَانَتِ الْقِصَّةُ قَبْلَ الْحِجَابِ لَكَانَتْ قَبْلَ إِسْلَامِ خَالِدٍ، وَلَوْ كَانَتْ قَبْلَ إِسْلَامِهِ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ، وَلَا خَاطَبَ بِقَوْلِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَفِيهِ جَوَازُ الْأَكْلِ مِنْ بَيْتِ الْقَرِيبِ وَالصِّهْرِ وَالصَّدِيقِ، وَكَأَنَّ خَالِدًا وَمَنْ وَافَقَهُ فِي الْأَكْلِ أَرَادُوا جَبْرَ قَلْبِ الَّذِي أَهْدَتْهُ، أَوْ لِتَحَقُّقِ حُكْمِ الْحِلِّ، أَوْ لِامْتِثَالِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم كُلُوا وَفَهِمَ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ. وَفِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤَاكِلُ أَصْحَابَهُ وَيَأْكُلُ اللَّحْمَ حَيْثُ تَيَسَّرَ ; وَأَنَّهُ كَانَ لَا يَعْلَمُ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ إِلَّا مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهِ وُفُورُ عَقْلِ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَعَظِيمُ نَصِيحَتِهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّهَا فَهِمَتْ مَظِنَّةَ نُفُورِهِ عَنْ أَكْلِهِ بِمَا اسْتَقَرَّتْ مِنْهُ، فَخَشِيَتْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَأَذَّى بِأَكْلِهِ لِاسْتِقْذَارِهِ لَهُ فَصَدَقَتْ فَرَاسَتُهَا. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ خَشِيَ أَنْ يَتَقَذَّرَ شَيْئًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُدَلِّسَ لَهُ لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ بِهِ، وَقَدْ شُوهِدَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ.
34 - بَاب إِذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ أَوْ الذَّائِبِ
5538 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُتْبَةَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُهُ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا، فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوهُ. قِيلَ لِسُفْيَانَ: فَإِنَّ مَعْمَرًا يُحَدِّثُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ إِلَّا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ مِرَارًا.
5539 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ الدَّابَّةِ تَمُوتُ فِي الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ، وَهُوَ جَامِدٌ أَوْ غَيْرُ جَامِدٍ، الْفَأْرَةِ أَوْ غَيْرِهَا، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِفَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ فَأَمَرَ بِمَا قَرُبَ مِنْهَا فَطُرِحَ، ثُمَّ أُكِلَ عَنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
5540 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ رضي الله عنهم قَالَتْ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ، فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوهُ.
قَوْلُهُ (بَابُ إِذَا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ أَوِ الذَّائِبِ) أَيْ هَلْ يَفْتَرِقُ الْحُكْمُ أَوْ لَا؟ وَكَأَنَّهُ تَرَكَ الْجَزْمَ بِذَلِكَ لِقُوَّةِ الِاخْتِلَافِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إِلَّا بِالتَّغَيُّرِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِهِ طَرِيقَ يُونُسَ الْمُشْعِرَةَ بِالتَّفْصِيلِ.
قَوْلُهُ (عَنْ مَيْمُونَةَ) تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْوُضُوءِ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي إِثْبَاتِ مَيْمُونَةَ فِي الْإِسْنَادِ وَعَدَمِهِ، وَأَنَّ الرَّاجِحَ إِثْبَاتُهَا فِيهِ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ الِاخْتِلَافُ عَلَى مَالِكٍ فِي وَصْلِهِ وَانْقِطَاعِهِ.
قَوْلُهُ (فَقَالَ أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا) هَكَذَا أَوْرَدَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْهُ وَوَقَعَ فِي مُسْنَدِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ بِلَفْظِ إِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ، وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا فَلَا تَقْرَبُوهُ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ غَرِيبَةٌ وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهَا.
قَوْلُهُ (قِيلَ لِسُفْيَانَ) الْقَائِلُ لِسُفْيَانَ ذَلِكَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، كَذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي عِلَلِهِ.
قَوْلُهُ (فَإِنَّ مَعْمَرًا يُحَدِّثُ بِهِ إِلَخْ) طَرِيقُ مَعْمَرٍ هَذِهِ وَصَلَهَا أَبُو دَاوُدَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَلْوَانِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُورِ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ خَطَأٌ وَالْمَحْفُوظُ رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَيْمُونَةَ، وَجَزَمَ الذُّهْلِيُّ بِأَنَّ الطَّرِيقَيْنِ صَحِيحَانِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ الْحَسَنُ: وَرُبَّمَا حَدَّثَ بِهِ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بُوذَوَيْهِ، عَنْ مَعْمَرٍ كَذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ مَيْمُونَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ خُشَيْشِ بْنِ أَصْرَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ اللَّيْثَ رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ جَامِدٍ الْحَدِيثَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ أَصْلًا، وَكَوْنُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ لَمْ يَحْفَظْهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ مَيْمُونَةَ لَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عِنْدَهُ إِسْنَادٌ آخَرُ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِيهِ إِسْنَادٌ ثَالِثٌ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ، وَعَبْدُ
الْجَبَّارِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَجَاءَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَذَلِكَ، لَكِنَّ السَّنَدَ إِلَى ابْنِ جُرَيْجٍ ضَعِيفٌ وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ (قَالَ مَا سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ) الْقَائِلُ هُوَ سُفْيَانُ وَقَوْلُهُ وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ مِرَارًا أَيْ مِنْ طَرِيقِ مَيْمُونَةَ فَقَطْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنْ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ قَالَ سُفْيَانُ: كَمْ سَمِعْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ يُعِيدُهُ وَيُبْدِئُهُ.
قَوْلُهُ (عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ.
قَوْلُهُ (عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ الدَّابَّةِ) أَيْ فِي حُكْمِ الدَّابَّةِ تَمُوتُ فِي الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ إِلَخْ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الزُّهْرِيَّ كَانَ فِي هَذَا الْحُكْمِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ السَّمْنِ وَغَيْرِهِ وَلَا بَيْنَ الْجَامِدِ مِنْهُ وَالذَّائِبِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي السُّؤَالِ ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ فِي السَّمْنِ، فَأَمَّا غَيْرُ السَّمْنِ فَإِلْحَاقُهُ بِهِ فِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ وَاضِحٌ، وَأَمَّا عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الذَّائِبِ وَالْجَامِدِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي اللَّفْظِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ، وَهَذَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ مَنْ زَادَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ الزُّهْرِيِّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْجَامِدِ وَالذَّائِبِ كَمَا ذُكِرَ قَبْلُ عَنْ إِسْحَاقَ، وَهُوَ مَشْهُورٌ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ اخْتُلِفَ عَنْ مَعْمَرٍ فِيهِ، فَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ بِغَيْرِ تَفْصِيلٍ، نَعَمْ وَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ وَصْفُ السَّمْنِ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ جَامِدٌ، وَتَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي الطَّهَارَةِ وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَكَذَا عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ وَتَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، عَنْ سُفْيَانَ وَأَنَّهُ تَفَرَّدَ بِالتَّفْصِيلِ عَنْ سُفْيَانَ دُونَ حُفَّاظِ أَصْحَابِهِ مِثْلِ أَحْمَدَ، وَالْحُمَيْدِيِّ، وَمُسَدَّدٍ وَغَيْرِهِمْ، وَوَقَعَ التَّفْصِيلُ فِيهِ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّوَابَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَهَذَا الَّذِي يَنْفَصِلُ بِهِ الْحُكْمُ فِيمَا يَظْهَرُ لِي بِأَنَّ التَّقْيِيدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ مِنْ قَوْلِهِ، وَالْإِطْلَاقُ مِنْ رِوَايَتِهِ مَرْفُوعًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ مَرْفُوعًا مَا سَوَّى فِي فَتْوَاهُ بَيْنَ الْجَامِدِ وَغَيْرِ الْجَامِدِ، وَلَيْسَ الزُّهْرِيُّ مِمَّنْ يُقَالُ فِي حَقِّهِ لَعَلَّهُ نَسِيَ الطَّرِيقَ الْمُفَصَّلَةَ الْمَرْفُوعَةَ لِأَنَّهُ كَانَ أَحْفَظَ النَّاسِ فِي عَصْرِهِ فَخَفَاءُ ذَلِكَ عَنْهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ.
قَوْلُهُ (عَنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) يَعْنِي بِسَنَدِهِ لَكِنْ يَظْهَرُ لَنَا هَلْ فِيهِ مَيْمُونَةُ أَوْ لَا؟ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ فَقَالَ فِيهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا وَأَغْرَبَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ فَسَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ الْفَرَبْرِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَبْدَانَ مَوْصُولًا بِذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَيْمُونَةَ بِالْمَرْفُوعِ دُونَ الْمَوْقُوفِ وَقَالَ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدَانَ وَذَكَرَ فِيهِ كَلَامًا، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمَائِعَ إِذَا حَلَّتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ لَا يَنْجَسُ إِلَّا بِالتَّغَيُّرِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ وَقَوْلُ ابْنِ نَافِعٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ عِمَارَةَ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ قَالَ: تُؤْخَذُ الْفَأْرَةُ وَمَا حَوْلَهَا، فَقُلْتُ إِنَّ أَثَرَهَا كَانَ فِي السَّمْنِ كُلِّهِ، قَالَ إِنَّمَا كَانَ وَهِيَ حَيَّةٌ وَإِنَّمَا مَاتَتْ حَيْثُ وُجِدَتْ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.
وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَقَالَ فِيهِ عَنْ جَرٍّ فِيهِ زَيْتٌ وَقَعَ فِيهِ جُرْذٌ وَفِيهِ أَلَيْسَ جَالَ فِي الْجَرِّ كُلِّهِ؟ قَالَ: إِنَّمَا جَالَ وَفِيهِ الرُّوحُ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ حَيْثُ مَاتَ وَفَرَّقَ الْجُمْهُورُ بَيْنَ الْمَائِعِ وَالْجَامِدِ عَمَلًا بِالتَّفْصِيلِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ، وَقَدْ تَمَسَّكَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِقَوْلِهِ وَمَا حَوْلَهَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ جَامِدًا، قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَائِعًا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَوْلٌ، لِأَنَّهُ لَوْ نُقِلَ مِنْ أَيٍّ جَانِبٍ مَهْمَا نُقِلَ لَخَلَفَهُ غَيْرُهُ فِي الْحَالِ فَيَصِيرُ مِمَّا حَوْلَهَا فَيُحْتَاجُ إِلَى إِلْقَائِهِ كُلِّهِ، كَذَا قَالَ، وَأَمَّا ذِكْرُ السَّمْنِ وَالْفَأْرَةِ فَلَا عَمَلَ بِمَفْهُومِهِمَا، وَجَمَدَ ابْنُ حَزْمٍ
عَلَى عَادَتِهِ فَخَصَّ التَّفْرِقَةَ بِالْفَأْرَةِ، فَلَوْ وَقَعَ غَيْرُ جِنْسِ الْفَأْرِ مِنَ الدَّوَابِّ فِي مَائِعٍ لَمْ يَنْجُسْ إِلَّا بِالتَّغَيُّرِ، وَضَابِطُ الْمَائِعِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يَتَرَادَّ بِسُرْعَةٍ إِذَا أُخِذَ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ فَمَاتَتْ عَلَى أَنَّ تَأْثِيرَهَا فِي الْمَائِعِ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَوْتِهَا فِيهِ فَلَوْ وَقَعَتْ فِيهِ وَخَرَجَتْ بِلَا مَوْتٍ لَمْ يَضُرَّهُ، وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ التَّقْيِيدُ بِالْمَوْتِ، فَيَلْزَمُ مَنْ لَا يَقُولُ بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَنْ يَقُولَ بِالتَّأْثِيرِ وَلَوْ خَرَجَتْ وَهِيَ فِي الْحَيَاةِ، وَقَدِ الْتَزَمَهُ ابْنُ حَزْمٍ فَخَالَفَ الْجُمْهُورَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ (أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا) لَمْ يَرِدْ فِي طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ تَحْدِيدُ مَا يُلْقَى، لَكِنْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ مُرْسَلِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ يَكُونُ قَدْرَ الْكَفِّ وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ لَوْلَا إِرْسَالُهُ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَأَمَرَ أَنْ يُقَوَّرَ مَا حَوْلَهَا فَيرمي بِهِ وَهَذَا أَظْهَرُ فِي كَوْنِهِ جَامِدًا مِنْ قَوْلِهِ وَمَا حَوْلَهَا فَيَقْوَى مَا تَمَسَّكَ بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا مِنَ التَّقْيِيدِ فِي الْمَأْخُوذِ مِنْهُ ثَلَاثُ غُرُفَاتٍ بِالْكَفَّيْنِ فَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَ ظَاهِرًا فِي الْمَائِعِ.
وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْمُفَصَّلَةِ وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي شَيْءٍ، فَيَحْتَاجُ مَنْ أَجَازَ الِانْتِفَاعَ بِهِ فِي غَيْرِ الْأَكْلِ كَالشَّافِعِيَّةِ وَأَجَازَ بَيْعَهُ كَالْحَنَفِيَّةِ إِلَى الْجَوَابِ - أَعْنِي الْحَدِيثَ - فَإِنَّهُمُ احْتَجُّوا بِهِ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْجَامِدِ وَالْمَائِعِ، وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ إِنْ كَانَ السَّمْنُ مَائِعًا انْتَفَعُوا بِهِ وَلَا تَأْكُلُوهُ وَعِنْدَهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ مِثْلُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّحِيحَ وَقْفُهُ. وَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي زَيْتٍ قَالَ اسْتَصْبِحُوا بِهِ وَادْهُنُوا بِهِ أُدُمَكُمْ وَهَذَا السَّنَدُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْفَأْرَةَ طَاهِرَةُ الْعَيْنِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَحَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا نَجِسَةٌ.
قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ (سُئِلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) هُوَ كَذَلِكَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِإِبْهَامِ السَّائِلِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ تَعْيِينُ مَنْ سَأَلَ، وَلَفْظُهُ عَنْ مَيْمُونَةَ إِنَّهَا اسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَأْرَةٍ الْحَدِيثَ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ مَالِكٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ بِلَفْظِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَيْمُونَةَ اسْتَفْتَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
35 - بَاب الْوَسْمِ وَالْعَلَمِ فِي الصُّورَةِ
5541 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ سَالِمٍ،، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ تُعْلَمَ الصُّورَةُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُضْرَبَ.
تَابَعَهُ قُتَيْبَةُ قال: حَدَّثَنَا الْعَنْقَزِيُّ عَنْ حَنْظَلَةَ وَقَالَ تُضْرَبُ الصُّورَةُ.
5542 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَخٍ لِي يُحَنِّكُهُ وَهُوَ فِي مِرْبَدٍ لَهُ فَرَأَيْتُهُ يَسِمُ شَاةً، حَسِبْتُهُ قَالَ: فِي آذَانِهَا.
قَوْلُهُ (بَابُ الْعَلَمِ) بِفَتْحَتَيْنِ (وَالْوَسْمُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْمُعْجَمَةِ فَقِيلَ هُوَ بِمَعْنَى الَّذِي بِالْمُهْمَلَةِ وَقِيلَ بِالْمُهْمَلَةِ فِي الْوَجْهِ وَبِالْمُعْجَمَةِ فِي سَائِرِ الْجَسَدِ، فَعَلَى هَذَا فَالصَّوَابُ هُنَا بِالْمُهْمَلَةِ لِقَوْلِهِ فِي الصُّورَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْوَسْمِ أَنْ يُعَلَّمَ الشَّيْءُ بِشَيْءٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ تَأْثِيرًا بَالِغًا، وَأَصْلُهُ أَنْ يَجْعَلَ فِي الْبَهِيمَةِ عَلَامَةً لِيُمَيِّزَهَا عَنْ غَيْرِهَا.
قَوْلُهُ (عَنْ حَنْظَلَةَ) هُوَ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيُّ، وَسَالِمٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ (أَنْ تُعْلَّمَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ تُجْعَلُ فِيهَا
عَلَامَةٌ.
قَوْلُهُ (الصُّورَةُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الصُّوَرُ بِفَتْحِ الْوَاوِ بِلَا هَاءٍ جَمْعُ صُورَةٍ وَالْمُرَادُ بِالصُّورَةِ الْوَجْهُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُضْرَبَ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، بَدَأَ بِالْمَوْقُوفِ وَثَنَّى بِالْمَرْفُوعِ مُسْتَدِلًّا بِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْكَرَاهَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ النَّهْيُ عَنِ الضَّرْبِ كَانَ مَنْعُ الْوَسْمِ أَوْلَى، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ وَعَنْ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ وَفِي لَفْظٍ لَهُ مَرَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِحِمَارٍ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ وَسَمَهُ.
قَوْلُهُ (تَابَعَهُ قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا الْعَنْقَزِيُّ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ بَيْنَهُمَا نُونٌ سَاكِنَةٌ وَبَعْدَ الْقَافِ زَايٌ، مَنْسُوبٌ إِلَى الْعَنْقَزِ وَهُوَ نَبْتٌ طَيِّبُ الرِّيحِ، وَيُقَالُ هُوَ الْمَرْزَنْجُوشُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ ثُمَّ فَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ النُّونِ بَعْدَهَا جِيمٌ مَضْمُومَةٌ وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِلشَّيْءِ بِمِثْلِهِ فِي الْخَفَاءِ، وَالْمَرْزَنْجُوشُ هُوَ الشَّمَارُ أَوِ الشَّذَابُ، وَقِيلَ الْعَنْقَزُ الرَّيْحَانُ، وَقِيلَ الْقَصَبُ الْغَضُّ، وَاسْمُ الْعَنْقَزِيِّ عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ الْكُوفِيُّ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ: كَانَ يَبِيعُ الْعَنْقَزَ.
وَهَذِهِ الْمُتَابَعَةُ لَهَا حُكْمُ الْوَصْلِ عِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ لِأَنَّ قُتَيْبَةَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا لِزِيَادَةِ الْمَحْذُوفِ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى حَيْثُ قَالَ أَنْ تُضْرَبَ فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي رِوَايَتِهِ لِلصُّورَةِ لِكَوْنِهَا ذُكِرَتْ أَوَّلًا وَأَفْصَحَ الْعَنْقَزِيُّ فِي رِوَايَتِهِ بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ عَنْ حَنْظَلَةَ يُرِيدُ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ السِّرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَدِيٍّ فَرَّقَهُمَا كِلَاهُمَا عَنْ حَنْظَلَةَ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ وَاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، لَكِنْ لَفْظُ رِوَايَةِ بِشْرِ بْن السَّرِيِّ عَنِ الصُّورَةِ تُضْرَبُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ بِلَفْظِ أَنْ تُضْرَبَ وُجُوهُ الْبَهَائِمِ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ أَنْ تُضْرَبَ الصُّورَةُ يَعْنِي الْوَجْهَ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ يَعْنِي الْبُرْسَانِيَّ، وَإِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ الرَّازِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ سَمِعْتُ سَالِمًا يَسْأَلُ عَنِ الْعَلَمِ فِي الصُّورَةِ فَقَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ تُعَلَّمَ الصُّورَةُ وَبَلَغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُضْرَبَ الصُّورَةُ يَعْنِي بِالصُّورَةِ الْوَجْهَ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْمُسْنَدُ مِنْهُ عَلَى اضْطِرَابٍ فِيهِ ضَرْبُ الصُّورَةِ، وَأَمَّا الْعَلَمُ فَإِنَّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ الْكَيُّ، قُلْتُ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الْأَخِيرَةُ هِيَ الْمُطَابِقَةُ لِلَّفْظِ التَّرْجَمَةِ، وَعَطْفُهُ الْوَسْمَ عَلَيْهَا إِمَّا عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ وَإِمَّا مِنْ عَطْفِ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ.
وَأَشَارَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِالِاضْطِرَابِ إِلَى الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ حَيْثُ قَالَ فِيهَا وَبَلَغَنَا فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ سَالِمٍ فَيَكُونُ مُرْسَلًا بِخِلَافِ الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى أَنَّهَا ظَاهِرَةُ الِاتِّصَالِ لَكِنِ اجْتِمَاعُ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ أَوْلَى مِنْ تَقْصِيرِ مَنْ قَصَّرَ بِهِ وَالْحُكْمِ لَهُمْ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يُسَمَّى اضْطِرَابًا فِي الِاصْطِلَاحِ لِأَنَّ شَرْطَ الِاضْطِرَابِ أَنْ يَتَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ بَعْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ. وَجَاءَ فِي ذِكْرِ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ صَرِيحًا حَدِيثُ جَابِرٍ قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِحِمَارٍ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا. لَا يَسِمُ أَحَدٌ الْوَجْهَ وَلَا يَضْرِبُ أَحَدٌ الْوَجْهَ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَهُوَ شَاهِدٌ جَيِّدٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَتَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ضَرْبِ وَجْهِ الْآدَمِيِّ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَتَقَدَّمَ قَبْلَ أَبْوَابٍ النَّهْيُ عَنْ صَبْرِ الْبَهِيمَةِ وَعَنِ الْمُثْلَةِ.
قَوْلُهُ (عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ) أَيِ ابْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.
قَوْلُهُ (عَنْ أَنَسٍ) هُوَ جَدُّهُ.
قَوْلُهُ (بِأَخٍ لِي يُحَنِّكُهُ) هُوَ أَخُوهُ مِنْ أُمِّهِ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَسَيَأْتِي مُطَوَّلًا فِي اللِّبَاسِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
قَوْلُهُ (فِي مِرْبَدٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ مَكَانُ الْإِبِلِ وَكَأَنَّ الْغَنَمَ أُدْخِلَتْ فِيهِ مَعَ الْإِبِلِ.
قَوْلُهُ (وَهُوَ يَسِمُ شَاةً) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ شَاءً بِالْهَمْزِ وَهُوَ جَمْعُ شَاةٍ مِثْلُ شِيَاهٍ، وَسَيَأْتِي فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي اللِّبَاسِ بِلَفْظِ وَهُوَ يَسِمُ الظَّهْرَ الَّذِي قَدِمَ عَلَيْهِ وَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
ذَلِكَ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ مِنْ غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ، وَالْمُرَادُ بِالظَّهْرِ الْإِبِلُ، وَكَأَنَّهُ كَانَ يَسِمُ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَصَادَفَ أَوَّلَ دُخُولِ أَنَسٍ وَهُوَ يَسِمُ شَاةً، وَرَآهُ يَسِمُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعَقِيقَةِ بَيَانُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا.
قَوْلُهُ (حَسِبْتُهُ) الْقَائِلُ شُعْبَةُ، وَالضَّمِيرُ لِهِشَامِ بْنِ زَيْدٍ وَقَعَ مُبَيَّنًا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ (فِي آذَانِهَا) هَذَا مَحَلُّ التَّرْجَمَةِ وَهُوَ الْعُدُولُ عَنِ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ إِلَى الْوَسْمِ فِي الْأُذُنِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْأُذُنَ لَيْسَتْ مِنَ الْوَجْهِ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ فِي جَوَازِ وَسْمِ الْبَهَائِمِ بِالْكَيِّ، وَخَالَفَ فِيهِ الْحَنَفِيَّةُ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ، وَمِنْهُمْ مَنِ ادَّعَى بِنَسْخِ وَسْمِ الْبَهَائِمِ وَجَعَلَهُ الْجُمْهُورُ مَخْصُوصًا مِنْ عُمُومِ النَّهْيِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
36 - بَاب إِذَا أَصَابَ قَوْمٌ غَنِيمَةً فَذَبَحَ بَعْضُهُمْ غَنَمًا أَوْ إِبِلًا بِغَيْرِ أَمْرِ أَصْحَابِهِمْ لَمْ تُؤْكَلْ
لحَدِيثِ رَافِعٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ طَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ فِي ذَبِيحَةِ السَّارِقِ اطْرَحُوهُ
5543 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّنَا نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى فَقَالَ: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلُوهُ، مَا لَمْ يَكُنْ سِنٌّ وَلَا ظُفُرٌ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ. وَتَقَدَّمَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَأَصَابُوا مِنْ الْغَنَائِمِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ النَّاسِ، فَنَصَبُوا قُدُورًا. فَأَمَرَ بِهَا فَأُكْفِئَتْ، وَقَسَمَ بَيْنَهُمْ، وَعَدَلَ بَعِيرًا بِعَشْرِ شِيَاهٍ ثُمَّ نَدَّ بَعِيرٌ مِنْ أَوَائِلِ الْقَوْمِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ خَيْلٌ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ. فَمَا فَعَلَ مِنْهَا هَذَا فَافْعَلُوا مِثْلَ هَذَا.
قَوْلُهُ (بَابُ إِذَا أَصَابَ قَوْمٌ غَنِيمَةً) يُفْتَحُ أَوَّلُهُ وَزْنَ عَظِيمَةٍ.
قَوْلُهُ (فَذَبَحَ بَعْضُهُمْ غَنَمًا أَوْ إِبِلًا بِغَيْرِ أَمْرِ أَصْحَابِهِ لَمْ تُؤْكَلْ لِحَدِيثِ رَافِعٍ) هَذَا مَصِيرٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ إِلَى أَنَّ سَبَبَ مَنْعِ الْأَكْلِ مِنَ الْغَنَمِ الَّتِي طُبِخَتْ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ كَوْنُهَا لَمْ تُقْسَمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَقَوْلُهُ فِيهِ وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ جَزَمَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَرْفُوعِ وَهُوَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ، وَجَزَمَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِ بَيَانِ الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ بِأَنَّهُ مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَاوِي الْخَبَرِ، وَذَكَرَ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ أَكْثَرَ الرُّوَاةِ عَنْ سَعِيدٍ، وَمَسْرُوقٍ أَوْرَدُوهُ عَلَى ظَاهِرِ الرَّفْعِ، وَأَنَّ أَبَا الْأَحْوَصَ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ بَعْدَ قَوْلِهِ أَوْ ظُفُرٌ: قَالَ رَافِعٌ وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ وَنُسِبَتْ ذَلِكَ لِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَهُوَ عَجِيبٌ فَإِنَّ أَبَا دَاوُدَ أَخْرَجَهُ عَنْ مُسَدَّدٍ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ نَسْخِ السُّنَنِ قَوْلُهُ قَالَ رَافِعٌ وَإِنَّمَا فِيهِ كَمَا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ هُنَا بِدُونِهَا، وَشَيْخُ أَبِي دَاوُدَ فِيهِ مُسَدَّدٌ هُوَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ هُنَا، وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا بِلَفْظِ غَيْرِ السِّنِّ وَالظُّفُرِ فَإِنَّ السِّنَّ عَظْمٌ إِلَخْ وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا فِي أَنَّ الْجَمِيعَ مَرْفُوعٌ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ طَاوُسٌ، وَعِكْرِمَةُ فِي ذَبِيحَةِ السَّارِقِ: اطْرَحُوهُ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِهِمَا بِلَفْظِ إِنَّهُمَا سُئِلَا عَنْ ذَلِكَ فَكَرِهَاهَا وَنَهَيَا عَنْهَا وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ فِي ذَبِيحَةِ الْمَرْأَةِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفى قَبْلُ.
37 - بَاب إِذَا نَدَّ بَعِيرٌ لِقَوْمٍ، فَرَمَاهُ بَعْضُهُمْ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، فَأَرَادَ إِصْلَاحَهُمْ، فَهُوَ جَائِزٌ
لِخَبَرِ رَافِعٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
5544 -
حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَنَدَّ بَعِيرٌ مِنْ الْإِبِلِ، قَالَ: فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، قَالَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ لَهَا أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا. قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَكُونُ فِي الْمَغَازِي وَالْأَسْفَارِ، فَنُرِيدُ أَنْ نَذْبَحَ فَلَا تَكُونُ مُدًى. قَالَ: أَرِنْ. مَا نَهَرَ - أَوْ أَنْهَرَ - الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلْ، غَيْرَ السِّنِّ وَالظُّفُرِ، فَإِنَّ السِّنَّ عَظْمٌ، وَالظُّفُرَ مُدَى الْحَبَشَةِ.
قَوْلُهُ (بَابُ إِذَا نَدَّ بَعِيرٌ لِقَوْمٍ فَرَمَاهُ بَعْضُهُمْ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ فَأَرَادَ إِصْلَاحَهُمْ فَهُوَ جَائِزٌ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ إِصْلَاحَهُ وَلِكَرِيمَةَ صَلَاحَهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ بِالْإِفْرَادِ أَيِ الْبَعِيرَ وَضَمِيرُ الْجَمْعِ لِلْقَوْمِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَمَضَى فِي بَابِ ذَبِيحَةِ الْمَرْأَةِ بَحْثٌ فِي خُصُوصِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ أَوْ نَهَرَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَالصَّوَابُ أَنْهَرَ بِالْهَمْزِ، وَقَدْ أَلْزَمَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ التَّنَاقُضَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا. وَأَشَارَ إِلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ، وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ بِالتَّذْكِيَةِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الَّذِينَ ذَبَحُوا فِي الْقِصَّةِ الْأُولَى ذَبَحُوا مَا لَمْ يُقْسَمْ لِيَخْتَصُّوا بِهِ فَعُوقِبُوا بِحِرْمَانِهِ إِذْ ذَاكَ حَتَّى يُقْسَمَ، وَالَّذِي رَمَى الْبَعِيرَ أَرَادَ إِبْقَاءَ مَنْفَعَتِهِ لِمَالِكِهِ فَافْتَرَقَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: نَبَّهَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ عَلَى أَنَّ ذَبْحَ غَيْرِ الْمَالِكِ إِذَا كَانَ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي كَمَا فِي الْقِصَّةِ الْأُولَى فَاسِدٌ، وَأَنَّ ذَبْحَ غَيْرِ الْمَالِكِ إِذَا كَانَ بِطَرِيقِ الْإِصْلَاحِ لِلْمَالِكِ خَشْيَةَ أَنْ تَفُوتَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ لَيْسَ بِفَاسِدٍ.
38 - بَاب إِذَا أَكَلَ الْمُضْطَرُّ لِقَوْلِه تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}
وَقَالَ {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} وَقَوْلِهِ {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ * وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا {لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَالَ {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
قَوْلُهُ (بَابُ إِذَا أَكَلَ الْمُضْطَرُّ) أَيْ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا:
فِي الْحَالَةِ الَّتِي يَصِحُّ الْوَصْفُ بِالِاضْطِرَارِ فِيهَا لِيُبَاحَ الْأَكْلُ.
وَالثَّانِي: فِي مِقْدَارِ مَا يُؤْكَلُ.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنْ يَصِلَ بِهِ الْجُوعُ إِلَى حَدِّ الْهَلَاكِ أَوْ إِلَى مَرَضٍ يُفْضِي إِلَيْهِ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ تَحْدِيدُ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ فِي الْمَيْتَةَ سُمِّيَّةً شَدِيدَةً فَلَوْ أَكَلَهَا ابْتِدَاءً لَأَهْلَكَتْهُ، فَشُرِعَ لَهُ أَنْ يَجُوعَ لِيَصِيرَ فِي بَدَنِهِ بِالْجُوعِ سُمِّيَّةٌ أَشَدُّ مِنْ سُمِّيَّةِ الْمَيْتَةِ فَإِذَا أَكَلَ مِنْهَا حِينَئِذٍ لَا يَتَضَرَّرُ اهـ، وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ حَسَنٌ بَالِغٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى {مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} وَقَدْ فَسَّرَهُ قَتَادَةُ بِالْمُتَعَدِّي وَهُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى، وَقَالَ غَيْرُهُ الْإِثْمُ أَنْ يَأْكُلَ فَوْقَ سَدِّ الرَّمَقِ، وَقِيلَ فَوْقَ الْعَادَةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ. ثُمَّ مَحِلُّ جَوَازِ الشِّبَعِ أَنْ لَا يَتَوَقَّعَ غَيْرَ الْمَيْتَةِ عَنْ قُرْبٍ، فَإِنْ تَوَقَّعَ امْتَنَعَ إِنْ قَوِيَ عَلَى الْجُوعِ إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ، وَذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشِّبَعِ مَا يَنْتَفِي الْجُوعُ لَا الِامْتِلَاءُ حَتَّى لَا يَبْقَى لِطَعَامٍ آخَرَ مَسَاغٌ فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ. وَاسْتَشْكَلَ بِمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ الْعَنْبَرِ حَيْثُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا، قَالَ فَأَكَلْنَا حَتَّى سَمِنَّا وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ مَبْسُوطًا.
قَوْلُهُ (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} - إِلَى قَوْلِهِ - {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ مَا حُذِفَ، وَقَوْلُهُ {غَيْرَ بَاغٍ} أَيْ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَجَعَلَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْبَغْيِ الْعِصْيَانَ فَمَنَعُوا الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ وَقَالُوا: طَرِيقُهُ أَنْ يَتُوبَ ثُمَّ يَأْكُلَ، وَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ مُطْلَقًا.
قَوْلُهُ (وَقَالَ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} أَيْ مَجَاعَةٍ {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ} أَيْ مَائِلٍ.
قَوْلُهُ (وَقَوْلُهُ {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} زَادَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا إِلَى قَوْلِهِ {مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} وَفِيهِ نُسْخَةٌ إلَى بِالْمُعْتَدِينَ وَبِهِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ ذَلِكَ هُنَا، وَإِطْلَاقُ الِاضْطِرَارِ هُنَا تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ أَجَازَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ لِلْعَاصِي وَحَمَلَ الْجُمْهُورُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الْآيَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ.
قَوْلُهُ (وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} سَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ {غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ أَيْضًا وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ {فَمَنِ اضْطُرَّ} .
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُهْرَاقًا) أَيْ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمَسْفُوحَ بِالْمُهْرَاقِ، وَهُوَ مَوْصُولٌ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ (وَقَوْلُهُ: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا} كَذَا ثَبَتَ هُنَا لِكَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ، وَسَاقَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ إِلَى قَوْلِهِ {خِنْزِيرٍ} ثُمَّ قَالَ إِلَى قَوْلِهِ {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قَالَ الْكِرْمَانِيُّ وَغَيْرُهُ: عَقَدَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ لِلتَّرْجَمَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا حَدِيثًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الَّذِي وَرَدَ فِيهَا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ عَلَى شَرْطِهِ، فَاكْتَفَى بِمَا سَاقَ فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بُيِّضَ فَانْضَمَّ بَعْضُ ذَلِكَ إِلَى بَعْضٍ عِنْدَ تَبْيِيضِ الْكِتَابِ. قُلْتُ: وَالثَّانِي أَوْجَهُ، وَاللَّائِقُ بِهَذَا الْبَابِ عَلَى شَرْطِهِ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ الْعَنْبَرِ، فَلَعَلَّهُ قَصَدَ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ طَرِيقًا أُخْرَى.
خَاتِمَةٌ:
اشْتَمَلَ كِتَابُ الذَّبَائِحِ وَالصَّيْدِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَتِسْعِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا أَحَدٌ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّهْيِ عَنْ أَنْ تُصْبَرَ الْبَهِيمَةُ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ، وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِي النَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو فِي الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّهْيِ عَنْ ضَرْبِ الصُّورَةِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَثَرًا، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
تَمَّ الْجُزْءُ التَّاسِعُ وَيَلِيهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْجُزْءُ الْعَاشِرُ وَأَوَّلُهُ (كِتَابُ الْأَضَاحِي) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا.