الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الإيمان
فصل
(1)
.
قال البخاري: الإيمان قول وفعل.
قال زين الدين ابن رجب رحمه الله.
وأكثر العلماء قالوا: هو قول وعمل. وهذا كله إجماع من السلف وعلماء أهل الحديث. وقد حكى الشافعي إجماع الصحابة والتابعين عليه وحكى أبو ثور الإجماع عليه أيضا.
وقال الأوزراعي: كان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل وحكاه غير واحد من سلف العلماء عن أهل السنة والجماعة. وممن حكى ذلك عن أهل السنة والجماعة: الفضيل بن عياض، ووكيع بن الجراح.
وممن روي عنه أن الإيمان قول وعمل: الحسن، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، وهو قول الثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، ومالك، والشافعي، وأحمد
(2)
، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور وغيرهم حتى قال كثير منهم:
(1)
اعتاد بن رجب - رحمه الله تعالى - في " كتاب الإيمان " أن يضع كلمة "فصل " بدلا من " باب" وأحيانا يذكر " فصل " ولا يذكر اسم "الترجمة "، مثل ذلك: باب (4)" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده "، وباب (6)" إطعام الطعام من الإيمان " وباب (7)" من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه "، وغير ذلك من الأمثلة، وأحيانا يذكر كلمة " فصل " ويعقبها بكلمة "باب" ويذكر الترجمة كاملة مثل باب (113)، وأحيانا يذكر الترجمة داخل الشرح راجع باب (15)، لذلك وجب التنبيه. .
(2)
راجع جل هذه الأقوال في " الشريعة " للآجري (ص: 120 - 132).
إن الرقبة المؤمنة لا تجزىء في الكفارة حتى يؤخذ منها الإقرار وهو الصلاة والصيام، منهم الشعبي، والنخعي، وأحمد في رواية. وخالف في ذلك طوائف من علماء أهل الكوفة والبصرة وغيرهم، وأخرجوا الأعمال من الإيمان وقالوا: الإيمان: المعرفة مع القول.
وحدث بعدهم من يقول: الإيمان: المعرفة خاصة، ومن يقول: الإيمان: القول خاصة.
والبخاري عبر عنه بأنه: قول وفعل. والفعل: من الناس من يقول: هو مرادف للعمل. ومنهم من يقول: هو أعم من العمل. فمن هؤلاء من قال: الفعل يدخل فيه القول وعمل الخوارج، والعمل لا يدخل فيه القول على الإطلاق. ويشهد لهذا: قول عبيد بن عمير: ليس الإيمان بالتمني، ولكن الإيمان قول يفعل، وعمل يعمل. خرجه الخلال
(1)
.
ومنهم من قال: العمل: ما يحتاج إلى علاج ومشقة، والفعل: أعم من ذلك. ومنهم من قال: العمل: ما يحصل منه تأثير في المعمول كعمل الطين آجرا، والفعل أعم من ذلك.
(1)
في " السنة "(1212) وفيه ابن لهيعة.
ومنهم من قال: العمل أشرف من الفعل، فلا يطلق العمل إلا على ما فيه شرف ورفعة بخلاف الفعل، فإن مقلوب عمل: لمع، ومعناه ظهر وأشرف.
وهذا فيه نظر، فإن عمل السيئات يسمى أعمالا كما قال تعالي {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] وقال {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} [غافر: 40] ولو قيل عكس هذا لكان متوجها، فإن الله تعالى إنما (177 - أ / ف) يضيف إلى نفسه الفعل كقوله تعالى {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا} [إبراهيم: 45] ، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَاد} [الفجر: 6] {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} ، {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} [الحج: 18] .
وإنما أضاف العمل إلى يديه كما قال {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71] وليس المراد هنا الصفة الذاتية - بغير إشكال - وإلا استوى خلق الأنعام وخلق آدم عليه السلام. واشتق سبحانه لنفسه أسماء من الفعل دون العمل، قال تعالى {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] .
ثم قال البخاري رحمه الله: ويزيد وينقص. قال الله عز وجل {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]، {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76] ، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد: 17] ، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] ،
وقوله عز وجل {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة: 124] وقوله {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران: 173]، وقوله {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22] .
زيادة الإيمان ونقصانه قول جمهور العلماء. وقد روى هذا الكلام عن طائفة من الصحابة كأبي الدرداء وأبي هريرة، وابن عباس
(1)
وغيرهم من الصحابة. وروي معناه عن علي، وابن مسعود - أيضا -، وعن مجاهد، وغيره من التابعين. وتوقف بعضهم في نقصه، فقال: يزيد ولا يقال: ينقص
(2)
وروي ذلك عن مالك، والمشهور عنه كقول الجماعة
(3)
. وعن ابن المبارك قال: الإيمان يتفاضل
(4)
.، وهو معنى الزيادة والنقص. وقد تلا البخاري الآيات التي ذكر فيها زيادة الإيمان وقد استدل بها على زيادة الإيمان أئمة السلف قديما، منهم: عطاء بن أبي رباح فمن بعده. وتلا البخاري - أيضا - الآيات التي ذكر فيها زيادة الهدى، فإن المراد بالهدى هنا: فعل الطاعات كما قال تعالى بعد وصف المتقين بالإيمان
(1)
" الشريعة "(ص: 111) .
(2)
انظر " السنة " للخلال 976 - 979.
(3)
" السنة " للخلال: (1014)، و"الشريعة " (ص:118) .
(4)
السنة " للخلال _ (1018) .
بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم وبالإيمان بما أنزل إلى محمد وإلى من قبله باليقين بالآخرة ثم قال {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 5] ، فسمى ذلك كله هدى، فمن زادت طاعته فقد زاد هداه.
ولما كان الإيمان يدخل فيه المعرفة بالقلب والقول والعمل كله كانت زيادته بزيادة الأعمال ونقصانه بنقصانها. وقد صرح بذلك كثير من السلف فقالوا: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. فأما زيادة الإيمان بزيادة القول ونقصانه بنقصانه: فهو كالعمل بالجوارح - أيضا -، فإن من زاد ذكره لله وتلاوته لكتابه زاد إيمانه، ومن ترك الذكر الواجب بلسانه نقص إيمانه.
وأما المعرفة بالقلب: فهل تزيد وتنقص؟ على قولين: أحدهما: أنها لا تزيد ولا تنقص. قال يعقوب بن بختان
(1)
: سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن المعرفة والقول: يزيد وينقص؟ قال: لا، قد جئنا بالقول والمعرفة وبقي العمل. ذكره أبو الخلال في كتاب " السنة
(2)
" ومراده بالقول: التلفظ بالشهادتين خاصة. وهذا قول طوائف من الفقهاء والمتكلمين.
(1)
هو يعقوب بن إسحاق بن بختان. له ترجمة في: طبقات الحنابلة " (1/415) .
(2)
(1007) .
والقول الثاني: أن المعرفة تزيد وتنقص.
قال المروذي: قلت لأحمد في معرفة الله بالقلب تتفاضل فيه؟ قال: نعم، قلت: ويزيد؟ قال: نعم.
ذكره الخلال عنه
(1)
، وأبو بكر عبد العزيز في كتاب "السنة " - أيضا -، عنه وهو الذي ذكره القاضي أبو يعلي من أصحابنا في كتاب " الإيمان، وكذلك ذكره أبو عبد الله بن حامد. وحكى القاضي - في " المعتمد " - وابن عقيل في المسألة روايتان
(2)
عن أحمد، وتأولا رواية أنه لا يزيد ولا ينقص. وتفسر زيادة المعرفة بمعنيين:
أحدهما: زيادة المعرفة بتفاصيل أسماء الله وصفاته وأفعاله وأسماء الملائكة والنبيين والكتب المنزلة عليهم وتفاصيل اليوم الآخر. وهذا ظاهر لا يقبل نزاعا.
والثاني: زيادة المعرفة بالوحدانية بزيادة معرفة أدلتها (177 - ب/ف) ، فإن أدلتها لا تحصر، إذ كل ذرة من الكون فيها دلالة على وجود الخالق ووحدانيته، فمن كثرت معرفته بهذه الأدلة زادت معرفته على من ليس كذلك. وكذلك المعرفة بالنبوات واليوم الآخر والقدر وغير ذلك من الغيب الذي يجب الإيمان به، ومن هنا فرق النبي صلي الله عليه وسلم بين مقام الإيمان ومقام
(1)
في " السنة "، (1004) .
(2)
كذا، والجادة " روايتين "
الإحسان، وجعل مقام الإحسان أن يعبد العبد ربه كأنه يراه، والمراد: أن ينور قلبه بنور الإيمان حتى يصير الغيب عنده مشهودا بقلبه كالعيان
(1)
.
وقد ذكر محمد بن نصر المروزي في " كتابه " أن التصديق يتفاوت وحكاه عن الحسن، والعلماء
(2)
وهذا يشعر إجماع عنده.
ومما يدل على ذلك أيضا _: ما روى ابن وهب: أنا عبد الرحمن بن ميسرة، عن أبي هانيء الخولاني، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال:" إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخلق، فسلوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم ".
خرجه الحاكم
(3)
، وقال: صحيح الإسناد
(4)
.
ثم قال البخاري رحمه الله: والحب في الله والبغض في الله من الإيمان.
وهذا يدل عليه: قول النبي صلي الله عليه وسلم " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان
(5)
وذكر منهن: " أن يحب المرء لا يحبه إلا لله ". وإذا كان الحب في الله والبغض في الله زاد الإيمان بزيادة ذلك ونقص بنقصانه.
قال البخاري: وكتب عمر بن عبد العزيز إلي عدي بن عدي: إن للإيمان فرائض
(1)
وسيحيل المصنف - رحمه الله تعالى - على هذا الوضع (ص: 90، 172) عند شرحه للحديث رقم: 020) ، (44) .
(2)
" تعظيم قدر الصلاة "(2/760 - 761) .
(3)
" المستدرك "(1/4) .
(4)
عبارة الحاكم عقب الحديث: " هذا حديث لم يخرج في الصحيحين ورواته مصريون ثقات
…
"
(5)
سيأتي (16)
وشرائع
(1)
وحدودا وسننا، فمن استكملها فقد استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن مت فما أنا على صحبتكم بحريص. هذا الأثر: خرجه أبو بكر الخلال في كتاب " السنة "
(2)
من رواية جرير بن حازم: حدثني عيسى بن عاصم، عن عدي بن عدي - وهو يومئذ أمير
(3)
على أرمينية - قال: كتب إلي عمر بن عبد العزيز: سلام عليك أما بعد، فإن للإيمان شرائع وحدودا وسننا، من استكملها استكمل الإيمان، فإن أعش فيكم أبينها لكم حتى تعملوا بها - إن شاء الله، وإن مت فوالله ما أنا على صحبتكم بحريص.
قال البخاري: وقال إبراهيم عليه السلام
(4)
{وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}
وقد فسرها سعيد بن جبير بالازدياد من الإيمان، فإنه قال له:{أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] فطلب زيادة في إيمانه، فإنه طلب أن ينتقل من درجة علم اليقين إلى درجة عين اليقين وهي أعلى وأكمل.
وفي " المسند " "
(5)
عن ابن عباس، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " ليس الخبر
(1)
وضع في " ف" علامتي لحق بعد كلمتي " شرائع "، و:" حدودا "، وفي الهامش:"وسننا " والموافق لـ " اليونينية " وضعها بعد " حدودا " كما أثبتناه.
(2)
(1162) ، وكذا (1553) ، وانظر " المصنف " لابن أبي شيبة (11/48 - 49) .
(3)
طمس حرف الألف من كلمة " أمير " في "ف".
(4)
في رواية الأصيلي كما في فرع اليونينية ": صلى الله عليه وسلم قاله القسطلاني في " إرشاد السماري" (1/88) .
(5)
" المسند "(1/271) .
كالمعاينة ".
قال البخاري: وقال معاذ: اجلس بنا نؤمن ساعة.
هذا الأثر: رواه سفيان الثوري والأعمش ومسعر - كلهم -، عن جامع بن شداد، عن الأسود بن هلال قال: قال معاذ بن جبل لرجل: اجلس نؤمن ساعة - يعني نذكر الله
(1)
.
وقد روي مثله عن طائفة من الصحابة، فروى زبيد، عن زر بن حبيش قال: كان عمر بن الخطاب يقول لأصحابه: هلموا نزداد إيمانا، فيذكرون الله. وروى أبو جعفر الخطمي، عن أبيه، عن جده عمير بن حبيب بن حماسة "
(2)
- وهو من الصحابة - أنه قال: إن الإيمان يزيد وينقص، قالوا:
(1)
أخرجه ابن ابي شيبة في " مصنفه "(11/25 - 26) ، من طريق الأعمش، عن جامع، به، وأبو عبيد في كتابه " الإيمان "(رقم /20) من طريق سفيان، عن جامع، به، والخلال في " السنة "(1121) من طريق الأعمش، ومسعر، عن جامع به.
(2)
كذا في " ف" بالحاء المهملة، ولم يعجم السين ولم يضع عليها علامة الإهمال فلعله أراد " حماشة " وفي كلا الحالتين خطأ وصوابه:" خماشة " بضم الخاء المعجمة، كذلك قال ابن ماكولا في " إكماله " (3/192) وقال:" ومن قال فيه: حماشة - بحاء مهملة - فقد غلط "، وذكره بالمعجمة: الدارقطني في " والمؤتلف والمختلف"، (2/922) ، وجاء في " التاريخ الكبير "(06/531) بالمعجمة، وفي " الجرح "(6/375) بالمهملة، وقال: ويقال: " ابن خباشة "(كذا)، وذكر الخلاف في اسمه: ذهبي العصر الشيخ المعلمي في تعليقه على " الإكمال "(6/284 - 285)، ثم قال:".. هذا والمراجع مختلفة في حباشة وخماشة ولا أرى داعيا لبيان ذلك " ووقع في " الإكمال " في ضبط " خماشة " قال: بضم الخاء والميم.
وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه
(1)
.
فزيادة الإيمان بالذكر من وجهين:
أحدهما: أنه يجدد من الإيمان والتصديق (178 - أ/ف) في القلب ما درس منه بالغفلة كما قال بن مسعود: الذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع. وفي " المسند "
(2)
عن أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " جددوا إيمانكم " قالوا: كيف نجدد إيماننا؟ قال: " قولوا: لا إله إلا الله ".
والثاني: أن الذكر نفسه من خصال الإيمان، فيزداد الإيمان بكثرة الذكر، فإن جمهور أهل السنة على أن الطاعات كلها من الإيمان فرضها ونفلها، وإنما أخرج النوافل من الإيمان قليل منهم.
قال البخاري: وقال ابن مسعود: اليقين: الإيمان كله.
هذا الأثر: رواه الأعمش، عن أبي ظبيان، عن علقمة، عن ابن مسعود
(3)
.
(1)
ابن أبي شيبة في " مصنفه "(11/139) وابن سعد (4/381) وذكر الاختلاف في اسمه.
(2)
(2/359) .
(3)
أخرجه البيهقي في " الزهد "(ص/361) مرفوعا، ثم أورد الموقوف: وقال: " هذا هو الصواب موقوف " وأخرجه الخطيب مرفوعا في " التاريخ "(13/226) ، " وأشار" في " الحلية ") 5/34) إلي إعلاله ورجح الحافظ وقفه في " التغليق "(2/21 - 22) .
واليقين: هو العلم الحاصل للقلب بعد النظر والاستدلال، فيوجب قوة التصديق حتى ينفي الريب ويوجب طمأنينة القلب بالإيمان وسكونه وارتياحه به، وقد جعله ابن مسعود الإيمان كله. وكذا قال الشعبي - أيضا.
وهذا مما يتعلق به من يقول: إن الإيمان مجرد التصديق
(1)
، حيث جعل اليقين: الإيمان كله، فحصره في اليقين، ولكن لم يرد ابن مسعود أن ينفي الأعمال من الإيمان، إنما مراده: أن اليقين هو أصل الإيمان كله، فإذا أيقن القلب بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر انبعثت الجوارح كلها للاستعداد للقاء الله تعالى بالأعمال الصالحة فنشأ ذلك كله عن اليقين.
قال الحسن البصري: ما طلبت الجنة إلا باليقين ولا هرب من النار إلا باليقين، ولا أديت الفرائض إلا باليقين، ولا صبر على الحق إلا باليقين
(2)
. وقال سفيان الثوري: لو أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي لطارت القلوب اشتياقا إلى الجنة وخوفا من النار
(3)
.
(1)
أشار إلى هذا الموضع وما قبله (ص94) عند شرحه للحديث رقم: (22) .
(2)
" اليقين " لابن أبي الدنيا (ص: 102) .
(3)
" الحلية "(7/17) .
ويذكر عن لقمان قال: العمل لا يستطاع إلا باليقين، ومن يضعف يقينه يضعف عمله
(1)
. قال عبد الله بن عكيم: سمعت ابن مسعود يقول في دعائه: اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفهما.
قال البخاري: وقال ابن عمر: لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر.
قال زين الدين ابن رجب: هذا الأثر لم أقف عليه إلى الآن في غير كتاب البخاري
(2)
، وقد روي معناه مرفوعا. وموقوفا على أبي الدرداء. فخرج الترمذي، وابن ماجه من حديث عطية السعدي، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال:" لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس "
(3)
وفي إسناده بعض مقال. وروى ابن ابي الدنيا بإسناد منقطع، عن أبي الدرداء قال: تمام التقوى: أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما، حجابا بينه وبين الحرام
(4)
.
وإنما ذكر البخاري هذا الأثر في الباب، لأن خصال التقوى هي
(1)
" اليقين " لابن أبي الدنيا (ص: 116) .
(2)
وكذا قال الحافظ في " تغيلق التعليق "(2/24) .
(3)
الترمذي (2451) ، وابن ماجه (4215) .
(4)
انظره في " الزهد " لابن المبارك (ص:19) من زوائد نعيم، وراجع " توضيح المشتبه "(3/442) .
خصال الإيمان، وقد صح عن مجاهد أن أبا ذر سأل النبي صلي الله عليه وسلم عن الإيمان فقرأ:{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} [البقرة: 177] إلى آخر الآية.
وهذا مرسل. وقد روي من وجه آخر، وفيه انقطاع - أيضا. قال البخاري: وقال مجاهد: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} : أوصيناك وإياه يا محمد
(1)
دينا واحدا
(2)
.
روى ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] قال: وصاك به وأنبياءه كلهم دينا واحدا
(3)
.
ومعنى ذلك: أن دين الأنبياء كلهم دين واحد وهو الإسلام العام المشتمل على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وعلى
(1)
في " اليونينية ": " يا محمد وإياه ".
(2)
نقل ابن حجر في " الفتح "(2/48) عن شيخه البلقيني أنه قال: " وقع في أصل " الصحيح " في جميع الروايات في أثر مجاهد هذا تصحيف قل من تعرض لبيانه، وذلك أن لفظه: وقال مجاهد: شرع لكم: أوصيناك يا محمد وإياه دينا واحدا. والصواب أوصاك يا محمد وأنبياءه. كذا أخرجه عبد بن حميد والفريابي والطبري وابن المنذر في " تفاسيرهم "، وبه يستقيم الكلام " ا. هـ ورد على هذا الزعم القسطلاني في " إرشاد الساري "(1/89) فراجعه. وراجع رد العيني - كعادته - على الحافظ في " العمدة "(1/132) وأخيرا " انتقاص الاعتراض " للحافظ (1/20 - 21) .
(3)
أخرجه الطبري في " تفسيره "(25/10) .
توحيد الله وإخلاص الدين له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة كما قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 4، 5] .
والدين: هو الإسلام - كما صرح به في مواضع أخر -، وإذا أطلق الإسلام دخل فيه الإيمان وبالعكس. وقد استدل على أن الأعمال تدخل في الإيمان بهذه الآية، وهي قوله:{وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} طوائف من الأئمة، منهم الشافعي، وأحمد
(1)
، والحميدي
(2)
، وقال الشافعي: ليس عليهم أحج من هذه الآية
(3)
.
واستدل الأوزاعي
(4)
بقوله تعالى {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} إلى قوله {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا} (الشورى: 13)، وقال: الدين: الإيمان والعمل، واستدل بقوله تعالى {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة: 11) . وقد ذكر الخلال في كتاب " السنة " أقوال هؤلاء الأئمة بألفاظهم بالأسانيد إليهم.
قال البخاري: وقال ابن عباس: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] سبيلا وسنة.
(1)
" السنة " للخلال (1036) .
(2)
" السنة " للخلال (1027) .
(3)
" السنة " للخلال (1038) .
(4)
" السنة " للخلال (1025) .
وهذا من رواية أبي إسحاق، عن التيمي، وعن ابن عباس شرعة ومنهاجا: سبيلا وسنة
(1)
.
ومعنى قول ابن عباس: أن المنهاج هو السنة، وهو الطريق الواسعة المسلوكة المداوم عليها، والشرعة: هي السبيل والطريق الموصل إليها، فهي كالمدخل إليها كمشرعة الماء وهي المكان الذي يورد الماء منه، ويقال: شرع فلان في كذا إذا ابتدأ فيه، وأنهج البلاء في الثوب إذا اتسع فيه. وبذلك فرق طائفة من المفسرين وأهل اللغة بين الشريعة والمنهاج، منهم الزجاج وغيره.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في " تفسيره: (1/187) ، والطبري في " تفسيره " (6/175) - من طريق سفيان وغيره عن أبي إسحاق.
1 -
فصل
(1)
قال الله تعالى
(2)
{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77] قال البخاري: ومعنى الدعاء في اللغة الإيمان.
اعلم أن أصل الدعاء في اللغة: الطلب، فهو استدعاء لما يطلبه الداعي ويؤثر حصوله، فتارة يكون الدعاء بالسؤال من الله عز وجل والابتهال إليه كقول الداعي: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، وتارة يكون بالإتيان بالأسباب التي تقتضي حصول المطالب وهو الاشتغال بطاعة الله وذكره وما يجب من عبده أن يفعله وهذا هو حقيقة الإيمان.
وفي " السنن الأربعة" عن النعمان بن بشير، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال:" إن الدعاء هو العبادة "
(3)
ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] .
فما استجلب العبد من الله ما يحب واستدفع منه ما يكره بأعظم من اشتغاله بطاعة الله وعبادته وذكره وهو حقيقة الإيمان، فإن الله يدفع عن الذين آمنوا.
(1)
باب " دعاؤكم إيمانكم ".
(2)
في " اليونينية ": " لقوله عز وجل ".
(3)
أبو داود (1479) ، والنسائي في " الكبرى (6/450) ، والترمذي (2969، 3247، 3372) ، وابن ماجه (3828) من طريق ذر، عن يسيع، عن النعمان به، وقد تفرد به ذر كما نص عليه الترمذي وغيره، واستشكل البخاري سماع يسيع من النعمان في " التاريخ " (8/425) .
وفي الترمذي " عن أبي سعيد عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " يقول الرب عز وجل: من شغله القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين "
(1)
. وقال بعض التابعين: لو أطعتم الله ما عصاكم، يعني: ما منعكم شيئا تطلبونه منه. وكان سفيان يقول: الدعاء ترك الذنوب - يعني: الاشتغال بالطاعة عن المعصية. وأما قوله تعالى {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77] فيه للمفسرين قولان: أحدهما: أن المراد: لولا دعاؤكم إياه، فيكون الدعاء بمعنى الطاعة - كما ذكرنا.
والثاني: لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته كما في قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . أي: لأدعوهم إلى عبادتي. (179 - أ /ف) .
وإنما اختلف المفسرون في ذلك، لأن المصدر يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول أخرى.
فصل
خرج البخاري من حديث:
(1)
الترمذي (2926) ، وانظره في " الموضوعات "(3/166) ، و" للآلي "(2/343) .
8 -
عكرمة بن خالد عن ابن عمر، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال:" بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان ". وهذا الحديث دل على أن الإسلام مبني على خمس أركان، وهذا يدل على أن البخاري يرى أن الإيمان والإسلام مترادفان.
ومعنى قوله صلي الله عليه وسلم " بني الإسلام على خمس ": أن الإسلام مثله كبنيان، وهذه الخمس: دعائم البنيان وأركانه التي يثبت عليها البنيان. وقد روي في لفظ: " بني الإسلام على خمس دعائم ". خرجه محمد بن نصر المروزي
(1)
.
وإذا كانت هذه دعائم البنيان وأركانه، فبقية خصال الإسلام كبقية البنيان، فإذا فقد شيء من بقية الخصال الداخلة في مسمى الإسلام الواجب نقص البنيان ولم يسقط بفقده. وأما هذه الخمس، فإذا زالت كلها سقط البنيان ولم يثبت بعد زوالها وكذلك (إن)
(2)
زال منها الركن الأعظم وهو الشهادتان، وزوالهما يكون بالإتيان بما يضادهما ولا يجتمع معهما. وأما زوال الأربع البواقي: فاختلف العلماء هل يزول الاسم بزوالها أو بزوال واحد منها؟ أم لا يزول بذلك؟ أم يفرق بين الصلاة وغيرها فيزول بترك الصلاة دون غيرها؟ أم يختص زوال الإسلام بترك الصلاة والزكاة خاصة.
(1)
في " تعظيم قدر الصلاة "(1/ 419) .
(2)
ما بين المعقوفين طمس في "ف " ولم يظهر منه إلا حرف " ن " ولعلها كما أثبتناها.
وفي ذلمك اختلاف مشهور، وهذه الأقوال كلها محكية عن الإمام أحمد
(1)
وكثير من علماء أهل الحديث يرى تكفير تارك الصلاة.
وحكاه إسحاق بن راهويه
(2)
إجماعا منهم حتى إنه جعل قول من قال: لا يكفر بترك هذه الأركان مع الإقرار بها من أقوال المرجئة. وكذلك قال سفيان بن عيينه: المرجئة سموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم، وليسا سواء، لأن ركوب المحارم متعمدا من غير استحلال: معصية، وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر: هو كفر. وبيان ذلك في أمر آدم وإبليس وعلماء اليهود الذين أقروا ببعث النبي صلي الله عليه وسلم ولم يعملوا بشرائعه. وروي عن عطاء ونافع مولى ابن عمر أنهما سئلا عمن قال: الصلاة فريضة ولا أصلي، فقالا: هو كافر. وكذا قال الإمام أحمد.
ونقل حرب عن إسحاق قال: غلت المرجئة حتى صار من قولهم: إن قوما يقولون: من ترك الصلوات المكتوبات وصوم رمضان والزكاة والحج وعامة الفرائض من غير جحود لها لا نكفره، يرجى أمره إلى الله بعد، إذ هو مقر، فهؤلاء الذين لا شك فيهم - يعني في أنهم مرجئة. وظاهر هذا: أنه يكفر بترك هذه الفرائض.
(1)
راجع " المسائل والرسائل عن الإمام أحمد في العقيدة "(2/36، 48، 51) .
(2)
" تعظيم قدر الصلاة "(2/929 - 931) .
وروى يعقوب الأشعري، عن ليث، عن سعيد بن جبير قال: من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر، ومن أفطر يوما في رمضان (179 - ب/ف) فقد كفر، ومن ترك الحج متعمدا فقد كفر، ومن ترك الزكاة متعمدا فقد كفر
(1)
.
ويروى عن الحكم بن عتيبة نحوه، وحكى رواية عن أحمد - اختارها أبو بكر من أصحابه -، وعن عبد الملك بن حبيب المالكي مثله، وهو قول أبي بكر الحميدي
(2)
.
وروي عن ابن عباس التكفير ببعض هذه الأركان دون بعض، فروى مؤمل، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن مالك النكري، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس - ولا أحسبه إلا رفعه - قال: " عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وصوم رمضان، من ترك منها واحدة فهو بها كافر حلال الدم، وتجده كثير المال لم يحج فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل دمه، وتجده كثير المال لا يزكي فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل دمه
(3)
. ورواه قتيبة عن حماد بن زيد فوقفه واختصره ولم يتمه. ورواه سعيد بن زيد - أخو حماد - عن عمرو بن مالك ورفعه، وقال: " من ترك منهن واحدة فهو بالله كافر، ولا يقبل منه صرف ولا
(1)
" تعظيم قدر الصلاة "(2/889) ، اخرج الجزء الخاص بالصلاة.
(2)
راجع آخر " المسند " له (2/ 547) .
(3)
أبو يعلى في " مسنده "(4/ 236) .
عدل وقد حل دمه وماله " ولم يزد على ذلك.
والأظهر: وقفه على ابن عباس، فقد جعل ابن عباس ترك هذه الأركان كفرا، لكن بعضها كفرا يبيح الدم وبعضها لا يبيحه، وهذا يدل على أن الكفر بعضه ينقل عن الملة وبعضه لا ينقل.
وأكثر أهل الحديث على أن ترك الصلاة كفر دون غيرها من الأركان كذلك حكاه محمد بن نصر المروزي
(1)
وغيره عنهم. وممن قال بذلك: ابن المبارك، وأحمد - في المشهور عنه -، وإسحاق، وحكى عليه إجماع أهل العلم - كما سبق - وقال أيوب: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه. وقال عبد الله بن شقيق: كان أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.
خرجه الترمذي
(2)
.
وقد روي عن علي وسعد وابن مسعود وغيرهم قالوا: من ترك الصلاة فقد كفر. وقال عمر: لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة
(3)
.
وفي صحيح مسلم " عن جابر عن النبي صلي الله عليه وسلم قال " " بين الرجل
(1)
" تعظيم قدر الصلاة "، (2/ 925 - 936) .
(2)
(2622) .
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه "(11/25) ، وعبد الرزاق (3/125) ، والآجري في " الشريعة "(34) والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة "(2/892) . انظر "علل الدارقطني "(2/209 - 212) .
وبين الشرك والكفر: ترك الصلاة "
(1)
.
وخرج النسائي والترمذي وابن ماجه من حديث بريدة، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال " العهد الذي بيننا وبينهم: الصلاة، فمن تركها فقد كفر "
(2)
. وصححه الترمذي وغيره. ومن خالف في ذلك جعل الكفر هنا غير ناقل عن الملة كما في قوله تعالى {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] .
فأما بقية خصال الإسلام والإيمان فلا يخرج العبد بتركها من الإسلام عند أهل السنة والجماعة. وإنما خالف في ذلك الخوارج ونحوهم من أهل البدع.
قال حذيفة: الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والحج سهم، ورمضان سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له. وروي مرفوعا، والموقوف أصح
(3)
.
(1)
مسلم (82) ، ولم يخرج البخاري هذا المتن! .
(2)
النسائي (1/231) ، والترمذي (2621) ، وابن ماجه (1079) .
(3)
رواه أبو إسحاق واختلف عنه، فرواه حبيب بن حبيب، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، واستنكره عليه أبو حاتم وأبو زرعة كما في " العلل " (2/146) وابن عدي في "الكامل " (2/415) والبيهقي في " شعب الإيمان " (6/95) وغيرهم. وحبيب هذا قال فيه أبو زرعة:" واهي الحديث " كما في " الجرح "(3/309) ورواه يزيد بن عطاء، عن أبي إسحاق، عن صلة، عن حذيفة مرفوعا. واستنكروا عليه رفعه إذ خالفه شعبة فرواه موقوفا عند الطاليسي (413) والبزار في " مسنده "(7/330) وغيرهما، وقال أبو داود الطياليسي:" وذكروا أن غير شعبة يرفعه " ا. هـ وقد صحح الوقف كل من: أبي حاتم وأبي ذرعة الرازيان في " العلل "(2/146) والبزار في " مسنده " وقال: " لا نعلم أسنده إلا يزيد بن عطاء، عن أبي إسحاق " ا. هـ. وقد استغرب الدارقطني في " الأفراد " الرفع وقال: " رفعه يزيد بن عطاء، عن أبي إسحاق، وتفرد برفعه " ا. هـ. من أطراف الغرائب " (1994) بتحقيقنا وفي العلل "(3/171) - له - أورده موقوفا عن أصحاب أبي إسحاق وقال: " وهو الأصوب " أ. هـ. وكذا جزم البيهقي في " الشعب " بقوله: " ورواية شعبة أصح " أ. هـ. وقد ذكر المصنف في " جامع العلوم والحكم "(1/74) : أن الموقوف أصح " أ. هـ وهو الصواب حيث تابعه شعبة على الوقف: سفيان الثوري كما عند عبد الرازق في " مصنفه " (3/125) وابن أبي شيبة (11/7) ، وهما أثبت أصحاب أبي إسحاق..هذا وقد روي - أيضا - من طريق حبيب، عن أخيه حمزة الزيات، عن أبي إسحاق، قال الدارقطني في " الأفراد ": " ومن قال فيه عن حبيب، عن أخيه حمزة الزيات، عن أبي إسحاق فقد وهم وهما قبيحا، وأخطأ خطأ عظيما أزهـ " أطراف الغرائب "(275بتحقيقنا ـ 0 وانظره في " العلل " (2/ 146) .
فسائر خصال الإسلام الزائدة على أركانه الخمسة ودعائمه إذا زال منها شيء نقص البنيان ولم ينهدم أصل البنيان بذلك النقص.
وقد ضرب الله ورسوله مثل الإيمان (180 - أ /ف) والإسلام بالنخلة. قال الله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهاَ} [إبراهيم: 23 - 24] .
فالكلمة الطيبة هي كلمة التوحيد وهي أساس الإسلام، وهي جارة على لسان المؤمن وثبوت أصلها هو ثبوت التصديق بها في قلب المؤمن، وارتفاع فرعها في السماء هو علو هذه الكلمة وبسوقها وأنها تحرق
(1)
الحجب ولا تتناهى دون العرش، وإتيانها أكلها كل حين: هو ما يرفع
(1)
كذا في " ف " بالمهملة ولعلها " تخرق " بالمعجمة.
بسببها للمؤمن كل حين من القول الطيب والعمل الصالح، فهو ثمرتها. وجعل النبي صلي الله عليه وسلم مثل المؤمن أو المسلم كمثل النخلة
(1)
.
وقال طاوس: مثل (الإسلام)
(2)
كشجرة أصلها الشهادة، وساقها كذا وكذا، وورقها كذا وكذا، وثمرها: الورع، ولا خير في شجرة لا ثمر لها، ولا خير في إنسان لا ورع فيه
(3)
. ومعلوم أن ما دخل في مسمى الشجرة والنخلة من فروعها وأغصانها وورقها وثمرها إذا ذهب شيء منه لم يذهب عن الشجرة اسمها، ولكن يقال: هي شجرة ناقصة، وغيرها أكمل منها، فإن قطع أصلها وسقطت لم تبق شجرة، وإنما تصير حطبا، فكذلك الإيمان والإسلام إذا زال منه بعض ما يدخل في مسماه مع بقاء أركان بنيانه لا يزول به اسم الإسلام والإيمان بالكلية، وإن كان قد سلب الاسم عنه لنقصه بخلاف ما انهدمت أركانه وبنيانه فإنه يزول مسماه بالكلية، والله أعلم
(1)
إشارة إلى حديث ابن عمر الذي خرجه البخاري (فتح: 61) .
(2)
سقطت كلمة " الإسلام " من " ف " فأثبتناها من الرواية.
(3)
أخرجه عبد الرازق في: مصنفه " (11/161) .
2 -
فصل
في
(1)
أمور الإيمان
قال البخاري:
وقول الله عز وجل {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} إلى قوله {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] وأمور الإيمان: خصاله وشعبه المتعددة.
واستدل البخاري بقوله تعالى {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى
(2)
الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] .
وقد سأل أبو ذر النبي صلي الله عليه وسلم عن الإيمان، فتلا عليه هذه الآية
(3)
.
وهذا يدل على أن الخصال المذكورة فيها هي خصال الإيمان المطلق، فإذا أطلق الإيمان دخل فيه كل ما ذكر في هذه الآية، كما سأل السائل عن الإيمان، فتلا عليه النبي صلي الله عليه وسلم هذه الآية.
وإذا قرن الإيمان بالعمل فقد يكون من باب عطف الخاص على
(1)
كلمة " في " ليست في " اليونينية ".
(2)
في " ف ": " أنا ".
(3)
تق دم إعلاله (ص 17) .
العام، وقد يكون المراد بالإيمان - حينئذ -: التصديق بالقلب، وبالعمل: عمل الجوارح كما ذكر في هذه الآية الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، ثم عطف عليه أعمال الجوارح.
وخرج البخاري من حديث:
9 -
سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة
(1)
، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال:" الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان ".
وخرجه مسلم من هذا الوجه، ولفظه:" بضع وسبعون "
(2)
وخرجه مسلم - أيضا - من رواية جرير، عن سهيل، عن عبد الله بن دينار (180 - ب / ف)، وبه قال في حديثه:" بضع وسبعون - أو بضع وستون "
(3)
- بالشك -، وهذا الشك من سهيل، كذا جاء مصرحا به في " صحيح ابن حبان "
(4)
وغيره. وخرجه مسلم - أيضا - من حديث ابن الهاد، عن عبد الله بن دينار، به وقال في حديثه:" الإيمان سبعون - أو اثنان وسبعون - بابا"
(5)
.
(1)
زاد في " اليونينية ": " رضي الله عنه ".
(2)
مسلم (35/57) . وراجع الاختلاف في ألفاظه في " صيانة صحيح مسلم " لابن الصلاح (ص: 196) .
(3)
مسلم (35 / 58) .
(4)
(الإحسان: 1 /407) .
(5)
بهذا الطريق أخرجه ابن منده في " الإيمان "(1/296) ، ولم نجده في مسلم من المطبوع، ولا عزاه في " التحفة " إليه من هذا الطريق، فإن لم يكن في بعض نسخ " صحيح مسلم " فلعله وهم من المصنف - رحمه الله تعالى
ورواه ابن عجلان، عن عبد الله بن دينار وقال:" ستون 0 أو سبعون ". وروي عنه أنه قال في حديثه: " ستون أو سبعون " أو بضع واحد من العددين
(1)
. وروي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه بهذا اللفظ - أيضا
(2)
.
وروي عنه بلفظ آخر وهو: " الإيمان تسعة - أو سبعة _ وسبعون شعبة ". وخرجه الترمذي من رواية عمارة بن غزية وقال فيه: " الإيمان أربعة وسبعون بابا "
(3)
. وقد روي عن عمارة بن غزية، عن سهيل عن أبيه
(4)
. وسهيل لم يسمع من أبيه، وإنما رواه عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح
(5)
. فمدار الحديث على عبد الله بن دينار، لا يصح عن غيره.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في " الإيمان " - تحقيق الشيخ الألباني - برقم (67) ، ومن طريق ابن ماجة (57) .
(2)
أخرجه ابن منده في " الإيمان "(1/296) ورواه صفوان بن سليم، عن ابن دينار، به. انظر " أطراف الغرائب "(5816) لابن طاهر بتحقيقنا.
(3)
الترمذي (2614) .
(4)
ذكره الدارقطني في " العلل "(8/ 197) .
(5)
قال ابن منده في " الإيمان "(1/ 298) : " وسهيل سمعه من عبد الله بن دينار، عن أبي صالح " ا. هـ.
وقد ذكر العقيلي أن أصحاب عبد الله بن دينار على ثلاث طبقات: أثبات: كمالك وشعبة وسفيان بن عيينه ومشايخ: كسهيل ويزيد بن الهاد وابن عجلان، قال: وفي رواياتهم عن عبد الله بن دينار اضطراب، وقال: إن هذا الحديث لم يتابع هؤلاء المشايخ عليه أحد من الأثبات عن عبد الله بن دينار، ولا تابع عبد الله بن دينار، عن أبي صالح عليه أحد، والطبقة الثالثة: الضعفاء، فيرون عن عبد الله بن دينار المناكير، إلا أن الحمل فيها عليهم
(1)
.
قلت: فد رواه عن عبد الله بن دينار: سليمان بن بلال، وهو ثقة ثبت، وقد خرج حديثه في " الصحيحين ". وأما الاختلاف في لفظ الحديث: فالأظهر أنه من الرواة كما جاء التصريح في بعضه بأنه شك من سهيل بن أبي صالح. وزعم بعض الناس أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يذكر هذا العدد بحسب ما ينزل من خصال الإيمان، فكلما نزلت خصلة منها ضمها إلى ما تقدم وزادها عليها. وفي ذلك نظر.
(1)
العقيلي (2/ 668 - 669) . هذا وقد نقل المصنف رحمه الله كلام العقيلي هذا في كتابه " شرح العلل "(2/669 - 670)، وقال لبعده:" وقول العقيلي: لم يتابع عليه يشبه كلام القطان وأحمد والبرديجي الذي سبق ذكره في أن الحديث إذا لم يتابع روايه عليه فإنه يتوقف فيه، أو يكون منكرا " أ. هـ وللكلام تتمة، فراجعه، فإنه مهم.
وقد ورد في بعض روايات " صحيح مسلم " عد بعض هذه الخصال، ولفظه:" أعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان "
(1)
. فأشار إلى أن خصال الإيمان منها قول باللسان، ومنها ما هو عمل بالجوارح ومنها ما هو قائم بالقلب، ولم يزد في شيء من هذه الروايات على هذه الخصال.
وقد انتدب لعدها طائفة من العلماء كالحليمي
(2)
والبيهقي وابن شاهين وغيرهم، فذكروا أن كل ما ورد تسميته إيمانا في الكتاب والسنة من الأقوال والأعمال وبلغ بها بعضهم سبع وسبعين، وبعضهم تسعا وسبعين. وفي القطع على أن ذلك هو مراد الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الخصال عسر
(3)
كذا قاله ابن الصلاح وهو كما قال.
(1)
مسلم (35 /58) .
(2)
هو أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري الشافعي، ولد في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة ومات في شهر ربيع الأول، سنة ثلاث وأربعمائة له كتاب في شعب الإيمان سماه " المنهاج " وهو مطبوع في ثلاث مجلدات وقال الذهبي: وللحافظ أبي بكر البيهقي اعتناء بكلام الحليمي ولا سيما في كتاب " شعب الإيمان ". وقال ابن الصلاح في " صيانة صحيح مسلم "(ص: 196) : " وقد صنفت في ذلك مصنفات من أغزرها فوائد " كتاب المنهاج " لأبي عبد الله الحليمي إمام الشافعيين ببخارى. وكان من رفعاء أئمة المسلمين " انتهى، وله ترجمة حافلة في " طبقات الشافعية " للسبكي (4/333 - 343) . وله ترجمة في " السير "(17/231 - 233) .
(3)
في " ف ": " عشر " بالشين المعجمة، والصواب ما أثبتناه، وهو الموافق لما في " صيانة صحيح مسلم " لابن الصلاح (ص: 196) .
وتبويب البخاري على خصال الإيمان والإسلام والدين من أوله إلى آخره وما خرج فيه من الأحاديث وما (181 - أ/ف) استشهد به من الآيات والآثار الموقوفة إذا عدت خصاله وأضيف إليه أضداد ما ذكره في أبواب خصال النفاق والكفر بلغ ذلك فوق السبعين - أيضا - والله أعلم. وقد تكلم الراغب في كتاب " الذريعة "
(1)
له على حصرها في هذا العدد ذكره ابن عبد البر
(2)
وغيره.
فإن قيل: فأهل الحديث والسنة عندهم أن كل طاعة فهي داخلة في الإيمان، سواء كانت من أعمال الجوارح أو القلوب أو من الأقوال، وسواء في ذلك الفرائض والنوافل، هذا قول الجمهور الأعظم منهم وحينئذ فهذا لا ينحصر في بضع وسبعين، بل يزيد على ذلك زيادة كثيرة، بل هي غير منحصرة. قيل: يمكن أن يجاب عن هذا بأجوبة:
أحدها: أن يقال: إن عد خصال الإيمان عند قول النبي صلى الله عليه وسلم كان منحصرا في هذا العدد ثم حدثت زيادة فيه بعد ذلك حتى كملت خصال الإيمان في آخر حياة النبي صلي الله عليه وسلم.
(1)
(ص: 217 - 220) .
(2)
" التمهيد "(6/ 42) وما بعده.
والثاني: أن تكون خصال الإيمان كلها تنحصر في بضع وسبعين نوعا، وإن كان أفراد كل نوع تتعد كثيرا، وربما كان بعضها لا ينحصر. وهذا أشبه. وإن كان الموقوف على ذلك يعسر أو يتعذر.
والثالث: أن ذكر السبعين على وجه التكثير للعدد، لا على وجه الحصر كما في قوله تعالى {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] والمراد تكثير التعداد من غير حصوله هذا في العدد
(1)
، ويكون ذكره للبضع يشعر بذلك كأنه يقول: هو يزيد على السبعين المقتضية لتكثير العدد وتضعيفه. وهذا ذكره أهل الحديث من المتقدمين، وفيه نظر.
والرابع: أن هذه البضع وسبعين هي أشرف خصال الإيمان وأعلاها وهو الذي تدعو إليه الحاجة منها. قال ابن حامد من أصحابنا. والبضع في اللغة: من الثلاث إلى التسع، هذا هو المشهور، ومن قال: ما بين اثنين إلى عشر فالظاهر إنما أراد ذلك ولم يدخل الاثنين والعشر في العدد. وقيل من أربع إلى تسع. وقيل: مابين الثلاث والعشر. والظاهر أنه هو الذي قبله باعتبار إخراج الثلاث والعشر منه. وكذا قال بعضهم: ما بين الثلاث إلى ما دون العشرة، وعلى هذا فلا يستعمل في الثلاث ولا في العشر، والله أعلم.
(2)
.
(1)
" مشارق الأنوار "(2/205) .
(2)
وقد ذكر نحو هذا الكلام (7/202) تحت الحديث (799) .
3 -
فصل
(1)
خرج البخاري من حديث:
(1)
لم يذكر اسم الباب وهو " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ".
10 -
الشعبي، عن عبد الله بن عمرو
(1)
عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر: من هجر ما نهى الله عنه "
خرجه من رواية شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر وإسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي عن عبد الله. ثم قال: وقال معاوية: حدثنا داود، عن عامر قال: سمعت عبد الله بن عمرو، عن النبي صلي الله عليه وسلم وقال عبد الأعلى، عن (181 - ب/ف) داود، عن عامر، عن عبد الله
(2)
.
مقصود البخاري بهذا: أن شعبة روى الحديث معنعنا إسناده كله. وداود بن أبي هند عن الشعبي واختلف عليه فيه، فقال عبد الأعلى: عن داود كذلك، وقال أبو معاوية: عن داود، عن عامر قال: سمعت عبد الله، فذكر في حديثه تصريح الشعبي بالسماع له من عبد الله بن عمرو.
(1)
زاد في اليونينية ": " رضي الله عنهما ".
(2)
زاد في اليونينية ": " عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنما احتاج إلى هذا، لأن البخاري لا يرى أن الإسناد يتصل بدون ثبوت لقي الرواة بعضهم لبعض وخصوصا إذا روى بعض أهل بلد عن بعض أهل بلد ناء عنه، فإن أئمة أهل الحديث مازالوا يستدلون على عدم السماع بتباعد الرواة، كما قالوا في رواية سعيد بن المسيب عن أبي الدرداء وما أشبه ذلك
(1)
. وهذا الحديث قد رواه الشعبي - وهو من أهل الكوفة -، عن عبد الله بن عمرو - وهو حجازي - نزل مصر ولم يسكن العراق، فاحتاج أن يذكر ما يدل على سماعه منه، وقد كان عبد الله بن عمرو قدم مع معاوية الكوفة عام الجماعة فسمع أهل الكوفة كأبي وائل، وزر بن حبيش، والشعبي. وإنما خرج مسلم هذا الحديث من رواية المصريين، عن عبد الله بن عمرو: من رواية يزيد بن حبيب، عن أبي الخير سمع عبد الله بن عمرو يقول: أن رجلا سأل النبي صلي الله عليه وسلم: أي المسلمين خير؟ قال: " من سلم المسلمون من لسانه ويده "
(2)
. وهذا اللفظ يخالف لفظ رواية البخاري.
وأما رواية " المسلم " فيقتضي حصر المسلم فيمن سلم المسلمون من لسانه ويده، والمراد بذلك المسلم الكامل الإسلام، فمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده فإنه ينتفي عنه كمال الإسلام الواجب، فإن سلامة المسلمين من لسان العبد ويده واجبة، فإن أذى المسلم حرام باللسان
(1)
واقرأ ما سطره المصنف - عليه رحمة الله - في كتابه الحافل " " شرح علل الترمذي " (2/592 - 596) في هذه المسألة. وقد أجاد كعادته، ولا عجب.
(2)
مسلم (40) .
وباليد، فأذى اليد: الفعل، وأذى اللسان القول.
والظاهر: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما وصف بهذا في هذا الحديث لأن السائل كان مسلما قد أتى بأركان الإسلام الواجبة لله عز وجل، وإنما يجهل دخول هذا القدر الواجب من حقوق العباد في الإسلام، فبين له النبي صلي الله عليه وسلم ما جهله.
ويشبه هذا: أن النبي صلي الله عليه وسلم لما خطب في حجة الوداع وبين للناس حرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم وأتبع ذلك بقوله: " سأخبركم من المسلم: من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن: من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم ". خرجه ابن حبان في " صحيحه " من حديث فضالة بن عبيد
(1)
.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا يجمع لنم قدم عليه يريد الإسلام بين ذكر حق الله وحق العباد، كما في " مسند الإمام أحمد " عن عمرو بن عبسة قال: قال رجل: يا رسول الله! ما الإسلام؟ قال: " أن تسلم قلبك لله، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك "
(2)
.
وفيه - أيضا -، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم فقال له: أسألك بوجه الله بم بعثك الله ربنا إلينا؟ قال: " بالإسلام قال قلت: وما آية الإسلام؟ (128 - أ / ف) قال: " أن تقول: أسلمت وجهي لله وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وكل مسلم على مسلم محرم "، وذكر الحديث وقال فيه: قلت: يا رسول الله!
(1)
ابن حبان (الإحسان: 11/203 - 204) باختلاف اللفظ.
(2)
" المسند "(4/114) .
هذا ديننا؟ قال: " هذا دينكم "
(1)
. وخرجه النسائي بمعناه
(2)
. وقوله" والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ". فأصل الهجرة: هجران الشر ومباعدته لطلب
(3)
الخير ومحبته والرغبة
(4)
فيه.
والهجرة عند الإطلاق في كتاب السنة إنما تنصرف إلى هجران بلد الشرك إلى دار الإسلام رغبة في تعلم الإسلام والعمل به، وإذا كان كذلك فأصل الهجرة: أن يهجر ما نهاه الله عنه من المعاصي، فيدخل في ذلك هجران بلد الشرك رغبة في دار الإسلام، وإلا فمجرد هجرة بلد الشرك مع الإصرار على المعاصي ليس بهجرة تامة كاملة، بل الهجرة التامة الكاملة: هجران ما نهى الله عنه، ومن جملة ذلك: هجران بلد الشرك مع القدرة عليه.
(1)
" المسند "(5/5) .
(2)
النسائي (5/ 4 - 5، 82 - 83) .
(3)
في " ف " تشتبه بـ " طالب " والصواب ما اثبتناه.
(4)
في " ف ": " والزغبة " - بالزاي.
4 -
فصل
(1)
خرج البخاري من حديث:
(1)
لم يذكر اسم الباب وهو: " أي الإسلام أفضل؟ ".
11 -
بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده
(1)
أبي بردة عن أبيه أبي موسى
(2)
قالوا: يا رسول الله! أي الإسلام أفضل؟ قال: " من سلم المسلمون من لسانه ويده ".
وخرجه مسلم
(3)
- أيضا -، وخرج - أيضا - من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي المسلمين خير؟ قال: " من سلم المسلمون من لسانه ويده " - كما تقدم ذكره
(4)
. فعلى هذه الرواية: أي المسلمين خير؟ وفي رواية أبي موسى: أي الإسلام أفضل؟ . قال ابن رجب: والذي ظهر لي في الفرق بين " خير " أن لفظ " أفضل " إنما تستعمل في شيئين اشتركا في غير فضل، وامتاز أحدهما عن الآخر بفضل اختص به، فهذا الممتاز قد شارك ذاك في الفضل واختص عنه بفضل زائد فهو ذاك. وأما لفظه " خير " فتستعمل في شيئين: في كل منهما نوع من الخير أرجح مما في الآخر سواء كان لزيادة عليه في ذاته أو في نفعه أو غير
(1)
" جده " ليست في " اليونينية ".
(2)
في " اليونينية ": " عن أبي موسى رضي الله عنه "
(3)
مسلم (40) .
(4)
الحديث الماضي.
ذلك، وإن اختلف جنساهما فترجيح أحدهما على الآخر يكون بلفظة خير، فيقال مثلا: النفع المتعدي خير من النفع القاصر، وإن كان جنسهما مختلفا ويقال: زيد أفضل من عمرو، إذا اشتركوا في علم أو دين ونحو ذلك، وامتاز أحدهما على الآخر بزيادة. وإن استعمل في النوع الأول لفظة " أفضل " مع اختلاف الجنسين، فقد يكون المراد: أن ثواب أحدهما أفضل من ثواب الآخر وأزيد منه، فقد وقع الاشتراك في الثواب وامتاز أحدهما بزيادة منه - وحينئذ - فمن سلم المسلمون من لسانه ويده إسلامه أفضل من إسلام غيره ممن ليس كذلك، لاشتراكهما في الإتيان بحقوق الله في الإسلام من الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ونحو ذلك، وامتاز أحدهما بالقيام بحقوق المسلمين، فصار هذا الإسلام أفضل من ذاك. وأما المسلم: فيقال: هذا أفضل من ذاك لأن إسلامه أفضل من إسلامه ويقال: هو خير من ذاك لترجيح خيره على خير غيره وزيادته عليه.
6 -
فصل
(1)
خرج البخاري ومسلم من حديث:
(1)
باب " إطعام الطعام من الإسلام " وقد عزا إليه تحت شرحه الحديث رقم: (28) .
12 -
يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: (182 - ب /ف) " تطعم
(1)
الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ".
وخرجه مسلم أيضا
(2)
. جعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث خير الإسلام: إطعام الطعام وإفشاء السلام. وفي " المسند "
(3)
عن عمرو بن عبسة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما الإسلام؟ قال: " لين الكلام وإطعام الطعام ".
ومراده: الإسلام التام الكامل. وهذه الدرجة في الإسلام فضل، وليست واجبة، إنما هي إحسان. وأما سلامة المسلمين من اللسان واليد فواجبة إذا كانت من غير حق، فإن كانت السلامة من حق كان - أيضا - فضلا.
وقد جمع الله تعالى بين الأفضال بالنداء وترك الأذى في وصف المتقين في قوله: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] فهذا
(1)
في " ف " تحرفت الضمة التي على كلمة " تطعم " كأمها "واو ".
(2)
برقم (39) .
(3)
(4/385) بمعناه.
إحسان وفضل وهو بذل النداء واحتمال الأذى.
وجمع في الحديث بين إطعام الطعام وإفشاء السلام، لأنه به يجتمع الإحسان بالقول والفعل وهو أكمل الإحسان، وإنما كان هذا خير الإسلام بعد الإتيان بفرائض الإسلام وواجباته، فمن أتى بفرائض الإسلام ثم ارتقى إلى درجة الإحسان إلى الناس كان خيرا ممن لم يرتق إلى هذه الدرجة وأفضل - أيضا -، وليس المراد أن من اقتصر على هذه الدرجة فهو خير من غيره مطلقا ولا أن إطعام الطعام ولين الكلام خير من أركان الإسلام ومبانيه الخمس، فإن إطعام الطعام والسلام لا يكونان من الإسلام إلا بالنسبة إلى من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وقد زعم الحكيمي
(1)
وغيره أنه قال: خير الأشياء كذا، والمراد تفضيله من وجه دون وجه وفي وقت دون وقت أو لشخص دون شخص، ولا يراد تفضيله على الأشياء كلها، أو أن يكون المراد: إنه من خير الأشياء، لا خير مطلقا. وهذا فيه نظر، وهو مخالف للظاهر، ولو كان هذا حقا لما احتيج إلى تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له: يا خير البرية، فقال:" ذاك إبراهيم "
(2)
. وقد تأوله الأئمة، فقال الإمام أحمد: هو على وجه التواضع.
(1)
كذا في " ف "، ولعل صوابها " الحليمى " صاحب كتاب " المنهاج في شعب الإيمان " وقد مرت ترجمته (ص 33) . تحت حديث (9) .
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (11/518) ، وعنه مسلم (2369) وغيره، وانظر " أطراف الغرائب "(969) بتحقيقنا.
ولكن هذا يقرب من قول من تأول " أفضل " بمعنى " فاضل " وقال: إن " أفعل " لا تقتضي المشاركة. وهذا غير مطرد عند البصريين، ويتأول ما ورد منه وحكى عن الكوفيين أنه مطرد لا يحتاج إلى تأويل. وقوله " وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " هذا أفضل أنواع إفشاء السلام. وفي " المسند " عن ابن مسعود مرفوعا:" إن من أشراط الساعة " السلام بالمعرفة "
(1)
.
ويخرج من عموم ذلك: من لا يجوز بداءته بالسلام كأهل الكتاب عند جمهور العلماء.
(1)
" المسند "(1/405 - 406) .
7 -
فصل
(1)
خرج البخاري ومسلم
(2)
من حديث:
(1)
باب " من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ".
(2)
برقم (45) .
13 -
قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "
(1)
لما نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه دل على أن ذلك من خصال الإيمان، بل من واجباته، فإن الإيمان لا ينفي إلا بانتفاء بعض واجباته، كما قال:" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"
(2)
. الحديث
وإنما يحب الرجل لأخيه ما يحب لنفسه إذا سلم من الحسد والغل والغش والحقد، وذلك واجب كما قال النبي (183 - أ/ ف) صلى الله عليه وسلم:" لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا "
(3)
، فالمؤمن أخو المؤمن يحب له ما يحب لنفسه ويحزنه ما يحزنه كما قال صلى الله عليه وسلم:
" مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر "
(4)
فإذا أحب المؤمن لنفسه فضيلة من دين أو غيره أحب أن يكون لأخيه نظيرها من غير أن تزول عنه كما
(1)
راجع شرح هذا الحديث في " جامع العلوم والحكم "(1/302) - طبعتنا - فقد أوعب هناك - رحمه الله تعالى.
(2)
البخاري (فتح: 2475) ، ومسلم (57) ، من حديث أبي هريرة، وراجع " علل الدارقطني "(9/342) .
(3)
مسلم (54) وفي الرواية " لا تدخلون ".
(4)
البخاري (فتح: 6011) ، ومسلم (2586) ، من حديث النعمان بن بشير.
قال ابن عباس: إني لأمر بالآية من القرآن فأفهمها فأود أن الناس كلهم فهموا منها ما أفهم. وقال الشافعي: وددت أن الناس كلهم تعلموا هذا العلم ولم ينسب إلي منه شيء. فأما حب التفرد عن الناس بفعل ديني أو دنيوي: فهو مذموم، قال الله تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} (القصص: 83)، وقد قال علي وغيره: هو أن لا يحب أن يكون نعله خيرا من نعل غيره ولا ثوبه خيرا من ثوبه
(1)
وفي الحديث المشهور في " السنن ": " من تعلم العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار
(2)
. وأما الحديث الذي فيه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أحب الجمال، وما أحب أن يفوقني أحد بشراك أو بشسع نعلي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " ليس ذلك من الكبر"
(3)
،
فإنما فيه أنه أحب أن لا يعلو عليه أحد، وليس فيه محبة أن يعلو هو على الناس، بل يصدق هذا أن يكون مساويا لأعلاهم فما حصل بذلك محبة العلو عليه والانفراد عنهم، فإن حصل لأحد فضيلة خصصه الله بها عن غيره فأخبر بها على وجه
(1)
راجع ابن جرير في " تفسير هـ "(20 /79) .
(2)
أخرجه أبو داود (3664) عن أبي هريرة، والنسائي في " الكبرى "(3/457) ، والترمذي أ. هـ " الضعفاء "(3/ 467) ، وراجع " جامع بيان العلم وفضله "(1/669) .
(3)
مسلم (91) ..
الشكر، لا على وجه الفخر كان حسنا كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول شافع ولا فخر "
(1)
. وقال ابن مسعود: لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته.
(1)
مسلم (2278) بهذا اللفظ. وهو عند البخاري بغير هذا اللفظ.
8 -
فصل
(1)
خرج البخاري ومسلم
(2)
من حديث:
(1)
باب " حب الرسول من الإيمان.
(2)
هذا الحديث من أفراد البخاري. (الفتح: 1/58) .
14 -
أبي هريرة
(1)
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده ".
وخرج البخاري ومسلم
(2)
- أيضا - من حديث:
(1)
زاد في " اليونينية ": " رضي الله عنه ".
(2)
مسلم (44) .
15 -
أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ".
محبة النبي صلى الله عليه وسلم من أصول الإيمان وهي مقارنة لمحبة الله عز وجل، وقد قرنها الله بها، وتوعد من قدم عليها شيء من الأمور المحبوبة طبعا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك، فقال تعالى:{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] .
ولما قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال: " لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك " فقال عمر: والله أنت الآن أحب إلي من نفسي، قال:" الآن يا عمر ".
(1)
(1)
(الفتح: 6632) .
فيجب تقديم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم (183 - ب /ف) على النفوس والأولاد والأقارب والأهلين والأموال والمساكين، وغير ذلك مما يحبه الناس غاية المحبة، وإنما تتم المحبة بالطاعة كما قال تعالى:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران: 31] وسئل بعضهم عن المحبة، فقال: الموافقة في جميع الأحوال. فعلامة تقديم محبة الرسول على محبة كل مخلوق: أنه إذا تعارض طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أوامره وداع آخر يدعو إلى غيرها من هذه الأشياء المحبوبة، فإن قدم المرء طاعة الرسول وامتثال أوامره على ذلك الداعي: كان دليلا على صحة محبته للرسول وتقديمها على كل شيء، وإن قدم على طاعته وامتثال أوامره شيئا من هذه الأشياء المحبوبة طبعا: دل ذلك على عدم إتيانه بالإيمان التام الواجب عليه. وكذلك القول في تعارض محبة الله ومحبة داعي الهوى والنفس، فإن محبة الرسول تبع لمحبة مرسله عز وجل. هذا كله في امتثال الواجبات وترك المحرمات. فإن تعارض داعي النفس ومندوبات الشريعة، فإن بلغت المحبة على تقديم المندوبات على دواعي النفس كان ذلك علامة كمال الإيمان وبلوغه إلى درجة المقربين والمحبوبين المتقربين بالنوافل بعد الفرائض، وإن لم تبلغ هذه المحبة إلى الدرجة فهي درجة المقتصدين أصحاب اليمين الذين كملت محبتهم ولم يزيدوا عليها
9 -
فصل
(1)
خرج البخاري ومسلم
(2)
من حديث:
(1)
باب " حلاوة الإيمان ".
(2)
برقم (43 / 67) .
16 -
أبي قلابة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار ". وقد خرجه مسلم وعنده في رواية: " فقد وجد طعم الإيمان
(1)
، وجاء في رواية:" وجد طعم الإيمان وحلاوته ".
فهذه الثلاث خصال من أعلى خصال الإيمان، فمن كملها فقد وجد حلاوة الإيمان وطعم طعمه، فالإيمان له حلاوة وطعم يذاق بالقلوب كما يذاق حلاوة الطعام والشراب بالفم، فإن الإيمان هو غذاء القلوب وقوتها كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقوتها، وكما أن الجسد لا يجد حلاوة الطعام والشراب إلا عند صحته فإذا سقم لم يجد حلاوة ما ينفعه من ذلك، بل قد يستحلي ما يضره وما ليس فيه حلاوة لغلبة السقم عليه، فكذلك القلب إنما يجد حلاوة الإيمان من أسقامه وآفاته، فإذا سلم من مرض الأهواء المضلة والشهوات المحرمة وجد حلاوة الإيمان حينئذ، ومتى مرض وسقم لم يجد حلاوة الإيمان، بل يستحلي ما فيه هلاكه من الأهواء والمعاصي.
(1)
مسلم _43 / 68) .
ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "
(1)
، لأنه لو كمل إيمانه لوجد حلاوة الإيمان فاستغنى بها عن استحلاء المعاصي.
سئل وهيب بن الورد: هل يجد طعم الإيمان من يعصي الله؟ قال: لا، ولا من هم بالمعصية. وقال ذو النون: كما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب. فمن جمع هذه الخصال الثلاثة المذكورة في هذا الحديث (184 - أ /ف) فقد وجد حلاوة الإيمان وطعم طعمه:
أحدها: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. ومحبة الله تنشأ تارة من معرفته، وكمال معرفته: تحصل من معرفة أسمائه وصفاته وأفعاله الباهرة والتفكير في مصنوعاته وما فيها من الإتقان والحكم والعجائب، فإن ذلك كله يدل على كماله وقدرته وحكمته وعلمه ورحمته.
وتارة ينشأ
(2)
من مطالعة النعم، وفي حديث ابن عباس المرفوع: " أحبوا الله لما يغدوكم
(3)
من نعمه وأحبوني لحب الله ". خرجه الترمذي في بعض نسخ كتابه
(4)
. وقال بعض السلف: من عرف الله أحبه، ومن أحبه أطاعه فإن
(1)
ر البخاري (فتح: 2475) ، ومسلم (57) من حديث أبي هريرة. وسبق (ص 45) .
(2)
كذا في " ف " ولعل الصواب " تنشأ " بالمثناة الفوقية.
(3)
كذا في الترمذي، وفي " التحفة " و" العارضة ": يغدوكم " بالذال المعجمة.
(4)
الترمذي (3789) ، وانظر " التحفة "(5 /148) .
المحبة تقتضي الطاعة كما قال بعض العارفين: الموافقة في جميع الأحوال، ثم أنشد: ولو قلت لي مت مت سمعا وطاعة وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا
ومحبة الله على درجتين:
إحداهما: فرض، وهي المحبة المقتضية لفعل أوامره الواجبة والانتهاء عن زواجره المحرمة والصبر على مقدوراته المؤلمة، فهذا القدر لابد منه في محبة الله، ومن لم تكن محبته على هذا الوجه فهو كاذب في دعوى محبة الله، كما قال بعض العارفين: من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده فهو كاذب، فمن وقع في ارتكاب شيء من المحرمات أو أخل بشيء من فعل الواجبات فلتقصره في محبة الله حيث قدم محبة نفسه وهواه على محبة الله، فإن محبة الله لو كملت لمنعت من الوقوع فيما يكرهه. وإنما يحصل الوقوع فيما يكرهه لنقص محبته الواجبة في القلوب وتقديم هوى النفس على محبته وبذلك ينقص الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم:" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "
(1)
الحديث.
والدرجة الثانية من المحبة - وهي فضل مستحب -: أن ترتقي المحبة من ذلك إلى التقرب بنوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق الشبهات والمكروهات، والرضى بالأقضية المؤلمات، كما قال عامر بن عبد قيس:
(1)
البخاري (فتح: 2475) ، ومسلم (57) من حديث أبي هريرة.
أحببت الله حبا هون علي كل مصيبة ورضاني بكل بلية، فما أبالي مع حبي إياه على ما أصبحت، ولا على ما أمسيت
(1)
. وقال عمر بن عبد العزيز أصبحت ومالي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر، ولما مات ولده الصالح قال: إن الله أحب قبضه، وأعوذ بالله أن تكون لي محبة تخالف محبة الله. وقال بعض التابعين في مرضه: أحبه إلي أحبه إليه. وأما محبة الرسول: فتنشأ عن معرفته ومعرفة كماله وأوصافه وعظم ما جاء به، وينشأ ذلك في معرفة مرسله وعظمته - كما سبق -، فإن محبة الله لا تتم إلا بطاعته، ولا سبيل إلى طاعته إلا بمتابعة رسوله، كما قال تعالى:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران: 31] ومحبة الرسول على درجتين - أيضا: إحداهما: فرض، وهي ما اقتضى طاعته في امتثال ما أمر به من الواجبات والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات والرضى بذلك، وأن لا يجد في نفسه حرجا مما جاء به ويسلم له تسليما، وأن لا يتلقى الهدى من غير مشكاته ولا يطلب شيئا من الخير إلا مما جاء به.
الدرجة الثانية: فضل مندوب إليه، وهي: ما ارتقى بعد ذلك إلى اتباع سنته وآدابه وأخلاقه والاقتداء به في هديه وسمته وحسن معاشرته
(1)
أخرجه أبو نعيم في " الحلية "(2 / 89 - 90) بنحوه.
لأهله وإخوانه وفي التخلق بأخلاقه الظاهرة في الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة وفي جوده وإيثاره وصفحه وحلمه واحتماله وتواضعه، وفي أخلاقه الباطنة من كمال خشيته لله ومحبته له وشوقه إلى لقائه ورضاه بقضائه وتعلق قلبه به دائما وصدق الالتجاء إليه والتوكل والاعتماد عليه، وقطع تعلق القلب بالأسباب كلها ودوام لهج القلب واللسان بذكره والأنس به والتنعم بالخلوة بمناجاته ودعائه وتلاوة كتابه بالتدبر والتفكر.
وفي الجملة: فكان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن، يرضى لرضاه ويسخط لسخطه، فأكمل الخلق من حقق متابعته وتصديقه قولا وعملا وحالا وهم الصديقون من أمته الذين رأسهم: أبو بكر - خليفته بعده - وهم أعلى أهل الجنة درجة بعد النبيين كما قال صلى الله عليه وسلم: " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون
(1)
الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق إلى المغرب لتفاضل ما بينهم " قالوا ": يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء ما يبلغها غيرهم، قال:" إي والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ". خرجاه في " الصحيحين " من حديث أبي سعيد
(2)
.
الخصلة الثانية: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله. والحب في الله من أصول الإيمان وأعلى درجاته.
(1)
في "ف ": يتراءون " وما أثبتناه هو الموافق للرواية.
(2)
(فتح: 6555) ، ومسلم (2831/11) .
وفي " المسند "
(1)
عن معاذ بن أنس الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الإيمان، فقال: أن تحب لله وتبغض لله وتعمل لسانك في ذكر الله ". وفيه - أيضا - عن عمرو بن الجموح، عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا يحق العبد حق صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله، فإذا أحب لله، وأبغض لله فقد استحق الولاية من الله "
(2)
وفيه: عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أوثق عرى الإيمان: أن تحب في الله وتبغض في الله
(3)
وخرج الإمام أحمد، وأبو داود عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أفضل الأعمال: الحب في الله والبغض في الله"
(4)
. ومن حديث أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان "
(5)
. وخرجه أحمد، والترمذي من حديث معاذ بن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد أحمد في رواية " وأنكح لله "
(6)
.
(1)
(5/247) ، " ووقع الحديث في المطبوع في مسند معاذ بن جبل، من رواية سهل بن معاذ، عن أبيه - وهو معاذ بن أنس الجهني -، عن معاذ بن جبل، فجعله من مسند معاذ ابن جبل، وهو وهم، والصواب أنه من مسند معاذ بن أنس الجهني " قاله زهير بن ناصر الناصر محقق " أطراف المسند "(5/284) فجزاه الله خيرا..
(2)
" المسند "(33/430) .
(3)
" المسند "(1 /286) ..
(4)
أحمد (5/146) ، وأبو داود (4599) .
(5)
أبو داود (4681) .
(6)
أحمد (3 / 437، 440) ، والترمذي (2521) .
وإنما كانت هذه الخصلة تالية لما قبلها، لأن من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فقد صار حبه كله له، ويلزم من ذلك أن يكون بغضه لله وموالاته له ومعاداته له، وأن لا تبقى له بقية من نفسه وهواه، وذلك يستلزم محبة ما يحبه الله من الأقوال والأعمال، وكراهة ما يكرهه من ذلك، وكذلك من الأشخاص، ويلزم من ذلك معاملتهم بمقتضى الحب والبغض، فمن أحبه الله أكرمه وعامله بالعدل والفضل، ومن أبغضه لله أهانه بالعدل، ولهذا وصف الله المحبين له بأنهم {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (185 - أ /ف) أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} [المائدة: 54] . وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " أسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يبلغني إلى حبك "
(1)
فلا تتم محبة الله ورسوله إلا بمحبة أوليائه وموالاتهم وبغض أعدائه ومعاداتهم. وسئل بعض العارفين: بما تنال المحبة؟ قال: بموالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه، وأصله الموافقة.
الخصلة الثالثة: أن يكره الرجوع إلى الكفر كما يكره الرجوع إلى النار. فإن علامة محبة الله ورسوله: محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه الله ورسوله - كما سبق - فإذا رسخ الإيمان في القلب وتحقق به ووجد حلاوته وطعمه أحبه وأحب ثباته ودوامه والزيادة منه وكره مفارقته وكان كراهته لمفارقته أعظم عنده من كراهة الإلقاء في النار، قال الله تعالى {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] . والمؤمن يحب الإيمان أشد من حب الماء البارد في شدة الحر للظمآن،
(1)
أخرجه ابو نعيم في " الحلية "(1/226) وفيه عبد الله بن ربيعة الدمشقي، وهومجهول، وأخرجه الترمذي (3490) من طريقه - أيضا - فجعله من قول داود عليه السلام. ورواه أحمد في " الزهد " (ص 89) من طريق مالك قال: قال داود. وقال المصنف في " جامع العلوم "(2 /367) : ويروى أن داود عليه السلام كا يقول
…
" فذكره.
ويكره الخروج منه أشد من كراهة التحريق بالنيران، كما في " المسند " عن أبي رزين العقيلي أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: " أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما، وأن تحرق في النار أحب إليك من أن تشرك بالله، وأن تحب غير ذي نسب لا تحبه إلا لله فإذا كنت كذلك فقد دخل حب الإيمان في قلبك كما دخل حب الماء للظمآن في اليوم القائظ
(1)
وفي " المسند " - أيضا - أن النبي صلى الله عليه وسلم وصى معاذ بن جبل فقال له فيما وصاه به: " لا تشرك بالله شيئا وإن قطعت وحرقت "
(2)
.
وفي " سنن ابن ماجة "
(3)
أن النبي صلى الله عليه وسلم وصي أبا الدرداء وغيره - أيضا. وقد أخبر الله عن أصحاب الأخدود بما أخبر به وقد كانوا فتنوا المؤمنين والمؤمنات وحرقوهم بالنار ليرتدوا عن الإيمان، فاختاروا الإيمان على النار. وفي " الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن امرأة منهم أتى به ومعها صبي لها يرضع فكأنها تقاعست أن تلقي نفسها في النار من أجل الصبي فقال لها الصبي: يا أمه! اصبري فإنك على الحق "
(4)
. وألقي أبو مسلم الخولاني في النار على امتناعه أن يشهد للأسود بالنبوة فصارت عليه بردا وسلاما. وعرض على عبد الله بن حذافة أن يتنصر فأمر ملك الروم
(1)
" المسند "(4/ 11 - 12) .
(2)
" المسند "(5/238) .
(3)
برقم (4034) .
(4)
مسلم (3005) .
بإلقائه في قدر عظيمة مملوءة ماء تغلي عليه فبكى وقال: لم أبك جزعا من الموت، لكن أبكي أنه ليس لي إلا نفس واحدة يفعل بها هذا في الله، لوددت أنه كان لي مكان كل شعرة مني نفسا يفعل بها ذلك في الله عز وجل. هذا مع أن التقية في ذلك باللسان جائزة مع طمأنينة القلب بالإيمان كما قال تعالى {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] . ولكن الأفضل الصبر وعدم التقية في ذلك. فإذا وجد القلب حلاوة الإيمان أحس بمرارة الكفر والفسوق والعصيان ولهذا قال يوسف عليه السلام: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف " 33] . سئل ذو النون: متى أحب ربي؟ قال: إذا كان ما يكرهه أمر عندك من الصبر. وقال (185 - ب /ف) بشر بن السري: ليس من أعلام المحبة أن تحب ما يبغضه حبيبك. واعلم أن القدر الواجب من كراهة الكفر والفسوق والعصيان هو أن ينفر من ذلك ويتباعد منه جهده ويعزم على أن لا يلابس شيئا من جهده لعلمه بسخط الله له وغضبه على أهله.
فأما ميل الطبع إلى ما يميل من ذلك - خصوصا لمن اعتاده ثم تاب منه - فلا يؤاخذ به إذا لم يقدر على إزالته، ولهذا مدح الله من نهى النفس عن الهوى، وذلك يدل على أن الهوى يميل إلى ما هو ممنوع منه وأن من عصى هواه كان محمودا عند الله عز وجل.
وسئل عمر عن قوم يشتهون المعاصي ولا يعملون بها، قال:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}
(1)
[الحجرات: 3] . وقد ترتاض النفس بعد ذلك وتألف التقوى حتى تتبدل طبيعتها وتكره ما كانت مائلة إليه وتصير
(2)
التقوى لها طبيعة ثابتة. وهل هذا أفضل من الأول أم الأول أفضل؟
هذا وقد يخرج على اختلاف العلماء فيمن عمل طاعة ونفسه تأباها وهو يجاهدها، وآخر عملها ونفسه طائعة مختارة لها أيهما أفضل؟ وفيه قولان مشهوران للعلماء والصوفية. والأظهر: أن الثاني أفضل. وفي كلام الإمام أحمد ما يدل على خلافه. وفي " مسند الإمام أحمد ": حدثنا يحي بن سعيد، عن حميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل:" أسلم " قال: أجدني كارها قال: "، إن كنت كارها "
(3)
وهذا يدل على صحة الإسلام مع نفور القلب عنه وكراهته له، لكن إذا دخل في الإسلام واعتاده وألفه: دخل حبه قلبه ووجد حلاوته. وخرج مسلم حديث أنس المتقدم، ولفظه:" ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه "
(4)
.
(1)
"مسند الفاروق " لابن كثير (2/605) من طريق مجاهد قال: كتب إلى عمر. ومجاهد لم يدرك عمر وانظر " المراسيل "(ص: 204) وقال ابن كثير: فيه انقطاع، وعزاه لأحمد في " الزهد ".
(2)
في " ف " بالمثناة التحتانية والصواب بالفوقية كما اثبتناه.
(3)
المسند (3 /181) .
(4)
مسلم (43/68) .
ويستشكل من هذا اللفظ أنه يقتضي
(1)
وجود محبة الأمرين - أعني: الإلقاء في النار والرجوع إلى الكفر -، وترجع محبة الأول على الثاني، ووقع مثله في القرآن في قوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33] ومثله قول علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أكذب عليه
(2)
. ويجاب عن ذلك: بأن من خير بين أمرين مكروهين فاختار أحدهما على الآخر لشدة كراهته لما رغب عنه فإنه يقال: إنه محب لما اختاره مريد له وإن كان لا يحبه ولا يختاره لنفسه، بل لدفع ما عنده أشد كراهة وأعظم ضررا. ومن هنا ورد ما ورد من حب الموت في الفتنة والتخلص منها. وقيل لعطاء السليمي: لو أججت نار وقيل: من دخلها نجا من جهنم هل كنت تدخله؟ فقال: بل كنت أخشى أن تخرج نفسي فرحا بها قبل وصولي إليها
(3)
ويشبه هذا حال المكره على فعل بضرب أو سجن أو تهديد أو بقتل ونحو ذلك إذا فعله افتداء لنفسه مما أكره عليه هل هو مختار له أم لا؟ وفيه اختلاف مشهور بين الأصوليين.
والتحقيق: أنه مختار له، لا لنفسه، بل للافتداء به من المكروه
(1)
في " ف " بالفوقية والصواب ما أثبتناه.
(2)
البخاري (فتح: 3611) ، ومسلم (1066 / 154) .
(3)
أخرجه أبو نعيم في " الحلية "(6 / 215) ، وذكره الذهبي في " السير "(6/ 87) .
الأعظم، فهو مختار له من وجه دون وجه، وهذا بخلاف فعل المؤمن الطاعات خوفا من الله، فإنه ليس فعله كفعل (186 - أ / ف) المكره، لأن المؤمن يجب عليه أن يأتي بالطاعة خوفا من عقاب الله ورجاء لثوابه وحبا له، فبذلك يفارق حال المكره. ومن هنا تظهر المسألة التي تفر منها الفقهاء وهي: إذا قال رجل لامرأته: إن كنت تحبيني
(1)
أن يعذبك الله بالنار فأنت طالق، فقالت: أنا أحبه، فقال كثير منهم من أصحابنا وغيرهم: إنها تطلق لأنها قد تختار ذلك وتحبه افتداء به من معاشرة زوجها لشدة بغضها له وجهلا منها بتصور عذاب جهنم فتكون صادقة فيما أخبرت به. ومن هذا: الحديث الذي فيه أن الكافر يقول من شدة ما يجد في الموقف يوم القيامة: رب أرحني حتى ولو إلى النار. فظهر بهذا: أن من خير بين مكروهين فاختار أخفهما دفعا لأعظمهما أنه يكون محبا لما اختاره مختارا له من وجه دون وجه. وأما ما يقتضيه لفظ الحديث من كونه محبا للآخر: فهذا - أولا - غير لازم على قول الكوفيين الذين لا يرون أن " أفعل " التفضيل يلزم منه المشاركة مطلقا، فيجوز عندهم أن يقال: الثلج أبرد من النار، وأما على قول البصريين فإنه قد ورد في كثير من نصوص الكتاب والسنة ما تمتنع فيه المشاركة وتأولوا فيه " أفعل " بـ " فاعل " فكذلك تتأول هنا. ومما بقي مما يتعلق بلفظ هذا الحديث: أن قوله صلى الله عليه وسلم: " أن يكون الله
(1)
كذا، والصواب الموافق للسياق " تحبي ".
ورسوله أحب إليه مما سواهما " يدل على أنه يجوز الجمع بين اسم الله واسم غيره من المخلوقين في كلمة واحدة. وفي " سنن أبي داود " عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: " من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا
(1)
.
وقال ابن مسعود - لما قضي في بروع
(2)
-: إن يكون صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان من الخطأ. وقد اختلف الناس في جواز مثل هذا التركيب في الكلام على أقوال:
أحدهما: أنه لا يجوز. والثاني: أنه لا يجوز في كلام الله عز وجل دون غيره. والثالث: أنه ممتنع مطلقا. واحتجوا بحديث عدي بن حاتم أن رجلا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ومن يعصهما فقد غوى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله ". خرجه مسلم. وقد قيل: إن قوله: " قل: ومن يعص الله ورسوله " مدرجة في
(1)
أبو داود (1097) .
(2)
بروع بنت واشق: مترجمة في أسد الغابة (7/ 37) وغيره وذكرها الأمير - بحق - ابن ماكولا في " إكماله "(1/243) غير أنه لم يجودها - على غير عادته. وقال الهندي في " المغني "(ص: 36)" بكسر موحدة عند أهل الحديث، وفتحها عند أهل اللغة، وسكون راء، وفتح واو، وإهمال عين " أ. هـ. وراجع " لسان العرب "، و" المنتخب من علل الخلال " لابن قدامة (220) .
الحديث
(1)
وإنما أنكر عليه وقفه في قوله: " ومن يعصهما". وقد ذكر هذا الاختلاف ابن عطية في " تفسيره " وغيره.
وفيه قول آخر: أنه يمتنع في واو الجمع أو ألف التثنية المتصلين بالأفعال نحو: يفعلون، وتفعلان، كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} (الأحزاب: 56) ، وهذا هو الذي ذكره القاضي أبو يعلي في كتابه " أحكام القرآن "
(2)
. ومن منع ذلك: أجاب بأن في الكلام حذفا تقديره: إن الله يصلي وملائكته يصلون، والله أعلم.
(1)
مسلم (870) من طريق وكيع، عن سفيان، وخالفه القطان عند أبي داود (4981) وابن مهد عند أحمد (4/ 397) ، وغيرهما، عن سفيان، فلم يذكروا:" قل: ومن يعص الله ورسوله " في آخر الحديث ولم يختلفوا في تقديم القطان في سفيان. ويقول أحمد: " وكيع أكثر خطأ من عبد الرحمن " راجع " شرح العلل " للمصنف (2 / 722) .
(2)
ذكره ابن أبي يعلي في ترجمة أبي يعلي من " طبقات الحنابلة "(2/ 205) .
10 -
فصل
(1)
خرج البخاري ومسلم
(2)
من حديث:
(1)
باب " علامة الإيمان حب الأنصار ".
(2)
(76) .
17 -
أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" آية الإيمان: حب الأنصار، وآية النفاق: بغض الأنصار ".
هذا المعنى يرجع إلى ما تقدم من حب المرء لا يحبه إلا لله
(1)
من علامات وجود حلاوة الإيمان وأن الحب في الله من أوثق عرى الإيمان، وأنه أفضل (186 - ب / ف) الإيمان، فالأنصار نصروا الله ورسوله فمحبتهم من تمام حب الله ورسوله. وخرج الإمام أحمد من حديث سعيد بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا يؤمن بالله من لا يؤمن بي، ولا يؤمن بي من لا يحب الأنصار "
(2)
وخرج الطبراني وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أحب الأنصار فبحبي أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم "
(3)
وفي صحيح مسلم " عن أبي سعيد وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
في " ف ": " الله ".
(2)
" المسند "(6/ 382) وهو في " المسند " ليس في مسند سعيد بن زيد، بل في مسند جدة رباح بن عبد الرحمن واسمها " أسماء " وهي بنت سعيد بن زيد، وروت هذا الحديث عنه، فلينتبه لذلك.
(3)
الطبراني في " الأوسط "(999) .
قال: " لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر "
(1)
وفي " المسند " عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حب الأنصار إيمان وبغضهم نفاق ".
(2)
وكذلك حب المهاجرين - الذين هم أفضل من الأنصار - من الإيمان. وفي " صحيح مسلم "، عن علي قال: إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إلي: لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق
(3)
وفي " المسند " والترمذي، عن عبد الله بن مغفل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم "
(4)
وفي بعض نسخ كتاب الترمذي، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أحبوا الله لما يغدوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي "
(5)
.
وفي " المسند " وكتاب النسائي، وابن ماجه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحسن والحسين:" من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني "
(6)
.
(1)
مسلم عن أبي سعيد (77) ، وعن أبي هريرة (76) .
(2)
" المسند "(3/70) .
(3)
مسلم (78) .
(4)
المسند " (5/54، 55، 57) ..
(5)
الترمذي في " جامعه "(3789) .
(6)
" المسند "(2/288، 440، 531) ، والنسائي في " الكبرى "(5 / 49) ، وابن ماجه (143) .
فمحبة أولياء الله وأحبابه عموما من الإيمان، وهي من أعلى مراتبه، وبغضهم محرم فهو من خصال النفاق، لأنه مما لا يتظاهر به غالبا، ومن تظاهر به فقد تظاهر بنفاقه فهو شر ممن كتمه وأخفاه.
ومن كان له مزية في الدين لصحبته النبي صلى الله عليه وسلم أو لقرابته أو نصرته فله مزيد خصوصية في محبته وبغضه. ومن كان من أهل السوابق في الإسلام كالمهاجرين الأولين فهو أعظم حقا مثل علي رضي الله عنه. وقد روي أن المنافقين إنما كانوا يعرفون ببغض علي رضي الله عنه، ومن هو أفضل من علي كأبي بكر وعمر، فهو
(1)
أولى بذلك، ولذلك قيل: إن حبهما من فرائض الدين، وقيل: إنه يرجى على حبهما ما يرجى على التوحيد من الأجر.
(1)
كذا في " ف "، والصواب:" فهما ": يعني: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
11 -
فصل
(1)
قال البخاري:
(1)
وهو بدون ترجمة، وكذا قال الحافظ في " الفتح "(1/64) .
18 -
حدثنا أبو اليمان: أنا شعيب عن الزهري: أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن عبادة بن الصامت
(1)
- وكان شهد بدرا، وهو أحد النقباء ليلة العقبة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - وحوله عصابة من أصحابه -: " بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب [به]
(2)
في الدنيا فهو كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه " فبايعناه على ذلك.
هذا الحديث سمعه أبو إدريس، عن عقبة بن عامر، عن عبادة، وزيادة عقبة في إسناده: وهم. وقد خرج البخاري الحديث في " ذكر بيعة العقبة "
(3)
وفي " تفسير سورة الممتحنة "
(4)
من كتابه هذا، وفيه التصريح بأن أبا إدريس أخبره به عبادة وسمعه منه (187 - أ/ ف) .
(1)
زاد في " اليونينية ": " رضي الله عنه ".
(2)
ما بين المعقوفين ليس في " اليونينية ". وقال القسطلاني إثر كلمة: " فعوقب ": " أي: به - كما رواه أحمد - أي: بسببه " أ. هـ.
(3)
(فتح: 3892) .
(4)
(فتح: 4894) .
وكان عبادة قد شهد بدرا وهو أحد النقباء ليلة العقبة حيث بايعت الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، لكن هذه البيعة المذكورة في هذا الحديث كانت ليلة العقبة أم لا؟ هذا وقع فيه تردد، فرواه ابن إسحاق، عن الزهري وذكر في روايته أن هذه البيعة كانت ليلة العقبة. وروى ابن إسحاق - أيضا -، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله، عن الصنابحي، عن عبادة بن الصامت قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا اثني عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن تفرض الحرب على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق ولا نزني، الحديث
(1)
. خرجه الإمام أحمد من رواية ابن إسحاق هكذا
(2)
. وكذا رواه الواقدي عن يزيد بن حبيب. وخرجاه في " الصحيحين " من حديث الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن الصنابحي، عن عبادة قال: إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بايعنا على أن لا نشرك بالله شيئا فذكر الحديث
(3)
. وليس هذا بالصريح في أن هذه البيعة كانت ليلة العقبة.
(1)
ابن هشام (2/41) وذكر إسناد ابن إسحاق، ووقع في الإسناد هناك:" عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرثد بن عبد الله " خطأ.
(2)
في " المسند "(5 / 323) .
(3)
(فتح: 3893) ، ومسلم (1709 / 44) .
ولفظ مسلم بهذه الرواية
(1)
: عن عبادة بن الصامت قال: إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بايعناه على أن لا نشرك، الحديث. وهذا اللفظ قد يشعر بأن هذه البيعة غير
(2)
بيعة النقباء.
وخرجه مسلم، من وجه آخر من رواية أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن عبادة قال: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء أن لا نشرك بالله شيئا
(3)
.
هذا قد يشعر بتقدم أخذه على النساء على أخذه عليهم. وخرج مسلم حديث عبادة من رواية أبي إدريس، عنه وقال في حديثه: فتلا علينا آية النساء أن لا نشرك بالله شيئا، الآية
(4)
. وخرجه البخاري في " تفسير الممتحنة " من رواية ابن عيينه، عن الزهري وقال فيه: وقرأ آية النساء، وأكثر لفظ سفيان: وقرأ الآية، ثم قال: تابعه عبد الرزاق، عن معمر في الآية
(5)
. وكذا خرجه الإمام أحمد والترمذي وعندهما: فقرأ عليهم الآية، زاد الإمام أحمد: التي أخذت على النساء {إذا جاءك المؤمنات}
(6)
[الممتحنة: 12] . وهذا تصريح بأن هذه البيعة كانت بالمدينة، لأن بيعة النساء مدنية.
(1)
مسلم (1709/ 44) وراجع " علل " ابن عمار الشهيد (ص / 102) .
(2)
في " ف ": " عن " والصواب ما أثبتناه.
(3)
مسلم (1709 / 43) .
(4)
مسلم (1709 /42) .
(5)
(فتح: 4894) .
(6)
أحمد (5 / 314) ، والترمذي (1439) .
وروى هذا الحديث سفيان بن حسين، عن الزهري، وقال في حديثه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: " أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلا هذه الآية} قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] حتى فرغ من الثلاث آيات. خرجه الهيثم بن كليب في " مسنده " وسفيان بن حسين ليس بقوي، خصوصا في حديث الزهري، وقد خالف سائر الثقات من أصحابه في هذا
(1)
.
وقد روى عبادة بن الصامت أنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ينازعوا الأمر أهله، أن يقولوا بالحق
(2)
. فهذه صفة أخرى غير صفة البيعة المذكورة في الأحاديث المتقدمة.
وهذه البيعة الثانية مخرجة في " الصحيحين " من غير وجه عن عبادة. وقد خرجها الإمام أحمد
(3)
من رواية ابن إسحاق: حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه عن جده عبادة – وكان أحد النقباء – قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الحرب. وكان عبادة من الاثنى عشر (187 - ب / ف) نقيبا الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة الأولى على بيعة النساء على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، وذكر الحديث. وهذه الرواية تدل على أن هذه البيعة هي بيعة الحرب وأن بيعة النساء
(1)
راجع " شرح العلل " للمصنف (2 / 808) و" التمهيد "(3/311) فقد ذكر نحوه.
(2)
البخاري (فتح: 7199) ، ومسلم (1709 / 41) ، وراجع " أطراف الغرائب "(4181) بتحقيقنا.
(3)
المسند (5 / 323) .
كانت في العقبة الأولى قبل أن يفرض
(1)
الحرب، فهذا قد يشعر بأن هذه البيعة كانت بالمدينة بعد فرض الحرب. وفي هذا نظر. وقد خرجه الهيثم بن كليب في " مسنده " من رواية ابن إدريس، عن ابن إسحاق ويحي بن سعيد وعبيد الله بن عمر، عن عبادة بن الوليد أن أباه حدثه، عن جده قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة الآخرة على السمع والطاعة، فذكره.
وخرجه ابن سعد من وجه آخر، عن عبادة بن الوليد مرسلا
(2)
. وخرج الإمام أحمد من وجه آخر، عن عبادة أنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم هذه البيعة على السمع والطاعة، الحديث وقال فيه: وعلى أن ننصر النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا
(3)
. وهذا يدل على أن هذه البيعة كانت قبل الهجرة وذلك ليلة العقبة.
وخرج – أيضا
(4)
– هذا المعنى من حديث جابر بن عبد الله أن هذه البيعة كانت للسبعين بشعب العقبة وهي البيعة الثانية، وتكون سميت هذه البيعة الثانية، بيعة الحرب، لأن فيها البيعة على منع النبي صلى الله عليه وسلم وذلك يقتضي القتال دونه، فهذا هو المراد بالحرب وقد شهد عبادة البيعتين معا. ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبايع أصحابه على بيعة النساء قبل نزول أية مبايعتهن، ثم نزلت الآية بموافقة ذلك.
(1)
كذا في " ف " والصواب بالفوقية.
(2)
ابن سعد في " طبقاته "(1 / 221) .
(3)
" المسند "(5 / 325) .
(4)
" المسند "(3 / 322 – 323، 339 – 340) .
وفي المسند
(1)
عن أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة جمع النساء فبايعهن على هذه الآية إلى قوله {ولا يعصينك في معروف} [الممتحنة: 12] .
وهذا قبل نزول سورة الممتحنة، فإنها إنما أنزلت قبل الفتح بيسير والله أعلم بحقيقة ذلك كله. وأما ما بايعهم عليه: فقد اتفقت روايات حديث عبادة من طرقه الثلاث عن أنهم بايعوه على أن لا يشركوا بالله ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا. وفي بعض الروايات: لا يقتلوا أولادهم – كما في لفظ الآية -، وفي بعضها: لا يقتلوا النفس التي حرم الله. وهذه رواية الصنابحي، عن عبادة. ثم إن من الرواة من اقتصر علي هذه الأربع ولم يزد عليها. ومنهم من ذكر خصلة خامسة بعد الأربع، ولكن لم يذكرها باللفظ الذي في الآية، ثم اختلفوا في لفظها: فمنهم من قال: " ولا تنتهب " – وهي رواية الصنابحي، عن عبادة المخرجة في " الصحيحين " ومنهم من قال " ولا يعضه – بعضنا بعضا " وهي رواية أبي الأشعث عن عبادة -، خرجها مسلم.
(1)
(5/ 85) ، (6 / 408 – 409) .
ومنهم من قال: " ولا يغتب بعضنا بعضا " – وهي رواية الإمام أحمد
(1)
. وأما الخصلة السادسة: فمنهم من لم يذكرها بالكلية – وهي رواية أبي الأشعث التي خرجها مسلم. ومنهم من ذكرها وسماها المعصية فقال: " ولا نعصي " – كما في رواية الصنابحي – وفي رواية أبي إدريس: " ولا تعصوا في معروف ". فأما الشرك والسرقة
(2)
والزنا والقتل: فواضح، وتخصيص قتل الأولاد بالذكر في بعض الروايات موافق لما ورد في القرآن في مواضع (188 - أ / ف) وليس له مفهوم، وإنما خصص بالذكر للحاجة إليه، فإن ذلك كان معتادا بين أهل الجاهلية.
وأما الإتيان ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم - على ما جاء في رواية البخاري -: فهذا يدل على أن هذا البهتان ليس مما يختص به النساء. وقد اختلف المفسرون في البهتان المذكور في آية بيعة النساء: فأكثرهم فسروه بإلحاق المرأة بزوجها ولدا من غيره، رواه علي بن أبي طلحة
(3)
، عن ابن عباس، وقاله مقاتل بن حيان
(4)
وغيره.
(1)
سبق تخريج كل هذه الروايات تحت نفس الحديث.
(2)
في " ف " تشتبه بـ " فالسرقة ".
(3)
في " صحيفته " عن ابن عباس (488) . وسيأتي الكلام على هذه الصحيفة فيما بعد.
(4)
ذكره ابن كثير في " تفسيره "(8 / 126) .
واختلفوا في معنى قوله: " بين أيديهم وأرجلهن ": فقيل لأن الولد إذا ولدته أمه سقط بين يديها ورجليها. وقيل: بل أراد بما تفتريه بين يديها: أن تأخذ لقيطا فتلحقه بزوجها، وبما تفتريه بين رجليها: أن تلده من زنا ثم تلحقه بزوجها.
ومن المفسرين من فسر البهتان المفترى بالسحر، ومنهم من فسره بالمشي بالنميمة والسعي في الفساد، ومنهم من فسره بالقذف والرمي بالباطل. وقيل: البهتان المفترى يشمل ذلك كله وما كان في معناه، ورجحه ابن عطية
(1)
وغيره. وهو الأظهر، فيدخل فيه كذب المرأة فيما اؤتمنت عليه من حمل وحي وغير ذلك. ومن هؤلاء من قال: أراد بما بين يديها: حفظ لسانها وفمها ووجهها عما لا يحل لها، وبما بين رجليها: حفظ فرجها، فيحرم عليها الافتراء ببهتان في ذلك كله. ولو قيل: إن من الافتراء ببهتان بين يديها خيانة الزوج في ماله الذي في بيتها لم يبعد ذلك.
وقد دل مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم الرجال على أن لا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم: أن ذلك لا يختص بالنساء، وجميع ما فسر به البهتان في حق النساء يدخل فيه الرجال – أيضا -، فيدخل فيه استلحاق الرجل ولد غيره سواء كان لاحقا غيره أو غير لاحق كولد الزنا، ويدخل فيه
(1)
في تفسيره " المحرر الوجيز "(15 / 497) .
الكذب والغيبة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " خرجه مسلم
(1)
وكذلك القذف، وقد سمى الله قذف عائشة بهتانا عظيما. وكذلك النميمة من البهتان. وفي رواية أبي الأشعث، عن عبادة:" ولا يعضه بعضكم بعضا "
(2)
، فالعضيهة: النميمة. وفي " صحيح مسلم " عن ابن مسعود مرفوعا: " ألا أنبئكم ما العضيهة
(3)
؟ هي النميمة القالة بين الناس "
(4)
.
وروى إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: كنا نسمي العضيهة: السحر، وهو اليوم: قيل وقال. وفسر إسحاق بن راهويه العضيهة في حديث عبادة بن الصامت قال: " لا يبهت بعضكم بعضا "، نقله عنه محمد بن نصر
(5)
. وذكر أهل اللغة أن العضيهة: الشتيمة، والعضيهة: البهتان، والعاضهة، والمستعضهة: الساحرة المستسحرة
(6)
.
(1)
مسلم (2589) .
(2)
مسلم (1709 / 43)
(3)
في الرواية " العضة ".
(4)
مسلم (2606) . .
(5)
في " تعظيم قدر الصلاة "(2 / 613) .
(6)
انظر " غريب أبي عبيد "(3 / 181) ، " الفائق "(2 / 445) ، وغريب ابن الجوزي " (2 / 104) .
وفي رواية الصنابحي: " ولا ننتهب " والنهبة من البهتان، فإن المنتهب يبهت الناس بانتهابه منه ما يرفعون عليه أبصارهم فيه. فكل ما بهت صاحبه وحيره وأدهشه من قول أو فعل لم يكن في حسابه فهو بهتان، فأخذ المال بالنهيى أو بالدعاوى الكاذبة: بهتان، وقد قال تعالى:{وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِينا} [النساء 20] .
وفي المسند، والترمذي (188 - ب / ف) ، والنسائي، عن صفوان ابن عسال أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن التسع آيات البينات التي أوتيها موسى فقال: لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف، وعليكم اليهود خاصة أن لا تعدوا في السبت
(1)
.
فلم يذكر في هذا الحديث البهتان المفترى بلفظه، ولكن ذكر مما فسر به البهتان المذكور في القرآن عدة خصال: السحر، والمشي ببريء على السلطان، وقذف المحصنات. وهذا يشعر بدخول ذلك كله في اسم البهتان. وكذلك الأحاديث التي ذكر فيها عدد الكبائر ذكر في بعضها القذف، وفي بعضها قول الزور أو شهادة الزور، وفي بعضها اليمين الغموس والسحر، وهذا كله من البهتان المفترى.
(1)
" المسند "(4/ 239) ، والترمذي (2733) ، والنسائي في " الكبرى "(2/ 306) .
وأما الخصلة السادسة: فهي المعصية، وتشمل جميع أنواع المعاصي، فهو من باب ذكر العام بعد الخاص، وهو قريب من معنى قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56]، وقوله تعالى {ولا يعصينك في معروف} [الممتحنة: 12] . وفي بعض ألفاظ حديث عبادة: " ولا تعصوا في معروف "، وفي بعضها " ولا تعصوني في معروف "، وقد خرجها البخاري في موضع آخر
(1)
. وكل هذا إشارة إلى أن الطاعة لا تكون إلا في معروف، فلا يطاع مخلوق إلا في معروف ولا يطاع في معصية الخالق.
وقد استنبط هذا المعنى من هذه الآية طائفة من السلف، فلو كان لأحد من البشر أن يطاع بكل حال لكان ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم، فلما خصت طاعته بالمعروف – مع أنه لا يأمر إلا بما هو معروف – دل على أن الطاعة في الأصل لله وحده، والرسول مبلغ عنه وواسطة بينه وبين عباده، ولهذا قال تعالى:{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] . فدخل في هذه الخصلة السادسة الانتهاء عن جميع المعاصي. ويدخل فيها – أيضا – القيام بجميع الطاعات على رأي من يرى أن النهي عن شيء أمر بضده.
فلما تمت هذه البيعة على هذه الخصال ذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم حكم من
(1)
وقد سبق هذا كله في أول شرحه على الحديث.
وفى بها وحكم من لم يف بها عند الله عز وجل. فأما من وفى بها فأخبر أن أجره على الله – كذا رواية أبي إدريس وأبي الأشعث، عن عبادة، وفي رواية الصنابحي، عنه: فالجنة إن فعلنا ذلك. وقد قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10] . وفسر الأجر العظيم بالجنة، كذا قاله قتادة
(1)
. وغيره من السلف. ولا ريب أن من اجتنب الشرك والكبائر والمعاصي كلها فله الجنة، وعلى ذلك وقعت هذه البيعة، وإن اختصر ذلك بعض الرواة فأسقط بعض هذه الخصال. وأما من لم يوف بها، بل نكث بعض ما التزم بالبيعة تركه لله عز وجل. والمراد: ما عدا الشرك من الكبائر، فقسمه إلى قسمين:
أحدهما: أن يعاقب في الدنيا، فأخبر (189 - أ/ف) أن ذلك كفارة له، وفي رواية:" فهو طهور له "، وفي رواية " طهور له أو كفارة " – بالشك -، ورواه بعضهم:" طهور وكفارة " – بالجمع. وقد خرجها البخاري في موضع آخر في " صحيحه "
(2)
.
(1)
انظر " تفسير الطبري "(26 / 48) .
(2)
(6801 و7468 – فتح) .
وروى ابن اسحاق، عن الزهري حديث أبي إدريس، عن عبادة وقال فيه:" فأقيم عليه الحد فهو كفارة له"
(1)
. وفي رواية أبي الأشعث، عن عبادة:" ومن أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارة " خرجه مسلم
(2)
. وهذا صريح في أن إقامة الحدود كفارات لأهلها. وقد صرح بذلك سفيان الثوري، ونص على ذلك أحمد في رواية عبدوس بن مالك العطار، عنه
(3)
. وقال الشافعي: لم أسمع في هذا الباب أن الحد كفارة أحسن من حديث عبادة
(4)
. وإنما قال هذا، لأنه قد روى هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، عن علي، وجرير، وخزيمة بن ثابت، وعبد الله بن عمرو، وغيرهم، وفي أسانيد كلها مقال، وحديث عبادة صحيح وثابت. وقد روى عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ما أدري ما الحدود طهارة لأهلها أم لا؟ " وذكر كلاما آخر. خرجه الحاكم. وخرج أبو داود بعض الحديث
(5)
.
(1)
مسلم (1709 / 41) .
(2)
1709/ 43) .
(3)
" طبقات الحنابلة "(1 / 245) .
(4)
" الأم "(6 / 138) .
(5)
الحاكم (1 / 36) ، وأبو داود (4674) .
وقد رواه هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري مرسلا. قال البخاري في " تاريخه ": المرسل أصح، قال: ولا يثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت عنه أن الحدود كفارة
(1)
. انتهى. وقد خرجه البيهقي من رواية آدم بن أبي أياس، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة مرفوعا - أيضا
(2)
.
وخرجه البزار من وجه آخر فيه ضعف، عن المقبري، عن أبي هريرة مرفوعا - أيضا
(3)
. وعلى تقدير صحته، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلمه ثم علمه فأخبر به جزما. فإن كان الأمر كذلك، فحديث عبادة إذن - لم يكن ليلة العقبة بلا تردد، لأن حديث أبي هريرة متأخر عن الهجرة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم علم - حينئذ - أن الحدود كفارة، فلا يجوز أن يكون قد أخبر قبل الهجرة بخلاف ذلك. وقد اختلف العلماء: هل إقامة الحد بمجرده كفارة للذنب من غير توبة أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أن إقامة الحد كفارة للذنب بمجرده كفارة
(4)
. وهو مروي عن علي بن أبي طالب، وابنه الحسن، وعن مجاهد،
(1)
" التاريخ الكبير "(1 / 153) وقال المصنف في " جامع العلوم "(1 / 448) أعله البخاري وقال: لا يثبت، وإنما هو من مراسيل الزهري - وهي ضعيفة - وغلط عبد الرزاق فوصله " وانظر " أطراف الغرائب " (5204) بتحقيقنا.
(2)
السنن الكبرى " (8 / 329) .
(3)
البزار (كشف: 2 / 212 - 213) .
(4)
كأن كلمة " كفارة " الثانية زائدة، والجملة بغيرها مستقيمة، ويظهر ذلك من السياق بعده ولعله انتقال نظر. .
وزيد بن أسلم، وهو قول الثوري والشافعي وأحمد، واختيار ابن جرير وغيره من المفسرين
(1)
.
والثاني: أنه ليس بكفارة بمجرده، فلابد من توبة. وهو مروي عن صفوان بن سليم وغيره، ورجحه ابن حزم
(2)
. وطائفة من متأخري المفسرين كالبغوي وأبي عبد الله بن تيمية وغيرهما. واستدلوا بقوله تعالى في المحاربين: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ} [المائدة: 33] .
وقد يجاب عن هذا: بأن عقوبة الدنيا والآخرة لا يلزم اجتماعها، فقد دل الدليل على أن عقوبة الدنيا تسقط عقوبة الآخرة. وأما استثناء الذين تابوا فإنما استثناهم من عقوبة الدنيا خاصة، ولهذا خصهم بما قبل القدرة، وعقوبة الآخرة تندفع بالتوبة قبل القدرة وبعدها. ويدل على أن الحد يطهر الذنب: قول ماعز للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أصبت حدا فطهرني. وكذلك قالت له الغامدية
(3)
ولم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فدل على أن الحد طهارة لصاحبه. ويدخل (189 – ب / ف) في قول النبي صلى الله عليه وسلم:" من أصاب شيئا من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارته ": العقوبتان القدرية من الأمراض والأسقام. والأحاديث في تكفير الذنوب بالمصائب كثيرة جدا.
(1)
ابن جرير في " تفسيره "(6 / 169 - 170) .
(2)
راجع " المحلي "(11 / 124) .
(3)
انظر (الفتح: 6824) ، ومسلم (1695) .
وهذه المصائب يحصل بها للنفوس من الألم نظير الألم الحاصل بإقامة الحد وربما زاد على ذلك كثيرا. وقد يقال في دخول هذه العقوبات القدرية في لفظ حديث عبادة نظر، لأنه قابل من عوقب في الدنيا ستر الله عليه، وهذه المصائب لا تنافي الستر، والله أعلم.
والقسم الثاني: أن لا يعاقب في الدنيا بذنبه، بل ستر عليه ذنبه ويعافى من عقوبته. فهذا أمره إلى الله في الآخرة إن شاء عفا عنه، وهذا موافق لقول الله عز وجل {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] . وفي ذلك رد على الخوارج والمعتزلة في قوله: إن الله يخلده في النار إذا لم يتب. وهذا المستور في الدنيا له حالتان:
إحداهما: أن يموت غير تائب، فهذا في مشيئة الله - كما ذكرنا.
والثانية: أن يتوب من ذنبه.
فقال طائفة: إنه تحت المشيئة - أيضا -، واستدلوا بالآية المذكورة وحديث عبادة. والأكثرون على أن التائب من الذنب مغفور له وأنه كمن لا ذنب له كما قال تعالى {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] وقال: {أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن
رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [آل عمران: 136] . فيكون التائب – حينئذ – ممن شاء الله أن يغفر له. واستدل بعضهم – وهو ابن حزم
(1)
- بحديث عبادة هذا: على أن من أذنب ذنبا فإن الأفضل له أن يأتي الإمام فيعترف عنده ليقيم عليه الحد حتى يكفر عنه ولا يبقى تحت المشيئة في الخطر، وهذا مبني على قوله: إن التائب في المشيئة. والصحيح: أن التائب توبة نصوحا مغفور له جزما، لكن المؤمن يتهم توبتة ولا يجزم بصحتها ولا بقبولها، فلا يزال خائفا من ذنبه وجلا. ثم إن هذا القائل لا يرى أن الحد بمجرده كفارة، وإنما الكفارة التوبة، فكيف لا يقتصر على الكفارة؟ بل يكشف ستر الله عليه ليقام عليه ما لا يكفر عنه.
وجمهور العلماء على أن من تاب من ذنب فالأصل أن يستر على نفسه ولا يقر به عند أحد، بل يتوب منه فيما بينه وبين الله عز وجل. روي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وابن مسعود، وغيرهم، ونص عليه الشافعي
(2)
. ومن أصحابه وأصحابنا من قال: إن كان غير معروف بين الناس بالفجور فكذلك، وإن كان معلنا بالفجور مشتهرا به فالأولى أن يقر بذنبه عند الإمام ليطهره منه.
(1)
" المحلي "(11 / 149 - 151) .
(2)
" الأم "(6 / 138) .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ: " إذا أحدثت ذنبا فأحدث عنده توبة إن سرا فسرا وإن علانية فعلانية "
(1)
. وفي إسناده مقال. وهو إنما هو يدل
(2)
على إظهار التوبة، وذلك لا يلزم منه طلب إقامة الحد. وقد وردت أحاديث تدل على أن من ستر الله عليه في الدنيا فإن الله يستر عليه في الآخرة، كحديث ابن عمر في النجوى، وقد خرجه البخاري في " التفسير "
(3)
. وخرج الترمذي، وابن ماجه عن علي مرفوعا:" من أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه فالله أكرم (190 – أ / ف) أن يعود في شيء قد عفا عنه "
(4)
.
وفي " المسند "
(5)
عن عائشة مرفوعا: " لا يستر الله على عبد ذنبا في الدنيا إلا ستره عليه في الآخرة " وروي مثله ذلك عن علي، وابن مسعود من قولهما. وقد يحمل ذلك كله على التائب من ذنبه جمعا بين هذه النصوص وبين حديث عبادة هذا. وأصح هذه الأحاديث المذكورة ها هنا: حديث بن عمرو النجوي،
(1)
يراجع " الكنز "(4 / 220) .
(2)
في " ف " بالمثناة بالفوقية والصواب ما أثبتناه. .
(3)
(فتح: 4685) .
(4)
الترمذي (2626) ، وابن ماجه (2604) .
(5)
(6 / 145، 160) .
وليس فيه تصريح بأن ذلك عام لكل من ستر عليه ذنبه، والله تعالى أعلم. وقد قيل: إن البيعة سميت بيعة لأن صاحبها باع نفسه لله.
والتحقيق: أن البيع والمبايعة مأخوذان من مد الباع لأن المتبايعين
(1)
للسلعة كل منهما يمد باعه للآخر ويعاقده عليها، وكذلك من بايع الإمام ونحوه فإنه يمد باعه إليه ويعاهده ويعاقده على ما يبايعه عليه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه عند دخولهم في الإسلام على التزام أحكامه، وكان أحيانا يبايعهم على ذلك بعد إسلامهم تجديدا للعهد وتذكيرا بالمقام عليه. وفي " الصحيحين " عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى النساء في يوم عيد وتلا عليهن هذه الآية:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} الآية [الممتحنة: 12] وقال: " أنتن على ذلك؟ " فقالت امرأة منهن: نعم
(2)
. وفي صحيح مسلم " عن عوف بن مالك قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: " ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " – ومنا حديث عهد ببيعة – فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فقال: " ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " قلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: " ألا تبايعون رسول الله؟ " فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلى ما نبايعك؟ فقال: " أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا والصلوات الخمس
(1)
في " ف "" المتبابعين " بالموحدة والصواب ما أثبتناه.
(2)
البخاري (979) ، ومسلم (884) .
وتطيعوا " – وأسر كلمة خفية -: " ولا تسألوا الناس شيئا "
(1)
. وحديث عبادة المذكور هاهنا في البيعة: قد سبق أنه كان ليلة العقبة الأولى فيكون بيعة لهم على الإسلام والتزام أحكامه وشرائعه.
وقد ذكر طائفة من العلماء – منهم القاضي أبو يعلي في كتاب " أحكام القرآن " من أصحابنا – أن البيعة على الإسلام كانت من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم واستدلوا بأن الأمر بالبيعة في القرآن يخص الرسول بالخطاب بها وحده كما قال تعالى " {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] . ولما كان الامتحان وجه الخطاب إلى المؤمنين عموما فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] فدل على أنه يعم المؤمنين، وكذلك قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] ، وهذا أمر يخص به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يشركه فيه غيره. ولكن قد روى عثمان أنه كان بايع على الإسلام. قال الإمام أحمد: حدثنا مسكين بن بكير قال: ثنا ثابت بن عجلان، عن سليم أبي
(2)
عامر أن وفد الحمراء أتوا عثمان بن عفان يبايعونه على الإسلام وعلى من ورائهم فبايعهم على أن لا يشركوا بالله شيئا وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويصوموا رمضان ويدعوا عيد المجوس فلما
(1)
مسلم (1043) .
(2)
كذا " ف "، والصواب:" سليم بن عامر " من رجال التهذيب.
قالوا بايعهم. وقد بايع عبد الله بن حنظلة الناس يوم الحرة (190 - ب / ف) على الموت، فذكر ذلك لعبد الله بن زيد الأنصاري فقال: لا أبايع على هذا أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. خرجه البخاري في الجهاد
(1)
وإنما أنكر البيعة على الموت لا أصل المبايعة. وقال أبو إسحاق الفزاري: قلت للأوزاعي: لو أن إمامنا أتاه عدو كثير فخاف على من معه فقال لأصحابه: تعالوا نتبايع على أن لا نفر، فبايعوا على ذلك؟ . قال: ما أحسن هذا.
قلت: فلو أن قوما فعلوا ذلك بينهم دون الإمام؟ قال: لو فعلوا ذلك بينهم شبه العقد في غير بيعة
(2)
.
(1)
(فتح: 2959) .
(2)
" السيرة " للفزاري (ص 199) .
فصل
قال البخاري:
13 -
باب
(1)
قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أعلمكم بالله، وأن المعرفة فعل القلب لقوله تعالى {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} . [البقرة: 225] .
مراده بهذا التبويب: أن المعرفة بالقلب التي هي أصل الإيمان فعل للعبد وكسب له، واستدل بقوله تعالى {بِمَاكَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] فجعل للقلوب كسبا كما جعل للجوارح الظاهرة
(2)
كسبا.
والمعرفة مركبة من تصور وتصديق، فهي تتضمن علما وعملا وهو تصديق القلب، فإن التصور قد يشترك فيه المؤمن والكافر، والتصديق يختص به المؤمن، فهو عمل قلبه وكسبه.
وأصل هذا: أن المعرفة مكتسبة تدرك بالأدلة، وهذا قول أكثر أهل السنة من أصحابنا وغيرهم ورجحه ابن جرير الطبري، وروى بإسناده عن الفضيل ابن عياض أنه قال: أهل السنة يقولون: الإيمان والقول والعمل. وقالت طائفة: إنها اضطرارية لا كسب فيها. وهو قول بعض أصحابنا وطوائف من المتكلمين والصوفية وغيرهم. وخرج البخاري في هذا الباب: حديث:
(1)
سقط من الترتيب باب (12) وسيأتي بعد باب (16) .
(2)
في " ف ": " الطاهرة " بالمهملة وما أثبتناه هو الموافق للسياق.
20 -
هشام عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه ثم يقول:" إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا ".
كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بما يطيقون من الأعمال، وكانوا لشدة حرصهم على الطاعات يريدون الاجتهاد في العمل، فربما اعتذروا عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق واستعماله له في نفسه أنه غير محتاج إلى العمل بضمان المغفرة له وهم غير مضمون لهم المغفرة، فهم يحتاجون إلى الاجتهاد ما لا يحتاج هو إلى ذلك، فكان صلى الله عليه وسلم يغضب من ذلك ويخبرهم أنه أتقاهم وأعلمهم به. فكونه أتقاهم لله يتضمن شدة اجتهاده في خصال التقوى وهو العمل، وكونه أعلمهم به يتضمن أن علمه بالله أفضل من علمهم بالله وإنما زاد علمه بالله لمعنيين:
أحدهما: زيادة معرفته بتفاصيل أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وعظمته وكبريائه وما يستحقه من الجلال والإكرام والإعظام.
والثاني: أن علمه بالله مستند إلى عين اليقين، فإنه رآه إما بعين بصره أو بعين بصيرته، كما قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما: رآه بفؤاده مرتين، وعلمهم به مستند إلى علم يقين، وبين المرتين [تباين]
(1)
، ولهذا سأل إبراهيم عليه السلام ربه أن يرقيه من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين بالنسبة إلى رؤية إحياء الموتى – وقد سبق التنبيه على
(1)
ما بين المعقوفين سقط من " ف " بمقدار كلمة ولم يظهر منها سوى " ين " ولعل الصواب ما أثبتناه.
ذلك والكلام في تفاصيل المعرفة التامة بالقلب
(1)
- فلما زادت معرفة الرسول (191 - أ / ف) بربه زادت خشيته له وتقواه، فإن العلم التام يستلزم الخشية كما قال تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28] فمن كان بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه أعلم كان له أخشى وأتقى،، إنما تنقص الخشية والتقوى بحسب نقص المعرفة بالله. وقد خرج البخاري في آخر " صحيحه " عن مسروق قال: قالت عائشة: صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ترخص فيه وتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله ثم قال:" ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ ! فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم خشية "
(2)
.
وفي " صحيح مسلم " عن عائشة أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إني أصبح جنبا وأنا أريد الصيام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم " فقال الرجل: يا رسول الله! إنك لست مثلنا، قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:" إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي "
(3)
. وفي حديث أنس أن ثلاث رهط جاءوا إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أصوم الدهر ولا
(1)
عند شرحه تحت ترجمة هذا الباب. وراجع تفصيله عند شرحه لترجمة الباب الأول من " كتاب الإيمان "(ص 10 - 11) عند شرحه لقول البخاري: " ويزيد وينقص ".
(2)
(فتح: (6101) .
(3)
مسلم (1110) .
أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال:" أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ ! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكن أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ". وقد خرجاه في " الصحيحين " بمعناه
(1)
.
ففي هذه الأحاديث كلها الإنكار على من نسب إليه التقصير في العمل للاتكال على المغفرة؛ فإنه كان يجتهد في الشكر أعظم الاجتهاد فإذا عوتب على ذلك وذكرت له المغفرة أخبر أنه يفعل ذلك شكرا؛ كما في " الصحيحين " عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم حتى تتفطر قدماه فيقال له: تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: " أفلا أكون عبدا شكورا "
(2)
. وقد يواصل في الصيام وينهاهم ويقول: " إني لست كهيئتكم؛ إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني "
(3)
، فنسبة التقصير إليه في العمل لاتكاله على المغفرة خطأ فاحش؛ لأنه يقتضي أن هديه ليس هو أكمل الهدى وأفضله، وهذا خطأ عظيم؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته:" خير الهدى هدى محمد "
(4)
. ويقتضي – أيضا – هذا الخطأ: أن الاقتداء به في العمل ليس هو أفضل؛ بل الأفضل الزيادة على هديه في ذلك، وهذا خطأ عظيم جدا؛ فإن الله تعالى قد أمر بمتابعته وحث عليها، قال تعالى {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ
(1)
(فتح: 5063) ، ومسلم (1401) .
(2)
(فتح: 1130) ، ومسلم (2820) .
(3)
(فتح: 1964) ، ومسلم (1105) عن عائشة. .
(4)
أخرجه مسلم (867) .
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] . فلهذا كان صلى الله عليه وسلم يغضب من ذلك غضبا شديدا لما في هذا الظن من القدح في هديه ومتابعته والاقتداء به. وفي رواية للإمام أحمد: " والله إني لأعلمكم بالله وأتقاكم له قلبا "
(1)
. وقوله في الرواية التي خرجها البخاري في هذا الباب " إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا " فيه الإتيان بالضمير المنفصل مع تأتي الإتيان بالضمير المتصل، وهو ممنوع عند أكثر النحاة (191 – ب / ف) إلا للضرورة كقول الشاعر:" ضمنت إياهم الأرض في دهر الدهارير ".
وإنما يجوز اختيارا إذا لم يتأت
(2)
الإتيان بالمتصل مثل أن يبتدأ بالضمير قبل عامله نحو: إياك نعبد؛ فإنه لا يبتدأ بضمير متصل أو يقع بعد نحو إلا إياه. فأما قول الشاعر: " أن لا يجاوزنا إلاك "، فشاذ. وأما قوله:" وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي "، فهو عندهم متأول على أن فيه معنى الاستثناء، كأنه قال: ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا.
ولكن هذا الذي وقع في هذا الحديث يشهد لجوازه من غير ضرورة، ويكون حينئذ قوله:" إنما يدافع عن أحسابهم أنا ": شاهدا له غير محتاج إلى تأويل، والله أعلم.
(1)
" المسند "(6 / 61) .
(2)
في " ف " بتأت " بالموحدة، والموافق للسياق ما أثبتناه.
14 -
فصل
(1)
تقدم عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان "
وقد تقدم من رواية أبي قلابة، عن أنس، وزاد في رواية قتادة:" ومن كره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه ". وقوله " بعد إذ أنقذه الله منه " لا يستلزم أنه كان واقعا فيه فإن كل من أدخل الله الإسلام في قلبه فقد أنقذه الله من الكفر وإن لم يكن قد وقع في الكفر قبل ذلك؛ وهذا كما قال شعيب عليه السلام {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله} [الأعراف: 89] وقال تعالى {وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} [آل عمران: 103] وقال تعالى {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} [البقرة: 257] .
والمراد: أنه ينجيهم من الشرك ويدخلهم في الإيمان؛ وكثير منهم لم يكن داخلا في الشرك قط.
(1)
وهو: باب " من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار من الإيمان " وتقدم الكلام على هذا الباب تحت باب: (9) حديث: (16)" وهي عادة البخاري في التبويب على ما يستفاد من المتن مع أنه غاير الإسناد هنا إلى أنس " قاله ابن حجر (الفتح: 1 / 72) تحت حديث (21) .
15 -
فصل
(1)
خرج البخاري ومسلم
(2)
من حديث:
(1)
باب " تفاضل أهل الإيمان في الأعمال ".
(2)
برقم (184) .
22 -
عمرو بن يحي المازني، عن أبيه عن أبي سعيد
(1)
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقول الله عز وجل: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحيا أو الحياة – شك: مالك – فينبتون كما تنبت الحبة في حميل
(2)
السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية ". قال البخاري: و
(3)
قال وهيب: حدثنا عمرو " الحياة " وقال: " خردل من خير ". قد قيل: إن الرواية الصحيحة: " الحيا " هو: المطر، قاله الخطابي
(4)
وغيره
(5)
. هذا الحديث نص في أن الإيمان في القلوب يتفاضل، فإن أريد به مجرد التصديق ففي تفاضله خلاف سبق ذكره
(6)
، إن أريد به ما في القلوب من أعمال الإيمان كالخشية والرجاء والحب والتوكل، ونحو ذلك فهو متفاضل بغير نزاع.
(1)
زاد في " اليونينية ": " الخدري رضي الله عنه ".
(2)
في " اليونينية ": " جانب "، وراجع " عمدة القاري "(1 / 194) .
(3)
" قال البخاري و" ليس في " اليونينية ".
(4)
في " أعلام الحديث "(1 / 156) .
(5)
الزمخشري في " الفائق "(1 / 211) .
(6)
(ص 15) عند شرحه لترجمة الباب الأول.
وقد بوب البخاري على هذا الحديث: " باب تفاوت
(1)
أهل الإيمان في الأعمال " فقد يكون مراده الأعمال القائمة بالقلب كما بوب على أن المعرفة فعل القلب. وقد يكون مراده أن أعمال الجوارح تتفاوت بحسب تفاوت إيمان القلوب فإنهما متلازمان.
وقد ذكر البخاري أن وهيبا خالف مالكا في هذا الحديث وقال: " مثقال حبة
(2)
من خير ". وفي الباب – أيضا – من حديث أنس بمعنى حديث أبي سعيد، وفي لفظه اختلاف كالاختلاف في حديث أبي سعيد. وقد خرجه البخاري في موضع آخر وفيه زيادة: " من قال لا إله إلا الله "
(3)
. وهذا يستدل به على أن الإيمان يفوق معنى
(4)
كلمة التوحيد والإيمان القلبي وهو التصديق لا تقتسمه
(5)
الغرماء بمظالمهم؛ بل يبقى (192 - أ / ف) على صاحبه؛ لأن الغرماء لو اقتسموا ذلك لخلد بعض أهل التوحيد وصار مسلوبا ما في قلبه من التصديق وما قاله بلسانه من الشهادة، وإنما يخرج عصاة الموحدين من النار بهذين الشيئين، فدل على بقائهما على جميع من دخل النار منهم وأن الغرماء إنما يقتسمون الإيمان العملي بالجوارح، وقد قال ابن عيينه وغيره: إن الصوم خاصة من أعمال الجوارح لا تقتسمه الغرماء – أيضا. وأما الحبة بكسر الحاء فهي أصول النبات والعشب وقد قيل: أنها
(1)
في " اليونينية ": " تفاضل ".
(2)
في رواية وهيب: " خردل ".
(3)
(فتح 7437) .
(4)
قوله: " يفوق معنى " عسر علينا قراءتها في " ف " ولعلها هكذا.
(5)
غير واضحة في " ف " ولعلها هكذا لما سيأتي بعد.
تنزل مع المطر من السماء، كذا قاله كعب غيره. وقد ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب " المطر " وذكر فيه آثارا عن الأعراب.
وحميل السيل: محمولة؛ فإن السيل يحمل من الغثاء ونحوه ما ينبت منه العشب، وشبه نبات الخارجين من النار إذا ألقوا في نهر الحيا – أو الحياة – بنبات هذه الحبة لمعنيين: أحدهما: سرعة نباتها. والثاني: أنها صفراء ملتوية ثم تستوي وتحسن، فكذلك ينبت من يخرج من النار بهذا الماء نباتا ضعيفا ثم يقوى ويكمل نباته ويحسن خلقه. وقد جعل الله نبات أجساد بني آدم كنبات الأرض، قال الله تعالى {وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17] وحياتهم من الماء، فنشأتهم الأولى في بطون أمهاتهم من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب، ونشأتهم الثانية من قبورهم
(1)
من الماء الذي ينزل من تحت العرش، فينبتون فيه كنبات البقل حتى تتكامل أجسادهم، ونبات من يدخل النار ثم يخرج منها من ماء نهر الحياة – أو الحيا.
وفي " صحيح مسلم " عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون؛ ولكن أناس أصابتهم النار بذنوبهم – أو قال: بخطاياهم -، فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا
(1)
في " ف ": " قبورهم " – بالمثناة التحتانية، والمثبت هو الصواب.
فحما أذن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل: يا أهل الجنة! أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة في حميل السيل
(1)
. وظاهر هذا: أنهم يموتون بمفارقة أرواحهم لأجسادهم [و]
(2)
يحيون بإعادتها، ويكون ذلك قبل ذبح الموت. ويشهد له: ما خرجه البزار في " مسنده " من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أدنى أهل الجنة منزلة أو نصيبا: قوم يخرجهم الله من النار فيرتاح لهم الرب عز وجل أنهم كانوا لا يشركون بالله شيئا فينبذون بالعراء فينبتون كما ينبت البقل، حتى إذا دخلت الأرواح في أجسادهم قالوا: ربنا! فالذي
(3)
أخرجتنا من النار ورجعت الأرواح إلى أجسادنا فاصرف وجوهنا عن النار، فتصرف وجوههم عن النار
(4)
. ثم خرج البخاري حديث:
(1)
مسلم (185/ 307) .
(2)
ساقط من " ف " والسياق يقتضيه فأثبتناه.
(3)
في الرواية: " كالذي ".
(4)
" البحر الزخار " في مسند أبي هريرة، عنه أبو أمامة بن سهل من المخطوط، " وكشف الأستار "(4 / 211) .
23 -
أبي سعيد، عن النبي
(1)
صلى الله عليه وسلم قال: بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص، فمنها
(2)
ما يبلغ الثدي، ومنها مايبلغ
(3)
(1)
في " اليونينية " عن أبي أمامة بن سهل أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله "
(2)
في " اليونينية ": " منها "..
(3)
كلمة " يبلغ " ليست في " اليونينية ".
دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره " قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: " الدين "
وهذا الحديث نص في أن الدين يتفاضل؛ وقد استدل عليه بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وأشار البخاري إلى ذلك في موضع آخر. ويدل عليه – أيضا – قول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم (192 - ب / ف) من إحداكن "
(1)
. وفسر نقصان دينها بتركها الصوم والصلاة أيام حيضها؛ فدل على دخول الصوم والصلاة في اسم الدين. وقد صرح بدخول الأعمال في الدين طوائف من العلماء والمتكلمين من أصحابنا وغيرهم.
فمن قال: الإسلام والإيمان واحد فالدين عنده مرادف لهما، وهو اختيار البخاري ومحمد بن نصر المروزي
(2)
وغيرهما من أهل الحديث.
ومن فرق بينهما، فاختلفوا في ذلك؛ فمنهم من قال: إن الدين أعم منهما، فإنه يشمل الإيمان والإسلام والإحسان، كما دل عليه حديث جبريل، وقد أشار البخاري إلى هذا – فيما بعد -؛ لكنه من لا يفرق بين الإسلام والإيمان.
ومن قال: الإيمان: التصديق، والإسلام: الأعمال، فأكثرهم جعل
(1)
أخرجه البخاري (304) ، ومسلم (80) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2)
في " تعظيم قدر الصلاة "(2 / 531) .
الدين هو الإسلام وأدخل فيه الأعمال. وإنما أخرج الأعمال من مسمى الدين: بعض المرجئة.
ومن قال: الإسلام: الشهادتان، والإيمان: العمل – كالزهري، وأحمد في رواية وهي التي نصرها القاضي أبو يعلي – جعل الدين هو الإيمان بعينه، وأجاب عن قوله تعالي {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] أن بعض الدين الإسلام. وهذا بعيد.
وأما من قال: إن كلا من الإسلام والإيمان إذا أطلق مجردا دخل الآخر فيه، وإنما يفرق بينهما عند الجمع بينهما، وهو الأظهر؛ فالدين هو مسمى كل واحد منهما عند إطلاقه، وأما عند اقترانه بالآخر: فالدين أخص باسم الإسلام؛ لأن الإسلام هو الاستسلام والخضوع والانقياد وكذلك الدين يقال:: دانه يدينه إذا قهره، ودان له إذا استسلم له وخضع وانقاد؛ ولهذا سمى الله الإسلام دينا فقال:{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ} {آل: عمران 19] ، وقال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، وقال:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] .
وإنما فسر القمص في المنام: الدين؛ لأن الدين والإسلام والتقوى كل هذه توصف بأنها لباس، قال تعالى {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] ، وقال أبو الدرداء: الإيمان كالقميص يلبسه الإنسان تارة وينزعه أخرى، وفي الحديث:" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ينزع منه سربال الإيمان "
(1)
.
(1)
سبق (ص 45)، وهو متفق عليه دون قوله:" ينزع منه سربال الإيمان. وانظر " تعظيم قدر الصلاة " (1 / 492، 496) .
وقال النابغة:
الحمد لله الذي لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
وقال أبو العتاهية:
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى تقلب عريانا وإن كان كاسيا
فهذه كلها كسوة الباطن وهو الروح وهو زينة لها، كما في حديث عمار:" اللهم زينا بزينة الإيمان "
(1)
. كما أن الرياش زينة للجسد وكسوة له، قال تعالى {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] . ومن هنا قال مجاهد والشعبي وقتادة والضحاك والنخعي والزهري وغيرهم في قوله تعالى {وثيابك فطهر} [المدثر: 4] إن المعنى: طهر نفسك من الذنوب.
وقال سعيد بن جبير: وقلبك ونيتك
(2)
فطهر. وقريب منه: قول من قال: وعملك فأصلح
(3)
. روى عن مجاهد وأبي روق والضحاك. وعن الحسن والقرظي
(4)
قالا: خلقك حسنه.
(1)
" المسند "(4 / 264) ، والنسائي في " المجتبى "(3 /54 - 55) .
(2)
في " ف " بدون نقاط تماما والمثبت أولى وهو الموافق لما في " تفسير ابن كثير "(8 / 289) .
(3)
راجع " الدر المنثور "(6 / 281) فقد أتى بمعظم هذه التفسيرات.
(4)
في " ف " بدون نقط، والصواب ما أثبتناه، وهو: محمد بن كعب بن سليم، وقال الذهبي في " السير "(5 / 67)" كان من أئمة التفسير ".
فكنى بالثياب عن الأعمال (193 - أ / ف) وهي
(1)
الدين والتقوى والإيمان والإسلام، وتطهيره: إصلاحه وتخليصه من المفسدات له، وبذلك تحصل طهارة النفس والقلب والنية، وبه يحصل حسن الخلق؛ لأن الدين هو الطاعات التي تصير عادة وديدنا وخلقا، قال تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم: 4] . وفسره ابن عباس بالدين
(2)
.
(1)
كلمة " هي " مكررة في " ف".
(2)
أخرجه ابن جرير في " تفسيره "(29 / 12) ، وابن المنذر وابن حاتم وابن مردويه. قاله السيوطي في " الدر المنثور "(6 / 251) .
16 -
فصل
(1)
خرج البخاري ومسلم
(2)
من حديث:
(1)
باب " الحياء من الإيمان ".
(2)
مسلم (36) .
23 -
ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل
(1)
وهو يعظ أخاه في الحياء فقال
(2)
: " دعه؛ فإن الحياء من الإيمان ".
هذا المعنى مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة، وقد سبق حديث أبي هريرة:" الحياء شعبة من الإيمان "
(3)
. والحياء نوعان:
أحدهما: غريزي، وهو خلق يمنحه الله العبد ويجبله عليه فيكفه عن ارتكاب القبائح والرزائل، ويحثه على فعل الجميل وهو من أعلى مواهب الله للعبد، فهذا من الإيمان باعتبار أنه يؤثر ما يؤثره الإيمان من فعل الجميل والكف عن القبيح، وربما ارتقى صاحبه بعده إلى درجة الإيمان ’ فهو وسيلة إليه كما قال عمر: من استحيى اختفى، ومن اختفى اتقى ومن اتقى وقي.
وقال بعض التابعين تركت الذنوب حياء أربعين سنة، ثم أدركني الورع.
(1)
زاد في " اليونينية ": " من الأنصار ".
(2)
زاد في " اليونينية ": " رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3)
حديث رقم (9) ، باب (3)" أمور الدين ".
وقال ابن سمعون
(1)
: رأيت المعاصي نذالة؛ فتركتها مروءة فاستحالت ديانة
(2)
.
والنوع الثاني: أن يكون مكتسبا، إما من مقام الإيمان كحياء العبد من مقامه بين يدي الله يوم القيامة فيوجب له ذلك الاستعداد للقائه، أو من مقام الإحسان، كحياء العبد من اطلاع الله عليه وقربه منه، فهذا من أعلى خصال الإيمان.
وفي حديث مرسل: " استحيي من الله كما تستحيي من رجلين من صالحي عشيرتك لا يفارقانك "، وروى موصولا
(3)
. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن كشف العورة خاليا، فقال: " الله أحق أن يستحيي منه
(4)
. وفي حديث ابن مسعود المرفوع: " الاستحياء من الله: أن تحفظ
(5)
الرأس وما وعي والبطن وما حوى وأن تذكر
(6)
الموت والبلى، ومن أراد ترك
(1)
هو محمد بن أحمد بن إسماعيل بن عنبس البغدادي وسمعون: وهو لقب جده إسماعيل. راجع " طبقات الحنابلة "(2 / 155 - 162) ،، " تاريخ بغداد "(1 / 274 - 277) ، و" السير "(16 / 505 - 511) .
(2)
" طبقات الحنابلة " _ 2 / 156) ، ذكر هذا القول.
(3)
أخرجه الطبراني في " الكبير "(8 / 229) ، من طريق أبي عبد الملك علي بن يزيد الألهاني، عن القاسم، عن أبي أمامة مرفوعا. وقال ابن معين: علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة: هي ضعاف كلها. وانظر " جامع العلوم "(1 / 106) .
(4)
علقه البخاري في كتاب " الغسل " باب (20)" من اغتسل عريانا وحده في الخلوة " قبل حديث (278) ، وأخرجه أبو داود (4017) والترمذي (2794) ، وأحمد (5 / 4) والحاكم في " مستدركه "(4 / 179) .
(5)
في " ف " بنقط الفاء فقط، وما أثبتناه من الرواية.
(6)
في الرواية: " ولتذكر ".
الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء ". خرجه الترمذي وغيره
(1)
. وخرج البخاري في " تفسيره "
(2)
عن ابن عباس في قوله تعالى {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْه} [هود: 5] أنها نزلت في قوم كانوا يجامعون نساءهم ويتخلون فيستحيون من الله فنزلت الآية.
وكان الصديق يقول: استحيوا من الله؛ فإني أذهب إلى الغائط فأظل متقنعا بثوبي حياء من ربي عز وجل
(3)
. وكان أبو موسى إذا اغتسل في بيت مظلم لا يقيم صلبه حياء من الله عز وجل
(4)
.
قال بعض السلف: خف الله على قدر قدرته عليك، واستحيي منه على قدر قربه منك. وقد يتولد الحياء من الله من مطالعة النعم فيستحيي العبد من الله أن يستعين بنعمته على معاصيه، فهذا كله من أعلى خصال الإيمان.
(1)
الترمذي (2458) ، وأحمد (1 / 387) من طريق الصباح بن محمد، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود. والصباح ضعيف، واستنكروا عليه هذا الحديث، وصوبوا وقفه على ابن مسعود وانظر " جامع العلوم "(1 / 288) .
(2)
(فتح: 4681) .
(3)
" الزهد " لابن المبارك _ ص: 107) وانظره في " علل الدارقطني "(1 / 186) .
(4)
أخرجه أحمد في " الزهد "(ص: 247) ، ومن طريقه أبو نعيم في " الحلية "(1 / 260) .
فصل
قال البخاري:
12 -
باب
(1)
من الدين الفرار من الفتن
(1)
هذا الباب لم يأت في ترتيبه فجاء بين الباب (16) والباب (18) وعليه فيكون سقط من الترتيب والنسخة " ف ": الباب (17) وحديثه رقم (25) .
19 -
حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري
(1)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن "
(2)
.
بوب البخاري على أن الفرار (193 - ب / ف) من الفتن من الدين؛ وليس في الحديث إلا الإشعار بفضل من يفر بدينه من الفتن؛ لكن لما جعل الغنم خير مال المسلم في هذه الحال دل على أن هذا الفعل من خصال الإسلام والإسلام هو الدين. وأصرح من دلالة هذا الحديث الذي خرجه في أول " الجهاد " من رواية الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد قال: قيل: يا رسول الله! أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
(1)
زاد في " اليونينية ": " أنه " قبل كلمة " قال ".
(2)
أشار المصنف رحمه الله (5 / 220) عند شرحه الحديث رقم (609) أنه استوفى الكلام فيما تضمنه حديث أبي سعيد من سكنى البادية بالغنم: عند شرحه لحديث هذا الباب.
مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله " قالوا: ثم من؟ قال: " مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره "
(1)
. وليس في هذا الحديث ذكر الفتن. وخرجه أبو داود
(2)
، وعنده: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي المؤمنين أكمل إيمانا؟ . فذكره. وهذا فيه دلالة على أن الاعتزال عن الشر من الإيمان. وفي " المسند " و" جامع الترمذي "، عن طاوس، عن أم مالك البهزية قالت: قال رسول الله: " خير الناس في الفتنة: رجل معتزل في ماله، يعبد ربه ويؤدي حقه، ورجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله "
(3)
.
وروي عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم. خرجه الحاكم
(4)
. وروي عن طاوس مرسلا. وخرج الحاكم - أيضا - من حديث أبي هريرة مرفوعا: " أظلتكم فتن كقطع الليل المظلم أنجى الناس منها: صاحب شاهقة يأكل من رسل غنمها، ورجل من وراء الدروب بعنان فرسه يأكل من فيء سيفه "
(5)
. وقد وقفه بعضهم.
(1)
(فتح: 2786) .
(2)
(2485) .
(3)
" المسند "(6 / 419) ، والترمذي (2177) .
(4)
(4 / 446، 464) .
(5)
الحاكم (2 / 93) .
فهذه الروايات المقيدة بالفتن تقضي على الروايات المطلقة. وحديث أبي سعيد الذي خرجه البخاري هنا لم يخرجه مسلم. وقد روي عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن، عن أبي سعيد؛ وهو وهم. وروي عن يحيي بن سعيد، عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن نهار العبدي، عن أبي سعيد؛ وذكر " نهار " في إسناده: وهم. قاله الدارقطني
(1)
. فقوله صلى الله عليه وسلم " يوشك " تقريب منه للفتنة، وقد وقع ذلك في زمن عثمان كما أخبر به صلى الله عليه وسلم وهذا من جملة أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم.
وإنما كان الغنم خير مال المسلم - حينئذ -؛ لأن المعتزل عن الناس بالغنم يأكل من لحومها ونتاجها ويشرب من ألبانها ويستمتع بأصوافها باللبس وغيره، وهي ترعى الكلأ في الجبال وترد المياه؛ وهذه المنافع والمرافق لا توجد في غير الغنم؛ ولهذا قال:" يتبع بها شعف الجبال " وهي رءوسها وأعاليها؛ فإنها تعصم من لجأ إليها من عدو. و" مواقع القطر " لأنه يجد فيها الكلأ والماء فيشرب منها ويسقي غنمه وترعى غنمه من الكلأ. وفي " مسند البزار "، عن مخول البهزي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " سيأتي على الناس زمان فيه غنم بين السجدتين
(2)
تأكل من
(1)
في " علله "، (4 / ق2 - ب 3 - أ) .
(2)
رسمها في " ف " بدون نقط ولعلها هكذا، وفي " مسند أبي يعلي " (3 / 138) :" المسجدين ".
الشجر وترد الماء، يأكل صاحبها من رسلها ويشرب من ألبانها ويلبس من أشعارها – أو قال من أصوافها _، والفتن ترتكس بين جراثيم العرب "
(1)
. وروي هذا المعنى عن عبادة بن الصامت من قوله. وواحد الجراثيم: جرثومة؛ وهي أصل الشيء. وفي هذا دلالة ‘على أن من خرج من الأمصار فإنه يخرج معه بزاد وما يقتات منه.
وقوله: (194 – أ / ف)" يفر بدينه من الفتن " يعني: يهرب خشية على دينه من الوقوع في الفتن؛ فإن من خالط الفتن، وأهل القتال على الملك لم يسلم دينه من الإثم إما بقتل معصوم أو أخذ مال معصوم أو المساعدة على ذلك بقول ونحوه وكذلك لو غلب على الناس من يدعوهم إلى الدخول في كفر أو معصية حسن الفرار منه. وقد مدح الله من فر بدينه خشية الفتنة عليه فقال – حكاية عن أصحاب الكهف _ {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف: 16] . وروى عروة، عن كرز الخزاعي قال: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي: هل لهذا الإسلام من منتهى؟ قال: " من يرد الله به خيرا من عرب أو عجم أدخله عليه " قال: ثم ماذا؟ قال: " تقع فتن كالظلل " قال: كلا يا
(1)
(كشف: (1358) مختصرا وليس فيه محل الشاهد، وفي إسناده محمد بن سليمان بن مسمول، قال فيه أبو حاتم:" ليس بالقوي ضعيف الحديث كان الحميدي يتكلم فيه " الجرح " (7/ 267) وقد أخرجه مطولا بمحل الشاهد: أبو يعلى (3 / 137) بنفس الإسناد، وأخرجه الطبراني في " الأوسط " (7542) وفيه سليمان الشاذكوني، قال ابن معين في رواية ابن الجنيد: " يكذب ويضع الحديث " أ. هـ.
نبي الله، قال:" بلى، والذي نفسي بيده لتعودون فيها أساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض وخير الناس يومئذ: رجل يتقي ربه ويدع الناس من شره "
(1)
.
الأساود: جمع أسود، وهو أخبث الحيات وأعظمها.
والصب: جمع صبوب، على أن أصله: صبب كرسول ورسل، ثم خفف كرسل؛ وذلك أن الأسود إذا أراد أن ينهش ارتفع ثم انصب على الملدوغ، ويروى " صي " على وزن حبلى "
وفي "الصحيحين " عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له الفتن فقال له: فما تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك؟ قال: " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " قال: فإن لم يكن جماعة ولا إمام؟ قال: " فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك "
(2)
. وقد اعتزل جماعة من أصحابه في الفتن في البوادي. وقال الإمام أحمد: إذا كانت الفتنة فلا بأس أن يعتزل الرجل حيث شاء، فأما إذا لم يكن فتنة فالأمصار خير. فأما سكنى البوادي على وجه العبادة وطلب السياحة والعزلة فمنهي عنه، كما في الترمذي و" صحيح الحاكم "، عن أبي هريرة قال: مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عيينه من ماء عذب فأعجبه طيبه
(1)
أحمد (3 / 477)، وابن حبان (الإحسان: 13 / 287) .
(2)
(فتح: 7084) ، ومسلم (1847) .
وحسنه فقال: لو اعتزلت الناس وأقمت في هذا الشعب ولا أفعل حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأمره فقال:" لا تفعل؛ فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في أهله ستين عاما "
(1)
.
وخرج الإمام أحمد نحوه من حديث أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لم أبعث باليهودية ولا النصرانية؛ ولكني بعثت بالحنيفية السمحة "
(2)
. وذكر باقيه بمعناه. وخرج داود من حديث أبي أمامة أن رجلا قال: يا رسول الله! ايذن لي بالسياحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إن سياحة أمتي: الجهاد في سبيل الله "
(3)
. وفي " المسند " عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" عليك بالجهاد؛ فإنه رهبانية الإسلام "
(4)
. وفي مراسيل طاوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا رهبانية في الإسلام ولا سياحة ". وفي المعنى مراسيل أخر متعددة.
قال الإمام أحمد: ليست السياحة من الإسلام في شيئ ولا من فعل النبيين ولا الصالحين. والسياحة على هذا الوجه قد (194 – ب / ف) فعلها طوائف ممن ينسب على عبادة واجتهاد بغير علم، ومنهم من رجع لما عرف ذلك. وقد كان في زمن ابن مسعود من المتعبدين خرجوا إلى ظاهر الكوفة
(1)
. الترمذي (1650) ، والحاكم (2 / 68)، وقال الترمذي:" حديث حسن "
(2)
أحمد (5 / 266) .
(3)
أبو داود (2486) .
(4)
" المسند "(3 / 82) .
وبنوا مسجدا يتعبدون فيه، منهم: عمرو بن هتبة، ومفضل العجلي، فخرج إليهم ابن مسعود وردهم على الكوفة وهدم مسجدهم وقال: إما أن تكونوا أهدى من أصحاب محمد أو تكونوا متمسكين بذنب الضلالة. وإسناده هذا صحيح عن الشعبي أنه حكى ذلك. وقد رأى عبد الله بن غالب الحداني رجلا في فلاة رزقه لا يدري من أين يأتيه فقال له: إن هذه الأمة لم تؤمر بهذا؛ إنما أمرت بالجمعة والجماعة وعيادة المرضى وتشييع الجنائز، فقبل منه وانتقل من ساعته إلى قرية فيها هذا كله. خرج حكايته ابن أبي الدنيا. وروي نحو هذه الحكاية – أيضا -، عن أبي غالب صاحب أبي أمامة الباهلي. خرجها حميد بن زنجوية. وكذلك سكنى البوادي لتنمية المواشي والأموال – كما جرى لثعلبة في ماله – فمذموم – أيضا.
وفي " سنن ابن ماجه "، عن أبي هريرة مرفوعا: " ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين فيتعذر عليه الكلأ فيرتفع ثم تجيء الجمعة فلا يشهدها وتجيء الجمعة فلا يشهدها
(1)
حتى يطبع على قلبه "
(2)
. وخرجه الخلال من حديث جابر بمعناه
(3)
– أيضا.
(1)
" وتجيء الجمعة فلا يشهدها " في " السنن " كررها ثلاثا.
(2)
ابن ماجه (1127) وسيأتي كلام المصنف على هذا الحديث عند شرحه لترجمة الحديث رقم (902) .
(3)
وسيأتي ذكر المصنف له بلفظه والكلام عليه عند شرحه لترجمة الحديث رقم: (902) من " كتاب الجمعة " الباب: (15) .
وخرج حميد بن زنجويه من رواية ابن لهيعه: ثنا عمر
(1)
مولى غفرة أنه سمع ثعلبة بن أبي مالك الأنصاري يقول: قال حارثة بن النعمان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخرج الرجل في حاشية القرية في غنيمة يشهد الصلوات ويؤب إلى أهله إذا أكل ما حوله وتعذرت عليه الأرض قال: لو ارتفعت إلى ردعة هي أعفى ملأ من هذه، فيرتفع حتى لا يشهد من الصلوات إلا الجمعة حتى إذا أكل ما حوله وتعذرت عليه الأرض قال: لو ارتفعت إلى ردعة هي أعفى كل أمن هذه فيرتفع حتى لا يشهد جمعة ولا يدري متى الجمعة حتى يطبع الله على قلبه ". وخرجه الإمام أحمد بمعناه
(2)
.
وفي " سنن أبي داود " والترمذي وغيرهما، عن أبي هريرة
(3)
، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من سكن البادية جفا ".
(1)
هكذا في " ف ": عمر " وهو الصواب، وأقحم فوق الراء ما يشتبه بحرف الواو، أو الضمة، والأخيرة ليست من عادته.
(2)
" المسند "(5 / 433 - 434) .
(3)
أبو داود (2860)، وقال بمعنى حديث مسدد – يعني حديث ابن عباس الذي قبله – وزاد فيه التنفير من لزوم السلطان وقال المزي في " التحفة " (11 / 103) :" هذا الحديث في رواية أبي الحسن بن العبد، وأبي بكر بن داسة، عن أبي داود، ولم يذكر أبو القاسم ". ولم يعز المزي هذا الحديث للترمذي من مسند أبي هريرة، واقتصر على أبي داود، وعزاه للترمذي وأبي داود من مسند ابن عباس. وقال الترمذي عقب حديث ابن عباس (2256) :" وفي الباب عن أبي هريرة " ولم يخرجه، فإن لم يكن في بعض نسخ الترمذي – وما أكثرها – فهو وهم. وعزاه المصنف في جزء:" شرح حديث ماذئبان جائعان "(ص: 41) بتحقيقنا على أبي داود وأحمد فحسب، ولم يذكر الترمذي، ولعله الصواب. وحديث ابن عباس: اخرجه أبو داود (2859) ، والترمذي (2256)، وذكره البخاري في " الكنى " (ص: 70) – في ترجمة أبي موسى – وأبو نعيم في " الحلية "(4 / 72) وقال الترمذي عقبة – كما في " التحفة "(5 / 266) و" تفسير ابن كثير "(4 / 140) : " حسن غريب "، والذي في المطبوع:" حسن صحيح غريب " وأبو موسى راوي الحديث قال ابن القطان مجهول، ونبه الحافظ في " التهذيب "(1 / 261) و (12/ 252) على أنه غير أبي موسى إسرائيل بن موسى، وقال: فرق بينهما غير واحد. وحديث أبي هريرة: أخرجه أبو داود (286) ، وأحمد (2 / 371، 440) وغيرهما. وفيه اختلاف على أبي هريرة ذكرناه في " أطراف الغرائب "(1422) بتحقيقنا. .
وقال ابن مسعود في الذي يعود أعرابيا بعد هجرته: إنه ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي " الصحيحين "
(1)
أن سلمة بن الأكوع قال: أذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في البدو. وفي رواية للبخاري أن سلمة لما قتل عثمان خرج إلى الربزة فلم يزل بها حتى قبل أن يموت بليال نزل المدينة
(2)
. وفي " المسند " أن سلمة قدم المدينة فقيل له: ارتددت عن هجرتك يا سلمة؟ فقال: معاذ الله إني في إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ابدوا يا أسلم، فتنسموا الرياح واسكنوا الشعاب " فقالوا: يا رسول الله! إنا نخاف أن يضرنا ذلك في هجرتنا، قال:" أنتم مهاجرون حيث ما كنتم "
(3)
.
وفي الطبراني، عن ابن عمر أنه قيل له: يا أبا عبد الرحمن! قد
(1)
(فتح: 7087) ، ومسلم (1862) .
(2)
(فتح: 8087) .
(3)
" المسند "(4 / 55) .
أعشبت القفار فلو ابتعت أعنزا فتنزهت تصح، فقال: لم يؤذن لأحد منا في البداء غير أسلم "
(1)
. وأسلم: هي: قبيلة سلمة بن الأكوع.
وقد ترخص كثير من الصحابة من المهاجرين وغيرهم في سكنى البادية، كسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد، فإنهما لزما منزلهما بالعقيق فلم يكونا يأتيان المدينة (195 - أ / ف) في جمع ولا غيرها حتى لحقا بالله عز وجل. خرجه بن أبي الدنيا في كتاب " العزلة ". وكان أبو هريرة ينزل بالشجرة وهي ذو الحليفة. وفي " صحيح البخاري "، عن عطاء قال: ذهبت مع عبيد بن عمير إلى عائشة وهي مجاورة بثبير فقالت لنا: انقطعت الهجرة منذ
(2)
فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم مكة
(3)
. وفي رواية له: قال: فسألنا عن الهجرة، فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه على الله ورسوله مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء؛ ولكن جهاد ونية "
(4)
. وهذا يشعر بأنها إنما كانت تبدو، لاعتقادها انقطاع الهجرة بالفتح.
(1)
" الأوسط "(7533) ، وتفرد به أبو مريم عبد الغفار بن القاسم، قال فيه أبن معين في رواية الدري (3 / 366) :" ليس بشيء " ومسلم بن جرهد الراوي عن ابن عمر لم نجد من ترجمه، ولم يرو عن ابن عمر حديثا غير هذا كما نص عليه الطبراني.
(2)
في الرواية: " مذ ".
(3)
(فتح: 3080) .
(4)
فتح: 3900) .
وكان أنس بن مالك يسكن بقصره خارج البصرة، وكان ربما شهد الجمعة وربما لم يشهدها. وقد نص أحمد على كراهة المقام بقرية لا يقام فيها الجمعة وإن أقيمت فيها الجماعة. وقد يحمل ذلك على من كان بمصر جامع يجمع فيه، ثم تركه وأقام بمكان لا جمعة فيه. وفي كلامه إيماء إليه - أيضا. وقد يحمل كلامه على كراهة التنزيه دون التحريم. فأما المقام بقرية لا جمعة فيها ولا جماعة فمكروه.
وقد قال أبو الدرداء لمعدان بن أبي طلحة: أين ينزل؟ فقال: بقرية دون حمص، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا يؤذن ولا يقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة؛ فإن الذئب يأكل القاصية ". خرجه النسائي
(1)
. وغيره وخرجه أحمد وأبو داود مختصرا
(2)
. وفي رواية لأحمد: " فعليك بالمدائن ويحك يا معدان "
(3)
. وفي " المسند " - أيضا -، عن معاذ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الشيطان
(1)
في " المجتبى "(2 / 106 - 107) .
(2)
أحمد (5/ 196) ، (6/ 446) وابو داود (547) .
(3)
" المسند "(6 / 445 - 446) .
ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأخذ الشاة القاصية والناحية؛ فإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة والمساجد "
(1)
. فنهى عن سكنى الشعاب - وهي البوادي - وأمر بسكنى الأماكن التي فيها عامة الناس ومساجدهم وجماعتهم. وقد روي عن قتادة أنه فسر الشعاب في هذا الحديث بشعاب الأهواء المضلة المخالفة لطريق الهدي المستقيم. خرجه أبو موسى المديني عنه بإسناده. وفي هذا بعد؛ وإنما فسر بهذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه
(2)
.؛ فإن الأوزاعي فسره بالبدعة يخرج إليها الرجل من الجماعة. فأما الخروج إلى البادية أحيانا للتنزه ونحوه في أوقات الربيع وما أشبهه: فقد ورد فيه رخصة: ففي " سنن أبي داود " عن المقدام بن شريح، عن أبيه أنه قال أنه سأل عائشة: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدو؟ فقالت: نعم إلى هذه التلاع، ولقد بدا مرة فأتى بناقة مخرمة فقال:" اركبيها يا عائشة وارفقي؛ فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نزع منه إلا شانه "
(3)
.
وخرج مسلم آخر الحديث دون أوله
(4)
.
(1)
" المسند "(5 / 232 - 233، 243) .
(2)
أخرجه بهذا اللفظ: أبو داود (4758) .
(3)
أبو داود (2478، 4808) .
(4)
مسلم (2594) .
وورد النهي عنه؛ ففي " المسند " عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " هلاك أمتي في اللبن " قيل: يا رسول الله! ما اللبن؟ قال: تحبون اللبن وتدعون الجماعات والجمع وتبدون "
(1)
. وفي إسناده: ابن لهيعة. وإن صح فيحمل على إطالة المقام بالبادية مدة أيام كثرة اللبن كلها وهي مدة طويلة يدعون فيها الجمع والجماعات.
وعن أبي عبد الله الجدلي قال: فضل أهل الأمصار على (195 - ب / ف) أهل
(2)
القرى كفضل الرجال على النساء، وفضل أهل القرى على أهل الكفور
(3)
كفضل الأحياء على الأموات، وسكان الكفور كسكان القبور، وإن اللبن والعشب ليأكلان إيمان العبد كما تأكل النار الحطب. خرجه حميد بن زنجويه، وروى في إسناده عن مكحول معنى أوله.
ونص أحمد - في رواية مهنا - على كراهية الخروج إلى البادية لشرب اللبن ونحوه تنزها لما به من ترك الجماعة؛ إلا أن يخرج لعلة، يعني: إنه إذا خرج تداويا لعله به جاز، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم للعرنيين لما اجتووا المدينة أن يخرجوا إلى البادية ليشربوا من ألبان الإبل وأبوالها
(4)
.
قال أبو بكر الأثرم: النهي عن التبدي محمول على سكنى البادية
(1)
" المسند "(4 / 155) بلفظ " هلاك أمتي بالكتاب واللبن ".
(2)
كلمة " أهل " مكررة في " ف ".
(3)
كتب فوقها في " ف ": " الكفور جمع كفر وهو ما بعد من لأرض عن الناس ولا يمر به أحد ".
(4)
إشارة إلى حديث البخاري (فتح: 4192) .
والإقامة بها، فأما التبدي ساعة أو يوما ونحوه فجائز. انتهى.
وقد كان السلف كثير منهم يخرج إلى البادية أيام الثمار واللبن. قال الجريري: كان الناس يبدون ها هنا في الثمار - ثمار قصيرة -، وذكر منهم عبد الله بن شقيق وغيره. وكان علقمة يتبدا إلى ظهر النجف
(1)
. وقال النخعي: كانت البداوة إلى أرض السواد أحب إليهم من البداوة إلى أرض البادية. يعني أن الخروج إلى القرى أهون من الخروج إلى البوادي. وكان بعضهم يمتنع من ذلك لشهود الجماعة.
فروى أبو نعيم بإسناده، عن أبي حرملة قال: اشتكى سعيد بن المسيب عينه فقيل له: يا أبا محمد! لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة ووجدت ريح البرية لنفع ذلك بصرك، فقال سعيد: وكيف أصنع بشهود العشاء والعتمة
(2)
؟ وما ذكره الأثرم من التفريق بين قصر المدة وطولها حسن؛ لكنه حد القليل باليوم ونحوه؛ وفيه نظر.
وفي " مراسيل أبي داود " من رواية معمر، عن موسى بن شيبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من بدا أكثر من شهرين فهي أعرابية "
(3)
.
(1)
ابن أبي شيبة في " مصنفه "(12 / 335) .
(2)
" الحلية "(2 / 162) .
(3)
" مراسيل أبي داود " 0 ص / 235) .
وروى حميد بن زنجوية بإسناده، عن خلف بن خليفة، عن أبي هاشم قال: بلغني أن من نزل السواد أربعين ليلة كتب عليها الجفا. وعن معاوية بن قرة قال: البداوة شهران فما زاد فهو تعرب
(1)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (12 / 336) ، وفيه كلمة " حرب " مكان كلمة " تعرب ".
فصل
قال البخاري:
18 -
باب
(1)
من قال: إن الإيمان هو العمل؛ لقول الله تعالى {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] . وقال عدة من أهل العلم في قوله عز وجل {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْن عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92] : عن قول لا إله إلا الله. وقال {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] .
ثم خرج حديث:
(1)
سقط من " ف " الباب (17) .
26 -
أبي هريرة أن النبي
(1)
صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل أفضل؟ قال: " إيمان بالله ورسوله " قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله " قيل: ثم ماذا؟ قال: " حج مبرور ".
مقصود البخاري بهذا الباب: أن الإيمان كله عمل؛ مناقضة لقول من قال: إن الإيمان ليس فيه عمل بالكلية؛ فإن الإيمان أصله تصديق بالقلب، وقد سبق ما قرره البخاري أن تصديق القلب كسب له وعمل، ويتبع هذا التصديق قول اللسان.
ومقصود البخاري هاهنا: أن يسمى عملا - أيضا -،، أما أعمال الجوارح فلا ريب في دخولها في اسم العمل، ولا حاجة إلى تقرير
(1)
في " اليونينية ": " رسول الله ".
ذلك؛ فإنه لا يخالف فيه أحد، فصار الإيمان كله – على ما قرره – عملا.
والمقصود بهذا الباب: تقرير أن قول اللسان: عمله؛ واستدل لذلك بقوله تعالى {وَتِلْك َ
(1)
الْجَنَّةُ الَّتِي (196 - أ / ف) أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] وقوله { {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] . ومعلوم أن الجنة إنما يستحق دخولها بالتصديق بالقلب مع شهادة اللسان، وبها يخرج من يخرج من أهل النار فيدخل الجنة – كما سبق ذكره. وفي " المسند "، عن معاذ بن جبل مرفوعا:" مفتاح الجنة: لا إله إلا الله "
(2)
. وحكى البخاري عن عدة من أهل العلم أنهم قالوا في قوله تعالى {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْن عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92] : عن قول لا إله إلا الله؛ ففسروا العمل بقول كلمة التوحيد.
وممن روي عنه هذا التفسير: ابن عمر، ومجاهد
(3)
. ورواه ليث بن أبي سليم، عن بشير بن نهيك، عن أنس موقوفا
(4)
. روي عنه مرفوعا – أيضا – خرجه الترمذي وغربه
(5)
.
(1)
كتبها في " ف ": " تلكم " وأصلحها.
(2)
" المسند "(5 / 242) .
(3)
أخرج أثر ابن عمر ومجاهد: ابن جرير الطبري في " تفسيره "(14/46) .
(4)
رواه ابن جرير في " تفسيره "(14/ 46) .
(5)
الترمذي (3126) ، وأخرجه مرفوعا – أيضا – ابن جرير في " تفسيره "(14/ 46) .
وقال الدارقطني: ليث غير قوي، ورفعه غير صحيح
(1)
. وقد خالف في ذلك طوائف من العلماء من أصحابنا وغيرهم كأبي عبد الله بن بطة، وحملوا العمل في هذه الآيات على أعمال الجوارح؛ واستدلوا بذلك على دخول الأعمال في الإيمان.
وأما حديث أبي هريرة: فهو يدل على أن الإيمان بالله ورسوله عمل لأنه جعله أفضل الأعمال، والإيمان بالله ورسوله الظاهر أنه إنما يراد به الشهادتان مع التصديق بهما؛ ولهذا ورد في حديث:" بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله "
(2)
وفي رواية ذكر الإيمان بالله ورسوله " بدل الشهادتين "؛ فدل على أن المراد بهما واحد؛ ولهذا عطف في حديث أبي هريرة على هذا الإيمان " الجهاد " ثم " الحج "، وهما مما يدخل في اسم الإيمان المطلق؛ لكن الإيمان بالله أخص من الإيمان المطلق، فالظاهر أنه إنما يراد بهما الشهادتان مع التصديق بهما، فإذا سمى الشهادتين عملا دل على أن قول اللسان عمل.
وقد كان طائفة من المرجئة يقولون: الإيمان قول وعمل – موافقة لأهل الحديث -، ثم يفسرون العمل بالقول ويقولون: هو عمل اللسان. وقد ذكر الإمام أحمد هذا القول عن شبابه بن سوار وأنكره عليه وقال: هو أخبث قول ما سمعت أن أحدا قال به ولا بلغني. يعني أنه بدعة لم يقله أحد ممن سلف
(3)
.
(1)
الدارقطني في " علله "(4 /ق 33 - ب) .
(2)
سبق وهو حديث رقم (8) .
(3)
" السنة " للخلال (982) ، وذكره ابن تيمية في " مجموع الفتاوى "(7 / 255) ، وابن حجر في " تهذيبه "(4/ 302) .
لعل مراده إنكار تفسير قول أهل السنة: الإيمان قول وعمل بهذا التفسير؛ فإنه بدعة وفيه عي وتكرير؛ إذ العمل على هذا القول بعينه، ولا يكون مراده إنكار أن القول يسمى عملا.
ولكن روي عنه ما يدل على إنكار دخول الأقوال في اسم الأعمال، فإنه قال في رواية أبي طالب – في رجل طلق امرأته واحدة ونوى ثلاثا، قال بعضهم: له نيته، ويحتج بقوله:" الأعمال بالنيات " قال أحمد: ما يشبه هذا بالعمل؛ إنما هذا لفظ كلام المرجئة يقولون: القول هو عمل. لا يحكم عليه بالنية ولا هو من العمل. وهذا ظاهر في إنكار تسمية القول عملا بكل حال وأنه لا يدخل تحت قوله " الأعمال بالنيات ". وكذلك ذكر أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب " السنة ". وهذا على إطلاقه لا يصح؛ فإن كنايات الطلاق كلها أقوال ويعتبر لها النية، وكذلك ألفاظ الإيمان والنذور أقوال ويعتبر لها النية وألفاظ عقود البيع (196 - ب /ف) والنكاح وغيرهما أقوال ويؤثر فيها النية عند أحمد، كما تؤثر النية [في]
(1)
بطلان نكاح التحليل وعقود التحليل على الربا. وقد نص أحمد على أن من أعتق أمته وجعل عتقها صداقها أنه يعتبر له النية، فإن أراد نكاحها بذلك وعتقها انعقدا بهذا القول. وكذلك ألفاظ الكفر المحتملة تصير بالنية كفرا.
(1)
كلمة " في " ليست " ف " وهي لازمة في السياق.
وهذا كله يدل على أن الأقوال تدخل في الأعمال ويعتبر لها النية. ومسألة الطلاق المذكورة فيها عن أحمد روايتان – أيضا.
وقد خرج أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " الطلاق " له بدخول القول في العمل، وأن الأقوال تدخل في قوله صلى الله عليه وسلم " الأعمال بالنيات "
وأبو عبيد محله من معرفة لغة العرب المحل الذي لا يجهله عالم. وقد اختلف الناس لو حلف لا يعمل عملا أو لا يفعل فعلا فقال قولا هل يحنث أم لا؟ وكذا لو حلف ليفعلن أو ليعملن هل يبر بالقول أم لا؟
وقد حكى القاضي أبو يعلي في ذلك اختلافا بين الفقهاء، وذكر هو في كتاب " الأيمان " له أنه لا يبر ولا يحنث بذلك. وأخذه من رواية أبي طالب، عن أحمد – التي سبق ذكرها – واستدل له بأن الأيمان يرجع فيها إلى العرف، والقول لا يسمى عملا في العرف؛ ولهذا يعطف القول على العمل كثيرا فيدل على تغايرهما عرفا واستعمالا.
ومن الناس من قال: القول يدخل في مسمى الفعل ولا يدخل في مسمى العمل. وهو الذب ذكره ابن الخشاب النحوي
(1)
وغيره.
وقد ورد تسمية القول فعلا في القرآن في قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] .
(1)
ترجمة السيوطي في " بغية الوعاة "(2/ 29) .
فصل
قال البخاري:
19 -
باب
إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل لقوله عز وجل {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] . فإذا كان على الحقيقة فهو على قوله
(1)
{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] وقوله {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}
(2)
[آل عمران: 85] .
معنى هذا الكلام: أن الإسلام يطلق باعتبارين:
أحدهما: باعتبار الإسلام الحقيقي وهو دين الإسلام الذي قال الله فيه {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ} وقال { {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} .
والثاني: باعتبار الاستسلام ظاهرا مع عدم إسلام الباطن إذا وقع خوفا كإسلام المنافقين، واستدل بقوله تعالى {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} وحمله عل الاستسلام خوفا وتقية.
(1)
زاد في " اليونينية ": " جل ذكره ".
(2)
مابين المعقوفين ليس في " اليونينية "، وهو ثابت في بعض نسخ الصحيح، وإليه أشار في " اليونينية ".
وهذا مروي عن طائفة من السلف، منهم مجاهد، وابن زيد، ومقاتل بن حيان وغيرهم
(1)
. وكذلك رجحه محمد بن نصر المروزي
(2)
– كما رجحه البخاري -؛ لأنهما لا يفارقان بين الإسلام والإيمان، فإذا انتفى أحدهما انتفى الآخر. وهو اختيار ابن عبد البر، وحكاه عن أكثر أهل السنة من أصحاب مالك والشافعي وداود.
وأما من يفرق بين الإسلام والإيمان فإنه يستدل بهذه الآية (197 – أ / ف) على الفرق بينهما ويقول: نفي الإيمان عنهم لا يلزم منه نفي الإسلام كما نفي الإيمان عن الزاني والسارق والشارب وإن كان الإسلام عنهم غير منفي. وقد ورد هذا المعنى في الآية عن ابن عباس، وقتادة، والنخعي، وروي عن ابن زيد معناه – أيضا -، وهو قول الزهري، وحماد بن زيد، وأحمد، ورجحه ابن جرير وغيره
(3)
.
واستدلوا به على التفريق بين الإسلام والإيمان. وكذا قال قتادة في هذه الآية قال: " قولوا أسلمنا ": شهادة أن لا إله إلا الله، وهو دين الله، والإسلام درجة الإيمان تحقيق في القلب ووالهجرة في الإيمان درجة، والجهاد درجة، والقتل في سبيل الله درجة.
(1)
راجع " تفسير الطبري "(26/ 90) .
(2)
" تعظيم قدر الصلاة "(2/ 510) .
(3)
راجع " تفسير الطبري "(26/ 90) ، و" تفسير ابن كثير "(7 / 367) و" والدر المنثور "(6 /100) .
خرجه ابن أبي حاتم.
فجعل قتادة الإسلام الكلمة، وهي أصل الدين، والإيمان ما قام بالقلوب من تحقيق التصديق بالغيب، فهؤلاء القوم لم يحققوا الإيمان في قلوبهم، وإنما دخل في قلوبهم تصديق ضعيف بحيث صح به إسلامهم، ويدل عليه:{وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات: 14] .
واختلف من فرق بين الإسلام والإيمان في حقيقة الفرق بينهما. فقالت طائفة: الإسلام: كلمة الشهادتين، والإيمان العمل. وهذا مروي عن الزهري
(1)
وابن أبي ذئب
(2)
، وهو رواية عن أحمد
(3)
، وهي المذهب عند القاضي أبي يعلى وغيره من أصحابه. ويشبه هذا: قول ابن زيد في تفسير هذه الآية قال: لم يصدقوا إيمانهم بأعمالهم فرد الله عليهم وقال: {لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} فقال: الإسلام إقرار، والإيمان تصديق
(4)
. وهو قول أبي خيثمة وغيره من أهل الحديث. وقد ضعف ابن حامد من أصحابنا هذا القول عن أحمد وقال: الصحيح: أن مذهبه: أن الإسلام قول وعمل ورواية واحدة؛ ولكن لا يدخل كل الأعمال في الإسلام كما يدخل في الإيمان، وذكر أن
(1)
" تعظيم قدر الصلاة "(2/ 507) .
(2)
" السنة " للخلال (1076) .
(3)
راجع " المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة "(1 / 108)
(4)
انظر تفسير الطبري (26/ 90) .
المنصوص عن أحمد أنه لا يكفر تارك الصلاة، فالصلاة من خصال الإيمان دون الإسلام وكذلك اجتناب الكبائر من شرائط الإيمان دون الإسلام. كذا قال، وأكثر أصحابنا أن ظاهر مذهب أحمد تكفير تارك الصلاة فلو لم تكن الصلاة من الإسلام لم يكن تاركها عنده كافرا. والنصوص الدالة على أن الأعمال داخلة في الإسلام كثيرة جدا. وقد ذهب طائفة إلى أن الإسلام عام والإيمان خاص، فمن ارتكب الكبائر خرج من دائرة الإيمان الخاصة إلى دائرة الإسلام العامة.
هذا مروي عن أبي جعفر محمد بن علي، وضعفه ابن نصر المروزي من جهة راويه عنه وهو فضيل بن يسار، وطعن فيه
(1)
، وروي عن حماد ابن زيد نحو هذا – أيضا. وحكى رواية عن أحمد – أيضا -؛ فإنه قال في رواية الشالنجي
(2)
في مرتكب الكبائر: يخرج من الإيمان ويقع في الإسلام. ونقل حنبل عن أحمد معناه
(3)
. وقد تأول هذه الرواية القاضي أبو يعلى وأقرها غيره، وهي اختيار أبي عبد الله بن بطة وابن حامد وغيرهما من الأصحاب. وقالت طائفة: الفرق بين الإسلام والإيمان: أن الإيمان هو التصديق تصديق القلب فهو علم القلب وعمله، والإسلام: الخضوع والاستسلام والانقياد؛ فهو عمل القلب والجوارح.
(1)
" تعظيم قدر الصلاة "(2 / 575) .
(2)
هو: إسماعيل بن سعيد، مترجم في " طبقات الحنابلة "(1/104) .
(3)
" السنة " للخلال (1080) .
وهذا قول كثير من العلماء، وقد حكاه أبو الفضيل التميمي عن أصحاب أحمد، وهو قول طوائف من المتكلمين (197 - ب/ ف) ؛ لكن المتكلمون عندهم أن الأعمال لا تدخل في الإيمان وتدخل في الإسلام.
وأما أصحابنا وغيرهم من أهل الحديث فعندهم أن الأعمال تدخل في الإيمان مع اختلافهم في دخولها الإسلام – كما سبق – فلهذا قال كثير من العلماء: إن الإسلام والإيمان تختلف دلالتهما بالإفراد والاقتران، فإن أفرد أحدهما دخل الآخر فيه، وإن قرن بينهما كانا شيئين حينئذ.
وبهذا يجمع بين حديث سؤال جبريل عن السلام والإيمان ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وبين حديث وفد عبد القيس حيث فسر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان المنفرد بما فسر به الإيمان المقرون في حديث جبريل. وقد حكى هذا القول أبو بكر الإسماعيلي عن كثير من أهل السنة والجماعة، وروي عن أبي بكر بن أبي شيبة ما يدل عليه
(1)
، وهو أقرب الأقوال في هذه المسألة وأشبهها بالنصوص والله أعلم.
والقول بالفرق بين الإسلام والإيمان مروي عن: الحسن، وابن سيرين، وشريك، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيي بن معين، ومؤمل ابن إهاب، وحكى عن مالك - أيضا -، وقد سبق حكايته عن قتادة، وداود بن أبي هند، والزهري، وابن أبي ذئب، وحماد بن زيد، وأحمد
(2)
، وأبي خيثمة وكذلك
(3)
حكاه أبو بكر بن السمعاني عن أهل
(1)
انظره في " تعظيم قدر الصلاة "، (2/ 528) .
(2)
راجع معظم هذه الأقوال في " السنة " للخلال (1073 – 1083) ، و" تعظيم قدر الصلاة"(2 / 506 - 517) .
(3)
في " ف ": " فكذلك "، وما أثبتناه موافق للسياق.
السنة والجماعة جملة.
فحكاية ابن نصر
(1)
وابن عبد البر عن الأكثرين التسوية بينهما غير جيد؛ بل قد قيل: إن السلف لم يرو عنهم غير التفريق، والله أعلم.
وخرج البخاري في هذا الباب حديث:
(1)
تعظيم قدر الصلاة "، (2/ 531) .
27 -
الزهري، عن
(1)
عامر بن سعد، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رهطا وسعد جالس فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا هو أعجبهم إلي فقلت: ما لك يا رسول الله
(2)
عن فلان؟ ! فوالله إني لأراه مؤمنا، فقال:" أو مسلما " فسكت قليلا ثم غلبني ما أعلم منه
(3)
فقلت يا رسول الله
(4)
! مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنا، قال
(5)
: " أو مسلما " فسكت قليلا ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " يا سعد! إني لأعطي الرجل وغيره أعجب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار "
خرجه من طريق شعيب، عن الزهري ثم قال: رواه يونس وصالح وابن معمر وابن أخي الزهري، عن الزهري
(6)
.
وقد رواه ابن أبي ذئب - أيضا -، عن الزهري كذلك.
(1)
في " اليونينية ": " أخبرني ".
(2)
في " اليونينية ": " يا رسول الله مالك ".
(3)
زاد في " اليونينية ": " فعدت لمقالتي ".
(4)
" يا رسول الله " ليس في " اليونينية ".
(5)
في " اليونينية ": " فقال ".
(6)
راجع " أطراف الغرائب ": (501) بتحقيقنا، وقال هناك:" صحيح من حديث معمر، عن الزهري، وغريب من حديث المعتمر، عن عبد الرزاق، عنه، تفرد به: صالح بن حاتم ابن وردان ". أ. هـ.
ورواه العباس الخلال
(1)
، عن الوليد بن مسلم، عن ابن وهب. ورشدين بن سعد، عن يونس، عن الزهري، عن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخطئا في ذلك. نقله ابن أبي حاتم الرازي عن أبيه
(2)
. فهذا الحديث محمول عند البخاري على أن هذا الرجل كان منافقا، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم نفى عنه الإيمان وأثبت له الاستسلام دون الإسلام الحقيقي، وهو – أيضا – قول محمد بن نصر المروزي
(3)
. وهذا غاية البعد، وآخر الحديث يرد على ذلك، وهو: قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه " فإن هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وكله إلى إيمانه كما كان يعطي المؤلفة قلوبهم ويمنع المهاجرين والأنصار.
وزعم علي بن المديني في كتاب " العلل " له أن هذا باب المزاح من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان يمزح ولا يقول إلا حقا، فأوهم سعدا أنه ليس بمؤمن؛ بل مسلم وهما بمعنى واحد كما يقول (198 - أ/ ف) لرجل يمازحه وهو يدعى أنه أخ لرجل فيقول: إنما أنت ابن أبيه أو ابن أمه، وما أشبه ذلك مما يوهم الفرق والمعنى واحد. وهذا تعسف شديد.
والظاهر – والله أعلم – أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر سعدا عن الشهادة بالإيمان؛
(1)
هو العباس بن الوليد بن صبح، له ترجمة في " تاريخ دمشق " لابن عساكر.
(2)
في " علله ": (2 / 155) .
(3)
" تعظيم قدر الصلاة "(2 / 510) .
لأن الإيمان باطن في القلب لا اطلاع للعبد عليه، فالشهادة به شهادة على ظن فلا ينبغي الجزم بذلك كما قال:" إن كنت مادحا لا محالة فقل: أحسب فلانا كذا ولا أزكي على الله أحدا "
(1)
، وأمره أن يشهد بالإسلام لأنه أمر مطلع عليه كما في " المسند " عن أنس مرفوعا:" الإسلام علانية، والإيمان في القلب "
(2)
.
ولهذا كره أكثر السلف أن يطلق الإنسان على نفسه أنه مؤمن، وقالوا: هو صفة مدح، وتزكية للنفس بما غاب من أعمالها؛ وإنما يشهد لنفسه بالإسلام لظهوره، فأما حديث:" إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان ": فقد خرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه من حديث دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد مرفوعا
(3)
. وقال أحمد: هو حديث منكر، ودراج له مناكير
(4)
، والله أعلم.
وهذا الذي ذكره البخاري في هذا الباب من الآية والحديث إنما يطابق التبويب على اعتقاده أنه فرق بين الإسلام والإيمان.
(1)
البخاري (فتح: 2662) .
(2)
" المسند "(3 / 134) ، من طريق علي بن مسعدة، عن قتادة، عن أنس، وعلي فيه توثيق وقال البخاري في " التاريخ ":" فيه نظر ". وليس من أصحاب قتادة، وقتادة مدلس، وقد عنعن.
(3)
. " المسند "(3 / 68، 76) ، والترمذي (3093) ، وابن ماجه (802) وابن عدي في " الكامل "(3/ 114) . وأحاديث دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد فيها ضعف. قاله أحمد.
(4)
" العلل ومعرفة الرجال "(3 / 116) ولدراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد غرائب، انظر بعضها في " أطراف الغرائب " 0 4881 - 4883) بتحقيقنا، و" الكامل " لابن عدي (3 / 113) وإنكار الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – لهذا الحديث مع إخراجه له في " المسند " يدل على أن مجرد إخراج الحديث في مصنف لم يشترط صاحبه الصحة لا يعني رضى الإمام عنه.
وأما على قول الأكثرين بالتفريق بينهما: فإنما ينبغي أن يذكر في هذا الباب قوله عز وجل {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] فإن الجمهور على أنه أراد استسلام الخلق كلهم له وخضوعهم فأما المؤمن فيستسلم ويخضع طوعا، وأما الكافر فإنه يضطر إلى الاستسلام عند الشدائد ونزول البلاء به كرها ثم يعود إلى شركه عند زوال ذلك كله كما أخبر الله عنهم بذلك في مواضع كثيرة من القرآن.
والحديث الذي يطابق الباب على اختيار المفرقين بين الإسلام والإيمان: قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر قرينه من الجن: " ولكن الله أعانني عليه فأسلم "
(1)
. وقد روي بضم الميم وفتحها؛ فمن رواه بضمها قال: المراد: أي أنا أسلم من شره، ومن رواه بفتحها، فمنهم من فسره بأنه أسلم من كفره فصار مسلما. وقد ورد التصريح بذلك في رواية خرجها البزار في " مسنده "
(2)
بإسناد فيه ضعف.
ومنهم من فسره بأنه استسلم وخضع وانقاد كرها، وهو تفسير ابن عيينه وغيره، فيطابق على هذا ترجمة الباب، والله أعلم
(1)
مسلم (2815) .
(2)
(كشف: 2438 – 2439) ، و" التاريخ " للبخاري (4/ 239) .
20 -
فصل
(1)
قال البخاري:
قال عمار: ثلاث من جمعهن جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار.
هذا الأثر معروف من رواية أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن عمار، رواه عنه الثوري وشعبة وإسرائيل وغيرهم.
وروي عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق مرفوعا. خرجه البزار وغيره
(2)
، ورفعه وهم، قال أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، وتردد أبو حاتم هل الخطأ منسوب فيه إلى عبد الرزاق أو معمر
(3)
، ومعمر ليس بالحافظ لحديث العراقيين كما ذكر ابن معين وغيره
(4)
. وقد روي مرفوعا من وجهين آخرين ولا يثبت واحد منهما
(5)
. وإنما ذكر البخاري قول عمار في باب " إفشاء السلام من الإسلام " لأنه لا يفرق بين الإسلام والإيمان - كما تقدم.
(1)
باب " إفشاء السلام من الإسلام ".
(2)
" البحر الزخار "(4 / 232) من طريق الحسن بن عبد الله الكوفي. وابن الأعرابي من طريق محمد بن الصباح الصغاني (4 / 70) والبغوي في " شرح السنة " من طريق أحمد بن كعب الواسطي (فتح: 1 / 82) ثلاثتهم عن عبد الرزاق به مرفوعا. وأوقفه عنه الدبري كما في " المصنف "(10 / 386) وأحمد بن منصور الرمادي كما في " التغليق "(2 / 38) وذكر أن من رفعه روى عن عبد الرزاق بآخره
(3)
" علل الرازي "(2 / 145) .
(4)
" شرح علل الترمذي " للمصنف (2 / 774) .
(5)
" تغليق التعليق "(2 / 40) .
ثم خرج البخاري حديث:
28 -
عبد الله بن عمرو قال: سئل النبي
(1)
صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال: " أن
(2)
تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ".
وقد خرجه - فيما مضى - وبوب عليه باب " إطعام الطعام من الإسلام "
(3)
وقول عمار فيه زيادة على هذا الحديث بذكر الإنصاف من النفس، وهو من أعز الخصال، ومعناه:(198 - ب / ف) أن يعرف الإنسان الحق على نفسه ويوفيه من غير طلب.
وفيه - أيضا -: زيادة الإنفاق من الإقتار؛ ويشهد لفضله: قوله تعالى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة} [الحشر: 9] وقوله {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء} [آل عمران: 134] .
وفي " المسند " من حديث علي ابن أبي طالب أن ثلاثة تصدقوا: رجل كان له ألف درهم فتصدق بمائة، وآخر كان له مائة فتصدق بعشرة، وآخر كان له عشرة فتصدق بدرهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أنتم في الأجر سواء "
(4)
.
يعني أن كلا منهم تصدق بعشر ماله، فاعتبر الباقي بعد الصدقة؛ فمن تصدق بدرهم وبقي له بعده كثير ليس كمن تصدق بدرهم وبقي له بعده درهم آخر أو درهمان.
(1)
في " اليونينية ": " أن رجلا سأل رسول الله ".
(2)
" أن " ليست في " اليونينية "..
(3)
الباب رقم: (6)، والحديث رقم:(12) .
(4)
" المسند "(1 / 96، 114 - 115) .
وروى مسدد: حدثنا أبو قدامة ثنا صفوان ابن عيسى: ثنا محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" سبق درهم مائة ألف درهم " قالوا: يا رسول الله! وكيف يسبق درهم مائة ألف درهم؟ قال: " رجل له درهمان فأخذ أجودهما فتصدق به، ورجل له مال كثير فأخرج منه عرضه مائة ألف درهم فتصدق بها "
(1)
.
(1)
. النسائي في " الكبرى "(2 / 32) ، ورواه أيضا عن الليث بن سعد، عن ابن عجلان، من سعيد المقبري والقعقاع بن حكيم، عن أبي هريرة، ويشبه أن يكون القول قول الليث، والقعقاع لم يلق أبا هريرة أشار إليه البخاري في " التاريخ "(7 / 188) ونص عليه المزي في " التهذيب "(23 / 623) وحديث ابن عجلان، عن المقبري، تكلم فيه القطان كما في شرح علل الترمذي (2 / 670)
21 -
فصل
(1)
خرج البخاري ومسلم
(2)
من حديث:
(1)
باب " كفران العشير ".
(2)
مسلم (907) .
29 -
مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(1)
: " أريت النار فرأيت
(2)
أكثر أهلها النساء بكفرهن " قيل أيكفرون
(3)
؟ قال: " يكفرن العشير ويكفرن الإحسان؛ لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط "
وقال البخاري: كفر دون كفر
(4)
. والكفر قد يطلق ويراد به الكفر الذي لا ينقل عن الملة مثل كفران العشير ونحوه عند إطلاق الكفر
(5)
.
فأما إن ورد الكفر مقيدا بشيء فلا إشكال في ذلك كقوله تعالى {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ} [النحل: 112] . وإنما المراد هاهنا: أنه قد يرد إطلاق الكفر ثم يفسر بكفر غير ناقل عن الملة، وهذا كما قال ابن عباس في قوله تعالى {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} [المائدة: 44] قال: ليس بالكفر الذي
(1)
" قال " ليست في " اليونينية ".
(2)
كلمة " فرأيت " ليست في " اليونينية " ونبه عليها القسطلاني وغيره.
(3)
في " اليونينية ": " أيكفرون بالله ".
(4)
جعل المصنف قول البخاري عقب الحديث، وهو في " اليونينية " وغيرها في ترجمة الباب قبل الحديث، وصنع مثله في الحديث رقم (40) .
(5)
وقد أحال هذا الباب من " كتاب الإيمان " عند شرحه لحديث (1038) .
تذهبون إليه؛ إنه ليس بكفر ينقل عن الملة {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} كفر دون كفر. خرجه الحاكم
(1)
وقال: صحيح الإسناد.
وعنه في هذه الآية قال: هو به كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وكذا قال عطاء وغيره: كفر دون كفر. وقال النخعي: الكفران كفران: كفر بالله وكفر بالمنعم
(2)
. واستدل البخاري لذلك بحديث ابن عباس الذي خرجه هاهنا، وهو قطعة من حديث طويل خرجه في " أبواب الكسوف "
(3)
، فإنه النبي صلى الله عليه وسلم أطلق على النساء الكفر فسئل عنه فسره بكفر العشير.
وحديث أبي سعيد
(4)
في هذا المعنى يشبه حديث ابن عباس. وقد خرج هذا المعنى من حديث ابن عمر، وأبي هريرة – أيضا – وفي المعنى – أيضا - حديث ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " وقد خرجه البخاري
(5)
في موضع آخر. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب
(1)
في " المستدرك "(2 / 313) .
(2)
انظر هذه الأقوال في " تفسير ابن كثير "(3 / 111) .
(3)
(فتح: 1052) .
(4)
سيأتي برقم (304) .
(5)
أخرجه مسلم برقم (132/ 79، 80) .
بعض
(1)
. وقوله من قال لأخيه: ياكافر، فقد باء بها أحدهما "
(2)
. وللعلماء في هذه الأحاديث وما أشبهها مسالك متعددة: منهم: من حملها على من فعل ذلك مستحلا لذلك.
وقد حمل مالك حديث: " من قال لأخيه: يا كافر " على الحرورية المعتقدين لكفر المسلمين بالذنوب. نقله عنه أشهب
(3)
وكذلك حمل (199 – أ / ف) إسحاق بن راهوية حديث " من أتى حائضا أو امرأة في دبرها فقد كفر "
(4)
على المستحل لذلك. نقله عنه حرب وإسحاق الكوسج. ومنهم من يحملها على التغليظ والكفر الذي لا ينقل عن الملة – كما تقدم عن ابن عباس وعطاء. ونقل إسماعيل الشالنجي عن أحمد – وذكر له قول ابن عباس المتقدم وسأله: ما هذا الكفر؟ - قال أحمد: هو كفر لا ينقل عن الملة مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف
(5)
فيه.
قال محمد بن نصر المروزي
(6)
:. واختلف من قال من أهل الحديث أن مرتكب الكبائر مسلم وليس بمؤمن هل يسمى كافرا كفرا لا ينقل عن الملة كما قال عطاء: كفر دون كفر، وقال ابن عباس وطاوس: كفر لا ينقل عن الملة
(7)
؟ على قولين لهم.
(1)
(فتح: (48) .
(2)
البخاري (فتح: 121) ، ومسلم (65) .
(3)
(فتح: 6103) ، ومسلم (60) .
(4)
" التمهيد "(17 / 15) .
(5)
أبو داود (3904) ، والترمذي (135) .
(6)
في " ف ": " تختلف " كذا، والموافق للسياق ما أثبتناه. .
(7)
" تعظيم قدر الصلاة "(2 / 527) .
قال: وهما مذهبان في الجملة محكيان عن أحمد بن حنبل في موافقيه من أهل الحديث. قلت: قد أنكر أحمد في رواية المروذي ما روي عن عبد الله بن عمرو أن شارب الخمر يسمى كافرا ولم يثبته عنه؛ مع أنه قد روي عنه من وجوه كثيرة وبعضها إسناده حسن، وروي عنه مرفوعا
(1)
.
وكذلك أنكر القاضي أبو يعلى جواز إطلاق كفر النعمة على أهل الكبائر، ونصب الخلاف في ذلك مع الزيدية من الشيعة، والإباضية من الخوارج. ورواية إسماعيل الشالنجي عن أحمد قد توافق ذلك. فمن هنا حكى محمد بن نصر عن أحمد في ذلك مذهبين
(2)
.
والذي ذكره القاضي أبو عبد الله بن حامد شيخ القاضي أبو يعلى عن أحمد جواز إطلاق الكفر والشرك على بعض الذنوب التي لا تخرج عن الملة، وقد حكاه عن أحمد
(3)
.
وقد روي عن جابر بن عبد الله أنه سئل: هل كنتم تسمون شيئا من الذنوب: الكفر أو الشرك؟ قال: معاذ الله؛ ولكنا نقول مذنبين. خرجه محمد بن نصر
(4)
وغيره. وكان عمار ينهى أن يقال لأهل الشام الذين قاتلوهم بصفين: كفروا
(1)
سبق وهو في " المستدرك "(2 / 313) .
(2)
أخرجه النسائي في " المجتبى "(8 / 316) .
(3)
" تعظيم قدر الصلاة "(2 / 527) .
(4)
راجع " تعظيم قدر الصلاة "(2/ 526 – 527) ، تعظيم قدر الصلاة (2 / 875 – 876) .
وقال: قولوا فسقوا. قولوا ظلموا. وهذا قول ابن مبارك وغيره من الأئمة. وقد ذكر بعض الناس أن الإيمان قسمان:
أحدهما: إيمان بالله، وهو الإقرار والتصديق به.
والثاني: إيمان لله، وهو الطاعة والانقياد لأوامره.
فنقيض الإيمان الأول: الكفر، ونقيض الإيمان الثاني: الفسق؛ وقد يسمى كفرا؛ ولكن لا ينقل عن الملة.
وقد وردت نصوص اختلف العلماء في حملها عل الكفر الناقل عن الملة أو على غيره مثل الأحاديث الواردة في كفر تارك الصلاة، وتردد إسحاق بن راهوية فيما ورد في إتيان المرأة في دبرها أنه كفر هل هو مخرج عن الدين بالكلية أم لا؟
ومن العلماء من يتوقى الكلام في هذه النصوص تورعا ويمرها كما جاءت من غير تفسير مع اعتقادهم أن المعاصي لا تخرج عن الملة.
وحكاه ابن حامد في رواية عن أحمد، ذكر صالح بن أحمد وأبو الحارث أن أحمد سئل عن حديث أبي بكر الصديق " كفر بالله تبري من نسب وإن دق، وكفر بالله ادعاء إلى نسب لا يعلم "
(1)
قال أحدهما: قال
(1)
أخرجه البزار في " البحر الزخار "(1 / 139، 168 – 169) وقال: " وهذا الكلام لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عن أبي بكر، عنه " وقال في موضع آخر: ".... فتركناه لذلك إذ لم يصح عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكره الدارقطني في " العلل " (1 / 254 - 255) ، (261، 263) وقال: " والموقوف أشبه بالصواب ". وقال في موضع آخر (1 / 263) : " والصواب قول من رواه عن الأعمش موقوفا " وأخرجه الخطيب في " التاريخ " (3 / 144)
أحمد: قد روي هذا عن أبي بكر، والله أعلم، وقال الآخر: قال ما أعلم، قد كتبناها هكذا. قال أبو الحارث: قيل لأحمد: حديث أبي هريرة " من أتى النساء في أعجازهن فقد كفر "
(1)
فقال: قد روي هذا. ولم يزد على هذا الكلام. وكذا قال الزهري لما سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ليس منا من لطم الخدود " وما أشبهه من الحديث فقال: من الله العلم وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم
(2)
.
ونقل عبدوس بن (199 – ب / ف) مالك العطار أنه ذكر هذه الأحاديث التي ورد فيها لفظ الكفر فقال: نسلمها وإن لم نعرف تفسيرها ولا نتكلم فيه ولا نفسرها إلا بما جاءت
(3)
.
ومنهم من فرق بين إطلاق لفظ الكفر فجوزه في جميع أنواع الكفر سواء كان ناقلا عن الملة أو لم يكن وبين إطلاق اسم الكافر، فمنعه إلا في الكفر الناقل عن الملة؛ لأن اسم الفاعل لا يشتق من الفعل الكامل، ولذلك قال في اسم المؤمن: لا يقال إلا للكامل الإيمان، فلا يستحقه من كان مرتكبا للكبائر حال ارتكابه وإن كان يقال: قد آمن، ومعه إيمانه. وهذا اختيار ابن قتيبة. وقريب منه: قول من قال: إن أهل الكتاب يقال: إنهم أشركوا وفيهم شرك كما قال تعالى {سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31] ولا
(1)
وراجع " أطراف الغرائب "(5107) بتحقيقنا.
(2)
" تعظيم قدر الصلاة "(1 / 487) ، و" السير "(5 / 346) .
(3)
" طبقات الحنابلة "(1 / 245) .
يدخلون في اسم المشركين عند الإطلاق؛ بل يفرق بينهم وبين المشركين كما في قوله تعالى {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين} [البينة: 1] فلا يدخل الكتابية في قوله تعالى {َ وَلَا تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وقد نص على ذلك الإمام أحمد وغيره. وكذلك كره أكثر السلف أن يقول الإنسان: أنا مؤمن، حتى يقول: إن شاء الله، وأباحوا أن يقول: آمنت بالله.
وهذا القول حسن، لولا ما تأوله ابن عباس وغيره في قوله تعالى {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} [المائدة: 44] ، والله أعلم.
23 -
فصل
(1)
خرج البخاري ومسلم
(2)
من حديث:
(1)
ترجم البخاري له بـ " باب ظلم دون ظلم ". وقد سقط قبل هذا الباب بابان (22) : " المعاصي من أمر الجاهلية "، وباب:{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} الآية، وعليه فقد سقط حديث (30 و31)
(2)
(124) .
32 -
ابن مسعود قال: لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْم} [الأنعام: 82] قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينا لم يظلم نفسه
(1)
، فأنزل الله {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]
معنى هذا: أن الظلم يختلف: فيه ظلم، ينقل عن الملة كقوله تعالى {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] فإن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وأعظم ذلك: أن يوضع المخلوق في مقام الخالق ويجعل شريكا له في الربوبية وفي الإلهية سبحانه وتعالى عما يشركون. وأكثر ما يرد في القرآن وعيد الظالمين يراد به الكفار كقوله تعالى {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُون} الآيات [إبراهيم: 42] ، وقوله {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيل}
(1)
كلمة " نفسه " ليست في " اليونينية "، وذكرها القسطلاني، وأشار العيني (1 / 246) إلى أنها في بعض النسخ.
الآيات [الشورى: 44] ومثل هذا كثير.
ويراد بالظلم: ما لا ينقل عن الملة، كقوله تعالى {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَات} [فاطر: 32] وقوله {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} [البقرة: 229] .
وحديث ابن مسعود هذا صريح في أن المراد بقوله تعالى {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْم} أن الظلم هو الشرك، وجاء في بعض رواياته زيادة: قال " إنما هو الشرك "
(1)
.
وروى حمادة بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ، فدخل ذات يوم فقرأ فأتى على هذه الآية {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْم} إلى آخر الآية فانتعل وأخذ رداءه ثم أتى أبي ابن كعب فقال: يا أبا المنذر! أتيت قبل على هذه الآية {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْم} وقد ترى أنا نظلم ونفعل، فقال: يا أمير المؤمنين! إن هذا ليس بذلك، يقول الله تعالى {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . -، إنما ذلك الشرك. خرجه محمد بن نصر المروزي
(2)
. وخرجه - أيضا - من طريق حماد بن زيد، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب أن عمر أتى على هذه الآية، فذكره
(3)
. وحماد بن سلمه مقدم على حماد بن زيد في علي بن زيد خاصة
(4)
.
(1)
(فتح: 3429) .
(2)
" تعظيم قدر الصلاة "(2 / 524 - 525) .
(3)
. " تعظيم قدر الصلاة "(2 / 525)
(4)
وراجع ما نقله المصنف رحمه الله في " شرح العلل "(1 / 414) ، (2 / 690، 781) .
وروي - أيضا - بإسناده، عن سفيان، عن (200 - أ/ف) ابن جريج، عن عطاء قال: كفر دون كفر وظلم دون ظلم، وفسوق دون فسق
(1)
.
يعني: أن الفسق قد يكون ناقلا عن الملة كما قال في حق إبليس {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه} [الكهف: 50] وقال {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20] .
وقد لا يكون الفسق ناقلا عن الملة كقوله تعالى {وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282]، وقوله في الذين يرمون المحصنات {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] وقوله: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَج} [البقرة: 197] ، وفسرت الصحابة الفسوق في الحج بالمعاصي كلها، ومنهم من خصها بما ينهى عنه في الإحرام خاصة. وكذلك الشرك: منه ما ينقل عن الملة، واستعماله في ذلك كثير في الكتاب والسنة. ومنه: ما لا ينقل، كما جاء في الحديث:" من حلف بغير الله فقد أشرك " ِ
(2)
، وفي الحديث:" الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل "
(3)
، وسمي الرياء: شركا.
(1)
" تعظيم قدر الصلاة "(2 / 522) .
(2)
أخرجه الترمذي (1535) من حديث ابن عمر.
(3)
أخرجه أبو يعلى في " مسنده "(1 / 60) ، وأبو نعيم في " الحلية "(7 / 112) من حديث أبي بكر الصديق.
وتأول ابن عباس على ذلك قوله تعالى {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُون} [يوسف: 106] قال: إن أحدهم يشرك حتى يشرك بكلبه: لولا الكلب لسرقنا الليلة، قال تعالى:{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] .
وقد روي أنها نزلت في الرياء في العمل. وقيل للحسن: يشرك بالله؟ قال: لا؛ ولكن أشرك بذلك العمل عملا يريد به الله والناس، فذلك يرد عليه.
29 -
فصل
(1)
خرج الإمام أحمد من طريق ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة وعن ابن عباس قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب على الله؟ قال:: الحنيفية السمحة "
(2)
. وخرجه الطبراني ولفظه: أي الإسلام أفضل؟
(3)
. وخرجه البزار في " مسنده ولفظه: أي الإسلام - أو أي الإيمان - أفضل؟
(4)
. وهذا الإسناد ليس على شرط البخاري؛ لأنه لا يحتج بابن إسحاق ولا بروايات داود بن الحصين، عن عكرمة فإنها مناكير عند ابن المديني، والبخاري لا يخالف في ذلك وإن كان قد خرج لهما منفردين.
وخرج البزار هذا الحديث من وجه آخر؛ لكن إسناده لا يصح
(5)
.
(1)
كذا وهو ليس بابا من " أبواب الإيمان " عند البخاري، وليس من عادته في شرحه، وهو شرح لبعض ترجمة الباب (29) من كتاب الإيمان باب " الدين يسر " وبذلك يكون قد سقط عدة أبواب وهي: -
1 -
باب: (24)" علامة المنافق " وفيه حديثان: (33، 34) .
2 -
باب: (25)" قيام ليلة القدر من الإيمان " وفيه حديث: (35) .
3 -
باب: (26)" الجهاد من الإيمان " وفيه حديث: (36) .
4 -
باب: (27)" تطوع قيام رمضان من الإيمان " وفيه حديث: (37) .
باب: (28)" صوم رمضان احتسابا من الإيمان " وفيه حديث: (38) .
وأخيرا بعض شرحه على ترجمة الباب الذي نحن بصدده - كما نبهنا عليه سلفا.
(2)
" المسند "(1 / 236) .
(3)
" المعجم الكبير "(11 / 227) ، و" الأوسط "(1006) .
(4)
البزار (كشف: / 1 / 58) .
(5)
البزار (كشف: 1 / 58 - 59) .
وخرجه الطبراني من وجه ثالث، ولا يصح إسناده - أيضا
(1)
.
وخرج الإمام أحمد من حديث ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم يوم زفن
(2)
الحبشة في المسجد: " لتعلم يهود أن في ديننا فسحة؛ إني أرسلت بحنيفية سمحة "
(3)
.
وخرج - أيضا - من رواية معان بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية؛ ولكني بعثت بالحنيفية السمحة "
(4)
. إسناده ضعيف.
وخرج البخاري من حديث:
(1)
الطبراني في " الكبير (11 / 227) .
(2)
كتب فوقها في " ف " علامة تعليق وقال في الهامش: " أي لعبوا ورقصوا ".
(3)
" المسند "(6 / 116، 233) .
(4)
" المسند "(5 / 266) وسبق أن تكلمنا على هذا الإسناد (ص 103) .
39 -
معن بن محمد الغفاري، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ".
وهذا الحديث تفرد به البخاري، وتفرد بالتخريج لمعن الغفاري. ومعنى الحديث: النهي عن التشديد في الدين بأن يحمل الإنسان نفسه من العبادة مالا يحتمله إلا بكلفة شديدة، وهذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم " لن يشاد الدين أحد إلا غلبه " يعني: أن الدين لا يؤخذ بالمغالبة فمن شاد الدين غلبه وقطعه
(1)
.
(1)
أحال المصنف (ص 165) تحت شرحه للحديث رقم: (43) إلى شرحه على هذا الحديث. وقد تكلم هناك بما يفيد في هذا الباب.
وفي " مسند الإمام أحمد "(200 - ب / ف) عن محجن بن الأدرع قال: أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بباب المسجد إذا رجل يصلي قال: " أتقوله صادقا "؟ قلت: يا نبي الله! هذا فلان وهذا من أحسن أهل المدينة أو من أكثر أهل المدينة صلاة، قال:" لا تسمعه فتهلكه – مرتين أو ثلاث – إنكم أمة أريد بكم اليسر"
(1)
. وفي رواية له: " إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره "
(2)
. وفي رواية له – أيضا – قال: " إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة ". وخرجه حميد بن زنجويه وزاد: " اكلفوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، الغدوة والروحة وشيء من الدلجة " وخرجه ابن مردويه وعنده: قال: " إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليسر ولم يرد بها العسر "
(3)
.
وفي " المسند " –أيضا -، عن بريدة قال: خرجت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي فلحقته فإذا بين أيدينا برجل يصلي يكثر الركوع والسجود فقال لي: " أتراه يرائي؟ " قلت: الله ورسوله أعلم قال: فترك يده من يدي ثم جمع بين يديه يصوبهما ويرفعهما ويقول " عليكم هديا قاصدا، عليكم هديا قاصدا، عليكم هديا قاصدا؛ فإنه من يشاد
(4)
هذا الدين يغلبه "
(5)
.
(1)
" المسند "(5 / 32) .
(2)
" المسند "(4 / 338) .
(3)
أشار لذلك السيوطي في " الدر المنثور "(1 / 192) .
(4)
في " ف ": " يشاذ " بالذال المعجمة.
(5)
" المسند "(5 / 350، 361) .
وفي " المسند " – أيضا -، عن عاصم بن هلال، عن غاضرة بن عروة الفقيمي، عن أبيه: كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج فصلى، فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه: علينا حرج في كذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن دين الله في يسر " – قالها ثلاثا
(1)
. وفي المعنى أحاديث أخر. وقوله صلى الله عليه وسلم: سددوا وقاربوا وأبشروا ". التسديد: هو إصابة الغرض المقصود، وأصله من تسديد السهم إذا أصاب الغرض المرمى إليه ولم يخطه. والمقاربة: أن يقارب الغرض وإن لم يصبه؛ لكن يكون مجتهدا على الإصابة فيصيب تارة ويقارب تارة أخرى، أو تكون المقاربة لمن عجز عن الإصابة كما قال تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم "
(2)
.
وفي " المسند " و" سنن أبي داود "، عن الحكم بن حزن الكلفي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر يوم الجمعة:" أيها الناس! إنكم لن تطيقوا – أو لن تفعلوا – كل ما أمرتكم؛ ولكن سددوا وأبشروا "
(3)
. وقيل: أراد التسديد: العمل بالسداد – وهو القصد والتوسط في العبادة – فلا يقصر فيما أمر به وولا يتحمل منها مالا يطيقه.
قال النضر بن شميل: السداد: القصد في الدين والسبيل، وكذلك
(1)
" المسند "(5 / 69) .
(2)
متق عليه من حديث أبي هريرة (فتح: 7288) ، ومسلم (1336) .
(3)
" المسند "(4 / 212) ، وأبو داود (1096) .
المقاربة المراد بهما: التوسط بين التفريط والإفراط، فهما كلمتان بمعنى واحد.
وقيل: بل المراد بالتسديد: التوسط في الطاعات بالنسبة إلى الواجبات والمندوبات، وبالمقاربة: الاقتصار على الواجبات. وقيل فيهما غير ذلك. وقوله " أبشروا " يعني: أن من قصد المراد فليبشر. وخرج البخاري في موضع آخر من " صحيحه " من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سددوا وقاربوا وأبشروا "
(1)
. وقوله" واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة " يعني أن هذه الأوقات الثلاثة أوقات العمل والسير إلى الله، وهي / أول النهار وآخره، وآخر الليل. فالغدوة: أول النهار، والروحة آخره، والدلجة: سير آخر الليل.
وفي " سنن أبي داود " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا سافرتم فعليكم بالدلجة، فإن الأرض تطوى بالليل "
(2)
. فسير آخر الليل محمود في سير الدنيا بالأبدان وفي سير القلوب إلى الله بالأعمال.
وخرج البخاري (201 – أ / ف هذا الحديث في أواخر كتابه، وزاد فيه:" والقصد القصد تبلغوا "
(3)
، يعني أن من دام على سيره إلى الله في
(1)
(فتح: 6467) .
(2)
أبو داود (2571) .
(3)
(فتح: 6463) .
هذه الأوقات الثلاثة مع الاقتصاد بلغ، ومن لم يقتصد؛ بل بالغ واجتهد فربما انقطع في الطريق ولم يبلغ.
وقد جاء في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: " إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله؛ فإن المنبت لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى "
(1)
.
والمنبت: هو المنقطع في سفره قبل وصوله، فلا سفر قطع ولا ظهره الذي يسير عليه أبقى حتى يمكنه السير عليه بعد ذلك؛ بل هو كالمنقطع في المفاوز، فهو إلى الهلاك أقرب، ولو أنه رفق براحلته واقتصد في سيره عليها لقطعت به سفره وبلغ إلى المنزل.
كما قال الحسن: نفوسكم مطاياكم؛ فأصلحوا مطاياكم تبلغكم إلى ربكم عز وجل، والله أعلم
(1)
أخرجه ابن المبارك في " الزهد "(ص: 469) ، والبيهقي (3 / 19) . .
31 -
فصل
(1)
خرج البخاري من حديث:
(1)
باب " حسن إسلام المرء ". وتأخر عن الترتيب: الباب (30) ، فجاء بعد الباب (33) ..
41 -
زيد بن أسلم، عن
(1)
عطاء بن يسار، عن أبي
(2)
سعيد الخدري
(3)
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان أزلفها
(4)
، وكان بعد ذلك القصاص: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها؛ إلا أن يتجاوز الله عنها "
وخرج البخاري – أيضا – من حديث:
(1)
في " اليونينية ": " أن " بدلا من: " عن ".
(2)
قوله: عن أبي " جاءت في " اليونينية ": " أخبره أن أبا ".
(3)
زاد في " اليونينية " في هذا الموضع: " أخبره ".
(4)
في " اليونينية ": " زلفها " وأشار القسطلاني إلى أنها في بعض النسخ.
42 -
همام بن منبه، عن أبي هريرة عن النبي
(1)
صلى الله عليه وسلم قال " إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها ".
إحسان الإسلام تفسر بمعنيين: أحدهما: بإكمال واجتناب محرماته. ومنه الحديث المشهور المروي في " السنن": " من حسن إسلام المرء
(1)
قوله: " عن النبي " جاءت في " اليونينية ": قال: قال رسول الله ".
تركه ما لا يعنيه
(1)
فكمال حسن إسلامه – حينئذ – بترك ما لا يعنيه وفعل ما يعنيه. ومنه حديث ابن مسعود الذي خرجاه في" الصحيحين " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أنؤاخذ بأعمالنا في الجاهلية؟ فقال: " من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر"
(2)
. فإن المراد بإحسانه في الإسلام: فعل واجباته والانتهاء عن محرماته، وبالإساءة في الإسلام: ارتكاب بعض محظوراته التي كانت ترتكب في الجاهلية.
وفي حديث ابن مسعود هذا حديث أبي سعيد – الذي علقه البخاري هنا في أول الباب
(3)
– دليل على أن الإسلام إنما يكفر ما كان قبله من الكفر ولواحقه التي اجتنبها المسلم بإسلامه، فأما الذنوب التي فعلها في الجاهلية إذا أصر عليها في الإسلام فإنه يؤاخذ بها، فإنه إذا أصر عليها في الإسلام لم يكن تائبا منها فلا يكفر عنه بدون التوبة منها.
وقد ذكر ذلك طوائف من العلماء من أصحابنا كأبي بكر بن عبد العزيز ابن جعفر وغيره، وهو قول طوائف من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم وهو اختيار الحليمي.
(1)
الترمذي (2317) ، وابن ماجه (3976) ، وراجع " علل ابن أبي حاتم "(2/ 132) ، " وعلل الدارقطني) (8 / 25 – 28) وقد تكلم المصنف عليه بتوسع في بيان أن الصواب فيه الإرسال، في كتابه الحفيل " جامع العلوم والحكم " (1 / 285) – طبعتنا.
(2)
(فتح: 6921) ، ومسلم (120) .
(3)
قال: قال مالك، عن زيد.
ثم وجدته منصوصا عن الإمام أحمد؛ فنقل الميموني في " مسائله " عن أحمد قال: بلغني عن أبي حنيفة أنه كان يقول: لا يؤاخذ بما كان في الجاهلية، والنبي النبي صلى الله عليه وسلم يقول في غير حديث:" إنه يؤاخذ "، يعني: حديث شقيق، عن ابن مسعود: أزاد
(1)
" إذا أحسنت في الإسلام ". انتهى
وكذلك حكى الجوزجاني عن أهل الرأي أنهم قالوا: إن من أسلم وهو مصر على الكبائر، كفر (201 – ب / ف) الإسلام كبائره كلها، ثم أنكر عليهم وجعله من جملة أقوال المرجئة. وخالف في ذلك آخرون، وقالوا: بل يغفر له في الإسلام كل ما سبق منه في الجاهلية من كفر وذنب وإن أصر عليها في الإسلام. وهذا قول كثير من المتكلمين والفقهاء من أصحابنا وغيرهم كابن حامد والقاضي وغيرهما واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم " الإسلام يهدم ما كان قبله ". خرجه مسلم من حديث عمرو بن العاص
(2)
.
وأجاب الأولون عنه: بأن المراد أنه يهدم ما كان قبله مما ينافيه الإسلام من كفر وشرك ولواحق ذلك مما يكون الإسلام توبة منه وإقلاعا عنه جميعا بينه وبين الحديثين المتقدمين. واستدلوا بقوله تعالى {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] .
(1)
في " ف " كأنها بالراء المهملة، ولعل ما أثبتناه أولى.
(2)
مسلم (121) .
وأجاب الأولون بأن المراد: يغفر لهم ما سلف مما انتهوا عنه. وتأول بعض أهل القول الثاني حديث ابن مسعود على أن إساءته في الإسلام ارتداده عنه إلى الكفر، فيؤاخذ بكفره الأول والثاني. ومنهم من حمله على إسلام المنافق. وهذا بعيد جدا. ومتى ارتد عن الإسلام أو كان منافقا فلم يبق معه الإسلام حتى يسيء فيه. والاختلاف في هذه المسألة مبني على أصول:
أحدها: قول جمهور أهل السنة والجماعة، والخلاف فيه عن الإمام احمد لا يثبت. وقد تأول ما روي عنه في ذلك المحققون من أصحابه كابن شاقلا والقاضي في كتاب " المعتمد " وابن عقيل في " فصوله ". وأما المعتزلة: فخالفوا في ذلك، وقال من قال منهم كالجبائي
(1)
بناء على هذا: إن الكافر لا يصح إسلامه مع إصراره على كبيرة كان عليها في حال كفره. وهذا قول باطل لم يوافقهم عليه أحد من العلماء.
(1)
هو أبو علي بن محمد بن عبد الوهاب البصري، مات بالبصرة سنة ثلاث وثلاثمائة، وكان من شيوخ المعتزلة، ترجم له الذهبي في " السير "(14 / 183 – 184) .
الأصل الثاني: أن التوبة هل من شرط صحتها إصلاح العمل بعدها أم لا؟ وفي ذلك اختلاف بين العلماء، وقد ذكره ابن حامد من أصحابنا وأشار إلى بناء الخلاف في هذه المسألة على ذلك، والصحيح عنده وعند كثير من العلماء: أن ذلك ليس بشرط.
والأصل الثالث: أن بعض الذنوب قد يعفى عنها بشرط اجتناب غيرها، فإن لم يحصل الشرط لم يحصل ما علق به. وهذا مأخذ أبي بكر عبد العزيز من أصحابنا، وجعل من هذا الباب أن الصغائر إنما تكفر باجتناب الكبائر، فإن لم يجتنب الكبائر وقعت المؤاخذة بالصغائر والكبائر. وهذا فيه خلاف يذكر في موضع آخر إن شاء الله. وجعل منه أن النظرة الأولى يعفى عنها بشرط عدم المعاودة، فإن أعاد النظرة أخذ بالأولى والثانية.
والأصل الرابع: أن التوبة من الذنب هي الندم عليه بشرط الإقلاع عنه والعزم على عدم العود إليه، فالكافر إذا أسلم وهو مصر على ذنب آخر صحت توبته مما تاب منه وهو الكفر دون الذنب الذي لم يتب منه؛ بل هو مصر عليه.
وخرج النسائي حديث مالك الذي علقه البخاري هنا، وزاد في أوله:" كتب الله كل حسنة كان أزلفها "
(1)
.
(1)
النسائي في " المجتبى "(8 / 105، 106) ، وفي " الكبرى "(6 / 530) .
وهذا يشبه قول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام لما قال له: أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية، هل لي منها من شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أسلمت على ما أسلفت من خير " خرجه مسلم
(1)
.
وكلاهما يدل على أن الكافر إذا عمل حسنة في حال كفره ثم أسلم فإنه يثاب عليها ويكون إسلامه المتأخر كافيا له في حصول الثواب على حسناته السابقة منه قبل إسلامه (202 - أ / ف) .
ورجح هذا القول ابن بطال والقرظي وغيرهما. وهو مقتضى قول من قال: إنه يعاقب بما أصر عليه من سيئاته إذا أسلم – كما سبق وحكى مثله عن إبراهيم الحربي. ويدل عليه - أيضا -: أن عائشة لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن جدعان وما كان يصنعه من المعروف هل ينفعه ذلك؟ فقال: " إنه لم يقل يوما قط: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين "
(2)
. وهذا يدل على أنه لو قال ذلك يوما من الدهر – ولو قبل موته بلحظة لنفعه ذلك. ومما يستدل به – أيضا -: قول النبي صلى الله عليه وسلم في مؤمن أهل الكتاب إذا أسلم: " إنه يؤتى أجره مرتين
(3)
؛ مع أنه لو وافى على عمله بكتابه الأول لكان حابطا، وهذا هو اللائق بكرم الله وجوده وفضله.
(1)
(123) .
(2)
́المسند " (6 / 120) .
(3)
(فتح: 97) ومسلم (154) ، من حديث أبو موسى.
وخالف في ذلك طوائف من المتكلمين وغيرهم وقالوا: الأعمال في حال الكفر حابطة لا ثواب لها بكل حال، وتأولوا هذه النصوص الصحيحة بتأويلات مستكرهة مستبعدة، ولذلك
(1)
من كان له عمل صالح فعمل سيئة أحبطته ثم تاب؛ فإنه يعود إليه ثواب ما حبط من عمله بالسيئات.
وقد ورد في هذا آثار عن السلف، قال ابن مسعود: عبد الله رجل سبعين سنة ثم أصاب فاحشة فأحبط الله عمله، ثم أصابته زمانه وأقعد فرأى رجلا يتصدق على مساكين فجاء إليه فأخذ منه رغيفا فتصدق به على مسكين فغفر الله له ورد عليه عمل سبعين سنة. خرجه ابن المبارك في كتاب: البر والصلة "
بل عود العمل هاهنا بالتوبة أولى؛ لأن العمل الأول كان مقبولا، وإنما طرأ عليه ما يحبطه بخلاف عمل الكافر قبل إسلامه. ومن كان مسلما وعمل صالحا في إسلامه ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام، ففي حبوط عمله الأول بالردة خلاف مشهور، ولا يبعد أن يقال: إنه إليه بإسلامه الثاني على تقدير حبوطه، والله أعلم.
وقد وردت نصوص أخر تدل على أن الكافر إذا أسلم وحسن إسلامه فإنه تبدل سيئاته في حال كفره حسنات، وهذا أبلغ مما قبله، ويدل على أن التائب من ذنب تبدل سيئاته قبل التوبة بالتوبة حسنات كما دلت عليه الآية في سورة الفرقان، وفي ذلك كلام يطول ذكره هاهنا.
(1)
كذا في " ف "، ولعل الصواب:" وكذلك ".
ولا يستبعد إثابة المسلم في الآخرة بما عمل قبل إسلامه من الحسنات؛ فإنه لابد أن يثاب عليها في الدنيا. وفي إثابته عليها في الآخرة بتحقيق العذاب نزاع مشهور. فإذا لم يكن بد من إثابته فلا يستنكر أن يثاب عليها بعد إسلامه في الآخرة؛ لأن المانع من إثابته عليها في الآخرة هو الكفر، وقد زال. وقد يستدل
(1)
لهذا – أيضا – بقول الله عز وجل في قصة أسارى بدر {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى
(2)
إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 70] وقد كان العباس بن عبد المطلب – وهو من جملة هؤلاء الأسارى – يقول: أما أنا فقد آتاني الله خيرا مما أخذ مني ووعدني المغفرة
(3)
. فهذه الآية تدل على أن الكافر إذا أصيب بمصيبة في حال كفره ثم أسلم فإنه يثاب على مصيبته، فلأن يثاب على ما سلف منه من أعماله الصالحة أولى؛ فإن المصائب يثاب على الصبر عليها والرضى بها، وأما نفس المصيبة (202 – ب / ف) فقد قيل: إنه يثاب عليها، وقيل: إنه لا يثاب عليها؛ وإنما يكفر عنه ذنوبه. وهذا هو المنقول عن كثير من الصحابة.
والمعنى الثاني – مما يفسر به إحسان الإسلام -: أن تقع طاعات المسلم
(1)
في " ف" بالمثناه الفوقية والموافق للسياق ما أثبتناه.
(2)
وهي قراءة أبي عمرو، وانفرد بها دون السبعة. قال أبو عطية في " تفسيره "(8 / 117) .
(3)
أخرج هذا الأثر: ابن جرير في " تفسيره "(10 / 35)
على أكمل وجوهها وأتمها بحيث يستحضر العامل في حال عمله قرب الله منه واطلاعه عليه فيعمل له على المراقبة والمشاهدة لربه بقلبه. وهذا هو الذي فسر النبي صلى الله عليه وسلم به الإحسان في حديث سؤال جبريل عليه السلام.
وقد دل حديث أبي سعيد وحديث أبي هريرة المذكوران على أن مضاعفة الحسنات للمسلم بحسب حسن إسلامه.
وخرج ابن أبي حاتم
(1)
من رواية عطية العوفي، عن ابن عمر قال: نزلت {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] في الأعراب فقال رجل: يا أبا عبد الرحمن! فما للمهاجرين؟ قال: ما هو أكثر ثم تلا قوله {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] . ويشهد لهذا المعنى: ما ذكره الله عز وجل في حق أزواج نبيه فقال {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَة} إلى قوله {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب: 30 – 32] فدل على أن من عظمت منزلته ودرجته عند الله فإن عمله يضاعف له أجره.
وقد تأول بعض السلف من بني هاشم دخول آل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى لدخول أزواجه؛ فلذلك
(2)
من حسن إسلامه بتحقيق إيمانه وعمله
(1)
راجع " الدر المنثور " فقد عزاه إليه (3 / 64) .
(2)
كذا في " ف "، ولعل الصواب:" وكذلك ".
الصالح فإنه يضاعف له أجر عمله بحسب حسن إسلامه وتحقيق إيمانه وتقواه والله أعلم.
ويشهد لذلك: أن الله ضاعف لهذه الأمة لكونها خير أمة أخرجت للناس أجرها مرتين، قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} [الحديد: 28] .
وفي الحديث الصحيح: " إن أهل التوراة عملوا إلى نصف النهار على قيراط قيراط، وعمل أهل الإنجيل إلى العصر على قيراط قيراط، وعملتم أنتم من العصر إلى غروب الشمس على قيراطين فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: ما لنا أكثر عملا وأقل أجرا؟ ! فقال الله: هل ظلمتكم من أجوركم شيئا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء
(1)
.
وأما من أحسن عمله وأتقنه وعمله على الحضور والمراقبة، فلا ريب أنه يتضاعف بذلك أجره وثوابه في هذا العمل بخصوصه على من عمل ذلك العمل بعينه على وجه السهو والغفلة. ولهذا روي في حديث عمار المرفوع: " إن الرجل ينصرف من صلاته وما كتب له إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، حتى بلغ العشر
(2)
؛ فليس ثواب من كتب له عشر عمله كثواب من كتب له نصف ولا ثواب من كتب له نصف عمله كثواب من كتب له عمله كله، والله أعلم
(1)
(فتح: 557) .
(2)
أخرجه أحمد في " مسنده "(4 / 321) ، وأبو داود (796) ، وغيرهما؛ وهذا الحديث اختلف فيه اختلافا كثيرا على عمار، انظره في ترجمة عمار من " التاريخ الكبير "(7 / 25 - 26) ، والبزار في " مسنده "(4 / 251 - 252) ، والبيهقي (2 / 281) ، وذكر ابن المديني طرفا من هذا الخلاف – نقله عن المزي في " تهذيبه "
…
(15 / 393) ، ويروي عن أبي هريرة وهو أحد أوجه الخلاف فيه.
32 -
فصل
(1)
خرج البخاري ومسلم
(2)
من حديث:
(1)
هو باب " أحب الدين على الله أدومه ".
(2)
(785 / 221) .
43 -
عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة فقال: " من هذه " فقالت
(1)
: فلانة – تذكر من صلاتها – فقال
(2)
: " مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا ". وكان أحب الدين إليه: مادام عليه صاحبه.
وقد ورد في رواية أخرى مخرجة في غير هذا الموضع أن هذه المرأة اسمها: الحولاء بنت تويت
(3)
(203 – أ / ف) وأن عائشة قالت عنها: زعموا أنها لا تنام الليل "
(4)
. وقول النبي صلى الله عليه وسلم " مه " زجر لعائشة عن قولها عن هذه المرأة في كثرة صلاتها وأنها لا تنام الليل وأمر لها بالكف عما قالته في حقها؛ فيحتمل أن ذلك كراهية للمدح في وجهها؛ حيث كانت المرأة حاضرة، ويحتمل – وهو الأظهر وعليه يدل سياق الحديث – أن النهي إنما هو لمدحها بعمل ليس بممدوح في الشرع وعلى هذا فكثيرا ما يذكر في مناقب العباد من الاجتهاد المخالف
(1)
في " اليونينية ": قالت " وكذا في " إرشاد الساري " ولم يحك غيرها القسطلاني.
(2)
في " اليونينية ": " قال " ولم ينبه القسطلاني على غيرها.
(3)
وضبط " تويت " بمثناتين فوق أوله وآخره، الأولى مضمومة، وهي الحولاء بنت تويت بن حبيب، صحابية، راجع " الإكمال "(1 / 375) ، و" توضيح المشتبه "، (1 / 673) .
(4)
مسلم (785 / 220) .
للشرع ينهى عن ذكره على وجه التمدح به والثناء به على فاعله، وقد سبق شرح هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم:" الدين يسر "
(1)
.
فإن المراد بهذا الحديث: الاقتصاد في العمل والأخذ منه بما يتمكن صاحبه من المداومة عليه، وأن أحب العمل إلى الله مادام صاحبه عليه وإن قل. وقد روي ذلك في حديث آخر. وكذلك كان حال النبي صلى الله عليه وسلم كان عمله ديمة، وكان إذا عمل عملا أثبته. وقد كان ينهى عن قطع العمل وتركه، كما قال لعبد الله بن عمرو " لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل "
(2)
. وقوله " إن الله لا يمل حتى تملوا "
(3)
. وفي رواية: " لا يسأم حتى تسأموا "
(4)
. الملل والسآمة للعمل يوجب قطعه وتركه، فإذا سأم العبد من العمل ومله قطعه وتركه فقطع الله عنه ثواب ذلك العمل؛ فإن العبد إنما يجازى بعمله، فمن ترك عمله انقطع عنه ثوابه وأجره إذا كان قطعه لغير عذر من مرض أو سفر أو هرم.
كما قال الحسن: إن دور الجنة تبنيها الملائكة بالذكر فإذا فتر العبد انقطع الملك عن البناء فتقول له الملائكة: ما شأنك يا فلان؟ فيقول: إن
(1)
سبق (ص 149) تحت حديث (39) .
(2)
مسلم (1159 / 185) .
(3)
مسلم (785/ 221) .
(4)
مسلم (785 / 220) .
صاحبي فتر، قال الحسن: أمدوهم – رحمكم الله – بالنفقة. وأيضا – فإن دوام العمل وإيصاله ربما حصل للعبد به في عمله الماضي ما لا يحصل له فيه عند قطعه؛ فإن الله يحب مواصلة العمل ومداومته، ويجزي على دوامه ما لا يجزي على المنقطع منه.
وقد صح هذا المعنى في الدعاء وأن العبد يستجاب له ما لم يعجل فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي، فيدع الدعاء، فدل هذا على أن العبد إذا أدام الدعاء وألح فيه أجيب وإن قطعه واستحسر منع إجابته وسمي هذا المنع من الله مللا وسآمة مقابلة للعبد على ملله وسآمته، كما قال تعالى {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67] فسمى إهمالهم وتركهم نسيانا مقابلة لنسيانهم له. هذا أظهر ماقيل في هذا. ويشهد له: أنه قد روي من حديث عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" اكلفوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل ". خرجه بقي بن مخلد؛ وفي إسناده: موسى بن عبيدة. وقد قيل: إن " حتى " هاهنا بمعنى واو العطف؛ ولكن لا يصح دعوى كون " حتى " عاطفة؛ لأنها إنما تعطف المفردات لا الجمل، هذا هو المعروف عند النحويين، وخالف فيه بعضهم. وقيل: إن " حتى " فيه بمعنى " حين "، وهذا غير معروف. وزعم ابن قتيبة أن المعنى:" لا يمل إذا مللتم "، وزعم أن هذا
الاستعمال معروف في كلام العرب، وقد يقال: إن " حتى " بمعنى لام التعليل، وأن المراد أن الله لا يمل لكي تملوا أنتم من العمل. وفيه بعد – أيضا. ولو كان كذلك لقال: حتى لا تملوا، ويكون التعليل – حينئذ – بإعلامهم بأن الله لا يمل من العطاء، فيكون إخبارهم بذلك مقتضيا (203 – ب / ف) لمدوامتهم على العمل وعدم مللهم وسآمتهم.
وقد يقال: إنما يدل هذا الكلام عل نسبة الملل والسآمة إلى الله بطريق مفهوم الغاية. ومن يقول: إنه لا مفهوم لها فإنه يمنع من دلالة الكلام على ذلك بالكلية. ومن يقول ذلك بالمفهوم فإنه يقول: متى دل الدليل على انتقائه لم يكن مرادا من الكلام. وقد دلت الأدلة عل انتفاء النقائص والعيوب عن الله تعالى، ومن جملة ذلك: لحوق السآمة والملل له.
ولكن بعض
(1)
أصحابنا ذكر أن دلالة مفهوم الغاية كالمنطوق؛ بمعنى أنه لا يجوز أن يكون ما يعد الغاية موافقا لما قبلها بمفهوم الموافقة أو غيره. فعلى قوله يتعين في هذا الحديث أحد الأجوبة المتقدمة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1)
اشتبهت في " ف " بـ " نقض ".
فصل
(1)
قال البخاري:
(1)
جمع هنا بين كلمة " فصل " و" باب " وذكر ترجمة الباب كاملة وقد نبهنا على ذلك في أوائل " كتاب الإيمان ".
33 -
باب
زيادة الإيمان ونقصانه. وقول الله تعالى {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] وقال {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فإذا ترك شيئا من الكمال فهو ناقص.
استدل البخاري على زيادة الإيمان ونقصانه بقول الله عز وجل {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} وفي زيادة الهدى إيمان آخر كقوله تعالى {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76] ، ويفسر هذا الهدى بما في القلوب من الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وتفاصيل ذلك.
ويفسر بزيادة ما يترتب على ذلك من الأعمال الصالحة، إما القائمة بالقلوب كالخشية لله ومحبته ورجائه والرضا بقضائه والتوكل عليه ونحو ذلك، أو المفعولة بالجوارح كالصلاة والصيام والصدقة والحج والجهاد والذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك، وكل ذلك داخل في مسمى الإيمان عند السلف وأهل الحديث ومن وافقهم - كما سبق ذكره.
واستدل - أيضا - بقوله تعالى {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31]
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] وقوله {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة: 124] . ويفسر الإيمان في هذه الآيات بمثل ما فسر به الهدى في الآيات المتقدمة. واستدل – أيضا – بقول الله عز وجل { {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فدل على أن الدين ذو أجزاء يكمل بكمالها وينقص بفوات بعضها، وهذه الآية نزلت في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وقد قيل: إنه لم ينزل بعدها حلال ولا حرام – كما قال السدي
(1)
وغيره
وكذا قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: بعث الله نبيه بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، ثم أكمل الله لهم دينهم فقال {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}
(2)
[المائدة: 3] .
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يحجوا حجة الفرض إلا ذلك العام، فلما حجوا حجة الإسلام كمل لهم الدين بتكميلهم أركان
(1)
ذكره ابن جرير في " تفسيره "(6 / 51) .
(2)
راجع " صحيفته " عن ابن عباس (ص: 170) ، والطبري في " تفسيره "(6 / 52) ، ورواية علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس متكلم فيها؛ فإنه لم يسمع عن ابن عباس، قاله أبو حاتم.
الإسلام – حينئذ – ولم يكن الدين قبل ذلك ناقصا كنقص من ترك شيئا من واجبات دينه؛ بل كان الدين في كل زمان كاملا بالنسبة إلى ذلك الزمان بما فيه من الشرائع والأحكام ما لم يكن قبل ذلك، كما يقال: إن شريعة الإسلام أكمل من شريعة موسى وعيسى، وإن القرآن أكمل من التوراة (204 – أ / ف) والإنجيل، وهذا كما سمى النبي صلى الله عليه وسلم النساء ناقصات دين وفسر نقصان دينهن بترك الصلاة والصيام في زمن حيضهن مع أنها قائمة في تلك الحال بما وجب عليها من غير الصلاة؛ ولكن نقصان دينها بالنسبة إلى من هي طاهرة تصلي وتصوم. وهذا مبني على أن الدين هو الإسلام بكماله – كما تقدم ذكره – والبخاري عنده أن الإسلام والإيمان واحد – كما تقدم ذكره.
وقد احتج سفيان بن عيينة وأبو عبيد وغيرهما بهذه الآية على تفاضل الإيمان
(1)
، قال أبو عبيد: قد أخبر الله أنه أكمل الدين في حجة الوداع في آخر الإسلام، وزعم هؤلاء أنه كان كاملا قبل ذلك بعشرين سنة في أول نزول الوحي، قال: وقد اضطر بعضهم حين أدخلت عليه هذه الحجة إلى أن قال: الإيمان ليس هو مجموع الدين؛ ولكن الدين ثلاثة أجزاء، فالإيمان جزء، والفرائض جزء، والنوافل جزء. قال أبو عبيد: وهذا غير ما نطق به الكتاب؛ فإن الله أخبر أن الإسلام هو الدين برمته، وزعم هؤلاء أنه ثلث الدين. انتهى.
فالمرجئة عندنهم: الإيمان: التصديق، ولا يدخل فيه الأعمال، وأما
(1)
راجع " مراسيل " ابنه (ص 140)، ورواية معاوية بن صالح عنه لا يعتمد عليها. راجع " الصحيفة " (ص: 44) .
الدين: فأكثرهم أدخل الأعمال في مسماه، وبعضهم خالف في ذلك – أيضا -، والآية نص في رد ذلك، والله أعلم.
ثم خرج البخاري في هذا الباب حديثين: أحدهما: حديث:
44 -
هشام الدستوائي: ثنا قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه
(1)
وزن برة من خير ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير ".
خرجه عن مسلم بن إبراهيم، عن هشام به، ثم قال: قال أبان: ثنا قتادة: ثنا أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم " من إيمان " مكان " خير "
(2)
ففي هذه الرواية التي ذكرها تعليقا صريحا بتفاوت الإيمان الذي في القلوب – وأيضا – فيها التصريح بسماع قتادة له من أنس، فزال ما كان يتوهم من تدليس قتادة. وقد خرج البخاري هذه اللفظة في حديث أنس في أواخر كتابه مسنده من رواية معبد بن هلال العنزي، عن أنس
(3)
. وخرج حديث أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى – فبما تقدم من كتابه
(4)
– باختلاف لفظ الخير والإيمان كاختلاف حديث أنس.
(1)
حدث هنا سقط في متن الحديث وهو في " اليونينية ": " وزن شعيرة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه ".
(2)
في " اليونينية ": " من خير " ووضع فوق قوله " من " رمز (ص) وهو للأصيلي، وكذا نبه القسطلاني وقال: وللأصيلي: " من خير "..
(3)
(فتح: (751) .
(4)
حديث (22) .
والحديث نص في تفاوت الإيمان الذي في القلوب، وقد سبق القول في تفاوت المعرفة وتفاضلها – فيما تقدم
(1)
.
الحديث الثاني الذي خرجه في هذا الباب: حديث:
(1)
(ص 10 – 11) عند شرحه لترجمة الباب لأول من " كتاب الإيمان " عند شرحه لقول البخاري: ويزيد وينقص ".
45 -
طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فقال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة يوم الجمعة.
وقد خرجه ابن جرير الطبري في تفسيره
(1)
من وجه آخر عن عمر، وزاد فيه أنه قال: وكلاهما بحمد الله لنا عيد.
وخرج الترمذي، عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية وعنده يهودي فقال: لو أنزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدا، فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين: يوم جمعة ويوم عرفة
(2)
. (204 – ب / ف)
فهذا قد يؤخذ من أن الأعياد لا تكون بالرأي والاختراع كما يفعله أهل الكتابين من قبلنا؛ إنما تكون بالشرع والاتباع، فهذه الآية لما تضمنت
(1)
(6 / 53 – 54) .
(2)
الترمذي (3044) .
إكمال الدين وإتمام النعمة أنزلها الله في يوم شرعه عيدا لهذه الأمة من وجهين:
أحدهما: أنه يوم عيد الأسبوع وهو يوم الجمعة.
والثاني: أنه يوم عيد أهل الموسم وهو يوم مجمعهم الأكبر وموقفهم الأعظم، وقد قيل: أنه يوم الحج الأكبر.
وقد جاء تسمية عيدا من حديث مرفوع خرجه أهل السنن من حديث عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب "
(1)
.
وقد أشكل وجهه على كثير من العلماء؛ لأنه يدل على أن يوم عرفة يوم عيد لا يصام، كما روي ذلك عن بعض المتقدمين، وحمله بعضهم على أهل الموقف وهو الأصح لأنه اليوم الذي فيه أعظم مجامعهم ومواقفهم بخلاف أهل الأمصار فإن اجتماعهم يوم النحر، وأما أيام التشريق فيشارك أهل الأمصار أهل الموسم فيها؛ لأنها أيام ضحاياهم وأكلهم من نسكهم. هذا قول جمهور العلماء.
وقال عطاء: إنما هي أعياد لأهل الموسم، فلا ينهى أهل الأمصار عن صيامها. وقول الجمهور أصح.
(1)
أخرجه أبو داود (2419) ، والنسائي في " المجتبى "(5 / 252) ، والترمذي (773) .
ولكن الأيام التي يحدث فيها حوادث من نعم الله على عباده لو صامها بعض الناس شكرا من غير اتخاذها عيدا كان حسنا استدلالا بصيام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء لما أخبره اليهود بصيام موسى له شكرا، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن صيام يوم الاثنين، قال:" ذلك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه "
(1)
.
فأما الأعياد التي يجتمع عليه الناس فلا يتجاوز بها شرعه الله لرسوله وشرعه الرسول لأمته. والأعياد: هي مواسم الفرح والسرور؛ وإنما شرع الله لهذه الأمة الفرح والسرور بتمام نعمته وكمال رحمته، كما قال تعالى {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58] فشرع لهم عيدين في سنة وعيدا في كل أسبوع، فأما عيدا السنة:
فأحدهما: تمام صيامهم الذي افترضه عليهم كل عام، فإذا أتموا صيامهم أعتقهم من النار، فشرع لهم عيدا بعد إكمال صيامهم وجعله يوم الجوائز يرجعون فيه من خروجهم إلى صلاتهم وصدقتهم بالمغفرة وتكون صدقة الفطر وصلاة العيد
(2)
شكرا لذلك.
والعيد الثاني: أكبر العيدين عند تمام حجهم بإدراك حجهم بالوقوف بعرفة وهو يوم العتق من النار، ولا يحصل العتق من النار والمغفرة للذنوب والأوزار في يوم من أيام السنة أكثر منه، فجعل الله عقب ذلك عيدا؛ بل هو العيد الأكبر، فيكمل أهل الموسم فيه مناسكهم ويقضوا فيه
(1)
مسلم (1162 / 198) ، وأشار البخاري في " التاريخ "(5 / 198) إلى انقطاعه.
(2)
تشتبه في " ف " بـ " العبد " والصواب ما أثبتناه.
تفثهم ويوفون نذورهم ويطوفون بالبيت العتيق ويشاركهم أهل الأمصار في هذا العيد؛ فإنهم يشاركونهم في يوم عرفة في العتق والمغفرة وإن لم يشاركوهم في الوقوف بعرفة، لأن الحج فريضة العمر لا فريضة كل عام، بخلاف الصيام ويكون شكر
(1)
عند أهل الأمصار: الصلاة والنحر، والنحر أفضل من الصدقة التي في يوم الفطر؛ ولهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشكر نعمته عليه بإعطائه الكوثر بالصلاة له والنحر كما شرع ذلك لإبراهيم خليله عليه السلام عند أمره بذبح ولده وافتدائه بذبح عظيم.
وأما (205 0 أ / ف) عيد الأسبوع: فهو يوم الجمعة، وهو متعلق بإكمال فريضة الصلاة؛ فإن الله فرض على عباده المسلمين الصلاة كل يوم وليلة خمس مرات، فإذا كملت أيام الأسبوع التي تدور الدنيا عليها وأكملوا صلاتهم فيها شرع لهم يوم إكمالها – وهو اليوم الذي انتهى فيه الخلق وفيه خلق آدم وأدخل الجنة – عيدا يجتمعون فيه على صلاة الجمعة، وشرع لهم الخطبة تذكيرا بنعم الله عليهم وحثا لهم على شكرها، وجعل شهود الجمعة بأدائها كفارة لذنوب الجمعة كلها وزيادة ثلاثة أيام. وقد روي أن يوم الجمعة أفضل من يوم الفطر ويوم النحر. خرجه الإمام أحمد في " مسنده "
(2)
، وقال مجاهد وغيره. وروي أنه حج المساكين
(3)
، وروي عن علي أنه يوم نسك المسلمين. وقال ابن المسيب: الجمعة أحب إلي من حج التطوع.
(1)
كذا في " ف "، ولعل الصواب:" شكره ".
(2)
(3 / 430) عن أبي لبابة.
(3)
انظر " الضعيفة " للألباني (191) .
وجعل الله التبكير إلى الجمعة كالهدي؛ فالمبكر في أول ساعة كالمهدي بدنة، ثم كالمهدي بقرة، ثم كالمهدي كبشا، ثم كالمهدي دجاجة. ثم كالمهدي بيضة. ويوم الجمعة يوم المزيد في الجنة الذي يزور أهل الجنة فيه ربهم ويتجلى لهم في قدر صلاة الجمعة. وكذلك روي في يوم العيدين أن أهل الجنة يزورون ربهم فيهما وأنه يتجلى فيهم لأهل الجنة عموما يشارك الرجال فيها النساء. فهذه الأيام أعياد للمؤمنين في الدنيا والآخرة عموما.
وأما خواص المؤمنين: فكل يوم لهم عيد كما قال بعض العارفين. وروي عن الحرم
(1)
: كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد. ولهذا روي أن خواص أهل الجنة يزورون ربهم وينظرون إليه كل يوم مرتين بكرة وعشيا. وقد خرجه الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعا وموقوفا
(2)
.
ولهذا المعنى – والله أعلم – لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرؤية في حديث جرير ابن عبد الله البجلي
(3)
أمر عقب ذلك بالمحافظة على الصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها؛ فإن هذين الوقتين وقت رؤية خواص أهل الجنة ربهم، فمن حافظ على هاتين الصلاتين على مواقيتها وأدائهما وخشوعهما وحضور القلب فيهما رجي له أن يكون ممن ينظر إلى الله
(1)
كذا.
(2)
الترمذي (3330) ، واستغرب رفعه، وانظر " علل الدارقطني "(4 / ق 63 – أ، ب) .
(3)
البخاري (فتح: 554) ، ومسلم (633 / 211) .
في الجنة في وقتهما.
فتبين بهذا: أن الأعياد تتعلق بإكمال أركان الإسلام؛ فالأعياد الثلاثة المجتمع عليها تتعلق بإكمال الصلاة والصيام والحج؛ فأما الزكاة: فليس لها زمان معين تكمل فيه، وأما الشهادتان: فإكمالهما هو الاجتهاد في الصدق فيهما، وتحقيقهما والقيام بحقوقهما. وخواص المؤمنين يجتهدون على ذلك كل يوم ووقت؛ فلهذا كانت أيامهم كلها أعياد، ولذلك كانت أعيادهم في الجنة مستمرة، والله أعلم.
30 -
فصل
(1)
خرج البخاري ومسلم
(2)
من حديث:
(1)
باب " الصلاة من الإيمان "، كما سينبه المصنف رحمه الله بعد الحديث وقد ذكر المصنف هذا الباب متأخرا عن مكانه بعد باب (33) .
(2)
(525) .
40 -
أبي إسحاق، عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده – أو قال: أخواله – من الأنصار وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا - أو سبعة عشر شهرا وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وأنه
(1)
أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت وكانت اليهود
(2)
أعجبهم إذ كان يصلي (205 – ب / ف) قبل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولى وجهته قبل البيت أنكروا ذلك. قال زهير: ثنا أبو إسحاق، عن البراء في حديثه هذا أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم} [البقرة: 143] ْ قال البخاري: يعني صلاتكم
(3)
.
(1)
زاد في " اليونينية " كلمة: " صلى " ولم ينبه القسطلاني، ولا الحافظ، ولا العيني على سقوطها من إحدى النسخ.
(2)
زاد في " اليونينية " كلمة " قد " وهي كالتي قبلها.
(3)
قول البخاري يعد الحديث حقه أن يكون قبل الحديث مع الترجمة كما في " اليونينية " وغيرها، وصنع مثله في الحديث رقم (29) .
وبوب على هذا الحديث: باب " الصلاة من الإيمان "
(1)
. والأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم فيهم نسب؛ فإنهم أجداده وأخواله من جهة جد أبيه هاشم بن عبد مناف؛ فإنه تزوج بالمدينة امرأة من بني عدي بن النجار يقال لها سلمى، فولدت له ابنه عبد المطلب وفي رأسه شيبة فسمي شيبة، وذكر ابن قتيبة أن اسمه عامر.
والصحيح أن اسمه شيبة؛ وإنما قيل له عبد المطلب لأن عمه المطلب بن عبد مناف قدم به من المدينة على مكة فقالت قريش: هذا عبد المطلب. فقال: ويحكم؛ إنما هو ابن أخي شيبة بن عمرو، وهاشم اسمه عمرو. ففي حديث البراء هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة نزل على أجداده – أو قال: أخواله – من الأنصار، وظاهره يدل على أنه نزل على بني النجار؛ لأنهم هم أخواله وأجداده؛ وإنما أراد البراء جنس الأنصار دون خصوص بني النجار. وقد خرج البخاري في كتاب "الصلاة "
(2)
و" أبواب الهجرة "
(3)
من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة نزل في علو المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملإ بني النجار فجاءوا متقلدين سيوفهم، قال: وكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب، وذكر الحديث.
(1)
وسيأتي (3 / 88) الإحالة إلى هذا الباب تحت حديث (399) في كتاب الصلاة.
(2)
برقم: (428) .
(3)
(فتح: 3932) .
وخرج – أيضا – معنى ذلك من حديث الزهري، عن عروة بن الزبير. وأما ما ذكر البراء في حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة قبل بيت المقدس ست عشر أو سبعة عشر شهرا
(1)
: فهذا شك منه في مقدار المدة. وروي عن ابن عباس أن مدة صلاته بالمدينة غلي بيت المقدس كانت ستة عشر شهرا. خرجه أبو داود
(2)
. وخرج – أيضا – من حديث معاذ أن مدة ذلك كان ثلاثة عشر شهرا
(3)
.
وروي كثير بن عبد الله المزني – وهو ضعيف -، عن أبيه، عن جده عمرو بن عوف قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس سبعة شهرا
(4)
. وقال سعيد بن المسيب: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس تسعة
(1)
في " ف ": " شهر " وما أثبتناه هو الصواب.
(2)
لم نجده في المطبوع من " سنن أبي داود " بعد بحث في مظانه وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد "(2 / 13) ، وعزاه غير واحد – كابن كثير، والحافظ وغيرهما – للإمام أحمد قي " المسند " (1 / 325) وهو في " صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " (ص: 89 - 90) .
(3)
أبو داود (507) .
(4)
أخرجه ابن سعد في " الطبقات "(1 / 242) والبزار " كشف "(1 / 210) ، والطبراني في " الكبير"(17 / 12) .
عشر شهرا، ثم حولت القبلة بعد ذلك قبل المسجد الحرام قبل بدر بشهرين. ورواه بعضهم عن سعيد، عن سعد بن أبي وقاص. والحفاظ يرون أنه لا يصح ذكر سعد بن أبي وقاص فيه
(1)
. وقيل عن سعيد بن المسيب في هذا الحديث: ستة عشر شهرا
(2)
. وكذا قال محمد بن كعب القرظي وقتادة ابن زيد وغيرهم أن مدة صلاته إلى بيت المقدس كانت ستة عشر شهرا. وقال الواقدي: الثبت عندنا أن القبلة حولت إلى الكعبة يوم الاثنين للنصف من رجب على رأس سبعة عشرة شهرا
(3)
. وعن السدي: أن ذلك كان على رأس ثمانية عشر شهرا
(4)
. وقيل: كان بعد خمسة عشر شهرا ونصف. ولا خلاف أن ذلك كان في السنة الثانية من الهجرة؛ لكن اختلفوا (206 – أ / ف) في أي شهر كان؟ فقيل: في رجب – كما تقدم. وحكي ذلك عن الجمهور
(5)
، منهم ابن إسحاق
(6)
. وقيل في يوم الثلاثاء نصف شعبان.
(1)
راجع " علل الدارقطني "(4 / 365) .
(2)
راجع " تفسير الطبري "(2 / 13) .
(3)
راجع " تاريخ الطبري "(2 / 416) .
(4)
راجع " سيرة ابن هشام "(2 / 243) .
(5)
" الطبقات الكبرى " لابن سعد (1 / 242) .
(6)
راجع " سيرة ابن هشام "(2 / 243) .
وحكي عن قتادة، واختاره محمد بن حبيب الهاشمي وغيره وقيل: بل كان في جمادي الأول
(1)
. وحكي عن إبراهيم الحربي، ورواه الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك.
وقوله " وكان يعجبه " يعني: النبي صلى الله عليه وسلم – " أن تكون قبلته قبل البيت " – يعني الكعبة – هذا يشهد له قول الله تعالى {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] .
وروى معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة – وكان أكثر أهلها اليهود – أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء فأنزل الله {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} الآية
(2)
[البقرة: 144]
قال مجاهد: إنما كان يجب أن يحول إلى الكعبة؛ لأن يهود قالوا: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا
(3)
؟ ! . وقال ابن زيد: لما نزلت {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} [البقرة: 115]
(1)
راجع " المنتظم " لابن الجوزي (3 / 93) .
(2)
راجع " صحيفة علي بن أبي طلحة " عنه (ص: 90) ، وقد سبق (ص 169) الكلام عليها وأنها متكلم فيها.
(3)
أخرجها ابن جرير في " تفسيره "، (2 / 13) .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هؤلاء قوم يهود يستقبلون بيتا من بيوت الله – لبيت المقدس – لو أنا استقبلناه " فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا، فبلغه أن اليهود تقول: والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ورفع وجهه إلى السماء، فنزلت هذه الآية {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء}
(1)
. ويشهد لهذا: ما في حديث البراء: " وكانت اليهود قد أعجبتهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب – يعني من غير اليهود، وهم النصارى – فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك ".
وقد اختلف الناس هل كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل هجرته يصلي إلى بيت المقدس أو إلى الكعبة؟ . فروى عن ابن عباس: إنه كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه. خرجه الإمام أحمد
(2)
. وقال ابن جريج: صلى أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلت الأنصار قبل قدومه صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ثلاث حجج وصلى بعد قدومه ستة عشر شهرا، ثم وجهه الله إلى البيت الحرام. وقال قتادة: صلت الأنصار قبل قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة نحو بيت المقدس حولين.
(1)
أخرجها ابن جرير في " تفسيره "، (2 / 13) .
(2)
في " مسنده "، (1 / 325) .
واستدل من قال: إنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا فدل على أنه لم يصل إليه غير هذه المدة
(1)
. لكن يقال: إنه إنما أراد بعد الهجرة. ويدل عليه – أيضا -: أن جبريل صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم أول ما فرضت الصلاة عند باب البيت، والمصلي عند باب البيت لا يستقبل بيت المقدس إلا أن ينحرف عن الكعبة بالكلية ويجعلها عن شماله. ولم ينقل هذا أحد [.....]
(2)
. وهؤلاء منهم من قال: ذلك كان باجتهاد منه لا بوحي – كما تقدم عن ابن زيد. وكذا قال أبو العالية: إنه صلى إلى بيت المقدس يتألف أهل الكتاب. وفي " صحيح الحاكم "
(3)
عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس:{وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} [البقرة: 115] فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم (206 – ب /ف) فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق فقال الله تعالى {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142] يعنون: بيت المقدس، فنسخها الله وصرفه إلى البيت العتيق.
وقال: صحيح على شرطهما. وليس كما قال؛ فإن عطاء هذا هو الخراساني، ولم يلق ابن عباس؛
(1)
الكلام هكذا لا يستقيم ولعل هناك سقطا، ولم نستطع تقديره.
(2)
بياض بقدر كلمتين.
(3)
(2 / 267 – 268) ..
كذا وقع مصرحا بنسبته في كتاب " الناسخ والمنسوخ " لأبي عبيد، ولابن أبي داود وغيرهما. وقول البراء " وكان أول صلاة صلاها العصر " يعني إلي الكعبة بعد الهجرة. وقد روي عن عمارة بن أوس – وكان قد صلى القبلتين – قال: كنا في إحدى صلاتي العشي ونحن نصلي على بيت المقدس وقد قضينا بعض الصلاة إذ نادى مناد بالباب: إن القبلة قد حولت، فأشهد على إمامنا أنه تحرف. خرجه الأثرم وغيره
(1)
.
وخرج الأثرم وابن أبي حاتم من حديث تويلة بنت أسلم قالت: صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثه فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ثم جاءنا من يخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلو البيت الحرام
(2)
.
وقد روي أن هذه الصلاة كانت صلاة الفجر؛ ففي " الصحيحين " عن ابن عمر قال: بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم على الشام فاستداروا إلى الكعبة
(3)
.
(1)
راجع " الإصابة "(4 / 577) .
(2)
أخرج هذا الحديث الطبراني في " الكبير "(24 / 207) مع اختلاف في اللفظ. راجع " الإصابة "(7 / 546)
(3)
(فتح: 403) ، ومسلم (526) .
وخرج مسلم معناه من حديث أنس – أيضا
(1)
. وقد قيل في الجمع بين هذه الأحاديث: إن التحويل كان في صلاة العصر ولم يبلغ أهل قباء إلا في صلاة الصبح. وفيه نظر. وقيل: إن تلك الصلاة كانت الظهر. وقد خرجه النسائي في " تفسيره " من حديث أبي سعيد بن المعلى، عن النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
. وروي عن مجاهد. وحديث البراء يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة العصر كلها إلى الكعبة وأن الذين صلوا إلى بيت المقدس ثم استداروا إلى الكعبة هم قوم كانوا في مسجد لهم وراء إمام لهم.
وفي حديث ابن عمر: أنهم أهل مسجد قباء، وفي حديث تويلة: مسجد بني حارثة. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ومن صلى معه هم الذين استداروا في صلاتهم وأن الكعبة حولت في أثناء صلاتهم. وقد روي نحوه عن مجاهد وغيره. وقد ذكر ابن سعد في كتابه قال: يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد
(1)
مسلم (527) .
(2)
النسائي في " الكبرى "(6 / 291) .
الحرام واستدار إليه ودار معه المسلمون
(1)
. ويقال: بل زار رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة فصنعت لهم طعاما وكانت الظهر فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ركعتين، ثم أمر أن يوجه إلى الكعبة فاستدار إلى الكعبة واستقبل الميزاب، فسمي المسجد القبلتين
(2)
.
وحكي عن الواقدي أنه قال: هذا الثبت عندنا. وروى أبو مالك النخعي عبد الملك بن حسين، عن زياد بن علاقة، عن عمارة بن رويبة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشي حين صرفت القبلة فدار النبي صلى الله عليه وسلم ودرنا معه في ركعتين. خرجه ابن أبي داود. وأبو مالك: ضعيف جدا. والصواب: رواية قيس بن الربيع، عن زياد بن (207 – أ / ف) علاقة عن عمارة بن أوس، وقد سبق لفظه
(3)
.
وروى عثمان بن سعد قال: ثنا أنس بن مالك قال: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس وهو يصلي الظهر وانصرف بوجهه إلى القبلة. خرجه البزار
(4)
. وغيره. وعثمان هذا متكلم فيه
(5)
. وخرج الطبراني من رواية عمارة بن زاذان، عن ثابت، عن أنس.
(1)
" الطبقات الكبرى " لابن سعد (1 / 241 - 242) .
(2)
ابن سعد (1/ 242)
(3)
(ص 185)
(4)
كشف (1 / 212) .
(5)
راجع " الجرح "(6 / 153)
قال: صرف النبي صلى الله عليه وسلم عن القبلة وهم في الصلاة فانحرفوا في ركوعهم
(1)
.
وعمارة ليس بالقوي
(2)
. وخالف حماد بن سلمة؛ فروى عن ثابت، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس فنزلت {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} الآية [البقرة: 144] فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر فنادى: ألا إن القبلة قد حولت، فمالوا – كما هم – نحو القبلة. خرجه مسلم
(3)
وهذا هو الصحيح.
فإن كان التحويل قد وقع في أثناء الصلاة وقد بنى النبي صلى الله عليه وسلم على ما مضى من صلاته إلى بيت المقدس استدل بذلك على أن الحكم إذا تحول المصلي
(4)
في أثناء صلاته انتقل ما تحول إليه وبنى على ما مضى من صلاته. فيدخل في ذلك الأمة إذا عتقت في صلاتها وهي مكشوفة الرأس والسترة قريبة، والمتيمم إذا وجد الماء في صلاته قريبا وقدر على الطهارة به، والمرض إذا صلى بعض صلاته قاعدا ثم قدر على القيام.
وإن كان التحويل وقع قبل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه؛ ولكن لم يبلغ غيرهم إلا في أثناء صلاتهم فبنوا، استدل به على أن من دخل في صلاته باجتهاد سائغ إلى جهة ثم تبين له الخطأ في أثناء الصلاة أنه ينتقل
(1)
الطبراني في " الصغير "(398) .
(2)
رجع " الجرح "(6 / 365 – 366) ، والكامل " (5/ 80) .
(3)
(527) .
(4)
في " ف ": " للمصلي " وما أثبتناه موافق للسياق.
ويبني. ويستدل به على أن حكم الخطاب لا يتعلق بالمكلف قبل بلوغه إياه، ويستدل به – على التقديرين – على قبول خبر الواحد الثقة في أمور الديانات مع إمكان السماع من الرسول صلى الله عليه وسلم بغير واسطة، فمع تعذر ذلك أولى وأحرى. وما يقال من أن هذا يلزم منه نسخ المتواتر – وهو الصلاة إلى بيت المقدس – بخبر الواحد، فالتحقيق في جوابه: أن خبر الواحد يفيد العلم إذا احتفت به القرائن؛ فنداء صحابي في الطرق والأسواق بحيث يسمعه المسلمون كلهم بالمدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها موجود لا يتداخل من سمعه شك فيه أنه صادق فيما يقوله وينادي به، والله أعلم.
وقول البراء: أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم يدر ما يقول فيهم فأنزل لله {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] : فهذا خرجه مسلم من طريق إسرائيل
(1)
، عن أبي إسحاق، عن البراء – أيضا.
ورواه شريك، عن أبي إسحاق، عن البراء موقوفا في قوله تعالى {وما كان الله ليضيع إيمانكم} قال: صلاتكم إلى بيت المقدس
(2)
.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه من حديث سماك عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما وجه النبي صلى الله عليه وسلم على الكعبة قالوا: يا رسول الله! كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون على بيت
(1)
عند مسلم (525) من طريق أبي الأحوص، عن أبي إسحاق.
(2)
أخرجه الطبري في " تفسيره "(2 / 11) .
المقدس؟ فأنزل الله عز وجل {وما كان الله ليضيع إيمانكم} الآية
(1)
. قال عبيد الله بن موسى: هذا الحديث يخبرك أن الصلاة من الإيمان. وهذا هو الذي بوب عليه البخاري في هذا الموضع؛ ولأجله ساق حديث البراء فيه. وكذلك استدل ابن عيينه وغيره من العلماء على أن الصلاة من الإيمان
(2)
. وممن روي عنه أنه فسر هذه الآية بالصلاة إلى بيت المقدس: ابن عباس – من رواية العوفي -، عنه، وسعيد بن المسيب، وابن زيد، والسدي، وغيرهم
(3)
.
وقال قتادة، والربيع بن أنس: نزلت هذه الآية لما (207 – ب / ف) قال قوم من المسلمين: كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى؟
(4)
. وهذا يدل على أن المراد بها الصلاة – أيضا _؛ لأنها هي التي تختص بالقبلة من بين الأعمال. ولم يذكر أكثر المفسرين في هذا خلافا وأن المراد بالإيمان هاهنا الصلاة؛ فإنها علم الإيمان وأعظم خصاله البدنية. وروى ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة – أو
(1)
أخرجه أحمد في " مسنده "، (1 / 347) ، وأبو داود (4680) ، والترمذي (2964) ، ورواية سماك، عن عكرمة مشهورة بالإضطراب. .
(2)
راجع " تعظيم قدر الصلاة "(1 / 344) .
(3)
ابن جرير (2/ 11 - 12) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة "(1 / 341 – 344) .
(4)
أخرجهما ابن جرير في " تفسيره "(2 / 11 –12) .
سعيد بن جبير -؛ عن ابن عباس {وما كان الله ليضيع إيمانكم} قال: أي القبلة الأولى، وتصديقكم نبيكم واتباعه إلى الآخرة أي: ليعطينكم أجرهما جميعا، إن الله بالناس لرءوف رحيم
(1)
.
وعن الحسن في هذه الآية قال: ما كان الله ليضيع محمدا صلى الله عليه وسلم وانصرافكم معه حيث انصرف؛ إن الله بالناس لرءوف رحيم. وهذا القول يدل على أن المراد بالإيمان التصديق مع الانقياد والاتباع المتعلق بالقبلتين معا فيدخل في ذلك الصلاة – أيضا.
(1)
محمد بن أبي أحمد: مجهول.
فصل
(1)
قال البخاري:
(1)
هكذا في " ف " كتب: " فصل " وبعده: " قال البخاري "،: وبعده " باب ".
36 -
باب
(1)
خوف المؤمن
(2)
أن يحبط عمله وهو لا يشعر. وقال إبراهيم التميمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا. وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل. ويذكر عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق. وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى {وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون} [آل عمران: 135] .
مراد البخاري بهذا الباب: الرد عل المرجئة بأن المؤمن يقطع لنفسه بكمال الإيمان وأن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل وأنه لا يخاف على نفسه النفاق العملي مادام مؤمنا. فذكر عن إبراهيم التيمي أنه قال: ما عرضت قولي على عملي إلا
(1)
سقط قبل هذا الباب بابان: باب (34)" الزكاة في الإسلام "، وباب (35)" اتباع الجنائز من الإيمان " وفيهما حديثان (46، 47) .
(2)
سقط بعد كلمة " المؤمن " حرف " من " ولم ينبه القسطلاني في " إرشاد الساري " على سقوطها؛ بينما وضع عليها في " اليونينية " علامة تفيد أنها غير موجودة عند ابن عساكر و" عط " وهي من الرموز التي لم يتبين صاحبها، راجع لذلك مقدمة طبعة الشعب. وقال العيني في " العمدة " (1 / 314) :" وليس في بعض النسخ كلمة " من ".
خشيت أن أكون مكذبا. وهذا معروف عنه، وخرجه جعفر الفريابي بإسناد صحيح عنه ولفظه:" ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون كذابا "
(1)
.
ومعناه: أن المؤمن يصف الإيمان بقوله، وعمله نقص عن وصفه، فيخشى على نفسه أن يكون عمله مكذبا لقوله، كما روي عن حذيفة أنه قال: المنافق: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به. وعن عمر قال: إن أخوف ما أخاف عليكم المنافق العليم، قالوا: وكيف يكون المنافق عليما؟ قال: يتكلم بالحكمة ويعمل بالجور أو قال بالمنكر
(2)
. وقال الجعد أبو عثمان: قلت لأبي رجاء العطاردي: هل أدركت من أدركت من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخشون النفاق قال: نعم، إني أدركت بحمد الله منهم صدرا حسنا، نعم شديدا نعم شديدا
(3)
. وكان قد أدرك عمر.
وممن كان يتعوذ من النفاق من الصحابة: حذيفة، وأبو الدرداء، وأبو أيوب الأنصاري
(4)
. وأما التابعون: فكثير، قال ابن سيرين: ما علي شيء أخوف من هذه
(1)
" صفة المنافق " للفريابي (ص: 129)، و" الزهد " لأحمد (ص: 427) ، و" التاريخ الكبير " للبخاري (1 / 334 - 335) .
(2)
انظر " صفة المنافق " للفريابي (ص: 68) .
(3)
اخرجه أبو نعيم في " الحلية "(2 / 307)، والفريابي في " صفة المنافق " (ص: 118) .
(4)
راجع " صفة المنافق " فقد أخرج هذه الآثار (ص: 113 – 122) .
الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة 8] . وقال أيوب: كل آية في القرآن فيها ذكر النفاق أخافها على نفسي. وقال معاوية بن قرة: كان عمر يخشاه وآمنه أنا
(1)
؟ . وكلام الحسن في هذا المعنى كثير جدا. وكذلك كلام أئمة الإسلام بعدهم. قال زيد بن الزرقاء، عن سفيان الثوري: خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاث:
نقول الإيمان قول وعمل، وهو يقولون: الإيمان قول ولا عمل
ونقول: الإيمان يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص.
ونحن نقول: النفاق، وهم يقولون: لا نفاق
(2)
.
وقال أبو إسحاق الفزاري، عن الأوزاعي: قد خاف عمر على نفسه النفاق (208 – أ / ف) قال
(3)
: فقلت للأوزاعي: إنهم يقولون: إن عمر لم يخف أن يكون يومئذ منافقا حين سأل حذيفة؛ لكن خاف أن يبتلى بذلك قبل أن يموت، قال: هذا قول أهل البدع.
وقال الإمام أحمد – في رواية هانيء وسئل: ما يقول فيمن لا
(1)
أخرجه الفريابي في " صفة المنافق "، (ص: 120) .
(2)
أخرجه الفريابي في " صفة المنافق (ص: 127) .
(3)
كلمة " قال " تكررت في " ف ".
يخاف النفاق على نفسه؟ ، - فقال: ومن يأمن على نفسه النفاق؟
(1)
.
وأصل هذا يرجع إلى ما سبق ذكره أن النفاق أصغر وأكبر؛ فالنفاق الأصغر: هو نفاق العمل وهو الذي خافه هؤلاء على أنفسهم؛ وهو باب النفاق الأكبر، فيخشى على من غلب عليه خصال النفاق الأصغر: في حياته أن يخرجه ذلك إلى النفاق الأكبر حتى ينسلخ من الإيمان بالكلية، كما قال تعالى {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] وقال {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّة [الأنعام: 110] .
والأثر الذي ذكره البخاري عن ابن أبي مليكة: هو معروف عنه من رواية الصلت بن دينار عنه
(2)
. وفي الصلت ضعف. وفي بعض الروايات: عنه، عن ابن أبي مليكة قال: أدركت زيادة على خمسمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات أحد منهم إلا وهو يخاف النفاق على نفسه. وأما الأثر الذي ذكره عن الحسن: فقال: ويذكر عن الحسن قال: ما خاف إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق، فهذا مشهور عن الحسن، صحيح عنه. والعجب من قوله في هذا: ويذكر، وفي قوله في الذي قبله: وقال
(1)
مسائل ابن هانيء " (2 / 176) .
(2)
أخرجه البخاري في " تاريخه الكبير "(5 / 137) من طريق ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، به.
ابن أبي مليكة – جزما
(1)
.
قال الإمام أحمد في كتاب " الإيمان " له: حدثنا مؤمل قال: سمعت حماد بن زيد قال: ثنا أيوب قال: سمعت الحسن يقول: والله ما أصبح على وجه الأرض مؤمن ولا أمسى على وجهها مؤمن إلا وهو يخاف النفاق على نفسه، وما أمن النفاق إلا منافق.
حدثنا روح بن عبادة قال: ثنا هشام قال: سمعت الحسن يقول: والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا يخاف النفاق ولا أمنه إلا منافق. وروى جعفر الفريابي في كتاب " صفة المنافق " من حديث جعفر بن سليمان، عن معلى بن زياد قال: سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن. قال: وكان يقول: من لم يخف النفاق فهو منافق
(2)
.
وعن حبيب بن الشهيد، عن الحسن قال: إن القوم لما رأوا هذا
(1)
. قال الحافظ ابن حجر في " الفتح "(1 / 111) : " وقد يستشكل ترك البخاري الجزم به مع صحته عنه، وذلك محمول على قاعدة ذكرها لي شيخنا أبو الفضل بن الحسين الحافظ رحمه الله، وهي: أن البخاري لا يخص صيغة التمريض بضعف الإسناد؛ بل إذا ذكر المتن بالمعنى أو اختصره أتى به – أيضا – لما علم من الخلاف في ذلك، فهنا كذلك " أ. هـ وقال القسطلاني في " إرشاد الساري "(1 / 136)".... وأتى بـ " يذكر " الدالة على التمريض نع صحة هذا الأثر؛ لأن عادته الإتيان بنحو ذلك فيما يختصره من المتون أو يسوقه بالمعنى؛ لا أنه ضعيف " أ. هـ
(2)
أخرجه الفريابي في " صفة المنافق "(ص: 121) .
النفاق يغول الإيمان لم يكن لهم هم غير النفاق
(1)
.
والروايات في هذا المعنى عن الحسن كثيرة. وقول البخاري بعد ذلك: " وما يحذر من الإصرار عل النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى {وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون} [آل عمران: 135] : فمراده أن الإصرار على المعاصي وشعب النفاق من غير توبة يخشى منها أن يعاقب صاحبها بسلب الإيمان بالكلية وبالوصول إلى النفاق الخالص وإلى سوء الخاتمة، نعوذ بالله من ذلك، كما يقال: إن المعاصي بريد الكفر.
وفي " مسند الإمام أحمد "
(2)
من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ك " ويل لأقماع القول ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون ".
وأقماع القول: الذين آذانهم كالقمع يدخل فيه سماع الحق من جانب ويخرج من جانب آخر لا يستقر فيه.
وقد وصف الله أهل النار بالإصرار على الكبائر فقال وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 46] والمراد بالحنث: الذنب الموقع في الحنث وهو الإثم. وتبويب البخاري لهذا الباب يناسب (208 – ب / ف) أن يذكر فيه حبوط الأعمال الصالحة ببعض الذنوب كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
(1)
المصدر السابق (ص: 119) .
(2)
(2 / 165، 219) ، وأخرجه – أيضا – البخاري في " الأدب "(380) ، والخطيب في " التاريخ "، (8 / 265 – 266) .
آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] قال الإمام أحمد حدثنا الحسن بن موسى قال: ثنا حماد بن سلمة عن حبيب بن الشهيد، عن الحسن قال: ما يرى هؤلاء أن أعمالا تحبط أعمالا، والله عز وجل يقول {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} إلى قوله {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} . ومما يدل على هذا – أيضا – قول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} الآية [البقرة: 264] ، وقال {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَاب} الآية [البقرة: 266] . وفي صحيح البخاري " أن عمر سأل الناس عنها فقالوا: الله أعلم فقال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل، قال عمر: لأي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل، قال عمر: لرجل غني
(1)
يعمل بطاعة الله ثم يبعث الله إليه الشيطان فيعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله.
وقال عطاء الخراساني: هو الرجل يختم له بشرك أو عمل كبيرة فيحبط عمله كله. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من ترك صلاة العصر حبط عمله "
(2)
. وفي " الصحيح " – أيضا – أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان
(1)
في " ف ": " يعني "، والمثبت من البخاري (فتح:(4538)
(2)
(فتح: 553) .
فقال الله: " من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، قد غفرت لفلان وأحبطت عملك "
(1)
. وقالت عائشة: أبلغي زيدا أنه أحبط جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب.
وهذا يدل على أن بعض السيئات تحبط بعض الحسنات، ثم تعود بالتوبة منها.
وخرج ابن أبي حاتم في " تفسيره " من رواية أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع الإخلاص ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل صالح، فأنزل الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم} [محمد: 33] فخافوا الكبائر بعد أن تحبط الأعمال ْ
(2)
.
وبإسناده، عن الحسن في قوله {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم} قال: بالمعاصي. وعن معمر، عن الزهري في قوله تعالى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم} قال الكبائر. وبإسناده، عن قتادة في هذه الآية قال: من استطاع منكم أن لا يبطل عملا صالحا بعمل سيء فليفعل ولا قوة إلا بالله؛ فإن الخير ينسخ الشر، وإن الشر ينسخ الخير، وإن ملاك الأعمال: خواتيمها
(3)
.
(1)
مسلم (2621) .
(2)
راجع " الدر المنثور "(6 / 67) فقد عزاه إليه.
(3)
أخرجه ابن جرير في " تفسيره "، (26/ 39) .
وعن السدي قال في هذه الآية يقول: لا تعصوا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمركم به من القتال فتبطل حسناتكم. وعن مقاتل بن حيان قال: بلغنا أنها نزلت فشقت على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يؤمئذ يرون أنه ليس شيء من حسناتهم إلا هي مقبولة، فلمت نزلت هذه الآية قال أبو بكر: ما هذا الذي يبطل أعمالنا. فبلغني – والله أعلم – أنهم ذكروا الكبائر التي وجبت لأهلها النار حتى جاءت الآية الأخرى {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه شيءِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48]، فقال ابن عمر: لما كانت هذه الآية كففنا عن القول في ذلك ورددنا إلى الله عز وجل، وكنا نخاف على من ركب الكبائر والفواحش أنها تهلكه
(1)
.
والآثار عن السلف في حبوط الأعمال بالكبيرة كثيرة جدا يطول استقصاؤها. حتى قال حذيفة قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة. وخرجه البزار عنه مرفوعا
(2)
. (209 - أ / ف) . وعن عطاء قال: إن الرجل ليتكلم في غضبه بكلمة يهدم بها عمل ستين سنة أو سبعين سنة. وقال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد، عنه: ما يؤمن أحدكم أن ينظر النظرة فيحبط عمله. وأما من زعم أن القول بإحباط الحسنات بالسيئات قول الخوارج والمعتزلة خاصة، فقد أبطل فيما قال ولم يقف عل أقوال السلف الصالح في ذلك. نعم المعتزلة والخوارج أبطلوا بالكبيرة الإيمان وخلدوا بها في
(1)
راجع تفسير ابن كثير " (7 / 305) .
(2)
" البحر الزخار "(7 / 331) .
النار. وهذا هو القول الباطل الذي تفردوا به في ذلك. ثم خرج البخاري في هذا الباب حديثين:
أحدهما: حديث:
48 -
شعبة، عن زبيد قال: سألت أبا وائل عن المرجئة فقال: حدثني عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر ".
فهذا الحديث رد به أبو وائل على المرجئة الذين لا يدخون الأعمال في الإيمان؛ فإن الحديث يدل على أن بعض الأعمال يسمى كفرا وهو قتال المسلمين، فدل على أن بعض الأعمال يسمى كفرا وبعضها يسمى إيمانا. وقد اتهم بعض فقهاء المرجئة أبا وائل في رواية هذا الحديث. وأما أبو وائل فليس بمتهم؛ بل هو الثقة العدل المأمون، وقد رواه معه عن ابن مسعود – أيضا -: أبو عمر الشيباني، وأبو الأحوص
(1)
وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود
(2)
؛ لكن فيهم من وقفه. ورواه – أيضا – عن النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص
(3)
، وغيره. ومثل هذا الحديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب
(1)
ذكره الدارقطني في " علله " من طريق أبي ألأحوص، عن عبد الله (5 / 324 – 325) وقال:" والموقوف عن أبي الأحوص أصح " ومن طريق أبي عمرو الشيباني سعد بن أياس، عنه (5 / 335) وقال:" ورفعه صحيح ".
(2)
الترمذي (2634) ، والنسائي (7 / 121) ، ورواية عبد الرحمن، عن أبيه تكلموا في اتصالها. .
(3)
النسائي في " المجتبى "، (7 / 121) وفي إسناده اختلاف. انظره مع ترجيح الصواب فيه عند البخاري في " التاريخ "(1 / 88 – 89) ، والدار القطني في " العلل "(4 / 357 – 358) وراجع " التحفة "(3 / 306) مع " النكت الظراف ".
بعضكم رقاب بعض "
(1)
. وقد سبق القول في تسمية بعض الأعمال كفرا وإيمانا مستوفى في مواضع.
قال أبو الفرج زين الدين بن رجب. وقد ظهر لي في القرآن شاهد لتسمية القتال كفرا، وهو قوله تعالى مخاطبا لأهل الكتاب {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفدُوهُم ْ
(2)
وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض} [البقرة: 83 - 85] .
والمعنى: أن الله حرم على أهل الكتاب أن يقتل بعضهم بعضا أو يخرج بعضهم بعضا من داره، كان اليهود حلفاء الأوس والخزرج بالمدينة، فكان إذا وقع بين الأوس أوالخزرج وبين اليهود قتال ساعد كل فريق من اليهود بحلافه من الأوس والخزرج على أعدائهم فقتلوهم معهم وأخرجوهم معهم من ديارهم بعد أن حرم عليهم ذلك في كتابهم وأقروا به وشهدوا به، ثم بعد أن يوسر أولئك اليهود يفدوهم هؤلاء الذين قاتلوهم امتثالا لما أمروا به في كتابهم من افتداء الأسرى منهم، فسمى الله عز وجل فعلهم للافتداء لإخوانهم إيمانا بالكتاب وسمى قتلهم وإخراجهم من ديارهم كفرا بالكتاب؛ فدلت هذه الآية عل أن القتال والإخراج من الديار إذا كان محرما يسمى كفرا، وعل أن فعل بعض
(1)
أخرجه البخاري (فتح: 121) ، ومسلم (65) .
(2)
كذا، وهي قراءة، وعند حفص وغيره:" تفادوهم ".
الطاعات يسمى إيمانا؛ لأنه سمى افتداءهم للأسارى إيمانا؛ وهذا حسن جدا، ولم أر أحدا من المفسرين تعرض له، ولله الحمد والمنة.
الحديث الثاني:
49 -
عبادة بن الصامت أن النبي
(1)
صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: " إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان (209 – ب /ف) فرفعت فعسى
(2)
أن يكون خيرا لكم، التمسوها في السبع والتسع والخمس ".
(1)
في " اليونينية ": " رسول الله ".
(2)
في " اليونينية ": " وعسى ".
50 -
إنما خرج البخاري هذا الحديث في هذا الباب لذكر التلاحي.
والتلاحي: قد فسر بالسباب، وفسر بالاختصام والمماراة من دون سباب. ويؤيد هذا: أنه جاء في رواية في " صحيح مسلم ": " فجاء رجلان يحتقان "
(1)
– أي: يطلب كل واحد منهما حقه من الآخر ويخاصمه في ذلك. فمن فسره بالسباب احتمل عنده إدخال البخاري للحديث في هذا الباب أن السباب تعجل عقوبته حتى يحرم المسلمون بسببه معرفة بعض ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم. وإنما رجا النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك خيرا؛ لأن إبهام ليلة القدر أدعى إلى قيام العشر كله، أو أوتاره في طلبها، فيكون سببا لشدة الاجتهاد وكثرته.
(1)
مسلم (1167 / 217) .
ولكن بيان الليلة ومعرفتهم إياها بعينها له مزية على إبهامها، فرفع ذلك بسبب التلاحي؛ فدل هذا الحديث على أن الذنوب قد تكون سببا لخفاء بعض معرفة ما يحتاج إليه في الدين.
وقال ابن سيرين: ما اختلف في الأهل
(1)
حتى قتل عثمان. فكلما أحدث الناس ذنوبا أوجب ذلك خفاء بعض أمور دينهم عليهم، وقد يكون في خفائه رخصة لمن ارتكبه وهو غير عالم بالنهي عنه، إذ لو علمه ثم ارتكبه لاستحق العقوبة.
ومن فسر التلاحي بالاختصام قال: مراد البخاري بإدخاله هذا الحديث في هذا الباب: أن التلاحي من غير سباب ليس بفسوق ولا يترتب عليه حكم الفسوق؛ لأنه كان سببا لما هو خير للمسلمين. وهذا هو الذي أشار إليه الإسماعيلي؛ وفيه نظر، والله أعلم. ويحتمل أن يكون مراد البخاري: أن السباب ليس بمخرج عن الإسلام من كونه فسوقا؛ ولهذا قال في الحديث: " فتلاحى رجلان من المسلمين "، فسماههما مسلمين مع تلاحيهما.
وفي " مسند البزار " من حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن أول شيء نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان: شرب الخمر، وملاحاة الرجال "
(2)
. وفي إسناده عمروبن واقد الشامي وهو ضعيف جدا.
(1)
كذا، ولعله " الأهلة "
(2)
" كشف "(3 / 351) ، والطبراني في " الكبير "(20 / 83)
وإنما حرمت الخمر بعد الهجرة بمدة. ولكن رواه الأوزاعي، عن عروة بن رويم مرسلا. خرجه أبو داود في " مراسيله"
(1)
.
(1)
(ص: 344) .
فصل
(1)
قال البخاري:
(1)
كتب في " ف " كلمة " فصل " واتبعها: " قال البخاري ": " باب "
37 -
باب
سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة وبيان النبي صلى الله عليه وسلم له ثم قال: " جاء جبريل
(1)
يعلمكم دينكم "، فجعل ذلك كله دينا، وما بين النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس من الإيمان. وقول الله تعالى {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْه} ُ.
تبويب البخاري هاهنا واستدلاله وتقريره يدل عل أنه يرى أن مسمى الإيمان والإسلام واحد؛ فإنه قرر النبي صلى الله عليه وسلم أجاب جبريل عن سؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان وعلم الساعة، ثم قال:" هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم " فجعله كله دينا، والدين هو الإسلام لقوله تعالى {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْه} [آل عمران: 85] وكذلك قوله {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] وأكد ذلك بأن في حديث وفد عبد القيس أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فأجابهم بما أجاب به جبريل عن سؤاله عن الإسلام
(2)
؛ فدل على أن الإسلام والإيمان واحد.
(1)
زاد في " اليونينية ": " عليه السلام "، وكذا القسطلاني في " إرشاد الساري " ولم ينبه على سقوطها في إحدى النسخ.
(2)
(فتح: 53) .
وهذا قول محمد بن نصر المروزي
(1)
(210 - أ / ف) وابن عبد البر وغيرهما.
وأما من فرق بين الإسلام والإيمان – وهم أكثر العلماء من السلف ومن بعدهم – حتى قيل: إنه لا يعلم عن السلف في ذلك خلاف فأظهر الأجوبة عما ذكره البخاري: أن الإسلام والإيمان تختلف دلالته بالإفراد والاقتران؛ فإن أفرد أحدهما دخل فيه الآخر وفلذلك فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان المسئول عنه مفردا في حديث وفد عبد القيس بما فسر به الإسلام في حديث جبريل الذي قرن فيه الإسلام بالإيمان. وإن اقترنا كان هذا له معنى وهذا له معنى. وبكل حال: فالأعمال داخلة في مسمى الإيمان، لا يختلفون في ذلك. وممن ذكر هذا التفصيل: الخطابي
(2)
، وأبو بكر الإسماعيلي، وحكاه الإسماعيلي عن كثير من أهل السنة والجماعة، وحكى أبو بكر ابن السمعاني عن أهل السنة والجماعة التفريق بين الإسلام والإيمان وممن روي عنه التفريق بينهما من السلف: الحسن، وابن سيرين، وقتادة، وداود بن أبي هند، وأبو جعفر محمد بن علي، والزهري، وحماد بن زيد، وشريك، وابن أبي ذئب، وابن مهدي، وأحمد، وأبو خيثمة، ويحيى بن معين، وغيرهم – على اختلاف بينهم في صفة التفريق.
(1)
في " تعظيم قدر الصلاة "(2 / 531) .
(2)
راجع " أعلام الحديث "(1 / 142 – 145) .
وروي التسوية بينهما عن الثوري من وجه فيه نظر. وقد تقدم الكلام على هذه المسألة مستوفى بما فيه كفاية، والله أعلم.
ثم خرج البخاري حديث
(1)
:
(1)
الحديث الآتي أشار إليه المصنف تحت ترجمة الباب: (29) الحديث (1039) .
50 -
أبي زرعة ‘ عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان يوما بارزا
(1)
للناس فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث " قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان " قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك " قال: متى الساعة؟ قال: " ما المسئول عنها
(2)
بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربها، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان في خمس لا يعلمهن إلا الله " ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَام} ِ
(3)
الآية [لقمان: 34] ثم أدبر فقال " ردوه " فلم يروا شيئا فقال ": " هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم.
" قال البخاري
(4)
: جعل ذلك كله من الإيمان. فمراده بهذا الكلام: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى جميع ما ذكره في هذا
(1)
في " اليونينية ": " قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوما ".
(2)
في " ف ": " منها "، والمثبت من " اليونينية ".
(3)
قوله: " الغيث ويعلم ما في الأرحام " ليس في " اليونينية "، و" ينزل " عند الأصلي وحده. وانظر شرح هذه الكلمة (ص 215) .
(4)
في " اليونينية ": " أبو عبد الله ".
السؤال دينا، والدين هو الإسلام، كما أخبر الله بذلك. وقد أجاب وفد عبد القيس عن سؤالهم عن الإيمان بما أجاب به جبريل عن سؤال عن الإسلام؛ فدل علي أن الإيمان هو الإسلام وأنه يدخل في مسماه ما يدخل في مسمى الإسلام. هذا تقرير ما ذكره البخاري هاهنا.
وأما المفرقون بين الإسلام والإيمان: فقد تقدم أن المختار عندهم في ذلك: أن الإسلام والإيمان إذا قرن بينهما كان لكل منهما معنى فإذا أفرد أحدهما دخل فيه ما يدخل في الآخر. والتحقيق في التفريق بينهما عند اقترانهما: ما دل عليه هذا الحديث المذكور هاهنا؛ وهو أن الإيمان هو الاعتقادات القائمة بالقلوب، وأصله: الإيمان بالأصول الخمسة التي ذكرها الله في قوله تعالى {آمَنَ الرَّسُول ُ (210 – ب / ف) بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير} [البقرة: 285] ، فذكر الله في هذه الآية الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والمصير إليه – وهو اليوم الآخر – وهو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام في سؤاله عن الإيمان المقرون بالإسلام وفي بعض ألفاظه زيادة ونقص. وفي رواية البخاري هذه ذكر الإيمان بلقاء الله والإيمان بالبعث.
فأما الإيمان بالبعث: فهو الإيمان بأن الله يبعث من في القبور. والإيمان بلقاء الله معناه: الإيمان بوقوف العباد بين يدي الله عز وجل للمحاسبة بأعمالهم والجزاء بها. وخرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب ولفظه: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره "
(1)
. وخرجه ابن حبان، وزاد فيه:" وتؤمن بالجنة والنار والميزان "
(2)
. وأما الإسلام المقرون بالإيمان: ففسره بالأعمال الظاهرة من الأقوال والأعمال وهي: الشهادتان، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان. وزاد مسلم في رواية من حديث عمر:" وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ". وزاد ابن حبان: " وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة وتتم الوضوء ". وفي رواية البخاري هذه: " أن تعبد الله ولا تشرك به ". والمراد: الإقرار بتوحيده باللسان. وقد يراد به مع ذلك: فعل جميع أنواع العبادات بالجوارح.
(1)
مسلم (8) .
(2)
" الإحسان "(1 / 397) .
وأما الإحسان: ففسره بنفوذ
(1)
. البصائر في الملكوت حتى يصير الخبر للبصيرة كالعيان، فهذه أعلى درجات الإيمان ومراتبه. ويتفاوت المؤمنون والمحسنون في تحقيق هذا المقام تفاوتا كثيرا بحسب تفاوتهم في قوة الإيمان والإحسان، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك هاهنا بقوله:" أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". قيل: المراد: أن نهاية مقام الإحسان: أن يعبد المؤمن ربه كأنه يراه بقلبه فيكون مستحضرا ببصيرته وفكرته لهذا المقام فإن عجز عنه وشق عليه انتقل إلى مقام آخر وهو أن يعبد الله على أن الله يراه ويطلع على سره وعلانيته ولا يخفى عليه شيء من أمره.
وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه أن يعبدوا الله كأنهم يرونه، منهم: ابن عمر، وأبو ذر، ووصى معاذا أن يستحيي من الله كما يستحيي من رجل ذي هيبة من أهله
(2)
. قال بعض السلف: من عمل لله على المشاهدة فهو عارف، ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهو مخلص. فهذان مقامان: أحدهما: مقام المراقبة، وهو أن يستحضر العبد قرب الله منه واطلاعه عليه فيتخايل أنه لا يزال بين يدي الله فيراقبه في حركاته وسكناته وسره وعلانيته، فهذا مقام المراقبين المخلصين، وهو أدنى مقام الإحسان.
(1)
في " ف " بالدال المهملة والصواب ما أثبتناه..
(2)
وانظر (ص 103) تحت الحديث (24) ..
والثاني: أن يشهد العبد بقلبه ذلك شهادة فيصير كأنه يرى الله ويشاهده، وهذا نهاية مقام الإحسان، وهو مقام العارفين. وحديث حارثه هو من هذا المعنى؛ فإنه قال: كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وإلى أهل النار يتعاوون فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" عرفت فالزم: عبد نور الله الإيمان في قلبه ". وهو حديث مرسل، وقد روي مسندا (211 - أ / ف) بإسناد ضعيف
(1)
. وكذلك قول ابن عمر لعروة لما خطب إليه ابنته في الطواف فلم يرد عليه ثم لقيه فاعتذر إليه وقال: كنا في الطواف تتخايل الله بين أعيننا.
ومنه الأثر الذي ذكره الفضيل بن عياض: يقول الله: ما أنا مطلع على
(1)
قال المصنف في كتابه " جامع العلوم والحكم "(1/ 105 – 106) طبعتنا – على هذا الحديث: " قد روي من وجوه مرسلة، وروي متصلا، والمرسل أصح " أ. هـ وأخرج هذا الحديث موصولا: الطبراني في " الكبير "(3 / 266)، والبيهقي في " الشعب ":(7 / 263) . وأخرجه ابن المبارك في " الزهد "(ص: 106) والبيهقي في " الشعب "(7 / 363) من طريق جعفر بن برقان، وابن المبارك من طريق صالح بن مسمار وقال عنه ابن حبان في " الثقات " (6 / 465) :" يروي المراسيل " – كلاهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال البيهقي:" هذا منقطع " وقال ابن المبارك عقيب هذا الحديث: " ولا أعلم صالح بن مسمار أسند إلا حديثا واحدا " ورواه ابن حبان في " المجروحين "(1 / 150) موصولا؛ ولا يصح وروي نحوه من حديث أنس، تفرد به: يوسف بن عطية الصفار، أخرجه البيهقي في " الشعب "(7 / 362)، والعقيلي في " الضعفاء " (4 / 455) وقال بعده:" ليس هذا الحديث إسناد يثبت " أ. هـ، والبزار (كشف: 1 / 26) ، وقال بعده:" تفرد به: يوسف، وهو لين الحديث " أ. هـ، وراجع " أطراف الغرائب "(714، 764، 857) بتحقيقنا. .
أحبائي إذا جهنم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم، ومثلت نفسي بين أعينهم فخاطبوني على المشاهدة وكلموني على حضوري.
وبهذا فسر المثل الأعلى المذكور في قوله تعالى {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض} [الروم: 27] ومثله قوله تعالى {الله نور السموات والأرض مثل نوره كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ توقَدُ
(1)
مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [النور: 35]، قال ابن كعب وغيره من السلف: مثل نوره في قلب المؤمن. ٌفمن وصل إلى هذا المقام فقد وصل إلى نهاية الإحسان وصار الإيمان لقلبه بمنزلة العيان فعرف ربه وأنس به في خلوته وتنعم بذكره ومناجاته ودعائه حتى ربما استوحش من خلقه، كما قال بعضهم: عجبت للخليقة كيف أنست بسواك؟! بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك. وقيل لآخر: أما تستوحش؟! قال: كيف استوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني
(2)
؟
(1)
كذا بالمثناة الفوقية، وهي قراءة أبي عمرو وأهل الكوفة والحسن وابن محيصن: بفتح التاء والواو وشد القاف وضم الدال – أي: الزجاجة، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر، عن عاصم وطلحة والأعمش والحسن وقتادة وابن وثاب وعيسى:" توقد " – بضم التاء – أي: الزجاجة، وقرأ عاصم:" يوقد ". أهـ من " المحرر الوجيز " لابن عطية (11 / 306) .
(2)
هو قول محمد بن النضر، أخرجه البيهقي في " الشعب "(1 / 458) ..
وقيل لآخر: أما تستوحش وحدك؟ قال: ويستوحش مع الله أحد؟ ! وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ويقول: من لم تقر عينه بك فلا قرت عينه، ومن لم يأنس بك فلا أنس. وقال الفضيل: طوبى لمن استوحش من الناس وكان الله جليسه
(1)
.
وقال معروف لرجل: توكل على الله حتى يكون جليسك وأنيسك وموضع شكواك
(2)
. وقال ذو النون: علامة المحبين لله: أن لا يأنسوا بسواه ولا يستوحشوا معه، ثم قال: إذا سكن القلب حب الله أنس بالله؛ لأن الله أجل في صدور العارفين أن يحبوا غيره. وقوله صلى الله عليه وسلم " اعبد الله كأنك تراه " إشارة إلى أن العابد يتخيل ذلك في عبادته، لا أنه يراه حقيقة لا ببصره ولا بقلبه. وأما من زعم أن القلوب تصل في الدنيا إلى رؤية الله عيانا كما تراه الأبصار في الآخرة – كما يزعم ذلك من يزعمه من الصوفية – فهو زعم باطل؛ فإن هذا المقام هو الذي قال من قال من الصحابة كأبي ذر وابن عباس وغيرهما، وروي عن عائشة – أيضا – أنه حصل للنبي صلى الله عليه وسلم مرتين. وروي في ذلك أحاديث مرفوعة – أيضا.
وكذا قال جماعة من التابعين: إنه يراه بقلبه، منهم الحسن، وأبو العالية، ومجاهد ووعبد الله بن الحارث بن نوفل، وإبراهيم التيمي وغيرهم.
(1)
" الحلية (8 / 108) .
(2)
" الحلية (8 / 360) .
فلو كان هؤلاء لا يعتقدون أن رؤية القلب مشتركة بين الأنبياء وغيرهم لم يكن في تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مزية له لا سيما وإنما قالوا: إنها حصلت له مرتين؛ فإن هؤلاء الصوفية يزعمون أن رؤية القلب تصير حالا ومقاما دائما أو غالبا لهم، ومن هنا ينشأ تفضيل الأولياء على الأنبياء، ويتفرع على ذلك أنواع من الضلالات والمحالات والجهالات، والله يهدي من يشاء إلى سراط مستقيم.
فهذه المقامات الثلاث " الإسلام والإيمان والإحسان يشملها اسم الدين، فمن استقام على الإسلام إلى موته عصمه الإسلام من الخلود في النار وإن دخلها بذنوبه، ومن استقام (211 – ب / ف) على الإحسان إلى الموت وصل على الله عز وجل، وقال تعالى {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وزيادة} [يونس: 26] وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة بالنظر إلى وجه الله. خرجه مسلم من حديث صهيب
(1)
.
وأما قول جبريل: " أخبرني عن الساعة " فقال: " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " فمعناه: إن الناس كلهم في وقت الساعة سواء، وكلهم غير عالمين به على الحقيقة؛ ولهذا قال:" في خمس لا يعلمهن إلا الله " ثم تلا {إن الله عنده علم الساعة} [لقمان: 34] وهذه مفاتيح الغيب الذي لا يعلمها إلا الله. وقد جاء عن ابن مسعود أن نبينا أوتي علم كل شيء سوى هذه
(1)
مسلم (181) ، وانظر " الكامل "(2 / 260) لابن عدي، و" التتبع " (ص: 210) للدار قطني، وراجع " جامع العلوم والحكم "(1 / 103 – 104) طبعتنا.
الخمس
(1)
.
وروي ذلك مرفوعا من حديث ابن عمر
(2)
. وكلاهما في " مسند الإمام أحمد ". وذكر عند عمرو بن العاص العلم بوقت الكسوف قبل ظهوره فأنكره بعض من حضره فقال عمرو:: إنما الغيب خمس، ثم تلا هذه الآية قال: وما سوى ذلك يعلمه قوم ويجهله قوم. خرجه حميد بن زنجوية.
وقد زعم بعضهم – كالقرطبي
(3)
– أن هذه الخمس لا سبيل لمخلوق على علم بها قاطع، وأما الظن بشيء منها بأمارة قد يخطيء ويصيب فليس ذلك بممتنع ولا نفيه مراد من هذه النصوص. وقوله:" وسأخبرك عن أشراطها " لما كان العلم بوقت الساعة المسئول عنه غير ممكن انتقل منه إلى ذكر أشراطها وهي علامتها الدالة على اقترانها، وهذا كما سأله الأعرابي: متى الساعة؟ فقال: " ما أعددت لها؟ " فأعرض عن الجواب عن الساعة إلى ذكر الاستعداد لها؛ لأنه هو المأمور به وهو الذي يعني السائل وغيره وينبغي الاهتمام به. وأما جبريل: فالظاهر – والله أعلم – أنه أراد بسؤاله عن الساعة إظهار انفراد الله بعلمها دون خلقه حتى ينقطع السؤال عنها، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا يسأل عنها حتى نزلت {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا
(1)
" المسند "(1 / 386) .
(2)
" المسند "(2 / 85 – 86) .
(3)
راجع " التفسير "(4 / 2438) .
فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} [النازعات: 42 - 44] ونزلت {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: 187] .
وفي رواية عمر بن الخطاب لهذا الحديث: إن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم " أخبرني عن أمارتها "، وقد ذكر لها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث علامتين:
إحداهما: أن تلد الأمة ربها، والمقصود بالرب: السيد. واختلف في معنى ذلك، فقيل: المراد أن يكثر فتوح البلاد الكفر والسبي فيكثر السراري فتلد الإماء الأولاد من سادتهن، وولد السيد بمنزلة السيد فتصير الأمة ولدت ربها بهذا الاعتبار. ومن هؤلاء من قال: أريد أن الملوك يتخذون السراري فتلد الإماء الملوك وهم كالأرباب للناس. ومنهم من قال: إن العجم تلد العرب، والعرب كالأرباب للعجم قاله وكيع بن الجراح. وعلى هذا القول قد استدل بالحديث من يرى بيع أمهات الأولاد ومن يمنعه.
أما من يرى بيعهن: فاستدل بقوله: " تلد الأمة ربها " على أن ولد أم الولد رب لها فيدل على أن أمه رقيقة تنتقل إلى ملكه بوفاة أبيه فيرثها فتعتق عليه فيكون حينئذ ربها حقيقة وتكون قبل انتقالها إلى ولدها رقيقة حكمها كأحكام الفيء
(1)
من البيع وغيره، ولولا ذلك لم تورث.
(1)
في " ف "" تشبه " بـ " الغبن " والله اعلم.
ومن منع بيعهن: قال: قد جعل ولد الأمة ربها، وهذا يدل على أنه ربها (212 - أ / ف) بكل حال سواء مات الأب أو كان حيا، فيدل على أن عتقها مضاف إلى الولد فكان الولد هو الذي أعتق أمه حيث كان هو سبب عتقها، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مارية لما ولدت إبراهيم " أعتقها ولدها "
(1)
وممن استدل بهذا على منع بيعهن: الإمام أحمد. وقيل: المراد بقوله " تلد الأمة ربها " كثرة الفتوح في بلاد الكفار، وجلب الرقيق حتى تجلب المرأة من بلد الكفر صغيرة فتعتق في بلد الإسلام، ثم تجلب أمها بعدها فتشتريها البنت وتستخدمها جاهلة بكونها أمها، وقد وقع ذلك في الإسلام. وهذا القول مثل الذي قبله في أن أشراط الساعة كثرة الفتوح وجلب الرقيق من بلاد الكفر.
وقيل: المراد بقوله" أن تلد الأمة ربها " أن يكثر العقوق من الأولاد حتى يعامل الولد أمه معاملة أمته بالسب والإهانة، ويشهد لهذا: أنه جاء
(1)
هذا الحديث اخرجه ابن ماجه (2516)، من طريق: الحسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس به مرفوعا. وأورد البخاري هذا الحديث في ترجمة الحسين من " التاريخ " (2 / 388) وقال:" ولم يصح " وأعقبه بأن فتيا ابن عباس على خلاف هذا. واستنكره ابن عدي – أيضا – بإيراده هذا الحديث الضعيف في ترجمة الحسين من " الكامل "(2 / 350) وضعف ابن عبد البر في " التمهيد "(3 / 138) الأحاديث في هذا المعنى. وأعل البيهقي في " السنن "(10 / 346) حديث ابن عباس، وجعل الصواب فيه من قول عمر. وانظر " أطراف الغرائب "(2580) بتحقيقنا. .
في رواية " أن تلد المرأة ربها " فلم يخص بالأمة.
وقيل: المراد بقوله " أن تلد الأمة ربها " أن يكثر الجهل ويقل العلم حتى تباع أمهات الأولاد ولهن أولاد فربما تداولها أيدي الملاك وتطاولت المدد حتى يشتريها بعض أولادها ويستخدمها جاهلا بأنها أمه، وفي هذا القول نظر وبعد. وعلى هذا القول والذي قبله: فالذي من أشراط الساعة هو كثرة الجهل وقلة العلم وفساد الأعمال بظهور العقوق والاستهانة بببيع ما لا يجوز بيعه.
وقيل: بل أراد بولادة الأمة ربها أنه يكثر عدول الناس عند النكاح إلى التسري فقط، والله أعلم.
والعلامة الثانية: أن يتطاول رعاة الإبل البهم في البنيان. والبهم هما بضم الباء، وهو جمع بهيم، ثم قيل: إن المراد به المجهول الذي لا يعرف. قاله الخطابي
(1)
. فعلى هذا تكون الرواية " البهم " – بضم الميم – صفة الرعاة.
وقيل: بل المراد به: الذي لاشيء لهم، كما قال:" يحشر الناس يوم القيامة حفاة بهما ". وقيل: إن " البهم " – بكسر الميم – صفة للإبل، وأن الإبل هي السود وتطاولهم في البنيان: هو بمصيرهم مملوكا ذا ثروة وأموال.
(1)
" أعلام الحديث "(1 / 182) .
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عنهم فقال: " هم العريب "
(1)
. وهذا وقع في زمن بني أمية حيث كانوا يستعملون الأعراب الحفاة على الناس ويستعينون بهم على أعمالهم، ثم لما انتقل الملك عن العرب إلى غيرهم انتقل إلى من كان ببلاده كذلك. وفي هذا إشاره إلى أن من أشراط الساعة فساد ولاة الأمور بجهلهم وجفائهم، ويشهد لهذا: الحديث الآخر: " إذا وكل الأمر على غير أهله فانتظر الساعة "
(2)
. والتطاول في البنيان من أشراط الساعة – أيضا.
وقد خرج البخاري
(3)
. ومسلم من رواية أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان "، وقد كان بناء النبي صلى الله عليه وسلم للمساجد والبيوت قصيرا.
وقد روي عن الحسن قال: لما بنى النبي صلى الله عليه وسلم المسجد قال: " ابنوه عريشا كعريش موسى " قيل للحسين: وما عريش موسى؟ قال: إذا رفع يده بلغ العريش – يعني السقف
(4)
. وعن الحسن قال: كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان
(1)
أخرجه محمد بن نصر في " تعظيم قدر الصلاة "(1 / 375) . وعنده: " العرب " بدلا من " العريب "
(2)
أخرجه البخاري (فتح: 59، 6496) من حديث أبي هريرة. .
(3)
(فتح: 7121) ، وليس عند مسلم، لذلك أشار إليه في " جامع العلوم والحكم "(1 / 121) – طبعتنا - أنه في البخاري فقط. .
(4)
أخرجه البيهقي في " دلائل النبوة "(2 / 541، 542) ، ومن طريقه ابن كثير في " البداية "(3 / 215)، وقال:" هذا مرسل ".
فأتناول سقفها بيدي. وروي عن (212 - ب / ف) عن عمر أنه كتب إلى أهل البصرة ينهاهم أن لا يرفع أحد بناءه فوق سبع أذرع
(1)
.
قال عمار بن أبي عمار: إذا رفع الرجل بناءه فوق سبع أذرع ناداه مناد: يا أفسق الفاسقين! إلى أين؟ ! وخرج الطبراني من حديث أنس مرفوعا: " كل بناء - وأشار بيده هكذا على رأسه - أكثر من هذا فهو وبال
(2)
. وفي " سنن أبي داود " عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قبة مشرفة فقال: " ما هذه؟ " فقالوا " لفلان، فجاء صاحبها فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه فعل ذلك مرارا حتى هدمها الرجل
(3)
.
وفي " سنن ابن ماجه " عن ابن عباس مرفوعا: " أراكم ستشرفون مساجدكم بعدي كما شرفت اليهود كنائسها والنصارى بيعها
(4)
. فهذا الحديث قد اشتمل على أصول الدين ومهماته وقواعده ويدخل فيه الإعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة، فجميع علوم الشريعة ترجع إليه من أصول الإيمان والإعتقادات ومن شرائع الإسلام العملية بالقلوب
(1)
وأحال المصنف (3 / 323) عند شرحه للحديث) (450) على هذا الموضع. .
(2)
الطبراني في " أوسطه "(3081) .
(3)
أبو داود (5237) ، وانظر الخلاف في إسناده عند البخاري في " التاريخ "(1 / 87) ، و" علل الرازي "(2 / 102) ، و" شعب الإيمان " للبيهقي (7 / 390 - 391) .
(4)
ابن ماجه (740) .
والجوارح ومن علوم الإحسان ونفوذ البصائر في الملكوت. وقد قيل: إنه يصلح أن يسمى " أم السنة " لرجوعها كلها إليه كما تسمى الفاتحة " أم الكتاب " و" أم القرآن " لمرجعه إليها
(1)
.
ثم خرج البخاري بعد هذا: حديث
(2)
:
(1)
راجع شرحه علل هذا الحديث في " جامع العلوم والحكم " وهو الحديث الثاني فقد ذكر أشياء لم يذكرها هاهنا، ولكل شرح مزية.
(2)
هذا الحديث تحت باب (38) .
51 -
ابن عباس: أخبرني أبو سفيان أن هرقل قال له: سألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتك: هل يرتد أحد منهم لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فزعمت أن لا وكذلك الإيمان حيت تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.
ومقصود بإيراد هذه الجملة من حديث هرقل: أن الإيمان يزيد حتى يتم، وأن الدين هو الإيمان؛ فإنه سأله: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه؟ ثم أجاب بأن الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.
والبشاشة: الفرح والاستبشار، ومنه حديث:" لا يوطن أحد المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله به كما يتبشش أهل الغائب بغائبهم "
(1)
. فدل على أن الإسلام والدين واحد؛ ولك لم يرد بزيادة الإيمان هنا إلا زيادة أهله، وبتمامه قوة أهله وتمكنهم من إظهاره والدعوة إليه.
(1)
أخرجه أبو داود الطيالسي (2334) ، والإمام أحمد (2 / 328، 453) وغيرهما وفيه اختلاف سندا ومتنا على سعيد المقبري، وقد سود الحافظ الدارقطني في " علله "(3ب / ق 63 - أ، ب) الخلاف في إسناده فانظره.
وكلام هرقل - وإن كان لا يحتج به في مثل هذه المسائل العظيمة من أصول الديانات التي وقع الاضطراب فيها - فإن ابن عباس روى هذا الكلام مقررا له مستحسنا وتلقاه عنه التابعون، وعن التابعين أتباعهم كالزهري. فالاستدلال إنما بتداول الصحابة ومن بعدهم لهذا الكلام وروايته واستحسانه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
39 -
فصل
(1)
خرج البخاري ومسلم
(2)
من حديث:
(1)
باب (39)" فضل من استبرأ لدينه "، وقد ذكر المصنف اسم الباب في أثناء الشرح.
(2)
مسلم (1599) .
51 -
النعمان بن بشير قال
(1)
: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام
(2)
كالراعي
(3)
يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه
(4)
، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله
(5)
محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب "
هذا الحديث حديث عظيم؛ وهو أحد الأحاديث التي مدار الدين عليها وقد قيل: إنه ثلث العلم أو ربعه.
(1)
في " اليونينية ": " يقول ".
(2)
قوله: " وقع في الحرام " ليس في " اليونينية "، وراجع كلام الحافظ في " الفتح "(1 / 128) ، والعيني في " العمدة "(1 / 346) .
(3)
في اليونينية ": " كراعي "، وراجع كلام الحافظ في " الفتح " (1 / 128) .
(4)
في " اليونينية ": " أن يوقعه " ولم يشر القسطلاني في " إرشاد الساري " على وجود خلاف في النسخ.
(5)
زاد في " اليونينية ": " في أرضه " وهي في رواية غير المستملي، قاله القسطلاني في " إرشاد الساري "، وأشار إليها المصنف في أثناء شرح الحديث.
وهو حديث (213 - أ / ف) صحيح متفق على صحته من رواية الشعبي عن النعمان بن بشير، وفي ألفاظه بعض الزيادة والنقص والمعنى واحد أو متقارب.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر، وعمار بن ياسر، وجابر، وابن مسعود، وابن عباس
(1)
؛ وحديث النعمان أصح أحاديث الباب.
ومعنى الحديث: أن الله أنزل كتابه وبين فيه حلاله وحرامه وبين النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ما خفي من دلالة الكتاب على التحليل والتحريم، فصرح بتحريم أشياء غير مصرح بها في الكتاب وإن كانت عامتها مستنبطة من الكتاب وراجعة إليه فصار الحلال والحرام على قسمين:
أحدهما: ما هو واضح لا خفاء به على عموم الأمة؛ لاستفاضته بينهم وانتشاره فيهم ولا يكاد إلا على من نشأ ببادية بعيدة عن دار الإسلام؛ فهذا هو الحلال البين والحرام البين. ومنه: ما تحليله وتحريمه لعينه كالطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والخبائث من ذلك
(1)
حديث ابن عمر: خرجه الطبراني في " الأوسط "(2868) وفي ط الصغير " (1 / 51) وانظر " العلل " للرازي (2/ 132، 142) ، و" الضعفاء " للعقيلي (2 / 252) . وحديث عمار بن ياسر: أخرجه الطبراني في " الأوسط " (1735) ، وأبو نعيم في " الحلية " (9 / 236) ، والعقيلي في " الضعفاء " (4 / 161) . وحديث ابن عباس: أخرجه الطبراني في " الكبير " (10 / 333) وحديث جابر: أخرجه الخطيب في " تاريخه " (9 / 70) وحديث ابن مسعود: لم نجده.
كله ومنه: ما تحليله وتحريمه من جهة كسبه كالبيع والنكاح والهبة والهدية وكالربا والقمار والزنا والسرقة والغصب والخيانة وغير ذلك.
القسم الثاني: ما لم ينتشر تحريمه وتحليله في عموم الأمة؛ لخفاء دلالة النص عليه ووقوع تنازع العلماء فيه ونحو ذلك، فيشتبه على كثير من الناس هل هو من الحلال أو من الحرام؟ وأما خواص أهل العلم الراسخون فيه فلا يشتبه عليهم؛ بل عندهم من العلم الذي اختصوا به عن أكثر الناس ما يستدلون به على حل ذلك أو حرمته، فهؤلاء لا يكون ذلك مشتبها عليهم لوضوح حكمه عندهم
أما من لم يصل إلى ما وصلوا إليه فهو مشتبه عليه؛ فهذا الذي اشتبه عليه إن اتقى ما اشتبه عليه حله وحرمه واجتنبه فقد استبرأ لدينه وعرضه، بمعنى أنه طلب لهما البراءة مما يشينهما، وهذا معنى الحديث الآخر:" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "
(1)
. وهذا هو الورع، وبه يحصل كمال التقوى، كما في الحديث الذي خرجه الترمذي وابن ماجه: " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس
(2)
. وأنواع الشبه تختلف بقوة قربها م الحرام وبعدها عنه. وقد يقع
(1)
راجع " علل ابن أبي حاتم "(2 / 137) من حديث ابن عمر، وقال الخليلي في " الإرشاد " (1 / 416 - 417) :" الصحيح فيه عن ابن عمر قوله ". و" الكامل " لابن عدي (1/ 203) من حديث أنس، والحديث عند الترمذي، والحاكم، وابن حبان.
(2)
أخرجه الترمذي (2451) ، وابن ماجه (4215) من حديث عطية الساعدي، قال الحافظ في " الإصابة" (5 / 276) :" ذكره بعضهم في الصحابة، وهو غلط " أ. هـ.
الاشتباه في الشيء من جهة اشتباه وجود أسباب حله وحرمته، كما يشك الإنسان فيه هل هو ملكه أم لا؟ وما يشك في زوال ملكه عنه. وهذا قد يرجع فيه إلى الأصل فيبني عليه، وقد يرجع في كثير منه إلى الظاهر إذا قوي على الأصل ويقع التردد عند تساوي الأمرين. وقد يقع الاشتباه لاختلاط الحلال بالحرام في الأطعمة والأشربة من المائعات
(1)
. وغيرها من المكيلات، والموزونات والنقود.
فكل هذه الأنواع من كان عنده فيها علم يدله على حكم الله ورسوله فيها فتبعه فهو المصيب، ومن اشتبهت عليه فإن اتقاها واجتنبها فقد فعل الأولى واستبرأ لدينه وعرضه فسلم من تبعتها في الدنيا والآخرة، ومن اشتبهت عليه فلم يتقها؛ بل وقع فيها فمثله كمثل راع يرعى حول الحمى فإنه يوشك أن يواقعه. وفي رواية:" ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ".
ومعنى هذا: أن من وقع في الشبهات كان جديرا بأن يقع في الحرام بالتدريج؛ فإنه يسامح نفسه في الوقوع في الأمور المشتبهة (213 - ب / ف) فتدعوه نفسه إلى مواقعة الحرام بعده؛ ولهذا جاء في رواية: " ومن خالط الريبة يوشك أن يجسر "
(2)
يعني: يجسر على الوقوع في الحرام الذي لا ريب فيه.
ومن هنا كان السلف يحبون أن يجعلوا بينهم وبين الحرام حاجزا من الحلال يكون وقاية بينهم وبين الحرام، فإن اضطروا واقعوا ذلك الحلال
(1)
في " ف " تشتبه بـ " المانعات " والموافق للسياق ما أثبتناه.
(2)
أخرجه أبو داود (3329) ، والنسائي في " المجتبى "(7 / 241 - 242) ، (8 / 327) .
ولم يتعدوه، وأما من وقع في المشتبه فإنه لا يبقى له إلا الوقوع في الحرام المحض فيوشك أن يتجرأ عليه ويجسر. وقوله:" ألا وإن لكل ملك حمى، وإن حمى الله في الأرض محارمه "، وفي رواية:" ألا وإن حمى الله محارمه "
(1)
: ضرب مثل لمحارم الله بالحمى الذي يحميه الملك من الأرض ويمنع الناس من الدخول إليه، فمن تباعد عنه فقد توقى سخط الملك وعقوبته، ومن رعى بقرب الحمى فقد تعرض لمساخط الملك وعقوبته؛ لأنه ربما دعته نفسه إلى الولوج في أطراف الحمى؛ وفي هذا دليل على سد الذرائع والوسائل إلى المحرمات كما يحرم الخلوة بالأجنبية وكما يحرم شرب قليل ما يسكر كثيره وكما ينهى عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر خشية الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وكما يمنع من تحرك القبلة شهوته في صيامه من القبلة، وكما يؤمر من يباشر امرأته في حال حيضها أن يباشرها من فوق إزار ما بين سرتها وركبتها، وكما يضمن من سيب دابته نهارا بقرب زرع غيره فتفسده، أو أرسل كلبه للصيد في الحل بقرب الحرم فصاد فيه فإنه يضمن في الصورتين على الأصح.
وفي الحديث دليل على صحة القياس وتمثيل الأحكام وتشبيهها. وفيه دليل على أن المصيب من المجتهدين في مسائل الاشتباه واحد؛ لأنه جعل المشتبهات لا يعلمها كثير من الناس مع كون بعضهم في طلب حكمها مجتهدين فدل على أن من يعلمها هو المصيب العالم بها دون غيره ممن هي مشتبهة عليه وإن كان قد يجتهد في طلب حكمها ويصير
(1)
راجع التعليق على الحديث في بدايته في الفرق بينها وبين " اليونينية ".
إلى ما أداه إليه اجتهادة وطلبه.
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كلمة جامعة لصلاح حركات ابن آدم وفسادها وأن ذلك كله بحسب صلاح القلب وفساده، فإذا صلح القلب صلحت إرادته وصلحت جميع الجوارح فلم تنبعث إلى طاعة الله واجتناب سخطه فقنعت بالحلال عن الحرام. وإذا فسد القلب فسدت إرادته، ففسدت الجوارح كلها وانبعث في معاصي الله عز وجل وما فيه سخطه ولم تقنع بالحلال؛ بل أسرعت في الحرام بحسب هوى القلب وميله عن الحق، فالقلب الصالح هو القلب السليم الذي لا ينفع يوم القيامة عند الله غيره، وهو أن يكون سليما عن جميع ما يكرهه الله من إرادة ما يكرهه الله ويسخطه ولا يكون فيه سوى محبة الله وإرادته ومحبته ما يحبه الله وإرادة ذلك وكراهة ما يكرهه الله والنفور عنه.
والقلب الفاسد: هو القلب الذي فيه الميل على الأهواء المضلة والشهوات المحرمة، وليس فيه من خشية الله ما يكف الجوارح عن اتباع هوى النفس؛ فالقلب ملك الجوارح وسلطانها، والجوارح جنوده ورعيته المطيعة له المنقادة لأمره، فإذا صلح الملك صلحت رعاياه وجنوده المطيعة له المنقادة لأوامره، وإذا فسد الملك فسدت جنوده ورعاياه المطيعة له المنقادة لأوامره ونواهيه.
وقد بوب البخاري على هذا (214 - أ / ف) الحديث: باب " فضل من استبرأ لدينه ". والمقصود من إدخاله هذا الحديث في هذا الباب: أن من اتقى الأمور
المشتبهة عليه التي لا تتبين له أحلال هي أو حرام؟ فإنه مستبرىء لدينه بمعنى: أنه طالب له البراء والنزاهة مما يدنسه ويشينه؛ ويلزم من ذلك أن من لم يتق الشبهات فهو معرض دينه للدنس والشين والقدح، فصار بهذا الاعتبار الدين تارة يكون نقيا نزها بريا، وتارة يكون دنسا متلوثا. والدين يوصف تارة بالقوة والصلابة، وتارة بالرقة والضعف، كما يوصف بالنقص تارة وبالكمال تارة أخرى، ويوصف الإسلام تارة بأنه حسن وتارة بأنه غير حسن، والإيمان يوصف بالقوة تارة وبالضعف أخرى.
هذا كله إذا أخذ الدين والإسلام والإيمان بالنسبة إلى شخص شخص، فأما إذا نظر إليه بالنسبة إلى نفسه من حيث هو هو
(1)
فإنه يوصف بالنزاهة. قال أبو هريرة: الإيمان نزه، فإن زنا فارقه الإيمان، فإن لام نفسه وراجع راجعه الإيمان. خرجه الإمام أحمد في كتاب " الإيمان "
ومن كلام يحيى بن معاذ: الإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك
(2)
.
(1)
كتب في " ف " فوق " هو " الثانية علامة " صح "، حتى يدفع إيهام التكرار.
(2)
إلى هن انتهى ما بأيدينا من كتاب الإيمان، وراجع شرح المصنف على هذا الحديث في كتابه " جامع العلوم والحكم" الحديث السادس، فقد تكلم في شرحه بما لا يدع لمتعقب كلاما، فجزاه الله خير الجزاء.
بسم الله الرحمن الرحيم
قالَ البخاري - رحمه الله تعالى -:
5 -
كِتَابُ الغُسْلِ
وقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] .
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43]، إلى قوله:{عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:43] .
صدر البخاري رحمه الله ((كتاب الغسل)) بهاتين الآيتين؛ لأن غسل الجنابة مذكور فيهما.
أما قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} ، فأمر للجنب إذا قام إلى الصلاة أن يتطهر.
وتطهر الجنب هوَ غسله، كما في تطهر الحائض إذا انقطع دمها؛ ولهذا قالَ تعالى:{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنّ} [البقرة: 222] .
والمراد بتطهرهن: اغتسالهن عندَ جمهور العلماء، فلا يباح وطؤها حتى تغتسل، وسيأتي تفسير الآية في ((كتاب الحيض)) - إن شاء الله تعالى.
وأما قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] ، فنهي عن قربان الجنب الصلاة حتى يغتسل، فصرح هنا بالغسل، وهو تفسير التطهير المذكور في آية المائدة.
وهل المراد: نهي الجنب عن قربان الصلاة حتى يغتسل، إلا أن يكون مسافراً
- وهو عابر السبيل - فيعدم الماء، فيصلى بالتيمم؟ أو المراد: نهي الجنب عن قربان موضع الصلاة - وهو المسجد - إلا عابر سبيل فيهِ، غير جالس فيهِ، ولا لابث؟ هذا مما اختلف فيهِ المفسرون من السلف.
وبكل حال؛ فالآية تدل على أن الجنب ما لم يغتسل منهي عن الصلاة، أو دخول المسجد، وأن استباحة ذَلِكَ يتوقف على الغسل، فيستدل به على وجوب الغسل على الجنب إذا أراد الصلاة، أو دخول المسجد.
1 - بَابُ
الْوُضُوء قَبْلَ الغُسْلِ
خرج في حديثين:
الحديث الأول:
248 -
حديث: مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ إذا أغتسل من الجنابة بدأ بغسل يديه، ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله.
غسل اليدين [00 0] قبل الوضوء شبه غسلهما للمتوضيء قبل إدخالهما في الإناء.
وروى هذا الحديث وكيع، عن هشام، وقال في حديثه:((يغسل يديه ثلاثاً)) .
خرجه مسلم من طريقه كذلك.
واستحسن أحمد هذه الزيادة من وكيع.
وقال أبو الفضل ابن عمار: ليست عندنا بمحفوظة.
قلت: تابعه - أيضا - على ذكر الثلاث في غسل الكفين: مبارك بن فضالة، عن هشام.
خرج حديثه ابن جرير الطبري.
ومبارك، ليس بالحافظ.
وكذلك رواها ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة.
وقد رويت - أيضا - من حديث أبي سلمة، عن عائشة، وسيأتي حديثه.
وقد روي، أنه غسلهما قبل الاستنجاء، ثم استنجى، ثم دلكهما بالأرض، ثم غسلهما قبل الوضوء مرتين أو ثلاثاً، وسيأتي ذَلِكَ فيما بعد - إن شاء الله تعالى.
وقول عائشة: ((ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة)) يدل على أنه توضأ وضوءاً كاملاً، قبل غسل رأسه وجسده.
وروى أبو معاوية الضرير هذا الحديث، عن هشام، وزاد في آخر الحديث:
((ثم غسل رجليه)) .
خرجه مسلم.
وتابعه عليها محمد بن [كناسة] ، عن هشام.
خرج حديثه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ((كتاب الشافعي)) [00] .
وذكر أبو الفظل ابن عمار: أن هذه الزيادة ليست بمحفوظة.
قلت: ويدل على أنها غير محفوظة عن هشام: أن أيوب روى هذا الحديث عن هشام، وقال فيهِ: ((فقلت لهشام: يغسل رجليه بعد ذَلِكَ؟ فقالَ: وضوءه للصلاة، وضوءه للصلاة.
أي: أن وضوءه في الأول كاف.
ذكره ابن عبد البر.
وهذا يدل على أن هشاما فهم من الحديث أن وضوءه قبل الغسل كانَ كاملا بغسل الرجلين، فلذلك لم يحتج إلى إعادة غسلهما.
وقد روى حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يغتسل من الجنابة يغسل يديه ثلاثاً، ثم يأخذ بيمينه فيصب على شماله، فيغسل فرجه حتى ينقيه، ثم يغسل يده غسلا حسنا، ثم يمضمض ثلاثاً ويستنشق ثلاثاً، ويغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ثم يصب على رأسه الماء ثلاثاً، ثم يغتسل، فإذا خرج غسل قدميه.
خرجه الإمام أحمد، عن عفان، عن حماد.
وخرجه ابن جرير الطبري، من طريق حجاج بن منهال، عن حماد، به.
وفي روايته: ثم يغسل جسده غسلاً، فإذا خرج من مغتسله غسل
رجليه.
وخرجه الطبراني في ((الأوسط)) من طريق مؤمل، عن حماد، عن عطاء ابن السائب وعلي بن زيد، عن أبي سلمة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ إذا اغتسل من جنابة غسل كفيه ثلاثاً قبل أن يغمسهما في الإناء، ثم يأخذ الماء بيمينه فيصبه على شماله، ثم يغسل فرجه، ثم يمتضمض ثلاثاً ويستنشق ثلاثاً، ثم يغسل وجهه ثلاثاً، ويغسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ثم يصب على رأسه الماء واحداً واحداً، فإذا خرج من مغتسله غسل قدميه.
وخرجه النسائي بمعناه، ولم يذكر غسل رجليه في الآخر، وعنده: أنه صب على رأسه ثلاثاً.
وفي رواية لهُ: ((ملء كفيه)) .
وروى الإمام أحمد: ثنا هشيم: أنا خالد، عن رجل من أهل الكوفة، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من مغتسله حيث يغتسل من الجنابة يغسل قدميه.
وروى الأوزاعي، قالَ: حدثني يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة - وحدثني عمرو بن سعد، عن نافع مولى ابن عمر -، أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغسل من الجنابة.
قالَ الأوزاعي: واتفقت الأحاديث على هذا، يبدأ فيفرغ على يده اليمنى مرتين أو ثلاثاً، ثم يدخل يده اليمنى في الإناء،
فيصب بها على فرجه، ويده اليسرى على
فرجه، فيغسل ما هنالك حتى ينقيه، ثم يضع اليسرى على التراب إن شاء، ثم يصب على يده اليسرى حتى ينقيها، ثم يغسل يديه ثلاثا ويستنشق ويمضمض ويغسل وجهه وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، حتى إذا بلغ رأسه لم يمسحه، وأفرغ عليهِ الماء، وهكذا كانَ
[غسل] رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما ذكر لنا.
خرجه النسائي.
وهذا مما رواه الأوزاعي بالمعنى الذي فهمه من حديث عائشة وحديث عمر، وليس هوَ لفظ حديثهما، ولكنه إلى لفظ حديث عمر أقرب؛ فإن حديث عمر روي بمعنى مقارب لما قاله الأوزاعي من غير طريقه.
خرجه الإمام أحمد من طريق شعبة، عن عاصم بن عمرو البجلي، عن رجل حدثه، أنهم سألوا عمر عن غسل الجنابة، وعن صلاة التطوع في البيت، وعما يصلح للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقالَ: لقد سألتموني عن شيء ما سألني عنه أحد منذ سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالَ: ((صلاة الرجل في بيته تطوعا نور، فمن شاء نور
بيته)) ، وقال - في الغسل من الجنابة -:((يغسل فرجه، ثم يتوضأ، ثم يفيض على رأسه ثلاثاً)) ، وقال - في الحائض -:((ما فوق الإزار)) .
وخرجه الإسماعيلي في ((مسند عمر)) ، من طريق أخرى، عن عاصم.
وفي بعض رواياته: ((توضأ وضوءك للصلاة، ثم أفض الماء على رأسك، ثم على جسدك، ثم تنح من مغتسلك فاغسل رجليك))
وفي رواية لهُ: عن عاصم، عن عمير مولى عمر، أن نفراً سألوا عمر - فذكر الحديث، وقال في حديثه -:((وأما الغسل فتفرغ بشمالك على يمينك، ثم تدخل يدك في الإناء، ثم تغسل فرجك وما أصابك، ثم تفرغ على رأسك ثلاث مرات، تدلك رأسك كل مرة، ثم تغسل سائر جسدك)) .
ورواه ابن أبي ليلى، عن عاصم بن عمر البجلي، عن عمر بن شرحبيل وهو: أبو ميسرة -، عن عمر - وقد ذكر الحديث، وقال فيهِ -:((وأما الغسل من الجنابة، فصب بيمينك على شمالك واغسلها واغسل فرجك، وتوضأ وضوءك للصلاة، ثم أفض على رأسك وجسدك، ثم تحول فاغسل قدميك)) .
خرجه الإسماعيلي.
وقد فهم الأوزاعي من حديث عمر وعائشة، أن الوضوء يكون ثلاثاً ثلاثاً إلى مسح الرأس، ولا يمسح الرأس، بل يصب عليهِ الماء ثلاث مرات، فيكتفي بغسله للجنابة عن مسحه، ثم يصب الماء على سائر جسده، ويغسل رجليه.
فأما القول باستحباب تثليث الوضوء قبل غسل الجنابة، فقد نص عليهِ سفيان الثوري وإسحاق بن رهوايه وأصحابنا، ولم ينص أحمد إلا على تثليث غسل كفيه ثلاثاً، وعلى تثليث صب الماء على الرأس.
وأما القول بأنه لا يمسح رأسه، بل يصب عليهِ الماء صباً، ويكتفي بذلك عن مسحه وغسله للجنابة، فهذا قد روي صريحاً عن ابن عمر.
ونص عليهِ إسحاق بن راهويه -: نقله عنه حرب.
ونقله أبو داود، عن أحمد.
ونقل عنه، قالَ: لا يغسل رجليه قبل الغسل.
وروي عن ابن عمر، أنه قالَ: توضأ وضوءك للصلاة، إلا رجليك. وظاهر هذا: أنه يمسح رأسه، ولا يغسل رجليه، وهو قول الثوري وغيره من العلماء.
والاكتفاء بغسل الرأس عن مسحه يدل على أن غسل الرأس في الوضوء يجزىء عن مسحه، لكنه في الوضوء المفرد مكروه، وفي الوضوء المقرون بالغسل غير مكروه.
وذهبت طائفة من العلماء إلى أنه يكمل وضوءه كله، بمسح رأسه، وغسل قدميه قبل الغسل، وهو المشهور عندَ أصحابنا، وهو قول الخلال وصحابه أبي بكر، وهو قول مالك والشافعي في أشهر قوليه؛ لظاهر حديث عائشة الذي خرجه البخاري هاهنا.
وقالوا: حديث عائشة، حكاية عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم الدائم في غسله للجنابة، وأما ميمونة التي روت تأخير غسل رجليه، فإنها حكت غسلة في واقعة عين، ولكن قد تبين أنه روي عن عائشة ما يوافق حديث ميمونة في تأخير غسل القدمين،
ولم يأت عنها ولا عن غيرها التصريح بمسح الرأس في الوضوء.
ونص أحمد - في رواية جماعة - على أنه مخير بين تكميل الوضوء أولاً، وبين تأخير غسل الرجلين إلى أن يكمل الغسل.
وحكي للشافعي في تكميل الوضوء أولاً قبل الغسل قولان:
نقل عنه البويطي: تأخير غسل الرجلين.
والأصح عندَ أصحابه: التكميل.
وقال سفيان الثوري: يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً إلى أن ينتهي إلى رأسه، فيمسحه مرة، ثم يفيض عيه ثلاثاً، ويبالغ بالماء اصول الشعر، وغسل لحيته وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، ثم يفرغ على سائر جسده من الماء، ثم يتنحى عن مكانه، فيغسل قدميه.
هكذا حكى أصحابه عنه في كتبهم.
والذين قالوا: يكمل وضوءه قبل الغسل، قالوا: لا يعيد غسل قدميه بعده.
قاله إبراهيم النخعي ومسلم بن يسار وهشام بن عروة وأبو الأسود يتيم عروة، ونص عليهِ أحمد.
ومن أصحابنا من قالَ: يستحب إعادة غسل قدميه إذا انتقل من مكانه، تطهيراً لهما وتنظيفاً.
وحكى الترمذي في ((كتابه)) ذَلِكَ عن أهل العلم.
وفيه نظر.
وقد كانَ الشعبي إذا خرج من الحمام يخوض ماء
الحمام، ولا يغسل قدميه.
وروى ابن أبي شيبة، عن الأسود بن عامر، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما يغتسل يخرج من الكنيف، يغسل قدميه.
وخرجه عنه بقي بن مخلد في ((مسنده)) .
وهو مختصر من حديث صفة الغسل الذي سبق ذكره.
وذكر الكنيف فيهِ غريب.
الحديث الثاني:
249 -
من رواية: الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: توضأ النبي صلى الله عليه وسلم وضوءه للصلاة، غير رجليه، وغسل فرجه وما أصابه من الأذى، ثم أفاض عليهِ الماء، ثم نحى رجليه فغسلهما، هذه غسله من الجنابة.
خرجه عن الفريابي، عن الثوري، عن الأعمش، هكذا.
وفيه: التصريح بأنه لم يغسل رجليه في أول وضوئه، بل أخر غسل رجليه حتى فرغ من غسله.
وخرجه فيما سيأتي - إن شاء الله تعالى - من حديث ابن عيينة،
عن الأعمش، وقال في حديثه:((فتوضأ وضوءه للصلاة ن فلما فرغ من غسله غسل رجليه)) .
وهذه الرواية تحتمل أن يكون أعاد غسل رجليه لما أصابهما من التراب، حيث كانَ يغتسل على الأرض في مكان غير مبلط ولا مقير، لكن رواية سفيان صريحة باستثناء غسل رجليه في أول الوضوء.
وخرجه - أيضاً - من طريق حفص بن غياث، عن الأعمش، وفي حديثه:((ثم تمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه وأفاض الماء على رأسه، ثم تنحى فغسل قدميه)) .
وهذه الرواية تدل على أنه لم يمسح رأسه، ولا غسل قدميه أولاً في الوضوء، بل أفاض الماء على رأسه عندَ مسحه.
وخرجه - أيضاً - من طريق عبد الواحد، عن الأعمش، وفي حديثه:((ثم غسل رأسه ثلاثاً، ثم أفرغ على جسده، ثُمَّ تنحى من مقامه فغسل رجليه)) .
وخرجه من طريق أبي عوانة والفضل بن موسى وأبي حمزة، عن الأعمش،
كذلك، إلا أنه لم يذكر التثليث في غسل رأسه.
وقد رواه وكيع، عن الأعمش، فذكر في حديثه: أنه غسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً.
خرجه من طريقه الإمام أحمد وابن ماجه.
وقوله في هذه الرواية: ((هذا غسله من الجنابة)) ، مما يشعر بأنه ليس من تمام حديث ميمونة.
وقد رواه زائدة، عن الأعمش، وذكر فيهِ: أن غسل الجنابة إنما هوَ من قول سالم بن أبي الجعد.
خرجه من طريقه ابن جرير الطبري والإسماعيلي في ((صحيحه)) .
وقد خرج البخاري الحديث في موضع آخر، من رواية سفيان الثوري، عن الأعمش، بأبسط من هذا السياق، وفيه: عن ميمونة، قالت:((سترت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل من الجنابة)) - فذكر الحديث.
وخرجه - أيضاً - من رواية ابن عيينة، عن الأعمش، ولفظه:((أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل من الجنابة، فغسل فرجه)) -، وذكر الحديث.
ومن رواية الفضل بن موسى، عن الأعمش، وفي حديثه:((وضع النبي صلى الله عليه وسلم وضوءاً للجنابة، فأكفأ بيمينه على شماله)) - وذكر الحديث.
وفي هذين الحديثين: دليل على استحباب الوضوء قبل الاغتسال من الجنابة، وأنه لا يؤخر كله إلى بعد كمال الغسل.
وقد روي عن الأسود، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ لا يتوضأ بعد الغسل.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي.
وقال: حسن صحيح.
وسئل ابن عمر عن الوضوء بعد الغسل؟ فقالَ: وأي وضوء أعم من الغسل.
وخرجه الطبراني والحاكم، عنه مرفوعاً. ووقفه أصح.
وعن جابر بن عبد الله، قالَ: يكفيك الغسل.
وروي إنكاره عن ابن مسعود - أيضاً.
وروي عن أصحاب ابن مسعود: علقمة وغيره.
وعن سعيد بن جبير والنخعي:
وروي عن حذيفة من وجه منقطع إنكار الوضوء مع الغسل.
وكذا روي عن الشعبي، أنه كانَ لا يرى الوضوء في الغسل من الجنابة.
ولكن قد صحت السنة - بالوضوء قبل الغسل.
وأما الوضوء بعد الغسل، فلم يصح فيهِ شيء.
وروي الرخصة فيهِ عن علي رضي الله عنه.
وأنكر صحة ذَلِكَ عنه: النخعي.
ونقل يعقوب بن بختان، عن أحمد في الحائض: أنها إن شاءت
أخرت الوضوء عن الغسل، وإن شاءت بدأت به.
ولعل هذا يختص بغسل الحيض.
وكذا قالَ أصحاب الشافعي: إن الجنب مخير، إن شاء توضأ قبل الغسل، وإن شاء بعده.
وأما إن نسي الوضوء قبل الغسل، فإنه يتوضأ بعد الغسل -: نص عليهِ أحمد ومالك وغير واحد.
واصل هذا: أن الجمع بين الوضوء والغسل هوَ السنة عندَ الجمهور، لكن الأفضل: أن يتوضأ قبل الغسل، ثم يغتسل على ما سبق من صفة الوضوء مع الغسل.
فإن اغتسل ولم يتوضأ، فهل يرتفع حدثاه بذلك، أم لا يرتفع إلا حدثه الأكبر خاصة، ويبقى حدثه الأصغر، فلا يستبيح الصلاة بدون تجديد الوضوء؟
هذا فيهِ قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد.
أشهرهما: أنه يرتفع حدثاه بذلك، إذا نوى بغسله رفع الحدثين جميعاً.
والثانية: لا يرتفع حدثه الأصغر بدون الوضوء.
وحكي عن مالك وأبي ثور وداود.
فإذا اغتسل ولم يتوضأ ارتفع حدثه الأكبر، ولم يرتفع الأصغر حتى يتوضأ.
ومن حكى عن أبي ثور وداود: أن الحدث الأكبر لا يرتفع بدون الوضوء مع الغسل، فالظاهر: أنه غالط عليهما.
وقد حكى ابن جرير وابن عبد البر وغيرهما الإجماع على خلاف ذلك.
ومذهب الشافعي: أنه يرتفع حدثاه بنية رفع الحدث الأكبر خاصة، ولا يحتاج إلى نية رفع الحدث الأصغر.
وذهب إسحاق وطائفة من أصحابنا، كأبي بكر عبد العزيز بن جعفر: إلى أنه لا يرتفع الحدث الأصغر بالغسل وحده، حتى يأتي فيهِ بخصائص الوضوء، من الترتيب والمولاة.
وأما المضمضمة والاستنشاق، فقد ذكرنا حكهما في الوضوء فيما سبق.
وأما في الغسل، فهما واجبان فيهِ عندَ أبي حنيفة، والثوري، وأحمد - في المشهور عنه.
وعنه: يجب الاستنشاق وحده.
واختلف أصحابنا: هل يجب المبالغة فيهما في الغسل، إذا قلنا: لا يجب ذَلِكَ في الوضوء، أم لا؟ على وجهين.
ومذهب مالك والشافعي: أن المضمضمة والاستنشاق سنة في الغسل كالوضوء.
2 - بَابُ
غُسْلِ الرَّجلِ مَعَ امرَأَتِهِ
خرج فيهِ:
250 -
حديث: الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: كنت اغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، من قدح، يقال لهُ: الفرق.
هذا الحديث، قد ذكرناه فيما سبق في ((باب: الوضوء بالمد)) ، وتكلمنا عليهِ بما فيهِ كفاية، فأغنى ذَلِكَ عن إعادته هاهنا.
وذكرنا حكم اغتسال الرجل مع امرأته في ((باب: وضوء الرجل مع المرأة)) .
3 - بَابُ
الغُسْلِ بِالصَّاعِ ونَحْوه
خرج فيهِ ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
251 -
من رواية: عبد الصمد، عن شعبة، حدثني أبو بكر بن حفص، قالَ: سمعت أبا سلمة يقول: دخلت أنا وأخو عائشة على عائشة رضي الله عنها فسألها أخوها عن غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعت بإناء نحو من صاع، فاغتسلت وأفاضت على رأسها وبيننا وبينها حجاب.
قالَ أبو عبد الله: وقال يزيد بن هارون وبهز والجدي، عن شعبة: قدر الصاع.
هذا الحديث، خرجه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون، عن شعبة - مختصراً - وفي حديثه:((قدر صاع)) - كما أشار إليه البخاري.
وخرجه مسلم من طريق معاذ العنبري، عن شعبة، وفي حديثه: ((قدر
صاع)) - أيضاً.
ولفظه: عن أبي سلمة، قالَ: دخلت على عائشة أنا وأخوها من الرضاعة، فسألها عن غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنابة، فدعت بإناء قدر الصاع، فاغتسلت، وبيننا وبينها ستر، وأفرغت على رأسها ثلاثاً. قالَ:
وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يأخذن من رءوسهن حتى يكون كالوفرة.
والمقصود من إيراد هذا الحديث في هذا الباب: أن عائشة لما سئلت عن غسل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم دعت بإناء قدر الصاع، فاغتسلت به - وفي رواية:((نحو الصاع)) -، وهذا مما يدل على أن تقدير ماء الغسل ليس هوَ على وجه التحديد، بل على التقريب، وقد سبق التنبيه عليهِ.
قالَ القرطبي: ظاهر هذا الحديث أنهما - يعني: أبا سلمة وأخا عائشة - أدركا عملها في رأسها وأعلى جسدها، مما يحل لذي المحرم أن يطلع عليهِ من ذوات محارمه، وأبو سلمة ابن أخيها نسباً، والآخر أخوها من الرضاعة، وتحققا بالسماع كيفية غسل ما لم يشاهداه من سائر الجسد، ولولا ذَلِكَ لاكتفت بتعليمهما بالقول، ولم تحتج إلى ذَلِكَ الفعل.
قالَ: وإخباره عن كيفية شعور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يدل على رؤيته شعرها، وهذا لم يختلف في جوازه لذي المحرم، إلا ما يحكى عن ابن عباس، من كراهة ذَلِكَ. انتهى.
وقوله: ((إن أبا سلمة كانَ ابن أخيها نسباً)) ، غلط ظاهر؛ لأن أبا سلمة هوَ ابن عبد الرحمان بن أبي بكر هوَ القاسم.
والظاهر: أن أبا سلمة كانَ إذ ذاك صغيراً دون البلوغ، والآخر كانَ أخاها من الرضاعة.
وقد اختلف العلماء: فيما يباح للمحرم أن ينظره من محارمه من النساء:
هل هوَ ما يظهر غالباً في البيوت، كالرأس واليدين والذراعيين
والساقين والوجه والرقبة والشعر؟ أو ما ليس بعورة، وهو الوجه والكفان؟ أو الوجه فقط؟
أو لهُ النظر إلى ما عدا ما بين السرة والركبة؟
وفي ذَلِكَ خلاف مشهور في مذهب الإمام أحمد وغيره.
وكذلك اختلفوا: في الصبي المميز، إذا كانَ ذا شهوة: هل هوَ من كالمحرم؟
أو كالأجنبي البالغ؟
وفيه روايتان عن أحمد.
وقد روى هذا الحديث ابن وهب، عن أسامة بن زيد، أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي حدثه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمان، قالَ: دخلت على عائشة، فقلت لها: كيف غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنابة؟ فقالت: أدخل معك يا ابن أخي رجلاً من بني أبي القعيس - من بني أخيها من الرضاعة -، فأخبر أبا سلمة بما تصنع، فأخذت إناء فأكفأته ثلاث مرات على يدها، قبل أن تدخل يدها فيهِ، فقالَ: صبت على يدها من الإناء يا أبا سلمة ثلاث مرات قبل أن تدخل يدها. فقالت: صدق، ثم مضمضت واستنثرت، فقالَ: هي تمضمض وتستنثر. فقالت: صدق، ثم غسلت وجهها ثلاث مرات، ثُمَّ حفنت على رأسها ثلاث حفنات، ثم قالت بيدها في الإناء جميعاً، ثم نضحت على كتفيها ومنكبيها، كل ذَلِكَ تقول إذا أخبر ابن أبي القعيس ما تصنع: صدق.
خرجه بقي بن مخلد وابن جرير الطبري.
وهذا سياق غريب جداً.
وأسامة بن زيد الليثي، ليس بالقوي.
وهذه الرواية تدل على أن ابن أخيها من الرضاعة اطلع على غسلها، وهذا يتوجه على قول من أباح للمحرم أن ينظر إلى ما عدا ما بين السرة
والركبة، وهو قول ضعيف شاذ.
ورواية ((الصحيحين)) تخالف ذَلِكَ، وتدل على أن أبا سلمة وأخا عائشة كانا جميعاً من وراء حجاب.
وروى الإمام أحمد: ثنا إسماعيل - هوَ: ابن علية -: نا يونس، عن الحسن، قالَ: قالَ: رجل: قلت لعائشة: ما كانَ يقضي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسله من الجنابة؟ قالَ: فدعت بإناء؛ حزره صاعاً بصاعكم هذا.
وهذا الإسناد فيهِ انقطاع.
وقوله: ((بصاعكم هذا)) ، ربما أشعر بأنه الصاع الذي زيد فيهِ في زمن بني أمية، كما سبق ذكر ذَلِكَ في ((باب: الوضوء بالمد)) .
هذا يشهد لحديث مجاهد، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يغتسل بنحو ثمانية أرطال - وفي رواية: أو تسعة، أو عشرة -، وقد سبق ذكره - أيضاً.
الحديث الثاني:
252 -
خرجه من رواية: أبي إسحاق: نا أبو جعفر، أنه كانَ عندَ جابر بن
عبد الله، هوَ وأبوه، وعنده قوم، فسألوه عن الغسل، فقالَ: يكفيك صاع.
فقالَ رجل: ما يكفيني. فقالَ جابر: كانَ يكفي من هوَ أوفى منك شعراً وخيراً منك. ثم أمنا في ثوب واحد.
((أبو جعفر)) ، هوَ: محمد بن علي بن حسين.
وأبوه: علي بن حسين زين العابدين.
وفي هذا: دلالة على أن سادات أهل البيت كانوا يطلبون العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما كانَ يطلبه غيرهم، فدل ذَلِكَ كذب ما تزعمه الشيعة، أنهم غير محتاجين إلى أخذ العلم عن غيرهم، وأنهم مختصون بعلم، يحتاج الناس كلهم إليه، ولا يحتاجون هم إلى أحد، وقد كذبهم في ذَلِكَ جعفر بن محمد وغيره من علماء أهل البيت رضي الله عنهم.
وخرج النسائي هذا الحديث، بهذا الإسناد، ولفظه: عن أبي جعفر، قالَ: تمارينا في الغسل عندَ جابر بن عبد الله، فقالَ جابر: يكفي من الغسل من الجنابة صاع من الماء. قلنا: ما يكفي صاع، ولا بد صاعان، فقالَ جابر: قد كانَ يكفي من كانَ خيراً منكم، وأكثر شعراً.
ومراده بذلك: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روي يزيد بن أبي زياد، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر، قالَ: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع، ويتوضأ بالمد.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود.
وفي رواية لأحمد: قالَ النبي صلى الله عليه وسلم: ((يجزىء من الوضوء المد، ومن الجنابة
الصاع)) . فقالَ رجل: ما يكفيني. قالَ: قد كفى من هوَ خير منك وأكثر شعراً
[رسول الله صلى الله عليه وسلم] .
وخرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) والحاكم من رواية حصين، عن سالم، عن جابر - نحوه.
ففي رواية سالم رفع أول الحديث، مع أنه روي أوله موقوفاً - أيضاً - من حديثه، كما في رواية أبي جعفر.
ولعل وقف أوله أشبه، وأما آخره فمرفوع.
وقد قيل: إن هذا الرجل الذي قالَ لجابر: ((ما يكفيني)) هوَ الحسن بن محمد ابن الحنفية، وهو أول من تكلم بالإرجاء.
وقيل: إنه كانَ يميل إلى بعض مذاهب الإباضية في كثرة ىاستعمال الماء في الطهارة.
والذي في ((صحيح مسلم)) من حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، قالَ: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة صب على رأسه ثلاث حفنات من ماء. فقالَ لهُ الحسن بن محمد: إن شعري كثير؟ قالَ جابر. فقلت لهُ: يا بن أخي، كانَ شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من شعرك، وأطيب.
فليس في هذه الرواية ذكر الصاع، بل ذكر الثلاث حفنات.
وقد خرجه البخاري من طريق معمر بن سام، عن أبي جعفر محمد بن علي، عن جابر - بمعناه.
فقد تبين بهذا: أن الذي استقبل الثلاث حثيات في الغسل هوَ محمد بن الحسن ابن الحنيفة، وأما الذي استقبل الصاع، فيحتمل أنه هوَ، وأنه غيره والله أعلم.
الحديث الثالث:
قالَ البخاري:
253 -
نا أبو نعيم: ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن جابر بن زيد، عن ابن
عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد.
قالَ أبو عبد الله: كانَ ابن عيينة يقول - أخيراً -: ((عن ابن عباس، عن
ميمونة)) .
والصحيح: ما روى أبو نعيم.
هذا الذي ذكره البخاري رحمه الله: أن الصحيح ما رواه أبو نعيم عن ابن عيينة، بإسقاط ميمونة من هذا الإسناد فيهِ نظر، وقد خالفه أكثر الحفاظ في ذَلِكَ.
وخرجه مسلم عن قتيبة وأبي بكر بن أبي شيبة - جميعاً -، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس، قالَ: أخبرتني ميمونة، أنها كانت تغتسل هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في إناء واحد.
وخرجه الترمذي عن ابن أبي عمر، عن سفيان كذلك، وعنده:((من إناء واحد)) .
وكذلك رواه الإمامان: الشافعي وأحمد، عن ابن عيينة.
وذكر الإسماعيلي في ((صحيحه)) ممن رواه عن ابن عيينة كذلك: المقدمي، وابنا أبي شيبة، وعباس النرسي، وإسحاق الطالقاني، وأبو خيثمة، وسريج بن يونس، وابن منيع، والمخزومي، عبد الجبار، وابن البزاز، وأبوهمام، وأبو موسى الأنصاري، وابن وكيع، والأحمسي.
قالَ: وهكذا يقول ابن مهدي - أيضاً -، عن ابن عيينة.
قالَ: وهذا أولى؛ لأن ابن عباس لا يطلع على النبي صلى الله عليه وسلم وأهله يغتسلان، فالحديث راجع إلى ميمونة.
وذكر الدارقطني في ((العلل)) : أن ابن عيينة رواه عن عمرو، وقال فيهِ:
((عن ميمونة)) ، ولم يذكر أن ابن عيينة اختلف عليهِ في ذَلِكَ.
وهذا كله مما يبين أن رواية أبي نعيم التي صححها البخاري وهم.
وإنما ذكر الدارقطني: أن ابن جريج خالف ابن عيينة، فرواه عن عمرو، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يغتسل بفضل ميمونة.
قالَ: وقول ابن جريج أشبه.
كذا قالَ؛ وحديث ابن جريج هذا خرجه مسلم من طريقه، قالَ: أخبرني عمرو بن دينار، قالَ: أكثر علمي، والذي يخطر على بالي أن ابا الشعثاء أخبرني، أن ابن عباس أخبره: أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يغتسل
بفضل ميمونة.
وهذا لا يرجح على رواية ابن عيينة؛ لأن ذكر أبي الشعثاء في إسناده مشكوك
فيهِ، ولو قدر أنه محفوظ فلفظ الحديث مخالف للفظ حديث ابن عيينة؛ فإن حديث ابن عيينة فيهِ اغتسالهما من إناء واحد، وحديث ابن جريج فيهِ اغتساله صلى الله عليه وسلم بفضل ميمونة، وهما حديثان مختلفان.
وهذا الحديث لا يدخل في هذا الباب، إنما يدخل في ((باب: غسل الرجل مع امرأته)) ، وقد بوب البخاري على ذَلِكَ فيما سبق، وخرج فيهِ حديث عائشة، وخرج - أيضا - فيهِ حديث عائشة من وجه آخر عنها، يأتي، وحديث أنس.
وخرج حديث أم سلمة في ذَلِكَ في ((كتاب: الحيض)) .
ولكن حديث عائشة المتقدم، فيهِ أنهما كانا يغتسلان من إناء واحد، من قدح، يقال لهُ: الفرق، وتقدم تفسير ((الفرق)) ، وأنه ستة عشر رطلاً.
وهذا يدل على جواز الزيادة على الصاع في الغسل.
وقد سبق وحه الجمع بين هذا الحديث، وحديث الغسل بالصاع.
4 - بَابُ
مَنْ أفَاضَ عَلَى رَأسِهِ ثَلاثَاً
خرج فيهِ ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
254 -
من رواية: أبي إسحاق: حدثني سليمان بن صرد، قالَ: حدثني جبير بن مطعم، قالَ: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثاً)) - وأشار بيديه كلتيهما.
وخرجه مسلم، ولفظه: تماروا في الغسل عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالَ بعض القوم: أما أنا، فإني أغسل كذا وكذا، فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أما أنا، فإني أفيض على رأسي ثلاث أكف)) .
وفي لفظ آخر - خرجه الإمام أحمد -: فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما أنا، فآخذ ملء كفي من الماء ثلاثاً، فأصب على رأسي، ثم أفيض بعد على سائر جسدي)) .
وقد أسقط بعضهم من إسناد هذا الحديث: ((جبير بن مطعم)) ، وجعله من مسند سليمان بن صرد.
وزاد بعضهم في إسناده: ((نافع بن جبير بن مطعم)) ، بين سليمان وجبير.
وكلاهما وهم -: ذكره الدارقطني وغيره.
الحديث الثاني:
255 -
من طريق: شعبة، عن مخول بن راشد، عن محمد بن علي، عن جابر، قالَ: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يفرغ على رأسه ثلاثاً.
الحديث الثالث:
قالَ البخاري:
256 -
نا أبو نعيم: نا معمر بن يحيى بن سام: حدثني أبو جعفر: قالَ لي جابر: أتاني ابن عمك - يعرض بالحسن بن محمد ابن الحنفية -، قالَ: كيف الغسل من
الجنابة؟ فقلت: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ ثلاث أكف، فيفيضها على رأسه، ثم يفيض على سائر جسده، فقالَ لي الحسن: إني رجل كثير الشعر، فقلت: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم أكثر منك شعراً.
وقد خرجه مسلم من حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، بمعناه، وقد تقدم لفظه.
وخرج مسلم - أيضاً - من حديث أبي سفيان، عن جابر، أن وفد ثقيف سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن أرضنا أرض باردة، فكيف بالغسل؟ فقالَ:((أما أنا فأفرغ على رأسي ثلاثاً)) .
وقد سبق عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كانَ يصب على رأسه ثلاثاً، من حديث عائشة وميمونة - أيضاً.
وقد روي، أنه صلى الله عليه وسلم كانَ يبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم ألأيسر.
خرجه البخاري من حديث القاسم، عن عائشة، قالَت: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، فأخذ بكفيه، فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، فقالَ بهما على وسط رأسه.
وخرجه مسلم، وعنده: فأخذ بكفيه، فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه، فقالَ بهما على رأسه.
والظاهر: - والله أعلم -: أنه كانَ يعم رأسه بكل مرة، ولكن يبدأ في الأولى بجهة اليمين، وفي الثانية بجهة اليسار، ثم يصب الثالثة على الوسطى.
وقد زعم بعضهم، أنه لم يكنَ يعم رأسه بكل مرة، بل كانَ يفرغ واحدة على شقه الأيمن، وواحدة على شقه الأيسر، ويجعل الثالثة للوسط من غير تعميم للرأس بكل واحدة.
هكذا ذكره القرطبي وغيره ممن لا يستحب التثليث في الغسل، وهو خلاف الظاهر.
وقد روي من حديث عمر - مرفوعاً -، أنه يدلك رأسه في كل مرة، وقد ذكرناه فيما تقدم.
وقد ذكره البخاري فيما بعد: ((باب: من بدأ بشق رأسه الأيمن في الغسل)) .
وخرج فيهِ حديث صفية بنت شيبة، عن عائشة، قالت: كنا إذا
أصاب أحدنا جنابة أخذت بيدها ثلاثاً فوق رأسها، ثم تأخذ بيدها على شقها الأيمن، وبيدها الأخرى على شقها الأيسر.
وخرجه أبو داود، ولفظه: كانت إحدانا إذا أصابتها جنابة أخذت ثلاث حفنات هكذا - تعني: بكفيها جميعاً -، فصب على رأسها، وأخذت بيد واحدة فتصبها على هذا الشق، والأخرى على الشق الآخر.
وظاهر هذا: أن المرأة يستحب لها بعد أن تصب على رأسها ثلاثاً أن تأخذ حفنة بيدها، فتصبها على شق رأسها الأيمن، ثم تأخذ حفنة أخرى فتصبها على شقه الأيسر، فيصير على رأسها خمس حفنات.
وقد روي هذا صريحاً عن عائشة من وجه آخر، من رواية صدقة بن سعيد الحنفي: نا جميع بن عمير - أحد بني تيم الله بن ثعلبة -، قالَ: دخلت مع أمي وخالتي على عائشة، فسألتها إحداهما: كيف كنتم تصنعون عندَ الغسل؟ فقالت عائشة: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض على رأسه ثلاث مرات، ونحن نفيض على رؤسنا خمساً من أجل الضفر.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
وجميع، قالَ البخاري: فيهِ نظر. [و] قالَ أبو حاتم الرازي: هوَ من عتق الشيعة، محله الصدق، صالح الحديث. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه
لا يتابعه عليهِ أحد.
وذكره ابن حبان في ((كتاب الثقات)) ، ثم ذكره في ((كتاب الضعفاء)) ، ونسبه إلى الكذب.
وصدقة بن سعيد، قالَ البخاري: عنده عجائب. وقال أبو حاتم: شيخ، وقال الساجي:
ليس بشيء. وذكره ابن حبان في ((الثقات)) .
وقد تابعه العلاء بن صالح، فرواه عن جميع، ولكن قالَ: جميع بن كثير، عن عائشة، فوقفه ولم يرفعه.
خرجه عنه أبو نعيم الفضل بن دكين في ((كتاب الصلاة)) .
وقال الدارقطني: المرفوع أشبه.
وقد روي ما يخالف هذا، وأن المرأة تفرغ على رأسها ثلاثاً من غير زيادة:
ففي ((صحيح مسلم)) ، عن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ فقالَ:((لا، إنما يكفيك ن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضن عليك الماء فتطهرين)) .
وفيه - أيضاً -، عن أبي الزبير، عن عبيد بن عمير، قالَ: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو بن العاص يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤسهن، فقالت: يا عجباً لابن عمرو هذا! يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤسهن! أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟!
لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث
إفراغات.
وخرجه النسائي، وعنده: فأفيض على رأسي ثلاث إفراغات، ولا أنقض لي شعراً.
وفي ((سنن أبي داود)) ، عن ثوبان، أنهم استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الغسل من الجنابة، فقالَ:((أما الرجل فلينشر رأسه، فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه، لتغرف على رأسها ثلاث غرفات بكفيها)) .
وأكثر العلماء على أن المرأة لا تنقض رأسها لغسلها من الجنابة، وروي عن طائفة يسيرة، أنها تنقضه، منهم: عبد الله بن عمرو بن العاص، والنخعي، وأبو بكر بن أبي شيبة.
وهذا إذا وصل الماء إلى بواطن الشعر، فإن لم يصل إلى دواخله بدون النقض ففي وجوب نقضه؛ لغسل باطن الشعر قولان:
أحدهما: أنه واجب، وهو قول حماد ومالك والشافعي وأكثر أصحابنا، وهو رواية عن أبي حنيفة.
وروي عن ابن عباس، قالَ: لو اغتسل إنسان من الجنابة، فبقيت شعرة لم يصبها الماء، لم يزل جنباً حتى يصيبها الماء.
خرجه أبو نعيم الفضل: ثنا مندل، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد ابن جبير، عنه.
ومندل، فيهِ ضعف.
والثاني: لا يجب، وحكي عن مالك، وأبي حنيفة، والخرقي من أصحابنا، ورجحه صاحب ((المغني)) منهم.
وهؤلاء حعلوا الشعر كالمنفصل
عن البدن، ولم يوجبوا سوى إيصال الماء إلى بشرة الرأس خاصة.
وفرقت طائفة بين الرجال والنساء، فأوجبوا النقض على الرجل دون المرأة؛ لحديث ثوبان -: حكاه القرطبي وغيره.
وهذا هوَ الصحيح من مذهب أبي حنيفة، وأن الرجل يجب عليهِ نقض شعره بخلاف المرأة.
لكن قالوا: إن كانَ شعر المرأة غير مضفور وجب غسله، كما يجب غسل شعر لحية الرجل.
ونقل مهنا، أحمد، أن المرأة في غسل الجنابة كالرجل.
وظاهر هذا: يدل على أن حكمهما في نقض الشعر سواء، وفي عدد حثيات المرأة على رأسها كالرجال سواء، لا تزيد على ثلاث.
5 - بَابُ
الغُسْلِ مَرَّةً وَاحدَةً
257 -
نا موسى بن إسماعيل: نا عبد الواحد، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، قالَ: قالت ميمونة: وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماء للغسل، فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً، ثُمَّ أفرغ على شماله، فغسل مذاكيره، ثم مسح [يده] بالأرض واستنشق، وغسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده، ثم تحول من مكانه، فغسل قدميه.
مراده بهذا الحديث في هذا الباب: أن ميمونة حكت غسل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تذكر في غسل شيء من أعضائه عدداً؛ إلا في غسل يديه في ابتداء الغسل - مع شك الراوي: هل كانَ غسلهما مرتين أو ثلاثاً، وهذا الشك هو من الأعمش كما سيأتي بيانه في رواية أخرى، إن شاء الله تعالى -، واطلقت الغسل في الباقي، فظاهره: أنه لم يكرر غسل شيء من جسده بعد ذَلِكَ، لا في الوضوء ولا في الغسل بعده.
ولكن قد خرج البخاري هذا الحديث - فيما بعد -، عن محمد بن محبوب، عن عبد الواحد، عن الأعمش، به، وقال فيهِ - بعد غسل وجهه ويديه -:((ثم غسل رأسه ثلاثاً، ثم أفرغ على جسده)) .
وخرجه في مواضع أخر، من طرق أخرى، عن الأعمش، وذكر فيها: غسل رأسه - ولم يذكر عدداً.
وقد تقدم: أن وكيعاً رواه عن الأعمش، وذكر فيهِ: غسل وجهه ويديه ثلاثاً، وأفاض على رأسه ثلاثاً.
وخرجه عنه الإمام أحمد.
وقد روى مسلم في ((صحيحه)) من حديث عيسى بن يونس، عن الأعمش في هذا الحديث، أنه أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه.
وعلى هذه الروايات: إنما ينبغي أن يدخل هذا الحديث في الباب الماضي.
وقد أختلف العلماء في استحباب غسل البدن كله في الغسل من الجنابة ثلاثاً:
فمنهم: من استحبه، وهو قول إسحاق بن راهويه وكثير من أصحابنا وأصحاب الشافعي وأبي حنيفة.
وروى وكيع في ((كتابه)) ، عن أبي مكين، عن أبي صالح مولى أم هانيء، عن أم هانىء، قالت: إذا اغتسلت من الجنابة فاغسل كل عضو ثلاثاً.
أبو صالح، هوَ باذان، وهو ضعيف جداً.
ورواه سمويه الحافظ: نا أحمد بن يحيى بن زيد بن كيسان: نا يزيد بن ذريع، عن أبي مكين، عن أبي صالح: حدثتني أم هانيء، قالت: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أغتسل أحدكم فليغسل كل عضو منه ثلاث
مرات)) - يعني: الجنابة.
ورواية وكيع للموقوف أصح.
وروى الفضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد، أن رجلاً سأله عن الغسل من الجنابة، فقالَ: ثلاثاً. فقالَ الرجل: إن شعري كثير، فقالَ: رسول الله كانَ أكثر شعراً منك وأطيب.
خرجه الإمام أحمد وابن ماجه.
وعطية، هوَ العوفي، فيهِ ضعف مشهور.
[ولعله أراد الثلاث في] غسل الرأس؛ ولهذا قالَ لهُ السائل: إن شعري كثير.
وقد خرجه أبو نعيم الفضل بن دكين في ((كتاب الصلاة)) لهُ، عن فضيل ابن مرزوق، عن عطية، قالَ: سأل رجل أبا سعيد الخدري: كم يكفي لغسل رأسه؟ قالَ: ثلاث حفنات - وجمع يديه - وذكر بقية الحديث.
ومما يستدل به تكرار غسل الجسد في غسل الجنابة: ما خرجه أبو داود، من رواية حماد، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، في صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: وأفرغ على رأسه ثلاثاً،، فإذا فضلت فضلة صبها عليهِ.
والمراد: بعد الفراغ من غسل بقية جسده، وإلا لم يكن لقولها:((فإذا فضلت فضلة)) معنى.
وروى وهيب هذا الحديث، عن هشام، وقال فيهِ: ((ثم أفاض الماء على
جسده، فإن بقي في الإناء شيء أفرغه عليهِ)) .
ورواه - أيضاً - مبارك بن فضالة، عن هشام - بنحوه.
خرجهما ابن جرير الطبري.
وقالت طائفة: لا يستحب تكرار غسل الجسد في غسل الجنابة، وهو ظاهر كلام أحمد والخرقي، وصرح به المارودي من الشافعية، وأصحاب مالك.
وحكى الإمام أحمد، أن ابن عباس كانَ يغتسل من الجنابة سبع مرار.
وقال: هوَ من حديث شعبة - يعني: مولى ابن عباس -، مشهور عنه.
قالَ: وأما حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كانَ يحفن على رأسه ثلاثاً.
وهذا الحديث خرجه أبو داود من رواية ابن أبي ذئب، عن شعبة - وهو: مولى ابن عباس -، أن ابن عباس كانَ إذا اغتسل من الجنابة يفرغ بيده اليمنى على يده اليسرى سبع مرات، ثم يغسل فرجه، فنسي مرة كم أفرغ، فسألني:[كم أفرغت] ؟ قلت: لا أدري، فقالَ: لا أم لك، وما يمنعك أن تدري؟ ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض على جلده الماء، ويقول: هكذا كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتطهر.
وليس في هذه الرواية التسبيع في سوى غسل يده اليسرى قبل الاستنجاء.
ويتحمل أن المراد به: التسبيع في غسل الفرج خاصة، وهو الأظهر.
وشعبة مولى ابن عباس، قالَ مالك: ليس بثقة، وقال - مرة -: لا يشبه القراء، وقال أحمد ويحيى: لابأس به، وقال يحيى - مرة -: لايكتب حديثه، وقال النسائي والجوزجاني: ليس بالقوي في الحديث، وقال ابن عدي: لم أر له حديثاً منكراً جداً فأحكم لهُ بالضعف، وأرجو أنه لا بأس به.
ونقل حرب عن إسحاق، أنه قالَ في غسل الجنابة: يغسل فرجه ثلاثاً، وإن احتاج إلى الاستنجاء غسل مقعدته ثلاثاً إلى السبع، ولا يزيد على ذَلِكَ، إلا أن لا ينقي.
وظاهر هذه الأحاديث: يدل على أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم اكتفى بإفاضة الماء على جسده من غير ذَلِكَ.
وجمهور العلماء على أن التدلك في الطهارة غير واجب، خلافاً لمالك في المشهور عنه.
6 - بَابُ
مَنْ بَدَأ بِالحِلابِ أو الطَّيب عنْدَ الغُسْلِ
258 -
حدثني محمد بن المثنى: نا أبو عاصم، عن حنظلة، عن القاسم، عن عائشة، قالت: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم إذا أغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، فأخذ بكفيه، فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، فقالَ بهما على وسط رأسه.
((حنظلة)) ، هوَ: ابن أبي سفيان.
وظاهر تبويب البخاري على هذا الحديث: يدل على أنه فهم منه أن الحلاب نوع من الطيب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يستعمل شيئاً من الطيب في رأسه في غسل الجنابة.
وقد أنكر العلماء ذَلِكَ على البخاري رحمه الله، ونسبوه فيهِ إلى الوهم، منهم: الخطابي والإسماعيلي وغير واحد.
وقالوا: إنما الحلاب إناء يحلب فيهِ، ويقال لهُ: المحلب - أيضاً.
والمراد: أنه كانَ يغتسل من مد نحو الإناء الذي يحلب فيهِ اللبن من المواشي، وهو معنى الحديث الآخر: أنه نحو الصاع.
ويشهد لذلك: أنه روي في بعض طرق هذا الحديث، أن القاسم سئل: كم يكفي من غسل الجنابة، فحدث بهذه
الحديث. وإنما كانَ السؤال عن قدر ماء الغسل، لا عن الطيب عندَ الغسل.
ذكره الإسماعيلي في ((صحيحه)) .
وذكر - أيضاً - حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرب إليه حلاب فيهِ لبن، فشرب منه - يعني: يوم عرفة.
وزعم بعضهم: أنه ((الجلاب)) - بالجيم -، وأن المراد به: ماء الورد.
وهو أيضاً - تصحيف، وخطأ ممن لا يعرف الحديث.
وزعم آخرون: أن ((الحلاب)) - بالحاء - وعاء للطيب. ولا أصل لذلك.
وخرج أبو بكر عبد العزيز بن جعفر الفقيه في ((كتاب الشافي)) ، في هذا الحديث، من طريق أبي عاصم الضحاك بن مخلد، عن حنظلة، عن القاسم، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ يغتسل في حلاب قدر هذا - وأرانا أبو عاصم قدر الحلاب بيده، فإذا هوَ كقدر كوز يسع ثمانية أرطال -، ثم يصب على شق رأسه الأيسر، ثم يأخذ بكفيه فيصب وسط رأسه.
7 - بَابُ
الْمَضْمَضَةِ وَالاِستْنْشاقِ في الْجَنَابةِ
259 -
حدثنا عمر بن حفص: ثنا أبي: حدثني الأعمش: حدثني سالم، عن كريب، عن ابن عباس، قالَ: ثنا ميمونة، قالت: صببت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلاً، فأفرغ يمينه على يساره فغسلهما، ثم غسل فرجه، ثم قالَ بيده على الأرض فمسحها بالتراب، ثم غسلها، ثم تمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه، وأفاض على رأسه، ثم تنحى فغسل قدميه، ثم أتي بمنديل، فلم ينفض بها.
المضمضمة والاستنشاق في غسل الجنابة، مذكور في حديث ميمونة، وفي حديث عائشة - أيضاً -، كما سبق -، أنه مضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً.
وقد أشرنا - فيما تقدم - إلى الاختلاف في وجوب المضمضة [. . .] والاستنشاق في غسل الجنابة.
فمن أوجبهما في الوضوء، أو أوجب الاستنشاق وحده في الوضوء، فإيجابه لهُ في غسل الجنابة أولى، إلا رواية رويت عن الإمام أحمد، أنها في الوضوء أوكد؛ [. . . ..] الأمر بالاستنشاق في الوضوء، دون الغسل.
وهذا؛ بعيد؛ فإن الغسل [. . .] غسل مواضع الوضوء، وزيادة، فما وجب في الوضوء، فهوَ واجب في الغسل بطريق الأولى.
وأما من لم يوجب المضمضة والاستنشاق في الوضوء، فاختلفوا في إيجابهما في غسل الجنابة:
فأوجبهما الكوفيون، منهم: الشعبي والنخعي وأبو حنيفة وأصحابه وسفيان.
وقال مالك والشافعي: هما مسنونان في الوضوء والغسل سواء.
واستدل من أوجبهما في الغسل بأن غسل الجنابة يجب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف، مع استتاره بالشعر، فإيجاب إيصال الماء فيهِ إلى باطن الفم والأنف، مع ظهوره، أولى بالوجوب.
وروى وكيع، عن أبي حنيفة، عن عثمان بن راشد، عن عائشة بنت عجرد، قالت: سألت ابن عباس عن الجنب يغتسل، فينسى المضمضة والاستنشاق حتى يصلي؟ قالَ: يتمضمض ويستنشق ويعيد الصلاة.
وخرجه الدارقطني من طريق سفيان، عن عثمان، عن عائشة، عن ابن عباس،
…
قالَ: يعيد في الجنابة، ولا يعيد في الوضوء.
وعائشة بنت عجرد، قيل: إنها غير معروفة.
وأنكر الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة التفرقة بين الغسل والوضوء في المضمضة والاستنشاق.
وقالوا: ما وجب غسله من الوجه في الوضوء، وجب في الغسل، وما لا فلا.
وفرقوا بين باطن الفم، والأنف، وما تحت الشعور، بأن ما تحت الشعور ستره
[طارىء] ، بخلاف باطن الفم والأنف، فإن سترهما بأصل الخلقة.
وأما غسل باطن العين في الجنابة، فكان ابن عمر يفعله.
وفي وجوبه عن أحمد روايتان، وأصحهما: لا يجب؛ لمشقته، وخوف الضرر
منه.
8 - بَابُ
مَسْحِ الْيَدِ بِالتُّرَابِ ليكُونَ أنقَى
260 -
ثنا عبد الله بن الزبير الحميدي: ثنا سفيان: ثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل من الجنابة، فغسل فرجه بيده، ثم دلك بها على الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله غسل رجليه.
هذا الحديث قد سبق بألفاظ أخر.
وقد خرجه في الباب الماضي، ولفظه:((ثم غسل فرجه، ثم قالَ بيده على الأرض، فمسحها بالتراب)) .
وقد خرجه - فيما بعد - من حديث أبي عوانة، عن الأعمش وقال في حديثه:((ثم دلك يده بالأرض، أو بالحائط)) .
وخرجه - أيضاً - من رواية الفضل بن موسى، عن الأعمش، وفي حديثه:((ثم ضرب يده بالأرض - أو الحائط - مرتين أو ثلاثاً)) .
وخرجه مسلم من حديث عيسى بن يونس، عن الأعمش، وعنده:((ثم ضرب بشماله الأرض، فدلكها دلكاً شديداً)) .
فقد تضمن هذا الحديث: أن المستنجي يدلك يده بالتراب، ثم يغسلها.
وقد روي مثل هذا في حديث عائشة - أيضاً.
خرجه أبو داود من حديث الأسود، عنها.
وخرج - أيضاً - من رواية الشعبي، قالَ: قالت عائشة: لئن شئتم لأرينكم أثر يد رسول الله في الحائط، حيث كانَ يغتسل من الجنابة.
وفي رواية للنسائي، من حديث عطاء بن السائب، عن أبي سلمة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل يده اليسرى بعد غسل فرجه.
لكن شك راويها فيها.
وقد روي نحو ذَلِكَ في الاستنجاء قبل الوضوء في غير غسل الجنابة - أيضاً - وأن النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء ثم دلك يده بالأرض.
وقد خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث إبراهيم بن جرير البجلي، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة.
وخرجه ابن ماجه - أيضاً - والنسائي من حديث إبراهيم بن جرير، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال النسائي: هوَ أشبه بالصواب.
وإبراهيم بن جرير، لم يسمع من أبيه شيئاً -: قاله ابن معين وغيره.
وهذا السياق الذي خرجه البخاري في هذا الباب مختصراً، والسياق الذي خرجه في هذا الباب الذي قبله أتم منه، وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم غسل يديه،
ثم غسل فرجه، ثم مسح يده بالتراب، ثم غسلها.
فاقتضى ذَلِكَ: استحباب غسل اليدين قبل الاستنجاء، ثم غسل اليد اليسرى
بعد.
وقال الثوري وإسحاق: إذا اغتسل من الجنابة غسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل
فرجه، ثم دلك يده بالأرض، ثم يديه ثلاثاً، ثم يتوضأ.
وليس هذا في حديث ميمونة، ولا في حديث عائشة، إلا في رواية الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة، وعن عمرو بن سعد، عن نافع، عن عمر، وقد سبق لفظها، وهي مروية بالمعنى كما تقدم.
وروي عن ابن عمر من قوله، في صفة غسل الجنابة، أنه يغسل يديه ثلاثاً، ثم يغسل فرجه، ثم يضرب بيده على الحائط، ثم يغسلها، ثم يتوضأ.
خرجه إبراهيم بن مسلم في ((كتاب الطهور)) .
ونص الإمام أحمد: على أن المستنجي يغسل يديه قبل الاستنجاء، ثم إذا
استنجى، فإنه يغسل يديه ويتوضأ.
ولعل هذا لا يحتاج إليه قبل الاستنجاء إذا كانَ يريد أن يدخل يديه في الإناء، ليصب على فرجه منه، فإذا كانَ الماء في مثل الإداوة ونحوها يصب منه على فرجه، فلا حاجة لهُ إلى غسله يديه قبل الاستنجاء.
ونص أحمد في إعادة غسل اليدين ثلاثاً بعد الاستنجاء إنما هوَ في الوضوء من غير الجنابة، فإن الوضوء من الحدث الأصغر ينتقض بمس الفرج، فلذلك لا [. . .] فيهِ على غسل اليدين قبله، وأما غسل الجنابة، فإذا
غسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل فرجه لم يحتج إلى إعادة غسل يديه بعده؛ لأن مس الفرج لا يؤثر في غسل الجنابة، فإنه من حين نوى وسمى وغسل كفيه ثلاثاً [قد بدأ] غسل الجنابة، ولذلك لا يحتاج إلى إعادة غسل فرجه عندَ غسل جسده، بل يكتفى بغسله أولاً.
وقد نقل جعفر بن محمد، عن أحمد، في الجنب يتوضأ قبل أن ينام، ثم يقوم، يغتسل ولا يتوضأ، فرأى أن ذَلِكَ يجزئه.
ولعل مراده: يجزئه غسل أعضاء الوضوء أولاً، عن غسلها في الجنابة ثانياً.
ويحتمل أن مراده: أن الغسل وحده يجزىء بلا وضوء، ويرتفع به الحدثان.
وقد روي عن ابن سيرين، في الجنب يحدث بين ظهراني غسله من االجنابة.
قالَ: الغسل من الجنابة، والوضوء من الحدث.
وعن الحسن، في الجنب يغسل بعض جسده، ثم يبول؟ قالَ: يغسل ما بقي من جسده.
خرجه الخلال في ((الجامع)) من طريق حنبل.
قالَ حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: يبدأ فيتوضأ وضوءه للصلاة ثم يغتسل؛ لأن الغسل ياتي على طهارة الوضوء، وهذا حدث يوجب الوضوء.
وظاهر كلام أحمد وابن سيرين: أنه يعيد الوضوء والغسل؛ لياتي بسنة الغسل بكاملها، وتقديم الوضوء على الغسل، وليس ذَلِكَ على الوجوب.
وروي - أيضاً - عن ابن عمر، بإسناد فيهِ ضعف، أنه يعيد الغسل.
خرجه ابن أبي شيبة.
وأما الحسن، فمراده: أن ما مضى من الغسل لم يبطل بالبول، وأنه إذا أكمله فقد ارتفع حدث الجنابة، ولكن لا يصلي حتى يتوضأ.
وكذا قالَ سفيان الثوري: يتم غسله، ثم يعيد الوضوء.
وحكى ابن المنذر مثل هذا عن عطاء وعمرو بن دينار.
قالَ: وهو يشبه مذهب الشافعي.
وحكى عن الحسن، أنه يستأنف الغسل.
وهذا خلاف ما رواه الخلال، بإسناده عنه.
وما ذكره أنه يشبه مذهب الشافعي، قد قيل: إن الشافعي نص عليهِ في
((الأم)) .
ولا ينبغي أن يكون في هذا خلاف، وإنما أمر من أمر بإعادة الغسل استحباباً؛ ليقع الوضوء قبل الغسل، كما استحب أحمد للحائض إذا اغتسلت بالماء وحده، ثم وجدت السدر، أن تعيد الغسل بماء وسدر؛ لتاتي بالغسل على الوجه الكامل.
فإن قيل: هذا يلزم منه استحباب تجديد الغسل.
قلنا: إنما أعيد لنقص وقع في الأول، فاستحب إعادته على وجه الكمال.
قالَ أصحابنا: وإذا غسل بعض جسده، ناوياً به رفع الحدثين، ارتفع حدثهما، فإذا انتقض وضوؤه، وأعاده لزمه الترتيب والموالاة فيما أرتفع عنه حدث الجنابة خاصة، وما لم يرتفع عنه حدث الجنابة من أعضاء الوضوء، لا يلزم فيهِ ترتيب ولا موالاة، بل يرتفع حدثه تبعاً لحدث الجنابة.
9 - بَابُ
هَلْ يُدْخِلُ الْجُنُبُ يَدَهُ في الإنَاء قَبْل أنْ يَغْسِلَهَا
إذا لَمْ يَكُنْ عَلَى يَدهِ قَذَرٌ غَيْر الجَنَابةِ؟
وأدخل ابن عمر والبراء بن عازب يده في الطهور، ولم يغسلها، ثم توضأ.
ولم ير ابن عمر وابن عباس بأساً بما ينتضح من غسل الجنابة.
اشار البخاري - هاهنا - إلى مسألتين:
إحداهما:
أن الجنب إذا أدخل يده في الماء قبل غسلها، وليس على يده نجاسة، فإنه لا ينجس الماء، فإن المؤمن لا ينجس.
وقد ذكر، عن ابن عمر والبراء بن عازب، أنهما أدخلا أيديهما في الطهور، من غير غسل، ثم توضأ.
وهذا في الوضوء.
وقد سبق ذكره في الكلام على حديث عثمان بن عفان في صفة الوضوء، وعلى الكلام على حديث:((إذا استيقظ أحدكم من النوم فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها)) .
وروى وكيع، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، قالَ: رأيت البراء بن عازب بال، فأدخل يده في مطهرة المسجد - يعني: قبل أن يغسلها.
وعن سفيان، عن جابر الجعفي، عن الشعبي، قالَ: كانَ
الرجال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلون أيديهم في الإناء وهم جنب، والنساء وهن حيض، لا يرون بذلك بأساً.
ورخص فيهِ ابن المسيب وغيره.
واختلف كلام أحمد في ذَلِكَ:
فقالَ مرة، في الجنب والحائض يغمس يده في الإناء إذا كانَ نظيفتين لا بأس به ونقل عنه ابنه عبد الله في الجنب يدخل يده في الإناء، ولم يمسها أذى، ولم ينم؟ قالَ: إن لم ينم فأرجوا ان لا يكون به باس، وإن نام غسلها.
يشير إلى أنه إن كانَ قائما من النوم، فإنه لا يرخص لهُ في ترك غسلها، فجعل القائم من النوم أشد من الجنب.
ونقل عنه كراهة ذَلِكَ:
نقل عنه صالح وابن منصور، في الجنب والحائض، يغمس يده في الإناء؟ قالَ:
كنت لا أرى به بأساً، ثم حدثت عن شعبة، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر، فكأني تهيبته.
ونقل عنه صالح - أيضاً - في جنب أدخل يده في الماء، ينظر حره من برده: إن كانَ أصبعاً رجوت أن لا يكون به بأس، وإن كانَ اليد أجمع فكأنه كرهه.
ونقل عنه صالح - أيضاً - في جنب يدخل الحمام، ليس معه أحد، ولا ماء يصب به على يده؟ ترى لهُ أن يأخذ بفمه؟ قالَ: لا، يده وفمه واحد.
وروى رقية، عن الزبيدي، عن علي بن أبي طلحة، في الجنب يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها؟ قالَ: يهريق أعلاه.
وخرج أبو عبيد
بإسناده، عن النخعي، قالَ: إذا غمس الجنب يده في إناء صغير [فأهرقه] ، وإن كانَ كبيراً فلا بأس به.
وهذا قد يرجع إلى القول بنجاسة بدن الجنب، وهو قول شاذ، ترده السنة الصحيحة.
وقد روي عن أحمد، في جنب اغتسل في ماء يسير [. . .] .
ولم ينقل عنه في المحدث يتوضأ في ماء يسير، وإن كانَ أصحابنا قد سووا بينهما.
وروى مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ يكره فضل الحائض والجنب.
وروى أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ لا يرى بسؤر المرأة بأساً، إلا أن تكون حائضاً أو جنباً.
وروي عن معاذة، عن عائشة، أنها كانت تكره سؤر الحائض، وأن يتوضأ به.
وروي عن أحمد، كراهة سؤر الحائض إذا [. .] بالماء.
وفي ((مسند بقي بن مخلد)) من رواية سويد بن عبد العزيز الدمشقي، عن
نوح بن ذكوان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: وضعت
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ماء، وأدخلت يدي فيهِ، فلم
يتوضا منه.
وهذا منكر، لا يصح.
وسويد ونوح، ضعيفان.
فأما إن أدخل الجنب يده في الماء، بعد أن نوى الغسل، فاعترف منه، وكان الماء قليلاً، فإن نوى الاغتراف من الماء لم يضره، وإن نوى غسل يده من الجنابة في الماء صار الماء مستعملاً.
وإن أطلق النية، ففيه قولان لأصحابنا وغيرهم من الفقهاء، أشهرهما - عندهم -: أنه يصير مستعملاً، وهو قول الشافعية.
والصحيح: أنه لا يصير بذلك مستعملاً.
وعليه يدل حديث عائشة وميمونة، واغتسال النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه من إناء واحد، فإنه لو كانَ يصير الماء مستعملاً بغمس اليد في الماء، بدون نية الاغتراف، لوجب بيانه للأمة بياناً عاماً، فإن هذا مما تدعو الضرورة إليه، فإن عامة الناس لا يستحضرون نية الاغتراف، وأكثرهم لا يعلمون حكم ذَلِكَ، بل قد روي عن النبي واصحابه ما يدل على خلاف ذَلِكَ، وأن الماء لا يجنب باغتراف الجنب منه.
وروى سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قالَ: اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من جفنة، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ، فقالت: يا رسول الله، إني كنت جنباً، قالَ:((إن الماء لا يجنب)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي - وقال: حسن صحيح -، وابن خزيمة في ((صحيحه)) والحاكم وصححه.
وأعله الإمام أحمد، بأنه روي عنى عكرمة - مرسلاً.
وقد صح عن ابن عباس، أنه سئل عن الجنب يغتسل من ماء الحمام فقالَ: الماء لا يجنب.
وصح عنه، أنه قالَ: الماء لا يجنب.
وكذلك صح عن عائشة من رواية شعبة، عن يزيد الرشك، عن معاذة، قالت: سألت عائشة عن الغسل من الجنابة؟ فقالت: إن الماء لا ينجسه شيء؛ كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد.
وخرجه ابن خزيمة في ((صحيحة)) ، ولفظه: إن عائشة قالت: الماء طهور، لا يجنب الماء شيء؛ لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الإناء الواحد. قالت: أبدؤه فأفرغ على يديه، من قبل أن يغمسهما في الإناء.
وروى المقدام بن شريج، عن أبيه، أنه سأل عائشة عن غسل الجنابة؟
فقالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد. قالَ شريح: كيف يكون؟ قالت عائشة: إنه ليس على الماء جنابة - مرتين أو ثلاثة.
خرجه [. . .] وبقي بن مخلد في ((مسنده)) .
وخرجه إسحاق بن رهواية في ((مسنده)) ، وعنده: فقالت: إن الماء لا
ينجس.
وقد رفع بعضهم آخر الحديث، وهو قوله:((الماء لا ينجس)) ، فجعله من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
خرجه الطبراني والقاضي إسماعيل وابن عدي وغيرهم - مرفوعاً.
والصحيح: أنه موقوف على عائشة.
المسألة الثانية:
ما ينتضح من بدن الجنب في الماء الذي يغتسل منه.
وقد ذكر البخاري، عن ابن عمر وابن عباس، أنهما لم يريا به بأساً.
وروى وكيع في ((كتابه)) ، عن سفيان، عن العلاء بن المسيب، عن رجل، عن ابن عباس، أنه لم يكن يرى به بأساً.
وكذلك رخص فيهِ أكثر السلف، منهم: ابن سيرين والحسن والنخعي وأبو جعفر.
قالَ النخعي: أو تجد من ذَلِكَ بداً؟
وعن الحسن - نحوه.
ورخص فيهِ - أيضاً - مالك وأحمد وإسحاق وغيرهم.
وقد سبق بسط ذَلِكَ في ذكر الماء المستعمل، وأنه ليس بنجس.
ويدل على ذَلِكَ: أن
إغتسال النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض أزواجه من الإناء الواحد لا يسلم من إصابة رشاش الماء المتقاطر منهما [للماء] ، ولو كانَ ذَلِكَ نجساً لوجب بيانه والأمر بالتحرز منه، فإن هذا مما تعم به البلوى، ولا يكاد يسلم الناس منه.
وكلام أحمد يدل على أن ما ينضح من الماء عندَ الغسل والوضوء على البدن أو الثوب في الماء لا بأس به.
فإن توضأ في طشت، ثم صبه فأصاب ثوبه منه، فإنه يستحب لهُ غسله والتنزه عنه؛ فإن هذا لا يشق التحرز عنه، وهو ماء [قذر] ، قد أخرج الذنوب والخطايا، واختلف في نجاسته.
ثم خرج البخاري في هذا الباب أربعة أحاديث:
الحديث الأول:
261 -
من حديث: أفلح، عن القاسم، عن عائشة، قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، تختلف أيدينا فيهِ.
وخرجه مسلم في ((صحيحه)) وزاد فيهِ: ((من الجنابة)) .
وهذا الحديث: يستدل به على جواز إدخال الجنب يده فبل كمال غسله في الماء الذي يغتسل منه، وعلى أن ما نضح من الماء الغسل في الإناء، الغسل منه لا يضره.
الحديث الثاني:
262 -
من حديث: حماد، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم -
إذا اغتسل من الجنابة غسل يده.
وهذا مختصر من حديث عائشة الذي خرجه في أول ((كتاب: الغسل)) .
وإنما قصد الإشارة إلي ذكر طرق الحديث؛ لأنه يستدل به على أن الجنب إذا اغتسل بالاغتراف من الإناء بعد نية الاغتسال، فلا يمكن حمله على أنه غسل يده في الإناء من غير إفراغ.
فإنه قد خرجه مسلم من حديث زائدة، عن هشام، ولفظه: كانَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه قبل أن يدخل يده في الإناء، ثم توضأ مثل وضوئه للصلاة.
وقد خرج أبو داود حديث حماد بن زيد، عن هشام، الذي اختصره البخاري هاهنا، ولفظه: يبدأ فيفرغ على يديه.
وفي رواية أخرى لهُ: غسل يديه، فصب الإناء على يده اليمنى.
الحديث الثالث:
263 -
نا أبو الوليد: ثنا شعبة، عن أبي بكر بن حفص، عن عروة، عن عائشة، قالت: كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، من الجنابة.
وهذا يستدل به كما يستدل بالحديث الأول.
الحديث الرابع:
264 -
نا أبو الوليد: نا شعبة، عن عبد الله بن عبد الله بن جبر: سمعت أنس بن مالك يقول: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم والمرأة من نسائه يغتسلان من إناء واحد.
زاد مسلم ووهيب، عن شعبة: من الجنابة.
وهذا دلالته كدلالة الذي قبله - أيضاً.
و ((عبد الله بن عبد الله بن جبر)) ، هوَ الذي روى عن أنس حديث الوضوء بالمد، وقد سبق شرح [حاله] هناك مبوسطاً.
10 - بَابُ
تَفرِيق الْوُضُوِءِ وَالْغُسلِ
ويذكر عن ابن عمر، أنه غسل قدميه بعدما جف وضوؤه.
هذا الأثر، حكاه الإمام أحمد عن ابن عمر، أنه توضأ، ثم غسل رجليه في مكان آخر.
وقال ابن المنذر: ثبت أن ابن عمر توضأ بالسوق، فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه، ثم دعي لجنازة، فمسح على خفيه، ثم صلى عليها.
وهذا الأثر، رواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أنه توضأ في السوق، فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه، ثم دعي إلى جنازة، فدخل المسجد، ثم مسح على خفيه بعد ما جف وضوؤه.
قالَ البيهقي: هذا صحيح عن ابن عمر، مشهور بهذا اللفظ.
وقد اختلف العلماء في تفريق الوضوء والغسل: هل يصح معه الوضوء والغسل، أم لا؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه جائز، وهو ظاهر تبويب البخاري هاهنا، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري والشافعي وإسحاق - في رواية -، ورواية عن أحمد - أيضاً.
والثاني: أنه لا يجوز، وتجنب الإعادة بذلك في الوضوء والغسل، وهو قول
مالك، وحكي رواية عن أحمد، وهي غريبة عنه.
والثالث: أنه يجب في الوضوء دون الغسل، وهو ظاهر مذهب أحمد.
وممن قالَ: إنه إذا جف وضوؤه يعيد: قتادة وربيعة والأوزاعي والليث والشافعي - في القديم - وإسحاق - في رواية.
وقال النخعي: لا بأس أن يفرق غسله من الجنابة.
وكذا روي عن أبن المسيب، وعلي بن حسين.
وروي عن الحسن - فيمن أخر غسل رجليه في الوضوء حتى جف -: إن كانَ في عمل الوضوء غسل رجليه، وإلاّ استأنف.
وفرق أحمد بين الوضوء والغسل، بأن الله أمر في الوضوء بغسل أعضاء معدودة، معطوف بعضها على بعض، فوجب غسلها مرتبا متواليا، كما يجب الترتيب والموالاة في ركعات الصلاة، وأشواط الطواف، بخلاف غسل الجنابة، فإنه أمر فيهِ بالتطهر، وهو حاصل بغسل البدن على أي وجه كانَ.
واستدل لإعادة الوضوء، بأن عمر رأى رجلاً على ظهر قدمه لمعة لم يغسلها، فأمره بإعادة الوضوء.
وقد اختلف ألفاظ الرواية عن عمر في ذَلِكَ: ففي بعضها، أنه أمر بغسل ما تركه، وفي بعضها، أمره بإعادة الوضوء.
وفي الباب أحاديث مرفوعة - أيضاً - بهذا المعنى:
من أجودها: حديث رواه بقية، عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن بعض
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة.
خرجه أبو داود.
وقال أحمد: إسناده جيد.
وأما الغسل، فروي في حديث مرسل، عن العلاء بن زياد، أن النبي صلى الله عليه وسلم
اغتسل، ثم رأى لمعة لم يصبها الماء، فعصر عليها شعره.
وأخذ به أحمد - في إحدى الروايتين عنه.
وروي عن ابن مسعود، قالَ: الجنب ما أصاب الماء من جسده فقد طهر وحمله أبو عبيد على أنه إذا فرق غسله وقطع أجزأه.
وروي عن علي وابن مسعود وجماعة من السلف، في الجنب إذا غسل رأسه بالخطمي، أنه يجزئه من غسل الجنابة، وليس عليهِ إعادة غسله.
وهذا يدل على جواز تأخير غسل الجسد عن غسل الرأس في الغسل.
وخرج أبو داود من حديث شريك، عن قيس بن وهب، عن رجل من بني سواءة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كانَ يغسل رأسه بالخطمي وهو جنب، يجتزيء بذلك، ولا يصب عليهِ الماء.
يعني: أنه لا يعيد منه
غسل بقية جسده.
خرج البخاري في هذا الباب:
265 -
حديث ميمونة: قالت: وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماء يغتسل به، فأفرغ على يديه، فغسلهما مرتين أو ثلاثاً، ثم أفرغ بيمينيه على شماله فغسل مذاكيره، ثم دلك يده بالأرض، ثم تمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ويديه، ثم غسل رأسه ثلاثاً، ثم أفرغ على جسده ثم تنحى من مقامه فغسل قدميه.
خرجه من حديث عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، بإسناده المتقدم.
ووجه الاستدلال به على جواز تفريق الوضوء: أنه صلى الله عليه وسلم فصل بين تطهير رأسه وقدميه بالإفراغ على جسده، ثم بالتنحي من مقامه.
وللإمام أحمد - ومن وافقه - جوابان:
أحدهما: أن هذا تفريق يسير لا يضر، فإن المعتبر عندهم في التفريق المبطل أن يؤخر غسل بعض الأعضاء حتى يجف غسل ما قبله.
ومنهم من اعتبر لهُ طول الفصل عرفاً.
وهما روايتان عن أحمد، أشهرهما: اعتبار الجفاف.
وهذا التأخير لم يكن طويلاً، ولا حصل معه جفاف ما قبله، فلا يضر.
وقد روي عن مالك، أنه إذا أخر غسل رجليه حتى يكمل غسله، أنه يعيد الوضوء.
ولعله أراد مع طول الفصل. والله سبحانه وتعالى اعلم.
والثاني: أن هذا التفريق كانَ في غسل الجنابة، وعند أحمد لا يعتبر
الموالاة للغسل، بخلاف الوضوء.
فإن قيل: إنما وقع التفريق في الوضوء الذي ضمن الغسل.
قيل: أعضاء الجنب ما دام عليها الجنابة، فإنه لا يعتبر لتطهرها موالاة في وضوء ولا غسل.
هذا ظاهر مذهب أحمد الذي عليهِ عامة أصحابه.
وإنما اعتبر الموالاة للوضوء في غسل الجنابة أبو بكر ابن جعفر وطائفة يسيرة من أصحابه، وهو المذهب عندَ الخلال، وسيأتي القول في ذَلِكَ مبسوطاً - إن شاء الله تعالى.
وفي تفريق الغسل صريحاً حديث لا يصح إسناده.
خرجه الدارقطني في ((الأفراد)) والإسماعيلي في ((جمع حديث مسعر)) ، من طريق إسماعيل بن يحيى التميمي، عن مسعر عن حميد بن سعد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمان، عن أبيه، قالَ: قالَ رجل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن أهلي تغار إذا وطئت جواري، قالَ:((ولم تعلمهم ذَلِكَ؟)) ، قالَ: من قبل الغسل: قالَ: ((إذا كانَ ذَلِكَ منك فاغسل رأسك عندَ أهلك، فإذا حضرت الصلاة فاغسل سائر جسدك)) .
إسماعيل بن يحيى، ضعيف جدا ً.
قالَ: الإسماعيلي: حميد بن سعد مجهول، وأحاديث إسماعيل بن يحيى موضوعة.
وفيه حديث آخر:
رواه جعفر بن محمد الفريابي: نا إسحاق بن موسى: نا عاصم بن عبد العزيز: نا محمد بن زيد بن قنفذ التيمي، عن
جابر بن سيلان، عن ابن مسعود، أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يغتسل من الجنابة، فيخطىء الماء بعض جسده؟ فقالَ: النبي صلى الله عليه وسلم: ((يغسل ذَلِكَ المكان، ثم يصلي)) .
رجاله كلهم مشهورون، خلا جابر بن سيلان، وقد خرج لهُ أبو داود، ولم نعلم فيهِ جرحاً، ولا أنه روى عنه سوى محمد بن زيد.
11 - بَابُ
مَنْ أفَرَغَ بِيمِيِنه علَىَ شِمالِهِ في الْغُسلْ
خرج فيهِ:
266 -
حديث ميمونة: قالت: وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسلاُ وسترته، فصب على يده، فغسلها مرة أو مرتين - ثم قالَ سليمان: لا أدري: أذكر الثالثة أم لا؟ - ثُمَّ أفرغ بيمينه على شماله، فغسل فرجه، ثُمَّ دلك يده بالأرض - أو بالحائط -، ثُمَّ تمضمض واستنشق، وغسل وجهه ويديه، وغسل رأسه، ثم صب على جسده، ثم تنحى فغسل قدميه، فناولته خرقة، فقالَ بيده هكذا، ولم يردها.
خرجه من حديث أبي عوانة، عن الأعمش، بالإسناد المتقدم.
ومقصوده منه: قولها: ((ثم أفرغ بيمينه على شماله، فغسل فرجه)) .
وقد خرجه البخاري - فيما بعد - من طريق أبي حمزة السكري، عن الأعمش، ولفظه:((وصب على يديه فغسلهما، ثم صب بيمينه على شماله فغسل فرجه)) .
وهذه الرواية: تصرح بانه غسل يديه جميعاً قبل إدخال يده اليمنى في الإناء.
وقد سبق من رواية عبد الواحد وغيره، عن الأعمش بنحو
هذا اللفظ - أيضاً.
وسبق - أيضاً - الحديث من رواية حفص بن غياث، عن الأعمش، ولفظه: قالت ميمونة: صببت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلاً، فأفرغ بيمينه على يساره فغسلهما، ثم غسل فرجه.
والمراد: أنه تناول الإناء بيمينه، فصبه على يساره، ثم غسلهما معاً.
وفي رواية لأبي داود، من رواية عبد الله بن داود، عن الأعمش: فأكفأ الإناء على يده اليمنى، فغسلها مرتين أو ثلاثاً، ثم صب على فرجه، فغسل فرجه بشماله.
وهذه الرواية: توهم أنه صب من الإناء على يده اليمنى فقط.
وهذه الرواية التي خرجها البخاري في هذا الباب فيها: ((فصب على يده فغسلها مرتين أو ثلاثاً)) ، وهي توهم أنه صب على اليمنى فقط، ولم يغسل اليسرى حتى غسل فرجه بها، ثم دلكها بالتراب، ثم غسلها.
وقد سبق من حديث عمر نحو ذَلِكَ - أيضاً.
وحديث عائشة صريح في أنه صلى الله عليه وسلم غسل يديه جميعاً قبل إدخال يده اليمنى في الإناء، ثم أدخلها فأفرغ بها على شماله، ثم غسل فرجه.
وقد قالَ الإمام أحمد: الغسل من الجنابة على حديث عائشة.
ونقل حنبل عنه، أنه يبدأ فيفيض الإناء على يده اليمنى، فيصب [منه] ثلاث مرات، ثم يغمس يده في الإناء، فيصب على يده اليسرى، فيغسلهما جميعاً، ثم يغسل فرجه فينقيه، ثم يتوضأ.
ونقل عنه - مرة أخرى -، أنه قالَ:
يبدأ فيغسل كفيه ثلاثاً.
وهذا يوافق رواية الأكثرين عنه.
فهذا كله في غسل اليدين وفي غسل الفرج.
فأما بقية الغسل، فإن غسل أعضاء الوضوء فيهِ كغسلها في الوضوء من الحدث الأصغر، على ما سبق في موضعه.
وأما غسل الرأس، فإنه يحثي عليهِ ثلاث حثيات باليدين جميعاً.
وقد جاء التصريح بذلك في روايات متعددة، سبق ذكرها.
وأما صب الماء على بقية الجسد، ففي بعض ألفاظ حديث عائشة ما يدل على أنه بالكفين معاً، وقد سبق ذكره - أيضاً.
واما محل الإناء من المتوضيء والمغتسل، فقالَ طائفة من الفقهاء من أصحابنا والشافعية وغيرهم: إن كانَ واسعاً يمكن الاغتراف منه، كانَ من جهة اليمين، ويغرف منه باليمين، وإن كانَ ضيقاً لا يمكن الاغتراف منه، وإنما يصب به صباً وضع من جهة الشمال.
وخرج الطبراني، بإسناد فيهِ جهالة، عن أنس، أنه أراهم الوضوء، فأخذ ركوة فوضعها عن يساره، وصب على يده اليمنى منها ثلاثاً - وذكر بقية الوضوء -، ثم قالَ: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ.
12 - بَابُ
إِذَا جَامَعَ ثُمَّ عَاوَدَ، وَمَنْ دار عَلَى نِسائِهِ
في غُسلٍ واحِدٍ
خرج فيهِ حديثين:
أحدهما:
267 -
من رواية: شعبة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه قالَ: ذكرته لعائشة، فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمان، كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيطوف على نسائه، ثم يصبح محرماً، ينضخ طيباً.
الذي ذكر لعائشة، هوَ: أن ابن عمر كره الطيب عندَ الإحرام، فردت مقالته بهذه الرواية.
قالَ الإسماعيلي في ((صحيحه)) : قول عائشة: ((يطوف على
نسائه)) ، ينظر: هل أردت به الجماع، أو تجديد العهد بهن للخروج، وذلك أنه لو كانَ معنى الطواف عليهن للوقاع لاحتاج إلى الغسل، ولا يكاد الطيب يبقى بعد إنقاء الغسل، لا سيما وهي تقول:((ينضخ طيباً)) ، بالحاء أو الخاء، وهو بالخاء معجمة أشبه؛ لأنه أخف من النضح، كأنه يتساقط منه الشيء بعد الشيء من الطيب. انتهى ما ذكره.
وما ذكره من احتمال طوافه عليهن للتوديع فبعيد جداً، أو غير صحيح؛ فإن عائشة إنما أخبرت عن حجة الوداع، وقد جاء مصرحاً عنها في رواية خرجها مسلم، أنها طيبته في حجة الوداع،
وحجة الوداع كانَ أزواجه كلهن معه
فيها، فلم يكن يحتاج إلى وداعهن.
ووجه استدلال البخاري بالحديث على أن تكرار الجماع بغسل واحد:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لو اغتسل من كل واحدة من نسائه لكان قد اغتسل تسع مرات، فيبعد حينئذ أن يبقى للطيب أثر، فلما أخبرت أنه أصبح ينضخ طيباً، استدل بذلك على أنه اكتفى بغسل واحد.
واستبعاد الإسماعيلي بقاء أثر الطيب بعد الغسل الواحد ليس بشيء، فقد اخبرت عائشة أنها نظرت إلى الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم بعد ثلاث.
وفي رواية، عنها: في رأسه ولحيته.
وقد كانَ صلى الله عليه وسلم يوضأ في هذه المدة، بل كانت عادته الوضوء لكل صلاة، ومع هذا فلم يذهب اثره من شعره، وهذا يدل على أنه كانَ طيباً كثيراً لهُ جرم يبقى مدة.
الحديث الثاني:
268 -
من رواية: هشام، عن قتادة: ثنا أنس بن مالك، قالَ: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار، وهن إحدى عشرة.
قلت لأنس: أو كانَ يطيقه؟ قالَ: كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين.
وقال سعيد، عن قتادة: إن أنساً حدثهم: تسع نسوة.
ووجه الاستدلال من هذا الحديث: أن أنساً ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يدور على إحدى عشرة امرأة في ساعة واحدة من الليل والنهار، وهذا
يدل على أنه لم يغتسل عندَ كل واحدة؛ فإن الساعة الواحدة لا تتسع للوطء إحدى عشرة مرة، مع غسل إحدى عشرة مرة.
وقد ذكر البخاري اختلاف هشام وسعيد بن أبي عروبة على قتادة في عدد النسوة: فذكر هشام: أنهن إحدي عشرة، وذكر سعيد: أنهن تسع.
وحديث سعيد، قد خرجه البخاري - فيما بعد -، وسيأتي قريباً - إن شاء الله تعالى.
وقد روى هذا الحديث معمر، عن قتادة، وذكر فيهِ: أن ذلك كانَ بغسل واحد.
خرجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه، من رواية سفيان، عن معمر، عن قتادة، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يطوف على نسائه في غسل واحد.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وإنما لم يخرج البخاري هذا؛ لأن رواية معمر، عن قتادة ليست بالقوية.
قالَ ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: قالَ معمر: جلست إلى قتادة وأنا صغير، فلم أحفظ عنه الأسانيد.
قالَ الدارقطني في ((العلل)) : معمر سيء الحفظ لحديث قتادة.
وقد روى هذا الحديث ابن عيينة، عن معمر، عن ثابت، عن
أنس، وهو وهم.
ورواه مصعب بن المقدام، عن الثوري، عن معمر، عن حميد، عن أنس.
خرجه الطبراني.
وهو وهم.
ورواه ضمرة، عن الثوري، عن معمر، عن حميد، عن أنس.
وأخطأ في قوله: ((عن حميد)) -: قاله أبو زرعة.
وقد توبع عليهِ معمر من وجوه غير قوية:
فرويناه من طريق سفيان، عن محمد بن حجادة، عن قتادة، عن أنس.
ورواه مسلمة بن علي الخشني - وهو ضعيف -، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أنس، قالَ: ربما طاف النبي صلى الله عليه وسلم في الليلة الواحدة على ثنتي عشرة امرأة، لا يمس في ذَلِكَ شيئاً من الماء.
ورواه صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن أنس، قالَ: وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلاً، فاغتسل من جميع نسائه في الليلة.
خرجه ابن ماجه.
ونقل الترمذي في ((كتاب العلل)) ، عن البخاري، أنه ضعفه من أجل صالح.
وخرجه أبو داود والنسائي، من رواية إسماعيل بن علية: نا
حميد عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه في ليلة بغسل واحد.
وخرجه مسلم في ((صحيحه)) ، من رواية مسكين بن بكير، عن شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يطوف على نسائه بغسل واحد.
وتابعه بقية بن الوليد، فرواه، عن شعبة - أيضاً.
خرجه من طريقه الإمام أحمد.
ولم يرض البخاري هذا الحديث، من أجل مسكن بن بكير؛ فإنه ليس بذاك.
قالَ الأثرم: قلت لأحمد: نظرت في حديث مسكين، عن شعبة، فإذا فيها خطأ. قالَ: أحمد من أين كانَ يضبط هوَ عن شعبة؟!
قالَ البرديجي: لا يلتفت إلى رواية الفرد عن شعبة، ممن ليس لهُ حفظ ولا تقدم في الحديث من أهل الإتقان.
وقد روي الأمر بالوضوء للمعاودة من رواية عاصم الأحول، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ:((إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود، فليتوضأ)) .
خرجه مسلم.
وفي رواية: ((فليتوضأ بينهما وضوءاً)) .
وخرجه ابن خريمة والحاكم في ((صحيحيهما)) ، بزيادة في آخره،
وهي: ((فإنه أنشط للعود)) .
وخرجه ابن خزيمة - أيضاً - بلفظ آخر، وهو:((إذا أراد أحدكم أن يعود فليتوضأ وضوءه للصلاة)) - يعني: الذي يجامع، ثم يعود قبل أن يغتسل.
وفي إسناده بعض اختلاف.
وقال الشافعي: روي فيهِ حديث، وإن كانَ مما لا يثبت مثله.
واستحب أكثر العلماء الوضوء للمعاودة، وهو مروي عن عمر وغيره، وليس بواجب عندَ الأكثرين، وأوجبه قليل من أهل الظاهر ونحوهم.
ومن العلماء من أنكر الوضوء، وحمل الوضوء في هذا الحديث على التنظيف وغسل الفرج.
وقد قالَ إسحاق: غسل الفرج لابد منه.
والأكثرون على أن المعاودة من غير وضوء لا تكره، وهو قول الحسن ومالك وأحمد وإسحاق.
وقد روي الاغتسال للمعاودة من حديث أبي رافع، أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه جميعاً في يوم واحد، واغتسل عندَ كل واحدة منهن غسلاً.
فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا تجعله غسلاً واحداً؟ قالَ: ((إن هذا أزكى واطهر
وأطيب)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
وفي إسناده بعض من لا يعرف حاله.
قالَ أبو داود: حديث أنس أصح من هذا.
يعني: حديثه في الغسل الواحد.
وفي هذا الباب أحاديث أخر، أسانيدها ضعيفة.
13 - بَابُ
غَسْلِ الْمَذْيِ، والْوُضُوءِ مِنْهُ
269 -
حدثنا أبو الوليد: ثنا زائدة، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمان، عن علي، قالَ: كنت رجلاً مذاء، فأمرت رجلاً أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته -، فسأله فقالَ:((توضأ، واغسل ذكرك)) .
وقد خرجه البخاري - فيما سبق - في آخر ((العلم)) - مختصراً -، من حديث محمد ابن الحنفية، عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه في باب: من استحي، فأمر غيره أن يسأل)) .
وقد استنبط البخاري منه - ها هنا - حكمين:
أحدهما:
غسل المذي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((اغسل ذكرك)) .
وقد اختلف العلماء في معنى الأمر بغسل الذكر من المذي: هل المراد غسل ما أصاب الذكر منه كالبول، أو غسل جميع الذكر؟
وفيه: قولان، وهما روايتان عن مالك والإمام أحمد.
وحكي عنه رواية ثالثة، بوجوب غسل الذكر كله مع الأنثيين.
وقد روي في حديث علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ: ((يغسل ذكره وأنثييه
ويتوضأ)) ، من وجوه قد تكلم فيها.
واختار هذه الرواية أبو بكر عبد
العزيز بن جعفر من أصحابنا، وذكر أن الحديث صح بذلك.
ولو استجمر منه بحجر أجزأه كالبول -: ذكره اصحابنا.
وهذا - على قولنا: يجب غسل ما أصحاب الذكر منه - ظاهر.
فأما إن قلنا يجب غسل الذكر جميعه، أو الذكر مع الأنثيين، فلا ينبغي أن يجزىء منه الاستجمار.
وعنده الشافعية: أن المذي: هل يجزيء فيهِ الاستجمار؟ فيهِ قولان:
بناء على أن الخارج النادر: هل يجزيء الاستجمار كالمعتاد؟ ، على قولين للشافعي، أصحهما: الجواز.
لكنهم لا يوجبون زيادة على غسل ما أصاب الذكر منه، وهو قول أبي حنيفة وغيره.
وقال سعيد بن جبير - في المذي -: يغسل الحشفة منه ثلاثاً.
فأما إن أصاب المذي غير الفرج من البدن أو الثوب، فالجمهور على أنه نجس يجب غسله كالبول.
وعن أحمد رواية: أنه يعفى عن يسيره كالدم.
وعنه رواية ثالثة: أن نجاسته مخففة، يجزىء نضحه بالماء، كبول الغلام الذي لم يأكل الطعام؛ لعموم البلوى به، ومشقة الاحتراز منه.
وفيه حديث، من رواية سهل بن حنيف، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سئل عما أصاب الثوب من المذي؟ قالَ:((تأخذ كفا من ماء فتنضح به حيث ترى أنه أصابك)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي.
وقال: حسن صحيح، ولا نعرفه إلا من حديث ابن إسحاق.
وقال الإمام أحمد - في رواية الأثرم -: لا اعلم شيئاً يخالفه.
ونقل عنه
غيره، أنه قالَ: لم يروه إلا ابن إسحاق، وأنا أتيهيبه.
وقال - مرة -: إن كانَ ثابتاً أجزأه النضح.
وعن أحمد رواية: أن المذي طاهر كالمني.
وهي اختيار أبي حفص البرمكي من أصحابنا، أوجب مع ذَلِكَ نضحه تعبداً.
ومن الأصحاب من قالَ: إذا قلنا بطهارته، لم يجب غسل ما أصاب الثوب منه.
وهل يجب الاستنجاء منه؟ على وجهين، كالمني.
وهذا بعيد، وهو مخالف للأمر بغسله.
والحكم الثاني:
وجوب الوضوء منه.
وقد أجمع العلماء على أن المذي يوجب الوضوء، ما لم يكن سلساً دائماً؛ فإنه يصير حينئذ كسلس البول، ودم الاستحاضة.
ومالك لا يوجب الوضوء منه حينئذ.
وخالفه جمهور العلماء.
وأما إذا خرج على الوجه المعتاد، فإنه يوجب الوضوء باتفاقهم، لا يوجب الغسل - أيضاً - بالاتفاق.
وقد حكي عن ابن عمر فيهِ اختلاف.
والصحيح عنه، كقول جمهور العلماء، أنه يكفي منه الوضوء.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قالَ - في المذي -:((توضأ، وانضح فرجك)) .
خرجه مسلم وغيره.
فمن العلماء من حمل نضح الفرج على غسله، بما في اللفظ الآخر:
((توضأ واغسل ذكرك)) .
ومنهم من حمله على نضح الفرج بعد الضوء منه؛ لتفتير الشهوة، ودفع الوسواس.
وقد ورد في رواية التصريح بهذا المعنى، لكن في إسناده ضعف.
وعلى هذا؛ فالأمر بالنضح محمول على الاستحباب.
14 - بَابُ
مَنْ تَطَيَّبَ ثُمَ اغْتَسَلَ وبَقَي أثَرُ الطَّيبِ
خرج فيهِ حديثين:
أحدهما:
270 -
حديث: إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، قالَ: سألت عائشة - وذكرت لها قول ابن عمر: ما أحب أن اصبح محرماً انضخ طيباً -، فقالت عائشة: أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طاف في نسائه، ثم اصبح محرماً.
الثاني:
271 -
حديث: إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب، في مفرق النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محرم.
قالَ الإسماعيلي: في الحديث الأول: عامة من حدثنا قاله بالحاء غير معجمة - يعني: ((ينضح طيباً)) -، قالَ: والقول في ((يطوف)) ما قدمناه.
قلت: الصواب: أن معنى طوافه للنساء جماعهن، كما سبق.
فالحديث حينئذ: يدل على أن من اغتسل من الجنابة، وبقي على
جسده أثر طيب ونحوه، مما لا يمنع وصول الماء إلى ما تحته، أنه لا يضره، وأن غسله صحيح.
و ((بيص الطيب)) : بريق لونه ولمعانه.
قالَ الخطابي: يقال وبص وبيصاً وبص بمعنى واحد.
وهذا يدل على بقاء أجزاء من الطيب، فيستدل بذلك على أنه لا يمنع صحة الغسل، إذا وصل الماء معه إلى البشرة، وهو مقصود البخاري بهذا الباب.
وعلى أنه لا يمنع المحرم من استدامته في الإحرام، ويأتي ذكر ذَلِكَ في موضعه من ((الحج)) - إن شاء الله تعالى.
ويحتمل أن يكون هذا الطيب الذي يبص على شعر النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في رواية: ((أنه كانَ في مفارقه)) ، وفي رواية:((في رأسه ولحيته)) .
فيستدل على أن الشعر لا يجب غسله في جنابة ولا غيرها، كما ذهب إليه طوائف من العلماء، كما سبق ذكره.
15 - بَابُ
تَخْليلِ الشَّعر حَتىَ إذا ظَنَّ أنَّهُ قَدْ أرْوى بشَرتَهُ أفَاضَ عليهِ
272 -
ثنا عبدان: ثنا عبد الله - هوَ ابن المبارك -: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة، غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليهِ الماء ثلاث مرات، ثم يغسل سائر جسده.
273 -
وقالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، نغترف، منه جميعاً.
ما ذكر في هذه الرواية، أنه توضأ، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره، إلى
آخره، وهو من باب عطف التفصيل على الإجمال؛ فإن ما ذكره من التخليل وما بعده هوَ تفصيل للاغتسال الذي ذكر مجملاً.
والحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ قبل أن بفيض الماء على رأسه ثلاثاً يخلل شعره بيده بالماء، حتى يظن أنه قد أروى بشرته، وهذا مما ذكر في حديث عائشة دون حديث ميمونة.
وقد خرجه البخاري في أول ((كتاب: الغسل)) ، من حديث مالك، عن
هشام، وفي حديثه:((توضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول الشعر، ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه)) .
وهذا يصرح بالمعنى الذي ذكرناه.
وخرجه مسلم، من طريق أبي معاوية، عن هشام، وفي حديثه:
((توضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء، فيدخل أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات)) .
وكذلك روى حماد بن زيد، عن هشام، هذا الحديث، وقال فيهِ - بعد ذكر الوضوء -:((ثم يدخل يده في الإناء، فيخلل شعره، حتى إذا رأى أنه قد أصاب البشرة، أو أنقى البشرة، افرغ على رأسه ثلاثاً)) .
خرجه أبو داود.
وخرجه الإمام أحمد، عن يحيى بن سعيد القطان، عن هشام، به بنحوه، وفي حديثه:((ثم يخلل اصول شعر رأسه، حتى إذا ظن أنه قد استبرا البشرة، اغترف ثلاث غرفات، فصبهن على رأسه)) .
وخرجه النسائي، من حديث سفيان، عن هشام، ولفظ حديثه:((إن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يشرب رأسه، ثم يحثي عليهِ ثلاثاً ثلاثاً)) .
وروى أيوب وعبيد الله بن عمر هذا الحديث، عن هشام، وذكر أن تخليل شعره كانَ مرتين.
وروي عن أيوب، قالَ: مرتين أو ثلاثاً.
ورواه حماد بن سلمة، عن هشام، ولفظ حديثه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ
يتوضأ من الجنابة، ثم يدخل يده اليمنى في الماء، ثم يخلل به شق رأسه الأيمن، فيتبع بها أصول الشعر، ثم يفعل بشة رأسه الأيسر كذلك، حتى تستبرىء البشرة، ثم يصب على رأسه
ثلاثاً)) .
ورواه شريك، عن هشام، وذكر أن تخليل شعره كانَ بعد الإفراغ عليهِ ثلاثاً.
وشريك، سيء الحفظ، لا يقبل تفرده بما يخالف الحفاظ.
وتابعه سفيان بن وكيع، عن أبيه، عن هشام.
وسفيان هذا، ليس ممن يلتفت إلى قوله.
وكذلك رواه ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة.
وابن لهيعة، لا يقبل تفرده فيما يخالف الحفاظ.
وفي الجملة؛ فهذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه خلل شعره بالماء، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض الماء على شعر راسه.
فكان التخليل أولاً لغسل بشرة الرأس، وصب الماء ثلاثاً بعده لغسل الشعر، هذا هوَ الذي يدل عليهِ مجموع ألفاظ هذا الحديث.
وقال القرطبي: إنما فعل ذَلِكَ ليسهل دخول الماء إلى أصول الشعر.
وقيل [ليتأسى] بذلك [حتى] لا يجد بعده من صب الماء الكثير [. . .] .
قلت: قول عائشة: ((حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليهِ الماء ثلاث مرات)) ، يرد هذا [كله] ، ويبين أن التخليل كانَ لغسل بشرة الرأس، وتبويب البخاري يشهد لذَلِكَ - أيضاً.
وهذه سنة عظيمة من سنن غسل الجنابة، ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لم ينتبه
لها أكثر الفقهاء، مع توسعهم للقول في سنن الغسل وأدائه.
ولم أر من صرح به منهم، إلا صاحب ((المغني)) من أصحابنا، وأخذه من عموم قول أحمد:
الغسل على حديث عائشة.
وكذلك ذكره صاحب ((المهذب)) من الشافعية، قالَ - بعد ذكر الوضوء -:
ثم يدخل أصابعه العشر في الماء، فيغترف غرفة يخلل بها أصول شعره من رأسه ولحيته، ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات.
وفي هذا زيادة على ما في حديث عائشة، وهو تخليل اللحية.
ومذهب الشافعي: وجوب إيصال الماء إلى باطن اللحية، وإن كانت كثيفة، في الجنابة دون الوضوء.
وعن مالك في وجوب ذَلِكَ في الغسل روايتان.
وأما أصحابنا فيجب ذَلِكَ عندهم - في المشهور.
ولهم وجه ضعيف، أنه لا يجب.
وحكي مثله عن المزني.
وكلام أكثرهم، يدل على أن المغتسل يتوضأ، ثم يصب على رأسه الماء ثلاثاً، ويخلل أصول الشعر مع ذَلِكَ.
وقد وجد في كلام الأئمة، كسفيان وأحمد وإسحاق، ما يدل على ذَلِكَ.
واتباع السنة الصحيحة التي ليس لها معارض أولى.
وقد روى قتادة، عن عروة، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ إذا أراد أن يغتسل من جنابة توضأ وضوءه للصلاة، ثم صب على رأسه ثلاث مرار، يخلل باصابعه أصول الشعر.
خرجه الإمام أحمد.
وهذه الرواية تشهد لما قاله أكثر الفقهاء: إنه يصب الماء على رأسه، ثم يخلله
بأصابعه.
ولكن رواية هشام، عن أبيه، المتفق على صحتها، مقدمة على رواية قتادة.
وليس في ترك ذكر هذا في حديث ميمونة ما يوجب تركه؛ لأن ميمونة حكت غسل النبي صلى الله عليه وسلم في قضية معينة، وعائشة حكت ما كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يفعله إذا اغتسل من الجنابة، فالأخذ بروايتها متعين، والله أعلم.
16 - بَابُ
مَنْ توضَأ في الْجَنَابِةِ، ثُمَّ غَسَلَ سائرَ جَسَدهِ
وَلَمْ يعدْ غَسلْ مَواضِع الْوضُوءِ منْهُ مَرَّة أخرى
خرج فيهِ:
274 -
حديث ميمونة: قالت: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءاً للجنابة، فكفأ بيمينه على شماله مرتين أو ثلاثاً، ثم غسل فرجه، ثم ضرب يده بالأرض - أو الحائط - مرتين أو ثلاثاً، ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه، ثم افاض على راسه الماء، ثم غسل جسده، ثم تنحى فغسل رجليه، قالت: فأتيته بخرقة فلم يردها، فجعل ينفض الماء بيده.
خرجه من طريق الفضل بن موسى، عن الأعمش، بإسناده المتقدم.
ووجه دلالة الحديث على ما بوب عليهِ: أنه صلى الله عليه وسلم غسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض على راسه الماء، ثم غسل جسده، ولم يعد غسل وجهه وذراعيه، وإنما غسل رجليه اخيراً؛ لأنه لم يكن غسلهما أولاً.
وقد خرج مسلم هذا الحديث، من رواية عيسى بن يونس، عن الأعمش، وفي حديثه:((ثُمَّ توضأ وضوءه للصلاة، ثُمَّ أفرغ على راسه ثلاث حفنات ملء كفه، ثُمَّ غسل سائر جسده)) .
وقوله: ((غسل سائر جسده)) يدل على أنه لم يعد غسل ما كانَ غسله منه قبل ذَلِكَ؛ لأن: ((سائر)) إنما تستعمل بمعنى: ((الباقي)) ، لا بمعنى:
((الكل)) ، على الأصح الأشهر عندَ أهل اللغة.
وكذلك خرج مسلم حديث عائشة، من حديث أبي معاوية، عنة هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة - فذكرت الحديث، وفي آخره -:((ثم أفاض على سائر جسده)) .
وهو - أيضاَ -: دليل على أنه لم يعد غسل ما مضى غسله منه.
والعجب من البخاري رحمه الله، كيف ذكر في تبويبه ((من توضأ للجنابة ثم غسل سائر جسده)) ، ولم يسق الحديث بهذا اللفظ، وإنما تتم الدلالة به.
ومقصوده بهذا الباب: أن الجنب إذا توضأ، فإنه يجب عليهِ غسل بقية بدنه، ولا يلزمه إعادة غسل ما غسله من أعضاء الوضوء.
والجنب حالتان:
إحداهما: أنه لا يلزمه سوى الغسل، وهو من أجنب من غير أن يوجد منه حدث أصغر - على قول من يقول: إن الجنابة المجردة لا توجب سوى الغسل، كما هوَ قول الشافعي وابن حامد من أصحابنا -، فهذا لا يلزمه أكثر من الغسل.
فإن بدأ بأعضاء الوضوء، فغسلهما، لم يلزمه سوى غسل بقية بدنه، بغير
تردد.
وينوي بوضوئه الغسل، لا رفع الحدث الأصغر -: صرح به الشافعية، وهو ظاهر.
الحالة الثانية: أن يجتمع عليهِ حدث أصغر وجنابة، إما بأن يحدث، ثم يجنب، أو على قول من يقول: إن الجنابة بمجردها تنقض الوضوء وتوجب الغسل، كما هوَ ظاهر مذهب أحمد وغيره.
فهذه المسألة قد سبقت الإشارة إليها والاختلاف فيها.
وأكثر العلماء على تداخل الوضوء والغسل قي الجملة.
قالَ الحسن: إذا اغتمس في النهر، وهو جنب، أجزأه عن الجنابة والحدث.
فعلى هذا؛ إذا غسل اعضاء الوضوء مرة، لم يحتج إلى إعادة غسلها.
قالَ: أحمد العمل عندي في غسل الجنابة، أن يبدأ الرجل بمواضع الوضوء، ثم يغسل بعد ذَلِكَ سائر جسده.
ولكن على هذا التقدير، ينوي بوضوئه رفع الحدثين عن أعضاء الوضوء.
فإن نوى رفع الحدث الأصغر وحده، احتاج إلى إعادة غسل أعضاء الوضوء في الغسل.
ثم إن المشهور عن أحمد - عندَ اصحابه كالخرقي ومن تابعه -: أن الغسل والوضوء لا يتداخلان، إلا بأن ينويهما، كالحج والعمرة في القرآن، وهو وجه
الشافعية.
وعلى هذا؛ فينوي بالوضوء رفع الحدث الأصغر، صرح به ابن أبي موسى من أصحابنا.
ويلزم من ذَلِكَ وجوب إعادة غسل أعضاء الوضوء في الغسل مرة أخرى.
فإن نوى بالوضوء رفع الحدثين معاً، لم يلزمه إعادة غسلهما مرة أخرى.
والمنصوص عن الشافعي، أنهما يتداخلان بدون نية، نص على ذَلِكَ في
((الأم)) ، وحكاه أبو حفص البرمكي رواية عن احمد، كما لو كانا من جنس واحد عندَ أكثر العلماء.
فعلى هذا، يجزىء الوضوء بنية رفع الحدث الأكبر خاصة.
وإن نوى بالوضوء رفع الحدث الأصغر، كانَ أفضل -: قاله بعض الشافعية.
ولكن ينبغي أن يقولوا بوجوب إعادة غسل أعضاء الوضوء مرة أخرى في
الغسل.
وعلى هذا التقدير، فإن رفع الحدث الأصغر لا يندرج فيهِ الأكبر، بخلاف عكسه.
وعن أحمد رواية، أنه لا يرتفع الحدث الأصغر بدون الإتيان بالوضوء، وحكي مثله عن مالك وأبي ثور وداود، وهو وجه الشافعية؛ لأن سببهما مختلف، فلم يتداخلا كحد الزنا وحد السرقة.
وعلى هذا فيجب غسل اعضاء الوضوء مرتين [
…
] : مرة للوضوء، ومرة في الغسل، وينوي بالوضوء رفع الحدث الأصغر، وبالغسل رفع الحدث الأكبر.
وقالت طائف: إن غسل أعضاء الوضوء مرتبة متوالية ارتفع عنهما الحدثان، وإذا نوى رفعهما، فلا يجب عليهِ إلا غسل باقي بدنه للجنابة، وإن لم يغسل أعضاء الوضوء مرتبة متوالية لم يرتفع عنها سوى حدث الجنابة، وعليه ان ياتي بالوضوء على وجهه؛ ليرفع الحدث الأصغر.
وحكي هذا عن إسحاق بن راهويه، وهو قول أبي بكر بن جعفر، ومن اتبعه من أصحابنا.
واعتبروا - أيضاً -: أن يمسح رأسه.
وقد سبق نص أحمد، على أنه لا يحتاج إلى مسح رأسه، بل يكفيه صب الماء
عليهِ.
وهو يدل على أن خصائص الوضوء عنده كلها غير معتبرة في وضوء غسل
الجنابة.
وهو - أيضاً - وجه لأصحاب الشافعي، لكنهم لا يعتبرون
الموالاة ولا نية الحدث الأصغر، على الصحيح عندهم.
وعندنا؛ هما معتبران، على الصحيح.
وزعم أبو بكر الخلال: أن هذا القول هوَ مذهب أحمد، ووهم من حكى عنه خلافه فإن حنبلاً نقل عن أحمد، في جنب اغتسل وعليه خاتم ضيق، لم يحركه، فصلى، ثم ذكر؟ قالَ: يغسل موضعه، ويعيد الصلاة.
قالَ الخلال: هذا وهم من حنبل لا شك فيهِ، لأن أحمد عنده أن من لم يحرك خاتمه الضيق في الوضوء وصلى، أنه يعيد الوضوء والصلاة.
قالَ أبو بكر ابن جعفر في كتاب ((الشافي)) : هذا يدل على أنه لا بد في غسل الجنابة من الوضوء.
قلت: إنما قالَ أحمد: ((يعيد الوضوء والصلاة)) في المحدث حدثا أصغر، فأما الجنب فإن المنصوص عن أحمد، أنه إذا انغمس في ماء وتمضمض، واستنشق، أنه يجزئه، بخلاف من يريد الوضوء، فإنه يلزمه الترتيب والمسح.
ولكن الخلال تأول كلامه، على أن الجنب يجزئه انغماسه في الماء من غسل الجنابة واما عن الوضوء فلا يجزئه حتى يرتب، كالمحدث الحدث الأصغر بانفراده.
ونقول: إن قول أحمد: ((إذا انغمس وأراد الوضوء لا يجزئه)) عام فيمن أراد الوضوء وهو جنب أو محدث.
والذي عليهِ عامة الأصحاب، كالخرقي وابن أبي موسى والقاضي أبي يعلى وأصحابه خلاف [ذَلِكَ] ، وأن أحمد إنما أراد المحدث حدثاً أصغر.
ورواية حنبل هذه صريحة في هذا المعنى، وقول الخلال:((إنها وهم بغير شك)) ، غير مقبول. والله سبحانه وتعالى أعلم.
17 - بَابُ
إذا ذَكَر في المْسْجِدِ أنهُ جنُبُ يخرجُ كَمَا هُو ولا يَتَيَمَّمُ
275 -
حدثنا عبد الله بن محمد: ثنا عثمان بن عمر: ثنا يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قالَ: أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف قياماً، فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام مصلاه، ذكر أنه جنب، فقالَ لنا:((مكانكم)) ، ثم رجع فاغتسل، ثم خرج إلينا، ورأسه يقطر، فكبر، فصلينا معه.
تابعه: عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري.
ورواه الأوزاعي، عن الزهري.
قد خرجه البخاري في ((كتاب الصلاة)) من حديث الأوزاعي، وفيه - أيضاً -: أنه كانَ جنباً.
وخرجه - أيضاً - من رواية صالح بن كيسان، عن الزهري، ولم يذكر:
أنه كانَ جنباً؛ لكن رجوعه إليهم، ورأسه يقطر ماء يدل على ذَلِكَ.
وقد استدل البخاري بهذا الحديث على أن من ذكر في المسجد أنه جنب فإنه يخرج منه ليغسل، ولا يلزمه التيمم لمشية للخروج.
ومثله من كانَ نائماً فاحتلم في المسجد، فإنه يخرج منه ليغتسل، ولا يلزمه أن يتيمم
للخروج.
وقد نص على هذه الصور أحمد في رواية حرب.
واستدل طائفة بأن الصحابة كانوا ينامون في المسجد - يعني: أنه لم يكن يخلو من احتلام بعضهم فيهِ -، ولم ينقل عن أحمد منهم أنه تيمم، ولا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً منهم بذلك، مع علمه بنومهم، وأنه لا يكاد يخلو من محتلم منهم فيهِ.
وقد كانَ ابن عمر شاباً عزباً، ينام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأصل هذه المسألة: أن الجنب: هل يباح لهُ المرور في المسجد من غير تيمم، أم لا؟ وفي المسألة قولان:
أحدهما - وهو قول الأكثرين -: إنه يباح لهُ ذَلِكَ، وهو قول أكثر السلف ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وغيرهم.
وقد تأول طائفة من الصحابة قول الله عز وجل: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]، بأن المراد: النهي عن قربان موضع الصَّلاة - وهو المسجد - في حال الجنابة، إلا
أن يكون عابر سبيل، وهو المجتاز به من غير لبث فيهِ.
وقد روي ذَلِكَ عن ابن مسعود وابن عباس وأنس رضي الله عنهم.
وفي ((المسند)) ، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم سد أبواب المسجد غير باب
علي. قالَ: فيدخل المسجد جنباً، وهو طريقه ليس لهُ طريق غيره.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده، عن العوام، أن علياً كانَ يمر في المسجد، وهو جنب.
وبإسناده، عن جابر، قالَ: كانَ احدنا يمشي في المسجد وهو جنب مجتازاً.
وخرجه - أيضاً - سعيد بن منصور وابن خزيمة في ((صحيحه)) .
وعن زيد بن أسلم، قالَ: كانَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشون في المسجد، وهم جنب.
خرجه ابن المنذر وغيره.
ولا يجوز العبور إلا لحاجة، في اصح الوجهين لأصحابنا، وهو قول أكثر
السلف، منهم: عكرمة ومسروق والنخعي.
وقرب الطريق حاجة، في احد الوجهين لأصحابنا، وهو قول الحسن.
وفي الآخر: ليس بحاجة، وهو وجه للشافعية، والصحيح - عندهم -:
أنه يجوز المرور لحاجة وغيرها.
والقول الثاني: لا يجوز للجنب المرور في المسجد، فأن اضطر إليه تيمم، وهو قول الثوري وابي حنيفة وإسحاق ورواية عن مالك.
وقد روي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:((لا أحل المسجد لحائض ولا جنب)) .
خرجه أبو داود من حديث عائشة، وابن ماجه من حديث
أم سلمة وفي إسنادهما
ضعف.
وعلى تقدير صحة ذَلِكَ، فهوَ محمول على اللبث في المسجد؛ جمعاً بين
الدليلين.
وأهل هذه المقالة منهم من قالَ: إذا ذكر في المسجد أنه جنب أو احتلم في المسجد، فإنه يتيمم لخروجه، كما قاله بعض الحنفية.
وحديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري هنا حجة عليهِ.
18 - بَابُ
نَفْضِ الْيَدَينِ من الْغُسلِ من الْجَنابَةِ
خرج فيهِ:
276 -
حديث ميمونة: قالت: وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلاً، فسترته بثوب، وصب على يديه فغسلهما، ثم صب بيمينه على شماله، فغسل فرجه، وضرب بيده الأرض فمسحها، ثم غسلها، فتمضمض واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، ثم صب على راسه، وأفاض على جسده، ثم تنحى فغسل قدميه، فناولته ثوباً، فلم يأخذه، فانطلق وهو ينفض يديه.
خرجه من طريق أبي حمزة السكري، عن الأعمش، بإسناده المتقدم.
هذه الرواية مصرحة بأنه نفض يديه.
وفي رواية سبقت قبل ذَلِكَ: ((جعل ينقض الماء بيده)) .
فأما نفض الماء عن بدنه بيده، فقد دل هذا الحديث الصحيح عليهِ، فلا ينبغي أن يكون في عدم كراهته خلاف.
وأما نفض اليد بالماء، فقد كرهه طائفة من أصحابنا والشافعية، ولم يكرهه آخرون من الطائفتين، وهو الصحيح.
ورواية البخاري المخرجة في هذا الباب تدل عليهِ.
وفي ((سنن أبي داود)) ، من حديث هشام بن سعد: حدثني زيد بن
أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، فأخذ قبضة من ماء، فنفض يده، ثم مسح رأسه وأذنيه.
واستدل من كره ذَلِكَ، بما روى البختري بن عبيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالَ:((إذا توضأتم فأشربوا أعينكم الماء، ولا تنفضوا أيديكم؛ فإنها مراوح الشيطان)) .
خرجه إسحاق بن راهويه وبقي بن مخلد وأبو يعلى الموصلي في ((مسانيدهم)) .
قالَ ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هذا الحديث؟ فقالَ: حديث منكر، والبختري ضعيف الحديث، وأبوه مجهول.
واستدل بعضهم، برد النبي صلى الله عليه وسلم الثوب على ميمونة، على كراهة التنشيف، ولا دلالة فيهِ على الكراهة، بل على أن التنشيف ليس مستحباً، ولا أن فعله هوَ أولى، لا دلالة للحديث على أكثر من ذَلِكَ، كذا قاله الإمام أحمد وغيره من العلماء.
وأكثر العلماء على أن التنشيف من الغسل والوضوء غير مكروه.
وقد روي فعله عن جماعة من الصحابة، منهم: عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وعن خلق من التابعين، وهو قول الشعبي والثوري والأوزاعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد - في المشهور عنه - وإسحاق وغيرهم.
وهو المشهور عندَ الشافعية، وليس للشافعي في المسألة نص.
وكرهه طائفة من التابعين، وهو قول الحسن بن صالح وابن مهدي، ورواية عن أحمد، وأنكرها الخلال ولم يثبتها.
وكرهه ابن عباس، في الوضوء دون الغسل.
وعمدة من كرهه: أنه أثر عبادة على البدن، فكره إزالته، كخلوف فم
الصائم.
والخلوف، مختلف فيهِ - أيضاً.
وكان مكحول يتنشف بطرف ثوبه، ويرد المنديل، ويقول: إن فضل الوضوء بركة، فأريد أن يكون ذَلِكَ في ثيابي.
خرجه حرب الكرماني.
19 - بَابُ
من بَدأ بِشِق رأسِهِ الأيمَنِ في الْغُسْلِ
خرج فيهِ:
277 -
من حديث: صفية بنت شيبة، عن عائشة، قالت: كنا إذا أصاب إحدانا جنابة أخذت بيديها ثلاثاً فوق رأسها، ثم تأخذ بيدها على سقها الأيمن، وبيدها الأخرى على شقها الأيسر.
قد ذكرنا هذا الحديث فيما تقدم، وذكرنا أن ظاهره يدل على أن المرأة تفرغ على رأسها خمساً.
وقد ذكرنا فيما سبق في ((باب: من افرغ على رأسه ثلاثاً)) ، وفي ((باب:
تخليل الشعر)) أحاديث مرفوعة، تدل على البداءة بجانب الرأس الأيمن في الصب عليهِ، وفي تخليله بالماء قبل الإفراغ عليهِ ثلاثاً.
وقد روي من حديث عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في غسل الجنابة والحيض بالبداءة بشق الرأس الأيمن، وسيأتي في غسل الحيض - إن شاء الله تعالى.
والبداءة بشق الرأس الأيمن مستحبة، وليست واجبة.
روى الحارث، عن علي، قالَ: لا يضرك بأي جانبي رأسك بدأت.
خرجه أبو نعيم الفضل بن دكين في ((كتاب الصلاة)) .
وكذلك البداءة بجانب البدن الأيمن، فليس فيهِ حديث صريح، وإنما يؤخذ من عموم قول عائشة: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يستحب التيمن في طهوره.
ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم في غسل ابنته لما ماتت -: ((ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها)) . والله سبحانه وتعالى أعلم.
20 - بَابُ
من أغتسل عرياناً وحده في خلوة
ومن تستر، والتستر فضل
وقال بهز، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((الله أحق أن يستتر منه من الناس)) .
حديث بهز، عن أبيه، عن جده، قال: قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قالَ:((احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك)) . قالَ: الرجل يكون مع الرجل؟ قالَ ((قالَ ((إن استطعت أن لا يراها أحد فافعل)) . قالَ: فالرجل يكون خالياً؟ قالَ: ((فالله أحق أن تستحي منه)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي - وهذا لفظه.
قالَ: حديث حسن.
وصححه الحاكم وغيره.
خرج البخاري فيهِ:
278 -
من حديث: معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ: ((كانَ بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى بعض، وكان
موسى
عليه السلام يغتسل وحده، فقالوا: والله، ما يمنع موسى أن يغتسل معنا، إلا أنه آدر، فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فخرج موسى في إثره، يقول: ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى، فقالوا:
والله، ما بموسى بأس، وأخذ ثوبه، فطفق بالحجر ضرباً)) .
قالَ أبو هريرة: والله، إنه لندب بالحجر - ستة أو سبعة - ضرباً بالحجر.
279 -
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:((بينا أيوب عليه السلام يغتسل عرياناً فخر عليهِ جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب، الم أكن أغنيتك عما ترى؟ قالَ: بلى وعزتك، ولكن لا غني بي عن بركتك)) .
ورواه إبراهيم، عن موسى بن عقبة، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن
يسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((بيننا أيوب عليه السلام يغتسل عرياناً)) .
وخرج البخاري في ((أخبار الأنبياء)) من ((صحيحه)) هذا قصة موسى عليه السلام، من وجه آخر، من رواية عوف، عن ابن سيرين والحسن
وخلاس، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن موسى عليه السلام كانَ رجلاً حيياً ستيراً، لا يرى من جلده شيء، استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستر هذا الستر إلا من عيب بجلده، إما برص وإما أدرة وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرئه، فخلا يوماً وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه، ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملإبني إسرائيل، فرأوه عرياناً، أحسن ما خلق الله، وأبرأه الله مما
يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضرباً - ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً -، فلذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69] .
((الأدرة)) : انتفاخ الخصية.
و ((الندب)) : الأثر الباقي في الحجر، من ضرب موسى عليه السلام لهُ.
قالَ الخطابي: وفيه من الفقه: جواز الاطلاع على عورات البالغين؛ لإقامة حق واجب كالختان ونحوه.
قلت: هذا فيهِ نظر؛ فإن موسى عليه السلام لم يقصد التعري عندَ بني إسرائيل؛ لينظروا إليه، وإنما قدر الله لهُ ذَلِكَ حتَّى يبرئه عندهم مما آذوه به. وقد يقال: إن الله لا يقدر لنبيه ما ليس بجائز في شرعه.
وأما الاستدلال به على جواز الاغتسال في الخلوة عرياناً، فهوَ مبني على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يأت شرعنا
بخلافه.
وقد استدل بهذا على الجواز الغسل في الخلوة عرياناً إسحاق بن راهويه
- أيضاً -، وذكر أنه كانَ شرع من قبلنا، إلا أنه لم يرد شرعنا بخلافه.
وقد يمنع هذا من يقول: قد ورد شرعنا بالتستر في الخلوة - أيضاً -، وسيأتي بيان ذَلِكَ في الباب الآتي - إن شاء الله تعالى.
وقد روى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:((إن موسى بن عمران عليه السلام كانَ إذا اراد أن يدخل الماء لم يلق ثوبه، حتى يواري عورته في الماء)) .
خرجه الإمام أحمد.
وعلي بن زيد، هوَ: ابن جدعان، متكلم فيهِ.
وكذا القول في الاحتجاج بحديث أيوب عليه السلام عرياناً.
وأما الطريق الذي ذكره البخاري تعليقاً لحديث اغتسال أيوب عليه السلام فخرجه الإمام.
21 - بَابُ
التستر في الغسل عند الناس
خرج فيهِ حديثين:
أحدهما:
280 -
من رواية: مالك، عَن أبي النضر مولى عمر بنِ عبيد الله، أن أبا مرة مولى أم هانىء أخبره، أنَّهُ سمع أم هانىء تقول: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة تستره، فقال:((من هَذهِ؟)) فقلت: أنا أم هانىء.
هَذا الحديث يستدل بهِ لَما بوب عليهِ، وَهوَ: التستر عند الناس؛ لأن ابنة الرجل وغيرها من محارمه لا تنظر إلى العورة، فهي كالرجل معَ الرجل، وقد كانَ النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يستره رجل فيغتسل، وقد روي أن أبا ذر ستره لما اغتسل، وأنه صلى الله عليه وسلم قام فستر أبا ذر لما اغتسل.
خرجه الإمام أحمد.
وروي - أيضاً - عَن حذيفة مثله.
خرجه ابن أبي عاصم في ((كِتابِ الصيام)) .
وخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي السمح، قالَ: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أراد أن يغتسل قالَ:((ولني)) . فأوليه
قفاي، وأنشر الثوب فأستره بهِ.
وإسناده حسن.
الحديث الثاني:
281 -
حديث: ميمونة، قالت: سترت النبي صلى الله عليه وسلم وَهوَ يغتسل من الجنابة، فغسل يديه، ثُمَّ صب بيمينه على شماله فغسل فرجه وما أصابه، ثُمَّ مسح بيده على الحائط أو الأرض، ثُمَّ توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه، ثُمَّ افاض على جسده الماء، ثُمَّ تنحى فغسل قدميه.
خرجه من طريق ابن المبارك، عَن سفيان، عَن الأعمش، بإسناده المتقدم.
ثُمَّ قالَ:
تابعه: أبو عوانة وابن فضيل في الستر.
يعني: عَن الأعمش، فَقد خرجه فيما مضى من طريق أبي حمزة السكري، عَن الأعمش، وخرج - أيضاً - حديث أبي عوانة فيما مضى.
وخرج مسلم من حديث زائدة، عَن الأعمش، بهذا الإسناد، عَن ميمونة، قالت: وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماء وسترته، فاغتسل.
فهذا الحديث مما يستدل بهِ على التستر في الاغتسال في الخلوة؛ لأن
اغتسال الرجل معَ زوجته كاغتساله خالياً.
ويدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يستتر عند اغتساله معَ أهله: ما خرجه الإمام أحمد وابن ماجه من حديث عائشة، قالت: ما رأيت فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قط.
لكن؛ في إسناده من لا يعرف.
وخرج البزاز من حديث مسلم الملائي، عَن مجاهد، عَن ابن عباس قالَ: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من وراء الحجرات، وما رئي عورته قط ومسلم الملائي، فيهِ ضعف.
وخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث يعلى بنِ أمية عَن النبي
صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ رأى رجلاً يغتسل بالبراز، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليهِ، فقالَ:((إن الله حيي ستير، فإذا أراد أحدكم أن يغتسل فليتوار بشيء)) .
وقد قيل: إن في إسناده انقطاعاً، ووصله بعض الثقات، وأنكر وصله أحمد وأبو زرعة.
وخرج أبو داود في ((مراسيله)) من حديث الزهري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ:((لا تغتسلوا في الصحراء، إلا أن تجدوا متوارى؟، فإن لَم تجدوا متوارى فليخط أحدكم خطاً كالدار، ثُمَّ يسمي الله، ويغتسل فيها)) .
وخرجه الطبراني متصلاً عَن الزهري، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة ولا يصح وصله.
ولا يصح وصله.
وفي الباب أحاديث أخر.
فالمغتسل في الخلوة إن كانَ معه من يباح لَهُ النظر إلى عورته كزوجته أو أمته، فقالَ أصحابنا وغيرهم: لا يجب عليهِ التستر؛ لحديث بهز بنِ حكيم المذكور في الباب الماضي، والأفضل التستر؛ لحديث ميمونة.
وهذا مبني على القول بجواز نظر أحد الزوجين إلى فرج الآخر، وفيه اختلاف مشهور.
ومن أصحاب من جزم بكراهته كصاحب ((المغني)) ، وحكى أبو الحسن الآمدي رواية عَن أحمد بتحريمه.
وبكل حال؛ فالاستتار أولى، وعليه يدل حديث ميمونة، وحديث عائشة: ما نظرت إلى فرجه قط.
وأكثر العلماء على أنَّهُ غير محرم، منهُم: مجاهد، ومكحول، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق وغيرهم.
وروى بقية بنِ الوليد: حدثني عتبة بنِ أبي حكيم: حدثني سليمان بنِ موسى، وسألته عَن الرجل ينظر إلى فرج امرأته، فقالَ سليمان: سألت عطاء عَن ذَلِكَ، فقالَ: حدثتني عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في هَذا البيت، وبيننا وبينها حجاب، قالت: كنت أنا وحبي نغتسل من إناء واحد، تختلف فيهِ أكفنا. قالَ: وأشارت إلى إناء في البيت، قدر الفرق، ستة أقساط.
خرجه حرب الكرماني وابن عدي.
وخرجه بقي بن مخلد من
طريق صدقة بنِ خالد: نا عتبة بنِ أبي حكيم - فذكره بنحوه.
وسليمان بنِ موسى، مختلف في أمره.
وإن لَم يكن معه أحد، فحكى أكثر أصحابنا في كراهته روايتين عَن أحمد؛ لأنه كشف لغرض صحيح، فَهوَ كالكشف للتخلي ونحوه.
ومنهم: من حكى في جواز كشف العورة خالياً روايتين عَن أحمد.
وقالوا: ظاهر كلام أحمد تحريمه؛ فإن الكشف وإن جاز للحاجة، فإنه يتقدر بقدرها، ولا حاجة إلى التكشف للغسل معَ إمكان الاستتار، ولا إلى القيام عرياناً معَ إمكان القعود والتضام.
وروي عَن أبي موسى الأشعري، قالَ: إني لأغتسل في البيت المظلم، فأحني ظهري إذا أخذت ثوبي حياء من ربي عز وجل.
وعنه، قالَ: ما أقمت صلبي في غسل منذ أسلمت.
خرجهما ابن أبي شيبة وغيره.
وظاهر كلام ابن بطة من أصحابنا يدل على وجوب التستر في الغسل في الخلوة، فإن لَم يجد ما يتستر بهِ، وجب أن يتضام ما استطاع.
ونقل حرب عَن أحمد، في الرجل يدخل الماء بغير إزار، فكرهه كراهية شديدة.
قيل لَهُ: كل المياه؟ قالَ: نعم قيل لَهُ: فإذا دخل الماء يحل إزاره؟ قالَ: لا.
وممن كانَ لا يدخل الماء إلا بمئزر: ابن عمر، والحسن، والحسين، وقالا: إن للماء سكاناً. وكذلك قالَ ابن أبي ليلى.
وقال عمرو بنِ ميمون: لا يدخل أحد الفرات إلا بإزار، ولا الحمام إلا بإزار، إلا تستحيون مما استحى منهُ أبوكم آدم؟
وقد روي مرفوعاً من رواية حماد بنِ شعيب، عَن أبي الزبير، عَن جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل الماء إلا بمئزر.
خرجه العقيلي وغيره.
وأنكره الإمام أحمد؛ لأجل حماد بنِ شعيب.
وقد تابعه عليهِ الحسن بن بشر، فرواه عَن زهير، عَن أبي الزبير - أيضاً.
خرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) .
والحسن، مختلف فيهِ، وقد خرج لَهُ البخاري في ((صحيحه)) .
وقال أحمد: روى عَن زهير مناكير.
22 - باب
إذا احتلمت المرأة
282 -
حدثنا عبد الله بنِ يوسف: أنا مالك، عَن هشام بنِ عروة، عَن أبيه، عَن زبيب بنت أبي سلمة، عَن أم سلمة، أنها قالت: جاءت أم سليم إمرأة أبي طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول؟ إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:((نعم، إذا رأت الماء)) .
وقد خرجه البخاري في آخر ((كِتابِ العلم)) في ((باب الحياء في العلم)) بزيادة في آخره، واقتصر في هَذا الباب على ما يحتاج إليه فيهِ.
وقد خرجه مسلم من حديث عائشة، وأنس، ومن حديثه عَن أمه.
أم سليم، وله طرق متعددة.
وهذا الحديث: نص على أن المرأة إذا إذا رأت حلماً في منامها، ورأت الماء في اليقضة أن عليها الغسل.
وإلى هَذا ذهب جمهور العلماء، ولا يعرف فيهِ خلاف، إلا عَن النخعي وَهوَ شذوذ.
ولعل النخعي أنكر وقوع ذَلِكَ من المرأة كَما أنكرته أم سلمة على أم سليم، حتى قالَ لها النبي صلى الله عليه وسلم:((تربت يمينك، وبم يشبهها ولدها؟)) .
فبين صلى الله عليه وسلم أن للمرأة ماء كما للرجل، وأنها إذا رأت الماء في نومها باحتلام، فإنه يجب عليها الغسل منهُ. وفي ذَلِكَ تنبيه على أن الرجل كذلك، وأنه إذا رأى حلماً ورأى الماء، أنَّهُ يلزمه الغسل. وهذا مما لا اختلاف فيهِ بين العلماء.
وقد روى الإمام أحمد وابن ماجه من حديث علي بنِ زيد بنِ جدعان، عَن سعيد بنِ المسيب، عَن خولة بنت حكيم، أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عَن المرأة ترى في منامها مايرى الرجل؟ فقالَ:((ليسَ عليها غسل حتَّى تنزل، كَما أن الرجل ليسَ عليهِ غسل حتَّى ينزل)) .
وقد روي عَن ابن المسيب مرسلاً.
ولو رأى الرجل والمرأة بللاً ولم يذكر احتلاماً، فإن كانت أوصاف المني موجودة فيهِ لزم الغسل، وإن احتمل أن يكون منياً وأن يكون مذياً وغير ذَلِكَ ففيه قولان:
أحدهما: عليهِ الغسل، حكاه الترمذي في ((كتابه)) عَن غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين، وعن سفيان، وأحمد.
وممن روي عَنهُ أنه قالَ: يغتسل: ابن عباس، وعطاء، والشعبي، والنخعي.
وَهوَ قول أبي حنيفة، وظاهر مذهب أحمد، إلا أنَّهُ استثنى من ذَلِكَ أن يكون ثُمَّ سبب يقتضي خروج غير المني، مثل أن يكون قَد سبق منهُ ملاعبته لأهله، أو فكر قبل نومه، أو يكون بهِ إبردة فخرج منهُ بلل بسببها، فلم يوجب الغسل في هَذهِ الصور؛ لأن إحالة البلل الخارج على السبب الموجود المعلوم أولى من إحالته على سبب موهوم.
فإن لَم يوجد شيء من هَذهِ الأسباب لزمه الغسل؛ لأن خروج المني من النائم بالاحتلام هوَ الأغلب، فيحال البلل عند لشك عليهِ دونَ المذي وغيره؛ لأن خروج ذَلِكَ في النوم أندر، ولأن ذمته قَد اشتغلت بطهارة قطعاً، ولا يتيقن، بل ولا يغلب على الظن صحة صلاته بدون الإتيان بطهارة الوضوء والغسل، فلزمه ذَلِكَ.
والقول الثاني: لا غسل عليهِ بذلك حتى يتيقن أنَّهُ مني، وَهوَ قول مجاهد،
وقتادة، والحكم، وحماد، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأبي يوسف، لأن الأصل الطهارة، فلا يجب الغسل بالشك.
والقول الأول أصح.
ولا يشبه هَذا من تيقن الطهارة وشك في الحدث؛ فإن ذاك لَم يتيقن شيئاً موجباً لطهارة في ذمته، بل هوَ مستصحب للطهارة المتيقنة، ولم يتيقن اشتغال ذمته بشيء، وهذا قَد تيقن أن ذمته اشتغلت بطهارة،
فلا تبرأ ذمته بدون الإتيان بالوضوء والغسل.
ورجح هَذا القول طائفة من محققي الشافعية - أيضاً.
وأما إن رأى الرجل والمرأة احتلاماً، ولم ير بللاً، فلا غسل عليهِ، كَما دل عليهِ هَذا الحديث الصحيح، وحكاه الترمذي عَن عامة أهل العلم، وحكاه ابن المنذر إجماعاً عَن كل من يحفظ عَنهُ من أهل العلم.
وحكى ابن أبي موسى من أصحابنا رواية عَن أحمد: أنَّهُ إذا رأى في منامه احتلاماً ووجد لذة الإنزال في منامه، ولم يجد بللاً عند استيقاظه، أنَّهُ يلزمه الغسل، وبناه على قول الإمام أحمد المشهور عَنهُ: إن المني إذا انتقل من محله، ولم يخرج، فإنه يجب الغسل بانتقاله.
وفي هَذا نظر؛ فإنه قَد لا يتحقق انتقاله بمجرد وجود اللذة في النوم.
وقد ورد في هَذا الحديث صريح، خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي من حديث عبد الله بن عمر، عَن أخيه عبيد الله، عَن القاسم، عَن عائشة، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عَن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً؟ قالَ: ((يغتسل)) ، وعن الرجل يرى أنَّهُ قَد احتلم ولم يجد بللاً؟
قالَ: ((لا غسل عليهِ)) . قالت أم سليم: يا رسول الله، هل على المرأةترى ذَلِكَ غسل؟ قالَ:((نعم، إنما النساء شقائق الرجال)) .
وليس عندَ ابن ماجه: ((قالت أم سليم)) - إلى أخره.
وقد استنكر أحمد هَذا الحديث في رواية مهنا، وقال في رواية الفضل ابن زياد: أذهب إليه.
قالَ الترمذي: إنما روى هَذا عبد الله بنِ عمر، وقد تكلم فيهِ يحيى القطان من قبل حفظه.
قلت: وقد روي معناه - أيضاً - من حديث كعب بنِ مالك. خرجه أبو نعيم في ((تاريخ أصبهان)) ، وإسناده لا يصح. والله أعلم.
23 - باب
عرق الجنب، وأن المسلم لا ينجس
283 -
حدثنا علي بنِ عبد الله: نا يحيى: نا حميد: نا بكر، عَن أبي رافع، عَن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طريق المدينة وَهوَ جنب، فانخنست منهُ، فذهب فاغتسل ثُمَّ جَاءَ، فقال:((أين كنت يا أبا هريرة؟)) قالَ: كنت جنباً، فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة. فقالَ:((سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس)) .
قولُهُ: ((انخنست)) ، أي: تواريت، واختفيت منهُ، وتأخرت عَنهُ، ومنه:
الوسواس الخناس وَهوَ الشيطان، إذا غفل العبد عَن ذكر الله وسوس لَهُ، فإذا ذكر الله خنس وتأخر.
ومنه سميت النجوم خنساً، قالَ تعالى:{فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير:15]، وانخناسها: رجوعها وتواريها تحت ضوء الشمس، وقيل: اختفاؤها بالنهار.
وفيه: دليل على أن الجنب لَهُ أن يذهب في حوائجه ويجالس أهل العلم والفضل، وأنه ليسَ بنجس، وإذا لَم يكن نجساً ففضلاته الطاهرة باقية على طهارتها، كالدمع والعرق والريق، وهذا كله مجمع عليهِ بين العلماء، ولا نعلم بينهم فيهِ اختلافاً.
قالَ الإمام أحمد: عائشة وابن عباس يقولان: لا بأس بعرق الحائض والجنب.
وقال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن عرق الجنب طاهر.
وثبت: عَن عمر وابن عباس وعائشة، أنهم قالوا ذَلِكَ، ثُمَّ سمى جماعة ممن قالَ به بعدهم، وقال: ولا أحفظ عَن غيرهم خلافهم.
قلت: وقد سبق خلاف في كراهة سؤر الحائض والجنب، وفي كراهة الماء الذِي أدخلا فيهِ أيديهما، ولعل من كره ذَلِكَ لَم يكرهه لنجاسة أبدانهما عنده. والله أعلم.
وقد روى وكيع، عَن مسعر، عَن حماد، في الجنب يغتسل ثُمَّ يستدفىء بامرأته قبل أن تغتسل؟ قالَ: لا يستدفىء بها حتَّى يجف.
24 - باب
الجنب يخرج ويمشي في السوق
[وغيره]
وقال عطاء: يحتجم الجنب، ويقلم أظفاره، ويحلق رأسه، وإن لَم يتوضأ.
حاصل هَذا: ان الجنب لَهُ تاخير غسل الجنابة ما لَم يضق عليهِ وقت الصلاة، وله أن ينصرف في حوائجه، ويخرج من بيته، ويمشي في الأسواق، ويدخل إلى بيوت أهله وغيرهم لقضاء حوائجه.
وما حكاه عَن عطاء، معناه: أن الجنب لا يكره لَهُ الأخذ من شعره وظفره في حال جنابته، ولا أن يخرج دمه بحجامة وغيرها.
وقال الإمام أحمد في الجنب يحتجم، ويأخذ من شعره وأظفاره، أو يختضب:
لا بأس بهِ.
قالَ: ولا بأس أن يطلي بالنورة، كانَ عطاء يقول: لا بأس بهِ.
وقال: لا بأس أن تختضب الحائض.
وقال إسحاق بنِ راهوايه: خضاب المرأة في أيام حيضها لا باس بهِ، سنة ماضية من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهن من أهل العلم.
وروى أيوب، عَن معاذة، أن أمراة سألت عائشة: أتختضب الحائض؟
فقالت: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نختضب، فلم يكن ينهانا عَنهُ.
خرجه ابن ماجه.
ولا نعلم في هَذا خلافاً إلا ما ذكره بعض أصحابنا وَهوَ أبو الفرج الشيرازي، أن الجنب يكره لَهُ الأخذ من شعره واظفاره، وذكر فيهِ حديثاً مرفوعاً.
وهذا المرفوع خرجه الإسماعيلي في ((مسند علي)) بإسناد ضعيف جداً عَن علي - مرفوعاً -: ((لا يقلمن أحد ظفراً، ولا يقص شعراً، إلا وَهوَ طاهر، ومن اطلى وَهوَ جنب كانَ [علته] عليهِ)) ، وذكر كلاماً، قيل لَهُ: لَم يا رسول الله؟
قالَ: ((لأنه لا ينبغي أن يلقي الشعر إلا وَهوَ طاهر)) .
وهذا منكر جداً، بل الظاهر أنَّهُ موضوع. والله أعلم.
وخرج البخاري في هَذا الباب حديثين:
أحدهما:
قالَ:
284 -
نا عبد الأعلى بنِ حماد: نا يزيد بنِ زريع: نا سعيد، عَن قتادة، أن أنس بنِ مالك حدثهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، وله يومئذٍ تسع نسوة.
قَد ذكر بعض هَذا الحديث تعليقاً فيما سبق.
وإنما تتم دلالة الحديث على مراده إذا كانَ يطوف عليهن بغسل واحد، وقد تقدم أن ذَلِكَ روي عَن أنس من وجوه متعددة، وإن لَم يخرجها البخاري.
الحديث الثاني:
285 -
حدثنا عياش: نا عبد الأعلى: نا حميد، عَن بكر، عَن أبي رافع، عَن أبي هريرة، قالَ: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جنب، فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى
قعد، فانسللت فأتيت الرحل فاغتسلت، ثُمَّ جئت وَهوَ قاعد، فقالَ:((أين كنت يا أبا هريرة؟)) فقلت لَهُ، فقالَ:((سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس)) .
وفي هَذهِ الرواية زيادة على الرواية السابقة، وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد
أبي هريرة [. . .] .
وَهوَ يمشي معه حتى قعدا. وهذا استدل بهِ على استحباب المصفاحة، وعلى جواز مصافحة الجنب، وقد يكون في يده عرق.
وفي المعنى - أيضاً - عَن حذيفة:
خرجه مسلم من طريق أبي وائل، عَن حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه وَهوَ جنب فحاد عَنهُ فاغتسل، ثُمَّ جَاءَ فقالَ: كنت جنباً، فقالَ:((إن المسلم لا ينجس)) .
وخرجه أبو داود، ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه، فأهوى إليه، فقالَ: إني جنب، قالَ:((إن المؤمن لا ينجس)) .
وخرجه النسائي وابن حبان في ((صحيحه)) من طريق أبي بردة، عَن حذيفة، قالَ: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي الرجل من أصحابه مسحه ودعا [لَهُ] .
قالَ: فرأيته يوماً بكرة فحدت عَنهُ، ثُمَّ أتيته حين ارتفع النهار،
فقالَ: ((إني رأيتك فحدت عني؟)) فقلت: إني كنت جنباً، فخشيت أن تمسني، فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن المسلم لا ينجس)) .
25 - باب
كينونة الجنب في البيت إذا توضأ
خرج فيهِ حديثين:
أحدهما:
قالَ:
286 -
نا أبو نعيم: نا هشام وشيبان، عَن يحيى، عَن أبي سلمة، قالَ: سألت عائشة: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يرقد وهو جنب؟ قالت: نعم، ويتوضأ.
والثاني:
قالَ:
278 -
ثنا قتيبة: نا الليث، عَن نافع، عَن ابن عمر، أن عمر بنِ الخطاب سأل
النبي صلى الله عليه وسلم: أيرقد أحدنا وَهوَ جنب؟ قالَ ((نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد وَهوَ
جنب)) .
ومراد البخاري بهذين الحديثين في هَذا الباب: الاستدلال على جوا تأخير الغسل من الجنابة لغير الضرورة، وإن الجنب كانَ في بيته، وإن نام في بيته وَهوَ جنب، ولكنه إذا أراد النوم فإنه يستحب أن يتوضأ، وقد أفرد باباً بعد هَذا.
ويتعلق بهذا: حكم أكل الجنب، وقد وردت فيهِ أحاديث لَم يخرجها البخاري:
فخرج مسلم من حديث شعبة، عَن الحكم، عَن إبراهيم، عَن الأسود، عَن عائشة، قالت: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانَ جنباً فأراد أن يأكل أو ينام توضأ.
وخرجه وكيع في ((كتابه)) - وعنه الإمام أحمد -، وزاد:((أو يشرب)) .
وقد تكلم في لفظة: ((الأكل)) :
قالَ الإمام أحمد: قالَ يحيى بنِ سعيد: رجع شعبة عَن قولُهُ: ((يأكل)) ، قالَ أحمد: وذلك لأنه ليسَ أحد يقوله غيره، إنما هوَ في النوم. انتهى.
وقد رواه - أيضاً - ميمون أبو حمزة، عَن إبراهيم، بهذا الإسناد، وزاد:
((وضوءه للصلاة)) .
خرجه الطبراني.
أبو حمزة هَذا، ضعيف جداً.
وروى ابن المبارك، عَن يونس، عَن الزهري، عَن أبي سلمة، عَن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم
كانَ إذا أراد أن ينام وَهوَ جنب توضأ وضوءه للصلاة، وإذا أراد أن يأكل وَهوَ جنب غسل يديه.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
وفي رواية لَهُ: إذا أراد أن يأكل أو يشرب.
وخرج ابن ماجه آخره.
ورواه الأوزاعي، عَن يونس، عَن الزهري كذلك.
ورواه عيسى بنِ يونس، عَن يونس، عَن الزهري، عَن عروة، عَن عائشة.
خرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) .
ورواه صالح بنِ أبي الأخضر، عَن الزهري، عَن أبي سلمة أو غيره - بالشك - عَن عائشة.
خرجه الإمام أحمد.
ورواه ابن وهب، عَن يونس، فجعل ذكر الأكل من قول عائشة، ولم يرفعه.
وأعله أبو داود وغيره بذلك.
وضعف أحمد حديث صالح بنِ أبي الأخضر.
وخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي من حديث عطاء
الخرساني عَن يحيى بنِ يعمر، عَن عمار بنِ ياسر، أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة.
وحسنه الترمذي.
وإسناده منقطع؛ فإن يحيى بن يعمر لَم يسمع من عمار بن ياسر -: قاله ابن معين، [و] أبو داود، والدارقطني وغيرهم.
وروى شرحبيل بنِ سعد، عن جابر، قالَ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عَن الجنب:
هل ينام أو يأكل أو يشرب؟ قالَ ((نعم، إذا توضأ وضوءه للصلاة)) .
خرجه ابن ماجه وابن خزيمة في ((صحيحه)) .
وشرحبيل، ضعفه يحيى وغيره.
وروي عَن شريك، عَن عبد الله بنِ محمد بنِ عقيل، عَن جابر، عَن النبي صلى الله عليه وسلم، في الجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب، فليتوضأ وضوءه للصلاة.
خرجه ابن عدي وغيره.
وفي الباب أحاديث أخر ضعيفة.
وقد اختلف العلماء في الجنب إذا أراد الأكل:
فقالت طائفة منهم: يتوضأ، منهُم: علي، وابن عمر، وابن سيرين، وأبو جعفر محمد بنِ علي، والنخعي، ورخص في الشرب بغير وضوء دونَ الأكل.
واستحباب الوضوء للأكل قول الشَافِعي، وأحمد في رواية، وقال معَ هَذا: لا يكره تركه.
وقال القاضي أبو يعلى من أصحابنا: يكره تركه.
وقالت طائفة: المستحب للجنب إذا أراد الأكل أن يغسل كفيه - ومنهم من قالَ: ويمضمض -، وروي هَذا عَن ابن المسيب، ومجاهد، والزهري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، وَهوَ رواية عَن أحمد، وزعم الخلال أن أحمد رجع إليها أخيراً.
وأنكرت طائفة الوضوء وغسل اليد للأكل، روي عَن مالك، وقال: لا يغسل يده إلاّ أن يكون فيها قذر.
ومما يتعلق بذلك: جلوس الجنب في المسجد إذا توضأ، وهو قول أحمد، وإسحاق.
قالَ عطاء بنِ يسار: رأيت رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون، إذا توضئوا وضوء الصلاة.
خرجه سعيد بنِ منصور والأثرم.
وعن زيد بنِ أسلم، قالَ: كانَ الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجنب،
ثُمَّ يتوضأ، ثُمَّ يدخل المسجد فيجلس فيهِ.
وقال أكثر الفقهاء: لا يجوز للجنب الجلوس في المسجد بوضوء ولا غيره، حتى يغتسل، إلا أن يضطر إلى ذَلِكَ، وَهوَ قول أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وحكي رواية عَن أحمد، ورجحها بعض أصحابنا.
ومتى اضطر إلى ذَلِكَ للخوف على نفسه أو ماله فله اللبث فيهِ.
وهل يلزمه التيمم لذلك؟ فيهِ قولان:
أحدهما: لا يلزمه ذَلِكَ، وَهوَ منصوص أحمد، وقول أكثر أصحابه؛ لأنه ملجأ إلى ذَلِكَ.
والثاني: يلزمه التيمم، وَهوَ قول الشافعية، واختاره صاحب ((المغني))
مِن أصحابنا.
ورخصت طائفة للجنب في الجلوس في المسجد والمقام فيهِ بكل حال بدون
وضوء، وَهوَ قول داود [والمزني] وابن المنذر.
27 - باب
الجنب يتوضأ، ثُمَّ ينام
خرج فيهِ مِن حديث عائشة، وابن عمر.
فأما حديث عائشة:
288 -
فخرجه مِن طريق: عبيد الله بنِ أبي جعفر، عَن محمد بنِ عبد الرحمن
- وَهوَ: أبو الأسود يتيم عروة -، عَن عروة، عَن عائشة، قالت:
كانَ النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وَهوَ جنب غسل فرجه، وتوضأ للصلاة.
وقد خرجه في الباب الماضي مِن حديث يحيى بنِ أبي كثير، عَن أبي سلمة، عَن عائشة.
ولم يخرج حديث الزهري في هَذا، وقد خرجه مسلم، مِن حديث الليث. عَن الزهري، عَن أبي سلمة، عَن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ إذا أراد أن ينام وَهوَ جنب توضأ وضوءه للصلاة قبل أن ينام.
وإنما لَم يخرجه لاختلاف وقع في إسناده على الزهري، فإنه روي: عَنهُ،
عَن أبي سلمة. وروي: عَنهُ، عَن عروة. وروي: عَنهُ، عنهما. وروي:
عَنهُ، عَن أحدهما - بالشك. وروي: عَنهُ، عمن حدثه عَن عائشة - غير مسمى.
وأما حديث ابن عمر، فخرجه مِن طريقين:
أحدهما:
289 -
مِن رواية: جويرية، عَن نافع، عَن عبد الله، قالَ: استفتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم: أينام أحدنا وَهوَ جنب؟ قالَ: ((نعم، إذا توضأ)) .
وقد خرجه في الباب الماضي مِن حديث الليث، عَن نافع.
وخرجه - أيضاً - في [. . .] مِن حديث ابن جريج، فزاد في آخره:
((حتى يغتسل إذا شاء)) .
الثاني:
290 -
حديث: مالك، عَن عبد الله بنِ دينار، عَن ابن عمر قالَ: ذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنَّهُ تصيبه الجنابة مِن الليل، فقالَ لهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم:((توضأ، واغسل ذكرك، ثُمَّ نم)) .
ورواه ابن عيينة، عَن عبد الله بنِ دينار، عَن ابن عمر، عَن عمر، أنَّهُ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
: أينام أحدنا وَهوَ جنب؟ قالَ: ((نعم، ويتوضأ إن شاء)) .
خرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) مِن طريق أحمد بن عبدة، عَن سفيان.
ورواه بشر بنِ مطر، عَن ابن عيينة، عَن عبد الله بنِ دينار، عَن ابن عمر، أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينام أحدنا وَهوَ جنب؟ فقالَ: ((ليتوضأ، ولينم، وليطعم إن شاء)) .
وكذا رواه الحميدي، عَن سفيان.
وهذه الزيادات لا تعرف إلا عَن ابن عيينة.
ورواه سفيان الثوري، عَن عبد الله بنِ دينار، وقال في حديثه:((ويتوضأ وضوءه للصلاة)) .
وقد ذهب أكثر العلماء إلى هَذهِ الأحاديث، وقالوا: أن الجنب إذا أراد النوم غسل ذكره وتوضأ.
وممن أمر بذلك: علي، وابن عمر، وعائشة، وشداد بنِ أوس، وأبو سعيد الخدري، وابن عباس، وَهوَ قول الحسن، وعطاء، وابن المبارك، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق وغيرهم مِن العلماء، وكرهوا تركه معَ القدرة عليهِ.
ومنهم مِن قالَ: هوَ واجب ويأثم بتركه. وَهوَ رواية عَن مالك، واختارها ابن حبيب مِن أصحابه، وَهوَ قول طائفة مِن أهل الظاهر.
ونقل
مثنى الأنباري عَن أحمد، في الجنب ينام مِن غير أن يتوضأ: هل ترى عليهِ شيئاً؟ قالَ: فلم يعجبه، وقال: يستغفر الله.
وهذا يشعر بأنَّهُ ذنب يستغفر منهُ.
ونص على أنَّهُ يتوضأ وضوء الصلاة كاملاً، واحتج بحديث عائشة:((توضأ وضوءه للصلاة)) .
وروي عَن ابن عمر، أنَّهُ كانَ يتوضأ وضوء الصلاة سوى غسل رجليه.
وروي عَنهُ، أنَّهُ كانَ يغسل يديه ووجهه.
وعن سفيان الثوري رواية، أنَّهُ يغسل كفيه ثُمَّ ينام.
وحكى ابن عبد البر عَن طائفة مِن العلماء، أنهم حملوا الوضوء عند النوم للجنب على غسل الأذى والفرج وغسل اليدين.
وهذا ترده رواية: ((توضأ وضوءه للصلاة)) .
وروي عَن عائشة: أنَّهُ يتوضأ أو يتيمم: قالَ ابن أبي شيبة: نا عثام بنِ علي، عَن هشام، عن أبيه، عَن عائشة، في الرجل تصيبه جنابة مِن الليل، فيريد أن ينام؟ قالت: يتوضأ، أو يتيمم.
وروي مرفوعاً؛ خرجه الطبراني مِن طريق عمار بنِ نصر أبي ياسر: نا بقية بنِ الوليد، عَن إسماعيل بنِ عياش، عَن هشام بنِ عروة،
عَن أبيه، عَن عائشة، قالت: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم إذا واقع بعض أهله، فكسل أن يقوم، ضرب يده على الحائط، فتيمم.
وهذا المرفوع لا يثبت، وإسماعيل بنِ عياش رواياته عَن الحجازيين ضعيفة، وعمار بنِ نصر ضعيف، ورواية عثام الموقوفة أصح.
ولا فرق في نوم الجنب بين نوم الليل والنهار، حكاه إسحاق بنِ راهويه عَن بعض العلماء، ولم يمسه.
واختلفوا: هل المرأة في ذَلِكَ كالرجل، أم لا؟
فقالت طائفة: هما سواء، وَهوَ قول الليث، وحكي رواية عَن أحمد، وقد نص على التسوية بينهما في الوضوء للأكل.
والثاني: أن الكراهة تخص بالرجل دونَ المرأة، وَهوَ المنصوص عَن أحمد.
ولعله يستدل بأن عائشة لَم تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يأمرها بالوضوء، وإنما أخبرت عَن وضوئه لنفسه.
وقد دلت هَذهِ الأحاديث المذكورة في هَذا الباب: على أن وضوء الجنب يخفف جنابته.
ولو نوى بوضوئه رفع الحدثين ارتفع عَن أعضاء وضوئه حدثاه جميعاً، بناء على أن الغسل لا يشترط لَهُ موالاة، وَهوَ قول الجمهور، خلافاً لمالك، كَما سبق ذكره.
وإن نوى بوضوئه رفع الحدث الأصغر ارتفع وحده، ولم يرتفع معه شيء مِن الجنابة.
وإن نوى النوم، فهل يرتفع حدثه الأصغر؟ يتخرج على الخلاف فيمن نوى طهارة مستحبة، فهل يرتفع حدثه أم لا؟
على قول مِن قالَ: إن
الضوء للنوم واجب، لا يجوز النوم بدونه؛ فإنه يرتفع الحدث حينئذٍ بغير تردد.
وَهوَ كَما لو نوى الجنب بوضوئه اللبث في المسجد؛ فإنه يرتفع بذلك حدثه الأصغر عند أصحابنا.
وقد ورد في الجنب: ((إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيهِ جنب)) ، كذلك روي عَن علي، عَن النبي صلى الله عليه وسلم.
خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم وصححه.
وورد: ((إن الملائكة لا تشهد جنازة الجنب إذا مات)) ، [خرجه] مِن حديث يحيى بنِ يعمر، عَن عمار، عَن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:((إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر، ولا المتضمخ بزعفران، ولا الجنب)) .
خرجه الإمام أحمد، وأبو داود.
وفي آخر الحديث: الرخصة لَهُ إذا أراد النوم، أو الأكل، أن يتوضأ، وهذا يدل على أن الوضوء يخفف أمره.
وخرج أبو داود مِن حديث الحسن، عَن عمار بنِ ياسر، عَن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:
((ثلاثة لا تقربهم الملائكة: جيفة الكافر، والمتضمخ بالخلوق، والجنب، إلا أن
يتوضأ)) .
وخرجه بقي بنِ مخلد في ((مسنده)) ، ولفظه:((ثلاثة لا تقربهم الملائكة بخير: جيفة الكافر، والمتضمخ بالخلوق، والجنب، إلا أن يبدو لَهُ أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة)) .
ويحيى بنِ يعمر، والحسن لَم يسمع مِن عمار.
وخرجه الطبراني، ولفظه:((إن الملائكة لا تحضر جنازة كافر بخير، ولا جنباً حتى يغتسل أو يتوضأ وضوءه للصلاة، ولا [متضمخاً] بصفرة)) .
وروى وكيع في ((كتابه)) عَن هشام بنِ عروة، عَن أبيه، عَن عائشة، قالت:
إذا أراد أحدكم أن يرقد وَهوَ جنب فليتوضأ؛ فإن أحدكم لا يدري لعله أن يصاب في منامه.
ورخص آخرون في نوم الجنب مِن غير وضوء، مِنهُم: سعيد بنِ المسيب،
وربيعة، وأبو حنيفة، وسفيان الثوري، والحسن بنِ حي، ووكيع.
وروى أبو حنيفة، عَن حماد، عَن إبراهيم، قالَ: كانوا ينامون وهم جنب - يعني: قبل الوضوء.
وقد ورد حديث يدل على الرخصة، مِن رواية أبي إسحاق، عَن الأسود، عَن عائشة، قالت: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم ينام وَهوَ جنب، ولا يمس ماء.
خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي.
وقال: قَد روى غير واحد عَن الأسود، عَن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم: كانَ يتوضأ قبل أن ينام - يعني: جنباً.
قالَ: وهذا أصح مِن حديث أبي
إسحاق، عَن الأسود.
قالَ: ويرون أن هَذا غلط مِن أبي إسحاق.
وقد تقدم حديث الحكم، عَن إبراهيم، عَن الأسود، عَن عائشة بخلاف هَذا.
خرجه مسلم.
وكذلك رواه حجاج بنِ أرطاة، عَن عبد الرحمن بنِ الأسود، عَن أبيه عَن عائشة.
خرج حديثه الإمام أحمد، ولفظه: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يجنب مِن الليل، ثُمَّ يتوضأ وضوءه للصلاة حتى يصبح، ولا يمس ماء.
وخرجه بقي بنِ مخلد مِن طريق أبي إسحاق، عَن عبد الرحمن بنِ الأسود، عَن أبيه، قالَ: سألت عائشة: كيف كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع إذا أراد أن ينام وهو
جنب؟ قالت: يتوضأ وضوءه للصلاة، ثُمَّ ينام.
وهذا الحديث مما اتفق أئمة الحديث مِن السلف على إنكاره على أبي إسحاق، مِنهُم: إسماعيل بنِ أبي خالد، وشعبة، ويزيد بن هارون، وأحمد بنِ حنبل، وأبو بكر بنِ أبي شيبة، ومسلم بنِ حجاج، وأبو بكر الأثرم، والجوزاني، والترمذي،
والدارقطني.
وحكى ابن عبد البر عَن سفيان الثوري، أنَّهُ قالَ: هوَ خطأ.
وعزاه إلى ((كِتابِ أبي داود)) ، والموجود في ((كتابه)) هَذا الكلام عَن يزيد بن
هارون، لا عَن سفيان.
وقال أحمد بنِ صالح المصري الحافظ: لا يحل أن يروي هَذا الحديث.
يعني: أنَّهُ خطأ مقطوع بهِ، فلا تحل روايته مِن دونَ بيان علته.
وأما الفقهاء المتأخرون، فكثير مِنهُم نظر إلى ثقة رجاله، فظن صحته، وهؤلاء يظنون أن كل حديث رواة ثقة فَهوَ صحيح، ولا يتفطنون لدقائق علم علل الحديث.
ووافقهم طائفة مِن المحدثين المتأخرين كالطحاوي والحاكم والبيهقي.
ثُمَّ اختلفوا في الجمع بينه وبين حديث النخعي، عَن الأسود، عَن عائشة في الوضوء، ولهم في ذَلِكَ مسالك:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ إذا أراد النوم وَهوَ جنب توضأ في غالب أوقاته لفيضلة الوضوء، وكان تارة يترك الوضوء لبيان الجواز، وأن الوضوء غير واجب، وأن النوم بدونه غير محرم، وهذا سلكه طوائف مِن الفقهاء مِن اصحابنا وأصحاب الشَافِعي وغيرهم.
والثاني: أن حديث أبي إسحاق أريد بهِ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ ينام ولا يمس ماء للغسل، فهو موافق لحديث إبراهيم عن الأسود في المعنى، وهذا مسلك أبي العباس بنِ سريج والطحاوي وغيرهما.
وحديث حجاج، عَن عبد الرحمن بنِ الأسود، عَن أبيه يشهد لهذا التأويل، كَما
تقدم لفظه.
والثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ إذا أصابته الجنابة مِن أول الليل توضأ ثُمَّ نام نومه الطويل المعتاد مِن الليل، وإن أصابته الجنابة مِن آخر الليل بعد قضاء ورده مِن الصلاة هجع هجعة خفيفة للاستراحة، ثُمَّ قام فاغتسل لصلاة الفجر، وهذا مسلك طائفة مِن العلماء، وسلكه الطحاوي - أيضاً -، وأشار إليه ابن عبد البر وغيره.
وقد روى زهير وإسرائيل، عَن أبي إسحاق هَذا الحديث بسياق مطول، وفيه: أن نومه مِن غير أن يمس ماء، إنما كانَ في آخر الليل إذا قضى صلاته، ثُم كانَ لَهُ حاجة إلى
أهله.
خرجه الطحاوي مِن طريق زهير، عَن أبي إسحاق، ولفظه حديثه: كانَ
رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام أول الليل ويحيى آخره، ثُمَّ إن كانَ لَهُ حاجة قضى حاجته، ثُمَّ ينام قبل أن يمس ماء، وإن نام جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة.
وهذه زيادة غريبة.
وقد خرجه الإمام أحمد بسياق مطول، مِن طريق زهير، بدون هَذهِ الزيادة في آخره.
وخرجه مسلم في ((صحيحه)) - أيضاً - مِن طريق زهير، إلا أنَّهُ أسقط منهُ لفظة:((قبل أن يمس الماء)) ، فلم يذكرها؛ لأنه ذكر في ((كِتابِ التمييز)) لَهُ، أنها وهم مِن أبي إسحاق.
وقد روي عَن أبي إسحاق ما يخالف هَذهِ الرواية: فروى سفيان، عَن أبي
إسحاق، عَن الأسود، عَن عائشة، قالت: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يصيب أهله مِن أول الليل، ثُمَّ ينام ولا يمس ماء، فإذا استيقظ مِن آخر الليل عاد إلى أهله واغتسل.
خرجه الإمام أحمد.
وخرج الطبراني مِن طريق حمزة الزيات، عَن أبي إسحاق، عَن الأسود، عَن عائشة، قالت: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يجامع نسائه، ثُمَّ لا يمس ماء، فإن أصبح فأراد أن يعاود عاود، وإن لَم يرد اغتسل..
ورواه شريك، عَن أبي إسحاق، فذكر في حديثه: أنَّهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يصيب أهله، ثُمَّ يعود ولا يمس ماء - ولم يذكر النوم.
وهذا كله يدل على أن أبا إسحاق اضطرب في هَذا الحديث، ولم يقم لفظه كَما ينبغي، بل ساقه بسياقات مختلفة متهافتة.
وروى محمد بنِ عمرو، عَن أبي سلمة، عَن عائشة، أنَّهُ سألها: هل كانَ
رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وَهوَ جنب؟ قالت: نعم، ولكنه كانَ لا ينام حتى يتوضأ وضوءه للصلاة، ويغسل فرجه.
خرجه بقي بنِ مخلد في ((مسنده)) .
وهذا يدل على أنها لَم ترو نومه مِن غير وضوء في حال الجنابة بحال.
28 - باب
إذا التقى الختانان
291 -
حدثنا معاذ بنِ فضالة: ثنا هشام.
وحدثنا أبو نعيم، عَن هشام، عَن قتادة، عَن الحسن، عَن أبي رافع، عَن أبي هريرة، عَن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:((إذا جلس بين شعبها الأربع، ثُمَّ جهدها، فَقد وجب الغسل)) .
تابعه: عمرو، عَن شعبة - مثله.
وقال موسى: نا أبان: نا قتادة: أنا الحسن - مثله.
((هشام)) : الراوي عَن قتادة، هوَ الدستوائي.
وقد خرجه مسلم مِن حديثه - أيضاً.
وخرجه - أيضاً - مِن طريق شعبة، عَن قتادة بهِ، وفي حديثه:((ثُمَّ اجتهد)) .
وخرج النسائي مِن حديث خالد، عَن شعبة، عَن قتادة، قالَ: سمعت الحسن يحدث - فذكره.
وهذه الرواية فيها تصريح قتادة بسماع الحديث مِن الحسن، كالرواية التي ذكرها البخاري - تعليقاً - عَن موسى - وَهوَ: ابن إسماعيل -، عَن أبان.
ومراده بذلك: أنَّهُ أمن بذلك تدليس وقتادة، وثبت سماعه لهذا الحديث
مِن الحسن.
وخرجه مسلم مِن طريق مطر الوراق، عَن الحسن، وزاد فيهِ: ((وإن لَم
ينْزل)) .
وخرجه الإمام أحمد، عَن عفان، عَن همام وأبان، عَن قتادة، ولفظ حديثه:
((إذا جلس بين شعبها الأربع، فأجهد نفسه، فَقد وجب الغسل، أنزل أو لم ينزل)) .
وخرجه البيهقي مِن طريق سعيد بنِ أبي عروبة، عَن قتادة، ولفظ حديثه:((إذا التقى الختانان وجب الغسل، أنزل أو لَم ينزل)) .
وذكر الدارقطني في ((العلل)) الاختلاف على الحسن في إسناده هَذا الحديث، في ذكر ((أبي رافع)) وإسقاطه منهُ، ورواية الحسن لَهُ عَن أبي هريرة بغير واسطة، وفي وقفه على أبي هريرة ورفعه، ثُمَّ قالَ: الصحيح: حديث الحسن، عَن أبي رافع، عَن أبي هريرة عَن النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكر عَن موسى بنِ هارون، أنَّهُ قالَ: سمع الحسن مِن أبي هريرة، إلا أنَّهُ لَم يسمع منهُ عَن النبي صلى الله عليه وسلم:((إذا قعد بين شعبها الأربع)) ، بينهما أبو رافع. انتهى.
وما ذكره مِن سماع الحسن مِن أبي هريرة، مختلف فيهِ. وقد صح
روايته لهذا الحديث عَن أبي رافع، عَن أبي هريرة.
ولم يخرج البخاري حديث عائشة في هَذا الباب، وقد خرجه مسلم مِن رواية هشام بنِ حسان، عَن حميد بنِ هلال، عَن أبي بردة، عَن أبي موسى، أنَّهُ سأل عائشة: عما يوجب الغسل؟ فقالت: على الخبير سقطت، قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان، فَقد وجب الغسل)) .
كذا خرجه مِن طريق الأنصاري، عَن هشام. وخرجه مِن طريق عبد الأعلى، عَن هشام، عَن حميد، قالَ: ولا أعلمه إلا عَن أبي بردة، عَن أبي موسى، فتردد في وصل إسناده.
وقد عجب أحمد مِن هَذا الحديث، وأن يكون حميد بنِ هلال حدث بهِ بهذا الإسناد.
وقال الدارقطني: صحيح غريب، تفرد بهِ: هشام بنِ حسان، عَن حميد.
وخرج الإمام أحمد والترمذي مِن حديث علي بنِ زيد بنِ جدعان، عَن سعيد بنِ المسيب، عَن عائشة، قالت: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل)) .
وعلي بنِ زيد، فيهِ مقالَ مشهور، وقد اختلف عليهِ في رفعه ووقفه.
ورواه يحيى بنِ سعيد الأنصاري، عَن سعيد بنِ المسيب، أن أبا موسى
دخل على عائشة، فحدثته بذلك، ولم ترفعه.
وخرج مسلم مِن طريق ابن وهب عَن عياض بنِ عبد الله، عَن أبي الزبير، عَن جابر بنِ عبد الله، عَن أم كلثوم، عَن عائشة، أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عَن الرجل يجامع ثُمَّ يكسل، هل عليهما الغسل؟ - وعائشة جالسة - فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إني لأفعل ذَلِكَ أنا وهذه، ثُمَّ نغتسل)) .
وأم كلثوم، هي بنت الصديق أخت عائشة رضي الله عنهم.
قالَ الدارقطني: لَم يختلف عَن أبي الزبير في رفع هَذا الحديث.
قلت: رواه عَنهُ عياض بنِ عبد الله وابن لهيعة وأشعث، وكلهم رفعوه.
وخرجه الإمام أحمد مِن حديث أشعث وابن لهيعة كذلك.
قالَ الدارقطني: وكذلك رواه قتادة، عَن أم كلثوم، عَن عائشة.
وحديث قتادة، خرجه بقي بنِ مخلد، ولفظ حديثه: عَن عائشة، أنها ونبي الله صلى الله عليه وسلم فعلا ذَلِكَ، فلم ينزل الماء، فاغتسل، وأمرها أن تغتسل.
ولكن في سماع قتادة مِن أم كلثوم نظر؛ ولأجله ترك مسلم تخريج الحديث مِن طريقه. والله أعلم.
وعند قتادة فيهِ إسناد آخر: رواه عَن عبد الله بنِ رباح، عَن عائشة، مع الاختلاف عليهِ في رفعه ووقفه. وقيل: عَن قتادة، قالَ: ذكر لنا أن عبد الله ابن رباح سأل عائشة، فدل على أنَّهُ لَم يسمعه منهُ.
ورواه ثابت البناني، عَن عبد الله بن رباح. وقيل: عَنهُ، عَن عبد الرحمن ابن رباح، عَن عبد العزيز بنِ النعمان، عَن عائشة، معَ الاختلاف عليهِ في رفعه ووقفه.
وأنكر أحمد رفعه، وقال: عبد العزيز بنِ النعمان لا يعرف. وقال البخاري: لا أعلم لَهُ سماعاً مِن عائشة. وذكر ابن معين: أن رواية ثابت بإدخال ((عبد العزيز بنِ النعمان)) في إسناده أصح مِن رواية قتادة بإسقاطه.
وخرج الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان في ((صحيحه)) مِن حديث الأوزاعي، عَن عبد الرحمن بنِ القاسم، عَن أبيه، عَن عائشة، قالت: إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل، فعلته أنا ورسول اله صلى الله عليه وسلم، فاغتسلنا.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وصححه غير واحد مِن الحفاظ.
وقال البخاري: هوَ خطأ، وإنما يرويه الأوزاعي، عَن عبد الرحمن بنِ القاسم - مرسلاً.
ورد قولُهُ بكثرة مِن رواه عَن الأوزاعي مِن أصحابه موصولاً.
وأعله الإمام أحمد: بأنَّهُ روي عَن الأوزاعي موقوفاً، قالَ أحمد:
والمرفوع في آخر الحديث إنما كانَ الأوزاعي يرويه عَن يحيى بنِ أبي كثير، أنَّهُ بلغه عَن عائشة، وكذا رواه أيوب، عَن عبد الرحمن بنِ القاسم، عَن أبيه، عَن عائشة موقوفاً، لَم يرفعه.
وذكر أبو زرعة الدمشقي هَذا عَن أحمد، ثُمَّ قالَ أبو زرعة: رأيت أبا مسهر
[على] هَذا الحديث على يحيى بنِ معين، فقبله يحيى، ولم ينكره. وقد روي عَن عائشة مِن طرق أخرى متعددة مرفوعاً.
وخرجه البزار مِن طريق ابن أبي فديك: نا الضحاك بنِ عثمان، عَن عبد الله ابن عبيد بنِ عمير، عَن أبيه، عَن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالَ: ((إذا التقى
الختانان وجب الغسل)) .
وإسناده كلهم ثقات مشهورون.
وقد صح ذَلِكَ عَن عائشة مِن قولها غير مرفوع مِن طرق كثيرة جداً، وفي بعضها اختلاف في رفعه ووقفه.
ولعل عائشة كانت تارة تفتي بذلك، وتارة تذكر دليله، وَهوَ ما عندها عَن النبي صلى الله عليه وسلم فيهِ، كم أن المفتي أحياناً يذكر الحكم مِن غير دليل وأحيانا يذكره مع دليله، والله أعلم.
والجلوس بين شعبها الأربع قيل: المراد يدي المرأة ورجليها، وقيل غير ذَلِكَ مما يرغب عَن ذكره.
و ((جهدها)) : هوَ عبارة عَن الاجتهاد في إيلاج الحشفة في الفرج، وَهوَ المراد
- أيضاً - مِن التقاء الختانين.
قالَ الشَافِعي: معنى التقاء الختانين: أن تغيب الحشفة في الفرج يصير الختان الذِي خلف الحشفة حذو ختان المرأة.
وقال أحمد: التقاء الختانين: المدورة - يعني: الحشفة -، فإذا غابت فالختان بعدها.
وخرج الإمام أحمد وابن ماجه مِن رواية حجاج بنِ أرطأة، عَن عمرو بنِ
شعيب، عَن أبيه، عَن جده، عَن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:((إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فَقد وجب الغسل)) .
وحجاج، مدلس. وقيل: أن أكثر رواياته عَن عمرو بنِ شعيب سمعها مِن العرزمي ودلسها.
والعرزمي، ضعيف.
وقد روي - أيضاً - هَذا الحديث عَن العرزمي، عَن عمرو.
وروي مِن وجه ضعيف، عَن أبي حنيفة، عَن عمرو، بهِ، وزاد في روايته:((أنزل أو لَم ينزل)) .
خرجه الطبراني.
وقوله: ((إذا التقى الختانان)) استند بهِ الإمام أحمد على أن المرأة تختتن
كالرجل.
وختان المرأة مشروع بغير خلاف، وفي وجوبه عَن أحمد روايتان، على قولُهُ بوجبه على الرجال.
29 - باب
غسل ما يصيب مِن فرج المرأة
292 -
حدثنا أبو معمر: نا عبد الوارث، عَن الحسين المعلم: قالَ يحيى: وأخبرني أبو سلمة، أن عطاء بنِ يسار أخبره، أن زيد بنِ خالد الجهني أخبره، أنَّهُ سأل عثمان بنِ عفان، فقالَ: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يمن؟ فقالَ: عثمان: يتوضأ كَما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره. وقال عثمان: سمعته مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألت عَن ذَلِكَ علي بنِ أبي طالب، والزبير بنِ العوام، وطلحة بنِ عبيد الله، وأبي بنِ كعب، فأمروه بذلك.
وأخبرني أبو سلمة، أن عروة بنِ الزبير أخبره: أن أبا أيوب أخبره، أنَّهُ سمع ذَلِكَ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
293 -
حدثنا مسدد: نا يحيى، عَن هشام بنِ عروة، قالَ: أخبرني أبي، قالَ: أخبرني أبو أيوب، قالَ: أخبرني أبي بنِ كعب، أنَّهُ قالَ: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جامع الرجل [المرأة] فلم ينزل؟ قالَ: ((يغسل ما مس المرأة منهُ، ثُمَّ يتوضأ
ويصلي)) .
قالَ أبو عبد الله: الغسل أحوط، وذلك الأخير، إنما بينا لاختلافهم.
الذِي وقع في الرواية الأولى عَن أبي سلمة، عَن عروة، أن أبا أيوب أخبره، أنَّهُ سمع ذَلِكَ مِن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم، نبه عليهِ الدارقطني وغيره، تدل عليهِ الرواية الثانية، عَن هشام بن عروة، عَن أبيه: أخبرني أبو أيوب، قالَ: أخبرني أبي بنِ كعب، عَن النبي
صلى الله عليه وسلم.
وقد روى عبد الرحمن بنِ سعاد، عَن أبي أيوب، عَن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:
((الماء مِن الماء)) .
خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه، وليس فيهِ تصريح أبي أيوب بسماعه مِن
النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد خرج البخاري فيما تقدم في ذكر نواقض الوضوء: حديث ذكوان أبي
صالح، عَن أبي سعيد، عَن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:((إذا أعجلت - أو أقحطت - فلا غسل عليك)) .
وخرج - أيضاً -: حديث يحيى بنِ أبي كثير الذِي خرجه هنا مِن طريق شيبان، عَن يحيى، إلى قولُهُ في آخر الحديث:((وأبي بنِ كعب، فأمروه بذلك)) ، ولم يذكر ما بعده،
ولعله تركه لما وقع فيهِ مِن الوهم الذِي ذكرناه.
وعند البخاري في كلتا الروايتين: أن علياً والزبير وطلحة وأبي بنِ كعب أفتوا بذلك، ولم يرفعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد وقع في رواية غيره: أنهم رفعوه - أيضاً - إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد قالَ علي بنِ المديني في هَذا الحديث: إنه شاذ.
وقال ابن عبد البر: هوَ منكر؛ لَم يتابع عليهِ يحيى بن أبي كثير.
وقد صح عَن أكثر مِن ذكر عَنهُ مِن الصحابة: أنَّهُ لا غسل بدون الإنزال - خلاف ذَلِكَ.
قالَ علي بنِ المديني: قَد روي عَن علي وعثمان وأبي بنِ كعب بأسانيد جياد أنهم أفتوا بخلاف ما في هَذا الحديث.
قالَ الدارقطني: رواه زيد بنِ أسلم، عَن عطاء بنِ يسار، عَن زيد بنِ خالد: أنَّهُ سأل خمسة أو أربعة مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأمروه بذلك، ولم يرفعه.
يشير إلى أن زيد بنِ أسلم يخالف أبا سلمة في رفعه، ولم يرفع منهُ شيئاً.
وقد كانَ قوم مِن الأنصار قديماً يقولون: ((إن الماء مِن الماء)) ، ثُمَّ استقر الأمر على أنَّهُ إذا التقى الختانان وجب الغسل، ورجع أكثر مِن كان يخالف في ذَلِكَ عَنهُ.
وأما المهاجرون، فَقد صح عَنهُم أنهم قالوا: ((إذا التقى الختانان وجب
الغسل)) ، مِنهُم: عمر، وعثمان، وعلي، فدل على أن عثمان وعلياً علموا أن ((الماء مِن الماء)) نسخ، وإلا فكيف يروي عثمان أو
غيره عَن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ثُمَّ يرجع عَن القول بهِ؟
وفي ((صحيح مسلم)) عَن أبي موسى، قالَ: اختلف في ذَلِكَ رهط مِن المهاجرين والأنصار، فقالَ الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا مِن الدفق أو مِن الماء،
فقالَ المهاجرون: بل إذا خالط فَقد وجب الغسل. قالَ: قالَ أبو موسى: فأنا أشفيكم مِن ذَلِكَ، وذكر قيامه إلى عائشة وما روته لهُ عَن النبي صلى الله عليه وسلم، كَما سبق ذكره.
وروى وكيع، عَن القاسم بنِ الفضل، عَن أبي جعفر محمد بنِ علي، قالَ:
قالَ المهاجرون: إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل، وقال الأنصار: الماء مِن الماء.
وروى ابن أبي شيبة، عَن حفص بنِ غياث، عَن حجاج، عَن أبي جعفر، قالَ:
أجمع المهاجرون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أن ما أوجب الحدين:
الجلد والرجم، أوجب الغسل.
وروى إبراهيم بنِ مسلم الخوارزمي في ((كِتابِ الطهور)) عَن ابن نمير، عَن يحيى بنِ سعيد، عَن سعيد بنِ الميسب، قالَ: كانَ أبو بكر وعمر يأمران بالغسل - يعني: مِن الإكسال.
وروى مالك عَن ابن شهاب، عَن سعيد بنِ المسيب، قالَ: إن عمر وعثمان وعائشة كانوا يقولون: إذا مس الختان الختان فَقد وجب الغسل.
وروى عبد الرزاق عَن معمر، عَن الزهري، عَن سعيد بنِ المسيب، قالَ: كانَ عمر وعثمان وعائشة والمهاجرون الأولون يقولون: إذا مس الختان الختان فَقد وجب الغسل.
وروى وكيع، عَن محمد بنِ قيس الأسدي، عَن علي بنِ ربيعة، عَن علي، قالَ: إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل.
وروى ابن أبي شيبة والأثرم بإسنادهما، عَن عاصم، عَن زر، عَن علي، قالَ: إذا التقى الختانان وجب الغسل.
وقد روي، عَن علي مِن وجوه متعددة.
فهؤلاء الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم قَد أجمعوا على ذَلِكَ، معَ أن بعضهم
روى عَن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه، فلولا أنهم علموا أن ما خالف ذَلِكَ منسوخ لما خالفوا ما سمعوا مِن النبي صلى الله عليه وسلم، ووافقهم على ذَلِكَ أكابر الصحابة، مِنهُم:
ابنِ مسعود، وابن عمر، وأبو ذر، وأبو هريرة، ومعاذ بنِ جبل فقيه الأنصار، وأبو هريرة، وعائشة أم المؤمنين، وهي أعلم الناس بهذا، وإليها مرجع الناس كلهم.
وقد صح عنها، أنها افتت بذلك، وأمرت بهِ، وأن الصحابة الذين سمعوا منها رجعوا إلى قولها في ذَلِكَ؛ فإنها لا تقول مثل هَذا إلا عَن علم عندها فيهِ عَن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيما وقد علمت اختلاف الصحابة في ذَلِكَ.
وجمع عمر الناس كلهم على قولها، فلو كانَ قولها رأياً مجرداً عَن رواية لما استجازت رد روايات غيرها مِن الصحابة برأيها.
وقد روي عنها مِن وجوه كثيرة، وبعضها صحيح، كَما تقدم، أنها روته عَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً.
فما
بقي بعد ذَلِكَ سوى العناد والتعنت، ونعوذ بالله مِن مخالفة ما أجمع عليهِ الخلفاء الراشدون، وجمع عليهِ عمر كلمة المسلمين، وأفتت بهِ عائشة أم المؤمنين، أفقه نساء هَذهِ الأمة، وهي أعلم بمستند هَذهِ المسألة مِن الخلق أجمعين.
فروى مالك عَن يحيى بنِ سعيد، عَن سعيد بنِ المسيب، أن أبا موسى الأشعري أتى عائشة أم المؤمنين، فقالَ لها: فقالَ لها: لقد شق علي اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر إني لأعظم أن استقبلك بهِ، قالت: ما هو؟ ما كنت سائلاً عَنهُ أمك
فسلني عَنهُ.
قالَ لها: الرجل يصيب أهله ثُمَّ يكسل ولا ينزل؟ فقالت: إذا جاوز الختان الختان فَقد وجب الغسل. فقالَ أبو موسى: لا أسأل عَن هَذا أحداً بعدك.
ورواه حماد بنِ زيد وعبد الوهاب الثقفي وغيرهما، عَن يحيى بنِ سعيد، بنحوه.
وسمى عبد الوهاب في روايته مِن قالَ: لا يجب الغسل بذلك: أبي ابن كعب، وأبا أيوب، وزيد بنِ ثابت، وسمى مِمن يأمر بالغسل: عمر وعثمان.
وروى ابن إسحاق، عَن يزيد بنِ أبي حبيب، عَن معمر عبد الله بنِ أبي حيية، عَن عبيد بنِ رفاعة بنِ رافع، عَن أبيه رفاعة، قالَ: كنت عند عمر، فقيل لَهُ: إن زيد
بنِ ثابت يفتي برأيه في الذِي يجامع ولا ينزل، فدعاه، فقالَ: أي عدو نفسه، قَد بلغت أن تفتي الناس في مسجد
رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيك! قالَ: ما فعلت، ولكن حدثني
عمومتي، عَن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالَ: أي عمومتك؟ قالَ: أبي بنِ كعب، وأبو أيوب، ورفاعة بنِ رافع. قالَ: فالتفت عمر إلي، فقلت: كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالَ: فسألتم عَنهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: كنا نفعله على عهده، قالَ: فجمع الناس، وأصفق الناس على أن الماء لا يكون إلا مِن الماء، إلا رجلين: علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، قالا: إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل.
فقالَ علي: يا أمير المؤمنين، إن أعلم الناس بهذا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى حفصة، فقالت: لا علم لي، فأرسل إلى عائشة، فقالت: إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل. قالَ: فتحطم عمر - يعني: تغيظ -، ثُمَّ قالَ: لا يبلغني أن أحداً فعله ولم يغتسل إلا انهكته عقوبة.
خرجه الإمام أحمد وبقي بن مخلد في ((مسنديهما)) ، ومسلم في ((كِتابِ التفصيل)) وَهوَ ((كِتابِ الناسخ والمنسوخ)) لَهُ.
ثُمَّ خرجه مِن طريق عبد الله بنِ صالح، عَن الليث: حدثني يزيد بنِ أبي حبيب، عَن معمر بنِ أبي حيية، عَن عبيد بنِ رفاعة، أن زيد بنِ ثابت كانَ يقول - فذكره بنحوه، ولم يقل:((عَن أبيه)) .
ومعمر بنِ أبي حيية، ويقال: ابن أبي حبيبة، وثقه ابن معين وغيره.
وعبيد بنِ رفاعة، ذكره ابن حبان في ((ثقاته)) .
وهذه الرواية يستفاد منها أمور:
منها: أن كثيراً مِن الأنصار كانَ يقلد بعضهم بعضاً في هَذهِ المسألة، ولم يسمع ذَلِكَ مِن النبي صلى الله عليه وسلم إلا قليل مِنهُم.
ومنها: أنَّهُ لَم يظهر في ذَلِكَ المجلس شيء مِن روايات الأنصار الصريحة عَن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ظهر التمسك بفعل كانوا يفعلونه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عمر: هل علم بهِ النبي صلى الله عليه وسلم؟ فلم يكن لَهُم جواب، وهذا مما يدل على أن تلك الروايات التصريحية
حصل الوهم في نقلها مِن بعض الرواة.
ومنها: أن المهاجرين الذين روي أنهم كانوا يخالفون في ذَلِكَ ويروون عَن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه كعثمان رجعوا عما سمعوه منهُ، وكذلك الأنصار - أيضاً -، ورأسهم: أبي بنِ كعب رجع، وأخبر أن ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في ذَلِكَ كانَ رخصة في أول الأمر ثُمَّ نسخ وزال، وهذا يدل على أنَّهُ تبين لَهُم نسخ ما كانوا سمعوه بياناً شافياً، بحيث لَم يبق فيهِ لبس ولا شك.
وقد ذكر الشَافِعي: أنَّهُ اتفق هوَ ومن ناظره في هَذهِ المسألة على أن هَذا أقوى مما يستدل بهِ عليها.
ويدل على رجوع أبي وغيره مِن الأنصار: ما روى الزهري، عَن سهل بنِ
سعد، عَن أبي بنِ كعب، قالَ: إنما كانَ الماء مِن الماء رخصة في أول الإسلام، ثُمَّ نهي عنها.
خرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح، وخرجه ابن ماجه مختصراً.
وخرجه الإمام أحمد ولفظه: إن الفتيا التي كانوا يقولون: الماء مِن الماء، رخصة كانَ النبي صلى الله عليه وسلم رخص بها في أول الإسلام، ثُمَّ أمرنا بالغسل بعد.
وخرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) مِن طريق معمر، عَن الزهري، قالَ:
أخبرني سهل بنِ سعد، قالَ: إنما كانَ قول الأنصار: الماء مِن الماء رخصة في
أول الإسلام، ثُمَّ أمرنا بالغسل.
ولم يذكر في إسناده: ((أبياً)) ، وصرح فيهِ بسماع الزهري.
وقيل: إنه وهم في ذَلِكَ؛ فإن الزهري لَم يسمعه مِن سهل، فَقد خرجه أبو داود وابن خزيمة - أيضاً - مِن طريق عمرو بن الحارث، عَن الزهري، قالَ: حدثني بعض مِن أرضى، عَن سهل، عَن أبي - فذكره.
ورجح هَذهِ الرواية: الإمام أحمد والدارقطني وغيرهما.
ورجح آخرون: سماع الزهري لهُ من سهل، مِنهُم: ابن حبان.
ووقع في بعض نسخ ((سنن أبي داود)) ما يدل عليهِ؛ فإنه لم يذكر أحد مِن أصحاب الزهري بين الزهري وسهل رجلاً [غير] عمرو بنِ الحارث، فلا يقضي لَهُ على سائر أصحاب الزهري.
وقد خرجه ابن شاهين مِن طريق ابن المبارك، عَن يونس، عَن الزهري، قالَ: حدثني سهل بنِ سعد، عَن أبي بنِ كعب - فذكره، بهِ.
وبتقدير أن يكون ذَلِكَ محفوظاً؛ فَقد اخبر الزهري أن هَذا الذِي حدثه يرضاه، وتوثيق الزهري كاف في قبول خبره.
وقد قيل: أنَّهُ أبو حازم الزاهد، وَهوَ ثقة جليل، فقد خرج أبو داود وابن خزيمة مِن رواية أبي غسان محمد بنِ مطرف، عَن أبي حازم، عَن سهل بنِ سعد، قالَ: حدثني أبي بن كعب - فذكره.
قالَ البيهقي: هَذا إسناد صحيح موصول.
وقد ذكر ابن أبي حاتم، عَن أبيه، أن بعضهم ذكر أنه لا يعرف لَهُ أصلاً.
وفي ذَلِكَ نظر.
وقد روي عَن أبي بنِ كعب مِن وجوه أخر:
روى شعبة، عَن سيف بنِ وهب، عَن أبي حرب بنِ أبي الأسود، عَن عميرة بنِ يثربي، عَن أبي كعب، قالَ إذا التقى ملتقاهما فَقد وجب الغسل.
خرجه ابن أبي شيبة والبخاري في ((تاريخه)) .
وروى مالك، عَن يحيى بنِ سعيد، عَن عبد الله بنِ كعب مولى عثمان، أن محمود بنِ لبيد سأل زيد بنِ ثابت عَن الرجل يصيب أهله ثُمَّ يكسل ولا ينزل؟ فقالَ: زيد يغتسل، فقالَ لَهُ محمود بن لبيد: إن أبي بن كعب - كانَ لا يرى الغسل؟ فقالَ لَهُ زيد: إن أبياً نزع عَن ذَلِكَ قبل أن يموت.
وقال الشَافِعي: أنا إبراهيم بن محمد، عَن خارجة بن زيد، عَن أبيه، عَن أبي بن كعب، أنَّهُ كانَ يقول: ليسَ على مِن لَم ينزل غسل، ثُمَّ نزع عَن ذَلِكَ أبي قبل أن يموت.
وقد روي، عَن عائشة ما يدل على النسخ: مِن رواية الحسين بنِ عمران: حدثني الزهري، قالَ: سألت عروة عَن الذِي يجامع ولا ينزل؟ قالَ: نول الناس أن يأخذوا بالآخر مِن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدثتني عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ يفعل ذَلِكَ ولا يغتسل، وذلك قبل فتح مكة، ثُمَّ اغتسل بعد ذَلِكَ، وأمر الناس بالغسل.
خرجه ابن حبان في ((صحيحه)) والدارقطني.
والحسين بنِ عمران، ذكره ابن حبان في ((ثقاته)) ، وقال الدارقطني: لا بأس بهِ، وقال البخاري: لا يتابع على حديثه.
وقال العقيلي بعد تخريجه لهذا الحديث: الحديث ثابت عَن النبي صلى الله عليه وسلم في الغسل لالتقاء
الختانين، ولا يحفظ هذا اللفظ إلا في هَذا الحديث.
والقول بأن ((الماء مِن الماء)) نسخ بالأمر بالغسل مِن التقاء الختانين هوَ المشهور عند العلماء مِن الفقهاء والمحدثين، وقد قرره الشافعي، وأحمد، ومسلم بنِ الحجاج، والترمذي، وأبو حاتم الرازي وغيرهم مِن الأئمة.
وقد روي معنى ذَلِكَ عَن سعيد بنِ المسيب وغيره مِن السلف.
وقد قيل: إن ((الماء مِن الماء)) إنما كانَ في الاحتلام.
وقد روي عَن ابن عباس هَذا التأويل.
خرجه الترمذي مِن وجه فيهِ مقال.
وروي - أيضاً - عَن عكرمة، وذهب إليه طائفة.
وهذا التأويل إن احتمل في قولُهُ: ((الماء مِن الماء)) فلا يحتمل في قولُهُ: ((إذا أعجلت - أو أقحطت - فلا غسل عليك)) ، وفي قولُهُ:((يغسل ما مس المرأة منهُ، ويتوضأ، ويصلي)) .
وقال طائفة مِن العلماء: لما اختلفت الأحاديث في هَذا وجب الأخذ بأحاديث الغسل مِن التقاء الختانين، لما فيها مِن الزيادة التي لَم يثبت لها معارض، ولم تبرأ الذمة بدون الاغتسال؛ لأنه قَد تحقق أن التقاء الختانين موجب لطهارة،
ووقع التردد: هل يكفي الوضوء أو لا يكفي دونَ غسل البدن كله؟ فوجب الأخذ بالغسل؛ لأنه لا يتيقن براءة الذمة بدونه.
وهذا معنى قول البخاري: الغسل أحوط.
ولذلك قالَ أحمد - في رواية ابن القاسم -: الأمر عندي في الجماع أن آخذ بالاحتياط فيهِ، ولا أقول: الماء مِن الماء.
وسلك بعضهم مسلكاً أخر، وَهوَ: أن المجماع وإن لَم ينزل يسمى جنباً ومجامعاً وواطئاً، ويترتب جميع أحكام الوطء عليهِ، والغسل مِن جملة الأحكام.
وهذا معنى قول مِن قالَ مِن السلف: أنوجب المهر والحد ولا نوجب الغسل؟
وهذا القول هوَ الذِي استقر عليهِ عمل المسلمين.
وقد خالف فيهِ شرذمة مِن المتقدمين، مِنهُم: أبو سلمة، وعروة، وهشام ابن عروة، والأعمش، وابن عيينة، وحكي عَن الزهري وداود.
وقال ابن عبد البر: اختلف أصحاب داود في هَذهِ المسألة.
وقال ابن المنذر: لا أعلم اليوم بين أهل العلم في ذَلِكَ اختلافاً.
وذهب إليه طائفة مِن أهل الحديث، مِنهُم: بقي بنِ مخلد الأندلسي، وقد نسبه بعضهم إلى البخاري وليس في كلامه ما يصرح بهِ، وحكاه الشَافِعي عَن بعض أهل الحديث مِن أهل ناحيتهم وغيرهم، وذكر مناظرته لَهُم.
وقد كانَ بعض الناس قي زمن الإمام أحمد ينسب ذَلِكَ إليه، فكان
أحمد ينكر ذَلِكَ، ويقول: ما أحفظ أني قلت بهِ قط، وقيل لَهُ: بلغنا أنك تقوله؟ فقالَ: الله المستعان، وقال - أيضاً -: مِن يكذب علي في هَذا أكثر مِن ذاك.
وأحمد مِن أبعد الناس عَن هَذهِ المقالة، فظاهر كلامه يدل على أن الخلاف فيها غير سائغ، فإنه نص على أنَّهُ لو فعل ذَلِكَ مرة أنَّهُ يعيد الصلاة التي صلاها بغير غسل مِن التقاء الختانين، ونص على أنَّهُ لا يصلى خلف مِن يقول:((الماء مِن الماء)) ، معَ قولُهُ: إنه يصلي خلف مِن يحتجم ولا يتوضأ، ومن يمس ذكره ولا يتوضأ متأولاً، فدل على أن القول بأن ((الماء مِن الماء)) لا مساغ للخلاف فيهِ.
وكذلك ذكر ابن أبي موسى وغيره مِن الأصحاب.
وحمل أبو بكر عبد العزيز كلام أحمد على أنه لَم يكن متأولاً، وهذا لا يصح؛ لأن القول بأن ((الماء مِن الماء)) لا يكون بغير تأويل. والله أعلم.
وقد سبق عَن عمر، أنَّهُ قالَ: لا أوتى بأحد فعله إلا أنهكته عقوبة.
وقد روي عَنهُ مِن وجه آخر، رواه ابن أبي شيبة، عَن ابن إدريس، عَن
الشيباني، عَن بكير بنِ الأخنس، عَن سعيد بنِ المسيب، قالَ: قالَ عمر: لا أوتي برجل فعله - يعني: جامع ولم يغتسل؛ يعني: وَهوَ لَم ينزل - إلا أنهكته عقوبة.
وخرجه إبراهيم بن مسلم الخوارزمي في ((كِتابِ الطهور)) عَن أسباط
بن
محمد، عَن الشيباني، بهِ.
وفي رواية أن سعيد بنِ المسيب قالَ: سمعت عمر بنِ الخطاب على المنبر يقول: لا أجد أحداً جامع امرأته ولم يغتسل، أنزل أو لَم ينْزل، إلا عاقبته.
وقد قالَ عمر هَذا بمحضر مِن المهاجرين والأنصار، ولم يخالف فيهِ أحد.
والظاهر: أن جميع مِن كانَ يخالف فيهِ مِن الأنصار رجع عَنهُ، ورأسهم: أبي بنِ كعب، وزيد بنِ ثابت، ومِن المهاجرين عثمان بنِ عفان.
وفي رجوع أبي بنِ كعب وعثمان بنِ عفان معَ سماعها مِن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذَلِكَ: دليل على أنَّهُ ظهر لهما أن ما سمعاه زال حكمه، واستقر العمل على غيره.
وعامة مِن روي عَنهُ: ((إن الماء مِن الماء)) روي عَنهُ خلاف ذَلِكَ، والغسل مِن التقاء الختانين، مِنهُم: عثمان، وعلي، سعد بنِ أبي وقاص، وابن مسعود، وابن
عباس، وزيد بنِ ثابت، وأبي بنِ كعب، ورافع بنِ خديج.
وهذا يدل على رجوعهم عما قالوه في ذَلِكَ؛ فإن القول بنسخ ((الماء مِن الماء)) مشهور بين العلماء، ولم يقل أحد مِنهُم بالعكس.
وقد روت عائشة وأبو هريرة عَن النبي صلى الله عليه وسلم الغسل بالتقاء الختانين.
وقد روى ذَلِكَ - أيضاً - مِن رواية عبد الله بنِ عمرو،
ورافع بنِ خديج، ومعاذ بنِ جبل، وابن عمر، وأبي أمامة وغيرهم، إلا أن في أسانيدها ضعفاً.
وفي حديث رافع التصريح بنسخ الرخصة - أيضاً.
أعلم؛ أن هَذا الضعف إنما هوَ في الطرق التي وصلت إلينا منها هَذهِ الأخبار، فأما المجمع الذِي جمع عمر فيهِ المهاجرين والأنصار، ورجع فيهِ أعيان مِن كانَ سمع مِن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم الرخصة، فأنهم لَم يرجعوا إلا لأمرٍ ظهر لَهُم في ذَلِكَ الجمع وبعده، وعلموه
وتيقنوه، وإن كانت تفاصيله لَم تنقل إلينا، واستقر مِن حينئذ العمل على الغسل مِن التقاء الختانين، ولم يصح عَن أحد مِن الصحابة بعد ذَلِكَ إظهار الفتيا بخلافه، فوجب اتباع سبيل المؤمنين، والأخذ بما جمع عليهِ الأمة أمير المؤمنين، والرجوع إلى مِن رجعت إليه الصحابة في العلم بهذه المسألة، وهي أم المؤمنين.
والمخالف يشغب بذكر الأحاديث التي رجع عنها رواتها، ويقول: هي صحيحة
الأسانيد، وربما يقول: هي أصح إسناداً مِن الأحاديث المخالفة لها.
ومن هنا: كره طوائف مِن العلماء ذكر مثل هَذهِ الأحاديث والتحديث بها؛ لأنها
تورث الشبهة في نفوس كثير مِن الناس.
وخرج الإسماعيلي في ((صحيحه)) مِن حديث زيد بنِ أخزم، قالَ:
سمعت يحيى - يعني: القطان - وسئل عَن حديث هشام بنِ عروة: حديث أبي أيوب: ((الماء مِن
الماء)) ؟ - فقالَ: نهاني عَنهُ عبد الرحمن - يعني: ابن مهدي.
ولهذا المعنى - والله أعلم - لَم يخرج مالك في ((الموطإ)) شيئأً مِن هَذهِ
الأحاديث، وهي أسانيد حجازية على شرطه.
والمقصود بهذا: أن المسائل التي اجتمعت كلمة المسلمين عليها مِن زمن الصحابة، وقل المخالف فيها وندر، ولم يجسر على إظهارها لإنكار المسلمين عليهِ، [كلها] يجب على المؤمن الأخذ بما اتفق المسلمون على العمل بهِ ظاهراً؛ فإن هَذهِ الأمة لا يظهر أهل باطلها على أهل حقها، كَما أنها لا تجتمع على ضلالة، كَما روي ذَلِكَ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
خرجه أبو داود وغيره.
فهذه المسائل قَد كفى المسلم أمرها، ولم يبق فيها إلا اتباع ما جمع عليهِ الخلفاء الراشدون أولي العلم والعدل والكمال، دونَ الاشتغال فيها بالبحث والجدال وكثرة القيل والقال؛ فإن هَذا كله لَم يكن يخفى عمن سلف، ولا يظن ذَلِكَ بهم سوى أهل الجهل والضلال.
والله المسئول العصمة والتوفيق.