المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم 6 - ‌ ‌ كِتابِ الحيض وقول الله عز وجل: - فتح الباري لابن رجب - جـ ٢

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

6 -

‌ كِتابِ الحيض

وقول الله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] إلى قولُهُ: {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] .

خرج مسلم في ((صحيحه)) مِن حديث حماد بنِ سلمة: نا ثابت، عَن أنس، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لَم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] إلى آخر الآية، فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:((اصنعوا كل شيء إلا النكاح)) - وذكر بقية الحديث.

فقوله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} ، أي: عَن حكمه والمباشرة

فيهِ.

و ((المحيض)) ، قيل: إنَّهُ مصدر كالحيض، وقيل: بل هوَ اسم للحيض، فيكون اسم مصدر.

وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة:222] ، فسر الأذى بالدم النجس وبما فيهِ مِن القذر والنتن وخروجه مِن مخرج البول، وكل ذَلِكَ يؤذي.

قالَ الخطابي: الأذى هوَ المكروه الذِي ليسَ بشديد جداً؛ كقوله: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذى} [آل عمران:111]، وقوله:{إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ} [النساء: 102]، قالَ: والمراد: أذى يعتزل منها موضعه لا غيره، ولا يتعدى

ص: 5

ذَلِكَ إلى سائر بدنها، فلا يجتنبن ولا يخرجن مِن البيوت كفعل المجوس وبعض أهل الكِتابِ، فالمراد: أن الأذى بهن لا يبلغ الحد الذِي يجاوزونه إليه، وإنما يجتنب منهن موضع الأذى، فإذا تطهرن حل غشيانهن.

وقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض} [البقرة:222] ، قَد فسره النبي صلى الله عليه وسلم باعتزال النكاح، وسيأتي فيما بعد - إن شاء الله تعالى - ذكر ما يحرم مِن مباشرة الحائض وما يحل منهُ في الباب الذِي يختص المباشرة مِن الكِتابِ.

وقد قيل: بأن المراد بالمحيض هاهنا: مكان الحيض، وهو الفرج، ونص على ذَلِكَ الإمام أحمد، وحكاه الماوردي عَن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وجمهور المفسرين، وحكى الإجماع على أن المراد بالمحيض المذكور في أول الآية: الدم.

وقد خالف في ذَلِكَ ابن أبي موسى مِن أصحابنا في ((شرح الخرقي)) ، فزعم أن مذهب أحمد أنَّهُ الفرج - أيضاً -، وفيه بعد.

وجمهور أصحاب الشَافِعي على أن المراد بالمحيض في الآية الدم، في الموضعين.

ص: 6

وقوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنّ} [البقرة: 222] ، نهي بعد الأمر باعتزالهن في المحيض عَن قربانهن فيهِ، والمراد بهِ: الجماع - أيضاً -، وفيه تأكيد لتحريم الوطء في الحيض.

وقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] فيهِ قراءتان {يَطْهُرْنَ} [البقرة:222]- بسكون الطاء وضم الهاء -، و {يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بفتح الطاء وتشديد الهاء.

وقد قيل: إن القراءة الأولى أريد بها انقطاع الدم، والقراءة الثانية أريد بها التطهر بالماء.

وممن فسر الأولى بانقطاع الدم ابن عباس ومجاهد وغيرهما.

وابن جرير وغيره: يشيرون إلى حكاية الإجماع على ذَلِكَ.

ومنع غيره الإجماع، وقال: كل مِن القراءتين تحتمل أن يراد بها الاغتسال بالماء، وأن يراد بها انقطاع الدم، وزوال أذاه.

وفي ذَلِكَ نظر، فإن قراءة التشديد تدل على نسبة فعل التطهير إليها، فكيف يراد بذلك مجرد انقطاع الدم ولا صنع لها فيهِ.

وقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] غاية النهي عَن قربانهن، فيدل بمفهومه على أن ما بعد التطهير يزول النهي.

فعلى قراءة التشديد المفسرة بالاغتسال إنما يزول النهي بالتطهر بالماء، وعلى قراءة التخفيف يدل على زوال النهي بمجرد انقطاع الدم.

واستدل بذلك فرقة قليلة على إباحة الوطء بمجرد انقطاع الدم، وَهوَ قول أبي حنيفة، وأصحابه، إذا انقطع الدم لأكثر الحيض، أو لدونه، ومضى عليها وقت صلاة، أو كانت غير ومخاطبة بالصلاة

ص: 7

كالذمية.

وحكي عَن طائفة إطلاق الإباحة، مِنهُم: ابن كثير وابن عبد الحكم، وفي نقله عنهما نظر.

والجمهور على أنه لا يباح بدون الاغتسال، وقالوا: الآية، وإن دلت بمفهومها على الإباحة بالانقطاع إلا أن الإتيان مشروط لَهُ شرط آخر وَهوَ التطهر، والمراد بهِ: التطهر بالماء؛ بقولِهِ: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنّ} [البقرة:222] ، فدل على أنَّهُ لا يكفي مجرد التطهر، وأن الإتيان متوقف على التطهر، أو على الطهر والتطهر بعده، وفسر الجمهور التطهر بالاغتسال، كَما في قولُهُ:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] .

وحكي عَن طائفة مِن السلف: أن الوضوء كاف بعد انقطاع الدم، منهُم: مجاهد، وعكرمة، وطاوس، على اختلاف عَنهُم في ذَلِكَ.

قالَ ابن المنذر: روينا بإسناد فيهِ مقال عن عطاء وطاوس ومجاهد، أنهم قالوا: إذا أدرك الزوج الشبق أمرها أن تتوضأ، ثُمَّ أصاب منها إن شاء.

وأصح مِن ذَلِكَ عَن عطاء ومجاهد موافقة القول الأول - يعني: المنع منهُ وكراهته بدون الغسل -، قالَ: ولا يثبت عَن طاوس خلاف ذَلِكَ. قالَ: وإذا بطل أن يثبت عَن هؤلاء قول ثان كانَ القول الأول كالإجماع. انتهى.

ولذلك ضعف القاضي إسماعيل المالكي الرواية بذلك عَن طاوس

ص: 8

وعطاء؛ لأنها مِن رواية ليث بن أبي سليم عنهما، وَهوَ ضعيف.

وحكي عَن بعض السلف أن التطهر غسل الفرج خاصة، رواه ابن جريج وليث عَن عطاء، ورواه معمر عَن قتادة، وحكاه بعض أصحابنا عَن الأوزاعي، ولا أظنه يصح عَنهُ، وقاله قوم مِن أهل الظاهر.

والصحيح الذِي عليهِ جمهور العلماء: أن تطهر الحائض كتطهر الجنب، وَهوَ الاغتسال.

ولو عدمت الماء، فهل يباح وطؤها بالتيمم؟ فيهِ قولان:

أحدهما: يباح بالتيمم، وَهوَ مذهبنا، ومذهب الشَافِعي وإسحاق والجمهور، وقول يحيى بن بكير مِن المالكية، والقاضي إسماعيل مِنهُم - أيضاً.

وقال مكحول ومالك: لا يباح وطؤها بدون الاغتسال بالماء.

وقوله: {فَأْتُوهُنّ} [البقرة:222] إباحة، وقوله: {مِنْ حَيْثُ

ص: 9

أَمَرَكُمُ اللَّه} [البقرة: 222] أي: باعتزالهن، وَهوَ الفرج، أو ما بين السرة والركبة، على ما فيهِ مِن الاختلاف كَما سيأتي، روي هَذا عَن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة.

وقيل: المراد: مِن الفرج دونَ الدبر، رواه علي بنِ أبي طلحة عَن ابن عباس.

وروى أبان بنِ صالح، عن مجاهد، عنة ابن عباس، قالَ: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ

الله} [البقرة: 222] أن تعتزلوهن. ورواه عكرمة، عَن ابن عباس - أيضاً.

وقيل: المراد مِن قبل التطهر لا مِن قبل الحيض، وروي عَن ابن عباس - أيضاً -، وغيره.

و ((التوابون)) : الرجاعون إلى طاعة الله مِن مخالفته.

و ((المتطهرون)) : فسره عطاء وغيره: بالتطهر بالماء، ومجاهد وغيره: بالتطهر مِن الذنوب.

وعن مجاهد، أنَّهُ فسره: بالتطهر مِن أدبار النساء.

ويشهد لَهُ قول قوم لوط: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82] .

ص: 10

‌1 - باب

كيف كانَ بدء الحيض

؟

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((هَذا شيء كتبه الله على بنات آدم)) .

وقال بعضهم: كانَ أول ما أرسل الحيض على بني إسرائيل.

قالَ أبو عبد الله: وحديث النبي صلى الله عليه وسلم أكثر.

أما مِن قالَ: أول ما أرسل الحيض على بني إسرائيل: فَقد روي ذَلِكَ عَن حماد بنِ سلمة، عَن هشام بنِ عروة، عَن فاطمة بنت المنذر، عَن أسماء بنت أبي بكر، قالت: إنما سلطت الحيضة على نساء بني إسرائيل؛ لأنهن كن اتخذن أرجلاً مِن خشب يتطاولن بها في المساجد.

وأما ما رجحه البخاري مِن أن الحيض لَم يزل في النساء منذ خلقهن الله، فَهوَ المروي عَن جمهور السلف:

قالَ عمرو بنِ محمد العنقزي: نا عباد بنِ العوام، عَن سفيان بنِ حسين، عَن يعلى بنِ مسلم، عَن سعيد بنِ جبير، عَن ابن عباس، قالَ: لما أكل آدم مِن الشجرة التي نهي عنها، قالَ الله لَهُ:((ما حملك على أن عصيتني؟)) قالَ: ربِّ، زينته لي حواء، قالَ:((فإني أعقبها أن لا تحمل إلا كرها، ولا تضع إلا كرهاً، ودميتها في الشهر مرتين)) ، فلما سمعت حواء ذَلِكَ رنت، فقالَ لها: عليك الرنة

ص: 11

وعلى بناتك.

وروى ابن جرير في ((تفسيره)) : نا يونس: نا ابن وهب، عَن عبد الرحمن بن زيد بنِ أسلم، في قولُهُ:{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة:25]، قالَ: المطهرة: التي لا تحيض، قالَ: وكذلك خلقت حواء عليها السلام حتى عصت، فلما عصت قالَ الله تعالى:((إني خلقتك مطهرة، وسأدميك كَما أدميت هَذهِ الشجرة)) .

وقد استدل البخاري لذلك بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن هَذا شيء كتبه الله على بنات آدم)) ، وَهوَ استلال ظاهر حسن، ونظيره: استدلال الحسن على إبطال قول مِن قالَ: أول مِن رأى الشيب إبراهيم عليه السلام، بعموم قول الله عز وجل:{اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم: 54] .

ص: 12

294 -

حدثنا علي بنِ عبد الله المديني: نا سفيان، قالَ: سمعت عبد الرحمن بنِ القاسم، قالَ: سمعت القاسم يقول: سمعت عائشة تقول: خرجنا لا نرى إلا الحج، فلما كنت بسرف حضت، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقالَ:((مالك! أنفست؟)) قلت: نعم. قالَ: ((إن هَذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت)) . قالت: وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَن نسائه بالبقر.

ص: 12

هَذا إسناد شريف جداً؛ لجلالة رواته، وتصريحهم كلهم بسماع بعضهم مِن بعض، فلهذا صدر بهِ البخاري ((كِتابِ: الحيض)) .

وفيه اللفظة التي استدل بها البخاري على أن الحيض لازم للنساء منذ خلقهن الله، وأنه لَم يحدث في بني إسرائيل، كَما تقدم.

وقد رويت هَذهِ اللفظة - أيضاً - عَن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ ذَلِكَ لعائشة في الحج - بمعنى حديث عائشة.

خرجه مسلم في ((صحيحه)) .

ورويت - أيضاً - عَن أم سلمة، مِن رواية محمد بنِ عمرو: نا أبو سلمة، عَن أم سلمة، قالت: كنت معَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحافه، فوجدت ما تجد النساء مِن الحيضة، فانسللت مِن اللحاف، فقالَ: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنفست؟)) قلت: وجدت ما تجد النساء مِن الحيضة، قالَ:((ذاك ما كتب الله على بنات آدم)) . قالت: فانسللت فأصلحت مِن شأني، ثُمَّ رجعت، فقالَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:((تعالي فادخلي معي في اللحاف)) . قالت: فدخلت معه.

خرجه [. . . . . .] ابن ماجه.

ومعنى: ((كتب الله على بنات آدم)) : أنَّهُ قضى بهِ عليهن وألزمهن إياه، فهن متعبدات بالصبر عليهِ.

ص: 13

وجاء في رواية للإمام أحمد مِن رواية الأوزاعي، عَن أبي عبيد، عَن عائشة، عَن النبي صلى الله عليه وسلم، في هَذا الحديث: أن عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: لا أحسب النساء خلقن إلا للشر، قالَ:((لا، ولكنه شيء ابتلي بهِ نساء بني آدم)) .

ولفظ: ((الكتابة)) يدل على اللزوم والثبوت، إمَّا شرعاً كقوله تعالى:

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]، أو قدراً كقوله:{كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] .

وهذا الحديث مِن هَذا القبيل.

ص: 14

‌2 - باب

غسل الحائض رأس زوجها وترجيله

ص: 15

295 -

نا عبد الله بنِ يوسف: نا مالك، عَن هشام بنِ عروة، عَن أبيه، عَن عائشة، قالت: كنت أرجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض.

ص: 15

296 -

حدثنا إبراهيم بنِ موسى: نا هشام بنِ يوسف، أن ابن جريج أخبرهم: أنا هشام، عَن عروة، أنَّهُ سئل: أتخدمني الحائض أو تدنو مني المرأة وهي جنب؟

فقالَ عروة: كل ذَلِكَ علي هين، وكل ذَلِكَ تخدمني، وليس على أحد في ذَلِكَ بأس؛ أخبرتني عائشة أنها كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ مجاور في المسجد، يدني لها رأسه وهي في حجرتها، فترجله وهي حائض.

هَذا الحديث يدل على طهارة بدن الحائض، وعلى مباشرتها بيدها لرأس الرجل بالدهن والتسريح، وَهوَ معنى ترجيل الرأس المذكور في هَذا الحديث.

وقد روى تميم بنِ سلمة، عَن عروة هَذا الحديث، ولفظه:((فأغسله وأنا حائض)) .

وكذلك روى لفظة: ((الغسل)) إبراهيم، عَن الأسود، عَن عائشة.

ص: 15

ولو كانت يدها نجسة لمنعت مِن دهن رأس الرجل وغسله.

وقد ألحق عروة الجنب بالحائض، وَهوَ كَما قالَ، بل الجنب أولى بالطهارة؛ فإنه أخف حدثاً.

وقد كانَ ان عباس يكره ترجيل الحائض رأسه، ختى نهته خالته ميمونة عَن ذَلِكَ: قالَ الإمام أحمد: ثنا سفيان، عَن منبوذ، عَن أمه، قالت: كنت عند ميمونة، فأتاها ابن عباس، فقالت: يابني! مالك شعثاً رأسك؟ قالَ: أم عمار مرجلتي حائض، قالت: أي بني! وأين الحيضة مِن اليد؟ كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أحدانا وهي حائض، فيضع رأسه في حجرها، فيقرأ القرآن وهي حائض، ثُمَّ تقوم إحدانا بخمرته فتضعها في المسجد وهي حائض، أي بني! وأين الحيضة مِن اليد؟

واستدل جماعة مِن الفقهاء بترجيل الحائض رأس الحي وغسله على جواز غسلها للميت، مِنهُم: أبو ثور، وله في ذَلِكَ حكاية معروفة، إذ سئل عَن هَذهِ المسألة جماعة مِن أهل الحديث فلم يهتدوا للجواب، فأجاب أبو ثور بالجواز، واستدل بهذا الحديث، وبحديث:((إن حيضتك ليست بيدك)) .

وحكي عَن أحمد - أيضاً - نظير هَذهِ الحكاية بإسناد فيهِ بعض مِن لايعرف.

وممن رخص في تغسيل الحائض والجنب للميت: عطاء والثوري.

ص: 16

ورخص الحسن للجنب أن يغسل الميت، وحكى الإمام أحمد عَنهُ، أنَّهُ قالَ في الحائض: لا تغسل الميت، وعن علقمة أنَّهُ قالَ: تغسله.

وفي ((كِتابِ عبد الرزاق)) ، عَن علقمة، أن الحائض لا تغسل الميت.

واختلفت الرواية عَن أحمد فيهِ، فروي عَنهُ أنَّهُ قالَ: لا بأس بذلك.

وروي عَنهُ أنَّهُ رخص دونَ الحائض إلا للضرورة.

وقد تقدم عَنهُ رواية أخرى بالرخصة للحائض مطلقاً، وأن في إسنادها نظراً.

وكره علقمة والنخعي والثوري وأحمد أن يحضر الجنب والحائض عند الميت عند خروج روحه؛ لما روي مِن امتناع الملائكة مِن دخول البيت الذِي فيهِ الجنب.

وفي الجملة؛ فبدن الحائض طاهر، وعرقها وسؤرها كالجنب، وحكى الإجماع على ذَلِكَ غير واحد مِن العلماء.

وسئل حماد: هل تغسل الحائض ثوبها مِن عرقها؟ فقالَ: إنما يفعل ذَلِكَ المجوس.

وحكى بعض الفقهاء عَن عبيدة السلماني: أن الحائض لا تقرب الرجل ولا تمس منهُ شيئاً، قالَ بعضهم: ولا أظنه يصح عَنهُ.

وحكى بعضهم عَن أبي يوسف: أن بدن الحائض نجس، وأنها إذا أصابت ماء قليلاً نجسته، وقال بعضهم - أيضاً -: لا يصح هَذا عَن أبي

ص: 17

يوسف.

ولكن أبو حنيفة وأصحابه يقولون: على بدن الجنب، وأعضاء المحدث نجاسة حكمية، تنتقل إلى الماء الذِي يرتفع بهِ حدثه فيصير نجساً.

وهذا إنما يقولونه في الحائض إذا انقطع دمها وأصابها الماء، فإنه ينجس ويرتفع حدثها بذلك وإن لَم تنو رفع الحدث بهِ، على أصلهم المعروف: أن النية لا تشرط للطهارة بالماء.

ص: 18

‌3 - باب

قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض

وكان أبو وائل يرسل خادمه وهي حائض إلى أبي رزين؛ لتأتيه بالمصحف فتمسكه بعلاقته.

ص: 19

297 -

حدثنا أبو نعيم الفضل بنِ دكين: سمع زهيراً، عَن منصور بنِ صفية، أن أمه حدثته، أن عائشة حدثتها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يتكيء في حجري وأنا حائض، ثُمَّ يقرأ القرآن.

هَذا إسناد كله مصرح فيهِ بالتحديث والسماع، إلا في رواية زهير، - وَهوَ ابن معاوية -، عَن منصور بنِ صفية بنت شيبة.

ومراد البخاري بهذا الباب: أن قرب القاريء مِن الحائض ومن موضع حيضها لا يمنعه مِن القراءة؛ فإنه لَم يكن للحيض تأثير في منع القراءة لَم يكن في إخبار عائشةبقراءة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن وَهوَ متكيء في حجرها في حال الحيض معنى، فإنها أرادت أن قرب فم القاريء للقرآن مِن محل الحيض لا يمنعه القراءة.

وقد زعم بعضهم: أن في الحديث دلالة على أن الحيض نفسه غير مانع مِن

القراءة، ولا يصح ذَلِكَ، إنما مراد عائشة: أن قرب الطاهر مِن الحائض لا يمنع مِن القراءة.

ص: 19

وقد صرحت ميمونة أم المؤمنين بهذا المعنى، كَما خرجه الإمام أحمد مِن حديث ابن جريج: أخبرني منبوذ، أن أمه أخبرته، أنها بينا هي جالسة عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم إذ دخل عليها ابن عباس، فقالت: مالك شعثاً؟ قالَ: أم عمار مرجلتي حائض. فقالت: أي بني! وأين الحيضة مِن اليد؟ لقد كانَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يدخل على إحدانا وهي متكئة حائض، قَد علم أنها حائض، فيتكىء عليها فيتلو القرآن وَهوَ متكىء عليها، أو يدخل عليها قاعدة وهي حائض، فيتكىء في حجرها فيتلوا القرآن وَهوَ متكىء في حجرها، وتقوم وهي حائض فتبسط لَهُ خمرة في مصلاه - وفي رواية: فتبسط خمرته - فيصلي عليها في بيتي، أي بني! وأين الحيضة مِن اليد؟

وخرجه النسائي مختصراً، ولم يذكر قصة ابن عباس.

قالَ القرطبي: ويؤخذ مِن هَذا الحديث جواز استناد المريض للحائض في صلاته إذا كانت أثوابها طاهرة. قالَ: وَهوَ أحد القولين عندنا.

وفي ((تهذيب المدونة)) في صلاة المريض: ولا يستند بحائض ولا جنب.

وقد ألحق البخاري بذلك إمساك الحائض بعلاقة المصحف وحمله كذلك، وقد حكاه عن أبي وائل.

وقد اختلف الفقهاء في حمل المُحدِث المصحف بعلاقة: هل هوَ جائز، أم لا؟ وفيه قولان مشهوران:

ص: 20

وممن رخص في ذَلِكَ: عطاء والحسن والأوزاعي والثوري، وكرهه مالك، وحرمه اصحاب الشَافِعي، وعن أحمد روايتان، ومن أصحابنا مِن جزم بجوازه مِن غير خلاف حكاه.

وأصل هَذهِ المسألة: منع المحدث مِن مس المصحف، وسواء كانَ حدثه حدثاً أكبر، وَهوَ مِن يجب عليهِ الغسل، أو أصغر، وَهوَ مِن يجب عليهِ الوضوء.

هَذا قول جماهير العلماء، وروي ذَلِكَ عَن علي وسعد وابن عمر وسلمان، ولا يعرف لَهُم مخالف مِن الصحابة، وفيه أحاديث عَن النبي صلى الله عليه وسلم متصلة ومرسلة.

وخالف في ذَلِكَ أهل الظاهر.

وأجاز الحكم وحماد للمحدث مسه بظهر الكف دونَ بطنه.

وعن الحسن، قالَ: لابأس أن يأخذ المصحف غير المتوضىء فيضعه مِن مكان إلى

مكان.

وعن سعيد بنِ جبير، أنَّهُ بال، ثُمَّ غسل وجهه ويديه، ثُمَّ أخذ المصحف فقرأ فيهِ.

رواهما عبد الرزاق.

وعن الشعبي، قالَ: مس المصحف مالم تكن جنباً.

ذكره وكيع.

وأما الاستدلال بقولِهِ عز وجل: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] ففيه كلام ليسَ هَذا موضعه. والله أعلم.

وإن عدم الماء وتيمم، فله مس المصحف عندنا الشافعية والأكثرين، خلافاً للأوزاعي.

ص: 21

وفي الحديث: دلالة على جواز قراءة القرآن متكئاً، ومضطجعاً، وعلى جنبه، ويدخل ذَلِكَ في قول الله عز وجل:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}

[آل عمران: 191] .

ص: 22

‌4 - باب

مِن سمى النفاس حيضاً

ص: 23

298 -

حدثنا المكي بنِ إبراهيم: نا هشام، عَن يحيى بنِ أبي كثير، عَن أبي

سلمة، أن زينب بنت أم سلمة حدثته، أن أم سلمة حدثتها، قالت: بينا أنا معَ النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعة في خميصة إذ حضت، فانسللت، فأخذت ثياب حيضتي، فقالَ:

((أنفست؟)) فقلت: نعم، فدعاني فانضطجعت معه في الخميلة.

مكي بنِ إبراهيم: أكبر شيخ للبخاري، وَهوَ في طبقة مالك، ويروي عَن هشام بنِ عروة وغيره مِن الأكابر.

وقد أسقط بعض الرواة مِن إسناد هَذا الحديث ((زينب بنت أبي سلمة)) ، وجعله عَن أبي سلمة، عَن أم سلمة، والصواب: ذكر ((زينب)) فيهِ.

وقد تقدم حديث عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي في الحج وهي تبكي، فقالَ:((مالك؟ أنفست؟)) قالت: نعم.

ظاهر حديث أم سلمة وعائشة يدل على الحيض يسمى نفاساً. وقد بوب البخاري على عكس ذَلِكَ، وأن النفاس يسمى حيضاً، وكأن مراده: إذا سمي الحيض نفاساً فَقد ثبت لأحدهما اسم الآخر، فيسمى كل

ص: 23

واحد مِنهُما باسم الآخر، ويثبت لأحدهما أحكام الآخر.

ولا شك أن النفاس يمنع ما يمنع مِنه الحيض ويوجب ما يوجب الحيض إلا في الاعتداد بهِ؛ فإنها لا تعتد بهِ المطلقة قرءاً، ولا تستبرأ بهِ الأمة.

وقد حكى ابن جرير وغيره الإجماع على أن حكم النفساء حكم الحائض في الجملة.

وقد اعتمد ابن حزم على هَذا الحديث في ان الحائض والنفاس مدتهما واحدة، وأن أكثر النفاس كأكثر الحيض، وَهوَ قول لَم يسبق إليه، ولو كانَ هَذا الاستنباط حقاً لما خفي علي أئمة الإسلام كلهم إلى زمنه.

وقريب مِن هَذا: ما نقل حرب في ((مسائله)) ، قالَ: قلت لإسحاق: رجل قالَ لأمراته: إذا حضت فأنت طالق، فولدت، هل يكون دم النفاس حيضاً؟ قالَ: تطلق؛ لأن دم النفاس حيض، إلا أن يقصد حين يحلف قصد الحيض، وذكر حديث عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ لها في الحج:((مالك أنفست؟)) انتهى.

وهذا يرده: أنَّهُ لو كانَ دم النفاس حيضاً لاعتدت بهِ المطلقة قرءاً، ولا قائل بذلك، بل قَد حكى أبو عبيد وابن المنذر وغيرهما الإجماع على خلافه.

وقوله صلى الله عليه وسلم ((أنفست)) ، قالَ القرطبي: قيدناه بضم النون وبفتحها، قالَ الهروي وغيره: نفست المرأة ونفست إذا ولدت - يعني: بالوجهين: فتح

ص: 24

النون وضمها -، قالَ: وإذا حاضت [قيل] : نفست بفتح النون لا غير.

فعلى هَذا يكون ضم النون هنا خطأ؛ فإن المراد بهِ الحيض قطعاً، لكن حكى أبو حاتم عَن الأصمعي الوجهين في الحيض والولادة، وذكر ذَلِكَ غير واحد.

فعلى هَذا تصح الروايتان، وأصل ذَلِكَ كله من خروج الدم وَهوَ المسمى:

نفساً. انتهى.

وقال الخطابي: ترجم أبو عبد الله هَذا الباب بقولِهِ: ((مِن سمى النفاس

حيضاً)) ، والذي ظنه مِن ذَلِكَ وهم. قالَ: وأصل هَذهِ الكلمة مِن النفس، وَهوَ الدم، إلا أنهم فرقوا بين بناء الفعل مِن الحيض والنفاس، فقالوا: نفست المرأة - بفتح النون وكسر الفاء - إذا حاضت، ونفست - بضم النون وكسر الفاء، على وزن الفعل المجهول، فهي نفساء - إذا ولدت. انتهى.

ومراده: أن الرواية في هَذا الحديث هي بفتح النون ليسَ إلا، وأن ذَلِكَ لا يراد بهِ الحيض.

وعلى ما ذكره القرطبي، أن الرواية في الحديث جاءت بوجهين، وأن الأصمعي حكى في الحيض والولادة وجهين، لا يحكم على البخاري بالوهم.

ثُمَّ قالَ الخطابي: الحيضة - بكسر الحاء -: التحيض، كالقعدة والجلسة، أي: الحالة التي تلزمها الحائض مِن اجتناب الأمور وتوقيها.

يشير إلى قول أم سلمة: ((فأخذت ثياب حيضتي)) ، أنها بكسر الحاء.

ص: 25

وأنكر غيره ذَلِكَ، وقال: إنما الرواية بفتح الحاء، والمراد: ثياب الحيض.

قالَ الخطابي: والخميصة: كساء أسود، وربما كانَ لَهُ علم، أو فيهِ خطوط. والخميلة: ثوب مِن صوف لَهُ خمل.

وروى ابن لهيعة: نا يزيد بنِ أبي حبيب، عَن موسى بنِ سعد بنِ زيد بنِ ثابت، عَن خبيب بنِ عبد الله بنِ الزبير، عَن عائشة، قالت: طرقتني الحيضة مِن الليل وأنا إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأخرت، فقالَ:((مالك! أنفست؟)) قلت: لا، ولكن حضت، قالَ:((فشدي عليك إزارك، ثُمَّ عودي)) .

خرجه الإمام أحمد.

وَهوَ غريب جداً.

ص: 26

‌5 - باب

مباشرة الحائض

خرج فيهِ: عَن عائشة، وميمونة.

فأما حديث عائشة، فَمِن طريقين:

أحدهما:

قالَ:

ص: 27

299، 300، 301 - نا قبيصة: نا سفيان، عَن منصور، عَن إبراهيم، عَن الأسود، عَن عائشة، قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم مِن إناء واحد، كلانا جنب، وكان يأمرني فأتزر، فيباشرني وأنا حائض، وكان يخرج رأسه إلي وَهوَ

معتكف، فأغسله وانا حائض.

والثاني:

قالَ:

ص: 27

302 -

نا إسماعيل بنِ خليل: أنا علي بنِ مسهر: أنا أبو إسحاق - هوَ: الشيباني -، عَن عبد الرحمن بنِ الأسود، عَن أبيه، عَن عائشة، قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضاَ فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباشرها أمرها أن

ص: 27

تتزر في فور حيضتها، ثُمَّ يباشرها. قالت: وأيكم يملك إربه كَما كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه؟

تابعه: خالد وجرير، عَن الشيباني.

وحديث جرير عَن الشيباني، خرجه أبو داود، ولفظه: كانَ يأمرنا في فوح حيضتنا أن نتزر، ثُمَّ يباشرنا - والباقي مثله.

وخرجه ابن ماجه مِن طريق ابن إسحاق عَن الشيباني - أيضاً.

وإنما ذكر البخاري المتابعة على هَذا الإسناد؛ لأن مِن أصحاب الشيباني مِن رواه عَنهُ، عَن عبد الله بن شداد، عَن عائشة.

وليس بصحيح؛ فإن الشيباني عنده لهذا الحديث إسنادان عَن عائشة وميمونة:

فحديث عائشة: رواه عَن عبد الرحمن بن الأسود، عَن أبيه، عَن عائشة.

وحديث ميمونة: رواه عَن عبد الله بنِ شداد، عَن ميمونة.

فَمِن رواه: عَن الشيباني، عَن عبد الله بنِ شداد، عَن عائشة، فَقد وهم فهذا حديث عائشة.

وأما حديث ميمونة:

فقالَ:

ص: 28

303 -

نا أبو النعمان: نا عبد الواحد: نا الشيباني: نا عبد الله بنِ شداد، قالَ: سمعت ميمونة قالت: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة مِن

ص: 28

نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض.

رواه سفيان، عَن الشيباني.

وإنما ذكر متابعة سفيان؛ ليبين أن الصحيح: عَن الشيباني، عَن عبد الله بن

شداد، عَن ميمونة؛ لا عَن عائشة، وأن سفيان - وَهوَ: الثوري - رواه عَن الشيباني كذلك.

وقد خرجه الإمام أحمد، عَن ابن مهدي، عَن سفيان كذلك، ولفظ حديثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم يباشرها وهي حائض، فوق الإزار.

وكذلك خرجه مسلم في ((صحيحه)) من طريق عبد الواحد بنِ زياد، عَن الشيباني بهذا الإسناد، ولفظه: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر نساءه فوق الإزار وهن حيض.

وخرجه مسلم - أيضاً - مِن طريق ابن وهب: أخبرني مخرمة، عَن أبيه - وَهوَ: بكير بنِ الأشج -، عَن كريب مولى ابن عباس، عَن ميمونة، قالت:

كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينضجع معي وأنا حائض، وبيني وبينه ثوب.

ورواه الزهري عَن حبيب مولى عروة، عن ندبة مولاة ميمونة، عَن ميمونة، قالت: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر المرأة مِن نسائه وهي حائض، إذا كانَ عليها إزار يبلغ أنصاف الفخذين - أو الركبتين - محتجزة.

خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان في ((صحيحه)) .

وفي الباب أحاديث أخر متعددة، وقد تقدم في الباب الماضي حديث أم سلمة في المعنى.

وقد دلت هَذهِ الأحاديث على جواز نوم الرجل معَ المرأة في حال حيضها، وجواز مباشرته لها، واستمتاعه بها مِن فوق الإزار.

والإزار: هوَ مابين السرة والركبة، وفي الرواية الأخيرة عَن ميمونة الشك:

هل كانَ الإزار يبلغ إلى الركبتين، أو إلى أنصاف الفخذين.

وقد روي أن الإزار كانَ يبلغ إلى أنصاف الفخذين، جزماً مِن غير شك:

خرجه ابن ماجه مِن حد يث أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها سئلت:

ص: 30

كيف كنت تصنعين معَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحيض؟ قالت: كانت إحدانا في فورها، أول ما تحيض تشد عليها إزاراً إلى أنصاف فخذيها، ثُمَّ تضطجع معَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإسناده حسن، وفي إسناده: ابن إسحاق.

وفي هَذا الحديث - معَ حديث عائشة الثاني الذِي خرجه البخاري هاهنا -:

دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانَ يامر الحائض بالاتزار في أول حيضتها، وَهوَ فور الحيضة وفوحها، فإن الدم حينئذ يفور لكثرته، فكلما طالت مدته قل، وهذا مما يستدل بهِ على أن الأمر بشد الإزار لَم يكن لتحريم الاستمتاع بما تحت الإزار، بل خشية مِن إصابة الدم والتلوث بهِ، ومبالغة في التحرز مِن إصابته.

وقد روى محمد بنِ بكار بنِ بلال: نا سعيد بنِ بشير، عَن قتادة، عَن الحسن، عَن أمه، عَن أم سلمة، قالت: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقي سورة الدم ثلاثاً، ثُمَّ يباشر بعد ذَلِكَ.

وهذا الإسناد وإن كانَ فيهِ لين، إلا أن الأحاديث الصحيحة تعضده وتشهد لَهُ.

وفي ((سنن أبي داود)) مِن حديث عكرمة، عَن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد مِن الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً.

وإسناده جيد.

وَهوَ محمول على ما بعد الثلاث إذا ذهبت سورة الدم

ص: 31

وحدته وفوره، فكان حينئذ يكتفي بستر الفرج وحده بثوب، ثُمَّ يباشر.

وقد روي عَن الأوزاعي، عَن عبدة بنِ أبي لبابة، عَن أم سلمة، قالت: كنت معَ النبي صلى الله عليه وسلم في لحافه فنفست، فقالَ:((مالك! أنفست؟)) قلت: نعم، فأمرني أن أضع على قبلي ثوباً.

خرجه أبو بكر ابن جعفر في ((كِتابِ الشافي)) .

وعبدة، لَم يسمع مِن أم سلمة -: قاله أبو حاتم الرازي.

وسنذكر في ((الصيام)) - إن شاء الله تعالى - الأحاديث الواردة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يلقي على فرج المرأة في صيامه ثوباً، ثُمَّ يباشرها.

فظهر بهذا: أن الاستمتاع ببدن الحائض كله جائز، لا منع فيهِ سوى الوطء في الفرج، وأنه يستحب أن يكون ذَلِكَ مِن فوق الإزار، خصوصاً في أول الحيض وفورته، وإن اكتفى بستر الفرج وحده جاز، وإن استمتع بها بغير ستر بالكلية جاز - أيضاً.

وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اصنعوا كل شيء غير النكاح)) .

خرجه مسلم.

وأما الأحاديث التي رويت عَن النبي صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ سئل عما يحل مِن الحائض؟

فقالَ: ((فوق الإزار)) .

فَقد رويت مِن وجوه متعددة لا تخلو أسانيدها مِن لين، وليس رواتها مِن المبرزين في الحفظ، ولعل بعضهم روى ذَلِكَ بالمعنى الذِي فهمه مِن مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم للحائض مِن فوق الإزار.

وقد قيل: إن الإزار كناية عَن الفرج، ونقل ذَلِكَ عن اللغة، وأنشدوا فيهِ شعراً.

قالَ: وكيع: الإزار عندنا: الخرقة التي على الفرج.

ص: 32

وقد اختلف العلماء فيما يجوز الاستمتاع بهِ مِن الحائض في حال حيضها:

فقالت طائفة: لا يحرم منها سوى الإيلاج في فرجها، ويجوز ما عدا ذَلِكَ، وحكي ذَلِكَ عَن جمهور العلماء، وروي عَن ابن عباس، وعائشة، وأم سلمة، وَهوَ قول الثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وَهوَ أحد قولي الشَافِعي، ومحمد بنِ الحسن وأبي ثور، وابن المنذر، وداود، وطائفة مِن أصحاب مالك والشافعي.

واحتج أحمد بأن عائشة أفتت بإباحة ما دونَ الفرج مِن الحائض، وهي أعلم الناس بهذه المسألة، فيتعين الرجوع فيها إلى قولها، كَما رجع إليها في الغسل مِن إلتقاء الختانين على ما سبق، وكذا في المباشرة للصائم، وقد حكى البخاري عنها في

((الصوم)) أنها قالت: يحرم عليهِ - تعني: الصائم - فرجها.

وقالت طائفة: يحرم الاستمتاع مِن الحائض بما بين السرة والركبة، إلا مِن فوق الإزار، وَهوَ المشهور عَن مالك، وأبي حنيفة، والشافعي.

وحكي رواية عَن أحمد، ولم [يثبتها] الخلال وأكثر الأصحاب، وقالوا: إنما أراد أحمد أن الأفضل مباشرتها مِن فوق الإزار.

وقالت طائفة: إن وثق المباشر تحت الإزار بضبط نفسه عَن الفرج؛ لضعف شهوة أو شدة ورع جاز، وإلا فلا، وَهوَ قول طائفة مِن الشَافِعية.

ص: 33

وَهوَ حسن، وفي كلام عائشة رضي الله عنها ما يشهد لَهُ؛ فإنها قالت: وأيكم يملك إربه كَما كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه؟ .

ويشهد لهذا: مباشرة المرأة في حال الصيام؛ فإنه يفرق فيها بين مِن يخاف على نفسه ومن يأمن، وقد قالت عائشة - أيضاً -: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وَهوَ صائم، وكان أملككم لإربه.

وقد رويت هَذهِ اللفظة بكسر الهمزة وسكون الراء، ورويت بفتح الهمزة والراء.

وأنكر الخطابي الرواية الأولى، وجوزها غيره.

والإرب - بالسكون -: العضو، وَهوَ كناية هنا عَن الفرج، والإرب - بالفتح - الحاجة، والمراد بالحاجة: شهوة النكاح، وقيل: بل الإرب - بالسكون - يراد بهِ

العضو، ويراد بهِ الحاجة - أيضاً -، وكذلك هوَ في ((الصحاح)) .

قالَ أبو عبيد: يروى هَذا الحديث: لإربه - يعني: بالسكون - قالَ: وَهوَ في كلام العرب لأربه - يعني: بالتحريك -، قالَ: والإرب: الحاجة، قالَ: وفيه ثلاث لغات: أرب، وإربة، وإرب، في غير هَذا: العضو. انتهى.

وعلى قول مِن جوز الاستمتاع بما دونَ الفرج، ويجوز عندهم الوطء دونَ الفرج، والاستمتاع بالفرج نفسه مِن غير إيلاج فيهِ، ولو كانَ على بعض الجسد شيء مِن دم الحيض لَم يحرم الاستمتاع بهِ، وليس فيهِ خلاف إلا وجه شاذ للشافعية.

لكن صرح ابن أبي موسى مِن أصحابنا في ((شرح الخرقي)) بكراهة الوطء فيما هوَ متلوث بدم الحيض مِن غير تحريم.

ص: 34

وأما ما فوق السرة وتحت الركبة فيجوز الاستمتاع بهِ، وكثير مِن العلماء حكى الإجماع على ذَلِكَ.

ومنهم مِن حكى عَن عبيدة السلماني خلافه، ولا يصح عَنهُ.

إنما الصحيح عَن عبيدة: ما رواه وكيع في ((كتابه)) ، عن ابن عون، عَن ابن سيرين، قالَ: سألت عبيدة: ما للرجل مِن امرأته إذا كانت حائضاً؟ قالَ: الفراش واحد، واللحاف شتى، فإن لَم يجد بداً رد عليها مِن طرف ثوبه.

وهذا إنما يدل على أن الأولى أن لا ينام معها متجردة في لحاف واحد حتَّى يسترها بشيء مِن ثيابه، وهذا لا خلاف فيهِ.

وقد روي عَن ابن عباس، أنَّهُ كانَ يعتزل فراشه امرأته في حال الحيض، وأنكرت عليهِ ذَلِكَ خالته ميمونة رضي الله عنهما، فرجع عَن ذَلِكَ:

ففي ((مسند الإمام أحمد)) مِن حديث ابن إسحاق، [عَن] الزهري، عَن عروة، عَن ندبة، قالت: أرسلتني ميمونة بنت الحارث إلى امرأة عبد الله ابن عباس - وكانت بينهما قرابة -، فرأيت فراشها معتزلاً عَن فراشه، فظننت أن ذَلِكَ لهجران، فسألتها، فقالت: لا، ولكني حائض، فإذا حضت لم يقرب فراشي، فأتيت ميمونة، فذكرت ذَلِكَ لها، فردتني إلى ابن عباس، فقالت: أرغبة عَن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لقد كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام معَ المرأة مِن نسائه الحائض، ما بينهما إلاّ ثوب، ما يجاوز الركبتين.

ثُمَّ خرجه مِن طريق ليث: حدثني ابن شهاب، عَن حبيب مولى عروة، عَن ندبة - فذكر الحديث.

ص: 35

وهذا هوَ الصحيح، وقول ابن إسحاق:((عَن عروة)) خطأ، إنما هوَ:

حبيب مولى عروة، وَهوَ ثقة، خرج لَهُ مسلم.

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانَ ينام معَ الحائض حيث لَم يكن لَهُم سوى فراش واحد، فلما وسع عليهم اعتزل نساءه في حال الحيض.

خرجه الإمام أحمد مِن رواية ابن لهيعة، عَن يزيد بنِ أبي حبيب، عَن سويد بنِ قيس، عَن ابن قريط الصدفي، قالَ: قل لعائشة: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يضاجعك وأنت

حائض؟ قالت: نعم، إذا شددت عليّ إزاري، ولم يكن لنا إذ ذاك إلا فراش واحد، فلما رزقني الله فراشاً آخر اعتزلت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وابن لهيعة، لا يقبل تفرده بما يخالف الثقات.

ولكن تابعه غيره:

فرواه ابن وهب، عَن عمرو بنِ الحارث، عَن ابنِ أبي حبيب، عَن سويد ابن قيس، عَن ابن قرظ - أو قرط - الصدفي، أنَّهُ سأل عائشة - فذكره بمعناه.

خرجه بقي بنِ مخلد في ((مسنده)) .

وابن قرظ - أو قرط - الصدفي، ليسَ بالمشهور، فلا تعارض روايته عَن عاشة رواية الأسود بنِ يزيد النخعي.

وقد تابع الأسود على روايته كذلك عَن عائشة: عمرو بنِ شرحبيل - أو عمرو بنِ ميمون - على اختلاف فيهِ -، وأبو سلمة وعبد الله بنِ أبي قيس، وشريح بنِ المقدام، وجميع بنِ عمير، وخلاس وغيرهم.

وروايات هؤلاء عَن عائشة أولى مِن روايات ابن قريط.

ص: 36

وتعارض رواية ابن قريط برواية أخرى تشبهها، خرجها أبو داود مِن حديث

عبد الرحمن بنِ زياد، عَن عمارة بنِ غراب، أن عمة لَهُ حدثته: أنها سألت عائشة، قالت: إحدانا تحيض وليس لها ولزوجها إلا فراش واحد؟ قالت: أخبرك بما صنع

رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل فمضى إلى مسجده - تعني: مسجد بيته -، فلم ينصرف حتى غلبتني عيني، وأوجعه البرد، فقالَ:((ادني)) ، فقلت: إني حائض، قالَ:((وإن، اكشفي عَن فخذيك)) ، فكشفت فخذي فوضع خده وصدره على فخذي، وحنيت عليهِ حتى دفىء ونام.

وفي ((سنن أبي داود)) عَن أبي اليمان كثير بنِ يمان، عَن أم ذرة، عَن عائشة، قالت: كنت إذا حضت نزلت عَن المثال إلى الحصير، فلن نقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ندن منهُ حتى نطهر.

أبو اليمان وأم ذرة، ليسا بمشهورين، فلا يقبل تفردهما بما يخالف رواية الثقات الحفاظ الأثبات.

وخرجه بقي بنِ مخلد، عَن الحماني: ثنا عبد العزيز، عَن أبي [اليمان] الرحال، عَن أم ذرة، عَن عائشة، قالت: كنت إذا حضت لَم أدن مِن فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أطهر.

الحماني، متكلم فيهِ.

وقد روى جعفر بنِ الزبير، عَن القاسم، عَن أبي أمامة، قالَ: قالَ عمر: كنا نضاجع النساء في المحيض، وفي الفرش واللحف قلة، فأما إذ وسع الله الفرش واللحف فاعتزلوهن كَما أمر الله عز وجل.

ص: 37

خرجه القاضي إسماعيل.

وهذا لا يثبت، وجعفر بنِ الزبير متروك الحديث.

وروى أبو نعيم الفضل بنِ دكين: نا أبو هلال: حدثني شيبة الراسبي، قالَ: سألت سالماً عَن الرجل يضاجع امرأته وهي حائض؟ قالَ: أمَّا نحن آل عمر، فنهجرهن إذا كن حيضاً.

إسناد ضعيف.

والاعتزال الذِي أمر الله بهِ: هوَ اجتناب جماعهن، كَما فسره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال عكرمة: كانَ أهل الجاهلية يصنعون في الحيض نحواً مِن صنيع المجوس، فذكروا ذَلِكَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت:{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً}

[البقرة: 222] الآية، فلم يزد الأمر فيهن إلا شدة، فنزلت:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] : أن تعتزلوا.

أخرجه القاضي إسماعيل، بإسناد صحيح.

وَهوَ يدل على أن أول الأمر باعتزالهن فهم كثير مِن الناس منهُ الاعتزال في البيوت والفرش كَما كانوا يصنعون أولاً، حتى نزل آخر الآية: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ

اللهُ} ، ففهم مِن ذَلِكَ أن الله أمر باعتزالهن في الوطء خاصة.

وفسر النبي صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ بقولِهِ: ((اصنعوا كل شيء غير النكاح)) ، وبفعله معَ أزواجه؛ حيث كانَ يباشرهن في المحيض.

ص: 38

‌6 - باب

ترك الحائض الصوم

ص: 39

304 -

حدثنا سعيد بنِ أبي مريم: نا محمد بنِ جعفر: أخبرني زيد - هوَ: ابن أسلم -، عَن عياض بنِ عبد الله، عَن أبي سعيد الخدري، قالَ: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمر على النساء، فقالَ:((يا معشر النساء تصدقن، فإني أريتكن أكثر أهل النار)) فقلن: وبم يارسول الله؟ قالَ: ((تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت مِن ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم مِن إحداكن)) . قلن: وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟ قالَ: ((أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟)) قلن: بلى، قالَ:((فذلك مِن نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لَم تصل ولم تصم؟)) قلن: بلى، قالَ:((فذلكن [مِن] نقصان دينها)) .

قَد سبق هَذا الحديث في ((كِتابِ: الإيمان)) ، استدل بهِ البخاري هناك على أن الصلاة والصيام مِن الدين، واستدل بهِ هنا على أن الحائض لا تصوم.

ولم يبوب على ترك الصلاة؛ لأنه بوب على أنها لا تقتضي الصلاة باباً مفرداً، يأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى.

وقد أجمعت الأمة على أن الحائض لا تصوم في أيام حيضها، وأن صومها غير صحيح ولا معتد بهِ، وأن عليها قضاء الصوم إذا طهرت.

ص: 39

واختلف المتكلمون في أصول الفقه: هل هي مكلفة بالصوم في حال حيضها، أم لا تؤمر بهِ إلا بعد طهرها؟

وقال كثير مِن الفقهاء: أنَّهُ لا تظهر لهذا الاختلاف فائدة.

وقد تظهر لَهُ فائدة، وهي: أن الحائض إذا ماتت قبل انقطاع دمها، فهل يجب أن يطعم عنها لكل يوم أفطرت فيهِ؟ وكذا المريض والمسافر إذا ماتا قبل زوال عذرهما، على قول مِن أوجب الإطعام عَن الميت مطلقاً وإن مات قبل التمكن مِن الصوم.

وإذا انقطع دم الحائض؛ فالجمهور على أن حكمها حكم الجنب؛ يصح

صومها، والمخالف في صوم الجنب يخالف في الحائض بطريق الأولى.

ومن الناس مِن قالَ في الحائض: لا يصح صيامها حتى تغتسل؛ وإن صح صوم الجنب. وحكي عَن الأوزاعي، والحسن بنِ صالح، والعنبري، وعبد الملك بنِ الماجشون

وغيرهم.

وقد حكاه بعض أصحابنا المتأخرين وجهاً في الحائض إذا انقطع دمها: أنَّهُ لا يصح صومها، ولم يحك مثله في الجنب.

ووجه الفرق: أن حدث الحيض مانع مِن صحة الصيام؛ بخلاف الجنابة، فإنه لو احتلم الصائم لَم يبطل صيامه، ولو طرأ الحيض في أثناء النهار بطل الصوم.

ص: 40

‌7 - باب

تقضي الحائض المناسك كلها إلاّ الطواف بالبيت

وقال إبراهيم: لا بأس أن تقرأ الآية.

ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأساً.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه.

وقالت أم عطية: كنا نؤمر أن يخرج الحيض؛ فيكبرن بتكبيرهم ويدعون.

قالَ ابن عباس: أخبرني أبو سفيان، أن هرقل دعا بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه، فإذا فيهِ: ((بسم الله الرحمن الرحيم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ} [آل عمران: 64] .

وقال عطاء، عنِ جابر: حاضت عائشة، فنسكت المناسك غير الطواف

بالبيت، ولا تصلي.

وقال الحكم: إني لأذبح وأنا جنب.

ص: 41

305 -

حدثنا أبو نعيم: نا عبد العزيز بنِ أبي سلمة، عَن عبد الرحمن بنِ

القاسم، [عَن القاسم] ، عَن عائشة، قالت: خرجنا معَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثت، فد خل النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقالَ:((ما يبكيك؟))

فقلت: لوددت والله أني لَم أحج العام، قالَ:((لعلك نفست؟)) قلت:

نعم، قالَ:((فإن ذَلِكَ شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري)) .

مقصود البخاري بهذا الباب: أن الحيض لا يمنع شيئاً مِن مناسك الحج غير الطواف بالبيت والصلاة عقيبه وأن ما عدا ذَلِكَ مِن المواقف والذكر والدعاء لا يمنع الحيض شيئاً منهُ، فتفعله الحائض كله، فدخل في ذَلِكَ الوقوف بعرفة، والمزدلفة، ورمي الجمار، وذكر الله عز وجل ودعاؤه في هَذهِ المواطن، وكل هَذا متفق على جوازه.

ولم يدخل في ذَلِكَ السعي بين الصفا والمروة؛ لأنه تابع للطواف لا يفعل إلا بعده،

ص: 42

ولم تكن عائشة طافت قبل حيضها، فلوا كانت قَد طافت فبل حيضها لدخل فيهِ السعي - أيضاً.

وهذا كله متفق عليهِ بيِن العلماء إلا خلافاً شاذاً في الذكر، وقد ذكرناه فيما سبق في ((أبواب الوضوء)) ، وإلا السعي بين الصفا والمروة؛ فإن للعلماء فيهِ اختلافاً: هل يفعل معَ الحيض، أم لا؟

والجمهور: على جوازه معَ الحيض، ومنع منهُ طائفة من السلف؛ لكن مِنهُم مِن علل ذَلِكَ بمنع تقدم السعي للطواف، فلو كانت طافت ثُمَّ حاضت لزال المنع حينئذ على هَذا التعليل، وحكي المنع رواية عَن أحمد، وحكي عَن ابن عمر.

ومنع إسحاق الجنب مِن السعي دونَ الحائض؛ لأن الجنب لا عذر لَهُ في تأخير الغسل؛ بخلاف الحائض.

وقد روى يحيى بنِ يحيى الأندلسي حديث عائشة الذِي خرجه البخاري هاهنا: عَن مالك، عَن عبد الرحمن بنِ القاسم، وقال فيهِ:((غير أن لا تطوفي بالبيت، ولا بالصفا والمروة، حتى تطهري)) .

وزيادة ((الصفا والمروة)) وهم على مالك، لَم يذكره عَنهُ أحد غير يحيى -: قاله ابن عبد البر.

وفي ((صحيح مسلم)) ، عَن أبي الزبير، عَن جابر،

ص: 43

وذكر قصة عائشة في حيضها في الحج، وقال في آخره: فقالَ لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((اغتسلي، ثُمَّ أهلي بالحج)) ، ففعلت، ووقفت المواقف، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة، والصفا والمروة.

وخرج البخاري في ((الحج)) من حديث عطاء، عن جابر، قالَ: حاضت عائشة، فنسكت المناسك كلها، غير أنها لم تطف بالبيت، فلما طهرت طافت بالبيت.

وهذا هوَ الذِي علقه البخاري هاهنا، وزاد فيهِ:((ولا تصلي)) .

وهذه اللفظة خرجها الإمام أحمد مِن رواية أبي الزبير، فذكر الحديث، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ لها: ((اغتسلي، واهلي بالحج، ثُمَّ حجي واصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تصلي)) . قالت: ففعلت ذَلِكَ، فلما طهرت قالَ:((طوفي بالبيت وبين الصفا والمروة)) .

وأما طواف الحائض بالبيت، فالجمهور على تحريمه، ورخص فيهِ طائفة مِن المالكية إذا لَم تحتبس لها الرفقة أن تطوف للأفاضة حينئذ، وسنذكر ذَلِكَ في موضعه مِن ((الحج)) إن شاء الله تعالى.

وأما حديث أم عطية في إخراج الحيض في العيدين، فَقد خرجه البخاري في مواضع متعددة مِن ((كتابه)) مبسوطاً، وفيه دليل على جواز الذكر والدعاء للحائض.

وأما ما ذكره - تعليقاً -، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يذكر الله على كل أحيانه:

ص: 44

فخرجه مسلم ((صحيحه)) مِن حديث البهي، عَن عروة، عَن عائشة.

وذكر الترمذي في ((علله)) أنَّهُ سأل البخاري عَنهُ، فقالَ: هوَ حديث صحيح.

وذكر ابن أبي حاتم، عَن أبي زرعة، أنَّهُ قالَ: لَم يرو إلا مِن هَذا الوجه، وليس هوَ بذاك.

وفيه: دليل على أن الذكر لا يمنع منهُ حدث ولا جنابة، وليس فيهِ دليل على جواز قراءة القرآن للجنب؛ لأن ذكر الله إذا أطلق لا يراد بهِ القرآن.

واستدلاله بقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} فَهوَ دليل على جواز التسمية للحائض والجنب؛ فإنهما غير ممنوعين مِن التذكية.

قالَ ابن المنذر: لا أعلم أحداً منع مِن ذَلِكَ. قالَ: وأجمع أهل العلم على أن لهما أن يذكرا الله ويسبحانه.

فلم يبق مما ذكره البخاري في هَذا الباب سوى قراءة القرآن، وظاهر كلامه أن الحائض لا تمنع مِن القراءة.

واستدل [بكتابة] النبي صلى الله عليه وسلم البسملة معَ آية مِن القرآن إلى هرقل.

وذكر عن النخعي، أن الحائض تقرأ الآية، وعن ابن عباس أنه لم ير بالقرآن للجنب بأساً.

أما ابن عباس، فقد حكى عنه جواز القرآن للجنب غير واحد.

ص: 45

قالَ ابن المنذر: روينا عن ابن عباس أنه كانَ يقرأ وردهُ وهو جنب، ورخّص عكرمة وابن المسيب في قراءته. وقال ابن المسيب: أليس في جوفه؟ انتهى.

وكذا قالَ نافع بن جبير بن مطعم في قراءة القرآن على غير طهارة: لا بأس به، أليس القرآن في جوفه؟

وممن رأى الرخصة في قراءة القرآن للجنب قسامة بن زهير، والحكم، وربيعة، وداود.

وروى - أيضاً - عن معاذ بن جبل، وانه قالَ: ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء من ذَلِكَ.

خرجه ابن جرير بإسناد ساقط لا يصح، والظاهر أنه مما وضعه محمد بن سعيد المصلوب، وأسقط اسمه من الإسناد؛ فقد وجدنا أحاديث متعددة بهذا الإسناد، وهي من موضوعات المصلوب.

وحكي جواز القراءة للجنب والحائض عن طائفة من أهل الحديث، منهم: ابن المنذر، والطحاوي.

وأما من رخص للجنب في قراءة الآية، فقد حكاه البخاري عن النخعي في الحائض.

وفي ((كتاب ابن أبي شيبة)) عن النخعي: أن الحائض والجنب لا يتم الآية.

وروى أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم في الجنب: لا بأس أن يقرأ الآية. قال أبو حنيفة: والحائض مثله.

وحكى رواية عن أحمد بجواز قراءة الآية، وهي مخرجة من كلامه، ليست منصوصة عنه، وفي صحة تخريجها نظر.

وروي عن طائفة الرخصة في قراءة الآية والآيتين،

ص: 46

روي عن سعيد بن جبير

وعبد الله بن مغفل، وعكرمة.

وروي عن عكرمة: لا بأس للجنب أن يقرأ؛ ما لم يقرأ السورة.

ومنهم من رخص في قراءة ما دون الآية، وهو مروي عن جابر بن زيد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والنخعي، والثوري، ورواية عن أحمد، وإسحاق، وحكي عن الطحاوي.

ومنع الأكثرون الحائض والجنب من القراءة بكل حال، قليلاً كانَ أو كثيراً، وهذا مروي عن اكثر الصحابة، روي عن عمر، وروي عنه أنه قالَ: لو أن جنباً قرأ القرآن لضربته.

وعن علي، قالَ: لا يقرأ ولا حرفاً.

وعن ابن مسعود، وسليمان، وابن عمر.

وروي عن جابرٍ، قالَ البيهقي: وليس بقوي.

وروي عن ابن عباس بإسناد لا يصح.

وهو قول أكثر التابعين، ومذهب الثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد وإسحاق - في احدى الروايتين عنهما -، وأبي ثور وغيرهم.

وهو قول مالكٍ في الجنب، إلا أنه رخص لهُ في قراءة آيتين وثلاث عندَ المنام للتعوذ.

ورخص الأوزاعي لهُ في تلاوة آيات الدعاء والتعوذ، تعوذاً لا قراءة.

وهذا أصح الوجهين للشافعية - أيضاً.

وقال سعيد بن عبد العزيز: رخص للحائض والجنب في قراءة آيتين عندَ الركوب والنزول: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} الآية [الزخرف: 13]، و {رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً} [المؤمنون: 29] الآية.

وعن مالك في الحائض روايتان إحداهما: هي كالجنب، والثانية: أنها تقرأ.

وهو قول محمد بن مسلمة؛ لأن مدة الحيض تطول، فيخشى

ص: 47

عليها النسيان، وهي غير قادرة على الغسل، بخلاف الجنب.

وحكى أبو ثور ذَلِكَ عن الشافعي، وأنكره أصحاب الشافعي عنه.

وعكس ذَلِكَ آخرون، منهم: عطاء، قالَ: الحائض أشد شأناً من الجنب، الحائض لا تقرأ شيئاً من القرآن، والجنب يقرأ الآية.

خرجه ابن جرير بإسناده عنه.

ووجه هذا: أن حدثَ الحيض أشد من حدث الجنابة؛ فإنه يمنع ما يمنع منه حدث الجنابة وزيادة، وهي الوطء والصوم، وما قيل من خشية النسيان فإنه يندفع بتذكر القرآن بالقلب، وهو غير ممنوع به.

وفي نهي الحائض والجنب عن القراءة أحاديث مرفوعة، إلا أن أسانيدها غير

قوية، كذا قالَ الإمام أحمد في قراءة الحائض، وكأنه يشير إلى أن الرواية في الجنب

أقوى، وهو كذلك.

وأقوى ما في الجنب: حديث عبد الله بن سلمة، عن علي، قالَ: كانَ

رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه - أو يحجزه - عن القرآن شيء، ليس الجنابة.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وخرجه الترمذي بمعناه، وقال: حسن صحيح، وخرجه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) والحاكم، وقال صحيح الإسناد.

وتكلم فيهِ الشافعي وغيره؛ فإن عبد الله بن سلمة هذا رواه بعدما كبر، قالَ شعبة عنه: كانَ يحدثنا، فكنا نعرف وننكر ،،

ص: 48

وقال البخاري: لا يتابع في حديثه، ووثقه العجلي ويعقوب بن شيبة، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.

والاعتماد في المنع على ما روي عن الصحابة، ويعضده: قول عائشة وميمونة في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في حجرهما في حال الحيض؛ فإن يدل على أن للحيض تأثيراً في منع القراءة.

وأما الاستدلال المجيزين بحديث عائشة: ((اصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي)) فلا دلالة لهم فيهِ؛ فإنه ليس في مناسك الحج قراءة مخصوصة حتَّى تدخل في عموم هذا الكلام، وإنما تدخل الأذكار والأدعية.

وأما الاستدلال بحديث الكتاب إلى هرقل، فلا دلالة فيهِ؛ لأنه إنما كتب ما تدعو الضرورة إليه للتبليغ، وقد سبق ذكر ذَلِكَ في شرح حديث هرقل في أول الكتاب.

وقد اختلف العلماء في تمكين الكافر من تلاوة القرآن، فرخص فيهِ الحسن وأبو حنيفة وغيرهما، ومنهم من منع منه، وهو قول أبي عبيد وغيره.

واختلف أصحابنا في ذَلِكَ، فمنهم من منعه مطلقاً، ومنهم من رخص فيهِ

مطلقاً، ومنهم من جوزه إذا رجي من حال الكافر الاستهداء

ص: 49

والاستبصار، ومنعه إذا لم يرج ذَلِكَ.

والمنقول عن أحمد أنه كرهه.

وقال أصحاب الشافعي: إن لم يرج له الاستهداء بالقراءة منع منها، وإن رجي لهُ ذَلِكَ لم يمنع، على أصح الوجهين.

ص: 50

‌8 - باب

الاستِحَاضَةِ

ص: 51

306 -

حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: أنها قالت: قالت فاطمة بنت أبي حبيش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إني لا أطهرُ؛ أفأدع الصلاة؟ ، فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إنما ذَلِكَ عرق، وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصَّلاة، فإذا ذهب عنك قدرها فاغسلي عنك الدم وصلّي)) .

هذا الحديث خرجه البخاري في مواضع متعددة من ((كتاب الحيض)) ، وفي بعضها: أنها قالت: ((إني أستحاض فلا أطهر)) ، وفي بعضها:((إذا أدبرَتْ فاغتسلي وصلي)) ، وفي بعضها:((دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضينَ فيها، ثُمَّ اغتسلي وصلي)) .

وكل هذه الألفاظ من رواية هشام، عن أبيه، عن عائشة.

وخرج - أيضاً - من رواية ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عروة - وعن

عمرة -، عن عائشة: أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذَلِكَ، فأمرها أن تغتسل، فقالَ:((هذا عرق)) ، فكانت تغتسل لكل صلاة.

المستحاضة: هي من اختلط دم حيضها بدم غير الحيض، هوَ دم فاسد

ص: 51

غير طبيعي، بل عارض لمرض، فدم الحيض هوَ دم جبلةٍ وطبيعةٍ، يرخيه الرحم بعد البلوغ في أوقات معتادة، وسمي حيضاً لأنه يسيل، ويقال: حاض الوادي إذا سال.

وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين دم الحيض والاستحاضة بأن دم الاستحاضة عرق، وهذا يدل على أن دم الحيض ليس دم عرق؛ فإنه دم طبيعي، يرخيه الرحم فيخرج من قعره، ودم الاستحاضة يخرج من عرق ينفجر، [ومنه] الذي يسيل في أدنى الرحم دون قعره.

وفي ((سنن أبي داود)) من حديث أسماء بنت عميس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قالَ:((هذا من الشيطان)) يعني: دم الاستحاضة.

وخرج النسائي من حديث عمرة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ في المستحاضة:((ليست بالحيضة، ولكنها ركضة من الرحم)) .

ومن حديث القاسم، عن عائشة: أن امرأة مستحاضة على عهد النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قيل لها: إنه عرق عاندٌ.

وفي حديثه حمنة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قالَ:((إنما هوَ ركضةٌ من الشيطان)) .

خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي.

ص: 52

وفي حديث عثمان بن سعد، عن ابن أبي مليكةَ، عن فاطمة بنت أبي حبيشٍ، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ:((إنما هوَ عرق انقطع، أو داءٌ عرض، أو ركضةٌ من الشيطان)) .

وروى أبو عبيد في ((غريبه)) : نا حجاج، عن حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، أنه سئل عن المستحاضة؟ فقالَ: ذَلِكَ العاذل يغذو.

قالَ أبو عبيد: ((العاذل)) : اسم العرق الذي يخرج منه دم الاستحاضة.

وقوله: ((يغذو)) - يعني: يسيل.

قالَ: ونا أبو النضر، عن شعبة، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: إنه عرق عاند، أو ركضة من الشيطان.

قالَ: وقوله: ((عاند)) - يعني: أنه عندَ وبغي كالإنسان يعاند عن القصد فهذا العرق في كثرة ما يخرج من الدم بمنزلته. والركضة: الدفعة.

وقد اختلف العلماء في تفسير الاستحاضة، على حسب اختلافهم في حد أكثر الحيض.

فمن قالَ: لهُ حد محدود، قالَ: المستحاضة من جاوز دمها أكثر الحيض، وهذا قول الأكثرين منهم.

وقد أشار البخاري إلى الاختلاف في ذَلِكَ - فيما بعد -، ويأتي الكلام فيهِ في موضعه - إن شاء الله تعالى.

ومن قالَ: ليس لأكثره حد محدود، وإنما يرجع إلى عادة المرأة، فإنه يرى أن عادتها إذا زاد الدم عليها مدة طويلة كانَ ذَلِكَ استحاضة.

ص: 53

وقد ذكر أبو داود في ((سننه)) ، قالَ: روى يونس، عن الحسن في الحائض إذا مد بها الدم: تمسك بعد حيضها يوماً أو يومين، فهي مستحاضة.

وقال التيمي، عن قتادة: إذا زاد على أيام حيضتها خمسة أيام فلتصل.

قالَ التيمي: فجعلت أُنقص حتى بلغت يومين، فقالَ: إذا كانَ يومين فهوَ من حيضها.

وسئل عنه ابن سيرين، فقالَ: النساء أعلم بذلك.

وقد ذكر البخاري قول ابن سيرين هذا فيما بعد تعليقاً، ويأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى.

روى حرب الكرماني: ثنا إسحاق - هوَ: ابن راهويه -: ثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن، في امرأة كانَ أقراؤها سبعة أيام قبل أن تتزوج، فلما تزوجت ارتفعت إلى خمسة عشر أو ثلاثة عشر؟ قالَ: تنظر تلك الأيام التي كانت تحيضها قبل أن تتزوج، فإذا مضت اغتسلت كل يوم عندَ صلاة الظهر إلى مثلها، وتوضأت عندَ كل صلاة، وتتنظف، وتصلي.

قالَ: ونا إسحاق: نا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قالَ: قلت لمحمد ابن سيرين: المرأة تحيض فتزيد على ذَلِكَ خمسة أيام؟ قالَ: تصلي، قلت: يومين؟ قالَ: ذَلِكَ من حيضتها.

وروى حرب بإسناده، عن الأوزاعي، في المرأة تمكث في حيضها سبعة

ص: 54

أيام ثم ترى بعد السبعة دماً؟ قالَ: إن شاءت استظهرت بيوم، ثم تغتسل وتصلي.

ومذهب أحمد وأصحابه: أن الحائض إذا كانَ لها عادةٌ مستمرة فإنها تجلس أيام عادتها.

وهل تثبت عنده العادة بمرتين، أو ثلاث مرار؟ على روايتين عنه.

فإن لم يكن لها عادة، مثل أن تكون مبتدأةً، فإنها لا تزيد على أن تقعد أقل الحيض عنده، وهو يوم وليلة، ثم تغتسل وتصلي حتى تثبت لها عادة بمرتين أو ثلاث فتنتقل إليها. هذا هوَ الصحيح عنده.

وكذلك إذا كانت معتادة، فزادت عادتها، فإنها تغتسل عندَ انقضاء عادتها وتصلي، فإن انقطع لأكثر الحيض فما دونه على قدر واحد مرتين أو ثلاثاً -، على اختلاف الروايتين عنه - صار عادة بائنة منتقلة، وانتقلت إليه.

وتمسك لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المستحاضة بأن تدع الصلاة في الأيام التي كانت تحيض فيها، وهذا رد إلى العادة المعتادة المستمرة.

وأما مذهب مالك فيمن لها عادة فزادت عليها، فعنه فيها روايتان:

إحداهما: تجلس ما تراه من أول مرة؛ ما لم يزد على أكثر الحيض، وهو خمسة عشر يوماً.

والثانية: أنها تستطهر على عادتها بثلاثة أيام، ما لم تجاوز خمسة عشر يوماً، تغتسل وتصلي، وهي التي رجع إليها مالك، وعليها المصريون من أصحابه، وهي قول الليث بن سعد.

وإذا استحيضت هذه فإنها تستطهر على أكثر أيام عادتها ما لم تجاوز خمسة عشر - أيضاً -، وفيه عنه خلاف

ص: 55

يأتي ذكره فيما بعد.

ومذهب الشافعي وأبي حنيفة: أنها تجلس ما تراه من الدم ما لم يجاوز أكثر الحيض، سواء اتفقت عادتها، أو اختلفت، ولا عبرة بالعادة فيما يمكن أن يكون

حيضاً.

وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب عنك قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي)) - وفي رواية: ((فإذا أدبرت)) . فقد اختلف العلماء في تأويله:

فتأوله الأكثرون، منهم مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد على أن المراد به اعتبار تميز الدم، وأن هذه المستحاضة كانَ دمها متميزاً، بعضه أسود وبعضه غير ذَلِكَ، فردها إلى زمن دم الحيض وهو الأسود الثخين، فإذا أقبل ذَلِكَ الدم تركت الصلاة، فإذا أدبر وجاء دم غيره فإنها تغتسل وتصلي.

وقد جاء التصريح بذلك في رواية أخرى من طريق محمد بن أبي عدي، عن محمد بن عمرو عن علقمة، عن ابن شهاب، عن عروة، عن فاطمة بنت أبي حبيش، أنها كانت تستحاض، فقالَ لها النبي صلى الله عليه وسلم:((إذا كانَ دم الحيضة، فإنه دم أسود يعرف، فإذا كانَ ذَلِكَ فأمسكي عن الصلاة، فإذا كانَ الآخر فتوضئي وصلي، فإنما هوَ عرق)) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في

((صحيحيهما)) والحاكم.

وقال: صحيح على شرط مسلم.

وقال

ص: 56

الدارقطني: رواته كلهم ثقات.

وقد تكلم فيهِ آخرون:

قالَ النسائي: روى هذا الحديث غير واحد، فلم يذكر أحد منهم ما ذكره ابن عدي.

وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هذا الحديث؟ فقالَ: لم يتابع محمد ابن عمرو على هذه الرواية، وهو منكر.

وأيضاً؛ فقد اختلف على ابن أبي عدي في إسناده، فقيل: عنه كما ذكرنا. وقيل عنه في إسناده: عن عروة، عن عائشة.

وقيل: إن روايته عن عروة، عن فاطمة أصح؛ لأنها في كتابه كذلك.

وقد اختلف في سماع عروة من فاطمة.

وفي ((سنن أبي داود)) من رواية سهيل، عن الزهري، عن عروة، عن أسماء بنت عميس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ في أمر فاطمة بنت أبي حبيش:((لتجلس في مركن، فإذا رأت صفرةً فوق الماء فلتغتسل)) .

وفي إسناده اختلاف: وقد قيل: إن الصحيح فيهِ: عن عروة، عن فاطمة.

وفي بعض ألفاظه: ((فأمرها أن تقعد أيامها التي كانت تقعد، ثم تغتسل)) .

ص: 57

والأظهر - والله اعلم -: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ردها إلى العادة لا إلى التمييز؛ لقوله: ((فإذا ذهب عنك قدرها)) ، كذا في رواية مالك، عن هشام، وهي التي خرجها البخاري في هذا الباب.

وقد تأويلها بعض المالكية على أنها كانت مميزة، لكن يزيد دم تمييزها على أكثر الحيض، فتجلس منه قدر العادة.

وقال بعضهم: المراد بقدرها: ذهاب دمها وانقضاؤها.

وتأوله بعضهم: على أن المراد بذهاب قدرها: الاستطهار بعد مدتها بثلاثة أيام على ما يراه مالك.

وكل هذه تأويلات بعيدةٌ، تخالف ظاهر اللفظ.

وفي رواية أبي أسامة، عن هشام:((دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي)) .

وقد خرجها البخاري فيما بعد.

وهذه الرواية صريحة في ردها إلى العادة دون التمييز.

وخرج مسلم من حديث عراك بن مالك، عن عروة، عن عائشة، أن أم حبيبة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدم؟ فقالَ لها النبي صلى الله عليه وسلم:((امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي وصلي)) .

وفي رواية: أنها شكت إليه الدم.

وروى مالك، عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن امرأةً كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالَ: ((لتنظر عدة الليالي والأيام

ص: 58

التي كانت تحيضهن من الشهر [قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذَلِكَ من الشهر] ، فإذا خلفت ذَلِكَ فلتغتسل، ثم لتستثفر بثوب، ثم لتصل)) .

وخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.

وخرجه الإمام أحمد والنسائي - أيضاً - وابن ماجه من حديث عبيد الله بن

عمر، عن نافع - بنحوه.

وخرجه أبو داود - أيضاً - من رواية الليث، عن نافع، عن سليمان بن يسار، أن رجلاً أخبره عن أم سلمة.

ومن طريق أبي ضمرة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سليمان، عن رجل من الأنصار، أن امرأة كانت تُهراق الدماء - فذكره بمعناه.

فتبين بهذا أن سليمان بن يسار لم يسمعه من أم سلمة.

وروى أيوب، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة، أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالَ:((إنه ليس بالحيضة، ولكنه عرق)) ، وأمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها، أو حيضها، ثم تغتسل، فإن غلبها الدم استثفرت بثوب وصلت.

ص: 59

فهذه الرواية تشهد لما ذكرناه من أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رد فاطمة إلى العادة.

وكذلك روى المنذر بن المغيرة، عن عروة، أن فاطمة بنت أبي حبيش حدثته: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكت إليه الدم؟ فقالَ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما ذَلِكَ

عرقٌ، فانظري إذا أتاك قرؤك فلا تصلي، فإذا مر قرؤك فتطهري، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء)) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوهٍ متعددة أنه أمر المستحاضة أن تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل.

وهذه النصوص كلها تدل على الرجوع إلى العادة المعتادة لها قبل الاستحاضة.

والمستحاضة لها أربعة أحوال:

الحالة الأولى: أن تكون مميزة، وهي التي دمها مميز، بعضه أسود وبعضه أحمر أو أصفر.

والحالة الثانية: أن تكون معتادة، وهي التي لها عادة معلومة من الشهر تعرفها.

والحالة الثالثة: أن تجتمع لها عادة وتمييز، وتختلفان.

والحالة الرابعة: أن لا تكون لها عادة ولا تمييز، مثل أن يكون دمها كله لونه

واحد، وليس لها عادة: إما بأن تكون قد استحيضت وهي مبتدأة،

ص: 60

أو كانت لها عادة ونسيتها.

وقد اختلف العلماء في حكم ذَلِكَ: فذهب الشافعي وأحمد إلى اعتبار التمييز والعادة معاً، فإن انفرد أحدهما عملت به، بغير خلاف عنهما.

وإن اجتمعا واختلفا، ففيه قولان:

أحدهما: تقدم التمييز على العادة، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد اختارها الخرقي.

والثاني: تقدم العادة على التمييز، وهو المشهور عن أحمد، وعليه أكثر

أصحابه، وهو قول إسحاق والإصطخري وابن خيران من الشافعية.

وهو قول الأوزاعي، حتى إنه قدم رجوعها إلى عادة نسائها على تمييز الدم.

وذهب مالك إلى أن لا اعتبار بالعادة، وأن العمل على التمييز وحده، فإن لم يكن لها تمييز فإنها لا تترك الصلاة أصلاً، بل تصلي أبداً، ويلزمها الغسل لكل صلاة في الوقت لاحتمال انقطاع الحيضة فيهِ.

ومذهب أبي حنيفة وسفيان: أن الاعتبار بالعادة وحدها دون التمييز، فإن لم يكن لها عادة فإنها تجلس أقل الحيض، ثم تغتسل وتصلي.

وأما من لا عادة لها ولا تمييز، فإذا كانت ناسيةً، فذهب أبو حنيفة إلى أنها تقعد العادة، تجلس أقل الحيض ثم تغتسل وتصلي.

ومذهب مالك: أنها تقعد التمييز أبداً، وتغتسل، كما تقدم.

وللشافعي فيها ثلاث أقوال: أحدهما: أنها تجلس أقل الحيض. والثاني:

ص: 61

تجلس غالبه: ستاً أو سبعاً. والثالث - وهو الصحيح عندَ أصحابه - كقول مالك: أنها لا تجلس شيئاً، بل تغتسل لكل صلاة وتصلي.

ومذهب أحمد: أن الناسية لعادتها تجلس غالب عادات النساء: ستاً أو سبعاً من كل شهر، ثم تغتسل وتصلي وتصوم، هذا هوَ المشهور عنه.

وحكي عنه رواية: أنها تجلس أقل الحيض، ثم تغتسل وتصلي. ورواية ثالثة: أنها تجلس عادة نسائها وأقاربها، ثم تغتسل وتصلي.

وأما المبتدأة إذا استحيضت، فإذا كانت مميزة، فإنها تُرد إلى تمييزها عندَ الشافعي وأحمد وإسحاق.

وإن لم يكن لها تمييز، فعن أحمد فيها أربع روايات: إحداهن: تجلس أقل

الحيض. والثانية: أكثره. والثالثة: غالبه، وهو ست أو سبع. والرابعة: عادة

نسائها.

وللشافعي قولان: أحدهما: تجلس أقله، والثاني: غالبه.

وقال أبو حنيفة: تجلس أكثر الحيض، بخلاف قوله في الناسية.

وعن مالك روايات: إحداهن: تجلس أكثر الحيض. والثانية: تجلس عادة لداتها وأقرانها. والثالثة: تجلس عادتهن وتستطهر بعدها بثلاث.

وحكي عنه رواية أخرى: أنها لا تجلس شيئاً أصلاً.

هذا في أول شهر، فأما ما بعده فلا تجلس فيهِ أصلاً، بل تغتسل وتصلي أبداً، إذا لم يكن لها التمييز.

ص: 62

وقال عطاء والأوزاعي والثوري - في المشهور عنه -: تجلس عادة نسائها

وأقاربها، فإن لم يكن لها أقارب جلست غالب حيض النساء: ستاً أو سبعاً.

وقد ورد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في رد المستحاضة إلى غالب حيض الحُيض: من رواية حمنة بنت جحش، قالت: كنت أستحاض حيضة كبيرة شديدة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم استفتيه - فذكرت الحديث، إلى أن قالت - قالَ النبي صلى الله عليه وسلم:((إنما ذَلِكَ من الشيطان، فتحيضي ستة أيام، أو سبعة أيام في علم الله عز وجل، ثم اغتسلي)) - وذكر الحديث.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.

وفي رواية لأبي داود: ((وكذلك فافعلي في كل شهر، كما تحيض النساء، وكما يطهرن)) .

وقال الترمذي: حسن صحيح. قالَ: وسألت محمداً - يعني: البخاري -

عنه، فقالَ: هوَ حديث حسن، وكذا قالَ أحمد بن حنبل: هوَ حسن صحيح -:

ص: 63

هذا ما ذكره الترمذي.

ونقل حرب، عن أحمد، [أنه] قالَ: نذهب إليه، ما أحسنه من حديث.

واحتج به إسحاق وأبو عبيد، وأخذا به.

وضعفه أبو حاتم الرازي والدارقطني وابن منْده، ونقل الاتفاق على تضعيفه من جهة عبد الله بن محمد بن عقيل؛ فإنه تفرد بروايته.

والمعروف عن الإمام أحمد أنه ضعفه ولم يأخذ به، وقال: ليس بشيء. وقال - مرة -: ليس عندي بذلك، وحديث فاطمة أصح منه وأقوى إسناداً. وقال - مرة -: في نفسي منه شيء.

ولكن ذكر أبو بكر الخلال أن أحمد رجع إلى القول بحديث حمنة والأخذ به. والله أعلم.

ص: 64

وقد اختلف الناس في حمنة: هل كانت مبتدأة، أو كانت معتادة ناسية لعادتها، أو معتادةً ذاكرةً لعادتها؟

فمنهم من قالَ: كانت مبتدأةً، ورجحه الخطابي وطائفة من أصحاب الشافعي وغيرهم، وضعفه الإمام أحمد بأن حمنة كانت امرأةً كبيرة، لم تكن صغيرة.

ومنهم من قالَ: كانت ناسيةً لعادتها ولا تمييز لها، وعلى هذا حمله الإمام أحمد على رواية أخذه بالحديث، وأصحابه الذين أخذوا به كأبي بكر الخلال وصاحبه أبي بكر ابن جعفر.

ومنهم: من حمله على أنها كانت معتادةً عالمة بالعادة، وهو اختيار الشافعي في ((الأم)) .

واختلف أصحابه نعلى هذا: كيف ردها إلى ست أو سبع؟

فمنهم من قالَ: إنما ردها إلى ما تذكره من عادتها من الست أو السبع.

ومنهم من قالَ: كانت عادتها في الشهور مختلفة، ففي بعضها كانت تحيض

ستاً، وفي بعضها سبعاً، فردها إلى عادتها في ذَلِكَ.

وقد حمل طائفة من أصحابنا حديث حمنة على مثل ذَلِكَ، بناءً على أن المبتدأةً والناسية لا تجلسان أكثر من أقل الحيض، ولكن المنصوص عن

ص: 65

أحمد - وهو قول أبي بكر وغيره -: إنا لا نقول: إن الناسية تجلس أقل الحيض إلا لتضعيفنا إسناد حديث حمنة، لا لتأويله.

وممن رجح تأويله ابن أبي موسى في ((شرح الخرقي)) ، وقال: نحمله على أن الست كانت عادتها، وشكت في اليوم السابع، فردها إلى عادتها المتيقنة، وردها في اليوم المشكوك فيهِ إلى التحري فيهِ والاجتهاد.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا أدبرت)) ، أو ((فإذا ذهب قدرها - فاغسلي عنك الدم وصلي)) . وفي رواية أخرى:((فاغتسلي وصلي)) ،، فإنه يجمع بين الروايتين ويؤخذ بهما في وجوب غسل الدم والاغتسال عندَ ذهاب الحيض.

وقد جاء ذَلِكَ مصرحاً به في رواية خرجها النسائي من طريق الأوزاعي، عن يحيى بن سعيد، عن هشام، عن أبيه، عن فاطمة بنت قيس من [بني] أسد قريش، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قالَ لها:((اغتسلي، واغسلي عنك الدم، وصلي)) .

قالَ الطبراني: فاطمة بنت قيس هذه هي بنت أبي

ص: 66

حبيش، واسمه: قيس. قالَ: وليست فاطمة بنت قيس الفهرية التي روت قصة طلاقها.

وقال الدارقطني في ((علله)) . وهم الأوزاعي في قوله: ((بنت قيس)) ، إنما هي بنت أبي حبيش.

وكذلك رواه أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ لفاطمة:((فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم اغتسلي)) .

ورواه حماد بن سلمة، عن هشام، وقال فيهِ:((فاغسلي عنك الدم، وتطهري، وصلي)) .

والغسل عندَ انقضاء حيض المستحاضة المحكوم به لا بد منه، كما لو طهرت من الحيض.

وقد تعلق بعض الناس بظاهر الرواية المشهورة في حديث فاطمة: ((اغسلي عنك الدم وصلي)) ، وقال: لا غُسل عليها، إنما عليها أن تغسل الدم وتصلي.

وقد حكى الأثرم هذا القول للإمام أحمد، ولم يسم من قاله. فإنكره

ص: 67

الإمام أحمد، وقال: الغسل لا بد منه.

وفسر سفيان الثوري قوله: ((اغسلي عنك الدم)) : أنها إذا اغتسلت عندَ فراغ حيضها المحكوم بأنه حيضها، ثم رأت دماً، فإنها تغسل الدم [وتصلي] ؛ فإنه دم استحاضة لا يمنع الصلاة ،، وإنما تغسله وتتحفظ منه فقط.

ففي حديث عائشة الأمر بغسل الدم، وفي حديث أم سلمة الأمر بالاستثفار بثوب. والمراد به: التلجم بالثوب والتحفظ به.

وقد اختلف العلماء: هل يجب الغسل عليها لكل صلاة؟ على قولين، وأكثر العلماء: على أن ذَلِكَ ليس بواجب. وربما تذكر المسألة مستوفاةً فيما بعد - إن شاء الله تعالى.

وكذلك اختلفوا: هل يجب عليها غسل الدم والتحفظ والتلجم عندَ كل صلاة؟ وفيه قولان، هما روايتان عن أحمد.

وربما يرجع هذا الاختلاف إلى الاختلاف المشهور: في أن الأمر المطلق: هل يقتضي التكرار، أم لا؟ وفيه اختلاف مشهور.

لكن الأصح هنا: أنه لا يقتضي التكرار لكل صلاة؛ فإن الأمر الاغتسال، وغسل الدم إنما هوَ معلق بانقضاء الحيضة وإدبارها، فإذا قيل: إنه يقتضي التكرار لم يقتضه إلا عندَ إدبار كل حيضة فقط.

وقوله: ((وصلي)) أمر بالصلاة بعد إدبار الحيضة حيث نهاها عن

ص: 68

الصلاة في وقت إقبالها، والأمر بعد الحظر يعيد الأمر إلى ما كانَ عليهِ، عندَ كثير من الفقهاء: وقد كانت الصلاة عليها واجبة قبل الحيض، فكذلك بعدها.

وأما على قول من يقول: لا يقتضي غير الإباحة، فقد يقال: إن هذا الأمر اقتضى إطلاق الصلاة والإذن فيها بعد حظرها، فصارت الصلاة مباحة بعد حظرها، فإن كانت نافلة فهي غير محظورة، وإن كانت مفروضة اكتفي في الاستدلال على فرضيتها بالأدلة العامة الدالة على افتراض الصلاة على كل مسلم.

وإنما خرج من ذَلِكَ حال الحيض بمثل هذا الحديث وشبهه، وإطلاقه صلى الله عليه وسلم دليل على أنها في حكم الطاهرات في جميع العبادات التي يمنع منها الحيض.

هذا قول جمهور العلماء، وشذ منهم من قالَ باختصاص الإذن بالصلاة خاصةً. وسنذكره فيما بعد - إن شاء الله تعالى.

وقد زاد قوم من الرواة في حديث عائشة: الأمر بالوضوء، منهم: حماد ابن

زيد، عن هشام.

ص: 69

خرجه النسائي من طريقه، وقال فيهِ:((فاغسلي عنك الدم، وتوضئي؛ إنما ذَلِكَ عرق)) .

قالَ النسائي: لا نعلم أحداً ذكر في هذا الحديث: ((وتوضئي)) غير حماد بن زيد.

وقد خرج مسلم حديثه هذا، وقال: في حديث حماد بن زيد زيادة حرفٍ، تركنا ذكره - يعني: قوله: ((توضئي)) .

قالَ البيهقي: هذه الرواية غير محفوظة.

وفي رواية أخرى عن حماد بن زيد في هذا الحديث: ((فإذا أدبرت الحيضة فاغسلي عنك الدم، وتوضئي)) .

فقيل لحماد: فالغسل؟ قالَ: ومن يشك أن في ذَلِكَ غسلاً واحداً بعد الحيضة.

وقال حماد: قالَ أيوب: أرأيت لو خرج من جيبها دمٌ، أتغتسل؟ !

يشير أيوب إلى إنها: لا تغتسل لكل صلاة.

ص: 70

قالَ ابن عبد البر: جود حماد بن زيد لفظه.

يعني: بذكر الوضوء، وهذا يدل على أنه رآه محفوظاً، وليس كَما قالَ وقد رويت لفظة ((الوضوء)) مِن طريق حماد بنِ سلمة، عَن هشام.

خرجه الطحاوي مِن طريق حجاج بنِ منهال، عَن حماد.

ورواه عفان، عَن حماد، ولفظة:((فاغسلي عنك الدم، ثُمَّ تطهري وصلي)) .

قالَ هشام: كانَ عروة يقول: ((الغسل)) الأول، ثُمَّ قالَ بعد:((والطهر)) وكذلك رويت مِن طريق أبي معاوية، عَن هشام.

خرجه الترمذي عَن هناد، عَنهُ.

وقال: قالَ أبو معاوية في حديثه: وقال: ((توضئي لكل صلاة، حتى يجيء ذَلِكَ الوقت)) .

والصواب: أن هَذا مِن قول عروة، كذلك خرجه البخاري في ((كِتابِ: الوضوء)) عَن محمد بنِ سلام، عَن أبي معاوية، عَن هشام فذكر الحديث، وقال في آخره: قالَ: وقال أبي: ((ثُمَّ توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذَلِكَ الوقت)) .

وكذلك رواه يعقوب الدورقي، عَن أبي معاوية، وفي حديثه: ((فإذا

ص: 71

أدبرت فاغسلي الدم، ثُمَّ اغتسلي)) . قالَ هشام: قالَ أبي: ((ثُمَّ توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذَلِكَ الوقت)) .

وخرجه إسحاق بن راهويه، عن أبي معاوية، وقال في حديثه: قالَ هشام: قالَ أبي: ((وتوضئي لكل صلاة حتَّى يجيء ذَلِكَ الوقت)) .

وكذلك روى الحديث عيسى بنِ يونس، عَن هشام، - وقال في آخر الحديث: وقال هشام: ((تتوضأ لكل صلاة)) .

وذكر الدارقطني في ((العلل)) : أن لفظة: ((توضئي لكل صلاة)) رواها

- أيضاً - عَن هشام: أبو حنيفة وأبو حمزة السكري ومحمد بنِ عجلان ويحيى بن سليم.

قلت: وكذلك رواه أبو عوانة، عَن هشام، ولفظ حديثه:((المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها، وتغتسل غسلاً واحداً، وتتوضأ لكل صلاة)) .

قلت: والصواب: أن لفظة ((الوضوء)) مدرجة في الحديث مِن قول عروة.

وكذلك روى مالك، عَن هشام، عَن أبيه، أنه قالَ:((ليسَ على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلاً واحداً، ثُمَّ تتوضأ بعد ذَلِكَ لكل صلاة)) .

ص: 72

قالَ مالك: والأمر عندنا على حديث هشام، عَن أبيه، وَهوَ أحب ما سمعت إلي.

قالَ ابن عبد البر: والوضوء عليها عند مالك على الاستحباب دونَ الوجوب. قالَ وقد احتج بعض أصحابنا على سقوط الوضوء بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا ذهب قدرها فاغتسلي وصلي)) ، ولم يذكر وضوءاً.

قالَ: وممن قالَ بأن الوضوء على المستحاضة غير واجب: ربيعة، وعكرمة، ومالك، وأيوب، وطائفة.

قالَ: وأما الأحاديث المرفوعة في الغسل لكل صلاة، فكلها مضطربة، لا تجب بمثلها حجة. انتهى.

وأحاديث الأمر بالغسل لكل صلاة كلها معلولة، وربما تأتي الإشارة إليها في موضع آخر - إن شاء الله تعالى.

وإنما المراد هنا: أحاديث الوضوء لكل صلاة، وقد رويت مِن وجوه متعددة، وهي مضطربة - أيضا - ومعللة، تقدم بعضها.

ومن أشهرها: رواية الأعمش، عَن حبيب بنِ أبي ثابت، عَن عروة، عَن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قالَ: ((لا، اجتنبي الصلاة

ص: 73

أيام محيضك، ثُمَّ اغتسلي وتوضئي لكل صلاة، ثُمَّ صلي، وإن قطر الدم على الحصير)) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه.

وقال أبو داود: هوَ حديث ضعيف لا يصح، قالَ: ليسَ بصحيح، وَهوَ خطأ مِن الأعمش.

وقال الدارقطني: لا يصح.

وقد روي موقوفاً على عائشة، وَهوَ أصح عند الأكثرين.

ورى هشيم: نا أبو بشر، عَن عكرمة؛ أن أم حبيبة بنت حجش استحيضت، فأرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنظر أيام أقرائها، ثُمَّ تغتسل وتصلي، فإن رأت شيئاً مِن ذَلِكَ توضأت وصلت.

خرجه أبو داود.

والظاهر: أنَّهُ مرسل، وقد يكون آخره موقوفاً على عكرمة، مِن قولُهُ والله أعلم.

ص: 74

وقد روي الأمر للمستحاضة بالوضوء لكل صلاة عَن جماعة مِن الصحابة، مِنهُم: علي، ومعاذ، وابن عباس، وعائشة، وَهوَ قول سعيد بنِ المسيب، وعروة، وأبي

جعفر، ومذهب اكثر العلماء، كالثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد وغيرهم.

لكن؛ مِنهُم مِن يوجب عليها الوضوء لكل فريضة كالشافعي.

ومنهم مِن يرى أنها تتوضأ لوقت كل صلاة، وتصلي بها ما شاءت مِن فرائض ونوافل حتَّى يخرج الوقت، وَهوَ قول أبي حنيفة، والمشهور عَن أحمد، وَهوَ - أيضاً - قول الأوزاعي والليث وإسحاق.

وقد سبق ذكر قول مِن لَم يوجب الوضوء بالكلية لأجل دم الاستحاضة، كمالك وغيره.

وهكذا الاختلاف في كل مِن بهِ حدث دائم لا ينقطع، كمن بهِ رعاف دائم أو سلس البول، أو [الريح] ، ونحو ذَلِكَ.

وعن مالك رواية بوجوب الوضوء، كقول الجمهور.

ص: 75

‌9 - باب

غسل دم المحيض

خرج فيهِ حديثين:

أحدهما:

ص: 76

307 -

حديث: مالك، عَن هشام، عَن فاطمة بنت المنذر، عَن أسماء، قالت: سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم مِن الحيضة، كيف تصنع؟ فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إذا أصاب ثوب إحداكن الدم مِن الحيضة فلتقرصه، [ثُمَّ] لتنضحه بماء، ثُمَّ لتصلي فيهِ)) .

وقد تقدم تخريجه لهذا الحديث في أواخر ((كِتابِ: الوضوء)) مِن حديث يحيى القطان، عَن هشام بمعناه، في ((باب: غسل الدم)) ، وتقدم الكلام عليهِ هناك بما فيهِ كفاية.

ص: 76

والثاني:

ص: 77

308 -

حديث: ابن القاسم، عَن أبيه، عَن عائشة، قالت: كانت إحدانا تحيض ثُمَّ تقرص الدم مِن ثوبها عند طهرها وتنضح على سائره، ثُمَّ تصلي فيهِ.

وقد ذكرناه - أيضاً - في الباب المشار إليهِ، وذكرنا ما فيهِ مِن الفوائد.

ص: 77

‌10 - باب

اعتكاف المستحاضة

خرج فيهِ حديث عكرمة، عَن عائشة مِن ثلاثة طرق:

أحدها:

قال:

ص: 78

309 -

نا إسحاق بنِ شاهين: نا خالد بنِ عبد الله، عَن خالد، عَن عكرمة، عَن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف معه بعض نسائه، وهي مستحاضة ترى الدم وربما وضعت الطست تحتها مِن الدم. وزعم أن عائشة رأت ماء العصفر، فقالت؟: كأن هَذا شيء كانت فلانة تجده.

خالد بنِ عبد الله، هوَ: الطحان الواسطي. وشيخه: خالد، هوَ: الحذاء.

والثاني:

قالَ:

ص: 78

310 -

ثنا قتيبة: نا يزيد بنِ زريع، عَن خالد - يعني: الحذّاء -، عَن عكرمة، عَن عائشة، قالت: اعتكف معَ رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مِن أزواجه، فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها، وهي تصلي.

والثالث:

قالَ:

ص: 78

311 -

نا مسدد: نا معتمر، عَن خالد، عَن عكرمة، عَن عائشة، أن بعض أمهات المؤمنين اعتكفت وهي مستحاضة.

ص: 78

وهذه الروية ليسَ فيها تصريح برفعه، فإنه ليسَ فيها أن ذَلِكَ كانَ في زمن النبي

صلى الله عليه وسلم، ولا أنَّهُ كانَ معها.

وفي إسناده اختلاف أيضاً؛ فإن عبد الوهاب الثقفي [رواه] ، عَن خالد، عَن عكرمة، أن عائشة قالت.

[وهذه] الرواية تشعر بأنَّهُ لَم يسمعه منها.

وروي عَن معتمر، عَن خالد، عَن عكرمة عَن ابن عباس، وهو وهم -: قاله الدارقطني.

وهذا الحديث: يدل على أن المستحاضة مِن أهل العبادات كالطاهرة، فكما أنها تصلي فإنها تصوم، وتعتكف، وتجلس في المسجد، وتقرأ القرآن، وتمس المصحف، وتطوف بالبيت؛ فإن اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم غالبه كانَ في شهر رمضان، فلو كانت المستحاضة كالحائض لا تصوم لَم تعتكف، لا سيما على رأي مِن يقول: إن الاعتكاف لا يصح بغير صوم، وقد حكى إسحاق بن راهويه إجماع المسلمين على ذَلِكَ.

وروى عبد الرزاق، عَن ابن جريج، عَن الثوري، عَن جابر، عَن أبي جعفر، قالَ: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني استحضت في غير قرئي؟ قالَ: ((فاحتشي كرسفاً، وصومي، وصلي، واقضي ما عليك)) .

ص: 79

وهذا مرسل.

وفيه خلاف شاذ:

روى عبد الرزاق، عَن الثوري، عَن منصور، عَن إبراهيم، قالَ: المستحاضة لا تصوم، ولا يأتيها زوجها، ولا تمس المصحف.

وعن معمر، عَن أيوب، قالَ: سئل سليمان بنِ يسار: أيصيب المستحاضة

زوجها؟ قالَ: إنما سمعنا بالرخصة لها في الصلاة.

ونقل صالح بنِ أحمد، عَن أبيه في المستحاضة: لا تطوف بالبيت، إلا أن تطول بها الاستحاضة.

قالَ أبو حفص العكبري: لعلها غلط مِن الراوي، فإن الصحيح عَن أحمد أن المستحاضة بمنزلة الطاهرة تطوف بالبيت.

قالَ في رواية الميموني: المستحاضة أحكامها أحكام الطاهرة في عدتها وصلاتها وحجها وجميع أمرها.

ونقل عَنهُ ابن منصور: تطوف بالبيت.

وأما ما وقع في رواية صالح: أنها لا تطوف إلا أن يطول بها. فلعله اشتبه على الراوي الطواف بالوطء؛ فإن ابن منصور نقل عَن أحمد ذَلِكَ في الوطء،

ص: 80

وصالح وابن منصور متفقان في نقل المسائل عَن أحمد في الغالب.

ولكن قَد روي عَن ابن عمر ما يشعر بمنع المستحاضة مِن الطواف، فروى عبد الرزاق، عَن معمر، عَن واصل مولى ابن عيينة. عَن رجل سأل ابن عمر عَن امرأة تطاول بها الدم، فأرادت تنفر، وأرادت تشرب دواء ليقطع عنها الدم؟ قالَ: لا بأس

بهِ. ونعت ابن عمر لها ماء الأراك.

وقال ابن جريج، عَن عطاء: أنَّهُ لَم ير بهِ بأساً.

قالَ معمر: وسمعت [ابن] أبي نجيح يسأل عَن ذَلِكَ، فلم ير بهِ بأساً.

فظاهر هَذا: أن المستحاضة معَ تطاول الدم بها لا تطوف حتى ينقطع عنها الدم، معَ أنَّهُ يُمكن حمله على تطاول دم الحيض ومجاوزته للعادة، أو على أن الأولى للمستحاضة أن لا تطوف حتى ينقطع دمها. وجمهور العلماء على جواز ذَلِكَ.

وقد خرجه عبد الرزاق في موضع آخر مِن ((كتابه)) ، وقال فيهِ: إن ابن عمر سئل عَن امرأة تطاول بها دم الحيضة.

ص: 81

وممن رخص للمستحاضة في الطواف بالبيت: ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وسعيد بنِ المسيب، وعطاء، وسعيد بنِ جبير وغيرهم.

قالَ سعيد بنِ المسيب: تقضي المناسك كلها.

وَهوَ قول الثوري، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وجمهور العلماء.

وفي حديث عائشة في اعتكاف المستحاضة: ما يدل على أن دم الاستحاضة يتميز عَن دم الحيض بلونه وصفرته، وقد يتعلق بذلك مِن يقول باعتبار التمييز، كَما تقدم.

ص: 82

‌11 - باب

هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيهِ

؟

ص: 83

312 -

حدثنا أبو نعيم: نا إبراهيم بن نافع، عَن ابن أبي نجيح، عَن مجاهد، قالَ: قالت عائشة: ما كانَ لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيهِ، فإذا أصابه شيء مِن الدم قالت بريقها، فمصعته بظفرها.

وقد خرجه أبو داود، عَن محمد بنِ كثير: نا إبراهيم - يعني: ابن نافع -، قالَ: سمعت الحسن يذكر عَن مجاهد، قالَ: قالت عائشة: ما كانَ لإحدانا إلا ثوب واحد فيهِ

تحيض، فإن أصابه شيء مِن دم بلته بريقها، ثُمَّ قصعته بريقها.

فخالف في إسناده: حيث جعل: ((الحسن)) - وَهوَ: ابن مسلم - بدل: ((ابن أبي نجيح)) ، وفي متنه: حيث قالَ: ((قصعته)) بالقاف.

وكذا خرجه الإسماعيلي مِن حديث أبي حذيفة، عن إبراهيم، إلا أنَّهُ قالَ:

((قصعته بظفرها)) .

وكأنه يشير إلى أن هَذهِ الرواية أصح مِن رواية البخاري.

قالَ الخطابي: مصعته بظرفها، أي: بالغت في حكه. وأصل المصع: الضرب الشديد.

قالَ: وروي ((قصعته)) أي: دلكته بالظفر،

ص: 83

وعالجته بهِ، ومنه قصع القملة.

وقد سبق الحديث الذِي خرجه البخاري مِن رواية عمرو بنِ الحارث، عَن

عبد الرحمن بنِ القاسم.، عَن أبيه، عَن عائشة، قالت: كانت إحدانا تحيض، ثُمَّ تقرص الدم مِن ثوبها عند طهرها، فتغسله، وتنضح على سائره، ثُمَّ تصلي فيهِ.

ولكن؛ هَذا فيهِ غسل الدم.

ورواه الأوزاعي، عَن عبد الرحمن بن القاسم، عَن أبيه، عَن عائشة، أنها أفتت بذلك، ولم يذكر حكاية فعلها مِن قبل.

وخرج أبو داود مِن رواية ابن عيينة، عَن ابن أبي نجيح، [عَن عطاء] ، عَن

عائشة، قالت: قَد كانَ يكون لإحدانا الدرع، فيهِ تحيض، وفيه تصيبها الجنابة، ثُمَّ ترى فيهِ قطرة مِن دم فتقصعه بريقها.

فهذا - أيضاً - فيهِ ذكر القصع بالريق كحديث مجاهد، عَن عائشة، ولكن فيهِ أن ذَلِكَ كانت تفعله بالقطرة مِن الدم، فيحمل ذَلِكَ على أنها كانت ترى ذَلِكَ يسيراً فيعفى عَن أثره، ويحتمل أنها كانت ترى الريق مطهراً، فيكون فيهِ دلالة على طهارة النجاسة بغير الماء.

وروى محمد بنِ سعد في ((طبقاته)) : أنا الواقدي: ثنا ابن أبي ذئب، عَن صفية بنت زياد، قالت: رأتني ميمونة وأنا أغسل ثوبي مِن الحيضة، فقالت: ما كنا نفعل

هَذا، إنما كنا نحته حتاً.

ص: 84

الواقدي، ضعيف.

ويحمل [على] أنَّهُ كانَ دماً يسيراً.

وروى أبو نعيم الفضل بنِ دكين في ((كِتابِ الصلاة)) : نا حبيب بنِ أبي

[. . .]، قالَ: حدثتني أختي، عَن أم جرير، أنها كانت في نسوة عند عائشة، فقالت إحداهن:[يا] أم المؤمنين، المرأة تحيض في الثوب ثُمَّ تطهر، أتصلي فيهِ؟ قالت: إن رأت دماً فلتغسلهُ، وإن [لَم] تر دماً فلتنضحه سبع مرات بالماء، ثُمَّ لتصلي فيهِ.

إسناد مجهول.

وخرج أبو داود بإسناد فيهِ جهالة - أيضاً -، عَن عائشة، أنها قالت - في الحائض يصيب ثوبها الدم: تغسله، فإن لَم يذهب أثره فلتغيره بشيء مِن صفرة. قالت: ولقد كنت أحيض عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حيض جميعاً، لا أغسل لي ثوباً.

وبإسنادٍ فيهِ جهالة - أيضاً - عَن أم سلمة، قالت: قَد كانَ يصيبنا الحيض عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلبث إحدانا أيام حيضها، ثُمَّ تطهر، فتطهر الثوب الذِي كانت تلبث فيهِ، فإن أصابه دم غسلناه وصلينا فيهِ، وإن لَم يكن أصابه شيء تركناه، ولم يمنعنا ذَلِكَ أن نصلي فيهِ.

وخرج الطبراني مِن حديث أم سلمة، قالت: كانت إحدانا تحيض في الثوب، فإذا كانَ يوم طهرها غسلت ما أصابه، ثُمَّ صلت فيهِ، وإن إحداكن اليوم تفرغ خادمها ليغسل ثيابها يوم طهرها.

وفي إسناده: المنهال بنِ خليفة، ضعفوه.

وخرجه وكيع عَنهُ في ((كتابه)) .

وروى وكيع - أيضاً - عَن سفيان، عَن أبي هاشم، عَن سعيد بنِ جبير، قالَ: إن كانَ بعض أمهات المؤمنين لتقرص الدم مِن ثوبها بريقها.

ص: 86

وعن أبي العوام الباهلي، عَن عطاء، قالَ: لقد كانت المرأة وما لها إلا الثوب الواحد، فيهِ تحيض، وفيه تصلي.

وعن الفضل بنِ دلهم، قالَ: سألت الحسن عَن المرأة تحيض في الثوب فتعرق فيهِ؟ قالَ: لا بأس، إلا أن ترى دماً تغسله.

فأما ما خرجه الإمام أحمد وأبو داود مِن حديث ابن لهيعة، عَن يزيد بنِ أبي حبيب، عَن عيسى بنِ طلحة، عَن أبي هريرة، أن خولة بنت يسار أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ليسَ لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيهِ، فكيف أصنع؟ قالَ:((إذا طهرت فاغسليه، ثُمَّ صلي فيهِ)) . فقالت: فإن لَم يخرج الدم؟ قالَ: ((يكفيك الماء، ولا يضرك أثره)) .

فابن لهيعة، ولا يحتج برواياته في مخالفة روايات الثقات.

وقد اضطرب في إسناده: فرواه: تارة كذلك. وتارة رواه: عَن عبيد الله ابن أبي جعفر، عَن موسى بنِ طلحة، عَن أبي هريرة.

وخرجه الإمام أحمد مِن هَذا

ص: 86

الوجه - أيضاً.

وهذا يدل على أنَّهُ لَم يحفظه.

وقد يحمل على أنَّهُ أمرها بغسل دم الحيض منهُ.

وقد حكى بعض أصحابنا في كراهة الصلاة في ثوب الحائض والمرضع روايتين عَن أحمد.

وقد روي عَن عائشة، قالت: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي في [لحف] نسائه.

وخرجه النسائي والترمذي وصححه.

وخرجه أبو داود، وعنده: لا يصلي في شعرنا أو لحفنا - بالشك.

وفي رواية للإمام أحمد: لا يصلي في شعرنا - مِن غير شك.

و ((الشعار)) : هوَ الثوب الذِي يلبس على الجسد.

وقد أنكره الإمام أحمد إنكاراً شديداً.

وفي إسناده اختلاف على ابن سيرين.

وقد روي عَنهُ، أنَّهُ قالَ: سمعته منذ زمان، ولا أدري ممن

ص: 87

سمعته، ولا أدري أسمعه مِن ثبت أو لا؟ فاسألوا عَنهُ.

ذكره أبو داود في ((سننه)) ، والبخاري في ((تاريخه)) .

وقال أبو بكر الأثرم: أحاديث الرخصة أكثر وأشهر. قالَ: ولو فسد على الرجال الصلاة في شعر النساء لفسدت الصَّلاة فيها على النساء.

وهذا الكلام يدل على أن النساء لا يكره لهن الصلاة في ثياب الحيض بغير خلاف، إنما الخلاف في الرجال.

والأحاديث التي أشار إليها في الرخصة متعددة:

ففي ((صحيح مسلم)) ، عَن عائشة، قالت: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مِن الليل وأنا إلى جنبه، وأنا حائض، على مرط، وعليه بعضه.

وخرج النسائي، عَن عائشة، قالت: كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم[نبيت] في الشعار الواحد، وأنا حائض طامث، فإن أصابه مني شيء غسلت ما أصابه، لَم يعده إلى غيره، ثُمَّ صلى فيهِ.

وخرج أبو داود وابن ماجه، عَن ميمونة، قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلي وعليه مرط، وعلى بعض أزواجه منهُ، وهي حائض، وَهوَ يصلي، وَهوَ عليهِ.

وخرج الإمام أحمد مِن حديث حذيفة، قالَ: قام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي،

ص: 88

وعليه طرف لحاف، وعلى عائشة طرفه، وهي حائض لا تصلي.

قالَ أبو عبيد في ((غريبة)) : الناس على هَذا - يعني: على عدم كراهته.

واعلم؛ أن الصَّلاة في ثوب الحائض ليست كراهته مِن أجل عرقها؛ [فإن] عرق الحائض طاهر، نص عليهِ أحمد وغيره مِن الأئمة، ولا يعرف فيهِ [خلاف]-: قاله أبو عبيد وابن المنذر وغيرهما، حتى قالَ حماد: إنما يغسل الثوب مِن عرق الحائض المجوس.

وروى محمد بنِ عبد الله الأنصاري، عَن هشام بنِ حسان، عَن حفصة بنت

سيرين، قالت: سألت امرأة عائشة، قالت: يكون علي الثوب أعرق فيهِ أيام تحيضي، أصلي فيهِ؟ قالت: نعم. قالت: وربما أصابه مِن دم المحيض؟ قالت: فاغسليه. قالت: فإن لَم يذهب أثره؟ قالت: فلطخيه بشيء مِن زعفران.

وإنما كره مِن كره ذَلِكَ لاحتمال أن يكون أصابه شيء مِن دم الحيض لَم يطهر -: كذا قاله أبو عبيد وغيره.

والصواب: أنَّهُ لا تكره الصلاة فيهِ، وأنه يغسل ما رئي فيهِ مِن الدم وينضح، ما لَم ير فيهِ شيء، ثُمَّ تصلي فيهِ، كَما دلت عليهِ هَذهِ السنن والآثار.

ص: 89

قالَ سفيان الثوري: الحائض لا تغسل ثوبها الذي حاضت فيهِ، إلا أن ترى دماً فتغسله.

وأما نضح ما لَم تر فيهِ دماً ،، فَهوَ مبني على أن النضح تطهير لما شك في نجاسته، وهذا قول مالك وجماعة مِن أهل العلم، وفيه خلاف سبق ذكره مستوفى في ((أبواب الوضوء)) .

ص: 90

‌12 - باب

الطيب للمرأة عند غسلها مِن المحيض

ص: 91

313 -

حدثنا عبد الله بنِ عبد الوهاب: نا حماد بنِ زيد، عَن أيوب، عَن حفصة بنت سيرين، عَن أم عطية، قالت: كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، ولا نكتحل، ولا نتطيب، ولا نلبس ثوباً مصبوغاً، إلا ثوب عصب. وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا مِن محيضها في نبذة مِن كست أظفار. وكنا ننهى عَن اتباع الجنائز.

وروى هشام بنِ حسان، عَن حفصة، عَن أم عطية، عَن النبي صلى الله عليه وسلم.

حديث أم عطية، قَد أسنده البخاري في هَذا الباب وغيره مِن حديث أيوب، عَن حفصة، عَن أم عطية.

ولفظ أيوب: ((كنا ننهى، ورخص لنا)) .

ص: 91

والصحابي إذا قالَ: ((أُمرنا)) أو ((نُهينا)) ، فإنه يكون في حكم المرفوع عند الأكثرين.

وأما رواية هشام بنِ حسان، عَن حفصة، عَن أم عطية، التي صرح فيها بذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث وذكر الحديث بتمامه، وفيه ذكر الطيب عند طهرها، فذكرها البخاري هاهنا تعليقاً، وعلقها - أيضاً - في موضع آخر مِن ((كتابه)) ، فقالَ:((وقال الأنصاري: ثنا هشام)) - فذكره.

وأسندها مسلم في ((صحيحه)) ، ولفظه:((ولا تمس طيباً، إلا إذا طهرت نبذة مِن قسط أو أظفار)) .

ولكن أسند البخاري حديث هشام في ((كتابه)) هَذا - أيضاً -، بدون هَذهِ الزيادة.

قالَ الخطابي: النبذة، القطعة اليسيرة، والكست: القسط - والقاف تبدل بالكاف - يريد: أنها تتطهر بذلك وتتطيب بهِ. انتهى.

والقسط والأظفار: نوعان مِن الطيب معروفان.

وفي رواية مسلم: ((ظفار)) .

وفي رواية البخاري: ((كست أظفاره)) .

وقيل: إن صوابه: ((كسط ظفار)) .

و ((ظفار)) مبني على الكسر على وزن: حذام -: ساحل مِن سواحل عدن

باليمن.

ص: 92

‌13 - باب

دلك المرأة نفسها إذا تطهرت مِن المحيض

وكيف تغتسل وتأخذ فرصة ممسكة فتتبع بها أثر الدم؟

ص: 93

314 -

حدثنا يحيى: ثنا ابن عيينة: عَن منصور بن صفية، عَن أمه، عَن عائشة، أن امرأة سألت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عَن غسلها مِن المحيض، فأمرها كيف تغتسل، قالَ:((خذي فرصة مِن مسك فتطهري بها)) . قالت: كيف أتطهر بها؟ قالَ: ((تطهري بها)) . قالت: كيف؟ قالَ: ((سبحان الله، تطهري)) ، فاجتذبها إلي، فقلت: تتبعي بها أثر الدم.

ص: 93

‌14 - باب

غسل المحيض

ص: 94

315 -

حدثنا مسلم: ثنا وهيب: ثنا منصور، عَن أمه، عَن عائشة، أن امرأة مِن الأنصار قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف أغتسل مِن المحيض؟ قالَ: ((خذي فرصة ممسكة وتوضئي)) - ثلاثاً -، ثُمَّ إن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم استحيا وأعرض بوجهه - أو قالَ: ((توضئي

بها)) ، فأخذتها فجذبتها، فأخبرتها بما يريد النبي صلى الله عليه وسلم.

بوب البخاري في هذين البابين على ثلاثة أشياء:

أحدها: دلك المرأة نفسها، عند غسل المحيض.

والثاني: أخذها الفرصة الممسكة.

والثالث: صفة غسل المحيض.

وخرج في الباب حديث منصور بنِ صفية بنت شيبة، عَن أمه، [وليس] في حديثه سوى ذكر الفرصة الممسكة. ولكنه أشار إلى أن [الحكمين] الآخرين قَد رويا في حديث صفية، عَن عائشة مِن وجه [آخر] ، لكن ليسَ هوَ على شرطه، فخرج الحديث الأول بالإسناد الذي على شرطه، ونبه بذلك على الباقي.

وهذا الذِي لَم يخرجه، قَد خرجه مسلم في ((صحيحه)) مِن حديث شعبة، عَن إبراهيم بنِ المهاجر، قالَ: سمعت صفية تحدث عَن عائشة، أن

ص: 94

أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عَن غسل المحيض. قالَ: ((تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور، ثُمَّ تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً، حتَّى تبلغ شئون رأسها، ثُمَّ تصب عليهِ الماء، ثُمَّ تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها)) قالت أسماء: وكيف أتطهر بها؟ فقالَ:

((سبحان الله، تطهري بها)) . فقالت عائشة - كأنها تخفي ذَلِكَ -: تتبعين بها أثر

الدم. وسألته عَن غسل الجنابة. فقالَ: ((تأخذ ماءً فتطهر بهِ، فتحسن الطهور - أو تبلغ الطهور -، ثُمَّ تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شئون رأسها، ثُمَّ تفيض عليهِ الماء)) . فقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار، لَم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدِّين.

وفي رواية لَهُ - أيضاً -: قالَ: ((سبحان الله، تطهري بها)) ، واستتر.

وخرجه مسلم - أيضاً - من طريق أبي الأحوص، عَن إبراهيم بنِ مهاجر، وفي حديثه: قالَ: دخلت أسماء بنت شكل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، ولم يذكر فيهِ غسل الجنابة.

وخرجه أبو داود. مِن طريق أبي الأحوص، ولفظه:((تأخذ ماءها وسدرتها فتوضأ، وتغسل رأسها وتدلكه)) - وذكر الحديث، وزاد فيهِ:((الوضوء)) .

ورواه أبو داود الطيالسي، عَن قيس بنِ الربيع، عَن إبراهيم بنِ المهاجر، عَن

صفية، عَن عائشة، قالت: أتت فلانة بنت فلان الأنصارية، فقالت: يا رسول الله، كيف الغسل مِن الجنابة، فقالَ: ((تبدأ إحداكن

ص: 95

فتوضأ، فتبدأ بشق رأسها الأيمن، ثُمَّ الأيسر حتى تنقي شئون رأسها)) . ثُمَّ قالَ:((أتدرون ما شئون الرأس؟)) قالت: البشرة. قالَ: ((صدقت، ثُمَّ تفيض على بقية جسدها)) .

قالت: يا رسول الله، فكيف الغسل مِن المحيض؟ قالَ:((تأخذ إحداكن سدرتها وماءها، فتطهر فتحسن الطهور، ثُمَّ تبدأ بشق رأسها الأيمن، ثُمَّ الأيسر حتى تنقي شئون رأسها، ثُمَّ تفيض على سائر جسدها، ثُمَّ تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها)) . قالت: يا رسول الله، كيف أتطهر بها؟ فقلت: سبحان الله، تتبعي بها آثار الدم.

وإبراهيم بن المهاجر، لَم يخرج لَهُ البخاري.

و ((الفرصة)) - بكسر الفاء، وسكون الراء، وبالصاد المهملة -، وهي القطعة.

قالَ أبو عبيد: هي القطعة من الصوف أو القطن أو غيره، مأخوذ مِن فرصت الشيء: أي قطعته.

و ((المسك)) : هوَ الطيب المعروف.

هَذا هوَ الصحيح الذِي عليهِ الجمهور، والمراد: أن هَذهِ القطعة يكون فيها شيء مِن مسك، كَما في الرواية الثانية:((فرصة ممسكة)) .

وزعم ابن قتيبة والخطابي أن الرواية: ((مسك)) بفتح الميم، والمراد بهِ: الجلد الذِي عليهِ صوف، وأنه أمرها أن تدلك بهِ مواضع الدم.

ولعل البخاري ذهب إلى مثل ذَلِكَ، ولذلك بوب عليهِ:((دلك المرأة نفسها إذا تطهرت مِن المحيض)) ، ويعضد ذَلِكَ: أنَّهُ في ((كِتابِ الزينة

ص: 96

والترجل)) قالَ: ((باب: ما يذكر في المسك)) ، ولم يذكر فيه إلا حديث:((لخلوف فم الصائم أطيب عند الله مِن ريح المسك)) . ولذلك - والله أعلم - لَم يخرج البخاري هَذا الحديث في

((باب: الطيب للمرأة عند غسل الحيض)) .

والصحيح الذِي عليهِ جمهور الأئمة العلماء بالحديث والفقه: أن غسل المحيض يستحب فيهِ استعمال المسك، بخلاف غسل الجنابة، والنفاس كالحيض في ذلك، وقد نص على ذَلِكَ الشَافِعي وأحمد، وهما أعلم بالسنة واللغة وبألفاظ الحديث ورواياته مِن مثل ابن قتيبة والخطابي ومن حذا حذوهما ممن يفسر اللفظ بمحتملات اللغة البعيدة.

ومعلوم أن ذكر المسك في غسل الجنابة لَم يرو في غير هَذا الحديث، فعلم أنهم فسروا فيهِ بالطيب.

وزعم الخطابي: أن قولُهُ: ((خذي فرصة مِن مسك)) : يدل على أن الفرصة نفسها هي المسك. قالَ: وهذا إنما يصح إذا كانت مِن جلد، أمَّا لو كانت قطعة مِن صوف أو قطن لَم تكن مِن مسك.

وهذا ليسَ بشيء؛ فإن المراد خذي نبذة يسيرة مِن مسك، سواء كانت منفردة أو في شيء، كَما في الرواية الثانية:((خذي فرصة ممسكة)) .

قالَ الإمام أحمد في رواية حنبل: يستحب للمرأة إذا هي خرجت مِن حيضها أن تمسك معَ القطنة شيئاً مِن المسك، ليقطع عنها

ص: 97

رائحة الدم وزفرته، تتبع بهِ مجاري

الدم.

ونقل عَنهُ - أيضاً - قالَ: يستحب للمرأة إذا طهرت مِن الحيض أن تمس طيباً، وتمسكه معَ القطنة، ليقطع عنها رائحة الدم وزفورته؛ لأن دم الحيض دم لَهُ رائحة.

وقال جعفر بن محمد: سألت أحمد عَن غسل الحائض، فذهب إلى حديث إبراهيم بن المهاجر، عَن صفية بنت شيبة، وقال: تدلك شئون رأسها.

وقال يعقوب بنِ بختان: سألت أحمد عَن النفساء والحائض، كم مرة يغتسلان؟ قالَ: كَما تغسل الميتة. قالَ: وسألته عَن الحائض متى توضأ؟ قالَ: إن شاءت توضأت إذا بدأت واغتسلت، وإن شاءت اغتسلت ثُمَّ توضأت.

وظاهر هَذا: أنها مخيرة بين تقديم الوضوء وتأخيره؛ فإنه لَم يرد في السنة تقديمه كَما في غسل الجنابة، وإنما ورد في حديث أبي الأحوص، عَن إبراهيم ابن المهاجر:((توضأ وتغسل رأسها وتدلكه)) - بالواو، وهي لا تقتضي ترتيباً.

فتحصل مِن هَذا: أن غسل الحيض والنفاس يفارق غسل الجنابة مِن وجوه:

أحدها: أن الوضوء في غسل الحيض لا فرق بين تقديمه وتأخيره، وغسل الجنابة السنة تقديم الوضوء فيهِ على الغسل.

ص: 98

والثاني: أن غسل الحيض يستحب أن يكون بماء وسدر، ويتأكد استعمال السدر فيهِ، بخلاف غسل الجنابة؛ لحديث إبراهيم بن المهاجر.

قالَ الميموني: قرأت على ابن حنبل: أيجزئ الحائض الغسل بالماء؟ فأملى عليّ: إذا لم تجد إلاّ وحده اغتسلت به، قالَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:((ماءك وسدرتك)) ، وهو أكثر من غسل الجنابة. قلت: فإن كانت قد اغتسلت بالماء، ثُمَّ وجدته؟ قالَ: أحب إلي أن تعود؛ لما قالَ.

الثالث: أن غسل الحيض يستحب تكراره كغسل الميتة، بخلاف غسل الجنابة، وهذا ظاهر كلام أحمد، ولا فرق في غسل الجنابة بين المرأة والرجل، نص عليهِ أحمد في رواية مهنا.

والرابع: أن غسل الحيض يستحب أن يستعمل فيهِ شيء من الطيب، وفي خرقة أو قطنة أو نحوهما، يتبع به مجاري الدم.

وقد علل أحمد ذَلِكَ بأنه يقطع زفورة الدم، وهذا هوَ المأخذ الصحيح عندَ أصحاب الشافعي - أيضاً -.

وشذ الماوردي، فحكى في ذَلِكَ وجهين:

أحدهما: أن المقصود بالطيب تطييب المحل، ليكمل استمتاع الزوج بإثارة الشهوة، وكمال اللذة.

والثاني: لكونه أسرع إلى علوق الولد.

قال: فإن فقدت المسك - وقلنا بالأول - أتت بما يقوم مقامه في دفع الرائحة، وإن قلنا بالثاني فما يسرع إلى العلوق كالقسط والأظفار ونحوهما.

قالَ: واختلف الأصحاب في وقت استعماله، فمن قالَ بالأول، قالَ: بعد

الغسل، ومن قالَ بالثاني، فَقَبْله.

ص: 99

قالَ صاحب ((شرح المهذب)) : وهذا الوجه الثاني ليس بشيء، وما يفرع عليهِ - أيضاً - ليس بشيء، وهو خلاف ما عليهِ الجمهور، والصواب: أن المقصود به تطييب المحل، وأنها تستعمله بعد الغسل.

ثُمَّ ذكر حديث عائشة، أن أسماء بنت شكل سألت النبي صلى الله عليه وسلم عَن غسل المحيض، فقالَ:((تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فتظهر فتحسن الطهور، ثُمَّ تصب على رأسها فتدلكه، ثُمَّ تصب عليها الماء، ثُمَّ تأخذ فرصة ممسكة فتظهر بها)) .

خرجه مسلم.

قالَ: وقد نصوا على استحبابه للزوجة وغيرها، والبكر والثيب. والله أعلم.

قالَ: واستعمال الطيب سنة متأكدة، يكره تركه بلا عذر. انتهى.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((خذي فرصة ممسكة فتطهري بها)) ، وفي رواية: ((توضئي

بها)) يدل على أن المراد بهِ التنظيف والتطييب والتطهير، وكذلك سماه: تطهيراً، وتوضؤا، والمراد: الوضوء اللغوي، الذي هوَ النظافة.

وقول عائشة: ((تتبعي بها مجاري الدم)) إشارة إلى إدخاله الفرج.

واستحب بعض الشافعية استعمال الطيب في كل ما أصابه دم الحيض مِن [الجسد]- أيضاً -؛ لأن المقصود قطع رائحة الدم حيث كانَ.

ونص أحمد على أنَّهُ [لا يجب] غسل باطن الفرج مِن حيض، ولا

ص: 100

جنابة، ولا استنجاء.

قالَ جعفر بنِ محمد: قلت لأحمد: إذا اغتسلت مِن المحيض تدخل يدها؟ قالَ: لا، إلا ما ظهر، [ولم] ير عليها أن تدخل أُصبعها ولا يدها في فرجها، في غسل ولا وضوء.

ولأصحابنا وجه: بوجوب ذَلِكَ في الغسل والاستنجاء، ومنهم مِن قالَ: إن كانت [ثيباً] وخرج البول بحدة ولم يسترسل لَم يجب سوى الاستنجاء في موضع خروج

البول، وإن استرسل فدخل منهُ شيء الفرج وجب غسله.

ومذهب الشَافِعي: أن الثيب يجب [عليها] إيصال الماء إلى ما يظهر في حال قعودها لقضاء الحاجة؛ لأنه صار حكم الظاهر، نص على ذَلِكَ الشَافِعي، وشبهه بما بين الأصابع، وعليه جمهور أصحابه، وما وراء ذَلِكَ على ذَلِكَ فَهوَ عندهم في حكم الباطن على الصحيح.

ولهم وجه آخر: أنَّهُ يجب عليها إيصال الماء إلى داخل فرجها، بناء على القول بنجاسته.

ووجه آخر: أنَّهُ يجب في غسل الحيض والنفاس؛ لإزالة النجاسة، ولا يجب في الجنابة.

ومنهم مِن قالَ: لا يجب إيصاله إلى شيء مِن داخل الفرج بالكلية، كَما لا يجب إيصاله إلى داخل الفم عندهم.

والخامس: أن غسل الحيض تنقض فيهِ شعرها إذا كانَ مضفوراً، بخلاف غسل الجنابة عند أحمد، وهوَ قول طاوس والحسن.

وسيأتي ذكر ذَلِكَ مستوفي - إن شاء الله تعالى.

* * *

ص: 101

‌15 - باب

امتشاط المرأة عند غسلها مِن المحيض

خرج فيهِ:

ص: 102

316 -

حديث: الزهري، عَن عروة، عَن عائشة، قالت: أهللت معَ

رسول الله صلى الله عليه وسلم ? [بعمرة] في حجة الوداع، فكنت ممن تمتع ولم يسق الهدي. فزعمت أنها حاضت ولم تطهر حتى دخلت ليلة عرفة، فقالت: يا رسول الله، هَذهِ ليلة يوم عرفة، وإنما كنت تمتعت بعمرة؟ فقالَ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:((انقضي رأسك وامتشطي وأمسكي عن عمرتك)) . ففعلت، فلما قضيت الحج أمر عبد الرحمن ليلة الحصبة، فأعمرني مِن التنعيم مكان عمرتي التي نسكت.

ص: 102

‌16 - باب

نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض

خرج فيهِ:

ص: 103

317 -

حديث: هشام، عَن أبيه، عَن عائشة، قالت: خرجنا موافين لهلال ذي الحجة - فذكرت الحديث.

وفيه:

وكنت أنا ممن أهل بعمرة، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض، فشكوت إلى النبي

صلى الله عليه وسلم، فقالَ:((دعي عمرتك، وانقضي رأسك، وامتشطي، وأهل بحج)) ففعلت - وذكرت بقية الحديث.

[هَذا الحديث] قَد استنبط البخاري رحمه الله منهُ حكمين، عقد لهما بابين:

أحدهما: امتشاط المرأة عند غسلها مِن المحيض.

والثاني: نقضها شعرها عند غسلها مِن المحيض.

ص: 103

وهذا الحديث لا دلالة فيهِ على واحد مِن الأمرين؛ فإن غسل عائشة الذِي أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بهِ لَم يكن مِن الحيض، بل كانت مِن حائضاً، وحيضها حينئذ موجود، فإنه لو كانَ قَد انقطع حيضها لطافت للعمرة، ولم تحتج إلى هَذا السؤال، ولكن أمرها أن تغتسل في حال حيضها وتهل بالحج، فَهوَ غسل للإحرام في حال الحيض، كَما أمر أسماء بت عميس لما نفست بذي الحليفة أن تغتسل وتهل.

وقد ذكر ابن ماجه في ((كتابه)) : ((باب: الحائض كيف تغتسل)) ، ثُمَّ قالَ: حدثنا أبو بكر بنِ أبي شيبة وعلي بنِ محمد، قالا: ثنا وكيع، عَن هشام ابن عروة، عَن أبيه، عَن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ لها - وكانت حائضاً -: ((انقضي شعرك

واغتسلي)) .

قالَ علي في حديثه: ((انقضي رأسك)) .

وهذا - أيضاً - يوهم أنَّهُ قالَ لها ذَلِكَ في غسلها مِن الحيض، وهذا مختصر مِن حديث عائشة الذِي خرجه البخاري.

وقد ذكر هَذا الحديث المختصر للإمام أحمد، عن وكيع، فأنكره. قيل لَهُ: كأنه اختصره مِن حديث الحج؟ قالَ: ويحل لَهُ أن يختصر؟ ! -: نقله

ص: 104

عَنهُ المروذي.

ونقل عَنهُ إسحاق بن هانئ، أنَّهُ قالَ: هَذا باطل.

قَالَ أبو بكر الخلال: إ نما أنكر أحمد مثل هذا الاختصار الذي يخل بالمعنى، لا أصل اختصار الحديث 0قَالَ: وابن أبي شيبة في مصنفاته يختصر مثل هذا الاختصار المخل بالمعنى -: هذا معنى ما قاله الخلال.

وقد تبين برواية ابن ماجه أن الطنافسي رواه عن وكيع، كما رواه ابن أبي شيبة عنه، ورواه –أيضا - إبراهيم بن مسلم الخوارزمي في ((كتاب الطهور)) له عن وكيع –أيضا -، فلعل وكيعا اختصره. والله أعلم.

وقد يحمل مراد البخاري – رحمه الله – على وجه صحيح، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر عائشة بنقض شعرها وامتشاطها عند الغسل للاحرام: لأن غَسَلَ الإحرام لايتكرر، فلا يشق نقض الشعر فيه، وغسل الحيض والنفا س يوجد فيه هذا المعنى، بخلاف غسل الجنابة، فإنه يتكرر فيشق النقض فيه، فلذلك لم يؤمر فيه بنقض الشعر.

وقد تكلم بعض العلماء في لفظة: ((أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بنقص رأسها وامتشاطها)) ، وقالوا: هي وهم من هشام، وكذلك قالوا في روايته: أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لها: ((دعي العمرة)) .

ولكن؛ قد: رواهما – أيضا -، الزهري، عن عروة.

ولهشام في هذا الحديث وهم آخر، وهو أنه قَالَ: ((ولم يكن هدي ولا

ص: 105

صيام ولا صدقة)) ، وقد ثبت عن عائشة أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه البقر، فإنها إن كانت قد صارت قارنة فالقارن عليهِ هدي، وإن كانت قد رفضت عمرتها لزمها دم لذلك، عندَ من يقول به.

وفي ((صحيح مسلم)) عن جابر، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر عائشة أن تغتسل وتهل

بالحج.

ولم يذكر نقض الشعر ولا تسريحه، فإن عائشة كانت محرمة بعمرة كما رواه عروة عنها، وإن كانَ القاسم قد روى عنها أنها كانت محرمة بحجة، إلا أن رواية عروة أصح، كذا قاله الإمام أحمد وغيره.

وقد قيل: إنها أحرمت من الميقات بحجة، ثُمَّ فسخت ذَلكَ إلى عمرة لما أمروا بالفسخ، ثُمَّ حاضت بعد ذَلكَ قبل دخول مكة.

وفي هذا نظر؛ فإنه روي مايدل على أنها كانت أحرمت بعمرة من الميقات، والحائض إذا كانت محرمة بعمرة، ولم تقدر على طواف العمرة قبل يوم عرفة، وخشيت فوات إداك الحج فإنها تحرم بالحج مع العمرة، وتبقى قارنة عندَ أكثر العلماء، كمالك والشافعي، وأحمد، ويكفيها عندهم طوا ف واحد وسعي واحد لما بعد التعريف للحج والعمرة.

وقد روى ذَلكَ جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قصة عائشة صريحا.

خرجه مسلم 0 وتأولوا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: ((دعي عمرتك)) على أنه أراد: اتركيها

ص: 106

بحالها، وأدخلي عليها إحرام الحج.

وقال أحمد: من رواه ((انقضي عمرتك)) فقد أخطأ، ورواه بالمعنى الذي

فهمه.

وقال أبو حنيفة والكوفيون: ترفض العمرة، ثُمَّ تحرم بالحج، ثُمَّ تقضي العمرة بعد الحج، وتأولوا حديث عائشة على ذَلكَ.

وقالت طائفة: إنما أمرها أن تنقض رأسها وتمتشط؛ لأن المعتمر إذا دخل الحرم حل لهُ كل شيء إلا النساء، كالحاج إذا رمى الجمرة.

وقد روي هذا عن عائشة، ولعلها أخذته من روايتها هذه، وهو قول عائشة بنت طلحة، وعطاء.

وقد أخذ الإمام أحمد بذلك في رواية الميموني عنه، وهي رواية غريبة عنه.

ووهم الخطابي في هذا الحديث حيث قَالَ: أشبه الأمور: ماذهب إليه أحمد بن حنبل: وهو أنه فسخ عليها عمرتها؛ لأن مذهبه أن فسخ الحج عام غير خاص.

وهذا وهم على أحمد؛ فإن أحمد يرى جواز فسخ الحج إلى العمرة قبل أن يقف بعرفة، وأما فسخ العمرة إلى الحج فلا يقول به أحمد، وإنما يقوله الكوفيون في الحائض إذا كانت معتمرة وخافت فوات الحج، وتأولوا حديث عائشة عليهِ.

والعجب ممن جوز فسخ العمرة إلى الحج بتأويل محتمل، ومنع من فسخ الحج إلى العمرة، مع تواتر النصوص الصريحة الصحيحة بذلك التي لا تقبل التأويل؛ بمجرد دعوى النسخ أو الاختصاص، ولم يثبت حديث

ص: 107

واحد يدل على شيء من ذَلكَ، وسيأتي القول في هذا مستوفى في موضعه من ((الحج)) - إن شاء الله تعالى.

فإن المقصود هنا: هو نقض الشعر وتسريحه عند الغسل من الحيض، وممن أمر به في الحيض دون الجنابة: طاوس والحسن، وهو قول وكيع وأحمد.

واختلف أصحابنا: هل ذَلكَ واجب، أو مستحب؟ على وجهين، وظاهر كلام الخرقي وجوبه.

وقد ورد حديث صريح بالنقض في غَسَلَ الحيض دون الجنابة من رواية سلمة بن صبيح، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اغتسلت المرأة من حيضها نقضت شعرها، وغسلته بخطمي وأشنان، وإذا اغتسلت من جنابة صبت رأسها الماء وعصرته)) .

خرجه الطبراني، وأبو عبد الله مجمد بن عبد الواحد المقدسي في ((صحيحه)) المسمى ((بالمختارة)) .

وخرجه الدارقطني في ((الأفراد))

ص: 108

وعنده: ((مسلم بن صبيح)) ، وقال: تفرد به عن حماد.

وكذا ذكره أبو بكر الخطيب، وقال: هو مسلم بن صبيح، بصري يكنى أبا عثمان، وكذا ذكره ابن ماكولا وغيره، ومع هذا فليس بالمشهور.

وأما مانقله مهنا عن أحمد، أن المرأة لاتنقض شعرها من الجنابة، بل تفيض عليه الماء؛ لحديث أم سلمة، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، والحائض تنقضه.

قَالَ مهنا: قلت لهُ: كيف تنقضه من الحيضة ولا تنقضه من الجنابة؟ فقال: حديث أسماء، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((تنقضه)) .

قلت: من أسماء؟ قَالَ: أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.

فهذا لعله وهم من مهنا، أو ممن روى عنه، ولا يعرف لأسماء بنت أبي بكر في هذا الباب حديث بالكلية، إنما حديثها في غَسَلَ دم الحيض من الثوب، وقد تقدم.

ولكن في حديث عائشة أن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غَسَلَ الحيض، وليس فيه أنه أمرها بالنقص، بل أمرها بدلكه دلكا شديدا حتى يبلغ شئون رأسها، ولم يأمرها بنقضه.

وفي الحديث: أنها سألته عن غَسَلَ الجنابة، فأمرها بمثل ذَلكَ، غير أنه لم يقل:((دلكا شديدا)) .

وقد خرجه مسلم، كما تقدم.

وأسماء هذه، وقع في ((صحيح

ص: 109

مسلم)) أنها: ((بنت شكل)) ، وذكر أبو بكر الخطيب أنها أسماء بنت يزيد بن السكن، وخرج الحديث من رواية يوسف القاضي، من طريق شعبة، عن إبراهيم بن المهاجر بالإسناد الذي خرجه مسلم، وفيه: أن أسماء بنت يزيد سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غَسَلَ الحيض – فذكره.

وأكثر العلماء على التسوية بين غَسَلَ الجنابة والحيض، وأنه لا ينقض الشعر في واحد منهما.

وفي ((صحيح مسلم)) من حديث أم سلمة، قالت: قلت: يارسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه للحيضة والجنابة؟ قَالَ:((لا)) .

وهذه اللفظة - أعني: لفظة ((الحيضة)) - تفرد بها عبد الرزاق، عن الثوري، وكأنها غير محفوظة، فقد رواه غير واحد، عن الثوري، فلم يذكروها.

وقد رويت – أيضا – هذه اللفظة من حديث سالم الخياط، عن الحسن، عن أم سلمة.

وسالم ضعيف، والحسن لم يسمع من أم سلمة.

وروى أبو بكر الحنفي، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر - مرفوعا:

((لايضر المرأة الحائض والجنب أن لا تنقض شعرها إذا أصاب الماء شئون رأسها)) .

تفرد به: الحنفي، ورفعه منكر.

وقد روي عن أبي الزبير، عن جابر موقوفا، وهو أصح.

ص: 110

وروى عبيد الله بن عمر، عن نافع، قَالَ: كن نساء ابن عمر يغتسلن من الحيض والجنابة، فما ينقضن شعورهن، ولكن يبلغن بالماء أصول الشعر.

هذا كله إذا وصل الماء إلى غضون الشعر المضفور، فإن لم يصل بدونه وجب نقضه عند الأكثرين، وهو قول مالك والشافعي، والمشهور عندَ أصحابنا ورواية عن أبي حنيفة، وهو قول أبي خيثمة، وأبي بكر بن أبي شيبة، وسليمان بن داود الهاشمي، ويحيى بن يحيى، والجوزجاني وغيرهم من فقهاء الحديث، واستدلوا بالأحاديث الواردة في الأمر بحل الشعر، وقد تكلم في أسانيدها.

وقالت طائفة: لا يجب ذَلكَ، وحكي عن مالك، وهو قول طائفة من

أصحابنا، منهم: صاحب ((المغني)) ، وذكر أنه ظاهر كلام الخرقي، وأن الشعر حكمه حكم المنفصل عن الجسد، لا حكم المتصل به.

ولأصحابنا وجه: أنه يفرق بين غَسَلَ الحيض والجنابة، فيجب غَسَلَ الشعر في غَسَلَ الحيض خاصة.

والصحيح من مذهب الحنفية: أن الشعر إذا كان مضفورا لا يلزم المرأة نقضه في جنابة ولاحيض؛ لمشقة نقضه، بخلاف الرجل؛ فإنه يلزمه نقضه، وإن كان محلولا وجب غسله وإيصال الماء إلى بواطنه، كشعر اللحية.

ص: 111

وخرج الطبراني من رواية عمر بن هارون، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن سالم خادم النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:((إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يجعلن رءوسهن أربع قرون، فإن اغتسلن جمعنهن على أوساط رءوسهن)) .

عمر بن هارون، ضعيف.

وفي أمر النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة بالغسل للإحرام وهي حائض دليل على أن الاغسال المستحبة تفعل مع الحيض؛ كأغسال الحج المستحبة، ويدخل ذَلكَ في قوله لها:

((اصنعي ما يصنع الحاج)) .

ولو كان على الحائض غَسَلَ جنابة، إما قبل الحيض أو في حال الحيض، فهل يستحب لها الاغتسال في حال حيضها للجنابة؟ فيهِ روايتان عن أحمد.

واختلف السلف في ذَلكَ:

فقال النخعي وغيره: تغتسل.

وقال عطاء: لاتغتسل؛ الحيض أكبر.

قَالَ أحمد: ثُمَّ رجع عن ذَلكَ، وقال: تغتسل.

وأما الوضوء فلا يشرع للحائض في حال حيضها ما لم ينقطع دمها، فتصير كالجنب، ونص أحمد على أنها لو توضأت وهي حائض يجز لها الجلوس في المسجد؛ بخلاف الجنب، وفيه وجه: يجوز إذا أمنت تلويثه.

ونص الشافعي على

ص: 112

أنه لايشرع لها الوضوء عند النوم والأكل، وهو قول أصحابنا، واختلف أصحاب مالك في ذَلكَ.

وأما وضوؤها عند كل صلاة، وجلوسها قدر الصَّلاة للذكر، ففيه خلاف، نذكره في موضع آخر – إن شاء الله تعالى.

ص: 113

‌17 - باب

مخلقة وغير مخلقة

ص: 114

318 –حدثنا مسدد: ثنا حماد، عن عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إن الله عز وجل وكل بالرحم ملكا، يقول: يارب نطفة، يارب

علقة، يارب مضغة، فإذا أراد أن يقضي الله خلقه قَالَ: أذكر أم أنثى؟ أشقي أم

سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب في بطن أمه)) .

اختلف السلف في تأويل قول الله عز وجل: {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج:5] : فقال مجاهد: هي المضغة التي تسقطها المرأة؛ منها ما هوَ مخلق فيهِ تصوير وتخطيط، ومنها ماليس بمخلق ولا تصوير فيهِ، أرى الله تعالى ذَلكَ عباده ليبين لهم أصل ما خلقوا منه، والذي يقره في الأرحام هوَ الذي يتم خلقه ويولد.

وقالت طائفة: المخلقة هي التي يتم خلقها، وغير مخلقة هي التي تسقط قبل أن تكون مضغة.

ص: 114

روى الشعبي، عن علقمة، عن ابن مسعود، قَالَ: النطفة إذا استقرت في الرحم حملها ملك بكفه، وقال: أي رب، مخلقة أم غير مخلقة؟ فإن قيل: غير مخلقة لم تكن نسمة، وقذفتها الأرحام، وإن قيل: مخلقة، قَالَ: أي رب، أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ ما الأجل؟ ما الأثر؟ وبأي أرض تموت؟ قَالَ: فيقال للنطفة: من ربك؟ فتقول: الله، فيقال: من رازقك؟ فتقول: الله عز وجل: اذهب إلى الكتاب، فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة.

قَالَ: فتخلق، فتعيش في أجلها، وتأكل رزقها، وتطأ في أثرها، حتى إذا جاء أجلها ماتت، فدفنت في ذَلكَ، ثُمَّ تلا الشعبي:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} إلى قوله: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5] ، فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع، فكانت نسمة فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما، وإن كانت مخلقة نكست نسمة.

خرجه ابن أبي حاتم وغيره، وآخره هو من قول الشعبي.

وقد يستأنس بهذا من يقول: إن الحامل لا تحيض ولا ترى دم الحيض في حال حملها، وأنها لا ترى إلا دم النفاس خاصة، وفي ذَلكَ نظر.

وقد قيل: إن هذا هو مراد البخاري بتبويبه هذا.

ص: 115

وقد روي عن الحسن في قول الله عز وجل: {إِنَّا خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ

أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2]، أن النطفة مشجت – أي: خلطت بدم الحيض -، فإذا حملت المرأة ارتفع حيضها.

وحديث أنس الذي خرجه البخاري يدل على أنه لا يخلق إلا بعد أن يكون

مضغة، وليس فيه ذكر مدة ذَلكَ، وذكر المدة في حديث ابن مسعود – وقد خرجه البخاري في مواضع أخر -، قَالَ: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو الصادق المصدوق -: ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثُمَّ يكون علقة مثل ذَلكَ، ثُمَّ يكون مضغة مثل ذَلكَ، ثُمَّ يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ثُمَّ ينفخ فيه الروح)) - وذكر الحديث.

وقد روي هذا المعنى عن ابن مسعود موقوفا عليه، وعن ابن عباس، وغيرهما من الصحابة.

وقد أخذ كثير من العلماء بظاهر حديث ابن مسعود، وقالوا: أقل ما يتبين فيه خلق الولد أحد وثمانون يوما؛ لأنه لا يكون مضغة إلا في الأربعين الثالثة، ولا يتخلق قبل أن يكون مضغة.

قَالَ الإمام أحمد: ثنا هشيم: أبنا داود، عن الشعبي، قَالَ: إذا نكس السقط في الخلق الرابع وكان مخلقا عتقت به الأمة، وانقضت به العدة.

قَالَ أحمد:

ص: 116

إذا تبين الخلق فهو نفاس، وتعتق به إذا تبين.

قَالَ: ولا يصلى على السقط إلا بعد أربعة أشهر 0 قيل له: فإن كان أقل من أربعة؟ قَالَ: لا، هوَ في الأربعة يتبين خلقه 0وقال: العلقة: هي دم لا يتبين فيها الخلق.

وقال أصحابنا أصحاب الشافعي - بناء على أن الخلق لا يكون إلا في المضغة -: أقل ما يتبين فيهِ خلق الولد أحد وثمانون يوما، في أول الأربعين الثالثة التي يكون فيها مضغة، فإن أسقطت مضغة مخلقة انقضت بها العدة وعتقت بها أم الولد، ولو كانَ التخليق خفيا لا يشهد به إلا من يعرفه من النساء فكذلك.

فإن كانت مضغة لا تخليق فيها ففي انقضاء العدة وعتق الأمة به روايتان عن

أحمد.

وهل يعتبر للمضغة المخلقة أن يكون وضعها بعد تمام أربعة أشهر؟ فيهِ قولان، أشهرهما: لا يعتبر ذَلِكَ، وهو قول جمهور العلماء، وهو المشهور عن أحمد، حتَّى قالَ: إذا تبين خلقه ليس فيهِ اختلاف، أنها تعتق بذلك.

وروي عنه ما يدل على اعتبار مضي الأربعة أشهر، وعنه رواية أخرى في العلقة إذا تبين أنها ولد أن الأمة تعتق بها، ومن أصحابنا من طرد ذَلكَ في انقضاء العدة بها –

ص: 117

أيضا -، وهذه الرواية قول النخعي، وحكي قولاً للشافعي.

وهذا يدل على أنه يمكن التخليق في العلقة، وقد روي ما يدل عليه، والأطباء تعترف بذلك.

فأما الصَّلاة على السقط: فالمشهور عن أحمد أنه لا يصلى عليه حتّى ينفخ فيه الروح، ليكون ميتا بمفارقة الروح له، وذلك بعد مضي أربعة أشهر، وهو قول ابن المسيب، وأحد أقوال الشافعي، وإسحاق.

وإذا ألقت ما يتبين فيه خلق الإنسان فهي نفساء، ويلزمها الغسل، فإن لم يتبين فيه الإنسان وكان مضغة فلا نفاس لها، ولا غَسَلَ عليها في المشهور عن أحمد، وعنه رواية: أنها نفساء -: نقلها عنه الحسن بن ثواب، ولم يشترط شيئا؛ لا المضغة مظنة تبين التخلق والتصوير غالبا. وإن ألقت علقة فلا نفاس لها فيهِ، ولأصحابنا وجه ضعيف: أنها نفساء، بناء على القول بانقضاء العدة به.

ومذهب الشافعية والحنفية: أن الاعتبار في النفاس بما تنقضي به العدة، وتصير به الأمة أم ولد، فحيث وجد ذَلكَ فالنفاس موجود، وإلا فلا، والاعتبار عندهم في ذَلكَ كله بما يتبين فيه خلق الإنسان.

وقال إسحاق: إذا استتم الخلق فهو نفاس -: نقله عنه حرب.

ص: 118

‌18 - باب

كيف تهل الحائض بالحج والعمرة

؟

خرج فيه:

ص: 119

319 – حديث: ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: خرجنا مع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.

فذكرت الحديث، إلى أن قالت:

فحضت، فلم أزل حائضا حتّى كان يوم عرفة، ولم أهلل إلاّ بعمرة، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنقض رأسي، وأمتشط، وأهل بحج، وأترك العمرة، ففعلت ذَلكَ حتّى قضيت حجي، فبعث معي عبد الرحمن بن أبي بكر، فأمرني أن أعتمر مكان عمرتي من التنعيم.

فيه: دليل على أن الحائض إذا أرادت الإحرام فإنها تغتسل له، ثُمَّ تهل بما تريد أن تحرم به من حج أو عمرة. والإهلال: التلبية.

وخرج مسلم من حديث جابر، النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ لعائشة لما حاضت: ((اغتسلي، ثُمَّ أهلي بالحج)) .

ومن حديث جابر - أيضا -، قَالَ: خرجنا مع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟

ص: 119

قَالَ: ((اغتسلي واستثفري بثوب، وأحرمي)) .

ومن حديث عائشة، قالت: نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر [يأمرها] أن تغتسل وتهل.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من رواية خصيف، عن عكرمة ومجاهد وعطاء، عن ابن عباس – يرفع الحديث إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:((إن النفساء والحائض تغتسل وتحرم، فتقضي المناسك كلها، غير أن لا تطوف بالبيت حتّى تطهر)) .

وقال الترمذي: حديث حسن.

وهذا قول جماعة أهل العلم، لا يعلم بينهم اختلاف فيه: أن الحائض يجوز أن تحرم بالحج والعمرة، وتفعل مايفعله الطاهر، سوى الطواف بالبيت، كما سبق.

ولكن؛ منهم من كره لها أن تبتدئ الإحرام من غير حاجة إليه، فكره الضحاك وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري: أن تحرم في حال دمها قبل الميقات؛ لأنه لا حاجة لها إلى ذَلكَ، فإذا وصلت إلى الميقات، ولم تطهر فإحرامها حينئذ ضرورة.

وكره عطاء لمن كانت بمكة وهي حائض: أن تخرج إلى الميقات، فتهل بعمرة، وقال: لا تخرج حتّى تطهر.

وهو محمول على المقيمة بمكة، التي يمكنها تأخير الإحرام إلى حال طهرها.

ص: 120

‌19 - باب

إقبال المحيض وإدباره

وكن نساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف، فيه الصفرة، فتقول: لا تعجلن حتّى ترين القصة البيضاء - تريد بذلك: الطهر من الحيضة.

وبلغ ابنة زيد بن ثابت أن نساء يدعون بالمصابيح من جوف الليل، ينظرن إلى الطهر، فقالت: ما كان النساء يصنعن هذا، وعابت عليهن.

هذان الأثران، خرجهما مالك في ((المؤطا)) ، فروى عن علقمة بن أبي

علقمة، عن أمه مولاة عائشة، أنها قالت: كان النساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف، فيه الصفرة من دم الحيضة، يسألنها عن الصَّلاة، فتقول: لا تعجلن حتّى ترين القصة البيضاء - تريد بذلك: الطهر من الحيضة.

وروى - أيضاً - عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمته، عن ابنة زيد بن ثابت، أنه بلغها أن نساءكن يدعون بالمصابيح من جوف الليل، ينظرن

ص: 121

إلى الطهر، فكانت تعيب ذَلكَ عليهن، وتقول: ما كان النساء يصنعن هذا.

وإنما كان نساء الصدر الأول يصنعن هذا لشدة اهتمامهن بالصلاة، وأمور الدين رضي الله عنهن.

قَالَ ابن عبد البر: إنما أنكرت بنت زيد بن ثابت على النساء افتقاد أحوالهن في غير وقت الصَّلاة وما قاربها؛ لأن جوف الليل ليس بوقت صلاة، وإنما على النساء افتقاد أحوالهن للصلاة، فإن كن قد طهرن تأهبن للغسل، لما عليهن من الصَّلاة. انتهى.

وفيما قاله نظر، فإن جوف الليل وقت لصلاة العشاء، فإذا طهرت فيه الحائض لزمها صلاة العشاء وصلاة المغرب – أيضاً – عند كثير من العلماء.

وإنما أنكرت بنت زيد – والله أعلم – النظر في لون الدم، وأن مدة العادة تحكم بأن جميع ما يرى فيها دم حيض؛ وإن اختلفت ألوانه.

وهذا المعنى أقرب إلى إدخال البخاري له في هذا الباب، وإلى إدخال مالك له في ((الموطإ)) في ((باب: طهر الحيض)) ؛ وسياقهما له بعد قول عائشة الذي صدر به البخاري هذا الباب.

و ((الدرجة)) : قد رويت بضم الدال المشددة وسكون الراء، فتكون تأنيث

((درج)) ، ورويت بكسر الدال وفتح الراء، فتكون جمع ((درج)) كما تجمع

((خرج وترس)) على ((خرجة وترسة)) .

((الدرج)) : المراد به هنا: خرق تلف وفيها قطن، وهو الكرسف، فتدخله المرأة الحائض في فرجها؛ لتنظر ما يخرج على القطن، فإذا خرج عليه دم أحمر أو أسود علمت المرأة أن دم حيضها باق، وإن خرج عليه صفرة فقد أفتت عائشة – رضى الله عنها – بأنه حيض – أيضاً -، وأن الحائض لا ينقطع حيضها حتّى ترى القصة البيضاء.

و ((القصة)) –

ص: 122

بفتح القاف -: أصلها القطعة من الجص الأبيض، وأرادت عائشة بذلك أن القطنة تخرج بيضاء، ليس فيها شيء من الصفرة، ولا الكدرة، فيكون ذَلكَ علامة نقائها وطهرها.

وقالت طائفة: بل القصة البيضاء عبارة عن ماء أبيض يخرج عقب الدم من النساء في آخر الحيض، فلا تطهرن بدونه.

وقيل: إنه يشبه الخيط الأبيض، وهذا قول مالك وغيره.

وروى الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن ميسرة، عن عبد الرحمن بن

ذؤيب، عن عائشة، قالت: الطهر أن ترى المرأة بعد الدم ماء أبيض قطعا.

خرجه حرب الكرماني.

وحكى الخطابي، عن ابن وهب، أنه قَالَ في تفسير القصة البيضاء: رأيت القطن الأبيض، كأنه هو.

وعن ابن أبي سلمة، قَالَ: إذا كان ذَلكَ نظرت المرأة إلى مثل ريقها في اللون، فتطهر بذلك، فيما بلغنا.

وعن مالك، قَالَ: سألت النساء عن القصة البيضاء، فإذا ذاك أمر معروف عند النساء، يرينه عند الطهر.

وهذا المحكي عن مالك يوافق القول الثاني الذي ذكرناه، وأن القصة البيضاء عبارة عن شيء أبيض يخرج في آخر دم الحيض 0 وقال ابن عبد البر: اختلف أصحاب مالك عنه في علامة الطهر، ففي ((المدونة)) : قَالَ مالك: إذا كانت المرأة ممن ترى القصة البيضاء فلا تطهر حتّى تراها، وإن كانت ممن لاتراها فطهرها الجفوف، وذلك أن

ص: 123

تدخل الخرقة فتخرجها جافة، وبه قَالَ عيسى بن دينار، قَالَ: القصة البيضاء أبلغ في براءة الرحم من الجفوف.

وفي ((المجموعة)) : قَالَ مالك: إذا رأت الجفوف وهي ممن ترى القصة البيضاء فلا تصلي حتّى تراها، إلا أن يطول ذَلكَ بها.

وقال ابن حبيب: تطهر بالجفوف، وإن كانت ممن ترى القصة البيضاء.

قَالَ ابن حبيب: والجفوف أبرأ للرحم من القصة البيضاء.

قَالَ: فمن كان طهرها القصة البيضاء ورأت الجفوف فقد طهرت.

قَالَ: ولا تطهر التي طهرها الجفوف برؤيتها القصة البيضاء حتّى ترى الجفوف.

قَالَ: وذلك أن أول الحيض دم، ثُمَّ صفرة، ثُمَّ ترية، ثُمَّ كدرة، ثُمَّ يكون ريقاً كالفضة، ثُمَّ ينقطع، فإذا انقطع قبل هذه المنازل فقد برئت الرحم من الحيض. قَالَ: والجفوف أبرأ وأوعب، وليس بعد الجفوف انتظار. انتهى ما ذكره ابن عبد البر –

رحمه الله.

وفي ((تهذيب المدونة)) : تغتسل إن رأت القصة البيضاء، فإن كانت ممن لا تراها فحين ترى الجفوف.

قَالَ ابن القاسم: والجفوف أن

ص: 124

تدخل الخرقة، فتخرجها جافة 0 قَالَ أبو عبيد: الترية: الشيء الخفي اليسير، وهو أقل من الصفرة والكدرة، ولا تكون الترية إلا بعد اغتسال، فأما ما كان في أيام الحيض فهو حيض وليس بترية. انتهى.

واختلف قول الإمام أحمد في تفسير القصة البيضاء:

فنقل الأكثرون عنه: أنه شيء أبيض يتبع الحيضة، ليس بصفرة ولا كدرة، فهو علامة الطهر، وحكاه أحمد عن الشافعي.

ونقل حنبل، عن أحمد: أن القصة البيضاء هو الطهر وانقطاع الدم، وكذلك فسر سفيان الثوري القصة البيضاء بالطهر من الحيض.

وأرسلت امرأة إلي عمرة بنت عبد الرحمن بدرجٍ فيهِ كرسفة قطن، فيها كالصفرة، تسألها: هل ترى إذا لَم تر المرأة مِن الحيضة إلا هَذا أن قَد طهرت؟ فقالت: لا، حتى ترى البياض خالصاً.

وروى الأثرم بإسناده، عَن ابن الزبير، أنَّهُ قالَ على المنبر: يا معشر النساء، إذا رأت إحداكن القصة البيضاء فَهوَ الطهر.

وقال مكحول: لا تغتسل المرأة مِن الحيض إذا طهرت حتى ترى طهراً أبيض.

وقد حكى أبو عبيد القولين في تفسير القصة البيضاء.

ودل قول عائشة رضي الله عنها هَذا على أن الصفرة والكدرة في

ص: 125

أيام الحيض حيض، وأن مِن لها أيام معتادة تحيض فيها فرأت فيها صفرة أو كدرة، فإن ذَلِكَ يكون حيضاً معتبراً.

وهذا قول جمهور العلماء، حتى إن مِنهُم مِن نقله إجماعاً، مِنهُم: عبد الرحمن بنِ مهدي وإسحاق بنِ راهويه، ومرةً خص إسحاق حكاية الإجماع بالصفرة دونَ الكدرة.

ولكن ذهب طائفة قليلة، مِنهُم: الأوزاعي وأبو ثور وداود وابن المنذر وبعض الشافعية إلى أنه لا يكون ذَلِكَ حيضاً حتى يتقدمه في مدة العادة دم.

واشترط بعض الشافعية أن يكون الدم المتقدم يبلغ أقل الحيض.

ومنهم مِن اشترط أن يلحقه دم - أيضاً.

ومنهم مِن اشترط أن يلحقه دم يبلغ أقل الحيض.

وقال أبو يوسف: الصفرة حيض، والكدرة ليسَ حيضاً، إلا أن يتقدمها دم.

وحكي عَن داود أن الصفرة والكدرة لا تكون حيضاً بكل حال.

فأما ما زاد على أيام العادة، واتصل بها، وكان صفرة أو كدرة، فهل يكون حيضاً، أم لا؟ فيهِ قولان:

أحدهما: أنَّهُ حيض، وَهوَ أشهر الروايتين عَن مالك، والمشهور عَن الشَافِعي

- أيضاً -، وعليه أكثر أصحابه، وقول الحكم وأبي حنيفة وإسحاق.

والثاني: أنه ليسَ بحيض، وَهوَ رواية عَن مالك،

ص: 126

وقول الثوري والإصطخري وغيره مِن الشافعية.

وأما الإمام أحمد، فإنه يرى أن الزائد على العادة لا يلتفت إليه أول مرة حتى يتكرر مرتين أو ثلاثاً على اختلاف عَنهُ، وقد سبق ذكر ذَلِكَ.

فإن زاد على العادة بصفرة أو كدرة وتكرر ثلاثاً، فهل يكون حيضاً، أم لا؟ فيهِ عَنهُ روايتان.

وقد روي عَن عائشة، أنها لا تلتفت إلى الزائد على العادة مِن الصفرة والكدرة.

خرجه حرب والبيهقي مِن رواية سليمان بنِ موسى، عَن عطاء، عَن عائشة، قالت: إذا رأت المرأة الدم فلتمسك عَن الصلاة حتى تراه أبيض كالفضة؛ فإذا رأت ذَلِكَ فلتغتسل ولتصل؛ فإذا رأت بعد ذَلِكَ صفرة أو كدرة فلتتوضأ ولتصل، فإذا رأت دماً أحمر فلتغتسل ولتصل.

وروي عَن أسماء بنت أبي بكر ما يشعر بخلاف ذَلِكَ، فروى البيهقي وغيره مِن رواية ابن إسحاق، عَن فاطمة بنت المنذر، عَن أسماء، قالت: كنا في حجرها معَ بنات أخيها، فكانت إحدانا تطهر، ثُمَّ تصلي، ثُمَّ تنتكس بالصفرة اليسيرة، فنسألها، فتقول: اعتزلن الصلاة ما رأيتن ذَلِكَ، حتى ترين البياض خالصاً.

وقد حمله بعض أصحابنا على أن الصفرة أو الكدرة إذا رؤيت بعد

ص: 127

الطهر وانقطاع الدم فإنها لا تكون حيضاً ولو تكررت، على الصحيح عندهم، بخلاف ما إذا رأت ذَلِكَ متصلاً بالدم وتكرر.

فهذا كله في حق المعتادة.

فأما المبتدأة، فإذا رأت في زمن يصلح للحيض صفرة أو كدرة، فقالت طائفة مِن أصحابنا كالقاضي أبي يعلى ومن تابعه، وأكثر أصحاب الشَافِعي: إنه يكون حيضاً؛ لأن زمن الدم للمبتدأة كزمن العادة للمعتادة.

وقالت طائفة مِن أصحابنا: لا يكون حيضاً، وقالوا: إنه ظاهر كلام أحمد، وَهوَ قول طائفة مِن الشافعية - أيضاً -، وحكاه الخطابي عَن عائشة وعطاء وأكثر

الفقهاء؛ لأنه اجتمع فيهِ فَقد العادة ولون الدم المعتاد، فقويت جهة فساده، وعلى هَذا فينبغي أنَّهُ إن تكرر ذَلِكَ ثلاثاً أن يكون حيضاً، إن قلنا: إن المتكرر بعد العادة حيض، وقد يفرق بينهما بأن المتكرر بعد العادة قَد سبقه دم بخلاف هَذا.

وقد ذهب طائفة مِن أصحابنا، مِنهُم: ابن حامد وابن عقيل إلى أن المبتدأة إذا رأت أول مرةٍ دماً أحمر فليس بدم حيض حتى يكون أسود، وَهوَ قول بعض الشافعية - أيضاً -؛ للحديث المروي عَن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ - في دم الحيض -: ((إنه أسود

يعرف)) .

وهذا ينتقض عليهم بالمعتادة؛ فإنها إذا كانت عادتها أسود ثُمَّ رأت في مدة العادة دماً أحمر فإنه حيض بغير خلاف.

ص: 128

ثُمَّ خرج البخاري في هَذا الباب:

ص: 129

320 -

مِن حديث: سفيان - هوَ: ابن عيينة -، عَن هشام، عَن أبيه، عَن عائشة، أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالَ:

((ذَلِكَ عرق، وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي)) .

وقد سبق هَذا الحديث، وذكرنا اختلاف العلماء في معناه، وأنه هل المراد بإقبال الحيضة وإدبارها: إقبال الدم الأسود وإدباره، أم المراد: إقبال وقت عادتها وإدبارها؟ وأن أكثر الأئمة حملوا الحديث على الأول، وَهوَ اعتبار التمييز في الدم.

والمميزة ترجع إلى ما تراه مِن أغلظ الدماء وأفحشها لوناً، فتجلس مدة الدم الأسود دونَ الأحمر، والأحمر دونَ الأصفر.

ولا يعتبر للتمييز تكرر على أصح الوجهين لأصحابنا، لكن يشترط عندهم أن لا ينقص عَن أقل الحيض ولا يتجاوز أكثره، وأن يكون بين الدمين أقل مدة الطهر، وَهوَ قول الشافعية - أيضاً.

وحكي عَن أحمد رواية أخرى: أنه لا يعتبر أن لا يجاوز أكثر الحيض، فعلى هَذهِ الرواية تجلس منهُ قدر الأكثر خاصةً.

وأما على تفسير إقبال الحيضة وإدبارها بإقبال العادة وإدبارها، فتجلس ما تراه مِن الدم في أيام عادتها خاصة، على أي صفة كانَ، ولا تزيد على ذَلِكَ، فإذا انقضت مدة عادتها فهي طاهر، تغتسل وتصلي.

ص: 129

‌20 - باب

لا تقضي الحائضُ الصلاةَ

وقال جابر بنِ عبد الله وأبو سعيد، عَن النبي صلى الله عليه وسلم:((تدع الصلاة)) .

حديث أبي سعيد المشار إليه، قَد خرجه بتمامه في ((باب: ترك الحائض

الصوم)) ، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أليس إذا حاضت لَم تصل ولم تصم؟)) قلن:

بلى. قالَ: ((فذلك مِن نقصان دينها)) [.. .. .. .. .. .. ..] .

وحديث جابر المشار إليه [.. .. .. .. .. ..] .

وقد سبق حديث عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ للمستحاضة:((إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة)) .

وقد أجمع العلماء على أن الحائض لا يجوز لها الصلاة في حال حيضها، فرضاً ولا نفلاً.

وقد استحب لها طائفة مِن السلف أن تتوضأ في وقت كل صلاة مفروضة، وتستقبل القبلة، وتذكر الله عز وجل بمقدار تلك الصلاة، مِنهُم: الحسن وعطاء وأبو جعفر محمد بنِ علي، وَهوَ قول إسحاق.

وروي عَن عقبة بنِ عامر، أنه كانَ يأمر الحائض بذلك، وأن تجلس بفناء مسجدها.

خرجه الجوزجاني.

ص: 130

وقال مكحول: كانَ ذَلِكَ مِن هدي نساء المسلمين في أيام حيضهن.

وأنكر ذَلِكَ أكثر العلماء:

وقال أبو قلابة: قَد سألنا عَن هَذا فما وجدنا لَهُ أصلاٍ.

خرجه حرب الكرماني.

وقال سعيد بن عبد العزيز: ما نعرف هَذا، ولكننا نكرهه.

قالَ ابن عبد البر: على هَذا القول جماعة الفقهاء وعامة العلماء في الأمصار.

وممن قالَ: ليسَ ذَلِكَ على الحائض: الأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، ومالك، وكذلك قالَ أحمد، قالَ: ليسَ عليها ذَلِكَ، ولا بأس أن تسبح وتهلل وتكبر.

وبه قالَ أبو خيثمة، وسليمان بنِ داود الهاشمي، وأبو ثور، وأصحاب الشَافِعي، وزادوا: أنه يحرم عليها الوضوء إذا قصدت بهِ العبادة ورفع الحدث، وإنما يجوز لها أن تغتسل أغسال الحج؛ لأنه لا يراد بها رفع الحدث، بل النظافة.

وقد روى يحيى بنِ صاعد: ثنا عبد الجبار بنِ العلاء: ثنا أيوب بنِ سويد الرملي: ثنا عتبة بنِ أبي حكيم، عَن أبي سفيان طلحة بنِ نافع، حدثني عبد الله بنِ عباس، أنه بات عندَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في ليلة ميمونة بنت الحارث، فقام النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فأسبغ الوضوء،

ص: 131

[وأقل] هراقة الماء، وقام فافتتح الصَّلاة، فقمت فتوضأت، وقمت عَن يساره، فأخذ بأذني فأقامني عَن يمينه، وكانت ميمونة حائضاً، فقامت فتوضأت، ثُمَّ قعدت خلفه تذكر

الله عز وجل.

خرجه الطبراني في ((مسند الشاميين)) وغيره.

وهذا غريب جداً.

وأيوب بنِ سويد الرملي، ضعيف.

خرج البخاري في هَذا الباب:

ص: 132

321 -

حديث: قتادة: حدثتني معاذة، أن امرأة قالت لعائشة: أتجزي إحدانا صلاتها إذا هي طهرت؟ فقالت: أحرورية أنت؟ كنا نحيض معَ النبي صلى الله عليه وسلم فلا يأمرنا بهِ - أو قالت: فلا نفعلهُ.

قولها: ((أتجزي)) ، هوَ بفتح التاء، و ((صلاتها)) بفتح التاء، والمعنى: أتقضي صلاتها إذا طهرت مِن حيضها.

وقول عائشة: ((أحرورية أنت؟)) - تعني: أنت مِن أهل حروراء، وهم الخوارج؛ فإنه قَد قيل: إن بعضهم كانَ يأمر بذلك، وقيل: إنها أرادت أن هَذا مِن جنس تنطع الحرورية، وتعمقهم في الدين حتى خرجوا منهُ.

ثُمَّ ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ لا يأمرهن بذلك إذا حضن - أو لا يفعلنه - شك الراوي أي اللفظتين قالت.

ومعناهما

ص: 132

متقارب؛ فإن نساء النبي صلى الله عليه وسلم إذا كن يحضن في زمانه فلا يقضين الصلاة إذا طهرن، فإنما يكون ذَلِكَ بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم على ذَلِكَ، وأمره بهِ، فإن مثل هَذا لا يخفى عليهِ، ولو كانَ القضاء واجباً عليهن لَم يهمل ذَلِكَ، وَهوَ لا يغفل عَن مثله لشدة اهتمامه بأمر الصلاة.

وقد خرج هَذا الحديث مسلم في ((صحيحه)) بلفظ: ((ثُمَّ لا نؤمر بالقضاء)) - مِن غير تردد، وخرجه بلفظ آخر، وَهوَ:((كانَ يصيبنا ذَلِكَ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة)) .

وقد حكى غير واحد مِن الأئمة إجماع العلماء على أن الحائض لا تقضي الصلاة، وأنهم لَم يختلفوا في ذَلِكَ، مِنهُم: الزهري، والإمام أحمد، وإسحاق بنِ راهويه، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر وغيرهم.

وقال عطاء وعكرمة: قضاء الحائض الصلاة بدعة.

وقال الزهري: أجمع الناس على أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، وقال: وليس في كل شيء نجد الإسناد.

وقد حكي عَن بعض الخوارج: أن الحائض تقضي الصلاة، وعن

ص: 133

بعضهم: أنها تصلي في حال حيضها.

ولكن في ((سنن أبي داود)) بإسناد فيهِ لين، أن سمرة بنِ جندب كانَ يأمر النساء بقضاء صلاة الحيض.

وقد ذكر البخاري في ((الصيام)) مِن ((كتابه)) هَذا عَن أبي الزناد، أنه قالَ: إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيراً على خلاف الرَأي، فلا يجد المسلمون بداً مِن اتباعها؛ مِن ذَلِكَ أن الحائض تقضي الصوم دونَ الصلاة.

وهذا يدل على أن هَذا مما لا يدرك بالرأي، ولا يهتدي الرَأي إلى وجه الفرق

فيهِ.

وقد فرق كثير مِن الفقهاء مِن أصحابنا وأصحاب الشافعي بين قضاء الصوم والصلاة، بأن الصلاة تتكرر كل يوم وليلة خمس مرات، والحيض لا يخلو منهُ كل شهر - غالباً -، فلو أمرت الحائض بقضاء الصلاة معَ أمرها بأداء الصلاة في أيام طهرها لشق ذَلِكَ عليها، بخلاف الصيام؛ فإنه إنما يجيء مرةً واحدةً في السنة، فلا يشق قضاؤه.

ومنهم مِن قالَ: جنس الصلاة يتكرر في كل يوم مِن أيام الطهر، فيغني ذَلِكَ عَن قضاء ما تركته منها في الحيض، بخلاف صيام رمضان؛ فإنه شهر واحد في السنة لا يتكرر فيها، فإذا طهرت الحائض أمرت بقضاء ما تركته أيام حيضها؛ لتأتي بتمام عدته المفروضة في السنة، كَما يؤمر بذلك مِن أفطر لسفر أو مرض.

وإنما يسقط عَن الحائض قضاء الصلاة التي استغرق حيضها وقتها، ولم

ص: 134

تكن مجموعة إلى ما قبلها أو بعدها، فإن لَم يستغرق حيضها وقت الصلاة، بل طهرت في آخر الوقت، أو حاضت بعد مضي أوله، ففي لزوم قضائها لها خلاف، يأتي ذكره في ((كِتابِ الصلاة)) - إن شاء الله تعالى.

وكذلك لو طهرت في آخر وقت صلاة تجمع إلى ما قبلها؛ مثل أن تطهر في آخر وقت العصر أو العشاء، فهل يلزمها قضاء الظهر والمغرب؟ فيهِ - أيضاً - اختلاف، يذكر في ((الصلاة)) - إن شاء الله تعالى.

وإن حاضت في أول وقت صلاة تجمع إلى ما بعدها، ففي لزوم القضاء لما بعد الصلاة التي حاضت في وقتها اختلاف - أيضاً -، والقول بوجوب القضاء هنا أبعد مِن التي قبلها.

ص: 135

‌21 - باب

النومِ معَ الحائضِ وهي في ثيابها

خرج فيهِ:

ص: 136

322 -

حديث: يحيى بنِ أبي كثير، عَن أبي سلمة، عَن زينب بنت أبي سلمة، حدثته أن أم سلمة قالت: حضت وأنا معَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة، فانسللت، فخرجت منها، فأخذت ثياب حيضتي، فلبستها، فقالَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((أنفست؟)) قلت: نعم، فدعاني فأدخلني معه في الخميلة.

قالت: وحدثتني أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يقبلها وَهوَ صائم، وكنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم مِن إناء واحد مِن الجنابة.

أول هَذا الحديث قَد خرجه البخاري فيما تقدم في ((باب: مِن سمى النفاس حيضاً)) ، وسبق الكلام هناك على شرحه وضبط مشكل ألفاظه.

وإنما أعاده هنا؛ لأنه استنبط منهُ جواز نوم الرجل معَ امرأته وهي حائض في ثياب حيضها في لحاف واحد، وقد سبق القول في ذَلِكَ مستوفى في ((باب: مباشرة الحائض)) .

ص: 136

ويختص هَذا الباب: بأن ثياب الحائض وإن كانت مختصةً بحال حيضها فلا يجب اتقاؤها والتنزه عَن ملابستها، وأنه لا تنجس ما أصابها مِن جسد الرجل أو ثيابه، ولا يغسل مِن ذَلِكَ شيئاً ما لَم ير فيه دماً، وقد سبق هَذا المعنى مبسوطاً في ((باب: هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيهِ؟)) .

وذكرنا فيهِ حديث عائشة، قالت: كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعار الواحد، وأنا حائض طامث، فإن أصابه مني شيء غسل ما أصابه، لم يعده إلى غيره، ثُمَّ صلى فيهِ.

خرجه النسائي.

وأما باقي هَذا الحديث، فَقد تقدم الكلام على اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أزواجه مِن إناء واحد مِن الجنابة في موضعه مِن الكِتابِ، ويأتي الكلام على القبلة للصائم مِن موضعها مِن ((الصيام)) - إن شاء الله تعالى.

ص: 137

‌22 - باب

منِ اتخذَ ثيابَ الحيضِ سوى ثيابِ الطهرِ

خرج فيهِ:

ص: 138

323 -

حديث: أم سلمة - بالإسناد المتقدم -؛ قالت: بينا أنا معَ النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعة في خميلة حضت، فانسللت، فأخذت ثياب حيضتي، فقالَ:((أنفست؟)) فقلت: نعم. فدعاني، فاضطجعت معه في الخميلة.

قَد سبق حديث عائشة، قالت: ((ما كانَ لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض

فيهِ)) . وقد خرجه البخاري في ((باب: هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيهِ؟)) . وسبق هناك أحاديث متعددة بهذا المعنى.

وظاهر حديث أم سلمة هَذا: يدل على أنَّهُ كانَ لها ثياب لحيضها غير ثياب طهرها، فيكون هَذا كله جائزاً غير ممنوع منهُ ولا مكروه، فلا يكره أن تحيض المرأة وتطهر في ثوب واحد وتصلي فيهِ، ولا أن تتخذ لحيضها ثياباً غير ثياب طهرها، ولا يعد ذَلِكَ سرفاً ولا وسواساً.

ويحتمل أن يجمع بين الحديثين بأن يكون المراد بثياب الحيضة في حديث أم سلمة: الإزار التي كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الحائض في فور حيضها

ص: 138

أن تأتزر بهِ، ثُمَّ يباشرها وهي حائض، كَما روت ذَلِكَ عائشة وميمونة، وقد سبق حديثهما في ((باب: مباشرة الحائض)) ، فيجمع بذلك بين حديث عائشة:((ما كانَ لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيهِ)) ، وبين حديثها الآخر في أمرها بالاتزار في فور الحيض.

ص: 139

‌23 - باب

شهودِ الحائضِ العيدينِ ودعوةَ المسلمينَ ويعتزلنَ المصلى

ص: 140

324 -

حدثنا محمد بنِ سلام: ثنا عبد الوهاب، عَن أيوب، عَن حفصة، قالت: كنا نمنع عواتقنا أن يخرجن في العيدين، فقدمت امرأة فنزلت قصر بني خلف، فحدثت عَن أختها - وكان زوج أختها غزا معَ النبي صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة، وكانت أختي معه في ست -، قالت: كنا نداوي الكلمى، ونقوم على المرضى، فسألت أختي النبي صلى الله عليه وسلم: أعلى إحدانا بأس إذا لَم يكن لها جلباب أن لا تخرج؟ قالَ: ((لتلبسها صاحبتها مِن جلبابها ولتشهد الخير ودعوة المسلمين)) . فلما قدمت أم عطية سألتها: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: بأبا، نعم - وكانت لا تذكره إلا قالت: بأبي - سمعته يقول: ((يخرج العواتق وذوات الخدور - أو العواتق ذوات الخدور - والحيض، وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين، ويعتزل الحيض المصلى)) .

قالت حفصة:

ص: 140

فقلت: الحيض؟ فقالت: أليس تشهد عرفة وكذا وكذا؟

((حفصة)) ، هي: بنت سيرين أخت محمد وإخوته.

و ((العواتق)) : جمع عاتق، وهي البكر البالغ التي لَم تزوج.

و ((الجلباب)) : هي الملاءة المغطية للبدن كله، تلبس فوق الثياب، وتسميها العامة: الإزار، ومنه قول الله عز وجل:{يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} .

وفي الحديث: أمر للنساء بشهود العيدين، معللاً بما فيهِ مِن شهود الخير ودعوة المسلمين، ويأتي استيفاء الكلام على ذَلِكَ في موضعه مِن ((الصلاة)) - إن شاء الله

تعالى.

وإنما المقصود هنا: شهود الحيض، وقد استنكرت ذَلِكَ حفصة بنت سيرين، فأجابتها أم عطية بأن الحائض تشهد عرفة وكذا وكذا، كأنها تعني: مجامع الحج مِن الوقوف بالمزدلفة، ورمي الجمار وغير ذَلِكَ، فإنها تصنع ما يصنع الحاج غير الطواف بالبيت، كَما سبق، فكذلك تشهد مجمع العيدين وهي حائض؛ لأنها مِن أهل الدعاء والذكر، فلها أن تفعل ذَلِكَ بنفسها، وتشهد مجامع المسلمين المشتملة عليهِ.

وأما أمر الحائض باعتزال المصلى، فَقد قيل: بأن مصلى العيدين مسجد، فلا يجوز للحائض المكث فيهِ، وَهوَ ظاهر كلام بعض أصحابنا، مِنهُم: ابن أبي موسى في

((شرح الخرقي)) ، وَهوَ - أيضاً - أحد الوجهين

ص: 141

للشافعية، والصحيح عندهم: أنَّهُ ليسَ بمسجد، فللجنب والحائض المكث فيهِ.

وأجابوا عَن حديث الأمر باعتزال الحيض للمصلى: بأن المراد أن يتسع على غيرهن، ويتميزن.

وفي هَذا نظر؛ فإن تميز الحائض عَن غيرها مِن النساء في مجلس وغيره ليسَ بمشروع، وإنما المشروع تميز النساء عَن الرجال جملة؛ فإن اختلاطهن بالرجال يخشى منهُ وقوع المفاسد.

وقد قيل: إن المصلى يكون لَهُ حكم المساجد في يوم العيدين خاصةً، في حال اجتماع الناس فيهِ دونَ غيره مِن الأوقات.

وفي ذَلِكَ - أيضاً - نظر، والله أعلم.

والأظهر: أن أمر الحيض باعتزال المصلى إنما هوَ حال الصلاة؛ ليتسع على النساء الطاهرات مكان صلاتهن، ثُمَّ يختلطن بهن في سماع الخطبة.

وقد صرح أصحابنا: بأن مصلى العيد ليسَ حكمه حكم المسجد، ولا في يوم العيد، حتى قالوا: لو وصل إلى المصلى يوم العيد والإمام يخطب فيهِ بعد الصلاة؛ فإنه يجلس مِن غير صلاة؛ لأنه لا تحية لَهُ.

واختلفوا: لو كانَ يخطب في المسجد: هل يصلي التحية؟ على وجهين.

وقول أم عطية: ((بأبا)) هوَ بفتح الباء الثانية، وقد زعم بعضهم أن حديث أم عطية لَم يرد إلا كذلك.

وهما لغتان: ((بأبي)) بكسر الباء، و ((بأبا)) بفتح الباء.

والمراد: تفدية النبي صلى الله عليه وسلم بأبيها.

ص: 142

‌24 - باب

إذا حاضتْ في شهرٍ ثلاثَ حيضٍ، وما يصدقُ النساءُ

في الحيضِ والحملِ فيها يمكنُ منَ الحيضِ

لقول الله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنّ}

[البقرة: 228] .

ويذكر عَن علي وشريح: إن جاءت ببينة مِن بطانة أهلها - ممن يرضى دينه - أنها حاضت ثلاثاً في شهر؛ صدقت.

وقال عطاء: أقراؤها كانت.

وبه قالَ إبراهيم.

وقال عطاء: الحيض يوم إلى خمسة عشر.

وقال المعتمر، عَن أبيه: سألت ابن سيرين عَن المرأة ترى الدم بعد قرئها بخمسة أيام؟ قالَ: النساء أعلم بذلك.

أمَّا قول الله عز وجل: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنّ}

[البقرة: 228] ، فإنه يدل على أن المرأة مؤتمنة على الإخبار بما في رحمها، ومصدقة فيهِ إذا ادعت مِن ذَلِكَ ممكناً.

روى الأعمش، عَن مسلم، عَن مسروق، عَن أبي بنِ كعب، قالَ: إن مِن الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها.

ص: 143

وقد اختلف المفسرون مِن السلف فَمِن بعدهم في المراد بقولِهِ تعالى: {مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنّ} ، ففسره قوم بالحمل، وفسره قوم بالحيض.

وقال آخرون: كل منهما مراد، واللفظ صالح لهما جميعاً. وهذا هوَ المروي عَن أكثر السلف، مِنهُم: ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، والحسن، والضحاك.

وأما ما ذكره عَن علي وشريح:

فقالَ حرب الكرماني: ثنا إسحاق - هوَ: ابن راهويه -: ثنا عيسى بنِ يونس، عَن إسماعيل بنِ أبي خالد، عَن الشعبي، أن امرأة جاءت إلى علي بنِ أبي طالب، فقالت: إني طلقت، فحضت في شهر ثلاث حيض؟ فقالَ علي لشريح: قل فيها، فقالَ: أقول فيها وأنت شاهد! قالَ: قل فيها، قالَ: إن جاءت ببطانة مِن أهلها ممن يرضى دينهن وأمانتهن فقلن: إنها حاضت ثلاث حيض طهرت عند كل حيضة؛ صدقت. فقالَ علي: قالون. قالَ عيسى: بالرومية: أصبت.

قالَ حرب: وثنا إسحاق: أبنا محمد بن بكر: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عَن قتادة، عَن عزرة، عَن الحسن العرني، أن امرأة طلقها زوجها، فحاضت في خمس وثلاثين ليلة ثلاث حيض، فرفعت إلى شريح فلم يدر ما يقول فيها، ولم يقل شيئاً، فرفعت إلى علي بن أبي طالب، فقالَ: سلوا عنها جاراتها، فإن كانَ هكذا حيضها فَقد انقضت عدتها، وإلا فأشهر ثلاث.

ص: 144

وهذا الإسناد فيهِ انقطاع؛ فإن الحسن العرني لَم يدرك علياً -: قاله أبو حاتم الرازي.

وأما الإسناد الذِي قبله، فإن الشعبي رأى علياً يرجم شراحة ووصفه. قالَ يعقوب بنِ شيبة: لكنه لَم يصحح سماعه منهُ.

وأما ما ذكره البخاري عَن عطاء والنخعي:

فروى ابن المبارك، عَن ابن لهيعة، عَن خالد بنِ يزيد، عَن عطاء، في امرأة طلقت، فتتابعت لها ثلاث حيض في شهر: هل [حلت] ؟ قالَ: أقراؤها ما كانت.

وروي نحوه عَن النخعي، كَما حكاه البخاري، وحكاه عَنهُ إسحاق بن

راهويه.

فهؤلاء كلهم يقولون: إن المرأة قَد تنقضي عدتها بثلاثة أقراء في شهر واحد، وَهوَ قول كثير مِن العلماء، مِنهُم: مالك، وأحمد، وإسحاق وغيرهم.

وهذا ينبني على أصلين:

أحدهما: الاختلاف في الأقراء: هل هي الأطهار، أو الحيض؟ وفيه قولان مشهوران.

ومذهب مالك والشافعي: أنها الأطهار، ومذهب أحمد - الصحيح عَنهُ -، وإسحاق: أنها الحيض، وستأتي المسألة مستوفاةً في موضع آخر مِن الكِتابِ - إن شاء الله تعالى.

ص: 145

والثاني: الاختلاف في مدة أقل الحيض وأقل الطهر بين الحيضتين.

فأما أقل الحيض: فمذهب الشَافِعي وأحمد - المشهور عَنهُ - وإسحاق: أنَّهُ يوم وليلة.

وأما أقل الطهر بين الحيضتين: فمذهب الشافعي وأحمد - في رواية عَنهُ -: أنَّهُ خمسة عشر يوماً، وَهوَ قول كثير مِن أصحاب مالك.

والمشهور عَن أحمد: أن أقله ثلاثة عشر يوماً.

وعند إسحاق: أقله عشرة أيام -: نقله عَنهُ حرب.

وَهوَ رواية ابن القاسم، عَن مالك.

واختلفت الرواية عَن مالك في ذَلِكَ.

فعلى قول مِن قالَ: الأقراء الحيض، وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً، فيمكن انقضاء العدة بثلاثة قروء في تسعة وعشرين يوماً.

وعلى قول مِن قالَ: الأقراء الحيض، وأقل الطهر خمسة عشر فلا تنقضي العدة في أقل مِن ثلاثة وثلاثين يوماً.

وأما على قول مِن يقول: الأقراء الأطهار: فإن قيل: بأن أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر؛ فأقل ما تنقضي فيهِ العدة بالأقراء ثمانية وعشرون يوماً.

وإن قيل: أقل الطهر خمسة عشر؛ فاثنان وثلاثون يوماً.

فأما مالك وأصحابه، فقالَ ابن القاسم: سألت مالكاً، إذا قالت: قَد حضت ثلاث حيض في شهر؟ قالَ: تسأل النساء عَن ذَلِكَ، فإن كن يحضن كذلك ويطهرن

لَهُ؛ كانت مصدقة.

وهذا هوَ مذهب مالك المذكور في ((المدونة)) ، واختاره الأبهري مِن أصحابه، وبناه على أن الحيض لا حد لأقله، بل أقله دفقة وأقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر.

ص: 146

ومن المالكية مِن قالَ: يقبل في أربعين يوماً، فاعتبر أقل الطهر وخمسة أيام مِن كل حيضة. ومنهم مِن قالَ: تنقضي في ستة وثلاثين يوماً، فاعتبر أقل الطهر وثلاثة أيام للحيضة.

فلم يعتبر هَذا ولا الذِي قبله الحيض ولا أكثره.

وقد ينبني الذِي نقله ابن القاسم، عَن مالك، على قولُهُ: إنه لا حد لأقل الطهر بين الحيضتين، بل هوَ على ما تعرف المرأة مِن عادتها.

وَهوَ رواية منصوصة عَن أحمد، اختارها أبو حفص البرمكي مِن أصحابنا، وأورد على نفسه: أنَّهُ يلزم على هَذا أنها إذا ادعت انقضاء العدة في أربعة أيام قبل منها: فأجاب: أنَّهُ لا بد مِن الأقراء الكاملة، وأقل ما يُمكن في شهر.

كذا قالَ.

ونقل الأثرم عَن أحمد، أنَّهُ لا توقيت في الطهر بين الحيضتين، إلا في موضع واحد: إذا ادعت انقضاء عدتها في شهر؛ فإنها تكلف البينة.

ونقل ابن عبد البر: أن الشَافِعي قالَ: أقل الطهر خمسة عشر، إلا أن يعلم طهر امرأة أقل مِن خمسة عشر، فيكون القول قولها.

ومذهب أبي حنيفة: لا تصدق في دعوى انقضاء العدة في أقل مِن ستين يوماً، واختلف عَنهُ في تعليل ذَلِكَ:

فنقل عَنهُ أبو يوسف: أنها تبدأ بطهر كامل خمسة عشر يوماً، وتجعل كل حيضة خمسة أيام، والأقراء عندهم: الحيض.

ونقل عَنهُ الحسن بنِ زياد: أنَّهُ اعتبر أكثر الحيض - وَهوَ عشرة أيام عندهم - وأقل الطهر - وَهوَ خمسة عشر - وبدأ بالحيض.

ص: 147

وقال صاحباه أبو يوسف ومحمد: لا تصدق إلا في كمال تسعة وثلاثين يوماً، بناء على أقل الحيض، وَهوَ عندهم ثلاثة، وأقل الطهر، وَهوَ خمسة عشر.

وقال سفيان الثوري: لا تصدق في أقل مِن أربعين يوماً، وَهوَ أقل ما تحيض فيهِ النساء وتطهر. وهذا كقول أبي يوسف ومحمد.

وعن الحسن بنِ صالح: لا تصدق في أقل مِن خمسة وأربعين يوماً -: نقله عَنهُ الطحاوي.

وقال حرب الكرماني: ثنا إسحاق: ثنا أبي، قالَ: سألت ابن المبارك فقالَ: أرأيت قول سفيان: تصدق المرأة في انقضاء عدتها في شهر، كيف هَذا؟ وما معناه؟ فقالَ: جعل ثلاثاً حيضاً، وعشراً طهراً، وثلاثاً حيضاً، كذا قالَ.

وقد ذكر بعض أصحاب سفيان في مصنف لَهُ على مذهبه رواية ابن المبارك هَذهِ عَن سفيان: أنها لا تصدق في أقل مِن تسعة وثلاثين يوماً، وعزاها إلى الطحاوي، ووجهها بأن أقل الحيض ثلاثة أيام وأقل الطهر خمسة عشر. قالَ: ورواية المعافى والفريابي عَن سفيان، أنها لا تصدق في أقل مِن أربعين يوماً. قالَ: وهما بمعنى واحد.

وأما إسحاق بنِ راهويه، فإنه حمل المروي عَن علي في ذَلِكَ على أنَّهُ جعل الطهر عشرة أيام، والحيض ثلاثة، لكن إسحاق لا يرى أن أقل الحيض ثلاث.

ص: 148

ولم يذكر أكثر هؤلاء أن قبول دعواها يحتاج إلى بينة، وَهوَ قول الخرقي مِن أصحابنا.

والمنصوص عَن أحمد: أن دعوى انقضاء العدة في شهر لا تقبل بدون بينة، تشهد بهِ مِن النساء، ودعوى انقضائها في زيادة على شهر تقبل بدون بينة؛ لأن المرأة مؤتمنة على حيضها كَما قالَ أبي بن كعب وغيره، وإنما اعتبرنا البينة في دعواها في الشهر خاصة للمروي عَن علي بن أبي طالب، كَما تقدم.

ومن أصحابنا مِن قالَ: إن ادعته في ثلاثة وثلاثين يوماً قبل بغير بينة؛ لأن أقل الطهر المتفق عليهِ خمسة عشر يوماً، وإنما يحتاج إلى بينة إذا ادعته في تسعة وعشرين؛ لأنه يُمكن؛ فإن أقل الطهر ثلاثة عشر في رواية.

ومنهم مِن قالَ: إنما يقبل ذَلِكَ بغير بينة في حق مِن ليسَ لها عادة مستقرة، فأما مِن لها عادة منتظمة فلا تصدق إلا ببينة على الأصح، كذا قاله صاحب ((الترغيب)) .

وقال ابن عقيل في ((فنونه)) : ولا تقبل معَ فساد النساء وكثرة كذبهن دعوى انقضاء العدة في أربعين ولا خمسين [يوماً] ، إلا ببينة تشهد أن هَذهِ عادتها، أو أنها رأت الحيض على هَذا المقدار، وتكرر ثلاثاً.

وقال إسحاق وأبو عبيد: لا تصدق في أقل مِن ثلاثة أشهر، إلا أن تكون لها عادة معلومة قَد عرفها بطانة أهلها المرتضى دينهن وأمانتهن

ص: 149

فيعمل بها حينئذ، ومتى لَم يكن كذلك فَقد وقعت الريبة، فيحتاط وتعدل الأقراء بالشهور، كَما في حق الآيسة والصغيرة.

وأما ما حكاه البخاري عَن عطاء، أن الحيض يوم إلى خمسة عشر، فهذا معروف عَن عطاء.

وقد اختلف العلماء في أقل الحيض وأكثره:

فأما أقله:

فمنهم مِن قالَ: يوم، كَما روي عَن عطاء. ومنهم مِن قالَ: يوم وليلة، وروي - أيضاً - عَن عطاء.

وروي - أيضاً - مثل هذين القولين عَن الأوزاعي والشافعي وأحمد، فقالَ كثير مِن أصحابهم: إنهما قولان لَهُم، ومن أصحابنا وأصحاب الشَافِعي مِن قالَ: إنما مراد الشَافِعي [وأحمد] يوم معَ ليلته؛ فإن العرب تذكر اليوم كثيراً ويريدون: معَ ليلته. وممن قالَ: أقله يوم وليلة: إسحاق وأبو ثور.

وقالت طائفة: لا حد لأقله، بل هوَ على ما تعرفه المرأة مِن نفسها، وَهوَ المشهور عَن مالك، وقول أبي داود وعلي بنِ المديني، وروي عَن الأوزاعي - أيضاً.

ونقل ابن جرير الطبري عَن الربيع، عَن الشَافِعي، أن الحيض يكون يوماً

[وأقل] وأكثر. قالَ الربيع: وآخر قولي الشَافِعي: أن أقله يوم وليلة.

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: أقله ثلاثة أيام.

وروي ذَلِكَ عَن ابن مسعود وأنس مِن قولهما، وروي - مرفوعاً - مِن طرق، والمرفوع كله باطل لا يصح، وكذلك الموقوف طرقه واهية، وقد طعن فيها غير واحد

ص: 150

مِن أئمة الحفاظ.

وقالت طائفة: أقله خمسة أيام، وروي عَن مالك.

ولم يصح عند أكثر الأئمة في هَذا الباب توقيت مرفوع ولا موقوف، وإنما رجعوا فيهِ إلى ما حكي مِن عادات النساء خاصة، وعلى مثل ذَلِكَ اعتمد الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم.

وأما أكثر الحيض.

فقالَ عطاء: هوَ خمسة عشر يوماً. وحكي مثله عَن شريك والحسن بنِ صالح، وَهوَ قول مالك والشافعي وأحمد - في المشهور عَنهُ - وإسحاق وداود وأبي ثور وغيرهم.

ومن أصحابنا والشافعية مِن قالَ: خمسة عشر يوماً بلياليها، قالَ بعض الشافعية: وهذا القيد لا بد مِنه، لتدخل الليلة الأولى، والاعتماد في ذَلِكَ على ما حكي مِن حيض بعض النساء خاصة.

وأما الرواية عَن النبي صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ قالَ في نقصان دين النساء:((تمكث شطر عمرها لا تصلي)) فإنه لا يصح، وقد طعن فيهِ ابن منده والبيهقي وغيرهما مِن الأئمة.

وقالت طائفة: أكثره سبعة عشر، حكي عَن عبد الرحمن بنِ مهدي وعبد الله بن نافع صاحب مالك.

وَهوَ رواية عَن أحمد واختارها أبو بكر عبد العزيز، ومن أصحابنا - كأبي حفص البرمكي - مِن قالَ: لا يصح عَن أحمد، إنما حكى ذَلِكَ أحمد عَن غيره ولم يوافقه.

وحكي عَن بعضهم: أكثره ثلاثة عشر، وحكي عَن سعيد بنِ جبير.

ص: 151

وقال سفيان وأبو حنيفة وأصحابه: أكثره عشرة أيام، واعتمدوا في ذَلِكَ على أحاديث مرفوعه وآثار موقوفة عَن أنس وابن مسعود وغيرهما كَما سبق.

والأحاديث المرفوعة باطلة، وكذلك الموقوفة على الصحابة -: قاله الإمام أحمد في رواية الميموني وغيره.

وقد روي - أيضاً - عَن الحسن وخالد بنِ معدان، وأنكره الإمام أحمد عَن خالد.

وروي عَن الحسن: أكثره خمسة عشر.

وحكي عَن طائفة: [أن] أكثره سبعة أيام:

[قالَ مكحول: وقت الحائض سبعة أيام] .

وعن الضحاك، قالَ: تقعد سبعة أيام، ثُمَّ تغتسل وتصلي.

وعن الأوزاعي في المبتدأة: تمكث [أعلى] أقراء النساء سبعة أيام، ثُمَّ تغتسل وتصلي كَما تفعل المستحاضة.

وحكى الحسن بنِ ثواب، عَن أحمد، قالَ: عامة الحيض ستة أيام إلى سبعة.

[قيل لَهُ: فإن امرأة مِن آل أنس كانت تحيض خمسة عشر؟ قالَ: قَد كانَ ذَلِكَ، وأدنى الحيض: يوم، وأقصاه - عندنا -: ستة أيام إلى سبعة]، ثُمَّ ذكر حديث:((تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً)) .

وكلام أحمد ومن ذكرنا معه في هَذا إنما مرادهم بهِ - والله أعلم - أن السبعة غالب الحيض وأكثر عادات النساء؛ لا أنَّهُ أقصى حيض النساء كلهن.

ص: 152

وقالت طائفة: لا حد لأكثر الحيض، وإنما هوَ على حسب ما تعرفه كل امرأة مِن عادة نفسها، فلو كانت المرأة لا تحيض في السنة إلا مرة واحدة وتحيض شهرين متتابعين فَهوَ حيض صحيح، وري نَحوَ ذَلِكَ عَن ميمون بن مهران والأوزاعي، ونقله حرب عَن إسحاق وعلي بن المديني.

ويشبه هَذا: ما قاله ابن سيرين: النساء أعلم بذلك، كَما حكاه البخاري عَنهُ - تعليقاً - مِن رواية معتمر بنِ سليمان، عَن أبيه، أنه سأل ابن سيرين عَن امرأة ترى الدم بعد قرئها بخمسة أيام؟ قالَ: النساء أعلم بذلك.

ومراد ابن سرين - والله أعلم -: أن المرأة أعلم بحيضها واستحاضتها، فما اعتادته حيضاً وتبين لها أنَّهُ حيض جعلته حيضاً، وما لَم تعتده ولم يتبين لها أنَّهُ حيض فَهوَ استحاضة.

وقد ذكر طائفة مِن أعيان أصحاب الشَافِعي: أن مِن لها عادة مستمرة على حيض وطهر أقل مِن يوم وليلة وأكثر مِن خمسة عشر أنها تعمل بعادتها في ذَلِكَ، مِنهُم: أبو إسحاق الإسفراييني والقاضي حسين والدارمي وأبو عمرو بنِ الصلاح، وذكر أنه نص الشَافِعي -: نقله عَنهُ صاحب ((التقريب)) .

وما نقله ابن جرير عَن الربيع، عَن الشَافِعي، كَما تقدم، يشهد لَهُ - أيضاً.

خرج البخاري في هَذا الباب حديثاً، فقالَ:

ص: 153

325 -

ثنا أحمد بنِ أبي رجاء: ثنا أبو أسامة، قالَ: سمعت هشام بنِ عروة، قالَ: أخبرني أبي، عَن عائشة، أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي صلى الله عليه وسلم،

ص: 153

فقالت: إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قالَ:((لا، إن ذَلِكَ عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثُمَّ اغتسلي وصلي)) .

هَذا الحديث استدل بهِ مِن ذهب إلى أن أقل الحيض ثلاثة أيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ردها إلى قدر الأيام التي كانت تحيضها، والأيام جمع، وأقل الجمع ثلاثة.

وأجاب مِن خالفهم عَنهُ بجوابين:

أحدهما: أن المراد بالأيام: الأوقات، لأن اليوم قَد يعبر بهِ عَن الوقت قل أو

كثر، كَما قالَ تعالى:{أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [هود: 8]، والمراد: وقت مجيء العذاب، وقد يكون ليلاً ويكون نهاراً، وقد يستمر وقد لا يستمر، ويقال: يوم الجمل، ويوم صفين، وكل منهما كانَ عدة أيام.

والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم رد امرأة واحدةً إلى عادتها، والظاهر: أن عادتها كانت أياماً متعددة في الشهر، إمَّا ستة أيام أو سبعة، فليس فيهِ دليل على أن كل حيض امرأة يكون كذلك.

واستدل الإمام أحمد بقولِهِ صلى الله عليه وسلم: ((دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها)) على أن الحيض قَد يكون أكثر مِن عشرة أيام؛ لأنه لو كانَ الزائد على العشرة استحاضة لبين لها ذَلِكَ.

ولكن قَد يُقال: في الزيادة على الخمس عشرة كذلك - أيضاً.

والظاهر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يعلم أن حيض هَذهِ المرأة أقل مِن ذَلِكَ، فلذلك ردها إلى أيامها.

ص: 154

‌25 - باب

الصفرةِ والكدرةِ في غيرِ أيام الحيضِ

ص: 155

326 -

حدثنا قتيبة: ثنا إسماعيل، عَن أيوب، عَن محمد، عَن أم عطية: كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئاً.

كذا رواه ابن علية ومعمر، عَن أيوب.

ورواه وهيب، [عَن أيوب] ، عَن حفصة بنت سيرين، عَن أم عطية.

وزعم محمد بنِ يحيى الذهلي أن قول وهيب أصح. وفيه نظر.

وقد خرج أبو داود مِن طريق حماد بنِ سلمة، عَن قتادة، عَن أم الهذيل - وهي: حفصة بنت سيرين -، عَن أم عطية - وكانت بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً.

ص: 155

ثُمَّ قالَ: ثنا مسدد: ثنا إسماعيل: أبنا أيوب، عَن محمد بنِ سيرين، عَن أم عطية - مثله.

وظاهر هَذا السياق: يدل على أن رواية أيوب، عَن محمد مثل رواية قتادة، عَن أم الهذيل، وأن فيها هَذهِ اللفظة:((بعد الطهر)) .

معَ أن شعبة كانَ يقول: ((مثله)) ليسَ بحديث، يشير إلى أنَّهُ قَد يقع التساهل في لفظه.

وخالفه سفيان، فقالَ: هوَ حديث.

وخرج الدارقطني مِن رواية هشام بنِ حسان، عَن حفصة، عَن أم عطية، قالت: كنا لا نرى الترية بعد الطهر شيئاً - وهي الصفرة والكدرة.

وروى وكيع، عَن أبي بكر الهذلي، عَن معاذة، عَن عائشة، قالت: ما كنا نعد الكدرة والصفرة شيئاً.

وأبو بكر الهذلي، ضعيف.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه مِن رواية أبي سلمة، أن أم بكر

أخبرته، عَن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهر:((إنما هوَ عرق - أو عروق)) .

وأم بكر - ويقال: أم أبي بكر -، لَم يرو عنها غير هَذا الحديث، وليست بمشهورة.

وقد بوب البخاري على حديث أم عطية: ((الصفرة والكدرة في غير

ص: 156

أيام

الحيض)) ، ولم يخرج الحديث بزيادة:((بعد الطهر)) كَما خرجه أبو داود.

ولم يتفرد بهِ حماد بنِ سلمة، عَن قتادة، بل قَد رواه حرب في ((مسائله)) ، عَن الإمام أحمد، عَن غندر، عَن شعبة، عَن قتادة - بمثله.

وقد روي حديث أم عطية بلفظ آخر، وَهوَ:((كنا لا نعتد بالكدرة والصفرة بعد الغسل شيئاً)) .

خرجه الدارمي في ((مسنده)) .

وقد سبق ذكر الصفرة والكدرة في ((باب: إقبال المحيض وإدباره)) ، وأن الصفرة والكدرة لهما ثلاثة أحوال:

حال: تكون في مدة عادة المعتادة، فتكون حيضاً عند جمهور العلماء، سواء سبقها دم أم لا.

وحال: تكون بعد انقضاء العادة، فإن اتصلت بالعادة ولم يفصل بينهما طهر، وكانت في مدة أيام الحيض - أعني: الأيام التي يحكم بأنها حيض، وهي: الخمسة عشر، أو السبعة عشر، أو العشرة عند قوم -، فهل تكون حيضاً بمجرد اتصالها بالعادة، أم لا تكون حيضاً حتى تتكرر ثلاثاً أو مرتين، أم لا تكون حيضاً وإن تكررت؟ فيهِ ثلاثة أقوال للعلماء:

الأول: ظاهر مذهب مالك والشافعي. والثاني: رواية عَن أحمد.

ص: 157

والثالث: قول أبي حنيفة والثوري، وأحمد في رواية.

وإن انقطع الدم عند تمام العادة، ثُمَّ رأت بعده صفرة أو كدرة في مدة الحيض، فالصحيح عند أصحابنا: أنَّهُ لا يكون حيضاً، وإن تكرر.

وقد قالَ أكثر السلف: إنها إذا رأت صفرة أو كدرة بعد الغسل أو بعد الطهر فإنها تصلي، وممن روي ذَلِكَ عَنهُ: عائشة، وسعيد بنِ المسيب، وعطاء، والحسن، وإبراهيم النخعي، ومحمد ابن الحنيفة وغيرهم.

وحديث أم عطية يدل على ذَلِكَ.

وحال: ترى الصفرة والكدرة بعد أكثر الحيض، فهذا لا إشكال في أنَّهُ ليسَ بحيض.

ص: 158

‌26 - باب

عرقِ الاستحاضةِ

خرج فيهِ:

ص: 159

327 -

حديث: ابن أبي ذئب، عَن ابن شهاب، عَن عروة - وعن عمرة -، عَن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن أم حبيبة استحيضت سبع سنينَ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عَن ذَلِكَ، فأمرها أن تغتسل، فقالَ:((هَذا عرق)) ، فكانت تغتسل لكل صلاة.

هَذا الحديث اختلف في إسناده على الزهري: فروي عَنهُ عن عروة، عن عائشة. وروي عنه، عن عمرة، عن عائشة. وروي عنه، عن عروة وعمرة، عَن عائشة كَما في هَذهِ الرواية، ورواية الزهري لَهُ عنهما صحيح -: قاله الدارقطني.

واختلف - أيضاً - في اسم المستحاضة:

فقالَ الأكثرون في روايتهم: أم حبيبة، ومنهم مِن قالَ: أم حبيبة بنت جحش.

ص: 159

وقد خرجه مسلم مِن طرق، عَن الزهري كذلك.

وفي رواية لَهُ: عَن عمرو بنِ الحارث، عَن الزهري، عَن عروة وعمرة، عَن عائشة، أن أم حبيبة بنت جحش ختنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحت عبد الرحمن بن عوف استحيضت سبع سنينَ - وذكر الحديث.

ولمسلم - أيضاً - مِن حديث عراك بنِ مالك، عَن عروة، عَن عائشة، أن أم حبيبة بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بنِ عوف شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم الدم، فقالَ لها:((امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثُمَّ اغتسلي)) ، فكانت تغتسل عند كل صلاة.

ورواه أبو داود الطيالسي عَن ابن أبي ذئب، عَن الزهري، وقال في حديثه: إن زينب بنت جحش استحيضت.

ووهم في قولُهُ: ((زينب)) -: ذكر ذَلِكَ الدراقطني في ((علله)) .

وذكر أبو داود في ((سننه)) أن أبا الوليد الطيالسي رواه، عَن سليمان بنِ

كثير، عَن الزهري، عَن عروة، عَن عائشة: استحيضت زينب بنت جحش - فذكره.

وكذلك خرجه مسلم مِن رواية ابن عيينة، عَن الزهري، عَن عمرة، عَن

عائشة، أن زينب بنت جحش كانت تستحاض سبع سنينَ -

ص: 160

فذكره.

وقد رواه مالك في ((الموطإ)) عَن هشام بنِ عروة، عَن أبيه، عَن زينب بنت أبي سلمة، أنها رأت زينب بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بنِ عوف، وكانت تستحاض، وكانت تغتسل وتصلي.

ولم يرفع هشام شيئاً مِن الحديث.

وذكر ابن عبد البر: أن مالكاً وهم في قولُهُ: ((زينب)) ، وإنما هي: أم حبيبة.

وقد رواه الليث بنِ سعد، عَن هشام، فقالَ فيهِ: إن أم حبيبة بنت جحش.

وكذلك رواه يحيى بنِ سعيد، عَن عروة وعمرة، عَن زينب بنت أبي سلمة، أن أم حبيبة - وذكر الحديث.

وروى ابن عيينة، عَن الزهري، عَن عمرة، عَن عائشة، أن حبيبة بنت جحش استحيضت - فذكره.

وقال: كذا حفظت أنا في الحديث: والناس يقولون: أم حبيبة.

خرجه حرب الكرماني في ((مسائله)) عَن الحميدي، عَنهُ.

وقد روي عبد الله بنِ محمد بنِ عقيل، عَن إبراهيم بنِ محمد بنِ طلحة، عَن عمه عمران بنِ طلحة، عَن أمة حمنة بنت جحش، قالت: كنت استحاض حيضة [كبيرة] شديدة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستفتيه، فوجدته في بيت أخي زينب - وذكرت حديثاً طويلاً.

خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي.

وقال:

ص: 161

حسن صحيح.

وحكى عَن البخاري أنه حسنه، وعن الإمام أحمد أنه قالَ: هوَ حسن صحيح.

وقد اختلف قول الإمام أحمد فيهِ، فقيل عَنهُ أكثر أصحابه أنَّهُ ضعفه، وقيل: إنه رجع إلى تقويته والأخذ بهِ -: قاله أبو بكر الخلال.

وقد رواه جماعة عَن ابن عقيل كَما ذكرناه، وخالفهم ابن جريجٍ، فرواه عَنهُ، وقال فيهِ: عَن حبيبة بنت جحش.

ذكره الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله وقال: خالف الناس - يشير إلى أنها

حمنة، ليست حبيبة.

وقد خرجه ابن ماجه مِن طريق ابن جريج، عَن ابن عقيل، إلا أن في روايته:

((عَن أم حبيبة بنت جحش)) .

وحاصل الأمر: أن بنات جحش ثلاث:

زينب بنت جحش أم المؤمنين، كانت زوج زيد بنِ حارثة، فطلقها فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي ذكرها الله سبحانه في سورة الأحزاب.

وحمنة بنت جحش، هي التي خاضت في الإفك، وكانت تحت طلحة بنِ

عبيد الله.

وأم حبيبة، وكانت تحت عبد الرحمن بنِ عوف، ويقال فيها - أيضاً -: أم حبيب -: قاله الإمام أحمد

ص: 162

في رواية ابنه صالح، وأكثر الناس يسميها: أم حبيبة.

وقال طائفة مِن المحققين: إنما هي أم حبيب، واسمها حبيبة، ففي ((تاريخ)) المفضل الغلابي - والظاهر أنه عَن يحيى بنِ معين؛ لأنه في سياق كلام حكاه عَنهُ -، قالَ: المستحاضة حبيبة بنت جحش، وكانت تحت عبد الرحمن ابن عوف، وهي أخت حمنة.

[وكذا ذكر الزبير بنِ بكار في كِتابِ [.. ..]((الأنساب)) ، إلا أنه لَم يكنها، وكذا قالَ أبو بكر بنِ أبي داود] .

وحكى الدارقطني في ((علله)) عَن إبراهيم الحربي، أنه قالَ: الصحيح أن المستحاضة أم حبيب، واسمها حبيبة بنت جحش، وهي أخت حمنة، ومن قالَ فيهِ: أم حبيبة أو زينب فَقد وهم.

قالَ الدارقطني: وقول إبراهيم صحيح، وكان مِن أعلم الناس بهذا الشأن.

وقال ابن سعد في ((طبقاته)) : هي أم حبيب بنت جحش، واسمها: حبيبة. قالَ: وبعض أهل الحديث يقلب اسمها، فيقول: أم حبيبة.

وحكى

ص: 163

عَن الواقدي، أنه قالَ: بعضهم يغلط، فيروي أن المستحاضة حمنة بنت جحش، ويظن أن كنيتها أم حبيبة، والأمر على ما ذكرنا، هي أم حبيب حبيبة بنت جحش، وكانت تحت عبد الرحمن بنِ عوف، ولم تلد لَهُ شيئاً.

وحكى البيهقي في ((كِتابِ المعرفة)) ، عَن ابن المديني، أنه قالَ: أم حبيبة هي حمنة. وعن يحيى بنِ معين، أنها غيرها.

ثُمَّ قالَ البيهقي: حديث ابن عقيل يدل على أنها غيرها، كَما قالَ يحيى.

قلت: رواية ابن عقيل، عَن ابن إبراهيم بنِ محمد بنِ طلحة، عَن عمه عمران بن طلحة، عَن أمه حمنة صريح في أنها حمنة لا تحتمل غير ذَلِكَ؛ لأن حمنة هي زوج طلحة بنِ عبيد الله، وولدت لَهُ عمران، وَهوَ رواي هَذا الحديث عَن أمه، [وأما أختها حبيب فلم يكن لها ولد بالكلية -: قاله الزبير بنِ بكار وغيره] ، وحينئذ فيحتمل أن تكون حمنة استحيضت، وأختها حبيبة استحيضت - أيضاً.

وقد حكى ابن عبد البر هَذا قولاً، قالَ: وقيل: إنهن كلهن استحضن - يعني: زينب، وأم حبيب، وحمنة.

وعلى ما ذكره الأولون، فالمستحاضة هي أم حبيب حبيبة خاصة دونَ أختيها.

وذكر أبو الوليد بنِ الصفار الأندلسي - وكان مِن أعيان علماء الأندلس - في شرح ((الموطإ)) لَهُ: أن كلا مِن الأخوات الثلاث تسمى زينب، وأن حمنة لقب.

قالَ القرطبي: وإذا صح هَذا فَقد صح قول مِن سمى المستحاضة زينب.

ص: 164

قلت: وفي هَذا بعد، وَهوَ مخالف لقول الأئمة المعتبرين، كَما سبق. والله أعلم.

ووقع في متن حديث عائشة اختلاف ثالث، وَهوَ أهم مما قلبه، وذلك أنَّهُ اختلف في غسلها لكل صلاة، فَمِن الرواة: مِن ذكر أنها كانت تغتسل لكل صلاة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لَم يأمرهم بذلك. ومنهم: مِن ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بذلك.

فأما الذين لَم يرفعوه: فهم الثقات الحفاظ:

وقد خرجه البخاري هاهنا مِن حديث ابن أبي ذئب، مِن الزهري، وفي حديثه:((فكانت تغتسل لكل صلاة)) .

وخرجه مسلم مِن طريق الليث، عَن ابن شهاب، عَن عروة، عَن عائشة، وفي حديثه: قالَ الليث: لَم يذكر ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أم حبيبة بنت جحش أن تغتسل عند كل صلاة، ولكنه شيء فعلته هي.

وخرجه - أيضاً - مِن رواية عراك بنِ مالك، عَن عروة، عَن عائشة، وفي حديثه:((فكانت تغتسل عند كل صلاة)) .

وأما الذين رفعوه: فرواه ابن إسحاق، عَن الزهري، عَن عروة، عَن عائشة، أن أم حبيبة استحيضت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها بالغسل لكل صلاة.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود.

قالَ: ورواه أبو الوليد الطيالسي،

ص: 165

ولم أسمعه منهُ، عَن سليمان بنِ كثير، عَن الزهري، عَن عروة، عَن عائشة: استحيضت زينب بنت جحش، فقالَ لها النبي صلى الله عليه وسلم:((اغتسلي لكل صلاة)) .

وابن إسحاق وسليمان بنِ كثير، في روايتهما عَن الزهري اضطراب كثير، فلا يحكم بروايتهما عَنهُ معَ مخالفة حفاظ أصحابه.

وروى يزيد بنِ عبد الله بنِ الهاد، عَن أبي بكر - هوَ: ابن حزم -، عَن عمرة، عَن عائشة، أن أم حبيبة بنت جحش كانت تحت عبد الرحمن بنِ عوف، وأنها استحيضت فلا تطهر، فذكر شأنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالَ:((ليست بالحيضة، ولكنها ركضة مِن الرحم، فلتنظر قدر قرئها التي كانت تحيض لَهُ، فلتترك الصلاة، ثُمَّ لتنظر ما بعد ذَلِكَ فلتغتسل [عند] كل صلاة، ولتصل)) .

خرجه الإمام أحمد والنسائي.

وَهوَ مخالف لرواية الزهري، عَن عمرة، كَما سبق، ورواية الزهري أصح.

وقال الإمام أحمد: كل مِن روى عَن عائشة: الأقراء الحيض، فَقد أخطأ. قالَ: وعائشة تقول: الأقراء الأطهار.

وكذا قالَ الشَافِعي في

ص: 166

رواية الربيع، وأشار إلى أن رواية الزهري أصح مِن هَذهِ الرواية.

وحكى الحاكم عَن بعض مشايخه: أن حديث ابن الهاد غير محفوظ.

وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم حبيبة بالغسل لكل صلاة -: يحيى بنِ أبي كثير، عَن أبي سلمة، عَن زينب بنت أبي سلمة.

خرجه أبو داود.

وقد اختلف في إسناده على يحيى، والصحيح: عَنهُ، عَن أبي سلمة - مرسلاً -: قاله أبو حاتم، معَ أن رواية زينب بنت أبي سلمة مرسلة - أيضاً -، وقيل: عَنهُ، عَن أبي سلمة، عَن أم حبيبة، ولا يصح.

ورواه الأوزاعي، عَن يحيى، عَن أبي سلمة مرسلاً، وجعل المستحاضة زينب بنت أبي سلمة، وَهوَ وهم فاحش؛ فإن زينب حينئذ كانت صغيرة.

وقد روي عَن طائفة مِن الصحابة والتابعين أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة، ومنهم مِن حمل ذَلِكَ على الوجوب.

وقد روي عَن ابن عباس أنه قالَ: لا أجد لها إلا ذَلِكَ.

ومنهم مِن حمله على الاستحباب، وقد حكي الوجوب رواية عَن أحمد، والمشهور عَنهُ الاستحباب كقول الأكثرين.

ص: 167

وقد تعلق بعضهم للوجوب بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل وتصلي، وهذا يعم كل صلاة؛ فإنه كالنهي أن تصلي حتى تغتسل، وقد فهمت المأمورة ذَلِكَ، فكانت تغتسل لكل صلاة، وهي أفهم لما أمرت بهِ.

ويجاب عَن ذَلِكَ، بأنَّهُ صلى الله عليه وسلم إنما أمرها أن تغتسل إذا ذهبت أيام حيضتها، فلا يدخل في ذَلِكَ غير الغسل عند فراغ حيضتها، وأما ما فعلته فَقد تكون فعلته احتياطاً وتبرعاً بذلك -: كذلك قاله الليث بنِ سعد وابن عيينة والشافعي وغيرهم مِن الأئمة.

ويدل على أن أمرها بالغسل لَم يعم كل صلاة: أن عائشة روت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل، وقالت عائشة:((فكانت تغتسل لكل صلاة)) ، فدل على أن عائشة فهمت مِن أمر النبي صلى الله عليه وسلم غير ما فعلته المستحاضة، وعائشة راوية الحديث، وهي أفقه وأفهم مِن غيرها مِن النساء.

وقد ذهب مالك والشافعي - في أشهر قوليه - في المتحيرة - وهي: المستحاضة التي نسيت وقتها وعددها ولا تمييز لها - أنها تغتسل لكل صلاة وتصلي أبداً.

واختلف أصحاب الشَافِعي: هل تقضي أم لا؟ على وجهين لَهُم، واختار ابن سريج مِنهُم: أنها تصلي كل يوم وليلة عشر صلوات بست اغتسالات وأربعة وضوآت، ليسقط الفرض عنها بيقين.

ص: 168

وفي هَذا حرج عظيم، وعسر شديد، والكتاب ناطق بانتفائه عَن هَذهِ الأمة، فكيف تكلف بهِ امرأة ضعيفة مبتلاة، معَ أن دين الله يسر - وليس بعسر.

وذهبت طائفة: إلى أن المستحاضة تغتسل كل يوم غسلاً واحد، وروي عَن أحمد ما يدل على وجوبه. وعند أحمد وإسحاق: لها أن تجمع بين الصلاتين بغسل

واحد، وفي ذَلِكَ أحاديث مرفوعة عَن النبي صلى الله عليه وسلم[مخرجة] في ((السنن)) .

وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((هَذا عرق)) ، وتبويب البخاري هاهنا على هَذهِ اللفظة، فَقد سبق الكلام على معناه مستوفى في ((باب: الاستحاضة)) .

وليس في حديث الزهري الذِي خرجه البخاري في هَذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المستحاضة أن تدع الصلاة أيام حيضها، كَما في حديث هشام بنِ عروة وعراك بنِ

مالك، عَن عروة، لكن في حديث هشام: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بنت أبي حبيش، وفي حديث عراك: أمر أم حبيبة بنت جحش.

وقد ذكر الأوزاعي، عَن الزهري في حديثه هَذا، أنه صلى الله عليه وسلم قالَ لأم حبيبة:((إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا أدبرت فاغتسلي وصلي)) ، وتفرد بذلك.

وكذلك روى ابن عيينة، عَن الزهري، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها، وَهوَ وهم منهُ - أيضاً -: قاله الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما ورواه محمد بنِ عمرو، عَن الزهري، وزاد

ص: 169

فيهِ: ((إذا كانَ دم الحيض، فإنه أسود يعرف)) ، وقيل: إنه وهم منهُ - أيضاً -، لكنه جعله عَن عروة، عَن فاطمة بنت أبي حبيش.

ورواه سهيل، عَن الزهري، عَن عروة، عَن أسماء بنت عميس، وزاد فيهِ هَذا المعنى - أيضاً.

وقد سبق ذكر ذَلِكَ في ((باب: الاستحاضة)) .

والمحفوظ عَن الزهري في هَذا الحديث: ما رواه عَنهُ أصحابه الحفاظ، وليس فيهِ شيء مِن ذَلِكَ. والله [سبحانه وتعالى] أعلم.

ص: 170

‌27 - باب

المرأةِ تحيضُ بعدَ الإفاضةِ

خرج فيهِ حديثين:

أحدهما:

ص: 171

328 -

مِن حديث: عمرة، عَن عائشة، أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صفية قَد حاضت، فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لعلها تحبسنا، ألم تكن طافت معكن؟)) قالوا: بلى. قالَ: ((فاخرجي)) .

والثاني:

ص: 171

329 -

مِن حديث: طاوس، عَن ابن عباس، قالَ: رخص للحائض أن تنفر إذا حاضت.

ص: 171

330 -

وكان ابن عمر يقول في أول أمره: إنها لا تنفر، ثُمَّ سمعته يقول: تنفر؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لهن.

ص: 171

قَد سبق أن الحائض ممنوعة مِن الطواف في حال حيضها، فإن حاضت قبل طواف الإفاضة فإنها لا تنفر حتى تطوف للإفاضة، وإن طافت طواف الإفاضة، ثُمَّ حاضت، فذهب جمهور أهل العلم إلى أنها تنفر، كَما دلت عليهِ هَذهِ الأحاديث الثلاثة - أعني: حديث عائشة، وابن عمر، وابن عباس.

وقد روي عَن عمر، وابنه عبد الله، وزيد بنِ ثابت، أنهم قالوا: لا تنفر حتى تطهر، وتطوف للوداع. ووافق جماعة مِن الأنصار زيد بنِ ثابت في قولُهُ هَذا، وتركوا قول ابن عباس.

فأما ابن عمر: فَقد صح عَنهُ برواية طاوس هَذهِ أنه رجع عَن ذَلِكَ.

وأما زيد: ففي ((صحيح مسلم)) عَن طاوس - أيضاً -، أنه قالَ: كنت معَ ابن عباس إذ قالَ زيد بنِ ثابت: أتفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون عهدها بالبيت؟ فقالَ لَهُ ابن عباس: إمَّا لا، فسل فلانة الأنصارية، هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: فرجع زيد إلى ابن عباس يضحك، وَهوَ يقول: ما أراك إلا قَد صدقت.

وأما عمر: فَقد روي - أيضاً - أنه رجع عما قاله في ذَلِكَ، فروى عبد الرزاق، أبنا محمد بنِ راشد، عَن سليمان بنِ موسى، عَن نافع، قالَ: رد عمر نساء مِن ثنية هرشي، وذلك أنهن أفضن يوم النحر، ثُمَّ

ص: 172

حضن فنفرن، فردهن حتى يطهرن ويطفن بالبيت، قالَ: ثُمَّ بلغ عمر بعد ذَلِكَ حديث [غير] ما صنع، فترك عمر صنيعه الأول.

قالَ: وأبنا محمد بنِ راشد: أخبرني عبدة بنِ أبي لبابة، عَن هشام بنِ يحيى المخزومي، أن رجلاً مِن ثقيف أتى عمر بنِ الخطاب، فسأله عَن امرأة زارت يوم

النحر، ثُمَّ حاضت؟ قالَ: فلا تنفر حتى تطهر، فيكون آخر عهدها بالبيت، فقالَ الرجل: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في مثل هَذهِ المرأة بغير ما أفتيت، فضربه عمر بالدرة، وقال: ولم تستفتني في شيء قَد أفتى فيهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ !

وخرج الإسماعيلي في ((مسند عمر)) مِن طريق هشام بنِ عمار: ثنا صدقة: ثنا الشعيثي، عَن زفر بنِ وثيمة، أن رجلاً مِن ثقيف أتى عمر، فقالَ: امرأة منا حاضت، وقد أفاضت يوم النحر؟ فقالَ: ليكن آخر عهدها بالبيت. فقالَ: إن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى امرأة منا أن تصدر، فحمل عمر عليهِ، فضربه، وقال: تستفتيني في شيء قَد أفتى فيهِ

رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ !

وقد روي على وجه آخر، خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من رواية الوليد بن عبد الرحمن، عن الحارث بن عبد الله بن أوس، قالَ: أتيت عمر بن الخطاب، فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر، ثم تحيض؟ فقالَ: ليكن آخر

ص: 173

عهدها

بالبيت. قالَ الحارث: كذلك أفتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالَ عمر: أربت عن يديك، سألتني عن شيء سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكيما أخالف.

والوليد هذا، ليس بالمشهور.

وخرجه الإمام أحمد والترمذي من طريق آخر، عن الحارث بن عبد الله بن

أوس، قالَ: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حج هذا البيت أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت)) . فقالَ لهُ عمر: خررت من يديك، سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تخبرنا به.

وفي إسناده: حجاج بن أرطاة، وقد اختلف عليهِ في إسناده.

وهذه الرواية تدل على أن الحارث بن أوس لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم في الحائض بخصوصها إذا كانت قد أفاضت: أنها تحتبس لطواف الوداع، إنما سمع لفظاً عاماً، وقد صح الإذن للحائض إذا كانت قد طافت للإفاضة أن تنفر، فيخص من ذَلِكَ العموم، وعلى هذا عمل العلماء كافة من الصحابة فمن بعدهم.

وقد روى عبد الرزاق، عن الثوري، عن أبي فروة، أنه سمع القاسم بن محمد يقول: رحم الله عمر، كل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قد أمروها

ص: 174

بالخروج. يقول: إذا كانت أفاضت.

وروى بإسناده عن سعد بن أبي وقاص، أنه ذكر لهُ قول عمر: لا تنفر حتى تطهر ليكون آخر عهدها بالبيت، فقالَ: ما يجعلها حراماً بعد إذ حلت، إذا كانت قد طافت يوم النحر فقد حلت، فلتنفر.

يشير سعد إلى أن من طاف طواف الإفاضة فقد حل الحل كله، فلا يكون محتبساً بعد حله، وإنما يبقى عليهِ بقايا من توابع المناسك، كالرمي والمبيت بمنى وطواف الوداع، فما أمكن الحائض فعله من ذَلِكَ كالرمي والمبيت فعلته، وما تعذر فعله عليها كالطواف سقط عنها، ولم يجز إلزامها بالاحتباس لهُ.

وكل من خالف في ذَلِكَ فإنما تمسك بعموم قد صح تخصيصه بنصوص صحيحة خاصة بالحائض، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحائض بخصوصها نهي أن تنفر.

وحديث الرجل الثقفي الذي حدث عمر بما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم قد روي على ثلاثة أوجه كما سبق، وأسانيده ليس بالقوية، فلا يكون معارضاً لأحاديث الرخصة للحائض في النفر؛ فإنها خاصة، وأسانيدها في غاية الصحة والثبوت.

ص: 175

‌28 - باب

إذا رأتِ المستحاضةُ الطهرَ

قالَ ابن عباس: تغتسل وتصلي، ولو ساعة، ويأتيها زوجها إذا صلت؛ الصلاة أعظم.

هذا الأثر، ذكره أبو داود تعليقاً، فقالَ: روى أنس بن سيرين، عن ابن عباس في المستحاضة، قالَ: إذا رأت الدم البحراني فلا تصلي، وإذا رأت الطهر ولو ساعة فلتغتسل وتصلي.

وقد ذكره الإمام أحمد واستحسنه، واستدل به وذهب إليه.

وقال في رواية الأثرم وغيره: ثنا إسماعيل - هوَ: ابن علية -: ثنا خالد الحذاء، عن أنس بن سيرين، قالَ: استحيضت امرأة من آل أنس، فأمروني، فسألت ابن عباس، فقالَ: أما ما رأت الدم البحراني فإنها لا تصلي، وإذا رأت الطهر ساعة فلتغتسل ولتصل.

قالَ أحمد: ما أحسنه.

والدم البحراني: قيل: هوَ الأحمر الذي يضرب إلى سواد.

وروي عن عائشة، أنها قالت: دم الحيض بحراني أسود.

خرجه البخاري في ((تاريخه)) .

ص: 176

وقيل: البحراني هوَ الغليط الواسع الذي يخرج من قعر الرحم، ونسب إلى البحر لكثرته وسعته.

وقول ابن عباس: ((إذا رأت الطهر ساعة من نهار فلتغتسل ولتصل)) ، محمول على غير المستحاضة؛ فإن المستحاضة تصلي إذا جاوزت أيام حيضها، سواء انقطع دمها أو لم ينقطع، وإذا اغتسلت عندَ انقضاء حيضها وصلت، ثم انقطع دمها بعد ذَلِكَ؛ فلا غسل عليها عندَ انقطاعه، وإنما يصح حمل هذا على الدم الجاري في أيام الحيض، وأنه إذا انقطع ساعة فهي طاهر تغتسل وتصلي، وسواء كانَ بعد تمام عادة الحيض أو قبل تمام العادة.

وقد ذهب الإمام أحمد إلى قول ابن عباس في هذا، واستدل به، وعليه أكثر أصحابنا. ومنهم من اشترط مع ذَلِكَ: أن ترى علامة الطهر مع ذَلِكَ، وهو القصة البيضاء، كما سبق ذكرها.

وعن أحمد: لا يكون الطهر في خلال دم الحيض أقل من يوم، وصحح ذَلِكَ بعض الأصحاب؛ فإن دم الحيض لا يستمر جريانه، بل ينقطع تارة ويجري تارة، فإذا كانَ مدة انقطاعه يوماً فأكثر فهوَ طهر صحيح، وإلا فلا.

وحكى الطحاوي الإجماع على أن انقطاع الدم ساعة ونحوها لا

ص: 177

عبرة به، وأنه كالدم المتصل، وليس كما ادعاه.

ومن العلماء: من ذهب إلى أن مدة النقاء في أثناء خلال الدم وإن طالت، إذا عاد الدم بعد ذَلِكَ في مدة الحيض يكون حيضاً، لا تصلي فيهِ ولا تصوم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والثوري، وأحد قولي الشافعي، وروي ابن منصور عن أحمد نحوه.

وتعرف المسألة بمسألة التلفيق، ولها فروع وتفاصيل كثيرة جداً.

وحينئذ؛ ففي تبويب البخاري: ((المستحاضة إذا رأت الطهر)) نظر، بل الأولى أن يقال:((الحائض إذا رأت الطهر ساعة)) .

وإنما اعتمد على لفظ الرواية عن ابن عباس، ولعل ابن عباس أراد أن المستحاضة إذا كانت مميزة جلست زمن دمها الأسود، فإذا انقطع الأسود ولو ساعة فإنه زمن طهرها، فتغتسل وتصلي حينئذ.

وقد حمله إسحاق بن راهويه على مثل هذا، فقالَ في رواية حرب - في استدلاله على اعتبار التمييز للمستحاضة بحديث:((إذا كانَ دم الحيض، فإنه أسود يعرف)) ، الحديث -، قالَ: وكذلك روي عن ابن عباس، أنه قالَ لامرأة مستحاضة: أما ما دامت ترى الدم البحراني فلتدع الصلاة، فإذا جاوزت ذَلِكَ اغتسلت وصلت.

وكذلك وقع في كلام الإمام أحمد في رواية الشالنجي حمل كلام

ص: 178

ابن عباس على مثل هذا، وهو يرجع إلى أن المستحاضة تعمل بالتمييز، فتجلس زمن الدم الأسود، فإذا انقطع عنها ورأت حمرةً أو صفرةً أو كدرةً فإن ذَلِكَ طهرها، فتغتسل حينئذ وتصلي. والله أعلم.

وأما ما ذكر البخاري، أنه يأتيها زوجها إذا صلت؛ الصلاة أعظم، فظاهر سياق حكايته يقتضي أن ذَلِكَ من تمام كلام ابن عباس، ولم نقف على إسناد ذَلِكَ عن ابن عباس، وليس هوَ من تمام رواية أنس بن سيرين في سؤاله لابن عباس عن المستحاضة من آل أنس.

وقد روي عن ابن عباس من وجه آخر الرخصة في وطء المستحاضة من رواية ابن المبارك، عن أجلح، عن عكرمة، عن ابن عباس، قالَ في المستحاضة: لا بأس أن يجامعها زوجها.

ويحتمل أن يكون البخاري ذكر هذا الكلام من عندَ نفسه بعد حكايته لما قبله عن ابن عباس.

وهذا الكلام إنما يعرف عن سعيد بن جبير:

روى وكيع، عن سفيان، عن سالم الأفطس، قالَ: سألت سعيد بن جبير عن المستحاضة يجامعها زوجها؟ قالَ: لا بأس به؛ الصلاة أعظم من الجماع.

ص: 179

وممن رخص في ذَلِكَ: ابن المسيب والحسن وعطاء وبكر المزني وعكرمة وقتادة ومكحول، وهو قول الأوزاعي والثوري والليث وأبي حنيفة ومالك والشافعي وإسحاق وأبي ثور، ورواية عن أحمد.

وقد تقدم أن أم حبيبة لما استحيضت كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وحمنة كانت تحت طلحة، وقد سألتا النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم الاستحاضة فلم يذكر لهما تحريم الجماع، ولو كانَ حراماً لبينه.

وفي ((سنن أبي داود)) عن عكرمة، عن حمنة بنت جحش، أنها كانت تستحاض وكان زوجها يجامعها. قالَ: وكانت أم حبيبة تستحاض وكان زوجها يغشاها؛ ولأن لها حكم الطاهرات في الصلاة والصوم وسائر العبادات، فكذلك في الوطء.

وقالت طائفة: لا توطأ المستحاضة، وروي ذَلِكَ عن عائشة، من رواية سفيان، عن غيلان - هوَ: ابن جامع -، عن عبد الملك بن مسيرة، عن الشعبي، عن قمير - امرأة مسروق -، عن عائشة، أنها كرهت أن يجامعها زوجها.

ص: 180

خرجه وكيع في ((كتابه)) ، عن سفيان، به.

ورواه [شعبة] ، عن عبد الملك بن ميسرة، عن الشعبي، واختلف عليهِ فيهِ، فوقفه بعض أصحاب شعبة، عنه على الشعبي، وأسنده بعضهم عنه إلى عائشة كما رواه غيلان -: ذكر ذَلِكَ الإمام أحمد، ولم يجعل ذَلِكَ علة في وصله إلى عائشة، كما فعل البيهقي وغيره.

وممن نهى عن وطء المستحاضة: ابن سيرين، والشعبي، والنخعي، والحكم، وسليمان بن يسار، ومنصور، والزهري، وروي - أيضاً -

ص: 181

عن الحسن، وهو المشهور عن الإمام أحمد، إلا أنه رخص فيهِ إذا خشي الزوج على نفسه العنت.

وبدون خوف العنت، فهل النهي عنه للتحريم أو للكراهة؟ حكى أصحابنا فيهِ روايتين عن أحمد، ونقل ابن منصور وصالح عنه: لا يأتيها زوجها، إلا أن يطول.

ولعله أراد أنه إذا طالت مدة الاستحاضة شق على الزوج حينئذ ترك الوطء، فيصير وطؤه من خوف العنت؛ فإن العنت يفسر بالمشقة والشدة.

وقد قالَ أحمد في رواية حرب: المستحاضة لا يغشاها زوجها إلا أن لا يصبر. وقال في رواية علي بن سعيد: لا يأتيها زوجها إلا أن يغلب ويجيء أمر شديد،

لا يصبر.

وقال أبو حفص البرمكي: معنى قول أحمد: ((لا يأتيها زوجها إلا أن يطول)) ، ليس مراده أنه يباح إذا طال ويمنع منه إذا قصر، ولكن أراد: إذا طال علمت أيام حيضها من استحاضتها يقيناً، وهذا لا تعلمه إذا قصر ذَلِكَ.

وكذلك روى حرب عن إسحاق بن راهويه، قالَ: الذي نختار في غشيان المستحاضة: إذا عرفت أيام أقرائها ثم استحيضت

ص: 182

ولم يختلط عليها حيضها، أن يجامعها زوجها، وتصلي وتصوم، وإذا اختلط عليها دم حيضها من استحاضتها، فأخذت بالاحتياط في الصلاة بقول العلماء، وتحرت أوقات [حيضها] من استحاضتها ولم تستيقن بذلك أن لا يغشاها زوجها حتى تكون على يقين من استحاضتها.

فهذا قول ثالث في وطء المستحاضة، وهو: إن تيقنت استحاضتها بتميزها من حيضها جاز وطؤها فيها، وإن لم تكن على يقين من ذَلِكَ لم توطأ؛ لاحتمال وطئها في حال حيضها.

ومذهب الشافعي وأصحابه: أن المتحيرة الناسية لعادتها ولا تميز لها تغتسل لكل صلاة، وتصلي أبداً، ولا يأتيها زوجها؛ لاحتمال مصادفته الحيض.

ونقض أصحابنا ذَلِكَ عليهم في المعتادة، والمبتدأة بعد الشهر الأول؛ فإن زيادة الحيض ونقصه، وتقدمه وتأخره ممكن - أيضاً.

واستدل من نهى عن وطء المستحاضة مطلقاً بقول الله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] ودم الاستحاضة أذى؛ ولهذا حرم الوطء في الدبر؛ لأنه محل الأذى.

وروى حرب بإسناد جيد، عن مرثد بن عبد الله اليزني، قالَ: سمعت عقبة بن عامر يقول: والله، لا أجامع امرأتي في اليوم الذي تطهر فيهِ حتى يصير لها يوم.

وهذا محمول على التنزه والاحتياط خشية عود دم الحيض. والله أعلم.

ص: 183

واختلفوا في الحائض المعتادة: إذا طهرت لدون عادتها: هل يكره وطؤها أم لا؟ على قولين:

أحدهما: يكره، وهو قول أبي حنيفة، والأوزاعي، وأحمد في رواية،

وإسحاق؛ لأن عود الدم لا يؤمن.

والثاني: لا يكره، وهو قول الشافعي، ورواية عن أحمد.

ثم خرج البخاري في هذا الباب:

ص: 184

331 -

حديث: هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قالَ النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي)) .

وقد سبق هذا الحديث والكلام عليهِ.

وإنما خرجه هاهنا؛ لأنه يرى أن إقبال الحيض وإدباره المراد به التميز، فإقبال الحيضة: إقبال الدم الأسود. وإدباره: انفصال الأسود وانتقاله إلى غيره، فيكون ذَلِكَ موافقاً لما أفتى به ابن عباس، على ما حمل كلامه عليهِ أحمد وإسحاق، كما سبق. والله أعلم.

ص: 184

‌29 - باب

الصلاةِ على النفساءِ وسنتها

خرج فيهِ:

ص: 185

332 -

من حديث: شعبة، عن حسين المعلم، عن ابن بريدة، عن سمرة ابن جندب، أن امرأة ماتت في بطن، فصلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم فقام وسطها.

لم يخرج البخاري في أحكام النفساء سوى هذا الحديث، كأنه لم يصح عنده في أحكام النفاس حديث على شرطه.

وليس في هذا الحديث سوى الصلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها.

وقد اعترض الإسماعيلي على البخاري في ذَلِكَ، وقال: ليس في الحديث إلا أنها ماتت في بطن، والمراد: أنها ماتت مبطونة، فلا مدخل للحديث في النفاس بالكلية.

وهذا الذي قاله غير صحيح؛ فإنه قد خرجه البخاري في ((الجنائز)) ، ولفظه:((صلى على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها)) .

وخرجه مسلم

ص: 185

كذلك - أيضاً.

ويؤخذ من هذا الحديث: أن [دم] النفاس وإن كانَ يمنع النفساء، من الصلاة فلا يمنع من الصلاة عليها إذا ماتت فيهِ، وكذلك دم الحيض، فإنه يصلى على الحائض والنفساء إذا ماتتا في دمهما، كما يصلى على الجنب إذا مات، وكل منهم يغسل ويصلى عليهِ، إلا أن يكون شهيداً في معركة.

فإن استشهد في معركة وكان عليهِ غسل جنابة أو حيض أو نفاس، فهل يغسل أم لا؟ فيهِ روايتان عن أحمد، أشهرهما: أنه يغسل.

وعلى هذا: فلو استشهدت من هي حائض أو نفساء في دمها قبل انقطاعه، ففي غسلها وجهان، بناهما الأصحاب على أن الموجب لغسل الحيض والنفاس: هل هوَ خروج الدم، أو انقطاعه؟

ولو خرج البخاري هاهنا حديث: أمر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس لما نفست بمحمد بن أبي بكر بالشجرة أن تغتسل وتهل، لكان حسناً؛ فإنه يدل على أن حكم النفاس حكم الحيض في الإهلال بالحج.

وقد خرجه مسلم من حديث جابر وعائشة، إلا أن حديث جابر

ص: 186

ليس هوَ على شرط البخاري.

ودم النفاس حكمه حكم دم الحيض فيما يحرمه ويسقطه، وقد حكى الإجماع على ذَلِكَ غير واحد من العلماء، منهم: ابن جرير وغيره.

واختلف العلماء في أقل النفاس وأكثره:

أما أقله:

فأكثرهم على أنه لا حد لهُ، وأنها لو ولدت ورأت قطرة من دم كانت نفاساً، وهو قول عطاء، والشعبي، والثوري، ومالك، والشافعي، وأحمد في ظاهر مذهبه، وإسحاق، وأبي ثور، ومحمد بن الحسن وغيرهم، وهو الصحيح عن أبي حنيفة وأبي يوسف.

وعن أبي حنيفة رواية: أقله خمسة وعشرون يوماً. وعن أبي يوسف، أقله أحد عشر يوماً. وعن الثوري رواية: أقله ثلاثة أيام، كالحيض عنده، وحكي عن أحمد رواية كذلك: أن أقله ثلاثة أيام، وحكي عنه رواية: أن أقله يوم. وعن المزني: أقله اربعة أيام. وعن الحسن: أقله عشرون يوماً.

وأما أكثره:

فأكثر العلماء على أن أكثره أربعون يوماً، وحكاه بعضهم إجماعاً من الصحابة.

قالَ إسحاق: هوَ السنة المجمع عليها. قالَ: ولا يصح في مذهب من جعله إلى شهرين سنة، إلا عن بعض التابعين.

قالَ الطحاوي: لم يقل بالستين أحد من الصحابة، إنما قاله بعض من

ص: 187

بعدهم.

وكذا ذكر ابن عبد البر وغير واحد.

وممن روي عنه توقيته بالأربعين من الصحابة: عمر، وعلي، وابن عباس، وأنس، وعثمان بن أبي العاص، وعائذ بن عمرو، وأم سلمة.

وممن ذهب إلى هذا: الثوري، وابن المبارك، والليث، والأوزاعي في رواية، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، والمزني، وحكاه الإمام أحمد عن أهل الحديث، وحكاه الترمذي عن الشافعي، وهو غريب عنه.

وحكى الترمذي عن الحسن: أن أكثره خمسون يوماً. وعن عطاء والشعبي: أكثره ستون يوماً.

وقد اختلف فيهِ عن عطاء والحسن، وروي عنهما: أكثره أربعون يوماً.

ص: 188

وممن قالَ بالستين: الشعبي، والعنبري، ومالك، والشافعي، وأبو ثور، وحكي رواية عن أحمد.

وحكى الليث عن بعض العلماء: أن أكثره سبعون يوماً.

وقيل: لا حد لأكثره، وإنما يرجع إلى عادات النساء، وحكي عن الأوزاعي، وهو رواية عن مالك، ونقل ابن القاسم أن مالكاً رجع إلى ذَلِكَ.

وحكي عن ربيعة: أكثره ثلاثة أشهر.

وقيل: أكثره من الغلام ثلاثون يوماً، ومن الجارية أربعون يوماً -: قاله مكحول، وسعيد بن عبد العزيز، وحكاه الأوزاعي عن أهل دمشق.

وقيل: أكثره من الغلام خمسة وثلاثون يوماً، ومن الجارية أربعون -: رواه الخشني عن الأوزاعي.

وحكي عن الضحاك: أكثره أربع عشرة ليلة.

ص: 189

وفي الباب أحاديث مرفوعة فيها ضعف.

ومن أجودها: ما خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث مسة الأزدية، عن أم سلمة، قالت: كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً.

وخرجه أبو داود بلفظ آخر، وهو:((كانت المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقعد في النفاس أربعين ليلة، لا يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء صلاة النفاس)) .

وصححه الحاكم، وفي متنه نكارة؛ فإن نساء النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يلد منهن

ص: 190

أحد بعد فرض الصَّلاة؛ فإن خديجة عليها السلام ماتت قبل أن تفرض الصلاة.

ومتى انقطع الدم قبل بلوغ أكثره فهي طاهرة، تصوم وتصلي.

وهل يكره وطؤها، أم لا؟ فيهِ قولان:

أحدهما: أنه يكره، وهو مروي عن طائفة من الصحابة، وأن النفساء لا توطأ إلا بعد الأربعين، وإن انقطع دمها قبل ذَلِكَ، منهم: علي، وابن عباس، وعثمان بن أبي العاص، وعائذ بن عمرو، وأم سلمة، وهو ظاهر مذهب أحمد، وروي - أيضاً - عن مالك، وسعيد بن عبد العزيز.

وحكي عن أحمد تحريمه.

وقال آخرون: لا يكره ذَلِكَ، وهو قول الأوزاعي، والشافعي، وحكي رواية عن أحمد.

وعن أبي حنيفة: لا يكره، إلا أن ينقطع دمها لدون عادتها، فلا توطأ حتى تذهب أيام عادتها.

وقال إسحاق: يكره احتياطا، إلا أن ينقطع لعادة كانت لها فلا يكره؛ لأن احتمال عوده حينئذ بعيد جداً، فهي كحائض انقطع دمها لعادتها لدون أكثر الحيض.

ص: 191

30 -

باب

خرج فيهِ:

ص: 192

333 -

من حديث: سليمان الشيباني، عن عبد الله بن شداد، قالَ: سمعت خالتي ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها كانت تكون حائضاً لا تصلي، وهي مفترشة بحذاء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي على خمرتة، إذا سجد أصابني بعض ثوبه.

في هذا الحديث دلالة على طهارة ثياب الحائض التي تلبسها في حال حيضها، وأن المصلي إذا أصابه شيء من ثيابها في

ص: 192

تلك الحال لم تفسد صلاته. وقد سبق هذا المعنى مستوفى في ((باب: هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيهِ؟)) .

والظاهر: أن مراد ميمونة في هذا الحديث مسجد بيت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم الذي كانَ يصلي فيهِ من بيته؛ لأن ميمونة لا تفترش إلا بحذاء هذا المسجد، ولم ترد - والله أعلم - مسجد المدينة.

وتأتي باقي فوائد الحديث في ((كتاب الصلاة)) - إن شاء الله سبحانه وتعالى.

وقد خرج الإمام أحمد والنسائي من حديث منبوذ، عن أمه، عن ميمونة، قالت: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع رأسه في حجر إحدانا يتلو القرآن، وهي حائض، وتقوم إحدانا بخمرته، إلى المسجد فتبسطها وهي حائض.

والظاهر: حمله - أيضاً - على مسجد البيت.

ويشهد لهُ: أن الإمام أحمد خرجه بلفظ آخر، عن ميمونة، قالت: كانت إحدانا تقوم وهي حائض فتبسط لهُ خمرةً في مصلاه، فيصلي عليها في بيتي.

وكذلك: ما خرجه مسلم من حديث عائشة، قالت: قالَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ص: 193

((ناوليني الخمرة من المسجد)) . قلت: إني حائض؟ قالَ: ((إن حيضتك ليست في يدك)) .

ومساجد البيوت لا يثبت لها أحكام المساجد عندَ جمهور العلماء، فلا يمنع الجنب والحائض منها، خلافاً لإسحاق في ذَلِكَ.

ومن حمل حديث ميمونة وعائشة على مسجد المدينة، استدل بحديثهما: على أن الحائض لها أن تمر في المسجد لحاجة إذا أمنت تلويثه. وحكي ذَلِكَ عن طائفة من السلف، منهم: ابن المسيب، وعطاء، والحسن، وسعيد بن جبير، وزيد بن أسلم، وعمرو بن دينار، وقتادة، وهو قول الشافعي وأحمد.

واختلف أصحابنا: هل يباح لها الدخول لأخذ شيء ووضعه، أم لا يباح إلا للأخذ خاصة؟ على وجهين.

ونص أحمد: على أنه لا يباح إلا للأخذ خاصة في رواية حنبل.

وقال إسحاق: هما سواء.

وحديث ميمونة فيهِ الدخول لبسط الخمرة، وهو دخول لوضع.

وكل من منع الجنب من المرور في المسجد لغير ضرورة منع منه الحائض،

وأولى، وهو قول الثوري، وأبي حنيفة، ومالك، وإسحاق.

ومنهم: من أباحه للجنب دون الحائض، كالأوزاعي، ومالك في رواية؛ لأن حدث الحيض أفحش من الجنابة وأغلظ، وحكى ابن عقيل وجهاً لأصحابنا بمثل ذَلِكَ. والله سبحانه وتعالى أعلم.

* * *

ص: 194

بسم الله الرحمن الرحيم

‌كتاب التيمم

1 -

باب

قول الله عز وجل: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة:6]

خرج فيه حديثين:

الحديث الأول:

قال:

ص: 195

334 -

ثنا عبدا لله بن يوسف: أبنا مالك، عن عبد الرحمان بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض إسفاره حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش - أنقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر، فقالوا: إلا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا عَلَى ماء، وليس معهم ماء. فجاء أبو بَكْر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه عَلَى فخذي قَدْ نام، فَقَالَ:

ص: 195

حبست رَسُول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا عَلَى ماء، وليس مَعَهُ ماء قَالَتْ عَائِشَة: فعاتبني أبو بَكْر، وَقَالَ مَا شاء الله أن يَقُول، وجعل يطعنني بيده فِي خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان

رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى فخذي، فنام حَتَّى أصبح عَلَى غير ماء، فانزل الله آية التيمم، فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير: ماهي بأول بركتكم ياال أبي بكر، قالت فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا العقد تحته.

قيل: إن الرواية هنا: ((فقام حتّى أصبح)) . ورواه في التفسير بلفظ: ((فنام حتّى أصبح)) وهو لفظ مسلم، وكذا في ((الموطأ)) .

هذا السياق سياق عبد الرحمان بن القاسم لهذا الحديث عن أبيه، عن عائشة. وقد رواه هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة فخالف في بعض ألفاظه ومعانيه مما لا

يضر.

ص: 196

وقد خرجه البخاري في موضع أخر وفي بعض ألفاظه اختلاف على عروة –

أيضا.

ومما خالف فيه: أنه ذكر أن عائشة استعارت قلادة من أسماء فسقطت، وان النبي صلى الله عليه وسلم أرسل رجلين في طلبها وليس معهما ماء فنزلت أية التيمم.

وفي رواية: أنهما صليا بغير وضوء.

وهذا يمكن الجميع بينه وبين حديث القاسم، عن عائشة بان القلادة لما سقطت ظنوا أنها سقطت في المنزل الماضي، فأرسلوا في طلبها وأقاموا في منزلهم وباتوا فيه، وفقد الجميع الماء حتى تعذر عليهم الوضوء.

وفي حديث هشام: أن ذلك كان ليلة الابواء. وفي رواية عنه: أن ذلك المكان كان يقال له: الصلصل.

وروى ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة، قالت: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بتربان - بلد بينه وبين المدينة بريد وأميال، وهو بلد لا ماء به - وذلك من السحر، انسلت قلادة لي من عنقي فوقعت - وذكر بقية الحديث. خرجه الأمام أحمد.

وقد روي هذا الحديث من حديث عمار بن ياسر –أيضا - أن النبي صلى الله عليه وسلم عرس بأولات الجيش ومعه عائشة، فانقطع عقد لها من جزع ظفار، فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر، وليس مع الناس ماء، فتغيظ عليها أبو بكر، وقال: حبست الناس وليس معهم ماء، فأنزل الله على

ص: 197

رسوله صلى الله عليه وسلم رخصة التطهر بالصعيد الطيب، فتيمم المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث.

خرجه الإمام أحمد أبو داود - وهذه لفظه - والنسائي وابن ماجه، وفي إسناده اختلاف.

والآية التي نزلت بسبب هذه القصة كانت أية المائدة؛ فإن البخاري خرج هَذَا الحَدِيْث فِي التفسير من ((كتابه)) هَذَا من حَدِيْث ابن وهب، عَن عَمْرِو، عَن عَبْد الرحمان بْن الْقَاسِم، وَقَالَ فِي حديثه: فَنَزَلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} هذه الآية [المائدة:6] .

وهذا السفر الذي سقط فيه قلادة عائشة أو عقدها كان لغزوة المريسيع إلى بني المصطلق من خزاعة سنة ست، وقيل: سنة خمس، وهو الذي ذكره أبن سعد عن جماعة من العلماء، قالوا: وفي هذه الغزوة كان حديث الإفك.

وقد ذكر الشافعي: أن قصة التيمم كانت في غزوة بني المصطلق، وقال: أخبرني بذلك عدد من قريش من أهل العلم بالمغازي وغيرهم.

فإن قيل: فقد ذكر غير واحد، منهم: ابن عبد البر: أنه يحتمل أن يكون الذي نزل بسبب قصة عائشة الآية التي في سورة النساء؛ فإنها نزلت قبل سورة المائدة بيقين، وسورة المائدة من أواخر ما نزل من القران، حتى قيل:

ص: 198

إنها نزلت كلها أو غالبها في حجة الوداع، وأية النساء نزولها متقدم.

وفي صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص أنها نزلت فيه لما ضربه رجل قد سكر بلحي بعير، ففزر أنفه.

وفي ((سنن أبي داود)) والنسائي وأبن ماجه، عن علي، أن رجلا صلى وقد شرب الخمر، فخلط في قراءته، فنزلت أية النساء.

فقد تبين بهذا: أن الآية التي في سورة النساء نزلت قبل تحريم الخمر، والخمر حرمت بعد غزوة أحد، ويقال: إنها حرمت في محاصرة بني النضير بعد أحد بيسير وآية النساء فيها ذكر التيمم، فلو كانت قد نزلت قبل قصة عائشة لما توقفوا حينئذ في التيمم، ولا انتظروا نزول آية أخرى فيه.

قيل: هذا لا يصح؛ لوجوه:

أحدها: سبب نزول آية النساء قد صح أنه كان ما ينشأ من شرب الخمر من المفاسد في الصلاة وغيرها، وهذا غير السبب الذي أتففت الروايات عليه في قصة عائشة، فدلّ على أن قصة عائشة نزل بسببها آية غير آية النساء، وليس سوى آية المائدة.

والثاني: أن آية النساء لم تحرم الخمر مطلقاً بل عند حضور الصلاة، وهذا كان قبل أحد، وقصة عائشة كانت بعد غزوة أحد بغير

ص: 199

بخلاف، وليس في قصتها ما يناسب النهي عن قربان الصلاة مع السكر حتى تصدر به الآية.

وأما تصدير الآية بذكر الوضوء فلم يكن لأصل مشروعيته؛ فإن الوضوء كان شرع قبل ذَلكَ بكثير، كما سبق تقريره في أول (كتاب الضوء) ، وإنما كان تمهيداً للانتقال عنه إلى التيمم عند العجز عنه، ولهذا قالت عائشة: فنزلت آية التيمم، ولم تقل: آية الوضوء.

والثالث: أنه قد ورد التصريح بذلك في ((صحيح البخاري)) كما ذكرناه.

وأما توقفهم في التيمم حتى نزلت أية المائدة مع سبق نزول التيمم في سورة النساء، فالظاهر - والله أعلم – أنهم توقفوا في جواز التيمم في مثل هذه الواقعة، لان فقدهم للماء أنما كان بسبب إقامتهم لطلب عقد أو قلادة، وإرسالهم في طلبها من لا ماء معه مع أمكان سيرهم جميعا إلى مكان فيه ماء، فاعتقدوا أن في ذلك تقصيرا في طلب الماء، فلا يباح معه التيمم، فنزلت أية المائدة مبينة جواز التيمم في مثل هذه الحال، وأن هذه الصورة داخلة في عموم أية النساء.

ولا يستبعد هذا، فقد كان طائفة من الصحابة يعتقدون أنه لا يجوز استباحة رخص السفر من الفطر والقصر إلا في سفر طاعة دون الإسفار المباحة، ومنهم من خص ذلك بالسفر الواجب كالحج والجهاد، فلذلك توقفوا في جواز التيمم للاحتباس عن الماء لطلب شيء من الدنيا حتى بين لهم جوازه ودخوله

ص: 200

في عموم قوله، ويدل ذلك على جواز التيمم في سفر التجارة وما أشبهه من الإسفار المباحة، وهذا مما يستأنس به من يقول: أن الرخص لا تستباح في سفر المعصية.

وأما دعوى نزول سورة المائدة كلها في حجة الوداع فلا تصح؛ فإن فيها آيات نزلت قبل ذلك بكثير، وقد صح أن المقداد قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، فدل هذا على أن هذه الآية نزلت قبل غزوة بدر. والله أعلم.

وقد ذكر الله تعالى التيمم في الآيتين بلفظ واحد، فقال فيهما:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة:6] .

فقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ذكر شيئين

ص: 201

مبيحين للتيمم: أحدهما: المرض، والمراد به عند جمهور العلماء: ما كان استعمال الماء معه يخشى منه الضرر.

والثاني: السفر، واختلفوا: هل هو شرط للتيمم مع (عدم) الماء، أم وقع ذكره لكونه مظنة عدم الماء غالباً، فإن عدم الماء في الحضر قليل أو نادر، كما قال الجمهور في ذكر السفر في آية الرهن، أنة إنما ذكر السفر لأنه مظنة عدم الكاتب، وليس بشرط للرهن.

والجمهور: على أن السفر ليس بشرط للرهن ولا للتيمم مع عدم الماء، وأنه يجوز الرهن في الحضر، والتيمم مع عدم الماء في الحضر.

وقالت الظاهرية: السفر شرط في الرهن والتيمم.

وعن أحمد رواية باشتراط السفر للتيمم خاصة، وحكي رواية عن أبي حنيفة، وعن طائفة من أصحاب مالك.

وعلى هذا: فلا فرق بين السفر الطويل والقصير على الأصح عندهم وقوله:

{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] .

قد قيل أن ((أو)) هنا بمعنى الواو، كما يقول الكوفيون ومن وافقهم؛ فإنه لما ذكر السببين المبيحين للتيمم، وهما التضرر باستعماله بالمرض ومظنة فقده بالسفر ذكر مَا يستباح مِنْهُ الصَّلاة بالتيمم وَهُوَ الحدث، فإن التيمم يبيح الصَّلاة من الحدث الموجود ولا يرفعه عند كثير من العلماء، وهو مذهب الشافعي، وظاهر مذهب أحمد وأصحابه، ولهذا قالوا يجب عليه أن ينوي ما يستبيحه من العبادات وما يستبيح فعل العبادات منه من الأحداث.

وقالت طائفة: بل التيمم يرفع الحدث رفعاً مؤقتاً بعدم القدرة على استعمال الماء، وربما أستدل بعضهم

ص: 202

بهذه الآية، وقالوا: إنما أمر الله بالتيمم مع وجود الحدث، ولو كان التيمم واجباً لكل صلاة أو لوقت كل صلاة – كما يقوله من يقول: أن التيمم لا يرفع الحدث، على اختلاف بينهم في ذلك – لما كان لذكر الحدث معنى.

والأظهر – والله أعلم -: أن ((أو)) هاهنا ليست بمعنى الواو، بل هي على بابها، وأريد بها: التقسيم والتنويع، وأن التيمم يباح في هذه الحالات الثلاث، واثنتان منهما مظنتان، وهما: المرض والسفر، فالمرض مظنة التضرر باستعمال الماء، والسفر مظنة عدم الماء، فإن وجدت الحقيقة في هاتين المظنتين جاز التيمم، وألا فلا.

ثم ذكر قسماً ثالثاً، وهو وجود الحقيقة نفسها، فذكر أن من كان محدثاً ولم يجد ماءً فليتيمم، وهذا يشمل المسافر وغيره، ففي هذا دليلٌ على أن التيمم يجوز لمن لم يجد الماء، مسافراً كان أو غير مسافر. واللهُ أعلم.

وقد ذكر سبحانه حدثين:

أحدهما: الحدث الأصغر، وهو المجيء من الغائط، وهو كنايةٌ عن قضاء الحاجة والتخلي، ويلتحق به كل ما كان في معناه، كخروج الريح أو النجاسات من البدن عند من يرى ذَلكَ.

والثاني: ملامسة النساء، واختلفوا: هل المراد بها الجماع خاصة، فيكون حينئذ قد أمر بالتيمم من الحدث الأصغر والأكبر، وفي ذلك رد على من خالف في التيمم للجنابة كما سيأتي ذكره – أشاء الله تعالى -، أو المراد بالملامسة مقدمات الجماع من القبلة والمباشرة

ص: 203

لشهوة، أو مطلق التقاء البشرتين، وعلى هذين القولين فلم يذكر في الآية غير التيمم من الحدث الأصغر.

وقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} متعلق بمن أحدث، سواءٌ كان على سفر أو لم يكن، كما سبق تقريره، دون المرض، لان المريض لا يشترط لتيممه فقد الماء، هذا هو الذي عمل به الأمة سلفا وخلفا.

وحكي عن عطاء والحسن: أن فقد الماء شرطٌ للتيمم مع المرض - أيضا - فلا يباح للمريض أن يتيمم مع وجود الماء وأن خشي التلف.

وهذا بعيد الصحة عنهما، فإنه لو لم يجز التيمم إلا لفقد الماء لكان ذكر المرض لا فائدة له.

وقوله: {فَتَيَمَّمُوا} أصل التيمم في اللغة القصد، ثم صار علما على هذه الطهارة المخصوصة.

وقوله: {صَعِيداً} اختلفوا في المراد بالصعيد، فمنهم من فسره بما تصاعد على وجه الأرض من أجزائها، ومنهم: من فسره بالتراب خاصة.

وقوله: {طَيِّباً} فسره من قال: الصعيد: ما تصاعد على وجه الأرض، بالطاهر. ومن فسره بالتراب، قال: المراد بالصعيد التراب المنبت، كقوله تعالى:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف:58] وهذا

ص: 204

مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه.

وقول ابن عباس: الصعيد الطيب تراب الحرث.

وقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْه} . كقوله في الوضوء {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} .

وقد ذكرنا فيما سبق في ((أبواب الوضوء)) أن كثيراً من العلماء أوجبوا استيعاب مسح الرأس بالماء، وخالف فيه آخرون، وأكثرهم وافقوا هاهنا، وقالوا: يجب استيعاب الوجه والكفين بالتيمم، ومنهم من قال: يجزئ أكثرهما، ومنهم من قال: يجزئ مسح بعضهما كالرأس – أيضا.

وقول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمار: ((إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك)) يرد ذلك ويبين أن المأمور به مسح جميعهما.

وسيأتي الكلام على حد اليدين المأمور بمسحهما – إن شاء الله تعالى.

وقوله تعالى: {مِنْهُ} يستدل به من قَالَ: لا تيمم إلا بتراب له غبار يعلق باليد، فإن قوله:{مِنْهُ} يقتضي أن يكون الممسوح به الوجه واليدان بعض الصعيد، ولا يمكن ذلك إلا فيما له غبار يعلق باليد حتى يقع المسح به، ومن خالف في ذلك جعل ((من)) هاهنا لأبعد الغاية، لا للتبعيض وهو يأباه سياق الكلام. والله تعالى أعلم.

الحديث الثاني:

ص: 205

335 – من طريق:

ص: 205

هشيم: أبنا سيارٌ: ثنا يزيد الفقير: أبنا جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:((أعطيت خمساً لم يعطهن أحدٌ قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصَّلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)) .

هشيم: مدلس، وقد صرح هنا بالسماع من سيار، وهو: أبو الحكم، وصرح سيار بالسماع من يزيد الفقير، وصرح يزيد بالسماع من جابر، فهذا إسناد جليل متصل.

وهذه الخمس اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء، وليس في الحديث أنه لم يختص بغيرها، فإن هذه اللفظة لا تقتضي الحصر، وقد دلت النصوص الصحيحة الكثيرة على أنه صلى الله عليه وسلم خص عن الأنبياء بخصال كثيرة غير هذه الخمس، وسنشير إلى بعض ذلك – إنشاء الله تعالى.

فأما ((الرعب)) : فهو ما يقذفه الله في قلوب أعداءه المشركين من الرعب، كما قال تعالى:{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} [آل عمران:151] وقال في قصة يوم بدر: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ

ص: 206

أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:12] .

وفي ((مسند الإمام أحمد)) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي، أنه قال عام غزوة تبوك:((لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد كان قبلي: إما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ منه رعبا)) – وذكر بقية الحديث.

وقوله: ((أعطيت الليلة خمسا)) ، لم يرد أنه لم يعطها قبل تلك الليلة، فإن عامتها كان موجودا قبل ذاك، كنصره بالرعب، وتيممه بالتراب، فإن التيمم شرع قبل غزوة تبوك بغير إشكال، ولعله أراد أنه أعلم بأن هذه الخمس الخصال اختص بها عن سائر الأنبياء في تلك الليلة. والله أعلم.

وروينا بإسناد فيه ضعف عن السائب بن يزيد، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:((فضلت على الناس بخمس)) - ذكر منها - ((ونصرت بالرعب شهرا من إمامي وشهرا من خلفي)) .

ص: 207

وأما جعل الأرض له مسجدا وطهورا: فقد ورد مفسرا في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((وجعلت لي الأرض مساجد وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك؛ إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم)) - وذكر بقية الحديث. خرجه الإمام أحمد.

وفي ((مسند البزار)) من حديث ابن عباس، عن النبي، قال:((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي من الأنبياء: جعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، ولم يكن نبي من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه)) - وذكر الحديث.

وقد تبين بهذا أن معنى اختصاصه عن الأنبياء بان الأرض كلها جعلت مسجدا له ولأمته أن صلاتهم لا تختص بمساجدهم المعدة لصلاتهم كما كان من قبلهم، بل يصلون حيث أدركتهم الصلاة من الأرض وهذا لا ينافي أن ينهي عن الصلاة في مواضع مخصوصة من الأرض لمعنى يختص بها، كما نهى عن الصلاة في أعطان الإبل، وفي المقبرة والحمام، وسيأتي ذلك مستوفى في مواضع أخر - أن شاء الله تعالى.

ص: 208

وفي ذكره التيمم في الأرض من خصائصه ما يشعر أن الطهارة بالماء ليست مما اختص به عن الأنبياء، وقد سبق في ((كتاب: الوضوء)) ذكر ذَلكَ.

واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)) من يقول: أن التيمم يجوز بجميع أجزاء الأرض من التراب والرمل والنورة والزرنيخ والجص وغير ذلك، كما هو قول مالك وأبي حنيفة وغيرهما.

واستدل من قَالَ: لا يجوز التيمم بغير التراب من أجزاء الأرض – كما يقوله الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه – بما في ((صحيح مسلم)) عن حذيفة، عن النَّبيّ، قَالَ:((فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء)) ، وذكر خصلة أخرى.

فخص الطهور بتربة الأرض بعد أن ذكر أن الأرض كلها مسجد، وهذا يدل على اختصاص الطهورية بتربة الأرض خاصة؛ فإنه لو كانت الطهورية عامة كعموم المساجد لم يحتج إلى ذلك.

وقد خرج مسلم حديث جابر الذي خرجه البخاري هاهنا، وعنده:((وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا)) .

وهذا يدل على

ص: 209

اختصاص الطهورية بالأرض الطيبة، والطيبة: هي الأرض القابلة للإنبات، كما في قوله تعالى:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف:58] .

وروينا من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت وحٌميد، عن أنس، قَالَ:

رسول الله: ((جُعلت لي كل ُ أرضٍ طيبةً مسجداً وطهوراً)) .

ولكن قد دلت نصوص أٌخرُ على عموم كون الأرض مسجداً، فتبقى طهوريتها مختصة بالأرض المنبتة.

وفي ((مسند الإمام أحمد)) من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((أُعطيتُ أربعاً لم يُعطهن ِّأحد من أنبياء الله: أُعطيت مفاتيح الأرض، وسُمَّيتُ أحمد، وجُعل التراب لي طهورا، وجعلت أمتي خير الأمم)) .

وقد ظن بعضهم: أن هذا من باب المطلق والمقيد، وهو غلط، وإنما هو من باب تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر، وهو لا يقتضي التخصيص عند الجمهور، خلافاً لما حكي عن أبي ثور، إلا أن يكون له مفهوم فيبنى على تخصيص العموم بالمفهوم، والتراب والتربة لقب، مختلف في ثبوت المفهوم له، والأكثر ون يأبون ذَلكَ.

لكن أقوى ما أستدل به: حديث حذيفة الذي خرجه مسلم، فإنه جعل الأرض كلها مسجداً وخص الطهورية بالتربة، وأخرج ذلك في مقام الامتنان وبيان

الاختصاص،

ص: 210

فلولا أن الطهورية لا تعم جميع أجزاء الأرض لكان ذكر التربة لا معنى له، بل كان زيادة في اللفظ ونقصاً في المعنى، وهذا لا يليق بمن أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.

وقد خرجه ابن خزيمة في ((صحيحة)) ، ولفظه:((وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء)) .

ومعنى قوله: ((طهوراً)) : أي مطهراً، كما قَالَ:((الماء طهور لا ينجسه شيء)) .

وفيه دليل لمن قَالَ: إن التيمم يرفع الحدث كالماء رفعا مؤقتا، ودليل على أن الطهور ليس بمعنى الطاهر كما يقوله بعض الفقهاء؛ فإن طهارة الأرض مما لم تختص به هذه الأمة، بل اشتركت فيه الأمم كلها، وإنما اختصت هذه الأمة بالتطهر بالتراب، فالطهور هو المطهر.

والتحقيق: أن ((طهورا)) ليس معدولا عن طاهر، ولأن ((طاهرا)) لازم و ((طهورا)) متعد، وإنما الطهور اسم لما يتطهر به، كالفطور والسحور والوجور والسعوط ونحو ذلك.

وأما إحلال الغنائم له ولأمته خاصة، فقد روي أن من كان قبلنا من الأنبياء كانوا يحرقون الغنائم، وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النَّبيّ:

((وأحلت لي الغنائم أكلها، وكان من قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها)) .

وفي ((الصحيحين)) عن أبي هُريرةَ، قَالَ: ((غزا نبي من الأنبياء؛ فجمع الغنائم، فجاءت نار لتأكلها فلم تطعمها، فقال: أن فيكم غلولا،

ص: 211

فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب، فوضعوها، فجاءت النار فأكلتها، ثُمَّ أحل الله لنا الغنائم، رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا)) .

وفي الترمذي عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيّ، قَالَ:((لم تحل الغنائم لأحد سود الرؤوس قبلكم، كانت تنزل نار فتأكلها)) .

وفي كتاب ((السيرة)) لسليمان التيمي: أن من قبلنا من الأمم كانوا إذا أصابوا شيئا من عدوهم جمعوه فأحرقوه وقتلوا كل نفس من إنسان أو دابة.

وفي صحة هذا نظر، والظاهر أن ذوات الأرواح لم تكن محرمة عليهم، إنما كان يحرم عليهم ما تأكله النار.

وقد ذهب طائفة من العلماء، منهم: الإمام أحمد إلى أن الغال من الغنيمة يحرق رحله كله إلا ما له حرمة من حيوان أو مصحف.

وورد في ذلك أحاديث تذكر في موضع أخر – أن شاء الله تعالى.

وقد قال طائفة من العلماء: أن المحرم على من كان قبلنا هو المنقولات دون ذوات الأرواح، واستدلوا بأن إبراهيم عليه السلام كانت له هاجر أمة، والإماء إنما يكتسبن من المغانم، ذكر هذا ابن عقيل وغيره.

ص: 212

وفي هذا نظر؛ فإن هاجر وهبها الجبار لسارة، فوهبتها لإبراهيم، ويجوز أن يكون في شرع من قبلنا جواز تملك ما تملكه الكفار باختيارهم دون ما يغنم منهم.

وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن الكافر إذا أهدى إلى آحاد المسلمين هدية فله أن يتملكها منه، ويختص بها دون غيره من المسلمين.

وقال القاضي إسماعيل المالكي: إنما اختصت هذه الأمة بإباحة المنقولات من الغنائم، فأما الأرض فإنها فيء، وكانت مباحة لمن قبلنا، فإن الله تعالى أورث بني إسرائيل فرعون.

وهذا بناء على أن الأرض المأخوذة من الكفار تكون فيئا، سواء أخذت بقتال أو غيره، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في المشهور عنه.

ومن الناس من يقول: إنما حرم على من كان قبلنا الغنائم المأخوذة بقتال دون الفيء المأخوذ بغير قتال. قالوا: وهاجر كانت فيئا لا غنيمة؛ لان الجبار الكافر وهبها لسارة باختياره.

وقد قَالَ طائفة من العلماء: أن ما وهبه الحربي لمسلم يكون فيئا.

وزعم بعضهم: أن المحرم على من كان قبلنا كان من خمس الغنيمة خاصة، كانت النار تأكله، ويقسم أربعة أخماس بين الغانمين، وهذا بعيد جدا.

واستدلوا: بما خرجه البزار من

ص: 213

رواية سالم أبي حماد، عن السدي، عن عكرمة، عن أبي عباس، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((أعطيت خمسا لم يعطها أحد قبلي)) – فذكر الحديث، وقال فيه:((وكانت الأنبياء يعزلون الخمس فتجيء النار فتأكله، وأمرت أنا أن أقسمه في فقراء أمتي)) .

وسالم هذا: قال فيه أبو حاتم الرازي: مجهول.

وأما الشفاعة التي اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم من بين الأنبياء، فليست هي الشفاعة في خروج العصاة من النار؛ فإن هذه الشفاعة يشارك فيها الأنبياء والمؤمنون – أيضا -، كما تواترت بذلك النصوص، وإنما الشفاعة التي يختص بها من دون الأنبياء أربعة أنواع:

أحدها: شفاعته للخلق في فصل القضاء بينهم.

والثاني: شفاعته لأهل الجنة في دخول الجنة.

والثالث: شفاعته في أهل الكبائر من أهل النار، فقد قيل: أن هذه يختص هو

بها.

والرابع: كثرة من يشفع له من أمته؛ فإنه وفر شفاعته وأدخرها إلى يوم القيامة.

وقد ورد التصريح بأن هذه الشفاعة هي المرادة في هذا الحديث، ففي الحديث الذي خرجه الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النَّبيّ، قَالَ: ((أعطيت الليلة

ص: 214

خمسا ما أعطيهن نبي كان قبلي)) - فذكر الحديث، إلى أن قَالَ:((والخامسة هي ما هي: قيل لي سل؛ فإن كل نبي قد سأل، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله)) .

وخرج – أيضا – من حديث أبي موسى، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((أعطيت خمسا لم يعطهن أحد كان قبلي)) – فذكره، وقال في آخره:((وأعطيت الشفاعة، وإنه ليس من نبي إلا قد سأل شفاعته، وإني أخرت شفاعتي، جعلتها لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا)) .

وفيه - أيضا – من حديث ابن عباس، عن النبي، قال:((لم يكن نبي إلا له دعوة ينجزها في الدنيا، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، وأنا سيد ولد ادم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وبيدي لواء الحمد وآدم ومن دونه تحت لوائي)) .

وخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعد، عن النبي، قال:((أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، ولواء الحمد بيدي ولا فخر)) .

وفي ((الصحيحين)) عن أبي هُريرةَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:((لكل نبي دعوة يدعو بها، فأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)) .

ص: 215

وفي ((صحيح مسلم)) عن جابر، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((لكل نبي دعوة قد دعا بها أمته، وخبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)) .

وفيه - أيضا – نحوه من حديث أنس، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم.

وفي حديث عبد الرحمان بن أبي عقيل: سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله لم يبعث نبيا إلا أعطاه دعوة، فمنهم من اتخذها دنيا فأعطاها، ومنهم من دعا بها على قومه إذ عصوه فهلكوا، وإن الله أعطاني دعوة، فاختبأتها عند ربي شفاعة لأمتي يوم القيامة)) .

خرجه البزار وغيره.

وفي ((المسند)) عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:((إن الله أيقظني فقال: إني لم أبعث نبيا ولا رسولا إلا وقد سألني مسالة أعطيتها إياه، فسل يا محمد تعط؟ فقلت: مسألتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)) ، فقال أبو بكر: يا رسول الله، وما الشفاعة التي اختبأت عندك؟ قال:((أقول: يارب، شفاعتي التي اختبأت عندك، فيقول الرب تبارك وتعالى: نعم، فيخرج ربي تبارك وتعالى بقية أمتي من النار، فينبذهم في الجنة)) .

ص: 216

والمراد من هذه الأحاديث - والله أعلم -: أن كل نبي أعطي دعوة عامة شاملة لأمته، فمنهم من دعا على أمته المكذبين له فهلكوا، ومنهم من سأل كثرتهم في الدنيا كما سأله سليمان عليه السلام، واختص النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بأن ادخر تلك الدعوة العامة الشاملة لأمته شفاعة لهم يوم القيامة.

وقد ذكر بعضهم: شفاعة خامسة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهي: شفاعته في تخفيف عذاب بعض المشركين، كما شفع لعمه أبي طالب، وجعل هذا من الشفاعة المختص بها صلى الله عليه وسلم.

وزاد بعضهم شفاعة سادسة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهي: شفاعته في سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب. وسيأتي ما يدل عليه - أن شاء الله تعالى.

وأما بعثته إلى الناس عامة، فهذا مما اختص به صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء.

وفي ((المسند)) من حديث أبي ذر، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي)) - فذكر منها -: ((وبعثت إلى كل أحمر وأسود)) .

وفيه - أيضا - من حديث ابن عباس، عن النبي، قال:

ص: 217

((أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي، ولا أقولهن فخرا، بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود)) .

وفي ((مسند البزار)) من حديث ابن عباس، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((أعطيت خمسا لم يعطها نبي)) - فذكر منها -: ((وكان النبي يبعث إلى خاصة قومه، وبعثت إلى الجن والأنس)) - وذكر الحديث.

وقال: لفظ: ((الجن والأنس)) لا نعلمه إلا في هذا الحديث، بهذا الإسناد.

قلت: وقد سبق أن في إسناده سالما أبا حماد، وأن أبا حاتم قَالَ: هو مجهول.

ولكن روي ذكر الجن في حديث آخر، ذكره ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) تعليقا، وفي إسناده رجل لم يسم، عن عبادة بن الصامت، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج عليهم فقال:((أن جبريل قال لي: أخرج فأخبر بنعمة الله التي أنعم بها عليك، وفضيلته التي فضلت بها، فبشرني أنه بعثني إلى الأحمر والأسود، وأمرني أن أنذر الجن، وآتاني كتابه وأنا أمي، وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر، وذكر اسمي في الأذان، وأمدني بالملائكة، وآتاني النصر، وجعل الرعب أمامي، وآتاني الكوثر، وجعل حوضي من أعظم الحياض يوم القيامة، ووعدني المقام المحمود والناس مهطعين مقنعي رؤسهم، وجعلني في أول زمرة تخرج من الناس، وأدخل في شفاعتي سبعين ألفا من أمتي الجنة بغير حساب، وآتاني السلطان والملك، وجعلني في أعلى غرفة في الجنة، فليس فوقي إلا الملائكة الذين يحملون العرش، وأحل لي ولأمتي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا)) .

وفي ((صحيح مسلم)) ، عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ((فضلت

ص: 218

على الناس بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون)) .

وقوله: ((إلى الخلق كافة)) يدخل فيه الجن بلا ريب.

وفي ((صحيح ابن خزيمة)) عن حذيفة، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((فضلت على الناس بثلاث)) - فذكر الثالثة، قَالَ:((وأعطيت هذه الآيات من أخر سورة البقرة من كنْز تحت العرش، لم يعط منه أحد قبلي ولا أحد بعدي)) .

وهذه الخصلة الثالثة لم تسم في ((صحيح مسلم)) ، بل فيهِ:((وذكر خصلة أخرى)) كما تقدم.

ومن تأمل هذه النصوص علم أن الخصال التي اختص بها عن الأنبياء لا تنحصر في خمس، وأنه إنما ذكر مرة ستا ومرة خمسا ومرة أربعا ومرة ثلاثا بحسب ما تدعو الحاجة إلى ذكره في كل وقت بحسبه. والله أعلم.

ص: 219

‌2 - باب

إذا لم يجد ماء ولا ترابا

خرج فيه:

ص: 220

336 -

حديث: هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أنها استعارت من أسماء قلادة، فهلكت، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فوجدها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوا فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى آية التيمم. فقال أسيد بن حضير لعائشة: جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك لك وللمسلمين فيه خيرا.

قد سبق: أن رواية هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة لهذا الحديث تخالف رواية عبد الرحمان بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة؛ فإن عبد الرحمان ذكر في روايته: أن عقدا لعائشة انقطع، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام على التماسه، وأنه نام حتّى أصبح على غير ماء، فنزلت آية التيمم.

وأما عروة، فذكر في روايته: أن قلادة لأسماء استعارتها عائشة فهلكت – يعني: أنهم فقدوها -، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبها فأدركتهم الصلاة وليس

ص: 220

معهم ماء، فصلوا فشكوا ذلك إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت آية التيمم.

وفي حديث ابن القاسم، عن أبيه: أنهم بعثوا البعير، فوجدوا العقد تحته.

وفي حديث ابن عروة، عن أبيه: أن الذين أرسلهم في طلبها وجدوها.

فزعم بعض الناس أن عائشة كان لها عقد انقطع وقلادة فقدت، فأرسل في طلب القلادة وأقاموا على التماس العقد، وفي هذا نظر. والله أعلم.

ورجحت طائفة رواية مالك، عن ابن القاسم، عن أبيه على رواية هشام، عن أبيه، ومنهم: القاضي إسماعيل المالكي، وقال: بلغني عن يحيى القطان أنه كان ينكر أشياء حدث بها هشام في آخر عمره لما ساء حفظة.

وقد استدل البخاري بهذا الحديث الذي رواه هشام، عن أبيه على أن من لم يجد ماء ولا ترابا أنه يصلي على حسب حاله، فإنهم صلوا بغير وضوء، ولم يكن شرع التيمم قبل ذلك، وشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمرهم بإعادة الصَّلاة.

وزعم بعضهم: أن رواية القاسم، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم نام حتى أصبح على غير ماء يدل على أنه لم يصل هو ولا من معه، وهذا في غاية الضعف.

وقد قررنا في ما تقدم: أن آية سورة النساء التي فيها ذكر التيمم كان نزولها سابقا لهذه القصة، وأن

ص: 221

توقفهم في التيمم إنما كان لضنهم أن من فوت الماء لطلب مال له لا رخصة له في التيمم، فنزلت الآية التي في سورة المائدة مبينة لجواز التيمم في مثل ذلك.

والظاهر: أن الجميع صلوا بالتيمم ولكن حصل لهم شك في ذلك، فزال ذلك عنهم بنزول آية المائدة. والله أعلم.

واختلف العلماء في حكم من لم يجد ماءا ولا ترابا على أربعة أقوال:

أحدها: أنه يصلي بحسب حاله، ولا قضاء عليه، وهو قول مالك وأحمد في رواية عنهما، وأبي ثور والمزني وغيرهم، وحكي قولا قديما للشافعي.

وعليه بوب البخاري، واستدل بحديث عائشة الذي خرجه هاهنا؛ فإنهم شكو ذَلكَ إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر أنه أمرهم بقضاء صلاتهم؛ ولأن الطهارة شرط، فإذا عجز عنها سقطت عنه، كاستقبال القبلة وستر العورة.

والثاني: يصلي ويعيد، وهو قول مالك في رواية، والشافعي، وأحمد في رواية عنه نقلها عنه أكثر أصحابه.

والثالث: لا يصلي ويعيد صلاته، وهو قول الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة، وهو قول قديم للشافعي.

واستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) .

ويجاب عنه: بان ذلك مع القدرة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقبل الله

ص: 222

صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) ، ولا خلاف أنه لو عدم الماء وصلى بالتيمم قبلت صلاته.

والرابع: أنه لا يصلى ولا إعادة عليه، وهو رواية عن مالك، وقول بعض الظاهرية، وحكاه بعضهم رواية عن أبي ثور.

وهو أردأ الأقوال وأضعفها، ويرده قول الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) .

وليس هذا كالحائض؛ فإن الحائض ليست من أهل الطهارة، ولا يصح منها لو فعلتها، وهذا من أهلها وهو عاجز عنها.

وأما قول أسيد بن حضير لعائشة رضي الله عنها: ((جزاك الله خيرا فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك لك وللمسلمين خيرا)) .

فيه إشعار بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك، وقد تقدم أن بعض أهل السير ذكر أن هذه القصة كانت هي وقصة الإفك في سفرة واحدة، وهذا يشكل عليه قول أسيد بن حضير هذا؛ فإن الفرج الذي حصل من قضية الإفك إنما وقع بعد قدومهم المدينة بمدة، وظاهر سياق حديث عائشة يدل على أن أسيد بن حضير قَالَ ذَلكَ عقيب نزول آية التيمم.

وقد زعم بعضهم: أن هذا قاله

ص: 223

أسيد بن حضير بعد نزول الآيات في قصة

الإفك، وبعد نزول آية التيمم، وهو مخالف لظاهر هذه الرواية. والله أعلم.

وقد استحب الثوري وأحمد: حمل التراب للمسافر كما يستحب له حمل الماء للطهارة، ومن المتأخرين من أنكره، وقال: هو بدعة.

ص: 224

‌3 - باب

التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة

وبه قال عطاء.

وقال الحسن في المريض عنده الماء ولا يجد من يناوله: تيمم.

وأقبل ابن عمر من أرضه بالجرف، فحضرت العصر بمربد النعم، فصلى، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة، فلم يعد.

هذه الآثار الثلاثة التي علقها البخاري تشتمل على ثلاثة مسائل:

المسألة الأولى:

أن من عدم الماء في الحضر فله أن يتيمم ويصلي، وقد حكاه عن عطاء، وهو قول جمهور العلماء.

وقد سبقت الإشارة إلى الاختلاف في هذه المسألة، وان السفر هل هو شرط لجواز التيمم أم كان ذكره في القران لان السفر مظنة عدم الماء غالبا؟ والأكثرون على الثاني، فلو لم يجد الماء في الحضر تيمم وصلى.

واختلفوا: هل يعيد إذا وجد الماء أم لا؟ فقال الليث وأبو حنيفة والشافعي:

يعيد، وهو وجه لأصحابنا.

ومنهم من فرق بين أن تقصر مدة عدم الماء في الحضر فيعيد، وبين أن تطول فلا يعيد، والصحيح من المذهب: أنه لا يعيد، وهو قول مالك والثوري وإسحاق والمزني

ص: 225

وغيرهم.

وذهبت طائفة إلى أنه لا يصلي حتى يجد الماء أو يسافر، وهو رواية عن أبي

حنيفة، ورواية عن أحمد اختاره الخلال والخرقي وحكي عن زفر وداود.

ومن أصحابنا من قال: إن كان يرجو حصول الماء قريبا لم يصلي حتى يجده، وإن فات الوقت.

المسألة الثانية:

أن المريض إذا كان يجد الماء، ولكن ليس عنده من يناوله إياه، فإنه يتيمم

ويصلي، حكاه عن الحسن، وهو –أيضا - قول الأوزاعي والشافعي وأحمد وأكثر

العلماء.

وعن الشافعي: يعيد، وحكي رواية عن أحمد، وظاهر كلامه أنه لا يعيد، وهو المشهور عند أصحابنا.

ولأصحابنا وجه: أنه إن رجا أن يجد من يناوله الماء بعد الوقت قريبا لم يصل بالتيمم، وأخر حتى يجيء من يناوله.

والصحيح: الأول، وأنه يصلي بالتيمم في الوقت، ولا يؤخر الصلاة إلى أن يقدر على الوضوء بعده، كما لا يؤخر المسافر الصلاة إذا رجا الوصول إلى الماء بعد الوقت عقيبه.

وخرج ابن أبي حاتم من رواية قيس، عن خصيف، عن مجاهد، في قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [النساء:43]، قَالَ: نزلت في رجل من الأنصار، كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم فيناوله، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

المسألة الثالثة:

أنه يجوز التيمم بقرب المصر إذا لم يجد الماء، وان كان يصل إلى المصر في الوقت، هذا هو المروي عن ابن عمر رضي الله عنه، وقد احتج به الإمام أحمد، وقال: كان ابن عمر يتيمم قبل أن يدخل المدينة، وهو يرى بيوت المدينة.

ص: 226

وهذا الأثر مشهور عن ابن عمر من رواية نافع عنه، وقد رفعه بعضهم، خرجه الدارقطني والبيهقي مرفوعا. قال البيهقي: وهو غير محفوظ.

ولفظ المرفوع: أن ابن عمر قَالَ: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم تيمم بموضع يقال له: مربد النعم، وهو يرى بيوت المدينة.

وخرج الأثرم من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أنه اقبل من أرضه التي بالجرف، حتى إذا كان بمربد النعم حضرت الصلاة صلاة العصر، فتيمم وهو ينظر إلى بيوت المدينة.

وقد روى الشافعي، عن ابن عيينة، عن ابن عجلان، عن نافع، أن ابن عمر أقبل من الجرف

ص: 227

حتى كان بالمربد تيمم وصلى العصر، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد الصَّلاة.

((الجرف)) : بضم الجيم والراء -: موضع بينه وبين المدينة ثلاثة أميال.

و ((المربد)) : مكان بقرب المدينة.

ورواه سفيان الثوري، عن ابن عجلان، عن نافع، أنه تيمم على راس ميل أو ميلين من المدينة، فصلى العصر، ثم قدم والشمس مرتفعة، فلم يعد.

خرجه حرب الكرماني.

ورواه - أيضا - مالك، عن نافع، قَالَ: أقبلت مع ابن عمر من الجرف حتى إذا بلغ المربد تيمم، ثم صلى.

ورواه العمري، عن نافع، عن ابن عمر، أنه تيمم وصلى ثم دخل المدينة في وقت، فلم يعد، ورواه أبو معشر، عن نافع، عن ابن عمر، قَالَ: اقبلنا من الغابة، حتى إذا كنا بمربد النعم جاءت الصلاة، فتيمم، وصلى العصر، ثم دخل المدينة.

وهذا المروي عن ابن عمر يؤخذ منه عدة مسائل:

منها: أنه تجوز الصلاة بالتيمم في أول وقت للمسافر، وان علم أنه يصل إلى الماء قبل خروج الوقت، وهذا قول أكثر العلماء، ومنهم من حكاه إجماعا، واستدل أحمد لذلك بحديث ابن عمر هذا. وحكي عن الشافعي قول: أنه لا يجوز.

ومنها: أن المسافر سفرا قصيرا له أن يتيمم فيه كالسفر الطويل، وهو قول جمهور العلماء - أيضا -، وحكي فيه خلاف شاذ في مذهب الشافعي، ومن أصحابه من لم يثبته عنه، وقال: إنما حكاه الشافعي عن غيره، وهو وجه ضعيف لأصحابنا - أيضا.

وقد تقدم: أن عدم الماء في الحضر يبيح التيمم عند الأكثرين، لكن منهم من أوجب الإعادة فيه، فمن قال: يعيد إذا تيمم في الحضر، وقال: لا يتيمم إلا في سفر طويل جعل حكم السفر القصير حكم

ص: 228

الحضر في الإعادة إذا صلى فيه بالتيمم.

وحكى ابن عبد البر، عن محمد بن مسلمة المالكي، أنه حمل ما فعله ابن عمر على أنه خاف فوت الوقت، وهذا يدل على أنه يرى أن الحاضر إذا كان عادما للماء لم يتيمم، إلا أن يخاف فوت الوقت.

وسئل ابن المبارك: عن الراعي تكون الماشية منه على الميلين والثلاثة؟ فذكر عن سعيد بن المسيب، قَالَ: يتيمم ويصلي.

وقال أبو داود: قلت لأحمد: الرجل يخرج على الميلين والثلاثة والأكثر، فتحضره الصلاة، أيتيمم؟ قَالَ: إذا خاف يتيمم. قيل له فيعيد؟ قال: لا.

قال: حرب: قلت لإسحاق - يعني: ابن راهويه -: فرجل من المدينة على فرسخ، وليس في سفر، فحضرت الصلاة، وليس له ماء، أيتيمم ويصلي؟ فقل: نعم. قلت: يعيد؟ قال: لا، وانأ أرى في الحضر التيمم.

قَالَ: وسألته عن رجل في الصيد، وليس هو في سفر، فحضرت الصلاة، ولم يكن معه ماء، فتيمم وصلى؟ قال: إن كان في معصية يعيد، وان كان للكسب على عياله لا يعيد.

وروى حرب بإسناده عن الزهري، في رجل ينتجع

ص: 229

الكلأ فلا يجد الماء؟ قال: لا نرى أن يقيم بالأرض ليس فيها ماء. قال الوليد بن مسلم ذكرته لبعض المشيخة، فقال: سمعت أن معاذ بن جبل ذكر ذلك له، فقال: لو لم يكن لهم ذلك لم يكن لنا أن نتركهم وذلك.

والمنصوص عن أحمد في الحطاب ونحوه: لا يرخص لهم في ترك حمل ماء

الوضوء، وإنه إذا لم يكن معهم ماء فلا يتيممون، وحمله القاضي على أن السفر القصير لا تيمم فيه.

وأجاز طائفة من أصحابنا لمن عدم الماء في الحضر في التيمم في أخر الوقت، وإنهم لا يكلفون طلب الماء مع فوت الوقت مع بعد الماء في الحضر، وأوجب القاضي في ((خلافه)) طلب الماء على الحاضر، وان أدركه بعد الوقت.

وقال صاحب ((المغني)) : من فارق موضع الماء إلى مكان قريب لحرث ونحوه، فحضرت الصلاة، ولا ماء معه، وان رجع إليه فاته غرضه؛ فإنه يتيمم ويصلي، ولا إعادة عليه، إلا أن يكون مكان الماء ومكان الحاجة من عمل

ص: 230

واحد، ففي الإعادة وجهان.

وقد سبق ذكر هذه المسألة في ((باب: التماس الماء إذا حانت الصَّلاة)) في ((كتاب: الوضوء)) .

ومنها: أن من صلى بالتيمم ثم وجد الماء في الوقت فإنه لا إعادة عليه، هذا قول جمهور العلماء، وحكي عن طائفة من السلف وجوب الإعادة.

ولو وجده بعد الوقت، فأجمعوا على أن لا إعادة علية -: حكاه ابن المنذر

وغيره.

وفي ((المسند)) و ((سنن أبي داود)) والنسائي من رواية عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، قَالَ: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً وصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد:((أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك)) ، وقال للذي توضأ وأعاد:((لك الأجر مرتين)) .

وقال أبو داود: ذكر أبي سعيد في إسناده وهم ليس بمحفوظ، بل هو مرسل.

واستحب الأوزاعي الإعادة بالوضوء في الوقت من غير إيجاب. ونقله حرب، عن أحمد.

وقال القاضي أبو يعلي: يجوز ولا يستحب، وذكر أنه ظاهر كلام أحمد؛ فإنه قَالَ في رواية صالح: إن أعاد لم

ص: 231

يضره.

وقال الخلال: العمل من قول أبي عبد الله على أنه لا يعيد.

وقال الحسن: أن شاء أعاد، وإن شاء لم يعد.

وصرح أصحاب الشافعي بأن الإعادة غير مستحبة.

وهذا الحديث قد يستدل به على استحباب الإعادة؛ لقوله: ((لك الأجر

مرتين)) . وقد يقال: إصابة السنة أفضل من ذَلكَ.

وقد ذكرنا في ((كتاب: العلم)) في شرح حديث: ((ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين)) أنه ليس كل من له أجره مرتين يكون أفضل من غيره.

ومنها: أنه لا يجب طلب الماء لمن عدمه في غير موضعه الذي هو فيه، وقد أخذ بذلك إسحاق، واستنبطه من فعل ابن عمر هذا.

قال البخاري رحمه الله:

ص: 232

337 -

ثنا يحيى بن بُكير: ثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال: سمعت عُميراً مولى ابن عباس قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهيم: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجلٌ فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم السلام، حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام.

هذا الحديث ذكره مسلم في ((صحيحه)) تعليقاً عن الليث بهذا

ص: 232

الإسناد، وكذا رواه ابن إسحاق، عن الأعرج.

ورواه إبراهيم بن أبي يحيى، عن أبي الحويرث عبد الرحمان بن معاوية، عن الأعرج، عن ابن الصمة، وزاد، أنه مسح وجهه وذراعيه، وأسقط من إسناده

((عُميراً)) .

ورواه أبو صالح كاتب الليث بن سعد، عنه، وقال في حديثه - أيضا ً -:

((فمسح بوجهه وذراعيه)) .

وأبو صالح تغير بآخرة، وقد اختلف عليه في لفضه، ورواية يحيى بن بُكير أصح.

قال الخطابي: حديث أبي الجهيم في مسح الذراعين لا يصح.

يعني: لا يصح رواية من روى فيه مسح الذراعين.

وقد استدل البخاري بهذا الحديث على جواز التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء، ولكن التيمم هنا لم يكن لما تجب له الطهارة، بل لما يستحب له، وقد تقدم ذكر هذا في ((كتاب: الوضوء)) في غير موضع منه، وذكرنا أن عمر كان يتيمم في الحضر لذكر الله عز وجل، وهو من رواية علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قَالَ: رأيت

ص: 233

عمر بال ثم أتى الحائط فتمسح به، ثم قال: هذا للذكر والتسبيح حتى تلقى الماء.

خرّجه ابن جرير الطبري.

وهذا يدل على أنه إنما تيمم بمكان ليس فيه ماء، وذكرنا فيما تقدم أن من السلف من كان يتيمم لرواية الحديث ونحو ذلك، وعن أبي العالية أنه تيمم لرد السلام.

وفي المسند عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج فيهريق الماء، فيتيمم بالتراب، فأقول: يا رسول الله، الماء منك قريب، فيقول: ((ما يدريني، لعلي لا

أبلغه)) .

وذكرنا - أيضاً - أن طائفة من أعيان الشافعية كأبي المعالي الجويني - وصاحبه أبي حامد صرحوا بأن من تيمم في الحضر، ثم قرأ القرآن وذكر الله كان جائزاً، استدلالاً بهذا الحديث.

ورد ذلك بعض متأخر يهم، وقال: لم يكن تيمم النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، إنما كان ظاهراً حيث لا يوجد الماء، ولكن كان بقرب المدينة، فإن في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أقبل من نحو بئر جمل، وهي خارج المدينة.

وقد روى هذا الحديث عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو حديث أبي الجهيم.

خرجه أبو داود من حديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى

ص: 234

حاجته ثم أقبل في سكة من سكك المدينة، فسلم عليه رجل، فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد عليه السلام.

خرجه أبو داود وغيره.

ورفعه منكر عند أئمة الحفاظ، وإنما هو موقوف عندهم -: كذا قاله الإمام أحمد ويحيى بن معين وأبو زرعة وأبو حاتم وأبو داود والبخاري والعقيلي والأثرم.

وتفرد برفعه محمد بن ثابت العبدي، عن نافع. والعبدي ضعيف.

وذكر الأثرم أبي الوليد، أنه سأل محمد بن ثاب هذا: من الذي يقول النبي وابن عمر؟ فقال لا أدري.

ففي هذا الحديث: أن تيمم النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض سكك المدينة.

وسيأتي في ((باب: الشعر في المسجد)) أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم على جدار المسجد، ثم دخل المسجد.

وقال بعض أصحابنا: يجوز التيمم لرد السلام في الحضر، إذا خشي فوته؛ لان الطهارة لرده مشروعة ندبا لا وجوبا؛ فإنه يجوز الرد مع

ص: 235

الحدث لكن يفوت فعله بالطهارة؛ لأنه على الفور.

واستدل بعضهم بهذا الحديث: على جواز التيمم في الحضر إذا خاف فوت صلاة الجنازة، كما هو قول كثير من العلماء، ومذهب أبي حنيفة، وأحمد في رواية عنه، وذكر أحمد أنه قول أكثر العلماء: ابن عباس ومن بعده - وذكر الحسن والنخعي وجماعة.

ومن منع من ذلك كمالك والشافعي وأحمد - في الرواية الأخرى -؛ فإنهم قد يفرقون بأن الطهارة بالماء لصلاة الجنازة شرط، فلا يسقط مع القدرة عليه خشية

الفوات، بخلاف الطهارة لرد السلام ونحوه من الذكر، فأنها ليست بشرط فخف أمرها.

وقد أجاب بهذا طائفة من الفقهاء من الشافعية، منهم: الماوردي وأبو الطيب الطبري ونصر المقدسي وغيرهم. وهذا موافق لما تقدم حكايته عن أبي المعالي والغزالي.

والعجب أن صاحب ((شرح المهذب)) حكى ذلك كله في موضعين من

((كتابه)) ، وقال فيما حكاه عن أبي المعالي والغزالي: لا نعرف أحدا وافقهما، وهذا الذي حكاه عن الماوردي وغيره يدل على الموافقة.

ص: 236

‌4 - باب

هل ينفخ فيهما

؟

ص: 237

338 -

حدثنا آدم: ثنا شعبة: ثنا الحكم، عن ذر، عن سعيد بن عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه، قَالَ: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال: إني أجنبت، فلم أجد الماء؟ فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت فصليت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

((إنما كان يكفيك هكذا)) ، فضرب بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه.

وقد خرجه فيما بعد من وجه أخر، وفيه:((ثم نفضها)) بدل ((نفخ فيهما)) .

وفي رواية لمسلم في ((صحيحه)) أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمار: ((إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك)) .

واستدل بهذا بعض من ذهب إلى أنه لا يشرط في المتيمم به أن يكون له غبار يعلق باليد، كما هو قول مالك وأبي حنيفة

ص: 237

والثوري وغيرهم؛ لان نفخ التراب من اليدين ونفضهما منه قد يزيل ما علق باليد منه أو يخففه حتّى لا يبقى منه ما يعم الوجه والكفين غباره، فلو كان المسح بالغبار شرطا لكان ترك النفخ أولى.

وأجاب عن ذلك بعض من يرى اشتراط الغبار الممسوح به، كأصحاب الشافعي وأحمد: بأن النفخ يدل على أنه علق باليد من التراب ما يخفف منه بالنفخ، وقد قال لعمار:((إنما يكفيك هكذا)) ، فدل على أنه لا بد في التيمم من تراب يعلق باليد.

وأجاب بعضهم: بأنه صلى الله عليه وسلم إنما ذكر النفخ لعمار لا لكون النفخ سنة، بل ليبين له أن المبالغة في التيمم بالتمعك الذي فعله بالتراب ليس بسنة، وأنه يكفي من ذلك أدنى ما يمكن أن يمسح به الوجه والكفان من غباره.

وقد اختلف العلماء في نفخ اليدين من الغبار في التيمم: فمنهم من استحبه، ومنهم من كرهه.

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أنه كان إذا تيمم ضرب بيديه ضربة، فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيديه ضربة أخرى، ثم مسح بهما يديه إلى المرفقين، ولا ينفض يديه من التراب.

وكره النفض حماد وغيره، واستحبه الحسن ويحيى ابن أبي كثير.

واختلفت الرواية عن أحمد في ذَلكَ: فروي عنه أنه لم يذهب إلى النفخ. وروي عنه أنه قَالَ: أن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل.

ونقل عنه الميموني قَالَ: لا ينفخهما. ثم قَالَ: ومن الناس من ينفضهما، ولست

ص: 238

أنفضهما، وكأني للنفخ أكره.

ونقل عنه حنبل أنه ذكر حديث عمار هذا، وقال: اذهب إليه. قيل له: ينفخ فيهما؟ قَالَ: ينفخ فيهما ويمسحهما.

قال الخلال: العمل من مذهبه: على أنه يجوز فعل ذلك كله: النفخ والنفض، ويجوز تركه.

وقال غيره من أصحابنا: أن كان التراب خفيفا كره النفخ؛ لأنه ينقص به كمال التعميم بالطهور، وإن كان كثيرا ففي كراهته روايتان، والصحيح: لا يكره؛ لأنه تخفيف لا يكره ابتداء، فكذلك دواما.

وللشافعي في تخفيف التراب بالنفخ ونحوه قولان: أحدهما: يستحب. والثاني: لا. وقيل: أن القديم استحبابه والجديد عدم استحبابه.

واختلف أصحابه في ذلك على طريقين: فمنهم من قال: له قولان مطلقا. ومنهم من قال: هما منزلان على حالين، فإن كان التراب كثيرا نفخ، وألا لم ينفخ.

ونقل حرب، عن إسحاق، قال: أن لزق بالكفين تراب كثير نفخهما، وان لم يلزق بهما تراب كثير أجزاه أن لا ينفخ.

قال حرب: ووصف لنا إسحاق التيمم، فضرب بيديه، ثم نفخهما فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيديه الثانية ولم ينفخهما، ثم مسح ظهور الكفين: اليمنى باليسرى واليسرى باليمنى.

وروى بإسناده، عن عمار، أنه غمس باطن كفيه بالتراب ثم نفخ يده، ثم مسح وجهه ويديه إلى المفصل. وقال عمار: هذا التيمم.

وبإسناده: عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، أنه وصف التيمم فمسح ظهر يديه وذراعيه من لدن أصابعه إلى مرفقيه، ثم

ص: 239

من بطن اليدين من لدن مرفقه إلى أصابعه مرتين ينفضهما.

ورواية الزهري، عن سالم، عن ابن عمر المتقدمة أصح من هذه.

وذكر بعض المالكية: أن جواز نفض اليدين من التراب في التيمم قول مالك والشافعي دون استقصاء لما فيهما، لكن لخشية ما يضر به من ذلك من تلويث وجهه، أو شيء يؤذيه.

وقال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ضرب بيديه الأرض للتيمم نفخ فيهما. واختلفوا في ذلك، فكان الشعبي يقول: ينفضهما. وقال مالك: نفضا خفيفا. وقال الشافعي: لا باس أن ينفض إذا بقي في يده غبار. وقال إسحاق نحوا من قول الشافعي. وقال أحمد: لا يضره فعل أو لم يفعل. وقال أصحاب الرأي: ينفضهما. وكان ابن عمر لا ينفض يديه.

قال ابن المنذر: قول أحمد حسن.

ص: 240

‌5 - باب

التيمم للوجه والكفين

ص: 241

339 -

حدثنا حجاج: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ذر، عن سعيد بن

عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه: قال عمار - بهذا.

وضرب شعبة بيديه الأرض، ثم أدناهما من فيه، ثم مسح بهما وجهه وكفيه.

قال النضر: أبنا شعبة، عن الحكم: سمعت ذرا، عن ابن عبد الرحمان بن أبزى - قال الحكم: وقد سمعته من ابن عبد الرحمان -، عن أبيه: قال عمار.

ص: 241

340 -

حدثنا سليمان بن حرب: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ذر، عن ابن عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه، أنه شهد عمر، وقال له عمار: كنا في سرية فأجنبنا. وقال: تفل فيهما.

ص: 241

341 -

حدثنا محمد بن كثير: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ذر، عن ابن

عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه، قال: قال عمار لعمر: تمعكت فأتيت النبي، فقال:((يكفيك الوجه والكفين)) .

ص: 241

342 -

حدثنا مسلم: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ذر، عن ابن

ص: 241

عبد الرحمن بن أبزى، عن عبد الرحمان: شهدت عمر، فقال له عمار - وساق الحديث.

ص: 242

343 -

حدثنا محمد بن بشار: ثنا غندر: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ذر، عن ابن عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه: قال عمار: فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده الأرض، فمسح وجهه وكفيه.

حديث عمار في التيمم، خرجه البخاري في ((كتابه)) من طريقين:

أحدهما: من طريق أبي وائل، عن أبي موسى، عن عمار، وسيأتي.

والأخر: من رواية عبد الرحمان بن أبزى، عن عمار.

ولم يخرجه من هذا الطريق إلا من رواية شعبة، عن الحكم، عن ذر الهمداني، عن سعيد بن عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه، عن عمار.

وقد ساق لفظه بتمامه في الباب الماضي، وأحال في هذا الباب على ما قبله، بقوله:((قال عمار بهذا)) - يعني: بما سبق من سياق الحديث في الباب الماضي.

ووصف شعبة التيمم المذكور في الحديث بفعله.

وكرر البخاري في هذا الباب طرقه إلى شعبة، وبعضها تعليق؛ لما في ذلك من زيادة فائدة:

ففي رواية سليمان بن حرب ومسلم بن إبراهيم، عن شعبة: تصريح عبد الرحمان بن أبزى بسماع هذا الحديث من عمار، ومخاطبته لعمر، وهذه فائدة جليلة.

ص: 242

وفي رواية سليمان بن حرب، عن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم تفل في يديه لما ضرب بهما الأرض، والمراد بالتفل هنا: النفخ، كما في سائر الروايات.

وفي رواية النضر بن شميل: أن الحكم سمع الحديث من ذر، عن سعيد ابن عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه، وسمعه - أيضا - من ابن عبد الرحمان ابن أبزى، عن أبيه، كما سمعه من ذر، عنه.

وذكر البيهقي وغيره: أن ابن أبزى هو سعيد - أيضا.

وقد ذكر البخاري رواية النضير تعليقا، وأسندها مسلم عن إسحاق بن منصور، عنه.

واتفقت رواياتهم على أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح وجهه وكفيه. وفي رواية محمد بن كثير، عن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار:((يكفيك الوجه والكفين)) .

وخرجه مسلم من طريق يحيى القطان، عن شعبة، ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار: ((إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك)) .

قال الحكم: وحدثنيه ابن عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه بمثل حديث ذر. قال: وحدثني سلمة، عن ذر في هذا الإسناد الذي ذكر الحكم. انتهى.

وقد كان عند شعبة لهذا الحديث إسناد آخر، رواه عن سلمه بن كهيل، عن

ذر. كما خرجه مسلم من رواية القطان، عن شعبة، ولكن البخاري لم يخرجه عن شعبة من هذا الوجه لأمرين:

ص: 243

أحدهما: أن سفيان الثوري والأعمش روياه عن سلمة بن كهيل؛ فخالفا شعبة في إسناده، على اختلاف عليهما فيه.

والثاني: أن سلمة شك: هل ذكر في الحديث مسح الكفين، أو الذراعين؟ وكان – أحيانا – يحدث سلمة به، ويقول:((إلى المرفقين)) ، فأنكر ذلك عليه منصور بن المعتمر، فقال سلمة: لا ادري، أذكر الذراعين، أم لا؟

خرج ذَلِكَ أبو داود والنسائي وغيرهما.

ولهذا المعنى أشار مسلم إلى اتحاد الإسناد من رواية الحكم وسلمة، وسكت عن اللفظ؛ فإنه مختلف.

وقد خرجه القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي في ((أحكام القرآن)) له عن حفص بن عمر، عن شعبة، عن الحكم - بإسناد -، وقال فيه:((إنما كان يكفيك هكذا)) ، وضرب بيديه الأرض واحدة، فمسح بهما كفيه ووجهه.

وكذا خرجه أبو بكر الأثرم عن أبي الوليد الطيالسي، عن شعبة، بهذا الإسناد، وعنده: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب بكفيه الأرض ضربة واحدة، ثم نفخها، ومسح بهما وجهه وكفيه.

وقد خرجه النسائي من رواية خالد، عن شعبة، وعنده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:

((إنما كان يكفيك)) ، وضرب شعبة بكفيه ضربة نفخ فيهما، ثم دلك أحداهما بالأخرى، ثم مسح بهما وجهه.

ص: 244

وفي هذه الرواية تأخير مسح الوجه، لكنه من تفسير شعبة، والظاهر أن شعبة كان أحيانا يحدث بالحديث بلفظه، وأحيانا يفسره بفعله.

وقد اجمع العلماء على أن مسح الوجه واليدين بالتراب في التيمم فرض لا بد منه في الجملة؛ فإن الله تعالى يقول: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6]

ولكن اختلفوا في قدر الفرض من ذلك:

فأما الوجه:

فمذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء: أنه يجب استيعاب بشرته بالمسح بالتراب، ومسح ظاهر الشعر الذي عليه، وسواء كان ذلك الشعر يجب إيصال الماء إلى ما تحته كالشعر الخفيف الذي يصف البشرة، أم لا، هذا هو الصحيح.

وفي مذهبنا ومذهب الشافعي وجه أخر: أنه يجب إيصال التراب إلى ما تحت الشعور التي يجب إيصال الماء إلى ما تحتها، ولا يجب عند أصحابنا إيصال الماء إلى باطن الفم والأنف، وان وجب عندهم المضمضة والاستنشاق في الوضوء.

وعن أبي حنيفة روايات، إحداها: كقول الشافعي وأحمد. والثانية: أن ترك قدر درهم يجزئه، وان ترك دونه أجزأه. والثالثة: أن ترك دون ربع الوجه أجزأه، وإلا فلا. والرابعة: أن مسح أكثره وترك الأقل منه أو من الذراع أجزأه، وإلا فلا. وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر.

وحكى ابن المنذر، عن سليمان بن داود الهاشمي: أن مسح التيمم

ص: 245

حكمه حكم مسح الرأس في الوضوء يجزئ فيه البعض.

وكلام الإمام أحمد يدل على حكاية الإجماع على خلاف ذلك.

قال: الجوزجاني: ثنا إسماعيل بن سعيد الشالنجي، قال: سألت أحمد بن حنبل عمن ترك مسح بعض وجهه في التيمم؟ قال: يعيد الصلاة. فقلت له: فما بال الرأس يجزئ في المسح ولم يجز أن يترك ذلك من الوجه في التيمم؟ فقال: لم يبلغنا أن أحدا ترك ذَلكَ من تيممه.

قَالَ الشالنجي: وقال أبو أيوب –يعني: سليمان بن داود الهاشمي -: يجزئه في التيمم أن لم يصب بعض وجهه أو بعض كفيه؛ لأنه بمنزلة المسح على الرأس؛ إذا ترك منه بعضا أجزأه.

قال الجوزجاني: فذكرت ذلك ليحيى بن يحيى ـ يعني: النيسابوري ـ، فقال: المسح في التيمم كما يمسح الرأس، لا يتعمد لترك شئ من ذلك، فإن بقي شئ منه لم يعد، وليس هو عندي بمنزلة الوضوء.

قال الجوزجاني: لم نسمع أحدا يتبع ذلك من رأسه في المسح ولا بين أصابعه في التيمم كما يتبع في الوضوء بالتخليل، فأحسن الأقاويل منها ما ذكره يحيى بن يحيى: أن لا يتعمد ترك شئ من ذلك، فإن بقي شئ لم يعد. انتهى.

وظاهر هذا: يدل على أن مذهب سليمان بن داود ويحيى بن يحيى والجوزجاني: أنه إذا ترك شئ من وجهه ويديه في التيمم لم يعد الصلاة.

ص: 246

ونقل حرب، عن إسحاق، أنه قال تضرب بكفيك على الأرض ثم تمسح بهما وجهك، وتمر بيديك على جميع الوجه واللحية، أصاب ما أصاب وأخطأ ما أخطأ ثم تضرب مرة أخرى بكفيك.

ومراد إسحاق: أنه لا يشترط وصول التراب إلى جميع أجزاء الوجه، كما يقوله من يقوله من الشافعية وغيرهم، حتى نص الشافعي: أنه لو بقي من محل الفرض شئ لا يدركه الطرف لم يصح التيمم.

واستشكل أبو المعالي الجويني تحقق وصول التراب إلى اليدين إلى المرفقين بضربة واحدة، وقال: الذي يجب اعتقاده أن الواجب استيعاب المحل بالمسح باليد المغبرة من غير ربط الفكر بانبساط الغبار على جميع المحل. قال: وهذا شئ اظهر به، ولم أرَ منه بدا.

وحكى ابن عطية في ((تفسيره)) عن محمد بن مسلمة من المالكية: أنه لا يجب أن يتبع الوجه بالتراب كما يتبع بالماء وجعله كالخف ومابين الأصابع في اليدين ـ يعني: في التيمم.

وحكى في وجوب تخليل الأصابع وتحريك الخاتم قولين لأصحابهم: بالوجوب، والاستحباب.

وحكى ابن حزم في وجوب تخليل اللحية بالتراب اختلافا.

وأما اليدان:

فأكثر العلماء على وجوب مسح الكفين: ظاهرهما

ص: 247

وباطنهما بالتراب إلى الكوعين، وقد ذكرنا أن بعض العلماء لم يوجب استيعاب ذلك بالمسح.

وحكى ابن عطية عن الشعبي: أنه يمسح الكفين فقط؛ لحديث عمار، وانه لم يوجب إيصال التراب إلى الكوعين، وهذا لا يصح. والله أعلم.

وإنما المراد بحديث عمار، وبما قاله الشعبي وغيره من مسح الكفين:

مسحهما إلى الكوعين، وقد جاء ذلك مقيدا، رواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن الحكم: سمع ذر بن عبد الله، عن ابن عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه، عن عمار، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:((إنما كان يجزئك)) وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الأرض إلى التراب، ثم قال:((هكذا)) ، فنفخ فيهما، ومسح وجهه ويديه إلى المفصل وليس فيه الذراعان.

وروى إبراهيم بن طهمان، عن حصين، عن أبي مالك، عن عمار بن ياسر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:((إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب، ثم تنفخ فيهما، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرصغين)) .

خرجه الدارقطني، وقال: لم يروه عن حصين مرفوعا غير إبراهيم بن طهمان ووقفه شعبته وزائدة وغيرهما.

يعني أنهم رووه عن حصين عن أبي مالك، عن عمار موقوفا، والموقوف اصح ـ: قاله أبو حاتم الرازي.

وأبو مالك، قال الدارقطني: في سماعه من عمار

ص: 248

نظر؛ فإن سلمة بن كهيل رواه عن أبي مالك، عن ابن أبزى، عن عمار.

وقال أبو حاتم: يحتمل أنه سمع منه.

وأبو مالك، هو: الغفاري، سأل أبو زرعة: ما أسمه؟ فقال: لا يسمى.

وقال البيهقي أسمه حبيب بن صهبان.

وفيما قاله نظر؛ فإن حبيب بن صهبان هو: أبو مالك الكاهلي الأسدي، وأم الغفاري فأسمه: غزوان -: قاله ابن معين. وقد فرق بينهما ابن أبي حاتم، ووقع في بعض نسخ البخاري، غير أن البخاري متوقف غير جازم لان حبيب بن صهبان يكنى: أبا حاتم، ولا أن أبا مالك الغفاري اسمه: غزوان.

وروي حديث عمار على وجه أخر: فروى الأعمش، عن سلمة بن كهيل عن عبد الرحمان بن أبزى، عن عمار، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:((أنما كان يكفيك هكذا)) ، ثم ضرب بيديه الأرض، ثم ضرب أحداهما على الأخرى، ثم مسح وجهه والذراعين إلى نصف الساعدين ولم يبلغ المرفقين، ضربة واحدة.

خرجه أبو داود.

وخرجه - أيضا - من طريق سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل، عن

ص: 249

أبي مالك، عن عبد الرحمان بن أبزى، قال: كنت عند عمر، فقال عمار: قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: ((إنما كان يكفيك أن تقول هكذا)) ، وضرب بيديه إلى الأرض، ثم نفخهما، ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصف الذراع.

وخرجه النسائي من طريق سفيان، عن سلمة، عن أبي مالك - وعن عبد الله بن عبد الرحمان بن أبزى ـ، عن عبد الرحمان بن أبزى، قال: كنا عند عمر ـ فذكر الحديث، وفيه: ثم مسح وجهه وبعض ذراعيه.

وقد رواه عن سلمة بن كهيل: شعبة، وسفيان، والأعمش، واختلف عنهم في إسناده.

وقد تقدم: أن في رواية شعبة أن سلمة شك: هل ذكر فيه الذراعين، أو الكفين خاصة، وهذا يدل على أن ذكر الذراعين أو بعضهما لم يحفظه سلمه، إنما شك فيه، لكنه حفظ الكفين وتيقنهما، كما حفظه غيره.

وعلى تقدير أن يكون ذكر بعض الذراعين محفوظا فقد يحمل على الاحتياط لدخول الكوعين، أو يكون من باب المبالغة وإطالة التحجيل، كما فعله أبو هريرة في الوضوء، وقد صرح الشافعية باستحبابه في التيمم - أيضا.

وقد روي عن قتادة، قال: حدثني محدث عن الشعبي، عن عبد الرحمان بن أبزى، عن عمار بن ياسر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إلى المرفقين)) .

ص: 250

خرجه أبو داود.

وهذا الإسناد مجهول لا يثبت.

والصحيح: عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن عبد الرحمان، عن أبيه، عن عمار، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالتيمم للوجه والكفين.

خرجه الترمذي وصححه.

وخرجه أبو داود، ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالتيمم: ضربة واحدة للوجه

والكفين.

وقد روي عن عمار، أنهم تيمموا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المناكب والآباط: من رواية الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن ابن عمار، قال: نزلت رخصة التطهر بالصعيد الطيب، فقام المسلمون مع النبي، فضربوا بأيديهم الأرض، ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئا، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.

وقد اختلف في إسناده على الزهري:

فقيل: عنه، كما ذكرنا.

وقيل: عنه، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبيه، عن عمار، كذا رواه عنه: مالك وابن عيينة، وصحح قولهما

ص: 251

أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان.

وقيل: عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عمار ـ مرسلا.

وهذا حديث منكر جدا، لم يزل العلماء ينكرونه، وقد أنكره الزهري راويه، وقال: هو لا يعتبر به الناس ـ: ذكره الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما.

وروي عن الزهري، أنه امتنع أن يحدث به، وقال: لم اسمعه إلا من عبيد الله. وروي عنه، أنه قال: لا ادري ماهو؟! .

وروي عن مكحول، أنه كان يغضب إذا حدث الزهري بهذا الحديث. وعن ابن عيينة، أنه امتنع أن يحدث به، وقال: ليس العمل عليه.

وسأل الإمام أحمد عنه، فقال: ليس بشئ. وقال ـ أيضا ـ: اختلفوا في إسناده، وكان الزهري يهابه. وقال: ما أرى العمل عليه.

وعلى تقدير صحته، ففي الجواب عنه وجهان:

أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم أصحابه التيمم على هذه الصفة، وإنما فعلوه عند نزول الآية؛ لظنهم أن اليد المطلقة تشمل اليدين والذراعين والمنكبين والعضدين، ففعلوا ذلك احتياطا كما تمعك عمار بالأرض للجنابة، وضن أن تيمم الجنب يعم البدن كله كالغسل، ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم التيمم بفعله وقوله:((التيمم للوجه والكفين)) ، فرجع الصحابة كلهم إلى بيانه صلى الله عليه وسلم، ومنهم عمار راوي الحديث؛ فإنه أفتى أن التيمم ضربة للوجه والكفين كما رواه حصين، عن أبي مالك، عنه، كما سبق.

وهذا الجواب ذكره إسحاق بن راهويه وغيره من الأئمة.

ص: 252

والثاني: ما قاله الشافعي، وانه أن كان ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو منسوخ؛ لان عمارا اخبر أن هذا أول تيمم كان حين نزلت أية التيمم، فكل تيمم كان للنبي صلى الله عليه وسلم بعده مخالف له، فهو له ناسخ.

وكذا ذكر أبو بكر الأثرم وغيره من العلماء.

وقد حكى غير واحد من العلماء عن الزهري، أنه كان يذهب إلى هذا الحديث الذي رواه.

وروي عن عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، أن الزهري قال: التيمم إلى الآباط. قال سعيد: ولا يعجبنا هذا.

قلت: قد سبق عن الزهري أنه أنكر هذا القول، واخبر أن الناس لا يعتبرون به، فالظاهر أن رجع عنه لما علم إجماع العلماء على مخالفته. والله أعلم.

وذهب كثير من العلماء إلى أنه ينتهي المسح لليدين بالتراب إلى المرفقين:

هذا مروي عن ابن عمر وجابر رضي الله عنهم وروي - أيضا - سالم بن عبد الله والشعبي، والحسن، والنخعي، وقتادة، وسفيان، وابن المبارك، والليث، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة وأصحابه.

واستدل بعضهم: بالأحاديث المرفوعة المروية في ذلك، ولا يثبت منها شيء، كما سبق الإشارة إلى ذلك.

ص: 253

واستدلوا - أيضا -: بان الله تعالى أمر بغسل اليدين في الوضوء إلى المرفقين، ثم ذكر في التيمم مسح الوجه واليدين، فينصرف إطلاقهما في

ص: 254

التيمم إلى تقييدهما في

الوضوء، لا سيما وذلك في آية واحدة، فهو أولى من حمل المطلق على المقيد في آيتين.

وأجاب من خالفهم: بان المطلق إنما يحمل على المقيد في قضية واحدة، والوضوء والتيمم طهارتان مختلفتان، فلا يصح حمل مطلق أحدهما على مقيد الأخر.

ويدل على ذلك: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول أية التيمم لم يفهموا حمل المطلق على المقيد فيها، بل تيمموا إلى المناكب والآباط، وهم أعلم الناس بلغة العرب، ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم أن التيمم للوجه والكفين، وهو - أيضا - ينافي حمل المطلق على المقيد فيها.

وذهب آخرون: إلى أن التيمم يمسح فيه الكفان خاصة.

والثاني: بن المنذر لأهل هذه المقالة قولين: أحدهما يمسح الكفين إلى الرسغين، وحكاه عن علي. والثاني: يمسح الكفين مطلقا. قال: هو قول عطاء، ومكحول، والشعبي، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.

قال: وبهذا نقول للثابت عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال ((التيمم ضربة للوجه

والكفين)) .

قلت: هذا يوهم أن من قال بسمح الوجه والكفين، أنه لا ينتهي مسحهما إلى الكوعين، وهذا كما حكاه ابن عطية عن الشعبي، كما سبق عنه، وليس هذا قول الأئمة المشهورين.

ص: 255

وقد روى داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه سئل عن التيمم، فقال: أن الله قال في كتابه حين ذكر الوضوء: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6]، وقال في التيمم:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة 6]، وقال:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة 38] ، فكانت السنة في القطع الكفين، إنما هو، الوجه والكفين - يعني: التيمم.

خرجه الترمذي، وقال حسن صحيح غريب.

وروى الحكم بن أبان، عن عكرمة هذا المعنى - أيضاً.

وكذلك استدل بهذا الدليل مكحول وأحمد وغيرهما من الأئمة، وقالوا: أن القطع يكون من الرسغ، فكذلك التيمم.

والرسغ: هو مفصل الكف، وله طرفان، هما عظمان، فالذي يلي الإبهام

كوع، والذي يلي الخنصر كرسوع.

ومضمون هذا الاستدلال: أن اليد إذا أطلقت انصرفت إلى الرسغ، وان قيدت بموضع تقيدت به، فلما قيدت بالمرفقين في الوضوء وجب غسل الذراعين إلى المرفقين، ولما أطلقت في التيمم وجب إيصال

ص: 256

التراب الرسغ، كما تقطع يد السارق ويد المحارب منه.

وكذلك قال الأوزاعي: التيمم ضربة للوجه والكفين إلى الكوعين.

وكذلك نص إسحاق على أن التيمم يبلغ إلى الرسغ، وخطأ من قال: لا يجزئ ذلك. وقال الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم المعروف المشهور الذي يرويه الثقة عن الثقة بالأخبار الصحيحة: أن النبي صلى الله عليه وسلم علم عمار بن ياسر التيمم للوجه والكفين. قال: وعلى ذلك كان علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، والشعبي، معطاء، ومجاهد، ومكحول وغيرهم، فلا يجوز لأحد أن يدعي على هؤلاء أنهم لم يعرفوا التيمم. قال: ولو قالوا الذراعين: أحب إلينا اختيارا لكان أشبه.

وروى حرب بإسناده، عن زائدة، عن حصين بن عبد الرحمان، عن أبي مالك، عن عمار، أنه غمس باطن كفيه بالتراب، ثم نفخ يده، ثم مسح وجهه ويديه إلى المفصل.

وبإسناده: عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: التيمم ضربتين: ضربة للوجه، وضربة للكفين.

قَالَ: وثنا أحمد بن حنبل: ثنا سليمان بن حيان: أبنا حجاج،

ص: 257

عن عطاء

والحكم، عن إبراهيم، قَالَ: التيمم ضربتان للكفين والوجه.

قال: وثنا محمود بن خالد: ثنا الوليد بن مسلم، عن حامد وسعيد بن

بشير، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين.

قال الوليد: وأبنا الأوزاعي، عن عطاء أنه كان يقول في التيمم: مسحة واحدة للوجه، ثم ضربة أخرى لكفيه. وبه يأخذ الأوزاعي.

وروى حرب بإسناده عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: سالت الشعبي عن

التيمم؟ فضرب بيديه الأرض، ثم قرن أحداهما بالأخرى، ثم مسح وجهه وكفيه.

قال حرب: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: والتيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، يبدأ بوجه ثم يمسح كفيه أحداهما بالأخرى. قيل له: صح حديث عمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك؟ قال: نعم، قد صح.

والقول بان الواجب في التيمم مسح الكفين فقط: رواية عن مالك، وقول قديم للشافعي، قال في القديم - فيما حكاه البيهقي في ((كتاب المعرفة)) -: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوجه والكفين، ولو اعلمه ثابتاً لم أعده. قَالَ: فإنه ثبت عن عمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم الوجه والكفين، ولم يثبت إلى المرفقين، فما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى، وبهذا الحديث كان يفتي سعد بن سالم. انتهى.

ص: 258

ومن العلماء من قال: الواجب مسح اليدين إلى الكوعين، ويستحب مسحهما إلى المرفقين، ولعله مراد كثير من السلف - أيضا –؛ فإن منهم من روي عنه: إلى الكوعين. وروي عنه: إلى المرفقين، كالشعبي وغيره، فدل على أن الكل عندهم

جائز.

وهو - أيضا - رواية عن مالك، وقول وكيع، وإسحاق، وطائفة من

أصحابنا، وحكوه رواية عن أحمد، المنصوص عنه يدل على أن ذلك جائز، لا أنه

أفضل.

وسيأتي ذكر الضربة الواحدة ووالضربتين فيما بعد - أن شاء الله تعالى -؛ فإن البخاري افرد لذلك باباً.

ص: 259

‌6 - باب

الصعيد الطيب وضوء المسلم، يكفيه من الماء

وقال الحسن: يجزئه التيمم ما لم يحدث.

وأم ابن عباس وهو متيمم.

وقال يحيى بن سعيد: لا باس بالصلاة على السبخة والتيمم بها أو عليها.

ما بوب عليه البخاري من أن الصعيد الطيب وضوء المسلم: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن إسناده ليس على شرط البخاري، وقد خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي من حديث أبي قلابة، عن عمر ابن بجدان، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((الصعيد الطيب وضوء المسلم)) - وفي رواية: ((طهور المسلم - وان لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير)) .

وقال الترمذي: حسن صحيح.

ص: 260

وخرجه ابن حبان في ((صحيحه)) ، والدارقطني، وصححه، والحاكم.

وتكلم فيه بعضهم؛ لاختلاف وقع في تسمية شيخ أبي قلابة؛ ولأن عمرو ابن بجدان غير معروف -: قاله الإمام أحمد وغيره.

وقد روى هذا - أيضا - من حديث ابن سيرين، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

خرجه الطبراني والبزار.

ولكن الصحيح عن ابن سيرين مرسلا -: قاله الدارقطني وغيره.

وأما ما حكاه عن الحسن، أنه يجزئه التيمم ما لم يحدث، فهذا قول كثير من العلماء، وحكاه ابن المنذر عن ابن المسيب، والحسن، والزهري، والثوري، وأصحاب الرأي، ويزيد بن هارون. قال: وروي ذلك عن ابن عباس، وأبي جعفر.

وحكاه غير ابن المنذر - أيضا - عن عطاء، والنخعي والحسن بن صالح، والليث بن سعيد، وهو رواية عن أحمد، وقول أهل الظاهر.

واستدل لهذه المقالة بحديث: ((الصعيد الطيب طهور المسلم)) ، كما أشار إليه البخاري، وأشار إليه الإمام أحمد - أيضا.

والمخالفون يقولون: المراد أنه في حكم الوضوء والطهور في استباحة ما يستباح بالطهور بالماء لا في رفع الحدث، بدليل قوله: ((فإذا وجدت الماء

ص: 261

فأمسه بشرتك)) ، ولو كان الحدث قد ارتفع لم يقيد بوجود الماء.

وقد طرد أبو سلمة بن عبد الرحمان قوله في أنه يرفع الحدث، فقال: يصلي به، وإن وجد الماء قبل الصلاة، ولا ينتقض تيممه إلا بحدث جديد. وكذا قال في الجنب إذا لم تيمم ثم وجد الماء: لا غسل عليه.

وهذا شذوذ عن العلماء، ويرده قوله:((فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك)) ، ومن العجب أن أبا سلمة ممن يقول: أن من يصلي بالتيمم ثم وجد الماء في الوقت أنه يعيد الصلاة، وهذا تناقض فاحش.

وذهب أكثر العلماء إلى أنه يتيمم لكل صلاة، روي ذلك عن علي وابن عمر واستدل أحمد بقولهما، وعن عمرو بن العاص، وابن عباس في رواية عنه.

وروي الحسن بن عماره، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: من السنة أن لا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة والحدة، ثم يتيمم للصلاة الأخرى.

وهذا في حكم المرفوع، إلا أن الحسن بن عمارة ضعيف جداً.

وهو قول الشعبي، وقتادة، والنخعي، ومكحول، وشريك، ويحيى

ص: 262

بن سعيد، وربيعة، وحكي عن الليث - أيضا -، وهو مالك، والشافعي، وأحمد في ظاهر

مذهبه، وإسحاق، وأبي ثور وغيرهم.

وقال إسحاق: هذا هو السنة.

وبناه ربيعة ويحيى بن سعيد ومالك وأحمد على وجوب طلب الماء لكل صلاة، وقد سبقت الإشارة إلى هذا المسالة في ((كتاب: الوضوء)) .

ثم اختلف القائلون بالتيمم لكل صلاة على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه يجب التيمم لكل صلاة مفروضة، وسواء فعلت كل مفروضة في وقتها أو جمع بين فريضتين في وقت واحد، وهو قول مالك والشافعي وإسحاق، ورواية عن أحمد.

والثاني: أنه يجب التيمم في وقت كل صلاة مفروضة، ثم يصلي بذلك التيمم ما شاء، ويقضي به فوائت، ويجمع به فرائض، ويصلي به حتى يخرج ذلك الوقت،

وهذا، وهذا هو المشهور عن أحمد، وقول أبي ثور والمزني.

والثالث: أنه يتيمم لكل صلاة فرضاً كانت أو نفلا، حكي عن شريك، وهو وجه ضعيف لأصحابنا.

ومذهب مالك: لا يصلي نافلة مكتوبة بتيمم ومكتوبة بتيمم واحد إلا أن تكون نافلة بعد ومكتوبة، قال: وان صلى ركعتي الفجر بتيمم واحد أعاد التيمم

ص: 263

لصلاة

الفجر.

وقد ذهب طائفة ممن يرى أن التيمم يصلي به ما لم يحدث إلى أنه يرفع الحدث رفعا مؤقتا بوجود الماء، وهو قول طائفة من أصحابنا والحنفية والظاهرية، ووافقهم طائفة ممن يرى أن لا يصلى فريضتان من الشافعية كابن سريج، ومن المالكية، وقالا: أنه ظاهر قول مالك في ((الموطإ)) .

ولهذا قيل: أن النزاع في المسالة عند هؤلاء لفظي لا معنوي، وإنما يكون النزاع فيها معنويا مع أبي سلمة بن عبد الرحمان كما سبق حكاية قوله والله أعلم.

وأما ما حكاه عن ابن عباس أنه أم وهو متيمم، فالمراد: أنه أم المتوضئين وهو متيمم، وقد حكاه الإمام أحمد عن ابن عباس أيضا، واحتج به.

وقد خرجه سعيد بن منصور: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن أشعث بن

إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، قال، كان ابن عباس في نفر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، منهم،: عمار بن ياسر، وكانوا يقدمونه يصلي بهم لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى بهم ذات

ص: 264

يوم، فاخبرهم أنه صلى بهم وهو جنب متيمم.

ورخص في ذلك سعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء، والزهري، وحماد، ومالك، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، وأبو ثور، وهو رواية عن الأوزاعي.

وكره ذلك آخرون:

روى أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي، قال: لا يؤم المتيمم المتوضئ.

وكرهه النخعي، والحسن بن حي، والأوزاعي في رواية، ويحيى بن سعيد، وربيعة، ومحمد بن الحسن.

وعن الأوزاعي رواية، أنه لا يؤمهم إلا أن يكون أميرا، وان كانوا متيممين فله أن يؤمهم، كذلك قال الأوزاعي وربيعة ويحيى بن سعيد.

وهذا لا احسب فيه خلافا، وكلام ابن المنذر يدل على أنه محل خلاف - أيضا - وفية نظر.

وفي المنع من إمامة المتيمم للمتوضئين حديثان مرفوعان من رواية عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله، وإسنادهما لا يصح.

وفي الجواز حديث: صلاة عمرو بن العاص بأصحابه وهو جنب، فتيمم من البرد وصلى بهم وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكره البخاري فيما بعد - تعليقا - وسنذكره في موضعه - أن شاء الله.

ص: 265

وذكر البخاري لهذه المسألة في هذا الباب قد يشعر بأن مأخذ جواز ذلك عنده أن التيمم يرفع الحدث.

وقد قال الزهري: يؤم المتيمم المتوضئين؛ لأن الله طهره.

وقال الأوزاعي - في رواية أبي إسحاق الفزاري، عنه -: يؤمهم، ما زادته. فريضة الله ورخصته إلا طهورا.

وأكثر العلماء لم يبنوا جواز إمامته على رفع حدثه، ولهذا أجاز ذلك كثير ممن يقول: أن التيمم لا يرفع الحدث كمالك والشافعي وأحمد، لكن الإمام أحمد ذكر أن ما فعله ابن عباس يستدل به على أن طهارة التيمم كطهارة الماء يصلي بها ما لم يحدث. ولكن يختلف مذهبه في صحة ائتمام المتوضئ والمغتسل بالتيمم؛ فإن المتيمم يصلي بطهارة شرعية قائمة مقام الطهارة بالماء في الحكم، فهو كائتمام الغاسل لرجليه بالماسح لخفيه، بخلاف من لم يجد ماء ولا ترابا فإنه لا يأتم به متوضئ ولا متيمم، ولا يأتم به إلا من هو مثله؛ لأنه لم يأت بطهارة شرعية بالكلية.

والمانعون من ائتمام المتوضئ بالمتيمم ألحقوه بائتمام القارئ بالأمي الذي لا يقرا الفاتحة إذا صلى بتسبيح وذكر، وبصلاة القائم خلف القاعد؛ فإن كلا منهما أتى ببدل، ولا يصح أن يأتي به

ص: 266

إلا من هو مثله.

ويجاب عن ذلك: بأن الأمي مخل بركن القيام الأعظم وهو القراءة، والقرآن مقصود لذاته في الصلاة بخلاف الطهارة؛ فإنها لا تراد لذاتها بل لغيرها، وهو استباحة الصلاة بها، والتيمم يبيح الصلاة كطهارة الماء.

وأما ائتمام القائم بالقاعد فقد أجاز جماعة من العلماء، وأجاز أحمد في صورة خاصة، فإن القاعد قد أتى ببدل القيام وهو الجلوس، واتى بركن القيام الأعظم وهو القراءة.

وأما ما حكاه عن يحيى بن سعيد، أنه لا بأس بالتيمم بالسبخة والصلاة عليها:

فالأرض السبخة هي المالحة التي لا تنبت، وأكثر العلماء على جواز التيمم بها، وقد تيمم النبي صلى الله عليه وسلم بالجدار خارج المدينة، وأرض المدينة سبخة، وهو قول مالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم.

وقال إسحاق: لا تيمم بالسباخ لأنها لا تنبت، وقد فسر ابن عباس الصعيد الطيب بأرض الحرث، والسباخ ليست كذلك.

واختلف قول الإمام أحمد فيه، فقال - في رواية -: لا يعجبني التيمم بها. وقال - مرة -: أن لم يجد فلا بأس. وقال - مرة -: أن تيمم منها يجزئه، وأرض الحرث أحب إلي. وقال - مرة -: أن اضطر إليها أجزأه، وإن لم يضطر فلينظر الموضع الطيب - يعني: تراب الحرث - قال - مرة -: من الناس من يتوقى ذلك، وذلك أن السبخة تشبه الملح.

واستدل بقول ابن عباس: ((أطيب الصعيد أرض الحرث)) . ولكن هذا يدل على أن غير أرض الحرث

ص: 267

تسمى صعيدا - أيضا -، لكن أرض الحرث أطيب منها.

قال أبو بكر الخلال: السباخ ليس هي عند أبي عبد الله كأرض الحرث، إلا أنه سهل بها إذا اضطر إليها، وإنما سهل بها إذا كان لها غبار، فأما أن كانت قحلة كالملح فلا يتيمم بها أصلا.

وأما الصلاة في السباخ، فقال أحمد - مرة -: تجزئه، وقال - مرة -: ما سمعت فيها شيئاً.

وقال حرب: قلت لأحمد: هل بلغك أن أحدا كره الصلاة في الأرض السبخة؟ قال: لا.

قال حرب: ثنا عبد الوهاب بن الضحاك: حدثني إسماعيل بن عياش، قال: سمعت أناسا من أهل العلم يكرهون الصلاة في السباخ، ورخص جماعة من أهل العلم في الصلاة في السباخ.

عبد الوهاب هذا، لا يعتمد عليه.

وخرج البخاري في هذا الباب حديث عمران بن حصين بطوله، فقال:

ص: 268

344 -

حدثنا مسدد بن مسرهد: ثنا يحيى بن سعيد: ثنا عوف: ثنا أبو رجاء، عن عمران بن حصين، قال: كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإنا أسرينا، حتى كنا في آخر الليل وقعنا وقعة، ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس، فكان أول من استيقظ فلان ثم فلان ثم فلان - يسميهم أبو رجاء، فنسي عوف -، ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام لم نوقظه حتى يكون هو يستيقظ؛ لأنا

ص: 268

لا ندري ما يحدث له في نومه، فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس – وكان رجلا جليدا – فكبر ورفع صوته بالتكبير، فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ لصوته النبي صلى الله عليه وسلم، فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم، فقال:((لا ضير – أو: لا يضير -، ارتحلوا)) ، فارتحلوا فسار غير بعيد.

ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ، ونودي بالصلاة، فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم، فقال:((ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟)) قال: أصابتني جنابة، ولا ماء، قال:((عليك بالصعيد؛ فإنه يكفيك)) ، ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتكى الناس إليه من العطش، فنزل فدعا فلانا - كان يسميه أبو رجاء، نسيه عوف -، ودعا عليا، فقال:((أذهبا فابتغيا الماء)) فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين - أو سطيحتين - من ماء على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة، ونفرنا خلوفا، فقالا لها: انطلقي إذا، قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: الذي يقال له الصابئ؟ قالا: هو الذي تعنين، فانطلقي، فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحدثاه الحديث، قال: فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا

ص: 269

النبي صلى الله عليه وسلم بإناء، ففرغ فيه من أفواه المزادتين - أو السطيحتين -، وأوكأ أفواهمها، وأطلق العزالي، ونودي في الناس: اسقوا واستقوا، فسقى من سقى، واستقى من شاء، وكان آخر ذلك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، قال:((اذهب فأفرغه عليك)) . وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها، وايم الله، لقد اقلع عنها وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((اجمعوا لها)) ، فجمعوا لها من بين عجوة ودقيقة وسويقة، حتى جمعوا لها طعاما فجعلوه في ثوب، وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها.

قال لها: ((تعلمين ما رزئنا من مائك شيئا، ولكن الله هو الذي أسقانا)) ، فأتت أهلها وقد احتبست عنهم، قالوا: ما حبسك يا فلانة؟ قالت: العجب! لقيني رجلان، فذهبا بي إلى هذا الرجل الذي يقال له: الصابئ، ففعل كذا وكذا، فو الله، أنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه - وقالت بإصبعيها الوسطى والسبابة فرفعتهما إلى السماء - والأرض -، أو أنه لرسول الله حقا، فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين ولا يصيبون الصرم الذي هي منه، فقالت يوما لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمدا، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها فدخلوا في الإسلام.

ص: 270

قَالَ أبو عبد الله: صبأ: خرج من دين إلى غيره.

وقال أبو العالية: الصابئون: فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور.

فوائد هذا الحديث كثيرة جدا، ونحن نشير إلى مهماتها إشارة لطيفة - أن شاء الله تعالى:

فأما قوله: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام لم يوقظه أحد حتى يكون هو يستيقظ، لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه)) ، فالمراد: أنه صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه في نومه كما يوحى إليه في يقظته، ورؤيا الأنبياء وحي، ولهذا كانت تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فكانوا يخشون أن يقطعوا عليه الوحي إليه بإيقاظه.

ولا تنافي بين نومه حتى طلعت الشمس وبين يقظة قلبه؛ فإن عينيه تنامان، والشمس إنما تدرك بحاسة البصر لا بالقلب.

وقد يكون الله عز وجل أنامه حتى يسن لأمته قضاء الصلاة بعد فوات وقتها بفعله، فإن ذلك آكد من تعليمه له بالقول، وقد ورد التصريح بهذا من حديث ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم الصبح ذلك اليوم بعد طلوع الشمس وانصرف قال:((أن الله عز وجل لو شاء أن لا تناموا عنها لم تناموا، ولكن أراد أن يكون لمن بعدكم)) . خرجه الإمام أحمد وغيره.

وهذا يشبه ما ذكره مالك في ((الموطإ)) أنه بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:((إنما أنسى لأسن)) .

ص: 271

وقوله: ((ما أيقظنا إلاّ حر الشمس)) ، يدل على أن الشمس كانت قد ارتفعت وزال وقت النهي عن الصلاة، لأن حرها لا يكاد يوجد ألا بعد ذلك، ففي هذا دليل على أن ارتحالهم عن ذلك المكان لم يكن للامتناع من القضاء في وقت النهي عن الصلاة، بل كان تباعدا عن المكان الذي حضرهم فيه الشيطان، كما جاء التصريح به في حديث آخر.

ولكن في صحيح مسلم في هذا الحديث - أعني: حديث عمران بن حصين، أنهم ناموا حتى بزغت الشمس وان النبي صلى الله عليه وسلم لما رفع رأسه ورأى الشمس قد بزغت قال:((ارتحلوا)) فسار بنا حتى إذا ابيضت الشمس نزل فصلى بنا الغداة.

كذا خرجه من رواية سلم بن زرير، عن أبي رجاء، وفي سياقه بعض مخالفة لرواية عوف، عن أبي رجاء التي خرجها البخاري، وفيه: أنه كان أول من استيقظ أبو بكر رضي الله عنه.

وقوله: ((فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوضوء فتوضأ)) يدل على أن من معه ماء وكان في مفازة فإنه يتوضأ منه، ولا يتيمم ويحبسه خشية أن يبتلى هو أو أحد من رفقته

بعطش.

ويدل على هذا: أن عمران ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم وسار شكى الناس إليه العطش.

وفي رواية سلم المشار إليها: قال عمران: ثم عجلني في ركب بين يديه، نطلب الماء وقد عطشنا عطشا شديدا - وذكر الحديث، وهذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم لم يخش على نفسه عطشا، فإن من خاف على نفسه العطش ومعه ماء يسير فإنه يتيمم ويدعه لشربه.

ص: 272

وقد روى عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إذا كنت مسافرا وأنت جنب أو أنت على غير وضوء فخفت أن توضأت أن تموت من العطش فلا توضأ، واحبسه لنفسك.

خرجه الأثرم.

وخرجه الدارقطني من طريق عطاء بن السائب، عن زاذان، عن علي، في الرجل يكون في السفر فتصيبه الجنابة ومعه الماء القليل يخاف أن يعطش، قال: يتيمم ولا

يغتسل.

قال الإمام أحمد: عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحبسون الماء لشفاههم ويتيممون. ونص على أنه لو رأى قوما عطاشا ومعه إداوة من ماء، أنه يسقيهم الماء ويتيمم.

واختلف أصحابنا: هل ذلك على الوجوب أو الاستحباب؟ على وجهين، أصحهما: أنه للوجوب، وهو قول الشافعية.

فهذا الحديث محمول على أنه صلى الله عليه وسلم لم يخف على نفسه عطشا، ولم يجد قوما عطاشا في الحال، فلذلك توضأ بالماء ولم يتيمم. ويدل على أنه لا يحبس الماء لخوف عطش يحدث لرفقته.

ولم ينص أحمد على حبس الماء خشية عطش يحدث لرفقته، وإنما قال أصحابه متابعة لأصحاب الشافعي، وقالوا: هل حبس الماء لعطش غيره المتوقع واجب أو مستحب؟ فيه وجهان، قالوا: وظاهر كلام أحمد أنه مستحب غير واجب؟ لان حاجة الغير هنا متوقعة وحاجته للطهارة حاضرة، وقد ترجحت بكونه مالكا، ولهذا قدمنا نفقة الخادم على نفقة

ص: 273

الوالدين، وان كانت حاجتهما إلى النفقة اشد من حاجة نفسه إلى الخدمة، تقديما لنفسه على غيره.

قلت: وحديث عمران يدل على أنه لا يستحب - أيضا - بل يقدم الوضوء على عطش الرفيق المتوقع، فإنه لو كان ذلك أفضل من الوضوء لحبس النبي صلى الله عليه وسلم الماء وتيمم، فإنه كان معه خلق من أصحابه، وكان الماء معهم قليلا جدا ولهذا شكوا إليه العطش عقيب ذلك عند اشتداد حر الشمس وارتفاع النهار، وكان الماء منهم بعيدا.

وقد أشار إلى هذا المعنى الذي ذكرناه أبو المعالي الجويني من الشافعية، وخالف أصحابه فيما ذكروه من حبس الماء لعطش رفقته المتوقع، وهذا هو الذي دلت عليه هذه السنة الصحيحة، والله أعلم.

وفي الحديث: دليل على أن الفوائت يؤذن لها وتصلى جماعة.

وقوله صلى الله عليه وسلم للذي لم يصل مع القوم: ((ما منعك أن تصلي مع القوم؟)) قَالَ: أصابتني جنابة ولا ماء. قَالَ: ((عليك بالصعيد، فإنه يكفيك)) فيه دليل على التيمم للجنابة كالتيمم للحدث الأصغر، ودليل على أن عادم الماء يكفيه الصعيد من الماء.

ولهذه الكلمة خرج البخاري هذا الحديث في هذا الباب، وجعله دليلا له على إقامة التيمم مقام الطهارة بالماء عند عدم الماء، فيؤخذ من هذا أنه يصلي به كما يصلي بالماء، كما هو اختيار البخاري ومن قال بقوله من العلماء.

وفية دليل على أنه لا يجب طلب الماء إذا غلب على الظن عدمه أو

ص: 274

قطع بذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم أمره بالتيمم، ولم يأمره بطلب، ولا بسؤال رفقته.

وقد ذهب ابن حامد من أصحابنا إلى أنه لا يلزمه سؤال رفقته، وان قلنا: يلزمه الطلب، وأنه إنما يلزمه طلبه في رحله ما قرب منه إذا احتمل وجود الماء، والمنصوص عن أحمد: أن عليه أن يطلبه في رفقته.

وفي رواية مسلم المشار إليها فيما تقدم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: ((يا فلان ما منعك أن تصلي معنا؟)) قال: يا نبي الله، أصابتني جنابة. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتيمم بالصعيد، فصلى.

وفي الحديث - أيضا - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه الماء أعطاه ماء وأمره أن يغتسل به، وهذا مثل قوله في حديث أبي ذر:((فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك)) ، وفيه رد على أبي سلمة في قوله: أنه لا غسل عليه، كما سبق.

وقول تلك المرآة: ((ونفرنا خلوف)) .

قال الخطابي: النفر الرجال، والخلوف الذين خرجوا للاستقاء، وخلفوا النساء والأثقال، يقال: أخلف الرجل واستخلف إذا استقى الماء.

قال: ويقال لكل من خرج من دين إلى دين آخر: صابئ - بالهمز، وأما: صبا يصبو بلا همز فمعناه: مال.

قال: والعزالي جمع عزلاء، وهي عروة المزادة، يخرج منها الماء بسعة.

وقال غيره: العزلاء: فم المزادة الأسفل، وتجمع على عزالى

ص: 275

وعزالي - بكسر اللام وفتحها - كالصحاري والعذاري.

قال: والصرم: النفر النازلون على ماء، وتجمع على أصرام، فأما الصرمة - بالهاء - فالقطعة من الإبل نحو الثلاثين عددا.

قال: وقوله: ((ما رزئناك)) ، أي: ما نقصناك، ولا أخذنا منك شيئا.

قلت: وفي الحديث معجزة عظيمة، وعلم من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بتكثير الماء القليل ببركته، وإرواء العطاش منه، واستعمالهم وأخذهم منه في قربهم، من غير أن ينقص الماء المأخوذ منه شيئا، ولذلك قال المرآة:((ما رزئناك من مائك شيئا، وإنما سقانا الله عز وجل)) .

وفي رواية مسلم المشار إليها في هذا الحديث: ((فأمر براويتها فأنيخت، فمج في العزلاوين العلياوين، ثم بعث براويتها فشربنا، ونحن أربعون رجلا عطاش حتى روينا، وملأنا كل قربة معنا وإداوة، وغسلنا صاحبنا، غير أنا لم نسق بعيرا وهي تكاد تنضرج من الماء)) - يعني: المزادتين - وذكر بقية الحديث.

وإنما لم يستأذن المرآة أولا في الشرب من مائها والأخذ منه، لأن انتفاعهم إنما كان بالماء الذي أمده الله بالبركة، لم يكن من نفس مائها، ولذلك قال:((ما رزئناك من مائك شيئا، وإنما سقانا الله)) .

ونظير هذا: أن جابرا صنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما يسيرا في عام الخندق، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فساره بذلك، وقال له: تعال أنت في نفر

ص: 276

معك، فصاح النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أهل

الخندق، أن جابرا قد صنع لكم سورا، فحيهلا بكم)) ، ثم جاء بهم جميعا، فأكلوا حتى شبعوا، والطعام بحاله.

فإن أكل أهل الخندق إنما كان مما حصلت فيه البركة بسبب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم هو الداعي لأهل الخندق كلهم إلى الطعام في الحقيقة، فلذلك لم يحتج في استئذان جابر في ذلك.

وهذا بخلاف ما جرى لأبي شعيب اللحام لما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وجلساءه، فلما قاموا تبعهم رجل لم يكن معهم حين دعوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب المنزل:((أنه اتبعنا رجل لم يكن معنا حين دعوتنا، فإن أذنت له دخل)) فأذن له فدخل.

وقد خرجاه في ((الصحيحين)) بمعناه من حديث أبي مسعود، فإن ذلك اليوم لم يحصل فيه ما حصل في طعام جابر وماء المرآة المشركة – والله سبحانه وتعالى أعلم -، فإن غالب ما كان يقع منه صلى الله عليه وسلم تكثير الطعام والشراب في أوقات الحاجة العامة إليه.

وفي حديث عمران - أيضا - دليل على جواز استعمال ماء المشركين الذين في قربهم ونحوها من أوعية الماء المعدة له، وقد سبق الكلام على ذلك في ((كتاب

الوضوء)) .

ص: 277

‌7 - باب

إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت

أو خاف العطش تيمم

ويذكر: أن عمرو بن العاص أجنب في ليلة باردة فتيمم، وتلا:{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29] ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف،

حديث عمرو بن العاص خرجه أبو داود من رواية يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي انس، عن عبد الرحمان بن جبير، عن عمرو بن العاص، قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت أن اغتسلت أن اهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:((يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب!)) فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29] ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئا.

وخرجه - أيضا - من طريق عمرو بن الحارث وغيره، عن يزيد بن أبي الحبيب، عن عمران، عن عبد الرحمان بن جبير، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، أن عمرو بن العاص كان على سرية - فذكر الحديث بنحوه، وقال فيه: فغسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم صلى بهم -

ص: 278

وذكر باقيه بنحوه، ولم يذكر التيمم.

وفي هذه الرواية زيادة: ((أبي قيس)) في إسناده، وظاهرها الإرسال.

وخرجه الإمام أحمد والحاكم، وقال: على شرط الشيخين، وليس كما قال، وقال أحمد: ليس إسناده بمتصل.

وروى أبو إسحاق الفزاري في ((كتاب السير)) عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثا وامر عليهم عمرو بن العاص، فلما اقبلوا سألهم عنه، فأثنوا خيرا، إلا أنه صلى بنا جنبا، فسأله، فقال: أصابتني جنابة فخشيت على نفسي من البرد، وقد قال الله تعالى:{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29] ، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا مرسل.

وقد ذكره أبو داود في ((سننه)) تعليقا مختصرا، وذكر فيه: أنه تيمم.

وأكثر العلماء: على أن من خاف من استعمال الماء لشدة البرد فإنه يتيمم

ويصلي، جنبا كان أو محدثا.

واختلفوا هل يعيد، أم لا؟

فمنهم من قال: لا إعادة عليه، وهو قول الثوري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، ومالك، والحسن بن صالح، وأحمد في رواية.

ومنهم من قال: عليه الإعادة بكل حال سواء كان مسافرا أو حاضرا، وهو قول الشافعي، ورواية عن أحمد.

ومنهم من قال: أن كان مسافرا لم يعد، وإن كان حاضرا أعاد، وهو قول آخر للشافعي، ورواية عن أحمد، وقول أبي يوسف ومحمد.

وحكى ابن عبد البر عن أبي يوسف وزفر: أنه لا يجوز للمريض في

ص: 279

الحضر التيمم بحال.

وذكر أبو بكر الخلال من أصحابنا: أنه لا يجوز التيمم في الحضر لشدة البرد، وهو مخالف لنص أحمد وسائر أصحابه.

وحكى ابن المنذر وغيره عن الحسن وعطاء: أنه إذا وجد الماء اغتسل به وأن

مات؛ لأنه واجد للماء، إنما أمر بالتيمم من لم يجد الماء.

ونقل أبو إسحاق الفزاري في ((كتاب السير)) عن سفيان نحو ذلك، وانه لا يتيمم لمجرد خوف البرد، وإنما يتيمم لمرض مخوف، أو لعدم الماء.

وينبغي أن يحمل كلام هؤلاء على ما إذا لم يخش الموت، بل أمكنه استعمال الماء المسخن وإن حصل له به بعض الضرر. وقد روي هذا المعنى صريحا عن الحسن

- أيضا -، وكذلك نقل أصحاب سفيان مذهبه في تصانيفهم، وحكوا أن سفيان ذكر أن الناس اجمعوا على ذلك.

وقد سبق الكلام في تفسير الآية، وان الله تعالى أذن في التيمم للمريض وللمسافر ولمن لم يجد الماء من أهل الأحداث مطلقا، فمن لم يجد الماء فالرخصة له محققة.

وأما المرض والسفر فهما مظنتان للرخصة في التيمم، فإن وجدت الحقيقة فيهما جاز التيمم، فالمرض مظنة لخشية التضرر باستعمال الماء، والسفر مظنة لعدم الماء، فإن وجد في المرض خشية التضرر وفي السفر عدم الماء جاز التيمم، وإلا فلا.

ص: 280

وأما من قال من الظاهرية ونحوهم: أن مطلق المرض يبيح التيمم سواء تضرر باستعمال الماء أو لم يتضرر، فقوله ساقط يخالف الإجماع قبله، وكان يلزمه أن يبيح التيمم في السفر مطلقا سواء وجد الماء أو لم يجده.

وقول البخاري: ((إذا خاف على نفسه المرض أو الموت)) يشير إلى الرخصة في التيمم إذا خاف من شدة البرد على نفسه المرض، ولا يشترط خوف الموت خاصة، وهذا ظاهر مذهب أحمد، واحد قولي الشافعي.

والقول الثاني: لا يجوز التيمم إلا إذا خاف التلف، إما تلف النفس أو تلف عضو منه، وحكي رواية عن أحمد، وفي صحتها عنه نظر.

والحنيفية السمحة أوسع من ذلك، وخوف الموت أو المرض هو داخل في معنى المرض الذي أباح الله التيمم معه؛ لأنه إنما يباح التيمم لمرض يخشى منه زيادته أو التلف، فحيث خشي ذلك فقد وجد السبب المبيح للتيمم.

ولو كان في الغزو وهو يجد الماء لكنه يخشى على نفسه من العدو أن اشتغل بالطهارة، ففيه عن أحمد روايتان:

إحداهما: يتيمم ويصلي، اختارها أبو بكر عبد العزيز.

والثانية: يؤخر الصلاة إلى أن يقدر على الوضوء، كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات يوم الخندق.

ولو احتاجت المرآة إلى الوضوء وكان الماء عنده فساق تخاف منهم على نفسها، فقال أحمد: لا يلزمها الوضوء. وتوقف مرة في ذلك.

ص: 281

وأما إذا خاف العطش على نفسه، فإنه يحبس الماء ويتيمم، وقد سبق قول علي وابن عباس في ذلك، وحكاية أحمد له عن عدة من الصحابة. وقد ذكر ابن المنذر أنه إجماع من يحفظ عنه من أهل العلم، وسمى منهم جماعة كثيرة.

وقد سال قوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:((هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)) .

وسؤالهم يشعر بأن من معه ماء يسير لا يتوضأ به وهو يخشى العطش على نفسه، وأقرهم صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولم يردهم عن اعتقادهم.

خرج البخاري في هذا الباب حديث عمار من رواية أبي موسى الأشعري، عنه، فقال:

ص: 282

345 -

ثنا بشر بن خالد: ثنا محمد - هو: غندر -، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل: قال أبو موسى لعبد الله بن مسعود: إذا لم تجد الماء لا تصلي؟ قال عبد الله: لو رخصت لهم في هذا، كان إذا وجد أحدهم البرد قال هكذا - يعني: تيمم - وصلى. قال: قلت فأين قول عمار لعمر؟ قال: إني لم أرى عمر قنع بقول عمار.

ص: 282

346 -

حدثنا عمر بن حفص: ثنا أبي، عن الأعمش، قال: سمعت

ص: 282

شقيق ابن سلمة قال: كنت عند عبد الله وأبي موسى، فقال له أبو موسى: أرأيت يا أبا

عبد الرحمان، إذا أجنب الرجل فلم يجد ماء كيف يصنع؟ فقال عبد الله: لا يصلي حتّى يجد الماء. فقال أبو موسى: فكيف تصنع بقول عمار حين قَالَ له النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: ((كان يكفيك)) ؟ قال: ألم تر عمر لم يقنع منه بذلك؟ فقال أبو موسى: دعنا من قول عمار، كيف تصنع بهذه الآية؟ فما درى عبد الله ما يقول. فقال: لو أنا رخصنا لهم في هذا لأوشك إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتيمم. فقلت لشقيق: فإنما كره

عبد الله لهذا؟ قال: نعم.

كان عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود يقولان: أن التيمم إنما يجوز عن الحدث الأصغر، وأما عن الجنابة فلا يجوز، وقالا: لا يصلي الجنب حتى يجد الماء ولو عدمه شهرا.

وروي ذلك عن طائفة من أصحاب ابن مسعود وأتباعهم كالأسود وأبي عطية والنخعي.

وقد روي عن عمر وابن مسعود أنهما رجعا عن ذلك، ووافقا بقية الصحابة، فإن عمر وكل الأمر في ذلك إلى عمار، وقال له: نوليك ما توليت، وابن مسعود رجع عن قوله في التيمم -: قاله الضحاك، واتبعت الأمة في ذلك قول الصحابة دون عمر وابن مسعود. وقد خالفهما علي وعمار وأبو موسى الأشعري وجابر بن عبد الله وابن عباس.

ص: 283

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الجنب إذا لم يجد الماء بأن يتيمم ويصلي، في

حديث عمران بن حصين المتقدم، وحديث عمار، وروي - أيضا - من حديث أبي ذر وغيره.

وشبهة المانعين: أن الله تعالى قال: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43]، وقال:{) وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6]- يعني به:

الغسل -، ثم ذكر التيمم عند فقد الماء بعد ذكره الأحداث الناقضة للوضوء، فدل على أنه إنما رخص في التيمم عند عدم الماء لمن وجدت منه هذه الأحداث، وبقي الجنب مأمورا بالغسل بكل حال.

وهذا مردود؛ لوجهين:

أحدهما: أن آية الوضوء افتتحت بذكر الوضوء، ثم بغسل الجنابة، ثم أمر بعد ذلك بالتيمم عند عدم الماء، فعاد إلى الحدثين معا، وان قيل: أنه يعود إلى أحدهما، فعوده إلى غسل الجنابة أولى؛ لأنه أقربهما، فأما عوده إلى أبعدهما وهو - وضوء الصلاة - فممتنع.

وأما آية سورة النساء، فليس فيها سوى ذكر الجنابة، وليس للوضوء فيها ذكر، فكيف يعود التيمم إلى غير مذكور فيها، ولا يعود إلى المذكور؟

والثاني: أن كلتا الآيتين: أمر الله بالتيمم من جاء من الغائط، ولمس النساء أو لم يجد الماء، ولمس النساء إما أن يراد به الجماع خاصة، كما قاله ابن عباس وغيره، أو أنه يدخل فيه الجماع وما دونه من الملامسة لشهوة، كما يقوله غيره، فأما أن يخص به ما دون الجماع ففيه بعد.

ولما أورد أبو موسى على ابن مسعود الآية تحير ولم يدر ما يقول، وهذا يدل على أنه رأى أن الآية يدخل فيها الجنب كما قاله أبو موسى.

ص: 284

وفي أمر النبي صلى الله عليه وسلم الجنب العادم للماء أن يتيمم ويصلي دليل على أنه صلى الله عليه وسلم فهم دخول الجنب في الآية، وليس بعد هذا شيء.

ورد ابن مسعود تيمم الجنب؛ لأنه ذريعة إلى التيمم عند البرد لم يوافق عليه؛ لان النصوص لا ترد بسد الذرائع، وأيضا، فيقال: أن كان البرد يخشى معه التلف أو الضرر فإنه يجوز التيمم معه كما سبق.

وقد روى شعبة، أن مخارقا حدثهم، عن طارق، أن رجلا أجنب فلم يصل، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال له:((أصبت)) . وأجنب رجل آخر فتيمم وصلى، فأتاه صلى الله عليه وسلم، فقال له نحوا مما قال للآخر - يعني:((أصبت)) .

خرجه النسائي، وهو مرسل.

وقد يحمل هذا على أن الأول سأله قبل نزول آية التيمم، والآخر سأله بعد

نزولها.

وروى أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن الحكم، عن ذر، عن ابن أبزى، عن أبيه، أن عمارا قال لعمر: أما تذكر يا أمير المؤمنين أني كنت أنا وأنت في سرية فأجنبنا ولم نجد الماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت بالتراب وصليت، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرنا ذلك له، فقال ((أما أنت فلم يكن ينبغي لك أن تدع الصلاة، وأما أنت يا عمار

ص: 285

فلم يكن لك أن تتمعك كما تتمعك الدابة، إنما كان يجزيك)) ـ وضر ب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى الأرض إلى التراب، ثُمَّ قَالَ -:((هكذا)) ، ونفخ فيها ومسح وجهه ويديه إلى المفصل، وليس فيه الذراعان.

ص: 286

8 -

باب

التيمم ضربة

ص: 287

347 -

حدثنا محمد بن سلام: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، قال: كنت جالسا مع عبد الله أبي موسى الأشعري، فقال له أبو موسى: لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهرا، أما كان يتيمم ويصلي؟ فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: 6] ؟ فقال عبد الله: لو رخص لهم هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد. قلت: وإنما كرهتم هذا لذا؟ قال: نعم. فقال أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لعمر بن الخطاب: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:((إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا)) وضرب بكفه ضربة على الأرض، ثم نفضها، ثم مسح بها ظهر كفه بشماله، أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بهما وجهه. قال عبد الله: ألم تر عمر لم يقنع بقول عمار؟

زاد يعلي، عن الأعمش، عن شقيق، قال: كنت مع عبد الله

ص: 287

وأبي موسى، فقال أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لعمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني أنا وأنت، فأجنبت فتمعكت بالصعيد، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه فقال:((إنما كان يكفيك هكذا)) ، ومسح وجهه وكفيه واحدة؟

محمد بن سلام، هو: البيكندي، وقد اختلفوا في ضبط ((سلام)) : هل هو بالتخفيف أو بالتشديد؟ والتخفيف أكثر فيه واشهر، ولأبي محمد عبد العظيم المنذري في ذلك جزء منفرد.

ثم ظهر لي أن التشديد فيه أصح، فإن الذين رجحوا فيه التخفيف اعتمدوا على حكاية رويت عن محمد بن سلام، أنه قال: أنا محمد بن سلام بتخفيف اللام، وقد أفردت لذلك جزءا، وذكرت فيه أن هذه الحكاية لا تصح، وفي إسنادها متهم

بالكذب.

وقد خرج مسلم هذا الحديث عن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة وابن نمير كلهم، عن أبي معاوية بهذا الإسناد والمتن، إلا أن لفظه: فقال: ((إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا)) ، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه.

ص: 288

وخرجه - أيضا - من طريق عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، ولفظ حديثه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما كان يكفيك أن تقول هكذا)) ، وضرب بيديه إلى الأرض، فنفض يديه فمسح وجهه وكفيه.

وخرج القاضي إسماعيل المالكي حديث أبي معاوية، عن ابن نمير، عنه، ولفظه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك على الأرض، ثم تنفضهما، ثم تمسح يمينك على شمالك وشمالك على يمينك، ثم تمسح وجهك)) .

وخرج حديث عبد الواحد بن زياد، عن محمد بن أبي بكر المقدمي، عنه، ولفظ حديثه:((إنما كان يكفيك أن تقول هكذا)) ، وضرب بكفيه إلى الأرض مرة واحدة، ثم مسح إحداهما بالأخرى، ومسح وجهه.

وأما رواية يعلى، عن الأعمش التي علقها البخاري، فخرجها الإمام أحمد في ((المسند)) عن يعلى - وهو: ابن عبيد الطنافسي - كذلك.

وروى الإمام أحمد - أيضا - عن عفان: ثنا عبد الواحد، عن الأعمش بهذا الحديث، وفيه: وضرب بكفيه إلى الأرض، ثم مسح كفيه جميعا، ومسح وجهه مسحة واحدة بضربة واحدة.

قال عفان: وأنكره يحيى بن سعيد، فسألت حفص بن غياث، فقال: كان الأعمش يحدثنا به

ص: 289

عن سلمة بن كهيل، وذكر: أبا وائل.

وقال الإمام أحمد في رواية الأثرم: أن كان ما روى أبو معاوية حقا: روى عن الأعمش، عن شقيق القصة. فقال - أيضا -: ضربة للوجه والكفين، وتابعه عبد الواحد.

قال أبو عبد الله - يعني: أحمد -: فهذان جميعا قد اتفقا عليه، يقولان: ضربة للوجه والكفين.

وإنما أنكر يحيى بن سعيد هذه اللفظة، وتوقف فيها الإمام أحمد لان شعبة وحفص بن غياث وابن عيينة وغيرهم رووه: عن الأعمش، ولم يذكروا الضربة الواحدة، ولا صفة التيمم في حديثه عن شقيق، عن أبي موسى، كما ساق ذلك البخاري في الباب الماضي.

ثم ذكر أحمد أن أبا معاوية وعبد الواحد قد اتفقا على هذه اللفظة، فزالت نكارة التفرد، وقد تبين أن يعلى تابعهما - أيضا.

وقد كان الأعمش يروي هذا الحديث عن سلمة بن كهيل، عن ابن أبزى، عن عمار على اختلاف عليه في إسناده، وذكر فيه: صفة التيمم بضربة واحدة، ولكنه ذكر أنه زاد على مسح الكفين بعض الذراعين، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم في ((باب: التيمم للوجه والكفين)) ، وذكرنا أن سلمة بن كهيل شك في الزيادة على الكفين، وانه رواه عنه سفيان وشعبة والأعمش مع اختلاف عليهم في بعض الإسناد والمتن، فربما علل ذكر الضربة الواحدة بأنه كان عند الأعمش، عن سلمة بن كهيل، وحمل عليه حديث أبي وائل، كما قد يفهم ذلك من قول حفص بن غياث الذي ذكره عنه عفان،

ص: 290

إلا أن الأئمة اعتمدوا على رواية أبي معاوية وعبد الواحد ويعلى، عن الأعمش، عن شقيق وحده للضربة الواحدة، وأبو معاوية مقدم في حديث الأعمش، يرجع إليه فيه عند اختلاف أصحابه.

وقد رويت الضربة الواحدة عن عمار من طريق قتادة، عن عزرة، عن ابن

أبزى، عن أبيه، عن عمار - أيضا -، وقد تقدم ذكره - أيضا. وحديث شعبة، عن الحكم، عن ذر، عن ابن أبزى المتفق على تخريجه في ((الصحيحين)) كما تقدم يدل عليه - أيضا.

وقد اتفق الأئمة على صحة حديث عمار، وتلقيه بالقبول.

قال إسحاق بن هانئ: سئل أحمد عن التيمم؟ قال: ضربة واحدة للوجه والكفين، قيل له: ليس في قلبك شيء من حديث عمار؟ قَالَ: لا.

وفي حديث أبي معاوية الذي خرجه البخاري هاهنا شيئان أنكرا على أبي معاوية:

أحدهما: ذكره مسح الوجه بعد مسح الكفين، فإنه قال:((ثم مسح وجهه)) ، وقد اختلف في هذه اللفظة على أبي معاوية، وليست هي في رواية مسلم كما ذكرناه.

وكذلك خرجه النسائي عن أبي كريب، عن أبي معاوية، ولفظ حديثه:((إنما كان يكفيك أن تقول هكذا)) وضرب بيديه على الأرض

ص: 291

ضربة فمسح كفيه، ثم نفضهما، ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله، على كفيه ووجهه.

وخرجه أبو داود عن محمد بن سليمان الأنباري، عن أبي معاوية، ولفظه:((إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا)) فضرب بيده على الأرض فنفضهما، ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه.

فاختلف على أبي معاوية في ذكر مسح الوجه، وعطفه: هل هو بالواو، أو بلفظ:((ثم)) ؟

وقد قال الإمام أحمد في رواية بن عَبدةَ: رواية أبي معاوية، عن الأعمش في تقديم مسح الكفين على الوجه غلط.

والثاني: أنه ذكر أن أبا موسى هو القائل لابن مسعود: إنما كرهتم هذا لهذا، فقال ابن مسعود: نعم. وقد صرح بهذا في رواية أبي داود، عن الأنباري المشار إليها، وإنما روى أصحاب الأعمش، منهم: حفص بن غياث، ويعلى بن عبيد، وعبد الواحد بن زياد أن السائل هو الأعمش، والمسئول هو شقيق أبو وائل.

وقد ذكرنا فيما تقدم مسح الوجه واليدين في التيمم، وهل الممسوح الكفان خاصة، أم الكفان والذراعان إلى المرفقين، أم إلى المناكب والآباط؟

ص: 292

والكلام هنا في عدد الضرب الممسوح به:

فمن قَالَ: إنه يمسح الوجه والكفين، قال أكثرهم: يمسح ذلك بضربة واحدة اتباعا لحديث عمار، وهذا هو المروري عن علي وعمار وابن عباس، وعن الشعبي وعطاء ويحيى بن كثير وقتادة وعكرمة ومكحول والأوزاعي، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي خيثمة وابن أبي شيبة وداود - وهو قول عامة أهل الحديث -: قاله الخطابي وغيره.

وقال ابن المنذر: بهذا نقول؛ للثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((التيمم ضربة للوجه والكفين)) .

وحكى عن طائفة منهم أنه يمسح وجهه بضربة، وكفيه إلى الرسغين بضربة

أخرى. قال ابن المنذر: يروي هذا عن علي، وحكاه غيره عن عطاء والنخعي والأوزاعي في رواية عنهما، والشافعي في القديم.

ونقل حرب، عن إسحاق: أن هذا هو المستحب، ويجزئ ضربة واحدة. وروي حرب بإسناده، عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة للكفين.

وبإسناده: عن عطاء والاوزاعي مثله.

وأما من قال: أن التيمم يبلغ إلى المرفقين، فأكثرهم قالوا: يتيمم بضربتين: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، هذا هو الصحيح عن ابن عمر وعن جابر بن عبد الله، وهو قول أكثر العلماء القائلين بذلك، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم.

واختلفوا: هل ذلك على الوجوب، أم على الاستحباب؟

ص: 293

فقالت طائفة: هو على الوجوب، لا يجزئ دونه، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي في ظاهر مذهبه، ورواية عن مالك.

وقالت طائفة: بل هو على الاستحباب، ويجزئ ضربتان: إحداهما للوجه والأخرى للكفين، وهو رواية عن مالك، واختاره القاضي أبو يعلي من أصحابنا، غير أن المجزئ عنده ضربة واحد للوجه والكفين، وحكاه بعضهم رواية عن أحمد. وأنكر الخلال والأكثرون ثبوتها عنه.

وقال الخلال: إنما أجاز ذلك أحمد لمن تأول الأحاديث بفعلة، إلا أن الأحاديث في ذلك عنه ضعاف جداً في الضربتين.

وأجاز إسحاق أن يتيمم بضربتين: ضربة للوجه وضربة إلى المرفقين، إذا كان يرى الاقتصار على الكفين جائزاً، فإن اعتقد أنه لا يجزئ فقد أخطأ.

وهذا يدل على أن الخلاف في الإجزاء عنده غير سائغ.

وقال طائفة من الخراسانيين من أصحاب الشافعي: الواجب عنده إيصال التراب إلى الوجه واليدين إلى المرفقين، سواء حصل ذلك بضربة أو ضربتين، ولا يجب عنده تعدد الضرب، وخالفهم غيرهم من أصحاب الشافعي في ذلك.

وروى داود بن أبي هند، عن الشعبي، قَالَ: التيمم ضربة للوجه واليدين إلى المرفقين.

خرجه حرب الكرماني.

وروى ابن إسحاق، عن نافع، قال: رايت ابن عمر يضرب بيده في الأرض،

ص: 294

فيمسح بها وجهه، ثم يضرب يده فيمسح بها ذراعيه.

وعن ابن عون، قال: قلت للحسن: ارني كيف التيمم؟ فضرب بيديه على الأرض، ثم نفضهما، ثم مسح بهما وجهه، ثم ضرب بكفيه الأرض، ثم مسح بهما على ذراعيه.

وعن داود، عن الشعبي، قال: التيمم ضربة للوجه والذراعين.

خرج ذلك كله القاضي إسماعيل المالكي.

وكذلك وصف سفيان الثوري التيمم.

وظاهر هذا يدل على الكفين لا يمسحان بانفرادهما، بل يكفي ما أصابهما عند ضربهما بالأرض، فإنه لا بد أن يتطاير الغبار على ظاهرهما وباطنهما.

وقد قال عكرمة في المتيمم: يضرب بكفيه على الأرض فيحركها ثم يمسح بوجهه وكفيه.

وهذا يرجع إلى أنه لا يجب الترتيب كما سيأتي ذكره - أن شاء الله تعالى.

وحكي عن ابن سيرين، أنه تيمم بثلاث ضربات: ضربة للوجه، وضربة

للكفين، وضربة للذراعين إلى المرفقين.

وحكي عن ابن أبي ليلى والحسن بن حي، أنه يتيمم بضربتين، يمسح بكل ضربة وجهه ويديه إلى المرفقين.

قال ابن عبد البر: ما علمت أحداً من أهل العلم قال ذلك غيرهما.

وللشافعية وجه ضعيف. أنه يستحب ضربة للوجه وضربتان لليدين، لكل يد ضربة، ولهم وجه ضعيف - أيضا -، أنه يشرع تكرار المسح في التيمم كالوضوء.

ص: 295

وقال حرب: ثنا محمود بن خالد: ثنا الوليد بن مسلم، قال: قلت لأبي عمرو الأوزاعي: صف التيمم؟ فوضع كفيه على الأرض وضعا رفيقا، ثم رفعهما، ثم أمر إحداهما على الأخرى مسحا رفيقا، ثم أمر بهما على وجهه، ثم على كفيه.

قال: وثنا المسيب بن واضح: ثنا أبو إسحاق، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: سألت الشعبي عن التيمم؟ فضرب بيديه الأرض، ثم ضرب إحداهما بالأخرى، ثم مسح وجهه وكفيه.

وظاهر هذا يقتضي أنه يمسح أولا إحدى كفيه بالأخرى، ثم يمسح وجهه، ثم يمسح كفيه.

وفي بعض ألفاظ حديث عمار المذكورة في هذا الباب ما قد يشعر بهذا القول، ولا يبقى حينئذ إشكال في رواية أبي معاوية، عن الأعمش؛ لأنه يكون قد مسح كفيه مرة قبل وجهه ومرة بعده، وهذا غريب جدا، وعند التأمل لا يدل حديث عمار على ذلك؛ فإن لفظ رواية البخاري أنه مسح بالضربة ظهر كفيه بشماله أو ظهر شماله بكفه، وهذا إنما يدل على أنه مسح ظهر كفه ببطن الأخرى.

وفي رواية مسلم: ((مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه)) ، فهذه تدل على أنه مسح كفيه إحداهما بالأخرى ظاهرهما وباطنهما.

وفي رواية أبي داود والنسائي: ((أنه مسح بشماله على يمينه وبيمينه على

شماله)) ، وهذا يدل على أنه مسح كل واحدة بالأخرى.

ص: 296

والمنصوص عن أحمد، وهو مذهب الشافعي وغيره، أنه يجب الترتيب في التيمم كما يجب في الوضوء، فيمسح وجهه أولا، ثم يمسح كفيه.

ومن أصحابنا المتأخرين من قال: لا يجب الترتيب في التيمم خاصة؛ لأنهم قالوا في صفة التيمم: أنه يمسح وجهه بباطن أصابعه وظاهر كفيه براحتيه، ويدلك كل راحة بالأخرى ويخلل الأصابع. قالوا: فيقع مسح باطن أصابعه مع مسح وجهه، وهذا يخل بالترتيب.

وهذا الذي قالوه في صفة التيمم لم ينقل عن الإمام أحمد، ولا قاله أحد من متقدمي أصحابه كالخرقي وأبي بكر وغيرهما.

قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: أرني كيف التيمم؟ فضرب بيده باطن كفيه، ثم مسح وجهه وكفيه بعضهما على بعض ضربة واحدة. وقال: هكذا.

وهذا يدل على أنه مسح وجهه بيديه، ثم مسح يديه إحداهما بالأخرى من غير تخصيص للوجه بمسح باطن الأصابع، وهذا هو المتبادر إلى الفهم من الحديث المرفوع ومن كلام من قال من السلف: أن التيمم ضربة للوجه والكفين.

وما قاله المتأخرون من الأصحاب فإنما بنوه على أن التراب المستعمل لا يصح التيمم به كالماء المستعمل.

وهذا ضعيف؛ لان التراب المستعمل فيه لأصحابنا وجهان:

أحدهما: أنه يجوز التيمم به بخلاف الماء؛ لأن الماء المستعمل قد رفع حدثا، وهذا لم يرفع الحدث على ظاهر المذهب.

وعلى الوجه الثاني: أنه لا يتيمم بالتراب المستعمل، فالمستعمل هو ما علق بالوجه أو تناثر منه، فأما ما بقي على اليد الممسوح بها فهو بمنزلة ما

ص: 297

يبقى في الإناء بعد الاستعمال منه، وليس بمستعمل، ويجوز التيمم به، صرح به طائفة من أصحابنا والشافعية.

ونقل حرب، عن إسحاق، أنه وصف لهم التيمم، فضرب بيديه، ثم نفخهما، فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيده الثانية ولم ينفخهما، ثم مسح ظهور الكفين اليمنى باليسرى واليسرى باليمنى، ولم يذكر أنه مسح بطون كفيه اكتفاء بمرور التراب عليهما بالضرب بهما على الأرض، وهذا في التيمم بالضربتين ظاهر، ولا يتأتى مثله في الضربة الواحدة؛ لأنه يخل بالترتيب.

وقد صرح العراقيون من أصحاب الشافعي: بأنه يسقط فرض الراحتين وما بين الأصابع حين يضرب اليدين على التراب، ثم أوردوا على ذلك أنه لو سقط فرضهما بذلك لصار التراب الذي عليهما مستعملا، فكيف يجوز مسح الذراعين به ولا يجوز نقل الماء الذي غسل به أحدى اليدين إلى الأخرى، إلا على وجه ضعيف لهم؟

وأجابوا عن ذلك بوجهين:

أحدهما: أن اليدين كعضو واحد، ولا يصير التراب والماء مستعملا إلا

بانفصاله، ولم ينفصل التراب، بخلاف الماء فإنه ينفصل فيصير مستعملا.

والثاني: أن هذا يحتاج إليه في التيمم لضرورة، حيث لم يمكن أن ييمم الذراع بكفها، فافتقر إلى الكف الأخرى فصار كنقل الماء من بعض العضو إلى بعضه، وعلى قول هؤلاء لا يجب بعد ذلك مسح إحدى الراحتين بالأخرى،

ص: 298

بل هو مستحب.

ومن أصحابهم من حكى في وجوبه وجهين. وقال البغوي منهم: أن قصد بإمرار الراحتين على الذراعين مسح الراحتين حصل له؛ وإلا فلا. وهذا يدل على أنه لا يحصل بضربهما بالأرض.

ومن أعيان أصحابنا المتأخرين من حكى قولا لم يسم قائله، ورجحه في التيمم بضربة واحدة: أنه يمسح بباطن يديه وجهه، ثم يمسح بهما ظاهر كفيه خاصة. قال: لان باطنهما يصيبه التراب حين يضرب بهما الأرض وحين يمسح بهما الوجه وظهر

الكفين، فلو مسح إحداهما بالأخرى لتكرر مسحهما ثلاث مرات، وتكرار مسح التيمم غير مشروع بخلاف الوضوء، وهو - أيضا - ينافي أن يكون التيمم بضربة واحدة.

وهذا الذي قاله فيه نظر؛ فإن تكرار المسح بتراب ضربة واحدة لا تتعدد به الضربات كتكرار مسح الرأس بماء واحد؛ فإنه لا يكون تكرارا، وقد سبق ذلك في الوضوء، وإنما لم يشرع تكرار التيمم إذا وقع الأول موقعه، وما أصاب باطن الكفين من التراب قبل مسح الوجه غير معتد به عند من يوجب الترتيب، فلا يكون ذلك تكرارا - أيضا.

وقد تقدم أن حديث عمار يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بعد الضرب ظاهر كفيه وباطنهما.

وإنما يجب الترتيب في التيمم عن الحدث الأصغر. فأما الترتيب في التيمم عن الجنابة ففيه وجهان لأصحابنا وأصحاب الشافعي:

ص: 299

أحدهما: أنه واجب - أيضا -؛ لأن صفة التيمم عن الجنابة والحدث لا تختلف بخلاف الغسل والوضوء، وأيضا؛ فإن البدن كله في غسل الجنابة كالعضو الواحد، وفي التيمم عضوان متغايران، فيلزم الترتيب بينهما كأعضاء الوضوء.

والثاني: لا يجب؛ لأن التيمم عن الجنابة يلتحق بالغسل ولا ترتيب فيه، وعلى هذا الوجه فلا إشكال في توجيه رواية أبي معاوية، عن الأعمش التي خرجها البخاري بتقديم الكفين على الوجه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما علم عمارا ما كان يكفيه من التيمم عن الجنابة.

وقد حكى بعضهم عن الأعمش: أنه كان يذهب إلى تقديم مسح الكفين على الوجه في التيمم مطلقا، فإن صح هذا عنه دل على أن ما روى عنه أبو معاوية محفوظ عن الأعمش، وان أبا معاوية حَفِظَ عنه ولم يهم فيه، كما قاله الإمام أحمد. والله أعلم.

ويحتمل أن الأعمش فسر هذا التفسير من عنده كما فسره شعبة - أيضا - من عنده كذلك بتقديم دلك اليدين على الوجه، وقد ذكرناه فيما تقدم من طريق النسائي، أو أن يكون ذلك من تفسير بعض الرواة عن شعبة والأعمش؛ فإن كثيرا منهم لم يكن يفرق بين مدلول العطف بـ ((ثُمَّ)) وبالواو. والله تعالى أعلم.

ص: 300

9 -

باب

ص: 301

348 -

حدثنا عبدان: أبنا عبد الله: ثنا عوف، عن أبي رجاء: ثنا عمران بن حصين الخزاعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم، فقال:

((يا فلان، ما منعك أن تصلي في القوم؟)) ، قَالَ: أصابتني جنابة، ولا ماء. قَالَ:((عليك بالصعيد؛ فإنه يكفيك)) .

قد سبق هذا الحديث بطوله من رواية يحيى القطان، عن عوف، واختصره هنا من رواية ابن المبارك، عن عوف، وختم به ((كتاب التيمم)) ؛ فإن فيه دلالة على تيمم الجنب إذا لم يجد الماء، وعلى أن من كان في مكان يقطع أو يغلب على الظن أنه لا ماء فيه، أو مع رفقة يعلم أنه لا ماء معهم؛ فإنه لا يجب عليه طلب الماء، بل له أن يتيمم ويصلي من غير طلب، وقد استوفينا شرح ذلك كله مع شرح جميع الحديث فيما سبق. والله أعلم.

وقد روى هذا الحديث البخاري عن إسماعيل بن مسلم، عن

ص: 301

أبي رجاء، عن عمران - فذكر الحديث، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر هذا الرجل أن يتيمم، فتيمم، وقال: ثم وجد الماء فلم يأمره بالإعادة.

وإسماعيل بن مسلم، ضعيف الحديث.

ص: 302

بسم الله الرحمن الرحيم

8 -

‌ كتاب الصلاة

‌1 - باب

كيف فرضت الصلاة في الإسراء

وقال ابن عباس؛ حدثني أبو سفيان في حديث هرقل، فقال: يأمرنا - يعني: النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة والصدق والعفاف.

حديث أبي سفيان هذا قد خرجه البخاري بتمامه في أول كتابه، وهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أهم ما يأمر به أمته الصلاة، كما يأمرهم بالصدق والعفاف، واشتهر ذلك حتى شاع بين الملل المخالفين له في دينه، فإن أبا سفيان كان حين قال ذلك مشركا، وكان هرقل نصرانيا، ولم يزل صلى الله عليه وسلم منذ بعث يأمر بالصدق والعفاف، ولم يزل يصلي - أيضا - قبل أن تفرض الصلاة.

وأول ما أنزل عليه سورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] وفي أخرها: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} إلى قوله: {كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:9 - 19] .

وقد نزلت هذه الآيات بسبب قول أبي جهل: لئن رأيت محمدا ساجدا عند البيت لأطأن على عنقه.

وقد خرج هذا الحديث مسلم في " صحيحه ". وقد ذكرنا في أول " كتاب: الوضوء " حديث أسامة، أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في أول

ص: 303

الأمر، فعلمه الوضوء والصلاة.

وذكر ابن إسحاق: أن الصلاة افترضت عليه حينئذ، وكان هو صلى الله عليه وسلم وخديجة يصليان.

والمراد: جنس الصلاة، لا الصلوات الخمس.

والأحاديث الدالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة قبل الإسراء كثيرة.

لكن قد قيل: إنه كان قد فرض عليه ركعتان في أول النهار وركعتان في آخره فقط، ثم افترضت عليه الصلوات الخمس ليلة الإسراء -: قاله مقاتل وغيره.

وقال قتادة: كان بدء الصلاة ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي.

وإنما أراد هؤلاء: أن ذلك كان فرضا قبل افتراص الصلوات الخمس ليلة الإسراء.

وقد زعم بعضهم: أن هذا هو مراد عائشة بقولها: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، وقالوا: إن الصلوات الخمس فرضت أول ما فرضت أربعا وثلاثا وركعتين على وجهها، وسيأتي ذكر ذلك في الكلام على حديث عائشة - إن شاء الله.

وضعف الأكثرون ذلك، وقالوا: إنما أرادت عائشة فرض الصلوات الخمس ركعتين ركعتين سوى المغرب، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

وقد ورد من حديث عفيف الكندي، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة حين زالت الشمس ومعه علي وخديجة، وان العباس قال له: ليس على هذا الدين احد غيرهم.

ص: 304

وقد خرجه الإمام أحمد والنسائي في خصائص علي.

وقد طعن في إسناده البخاري في ((تاريخه)) والعقيلي وغير واحد.

وقد خرج الترمذي من حديث أنس، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وصلى علي يوم الثلاثاء.

وإسناده ضعيف.

ص: 305

وقد خرجه الحاكم من حديث بريدة، وصححه.

وفيه دليل على أن الصلاة شرعت من ابتداء النبوة، لكن الصلوات الخمس لم تفرض قبل الإسراء بغير خلاف.

وروى الربيع، عن الشافعي، قال: سمعت ممن أثق بخبره وعلمه يذكر أن الله تعالى انزل فرضا في الصلاة، ثم نسخه بفرض غيره، ثم نسخ الثاني بالفرض في الصلوات الخمس.

قال الشافعي: كأنه يعني قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ - قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً - نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً - أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل:1 - 4] ثم نسخه في السورة معه بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} الآية إلى قوله {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20] فنسخ قيام الليل، أو نصفه، أو اقل، أو أكثر بما تيسر.

قال الشافعي: ويقال نسخ ما وصف في المزمل بقول الله عز وجل: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ودلوك الشمس: زوالها {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} العتمة {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} الصبح {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:78 - 79] فأعلمه أن صلاة الليل نافلة لا فريضة، وان الفرائض فيما ذكر من ليل أو نهار.

قال: ويقال في قول الله عز وجل: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} المغرب والعشاء

{وَحِينَ تُصْبِحُونَ} الصبح {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً} العصر

{وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:17 - 18] الظهر. انتهى.

ص: 306

وقد روي عن طائفة من السلف تفسير هاتين الآيتين بنحو ما قاله الشافعي، فكل أية منهما متضمنة لذكر الصلوات الخمس، ولكنهما نزلتا بمكة بعد الإسراء.

والله أعلم.

وقد اجمع العلماء على أن الصلوات الخمس إنما فرضت ليلة الإسراء، واختلفوا في وقت الإسراء:

فقيل: كان بعد البعثة بخمسة عشر شهرا، وهذا القول بعيد جدا.

وقيل: أنه كان قبل الهجرة بثلاث سنين، وهو اشهر.

وقيل: قبل الهجرة بسنة واحدة.

وقيل: قبلها بستة اشهر.

وقيل: كان بعد البعثة بخمس سنين، ورجحه بعضهم، قال: لأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف إنها توفيت قبل الهجرة بمدة، قيل بثلاث سنين، وقيل: بخمس، وقد اجمع العلماء على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء.

قلت: حكايته الإجماع على صلاة خديجة معه بعد فرض الصلاة غلط محض، ولم يقل هذا أحد ممن يعتد بقوله.

وقد خرج أبو يعلى الموصلي والطبراني من حديث إسماعيل بن مجالد، عن أبيه، عن الشعبي، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن خديجة؛ فإنها ماتت قبل أن تنزل الفرائض والأحكام؟ فقال:((أبصرتها على نهر من انهار الجنة، في بيت من قصب، لا لغو فيه ولا نصب)) .

ص: 307

وروى الزبير بن بكار، بإسناد ضعيف، عن يونس عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة.

وقد فرق بعضهم بين الإسراء والمعراج، فجعل المعراج إلى السماوات كما ذكره الله في سورة النجم، وجعل الإسراء إلى بيت المقدس خاصة، كما ذكره الله في سورة

{سُبْحانَ} وزعم أنهما كانا في ليلتين مختلفتين، وان الصلوات فرضت ليلة المعراج لا ليلة الإسراء.

وهذا هو الذي ذكره محمد بن سعد في طبقاته عن الواقدي بأسانيد له متعددة، وذكر أن المعراج إلى السماء كان ليلة السبت لسبع عشرة خلت من شهر رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا من المسجد الحرام، وتلك الليلة فرضت الصلوات الخمس، ونزل جبريل فصلى برسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات في مواقيتها، وان الإسراء إلى بيت المقدس كان ليلة سبع عشرة ربيع الأول قبل الهجرة بسنة، من شعب أبي طالب.

وما بوب عليه البخاري أن الصلوات فرضت في الإسراء يدل على أن الإسراء عنده والمعراج واحد. والله أعلم.

وخرج في هذا الباب حديثين:

الحديث الأول: حديث المعراج بطوله: فقال:

ص: 308

349 -

ثنا يحيى بن بكير: ثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك، قال: كان أبو ذر يحدث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل عليه السلام ففرج صدري، ثم

ص: 308

غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغه في صدري، ثم أطبقه، ثم اخذ بيدي فعرج إلى السماء، فلما جئت إلى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء: افتح، قال: من هذا؟ قَالَ: جبريل، قَالَ: هَلْ معك احد؟ قال: نعم، معي محمد. فقال: أرسل إليه؟ قال: نعم، فلما فتح علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة، وعلى يساره اسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا ادم، وهذه الاسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والاسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. حتى عرج بي إلى السماء الثانية، فقال لخازنها:

افتح، فقال له خازنها مثل ما قال الأول، ففتح)) .

قال أنس: فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم، ولم يثبت كيف منازلهم، غير أنه ذكر أنه وجد ادم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة.

قال أنس: ((فلما مر جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم بإدريس قال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح، فقلت: من هذا؟ قَالَ: هَذَا إدريس، ثُمَّ مررت بموسى عليه السلام، فَقَالَ: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح، قُلتُ: من هَذَا؟ قال: هذا موسى، ثم مررت بعيسى عليه السلام، فقال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، قلت: من هذا؟ قال: عيسى، ثم مررت بإبراهيم عليه السلام،

ص: 309

فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح، قلت: من هذا؟ قال: هذا إبراهيم)) .

قال ابن شهاب: فأخبرني ابن حزم، أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى اسمع فيه صريف الأقلام)) .

قال ابن حزم وانس بن مالك: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى، فقال: ما فرض الله لك على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة، قال: فارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق، فراجعني فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى، قلت: وضع شطرها، قال: راجع ربك، فإن أمتك لا تطيق، فراجعت فوضع شطرها، فرجعت إليه، فقال: ارجع إلى ربك؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعته، فقال: هي خمس، وهي خمسون، لا يبدل القول لدي، فرجعت إلى موسى، فقال: أرجع إلى ربك، فقلت: استحييت من ربي، ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى، وغشيها ألوان لا ادري ما هي، ثم أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك)) .

هذا الحديث رواه جماعة عن يونس، عن الزهري، عن أبي ذر وانس. وخالفهم أبو ضمرة أنس بن عياض، فرواه عن يونس، عن

ص: 310

الزهري، عن أنس، عن أبي بن كعب، وهو وهم منه -: قاله الدارقطني، وأشار إليه أبو زرعة وأبو حاتم.

وقد اختلف في إسناد هذا الحديث على أنس، فالزهري رواه عنه، عن أبي ذر، وجعل ذكر الصلوات منه عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواه قتادة، عن أنس، عن مالك بن صعصعة، وقد خرج حديثه البخاري في موضع أخر.

ورواه شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بسياق مطول جدا.

وقد خرج حديثه البخاري في أخر كتابه، وفيه ألفاظ استنكرت على شريك، وتفرد بها.

وقد رواه ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا - بدون سياق شريك.

وقد خرج حديثه مسلم في صحيحه.

وقال الدارقطني: يشبه أن تكون الأقاويل كلها صحاحا؛ لأن رواتها ثقات.

قال: ويشبه أن يكون أنس سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم،

ص: 311

واستثبته من أبي ذر ومالك أبن صعصعة.

وقال أبو حاتم الرازي: أرجو أن يكون قول الزهري وقتادة عن أنس صحيحين. وقال - مرة -: قول الزهري أصح، قال: ولا أعدل به أحدا.

وشق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج وغسله من طست من ذهب من ماء زمزم وملؤه إيمانا وحكمة مما تطابقت عليه أحاديث المعراج.

وروى، ثابت عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني: ظئره -، فقالوا: أن محمد قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى اثر ذلك المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم.

خرجه مسلم.

وليس في هذا الحديث أنه حشي إيمانا وحكمة، وقد روي هذا الحديث من رواية أبي ذر وعتبة بن عبد السلمي، وفي روايتهما: أنه ملئ سكينة، وروي ـ أيضا ـ من حديث أبي ذر، وفيه أنه أدخل قلبه الرأفة

ص: 312

والرحمة.

فهذا الشرح فهذا الشرح كان في حال صغره، وهو غير الشرح المذكور في ليلة المعراج، ومن تأمل ألفاظ الأحاديث الواردة في شرح صدره وملئه إيمانا وحكمة أو سكينة أو رأفة ورحمة ظهر له من ذلك أنه وضع في قلبه جسم محسوس مشاهد، نشأ عنه ما كان في قلبه من هذه المعاني، والله سبحانه قادر على أن يخلق من المعاني أجساما محسوسة مشاهدة، كما يجعل الموت في صورة كبش أملح يذبح.

وفي حديث الزهري، عن أنس، عن أبي ذر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثم أخذ

بيدي، فعرج بي إلى السماء)) .

وفي حديث قتادة وغيره، عن أنس، أنه أركبه البراق، وهي زيادة صحيحة لم يذكرها الزهري في حديثه.

وقول خازن السماء: ((أرسل إليه؟)) الأظهر ـ والله أعلم ـ أنه أستفهم: هل أرسل الله إليه يستدعيه إلى السماء، ولم يرد إرساله إلى أهل الأرض، فإن ذلك كان قبل هذه الليلة بمدة طويلة، والظاهر أنه لا يخفى مثل ذلك على أهل السماء وخزنتها، لا سيما مع حراستها بالشهب ومنع الشياطين من استراق السمع منها.

وقيل أن اخل السماء لم يعلموا بإرساله إلى أهل الأرض حتى صعد إليهم، ويشهد لهذا: أن في حديث شريك بن أبي نمر، عن أنس في صفة

ص: 313

الإسراء، قال: ((ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها، فنادى أهل السماء: من هذا؟ فَقَالَ:

جبريل. فقال: ومن معك؟ قال: معي محمد. قال: وقد بعث؟ قال: نعم، فقالوا: مرحبا به وأهلا، فيستبشر به أهل السماء، لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم)) ـ وذكر الحديث بطوله.

وقد خرجه البخاري في آخر كتابه هذا.

((والأسودة)) : جمع سواد، وهو الشخص، يقال: سواد وأسودة، مثل قراح وأقرحة، وتجمع: أسودة على أساود، فهو جمع الجمع. ((والنسم)) : جمع نسمة، وهي النفس.

والمراد بذلك: أرواح بني أدم، وأن أهل الجنة على يمين ادم وأهل النار على يساره.

قال بعضهم: ولا يناقض هذا ما ورد: أن أرواح المؤمنين في الجنة، أو في الصور الذي ينفخ فيه، أو في القبور، وأرواح الكافرين في سجين؛ لأن هذا في أحوال مختلفة وأوقات متغايرة وفي هذا الجواب نظر.

ومنهم من قال: إنما رأى في السماء الدنيا عن يمين آدم وشماله نسم بنيه الذين لم يولدوا بعد ولم تخلق أجسادهم، فأما أرواح الموتى التي فارقت أجسادها بالموت فليست في السماء الدنيا، بل أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في سجين، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا

ص: 314

بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف: 40] .

وقد جاء في حديث البراء بن عازب وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((أن روح الكافر إذا خرجت لم تفتح لها أبواب السماء، فتطرح طرحا)) ، وقرأ:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] .

والأظهر ـ والله أعلم ـ: أن آدم عليه السلام في السماء الدنيا ينظر إلى نسم بنيه عن يمينه وشماله، ونسم بنيه مستقرة في مستقرها، فنسم المؤمنين في الجنة ونسم الكافرين في النار، وليست عند آدم في السماء الدنيا.

ويدل على هذا: ما خرجه البزار وابن جرير والخلال وغيرهم من رواية أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية أو غيره، عن أبي هريرة، فذكر فذكر حديث الإسراء بطوله، وفيه: أنه لما دخل إلى سماء الدنيا فإذا هو برجل تام الخلق، لم ينقص من خلقه شئ كما ينتقص من خلق الناس، عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة، وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله بكى وحزن، فقال جبريل: هذا أبوك آدم، وهذا الباب الذي عن يمينه الجنة، فإذا نظر من يدخل من ذريته الجنة ضحك واستبشر، والباب الذي عن شماله باب جهنم، إذا نظر من يدخل من ذريته جهنم بكى وحزن - وذكر الحديث بطوله.

ص: 315

ومما يوضح هذا المعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في صلاة الكسوف الجنة والنار وهو في الأرض، وليست الجنة في الأرض، وروي: أنه رأى ليلة أسري به الجنة والنار ـ أيضا ـ، وليست النار في السماء، وإنما رآهما وهو في السماء تارة، ورآهما وهو في الأرض أخرى.

وكذلك رؤية آدم وهو في السماء الدنيا نسم بنيه المستقرة في الجنة وفي النار، وليست الجنة والنار عند آدم في سماء الدنيا.

وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة وهي مستقر أرواح الموتى في

((كتاب أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور)) . ولله الحمد.

وفي حَدِيْث الزُّهْرِيّ، عَن أنس، عَن أبي ذر، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رأى فِي السموات آدم وإدريس وموسى وعيسى، ولم يثبت كَيْفَ منازلهم، إلا أنه وجد آدم فِي السماء الدنيا، وإبراهيم فِي السماء السادسة، وهذا - والله أعلم - مما لم يحفظه الزهري جيدا.

وفي رواية قتادة، عن أنس، عن مالك بن صعصعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه رأى في السماء الدنيا آدم، وفي السماء الثانية يحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة، وفي السماء الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم عليهم السلام.

وفي حديث شريك بن أبي نمر، عن أنس، وقد خرجه البخاري في آخر صحيحه هذا: أنه رأى آدم في السماء الدنيا،

ص: 316

وإدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة ـ قال الراوي: لم أحفظ اسمه ـ، وإبراهيم فِي السادسة، وموسى فِي السابعة بتفضيل كلام الله عز وجل.

وهذا يوافق مَا فِي حَدِيْث الزُّهْرِيّ، عَن أنس، أن إبراهيم عليه السلام فِي السماء السادسة، وفيه – أيضا -: أنه مر بموسى، ثم بعيسى، ثم بإبراهيم، وهذا يشعر برفع عيسى على موسى، وهذا كله إنما جاء من عدم ضبط منازلهم كما صرح به في الحديث نفسه.

وفي حديث حماد بن سلمة عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الإسراء، أنه رأى آدم في الأولى، ويحيى وعيسى في الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في

الرابعة، وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة مسندا ظهره إلى البيت المعمور.

وقد خرجه مسلم بطوله.

والذي رآه في السماء من الأنبياء عليهم السلام إنما هو أرواحهم، إلا عيسى عليه السلام فإنه رفع بجسده إلى السماء.

وقد قال طائفة من السلف: أن جميع الرسل لا يتركون بعد موتهم في الأرض أكثر من أربعين يوما، ثم ترفع جثثهم إلى السماء، روي ذلك عن ابن المسيب، وعن عمر بن عبد العزيز، وأنه قال: وأخبرني بذلك غير واحد ممن أدركته، فعلى هذا يكون المرئي في السماء أشخاصهم كما كانوا في الأرض.

ص: 317

وقول ابن شهاب: ((أخبرني ابن حزم)) ، الظاهر: أنه أبو بكر بن عمرو ابن حزم.

((أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري)) أبو حبة بالباء الموحدة عند قوم، وعند آخرين هو بالنون، وقيل: هما إخوان، أحدوهما ابوحبة بالباء، والثاني، أبو حنة

بالنون، والله أعلم.

وقوله ((حتى ظهرت لمستوى)) أي: صعدت لمصعد وارتقيت لمرتقى.

و ((صريف الأقلام)) : صوت ما تكتبة الملائكة بأقلامها من أقضية الله تعالى ووحية، أو ما ينسخونه من اللوح المحفوظ، أو ما شاء الله من ذلك.

ويقال: أن صريف القلم: هو تصويته في رجوعه إلى ورائه، مثل كتابته لحرف

(كـ)، وصريره: هو تصويته في مجيئه إلى بين يديه، مثل كتابته لحرف (ن) وما أشبه ذلك.

وقوله: ((ففرض الله على أمتي خمسين صلاة)) ، وفي رواية شريك بن أبي نمر، عن أنس:((ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى فيما يوحي خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة)) .

وقد تفرد شريك بهذه الألفاظ في هذا الحديث، وهي مما انكرت عليه فيه.

ص: 318

وقوله: ((فرجعت بذلك حتى مررت بموسى)) ، وذكر مراجعته له وأمره بالرجوع إلى ربه ليخفف عن أمته - استدل بهذا من رجح رواية من روى أن موسى كان في السماء السابعة، كما في رواية الزهري وشريك، عن أنس، قال: لأنه لو كان إبراهيم في السابعة لكانت ألمراجعه بينه وبين إبراهيم.

ومن رجح أن موسى في السماء السادسة، كما في رواية قتادة عن أنس، قال: إنما وقعت المراجعة من موسى عليه السلام؛ لأنه كان له امة عظيمة، عالجهم اشد المعالجة، وكان عليهم في دينهم آصار وأثقال، فلهذا تفرد بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك دون إبراهيم عليه السلام.

وفي رواية شريك بن أبي نمر، عن أنس التي خرجها البخاري في أخر صحيحه هذا: ((أن موسى عليه السلام قال له: ((أن أمتك لا تستطيع ذلك؛ فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار إليه جبريل أن نعم أن شئت، فعلى به إلى الجبار سبحانه وتعالى، فقال وهو في مكانه: يارب، خفف

عنا؟ فإن أمتي لا تستطيع هَذَا، فوضع عَنْهُ عَشَرَ صلوات، ثُمَّ رجع إلى موسى فاحتبسه فَلَمْ يزل موسى يردده إلى ربه حَتَّى صارت إلى خمس صلوات، ثُمَّ احتبسه موسى عِنْدَ الخمس، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، والله لَقَدْ راودت بني إسرائيل قومي عَلَى أدنى من هذه فضعفوا وتركوه، وأمتك اضعف أجساداً وقلوباً وأبدانا وأبصاراً وأسماعا، فارجع فليخفف عنك ربك، كل ذَلِكَ يلتفت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ليشير عَلِيهِ، ولا يكره

ص: 319

ذَلِكَ جبريل، فرفعه عِنْدَ الخامسة، فَقَالَ: يارب، أن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم فخفف عنا، فقال الجبار عز وجل: يا محمد، قال لبيك وسعديك، قال: أنه لا يبدل القول لدي، كما فرضته عليك في أم الكتاب، فكل حسنة بعشر أمثالها، وهي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك، فرجع إلى موسى، فقال: كيف فعلت؟ فقال: خفف عنا، أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها، قال موسى: قد - والله - راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، فارجع إلى ربك فليخفف عنك - أيضا - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا موسى، قد - والله - استحييت من ربي، مما اختلف إليه. قال: فاهبط بسم الله، قال: فاستيقظ وهو في المسجد الحرام)) .

وهذه اللفظة مما تفرد بها شريك، وقد تعلق بها من قال: أن الإسراء كان مناما، وأجاب عنها قوم - على تقدير أن تكون محفوظة -: بان المراد باستيقاظه رجوعه إلى حال بشريته المعهودة منه في الأرض، فإنه لما كان في السماء كان في طور أخر غير طور أهل الدنيا، فلم يستفق من تلك الحال التي كان عليها، ولم يرجع إلى حاله المعهودة إلا وهوفي المسجد الحرام.

وفي حديث شريك عن أنس: أنه لم يزل يحط عنه عشر صلوات إلى أن صارت خمسا، وكذا في حديث قتادة عن أنس: أنه حط عنه عشرا عشرا، ثم حط عنه خمسا، فصارت خمس صلوات.

وفي حديث ثابت، عن أنس: أنه حط عنه خمس

ص: 320

صلوات، ولم يزل يرده موسى، قال:((فلم أزل بين ربي تعالى وبين موسى حتى قال: يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فتلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا، فإن عملها كتبت سيئة واحدة، قال: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى، فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف)) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((فقلت: قد رجعت إلى ربي عز وجل حتى استحييت منه)) .

وفي حديث قتادة، عن أنس، عن مالك بن صعصعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((قلت: سلمت، فنودي أني قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وأجزي الحسنة

عشرا)) .

وفي رواية شريك، عن أنس المتقدمة: أن موسى قال لمحمد صلى الله عليه وسلم بعد أن صارت خمسا: ((قد - والله - راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه)) .

وهو يدل على أن الصلوات الخمس لم تفرض على بني إسرائيل، وقد قيل: أن من قبلنا كانت عليهم صلاتان كل يوم وليلة.

وقد روي عن ابن مسعود، أن الصلوات الخمس مما خص الله به هذه الأمة.

ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود، قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض

منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها

ص: 321

فيقبض منها، إذ يغشى السدرة ما يغشى، قال: فراش من ذهب، قال: فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله شيئا من أمته المقحمات.

وخرجه الترمذي بمعناه، وعنده:((فأعطاه ثلاثا لم يعطهن نبيا كان قبله)) .

وقد يعارض هذا ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث ابن

عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((أمني جبريل عند البيت مرتين)) ، فذكر أنه صلى به الصلوات الخمس أول يوم في أول وقت، وفي اليوم الثاني في أخر وقت إلا المغرب، قال:((ثم التفت إلي جبريل فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين)) .

وإن صح هذا فيحمل على أن الأنبياء كانت تصلي هذه الصلوات دون أممهم.

ص: 322

ويدل عليه: ما خرجه الإمام أحمد وأبو داود من حديث معاذ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اعتموا بهذه الصلاة - يعني: صلاة العشاء -، فإنكم قد فضلتم بها على سائر

الأمم، ولم تصلها امة قبلكم)) .

وقول ابن مسعود: ((أن سدرة المنتهى في السماء السادسة)) يعارضه حديث أنس المرفوع من طرقه كلها؛ فإنه يدل على أنها في السماء السابعة أو فوق السماء السابعة، والمرفوع أولى من الموقوف.

وفي حديث الزهري، عن أنس، في سدرة المنتهى:((غشيها ألوان، لا ادري ما هِيَ)) .

وفي حديث قتادة، عن أنس، عن مالك بن صعصعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، فقال: هذه سدرة المنتهى)) .

في حديث ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت، فما احد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها)) .

خرجه مسلم.

وروى مسدد: ثنا يحيى، عن حميد، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

((انتهيت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل الجرار، وإذا ورقها مثل آذان

ص: 323

الفيلة، فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تحولت ياقوتة أو نحو ذلك)) .

وخرجه الإمام أحمد، وعنده:((تحولت ياقوتا وزمردا)) .

وخرج الترمذي من حديث أسماء بنت أبي بكر، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر سدرة المنتهى، قال:((يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة سنة، أو يستظل بظلها مائة راكب، فيها فراش الذهب، كأن ثمرها القلال)) .

وخرجه الجوزجاني وغيره بزيادة في آخرة، وهي:((فقلنا يا رسول الله، فماذا رأيت عندها؟ قَالَ: ((فماء مفضض)) .

وفي حَدِيْث أبي جَعْفَر الرَّازِي، عَن الربيع بْن أنس، عَن أبي العالية أو غيره، عَن أبي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فذكر حَدِيْث الإسراء بطوله، وفيه: ((ثُمَّ انتهى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إلى السدرة، فَقِيلَ لَهُ: هذه السدرة ينتهي إليها كل احد خلا من أمتك عَلَى سنتك، فإذا هِيَ شجرة يخرج من أصلها انهار من ماء غير آسن وانهار من لبن لَمْ يتغير طعمه وانهار من خمر لذة للشاربين، وانهار من عسل مصفى، وهي شجرة يسير الراكب فِي ظلها سبعين عاما لا يقطعها، والورقة مِنْهَا مغطية للأمة كلها. قَالَ: فغشيها نور الخلاق عز وجل، وغشيها الملائكة أمثال الغربان حِينَ تقع عَلَى الشجر من

ص: 324

حب الله عز وجل)) - وذكر بقية الحديث.

خرجه البزار في ((مسنده)) وابن جرير في ((تفسيره)) والبيهقي في ((البعث والنشور)) وغيرهم، وفي إسناده بعض اختلاف، وروي موقوفا غير مرفوع.

وفي هذا تفسير لما تقدم من أنه غشيها فراش من ذهب، فإن الفراش مثل الجراد ونحوه، مما يطير ويقع على الشجر.

وقوله: ((ثم أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ)) ، اختلفت النسخ في هذه اللفظة:

ففي بعضها: ((جنابذ)) ، والمراد بها: القباب، وكأنها شبهت - والله أعلم - بجنابذ الورد قبل تفتحها.

وقد ثبت في حديث أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((أن للمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة، طولها في السماء ستون ميلا)) .

وفي بعض النسخ: ((حبائل)) بالحاء المهملة واللام، وفي بعضها:((جبايل)) بالجيم واللام.

وقد قال الأكثرون: أن ذلك كله تصحيف وغلط.

ص: 325

وزعم بعضهم: أن حبائل - بالحاء المهملة واللام - جمع حبال، وان حبالا جمع حبل، والحبل: ما استطال من الرمل المرتفع كهيئة الجبال، فيكون المراد بذلك: أن في الجنة تلالا من لؤلؤ.

والصحيح: ((جنابذ)) . والله أعلم.

وقوله: ((وإذا ترابها المسك)) ، والمراد - والله أعلم -: أن رائحة ترابها رائحة المسك، وأما لونه فمشرق مبهج كالزعفران، يدل عليه: ما في حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((الجنة ملاطها المسك، وتربتها الزعفران)) .

خرجه الإمام أحمد والترمذي، وابن حبان في صحيحه.

والملاط: التراب الذي يختلط بالماء، فيصير كالطين، فلونه لون الزعفران في بهجته وإشراقه.

وريحه كريح المسك، وطعمه كطعم الخبز، يؤكل.

يدل على ذلك: ما في ((صحيح مسلم)) عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن صائد: ((ما تربة الجنة؟)) قال: در مكة بيضاء مسك يا أبا القاسم، قال:((صدقت)) .

وفي ((المسند)) عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: ((إني سائلهم عن تربة الجنة، وهي در مكة بيضاء)) ، فسألهم، فقالوا: هي خبزة يا أبا القاسم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((الخبز من الدرمك)) .

ص: 326

وهذا يدل على أن لونها بيضاء، وقد يكون منها ما هو ابيض ومنها ماهو اصفر كالزعفران. والله أعلم.

الحديث الثاني:

ص: 327

350 -

حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن صالح بن كيسان، عن عروة ابن الزبير، عن عائشة، قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر.

تريد عائشة رضي الله عنها: أن الله تعالى لما فرض على رسوله الصلوات الخمس ليلة الإسراء، ثم نزل إلى الأرض وصلى به جبريل عليه السلام عند البيت، لم تكن صلاته حينئذ إلا ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، ثم أقرت صلاة السفر على تلك الحال، وزيد في صلاة الحضر ركعتين ركعتين، ومرادها: الصلاة الرباعية خاصة.

ويدل عليه: ما خرجه البخاري في ((الهجرة)) من حديث معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعاً، وتركت صلاة السفر على الأول.

كذا خرجه من رواية يزيد بن زريع، عن معمر، وقال: تابعه عبد الرزاق، عن معمر.

وخرجه البيهقي من رواية

ص: 327

عبد الرزاق عن معمر، ولفظه:((فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ركعتين ركعتين، فلما خرج إلى المدينة فرضت أربعاً، وأقرت صلاة السفر ركعتين)) .

وقال: هذا التقييد تفرد به معمر عن الزهري، وسائر الثقات أطلقوه - يعني: لم يذكروا الأربع. انتهى.

وفي تقييدها الزيادة بالأربع دليل على أنه إنما زيد في الحضر الرباعية خاصة.

وقد ورد ذلك صريحا عنها في رواية أخرى خرجها الإمام أحمد من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان أول ما افترض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة ركعتان ركعتان، إلا المغرب فإنها كانت ثلاثا، ثم أتم الله الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً في الحضر، فأقر الصلاة على فرضها الأول في السفر.

وخرج الإمام أحمد - أيضا - عن عبد الوهاب بن عطاء، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن عائشة، قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، إلا المغرب فرضت ثلاثا؛ لأنها وتر. قَالَتْ: وكان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر صلى الصلاة الأولى إلا

المغرب، وإذا أقام زاد مع كل ركعتين ركعتين إلا المغرب؛ فإنها وتر، والصبح؛ لأنه يطول فيها القراءة.

وفي رواية أخرى له بهذا الإسناد:

ص: 328

كان أول ما افترض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان ركعتان، إلا المغرب؛ فإنها كانت ثلاثا، ثم أتم الله الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعا في الحضر، فأقر الصلاة على فرضها الأول في السفر.

وخرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) من طريق محبوب بن الحسن، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة ولفظه: فرض صلاة السفر والحضر ركعتين ركعتين، فلما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة زيد في صلاة الحضر، وتركت صلاة الفجر، لطول القراءة، وصلاة المغرب؛ لأنها وتر النهار.

وخرجه البيهقي من وجه أخر عن داود كذلك.

وهذه الرواية إسنادها متصل، وهي تدل على أن إتمام الظهر والعصر والعشاء أربعاً تأخرالى ما بعد الهجرة إلى المدينة.

وكذلك روى أبو داود الطيالسي: ثنا حبيب بن يزيد الانماطي: ثنا عمرو ابن هرم، عن جابر بن زيد، قال: قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة ركعتين - تعني: الفرائض -، فلما قدم إلى المدينة وفرضت عليه

ص: 329

الصلاة أربعاً وثلاثا صلى وترك الركعتين اللتين كان يصليهما بمكة تماما للسفر.

وخرج الطبراني هذا المعنى - أيضا - بإسناد ضعيف عن سلمان الفارسي رضي الله عنه.

وخرج الإسماعيلي في ((مسند عمر)) من رواية إسماعيل بن عياش، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم وأرطاة بن المنذر، عن حكيم بن عمير، أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد: أما بعد، فإنما كانت الصلاة أول الإسلام ركعتين، فقال الناس: إنا قد امرنا أن نسبح أدبار السجود ونصلي بعد كل صلاة ركعتين، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تطوعهم صلاها أربعاً، وأمرهُ الله بذلك، فكان يسلم بين كل ركعتين، فخشينا أن ينصرف الصبي والجاهل يرى أنه قد أتم الصلاة، فرأيت أن يخفي الإمام التسليمة الأولى ويعلن بالثانية، فافعلوا ذلك.

هذا إسناد ضَعِيف منقطع، ومتن منكر.

وقد عارض هذا كله: ما روي أن جبريل أم النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت أول ما فرضت الصلاة، وصلى به أربعاً.

فخرج الدارقطني من طريق جرير بن حازم، عن قتادة عن أنس، أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 330

بمكة حين زالت الشمس، فأمره أن يؤذن للناس بالصلاة حين فرضت عليهم، فقام جبريل أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وقام الناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فصلى أربع ركعات لا يجهر فيها بقراءة، يأتم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل عليه السلام، ثم أمهل حتى إذا دخل وقت العصر صلى بهم أربع ركعات لا يجهر فيها بالقراءة، يأتم المسلمون برسول الله صلى الله عليه وسلم ويأتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل، ثم أمهل حتى إذا وجبت الشمس صلى بهم ثلاث ركعات، يجهر في ركعتين بالقراءة ولا يجهر في الثالثة، ثم أمهله حتى إذا ذهب ثلث الليل صلى بهم أربع ركعات، يجهر في الأوليين ولا يجهر الأُخريين بالقراءة، ثم أمهل حتى إذا طلع الفجر صلى بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة.

ثم خرجه من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه مرسلاً.

وهذا المرسل اصح، وروايات جرير بن حازم عن قتادة خاصة فيها منكرات كثيرة، لا يتابع عليها، ذكر ذلك أئمة الحفاظ: منهم أحمد وابن معين وغيروهما. ومراسيل الحسن. فيها ضعف عند الاكثرين، وفيه نكارة في متنه في

ص: 331

ذكر التاذين

للصلاة؛ والأذان لَمْ يكن بمكة، إنما شرع بالمدينة.

خرجه البيهقي من طريق شيبان، عَن قتادة، قَالَ: حدّث الْحَسَن – فذكره مرسلا، وذكر أنه نودي لهم:: ((الصلاة جامعة)) .

وخرجه أبو داود ((في مراسيله)) من رواية سعيد عن قتادة عن الحسن.

وروى البيهقي باسنادة من حديث يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمد، عن أبي مسعود، قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قم فصل؛ وذلك دلوك الشمس، فقام فصلى الظهر أربعاً - وذكر عدد الصلوات كلها تامة في اليومين.

ثم قال: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم لم يسمعه من أبي مسعود

الأنصاري، إنما هو بلاغ بلغه.

وقد نقل إسحاق بن منصور، عن إسحاق بن راهويه، قال: كل صلاة صلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة كانت ركعتين ركعتين، إلا المغرب ثلاثا، ثم هاجر إلى المدينة، ثم ضم إلى كل ركعتين ركعتين، إلا الفجر والمغرب، تركهما على حالهما. قال: وصلى جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم بمكة عند المقام مرتين.

وممن قال: أن الصلوات الخمس فرضت ركعتين ركعتين: الشعبي، والحسن في رواية، وابن إسحاق.

ص: 332

وقالت طائفة: فرضت الصلاة اول ما فرضت أربعاً، إلا المغرب والصبح، كذلك قال نافع بن جبير بن مطعم، والحسن في رواية، وابن جريج، وهو اختيار إبراهيم الحربي، ورجحه ابن عبد البر، وتمسكوا بما لا حجة لهم فيه، ولا يعارض حديث عائشة.

وفي حديث عائشة فوائد كثيرة تتعلق بقصر الصلاة في السفر، تذكر في أبواب قصر المسافر - أن شاء الله تعالى.

ص: 333

‌2 - باب

وجوب الصلاة في الثياب

وقول الله عز وجل {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]

ومن صلى ملتحفا في ثوب واحد

ويذكر عن سلمة بن الأكوع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((يزره ولو بشوكة)) . وفي إسناده نظر.

ومن صلى في الثوب الذي يجامع فيه إذا لم ير فيه أذى وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يطوف بالبيت عريان.

أما قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} فإنها نزلت بسبب طواف المشركين بالبيت عراة، وقد صح هذا عن ابن عباس، واجمع عليه المفسرون من السلف بعده.

وقد ذكر الله هذه الآية عقب ذكره قصة ادم عليه السلام، وما جرى له ولزوجه مع الشيطان حتى أخرجهما من الجنة، ونزع عنهما لباسهما حتى بدت عوراتهما، فقال الله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:27] .

ثم قال: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28] .

ص: 334

والمراد بالفاحشة هنا: نزع ثيابهم عند الطواف بالبيت، وطوافهم عراة كما كان عادة أهل الجاهلية.

ثم قال بعد ذلك: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} .

والمراد بذلك: أن يستروا عوراتهم عند المساجد، فدخل في ذلك الطواف والصلاة والاعتكاف وغير ذلك.

وقال طائفة من العلماء: أن الآية تدل على اخذ الزينة عند المساجد، وذلك قدر زائد على ستر العورة، وإن كان ستر العورة داخلا فيه وهو سبب نزول الآيات، فإن كشف العورة فاحشة من الفواحش، وسترها من الزينة، ولكنه يشمل مع ذلك لبس ما يتجمل به ويتزين به عند مناجاة الله وذكره ودعائه والطواف ببيته؛ ولهذا قَالَ تعالى عقب ذَلِكَ:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] .

وروى موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله أحق من تزين له)) .

خرجه الطبراني وغيره.

وقد روى جماعة هذا الحديث عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن عمر - بالشك في ذلك.

خرجه البزاز وغيره.

وخرجه أبو داود. كذلك بالشك، ولم يذكر

ص: 335

فيه ((فإن الله أحق من تزين له)) .

وروي ذكر التزين من قول ابن عمر، فروي عن أيوب، عن نافع، قال: رآني ابن عمر أصلي في ثوب واحد، قال: الم أكسك ثوبين؟ قلت: نعم، قال: فلو أرسلتك في حاجة كنت تذهب هكذا؟ : قلت: لا. قال: فالله أحق أن تزين له.

أخرجه الحاكم وغيره.

والمحفوظ في هذا الحديث رواية من رواه بالشك في رفعه -: قاله الدارقطني.

وممن أمر بالصلاة في ثوبين: عمر، وابن مسعود، وقال ابن مسعود: إذ وسع الله فهو أزكى.

واستدل من قال: أن المأمور به من الزينة أكثر من ستر العورة التي يجب سترها عن الأبصار بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء، وبان من صلى عاريا خاليا لا تصح صلاته، وبان المرآة الحرة لا تصح صلاتها بدون خمار، مع أنه يباح لها وضع خمارها عند محارمها، فدل على أن الواجب في الصلاة أمر زائد على ستر العورة التي يجب سترها عن النظر.

وأما الصلاة في ثوب واحد ملتحفا به، ففيه عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقد خرج البخاري بعضها، وستأتي في موضعها - أن شاء الله.

ص: 336

وأما حديث سلمة بن الأكوع الذي علقه البخاري، وقال: في إسناده نظر؛ فهو من رواية موسى بن إبراهيم، عن سلمة بن الأكوع، قال: قلت: يا رسول الله؛ إني رجل أصيد، أفأصلي في القميص الواحد؟ قَالَ:((نَعَمْ، زره ولو بشوكة)) .

خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان فِي ((صحيحه)) ، والحاكم وصححه.

واستدل به طائفة من فقهاء أهل الحديث على كراهة الصلاة في قميص محلول الإزار، منهم: إسحاق بن راهويه، وسليمان بن داود الهاشمي، والجوزجاني وغيرهم.

وقال الإمام أحمد فيمن صلى في قميص ليس عليه غيره: يزره ويشده. وقال - أيضا -: ينبغي أن يزره.

وقد روى هذا الحديث عن موسى بن إبراهيم: الدراوردي - ومن طريقه خرجه أبو داود - وعطاف بن خالد - ومن طريقه خرجه الإمام أحمد والنسائي.

وموسى هذا، زعم ابن القطان أنه موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث

التيمي، وذكر ذلك عن البرقاني، وأنه نقله عن أبي داود، فلزم من ذلك أمران يضعفان إسناده: أحدهما ضعف موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي؛ فإنه متفق عليه. والثاني: انقطاعه؛ فإن موسى هذا لم يرو عن سلمة، إنما يروي عن أبيه، عن سلمة.

وذكر أن

ص: 337

الطحاوي رواه عن ابن أبي داود، عن ابن أبي قتيلة، عن الدراوردي، عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن سلمة. قال: فحديث أبي داود علي هذا منقطع.

هذا مضمون ما ذكره ابن القطان، وزعم أن هذا هو النظر الذي أشار إليه البخاري بقوله: في إسناده نظر.

والصحيح: أن موسى هذا هو موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمان بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، نص على ذلك علي بن المديني -: نقله عنه القاضي إسماعيل في كتاب ((أحكام القرآن)) ، وكذا نقله المفضل الغلابي في ((تاريخه)) عن مصعب الزبيري، وكذا ذكره أبو بكر الخلال في كتاب ((العلل)) ، وصرح به - أيضا - من المتأخرين عبد الحق الإشبيلي وغيره، ولذلك خرج هذا الحديث ابن حبان في ((صحيحه)) ؛ فإنه لا يخرج فيه لموسى بن محمد بن إبراهيم التيمي شيئا؛ للاتفاق على ضعفه.

وقد فرق بين الرجلين يحيى بن معين - أيضا -، ففي ((تاريخ الغلابي)) عن يحيى بن معين: موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي

ص: 338

يضعف، جاء بأحاديث منكرات.

ثم بعد ذلك بقليل، قال: موسى بن إبراهيم المديني، يروي عن سلمة بن

الأكوع، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة في القميص الواحد:((زره ولو بشوكة)) - ثبت.

وفي ((تاريخ مضر بن محمد)) ، عن ابن معين نحو هذا الكلام - أيضا -، إلا أنه قال في الذي روى حديث الصلاة في القميص: ليس به بأس، ولم يقل: ثبت.

وكذلك أبو حاتم الرازي، صرح بالفرق بين الرجلين.

قال ابن أبي حاتم في ((كتابه)) : موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمان بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، روى عن سلمة بن الأكوع، وعن أبيه عن أنس، روى عنه عطاف بن خالد، وعبد الرحمان بن أبي الموالي، وعبد العزيز ابن محمد، سمعت أبي يقول ذلك، وسمعته يقول: موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي خلاف هذا، ذاك شيخ ضعيف الحديث. انتهى.

وتضعيفه التيمي دون هذا يدل على أن هذا ليس بضعيف.

وكذا فرق بينهما علي بن ألمديني، فيما نقله عنه أبو جعفر بن أبي

ص: 339

شيبة في ((سؤالاته له)) ، وقال في التيمي: ضعيف، ضعيف، وقال في الذي يروي عن سلمة: كان صالحا وسطا.

وكذلك فرق بينهما ابن حبان، وذكر موسى بن إبراهيم هذا في ((ثقاته)) .

وكذلك صرح بنسبه أبو حاتم الرازي، فيما نقله عنه ابنه في كلامه على ((أوهام تاريخ البخاري)) .

وقد ورد التصريح بنسبة موسى هذا في روايات متعددة:

فروى الشافعي: أنا عطاف بن خالد والدراوردي، عن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمان بن عبد الله بن أبي ربيعة، عن سلمة بن الاكوع، قال: قلت يا رسول الله، أنا نكون في الصيد، فيصلي احدنا في القميص الواحد؟ قال:((نعم، وليزره، ولو لم يجد إلا أن يخله بشوكة)) .

وروى الإمام أحمد في ((المسند: ثنا هاشم بن القاسم: ثنا عطاف، عن موسى بن أبي ربيعة، قال: سمعت بن الاكوع - فذكر الحديث.

ورواه الاثرم في ((سننه)) : ثنا هشام بن بهرام: ثنا عطاف، عن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمان بن أبي بيعة المخزومي، أن سلمة بن الاكوع كان إذا قدم المدينة نزل على ابنه إبراهيم في داره، قال: فسمعتة

ص: 340

يقول: قلت: يا رسول الله، أني أكون في الصيد، وليس علي إلاّ قميص واحد، أفأصلي فيه؟ قال ((نعم، وزره وان لم تجد إلا شوكه)) .

وكذلك رواه علي بن المديني، عن الدراوردي: أخبرني موسى بن عبد الرحمان، أنه سمع سلمة بن الاكوع - فذكره.

ففي هذه الروايات التصريح بنسبته وبسماعه من سلمة.

وأما رواية ابن أبي قتيله، عن الدراوردي فلا يلتفت إليها؛ فإن الشافعي وعلي بن المديني وقتيبة بن سعيد وغيرهم رووه عن الدراوردي على صواب، ولم يكن ابن أبي قتيلة من أهل الحديث، بل كان يعيبهم ويطعن عليهم، وقد ذكر عند الإمام أحمد أنه قال: أهل الحديث قوم سوء! فقال أحمد: زنديق! زنديق! زنديق! .

وقد روه أبو أويس، عن موسى بن إبراهيم، عن أبيه، عن سلمة - أيضا.

ذكره البخاري في ((تاريخه)) عن إسماعيل بن أبي أويس، عن أبيه - قال البيهقي: والأول أصح.

يعني: رواية من لم يذكر في اسنادة: ((عن أبيه)) .

وذكر البخاري في ((تاريخه)) : موسى بن إبراهيم بن عبد الله بن أبي ربيعة، سمع سلمة بن الأكوع، روى عنه عطاف بن خالد.

وروى عبد الرحمان بن أبي الموالي، عن موسى بن إبراهيم بن أبي

ص: 341

ربيعة عن أبيه، عن أنس، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب واحد ملتحفاُ فيه.

وهذا الحديث خرجه الإمام أحمد، عن أبي عامر العقدي، عن ابن أبي الموالي. فهذا هو النظر الذي أشار البخاري إلى إسناده في ((صحيحه)) ، وهو الاختلاف فِي إسناد الحَدِيْث على موسى بن إبراهيم.

وفي كونه علة مؤثرة نظر؛ فإن لفظ الحديثين مختلف جدا، فهما حديثان مختلفان إسناداً ومتنا.

نعم؛ لرواية ابن أبي الموالي، عن موسى، عن أبيه، عن أنس علة مؤثرة، وهي أن عبد الله بن عكرمة رواه عن إبراهيم بن عبد الرحمان بن عبد الله بن أبي ربيعة - وهو: والد موسى -، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد خرج حديثه الإمام أحمد.

ولعل هذة الرواية أشبه؛ فإن متن هذا الحديث معروف عن جابر بن عبد الله، لا عن أنس.

لكن نقل ابن أبي حاتم، عن أبيه في كلام جاء على ((أوهام تاريخ البخاري)) : أن رواية موسى عن أبيه عن أنس، ورواية إبراهيم والد موسى عن جابر من غير رواية ابنه موسى.

وهذا يدل على أن الإسنادين محفوظان.

وأما حديث الصلاة في القميص وزره بالشوكة، فلا يعرف إلا بهذا الإسناد عن سلمة، فلا يعلل بحديث غيره. والله أعلم.

وأما قوله: ((من صلى في الثوب الذي يجامع فية إذا لم ير فيه أذى)) ، فهذا فيه غير حديث، لكنها ليست على شرطه:

ص: 342

فروى يزيد بن أبي حبيب، عن سويد بن قيس، عن معاوية بن حديج، عن معاوية بن أبي سفيان، أنه سال أخته أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في الثوب الذي يجامعها فيه؟ قالت: نعم، إذا لم ير فيه أذى.

خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.

وخرج الإمام أحمد من رواية ضمرة بن حبيب، أن محمد بن أبي سفيان الثقفي حدثه، أنه سمع أم حبيبة تقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، وعلي وعليه ثوب واحد، فيه كان ما كان.

وروى الأوزاعي، عن يعيش بن الوليد، عن معاوية بن أبي سفيان، قال: دخلت على أم حبيبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد، فقلت: إلا أراه يصلي كما أرى؟ قالتا: نعم، وهو الثوب الذي كان فيه ما كان.

خرجه أبو يعلى الموصلي.

ويعيش ثقة، إلا أني لا أظنه أدرك معاوية.

وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة قال: سال رجل النبي صلى الله عليه وسلم أصلي في الثوب الذي آتي فيه أهلي؟ قالَ: ((نعم، إلا أن ترى شيئا فتغسله)) .

ص: 343

وقال أبو حاتم الرازي والدارقطني: الصواب وقفه على جابر بن سمرة.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: هذا الحديث لا يرفع عن جابر بن سمرة.

يشير إلى أن من رفعه فقد وهم.

وخرج ابن ماجه من رواية الحسن بن يحيى ألخشني: ثنا زيد بن واقد، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدر داء، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه يقطر ماء، فصلى بنا في ثوب واحد متوشحا به، قد خالف بين طرفيه، فلما انصرف قال له عمر بن الخطاب: يا رسول الله، تصلي بنا في ثوب واحد؟ قَالَ:

((نعم، اصلي فيه، وفيه)) - أي: قد جامعت فيه.

والخشني هذا، قال ابن معين فيه: ليس بشيء.

وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يطوف بالبيت عريان؛ فهو حديث صحيح، وقد خرجه البخاري في موضع أخر من حديث أبي هريرة، وسيأتي

ص: 344

قريبا - أن شاء الله.

وهو من أحسن ما يستدل به على النهي عن الصلاة عريانا؛ لأن الطواف يشبه بالصلاة، فالمشبه به أولى.

وقد روي عن ابن عباس - مرفوعا، وموقوفا -:((الطواف بالبيت صلاة)) .

خرج البخاري في هذا الباب حديث أم عطية:

فقال:

ص: 345

351 -

ثنا موسى بن إسماعيل: ثنا يزيد بن إبراهيم، عن محمد، عن أم عطية، قالت: امرنا أن نخرج الحيض يوم العيدين وذوات الخدور، يشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم، ويعتزل الحيض عن المصلى. قالت امرأة: يا رسول الله، إحدانا ليس لها جلباب؟ قَالَ:((لتلبسها صاحبتها من جلبابها)) .

وقال عبد الله بن رجاء: ثنا عمران: ثنا محمد بن سيرين: حدثتنا أم عطية: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بهذا.

وإنما ذكر رواية عمران عن ابن سيرين وإن لم تكن على شرطه؛

ص: 345

لأن فيها التصريح بسماع ابن سيرين له من أم عطية له من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن من الرواة من رواه عن ابن سيرين، عن أخته، عن أم عطية، والصحيح: رواية ابن سيرين، عن أم عطية -: قاله الدارقطني وغيره؛ فلذلك أشار البخاري إلى رواية عمران المصرحة بذلك.

و ((الجلباب)) : قال ابن مسعود ومجاهد وغيروهما: هو الرداء، ومعنى ذلك: أنه للمرآة كالرداء للرجل، يستر أعلاها، إلا أنه يقنعها فوق رأسها، كما يضع الرجل رداءه على منكبيه.

وقد فسر عبيدة السلماني قول الله عز وجل: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنّ} [الأحزاب:59] بأنها تدنيه من فوق رأسها، فلا تظهر إلا عينها، وهذا كان بعد نزول الحجاب، وقد كن قبل الحجاب يظهرن بغير جلباب، ويرى من المرآة وجهها وكفاها، وكان ذلك ما ظهر منها من الزينة في قوله عز وجل:{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] .

ثم أمرت بستر وجهها وكفيها، وكان الأمر بذلك مختصا بالحرائر دون الإماء، ولهذا قال تعالى:{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59]، يعني: حتى تعرف الحرة فلا يتعرض

ص: 346

لها الفساق، فصارت المرآة الحرة لا تخرج بين الناس إلا بالجلباب، فلهذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر النساء بالخروج في العيدين، وقيل له: المرآة منا ليس لها جلباب؟ فقال: ((لتلبسها صاحبتها من جلبابها)) - يعني تعيرها جلبابا تخرج فيه.

وإذا علم هذا المعنى، ففي إدخال هذا الحديث في ((باب: اللباس في الصلاة)) نظر؟ فإن الجلباب إنما أمر به للخروج بين الناس؛ لا للصلاة، ويدل عليه: أن الأمر بالخروج دخل فيه الحيض وغيرهن، وقد تكون فاقدة الجلباب حائضا، فعلم أن الأمر بإعارة الجلباب إنما هو للخروج بين الرجال، وليس من باب اخذ الزينة للصلاة؛ فإن المرآة تصلي في بيتها بغير جلباب بغير خلاف، وإنما تؤمر بالخمار، كما روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:((لا يقبل الله صلاة حائض بغير خمار)) .

خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وحسنه.

ص: 347

وفي إسناده اختلاف، وقد روي موقوفا على عائشة ومرسلا؛ ولذلك لم يخرجه البخاري ومسلم؛ وخرجه ابن خزيمة، وابن حبان في ((صحيحيهما)) .

وفي رواية لها: ((لا يقبل الله صلاة امرأة قد حاضت إلا بخمار)) .

وقال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم، أن المراة إذا أدركت فصلت وشيء من شعرها مكشوف لا تجوز صلاتها.

وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن على المرأة الحرة البالغ أن تخمر رأسها إذا صلت، وأنها إذا صلت وجميع رأسها مكشوف أن عليها إعادة الصلاة. قال: وأجمعوا أن لها أن تصلي وهي مكشوفة الوجه.

واختلفوا فيما عليها أن تغطي في الصلاة:

فقالت طائفة: عليها أن تغطي ما سوى وجهها وكفيها، وهو قول الاوزاعي، والشافعي، وأبي ثور.

وقال أحمد: إذا صلت تغطي كل شيء منها ولا يرى منها شيء، ولا ظفرها.

وقال أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هشام: كل شيء من المراة عورة، حتى ظفرها.

ص: 348

قلت: قد تقدم أن كشف وجهها في الصلاة جائز بالإجماع، والخلاف في

الكفين، وفيه عن أحمد روايتان.

وقال الحسن: إذا بلغت المحيض فصلت ولم توار أذنيها فلا صلاة لها.

وعند أبي حنيفة: لا يجب عليها ستر اليدين ولا القدمين.

وأما الوجه، فقد ذكر ابن المنذر وغيره الإجماع على جواز كشفه في الصلاة، وهذا يدل على أن اخذ المراة الجلباب في صلاة العيدين ليس هو لأجل الصلاة، بل هو للخروج بين الرجال، ولو كانت المراة حائضا لا تصلي فإنها لا تخرج بدون جلباب.

ص: 349

‌3 - باب

عقد الإزار على القفا في الصلاة

وقال أبو حازم، عن سهل: صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عاقدي أزرهم على عواتقهم.

حديث سهل بن سعد هذا قد خرجه البخاري بإسناده، وسيأتي قريبا - أن شاء الله تعالى.

وأسند في هذا الباب حديث جابر من طريقين:

أحدهما:

ص: 350

352 -

من طريق: واقد بن محمد، عن محمد بن المنكدر، قال: صلى جابر في إزار، قد عقده من قبل قفاه، وثيابه موضوعة على المشجب، فقال له قائل: تصلي في إزار واحد؟ قال: إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك، وأينا كان له ثوبان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

والثاني:

ص: 350

353 -

من طريق:

ص: 350

عبد الرحمن بن أبي الموالي، عن محمد بن المنكدر، قال: رأيت جابرا يصلي في ثوب واحد، وقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب.

ليس في هذا الباب حديث مرفوع صريح في الصلاة في إزار واحد معقود على القفا؛ وإنما في الرواية الأولى ذلك من فعل جابر، وفي حديث سهل من فعل الصحابة خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وهو شبيه بالمرفوع.

والمرفوع في الباب: هو الصلاة في ثوب واحد، من غير بيان كيفية لبسه.

وقد خرج البخاري فيما بعد هذا الباب من رواية ابن أبي الموالى - أيضا - عن ابن المنكدر، قال: دخلت على جابر وهو يصلي في ثوب ملتحفاً به، ورداؤه موضوع، فلما أنصرف قلنا: يا أبا عَبْد الله، تصلي ورداؤك موضوع؟ قال: نعم: أحببتُ أن يراني الجهال مثلكم، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي هكذا.

وهذا يدل على أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في إزار بغير رداء، ورواية واقد بن محمد عن ابن المنكدر التي خرجها البخاري في هذا الباب صريحة في أن جابرا عقد إزاره من قبل قفاه، فظهر من كلا الروايتين أن جابرا صلى في إزار عقده من قفاه،

ص: 351

وانه اخبر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي كذلك.

ويؤخذ هذا - أيضا - من نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل في ثوب واحد، ليس على عاتقه منه شيء.

وقد خرجه البخاري فيما بعد، وسيأتي في موضعه - أن شاء الله تعالى.

قال الخطابي: يريد أن لا يتزر به في وسطه، ويشد طرفيه على حقويه، ولكن يتزر به ويرفع طرفيه، فيخالف بينهما، ويشد عقده على عاتقيه، فيكون بمنزلة الإزار والرداء.

وقال الميموني: رأيت أبا عبد الله - يعني: أحمد - يصلي الفرض وعليه إزار واحد متوشحا به، وقد عقد طرفيه في قفاه.

قال القاضي أبو يعلى: هذا محمول على أنه كان صغيرا لم يمكنه أن يخالف بين طرفيه، فعقده من ورائه.

يشير إلى أن الارتداء بالثوب أفضل من الاتزار به، وسيأتي بيان ذلك في الباب الآتي - أن شاء الله تعالى.

وخرج الطبراني بإسناد ضعيف، عن أبي هريرة، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب متوشحا، فلم ينل طرفاه، فعقده.

ص: 352

‌4 - باب

الصلاة في الثوب الواحد ملتحفا به

وقال الزهري في حديثه: الملتحف: المتوشح، وهو المخالف بين طرفيه على عاتقيه، وهو الاشتمال على منكبيه.

وقالت أم هانئ: التحف النبي صلى الله عليه وسلم بثوب، وخالف بين طرفيه على عاتقيه.

حديث أم هانئ قد خرجه البخاري في هذا الباب، وإنما مراده هنا: تفسير الالتحاف المذكور فيه، وقد حكى عن الزهري أنه فسره بالتوشح، وذكر أن التوشح والالتحاف والاشتمال بالثوب المأمور به في الصلاة: هو أن يطرح الثوب على منكبيه، ويرد طرفيه على عاتقيه، فإن لم يردهما فهو السدل المنهي عنه، كما سنذكره - أن شاء الله تعالى.

وقد فسر يعقوب بن السكيت التوشح، فقال: هو أن يأخذ طرف الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى، ويأخذ طرفه الذي ألقاه على الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقدهما على صدره.

وفرق الأخفش بين التوشح والاشتمال، فقال: التوشح: هو أن يأخذ طرف الثوب الأيسر من تحت يده اليسرى، فيلقيه على منكبه الأيمن، ويلقي طرف الثوب الأيمن من تحت يده اليمنى على منكبه الأيسر.

قال: والاشتمال: أن يلتف الرجل بردائه أو بكسائه من رأسه

ص: 353

إلى قدميه، يرد طرف الثوب الأيمن على منكبه الأيسر.

خرج في هذا الباب ثلاثة أحاديث:

الحديث الأول:

حديث عمر بن أبي سلمة، وخرجه من طرق:

فخرجه أولا:

ص: 354

354 -

عن عبيد الله بن موسى: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عمر بن أبي سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب واحد قد خالف بين طرفيه.

وبدأ بهذه الطريق لعلوها؛ فإنه رواه عن عبيد الله بن موسى - وهو: العبسي الكوفي -، عن هشام بن عروة سمعه منه.

وقد قيل: أنه لم يرو عنه في ((كتابه)) بغير واسطة غير هذا الحديث، وهذا

وهم؛ فإنه روى عنه - أيضا - بغير واسطة أول حديث في ((كتاب الإيمان)) ، وهو حديث:((بني الإسلام على خمس)) .

ثم قال:

ص: 354

355 -

ثنا محمد بن المثنى: ثنا يحيى، عن هشام، قال: حدثني أبي، عن عمر ابن أبي سلمة، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد في بيت أم سلمة، قد ألقى طرفيه على عاتقيه.

ويحيى هو: القطان، وفي هذه الرواية: زيادة تصريح هشام بسماعه له من أبيه، ورؤية عمر بن أبي سلمة لذلك من النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 354

ثم قال:

ص: 355

356 -

ثنا عبيد بن إسماعيل: ثنا أبو إسامة، عن هشام، عن أبيه، أن عمر بن أبي سلمة أخبره، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد مشتملا به في بيت أم سلمة، واضعا طرفيه على عاتقيه.

ففي هذه الرواية: تصريح عروة بسماعه له من عمر بن أبي سلمة، وفيه - أيضا -: رؤية عمر للنبي صلى الله عليه وسلم يصلي كذلك، وفيه تسمية ذلك اشتمالا، وتفسيره بوضع طرفي الثوب على عاتقيه.

وفي رواية خرجها مسلم في ((صحيحه)) : ((متوشحا به))

وأظن البخاري من هذه الوجوه الثلاثة عن هشام ليبين أن من رواه: عن هشام، عن أبيه، عن عَبْد الله بن عَبْد الله بن أبي أمية المخزومي، عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد وهم؛ فإن إسحاق رواه، عن هشام كذلك.

خرجه من طريقه الإمام أحمد.

وخرجه - أيضا - من طريق أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة كذلك، وهو وهم - أيضا.

وممن جزم بأنه وهم: علي بن المديني، وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان.

ص: 355

وممن رواه عن هشام، عن أبيه، عن عمر بن أبي سلمة: شعبة، ومالك، وحماد بن زيد وغيرهم.

الحديث الثاني:

ص: 356

357 -

ثنا إسماعيل بن أبي أويس: حدثني مالك، عن أبي النظر مولى عمر بن عبيد الله، أن أبا مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب اخبره، أنه سمع أم هانئ قالت: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره. قالت: فسلمت عليه، فقال:((من هذه؟)) قلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب. فقال: ((مرحبا بأم هانئ)) ، فلما فرغ من غسله قام، فصلى ثمان ركعات ملتحفا فِي ثوب واحد، فلما انصرف قلت: يا رسول الله، زعم ابن أبي، أنه قاتل رجلا قد أجرته: فلان بن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)) . قالت: وذلك ضحى.

وخرجه مسلم من رواية جعفر بن محمد، عن أبيه، عن أبي مرة، عن أم هانئ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيتها عام الفتح ثمان

ص: 356

ركعات، في ثوب واحد، قد خالف بين طرفيه.

وأول الحديث قد سبق في ((كتاب الغسل)) ، ويأتي الكلام على باقيه في ((صلاة الضحى)) وفي ((الجهاد)) في ((أمان المرأة)) - أن شاء الله تعالى.

الحديث الثالث:

ص: 357

358 -

ثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن

المسيب، عن أبي هريرة، أن سائلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في ثوب واحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أو لكلكم ثوبان؟)) .

وقد رواه ابن عيينة والأوزاعي عن الزهري، كما رواه مالك.

ورواه يونس وعقيل عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة.

قال أبو حاتم الرازي: كلاهما صحيح.

ورواه الأوزاعي، [و] في روايته: قال: ((ليتوشح به، ثم ليصل فِيهِ)) .

وقيل: أنه تفرد بهذه اللفظة عن الزهري.

وقوله: ((أو لكلكم ثوبان؟)) إشارة إلى أن منهم من لا يجد سوى ثوب

واحد، فلو لَمْ يصل احد فِي ثوب واحد لشق ذَلِكَ عَلَى بعض النَّاس أو كثير منهم، والحرج مرفوع عَن هذه الأمة بقوله:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة:6]، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ

ص: 357

حَرَجٍ} [الحج:78] .

فدلت أحاديث هذا الباب كلها على أنه يجوز أن يصلي الرجل في ثوب واحد، يشتمل به على منكبيه، ويخالف بين طرفيه على عاتقيه، وهو أفضل من الاتزار به، وعقده على قفاه، فإنه إنما يتزر به ويعقد عند ضيقه.

هذا قول أصحابنا والشافعية وغيرهم، وسيأتي من حديث جابر التصريح بهذا المعنى.

وكان كثير من الصحابة يصلي كذلك ويأمر به، منهم: علي، وجابر، وخالد بن الوليد.

وقد روي عن طائفة من السلف ما يدل على خلاف ذلك، وان الاتزار بالثوب الواحد في الصلاة أولى من الاشتمال.

وروى وكيع، عن فضيل بن غزوان، عن عبد الله بن واقد قال: صليت إلى جنب ابن عمر وأنا متوشح، فأمرني بالأزرة.

وعن عون بن صالح، عن حيان البارقي، قال: قال ابن عمر: لا تلبب كتلبب اليهود - يعني: في التوشح.

وفي ((سنن أبي داود)) من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أو قال عمر -: ((إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما، فإن لم يكن إلا ثوب فليتزر، ولا يشتمل اشتمال اليهود)) .

وقد سبق أنه حديث مختلف في رفعه وفي وقفه على عمر بن

ص: 358

الخطاب، وقد روي موقوفا على ابن عمر من قوله.

وفي رواية مرفوعة خرجها الحاكم وصححها: ((إذا لم يجد أحدكم إلا ثوبا واحدا فليشده على حقويه، ولا يشتمل اشتمال اليهود)) .

قال الأثرم في هذا الحديث: ليس كل احد يرفعه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه خلافه - يشير إلى الالتحاف والاتشاح بالثوب، كما تقدم.

وإن صح حديث ابن عمر فهو محمول على ما إذا لم يرده على عطفيه، فإن ذلك هو السدل المكروه، وبذلك فسر السدل الإمام أحمد وأبو عبيد وغيرهما من الأئمة.

وممن كره السدل في الصلاة: علي، وابن مسعود، قال أحمد: صح عن علي أنه كرهه، وجعله من فعل اليهود، واختلفوا فيه عن ابن عمر.

وفي كراهته أحاديث مرفوعة في أسانيدها مقال.

وعن أحمد، أنه لا يكره، إلا إذا لم يكن تحته قميص.

وكان الحسن وابن سيرين يسدلان على قميصهما، ورخص النخعي في السدل على القميص، وكرهه على الإزار، وحكي نحوه عن أحمد.

وفسر آخرون السدل بما ذكرنا، وزادوا: أن يكون مسبلا تحت

ص: 359

الكعبين، وهذا هو المروي عن الشافعي، وهو الذي ذكره أكثر أصحابه، وبعض أصحابنا، وقاله الخطابي وغيره، وجعلوا حكمه حكم إسبال الإزار تحت الكعبين: أن كان خيلاء حرم ذلك، وإن لم يكن خيلاء ففيه الاختلاف المشهور.

والصحيح: أن ذلك ليس بشرط في السدل، وان الاختلاف في كراهة السدل إذا لم يعطف أحد طرفي ثوبه على الآخر وإن لم يكن مسبلا. والله أعلم.

قال يزيد بن أبي حكيم: رايت سفيان الثوري يصلي مرخيا رداءه في الأرض، قد اشتمله وكشف عن بطنه وصدره، غير أنه زر طرفي الثوب، ممسكا عليها عند موضع الأزرة، فسأله: أسدل هذا؟ قال: لا، حتى يرخيه ولا يمسكه.

وكذلك روى إسحاق بن منصور، أنه رأى أحمد يصلي سادلا، وطرفا ثوبه

بيده، فإذا قام من الركوع خلى عنهما.

ص: 360

‌5 - باب

إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه

خرج فيه حديثين:

أحدهما:

قال:

ص: 361

359 -

ثنا أبو عاصم، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد، ليس على عاتقه شيء)) .

هكذا الرواية: ((لا يصلي)) بالياء، فيكون إخبارا عن الحكم الشرعي، أو إخبارا يراد به النهي، كما قيل مثله في قول الله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233] .

والثاني:

قال:

ص: 361

360 -

ثنا أبو نعيم: ثنا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، سمعته - أو كنت سألته - قال: سمعت أبا هريرة يقول: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من صلى في ثوب واحد فليخالف بين طرفيه)) .

ص: 361

في هذه الرواية تصريح يحيى بن أبي كثير بالسماع لهذا من عكرمة، فزال بذلك ما كان يخشى من تدليسه، والتصريح بسماع عكرمة له من أبي هريرة.

والحديث الأول: نهي لمن صلى في ثوب واحد أن يجرد عاتقيه، والثاني: أمر لمن صلى في ثوب واحد أن يخالف بين طرفية ويضعهما على عاتقيه.

وقد اجمع العلماء على استحباب ذلك وأنه الأفضل، بل كرهوا للمصلي أن يجرد عاتقيه في الصلاة.

قال النخعي: كان الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يجد رداء يصلي فيه وضع على عاتقيه عقالا ثم صلى.

وقال النخعي - أيضا -: كانوا يكرهون إعراء المناكب في الصلاة.

خرجهما ابن أبي شيبة في ((كتابه)) .

وقد سبق قول ابن عمر - وروي عنه مرفوعا -: ((إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبه؛ فإن الله أحق أن يتزين له)) .

وفي رواية عنه: ((إذا صلى أحدكم فليتزر وليرتد)) .

ولو صلى مكشوف المنكبين، فقال أكثر الفقهاء: لا إعادة عليه، وحكي رواية عن أحمد.

وقال أبو جعفر محمد بن علي: عليه الإعادة لارتكابه النهي.

ص: 362

والمشهور من مذهب أحمد: أنه أن صلى الفريضة كذلك أعاد، وفي إعادة النفل عنه روايتان.

وقد قيل: أن الشافعي نص على وجوبه في الصلاة، وحكى بعض المالكية عن أبي الفرج من أصحابهم: أن ستر جميع الجسد في الصلاة لازم، وفي صحة هذا نظر.

ونص أحمد على أنه لو ستر احد منكبيه وأعرى الآخر صحت صلاته؛ لأنه لم يرتكب النهي، فإن النهي هو إعراء عاتقيه، ولم يوجد ذلك.

وقال القاضي أبو يعلي: يجب ستر جميع منكبيه كالعورة. وقال في موضع: يجزئ ستر بعضهما، ولا يجب سترهما بما لا يصف البشرة، كالعورة.

ولأصحابنا وجه: أنه يجزئ أن يضع على عاتقيه ولو حبلا أو خيطا وان لم يستره به.

ولهم وجه آخر: أنه كان ذلك يسمى لباسا أجزأه، وإلا فلا.

وقد سبق أن من ألصحابه من كان يضع على عاتقيه عقالا ثم يصلي.

وقال النخعي: تقليد السيف في الصلاة بمنزلة الرداء. وكان سعيد بن جبير

يفعله. وعن الحسن قال: السيوف أردية الغزاة.

وروي عن عمر بن عبد العزيز، أنه صلى بالناس في قوس ليس عليه رداء غيرهما.

وروى أبو نعيم الفضل بن دكين: ثنا مندل، عن الأحوص بن

ص: 363

حكيم، عن مكحول، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس في قوس.

وقال النخعي: كان يكره القوس.

وقال الثوري: القوس والسيف بمنزلة الرداء. وعن الأوزاعي نحوه.

ص: 364

‌6 - باب

إذا كان الثوب ضيقاً

فيه حديثان:

أحدهما:

ص: 365

361 -

ثنا يحيى بن صالح: ثنا فليح بن سليمان، عن سعيد بن الحارث، قال: سألنا جابر بن عبد الله عن الصلاة في الثوب الواحد؟ فَقَالَ: خرجت مَعَ رَسُول الله فِي بعض أسفاره، فجئت ليلة لبعض أمري فوجدته يصلي، وعلي ثوب واحد فاشتملت بِهِ وصليت إلى جانبه فلما انصرف قَالَ:((مَا السرى يَا جابر؟)) فأخبرته بحاجتي، فلما فرغت قال:((ما هذا الاشتمال الذي رايت؟)) قلت: كان ثوب - يعني: ضاق - قال: ((فإن كان واسعا فالتحف به، وإن كان ضيقا فاتزر به)) .

قوله: ((ما السرى يا جابر)) يدل على أن هذا السير كان فِي آخر الليل، وهو السرى، وفهم النبي صلى الله عليه وسلم من جابر أنه جاء في ذلك الوقت لحاجة له، ولذلك قال له ذلك.

وأما إنكاره عليه الاشتمال بالثوب الواحد، فقال الخطابي: الاشتمال الذي أنكره أن يدير الثوب على بدنه كله، لا يخرج منه يده.

ص: 365

قلت: قد خرج هذا الحديث مسلم وأبو داود وغيرهما بسياق يدل على بطلان هذا التفسير، من رواية عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن جابر، فذكر حديثا طويلا، وفيه: قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فقام يصلي، وكانت علي بردة ذهبت أخالف بين طرفيها، فلم يبلغ لي، وكانت لها ذباذب فنكستها، ثم خالفت بين طرفيها، ثم تواقصت عليها لا تسقط، ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، فجاء جبار بن صخر فقام عن يساره، فأخذنا بيديه جميعا حتى أقامنا خلفه. قال: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقني وأنا لا أشعر، ثم فطنت به، فأشار إلي أن أتزر بها فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((يا جابر)) قلت: لبيك

يا رسول الله، قال:((إذا كان واسعا فخالف بين طرفيه، وإذا كان ضيقا فاشدده على حقوك)) .

فهذا السياق يدل على أن بردة جابر كانت ضيقة، لا تتسع للاتزار بها والارتداء، ولذلك تواقص عليها لئلا تسقط.

قال الخطابي في ((المعالم)) : معناه: أنه ثنى عنقه ليمسك الثوب به، كأنه يحكي خلقة الأوقص من الناس - يعني: مائل العنق.

وقد استدل بهذا الحديث من قال: أن الصلاة بإزار واحد مع إعراء المنكبين صحيحة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر جابرا أن يتزر ويصلي لما عجز عن ستر عورته ومنكبيه بالبردة التي عليه لضيقها.

وممن استدل بذلك الشافعي وأصحابه ومن وافقهم.

ص: 366

وقد روى شرحبيل بن سعد، عَن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ما اتسع الثوب فتعاطف به على منكبيك ثم صل وإذا ضاق عن ذلك فشد به حقويك، ثم صل على غير رداء)) .

خرجه الإمام أحمد، وشرحبيل هذا مختلف في أمره.

وأجاب أصحابنا عن ذلك من وجهين:

أحدهما: ما أجاب به أبو بكر الأثرم: أن ذلك محمول على حالة العجز عن ستر المنكبين، والنهي عن إعرائهما إنما يكون للقادر على سترهما.

وهذا - أيضا - قول إسحاق، قال: أن أعرى منكبيه في الصلاة من ضرورة فجائز -: نقله عنه حرب.

والثاني: أن حديث جابر هذا محمول على صلاة النافلة، وحديث أبي هريرة محمول على صلاة الفرض، وهذا جواب أبي بكر عبد العزيز بن جعفر.

ويشهد له: أن في رواية البخاري أن ذلك كان ليلا؛ وقوله: ((ما السرى يا جابر؟)) يدل على أنه كان من أخر الليل، فيحتمل أن تكون تلك صلاة الليل، أو صلاة الوتر. والله أعلم.

وقال حنبل: قيل لأبي عبد الله - يعني: أحمد -: الرجل يكون عليه الثوب اللطيف لا يبلغ أن يعقده، ترى أن يتزر به ويصلي؟ قال: لا أرى ذلك مجزئا عنه، وأن كان الثوب لطيفا صلى قاعدا وعقده من ورائه، على ما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الثوب الواحد.

وهذه رواية مشكلة جدا، ولم يروها عن أحمد غير حنبل، وهو

ص: 367

ثقة إلا أنه يهم أحيانا، وقد اختلف متقدمو الأصحاب فيما تفرد به حنبل عن أحمد: هل تثبت به رواية عنه أم لا؟

ولكن اعتمد الأصحاب على هذه الرواية، ثم اختلفوا في معناها: فقال القاضي أبو يعلى ومن اتبعه: من وجد ما يستر به منكبيه أو عورته ولا يكفي إلا أحدهما فإنه يستر عورته، ويصلي جالسا؛ لأن الجلوس بدل عن القيام، ويحصل به ستر العورة، فيستر بالثوب اللطيف منكبيه حيث لم يكن له بدل.

وقال طائفة من أصحابنا: إذا كان الثوب يستر منكبيه وعجيزته سترهما، وصلى قاعدا لحصول ستر المنكبين وستر العورة، فإن لم يحوهما اتزر به، وصلى قائما.

وهؤلاء، منهم: من اعتبر ستر عجزه خاصة، فيكون قبله مستترا بالجلوس. وهذا إنما يصح على قولنا: أن العورة الفرجان خاصة، فأما على المذهب المشهور: أن العورة ما بين السرة والركبة فقد حصل كشف معظم العورة، وستر ذلك آكد من ستر المنكبين.

ص: 368

ومنهم: من اعتبر ستر جميع عورته مع المنكبين، فأسقط القيام لذلك، وهو ظاهر كلام ابن أبي موسى، وهو اقرب.

وقياس المذهب: أنه لا يلزمه ذلك في هذه الحال، بل يخير بينه وبين ستر عورته وحدها وصلاته قائما، كما يخير العاري بين أن يصلي قاعدا مراعاة لستر بعض عورته بالجلوس وبين أن يصلي قائما مراعاة لركن القيام.

ولأصحابنا وجه آخر: أنه يلزمه أن يستر عورته ويصلي قائما كقول جمهور العلماء، ورجحه صاحب ((المغني)) ؛ لأن القيام وستر العورة واجبان بالإجماع، بخلاف ستر المنكبين.

وعليه يدل: حديث جابر المخرج في هذا الباب، وحديث سهل بن سعد كما سيأتي - أن شاء الله تعالى -، وإليه أشار أحمد في رواية حنبل بقوله:((وعقده من ورائه على ما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم)) ، لكن حديث سهل ليس فيه أنهم كانوا يصلون

جلوسا.

وقول الأثرم وإسحاق بن راهويه: أنه يفرق في ستر المنكبين بين القادر والعاجز، فيجب مع القدرة ويسقط عند العجز أشبه الأقاويل في المسألة، وعليه يدل تبويب البخاري. والله أعلم.

الحديث الثاني:

ص: 369

362 -

حدثنا مسدد، ثنا يحيى، عن سفيان: ثنا أبو حازم سلمة

ص: 369

بن دينار، عن سهل، قال: كان رجال يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم عاقدي أزرهم على أعناقهم كهيئة

الصبيان. وقال للنساء: ((لا ترفعن رءوسكن حتى يستوي الرجال جلوسا)) .

في هذا الحديث من الفقه: أن الإزار الضيق يعقد على القفا إذا أمكن ليحصل به ستر بعض المنكبين مع العورة، ولهذا استدل به الإمام أحمد في رواية حنبل كما سبق.

وفيه: أن صفوف النساء كانت خلف الرجال.

وفيه: أن من انكشف من عورته يسير في صلاة لم تبطل صلاته.

وقد استدل بذلك طائفة من الفقهاء، وتوقف فيه الإمام أحمد، وقال: ليس هو بالبين.

يشير إلى أنه لم يذكر فيه انكشاف العورة حقيقة، إنما فيه خشية ذلك؛ وإنما ذكر حديث عمرو بن سلمة الجرمي أنه كان يصلي بقومه في بردة له صغيرة فكان إذا سجد تقلصت عنه فيبدو بعض عورته حتى قالت عجوز من ورائه: ألا تغطون عنا است قارئكم.

وقد خرجه البخاري في موضع آخر من ((كتابه)) هذا.

ص: 370

ومذهب أحمد: أنه إذا انكشفت العورة كلها أو كثير منها، ثم سترها في زمن يسير لم تبطل الصلاة؛ وكذلك أن انكشفت منها شيء يسير، وهو ما لا يستفحش في النظر ولو طال زمنه، وإن كان كثيرا وطالت مدة انكشافه بطلت الصلاة.

وكذا قال الثوري: لو انكشفت عورته في صلاته لم يعد - ومراده: إذا عاد سترها في الحال.

ومذهب الشافعي: أنه يعيد الصلاة بانكشافها بكل حال، وعن أحمد ما يدل عليه.

وعن أبي حنيفة وأصحابه: أن انكشف من المغلظة دون قدر الدرهم فلا إعادة، ومن المخففة أن انكشف دون ربعها فكذلك، ويعيد فيما زاد على ذلك.

ولا فرق بين العمد والسهو في ذلك عند الأكثرين.

وقال إسحاق: أن لم يعلم بذلك إلا بعد انقضاء صلاته لم يعد.

وهو الصحيح عند أصحاب مالك - أيضا.

وحكي عن طائفة من المالكية: أن من صلى عاريا فإنه يعيد في الوقت ولا يعيده بعده. وقالوا: ليس ستر العورة من فرائض الصلاة كالوضوء، بل هو سنة.

والمنصوص عن مالك: أن الحرة إذا صلت بادية الشعر أو الصدر أو ظهور القدمين أعادت في الوقت خاصة.

ص: 371

‌7 - باب

الصلاة في الجبة الشامية

وقال الحسن في ثياب تنسجها المجوس: لم ير بها بأسا.

وقال معمر: رأيت الزهري يلبس من ثياب اليمن ما صبغ بالبول.

وصلى علي رضي الله عنه في ثوب غير مقصور.

المقصود بهذا الباب: جواز الصلاة في الثياب التي ينسجها الكفار، وسواء نسجوها في بلادهم وجلبت منها، أو نسجت في بلاد المسلمين.

روى أبو إسحاق الفزاري، عن زائدة ومخلد، عن هشام، عن الحسن، أنه قال في الثياب التي تنسجها المجوس فيؤتى بها قبل أن تغسل: لا بأس بالصلاة فيها.

وروى سعيد بن منصور: ثنا حماد بن زيد، عن مطر الوراق، عن الحسن، أنه كان لا يرى بأسا أن يصلي في السابري والدستوائي ونحو ذلك قبل أن تغسل.

وروى وكيع في ((كتابه)) عن الربيع بن صبيح، عن الحسن، قال: لا بأس مما يعمل المجوس من الثياب.

ص: 372

وعن علي بن صالح، عن عطاء أبي محمد، قال: رايت على علي قميصا من هذه الكرابيس، لبيسا غير غسيل.

ورواه عبد الله بن الإمام أحمد في ((كتاب العلل)) : ثنا أبي: ثنا محمد بن ربيعة: ثنا علي بن صالح: حدثني عطاء أبو محمد قال: رأيت عليا اشترى ثوبا سنبلانيا فلبسه، ولم يغسله، وصلى فيه.

وروى أبو بكر الخلال بإسناده، عن ابن سيرين، قال: ذكر عند عمر الثياب اليمانية، أنها تصبغ بالبول؟ فقال: نهانا الله عن التعمق والتكلف.

وروى الإمام أحمد، عن هشيم، عن يونس، عن الحسن، أن عمر بن الخطاب أراد أن ينهى عن حلل الحبرة؛ لأنها تصبغ بالبول، فقال له أبي: ليس ذاك لك، قد لبسهن النبي صلى الله عليه وسلم، ولبسناهن في عهده.

وروى ابن أبي عاصم في ((كتاب اللباس)) من طريق محمد بن عبيد الله العرزمي - وفيه ضعف - عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، قال: خطب عمر الناس، فقال: أنه بلغني أن هذه البرود اليمانية التي تلبسونها تصبغ بالبول؛ بول العجائز العتق، فلو نهينا الناس عنها؟ فقام عبد الرحمان بن عوف، فقال: يا أمير المؤمنين، أتنطلق إلى شيء لبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فتحرمه؟! إنها تغسل بالماء، فكف عُمَر عَن ذَلِكَ.

وقد روي عَن الْحَسَن أنه كَانَ إذا سئل عَن البرود إذا صبغت بالبول،

ص: 373

فهل ترى بلبسها بأسا؟ حدث بحديث عمر مع أبي بن كعب كما تقدم.

وقال حنبل: كان أبو عبد الله - يعني: أحمد - يصبغ له يهودي جبة فليبسها، ولا يحدث فيها حدثا من غسل ولا غيره. فقلت له، فقال: ولم تسأل عما لا تعلم؟! لم يزل الناس منذ أدركناهم لا ينكرون ذلك.

قال حنبل: وسئل أبو عبد الله عن يهود يصبغون بالبول؟ فقال: المسلم والكافر في هذا سواء، ولا تسال عن هذا ولا تبحث عنه وقال: إذا علمت أنه لا محالة يصبغ من البول وصح عندك فلا تصل فيه حتى تغسله.

وقال يعقوب بن بختان: سئل أحمد عن الثواب يصبغه اليهودي؟ قال: ويستطيع غير هذا؟! - كأنه لم ير به بأسا.

وقال المروذي: سمعت أبا عبد الله يسأل عن الثوب يعمله اليهودي والنصراني، تصلي فيه؟ قال: نعم، القصار يقصر الثياب، ونحن نصلي فيها.

وكل هذا يدل على أن ما صنعه الكفار من الثياب فإنه يجوز الصلاة فيه من غير غسل، ما لم تحقق فيه نجاسة، ولا يكتفى في ذلك بمجرد القول فيه حتى يصح، وأنه لا ينبغي البحث عن ذلك والسؤال عنه.

وحكى ابن المنذر هذا القول عن مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي، فلم يحك عن احد فيه خلافا، وهو قول الثوري وإسحاق -: نقله عنه حرب. ومن أصحابنا من قال لا نعلم في هذا خلافا. ومنهم من نفى

ص: 374

الخلاف فيه في المذهب. ومن الأصحاب من حكى فيه خلافا عن أحمد.

ونقل أبو داود أن أحمد سئل عن الثوب النسيج يصلى فيه قبل أن يغسل؟ قال: نعم، إلا أن ينسجه مشرك أو مجوسي.

وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ: قرأت على أبي عَبْد الله - يعني: أحمد -: ابن أبي عدي، عن ابن عون، قال: كان محمد بن سيرين يختار إذا اخذ الثوب من النساج أن لا يلبسه حتى يغسله. قال أبو عبد الله: إليه اذهب. أو قال: أحب إلي أن لا يصلي فيه حتى يغسله.

وحمل أبو بكر عبد العزيز بن جعفر هذه الرواية على أن الثوب نسجه مشرك وثني أو مجوسي، كما رواه أبو داود، فإن كان كتابيا صلى فيه بغير غسل، على ما رواه المروذي. قال: وإن صلى فيما نسجه وثني أو مجوسي من غير غسل فلا يتبين لي

الإعادة؛ لأن الأصل طهارته.

وقال ابن أبي موسى: اختلف قول أحمد في الثوب ينسجه يهودي أو نصراني: هل يصلي فيه مسلم قبل أن يغسله أم لا؟ على روايتين، فأما الثوب الذي ينسجه مجوسي فلا يصلى فيه حتى يغسل قولا واحدا.

وهذا كله فيما ينسجه الكفار من الثياب، ولم يلبسوه،

ص: 375

فأما ما لبسوه من ثيابهم، فاختلف العلماء في الصلاة فيه قبل غسله:

فمنهم: من رخص في ذلك. قال الحسن: لا بأس بالصلاة في رداء اليهودي والنصراني وهو قول الثوري، وأبي حنيفة، ورواية عن أحمد. قال الثوري: وغسلها أحب إلي.

ومنهم: من كره ذلك، من غير تحريم، وهو قول الشافعي، ورواية عن أحمد.

وكره أبو حنيفة وأصحابه ما ولي عوراتهم، كالإزار والسراويل. وقال الشافعي: أنا لذلك أشد كراهة.

وقالت طائفة: لا يصلى في شيء من ثيابهم حتى يغسل، وهو قول إسحاق، وحكي رواية عن أحمد، وهو قول مالك - أيضا -، وقال: إذا صلى فيه يعيد ما دام في الوقت.

وفرقت طائفة بين من تباح ذبيحته ومن لا تباح:

قال أحمد - في رواية حنبل - في الصلاة في ثوب اليهودي والنصراني: إذا لم يجد غيره غسله وصلى فيه، وثوب المجوسي لا يصلى فيه، فإن غسله وبالغ في غسله فأرجو؛ هؤلاء لا يجتنبون البول، واليهود والنصارى كأنهم اقرب إلى الطهارة من المجوس.

وفرقت طائفة بين ما يلي عوراتهم وما لا يلي العورات:

قال أحمد - في رواية حنبل -: لا بأس بالصلاة في ثوب اليهودي والنصراني، إلا ما يلي جلده، فأما إذا كان فوق ثيابه فلا بأس به.

وقال عَبْد الله بن أحمد: سمعت أبي قال: كل ثوب يلبسه يهودي أو

ص: 376

نصراني أو مجوسي إذا كان مثل الإزار والسراويل فلا يعجبني أن يصلى فيه؛ وذلك أنهم لا يتنزهون من البول.

ونقل بكر بن محمد، عن أبيه، عن أحمد، فيمن صلى في سراويل يهودي أو نصراني أو مجوسي: أحب إلي أن يعيد صلاته كلها.

ونقل حرب، عن أحمد، قال: لا يصلى في شيء من ثياب أهل الكتاب التي تلي جلده: القميص والسراويل وغير ذلك.

قال ابن أبي موسى: لا تستعمل ثياب المجوسي حتى تغسل، ولا ما سفل من ثياب أهل الكتاب كالسراويل، وما لصق بأبدانهم حتى يغسل.

والمسألة: ترجع إلى قاعدة تعارض الأصل والظاهر، فالأصل الطهارة، والظاهر أنه لا يسلم من النجاسة، وقد يقوى ذلك الظاهر في حق من لا تباح ذبائحه؛ فإن ذبائحهم ميتة، وما ولي عوراتهم؛ فإن سلامته من النجاسة بعيد جدا، خصوصا في حق من يتدين بالنجاسة.

خرج البخاري في هذا الباب:

ص: 377

363 -

حديث: الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن مغيرة بن شعبة، قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال:((يا مغيرة، خذ الإداوة)) ، فأخذتها، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توارى عني فقضى حاجته وعليه جبة شامية، فذهب ليخرج يده من كمها فضاقت، فأخرج يده من أسفلها، فصببت عليه فتوضأ وضوءه للصلاة، ومسح على خفيه، ثم صلى.

ص: 377

وقد سبق هذا الحديث في ((كتاب الطهارة)) من وجوه أخر عن المغيرة، وخرجه في ((كتاب اللباس)) من طريق الشعبي، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه، وفي حديثه:((وعليه جبة من صوف)) .

وفيه من الفقه: جواز الصلاة فيما يجلب من بلاد المشركين من ثيابهم. وجواز الصلاة في الصوف، وجواز الوضوء فيما هو ضيق الكمين وإن لم يتمكن من إخراج يديه منه عند الوضوء، إذا أخرج يديه من أسفله.

وخرج الإمام أحمد، وأبو داود، من حديث علي بن زيد بن جدعان، عن أنس، أن ملك الروم أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم مستقة من سندس، فلبسها.

وعلي بن زيد، مختلف في أمره، وليس بالحافظ جدا.

قال الأصمعي: المساتق: فراء طوال الأكمام، واحدتها: مستقة.

والمستقة: بفتح القاف. وتضم - أيضا.

قال الخطابي: يشبه أن تكون هذه المستقة مكففة بالسندس؛ لأن نفس الفرو لا يكون سندسا.

قلت: بل الظاهر أن غشاء الفرو كان حريرا، ويدل عليه: ما رواه سالم بن نوح، عن عمر بن عامر، عن قتادة، عن أنس: أن أكيدر دومة أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة سندس، فلبسها

ص: 378

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعجب الناس منها، ثم أهداها إلى عمر، فقال: يا رسول الله، تكرهها وألبسها؟ قال:((يا عمر إنما أرسلت بها إليك لتبعث بها وجها فتصيب بها مالا)) . وذلك قبل أن ينهى عن الحرير.

وخرجه البزار وغيره، وخرجه مسلم مختصرا.

وهذا - والله أعلم - هو فروج الحرير الذي قال عقبة بن عامر: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروج حرير فلبسه، ثم صلى فيه ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا، كالكاره له، ثم قال:((لا ينبغي هذا للمتقين)) .

وقد خرجه البخاري في موضع آخر.

وخرج مسلم من حديث أبي الزبير، عن جابر، قال: لبس النبي صلى الله عليه وسلم يوما قباء من ديباج أهدي له، ثم أوشك أن نزعه، ثم أرسل به إلى عمر - وذكر بقية الحديث.

ص: 379

‌8 - باب

كراهية التعري في الصلاة وغيرها

ص: 380

364 -

حدثنا مطر بن الفضل: ثنا روح: ثنا زكريا بن إسحاق: ثنا عمرو بن دينار، قال: سمعت جابر بن عبد الله يحدث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره، فقال له العباس عمه: يا بن أخي، لو حللت إزارك فجعلته على منكبيك دون الحجارة. قال: فحله، فجعله على منكبيه، فسقط مغشيا عليه، فما رئي بعد ذلك عريانا.

هذا الإسناد مصرح فيه بالسماع من أوله إلى آخره، وقد قيل: أنه من مراسيل الصحابة؛ فإن جابرا لم يحضر هذه القصة، وإنما سمعها من غيره، إما من النبي صلى الله عليه وسلم أو من بعض أكابر أصحابه، فإن كان سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم فهو متصل.

وقد اختلفوا في قول الصحابي: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذا)) ، هل يحمل على الاتصال، أم لا؟

والتحقيق: أنه أن حكى قصة أدركها بسنه، ويمكن أن يكون شهدها حملت على الاتصال، وإن حكى ما لم يدرك زمنه فهو مرسل لذلك. والله أعلم.

وبناء الكعبة حين نقل النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش الحجارة لم يدركه جابر، فإن ذلك كان قبل البعثة بمدة، وقد قيل: أن عمر النبي صلى الله عليه وسلم كان حينئذ

ص: 380

خمس عشرة سنة.

قال معمر، عن الزهري: كان ذلك حين بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الحلم.

وأما سقوطه مغشيا عليه، فقيل: من شدة حيائه صلى الله عليه وسلم من تعريه؛ فإنه كان مجبولا على أجمل الأخلاق وأكملها منذ نشأ، ومن أعظمها شدة الحياء.

وقيل: بل كان لا مر شاهده وراءه، أو لنداء سمعه عن التعري.

وقد خرج البخاري هذا الحديث في ((باب: بنيان الكعبة)) من ((كتاب: بدء الخلق)) من طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار، وفيه: قال. فخر إلى الأرض، وطمحت عيناه إلى السماء، ثم أفاق، فقال:((إزاري، إزاري)) ، فشد عليه إزاره.

وقد روى الأزرقي في ((كتاب: أخبار مكة)) . ثنا جدي: ثنا مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، قال: جلس رجال من قريش في المسجد الحرام، فيهم حويطب بن عبد العزى ومخرمة بن نوفل، فتذاكروا بنيان قريش الكعبة - فذكر حديثا طويلا في ذلك -، وفيه: فنقلوا الحجارة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ غلام لم ينزل عليه الوحي، ينقل معهم الحجارة على رقبته، فبينا هو ينقلها إذ انكشف نمرة كانت عليه، فنودي: يا محمد، عورتك، وذلك أول ما نودي - والله

ص: 381

أعلم -، فما رئيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم عورة بعد ذلك، ولبج برسول الله صلى الله عليه وسلم من الفزع حين نودي، فأخذ العباس بن عبد المطلب فضمه إليه، وقال: لو جعلت لنا بعض نمرتك على عاتقك تقيك الحجارة، فقال:((ما أصابني هذا إلا من التعري)) فشد رسول الله صلى الله عليه وسلم إزاره، وجعل ينقل معهم - وذكر بقية الحديث.

وقال - أيضا -: ثنا جدي وإبراهيم بن محمد الشافعي، قالا: ثنا ابن خالد، عن ابن خثيم، قال: كان رسول الله غلاما حيث هدمت الكعبة، فكان ينقل الحجارة، فوضع على ظهره إزاره يتقي به فلبج به، فاخذ العباس فضمه إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إني نهيت أن أتعرى)) .

يقال: لبج بفلان، ولبط به، إذا صرع، وهو معنى ما في حديث جابر:

((فسقط مغشيا عليه)) .

وروى الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق: ابنا معمر، عن ابن خثيم، عن أبي

الطفيل، وذكر بناء الكعبة في الجاهلية، قال: فهدمتها قريش، وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي، تحملها قريش على رقابها، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا. فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل الحجارة من أجياد وعليه نمرة، فضاقت عليه النمرة، فذهب يضع النمرة على عاتقه فترى عورته من صغر النمرة،، فنودي: يا محمد، خمر عورتك، فلم ير عريانا بعد

ذلك.

وروى ابن سعد بإسناد ضعيف، عن ابن عباس، قال: أول شئ

ص: 382

رأى النبي صلى الله عليه وسلم من النبوة أن قيل له: استتر، وهو غلام، فما رئيت عورته من يومئذ.

ويروى بإسناد أجود منه، عن السماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((نهيت أن امشي عريانا)) ، [قلت: اكتمها الناس مخافة أن يقولوا: مجنون] .

وبعض رواته لم يذكر في إسناده: ((العباس)) . وخرج البزار من حديث مسلم الملائي - وفيه ضعف -، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من وراء الحجرات، وما رئي عورته قط.

وقال لا نعلم روي من وجه متصل بإسناد أحسن من هذا.

وفي ((صحيح مسلم)) عن المسور بن مخرمة، قال: أقبلت بحجر أحمله ثقيل، وعلي إزار، فانحل إزاري ومعي الحجر، فلم أستطع أن أضعه حتى بلغت به إلى موضع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ارجع إلى ثوبك فخذه، ولا تمشوا عراة)) .

وفي ((مسند الإمام أحمد)) بإسناد جيد، عن عبد الله بن الحارث بن جزء، أنه مر وصاحب له بأيمن وفتية من قريش قد خلعوا أزرهم، فجعلوها مخاريق يجتلدون بها وهم عراة، قال: فلما مررنا بهم قالوا: أن هؤلاء لقسيسون، فدعوهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج عليهم، فلما أبصروه تبددوا، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا حتى دخل، وكنت أنا وراء

ص: 383

الحجرة، فاسمعه يقول:((سبحان الله، لا من الله استحيوا، ولا من رسوله استتروا)) ، وأم ايمن عنده تقول: أستغفر لهم يا رسول الله، فبلأي ما أستغفر لهم.

وقوله: فبلأي: أي بشدة، ومنه اللأواء، والمعنى: أنه أستغفر لهم بعد شدة امتناعه من ذَلِكَ.

وخرج الأمام أحمد وأبو داود والنسائي وأبن ماجه والترمذي ـ وحسنه ـ من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منهن وما نذر؟ قال:((أحفظ عورتك إلا من زوجتك، وما ملكت يمينك)) ، فقال: الرجل يكون مع الرجل؟ قال: ((أن استطعت أن لا يراها أحد فأفعل)) ، قلت: فالرجل يكون خاليا؟ قال: ((فالله أحق أن يستحيا منه)) .

وقد ذكره البخاري في موضع آخر من ((كتابه)) هذا تعليق مختصر، فقال: وقال بهز، عن أبيه، عن جده.

وقد اجمع العلماء على وجوب ستر العورة بين الناس عن أبصار الناظرين، واختلفوا في وجوب سترها في الخلوة، على قولين، هما وجهان لأصحابنا وأصحاب الشافعي، ويجوز كشفها للحاجة إليه بقدرها بغير خلاف، وقد سبق في ((كتاب: الغسل)) ذكر بعض ذلك.

ص: 384

‌9 - باب

الصلاة في القميص والسراويل والتبان والقباء

خرج فيه حديثين:

الحديث الأول

ص: 385

365 ـ حدثنا سليمان بن حرب: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، قال: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الصلاة في الثوب الواحد، فقال:((أو كلكم يجد ثوبين؟)) ثم سأل رجل عمر، فقال: إذا وسع الله عليكم فأوسعوا، جمع رجل عليه ثيابه، صلى رجل في إزار ورداء، في إزار وقميص، في إزار وقباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقباء، في تبان وقباء، في تبان وقميص. قال: وأحسبه قال: في تبان ورداء.

قد تقدم حديث أبي هريرة هذا من وجه آخر عنه، وذكرنا أن قوله:((أو لكلكم ثوبان؟)) ، ((أو كلكم يجد ثوبين؟)) إشارة إلى أنه لو لم تشرع الصلاة في ثوب واحد لشق على كثير منهم؛ فإنه كَانَ فقيرا لا يجد ثوبين.

وفيه إشارة –أيضا - إلى أن الصلاة في الثوب الواحد إنما شرعت

ص: 385

لقلة الثياب حينئذ، فلما كثرت الثياب، ووسع الله على المسلمين، بفتح البلاد عليهم وانتقال ملك فارس والروم إليهم أمر عمر رضي الله عنه حينئذ بالصلاة في ثوبين ثوبين؛ لزوال المعنى الذي كان لأجله شرعت الصلاة في ثوب واحد.

وكل ما يلبس على البدن فهو ثوب، سواء كان شاملا له أو لبعضه، وسواء كان مخيطا أو غير مخيط، فالإزار ثوب، والقميص ثوب، والقباء ثوب، والسراويل ثوب، والتبان ثوب، فلهذا قال عمر: إذا وسع الله عليكم فأوسعوا، جمع رجل عليه ثيابه، صلى رجل في إزار ورداء ـ والإزار: مَا يشده عَلَى وسطه، والرداء مَا يلقيه عَلَى منكبيه ـ في إزار وقميص، في إزار وقباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقباء، في تبان وقباء، في تبان وقميص. وشك الراوي: هل قال في تبان

ورداء؟ .

والتبان والرداء: بمنزلة السراويل والرداء.

فكل من هذه الأنواع التي ذكرها عمر رضي الله عنه صلاة في ثوبين ثوبين.

وقد روى الجريري، عن أبي نظرة، قال: قال أبي بن كعب: الصلاة في الثوب الواحد سنة، كما نفعله مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعاب علينا ـ فقال أبن مسعود: إنما كان ذاك إذ كان في الثياب قلة، فأما إذا وسع الله فالصلاة في الثوبين أزكى.

خرجه عبد الله أبن الإمام أحمد في ((المسند)) ، وفيه انقطاع.

ص: 386

وخرجه الدارقطني في ((علله)) من رواية داود بن أبي هند، عن أبي نظرة، عن أبي سعيد، فصار متصلا. وذكر أنه روي عن داود، عن أبي نظرة، عن جابر.

وروى وكيع في ((كتابه)) عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، قال: أختلف عَبْد الله بن مسعود وأبي بن كعب في الصلاة في الثوب الواحد، فقال أبي: في ثوب، وقال أبن مسعود: في ثوبين، فبلغ ذلك عمر، فقال: القول ما قال أبي، وإن لم يأل أبن مسعود عن الخير.

وهذا منقطع أيضا.

وروى أبن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن سعيد، قال: قال:

[.. ..] كنا نصلي في ثوب واحد، حتى جاء الله بالثياب، فقال: صلوا في ثوبين، فقال أبي بن كعب: ليس هذا في شئ، قد كنا نصلي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثوب الواحد، ولنا ثوبان، قيل لعمر بن الخطاب: ألا تقضي بين هذين ـ وَهُوَ جالس ـ؟ قل أنا مع أبي.

وظاهر كلام أبي بن كعب أن الصلاة في ثوب واحد أفضل، وكذلك كان يفعله جابر بن عبد الله وغيره.

ويحتمل: أنهم أرادوا بذلك بيان الجواز لئلا يتوهم متوهم أنه لا تجوز الصلاة في ثوب واحد، ويدل على هذا الاحتمال: أن عمر قد صح عنه الأمر بالصلاة في ثوبين - كما خرجه عنة البخاري - فعلم أنه أراد تارة بيان الجائز، وتارة بيان الأفضل.

ص: 387

وأكثر العلماء على استحباب الصلاة في ثوبين، وقد تقدم عن ابن عمر وغيره، وهو قول أكثر الفقهاء، منهم: مالك، والثوري، والشافعي، واحمد.

ويتأكد استحبابه عند مالك وأحمد في حق الإمام أكثر من غيره، وظاهر كلام أحمد: كراهته للإمام دون المنفرد، وكره مالك ذلك لأئمة المساجد إلا من يؤم في سفر أو في بيته، فإن ذلك من زينة الصلاة المأمور بها، والإمام هو المنظور إليه، فيتأكد استحباب الزينة في حقه.

ويدل على هذا: أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الثوب الواحد، إنما كان تارة في بيته كما في حديث عمر بن أبي سلمة، وتارة في السفر كما في حديث جابر.

وقد روي عن طائفة من السلف تفضيل بعض أنواع الثوبين على بعض: فقال أبو مالك: الصلاة في الإزار والقباء أحب إلي من الصلاة في القميص والإزار.

وعن النخعي، قال: الصلاة في التبان والرداء أحب إلي من الصلاة في القميص والرداء.

والظاهر: أنه فضل التبان والسراويل على الإزار؛ لأنه يواري العورة عن الأرض، فقد روي عنه: أنه كره أن يفضي بفرجه إلى الأرض في الصلاة.

وأما أن يصلي في ثوب واحد، فقال الشافعي وأصحابنا: أفضل ذلك القميص، ثم الرداء، ثم الإزار، ثم السراويل.

ومن أصحاب الشافعي من قال: السراويل أولى من الإزار؛ لأنه أستر، وهذا مقتضى كلام

ص: 388

النخعي كما سبق.

واستدل من رجح الإزار: بأنه يتجافى عنه ولا يصف الأعضاء بخلاف السراويل.

وسئل الإمام أحمد: السراويل أحب إليك أم الميازر؟ فقال: السراويل محدث لكنه استر. وقال: أيضا - الأزر كانت لباس القوم، والسراويل أستر.

قال: والحديث: ((من لم يجد الإزار فليلبس السراويل)) ، وهذا دليل أن القوم قد لبسوا السراويلات.

وقد سبق حديث سلمة بن الأكوع في الصلاة في القميص، وانه يزره ولو بشوكة.

وفي ((سنن أبي داود)) عن جابر، أنه أم في قميص ليس عليه رداء، فلما انصرف قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في قميص.

وروى أبو نعيم الفضل بن دكين: ثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى: ثنا شيخ، قال: أمنا الحسن - أو الحسين - بن علي رضي الله عنهم في قميص خفيف، ليس عليه إزار ولا رداء، فلما صلى قال: هذه السنة - أو من السنة -، وإنما فعلته لتنظروا أن عندنا الثياب.

وإذا صلى في قميص فإنه ينبغي أن يزره، وقد تقدم قول من كره الصلاة في قميص غير مزرور استدلالا بحديث سلمة بن الأكوع، فإن لم يزر القميص فإن كان تحته إزار أو سراويل صحت صلاته لاستتار عورته.

وقد روي، عن نافع، أن ابن عمر كان لا يصلي إلا وهو متزر، وربما اتزر تحت قميصه وفوقه في السفر.

وإن لم يكن عليه إزار ولا سراويل، فإن كان له لحيه كبيرة تستر جيبه بحيث لا يرى منه عورته صحت صلاته -: نص عليه أحمد في رواية الأثرم، وهو قول داود

الطائي،

ص: 389

وأصح الوجهين للشافعية.

وإن لم يكن كذلك، بل كان يرى عورة نفسه من جيبه لم تصح صلاته، عند الشافعي وأحمد، وتصح عند مالك وأبي حنيفة وأبي ثور، كما لو رئيت عورته من أسفل ذيله.

وقد رخص في الصلاة في قميص غير مزرر: سالم بن عبد الله بن عمر وغيره من السلف.

وقال مالك: هو استر من الذي يصلي متوشحا بثوب.

وقال إسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد عمن صلى ولم يزر عليه، ولم يحتزم؟ فقال: جائز، فقلت له: أنه لو نظر إلى فرجه رآه، فقال: لا يمكن أن يرى ذاك.

وقال أبو أيوب - يعني: سليمان بن داود الهاشمي -: يزر عليه، فإن لم يفعل وكان إذا ركع لا يستتر فرجه عن النظر أعاد الصلاة.

وقال أبو خيثمة: نأمره أن يزر عليه، ولا أرى عليه إعادة؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم حين قال للنساء:((لا ترفعن رءوسكن قبل الرجال)) من ضيق الأزر، وحديث عمرو بن سلمة:((غطوا عنا أست قارئكم)) .

قال الجوزاني: والقول في ذلك على ما قاله أبو خيثمة لما احتج به، ثم قال: ثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود: ثنا زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((يا معشر النساء، إذا سجد الرجال فاخفضن أبصاركن، لا ترين عورات الرجال)) من ضيق الأزر.

ص: 390

وروى الطبراني بإسناد ضعيف، عن ابن عباس، قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي محتبيا، محلل الأزرار.

الحديث الثاني:

ص: 391

366 -

حدثنا عاصم بن علي: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما يلبس المحرم؟ فقال: ((لا يلبس القميص، ولا السراويل، ولا البرنس، ولا ثوبا مسه زعفران أو ورس، فمن لم يجد النعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين)) .

وعن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

القائل: ((عن نافع)) هو ابن أبي ذئب، وقد سبق الحديث عنه بالوجهين - أيضا - في آخر ((كتاب العلم)) .

والمقصود من تخريج هذا الحديث في هذا الباب: أنه يدل على أن لبس ما ذكر فيه من اللباس كان متعارفا بينهم، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم ونهى المحرم عن لبسه، ففيه إقرار لغير المحرم على لباسه، وقد سبق من كلام الإمام أحمد: استدلاله به على لباس السراويل.

وإذا أقر النبي صلى الله عليه وسلم أمته على لبس هذه الثياب في غير الإحرام، فهو إقرار لهم على الصلاة فيها، ولو كان ينهى عن الصلاة في شيء منها ليبين لهم ذلك.

ص: 391

وقد ورد النهي عن الصلاة في السراويل في حديث رواه الحسين بن وردان، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي في السراويل.

خرجه الطبراني والعقيلي، وقال: لا يتابع حسين عليه، ولا يعرف إلا به.

ولو صح لحمل على الاقتصار على السراويل في الصلاة مع تجريد المنكبين، يدل على ذلك: ما رواه أبو المنيب عبيد الله بن عبد الله العتكي، عن عبد عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى في لحاف لا يتوشح به، والآخر أن تصلي في سراويل ليس عليك رداء.

خرجه أبو داود.

وخرجه الطبراني والعقيلي، ولفضه: نهى أن يصلي الرجل في السراويل الواحد، ليس عليه شيء غيره.

وخرجه ابن عدي، ولفظه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ملبسين: أحدهما: المصلي في ثوب واحد لا يتوشح به، وأما الأخر: أن يصلي في سراويل ليس عليه رداء.

وأبو المنيب، وثقه ابن معين وغيره. وقال البخاري: عنده مناكير، وقال ابن عدي: عندي أنه لا بأس به. وقال العقيلي في هذا الحديث -:

ص: 392

لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به.

وقد روى عن عمر، أنه كتب إلى بعض جنوده: إذا رجعتم من غزاتكم هذه فألقوا السراويل والأقبية، والبسوا الأزر والأردية.

وهو محمول على أن لباس العرب المعهود بينهم أفضل من لباس العجم، فخشي على من رجع من بلاد العجم أن يستمروا على لباس العجم، فربما هجر لباس العرب بالكلية. ولهذا روي عنه أنه قال: إياكم وزي الأعاجم، ويدل على هذا: أنه قد رخص في الصلاة في السراويل والأقبية، كما خرجه البخاري عنه.

ص: 393

‌10 - باب

ما يستر من العورة

خرج فيه ثلاثة أحاديث:

الحديث الأول:

ص: 394

367 -

من رواية: الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي سعيد الخدري، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اشتمال الصماء، وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء.

الحديث الثاني:

ص: 394

368 -

من رواية: أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين: عن اللماس والنباذ، وان يشتمل الصماء، وان يحتبي الرجل في ثوب واحد.

قد تضمن الحديثان - معا - النهي عن لبستين، وسواء في ذلك حال الصلاة وغيرها.

وقد روى سفيان الثوري، عن أبي الزناد - حديث أبي هريرة، وقال فيه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبستين في الصلاة - وذكر الحديث - إحداهما:

ص: 394

اشتمال الصماء، ولم يذكر تفسيرها.

وقد خرجه في ((كتاب: اللباس)) من رواية الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبي سعيد بسياق مطول، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبستين: اشتمال الصماء، والصماء: أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه، فيبدو احد شقيه ليس عليه ثوب. واللبسة الأخرى: احتباؤه بثوبه وهو جالس ليس على فرجه منه شيء.

وهذا التفسير، الظاهر أنه من قول الزهري أدرج في الحديث.

وعند الزهري فيه إسناد آخر: رواه عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد، وقد خرجه البخاري في موضع آخر، وذكر جماعة ممن رواه عن الزهري كذلك.

وخرج - أيضا - في ((اللباس)) من رواية مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبستين: أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد ليس على فرجه منه شيء وإن يشتمل بالثوب الواحد ليس على احد شقيه.

وقد روى حديث أبي سعيد: جعفر بن برقان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبستين: الصماء، وهو أن يلتحف الرجل في الثوب الواحد، ثم يرفع جانبه على منكبه ليس عليه ثوب غيره، أو يحتبي الرجل في الثوب الواحد ليس بينه وبين السماء شيء - يعني: سترا.

خرجه النسائي.

وهذا لم يسمعه جعفر من الزهري، بل بلغه عنه،

ص: 395

وقد أنكره عليه جماعة من الأئمة، وقالوا: رواياته عن الزهري ضعيفة جدا.

وهذا قول رابع عن الزهري في إسناده، إلا أنه لا يصح.

وروي تفسيره - أيضا - من حديث أبي هريرة:

خرجه أبو داود وغيره من رواية أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: نهى

رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبستين: أن يحتبي الرجل مفضيا بفرجه إلى السماء، ويلبس ثوبه واحد جانبيه خارج، ويلقي ثوبه على عاتقه.

وخرجه النسائي من وجه آخر عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يلبس الرجل الثوب الواحد فيشتمل به ويطرح جانبيه على منكبيه، أو يحتبي بالثوب الواحد.

ويروى من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، قال: وان يشتمل الصماء على احد شقيه.

ويروى من حديث ابن سيرين، عن أبي هريرة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشتمل بالثوب، ثم يرفعه على منكبه.

وخرجه البخاري مختصرا، إلا أنه قال:((نهي)) ولم يصرح برفعه.

ص: 396

وروى معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى أن يشتمل في إزاره إذا ما صلى، إلا أن يخالف بين طرفيه على عاتقه.

وخرج النسائي من حديث ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى أن يلبس ثوبا واحدا يأخذ بجوانبه فيضعه على منكبه، فتلك تدعى الصماء.

وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج: اخبرني عمرو بن دينار، عن عطاء ابن مينا، أنه سمعه يحدث عن أبي هريرة، قال: نهى عن لبستين وبيعتين - فذكر الحديث -، قال: وأما اللبسة الأخرى فإن يلقي داخلة إزاره وخارجته على أحد عاتقيه، ويبرز صفحة شقه.

قال: ابن جريج: قلت لعمرو: أن جمع بين طرفي الثوب على شقه الأيمن؟ قال: ما رأيتهم إلا يكرهون ذلك.

فحاصل ما دلت عليه الأحاديث في لبسه الصماء: هو أن يلببس ثوبا واحدا - وهو الرداء - فيشتمل به على بدنه من غير إزار، ثم يضع طرفيه على احد منكبيه، ويبقى منكبه الآخر وشقه مكشوفا، فتبدو عورته منه، وبذلك فسر الصماء أكثر

العلماء، ومنهم: سفيان الثوري، وابن وهب، وأحمد، وأبو عبيد، وأكثر العلماء.

قال الأمام أحمد: هو الاضطباع بالثوب إذا لم يكن عليه غيره.

وإنما سن الاضطباع للمحرم لأن عليه إزارا. فلو كان على المصلي إزار وقميص جاز له الاضطباع بردائه في ظاهر مذهب الإمام أحمد، وروي عنه أنه يكره ذلك، وإن كان عليه غيره.

ص: 397

وقال ابن وهب: وقد كان مالك أجازها على ثوب، ثم كرهها.

ونقل ابن منصور، عن إسحاق، قال: اشتمال الصماء: أن يلتحف بثوب، ثم يخرج إحدى يديه من تحت صدره.

قال أبو عبيد: قال الأصمعي: اشتمال الصماء عند العرب: أن يشمل الرجل بثوبه، فيجلل به جسده كله، ولا يرفع منه جانبا فيخرج منه يده، وربما اضطبع فيه على تلك الحال.

قال أبو عبيد: كأنه ذهب إلى أنه لا يدري لعله يصيبه شيء يريد الاحتراس منه، وأن يتقيه بيده فلا يقدر على ذلك.

قال: وأما تفسير الفقهاء؛ فإنهم يقولون: هو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من احد جانبيه، فيضعه على منكبيه فيبدو منه فرجه.

قال أبو عبيد: والفقهاء أعلم بالتأويل في هذا، وذلك اصح معنى في الكلام. انتهى.

وجعل الخطابي: اشتمال الصماء: أن يشتمل بثوب يجلل به بدنه، ثم يرفع طرفيه على عاتقه الأيسر.

فإن لم يرفعه على عاتقه فهو اشتمال اليهود الذي جاء النهي عنه في حديث ابن عمر، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يشتمل بالثوب ويخالف بين طرفيه، فهو مخالف لهما جميعا.

ص: 398

وهذا الذي قاله أبو عبيد في تقديم تفسير الفقهاء على تفسير أهل اللغة حسن

جدا؛ فإن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَدْ يتكلم بكلام من كلام العرب يستعمله فِي معنى هُوَ أخص من استعمال العرب، أو أعم مِنْهُ، ويتلقى ذَلِكَ عَنْهُ حملة شريعته من الصَّحَابَة، ثُمَّ يتلقاه عنهم التابعون، ويتلقاه عنهم أئمة العلماء، فلا يجوز تفسير ما ورد في الحديث المرفوع إلا بما قاله هؤلاء أئمة العلماء الذين تلقوا العلم عمن قبلهم، ولا يجوز الإعراض عن ذلك والاعتماد على تفسير من يفسر ذلك اللفظ بمجرد ما يفهمه من لغة العرب؛ وهذا أمر مهم جدا، ومن أهمله وقع في تحريف كثير من نصوص السنة، وحملها على غير محاملها. والله الموفق.

ولو صلى وهو مشتمل الصماء، ولم تبد عورته لم تبطل صلاته عند أكثر العلماء، ومنهم من قال ببطلانها، وهو وجه لأصحابنا.

واللبسة الثانية: أن يحتبي بثوب ليس عليه غيره.

الاحتباء: استفعال من الحبوة - بضم الحاء وكسرها -، والحبوة: أن يقعد على إليتيه، وينصب ساقيه، ويحتوي عليهما بثوب، أو نحوه، أو بيده.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتبي في جلوسه بيده، وقد خرج ذلك البخاري في ((الأدب)) .

وورد في ((سنن أبي داود)) أن جلوس النبي صلى الله عليه وسلم كان كذلك.

ص: 399

وهذه الهيئة أخشع هيئات الجلوس؛ وقد سبق ذكر ذَلِكَ فِي ((كِتَاب: العلم)) فِي ((الجلوس عِنْدَ العالم)) .

وإنما نهى عن الاحتباء بثوب واحد، فإذا كان على الرجل ثوب واحد فاحتبى به كذلك بدت عورته، وهذا منهي عنه في الصلاة وغيرها، فإن كان في الصلاة كان مبطلا لها على ما سبق ذكره في كشف العورة في الصلاة، وإن كان في غيرها وكان بين الناس فهو محرم، وإن كان في خلوة انبنى على جواز كشف العورة في الخلوة، وفيه خلاف سبق ذكره.

وإن فعل ذلك وعليه سراويل أو قميص لم يحرم؛ فإن النهي عن الاحتباء ورد مقيدا في ثوب واحد، وورد معللا بكشف العورة.

ففي رواية البخاري - أيضا - من حديث أبي هريرة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتبي بالثوب الواحد، ليس على فرجه منه شيء بينه وبين السماء.

وفي ((صحيح مسلم)) عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يشتمل الصماء، وان يحتبي في ثوب واحد، كاشفا عن فرجه.

قال عمرو بن دينار: إنهم يرون أنه إذا خمر فرجه فلا بأس - يعني: بالاحتباء.

ومن أصحابنا من قال: حكي عن أحمد المنع من هذا الاحتباء مطلقا، وإن كان عليه ثوب غيره. وهذا بعيد.

وأما الملامسة والمنابذة، فأتي ذكرها في موضعها من ((البيوع)) - إن شاء الله تعالى.

ص: 400

ومقصود البخاري بهذه الأحاديث: أن كشف الفرج منهي عنه، وإن ستره مأمور به، وهذا يقوي ما يميل إليه، وهو: أن العورة الفرجان خاصة؛ لكن النهي عَن اشتمال الصماء ليس فِيهِ تصريح بالتعليل بكشف الفرج خاصة، فإنه ينكشف بلباس الصماء جانب الرجل كله، فيدخل فيه: الورك والفخذ - أيضا - والله أعلم.

الحديث الثالث:

ص: 401

369 -

خرجه من رواية: ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، قال: أخبرني حميد بن عبد الرحمان بن عوف، عن أبي هريرة، قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين يوم النحر، نؤذن بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.

قال حميد بن عبد الرحمان، ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا، فأمره أن يؤذن بـ

((براءةً)) .

قال أبو هريرة: فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.

ليس في حديث أبي هريرة هذا تصريح برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روي عنه من وجه آخر بنحو هذا السياق - أيضا -، وروي الحديث - أيضا - من حديث علي بن أبي طالب بلفظ يدل على رفعه.

ص: 401

خرجه الإمام أحمد والترمذي.

وقد روي حديث علي مرفوعا صريحا؛ وروي - أيضا - مرفوعا من حديث ابن عباس بإسناد فيه ضعف.

وبكل حال؛ فإنما نودي بذلك بمنى يوم النحر فِي حجة الصديق رضي الله عنه بأمر

رسول الله بذلك، هذا أمر لا يرتاب فيه وإن لم يصرح بذلك في كثير من الروايات.

وقد كانت عادة أهل الجاهلية الطواف بالبيت عراة، فأبطل الله ذلك ونهى عنه.

وفي ((صحيح مسلم)) عن ابن عباس، قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانه، وتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله

فما بدا منه فلا أحله

قال: فنزلت: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] .

فإن كان البخاري خرج هذا الحديث في هذا الباب؛ لأن سبب النهي عن التعري في الطواف كان كشف فروجهم، فنهوا عن ذلك خاصة، ففيه نظر؛ لأن ابن عباس إنما حكى هذا عن طواف النساء، والمرأة كلها عورة بالنسبة إلى الصلاة سوى وجهها، وفي كفيها خلاف سبق ذكره.

ص: 402

‌11 - باب

الصلاة بغير رداء

ص: 403

370 -

حدثنا عبد العزيز بن عبد الله: حدثني ابن أبي الموالي، عن محمد بن المنكدر، قال: دخلت على جابر بن عبد الله وهو يصلي في ثوب ملتحف به، ورداؤه موضوع، فلما انصرف قلنا: يا أبا عبد الله، تصلي ورداؤك موضوع؟ قال: نعم، أحببت أن يراني الجهال مثلكم؛ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي كذا.

وقد سبق هذا الحديث بلفظ آخر.

وهذه الرواية تبين أن جابرا التحف بالثوب فصار له إزارا ورداء، وهذا يرجع إلى الصلاة في ثوب واحد، كما سبق، ولكن مع ستر المنكب.

وقد اجمع العلماء على صحة صلاة من صلى في ثوب واحد وستر منكبيه.

قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا أوجب على من صلى في ثوب واحد الإعادة.

وحكى الخطابي عن بعض العلماء أنه كان لا يجيز شهادة من صلى بغير رداء.

والظاهر: أنه إنما رد شهادته إذا أعرى منكبيه في الصلاة.

فأما من صلى في ثوب واحد مشتملا به، وعطف طرفيه على منكبيه فلا كراهة في فعله، ولا يرد شهادته بذلك أحد. والله أعلم.

ص: 403

‌12 - باب

ما يذكر في الفخذ

قال أبو عبد الله:

ويروى عن ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((الفخذ عورة)) .

وقال أنس: حسر النبي صلى الله عليه وسلم عن فخذه.

وحديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط، حتى يخرج من اختلافهم.

وقال أبو موسى: غطى النبي صلى الله عليه وسلم ركبتيه حين دخل عثمان.

وقال زيد بن ثابت: أنزل الله على رسوله وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي.

أشار البخاري رحمه الله في هذا الباب إلى اختلاف العلماء في أن الفخذ: هل هي عورة، أم ليست بعورة؟ وأشار إلى أطراف كثير من الأحاديث التي يستدل بها على وجوب ستر الفخذ، وعدم وجوبه، ذكر ذلك تعليقا، ولم يسند غير حديث أنس المستدل به على أن الفخذ لا يجب سترها وليست عورة، وذكر أنه أسند من حديث جرهد - يعني: أصح إسنادا -؛ وان حديث جرهد أحوط؛ لما في الأخذ به من الخروج من اختلاف العلماء.

فأما الأحاديث التي علقها في أن الفخذ عورة، فثلاثة: حديث ابن عباس، وجرهد، ومحمد بن جحش.

ص: 404

فحديث ابن عباس: من رواية أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل وفخذه خارجة، فقال:((غط فخذك؛ فإن فخذ الرَّجُلُ من عورته)) .

خرجه الإمام أحمد.

وخرجه الترمذي - مختصرا -، ولفظه:((الفخذ عورة)) ، وقال: حديث

حسن. انتهى.

وأبو يحيى القتات، اسمه: عبد الرحمان بن دينار، ضعفه أحمد ويحيى والأكثرون.

وقد قيل: أن حبيب بن أبي ثابت تابعه على هذا الحديث، ولا يصح ذلك.

وحديث جرهد: من رواية مالك، عن أبي النضر، عن زرعة بن عبد الرحمان بن جرهد، عن أبيه، قال: كان جرهد من أصحاب الصفة، قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا وفخذي منكشفة، فقال:((أما علمت أن الفخذ عورة؟)) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود.

وكذا خرجه مالك في ((الموطإ)) ، ورواه بعضهم، عن مالك، فقال: عن أبي النضر، عن زرعة بن عبد الرحمان بن جرهد، عن أبيه، عن جده.

وخرجه الترمذي من طريق ابن عيينة، عن أبي النضر، عن زرعة بن مسلم بن جرهد، عن جده جرهد، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بجرهد في المسجد

ص: 405

وقد انكشف فخذه، فقال:((إن الفخذ عورة)) .

وقال هذا حديث حسن، وما أرى إسناده بمتصل - يشير إلى أن زرعة لم يسمع من جده.

وقول ابن عيينة: زرعة بن مسلم بن جرهد وهم منه -: قال البخاري في ((تاريخه)) ، وإنما هو: زرعة بن عبد الرحمان، وهو ثقة؛ وثقه النسائي وغيره.

وخرجه الترمذي - أيضا - من رواية معمر، عن أبي الزناد، قال: أخبرني ابن جرهد، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو كاشف عن فخذه، فقال له:((غط فخذك؛ فإنها من العورة)) .

وقال: حديث حسن.

وفي إسناده اختلاف كثير على أبي الزناد، قد ذكره الدارقطني.

واختلف عليه في تسمية شيخه: فقيل: هو زرعة بن عبد الرحمان بن جرهد. وقيل: زرعة بن جرهد. وقيل: عبد الرحمان بن جرهد. وقيل: جرهد بن جرهد.

وخرجه الترمذي - أيضا - من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عبد الله بن جرهد، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((الفخذ عورة)) .

وقال: حسن غريب. انتهى.

وابن عقيل، مختلف في أمره، والأسانيد قبله لا تخلو من انقطاع.

ص: 406

وحديث محمد بن جحش: من رواية العلا بن عبد الرحمان، عن أبي كثير مولى محمد بن جحش، عن محمد بن جحش - ختن النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه مر بمعمر وهو بفناء المسجد، محتبيا كاشفا عن طرف فخذه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ((خمر فخذك يا معمر؛ فإن الفخذ عورة)) .

خرجه الإمام أحمد.

وأبو كثير هذا، لا يعرف إلا في هذا الإسناد.

وفي الباب - أيضا -: عن علي، من طريق ابن جريج، عن حبيب بن ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تكشف فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت)) .

خرجه أبو داود وابن ماجه.

وقال أبو داود: فيه نكارة.

وله علتان:

إحداهما: أن ابن جريج لم يسمعه من حبيب، ومن قال فيه:((عن ابن جريج: أخبرني حبيب)) فقد وهم -: قال بن المديني.

وفي رواية أبي داود ((عن ابن جريج، قال: أخبرت عن حبيب)) ، وهو الصحيح.

قال ابن المديني: رايته في كتب ابن جريج: اخبرني إسماعيل بن مسلم، عن حبيب -: نقله عنه يعقوب بن شيبة.

ونقل ابن أبي حاتم الرازي عن أبيه، قال: لم يسمع ابن جريج هذا الحديث من حبيب، إنما من حديث عمرو بن خالد الواسطي، فأرى أن ابن جريج أخذه من الحسن بن ذكوان، عن عمرو بن خالد، عن حبيب.

العلة الثانية: أن حبيب بن أبي ثابت لم تثبت له رواية عن عاصم

ص: 407

بالسماع منه -: قاله أبو حاتم الرازي والدارقطني.

وقال ابن المديني: لا تصح عندي روايته عنه.

وأما أحاديث الرخصة: فحديث أنس في حسر الإزار، قد أسنده في هذا الباب.

وحديث أبي موسى، قد خرجه البخاري في ((المناقب)) من ((كتابه)) هذا، ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قاعدا في مكان فيه ماء، قد انكشف عن ركبتيه - أو

ركبته -، فلما دخل عثمان غطاها.

وهذا إنما فيه أن الركبة ليست عورة، وليس فيه ذكر الفخذ.

وخرجه - أيضا - من وجه آخر، عن أبي موسى، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بئر أريس، وجلس على القف، وكشف عن ساقيه، ودلاهما في البئر.

وهذا لا دلالة فيه بحال.

وقد خرجه الطبراني من حديث الدراوردي، عن شريك بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم دلى رجليه في البئر، وكشف عن فخذيه، وذكر أن أبا بكر وعمر وعثمان جلسوا معه، وفعلوا كفعله، وكشفوا عن أفخاذهم.

وهذا الإسناد وهم، إنما رواه شريك، عن ابن المسيب، عن ابن موسى باللفظ الذكور قبله، كذلك هو مخرج في (الصحيحين) من رواية شريك.

وحديث زيد ابن ثابت: قد خرجه البخاري في ((التفسير)) بتمامه،

ص: 408

وفيه دليل على أنه يجوز مس فخذ غيره من وراء حائل، ولو كان عورة لم يجز مسه من وراء حائل ولا غيره كالفرجين، وقد خرج أبو داود حديث زيد بن ثابت من طريق آخر، بسياق مخالف لسياق البخاري، وفيه: أن زيد قال: كنت أكتب إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم، فغشيته السكينة، فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فما وجدت ثقل شئ أثقل من فخذ رسول الله ـ وذكر الحديث.

وهذه الرواية تدل على أن ذلك لم يكن عن اختيار من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان في حال غشيه عند نزول الوحي عليه.

وقد خرج البخاري في هذا الباب.

ص: 409

371 ـ من حديث: عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر، فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس، فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم، وركب أبو طلحة، وأنا رديف أبي طلحة، فأجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر، وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم حسر الإزار عن

ص: 409

فخذه، حتى أني لأنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم ـ

وذكر بقية الحديث في فتح خيبر، وقصة صفية، وعتقها، وتزويجها، والدخول عليها ووليمتها، وسيأتي ذكر ذلك في موضعه ـ إن شاء الله تعالى.

ومراد البخاري بهذا: الاستدلال به على أن الفخذ ليست عورة، وذلك من وجهين:

أحدهما: أن ركبة أنس مست فخذ النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر ذلك، وهذا يدل على أن الفخذ لا ينكر مسها، ولو كانت عورة لم يجز ذلك.

والثاني: حسر الإزار عن فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى نظر أنس إلى بياض فخذ النبي صلى الله عليه وسلم، وسواء كان ذلك عن قصد من النبي صلى الله عليه وسلم وتعمد له ـ عَلَى رِوَايَة من رواه:((حسر الإزار)) ، - بنصب الراء -، أو كَانَ من شدة الجري عَن غير وتعمد – عَلَى رِوَايَة من رواه:((حُسِر الإزار)) ، بضم الراء – فإن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم استدام ذَلِكَ، ولم يرد الإزار

عليه؛ فإنه لو فعل لنقله أنس.

وأيضا، فقد تقدم حديث جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم من بعد ما شد عليه إزاره حين كان ينقل حجارة الكعبة لم تر له عورة بعدها.

وروي عن عائشة، أنها قالت: ما رأيت منه ذلك صلى الله عليه وسلم.

وقد خرجه الإمام أحمد.

ص: 410

ولو كان الفخذ عورة لصان الله نبيه عن أن يطلع عليه أحد.

وفي ((صحيح مسلم)) عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيته كاشفا عن فخذيه - أو ساقيه -، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال، فتحدث، ثم استأذن عمر - وذكرت الحديث.

وهذه الرواية ليس فيها جزم بكشف الفخذ، بل وقع التردد من الراوي: هل كشف فخذيه أو ساقيه؟ فلا يستدل بذلك.

ووقع الحديث في ((مسند الإمام أحمد)) وغيره، وفيه:((أنه كان كاشفا عن فخذه)) ، من غير شك، وفي ألفاظ الحديث اضطراب.

واختلف العلماء في الفخذ: هل هي عورة، أم لا؟

فقال أكثرهم: هي عورة، روي ذلك عن عطاء، وهو قول مالك، والثوري، وأبي حنيفة، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه.

وقالت طائفة: ليست الفخذ عورة، وهو قول ابن أبي ذئب، وداود، وابن جرير والطبري، وأبي سعيد الإصطخري من الشافعية، وحكاه بعضهم رواية عن مالك، وهو رواية عن أحمد رجحها طائفة من متأخري أصحابه، وحكاه بعضهم عن عطاء، وفي صحته نظر.

ص: 411

وحكي عن طائفة: أن الفخذ في المساجد عورة، وفي الحمام ونحوه مما جرت العادة بكشفها فيه ليست عورة، وحكي عن عطاء والأوزاعي، ورجحه ابن قتيبة

وهذا كله في حكم النظر إليها.

فأما الصلاة: فمن متأخري أصحابنا من أنكر أن يكون في صحة الصلاة مع كشفها عن أحمد خلاف، قال: لأن أحمد لا يصحح الصلاة مع كشف المنكبين، فالفخذ أولى.

قال: ولا ينبغي أن يكون في هذا خلاف؛ فإن الصلاة مأمور فيها بأخذ الزينة، فلا يكتفى فيها بستر العورة.

والمنصوص عن أحمد يخالف هذا:

قال مهنا: سألت أحمد عن رجل صلى في ثوب ليس بصفيق؟ قال: أن بدت عورته يعيد، وإن كان الفخذ فلا. قلت لأحمد: وما العورة؟ قالَ: الفرج والدبر.

وقد حكى المهلب بن أبي صفرة المالكي في ((شرح البخاري)) : الإجماع على أن من صلى مكشوف الفخذ لا يعيد صلاته. وهو خطأ.

ص: 412

‌13 - باب

في كم تصلي المرأة من الثياب

وقال عكرمة: لو وارت جسدها في ثوب جاز.

يريد عكرمة: أن الواجب عليها في الصلاة ستر جميع جسدها، فلو وارته كله بثوب واحد جاز، ومراده بجسدها: بدنها ورأسها، فلهذا قال كثير من الصحابة، ومن بعدهم: تصلي المرأة في درع وخمار ـ إشارة منهم: إلى أنه يجب عليها ستر رأسها وجسدها.

فإن سترت جسدها بثوب ورأسها بثوب جاز، ولم تكره صلاتها، وهو أدنى الكمال في لباسها، وإن التحفت بثوب واحد خمرت به رأسها وجسدها صحت

صلاتها، لكنه خلاف الأولى.

قال رباح بن أبي معروف: كان عطاء لا يرى أن تصلي المرأة في الثوب الواحد، إلا من ضرورة.

وروى عمر بن ذر، عن عطاء في المرأة لا يكون له إلا الثوب الواحد، قال: تتزر به.

ومعنى: ((تتزر به)) : تلتحف به، وتشتمل على رأسها وبدنها.

قال سفيان الثوري: أن صلت في ملحفة واسعة تغطي جميع بدنها أجزأها.

قال: وأكره أن تصلي في درع واحد، فإن صلت كذلك فقد

ص: 413

أساءت، وتجزئها صلاتها.

وقال إسحاق: أن صلت في ملحفة واحدة غطت كل شئ من بدنها جازت صلاتها.

والأفضل أن تصلي المرأة في ثلاث أثواب عند جمهور العلماء.

قال حرب الكرماني: ثنا إسحاق - هو: ابن راهويه -: ثنا المعتمر - هو: ابن سليمان -، قال: سمعت أبي يحدث عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن عمر بن الخطاب، قال: تصلي المرأة في ثلاثة أثواب إذا قدرت: درع، وخمار، وإزار.

حدثنا إسحاق: ثنا عبد الله بن نمير، عن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: تصلي المرأة في الدرع والخمار والملحفة.

فأما ((الدرع)) : فهو ما تلبسه على بدنها.

قال أبو طالب: قيل لأحمد: الدرع القميص؟ قال: يشبه القميص، لكنه سابغ يغطي رجليها.

وأما ((الخمار)) : فهو ما تختمر به رأسها.

وقد سبق حديث: ((لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار)) .

وأما ((الإزار)) : فاختلف تفسيره:

فقالت طائفة: هو مثل إزار الرجل الذي يأتزر به في وسطه، وهذا قول إسحاق -: نقله عنه حرب، وهو ظاهر كلام أحمد - أيضا.

ص: 414

وقال إسحاق: أن تسرولت بدل الإزار جاز، وأن لم تتزر بل التحفت بملحفة فوق درعها بدل الإزار جاز.

وروي الفضل بن دكين في ((كتاب الصلاة)) : ثنا أبو هلال، عن محمد بن سيرين، قال: كانوا يستحبون أن تصلي المرأة في درع وخمار وحقو.

وقال ابن عبد البر: روي عن عبيدة، أن المرأة تصلي في الدرع والخمار

والحقو، رواة ابن سيرين عنه، وقال به، وقال: الأنصار تسمى الإزار: الحقو.

وروى مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن امرأة استفتت عائشة، فقالت: أن المنطق يشق علي، أفأصلي في درع وخمار؟ قَالَتْ: نَعَمْ، إذا كَانَ الدرع سابغا.

قال: والمنطق هنا: الحقو، وهو الإزار والسراويل.

والقول الثاني: أن المراد بالإزار: الجلباب، وهو الملحفة السابغة التي يغطي بها الرأس والثياب، وهذا قول الشافعي وأصحابنا، وقد سبق عن ابن عمر ما يدل عليه.

وقال النخعي: تصلي المرأة في الدرع والملحفة السابغة، تقنع بها رأسها.

ص: 415

وخرج أبو داود من حديث عبد الرحمان بن عبد الله بن دينار، عن محمد ابن زيد بن قنفذ، عن أمه، عن أم سلمة، أنها سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ قال: ((إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها)) .

وخرجه - أيضا - من طريق مالك، عن محمد بن زيد، عن أمه، عن أم سلمة - موقوفا -، وذكر جماعة تابعوا مالكا على وقفه.

وذكر الدارقطني أن وقفه هو الصواب.

خرج البخاري في هذا الباب:

ص: 416

372 -

من حديث: الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر، فيشهد معه نساء من المؤمنات، متلفعات في مروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن، ما يعرفهن احد.

ص: 416

قال الخطابي ((التلفع بالثوب)) : الاشتمال به، ولفعه الشيب: شمله، و ((المروط)) : الأردية الواسعة، واحدها: مرط.

وقال عبيد: المروط: الأكسية تكون من صوف، وتكون من خز، يؤتزر بها.

وقال هشام، عن الحسن: كانت لأزوج النبي صلى الله عليه وسلم أكسية تسمى المروط، غير واسعة - والله - ولا لينة.

والمراد بهذا الحديث: أن النساء كن إذا شهدن صلاة الفجر في المسجد غطين رؤوسهن، وثيابهن فوق دروعهن وخمرهن، وهذا نظير أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهن إذا شهدن العيدين بالجلباب، كما تقدم.

وقد روي عن ابن عمر وابن سيرين ونافع: أن المرأة تصلي في أربعة أثواب -: حكاه ابن المنذر.

وقال ابن عبد البر: قال مجاهد: لا تصلي المرأة في اقل من أربعة أثواب.

قال: وهذا لم يقله غيره فيما علمت.

قال: والأربعة الأثواب: الخمار، والدروع، والملحفة، والإزار. انتهى.

ولعل هذا إذا صلين مع الرجال في المساجد ونحوها، فأما في بيوتهن فيكفيهن دون ذلك. والله أعلم.

وبقية فوائد هذا الحديث تأتي في موضع أخر - إن شاء الله تعالى.

ص: 417

‌14 - باب

إذا صلى في ثوب له أعلام، ونظر إلى علمها

ص: 418

373 -

حدثنا أحمد بن يونس: ثنا إبراهيم بن سعد: ثنا ابن شهاب، عن

عروة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال:((اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفا في صلاتي)) .

وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كنت انظر إلى علمها وأنا في الصلاة، فأخاف أن تفتنني)) .

هذا الذي علقه عن هشام بن عروة. خرجه مسلم في ((صحيحه)) من حديث وكيع، عن هشام، ولكن لفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له خميصة لها علم، فكان يتشاغل بها في الصلاة، فأعطاها أبا جهم، وأخذ كساء له أنبجانيا.

ورواه أبو معاوية عن هشام - أيضا -، ولفظ حديثه: قالت: كان للنبي صلى الله عليه وسلم خميصة، فأعطاها أبا جهم، وأخذ أنبجانية له، قالوا: يا رسول

ص: 418

الله، أن الخميصة هي خير من الأنبجانية؟ فقال:((إني كنت انظر إلي علمها في الصلاة)) .

خرجه الإمام أحمد.

وخرجه أبو داود بمعناه من رواية ابن أبي الزناد، عن هشام.

ورواه مالك، عن هشام، عن أبيه - مرسلا.

وذكر ابن عبد البر: أن الأنبجاني مذكر في رواية الزهري، وإنما أنثه مالك في روايته.

قلت: وكذا في رواية إبراهيم بن سعد التي خرجها البخاري هنا.

قال: وإنما هو كساء أنبجاني، والأنبجاني لا يونث، إلا أن يكون أراد الخميصة أو الشملة.

قال: وقال ثعلب: يقال: أنبجانية - بكسر الباء وفتحها - لكل ما كثف

والتف. قالوا: شاة أنبجانية: أي كثيرة الصوف ملتفة.

قال ابن عبد البر: وقال ابن قتيبة: إنما هو كساء منبجاني - بالميم –؛ لأنه منسوب إلى منبج. قَالَ: وفتحت باؤه في النسب؛ لأنه خرج مخرج منظراني

ومنجراني. قال: وعن ابن قتيبة يقول: جائز أن يقال: أنبجاني كما جاء في الحديث؛ لأن رواته عرب فصحاء، ومن الأنساب ما لا يجري على قياس، وإنما هو مسموع، هذا لو صح أنه منسوب إلى منبج. انتهى.

ص: 419

وفي الحديث: دليل على أن نظر المصلي إلى ما يلهيه عن صلاته لا يفسد صلاته، ولا يلزمه إعادتها إذا كان ذلك قليلا، ولهذا قالت عائشة: فنظر إلى أعلامها نظرة.

وأما إذا كثر شغل قلبه عن صلاته، وحدث نفسه بغيرها، فمن الفقهاء من أصحابنا وغيرهم من أوجب عليه الإعادة بذلك.

ثم منهم من علل ذلك: بأن عمل النفس إذا كثر في الصلاة أبطلها، كعمل

البدن. وحكي ذلك عن ابن حامد.

ومنهم من علل: بوجوب الخشوع في الصلاة، فإذا فقد في أكثر الصلاة أبطلها.

وجمهور العلماء: على أنه لا تبطل بذلك الصلاة، وحكاه بعضهم إجماعا، وسيأتي ذكر ذلك في موضع آخر - أن شاء الله تعالى.

واستدل الشافعي بهذا الحديث على أن مجرد الاشتغال عن صلاته بنظر إلى شيء أو فكر فيه، إذا لم يوجب له ذلك الشك في عدد الركعات لا يسجد له للسهو.

وفي الحديث: دليل على استحباب التباعد عن الأسباب الملهية عن الصلاة، ولهذا أخرج النبي صلى الله عليه وسلم تلك الخميصة عنه بالكلية. فينبغي لمن ألهاه شيء من الدنيا عن صلاته أن يخرجه عن ملكه.

وقد ذكر مالك في ((الموطإ)) عن عبد الله بن أبي بكر، أن أبا طلحة الأنصاري كان يصلي في حائط له، فطار دبسي، فانطلق يتردد يلتمس مخرجها، فلم يجده لالتفاف النخل، فأعجبه ذلك فأتبعه بصره ساعة، ثم

ص: 420

رجع فإذا هو لا يدري كم صلى، فقال: لقد أصابتني في مالي هذا فتنة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال: يا رسول الله، هو صدقة لله عز وجل، فضعه حيث أراك الله.

وذكر مالك - أيضا - عن عبد الله بن أبي بكر، أن رجلا من الأنصار كان يصلي في حائط له بالقف في زمن الثمر، والنخل قد ذللت، وهي مطوقة بثمرها، فنظر إلى ذلك فأعجبه ما رأى من ثمرها، ثم رجع إلى الصلاة، فإذا هو لا يدري كم صلى، فقال: لقد أصابتني في مالي هذا فتنة، فأتى عثمان بن عفان رضي الله عنه، فذكر ذلك له، فقال له: أنه صدقة، فاجعله في سبيل الخير؛ فباعه عثمان بخمسين ألفا فكان اسم ذلك: المال الخمسين.

و ((الخميصة)) : كساء رفيع يلبسه أشراف العرب، وقد يكون له علم، وقد لا يكون، وقد يكون أبيض وأحمر وأسود وأصفر. و ((الأنبجاني)) : كساء غليظ بغير علم: ذكر ذلك ابن عبد البر وغيره.

وقال الخطابي: الخميصة: كساء أسود، والأنبجانية: كساء له زئبر.

وقال أبو عبيد: الخمائص: ثياب من خز أو صوف معلم، وهي سود، كانت من لباس الناس.

ص: 421

وإنما خص بها أبا جهم بن حذيفة؛ لأنه كان أهداها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فردها إليه، وطلب منه عوضا عنها كساء له غليظا؛ تطييبا لقلبه، حتى لا يحصل له انكسار برد هديته عليه، ولذلك أعلمه بسبب الرد.

وفيه تحذير له من أن يشتغل بها أو بغيرها عن صلاته. هذا هو الذي ذكره ابن عبد البر.

ويدل على ذلك: ما خرجه مالك في ((الموطإ)) عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه، عن عائشة، قالت: أهدى أبو جهم بن حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة شامية لها علم، فشهد فيها الصلاة، فلما انصرف قال:((ردي هذه الخميصة إلى أبي جهم؛ فإني نظرت إلى علمها في الصلاة، فكاد يفتنني)) .

وخرجه الإمام أحمد من طريق مالك.

ولفظ: ((الفتنة)) إنما يعرف في هذا الحديث من هذا الوجه، فأما من رواية هشام، عن أبيه، عن عائشة، - كما علقه البخاري - فغير معروف.

وقد روي عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة هذا الحديث، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فإني كنت إذا رأيت علمها ذكرت الدنيا)) .

وروي نعيم بن حماد، عن ابن عيينة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكره الخميصة في

نفسها، وإنما أخرجها عن ملكة لما كانت سبب شغله عن صلاته؛ كما اخرج أبو طالحة ماله الذي ألهاه عن صلاته.

وهذا يؤيد ما ذكرناه من قبل.

ص: 422

واعلم؛ أن الصلاة في الثوب الحسن غير مكروه، إلا أن يخشى منه الإلتهاء عن الصلاة أو حدوث الكبر، وقد كان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم، يقوم بها الليل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا يلبس حللا من حلل اليمن، وبرودا حسنة، ولم ينقل عنه أنه كان يتجنب الصلاة فيها، وإنما ترك هذه الخميصة لما وقع له من تلك النظرة إلى علمها، وقد قال الله عز وجل:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، وقد سبق قول ابن عمر: الله أحق أن يتزين له.

وخرج أبو داود في ((مراسيله)) من حديث عبيد الله بن عتبة، قال: كان

رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة - مما تعجبه: الثياب النقية الريح الطيبة.

ولم يزل علماء السلف يلبسون الثياب الحسنة، ولا يعدون ذلك كبراً.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يحب أن يكون ثوبه حيناً ونعله حسناً؟ فقال: ((ليس ذلك من الكبر، أن الله جميل يحب الجمال)) .

وقال جرير بن حازم: رأيت على الحسن طيلساناً كردياً حسناً،

ص: 423

وخميصة أصبهانية جيدة، ذات أعلام خضر وخمر، أزرتها من إبريسم، وكان يرتدي ببرد له يمان أسود مصلب، وبرد عدني وقباء من برد حبرة، وعمامة سوداء.

وقال حرب: سألت إسحاق عن الصلاة في المنديل، وأريته منديلاً له أعلام خضر وخطوط؟ فقال: جائز.

ص: 424

‌15 - باب

أن صلى في ثوب مصلب أو تصاوير هل تفسد صلاته

؟

وما ينهي من ذلك

خرج فيه:

ص: 425

374 -

حديث: عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، قال: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((أميطي عنا قرامك هذا؛ فإنه لا يزال تصاويره تعرض في صلاتي)) .

((القرام)) : قيل: أنه ثوب من صوف، فيه ألوان من العهون، ويتخذ سترا، أو كلة.

وقال الخطابي: هو ستر رقيق. قال: ويشبه أن تكون عائشة سترت به موضعا كان عورة من بيتها؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ستر الجدر.

قلت: حديث النهي عن ستر الجدر إسناده ضعيف.

ولكن خرج مسلم من حديث عائشة، أنها أخذت نمطا فسترته على

ص: 425

الباب، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم رأى النمط، فعرفت الكراهة في وجهه، فجذبه حتى هتكه أو قطعه، وقال:((أن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين)) .

وفي ((مسند الإمام أحمد)) ، عنها في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ((أتسترين الجدر يا عائشة؟)) قالت: فطرحته، فقطعته مرفقتين، فقد رأيته متكئا على إحداهما، وفيها صورة.

وخرج مسلم من حديث عائشة، قالت: كان في بيتي ثوب فيه تصاوير، فجعلته إلى سهوة في البيت، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إليه، ثم قال: ((يا عائشة أخريه

عني)) ، فنزعته، فجعلته وسائد.

وفي ((الصحيحين)) ، عنها، قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم هتكه، وقال:((أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله عز وجل) . قالت: فجعلناه وسادة أو وسادتين.

وفي ((صحيح مسلم)) عنها، قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر، وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((حولي هذا؛ فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا)) .

فهذه ثلاث علل قد علل بها النبي صلى الله عليه وسلم كراهة الستر.

ويشهد للتعليل الثالث: حديث سعيد بن جمهان، عن سفينة، أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى بيت فاطمة، فأخذ بعضادتي الباب، وإذا قرام قد ضرب في

ص: 426

ناحية البيت، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع، فتبعه علي، فقال: ما رجعك يا رسول الله؟ قال: ((أنه ليس لي ولا لنبي أن يدخل بيتا مزوقا)) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه.

ويشبه هذا ما خرجه النسائي من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما ولبسه، وقال:((شغلني هذا عنكم اليوم، له نظرة ولكم نظرة)) ، ثم ألقاه.

وخرج الترمذي في ((كتاب العلل)) بإسناد فيه ضعف، عن ابن عمر، أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل خاتمه في يمينه، ثم أنه نظر إليه وهو يصلي ويده على فخذه، فنزعه ولم يلبسه.

وقد روي هذا الحديث عن طاوس مرسلا، وفيه: أن هذا الخاتم كان من ذهب.

وهذا إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله امتثالا لما أمره الله به؛ أن لا يمد عينيه إلى زهرة الحياة الدنيا، فكان يتباعد عنها بكل وجه، ولهذا قال:((مالي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة، ثم راح وتركها)) .

فكان حاله كله في مأكله ومشربه ولباسه ومساكنه حال مسافر، يقنع في مدة سفره بمثل زاد الراكب من الدنيا، ولا يلتفت إلى فضولها الفانية الشاغلة عن الآخرة، وخصوصا في حال عباداته ومناجاته لله، ووقوفه بين يديه واشتغاله بذكره، فإن ذلك كان هو قرة عينه. فكان تلمح شيء من متاع الحياة الدنيا وزينتها الفانية في تلك الحال؛ فإنه

ص: 427

ذلك الصفاء، فلذلك كان تباعده عنه غاية المباعدة. وهذا هو المعنى المشار إليه بقوله:((فإنه لا يزال تصاويره تعرض في صلاتي)) .

وفيه: دليل على أن المصلي لا ينبغي أن يترك بين يديه ما يشغله النظر إليه عن صلاته.

وفي ((سنن أبي داود)) ، عن عثمان بن طلحة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إني نسيت أن آمرك أن تخمر القرنين؛ فإنه ليس ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي)) .

وخرجه الإمام أحمد من حديث أم عثمان بنت سفيان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في هذا الحديث:((أنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يلهي المصلين)) .

والمراد بالقرنين: قرنا الكبش الذي فدي به إسماعيل عليه السلام؛ فإنه ما كانا في الكعبة إلى أن أحرقا عند حريق البيت في زمن ابن الزبير.

وفي الحديث: دليل على جواز الصلاة في الكعبة.

وقد نص أحمد على كراهة أن يكون في القبلة شيء معلق من مصحف أو غيره.

وروي عن النخعي، قال: كانوا يكرهون ذلك.

وعن مجاهد، قال: لم يكن ابن عمر يدع شيئا بينه وبين القبلة إلا نزعه: سيفا ولا مصحفا.

ونص أحمد على كراهة الكتابة في القبلة لهذا المعنى، وكذا مذهب مالك.

ص: 428

وقد ذكر البخاري تعليقا عن عمر، أنه أمر ببناء المسجد، وقال: أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس. وسيأتي في موضعه - أن شاء الله تعالى.

ويستدل بحديث عائشة هذا على كراهة الصلاة إلى التصاوير المنصوبة؛ فإن في ذلك مشابهة للنصارى وعباد الأصنام المصلين لها، ولا يترك في المسجد صورة في بناء.

سئل الحسن عن ساجة في المسجد فيها تصاوير؟ قال: انجروه.

وتكره الصلاة في الكنائس التي فيها صور عند كثير من العلماء، وهو مروي عن عمر وابن عباس، وقول مالك وأحمد وغيرهما.

وأما الصلاة في ثوب فيه تصاوير ففيه قولان للعلماء، بناء على أنه: هل يجوز لبس ذلك أم لا؟

فرخص في لبسه جماعة، منهم أحمد في رواية الشالنجي، وكذلك قال أبو

خيثمة، وسليمان بن داود الهاشمي، واستدلوا بالحديث الذي جاء فيه:((إلا رقما في ثوب)) .

وقد خرجه البخاري في ((كتاب: اللباس)) من حديث أبي طلحة.

ص: 429

وخرجه الإمام أحمد، والنسائي، والترمذي وصححه من حديث أبي أيوب وسهل بن حنيف، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وكان كثير من السلف يلبس خاتما عليه صورة حيوان منقوشة في فصه.

وقالت طائفة: يكره ذلك، وهو قول مالك والثوري، وطائفة من أصحابنا.

وقالت طائفة: يحرم لبسه، وهو رواية عن أحمد، أختارها القاضي أبو يعلى

وغيره.

وروى وكيع في ((كتابه)) عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن عمران بن حطان، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرى في ثوب تصاوير إلا

نقضه.

وقد خرجه البخاري في ((كتابه)) هذا عن طريق هشام، عن يحيى، ولفظه: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه.

وظاهر تبويب البخاري يدل على كراهة الصلاة فيه استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي)) . ولكن هذا لا ينافي فيما فيه تصاوير في موضع لا يقع بصره عليه في الصلاة.

وصرح أصحابنا بكراهة استصحابه في الصلاة، وسواء قلنا: يجوز لبسه أو لا.

ومذهب مالك: أنه لا يلبس خاتم فيه تماثيل، ولا يصلى به، ويلبس

ص: 430

ثوب فيه تصاوير.

وأما الصلاة على بساط فيه تصاوير، فرخص فيه أكثر العلماء، ونص عليه أحمد وإسحاق؛ لأنهم أجازوا استعمال ما يوطأ عليه من الصور.

وكره ذلك طائفة قليلة، ومنهم: الجوزجاني، وروى عن الزهري.

وذكر ابن أبي عاصم في ((كتاب اللباس)) له: ((باب: من قال: لا بأس بالصلاة على البساط إذا كان فيه صور: حدثنا أبو يحيى محمد بن عبد الرحيم: ثنا روح بن عبادة: ثنا شعبة، عن الشيباني، عن عبد الله بن شداد، عن ميمونة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الخمرة، وفيها تصاوير)) .

وهذا الحديث مخرج في ((الصحيحين)) من حديث شعبة بدون هذه الزيادة.

وسيأتي بسط هذه المسائل في موضعها من الكتاب - أن شاء الله تعالى.

وقد بوب البخاري في ((كتاب: اللباس)) على ((كراهة الصلاة في التصاوير)) ، وأعاد فيه حديث عائشة الذي خرجه هاهنا، وظاهر ذلك يدل على أنه يكره الصلاة في ثوب فيه صورة، وعلى بساط عليه صورة؛ فإن ذلك كله يعرض للمصلي في صلاته.

وبوب هناك - أيضا - على الرخصة فيما يوطأ من الصورة، وعلى كراهة ذلك - أيضا -، فأشار إلى الاختلاف فيه.

ص: 431

‌16 - باب

من صلى في فروج من حرير ثم نزعه

ص: 432

375 -

حثنا عبد الله بن يوسف: ثنا الليث، عن يزيد، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، قال: أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فروج حرير، فلبسه فصلى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا، كالكاره له، وقال:((لا ينبغي هذا للمتقين)) .

((يزيد)) ، هو: ابن أبي حبيب، و ((أبو الخير)) ، هو: مرثد بن عبد الله

اليزني، وهما مصريا جليلان.

و ((الفروج)) : قباء له فرج من ورائه، هكذا قال أبو عبيد وغيره.

وقال يحيى بن بكير: سألت الليث بن سعد عن الفروج؟ فقال: هو القباء.

وفي الحديث: دليل على جواز لبس الأقبية، والصلاة فيها، وهو قول أكثر أهل العلم.

وسئل عطاء: عن القباء يصلي فيه الرجل وحده؟ فقال: أن القباء مفروج، ولكن ليأتزر عليه إزارا تحته.

قال حرب: سئل أحمد عن الصلاة في الدراج؟ فقال: وما بأسه؟ قيل: أنه ذكر عن ابن المبارك ووكيع أنه ما كرهاه، فرخص فيه، وقال: ما أنفعه من ثوب.

وممن كره لبس الدراج: إسحاق -: نقله عنه ابن منصور.

ص: 432

واستدل الخطابي وغيره بهذا الحديث على صحة الصلاة في الحرير مع كراهته.

وهذا غير صحيح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لبسه وصلى فيه قبل تحريمه، وهذا أمر لا شك فيه، فكيف يستدل به على صحة الصلاة بعد تحريمه؟!

وقد استدل إسحاق لصحة الصلاة في الحرير بأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للزبير وعبد الرحمان في قمص الحرير للحكة.

وهذا - أيضا - لا يصح؛ فإنه من رخص له في الحرير أبيح له لبسه والصلاة فيه كالنساء، وإنما اختلف الناس في صلاة الرجال في الحرير بعد تحريمه.

وأكثر أهل العلم على أن الصلاة فيه تجزئ، وتبرأ بها الذمة، ولا يلزم إعادتها.

وعن أحمد في ذلك روايتان.

ومذهب أهل الظاهر: أن الصلاة فيه غير مجزئة، وتلزم الإعادة، وهو اختيار كثير من أصحابنا، وهو قول إسحاق، إذا كان عالما بالنهي عنه.

وقال ابن القاسم صاحب مالك: يعيد ما دام في الوقت.

وكذا الخلاف في الصلاة في ثوب مغصوب، أو مشترى بعين مال حرام.

وفي ((المسند)) : من حديث ابن عمر – مرفوعا -: ((من اشترى ثوبا بعشرة دراهم، وفيه درهم حرام، لم تقبل له صلاة ما دام عليه)) .

ص: 433

وقد ضعف الإمام أحمد هذا الحديث في رواية أبي طالب، وقال: هذا ليس

بشيء، ليس له إسناد.

يشير إلى ضعف إسناده؛ فإنه من رواية بقية، عن يزيد بن عبد الله الجهني عن هاشم الأوقص، عن نافع.

وقال أحمد – في رواية مهنا -: لا أعرف يزيد بن عبد الله، ولا هاشما

الأوقص.

وقد أشتد نكير عبد الرحمان بن مهدي لقول من قال: أن من اشترى ثوبا بدراهم فيها شيء حرام وصلى فيه أنه يعيد صلاته، وقال: هو قول خبيث، ما سمعت بأخبث منه، نسأل الله السلامة.

ذكره عنه الحافظ أبو نعيم في ((الحلية)) بإسناده.

وعبد الرحمان بن مهدي من أعيان علماء أهل الحديث وفقهائهم المطلعين على أقوال السلف، وقد عد هذا القول من البدع، فدل على أنه لا يعرف بذلك قائل من السلف.

وأكثر العلماء على أن العبادات لا تبطل بارتكاب ما نهي عنه، إذا كان النهي غير مختص بتلك العبادة، وإنما تبطل بما يختص النهي بها.

فالصلاة تبطل بالإخلال بالطهارة فيها، وحمل النجاسة، وكشف العورة ولو في الخلوة، ولا تبطل بالنظر إلى المحرمات فيها، ولا باختلاس مال الغير فيها، ونحو ذلك مما لا يختص النهي عنه بالصلاة.

وكذلك الصيام، إنما يبطل بالأكل والشرب والجماع ونحو ذلك، دون ما لا يختص النهي عنه بالصيام، كقول الزور، والعمل به عند جمهور العلماء.

وكذلك الاعتكاف، لا يبطل إلا بما نهي عنه لخصوص الاعتكاف وهو الجماع، أو ما نهي عنه لحق المساجد كالسكر عند طائفة منهم. ولا يبطل بسائر المعاصي عند

ص: 434

الأكثرين، وأن خالف في ذلك طائفة منهم.

وكذلك الحج، إنما يبطل بارتكاب بعض ما نهي عنه فيه وهو الرفث، دون الفسوق والجدال. والله أعلم.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه علل كراهة لبس الحرير في صلاته، بأنه نظر إليه فألهاه عن صلاته.

خرجه ابن وهب في ((مسنده)) عن معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية حدير ابن كريب، أن أكيدر أهدى النبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير، فشهد النبي صلى الله عليه وسلم فيها الصلاة، فسها، فصلى الظهر سبع ركعات، فلما انصرف نزعها، وقال:((إني نظرت إليها، فألهتني عن صلاتي)) .

وهذا مرسل.

ص: 435

‌17 - باب

الصلاة في الثوب الأحمر

ص: 436

376 -

حدثنا محمد بن عرعرة: حدثني عمر بن أبي زائدة، عن عون بن أبي

جحيفة، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله في قبة حمراء من أدم، ورأيت بلالا أخذ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء، فمن أصاب منه شيئا تمسح به، ومن لم يصب منه شيئا أخذ من بلل يد صاحبه، ثم رأيت بلالا أخذ عنزة فركزها، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء مشمرا، صلى إلى العنزة بالناس ركعتين، ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدي العنزة.

هذا الحديث قد خرجه في مواضع متعددة، مختصرا وتاما، وقد سبق في ((أبواب الوضوء)) بعضه، ويأتي في مواضع متفرقة - أيضا.

والمقصود منه هاهنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في حلة حمراء مشمرا وصلى بالناس، فدل على جواز الصلاة في الثوب الأحمر.

قال أبو عبيد: الخلة: برود اليمن من مواضع مختلفة منها. قال: والحلة إزار ورداء، لا يسمى حلة حتى يكون ثوبين. انتهى.

وكذلك فسر سفيان الثوري الحلة الحمراء في هذا الحديث ببرد

ص: 436

الحبرة -: حكاه عنه عبد الرزاق، وهو في ((مسند الإمام أحمد)) وكتاب الترمذي.

وحينئذ؛ فالحلة الحمراء التي لبسها النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت بردا مخططا فيه خطط

حمر، ولم يكن كله أحمر.

وقد بوب البخاري في ((كتاب: اللباس)) : ((باب: الثوب الأحمر)) ، ثم خرج فيه من حديث البراء بن عازب، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء.

والقول في هذا الحديث كالقول في حديث أبي جحيفة.

ثم قال: ((باب: الميثرة الحمراء)) ، وخرج فيه من حديث البراء، قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والديباج والقسي والإستبرق ومياثر الحمر.

((المياثر)) : مراكب، سميت مياثر لوثارتها – وهو لينها ووطأتها، وكانت من زي العجم.

وقد قيل: أنها كانت من ديباج أو حرير -: قاله أبو عبيد وغيره.

وفسر يزيد بن أبي زياد المثيرة بجلود السباع.

وقد خرج النسائي من حديث المقدام بن معدي كرب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن مياثر النمور.

وفي الصلاة في الثوب الأحمر حديث آخر:

خرجه الطبراني من رواية سعد بن الصلت، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن حسين، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس يوم العيد بردة حمراء.

ورواه حجاج بن أرطاة، عن أبي جعفر محمد بن علي، عن جابر

ص: 437

بن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس بردة الأحمر في العيدين والجمعة.

كذا رواه حفص بن غياث، عن حجاج.

وخالفه هشيم، فرواه عن حجاج، عن أبي جعفر – مرسلا -، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبس يوم الجمعة بردة الأحمر، ويعتم يوم العيدين.

خرجه ابن سعد من هذين الوجهين.

والمرسل أشبه.

وقد اختلف العلماء في لبس الأحمر:

فرخص فيه ابن المسيب، والشعبي، والنخعي، والحسن، وعلي بن حسين، وابنه أبو جعفر.

وروي عن علي بن أبي طالب، أنه كان يلبس بردا أحمر.

وفي ((صحيح مسلم)) ، أن أسماء بنت أبي بكر أرسلت إلى ابن عمر تقول له: بلغني انك تحرم مياثر الأرجوان، فقال: هذه مثيرتي أرجوان.

والأرجوان: الشديد الحمرة.

وكرهت طائفة الثياب الحمر، منهم: طاوس، ومجاهد، وعطاء.

وروي عن الحسن وابن سيرين، قالا: هو زينة آل قارون.

وهو المنصوص عن أحمد في رواية المروذي، وسوى بين الرجال والنساء في كراهته.

وروى عن عطاء وطاوس ومجاهد الرخصة فيه للنساء خاصة.

وروي عن عائشة، أنها كانت تلبس درعا أحمر.

وفي كراهة الأحمر من اللباس أحاديث متعددة، خرجها أبو داود وغيره، يطول ذكرها هاهنا، وربما تذكر في موضع آخر – أن شاء الله تعالى.

ومنهم من رخص فيما حمرته خفيفة، وكره الشديد الحمرة، وروي

ص: 438

ذلك عن مالك وأحمد، ورجحه كثير من أصحابنا.

وفي ((صحيح مسلم)) ، عن علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس المعصفر.

وخرجه النسائي، وزاد فيه: المفدم.

والمفدم: المشبع بالعصفر.

وفي ((صحيح مسلم)) – أيضا – عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين، فقال:((إن هذه من ثياب الكفار، فلا تلبسها)) .

وقد اختلف في لبس المعصفر:

فكرهه طائفة، روي عن عمر وعثمان وابن عمر وأنس، وهو قول الزهري وسعيد بن جبير ومالك وأحمد.

ورخصوا فيه للنساء.

وحكى ابن عبد البر الاجماع على جوازه لهن.

وفي الرخصة لهن فيه حديث مرفوع.

خرجه أبو داود.

وهذا قد يخالف رواية المروذي عن أحمد بكراهة الأحمر للنساء، كما تقدم، لكن تلك مقيدة بإرادة الزينة به، فقد تكون الرخصة محمولة على من لم يرد به الزينة.

وهذا القول روي عن ابن عباس، أنه يكره المعصفر للتزين به، ويرخص فيما امتهن منه.

ورخص طائفة في المعصفر مطلقا للرجال والنساء، روي عن أنس، وعن أبي وائل، وعروة، وموسى بن طلحة، والشعبي، وأبي قلابة، وابن سيرين، والنخعي وغيرهم، وهو قول الشافعي.

وكرهت طائفة المشبع منه – وهو المفدم – دون التخفيف، روي عن

ص: 439

عطاء وطاوس ومجاهد.

وحكي عن مالك وأحمد – أيضا -؛ فإنه قال في المصبوغ بالدم: أن كانت حمرته تشبه المعصفر أكرهه، وقال: لا بأس بالمورد، وما كان خفيفا.

وحكى الترمذي في ((كتابه)) هذا القول عن أهل الحديث: أنهم كرهوا لبس المعصفر، ورأوا: أن ما صبغ بالمدر أو غير ذلك فلا بأس به، إذا لم يكن معصفرا.

وقد روي عن علي وابن عمر الرخصة في المصبوغ بالمشق – وهو المغرة -، وقالا: إنما هو مدر أو تراب.

وفي كراهة المصبوغ بالمغرة: حديث خرجه أبو داود، في إسناده مقال.

ومن الناس من قال: يكره المعصفر خاصة، دون سائر ألوان الحمرة. وقال: لم يصح في غيره نهي.

ومنهم من حمل أحاديث الرخصة على الجواز، وأحاديث النهي على كراهة التنزيه، وهذه هي طريقة ابن جرير الطبري.

وزعم الخطابي أن المكروه من الأحمر ما صبغ من الثياب بعد نسجه، فأما ما صبغ غزله ثم نسج – كعصب اليمن – فغير داخل في النهي.

وكذلك الشافعي فرق في المصبوغات بين ما صبغ قبل نسجه وبعده، واستحسن لبس ما صبغ غزله، دون ما صبغ بعد نسجه للزينة.

واختلف القائلون بكراهة الأحمر، فيما إذا كان في الثوب شيء من

ص: 440

حمرة: هل يكره أم لا؟

فروي عن ابن عمر، أنه اشترى عمامة واعتم بها، فرأى فيها خيطا أحمر، فردها.

وكذلك روى المروذي عن أحمد، أنه أمره أن يشتري له تكة لا تكون فيها

حمرة.

وخرج أبو داود من حديث رافع بن خديج، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على رواحلنا وعلى إبلنا أكسية فيها خيوط عهن حمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ألا أرى الحمرة قد علتكم؟)) فقمنا سراعا، فأخذنا الأكسية فنزعناها عنها.

وفي إسناده رجل لا يعرف.

وخرج الطبراني وغيره من حديث إسحاق بن راهويه، قال: قلت لأبي قرة: أذكر ابن جريج، عن مسلم بن أبي مريم، عن عبد الله بن سرجس، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوما وعليه نمرة، فقال لرجل من أصحابه:((أعطني نمرتك، وخذ نمرتي)) ، فقال: يا رسول الله، نمرتك أجود من نمرتي. قال:((اجل؛ ولكن فيها خيط احمر، فخشيت أن انظر، إليه فيفتنني)) -؟ فأقر به أبو قرة، وقال نعم.

وهذا غريب.

ورخص فيه آخرون. روي عن الحسن، وقد سبق.

ونص عيه أحمد في رواية أخرى عنه في كساء أسود عليه علم أحمر، قال: لا بأس به.

ويستدل لهذا. بحديث لبس النبي صلى الله عليه وسلم حلة حمراء وبردا أحمر؛ فإن المراد بالحلة البرد المخطط بحمرة، كما قاله سفيان الثوري وغيره.

ص: 441

‌18 - باب

الصلاة في المنبر والسطوح والخشب

ولم ير الحسن بأسا أن يصلي على الجمد والقناطر، وأن جرى تحتها بول، أو فوقها أو أمامها، إذا كان بينهما سترة.

وصلى أبو هريرة على ظهر المسجد بصلاة الأمام.

وصلى ابن عمر على الثلج.

مقصود البخاري بهذا الباب: أنه تجوز الصلاة على ما علا على وجه الأرض، سواء كان موضوعا عليها وضعا، كمنبر وسرير من خشب أو غيره، أو كان مبنيا عليها. كسطح المسجد وغرفة مبنية عليه أو على غيره، وكذلك ما علا على وجه الأرض مما يذوب، كالثلج والجليد.

فهذه ثلاثة مسائل:

الأولى:

الصلاة على ما وضع على الأرض مما يتأبد فيها، أو ينقل عنها كمنبر وسرير ونحوه، فيجوز ذلك عند أكثر العلماء.

قال أبو طالب: سألت أحمد عن الصلاة على السرير الفريضة والتطوع؟ قال: نعم، إذا كان يمكنه مثل السطح.

وقال حرب: سألت إسحاق عن

ص: 442

الصلاة على السرير من الخشب؟ قال: لا بأس به.

وروى حرب بإسناده، عن الأوزاعي، أنه لم ير بأسا بالصلاة على الأسرة وأشباهها.

وليس في هذا اختلاف بين العلماء، إلا خلاف شاذ قديم.

روى أبو نعيم الفضل بن دكين: ثنا أبو بكر بن عياش، عن إسماعيل بن سميع، عن علي بن كثير، قال: رأى عمار رجلا يصلي على رابية، فمده من خلفه، فقال: هاهنا صل في القرار.

ولعل هذا المصلي كان إماما لقوم يصلون تحته، وسيأتي الكلام على ذلك - إن شاء الله تعالى.

المسألة الثانية:

الصلاة فيما بني على وجه الأرض كغرفة في المسجد، أو فوق سطح

المسجد، وكله جائز لا كراهة فيه بغير خلاف، إلا في مواضع يسيرة اختلف فيها؛ وقد أشار البخاري إلى بعضها: فمنها: صلاة المأموم فوق سطح المسجد بصلاة الإمام في أسفل المسجد، وقد حكى عن أبي هريرة أنه فعله.

وحكى ابن المنذر فعل ذلك عن أبي هريرة وسالم بن عبد الله. قال: وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي، وحكي عن مالك: أنه أن صلى الجمعة على سطح المسجد أعادها ظهرا.

ومذهب مالك: أن الجمعة لا تصلى فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام. وفي سائر الصلوات عنه روايتان: الجواز، والكراهة، وهي آخر الروايتين عنه.

وممن يرى جواز ذلك: الثوري وأحمد وإسحاق.

وروي سفيان، عن يونس بن عبيد، عن عبد ربه، قال: رأيت أنس بن مالك صلى يوم الجمعة في غرفة بالبصرة بصلاة الإمام.

واحتج أحمد

ص: 443

بهذا.

وروى ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، قال: رأيت أبا هريرة يصلي على سطح المسجد بصلاة الإمام.

واشترط الإمام أحمد أن يكون ذلك بقرب الإمام، أو يسمع قراءته -: نقله عنه حنبل، ولم يشترط غير ذلك.

واشترط أكثر أصحابنا - كالخرقي وأبي بكر عبد العزيز وابن أبي موسى والقاضي -: إيصال الصفوف دون قرب الإمام.

وقد أشار إليه أحمد في رواية أبي طالب، في الرجل يصلي فوق السطح بصلاة الإمام: أن كان بينهما طريق أو نهر فلا. قيل له: فأنس صلى يوم الجمعة في سطح؟ فقال: يوم جمعة لا يكون طريق الناس.

يشير إلى أن يوم الجمعة تمتلئ الطرقات بالمصلين، فتتصل الصفوف.

قال أبو طالب: فإن الناس يصلون خلفي في رمضان فوق سطح بيتهم؟ فقال أحمد ذاك تطوع.

ففرق أحمد بين الفريضة والنافلة في إيصال الصفوف.

ونقل حرب، عن أحمد خلاف ذلك، في أمرآة تصلي فوق بيت، وبينها وبين الإمام طريق، فقال: أرجو أن لا يكون به بأس. وذكر أن أنس ابن مالك كان يفعل ذلك.

ونقل صالح بن أحمد، عن أبيه، أن ذلك يجوز يوم الجمعة، إذا ضاق المكان، كما فعل أنس.

وظاهر هذه الرواية: أنه لا يجوز لغير ضرورة.

والمذهب المنشور عنه: جوازه مطلقا، كما تقدم.

وذكر أبو بكر الرازي: أن المشهور عند أصحابهم - يعني: أصحاب أبي حنيفة - أنه يكره ارتفاع المأموم على الإمام، والإمام على المأموم، خلافا لما قاله الطحاوي من التفريق بينهما.

ص: 444

ومنها: إذا بني على قنطرة مسجد أو غيره، فإنه تجوز الصلاة إليه، حكاه عن الحسن، وخالفه غيره في ذلك.

روى حرب بإسناده، عن همام: سئل قتادة عن المسجد يكون على القنطرة؟ فكرهه. قال همام: فذكرت ذلك لمطر، فقال: كان الحسن لا يرى به بأسا.

قال حرب: وقلت لأحمد: المسجد يبنى على القنطرة؟ فكرهه، وذكر: أراه عن ابن مسعود كراهته.

ونقل المروذي عن أحمد، قال: كره ابن مسعود أن يصلى في المسجد الذي بنى على القنطرة.

قال: وقلت لأبي عبد الله - يعني: أحمد -: ترى أن أصلي في المسجد بني على ساباط؟ قال: لا؛ هذا طريق المسلمين.

وأصل هذه المسألة: أن طريق المسلمين لا يبنى فيه مسجد ولا غيره عند الإمام أحمد. وهواء الطريق حكمه عنده حكم أسفله، فلا يجوز عنده إحداث ساباط على الطريق، ولا البناء عليه. والنهر الذي تجري فيه السفن حكمه عنده كحكم الطريق، لا يجوز البناء عليه.

ورخص آخرون في بناء المساجد في الطريق الواسع، إذا لم يضر بالمارة.

ومنهم من اشترط لذلك إذن الإمام، وحكي رواية عن أحمد - أيضا.

قال الشالنجي: سألت أحمد: هل يبنى على خندق مدينة المسلمين مسجد للمسلمين عامة؟ قال: لا بأس بذلك، إذا لم يضيق الطريق.

قال: وقال أبو أيوب - يعني: سليمان بن داود الهاشمي -: لا بأس بذلك، إلا أن يكون في الثغر مخافة العدو. وبه قال أبو خيثمة.

والبخاري يميل إلى الجواز، وقد ذكره في ((أبواب: المساجد)) ، وفي

ص: 445

((البيوع)) ، واستدل بحديث الهجرة، وأن أبا بكر ابتنى بفناء بيته بمكة مسجدا يقرأ فيه القران. وسيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى.

وأما ما حكاه أحمد، عن ابن مسعود، فروى وكيع وحرب بإسنادهما، عن ابن سيرين، أنه رأى مسجدا فوق قنطرة تحتها قذر، فقال: كان ابن مسعود يكره الصلاة في مثل هذا.

وهذه الكراهة: يحتمل أن تكون لكون القنطرة طريقا للناس، فلا يبنى عليها، كما قاله الإمام أحمد، ويحتمل أن تكون لكون القذر تحت هذا المسجد؛ فإن في جواز الصلاة في علو الأماكن المنهي عن الصلاة فيها كالحش ونحوه لأصحابنا وجهين.

ولو صلى على سرير قوائمه على نجاسة صحت صلاته، وأن تحرك بحركته، عند أصحابنا وأصحاب الشافعي.

وحكي عن الحنفية، أنه أن تحرك بحركته لم تصح، وإلا صحت.

وقد حكى البخاري عن الحسن، أنه يصلي على القناطر وأن جرى تحتها بول، أو فوقها أو أمامها، إذا كان بينهما سترة.

فأما أن كان البول يجري تحتها فقد ذكرنا حكمه آنفا، واما أن كان أمامها أو فوقها، وبينهما سترة فقد رخص فيه الحسن، كما حكاه عنه.

وعن أحمد في الصلاة إلى الحش من غير حائل روايتان: إحداهما: تصح مع الكراهة. والثانية: لا تصح، وهي اختيار ابن حامد وغيره.

ولا يكفي حائط المسجد، ولا يكون حائلا -: نص عليه أحمد.

ومن الأصحاب من تأول قوله على أن النجاسة كانت تصل إلى ما تحت مقام المصلى، فإن لم يكن كذلك كفى حائط المسجد.

ونقل حرب عن إسحاق، أنه كره الصلاة في مسجد في قبلته كنيف، إلا أن يكون للكنيف حائط من قصب أو خشب غير حائط المسجد، وأن

ص: 446

صلى فيه أعاد وأن كان للكنيف سترة من لبود، فلا يصلي في المسجد من ورائه، وأن كان الكنيف عن يمين القبلة أو يسارها فلا بأس.

ونقل أبو طالب، عن أحمد: إذا كان الكنيف أسفل من المسجد بذراع ونصف فلا بأس.

ورخصت طائفة في الصلاة إلى الحش إذا كان بينهما سترة.

وقال الأوزاعي، في رجل يصلي وبين يديه حش، ودونه جدار من قصب، وهو يصلي نحوه: لا أعلم به بأسا.

وقال الليث بن سعد: كتب إلي عبد الله بن نافع مولى ابن عمر: أما ما ذكرت من مصلى قبلته إلى مرحاض، فإنما جعلت السترة لتستر من المرحاض وغيره، وقد حدثني نافع، أن دار ابن عمر التي هي وراء جدار قبلة النبي صلى الله عليه وسلم كانت مربدا لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يذهبن فيه، ثم ابتاعته حفصه زوج النبي صلى الله عليه وسلم منهن، فاتخذته دارا.

ولكن؛ عبد الله بن نافع منكر الحديث ـ: قَالَ البخاري وغيره.

والعجب أن البخاري اعتمد على ما ذكره في رسالته إلى الليث في إنكار النهي عن الصَّلاة في أعطان الإبل، واستدل بما استدل به، ولا دلالة فيه، كما سيأتي في موضعه ـ أن شاء الله تعالى.

وعند الشافعي وأصحابه: تكره الصلاة على مدفن النجاسة، وتصح.

ومن أصحابه من كره الصلاة إلى النجاسة ـ أيضا.

وحكي عن ابن حبيب المالكي، أن من تعمد الصلاة إلى نجاسة بطلت صلاته، إلا أن تكون بعيدة جدا.

المسألة الثالثة:

إذا كان المستعلي على وجه الأرض مما لا يبقى على

ص: 447

حاله كالثلج والجليد، فقد حكى عن الحسن جواز الصلاة على الجليد.

ومعناه: إذا جمد النهر جازت الصلاة فوقه.

وقد صرح بجوازه أصحابنا وغيرهم من الفقهاء؛ فإنه يصير قرارا متمكنا

كالأرض، وليس بطريق مسلوك في العادة حتى تلحق الصلاة عليه بقارعة الطريق في الكراهة.

وحكى البخاري عن ابن عمر، أنه صلى على الثلج.

ونص أحمد على جواز الصلاة عليه والسجود عليه.

ونقل عنه حرب، قال: يبسط عليه ثوباً ويصلي. قلت: فإن لم يكن معه إلا الثوب الذي على جسده؟ قال: أن أمكنه السجود عليه سجد، وإلا أومأ. قال وإذا كان الثلج باردا فإنه عذر، وسهل فيه.

قَالَ: وسمعت إسحاق - يعني: ابن راهويه - يقول: إذا صليت في الثلج أو الرمضاء أو البرد أو الطين فآذاك فاسجد على ثوبك، وإذا اشتد عليك وضع اليدين على الأرض فضعهما على ثوبك، أو أدخلهما كميك، ثم اسجد كذلك.

قال: وسمعته - مرة أخرى - يقول: أن كنت في ردغة أو ماء أو الثلج، لا تستطيع أن تسجد، فاومئ إيماء، كذلك فعل أنس بن مالك وجابر بن زيد وغيرهما. انتهى.

وأنس إنما صلى على راحلته في الطين، لا على الأرض.

وحاصل الأمر: أنه يلزمه السجود على الثلج ما لم يكن عليه فيه ضرر، فإن كان عليه ضرر لم يلزمه، وأجزأه أن يومئ.

ولأصحابنا وجه آخر: أنه يلزمه السجود عليه بكل حال، ولا يجزئه الإيماء.

ص: 448

والثلج نوعان: تارة يكون متجلدا صلبا، فهذا حكمه حكم الجليد كما تقدم، وتارة يكون رخوا لا تستقر الأعضاء عليه، فيصير كالقطن والحشيش ونحوهما.

ومن سجد على ذلك لم يجزئه إلا من عذر، صرح بذلك طائفة من أصحابنا، وجعلوا استقرار الجبهة بالأرض شرطاً، واستدلوا بأنه لو علق بساطا في الهواء وصلى عليه لم يجزئه، وكذا لو سجد على الهواء أو الماء.

وللشافعية في ذلك وجهان:

أصحابنا عندهم: أنه يلزمه أن يتحامل على ما يسجد عليه بثقل رأسه وعنقه حتى يستر جبهته، ولا تصح صلاة بدون ذلك.

والثاني: لا يجب ذلك.

ولهم - أيضا - في الصلاة على الأرجوحة، وعلى سرير تحمله الرجال وجهان، أصحهما: الصحة.

وروى عبد الرحمان بن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن صالح مولى التوأمة، قال: سمعت ابن عباس يقول: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء من أمر الصلاة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إذا سجدت فأمكن جبهتك من الأرض، حتى تجد حجم الأرض)) .

خرجه الإمام أحمد.

وفي إسناده لين.

وروى حرب الكرماني: ثنا إسحاق - هو: ابن راهويه -: ثنا سويد بن

عبد العزيز، عن أبي جبيرة زيد بن جبيرة، عن داود بن حصين، عن نافع، عن ابن

عمر، قال: أصاب الناس الثلج على عهد عمر بن الخطاب، فبسط بساطا ثم صلى

عليه، وقال: أن الثلج لا يتيمم به، ولا يصلي عليه.

ص: 449

واحتج إسحاق بهذا الحديث.

وإسناده ضعيف؛ فإن زيد بن جبيرة وسويد بن عبد العزيز ضعيفان.

وقد روى أبو عبيد في ((كتاب الطهور)) بإسناد آخر، وفيه ضعف - أيضا -: أن عمر أصابه الثلج بالجابية لما قدم الشام، فقال: أن الثلج لا يتيمم به.

ولم يذكر الصلاة.

واختلف الرواة عن أحمد في الغريق في الماء: هل يومي بالسجود، أم يلزمه أن يسجد بجبهته على الماء؟ على روايتين عنه.

وقال القاضي أبو يعلى في بعض كتبه: لم يوجب أحمد السجود على الماء؛ لأنه ليس بقرار، وإنما أراد أنه يجب عليه أن يومي في الماء إلى قرب الأرض، وإن غاص وجهه في الماء.

وهذا الذي قاله بعيد جدا.

وحمل أبو بكر عبد العزيز الروايتين عن أحمد على حاليين: فإن أمكنه السجود على متن الماء سجد، وألا أومأ.

وقال أبو بكر الخلال: قول أحمد: يومئ، يريد بالركوع. وقوله: يسجد على متن الماء، في السجود.

فلم يثبت عن أحمد في الإيماء بالسجود خلافا.

ولو كان في وحل وطين لم يلزمه السجود عليه، وإنما عليه أن يومئ، ولم يحك أكثر الأصحاب فيه خلافاً، بل قال ابن أبي موسى: لا يلزمه ذلك - قولا واحدا.

ص: 450

ومنهم من خرج فيه وجها آخر: بوجوب السجود على الطين إذا قلنا: لا تجوز له الصلاة في الطين على راحلته، بل تلزمه الصلاة بالأرض، وهو رواية عن أحمد واختارها ابن أبي موسى.

وفرق ابن أبي موسى بين المسألتين، ووجه الفرق: أن المانع من الصلاة على الراحلة امتناع القيام والاستقرار الأرض دون امتناع السجود بالأرض، ولأن في السجود على الطين ضررا؛ فإنه ربما دخل في عينيه وأنفه وفمه، وربما غاص فيه رأسه وشق عليه رفعه، فلا يلزمه، بخلاف السجود على متن الماء.

وممن قال: يومئ بالسجود ولا يسجد على الطين: أبو الشعثاء وعمارة بن

غزية.

وفيه حديث مرفوع:

خرجه الطبراني وابن عدي من طريق محمد بن فضاء، عن أبيه، عن علقمة بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا لم يقدر أحدكم على الأرض، إذا كنتم في طين أو قصب أومئوا إيماءا)) .

وفي رواية لابن عدي: ((أو في ماء أو في ثلج)) .

ومحمد بن فضاء، ضعيف؛ ضعفه يحيى والنسائي وغيرهما.

ومذهب مالك: أنه يصلي في الطين بالأرض، ولا يصلي على الراحلة.

واختلفت الرواية عنه في السجود في الطين: فروي عنه: أنه يسجد عليه. وروي عنه أنه يومئ.

ص: 451

وحمل ذلك طائفة من أصحابه على اختلاف حالين: فالحال التي يسجد عليه: إذا كان خفيفا، كما سجد النبي صلى الله عليه وسلم في اعتكافه في الماء والطين، وانصرف وعلى جبهته أثر الماء والطين. والحال التي يومئ: إذا كان كثيرا، يغرق فيه المصلي.

ونص أحمد على أنه إذا خشي أن تفسد ثيابه بالسجود على الطين أومأ، ولم يسجد عليه.

وكذا قال أبو الشعثاء جابر بن زيد.

خرج البخاري في هذا الباب حديثين:

الحديث الأول:

قال:

ص: 452

377 -

ثنا علي بن عبد الله: ثنا سفيان: ثنا أبو حازم: سألوا سهل بن سعد: من أي شيء المنبر؟ فقال: ما بقي في الناس أعلم به مني، هو من أثل الغابة، عمله فلان مولى فلانة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عمل ووضع، فاستقبل القبلة، كبر وقام الناس خلفه فقرأ، وركع وركع الناس خلفه، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقري فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقري حتى سجد بالأرض، فهذا شانه.

قال أبو عبد الله: قال علي بن عبد الله المديني: سألني أحمد بن حنبل عن هذا الحديث، قال: فإنما أردت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أعلى من الناس، فلا بأس بأن يكون الإمام أعلى من

ص: 452

الناس بهذا الحديث. قال: فقلت: أن سفيان بن عيينة كان يسأل عن هذا

كثيرا، فلم تسمعه منه؟ قال: لا.

هذا الحديث بتمامه مشهور عن ابن عيينة بهذا الإسناد، رواه عنه الشافعي وغيره، ولم يسمع منه الإمام أحمد إلا:((كان من أثل الغابة)) - يعني: منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد خرج هذا القدر منه عن سفيان في ((مسنده)) . وكان سفيان يختصر الحديث أحيانا.

وإنما خرج أحمد بتمامه في ((مسنده)) من طريق عبد العزيز بن أبي حازم، عن

أبيه، عن سهل بن سعد، وقال في آخر الحديث: فلما انصرف قال: ((يا أيها الناس، إنما فعلت هذا لتأتموا بي، وتعلموا صلاتي)) .

وقد خرجه البخاري في موضع آخر من ((كتابه)) ، ومسلم - أيضا - من حديث يعقوب بن عبد الرحمان، عن أبي حازم، بهذه الزيادة.

ومقصود البخاري بتخريج هذا الحديث هنا: الاستدلال على جواز الصلاة على ما يوضع على الأرض من منبر وما أشبهه كالسرير وغيره.

وما ذكره البخاري عن علي بن المديني، أن أحمد بن حنبل سأله عن هذا

الحديث، وقال: إنما أردت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أعلى من الناس، فلا بأس بأن يكون الإمام أعلى من الناس بهذا الحديث.

فهذا غريب عن

ص: 453

الإمام أحمد، لا يعرف عنه إلا من هذا الوجه، وقد اعتمد عليه ابن حزم وغيره، فنقلوا عن أحمد: الرخصة في علو الإمام على المأموم.

وهذا خلاف مذهبه المعروف عنه، الذي نقله عنه أصحابه في كتبهم، وذكره الخرقي ومن بعده، ونقله حنبل ويعقوب بن بختان، عن أحمد، أنه قال: لا يكون الإمام موضعه أرفع من موضع من خلفه، ولكن لا بأس أن يكون من خلفه ارفع.

وممن كره أن يكون موقف الإمام أعلى من المأموم: النخعي والثوري ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي.

وقد روي ذلك عن ابن مسعود من غير وجه أنه كرهه، ونهى عنه.

وخرج أبو داود من رواية الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجذبه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك - أو ينهى عن ذلك -؟ قال: قد ذكرت حين مددتني.

ص: 454

ومن رواية ابن جريج: أخبرني أبو خالد، عن عدي بن ثابت، قال: حدثني رجل، أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن، فأقيمت الصلاة، فتقدم عمار بن ياسر، وقام على دكان يصلي، والناس أسفل، فتقدم حذيفة، فأخذ على يديه، فأتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مقام ارفع من مقامهم)) - أو نحو هذا؟ قال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي.

ورخص طائفة في ارتفاع الإمام على المأمومين.

وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه أم الناس فوق كنيسة وهم تحتها.

وروي نحوه عن سحنون.

وأما مذهب الشافعي، فإنه قال: أختار للإمام الذي يعلم من خلفه أن يصلي على الشيء المرتفع، ليراه من وراءه، فيقتدوا بركوعه وسجوده. قال: وإذا كان الإمام علم الناس مرة أحببت أن يصلي مستويا مع المأمومين؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على المنبر إلا مرة.

وكذا حكى ابن المنذر عن الشافعي جوازه إذا أراد تعليمهم،

ص: 455

واختاره ابن المنذر، وقال: إذا لم يرد التعليم فهو مكروه؛ لحديث ابن مسعود.

ومن أصحابنا من حكى رواية عن أحمد كذلك.

والذين كرهوا ذلك مطلقا اختلفوا في الجواب عن حديث سهل بن سعد في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر:

فمنهم من قال: قد يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ما هو مكروه لغيره لبيان جوازه، ولا يكون ذلك مكروها في حقه في تلك الحال، ويكره لغيره بكل حال.

وهذا ذكره طائفة من أصحابنا كالقاضي أبي يعلى وغيره، ووقع في كلام الخطابي ما يشبهه.

ومنهم من قال: المكروه أن يقوم الإمام على مكان مرتفع على المأمومين ارتفاعا كذراع ونحوه، فإنه يحوج المأمومين في صلاتهم إلى رفع أبصارهم إليه للاقتداء به وهو مكروه، فأما الارتفاع اليسير فغير مكروه، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان وقوفه على درجة المنبر الأولى، فلا يكون ذلك ارتفاعا كثيرا.

وتقدير الكثير بالذراع قول القاضي أبي يعلى من أصحابنا.

وقياس المذهب: أنه يرجع فيه إلى العرف.

وذكر الطحاوي - من الحنفية - أنه مقدر بما زاد على قامة الإنسان.

ص: 456

واستغرب ذلك أبو بكر الرازي.

واختلف القائلون بكراهة ذلك: هل تبطل به الصلاة، أم لا؟

فقال أكثرهم: تكره الصلاة، ولا تبطل.

وقد تقدم أن الصحابة بنوا على الصلاة خلف من أمهم مرتفعا عليهم، ولم يستأنفوا الصلاة.

وقالت طائفة: تبطل الصلاة بذلك، وهو قول مالك وابن حامد من أصحابنا، وحكي عن الأوزاعي نحوه.

واختلف أصحابنا: هل النهي متوجه إلى الإمام، أن يعلو على من خلفه، أم النهي متوجه إلى المأموم، أن يقوم أسفل من إمامه؟ على وجهين:

أحدهما: أن النهي للإمام.

فإن قلنا: أن هذا النهي يبطل الصلاة، بطلت صلاة الإمام.

وهل تبطل صلاة من خلفه أم لا؟ فيه روايتان عن أحمد في صلاة من اقتدى

بإمام، صلاته فاسدة.

والثاني: أن النهي متوجه إلى المأمومين خاصة.

فعلى هذا؛ أن كان الإمام في العلو وحده، وقلنا: هذا النهي يبطل الصلاة، بطلت صلاة المأمومين وصلاة الإمام؛ لأنه صار منفردا، وقد نوى الإمامة، وهذا مبطل عند أصحابنا.

وأن كان معه في العلو أحد صحت صلاته وصلاة من معه، وفي صلاة من أسفل منهم الخلاف السابق.

وأعلم؛ أنه لم يقع في ((صحيح البخاري)) حكاية قول لأحمد في غير هذه

المسألة، وهو خلاف مذهبه المعروف في كتب أصحابه، ولم أعلم أحدا منهم حكى ذلك عن أحمد، إلا أن القاضي أبا يعلى حكاه في ((كتاب الجامع الصغير)) له وجها. والله أعلم.

ص: 457

وفي قول سهل بن سعد: ((لم يبق أعلم بالمنبر مني)) : دليل على أن من اختص بعلم، فإنه لا يكره له أن ينبه على اختصاصه به؛ ليؤخذ عنه، وتتوفر الهمم على حفظه وضبطه عنه، وقد سبق في ((كتاب: العلم)) شيء من ذلك.

وبقية فوائد الحديث تذكر في مواضع أخر - أن شاء الله تعالى.

الحديث الثاني:

قال:

ص: 458

378 -

ثنا محمد بن عبد الرحيم: ثنا يزيد بن هارون: أبنا حميد الطويل، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط عن فرس فجحشت ساقه - أو كتفه - وآلى من نسائه شهرا، فجلس في مشربة له درجها من جذوع النخل، فأتاه أصحابه يعودونه، فصلى بهم جالسا وهم قيام، فلما سلم قال: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر

فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وأن صلى قائما فصلوا قياما)) . ونزل لتسع وعشرين، فقالوا: يا رسول الله، انك آليت شهرا؟ فقال:((أن الشهر تسع وعشرون)) .

قال الخطابي: ((الجحش)) : الخدش، أو أكبر منه. و ((المشربة)) : شبه الغرفة المرتفعة عن وجه الأرض.

وضبط غيره: ((راءها)) بالفتح والضم.

ومقصود البخاري بتخريج الحديث هاهنا: أنه تجوز الصلاة في الغرف

ص: 458

والعلالي.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم اعتزل في هذه المشربة شهرا لهجره لنسائه، ولم يدخل إلى نسائه حتى فرغ الشهر، ولم ينقل: هل كان برئ مما أصابه قبل الشهر، أم لا؟ والله أعلم بذلك.

وفي الحديث: دليل على أن المريض الذي يشق عليه حضور المسجد له الصلاة في بيته، مع قرب بيته من المسجد.

وفيه: أن المريض يصلي بمن دخل عليه للعيادة جماعة؛ لتحصيل فضل الجماعة.

وقد يستدل بذلك على أن شهود المسجد للجماعة غير واجب على الأعيان، كما هو رواية عن أحمد؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بإعادة صلاتهم في المسجد، بل اكتفى منهم بصلاتهم معه في مشربته.

وأما صلاة القائم خلف الجالس، فقد بوب البخاري عليها في موضع آخر، ويأتي الكلام عليها فيه أن شاء الله تعالى -، وكذلك بقية فوائد الحديث.

ص: 459