الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
19 - باب إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد
379 -
حدثنا مسدد، عن خالد: ثنا سليمان الشيباني، عن عبد الله بن شداد، عن ميمونة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا حذاءه وأنا حائض، وربما أصابني ثوبه إذا سجد. قالت: وكان يصلي على الخمرة.
قد سبق هذا الحديث في ((أبواب الحيض)) ، والاستدلال به على طهارة ثياب الحائض، وأنه تجوز الصلاة فيها مل لم ير فيها نجاسة.
ويستدل به - أيضا - على أن المصلي إذا حاذته امرأة وكانت إلى جانبه، فإن صلاته لا تفسد بذلك، إذا كانت المرآة في غير صلاة.
وقد نص على ذلك سفيان الثوري وأحمد وإسحاق، ولا نعلم فيه خلافا.
وإنما اختلفوا فيما إذا كانا جميعا في صلاة واحدة، وليس بينهما سترة:
فقال مالك والشافعي وأبو ثور وأكثر أصحابنا: لا تبطل بذلك صلاة واحد منهما مع الكراهة للرجل في مصافتها، وفي التأخير عنها.
وقالت طائفة: تبطل صلاة من يليها ومن خلفها بحيالها، وهو قول أبي حنيفة والثوري، وطائفة من أصحابنا، منهم: أبو بكر عبد العزيز، وأبو حفص البرمكي، وزاد: أنه تبطل صلاتها - أيضا.
ومن أصحابنا من خص البطلان بمن يليها دون من خلفها، ولا وجه له، ونص أحمد يدل على خلافه.
قال حرب: قلت لأحمد: الرجل يصلي وامرأة بحياله قائمة تصلي، أو بين
يديه؟ فقال: أن كانت بحياله فهو أسهل من أن تكون بين يديه. قلت: أيعيد الصلاة؟ قال: ما أدري. وقال: أن كانت المرآة في غير الصلاة فإنه لا بأس؛ قد كانت عائشة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال إسحاق: تفسد صلاة المرآة دون الرجل؛ لأنها هي المنهية عن مصافة الرجل وعن أن تتقدم بين يديه، فتختص صلاتها بالبطلان، لعصيانها بالمخالفة دونه.
وهذا ينبغي تقييده بما إذا كان هو يصلي قبل صلاتها، ثم دخلت في الصلاة
بعده.
وقد قال محمد بن نصر: ثنا حسان بن إبراهيم، في رجل صلى وركز بين يديه نشابة - أو لم يركز -، ثم جاءت امرأة فصلت أمامه والنشابة بينهما: هل تفسد
صلاته؟ : فقالَ: قَالَ سفيان: أن لم يركز فسدت صلاته. قلت: أرأيت أن ركز بعدما رآها تصلي أمامه: هل تفسد صلاته؟ قالَ: لا.
وقال الأوزاعي في امرأة تصلي بصلاة زوجها: تقوم خلفه؛ فإن ضاق مكانهما قامت عن يمينه، وجعلا بينهما سترة، فإن كانا في بيت فصلت امرأة في ناحية وصلى زوجها في ناحية بينهما عرض البيت وطوله فلا يفسد ذلك عليه صلاته.
وقال سفيان: أن كانت المرآة تصلي غير صلاة الرجل تفسد عليه صلاته.
وروى أبو نعيم الفضل بن دكين: ثنا هشام بن سعد: حدثني صالح بن جبير الأردني، عن رجل، قال: جئت عمر بن الخطاب، فقلت: يا أمير المؤمنين، لي بيت فتكلف امرأتي فلا يسعنا إلا أن تقوم حذائي؟ قال: أجعل بينك وبينها ثوبا، ثم صل ما شئت.
أبنا إسرائيل: حدثنا ثوير، قال: سألت مجاهدا، قلت: اصلي وامرأتي إلى جنبي؟ قالَ: لا بأس.
وقد ضعف الشافعي المروي عن عمر في هذا، وقال: لا يعرف.
وخرجه البيهقي من طريق برد بن سنان، عن عبادة بن نسي، عن غضيف بن الحارث، قال: سالت عمر بن الخطاب، قلت: إنا نبدو فنكون في الأبنية، فإن خرجت قررت، وأن خرجت امرأتي قرت؟ فقال عمر: أقطع بينك وبينها ثوبا، ثم ليصل كل واحد منكما.
وخرجه الإسماعيلي في ((مسند عمر)) من رواية صفوان بن عمرو: ثنا عبد الرحمان بن جبير بن نفير، عن الحارث بن معاوية الكندي، أنه سال عمر، قال: ربما كنت أنا والمرأة في ضيق، فتحضر الصلاة، فإن صليت أنا وهي كانت تجاهي، وأن صلت خلفي خرجت من البناء؟ قال: استر بينك وبينها بثوب، ثم تصلي وراءك أن شئت.
20 - باب
الصلاة على الحصير
وصلى جابر بن عبد الله وأبو سعيد في السفينة قياما.
وقال الحسن: تصلي قائما، ما لم تشق على صاحبك، تدور معها، وإلا
فقاعدا.
إنما افتتح هذا الباب بذكر الصلاة في السفينة؛ لأن المصلي في السفينة لا يمكنه الصلاة على التراب، ولا على وجه الأرض، وإنما يصلي على خشب السفينة، أو ما فوقه من البسط أو الحصير أو الأمتعة والأحمال التي فيها.
ولهذا المعنى - والله أعلم - روي عن مسروق ومحمد بن سيرين، أنهما كانا يحملان معهما في السفينة لبنة أو آجرة يسجدان عليها، والظاهر: أنهما فعلا ذلك لكراهتهما السجود على غير أجزاء الأرض، أو أن يكون اختارا السجود على اللبنة على الإيماء، كما اختار قوم من العلماء للمريض أن يسجد على وسادة ونحوها ولا يومئ.
وروى حماد بن زيد، عن أنس بن سيرين، أن أنس بن مالك صلى بهم في سفينة على بساط.
وقال حرب: قلت لأحمد في الصلاة في السفينة: يسجدون على الأحمال والثياب ونحو ذلك؟ فسهل فيه.
قال: وقال إسحاق: يصلي فيها قائما على البسط.
وروى ابن أبي شيبة: ثنا مروان بن معاوية، عن حميد، عن عبد الله ابن أبي عتبة مولى أنس، قال: سافرت مع أبي سعيد الخدري وأبي الدرداء وجابر بن عبد الله - قال حميد: وناس قد سماهم -، فكان إمامنا يصلي بنا في السفينة قائما، ونصلي خلفه قياما وولو شئنا لأرفينا وخرجنا.
ورواه الأثرم عن ابن أبي شيبة، وذكر أن أحمد احتج به.
وقد رواه عن حميد: معاذ بن معاذ وسفيان الثوري، وقال: أراه ذكر منهم: أبا هريرة.
وروى الأثرم: ثنا مسلم بن إبراهيم: ثنا عبد الله بن مروان، قال: سألت
الحسن، قلت: أسافر، فكيف الصلاة في السفينة؟ قال: قائما، ما لم يشق على أصحابك. قلت: أنها عواقيل؟ قال: أدرها كما تدور، فإذا استقبلت القبلة فصله.
وأكثر العلماء على أن المصلي في السفينة يلزمه أن يصلي قائما إذا قدر على ذلك من غير ضرر، وهو قول مالك والثوري والشافعي وأحمد.
وقالت طائفة: لا يلزمه القيام، وله أن يصلي قاعدا بكل حال إذا كانت
سائرة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
وروي عن أنس، أنه صلى بهم في السفينة قاعدا.
وعن مجاهد، قال: كنا مع جنادة بن أبي أمية في البحر، فكنا نصلي قعودا.
وهذه قضايا أعيان، يحتمل فعلوا ذلك للخوف على أنفسهم، أو لضرر يحصل لهم بالقيام.
وقد روي في هذا حديث مرفوع عن جعفر بن برقان، عن
ميمون بن مهران، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر جعفر بن أبي طالب وأصحابه أن يصلوا في السفينة قياما، إلا أن يخافوا الغرق.
وقد رواه عن جعفر بن برقان: عبد الله بن داود الخريبي، ولم يسمعه منه، بل قال: ثناه رجل من أهل الكوفة من ثقيف، عن جعفر بن برقان.
واختلف عليه بعد ذلك في إسناده.
فقيل: عنه، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: عنه، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: عنه، عن ابن عمر، عن جعفر بن أبي طالب.
ورواه حسين بن علوان، عن جعفر بن برقان، عن ميمون، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وحسين، متروك الحديث.
ورواه - أيضا - أبو نعيم الفضل بن دكين: ثنا جعفر بن برقان، عن ميمون ابن مهران، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
خرجه من طريقه الدارقطني والبيهقي.
وهذا منكر، وفي صحته عن أبي نعيم نظر.
وقد خرجه الدارقطني من رواية بشر بن فافا، عنه.
وهذا رجل لا يعرف حاله بالكلية، وقد وصفه بالجهالة جماعة، منهم عبد الحق الأشبيلي وابن الجوزي.
وخرجه الحاكم والبيهقي من طريق ابن أبي الحنين، عن أبي نعيم.
وزعم الحاكم أنه على شرط الشيخين، وما أبعده من ذلك، ولو كان مقاربا لشرط البخاري فضلا عن أن يكون على شرطه لذكره تعليقا، ولم يقتصر على ما روى عن الصحابة خاصة.
وقال البيهقي: هو حسن. والله أعلم.
وقول الحسن: يدورون كلما دارت - يعني: أنهم يصلون إلى القبلة، فكلما انحرفت السفينة عن القبلة داروا معها.
وهذا مع القدرة، فإذا عجزوا عن ذلك للخوف على أنفسهم فإنه يكفيهم الاستقبال في أول الصلاة، نص عليه مالك وأحمد وغيرهما من الأئمة. والله أعلم.
ثم قال البخاري رحمه الله:
380 -
ثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته له، فأكل منه، ثم قال:((قوموا فلأصلي لكم)) . قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس، فنضحته بالماء، فقام
رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم انصرف.
((مليكة)) : قال كثير من الناس: هي جدة إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، قالوا: والضمير في قوله: ((أن جدته)) إليه يعود، لا إلى أنس.
وقد روى هذا الحديث عبد الرزاق، عن مالك، وقال: يعني: جدة إسحاق.
وهذا تفسير من بعض رواة الحديث.
وقد ذكر ابن عبد البر وغيره: أنها هي أم سليم أم أنس بن مالك؛ فإن أبا طلحة تزوجها بعد أبي أنس، فولدت له عبد الله.
وقيل: بل مليكة أختها أم حرام زوجة عبادة، وسماها جدته لأنها أخت جدته، على حد قوله تعالى حاكيا عن بني يعقوب، أنهم قالوا لأبيهم:{نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة:133] ، فإن إسماعيل عمه، والعم صنو الأب.
وظاهر سياق الحديث: يدل على أن مليكة جدة أنس، وهذا هو الأظهر. والله أعلم.
وروي صريحا من رواية مقدم بن يحيى، عن عمه القاسم، عن عبيد الله بن
عمر، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس، قال: أرسلت جدتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واسمها: مليكة -، فجاءنا، فحضرت الصلاة -
وذكر الحديث.
خرجه أبو نعيم في ((تاريخ أصبهان)) .
وقد ذكر ابن سعد: أن مليكة بنت مالك بن عدي بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، هي أم حرام وسليم وأم سليم وأم حرام، أولاد ملحان.
فتبين بهذا أن مليكة جدة أنس حقيقة، ولا يمنع من هذا أنه لم يذكرها في أسماء الصحابيات كثير ممن جمع في أسماء الصحابة؛ لأن هذا الحديث الصحيح يشهد بذلك، والاعتماد عليه أقوى من الاعتماد على قول مثل ابن إسحاق والواقدي.
ويعضد صحة هذا: أن أحدا ممن يعتمد على قوله لم يسم أم سليم: مليكة، وقول أنس:((فقمت إلى حصير لنا)) يدل على أن هذا البيت كان بيت أم سليم أم
أنس.
وقد رواه ابن عيينة، عن إسحاق بن عبد الله مختصرا، وصرح فيه بأن العجوز التي صلت وراءهم هي أم سليم أم أنس، وهذا يدل على أنها هي التي دعت النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعامها.
وخرجه النسائي من طريق يحيى بن سعيد، عن إسحاق بن عبد الله،
عن أنس، أن أم سليم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيها ويصلي في بيتها فتتخذه مصلى، فأتاها فعمدت إلى حصير فنضحته بماء، فصلى عليه وصلوا معه.
وقوله: ((قد اسود من طول ما لبس)) يدل على أن لبس كل شيء بحسبه، فلبس الحصير هو بسطه واستعماله في الجلوس عليه.
واستدل بذلك من حرم الجلوس على الحرير وافتراشه؛ لأن افتراش فرش الحرير وبسطه لباس له، فيدخل في نصوص تحريم لباس الحرير.
وزعم ابن عبد البر: أن هذا يؤخذ منه أن من حلف لا يلبس ثوبا، وليس له نية ولا ليمينه سبب، فإنه يحنث بما يتوطأ ويبسط من الثياب؛ لأن ذلك يسمى لباسا.
وهذا الذي قاله فيه نظر؛ فإن اللبس المضاف إلى الثوب إنما يراد به اشتمال البدن أو بعضه به دون الجلوس عليه، بخلاف اللبس إذا أضيف إلى ما يجلس عليه ويفترش، أو أطلق ولم يضف إلى شيء، كما لو حلف لا يلبس شيئا.
فجلس على حصير، أو حلف لا يلبس حصيرا فجلس عليه.
ولو تعلق الحنث بما يسمى لباسا بوجه ما، لكان ينبغي أن يحنث بمضاجعة زوجته وبدخول الليل عليه؛ قال تعالى:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنّ} [البقرة:187] وقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} [النبأ:10] .
وكل ما لابس الإنسان من جوع أو خوف فهو لباس؛ قَالَ تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل:112] .
ولا نعلم خلافا أنه لو حلف لا يجلس على بساط، فجلس على الأرض لم
يحنث، وقد سماها الله بساطا، وكذلك لو حلف لا يجلس تحت سقف فجلس تحت السماء، وقد سمى الله السماء سقفا، وكذلك لو حلف لا يجلس في ضوء سراج فجلس في ضوء الشمس.
فإن هذه الأسماء غير مستعملة في العرف، والأيمان إنما تنصرف إلى ما يتعارفه الناس في مخاطباتهم دون ما يصدق عليه الاسم بوجه ما في اللغة على وجه التجوز. والله أعلم.
وإنما قال أصحابنا: لو حلف ليرين امرأته عارية لابسة أنه يبرأ برؤيتها في الليل عارية؛ لأن جمعه بين عريها ولبسها قرينة تدل على أنه لم يرد لبسها لثيابها؛ فإن ذلك لا يجتمع مع عريها.
وأما نضح الحصير: فاختلف في معناه:
فقيل: هو تطهير له، وإزالة لما يتوهم فيه من إصابة النجاسة له مع كثرة استعماله وطول عهده في بيته يتربى فيه أولاد صغار.
وعلى هذا؛ فقيل: أن النضح هو الغسل، وقيل: بل هو الرش.
وهذا يستدل به على تطهير ما شك في نجاسته بالنضح، وقد سبق ذكر ذلك في ((كتاب: الوضوء)) ، وأن عمر وغيره فعلوه، وأن من الناس من خالف فيه، وقال: لا يزيده النضح إلا شراً.
وقيل: بل النضح هو تنظيف له من الوسخ، وتلين له.
وعلى هذا؛ فالمراد بالنضح فيه بالرش على ظاهر اللفظ.
وهو
الأظهر. والله أعلم.
ويشهد لذلك: ما خرجه مسلم من حديث أبي التياح، عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا، قال: فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس، ثم ينضح، ثم يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقوم خلفه، فيصلي بنا. قال: وكان بساطهم من جريد النخل.
وخرج - أيضا - من رواية الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: ثنا أبو سعيد الخدري، أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجده يصلي على حصير يسجد عليه.
وهذه الصلاة كانت تطوعا؛ يدل على ذَلكَ: ما خرجه مسلم من حديث
ثابت، عن أنس، قَالَ: دخل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم علينا، وما هوَ إلا أنا وأمي وأم حرام خالتي، فقالَ:((قوموا، فلأصلي بكم)) ، في غير وقت الصلاة، فصلى بنا.
وخرجه أبو داود، وعنده: فصلى بنا ركعتين تطوعا.
وإنما خرجه البخاري في هذا الباب لأجل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الحصير، وقد خرجه في موضع آخر من ((كتابه)) هذا، ولفظه: فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يعني على الحصير الذي نضح.
وقد تبين برواية أبي التياح، عن أنس، أنه كان من جريد النخل، وقد
سمي في بعض الروايات بساطا؛ لأنه يبسط.
وخرج أبو داود من رواية قتادة، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور أم سليم فتدركه الصلاة احيانا فيصلي على بساط لها، وهو حصير ننضحه بالماء.
وقد خرج البخاري - أيضا - في موضع آخر من ((كتابه)) هذا من حديث أنس بن سيرين، عن أنس، أن رجلا من الأنصار قال: يا رسول الله، أني لا أستطيع الصلاة معك - وكان رجلا ضخما -، فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما، فدعاه إلى منزله فبسط له
حصيرا، ونضح طرف الحصير، فصلى عليه ركعتين.
فدلت هذه الأحاديث على جواز الصَّلاة على الحصير.
وفي حديث أبي سعيد الذي خرجه مسلم التصريح بأنه سجد عليه.
وكذلك روى من حديث أنس.
خرجه الإمام أحمد من رواية عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، عن إسحاق بن عبد الله، عن أنس، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أم سليم على الحصير قديم قد تغير من القدم. قال: ونضحه بشيء من الماء، فسجد عليه.
وأكثر أهل العلم على جواز الصلاة على الحصير والسجود عليه، وأن ذلك لا يكره إذا كان الحصير من جريد النخل أو نحوه مما ينبت من الأرض.
وممن روي عنه أنه صلى على الحصير: ابن عمر، وزيد بن ثابت، وجابر، وأبو ذر.
وقال النخعي: كانوا يصلون على الحصير والبوري.
وقال مجاهد: لا بأس بالصلاة على الأرض وما أنبتت.
ومذهب مالك: لا بأس أن يسجد على الخمرة والحصير وما تنبت الأرض، ويضع كفيه عليها.
والسجود على الأرض أفضل عنده، وعند كثير من العلماء.
وكان ابن مسعود لا يصلي على شيء إلا على الأرض.
وروي عن أبي بكر الصديق، أنه رأى قوما يصلون على بسط، فقال لهم: أفضوا إلى الأرض.
وفي إسناده نظر.
وروي عن ابن عمر، أنه كان يصلي على الخمرة ويسجد على الأرض. ونحوه عن علي بن الحسين.
وقال النخعي في السجود على الحصير: الأرض أحب إلي.
وعنه، أنه قال: لا بأس أن يصلي الحصير، لكن لا يسجد عليهِ.
ونقل حرب، عن إسحاق، قال: مضت السنة من النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على الخمرة والبساط، وعلى الثوب الحائل بينه وبين الأرض. قال: وأن
سجد الرجل على الأرض فهو أحب إلي، وأن أفضى بجبهته ويديه إلى الأرض فهو أحب إلينا.
وأكثر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت على الأرض، يدل على ذلك: أنه لما وكف المسجد وكان على عريش فصلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، وانصرف واثر الماء والطين على جبهته وأنفه.
وخرج أبو داود من رواية شريح بن هانئ، عن عائشة، قالت: لقد مطرنا مرة بالليل، فطرحنا للنبي صلى الله عليه وسلم نطعا، فكأني أنظر إلى ثقب فيه ينبع الماء منه، وما رأيته متقياً الأرض بشيء من ثيابه قط.
وخرجه الإمام أحمد، ولفظه: قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقي الأرض
بشيء، إلا مرة؛ فإنه أصابه مطر فجلس على طرف بناء، فكأني أنظر إلى الماء ينبع من ثقب كان فيه.
وخرجه ابن جرير والبيهقي وغيرهما، وعندهم: أن شريحا قَالَ: سالت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت الحديث.
وفي رواية لابن جرير: أن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على شيء قط، إلا أنه أصابنا مطر ذات ليلة، فاجتر نطعا، فصلى عليه.
وخرجه الطبراني، ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى لا يضع تحت قدميه
شيئا، إلا إنا مطرنا يوما فوضع تحت قدميه نطعا.
وهذه الرواية من رواية قيس بن الربيع، عن المقدام بن شريح عن أبيه.
وخرج بقي بن مخلد في ((مسنده)) من رواية يزيد بن المقدام بن شريح، عن
أبيه، عن جده، قال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين، إن أناسا يصلون على هذه الحصر، ولم أسمع الله يذكرها في القران، إلا في مكان واحد:{لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} [الإسراء:
8] ، أفكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير؟ قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير.
وهذا غريب جداً.
ويزيد بن المقدام، قال أبو حاتم: يكتب حديثه.
وخرج الإمام أحمد: ثنا عثمان بن عمر: ثنا يونس، عن الزهري، عن عروة، عن، عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي على خمرة، فقال:((يا عائشة، ارفعي حصيرك، فقد خشيت أن يكون يفتن الناس)) .
وهذا غريب جدا.
ولكنه اختلف فيه على يونس:
فرواه مفضل بن فضاله، عن يونس، عن الزهري، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الخمرة، يسجد لها.
ورواه شبيب بن سعيد، عن يونس، عن الزهري - مرسلاً.
ورواه ابن وهب في ((مسنده)) عن يونس، عن الزهري، قال: لم أزل اسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على الخمرة - وعن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الخمرة ويسجد لها.
فرواه بالوجهين جميعاً.
وأما رواية عثمان بن عمر، عن يونس، فالظاهر أنها غير محفوظة، ولا تعرف تلك الزيادة إلا فيها.
21 - باب
الصلاة على الخمرة
381 -
حدثنا أبو الوليد: ابنا شعبة: ثنا سليمان الشيباني، عن عبد الله بن
شداد، عن ميمونة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الخمرة.
((الخمرة)) : الحصير، كذا جاء تفسيره في بعض روايات هذا الحديث، وكذا فسره الإمام أحمد وغيره.
وقال أبو عبيد: الخمرة شيء منسوج يعمل من سعف النخل، ويرمل بالخيوط، وهو صغير على قدر ما يسجد عليه المصلي أو فويق ذلك، فإن عظم حتى يكفي الرجل لجسده كله في الصلاة أو مضطجعا أو أكثر من ذلك، فهو حينئذ حصير، وليس
بخمرة.
وقد سبق في الباب الماضي من رواية أخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على
الخمرة، ويسجد عليها.
وقد روى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الخمرة من روايات عدة من الصحابة من طرق كثيرة، ولم يخرج في ((الصحيحين)) سوى حديث ميمونة، ولم يخرج في بقية الكتب الستة سوى حديث لابن عباس، خرجه الترمذي،
وأسانيدها كلها لا تخلو من مقال.
وقد كان ابن عمر من الصحابة يصلون على الخمرة، وإنما يكره ذلك من يكره السجود على غير الأرض.
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يصلى على الخمرة، ويؤتى بتراب حر، فيوضع عليها في موضع سجوده، فيسجد عليه.
22 - باب
الصلاة على الفراش
وصلى أنس على فراشه.
وقال أنس: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فيسجد أحدنا على ثوبه.
حديث أنس المرفوع، قد خرجه البخاري بإسناده في الباب الأتي، ويأتي في موضعه مع الكلام عليه - أن شاء الله.
وحديثه الموقوف، خرجه ابن أبي شيبة: ثنا ابن المبارك، عن حميد، عن أنس أنه كان يصلي على فراشه.
ثنا حفص، عن ليث، عن طاوس، أنه كان يصلي على الفراش الذي مرض عليه.
وأصل هذه المسائل: أنه تجوز الصلاة على غير جنس ما ينبت من الأرض كالصوف والجلود، ورخص في الصلاة على ذلك أكثر أهل العلم.
وقد روي معناه عن عمر، وعلي، وأبي الدرداء، وابن عباس، وأنس.
وروي عن ابن مسعود وضعف الرواية في ذلك عنه الإمام أحمد.
وهو قول أكثر العلماء بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد.
وقال ابن المنذر: كرهت طائفة السجود إلا على الأرض، كان جابر بن زيد يكره الصلاة على كل شيء من الحيوان ويستحب الصلاة على كل شيء من نبات الأرض.
وقال مالك في الصلاة على بساط الصوف والشعر: إذا وضع المصلي جبهته ويديه على الأرض فلا أرى بالقيام عليها بأسا. انتهى.
ومذهب مالك - فيما ذكره صاحب ((تهذيب المدونة)) -: أنه يكره السجود على الطنافس وثياب الصوف والكتان والقطن وبسط الشعر والأدم وأحلاس الدواب، ولا يضع كفيه عليها، ولكن يقوم عليها ويجلس ويسجد على الأرض، ولا بأس أن يسجد على الخمرة والحصير وما تنبت الأرض، ويضع كفيه عليها. انتهى.
وقال مجاهد: لا بأس بالصلاة على الأرض وما أنبتت.
وقول مجاهد وجابر بن زيد الذي حكاه ابن المنذر قد يدخل فيه القطن والكتان: لأنهما مما ينبت من الأرض.
وقال المروذي: كان أبو عبد الله - يعني: أحمد لا يرى السجود على ثوب ولا خرقة، إلا من حر أو برد.
قال القاضي أبو يعلى: يحتمل أن يكون أراد بذلك ثوبا متصلا به، ويحتمل أن يكون أراد به منفصلا عنه؛ ليحصل تتريب وجهه في سجوده.
قلت: والأول اظهر؛ لأن نصوصه بجواز الصلاة على البسط ونحوه متكاثرة.
خرج في هذا الباب ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
382 -
ثنا إسماعيل - هو: ابن أبي أويس -: ثنا مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن أبي سلمة بن عبد الرحمان، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتها، والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح.
وجه الاستدلال بهذا الحديث على جواز الصلاة على الفراش: أن عائشة رضي الله عنها كانت تنام على فراش النبي صلى الله عليه وسلم الذي ينام هو وعائشة عليه، وكان يقوم فيصلي من الليل وهي نائمة معترضة بين يديه على الفراش، وكانت رجلاها في قبلته، فإذا أراد أن يسجد غمزها فقبضت رجلها ليسجد في موضع، وهذا يدل على أنه كان يسجد على طرف الفراش الذي كانت نائمة عليه، وكانت رجلاها عليه. والله أعلم.
مع أنه يحتمل أن تكون رجلاها خرجت عن الفراش حتى صارت على الأرض في موضع سجوده.
ويدل على ذلك: ما رواه عبيد الله بن عمر، عن القاسم، أن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فتقع رجلي بين يديه - أو بحذائه -، فيضربها فاقبضها.
الحديث الثاني:
قال:
383 -
ثنا يحيى بن بكير: [ثنا الليث] ، عن عقيل، عن ابن شهاب: أخبرني عروة، أن عائشة أخبرته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهي بينه وبين القبلة على فراش أهله اعتراض الجنازة.
الظاهر: أنه إنما خرج هذا الحديث بهذا اللفظ في هذا الباب؛ لأنه فهم منه أن قوله: ((على فراش أهله)) يتعلق بقولها: ((كان يصلي)) ، وأن المراد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على فراش أهله وعائشة بينه وبين القبلة اعتراض الجنازة، فيكون في الكلام تقديم وتأخير.
وقد خرجه في ((أبواب: المرور بين يدي المصلي)) من طريق ابن أخي ابن شهاب عن عمه: اخبرني عروة، أن عائشة قالت لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم فيصلي من الليل، وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله.
وخرجه - أيضا - من طريق هشام، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه.
وخرجه أبو داود من هذا الوجه، ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاته من الليل وهي معترضة بينه وبين القبلة، راقدة على الفراش الذي يرقد عليه.
وكل هذه الألفاظ تبين أن المراد: أن نومها كان على الفراش، لا أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت على الفراش.
الحديث الثالث:
قال:
384 -
ثنا عبد الله بن يوسف: ثنا الليث، عن يزيد - هو: ابن أبي حبيب -، عن عراك، عن عروة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة على الفراش الذي ينامان عليه.
هذا مرسل من هذا الوجه.
ودلالة لفظه كدلالة الذي قبله.
وقد روي حديث هشام، عن أبيه بلفظ يدل على ما فهمه البخاري، فرواه أبو العباس السراج الحافظ: ثنا هناد بن السري: ثنا أبو معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل على الفراش الذي ينام عليه وأن بينه وبين القبلة.
وهذا من تغيير بعض الرواة بالمعنى الذي فهمه من الحديث؛ لاتفاق الحفاظ من أصحاب عروة على غير هذا اللفظ، وليس أبو معاوية بالحافظ المتقن لحديث هشام بن عروة، إنما هو متقن لحديث الأعمش.
23 - باب
السجود على الثوب في شدة الحر
وقال الحسن: كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة، ويداه في كمه.
روى ابن أبي شيبة: ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن الحسن، أن أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل منهم على عمامته.
فقد تضمن ما قاله الحسن في هذا مسألتين:
إحداهما:
سجود المصلي ويداه في كمه، أو في ثوبه، وقد حكى عن الصحابة أنهم كانوا يفعلونه.
وروى أبو نعيم ووكيع في ((كتابيهما)) عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: كانوا يصلون في برانسهم ومساتقهم وطيالستهم، لا يخرجون أيديهم.
وروى وكيع، عن الأعمش، عن محارب - أبو وبرة -، قَالَ: كان ابن عمر يلتحف بالملحفة، ثُمَّ يسجد فيها، لا يخرج يديه.
والصحيح عن ابن عمر: ما رواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان إذا سجد يضع كفيه على الذي يضع عليه وجهه. قال: ولقد رايته في يوم شديد البرد ويخرج يديه من تحت برنس له.
وممن كان يسجد ويداه في ثوبه لا يخرجهما: سعيد بن جبير، وعلقمة، ومسروق، والأسود.
وحكى ابن المنذر، عن عمر الرخصة في السجود على الثوب في الحر، وعن عطاء وطاوس. قال: ورخص فيه للحر والبرد النخعي والشعبي، وبه قال مالك والأوزاعي واحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، ورخص الشافعي في وضع اليدين على الثوب في الحر والبرد. انتهى.
ونقل ابن منصور، عن أحمد وإسحاق: لا يسجد ويداه في ثوبه، إلا من برد أو علة، وكذا نقل غير واحد عن أحمد: أنه لا يفعل ذلك إلا من علة، ولا يفعله من غير علة.
وروى عنه جماعة من أصحابه: أنه لا باس بذلك، ولم يقيده بالعلة، فيحتمل أن يكون ذلك رواية عنه بعدم الكراهة مطلقا، ويحتمل أن تحمل رواياته المطلقة على رواياته المقيدة، وكلام أكثر أصحابنا يدل على ذلك، وفيه نظر.
وبكل حال؛ فيجرئ السجود وأن لم يباشر الأرض بيديه رواية واحدة، ولا يصح عن أحمد خلاف ذلك البتة، وإنما اصل نقل الخلاف في ذلك عن أحمد مأخوذ من كتب مجهولة
لا يعرف أصحابها، فلا يعتمد عليها.
ومذهب مالك: أنه أن كان حر أو برد جاز له أن يبسط ثوبا يسجد عليه، ويجعل عليه كفيه، مع قوله: يكره السجود على الثياب من غير عذر، كما سبق.
وللشافعي قولان في وجوب السجود على الكفين.
وعلى قوله بالوجوب، فهل يجب كشفهما أو يجوز السجود عليهما وهما في
كمه؟ على قولين له - أيضا -، أصحهما: أنه يجوز.
وعلى القول الآخر، فإنما يجب كشف أدنى جزء منهما، لا كشف جميعهما.
المسألة الثانية:
سجود الرجل على كور عمامته وعلى قلنسوته، وقد حكى الحسن عن الصحابة أنهم كانوا يفعلونه.
وممن روي عنه أنه كان يسجد على كور عمامته: عبد الله بن أبي أوفى، لكن من وجه فيه ضعف.
وروى عبد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يسجد على كور عمامته.
وقد خالفه من هو أحفظ منه كما سيأتي.
وروي عن عبد الله بن يزيد الأنصاري ومسروق وشريح السجود على كور العمامة والبرنس.
ورخص فيه ابن المسيب والحسن ومكحول والزهري والثوري والأوزاعي وإسحاق.
وكان عبد الرحمن بن يزيد يسجد على كور عمامة له غليظة، تحول بينه وبين الأرض.
وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يفعله، من وجوه كلها باطلة، لا يصح منها شيء -: قاله البيهقي وغيره.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عنه، من وجوه مرسلة، وفيها ضعف - أيضا.
وروي عن علي، قال: إذا صلى أحدكم فليحسر العمامة عن جبهته.
وكان عبادة بن الصامت يفعله.
وروى أيوب، عن نافع، أن ابن عمر كان لا يسجد على كور العمامة.
وروى عبيد الله، عن نافع، أن ابن عمر كان يحسر عن جبهته كور العمامة إذا سجد، ويخرج يديه، ويقول: أن اليدين تسجدان مع الوجه.
وكره ابن سيرين السجود على كور العمامة.
وعن عمر بن عبد العزيز ما يدل على ذلك.
وقال النخعي وميمون بن مهران: أبرز جبيني أحب إلي.
وقال عورة: يمكن جبهته من الأرض.
وقال مالك: من صلى على كور العمامة كرهته، ولا يعيد، وأحب إلي أن يرفع عن بعض جبهته حتى تمس الأرض بذلك -: نقله صاحب ((تهذيب المدونة)) .
ومذهب الشافعي: لا يجزئه أن يسجد على كور عمامته، ولا على طرف ثوبه وما هو متصل به، حتى يكشف عن بعض محل سجوده فيباشر به المصلي.
وكره أحمد السجود على كور العمامة، إلا لعلة من حر أو برد يؤذيه، فلم يكرهه كذلك.
وقال - في رواية صالح -: لا باس بالسجود على كور العمامة، وأعجب إلي أن يبرز جبهته ويسجد عليها.
وقال - في رواية أبي داود -: لا يسجد على كور العمامة، ولا على القلنسوة. قيل له: فمن صلى هكذا يعيد؟ قال: لا، ولكن لا يسجد عليها.
ولم يذكر القاضي أبو يعلى في ((الجامع الكبير)) وغيره من كتبه في صحة صلاته على كور العمامة ونحوها خلافا.
وحكى ابن أبي موسى رواية أخرى: أنه إذا سجد على كور عمامته لغير حر ولا برد أنه لا يجزئه.
ولم نجد بذلك نصا عنه صريحا بالإعادة، إنما النص عنه بكراهته والنهي عنه.
وقد نقل أبو داود النهي عنه مع الإجزاء.
ونهى أحمد ابنه عبد الله
عن سجوده في الصلاة على كمه، ولم يأمره بالإعادة.
وأما من نقل رواية عن أحمد بالإعادة مطلقا بذلك فلا يصح نقله.
وقول ابن أبي موسى: أن سجد على قلنسوته لم يجزئه - قولا واحدا -، لا يصح، ورواية أبي داود عن أحمد ترده.
ولو كان جبينه جريحا وعصبه بعصابة، جاز السجود عليها عند الشافعي، ولا إعادة عليه، ومن أصحابه من حكى وجها ضعيفا بالإعادة.
ولم يرخص عبيدة السلماني في السجود على العصابة للجرح، وهذا حرج شديد تأباه السمحة.
قال البخاري رحمه الله:
385 -
ثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك - هو: الطيالسي -: ثنا بشر بن المفضل: ثنا غالب القطان، عن بكر بن عبد الله، عن أنس بن مالك، قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود.
وقد خرجه في موضع آخر من ((كتابه)) من طريق ابن المبارك، عن خالد بن
عبد الرحمان - وهو: ابن بكير السلمي البصري -: حدثني غالب القطان، عن بكر المزني، عن أنس، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظهر سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر.
وقد خرجه مسلم من طريق بشر بن المفضل، عن غالب، ولفظه: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، فإذا لم يستطع احدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه.
وخرجه البخاري في أواخر ((الصلاة)) كذلك.
وقد خرجه الترمذي من طريق خالد بن عبد الرحمان، وقال: حسن صحيح.
وإنما ذكرت هذا؛ لأن العقيلي قال: حديث أنس في هذا: فيه لين، ولعله ظن تفرد خالد به، وقد قال هو في خالد: يخالف في حديثه، وقد تبين أنه تابعه بشر بن المفضل على جلالته وحفظه.
وقد أدخل بعض الرواة في إسناد هذا الحديث: ((الحسن البصري)) بين بكر وأنس، وهو وهم -: قاله الدارقطني.
ومن تأول هذا الحديث على أنهم كانوا يسجدون على ثياب منفصلة عنهم، فقد أبعد، ولم يكن أكثر الصحابة - أو كثير منهم - يجد ثوبين يصلي فيهما، فكانوا يصلون في ثوب واحد كما سبق، فكيف كانوا يجدون ثيابا كثيرة يصلون في بعضها ويتقون الأرض ببعضها؟!
وقد روي عن أنس حديث يخالف هذا:
خرجه أبو بكر ابن أبي داود في ((كتاب الصلاة)) له: ثنا محمد بن عامر الأصبهاني: حدثني أبي: ثنا يعقوب، عن عنبسة، عن عثمان الطويل، عن أنس بن مالك، قال: كنا
نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم في الرمضاء فإذا كان في ثوب أحدنا فضلة فجعلها تحت قدميه ولم يجعل تحت جبينه؛ لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت خفيفة في إتمام.
وقال: سنة تفرد بها أهل البصرة.
قلت: يشير إلى تفرد عثمان الطويل به عن أنس، وهما بصريان، وعثمان هذا قد روى عنه شعبة وغيره، وقال أبو حاتم فيه: هو شيخ.
وأما من قبل عثمان فهم ثقات مشهورون، فعنبسة هو: ابن سعيد قاضي الري، أصله كوفي، ثقة مشهور، وثقه أحمد ويحيى. ويعقوب هو: القمي، ثقة مشهور - أيضا - وعامر هو: ابن إبراهيم الأصبهاني، ثقة مشهور من أعيان أهل أصبهان، وكذلك ابنه محمد بن عامر.
ولكن إسناد حديث بكر أصح، ورواته أشهر؛ ولذلك خرج في ((الصحيح)) دون هذا. والله أعلم.
واستدل بعض من لم ير السجود على الثوب بما روى أبو إسحاق، عن سعيد بن وهب، عن خباب، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة
في الرمضاء، فلم يشكنا.
خرجه مسلم.
وفي رواية له - أيضا -: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكونا إليه حر الرمضاء، فلم يشكنا.
قالوا: والمراد بذلك أنهم شكوا إليه مشقة السجود على الحصى في شدة الحر، واستأذنوه أن يسجدوا على ثيابهم، فلم يجبهم إلى ما سألوا، ولا أزال شكواهم.
واستدلوا على ذلك: بما روى محمد بن جحادة، عن سليمان بن أبي هند، عن خباب، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة الحر في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا.
ويجاب عن ذلك: بأن حديث خباب اختلف في إسناده على أبي إسحاق: فروي عنه، عن سعيد بن وهب، عن خباب. وروي عنه، عن حارثة بن مضرب، عن
خباب.
وقد قيل: إنهما من مشايخ أبي إسحاق المجهولين الذين لم يرو عنهم غيره، وفي إسناده اختلاف كثير؛ ولذلك لم يخرجه البخاري.
وأما معنى الحديث: فقد فسره جمهور العلماء بأنهم شكوا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة في شدة الحر، وطلبوا منه الإبراد بها، فلم يجبهم، وبهذا فسره رواة الحديث، منهم: أبو إسحاق وشريك.
وقد خرجه البزار في ((مسنده)) ، وزاد فيه: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهجير.
وخرجه ابن المنذر، وزاد في آخره: وقال: ((إذا زالت الشمس فصلوا)) .
وأما رواية من زاد فيه: ((في جباهنا واكفنا)) ، فهي منقطعة.
حكى إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين، أنه قال: هي مرسلة.
يعني: أن سليمان بن أبي هند لم يسمع من خباب.
وعلى تقدير صحتها، فقد يكون شكوا إليه ما يلقونه من شدة حر الحصى في سجودهم، وأنه لا يقيهم منه ثوب ونحوه.
وأيضا؛ فلو كانوا قد طلبوا منه السجود على ثوب يقيهم حر الرمضاء لأمرهم بالسجود على ثوب منفصل؛ فإن ذلك لا يكره عند الشافعي ولا عند غيره؛ لشدة الحر كما سبق.
فإن قيل: فحمله على هذا ترده أحاديث الأمر بالإبراد بالظهر في شدة الحر.
قيل: عنه جوابان:
أحدهما: أن ذلك كان قبل أن يشرع الإبراد بها، ثم نسخ، وقد روي من حديث المغيرة ما يدل على ذلك.
والثاني: أن شدة الحر في الصيف لا تزول في المدينة إلا بتأخر الظهر إلى آخر وقتها، وهو الذي طلبوه، فلم يجبهم إلى ذلك، وإنما أمرهم بالإبراد اليسير، ولا تزول به شدة حر الحصى.
وقد قيل: أنهم إنما شكوا إليه أنهم كانوا يعذبون في الله بمكة في حر الرمضاء قبل الهجرة، وطلبوا منه أن يدعو لهم ويستنصر، فأمرهم بالصبر في الله.
وقد روى قيس ابن أبي حازم، عن خباب هذا المعنى صريحا، وبهذا فسره علي بن المديني وغيره.
والصحيح: الأول. والله أعلم.
24 - باب
الصلاة في النعال
386 -
ثنا آدم بن أبي إياس: ثنا شعبة: ابنا أبو مسلمة سعيد بن يزيد الأزدي، قال: سالت أنس بن مالك: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم.
لم يخرج في ((الصحيحين)) من أحاديث الصلاة في النعلين غير حديث سعيد ابن يزيد، عن أنس هذا، وتفرد به البخاري من طريق شعبة، عنه.
وقد رواه سلم بن قتيبة، عن شعبة، عن سعيد وأبي عمران الجوني - كلاهما -، عن أنس.
وأنكر ذلك على سلم يحيى القطان.
وقال الدارقطني: وهم في ذلك.
والصلاة في النعلين جائزة، لا اختلاف بين العلماء في ذلك،
وقد قال أحمد: لا بأس أن يصلي في نعليه إذا كانتا طاهرتين.
وليس مراده: إذا تحقق طهارتهما، بل مراده: إذا لم تتحقق نجاستهما.
يدل على ذلك: أن ابن مسعود قال: كنا لا نتوضأ من موطئ.
خرجه أبو داود.
وخرجه ابن ماجه، ولفظه: أُمرنا أن لا نكفت شعرا ولا ثوبا، ولا نتوضأ من موطئ.
وخرجه وكيع في ((كتابه)) ، ولفظه: لقد رايتنا وما نتوضأ من موطئ، إلا أن يكون رطبا فنغسل أثره.
وروي عن ابن عمر، أنه قال: امرنا أن لا نتوضأ من موطئ.
خرجه الدارقطني في ((العلل)) . وذكر أن بعضهم لم يرفعه، وجعله من فعل ابن عمر.
والمراد بذلك: أن من مشى حافيا على الأرض النجسة اليابسة أو خاض طين
المطر، فإنه يصلي ولا يغسل رجليه.
وقد ذكر مالك وغيره أن الناس لم يزالوا على ذلك.
وذكره ابن المنذر إجماعا من أهل العلم، إلا عن عطاء، فإنه قال: يغسل
رجليه. قال: ويشبه أن يكون هذا منه استحبابا لا إيجابا.
قال: وبقول جل أهل العلم نقول.
وهذا يبين أن جمهور العلماء لا يرون غسل ما يصيب الرجل من الأرض، مما لا تتحقق نجاسته، ولا التنزه عنه في الصلاة.
وقد روي الأمر بالصلاة في النعلين، ما خرجه أبو داود وابن حبان في
((صحيحه)) من حديث شداد بن أوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا في خفافهم)) .
وروى عبد الله بن المثنى، عن ثمامة، عن أنس، قال: لم يخلع النبي صلى الله عليه وسلم نعله في الصلاة إلا مرة، فخلع القوم نعالهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((لم خلعتم نعالكم؟)) قالوا رأيناك خلعت فخلعنا، قال:((أن جبريل أخبرني أن فيهما قذراً)) .
قال البيهقي: تفرد عبد الله بن المثنى، ولا بأس بإسناده.
قلت: عبد الله بن المثنى، يخرج له البخاري كما تقدم.
وهذا يدل على أن عادة النبي صلى الله عليه وسلم المستمرة الصلاة في نعليه، وكلام أكثر السلف يدل على أن الصلاة في النعلين أفضل من الصلاة حافيا.
وقد أنكر ابن مسعود على أبي موسى خلعه نعليه عند إرادة الصلاة، قال لهُ: أبالوادي المقدس أنت؟!
وكان أبو عمرو الشيباني يضرب الناس إذا خلعوا نعالهم في الصلاة.
وأنكر الربيع بن خثيم على من خلع نعليه عند الصلاة، ونسبه إلى أنه أحدث - يريد: أنه ابتدع.
وكان النخعي وأبو جعفر محمد بن على إذا قاما إلى الصلاة لبسا نعالهما وصليا فيها.
وأمر غير واحد منهم بالصلاة في النعال، منهم: أبو هريرة وغيره.
وقال الشافعي - ونقلوه عنه -: أن خلع النعلين في الصلاة أفضل؛ لما فيه من مباشرة المصلي بأطراف القدمين إذا سجد عليهما.
ووافقهم على ذلك القاضي أبو يعلي وغيره من أصحابنا.
ولم يعللوا ذلك باحتمال إصابة النجاسة، مع حكايتهم الخلاف في طين الشوارع: هل هو نجس أو طاهر يعفى عن يسيره؟ فحكى أصحاب الشافعي له في ذَلكَ قولين، وكذلك حكى الخلاف في مذهب أحمد بعض أصحابنا.
والصحيح عند محققيهم: أن المذهب طهارته، وعليه تدل أحوال السلف الصالح وأقوالهم، كما تقدم عنهم في ترك غسل القدمين من الخوض في الطين، وهذا مروي عن علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة.
قال الجوزجاني: لم ير المسلمون بطين المطر بأسا.
وقد صرح كثير من السلف بأنه طاهر ولو خالطه بول، منهم: سعيد بن جبير وبكر المزني وغيرهما.
والتحرز من النجاسات إنما يشرع على وجه لا يفضي إلى مخالفة ما
كان عليه السلف الصالح، فكيف يشرع مع مخالفتهم ومخالفة السنن الصحيحة؟!
وقد اختلف العلماء: في نجاسة أسفل النعل ونحوه: هل تطهر بدلكها بالأرض، أم لا تطهر بدون غسل، أم يفرق بين أن يكون بول ادمي أو عذرته فلا بد من غسلها وبين غيرها من النجاسات فتطهر بالدلك؟ على ثلاثة أقوال.
وقد حكى عن أحمد ثلاثة روايات كذلك.
والقول بطهارتها بالدلك كثير من أصحابنا، وهو قول قديم للشافعي، وقول ابن أبي شيبة ويحيى بن يحيى النيسابوري.
وقال ابن حامد من أصحابنا: تطهر بذلك.
والقول بالفرق بين البول والعذرة قول أبي خيثمة وسليمان بن داود الهاشمي.
وفي هذا الباب أحاديث متعددة.
وأجودها حديث أبي نعامة السعدي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه، وليصل فيه)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان ((صحيحيهما)) والحاكم.
وقال: صحيح على شرط مسلم.
يشير إلى أن أبا نعامة وأبا نضرة خرج لهما مسلم،
وقد رواه جماعة عن أبي نعامة بهذا الإسناد.
ورواه أيوب، واختلف عليه فيه، فروي عنه كذلك، وروي عنه مرسلاً، وهو أشهر عن أيوب.
قال الدارقطني: الصحيح: عن أيوب سمعه من أبي نعامة، ولم يحفظ إسناده فأرسله، والقول: قول من قال: عن أبي سعيد.
وقال أبو حاتم الرازي: المتصل أشبه. والله أعلم.
25 - باب
الصلاة في الخفاف
387 -
حدثنا آدم: ثنا شعبة، عن الأعمش، قال: سمعت إبراهيم يحدث عن همام بن الحارث، قال: رأيت جرير بن عبد الله، بال، ثم توضأ ومسح على خفيه، ثم قام فصلى، فسئل، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل هذا.
قال إبراهيم، فكان يعجبهم؛ لأن جريرا كانَ من آخر من أسلم.
388 -
حدثنا إسحاق بن نصر: ثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن المغيرة بن شعبة، قالَ: وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح على خفيه
وصلى.
قد تقدم حديث جرير والمغيرة في المسح على الخفين بغير هذين الإسنادين.
وإنما المقصود هاهنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه ثم صلى وهما عليه.
وقد صرح القائلون باستحباب خلع النعلين في الصلاة: أنه إذا كان قد مسح على الخفين ثم أراد الصلاة فإنه لو نزعهما لانتقضت طهارته عندهم، كما سبق ذكره في أبواب نقض الوضوء، فلذلك كان الأولى له أن يصلي في خفيه.
وليس لنا موضع يكره أن يصلي فيه في النعلين والخفين إلا الكعبة؛ فإنه يكره لمن دخلها أن يلبس خفيه أو نعليه -: نص عليه عطاء ومجاهد واحمد، وقال: لا أعلم أحدا رخص فيه.
وفي كثير من نسخ البخاري هاهنا بابان:
أحدهما: ((باب: إذا لم يتم السجود)) .
والثاني: ((باب: يبدي ضبعيه ويجافي في السجود)) .
وقد أعادهما على وجههما في ((صفة الصلاة)) عند ((أبواب السجود)) وهو الأليق بهما، فنؤخرهما إلى ذلك المكان - أن شاء الله تعالى.
وقد انتهى ذكر أبواب اللباس في الصلاة، ويشرع بعده في أبواب استقبال القبلة.
28 - باب
فضل استقبال القبلة
يستقبل بأطراف رجليه القبلة -: قاله أبو حميد، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
حديث أبي حميد هذا، خرجه البخاري بإسناده بتمامه في ((أبواب صفة الصلاة)) ، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد استقبل بأطراف رجليه القبلة.
وخرج ابن حبان في ((صحيحه)) من حديث عائشة، قالت: فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في السجود، ناصبا
قدميه، مستقبلا بأطراف أصابعه القبلة.
وخرجه مسلم، ولفظه:((وهو في المسجد، وهما منصوبتان)) .
وقال ابن جريج: عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس، ما رأيت مصليا كهيئة عبد الله بن عمر، أشد استقبالا للكعبة بوجهه وكفيه وقدمه.
وروى نافع، عن ابن عمر، قال: إذا سجد أحدكم فليستقبل بيديه القبلة؛ فإنهما يسجدان مع الوجه.
وروي عنه، قال: كان ابن عمر إذا صلى استقبل القبلة بكل شيء، حتى
بنعليه.
وروى سالم عن ابن عمر، أنه كره أن يعدل كفيه عن القبلة.
وروى المسعودي، عن عثمان الثقفي، أن عائشة رأت رجلا مائلا كفيه عن القبلة، فقالت: اعدلهما إلى القبلة.
وروى حارثة بن محمد - وفيه ضعف -، عن عمرة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد وضع يديه وجاه القبلة.
خرجه ابن ماجه.
واستحب ذلك كثير من السلف، منهم: سالم والقاسم بن محمد والحسن وابن سيرين.
وقال حفص بن عاصم: هو من السنة.
قال الأثرم: تفقدت أبا عبد الله - يعني: أحمد بن حنبل - في صلاته،
فرأيته يفتخ أصابع رجله اليمنى فيستقبل بها القبلة ويجعل بطون أصابع رجله اليمنى مما يلي الأرض.
قال: والفتخ - يعني: بالخاء المعجمة - هو أن يكسر أصابعه فيثنيها حتى تكون أطرافها مواجهة للقبلة، ولو لم يفعل ذلك كانت أطرافها إلى غير القبلة.
وفي حديث أبي حميد، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد فتخ أصابع رجليه.
خرجه أبو داود والترمذي.
قال البخاري رحمه الله:
391 -
حدثنا عمرو بن عباس: ثنا ابن مهدي: ثنا منصور بن سعد عن ميمون بن سياه، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تخفروا الله في ذمته)) .
392 -
وحدثنا نعيم، قال: حدثنا ابن المبارك، عن حميد الطويل، عن
أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم، إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل) .
393 -
وقال علي بن عبد الله: ثنا خالد بن الحارث، ثنا حميد، قال: سأل ميمون بن سياه أنس بن مالك فقال: يا أبا حمزة، ما يحرم دم العبد وماله؟ فقال: من شهد أن لا إله إلا الله واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم.
وقال ابن أبي مريم: أبنا يحيى بن أيوب: ثنا حميد: ثنا أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث قد خرجه البخاري من طريقين:
أحدهما: من رواية منصور بن سعد، عن ميمون بن سياه، عن أنس مرفوعا.
وميمون بن سياه، بصري اختلف فيه، فضعفه ابن معين، ووثقه أبو حاتم الرازي.
والثاني: من رواية حميد، عن أنس - تعليقا - من ثلاثة أوجه، عنه. وفي بعض النسخ أسنده.
من أحدها: عن نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، عن حميد، عن أنس، ورفعه.
والثاني: علقه عن ابن المديني، عن خالد بن الحارث، عن حميد، أن ميمون بن سياه سأل أنسا - فذكره، ولم يرفعه، جعله من قول أنس.
والثالث: علقه، عن ابن أبي مريم، عن يحيى بن أيوب: ثنا حميد: ثنا أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصرح فيه بسماع حميد له من أنس، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومقصود البخاري بهذا: تصحيح رواية حميد، عن أنس المرفوعة.
وقد نازعه في ذلك الإسماعيلي، وقال: إنما سمعه حميد من
ميمون بن سياه، عن أنس. قال: ولا يحتج بيحيى بن أيوب في قوله: ((ثنا حميد: ثنا أنس)) ؛ فإن عادة الشاميين والمصريين جرت على ذكر الخبر فيما يروونه؛ لا يطوونه طي أهل العراق.
يشير إلى أن الشاميين والمصريين يصرحون بالتحديث في رواياتهم، ولا يكون الإسناد متصلا بالسماع.
وقد ذكر أبو حاتم الرازي عن أصحاب بقية بن الوليد أنهم يصنعون ذلك كثيرا.
ثم استدل الإسماعيلي على ما قاله بما خرجه من طريق عبيد الله بن معاذ: ثنا أبي: ثنا حميد، عن ميمون بن سياه، قال: سألت أنسا: ما يحرم دم المسلم وماله؟ قال: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - الحديث.
قال: وما ذكره عن علي بن المديني عن خالد بن الحارث فهو يثبت ما جاء به معاذ بن معاذ؛ لأن ميمون هوَ الذي سأل، وحميد منه سمع. والله أعلم. انتهى ما
ذكره.
ورواية معاذ بن معاذ، عن حميد، عن ميمون، عن أنس موقوفة.
وقد ذكر الدارقطني في ((العلل)) أنها هي الصواب، بعد أن ذكر أن ابن المبارك ويحيى بن أيوب ومحمد بن عيسى بن سميع رووه عن حميد، عن أنس مرفوعا.
قال: وذكر هذا الحديث لعلي بن
المديني، عن ابن المبارك. فقال: أخاف أن يكون هذا وهما، لعله: حميد، عن الحسن - مرسلا.
قال الدارقطني: وليس كذلك؛ لأن معاذ بن معاذ من الأثبات. وقد رواه كما ذكرنا - يعني: عن حميد، عن ميمون، عن أنس موقوفا.
وقد خرجه أبو داود في ((سننه)) من طريق يحيى بن أيوب كما أشار إليه
البخاري.
وخرجه أبو داود - أيضا - والترمذي والنسائي من طريق ابن المبارك وحسنه الترمذي وصححه وغربه، وذكر متابعة يحيى بن أيوب له.
وخرجه النسائي - أيضا - من طريق محمد بن عيسى بن سميع: ثنا حميد عن أنس ورفعه.
ومن طريق محمد بن عبد الله الأنصاري: ثنا حميد، قال: سأل ميمون بن سياه أنسا، فقال: يا أبا حمزة، ما يحرم دم المسلم وماله - فذكره موقوفا، ولم يرفعه.
وهذه مثل رواية خالد بن الحارث التي ذكرها البخاري، عن ابن المديني، عنه، وقد جعلا ميمون بن سياه سائلا لأنس، ولم يذكرا أن حميدا رواه عن ميمون، ولعل قولهما أشبه.
وتابعهما معاذ بن معاذ على وقفه، إلا أنه جعله:((عن حميد، عن ميمون، عن أنس)) ، وهو الصحيح عند الإسماعيلي والدارقطني كما سبق.
وأما رفعه مع وصله، فقد حكى الدارقطني عن ابن المديني أنه أنكره.
وكذا نقل ابن أبي حاتم، عن أبيه، أنه قال: لا يسنده إلا ثلاثة أنفس: ابن المبارك ويحيى بن أيوب وابن سميع.
يشير إلى أن غيرهم يقفه ولا يرفعه، كذا قال.
وقد رواه أبو خالد الأحمر، عن حميد، عن أنس - مرفوعا.
خرج حديثه الطبراني وابن جرير الطبري.
وروى ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى المنذر بن ساوى:((أما بعد؛ فإن من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله والرسول)) .
خرجه أبو عبيد.
وهو مرسل.
وقد دل هذا الحديث على أن الدم لا يعصم بمجرد الشهادتين، حتى يقوم بحقوقهما، وآكد حقوقهما الصلاة؛ فلذلك خصها بالذكر. وفي حديث آخر أضاف إلى الصلاة الزكاة.
وذكر استقبال القبلة إشارة إلى أنه لا بد من الإتيان بصلاة المسلمين
المشروعة في كتابهم المنزل على نبيهم وهي الصلاة إلى الكعبة، وإلا فمن صلى إلى بيت المقدس بعد نسخه كاليهود أو إلى المشرق كالنصارى فليس بمسلم، ولو شهد بشهادة التوحيد.
وفي هذا دليل على عظم موقع استقبال القبلة من الصلاة؛ فإنه لم يذكر من شرائط الصلاة غيرها، كالطهارة وغيرها.
وذكره أكل ذبيحة المسلمين، فيه إشارة إلى أنه لا بد من التزام جميع شرائع الإسلام الظاهرة، ومن أعظمها أكل ذبيحة المسلمين، وموافقتهم في ذبيحتهم، فمن امتنع من ذلك فليس بمسلم.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتحن أحيانا من يدخل في الإسلام، وقد كان يرى في دينه الأول الامتناع من أكل بعض ذبيحة المسلمين، بإطعامه مما كان يمتنع من أكله؛ ليتحقق بذلك إسلامه.
فروي أنه عرض على قوم - كانوا يمتنعون في جاهليتهم من أكل القلب، ثم دخلوا في الإسلام - أكل القلب، وقال لهم:((أن إسلامكم لا يتم إلا بأكله)) .
فلو أسلم يهودي، وأقام ممتنعا من أكل ذبائح المسلمين، كان ذلك دليلا على عدم دخول الإسلام في قلبه، وهذا الحديث يدل على أنه لا يصير بذلك مسلما.
ويشهد لذلك: قول عمر فيمن أسلم من أهل الأمصار وقدر على الحج ولم
يحج، أنه هم بضرب الجزية عليهم، وقال: ما هم بمسلمين.
وحكي عن الحسن بن صالح، أن المسلم إذا أسلم بدار الحرب، وأقام بها مع قدرته على الخروج، فهو كالمشرك في دمه وماله، وأنه أن لحق المسلم بدار الحرب وأقام بها صار مرتدا بذلك.
وقوله: ((فذلك المسلم، له ذمة الله ورسوله)) . الذمة: العهد، وهو إشارة إلى ما عهده الله ورسوله إلى المسلمين بالكف عن دم المسلم وماله.
وقوله: ((فلا تخفروا الله في ذمته)) ، أي: لا تغدروا بمن له عهد من الله
ورسوله، فلا تفوا له بالضمان، بل أوفوا له بالعهد.
وهو مأخوذ من قولهم: أخفرت فلانا، إذا غدرت به، ويقولون: خفرته، إذا حميته.
29 - باب
قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق
وليس في المشرق ولا في المغرب قبلة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول، ولكن شرقوا أو غربوا)) .
مقصوده بهذا الباب: أن أهل المدينة ومن كان قريبا من مسامتهم كأهل الشام والعراق، فإن قبلتهم ما بين المشرق والمغرب من جهة الكعبة، وأن المشرق والمغرب ليس قبلة لهم، وما بينهما فهو لهم قبلة، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن استقبال القبلة بغائط أو بول، وأمرهم أن يشرقوا أو يغربوا، فدل على أن الشرق والغرب ليس لهم قبلة، وما بينهما فهو لهم قبلة.
وقد روى عن ابن عمر وسعيد بن جبير، أنهما قالا: ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المشرق.
وكذا قال الإمام أحمد: ما بين المشرق والمغرب قبلة لنا نحن أهل المشرق، ليس هي لأهل الشام ولا أهل اليمن.
ومراده بعض أطراف الشام.
وهذا هو مراد عمر بقوله: ما بين المشرق والمغرب قبلة.
وقد روي مرفوعا، إلا أنه ليس على شرط البخاري.
وقد قال أحمد: ليس له إسناد.
يعني أن في أسانيده ضعفا.
وقال مرة: ليس بالقوي. قال: وهو عن عمر صحيح.
وأقوى ما ورد فيه مسندا: حديث عبد الله بن جعفر المخرمي، عن عثمان ابن محمد الأخنسي، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما بين المشرق والمغرب قبلة)) .
خرجه الترمذي.
وقال حديث حسن صحيح.
والأخنسي، وثقه ابن معين وغيره. والمخرمي، خرج له مسلم، وقال ابن المديني: روى مناكير.
وخرجه ابن ماجه والترمذي - أيضا - من طريق
أبي معشر نجيح السندي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأبو معشر، ضعيف الحديث.
وتابعه عليه: علي بن ظبيان، فرواه عن محمد بن عمرو، كما رواه.
خرجه ابن عدي.
وعلي بن ظبيان، ضعيف - أيضا.
وفيه حديث مرسل:
رواه الإمام أحمد - في رواية ابنه صالح -، عن أبي سعيد مولى بني هاشم: حدثني سليمان بن بلال، قال: قال عمرو بن أبي عمرو: عن المطلب بن حنطب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ما بين المشرق والمغرب قبلة، إذا وجهت وجهك نحو البيت الحرام)) .
وروى عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، قال: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة.
وهذا هو الذي قال فيه أحمد: أنه صحيح عن عمر.
وقد رواه يحيى القطان وغير واحد، عن عبيد الله.
ورواه حماد
بن مسعدة، عن عبيد الله، وزاد فيه:((إلا عند البيت)) .
وروي عن ابن نمير وحماد بن سلمة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورفعه غير صحيح عند الدارقطني وغيره من الحفاظ.
وأما الحاكم فصححه، وقال: على شرطهما وليس كما قال.
وكذلك رواه محمد بن عبد الرحمان بن مجبر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا.
وابن المجبر، مختلف في أمره.
وقال أبو زرعة: هو وهم، والحديث حديث ابن عمر موقوف.
وروي هذا المعنى - أيضا - عن عثمان وعلي وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، ولا يعرف عن صحابي خلاف ذلك.
وكذلك قال إبراهيم وسعيد بن جبير: ما بين المشرق والمغرب
قبلة، زاد سعيد بن جبير: لأهل المشرق.
وقال مجاهد فيمن مال عن القبلة: لا يضره؛ ما بين المشرق والمغرب قبلة.
وقال الحسن فيمن التفت في صلاته: أن استدبر القبلة بطلت صلاته، وأن التفت عن يمينه أو شماله مضت صلاته.
وروي عن حميد بن عبد الرحمان، أنه أعاد صلاة صلاها في مسجد قيل له: إن في قبلته تياسرا.
ومذهب مالك: أنه أن علم في الصلاة أنه استدبر القبلة أو شرق أو غرب قطع وأبتدأ الصلاة، وأن علم بذلك بعد الصلاة أعاد في الوقت، وأن علم أنه انحرف يسيرا فلينحرف ال القبلة ويبني -: ذكره في ((تهذيب المدونة)) .
ومذهب أحمد: أن ما بين المشرق والمغرب قبلة، لم تختلف نصوصه في ذلك، ولم يذكر المتقدمون من أصحابه فيه خلافا، وإنما ذكره القاضي أبو يعلى ومن بعده وأخذوه من لفظ له محتمل ليس بنص ولا ظاهر، والمحتمل يعرض على كلامه الصريح، ويحمل عليه، ولا يعد مخالفا له بمجرد احتمال بعيد، ولكن الشافعي له قولان في المسألة،
وأما أحمد فلم يختلف قوله في ذلك، وقد صرح بمخالفة الشافعي فيه.
قال أحمد في رواية جعفر بن محمد: بين المشرق والمغرب قبلة، ولا يبالي مغرب الصيف ولا مغرب الشتاء، إذا صلى بينهما فصلاته صحيحة جائزة، إلا أنا نستحب أن يتوسط القبلة، ويجعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره، يكون وسطا بين ذلك، وأن هو صلى فيما بينهما، وكان إلى أحد الشقين أميل فصلاته تامة، إذا كان بين المشرق والمغرب، ولم يخرج بينهما.
ونقل عنه جماعة كثيرون هذا المعنى.
وروي عنه أنه سئل عن قوله: مابين المشرق والمغرب قبلة، فأقام وجهه نحو القبلة، ونحا بيده اليمنى إلى الشفق، واليسرى إلى الفجر، وقال: القبلة ما بين هذين.
وقال في رواية الأثرم: إذا طلعت الشمس من المشرق فقد ثبت أنه مشرق، وإذا غربت فقد ثبت أنه مغرب، فما بين ذلك لأهل المشرق، إذا كان متوجها إلى الكعبة.
وقد أنكر أن يكون المراد مشرق الشتاء خاصة، وقال: لا يبالي مغرب الشتاء ولا مغرب الصيف، إذا صلى بينهما فصلاته جائزة.
ومراده: أن ما بين أقصى المشارق إلى أقصى المغارب في الشتاء والصيف فهو
قبلة، والمستحب أن يصلي وسطا من ذلك.
ولم يرد أحمد أنه في كل فصل من فصول العام يصلي وسطا بين مشرق الشمس ومغربها فيه حينئذ؛ لأنه يلزم من ذَلكَ الانحراف إلى المشرق أو المغرب في بعض
الأزمان.
وإنما قَالَ أحمد هذا لأن الناس من فشر ((ما بين المشرق والمغرب قبلة)) بمشرق الشتاء ومغربه خاصة، منهم: أبو خيثمة وسليمان بن داود الهاشمي؛ فإن الشتاء لهُ مشرق ومغرب، والصيف كذلك، ولهذا ثناهما الله تعالى في قوله:{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17]، وجمعهما في قوله:{بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج:40] باعتبار مشارق الشتاء والصيف والخريف والربيع؛ فإن لكل يوم من السنة مطلعا مشرقا خاصا ومغربا خاصا، وأفردهما في قوله {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [الشعراء:28] باعتبار الجنس.
ونقل الأثرم، عن أحمد، أنه قيل له: قبلة أهل بغداد على الجدي؟ فجعل ينكر أمر الجدي، فقال: أيش الجدي؟ ولكن على حديث عمر: ((ما بين المشرق والمغرب قبلة)) .
ومراده: أن الاستدلال بالجدي وغيره من النجوم، كالقطب ونحوه لم ينقل عن السلف، وأنه لا يجب الاستدلال بذلك ولا مراعاته، وإنما المنقول عنهم الاستدلال بالمشرق والمغرب.
ولم يرد أن الجدي لا دلالة له على القبلة؛ فإنه قال في رواية أخرى عنه: الجدي يكون على قفاه - يعني: للمصلي -، وكلامه يدل على أن الاستدلال على العين بما يستدل به من يستدل على العين غير مستحب.
وقد تقدم نصه على أن من مال في صلاته إلى أحد الشقين، ولم يخرج عما بين المشرق والمغرب فصلاته تامة، وأن كان الأفضل أن يتوخى الوسط بينهما.
ويدل على ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم لما فتحوا الأمصار وضعوا قبل كثير منها على الجهة، بحيث لا يطابق ذلك سمت العين على الوجه الذي يعرفه أهل الحساب، وصلوا إليها، وأجمع المسلمون بعدهم على الصلاة إليها، وهذا يدل على أن تحرير حساب مسامة العين ليس هو الأفضل، فضلا عن أن يكون واجبا.
ولهذا؛ لما خالف في ذلك كثير من الفقهاء المتأخرين، واستحبوا مراعاة العين أو أوجبوه، واستدلوا على ذلك بالنجوم ونحوها رأوا أن كثيرا من قبل البلدان منحرفة عن القبلة، فأوجب لهم ذلك الحيرة والشك في حال سلف الأمة من الصحابة ومن بعدهم.
وقد أوجب بعضهم مراعاة ذلك وأمر بهدم كل قبلة موضوعة على خلافه، كما ذكره حرب
الكرماني، وهذا يفضي إلى تضليل سلف الأمة، والطعن في صلاتهم.
واستحب بعضهم الاستدلال بعروض البلدان وأطوالها ومراعاة ذلك في
الاستقبال، وأن لم يوجبوه كما قاله يحيى بن آدم وغيره.
والصحيح: ما قاله الإمام أحمد: أن ذلك كله غير مستحب مراعاته.
وبذلك يعلم أن من أوجب تعلم هذه الأدلة، وقال: أنه فرض عين أو كفاية - ممن ينتسب إلى الإمام أحمد - فلا أصل لقوله، وإنما تلقاه من قواعد قوم آخرين تقليدا
لهم.
ويدل على ذلك من الأدلة الشرعية: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا)) ، وخنس إبهامه في الثالثة، ثم قال:((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة)) .
فتبين أن ديننا لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب، كما يفعله أهل الكتاب من ضبط عباداتهم بمسير الشمس وحسباناتها، وأن ديننا في ميقات الصيام معلق بما يرى بالبصر وهو رؤية الهلال، فإن غم أكملنا عدة الشهر ولم نحتج إلى حساب.
وإنما علق بالشمس مقدار النهار الذي يجب الصيام فيه، وهو متعلق بأمر مشاهد بالبصر - أيضا -، فأوله طلوع الفجر الثاني، وهو مبدأ ظهور الشمس على وجه
الأرض، وآخره غروب الشمس.
كما علق بمسير الشمس أوقات الصلاة، فصلاة الفجر أول وقتها طلوع هذا الفجر، وآخره طلوع الشمس، وأول وقت الظهر زوال الشمس، وآخره مصير ظل كل شيء مثله، وهو أول وقت العصر، وآخره اصفرار الشمس أو غروبها، وهو أول وقت المغرب، وآخره غروب الشفق، وهو أول وقت العشاء، وآخره نصف الليل أو ثلثه، ويمتد وقت أهل الأعذار إلى طلوع الفجر، فهذا كله غير محتاج إلى حساب ولا كتاب.
وكذلك القبلة، لا تحتاج إلى حساب ولا كتاب، وإنما تعرف في المدينة وما سامتها من الشام والعراق وخراسان بما بين المشرق والمغرب.
ولهذا روي عن عثمان بن عفان، أنه قال: كيف يخطئ الرجل الصلاة - وما بين المشرق والمغرب قبلة - ما لم يتحيز المشرق عمدا.
وقد اجتمعت الأمة على صحة الصف المستطيل مع البعد عن الكعبة، مع العلم بأنه لا يمكن أن يكون كل واحد منهم مستقبلا لعينها بحيث أنه لو خرج من وسط وجهه خط مستقيم لوصل إلى الكعبة على الاستقامة، فإن هذا لا يمكن إلا مع التقوس ولو شيئا يسيرا، وكلما كثر البعد قل هذا التقوس لكن لابد منه.
ومن حكى عن الإمام أحمد رواية بوجوب التقوس لطرفي الصف الطويل فقد أخطأ، وقال عليه ما لم يقله، بل لو سمعه لبادر إلى إنكاره والتبري من قائله، وهو خلاف عمل المسلمين في جميع الأمصار والأعصار.
وأما قول الله عز وجل: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] .
وقول عمر: تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة والطريق.
وروي عنه، أنه قال: تعلموا من النجوم ما تهتدون به في بركم وبحركم، ثم أمسكوا.
فمراده - والله أعلم -: أنه يتعلم من النجوم الشرقية والغربية والمتوسطة ما يهتدى به إلى جهة القبلة بعد غروب الشمس، وفي حالة غيبوبة القمر، فيستدل بذلك على الشرق والغرب، كما يستدل بالشمس والقمر عليهما، ولم يرد - والله أعلم - تعلم ما زاد على ذلك، ولهذا أمر بالإمساك؛ لما يؤدي إلى التوغل في ذلك إلى ما وقع فيه المتأخرون من إساءة الظن بالسلف الصالح.
وقد اختلف في تعلم منازل القمر وأسماء النجوم المهتدى بها، فرخص فيه النخعي ومجاهد وأحمد، وكره قتادة وابن عيينة تعلم منازل القمر.
وقال طاوس: رب ناظر في النجوم، ومتعلم حروف أبي جاد ليس
له عند الله خلاق.
وروي ذلك عنه، عن ابن عباس.
قال البخاري رحمه الله:
394 -
حدثنا علي بن عبد الله، قال: ثنا سفيان: ثنا الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبرها، ولكن شرقوا أو غربوا)) .
قال أبو أيوب: فقدمنا الشام، فوجدنا مراحيض بنيت قبل القبلة، فننحرف، ونستغفر الله عز وجل.
وعن الزهري، عن عطاء: سمعت أبا أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
قد تقدم هذا الحديث في ((كتاب: الوضوء)) من وجه آخر عن الزهري، ولم يذكر فيه قول أبي أيوب، والرواية التي ذكرها آخرا مصرحة بسماع عطاء بن يزيد له من أبي أيوب. وقد سبق الكلام على الاختلاف في إسناده في ((أبواب: الوضوء)) .
وإنما ذكر هاهنا قول أبو أيوب ليدل على أن أبا أيوب - روي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قد فهم مما رواه أن القبلة المنهي عن استقبالها
هي جهة ما بين المشرق والمغرب، وأن الانحراف لا يخرج به عن استقبالها المنهي عنه، فلذلك احتاج مع ذلك إلى
الاستغفار.
وإذا ثبت أن القبلة المنهي عن استقبالها واستدبارها عند التخلي هي مابين المشرق والمغرب، فهي القبلة المأمور بأستقبالها في الصلاة - أيضاً.
و ((المراحيض)) ، قال الخطابي: هو جمع: مرحاض، وهو المغتسل، مأخوذ من رحضت الشيء إذا غسلته.
قلت: لما كانت بيوت التخلي بالشام يستعمل فيها الماء عادةً سميت: مغتسلاً، ولم يكن ذلك معتاداً في الحجاز، فإنهم كانوا يستنجون بالأحجار، فكانت المواضيع المعدة للتخلي بين البيوت تسمى عندهم: كنفاً.
والكنيف: السترة، وكل ما يستر فهو كنيف، ويسمى الترس كنيفاً لستره.
30 - باب
قول الله عز وجل: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}
[البقرة:125]
حديث عمر في سلب هذه الآية، قد خرجه البخاري فيما بعد، وسيأتي في موضعه قريبا - أن شاء الله تعالى.
وخرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
395 -
حدثنا الحميدي: ثنا سفيان: ثنا عمرو بن دينار، قال: سألنا ابن عمر عن رجل طاف بالبيت العمرة، ولم يطف بين الصفا والمروة، أيأتي امرأته؟ فقال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة، وقد كان لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.
396 -
وسألنا جابر بن عبد الله، فقال: لا يقربنها حتى يطوف بين الصفا
والمروة.
مقصوده من هذا الحديث هاهنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتمر طاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين، وكذلك فعل في حجته - أيضا.
وقد روى جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية عند صلاته خلف المقام:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] .
خرجه مسلم.
وهذا كله يدل على أن المراد بمقام إبراهيم في الآية: مقامه المسمى بذلك عند البيت، وهو الحجر الذي كان فيه اثر قدمه عليه السلام، وهذا قول كثير من المفسرين.
وقال كثير منهم: المراد بمقام إبراهيم: الحج كله.
وبعضهم قال: الحرم كله.
وبعضهم قال: الوقوف بعرفة، ورمى الجمار والطواف، وفسروا المصلى: بالدعاء، وهو موضع الدعاء.
وروي هذا المعنى عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما.
وقد يجمع بين القولين، بأن يقال: الصلاة خلف المقام المعروف داخل فيما أمر به من الإقتداء بإبراهيم عليه السلام مما في أفعاله في مناسك الحج كلها واتخاذها مواضع للدعاء وذكر الله.
كما قالت عائشة - وروي مرفوعا -: ((إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)) .
خرجه أبو داود والترمذي.
فدلالة الآية على الصلاة خلف مقام إبراهيم عليه السلام لا تنافي دلالتها على الوقوف في جميع مواقفه في الحج لذكر الله ودعائه والابتهال إليه. والله أعلم.
وبكل حال؛ فالأمر باتخاذ مقام إبراهيم مصلى لا يدخل فيه الصلاة إلى البيت إلا أن تكون الآية نزلت بعد الأمر باستقباله، وحديث عمر قد يشعر بذلك.
فيكون حينئذ مما أمر به من اتخاذ مقام إبراهيم مصلى: استقبال البيت الذي بناه في الصلاة إليه، كما كان إبراهيم يستقبله، وخصوصا إذا كانت الصلاة عنده.
وعلى هذا التقدير يظهر وجه تبويب البخاري على هذه الآية في ((أبواب استقبال القبلة)) ، وإلا ففيه قلق. والله أعلم.
الحديث الثاني:
397 -
حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن سيف، قال: سمعت مجاهدا قال: أتي ابن عمر فقيل له: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة. فقال ابن عمر: فأقبلت والنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج وأجد بلالاً قائما بين البابين، فسأله بلالاً، فقلت: أصلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ قال: نعم، ركعتين
بين الساريتين اللتين على يساره إذا دخلت، ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين.
((سيف)) : هو ابن أبي سليمان - ويقال: ابن سليمان - المكي مولى بني
مخزوم.
وقوله: ((قائما بين البابين)) ، هكذا في أكثر النسخ، وفي بعضها ((بين
الناس)) ، ولعله أصح.
وأن قيل: أن المراد قيامه في الموضع الذي هو بين البابين بعد فتحهما ـ الذي فعله ابن الزبير ـ اقتضى ذلك أن يكون واقفا في جوف الكعبة.
وقد خرج النسائي هذا الحديث، وفيه:((أنه وجد بلالا واقفا على الباب)) .
وهذا يدل على أنه لم يكن في الكعبة.
وخرجه البخاري في ((المغازي)) ، وعنده:((فوجد بلالا وراء الباب)) .
وهذا يدل على أنه لم يكن في وسط البيت.
وقوله: ((صلى ركعتين)) ، يخالف ما رواه نافع، عن ابن عمر، أنه قال نسيت أن أسأل بلالا كم صلى؟ وقد خرجه البخاري في موضع آخر.
والمقصود من هذا الحديث في هذا الباب: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من الكعبة ركعتين في وجه الكعبة، والمراد بوجه الكعبة: عند باب البيت.
ويأتي مزيد بيان لذلك فيما بعد - أن شاء الله تعالى.
الحديث الثالث:
398 -
ثنا إسحاق بن نصر: ثنا عبد الرزاق: ابنا ابن جريج، عن عطاء، قال: سمعت ابن عباس قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها، ولم يصل حتى خرج منه، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة، وقال ((هذه القبلة)) .
هكذا خرجه البخاري عن إسحاق بن نصر، عن عبد الرزاق.
وقد رواه أصحاب عبد الرزاق كلهم، منهم: الإمام أحمد، وإسحاق بن
راهويه، فجعلوه: عن ابن عباس، عن أسامة بن زيد.
وكذا رواه أصحاب ابن جريج وعنه، منهم: محمد بن بكر البرساني، وأبو عاصم، ويحيى بن سعيد وغيرهم.
فسقط من إسناد البخاري ذكر: ((أسامة بن زيد)) ، وقد نبه على ذلك الإسماعيلي والبيهقي.
لكن رواه همام، عن عطاء، عن ابن عباس، لم يذكر فيه:((أسامة)) .
وهذا مما كان ابن عباس يرسله احيانا، ويسنده احيانا.
وكذلك خرجه البخاري في ((الحج)) من حديث عكرمة، عن ابن عباس، إلا أن رواية عبد الرزاق، عن ابن جريج فيها ذكر ((أسامة)) ؛ فإسقاطه منها وهم.
وقد تعارض ما نقله ابن عمر، عن بلال، وما نقله ابن عباس، عن أسامة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة.
وقد روي عن ابن عمر، عن أسامة وبلال وعثمان بن طلحة، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة - أيضا -، بخلاف رواية ابن عباس، عن أسامة، وهو في رواية لمسلم في ((صحيحه)) على اختلاف وقع في لفظه خارج ((الصحيح)) ؛ فإن من رواة الحديث من أسند الصلاة فيها إلى بلال دون صاحبيه اللذين كانا معه في الكعبة.
وقد روي ذلك عن أسامة من وجهين آخرين.
خرجهما الإمام أحمد في ((المسند)) .
وقد اختلف الناس في الجمع بين إثبات صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة ونفيها:
فمنهم: من حمل الصلاة على الصلاة اللغوية، وهي الدعاء، وجمعوا بذلك بين حديثي أسامة وبلال، لا سيما وقد روي عن أسامة إثبات الصلاة ونفيها.
والأكثرون حملوا الصلاة على الصلاة الشرعية، وهو الأظهر.
ثم اختلفوا:
فمنهم: من رجح حديث الإثبات على حديث النفي، وقال: مع تعارض النفي والإثبات يقدم الإثبات؛ لأن المثبت معه زيادة علم خفيت على النافي، وهذه طريقة الشافعي وأحمد وغيرهما من العلماء.
وذكر الأزرقي في ((كتابه)) ، عن عبد العزيز بن أبي رواد، قال بلغني أن الفضل بن عباس دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة، فجاء وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره فلذلك كان ينكر أنه صلى.
وحديث الفضل في إنكاره الصلاة، قد خرجه الإمام أحمد من رواية أخيه
عبد الله، عنه.
ومنهم: من قال: المثبت للصلاة أراد به صلاته في عام الفتح، والنافي لها أراد صلاته في حجة الوداع، وهذا قول ابن حبان.
وهو ضعيف جدا؛ لوجهين:
أحدهما: أن ابن عباس لم ينفي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة في وقت دون وقت، بل كان ينكر ذلك جملة، وكان يكره الصلاة في الكعبة، ويقول: لا يستدبر من البيت شيء.
والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة في حجة الوداع بالكلية حتى يقال أنه دخل ولم يصل، وابن عباس قال: أنه دخل ودعا ولم يصل.
وقد اختلف العلماء في حكم الصلاة في الكعبة:
فكان ابن عباس يكره الصلاة فيها بكل حال: الفرض والنفل وهو قول طاوس، وأصبغ من المالكية، وابن جرير الطبري.
وقالت طائفة: تجوز فيها صلاة الفرض والنفل، وهو قول الثوري، وأبي حنيفة، والشافعي.
وقالت طائفة: يصلي فيها النفل دون الفرض، وهو قول عطاء، ومالك، وأحمد في ظاهر مذهبه.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها نفلا والنوافل يخفف فيها في استقبال القبلة دون
الفرائض، بدليل صحة النفل على الراحلة في السفر إلى غير القبلة، واما الفرض فلا يجوز إلى القبلة مع القدرة، فيشترط له استقبال جميع البيت، وأن لا يكون مستدبرا لشيء
منه.
وقال أحمد: إذا صلى فيها لا يصلي إلى أي جهة شاء، بل يستقبل الجهة التي استقبلها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تجاه الباب إذا دخل، ويجعل الباب وراء ظهره.
ولم يرخص في الصلاة فيها إلا على هذا الوجه، وحمل أصحابنا ذلك على الاستحباب، وفيه نظر.
وقوله: ((ركع ركعتين في قبل القبلة)) ، قبل - بضم الباء، ويجوز
إسكانها -، والمراد به: وجه الكعبة، كما في حديث ابن عمر المتقدم. وقد تقدم أن المراد به: عند باب البيت.
وقد روي أنه المقام الذي أم فيه جبريل النبي صلى الله عليه وسلم -
عند فرض الصلاة.
خرجه الأزرقي من حديث مسلم بن خالد، عن عبد الرحمان بن الحارث، عن حكيم بن حكيم، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((أمني جبريل عند باب الكعبة مرتين)) .
وكذا خرجه ابن وهب في ((مسنده)) عن يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر، عن عبد الرحمان بن الحارث، به.
وقد خرجه أبو داود والترمذي، وعندهما:((أمني جبريل عند البيت مرتين)) .
وروى ابن جرير من طريق عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: البيت كله قبلة، وقبلة البيت الباب.
وروى الأزرقي بإسناده عن ابن أبي نجيح، قال: قال عبد الله بن عمرو بن العاص: البيت كله قبلة، وقبلته وجهه، فإن أخطأك وجهه فقبلة النبي صلى الله عليه وسلم، وقبلته ما بين الميزاب إلى الركن الشامي الذي يلي المقام.
وكأنه يريد أن هذه الجهة هي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليها وهو بالمدينة، فإنها قبلة أهل المدينة.
وروى - أيضا - بإسناده عن ابن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن ابن السائب، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح في
وجهة الكعبة، حذو الطرقة البيضاء، ثم رفع يديه، فقال:((هذه القبلة)) .
وخرج الإمام أحمد من طريق ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، أن ابن عباس كان يخبر، أن الفضل بن عباس أخبره، أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم البيت، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في البيت حين دخل، ولكنه لما خرج فنزل ركع ركعتين عند باب البيت.
وخرج النسائي من حديث عطاء، عن أسامة، أنه دخل هو والنبي صلى الله عليه وسلم البيت، ثم خرج فصلى ركعتين مستقبل وجهة الكعبة، فقال:((هذه القبلة، هذه القبلة)) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((هذه القبلة)) ، قال ابن جرير: مراده: أن الكعبة هي القبلة، وأن قبلة الكعبة الباب.
وقد صرح جماعة من العلماء، منهم: سفيان الثوري بأن الصلاة إلى جهة الباب عند البيت أفضل من الصلاة إلى جهة أخرى، وأن وقوف الإمام عند الباب أفضل.
وقال الخطابي: يحتمل أنه أراد أنه قد استقر أمر هذه القبلة فلا ينسخ كما نسخ بيت المقدس، ويحتمل أن يكون علمهم السنة في مقام الإمام واستقبال البيت من جهة الكعبة، وأن كانت الصلاة من جهاتها
جائزة، ويحتمل أن يكون دل به على أن حكم من شاهد البيت وعاينه في استقباله حسا خلاف حكم من غاب عنه، فيصلي إليه توخيا واستدلالا.
وزعم غيره: أن مراده: أن القبلة هي الكعبة نفسها، لا المسجد ولا الحرم، وهذا قاله بعض من يرى أن الواجب على البعيد الاستدلال على العين.
وقول الخطابي أصح من هذا. والله أعلم.
وقد اختلف الناس في مقام إبراهيم الذي صلى النبي صلى الله عليه وسلم وراءه ركعتين في حجه وعمرته: هل كان عند باب البيت؟ أم كان في مكانه الآن؟ على قولين:
أحدهما: أنه كان في مكانه الآن، وهذا قول ابن أبي مليكة وعمرو بن دينار وسفيان بن عيينة، ولم يذكر الأزرقي غير هذا القول.
وروى شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، قال: كان المقام إلى لزق البيت، فقال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو نحيته من البيت ليصلي الناس إليه، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانزل الله عز وجل:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى} [البقرة:125] .
وذكر موسى بن عقبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخره في يوم الفتح إلى مكانه الآن، وكان ملصقا بالبيت.
فعلى هذا: يكون النبي قد صلى وراءه في موضعه الآن في حجته، وأما في عمرة القضية فصلى وراءه عند البيت.
والقول الثاني: أنه كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ملصقا بالبيت، وإنما أخره عمر إلى مكانه الآن، هذا قول عروة بن الزبير، رواه هشام بن عروة، عن أبيه.
وروي عنه، عن أبيه، عن عائشة.
وروى الإمام أحمد عن عبد الرزاق، عن ابن جريج،: سمعت عطاء وغيره من أصحابنا يزعمون أن عمر أول من وضع المقام في موضعه الآن، وإنما كان في قبل
الكعبة.
وعن عبد الرزاق، عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، قال: كان المقام إلى جنب البيت، كانوا يخافون عليه، من السيول، وكان الناس يصلون خلفه، فقال عمر للمطلب: هل تدري أين كان موضعه الأول؟ قال: نعم، فوضعه موضعه الآن.
وروي - أيضا - نحوه عن ابن عيينة، خلاف قوله الأول.
وقال مالك: كان المقام في عهد إبراهيم عليه السلام في مكانه الآن، وكان أهل الجاهلية ألصقوه إلى البيت خيفة السيل، فكان كذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فلما ولي عمر وحج رده إلى موضعه الذي هو فيه
اليوم، بعد أن قاس موضعه بخيوط قديمة كانت في خزائن الكعبة، قيس بها حين أخر -: ذكر ذلك صاحب ((تهذيب المدونة)) .
وذكر ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح ركعتي الطواف خلف المقام، وهو لاصق بالبيت.
فعلى هذا؛ يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى في قبل الكعبة وقال: ((هذه القبلة)) أشار إلى المقام الذي أمر الله باتخاذه مصلى.
وقد ورد هذا في رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح الكعبة وأخرج مقام إبراهيم، وكان في الكعبة فألزقه إلى حائط الكعبة، ثم قال:((أيها الناس، هذه القبلة)) .
خرجه ابن مردويه.
والكلبي، متروك لا يحتج به.
وقد ذهب قوم إلى أنه يستحب صلاة ركعتي الطواف في قبل البيت حيث كان المقام عندهم.
فروى عبد الرزاق، عن جعفر، عن عطاء بن السائب، أنه رأى سالم بن
عبد الله طاف مع هشام بن عبد الملك، فلما فرغا من طوافهما ذهب هشام ليركع عند
المقام، فأخذ سالم بيده، وقال: هاهنا، فانطلق به إلى قبل البيت، فترك من كسوته ثلاث شقاق مما يلي الحجر، ثم استقبل
الرابعة، ثم صلى إليها، ثم قال: أن المقام كان هاهنا ليس بينه وبين البيت إلا مقدار أربع أذرع، فلما كثر الناس وتضيقوا حمله عمر فجعله هاهنا في هذا المكان الذي هو فيه.
وقد روي: أن الناس كانوا يصلون إلى جانب البيت، وأن أول من صلى خلف المقام عمر في خلافته.
روى الإمام أحمد في ((كتاب المناسك)) عن عبد الرزاق، عن معمر، عن
هشام، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر - بعض خلافته - كانوا يصلون إلى صقع البيت، حتى صلى عمر خلف المقام.
وعن أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت صلى الركعتين إلى صقع البيت.
قال أبو معاوية: يعني: حائط البيت. قال: وفعل ذلك أبو بكر، ثم فعل ذلك عمر شطرا من خلافته، ثم قال:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] ، فصلى إلى المقام، فصلى الناس بعده.
وهذا يوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل إلى المقام، وهذا باطل يرده حديث ابن عمر وجابر كما تقدم، وهذا يناقض ما قاله عروة: أن المقام كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ملصقا بالبيت، فكيف يكون كذلك ثم يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر صليا عند البيت، ولم يصليا خلف المقام إلى أن صلى خلفه عمر؟ فقد اضطرب قول عروة في هذا واختلف.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا خطب بالمسجد الحرام عند باب الكعبة.
وروي أنه خطب يوم الفتح على درج باب الكعبة.
وفي ((المسند)) ، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب وظهره إلى الملتزم.
ولم يكن بمكة منبر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر الأزرقي في ((كتابه)) عن جده، عن عبد الرحمان بن حسن، عن
أبيه، قال: أول من خطب بمكة على منبر معاوية بن أبي سفيان، قدم به من الشام سنة حج في خلافته، منبر صغير على ثلاث درجات، وكانت الخلفاء والولاة قبل ذلك يخطبون يوم الجمعة على أرجلهم قياما في وجه الكعبة وفي الحجر.
31 - باب
التوجه نحو القبلة حيث كان
وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((استقبل القبلة وكبر)) .
مراده بهذا الباب: أن القبلة يجب التوجه إلى نحوها حيث كان المصلي من أقطار الأرض في حضر أو سفر، كما دل عليه قوله تعالى:{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:150] .
وحديث أبي هريرة الذي أشار إليه، هو قول النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته لما علمه الصلاة:((إذا قمت إلى صلاتك فاستقبل القبلة وكبر)) .
وقد خرجه مسلم بهذا اللفظ.
وخرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
399 -
حدثنا عبد الله بن رجاء: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن
البراء، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس ستة عشر - أو سبعة عشر - شهرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه إلى الكعبة، فأنزل الله عز وجل:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:144] ، فتوجه نحو الكعبة، وقال السفهاء من الناس - وهم اليهود -:{مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142] ، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رجل، ثم خرج بعدما صلى، فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر يصلون نحو بيت المقدس، فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه توجه نحو الكعبة، فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة.
قد تقدم هذا الحديث في ((كتاب: الإيمان)) ، فإن البخاري خرجه في ((باب: الصلاة من الإيمان)) عن عمرو بن خالد، عن زهير، عن أبي إسحاق، بأتم من هذا السياق، واستوفينا الكلام على فوائده هنالك بما فيه كفاية.
الحديث الثاني:
400 -
حدثنا مسلم بن إبراهيم: ثنا هشام: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن
عبد الرحمان، عن جابر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته حيث توجهت به، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة.
محمد بن عبد الرحمان، هو: ابن ثوبان.
والمراد من هذا الحديث هاهنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي المكتوبة إلا على الأرض مستقبل القبلة، فأما صلاة الفريضة على الأرض فواجب لا يسقط إلا في صلاة شدة الخوف، كما قال تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة:239] .
وهل يسقط في الطين أو في المرض؟ فيه قولان مشهوران للعلماء هما روايتان عن أحمد.
وفي ذلك أحاديث وآثار يطول ذكرها ربما تذكر في موضع آخر - أن شاء الله تعالى.
ولو صلى قائما في محمل على ظهر دابة، فهل تصح صلاته؟
حكى أصحابنا في ذَلكَ روايتين عن أحمد، وللشافعية وجهان، ومنهم من فرق بين أن تكون الدابة واقفة فتصح، وسائرة فلا تصح.
وحكى بعض أصحابنا الخلاف - أيضا - في الصلاة في السفينة لمن قدر على الخروج منها إلى الأرض، ولم يشق على أصحابه.
ولأصحابنا وجهان في صحة الصلاة على العجلة - أيضا.
ومن الشافعية من حكى الإجماع على صحة الصلاة في السفينة قائما، ولكن حكى في الصلاة في الزورق الجاري وجهين، ففرق بين السفينة والزورق، وهو الصغير من السفن.
ولا فرق في الصلاة بين النساء والرجال.
وخرج أبو داود من رواية النعمان بن المنذر، عن عطاء بن أبي رباح، قال: سألت عائشة: هل رخص للنساء أن يصلين على الدواب؟ قالت: لم يرخص لهن في شدة ولا رخاء.
وأما ما خرجه بقي بن مخلد في ((مسنده)) : ثنا أبو كريب: ثنا يونس: ثنا عنبسة بن الأزهر، عن أبي خراش، عن عائشة، قالت: كنا إذا سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤمر إذا جاء وقت الصلاة أن نصلي على رواحلنا.
فهو حديث لا يثبت، وعنبسة بن الأزهر: قال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به. وأبو خراش: لا يعرف. ويونس، هو: ابن بكير، مختلف
في أمره.
وأما استقبال القبلة في صلاة الفريضة، ففرض مع القدرة لا يسقط إلا في حال شدة الخوف - أيضا -، ويأتي في موضعه - أن شاء الله تعالى.
وكذلك يسقط في حق من كان مربوطا إلى غير القبلة، أو مريضا ليس عنده من يديره إلى القبلة فيصلي بحسب حاله.
وفي إعادته خلاف. والصحيح عند أصحاب الشافعي: أن عليهم الإعادة، والصحيح عند أصحابنا: أنه لا إعادة عليهم، وعند المالكية: يعيد في الوقت إذا قدر، ولا يعيد بعده.
وأما حكم الصلاة النافلة على الراحلة، فيأتي في موضعه - أن شاء الله تعالى.
الحديث الثالث:
401 -
حدثنا عثمان: ثنا جرير: عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: قال عبد الله: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إبراهيم: لا أدري زاد أو نقص -، فلما سلم، قيل: يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيء؟ قال:
((وما ذاك؟)) قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجله، واستقبل القبلة، وسجد سجدتين، ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه قال:((أنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم فليتحر الصواب فليتم عليه، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين)) .
المقصود من هذا الحديث هاهنا: أن من سها في صلاته وسلم وهو ناس، ثم ذكر بعد سلامه، فإنه يسجد للسهو ويستقبل القبلة، فإن سجود السهو من تمام الصلاة، ولو كان بعد السلام فهو جزء من الصلاة، فيشترط له استقبال القبلة كالصلاة.
ويؤخذ من ذلك: أنه لا يسجد للتلاوة ولا للشكر إلا إلى القبلة، وهذا على قول من اعتبر الطهارة لذلك - وهم جمهور المسلمين - ظاهر، وأما من لم يعتبر الطهارة له - كما سيأتي في موضعه -، فإنه لا يوجب استقبال القبلة له - أيضا - وكذلك صلاة الجنازة.
وقد حكي أن بعض المتقدمين كان يرى أنها دعاء، فلا يشترط لها الوضوء، فقيل له: فتفعل إلى غير القبلة؟ فرجع عن قوله.
32 - باب ما جاء في القبلة، ومن لم ير الإعادة على من سها
فصلى إلى غير القبلة
وقد سلم النبي صلى الله عليه وسلم في ركعتي الظهر، فأقبل على الناس بوجهه، ثم أتم ما بقي.
خرج فيه ثلاث أحاديث:
الحديث الأول:
قال:
402 -
حدثنا عمرو بن عون: ثنا هشيم، عن حميد، عن انس، قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] ، وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله، لو أمرت نسائك أن يحتجبن؛ فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنّ} [التحريم:5] ، فنزلت هذه الآية.
وقال ابن أبي مريم: أبنا يحيى بن أيوب: حدثني حميد، قال: سمعت أنسا -
بهذا.
هذا الحديث مشهور عن حميد، عن انس، وقد خرجه البخاري - أيضا - في ((التفسير)) من حديث يحيى بن سعيد، عن حميد.
ورواه - أيضا - يزيد بن زريع وابن علية وابن أبي عدي وحماد بن سلمة
وغيرهم، عن حميد، عن انس.
وإنما ذكر البخاري رواية يحيى بن أيوب: حدثني حميد، قال: سمعت أنسا؛ ليبين به أن حميدا سمعه من انس؛ فإن حميدا يروي عن انس كثيرا.
وروي عن حماد بن سلمة، أنه قالَ: أكثر حديث حميد لم يسمعه من انس، إنما سمعه من ثابت، عنه.
وروي عن شعبة، أنه لم يسمع من انس إلا خمسة أحاديث.
وروي عنه، أنه لم يسمع منه إلا بضعة وعشرين حديثا.
وقد سبق القول في تسامح يحيى بن أيوب والمصريين والشاميين في
لفظة: ((ثنا)) -: كما قاله الإسماعيلي.
وقال علي بن المديني في هذا الحديث: هو من صحيح الحديث.
ولم يخرج مسلم هذا الحديث، إنما خرج من رواية سعيد بن عامر، عن
جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، قال: وافقت ربي في ثلاث: في
الحجاب، وفي أسارى بدر، وفي مقام إبراهيم.
وقد أعله الحافظ أبو الفضل ابن عمار الشهيد رحمه الله بأنه روى عن سعيد بن عامر، عن جويرية، عن رجل، عن نافع، أن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث. فدخل في إسناده رجل مجهول، وصار منقطعا.
وروى ابن أبي حاتم من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن ابن جريج، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: سمعت جابرا يحدث عن حجة الوداع، قال: لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له عمر: هذا مقام إبراهيم؟ قال: ((نعم)) ، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] .
وهذا غريب، وهو يدل على أن هذا القول كان في حجة الوداع، وأن
الآية نزلت بعد ذلك، وهو بعيد جدا، وعبد الوهاب ليس بذاك المتقن.
وقد خالفه الحفاظ، فرووا في حديث حجة الوداع الطويل، عن جعفر بن
محمد، عن أبيه، عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى المقام، وقرا:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] ثُمَّ صلى ركعتين، والمقام بينه وبين البيت.
وروى الوليد بن مسلم عن مالك، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر، قال: لما وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم، قال له عمر: يا رسول الله، هذا مقام إبراهيم الذي قال الله:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] ؟ قال: ((نعم)) .
قال الوليد: قلت لمالك: هكذا حدثك؟ قال: نعم.
وقد خرجه النسائي بمعناه.
والوليد، كثير الخطأ -: قاله أبو حاتم وأبو داود وغيرهما.
وذكر فتح مكة فيه غريب أو وهم؛ فإن هذه قطعة من حديث جابر في حجة الوداع.
وقد روي حديث انس، عن عمر من وجه آخر:
خرجه أبو داود الطيالسي: ثنا حماد بن سلمة: ثنا علي بن زيد، عن انس، قال: عمر:
وافقت ربي في أربع - فذكر الخصال الثلاث المذكورة في حديث حميد، إلا أنه قال في الحجاب: فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]، قال: ونزلت هذه الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ
طِينٍ} [المؤمنون:12]، فلما نزلت قلت أنا: تبارك الله أحسن الخالقين، فنزل:
{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] .
وقول عمر: ((وافقت ربي في ثلاث)) ، ليس بصيغة حصر، فقد وافق في أكثر من هذه الخصال الثلاث والأربع.
ومما وافق فيه القرآن قبل نزوله: النهي عن الصلاة على المنافقين.
وقوله لليهود: من كان عدوا لجبريل، فنزلت الآية.
وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم لما اعتزل نساءه ووجد عليهن: يا رسول الله، أن كنت
طلقتهن، فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. قال عمر: وقل ما تكلمت - وأحمد الله - بكلام إلا
رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول، فنزلت آية التخيير:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنّ} [التحريم:5] الآية.
وقد خرج هذا الأخير مسلم من حديث ابن عباس، عن عمر.
وأما موافقته في النهي عن الصلاة على المنافقين؛ فمخرج في ((الصحيحين)) من حديث ابن عباس، عن عمر - أيضا.
وأما موافقته في قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} [البقرة:97]، فرواه: أبو جعفر الرازي، عن حصين بن عبد الرحمان، عن ابن أبي ليلى، عن عمر ورواه: داود، عن الشعبي، عن عمر، وهما منقطعان.
وقد روي موافقته في خصال آخر، وقد عد الحافظ أبو موسى المديني من ذلك اثنتي عشرة خصلة.
وتخريج البخاري لهذا الحديث في هذا الباب: يدل على أنه فسر قوله
تعالى:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] بالأمر بالصلاة إلى البيت الذي بناه إبراهيم، وهو الكعبة، والأكثرون على خلاف ذلك، كما سبق ذكره.
الحديث الثاني:
قال:
403 -
حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن
عبد الله بن عمر، قال: بينا للناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت، فقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة.
وقد تقدم في حديث البراء أن هذه القصة كانت في صلاة العصر، وفي حديث ابن عمر أنها كانت في صلاة الصبح.
وقد قيل: أن أهل قباء لم يبلغهم ذلك إلى الصبح، ومن دونهم إلى المدينة بلغهم في العصر يوم النسخ.
وفي هذا بعد، وقد سبق ذكره في الكلام على حديث البراء في ((كتاب: الإيمان)) .
ومقصود البخاري بهذا الحديث في هذا الباب: أن من صلى إلى غير القبلة لعذر، مثل أن يظن أن القبلة في جهة فيصلي إليها، ثم تبين له أن جهة القبلة غيرها، إما في الصلاة أو بعد تمامها، فإنه لا إعادة عليه، وأن كان قد صلى إلى غير القبلة سهوا، فإنه استند إلى ما يجوز له الإسناد إليه عند اشتباه القبلة، وهو اجتهاده، وعمل بما أداه اجتهاده إليه، فلا يكون عليه إعادة.
كما أن أهل قباء صلوا بعض صلاتهم إلى بيت المقدس، مستصحبين ما أمروا به من استقبال بيت المقدس، ثم تبين لهم أن الفرض تحول إلى الكعبة، فبنوا على صلاتهم وأتموها إلى الكعبة.
وهذا هو قول جمهور العلماء، منهم: ابن المسيب، وعطاء، والحسن،
والشعبي، والثوري، وابن المبارك، وأبو حنيفة، والشافعي - في القديم -، وأحمد في ظاهر مذهبه، حتى قال أبو بكر عبد العزيز: لا يختلف قوله في ذلك، وهو قول إسحاق والمزني.
وقال مالك والأوزاعي: يعيد في الوقت، ولا يعيد بعده.
قال ابن عبد البر: وهذا على الاستحباب دون الوجوب.
وقال الشافعي - في الجديد -: يجب عليه أن يعيد.
وعليه عامة أصحابه، وهو قول المغيرة المخزومي من المالكية، وحكاه بعض أصحابنا رواية عن أحمد.
وفرقوا بين هذا وبين أهل قباء، بأن أهل قباء لم يعتمدوا في صلاتهم على اجتهاد يحتمل الخطأ، بل على نص تمسكوا به، والناسخ له لم
يبلغهم إلا في أثناء الصلاة.
فإن قيل: أن النسخ لا يثبت في حقهم إلا بعد بلوغهم، فلم يثبت في حقهم إلا في أثناء صلاتهم، فلذلك بنوا على ما مضى منها.
وأن قيل: يثبت في حقهم قبل ذلك، فقد تمسكوا بنص لا يجوز لهم تركه ولا الاجتهاد في خلافه، ولا يلزمهم البحث عن استمراره، فلا ينسبون إلى تفريط، بخلاف المجتهد المخطئ.
ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن أهل قباء قد صح أنهم بلغهم ذلك في صلاة الصبح، وقد ثبت بحديث البراء أن القبلة حولت في العصر، وبينهما زمان طويل، في مثله تنتشر الحوادث المهمة الواقعة، ولا سيما مثل هذه الحادثة المتعلقة بالصلاة، فإذا لم ينسبوا ذلك إلى نوع التفريط، فالمجتهد في طلب القبلة بما يسوغ له الاعتماد عليه أولى أن لا ينسب إلى تفريط وتقصير، إذا استفرغ جهده في الاستدلال والطلب، فإن ذلك يقع في الأسفار كثيرا، فالأمر بالإعادة يشق بخلاف الأمر بإعادة صلاة واحدة.
هذا حكم من خفيت عليه القبلة واجتهد في طلبها وأخطأ.
فإن تعذر الاجتهاد لظلمة ونحوها أو فقدت الأمارات أو تعارضت، وصلى بحسب حاله، ففي الإعادة وجهان لأصحابنا، أصحهما: لا يعيد، وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وغيرهما، لأنه شرط عجز عنه فسقط كالطهارة والسترة، وكذا الجاهل بأدلة القبلة، إذا لم يجد من يسأله.
ومن أصحابنا من قال: لا إعادة عليه، وجها واحدا.
وهذا كله في السفر.
فأما في الحضر فلو أخطأ فيه القبلة أعاد عند الثوري، واحمد في ظاهر مذهبه.
الحديث الثالث:
404 -
حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر خمسا، فقالوا: أزيد في الصلاة؟ قال: ((وما ذاك؟)) قالوا: صليت خمسا، فثنى رجليه، فسجد سجدتين.
قد بين البخاري في أول الباب وجه الاستدلال بحديث سجود السهو على أن السهو عن استقبال القبلة لا يبطل الصلاة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من ركعتين في الظهر وأقبل على الناس بوجهه ثم أتم ما بقي، وهذا إشارة منه إلى حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين.
وقد خرجه البخاري في ((أبواب سجود السهو)) ، لكن ليس عنده أنه أقبل على الناس بوجهه، وإنما فيه: أنه قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها.
وفي ((صحيح مسلم)) أنه أتى جذعا في قبلة المستجد فاستند إليها.
وهذا يدل على أنه ولى ظهره إلى القبلة واستقبل الناس بوجهه، إلا أن يكون استند إليها وظهره إلى الناس ووجهه إلى القبلة.
وإنما يعرف لفظ: ((ثم أقبل على الناس بوجهه)) في حديث ابن مسعود
الذي خرجه البخاري هاهنا.
وقد خرجه النسائي من طريق شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الظهر، ثم أقبل عليهم بوجهه، فقالوا: أحدث في الصلاة حدث؟ قال: ((وما ذاك؟)) فأخبروه بصنيعه، فثنى رجليه، واستقبل القبلة، فسجد سجدتين، ثم سلم.
ولكن هنا لم يكن قد بقي عليه غير سجدتي السهو، على تقدير أن يكون زاد في الصلاة؛ فإن إبراهيم شك: هل كان زاد فيها أو نقص، كذا في ((صحيح مسلم)) التصريح بأن هذا الشك من إبراهيم.
وفي صحيح مسلم - أيضا -، عن عمران بن حصين، قال: سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث ركعات من العصر، ثم قام فدخل الحجرة، فقام رجل بسيط اليدين، فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله؟ فخرج مغضبا، فصلى الركعة التي كان ترك، ثم سلم، ثم سجد سجدتي السهو، ثم سلم.
ودخوله الحجرة يلزم منه الانحراف عن القبلة بالكلية؛ لأن الحجرة كانت عن يساره.
ومقصود البخاري: أن استدبار القبلة والانحراف عنها في الصَّلاة سهوا عن غير تعمد لا تبطل به الصَّلاة، كما دل عليه حديث سجود
السهو، وقد نص عليه أحمد وغيره، فيستدل بذلك على أن من صلى إلى غير القبلة عن غير تعمد أنه لا تبطل صلاته بذلك، ولا إعادة عليه، والله أعلم.
ورواية النسائي لحديث ابن مسعود يستدل بها على أن من نسي سجود السهو حتى سلم ثم ذكر فإنه يسجد، وأن كان قد صرف وجهه عن قبلته، وهو قول
الجمهور، خلافا للحسن وابن سيرين في قولهما: لا يسجد حينئذ.
وقصة ذي اليدين يستدل بها على أن كلام الناسي لا يبطل؛ كما هو قول الشافعي، وأحمد في إحدى الروايات عنه.
وعلى أن العمل الكثير في الصلاة نسيانا يعفى عنه، وهو رواية عن أحمد، وقول للشافعي.
واستدل به بعضهم: على أن من سلم من نقصان فإنه يبني على ما مضى من صلاته، وأن طال الفصل، وهو قول الأوزاعي وغيره.
وسيأتي ذكر ذلك مفصلا في موضعه - أن شاء الله تعالى.
33 - باب
حك البزاق باليد من المسجد
لما ذكر البخاري رحمه الله أبواب استقبال القبلة في الصلاة أتبعها بما تصان منه قبلة المصلي التي يصلي إليها، من البصاق ونحوه.
وخرج الحديث في هذا الباب ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
405 -
حدثنا قتيبة: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة، فشق ذلك عليه حتى رئي ذلك في وجهه، فقام فحكه بيده، فقال:((إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه - أو أن ربه بينه وبين القبلة -، فلا يبزقن أحدكم قبل قبلة، ولكن عن يساره أو تحت قدمه)) وثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه، ثم رد بعضه على بعض، فقال:((أو يفعل هكذا)) .
وخرجه البخاري في موضع آخر من ((كتابه)) من طريق زهير، عن حميد.
ولم يخرجه مسلم؛ لما تقدم من قول حماد بن سلمة: أكثر
ما رواه حميد، عن أنس لم يسمعه منه، إنما سمعه من ثابت.
وقد قال ذلك في هذا الحديث بخصوصه، فذكر علي بن المديني، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: كان حماد بن سلمة يقول: حديث حميد عن انس، أن النبي صلى الله عليه وسلم بزق في ثوبه، ثم دلك بعضه ببعض، إنما رواه حميد، عن ثابت، عن أبي حمزة. قال يحيى: ولم يقل شيئا؛ هذا قد رواه قتادة عن أنس.
فجعل يحيى القطان رواية قتادة عن أنس لهذا الحديث شاهدة لرواية حميد عن
أنس، وأن لم يصرح بسماعه منه، واكتفى بذلك.
وتبعه البخاري على ذلك، وقد خرج حديث قتادة عن أنس فيما بعد.
وقد أشار البخاري في ((كتاب: الوضوء)) في ((باب: البصاق والمخاط يصيب الثوب)) أن سعيد بن أبي مريم روى هذا الحديث، عن يحيى بن أيوب وعن حميد: سمعت أنسا، فذكره، فصرح فيه بالسماع.
وقد تقدم القول في قول يحيى بن أيوب: ((ثنا)) .
وهذا الحديث دال على كراهة أن يبصق المصلي في قبلة التي يصلي إليها، سواء كان في مسجد، أو لا، فإن كان مسجد تأكدت الكراهة بأن البزاق في المسجد
خطيئة، كما يأتي الحديث بذلك في بابه، فإن كان
في قبلة المسجد كان اشد كراهة.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور: أن تنظف وتطيب، وسنذكره في موضع آخر - أن شاء الله.
وقد فسر قول الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] : ببنائها وتطهيرها وتنزيهها عما لا يليق بها.
وفي الحديث: نهى المصلي أن يبزق وهو في الصلاة قبل قبلته بكل حال، وليس فيه التصريح بالنهي عن أن يبزاق عن يمينه، وورد التصريح به في أحاديث آخر، وهو يفهم من أمره بأن يبزق عن يساره أو تحت قدمه أو في طرف ردائه.
وذكر اليسار وتحت القدم بلفظه، والبصاق في طرف ردائه بينه بفعله وفكان دليلا على طهارة البزاق، وهو رد على من قال بنجاسته، كما سبق ذكره في ((أبواب: الوضوء)) ودليلا على أن تلويث طرف الثوب بالبزاق لحاجة إليه ليس مما ينبغي استقذاره والتنزه منه؛ فلهذا بينه بالفعل مع القول.
وفي هذا الحديث: أنه حكه بيده، فيحتمل أنه أراد أنه باشر ذلك
بنفسه، ولم يوله غيره من أصحابه، وبهذا فسره الإسماعيلي، ويحتمل أنه أراد أنه باشر حكه بيده من غير حائل حكه به.
وتبويب البخاري يدل على هذا؛ ولهذا بوب بعده: ((باب: حك المخاط بالحصى من المسجد)) .
وقد روى عائد بن حبيب، عن حميد، عن انس، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد، فغضب حتى احمر وجهه، فجاءته امرأة من الأنصار، فحكتها، وجعلت مكانها خلوقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ما أحسن هذا)) .
خرجه النسائي وابن ماجه وابن خزيمة في ((صحيحه)) .
وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله - يعني: أحمد - ذكر عائد بن حبيب، فأحسن الثناء عليه. قلت له: روى عن حميد عن انس - فذكر له الحديث -؟ فقال: قد روى الناس هذا على غير هذا الوجه.
يشير إلى رواية حميد التي خرجها البخاري؛ فإنها مخالفة لرواية عائد في حكه
بيده، وليس فيها ذكر الخلوق، لكنها زيادة لم تنفها رواية البخاري ولم تثبتها.
وصرح بعض أصحابنا بوجوب حك النخامة عن حائط المسجد، وباستحباب تخليق موضعها.
وإنما يكره البصاق إلى القبلة في الصلاة أو المسجد، فإما من بصق إلى القبلة في غير مسجد فلا يكره له ذلك. وقد سبق ذكره في ((باب: استقبال القبلة بالغائط والبول)) .
وقوله صلى الله عليه وسلم ((أن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه، أو أن ربه بينه وبين
القبلة)) يدل على قرب الله تعالى من المصلي في حال صلاته، وقد تكاثرت النصوص بذلك، قال تعالى:{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] .
وفي ((صحيح مسلم)) ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء)) .
وخرج الإمام أحمد والترمذي وابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) من حديث الحارث الأشعري، عن النبي، قال: ((أن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس
كلمات، أن يعمل بهن، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن)) - فذكر الحديث -، وفيه:((وآمركم بالصلاة؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا)) .
وصححه
الترمذي.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة في ((صحيحه)) من حديث أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه)) .
وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: سمعت أبا هريرة يقول: إذا صلى أحدكم فلا يلتفت؛ فإنه يناجي ربه، أن ربه أمامه، وإنه يناجيه.
قال عطاء: وبلغنا أن الرب عز وجل يقول: ((يا بن آدم إلى من تلتفت، أنا خير لك ممن تلتفت إليه)) .
وقد رواه إبراهيم بن يزيد وعمر بن قيس، عن عطاء، عن أبي هريرة - مرفوعا كله.
ورواية ابن جريج أصح -: قاله العقيلي وغيره.
وكأن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم بذكر هذا: أن يستشعر المصلي في صلاته قرب الله منه، وأنه بمرأى منه ومسمع، وانه مناج له وانه يسمع كلامه ويرد عليه جواب مناجاته له.
كما في ((صحيح مسلم)) ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن العبد إذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال الله:
حمدني عبدي)) - وذكر رده عليه في آيات الفاتحة إلى آخرها.
فمن استشعر هذا في صلاته أوجب له ذلك حضور قلبه بين يدي ربه، وخشوعه له، وتأدبه في وقوفه بين يديه، فلا يلتفت إلى غيره بقلبه ولا ببدنه، ولا يعبث وهو واقف بين يديه، ولا يبصق أمامه، فيصير في عبادته في مقام الإحسان، يعبد الله كأنه
يراه، كما فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان بذلك في سؤال جبريل عليه السلام له، وقد سبق حديثه في ((كتاب: الإيمان)) .
وخرج النسائي من حديث ابن عمر، قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي، فقال:((أعبد الله كأنك تراه)) .
وقد كان ابن عمر قبل هذه الوصية وامتثلها، فكان يستحضر في جميع أعماله وعباداته قرب الله منه واطلاعه عليه.
وكان عروة بن الزبير قد لقيه مرة في الطواف بالبيت فخطب إليه ابنته سودة، فسكت ابن عمر ولم يرد عليه شيئا، ثم لقيه بعد ذلك بعدما تقدم المدينة، فاعتذر له عن سكوته عنه، بأنا كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا.
وقد أخبر الله تعالى بقربه ممن دعاه، وإجابته له، فقال:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] .
وقد روي في سبب نزولها: أن أعرابيا قال: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عز وجل:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:
186] .
خرجه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وروي عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن عوف، عن الحسن، قال: سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين ربنا؟ فأنزل الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] .
وروى عبد بن حميد بإسناده، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قَالَ: نزلت هذه الآية: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، قالوا: كيف لنا به أن نلقاه حتى
ندعوه؟ فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، فقالوا: صدق ربنا، هو بكل مكان.
وقد خرج البخاري في ((الدعوات)) حديث أبي موسى، أنهم رفعوا أصواتهم بالتكبير، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا،
إنكم تدعون سميعا قريبا)) .
وفي رواية: ((أنه أقرب إليكم من أعناق رواحلكم)) .
ولم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفهمون من هذه النصوص غير المعنى الصحيح المراد بها، يستفيدون بذلك معرفة عظمة الله وجلاله، وإطلاعه على عباده وإحاطته بهم، وقربه من عابديه، وإجابته لدعائهم، فيزدادون به خشية لله وتعظيما وإجلالا ومهابة ومراقبة واستحياء، ويعبدونه كأنهم يرونه.
ثم حدث بعدهم من قل ورعه، وساء فهمه وقصده، وضعفت عظمة الله وهيبته في صدره، وأراد أن يري الناس امتيازه عليهم بدقة الفهم وقوة النظر، فزعم أن هذه النصوص تدل على أن الله بذاته في كل مكان، كما يحكى ذلك عن طوائف من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وهذا شيء ما خطر لمن كان قبلهم من الصحابة رضي الله عنهم، وهؤلاء ممن يتبع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته منهم في حديث عائشة الصحيح المتفق عليه.
وتعلقوا - أيضا - بما فهموه بفهمهم القاصر مع قصدهم الفاسد بآيات في كتاب الله، مثل قوله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}
[الحديد:4] وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]، فقال من قال من علماء السلف حينئذ: إنما أراد أنه معهم بعلمه، وقصدوا بذلك إبطال ما قاله أولئك، مما لم يكن أحد قبلهم قاله ولا فهمه من القرآن.
وممن قال: أن هذه المعية بالعلم مقاتل بن حيان، وروي عنه أنه رواه عن
عكرمة، عن ابن عباس.
وقاله الضحاك، قال: الله فوق عرشه، وعلمه بكل مكان.
وروي نحوه عن مالك وعبد العزيز الماجشون والثوري واحمد وإسحاق وغيرهم من أئمة السلف.
وروى الإمام أحمد: ثنا عبد الله بن نافع، قال: قال مالك: الله في السماء، وعلمه بكل مكان.
وروي هذا المعنى عن علي وابن مسعود - أيضا.
وقال الحسن في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء:60]، قال: علمه بالناس.
وحكى ابن عبد البر وغيره إجماع العلماء من الصحابة والتابعين في تأويل قوله:
{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] أن المراد علمه.
وكل هذا قصدوا به رد قول من قال: أنه تعالى بذاته في كل مكان.
وزعم بعض من تحذلق أن ما قاله هؤلاء الأئمة خطأ؛ لأن علم الله صفة لا تفارق ذاته، وهذا سوء ظن منه بأئمة الإسلام؛ فإنهم لم يريدوا ما ظنه بهم، وإنما أرادوا أن علم الله متعلق بما في الأمكنة كلها ففيها معلوماته، لا صفة ذاته، كما وقعت الإشارة في القرآن إلى ذلك بقوله تعالى:{وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طه:98] وقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} [غافر:7] وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] .
وقال حرب: سألت إسحاق عن قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] ؟ قال: حيث ما كنت هو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو بائن من خلقه.
وروى عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب مر بقاص، وقد رفعوا أيديهم، فقال: ويلكم! أن ربكم أقرب مما ترفعون، وهو أقرب إلى أحدكم من حبل الوريد.
وخرجه أبو نعيم، وعنده: أن المار والقائل بذلك هو ابن عمر.
وخطب عمر بن عبد العزيز، فذكر في خطبته: أن الله أقرب إلى عباده من حبل الوريد. وكان مجاهد حاضرا يسمع، فأعجبه حسن كلام عمر.
وهذا كله يدل على أن قرب الله من خلقه شامل لهم، وقربه من أهل طاعته فيه مزيد خصوصية، كما أن معيته مع عباده عامة حتى ممن عصاه؛ قالَ تعالى:{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:108] ، ومعيته مع أهل طاعته خاصة لهم، فهوَ سبحانه مع الذين اتقوا ومع الذين هم محسنون. وقال لموسى وهارون:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] وقال موسى: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] وقال في حق محمد وصاحبه
{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في الغار: ((ما ظنك بأثنين الله ثالثهما)) .
فهذه معية خاصة غير قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] الآية، فالمعية العامة تقتضي التحذير من علمه وإطلاعه وقدرته وبطشه وانتقامه. والمعية الخاصة تقتضي حسن الظن بإجابته ورضاه وحفظه وصيانته، فكذلك القرب.
وليس هذا القرب كقرب الخلق المعهود منهم،
كما ظنه من ظنه من أهل
الضلال، وإنما هو قرب ليس يشبه قرب المخلوقين، كما أن الموصوف به {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] .
وهكذا القول في أحاديث النزول إلى سماء الدنيا فإنه من نوع قرب الرب من داعيه وسائليه ومستغفريه.
وقد سئل عنه حماد بن زيد فقال: هو في مكانه يقرب من خلقه كما يشاء.
ومراده أن نزوله ليس هو انتقال من مكان إلى مكان كنزول المخلوقين.
وقال حنبل: سألت أبا عبد الله: ينزل الله إلى سماء الدنيا؟ قالَ: نعم. قلت: نزوله بعلمه أو بماذا؟ قال: اسكت عن هذا، مالك ولهذا؟ أمض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد، إلا بما جاءت به الآثار، وجاء به الكتاب، قال الله:{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74] ينزل كيف يشاء، بعلمه وقدرته وعظمته، أحاط بكل شيء علما، لا يبلغ قدره واصف، ولا ينأى عنه هرب هارب، عز وجل.
ومراده: أن نزوله تعالى ليس كنزول المخلوقين، بل هو نزول يليق بقدرته وعظمته وعلمه المحيط بكل شيء، والمخلوقون لا يحيطون به علما، وإنما ينتهون إلى ما أخبرهم به عن نفسه، أو أخبر به عنه رسوله.
فلهذا اتفق السلف الصالح على إمرار هذه النصوص كما جاءت من
غير زيادة ولا نقص، وما أشكل فهمه منها، وقصر العقل عن إدراكه وكل إلى عالمه.
الحديث الثاني:
406 -
حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بصاقا في جدار القبلة فحكه، ثم أقبل على الناس، فقال:((إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه؛ فإن الله قبل وجهه إذا صلى)) .
الحديث الثالث:
407 -
ثنا عبد الله بن يوسف: ثنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في جدار القبلة مخاطا - أو بصاقا، أو نخامة - فحكه.
قد ذكرنا في الكلام على حديث انس ما يكون شرحا لهذين الحديثين، فلا حاجة إلى إعادته.
34 - باب
حك المخاط بالحصى من المسجد
وقال ابن عباس: أن وطئت على قذر رطب فاغسله، وأن كان يابسا فلا.
روى وكيع في ((كتابه)) عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن يحيى بن وثاب، قال: قلت لابن عباس: أتوضأ ثم أمشي إلى المسجد حافيا؟ قال: صل، لا بأس به، إلا أن يصيبك نتن رطب فتغسله.
قال: وثنا أصحابنا، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: لقد رأيتنا وما نتوضأ من موطئ إلا أن يكون رطبا فنغسل أثره.
ومعنى هذا: أن من كان حافيا فوطئ على نجاسة يابسة لم تعلق برجله فإنه يصلي ولا يغسل رجليه، وأن أصابه نجاسة رطبة غسلها.
وروي هذا المعنى عن كثير من التابعين، منهم: الحسن والشعبي وعطاء
والنخعي، وهو قول مالك والأوزاعي والثوري والشافعي
واحمد، ولا نعلم عن أحد من العلماء خلاف ذلك.
وأما أن كان ماشيا في نعل أو خف فأصاب أسفله نجاسة، فقد سبق ذكر الاختلاف في وجوب غسله والاكتفاء بمسحه ودلكه بالتراب.
ولعل البخاري إنما أدخل هذه المسألة في هذا الباب؛ ليستدل بها على طهارة المخاط والنخامة والبصاق؛ فإنه لو كان نجسا لوجب غسله من حائط المسجد، ولم يكتف بمسحه بالحصى.
قال البخاري رحمه الله:
408، 409 - ثنا موسى بن إسماعيل: ثنا إبراهيم بن سعد: أبنا ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمان، أن أبا هريرة وأبا سعيد حدثاه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار المسجد، فتناول حصاة فحكها، فقال: ((إذا تنخم أحدكم فلا يتخمن قبل
وجهه، ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه اليسرى)) .
والظاهر: أن مراد البخاري بهذا الحديث في هذا الباب: أنه يجوز حك النخامة بحصاة من المسجد؛ فإن الظاهر يدل على أنه تناول من المسجد حصاة وحك بها ما في قبلته.
وقد يكون ذكره لقول ابن عباس في اليابس أنه لا يغسله من رجله، ثم يدخل ويصلي به؛ ليبين به: أن ما يصيب تراب المسجد وحصاه من اليابسات المستقذرة لا تجب صيانتها
عنه، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم حك النخامة اليابسة بحصاة من حصى المسجد، فكذلك ما يصيب الأرجل من اليابسات المستقذرة لا تصان المساجد عنه، بل يدخل الحافي، ويصلي بها في المساجد، وكذلك المتنعل يصلي في نعليه - كما تقدم -، وقد يكون فيهما طين أو غير ذلك من الأعيان المستقذرة، ولا تستحب صيانة المساجد عن ذلك.
35 - باب
لا يبصق عن يمينه في الصلاة
خرج فيه حديثين:
الأول:
410، 411 - حديث: أبي هريرة وأبي سعيد الذي خرجه في الباب الماضي، خرجه من طريق عقيل، عن الزهري، ولفظه مثل لفظه، إلا أنه قال:
((في حائط المسجد))
والثاني:
قال:
412 -
ثنا حفص بن عمر: ثنا شعبة: أخبرني قتادة، قال: سمعت أنسا، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يتفلن أحدكم بين يديه، ولا عن يمينه، ولكن عن يساره، أو تحت رجله)) .
وليس في لفظ الحديثين تخصيص ذلك بالصلاة، كما بوب عليه، ولكن هو في رواية أخرى لحديث أنس ذكرها في الباب الآتي.
وقد يفهم من تبويب البخاري اختصاص كراهة البصاق عن اليمين بحال الصلاة، وهو قول المالكية، كما سنذكره فيما بعد - أن شاء الله.
والأكثرون على خلاف ذلك.
قال معاذ: ما بصقت عن يميني منذ أسلمت.
خرجه ابن سعد.
وروي كراهته عن ابن مسعود وابن سيرين.
قال أحمد في رواية مهنا: يكره أن يبزق الرجل عن يمينه في الصلاة، وفي غير الصلاة؛ لأن عن يمينه ملك الحسنات.
يشير إلى حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبزق عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكا)) .
وقد خرجه البخاري فيما بعد.
وخرج أبي داود هذه اللفظة من حديث أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وخرج الطبراني بإسناد ضعيف، عن أبي أمامة، قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم، فاستفتح الصلاة، فرأى نخامة في القبلة، فخلع نعله، ثم مشى إليها فحتها، يفعل ذلك ثلاث مرات، فلما قضى صلاته أقبل على الناس، فقال:((أن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يقوم بين يدي الله عز وجل مستقبل ربه تبارك وتعالى، وملكه عن يمينه، وقرينه عن يساره، فلا يتفلن أحدكم بين يديه، ولا عن يمينه، ولكن عن يساره، وتحت قدمه اليسرى، ثم ليعرك فليشدد عركه، فإنما يعرك أذني الشيطان)) .
وروى وكيع في ((كتابه)) عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة،
قال: المصلي لا يبزق في القبلة، ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه كاتب الحسنات، ولكن عن شماله، أو خلف ظهره.
وقد قالَ كثير من السلف في قول الله عز وجل: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] : أن الذي عن اليمين كاتب الحسنات، والذي عن الشمال كاتب السيئات، منهم: الحسن، والأحنف بن قيس، ومجاهد، وابن جريج، والإمام أحمد.
وزاد ابن جريج، قال: أن قعد فأحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، وأن مشى فأحدهما أمامه والآخر خلفه، وأن رقد فأحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه.
وعلى هذا، فقد يخلو اليمين عن الملك إذا مشى أو رقد.
وحديث أبي أمامة فيه أن الذي على الشمال هو القرين.
يريد به: الشيطان الموكل بالعبد، كما في ((صحيح مسلم)) عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة)) . قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: ((وإياي، ولكن الله أعانني عليه، فلا يأمرني إلا بخير)) .
وقد ورد في حديث خرجه الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري - مرفوعاً -: ((أن القرين هو كاتب السيئات)) .
وإسناده شامي ضعيف.
36 - باب
ليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى
فيه حديثان:
أحدهما:
413 -
ثنا آدم: ثنا شعبة: ثنا قتادة، قال سمعت أنس بن مالك، قالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أن المؤمن إذا كان في الصلاة فإنما يناجي ربه، فلا يبزقن بين يديه ولا عن يمينه، ولكن عن يساره، أو تحت قدمه)) .
هذا مما صرح فيه بالسماع في جميع إسناده في هذه الرواية والتي قبلها، وهو من صحيح حديث قتادة، عن أنس.
والثاني
414 -
ثنا عليّ: ثنا سفيان: ثنا الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي
سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر نخامة في قبلة المسجد، فحكها بحصاة، ثم نهى أن يبزق الرجل بين يديه، أو عن يمينه، ولكن عن يساره، أو تحت قدمه اليسرى.
وعن الزهري: سمع حميداً، عن أبي سعيد - نحوه.
ليس في هذه الرواية ذكر: أبي هريرة، كما في الروايتين المتقدمتين عن الزهري.
وفي هذه الرواية: أن سفيان بن عيينة تارة ذكر سماع الزهري له من حميد، وتارة عنعنه.
وعلي شيخ البخاري، هو: ابن المديني، وكانت له عناية بذلك.
وأما سماع حميد له من أبي هريرة وأبي سعيد، فقد صرح به إبراهيم بن سعد في رواية عن الزهري، وقد خرجه البخاري فيما تقدم.
ودل هذا الحديث - مع غيره من الأحاديث المتقدمة -: على أن المصلي يبزق عن شماله أو تحت قدمه اليسرى.
وقد خرج مسلم في ((صحيحه)) من حديث يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن أبيه، أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فتنخع فدلكها بنعله اليسرى.
وخرجه أبو داود، وعنده: عن يزيد، عن أخيه مطرف، عن أبيه، قال: أتيت رسول الله وهو يصلي، فبزق تحت قدمه اليسرى.
ورواه ابن المبارك عن الجريري، عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتنخم في المسجد، ثم دلكه بنعله اليسرى.
وخرجه الطبراني بإسناد ضعيف، وفيه: أنه كان يصلي على البلاط.
والبلاط خارج المسجد.
وروي إبراهيم بن طهمان، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمان، عن محمد بن أبي عاصم، عمن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي رجليه نعلان، فبزق فمسح بساقه بنعله في التراب، والمسجد يومئذ فيه التراب.
وخرج أبو داود من حديث الفرج بن فضالة، عن أبي سعيد، قال: رأيت واثلة بن الأسقع في مسجد دمشق بصق على البوري، ثم مسحه
برجله، فقيل له: لم فعلت هذا؟ قال: لأني رأيت رسول الله يفعله.
وهذا يدل على جوازه في المسجد إذا غيبه، وهو قول بعض أصحابنا، ونص عليهِ أحمد في رواية أبي طالب، قالَ: لا يبصق في المسجد تحت البارية، فإنه يبقى تحت البارية، وإذا كان حصى فلا باس به؛ لأنه يواري البصاق.
وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن العطاء، قال: لا بأس بالتنخم في الحجر إذا غيبه.
يعني: حجر البيت.
وفي ((تهذيب المدونة)) : ولا يبصق في المسجد فوق الحصير ويدلكه ولكن تحته، ولا يبصق في حائط القبلة، ولا في مسجد غير محصب إذا لم يقدر على دفن البصاق فيه، وأن كان المسجد محصبا فلا بأس أن يبصق بين يديه وعن يمينه وعن يساره وتحت قدمه ويدفنه. انتهى.
ولعل هذا في غير الصَّلاة.
وروى أبو عبيد بإسناد عن عمر، أنه حصب المسجد، وقال: هو أغفر
للنخامة.
وقال: معناه: أستر لها وأشد تغطية.
قال أبو عبيد: فيه من الفقه الرخصة في البزاق في المسجد إذا دفن.
وقالت طائفة: لا يفعل ذلك في المسجد، بل خارج المسجد، ولا
يبزق في المسجد إلا في ثوبه، أو يبزق في المسجد ويحذف بصاقه إلى خارج المسجد حتى يقع خارجاً منه.
وهذا هو أكثر النصوص عن أحمد.
وكان أحمد يبزق في المسجد في الصلاة، ويعطف بوجهه حتى يلقيه خارج المسجد عن يساره -: نقله عنه أبو داود.
وقال بكر بن محمد: قلت لأبي عبد الله - يعني: أحمد بن حنبل -: ما ترى في الرجل يبزق في المسجد ثم يدلكه برجله؟ قال: هذا ليس هو في كل الحديث. قال: والمساجد قد طرح فيها بواري ليس كما
كانت. قال: فأعجب إلي إذا أراد أن يبزق وهو يصلي أن يبزق عن يساره إذا كان البزاق يقع في غير المسجد، يقع خارجا، وإذا كان في مسجد ولا يمكنه أن يقع بزاقه خارجا أن يجعله في ثوبه.
وقد ذكرنا فيما تقدم عن حذيفة، أن المصلي له أن يبصق خلفه، وهذا إنما يكون بالتفات شديد بوجهه عن القبلة.
وقد روي هذا الحديث مرفوعا من حديث يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن طارق بن عبد الله المحاربي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا كنت في الصلاة، فلا تبزق عن يمنيك ولا بين يديك، ولكن خلفك أو تلقاء شمالك أو تحت قدمك اليسرى)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي.
وصححه، وقال: العمل عليه عند أهل العلم.
وبوب عليه النسائي: ((الرخصة للمصلي أن يبزق خلفه أو تلقاء شماله)) .
وقد أنكر الإمام أحمد هذه اللفظة في هذا الحديث، وهي قوله:((خلفك)) ، وقال: لم يقل ذَلِكَ وكيع ولا عبد الرزاق.
قالَ الدارقطني: هي وهم من يحيى بن سعيد، ولم يذكرها جماعة
من الحفاظ من أصحاب سفيان، وكذلك رواه أصحاب منصور عنه، لم يقل أحد منهم:((ابزق خلفك)) .
وروى سليمان بن حرب عن شعبة، عن القاسم بن مهران، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم،: ((إذا كان أحدكم في صلاته فلا يبزق عن يمينه ولا عن
يساره، ولا عن بين يديه، ولكن تحت قدمه اليسرى، فإن لم يستطع ففي ثوبه)) .
وأخطأ سليمان في قوله: ((ولا عن يساره)) ؛ فقد رواه أصحاب شعبة، عنه، وقالوا:((ولكن عن يساره تحت قدمه)) -: ذكره ابن أبي حاتم.
وقد خرجه مسلم في ((صحيحه)) كذلك.
واستدل ابن عبد البر بحديث تنخم النبي صلى الله عليه وسلم في صلا ته على أن النحنحة ونحوها لا تبطل الصلاة إذا كانت لعذر. قال: لأن للتنخم صوتا كالتنحنح، وربما كان معه ضرب من النفخ عند القذف بالبصاق.
وقد أشار البخاري إلى ذلك في أواخر ((كتاب: الصلاة)) - أيضا -، ويأتي في موضعه - أن شاء الله تعالى.
37 - باب
كفارة البزاق في المسجد
415 -
حدثنا آدم: ثنا شعبة: ثنا قتادة: قال: سمعت أنس بن مالك، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها)) .
قوله: ((خطيئة)) ظاهرة يقتضي أنه معصية، وجعل كفارة هذه المعصية دفنها.
وهذا يستدل به من يقول: إن البزاق لا يجوز في المسجد مع دفنه، كما لا يجوز لاحد أن يعمل ذنبا ويتبعه بما يكفره من الحسنات الماحية.
وفي ((صحيح مُسْلِم)) عَن أبي ذر، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((عرضت عليَّ أعمال أمتي، حسنها وسيئها، فوجدت فِي محاسن أعمالها الأذى يماط عَن الطريق، ووجدت فِي مساوىء أعمالها النخامة تكون فِي المسجد لا تدفن)) .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان في ((صحيحة)) من حديث السائب بن خلاد، أن رجلا أم قوما فبزق في القبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ:((لا يصلي لكم)) ، فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم فمنعوه، وأخبروه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:((نعم)) . وحسبت أنه قال:
((إنك آذيت الله ورسوله)) .
وخرج أبو داود وابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحهما)) من حديث حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه)) .
وخرج ابن خزيمة وابن حبان من حديث ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
((يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه)) .
وقال أبو هريرة: إن المسجد لينْزوي من النخامة كما تنْزوي
الجلدة من النار.
خرجه وكيع وابن أبي شيبة وغيروهما.
38 - باب
دفن النخامة في المسجد
416 -
حدثنا إسحاق بن نصر: أبنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه: سمع أبا هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه؛ فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكا، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه، فيدفنها)) .
دفن النخامة في المسجد مأمور به، وهو كفارة لها كما في الحديث قبله، وقد ورد الأمر بالحفر لها والأبعاد فيه، كما في ((مسند الإمام أحمد)) من حديث عبد الرحمن بن أبي حدرد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا بزق أحدكم في المسجد فليحفر فليبعد، فإن يفعل فليبزق في ثوبه)) .
وقد ورد تعليل ذلك بخشية إصابتها للمصلين، ففي ((المسند)) عن
سعد ابن أبي وقاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إذا تنخم أحدكم في المسجد فليبعدها، لا تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه)) .
وقال علي بن المديني: هو حسن الإسناد.
وهذا مما يدل على إن قرار المسجد وباطنه يجوز أن يجعل مدفنا للأقذار
الطاهرة.
وقد كان بعض الصحابة والتابعين يتفلى في المسجد ويقتل القمل ويدفنه في المسجد، روي ذلك عن معاذ وأبي هريرة وأبي إمامة وأبي العالية.
وهو مما يستدل به على طهارة دم القمل والبراغيث ونحوها.
وحكى بعض أصحابنا في جواز دفنها في المسجد وجهين، ولعلهما مبنيان على الخلاف في طهارة دمها ونجاسته.
ومذهب مالك: يكره قتلها في المسجد وإلقاؤها فيه.
وفي المسند بإسناد فيه بعض من لا يعرف، أن رجلا وجد
في ثوبه قملة، فأخذها ليطرحها في المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا تفعل، ردها في ثوبك حتى تخرج من المسجد)) .
وبإسناد تخر عن رجل من الأنصار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إذا وجد أحدكم القملة فليصرها، ولا يلقيها في المسجد)) .
وقد قيل: أنه مرسل.
وكذلك خرجه أبو داود في مراسيله.
والذي قبله - أيضا - مرسل -: نص عليه الإمام أحمد، وذكر أن بعضهم
وصله، وأخطأ في وصله. والله أعلم.
39 - باب
إذا بدره البصاق فليأخذ بطرف ثوبه
417 -
حدثنا مالك بن إسماعيل: ثنا زهير: ثنا حُميد، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة فحكها بيده، ورئي منه كراهية - أو رئي كراهية - لذلك وشدته عليه، فقال:((إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يناجي ربه - أو إن ربه بينه وبين القبلة -، فلا يبزقن في قبلته، ولكن عن يساره أو تحت قدمه)) ، ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه، ورد بعضه على بعض. قال:((أو يفعل هكذا)) .
ومقصوده بتخريج هذا الحديث في هذا الباب: ذكر حكم البصاق في الثوب خاصة، وقد بينه صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، كما سبق التنبيه على ذلك، وأن فيه إشارة إلى أن تلويث الثوب للحاجة إليه مما ينبغي التنزه عنه، كما قد يأنف منه بعض أهل الكبر والأنفة.
والمصلي إن كان في المسجد فالأولى أن يبصق في ثوبه ويدلكه بعضه ببعض، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليذهب أثره، وهو أولى من البصاق في المسجد مع تغييبه؛ للاختلاف في جوازه.
وإن كان خارج المسجد، فقالت طائفة من أصحابنا: الأولى أن يبصق
عن يساره؛ لما فيه من صيانة الثوب عن تلويثه بالمستقذرات.
وخرج مسلم من حديث القاسم بن مهران، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد، فاقبل عَلَى الناس، فقال:((ما بال حدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه؟ أيحب أن يُستقبل فيتنخع فِي وجهه، فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عَن يساره تَحْت قدمه، فإن لَمْ يجد فيتفل هكذا)) . ووصف الْقَاسِم: فتفل فِي ثوبه، ثُمَّ مسح بعضه عَلَى بعض.
وفي رِوَايَة لَهُ: قَالَ أبو هُرَيْرَةَ: كأني أنظر إلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يرد ثوبه بعضه عَلَى بعض.
وهذا يستدل به على أن البصاق على الأرض حيث أمكن فهو أولى من البصاق في الثوب؛ لأنه لم يأمر به إلا عند تعذر البصاق عن يساره، وليس المراد أنه لا يجوز فعله إلا عند تعذر البصاق على الأرض، بل المراد أنه لا حاجة إلى تلويث ثوبه بالبصاق مع القدرة على الاستغناء عنه.
فهو كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، وقوله:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، وقوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن الحارثة: ((أنت أخونا ومولانا)) ، مع أنه كان يعلم أباه.
40 - باب
عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة، وذكر القبلة
418 -
حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((هل ترون قبلتي هاهنا؟ فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا خشوعكم؛ إني لأراكم من وراء ظهري)) .
419 -
حدثنا يحيى بن صالح: ثنا فليح بن سليمان، عن هلال بن علي، عن أنس بن مالك، قالَ: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة، ثُمَّ رقي المنبر، فقالَ في الصَّلاة وفي الركوع -:((إني لأراكم من ورائي كما أراكم)) .
وروى قتادة، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((أقيموا الركوع والسجود، فوالله إني لأراكم من بعدي)) - وبما قال: ((من بعد ظهري - إذا ركعتم وسجدتم)) .
خرجه البخاري في ((باب: الخشوع في الصلاة)) كما سيأتي من حديث شعبة.
وخرجه مسلم من رواية شعبة وسعيد بن أبي عروبة، عن قتادة.
وأظن أن البخاري عدل عنه هاهنا إلى حديث فليح عن هلال؛ لأن قتادة لم يصرح فيه بالسماع، وقد أكثر البخاري في ((كتابه))
هذا من تخريج حديث فليح بن سليمان عن هلال بن علي.
وهو هلال بن أبي ميمونة. روى عنه مالك وغيره، وقد ذكر البخاري في ((تاريخه)) أنه سمع أنسا، ولم يذكر ابن أبي حاتم في ((كتابه)) أنه يروي عن أنس، وذكر أنه سأل أباه عنه، فقال: شيخ يكتب حديثه.
وأما فليح بن سليمان، فقال فيه ابن معين وأبو حاتم والنسائي: ليس بالقوي، وضعفه ابن معين - أيضا -، وقال: لا يحتج به. وحكي عن أبي كامل المظفر بن مدرك أنه كان يتقي حديثه، وضعفه أبو زرعة الرازي، وقال: هو واهي الحديث -: نقله عنه البرذعي، وضعفه علي بن المديني - أيضا - نقله عنه أبو جعفر بن أبي شيبة في ((سؤالاته له)) .
وبكل حال؛ فرواية شعبة عن قتادة عن أنس، وإن لم يصرح بالسماع أقوى من رواية فليح عن هلال عن أنس. والله أعلم.
وخرج مسلم - أيضا - من حديث المختار بن فلفل، عن أنس،
قال: صلى بنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فلما قضى أقبل علينا بوجهه، فقال:((أيها الناس، إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام ولا بالانصراف؛ فإني أراكم أمامي ومن خلفي)) . ثم قال: ((والذي نفس محمد بيده، لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا)) . قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: ((رأيت الجنة والنار)) .
وخرج – أيضا – من طريق الوليد بن كثير: حدثني سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فقال:((يا فلان إلا تحسن صلاتك؟ ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي، فإنما يصلي لنفسه، إني والله لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي)) .
دلت هذه الأحاديث على أن من رأى من يسيء صلاته فإنه يأمره بإحسان صلاته ويعظه ويبالغ في الوعظ؛ فإن القلوب تستجيب إلى الحق بالموعظة الحسنة ما لا تستجيب بالعنف، لا سيما إذا عم بالموعظة ولم يخص أحدا، وإن خصمه فإنه يلين له القول.
وقد قال الله تعالى لنبيه عليه السلام: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [النساء:63] وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] .
وفي بعض هذه الروايات أنه خطب الناس على المنبر، واتفقت الأحاديث كلها على أنه أمر بإقامة الركوع، وفي بعضها: والسجود، وفي بعضها: والخشوع، وفي بعضها: أنه نهاهم عن مسابقته بالركوع والسجود والانصراف من المسجد بعد إتمام صلاته، وهذا كما أمر
المصلي الذي أساء في صلاته أن يعود إلى الصلاة، وقال له:((إنك لم تصل)) .
قال ميمون بن مهران: مثل الذي يرى الرجل يسيء صلاته فلا ينهاه كمثل الذي يرى النائم تنهشه الحية ثم لا يوقظه.
وعن يحيى بن أبي كثير نحوه.
ورأى ابن عمر رجلا لا يتم ركوعه وسجوده، فقال له لما فرغ: يا بن أخي، تحسب انك صليت؟! إنك لم تصل، فعد لصلاتك.
وكان المسور بن مخرمة وغيره من الصحابة إذا رأوا من لا يتم صلاته أمروه بالإعادة، ويقولون: لا يعصى الله ونحن ننظر، ما استطعنا.
قال النخعي: كانوا إذا رأوا الرجل لا يحسن الصلاة علموه.
قال سفيان: أخشى أن لا يسعهم إلا ذلك.
قال أبو خلاد: ما من قوم فيهم من يتهاون بالصلاة ولا يأخذون على يديه إلا كان أول عقوبتهم إن ينقص من أرزاقهم.
ورأى الإمام أحمد رجلا لا يتم
ركوعه ولا سجوده، فقال: يا هذا، أقم صلبك في الركوع والسجود، وأحسن صلاتك.
وقيل له: الرجل يرى أهل المسجد يسيئون الصلاة؟ قال: يأمرهم. قيل له: إنهم يكثرون، وربما كان عامة أهل المسجد؟ قال: يقول لهم. قيل له: يقول لهم مرتين أو ثلاثا فلا ينتهون، يتركهم بعد ذلك؟ قال: أرجو أن يسلم - أو كلمة نحوها.
وقال حنبل: قيل لأبي عبد الله: ترى الرجل إذا رأي الرجل لا يتم ركوعه ولا سجوده، ولا يقيم صلبه، ترى إن يأمره بالإعادة أو يمسك عنه؟ قال: إن كان يظن أنه يقبل منه أمره وقال له ووعظه حتى يحسن صلاته؛ فإن الصلاة من تمام الدين.
وقوله: ((إن كان يظن أنه يقبل منه)) ، يخرج على قوله: أنه لا يجب الأمر بالمعروف إلا لمن ظن أنه يقبل.
والمشهور عنه خلافه، وانه يجب مطلقا مع القدرة.
ويجب الأمر بإتمام الركوع والسجود وإقامة الصلب في الصلاة، وإن كان قد قال بعض الفقهاء: إن الصلاة صحيحة بدونه؛ لأن الخلاف إذا كان مخالفا للسنن الصحيحة فلا يكون عذرا مسقطا للأمر بالمعروف.
وأيضا؛ فالخلاف إنما هو في براءة الذمة منها، وقد اجمعوا على إنها صلاة ناقصة، ومصليها مسيء غير محسن، وجميع النصوص المذكورة في هذا الباب تدل على الأمر لمن لا يتم الركوع والسجود بإتمامها.
وفي ((المسند)) و ((سنن ابن ماجه)) ، عن علي بن شيبان الحنفي - وكان أحد الوفد -، قال: قدمنا على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلمح بمؤخر عينه إلى الرجل لا يقيم صلبه في الركوع ولا في السجود، فلما قضى
النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال: ((يا معشر المسلمين، لا صلاة لامرئ لا يقيم صلبه في الركوع ولا في السجود)) .
ومتى كان المسيء في صلاته جاهلا بما أساء فيه تعين الرفق في تعليمه، كما رفق النبي صلى الله عليه وسلم بالذي قال له: والذي بعثك بالحق، لا أحسن غير هذه الصلاة، فعلمني، فعلمه.
وفي ((صحيح مسلم)) عن معاوية بن الحكم السلمي، قال: بينا أنا أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: رحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم. فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبي هو وأمي -، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كرهني ولا ضربني ولا شتمني، ثم قال:((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)) - أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله، إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام - وذكر بقية حديث.
فإن رأى من يفعل في صلاته مكروها لا يبطل الصلاة فأمره بتركه برفق كان حسنا.
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: رجل رأى رجلا مشمرا كميه في الصلاة، أترى عليه أن يأمره؟ قال: يستحب له إن يصلي غير كاف شعرا ولا ثوبا، وليس هذا من المنكر الذي يغلظ ترك النهي عنه.
وصلى أحمد يوما خلف رجل، فكان إذا سجد جمع ثوبه بيديه، فلما فرغ قال أحمد لرجل إلى جانبه - وخفض صوته - قال النبي صلى الله عليه وسلم:((إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يكف شعرا ولا ثوبا)) ، ففطن الإمام بذلك، وعلم أنه أراده.
ورأى الفضيل بن عياض رجلا يفقع أصابعه في صلاته فزبره وانتهره فقال له الرجل: يا هذا، ينبغي لمن يقوم لله عز وجل أن يكون ذليلا، فبكى الفضيل، وقال له: صدقت.
وفي ((صحيح مسلم)) عن جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا، حتى كأنما يسوي بها القداح، حتى رأى أن قد عقلنا عنه، ثم خرج علينا يوما، فقام حتى كاد أن يكبر فرأى رجلا باديا صدره من الصف، فقال:((عباد الله، لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأراكم من وراء ظهري)) ، وفي رواية:((من خلفي)) ،
وفي رواية: ((من بعدي)) - والمراد به: من خلفي -: فيه تحذير لهم من التقصير في الصلاة وراءه، فإنهم لو كانوا بين يديه لم يقصروا في الصلاة فكذا ينبغي أن يصلوا من خلفه؛ فإنه يراهم.
وفيه تنبيه على إن من كان يحسن صلاته لعلمه بنظر مخلوق إليه فإنه ينبغي أن يحسنها لعلمه بنظر الله إليه؛ فإن المصلي يناجي ربه، وهو قريب منه ومطلع على سره وعلانيته.
وقد روي حديث أبي هريرة بلفظ أخر، فيه: الإشارة إلى هذا المعنى من رواية ابن إسحاق: حدثني سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف من صلاته رأى رجلا كان في أخر الصفوف، فقال:((أي فلان، ألا تتقي الله عز وجل في صلاتك، فلا تتم ركوعك وسجودك، ألا ينظر المصلي منكم كيف يصلي؟ وإنما يصلي لنفسه، وإنما يناجي ربه عز وجل، لا تظنون إني لا أراكم، والله إني لأرى من خلفي منكم كما أرى من بين يدي)) .
فقوله: ((ألا ينظر المصلي منكم كيف يصلي، وإنما يصلي لنفسه)) ، يشير إلى أن نفع صلاته يعود إلى نفسه، كما قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46] ، فمن علم أنه يعمل لنفسه وانه ملاق عمله، ثم قصر في عمله وأساء كان مسيئا في حق نفسه، غير ناظر لها ولا ناصح.
وقوله: ((وإنما يناجي ربه)) ، إشارة إلى أنه ينبغي إلى أنه ينبغي له أن يستحي من نظر الله إليه، وإطلاعه عليه وقربه منه، وهو قائم بين يديه يناجيه، فلو استشعر هذا لأحسن صلاته غاية الإحسان، وأتقنها غاية الإتقان، كما قال صلى الله عليه وسلم:((اعبد الله كأنك تراه)) .
وفي القرآن الإشارة إلى هذا بقوله عز وجل: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس:61] الآية.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تظنون أني لا أراكم، والله إني لأرى من خلفي منكم)) ، توبيخ لمن قصر في صلاته حيث يظن أن مخلوقا لا يراه، ثم يحسنها إذا ظن أنه يراه.
ومن هنا قال بعض العارفين: اتق الله أن يكون أهون الناظرين أليك.
وروى إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((من أحسن الصلاة حيث يراه الناس، وأساءها حيث يخلو فذلك استهانة استهان بها ربه عز وجل)) .
وروي موقوفا.
وروي بقية، عن ورقاء بن عمر، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - مرفوعا -:((إذا صلى العبد في العلانية فأحسن، وصلى في السر فأحسن قال الله: هذا عبدي حقا)) .
لعل بقية دلسه عن ضعيف.
وقوله: ((إني لأرى من خلفي كما أرى من بين يدي)) ، هو فضيلة للنبي صلى الله عليه وسلم خصه الله بها، فكان ينظر ببصيرته كما ينظر ببصره، فيرى من خلفه كما يرى من بين يديه.
وقد فسره الإمام أحمد بذلك في رواية ابن هانئ، وتأول عليه قوله تعالى:
{وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:219] .
كما روى ابن أبي نجيج، عن مجاهد في قوله:{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ - وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218، 219] ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى أصحابه في صلاته من خلفه، كما يرى من بين يديه.
وتأويل الآية على هذا القول: إن الله تعالى يرى نبيه صلى الله عليه وسلم حين يقوم إلى صلاته، ويرى تقلب نظره إلى الساجدين معه في صلاته.
وقال الأثرم: قلت لأحمد: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأراكم من وراء ظهري)) ؟ قال: كان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه. قلت: إن إنسانا قال لي: هو في ذلك مثل غيره، وإنما كان يراهم كما ينظر الإمام عن يمينه وشماله، فأنكر ذلك إنكارا شديدا.
41 - باب
هل يقال: مسجد بني فلان
ابتدأ البخاري رحمه الله من هنا في ذكر المساجد وأحكامها، فأول ما ذكره من ذلك: أنه يجوز نسبة المساجد إلى القبائل؛ لعمارتهم إياها، أو مجاورتهم لها.
وقد كره ذَلِكَ بعض المتقدمين، وتعلق بقوله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] .
والصحيح: أن الآية لم يرد بها ذلك، وأنها نزلت في النهي عن أن يشرك بالله في المساجد في عبادته غيره، كما يفعل أهل الكتاب في كنائسهم وبيعهم.
وقيل: إن المراد بالمساجد الأرض كلها؛ فإنها لهذه الأمة مساجد وهي كلها
لله، فنهى الله أن يسجد عليها لغيره.
وقيل: إن المراد بالمساجد أعضاء السجود نفسها، وهي لله؛ فإنه هو خلقها وجمعها وألفها، فمن شكره على هذه النعمة أن لا يسجد بها لغيره.
وقد قيل: إن قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] يدل - أيضا - على أنه لا يجوز إضافة المساجد إلى مخلوق إضافة ملك واختصاص.
وأخذ بعض أصحابنا من ذلك كالوزير ابن هبيرة: أنه لا يجوز نسبة شيء من المساجد إلى بعض طوائف المسلمين للاختصاص بها، فيقال: هذه المساجد للطائفة الفلانية، وهذه للطائفة الأخرى، فإنها مشتركة بين المسلمين عموما.
وذكر بعض المتأخرين من أصحابنا في صحة اشتراط ذلك في وقفها وجهين.
وأما إضافة المسجد إلى ما يعرفه به فليس بداخل في ذلك، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يضيف مسجده إلى نفسه، فيقول:((مسجدي هذا)) ، ويضيف مسجد قباء إليه، ويضيف مسجد بيت المقدس إلى إيلياء، وكل هذه إضافات للمساجد إلى غير الله لتعريف أسمائها، وهذا غير داخل في النهي. والله أعلم.
قال البخاري رحمه الله:
420 -
ثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء، وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وأن عبد الله بن عمر كان ممن سابق بها.
وجه الاستدلال من هذا الحديث على ما بوبه: أن فيه إضافة المسجد إلى بني زريق، وهذا وإن كان من قول عبد الله بن عمر ليس مرفوعا، إلا أن تعريف المسجد بذلك يدل على اشتهاره بهذه الإضافة في زمن المسابقة، ولم يشتهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلمين شيء إلا وهو غير ممتنع؛ لأنه لو كان محضورا لما أقر عليه، خصوصا الأسماء؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يغير أسماء كثيرة يكرهها من أسماء الأماكن والآدميين، ولم يغير هذا الاسم للمسجد، فدل على جوازه.
ولقائل أن يقول: يجوز أن اشتهار المسجد بهذا الاسم لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالكلية، فلا يبقى في الحديث دلالة، وهذا كما قال أنس في حديث الاستسقاء: دخل رجل المسجد من نحو دار القضاء، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وقد قالوا: إنما عرفت تلك الدار بهذا الاسم بعد النبي صلى الله عليه وسلم بزمن.
وأحسن من هذا: الاستدلال بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في سواه)) - وقد خرجه البخاري في مواضع أخر -؛ فإن هذا تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بإضافة المسجد إلى نفسه، وهو إضافة للمسجد إلى غير الله في التسمية، فدل على جواز إضافة المساجد إلى من بناها وعمرها. والله أعلم.
وسائر ما يتعلق بالحديث من ألفاضه المختلفة وتفسير غريبها، وما فيه من أحكام المسابقة ليس هذا موضعها، وله موضع أخر يأتي فيه - إن شاء الله تعالى.
42 - باب
القسمة وتعليق القنو في المسجد
قال أبو عَبْد الله: القنو: العذق. والإثنان: قنوان. والجماعة: قنوان، مثل: صنو وصنوان.
المقصود بهذا الباب: أن المسجد يجوز أن يوضع فيه أموال الفيء وخمس الغنيمة وأموال الصدقة ونحوها من أموال الله التي تقسم بين مستحقيها.
وقد ذكر القنو في تبويبه وفسره ولم يخرج حديثه.
وحديثه قد خرجه الترمذي من طريق السدي، عن أبي مالك، عن البراء، في قوله تعالى:{وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267]، قال: نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل، فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته، وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين، فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو، فضربه بعصاه، فسقط من البسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف، وبالقنو قد انكسر
فيعلقه، فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ
مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267] .
وخرجه ابن ماجه، إلا أن عنده: عن السدي عن عدي بن ثابت، عن البراء.
وحسنه الترمذي وغربه، وفي بعض نسخه: صحيح.
وخرجه الحاكم، وقال: غريب، صحيح على شرط مسلم.
يشير إلى أنه خرج للسدي، إلا أن السدي كان ينكر عليه جمعه الأسانيد المتعددة في التفسير للحديث الواحد.
وخرج ابن حبان في ((صحيحه)) من حديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر للمسجد من كل حائط بقناء.
ومن حديث جابر، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل جداد عشرة أوسق من التمر بعذق يعلق في المسجد للمساكين.
ومن حديث عوف بن مالك، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عصى وأقناء معلقة في المسجد، قنو منها حشف، فطعن بالعصى في ذلك القنو، ثم قال:((لو شاء رب هذه الصدقة لتصدق بأطيب منها، إن صاحب هذه الصدقة ليأكل الحشف يوم القيامة)) .
وقد فسر البخاري القنو، فقال: هو العذق.
يعني: عذق النخلة الذي يكون فيه الرطب، وهو واحد، وتثنيته: قنوان - بكسر النون، وجمعه - قنوان - بالتنوين؛ قَالَ تعالى:{وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} [الأنعام:99] .
وشبهه بصنو وصنوان، فالصنو: الواحد مِمَّا لَهُ نظير يخرج مَعَهُ من أصله من النخل، وتثنيته: صنوان، وجمعه: صنوان. قَالَ تعالى: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} [الرعد:4] .
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((عم الرجل صنو أبيه)) .
وما ينبغي إدخاله في هذا الباب: ما خرجه البخاري في ((الزكاة)) من رواية معن بن يزيد السلمي، قال: كان أبي أخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها فأتيته بها، فقال: والله، ما إياك أردت، فخاصمته إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:((لك ما نويت يا زيد ولك ما أخذت يا معن)) .
ويتصل بهذا: التصدق في المسجد على السائل، وهو جائز، وقد كان الإمام أحمد يفعله، ونص على جوازه، وإن كان السؤال في المسجد مكروها.
وقال أبو داود في ((سننه)) : ((باب: السؤال في المسجد)) ، ثم خرج من طريق مبارك بن فضالة، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى،
عن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفيكم من أطعم اليوم مسكينا؟)) قال أبو بكر: دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل، فوجدت كسرة خبز في يد عبد الرحمن، فأخذتها فدفعتها إليه.
ومنع منه أصحاب أبي حنيفة، وغلظوا فيه حتى قال خلف بن أيوب منهم: لو كنت قاضيا لم أجز شهادة من تصدق على سائل في المسجد.
ومنهم من رخص فيه إذا كان السائل مضطرا، ولم يحصل بسؤاله في المسجد ضرر.
ولأصحابنا وجه: يكره السؤال والتصدق في المساجد مطلقا.
وفي ((صحيح مسلم)) عن جرير البجلي، أن قوما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيهم - أي: الحاجة -، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر، ثم خطب فحث على الصدقة، فجاء رجل بصرة من فضة كادت كفه تعجز عنها، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب.
وفي ((المسند)) و ((سنن)) أبي داود والنسائي، عن أبي سعيد، أن رجلا دخل المسجد في هيئة رثة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فحث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فألقى الناس ثيابا - وذكر الحديث.
خرج البخاري في هذا الباب حديثا واحدا، علقه ها هنا وفي ((أبواب: قسم الفيء)) من أواخر ((كتاب: السير)) ، وعلق بعضه في ((باب: فكاك
الأسير)) .
فقال هاهنا:
421 -
وقال إبراهيم - يعني: ابن طهمان -: عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين، فقال:((انثروه في المسجد)) - وكان أكثر مال أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدا إلا أعطاه، إذ جاءه العباس، فقال: يا رسول الله، أعطني؛ فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:((خذ)) ، فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله، مر بعضهم يرفعه إلي. قال:((لا)) . قال: فارفعه أنت علي. قال: ((لا)) . قال: فنثر منه، ثم ذهب يقله. فقال: يا رسول الله، مر بعضهم يرفعه علي. قال:((لا)) . قال: فارفعه أنت علي. قال: ((لا)) . فنثر منه، ثم احتمله، فألقاه على كاهله، ثم انطلق، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره حتى خفي علينا؛ عجبا من حرصه. فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثم منها درهم.
هذا المال كان من جزية أهل البحرين، وهم مجوس هجر، وكان قد قدم به أبو عبيدة بن الجراح، وقد خرج حديثه البخاري في موضع آخر من حديث عمرو بن عوف الأنصاري.
وفي هذا الحديث: دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له بيت مال
يضع فيه أموال الفيء، إنما كان يضعه في المسجد ويقسمه من يومه ولا يحبسه.
وفيه: دليل على أن مال الفيء لا يخمس؛ فإنه لم يذكر فيه أنه أخرج خمسه، وإنما ذكر أنه ما كان يرى أحدا إلا أعطاه.
وفيه: دليل على أن مال الفيء مما يعطى منه الغني والفقير؛ لأن العباس كان من أغنى قريش وأكثرهم مالا، ولكنه أدعى المغرم وقد عرف سببه، وهو مفاداة نفسه، ومفاداة عقيل ابن عمه، وكانا وقعا في أسارى بدر، ففدى العباس نفسه وعقيلا.
قيل: إنه فدى بثمانين أوقية ذهب. وقيل: بألف دينار.
وفيه: بيان احتقار النبي صلى الله عليه وسلم للدنيا وإن كثرت؛ فإنه لما خرج إلى الصلاة ومر بالمال لم يلتفت إليه.
وقد روى حميد بن هلال، أن ذلك المال كان بعثه العلاء بن الحضرمي من البحرين، وكان ثمانين ألفا.
وفيه: التعجب من حرص الحريص على المال والمستكثر منه.
ويصدق هذا: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)) .
وكاهل الإنسان: ما بين كتفيه.
وقد كان العباس رضي الله عنه عظيما جسيما شديد القوة، فالظاهر أنه حمل مالا كثيرا، ولم يمنعه النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على جواز قسمة الفيء بين أهله على غير التسوية.
وفي حديث حميد بن هلال، قال: لم يكن يومئذ عدد ولا وزن، ما كان إلا قبضا.
وفيه: جواز قسمة مال الفيء في المسجد ووضعه فيه، وهو مقصود البخاري بتخريج هذا الحديث في هذا الباب.
43 - باب
من دعي لطعام في المسجد ومن أجاب فيه
422 -
حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، سمع أنسا، قال: وجدت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد معه ناس، فقمت، فقال لي:((آرسلك أبو طلحة؟)) قُلتُ: نَعَمْ. قَالَ: ((لطعام؟)) قلت: نعم. فقال لمن حوله: ((قوموا)) ، فانطلق وانطلقت بين أيديهم.
هذا مختصر من حديث طويل فيه ذكر معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في تكثيره للطعام القليل حتى شبع منه سبعون أو ثمانون رجلا.
وقد خرج البخاري في موضع آخر من حديث أبي هريرة حديثا طويلا، فيه: أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم بيته فوجد لبنا في قدح، فأمره أن يدعو له أهل الصفة - وذكر الحديث بطوله.
والصفة كانت في مؤخر المسجد، فكانوا يأوون إليها ويقيمون بها.
فدلت هذه الأحاديث كلها على جواز أن يدعى من في المسجد إلى الطعام، ويجيب إلى الدعوة إذا دعي فيه.
وقد ورد الرخصة في الأكل في المسجد.
وقد بوب ابن ماجه
في ((كتابه)) : ((باب: الأكل في المسجد)) وخرج فيه: من رواية ابن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث: حدثني سليمان بن زياد الحضرمي، أنه سمع عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي يقول: كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الخبز واللحم.
وهذا إسناد جيد؛ وسليمان وثقة ابن معين. وقال أبو حاتم: صالح الحديث.
وخرج الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي في ((الشمائل)) من رواية ابن لهيعة، عن سلمان بن زياد، عن عبد الله بن الحارث بن جزء، قال: أكلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما في المسجد، لحما قد شوي.
وروى الإمام أحمد: ثنا هارون بن معروف: ثنا مسلم، عن عبد الله بن الحارث بن جزء، قال كنا يوما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفة، فوضع لنا طعام فأكلنا.
وروى - أيضا - عن وكيع: ثنا عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بفضيخ في مسجد الفضيخ، فشربه، فلذلك سمي.
عبد الله بن نافع، ضعفوه.
وقد اختلف في جواز الأكل في المسجد وكراهته، فأجازه طائفة من أصحابنا وغيرهم؛ لهذا الحديث؛ ولان الظاهر من حال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي اعتكافه أنه كَانَ يفطر فِي المسجد؛ فإن عائشة قالت: كان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، إلا أن يقال: أن ذلك داخل في حاجة الإنسان.
والظاهر من أهل الصفة: أنهم كانوا يأكلون في المسجد، وقد سبق حديث البراء بن عازب أنهم كانوا إذا جاعوا ضربوا القنو المعلق في المسجد للصدقة فأكلوا منه.
وذهب طائفة إلى كراهته؛ لأنه دناءة، وحكي عن الشافعي، وهو وجه لأصحابنا.
ومن قال بهذا أجاز للمعتكف أن يدخل بيته للأكل، كما يدخل لقضاء حاجته.
ويعضد هذا: قول النبي صلى الله عليه وسلم في المساجد: ((إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن)) .
خرجه مسلم.
وقد تقدم في أواخر ((أبواب: الوضوء)) .
44 - باب
القضاء واللعان في المسجد بين الرجال والنساء
423 -
حدثنا يحيى بن موسى: ثنا عبد الرزاق: ابنا ابن جريج: أخبرني ابن شهاب، عن سهل بن سعد، أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله؟ فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد.
هذا مختصر من حديث سهل في قصة المتلاعنين.
وكان غرض البخاري منه قول سهل: ((فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد)) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي لا عن بينهما، فدل ذلك على جواز الحكم في المسجد والتلاعن فيه بين الزوجين؛ فإنه صلى الله عليه وسلم حكم عليهما بالتلاعن ولاعن بينهما.
ولا خلاف نعلمه بين العلماء في جواز الملاعنة في المساجد بين الزوجين المسلمين، وإنما اختلفوا: هل ذلك مستحب أو واجب أو مباح:
فأوجبه الشافعي في قول له، واستحبه في قوله الآخر، وأكثر أصحابنا، ومنهم من قال: هو جائز غير مستحب.
وقال ابن عبد البر: لا يختلفون أن اللعان لا يكون إلا في المسجد الجامع؛ لان النبي صلى الله عليه وسلم لاعن في مسجده.
وأما القضاء في المسجد، فقد بوب البخاري عليه في آخر ((صحيحه)) في ((كتاب: الأحكام)) ، فقال:((باب: من قضى ولاعن في المسجد)) . ولاعن عمر عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم. وقضى مروان على زيد بن ثابت باليمن عند المنبر. وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد. وكان الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في الرحبة خارج المسجد.
ثم خرج حديث سهل في اللعان.
ثم قال: ((باب: من حكم في المسجد حتى إذا أتى على حد أمر أن يخرج من المسجد فيقام)) . وقال عمر: أخرجاه من المسجد فاضرباه. ويذكر عن علي نحوه.
ثم خرج فيه من حديث أبي هريرة، قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فناداه، فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه، فلما شهد على نفسه أربعا قال:((ابك جنون؟)) قال: لا. قال: ((اذهبوا به فارجموه)) – وذكر الحديث.
وذكر غيره ممن كان يقضي في المسجد: شريح، والحسن، والشعبي، ومحارب بن دثار، ويحيى بن يعمر، وابن أبي ليلى، وبه قال أبو حنيفة ومالك واحمد وإسحاق.
قال أحمد: لم يزل الناس يقضون في المساجد.
وقال مالك: هو من أمر الناس القديم.
وكرهه الشافعي.
وحكي عن عمر بن عبد العزيز، ورواية عن
أبي حنيفة.
وقال سفيان الثوري: لا باس أن يقضي القاضي في المسجد؛ كان شريح والقضاة يفعلون ذلك، وكان عمر بن عبد العزيز كتب أن لا يقضي القاضي في المسجد.
وكان الشعبي يقضي بين أهل الذمة والنساء إذا لم يصلين على باب داره.
وأما إقامة الحد في المسجد، ففي النهي عنه حديث خرجه الترمذي، وفي إسناده مقال.
وهو قول الجمهور، وكان ابن أبي ليلى يقيم حد الجلد في المسجد
ومذهب مالك: لا باس في المسجد بخفيف الأدب، ولا باس بضرب الخصم فيه إذا تبين لدده -: نقله صاحب ((تهذيب المدونة)) .
45 - باب
إذا دخل بيتاً يصلي حيث شاء أو حيث أمر؟
ولا يتجسس
424 -
ثنا عبد الله بن مسلمة: ثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن محمود بن الربيع، عن عتبان بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه في منزله، فقال:((أين تحب أن اصلي لك من بيتك؟)) . قال: فأشرت له إلى مكان، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم، وصففنا خلفه، فصلى ركعتين.
هذا مختصر من حديث طويل قد خرجه بتمامه في الباب الذي بعد هذا.
ومعنى تبويبه هاهنا: أن الداخل إلى بيت غيره: هل يصلي حيث شاء من
البيت، أم حيث أمر؟ وسقط حرف الاستفهام من الكلام.
واستدل بهذا الحديث على أنه يصلي حيث أمر لا حيث شاء.
وفي هذا نظر؛ حيث شكا إليه أنه لا يقدر على حضور مسجد الجماعة، وفي مثل هذه الحادثة ينبغي أن يرجع إلى اختيار صاحب البيت في مكان الصلاة؛ لأنه أعلم بما يصلح من بيته لاتخاذه مسجدا، والحق له في ذلك.
وأما من دخل إلى بيت غيره على هذا الوجه، وأراد لصلاة فيه فلا يتوقف على أمر صاحب البيت، كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم -
بأنس وأمه ولم يستاذنهما، بل قال لهم:((قوموا، فلأصلي لكم)) . وقد سبق.
ولعل البخاري الحق الصلاة في بيت غيره إذا دخل إليه بالجلوس فيه؛ فإنه إذا أمر بالجلوس في مكان معين منه فلا ينبغي له الجلوس في غيره، لكن ذاك بعد الأمر، فإن لم يوجد أمر فله الجلوس حيث شاء.
قال سفيان الثوري: إذا دخلت فاجلس حيث يأمرك صاحب الدار؛ فإن صاحب الدار اعرف بعورة داره؛ بلغنا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومتى كان في البيت مسجد للصلاة فيه فالداخل إذا أراد الصلاة يصلي فيه بغير استئذان.
وفي ((مسند الإمام أحمد)) عن جابر، قال: قلت: يا رسول الله، أن أبي ترك دينا ليهودي، فقال:((سنأتيك يوم السبت إن شاء الله)) . وذلك في زمن الثمر مع استجداد النخل، فلما كان صبيحة يوم السبت جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل علي في مالي دنى إلى الربيع فتوضأ منه، ثم قال إلى المسجد فصلى ركعتين، ثم دنوت به إلى خيمة لي فبسطت له: بجادا من شعر وطرحت خدية من قتب من شعر حشوها ليف، فاتكا عليها، فلم البث إلا قليلا حتى طلع أبو بكر رضي الله عنه، فكأنه نظر إلى ما عمل النبي الله صلى الله عليه وسلم، فتوضأ وصلى ركعتين، فلم البث إلا قليلا حتى جاء عمر رضي الله عنه، فتوضأ وصلى ركعتين كأنه نظر إلى صاحبيه، فدخلا، فجلس أبو بكر عند رأسه، وعمر عند رجليه - وذكر الحديث.
46 - باب
المساجد في البيوت
وصلى البراء بن عازب في مسجد في داره في جماعة.
مساجد البيوت، هي أماكن الصلاة منها، وقد كان من عادة السلف أن يتخذوا في بيوتهم أماكن معدة للصلاة فيها.
وقد قدمنا في آخر ((كتاب: الحيض)) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مسجد بيت ميمونة، وهي مضطجعة إلى جانبه، وهي حائض.
وروى جعفر بن برقان، عن شداد مولى عياض بن عامر، عن بلال، أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه بالصلاة، فوجده يتسحر في مسجد بيته.
خرجه الإمام أحمد.
وروى محمد بن سعد: ابنا قبيصة: ابنا سفيان: عن أبيه، قال: أول من اتخذ مسجدا في بيته يصلي فيه عمار بن ياسر.
وبإسناد: عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، قال: أول من بنى مسجدا يصلي فيه عمار بن ياسر.
وهذه المساجد لا يثبت لها شيء من أحكام المساجد المسبلة، فلا يجب صيانتها عن نجاسة ولا جنابة ولا حيض. هذا مذهب أصحابنا وأكثر الفقهاء.
ومنع إسحاق من جلوس الجنب فيها والحائض -: نقله عنه حرب.
وأجاز الاعتكاف فيها للمرآة خاصة طائفة من فقهاء الكوفيين، منهم: النخعي والثوري وأبو حنيفة.
وعنه وعن الثوري: أن المرأة لا يصح اعتكافها في غير مسجد بيتها.
وقول الأكثرين أصح.
وقد روي عن ابن عباس، أنه سئل عن اعتكاف المرأة في مسجد بيتها؟ فقال: بدعة، وأبغض الأعمال إلى الله البدع، لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة.
خرجه حرب الكرماني.
وروى عمرو بن دينار، عن جابر، أنه سئل عن امرأة جعلت عليها أن تعتكف في مسجد بيتها؟ قَالَ: لا يصلح، لتعتكف فِي مسجد؛ كما قال الله:{وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [القرة: 187] .
خرجه الأثرم.
وجابر هذا يحتمل أنه جابر بن عبد الله الصحابي، ويحتمل أنه جابر بن زيد أبو الشعثاء التابعي.
واعتكف أبو الأحوص صاحب ابن مسعود في مسجد بيته.
ورخص فيه الشعبي.
وهؤلاء جعلوا مساجد البيوت حكمها حكم المساجد في الاعتكاف، ولو كان هذا صحيحا لاعتكف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في مساجد بيوتهن، وإنما كن يعتكفن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما إقامة الجماعة للصلوات في مساجد البيوت فلا يحصل بها فضيلة الصلاة في المساجد، وإنما حكم ذلك حكم من صلى في بيته جماعة وترك المسجد.
قال حرب: قلت لأحمد: فالقوم نحو العشرة يكونون في الدار، فيجتمعون وعلى باب الدار مسجد؟ قال: يخرجون إلى المسجد، ولا يصلون في الدار، وكأنه قال: إلا أن يكون في الدار مسجد يؤذن فيه ويقام. انتهى.
ومتى كان المسجد يؤذن فيه ويقام ويجتمع فيه الناس عموما، فقد صار مسجدا مسبلا، وخرج عن ملك صاحبه بذلك عند الإمام أحمد، وعامة العلماء، ولو لم ينو جعله مسجدا مؤبدا.
ونقل أبو طالب عن أحمد فيمن بنى مسجدا من داره، أذن فيه وصلى مع الناس، ونيته حين بناه وأخرجه أن يصلي فيه، فإذا مات رد إلى الميراث؟ فقال أحمد: إذا أذن فيه ودعا الناس إلى الصلاة فلا يرجع بشيء، ونيته ليس بشيء.
ووجه هذا: أن الإذن للناس في الصلاة إذا ترتب عليه صلاة الناس، فإنه يقوم مقام الوقف بالقول مع حيازة الموقوف عليه، ورفع يد الواقف،
فيثبت الوقف بذلك، ونية رجوعه إلى ورثته كنية توقيت الوقف، والوقف لا يتوقت بل يتأبد، وتلغو نيته توقيته.
وقال حرب - أيضا - سمعت إسحاق يقول: الاعتكاف في كل مسجد خارج من البيت جائز، وان كانت الدار عظيمة مما يجتمع أهل المحلة في مسجد تلك الدار، ويدخلها غير أهل الدار لما جعل المسجد لله جاز الاعتكاف فيه - أيضا -، فأما رجل جعل مسجدا لنفسه، ولم يجعله للجماعة ترفقا بنفسه، فإنه لا يكون فيه اعتكاف، ولا فضل الجماعة - أيضا -، إلا أن يكون به عذر، ولا يمكنه أن يستقل إلى المسجد، فحينئذ يكون له فضل الجماعة في ذلك المسجد، فإن اعتكف فيه كان له اجر، ولا يسمى معتكفا؛ لان الاعتكاف إنما يكون في موضع بارز.
وبكل حال؛ فينبغي أن تحترم هذه البقاع المعدة للصلاة من البيوت، وتنظف وتطهر.
قال الثوري في المساجد التي تبنى في البيوت: ترفع ولا تشرف، وتفرغ للصلاة، ولا تجعل فيها شيئا.
وقد روي من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان فِي
((صحيحهما)) .
خرجه الترمذي من وجه آخر مرسلا، من غير ذكر:((عائشة)) .
وقال: هو أصح.
وكذلك أنكر الإمام أحمد وصله.
وقال الدارقطني: الصحيح المرسل.
وخرجه الإمام أحمد - أيضا - من رواية ابن إسحاق: حدثني عمر بن عبد الله بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عمن حدثه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصنع المساجد في دورنا، وان نصلح صنعتها ونطهرها.
وخرجه أبو داود بنحو هذا اللفظ من حديث سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلف في تفسير ((الدور)) في هذه الأحاديث:
فقيل: المراد بها البيوت، وبذلك فسره الخطابي وغيره.
وخرج ابن عدي حديث عائشة، ولفظه: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتنظيف المساجد التي في البيوت.
وقال أكثر المتقدمين: المراد بالدور هنا: القبائل، كقوله صلى الله عليه وسلم:((خير دور الأنصار دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني الحارث بن الخزرج، ثم دار بني ساعده، وفي كل دور الأنصار خير)) .
وبهذا فسر الحديث سفيان الثوري ووكيع بن الجراح وغيرهما.
وعلى هذا: فالمساجد المذكورة في الحديث هي المساجد المسبلة في القبائل والقرى؛ دون مساجد الأمصار الجامعة.
قال البخاري رحمه الله:
425 -
ثنا سعيد بن عفير: ثنا الليث: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني محمود بن الربيع الأنصاري، أن عتبان بن مالك - وهو من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرا من الأنصار -، أنه أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، قد أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم، لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، ووددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في
بيتي، فأتخذه مصلى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((سأفعل، إن شاء الله)) . قال عتبان: فغدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذنت له، فلم يجلس حين دخل البيت، ثم قال:((أين تحب أن أصلي من بيتك)) قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر، فقمنا خلفه، فصففنا فصلى ركعتين، ثم سلم. قال: وحبسناه على خزيرة صنعناها له. قال: فثاب في البيت رجال من أهل الدار ذوو عدد، فاجتمعوا فقال قائل منهم: أين مالك بن الدخيشن - أو ابن
الدخشن؟ فقال بعضهم: ذلك منافق، لا يحب الله ورسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا تقل ذلك، ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله، يريد بذلك وجه الله؟)) قال: الله ورسوله أعلم. قال: فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بها وجه الله)) .
قال ابن شهاب: ثم سألت بعد ذلك الحصين بن محمد الأنصاري - وهو أحد بني سالم، وهو من سراتهم - عن حديث محمود بن الربيع، فصدقه بذلك.
عتبان بن مالك بن عمرو بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم بن عوف، شهد بدرا وأحدا - كما في هذا الحديث - ولم يذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدرا، وكان ذهب بصره في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يؤم قومه وهو ضرير البصر وهو شيخ كبير إلى أن توفي في زمن معاوية.
والظاهر: أنه لما اشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قد ذهب بصره بالكلية، بل كان قد ساء بصره، كذا وقع في ((صحيح مسلم)) من رواية الأوزاعي، عن الزهري وهو معنى قوله في هذه الرواية:((أنكرت بصري)) .
ولكن رواه مالك، عن الزهري، وقال فيه: إن عتبان قال: ((وأنا رجل ضرير البصر)) .
وقد خرجه البخاري في موضع آخر.
وروى سليمان بن المغيرة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك: ثنا محمود بن الربيع، عن عتبان بن مالك، قال: أصابني في بصري
بعض الشيء، فبعثت إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي فأتخذه مصلى، ففعل.
وهذا من روايات الأكابر عن الأصاغر - أعني: رواية أنس بن مالك، عن محمود بن الربيع.
ورواه حماد بن سلمة: ثنا ثابت، عن أنس: حدثني عتبان بن مالك، أنه
عمي، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، تعال فخط لي مسجدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث.
ولعل هذه الرواية أشبه، وحماد بن سلمة مقدم في ثابت خاصة على غيره.
وقد خرجه مسلم في أول ((صحيحه)) من هذين الوجهين.
وروى هذا الحديث قتادة، واختلف عليه فيه:
فرواه شيبان، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر في إسناده:((عتبان)) .
وخالفه حجاج بن حجاج، فرواه عن قتادة، عن أبي بكر بن أنس، عن محمود بن عمير بن سعد، أن عتبان أصيب ببصره - فذكر الحديث.
خرجه النسائي في ((كتاب اليوم والليلة)) من الطريقين.
وقوله: ((محمود بن عمير بن سعد)) ، الظاهر أنه وهم؛ فقد رواه علي بن زيد بن جدعان، قال: حدثني أبو بكر بن أنس، قال: قدم أبي الشام وافدا وأنا معه، فلقينا محمود بن الربيع، فحدث أبي حديثا عن عتبان بن مالك، فلما قفلنا انصرفنا إلى المدينة، فسألنا عنه، فإذا هو حي،
فإذا بشيخ كبير أعمى، فسألناه عن الحديث، فقال: ذهب بصري على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث بطوله.
خرجه الإمام أحمد.
فتبين بهذه الرواية أن أبا بكر بن أنس سمعه من محمود بن الربيع عن عتبان، ثم سمعه من عتبان.
وقد اعتذر عتبان - أيضا - بأن السيول تحول بينه وبين مسجد قومه الذي يصلي بهم فيه، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه في بيته فيصلي فيه، حتى يتخذه مصلى.
وفي هذا: استحباب اتخاذ آثار النبي صلى الله عليه وسلم ومواضع صلواته مصلى يصلى فيه.
وقد ذكر ابن سعد، عن الواقدي، أن بيت عتبان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه الناس بالمدينة إلى يومه ذاك.
ويشهد لهذا المعنى - أيضا -: قول عمر صلى الله عليه وسلم للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا نتخذ من مقام إبراهيم مصلى؟ فَنَزَلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] .
وقد نقل أحمد بن القاسم وسندي الخواتيمي، عن الإمام أحمد،
أنه سئل عن إتيان هذه المساجد؟ فقال: أما على حديث ابن أم مكتوم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته فيتخذه مصلى، وعلى ما كان يفعل ابن عمر يتبع مواضع النبي صلى الله عليه وسلم وأثره، فلا بأس أن يأتي الرجل المشاهد، إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا، وأكثروا فيه.
وفي رواية ابن القاسم: أن أحمد ذكر قبر الحسين، وما يفعل الناس عنده - يعني: من الأمور المكروهة المحدثة.
وهذا فيه إشارة إلى أن الإفراط في تتبع مثل هذه الآثار يخشى منه الفتنة، كما كره اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وقد زاد الأمر في ذلك عند الناس حتى وقفوا عنده، واعتقدوا أنه كاف لهم، واطرحوا ما لا ينجيهم غيره، وهو طاعة الله ورسوله.
وقد رأى الحسن قوما يزدحمون على حمل نعش بعض الموتى الصالحين، فقال: في عمله فتنافسوا.
يشير إلى أن المقصود الأعظم متابعته في عمله، لا مجرد الازدحام على حمل نعشه.
وكذلك من يبالغ في تزيين المصحف وتحسينه، وهو مصر على مخالفة أوامره وارتكاب مناهيه.
وقد روى عن عمر رضي الله عنه ما يدل على كراهة ذلك - أيضا -:
فروي عن المعرور بن سويد، قال: خرجنا مع عمر في حجة حجها، فلما انصرف رأى الناس مسجدا فبادروه، فقال: ما هذا؟ قالوا: مسجد صلى فيه النبي
صلى الله عليه وسلم. فقال: هكذا
هلك أهل الكتاب قبلكم، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا، من عرضت له فيه صلاة فليصل، ومن لم تعرض له صلاة فليمض.
وقال نافع: كان الناس يأتون الشجرة التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها بيعة الرضوان، فيصلون عندها، فبلغ ذلك عمر فأوعدهم فيها، وأمر بها فقطعت.
وقال ابن عبد البر: كره مالك وغيره من أهل العلم طلب موضع الشجرة التي بويع تحتها بيعة الرضوان؛ وذلك – والله أعلم – مخالفة لما سلكه اليهود والنصارى فِي مثل ذَلِكَ.
ذكره فِي ((الاستذكار)) فِي الكلام عَلَى حَدِيْث: ((اشتد غضب الله عَلَى قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) .
وقال: ذكر مالك [.. ..] بإثر هذا الحديث حديث عتبان بن مالك؛ ليبين لك أن معنى هذا الحديث مخالف للذي قبله.
قال: والتبرك والتأسي بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم إيمان به وتصديق، وحب في الله وفي رسوله.
وفي الحديث: دليل على أن المطر والسيول عذر يبيح له التخلف عن الصلاة في المسجد.
وقد روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص له:
قال الإمام أحمد: ثنا سفيان، عن الزهري، فسئل سفيان: عمن هو؟ قال: هو محمود - إن شاء الله -، أن عتبان بن
مالك كان رجلا محجوب البصر، وانه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم التخلف عن الصلاة، فقال:((هل تسمع النداء؟)) قال: نعم. فلم يرخص له.
وكذا رواه محمد بن سعد، عن سفيان.
وهو يدل على أن سفيان شك في إسناده، ولم يحفظه.
وقال الشافعي: أبنا سفيان بن عيينة: سمعت الزهري يحدث، عن محمود ابن الربيع، عن عتبان بن مالك، قال: قلت: يا رسول الله، إني محجوب البصر، وإن السيول تحول بيني وبين المسجد، فهل لي من عذر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((هل تسمع النداء؟)) قال: نعم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا أجد لك من عذر إذا سمعت النداء)) . قال سفيان: وفيه قضية لم أحفظها.
قال الشافعي: هكذا حدثنا سفيان، وكان يتوقاه، ويعرف أنه لم يضبطه.
قال: وقد أوهم فيه - فيما نرى -، والدلالة على ذلك: ما أبنا مالك، عن ابن شهاب - ثم ذكر حديث عتبان المتقدم، على ما رواه الجماعة عن الزهري.
قال البيهقي: اللفظ الذي رواه ابن عيينة في هذا الإسناد إنما هو في قصة ابن أم مكتوم الأعمى.
قلت: وقد اشتبهت القصتان على غير واحد، وقد سبق عن الإمام أحمد أنه ذكر أن ابن أم مكتوم سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته ليتخذه
مصلى، وإنما هو عتبان بن مالك.
وقد اشتبه على بعض الرواة محمود بن الربيع الراوي له عن عتبان، فسماه محمود بن لبيد، وهو - أيضا - وهم، وقد وقع فيه بعض الرواة للحديث عن مالك.
وقال يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن محمود بن الربيع - أو الربيع بين محمود - شك يزيد.
وقد روي عن ابن عيينة بإسناد آخر: خرجه ابن عبد البر في ((التمهيد)) ، من طريق عبيد الله بن محمد: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة - إن شاء الله -، عن عتبان بن مالك، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التخلف عن الصلاة، فقال:((أتسمع النداء؟)) قَالَ: نَعَمْ. فَلَمْ يرخص لَهُ.
وهذا الإسناد غير محفوظ، ولهذا شك فيه الراوي - إما عن سفيان أو غيره -، وقال:((إن شاء الله)) ، وإنما أراد حديث محمود بن الربيع.
وأما ابن أم مكتوم، فقد خرجه مسلم من رواية يزيد بن الأصم، عن أبي
هريرة، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال: يا رسول الله، أنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال:((هل تسمع النداء بالصلاة)) قال: نعم. قال: ((فأجب)) .
وخرج الإمام أحمد وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث عيسى بن جارية، عن جابر بن عبد الله، قال: أتى ابن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، منزلي شاسع، وأنا مكفوف البصر، وأنا أسمع؟ قال:((فإن سمعت الأذان فأجب، ولو حبوا، ولو زحفا)) .
وعيسى بن جارية، تكلم فيه.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة في ((صحيحه)) والحاكم من حديث عاصم بن بهدلة، عن أبي رزين، عن ابن أم مكتوم، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني رجل ضرير البصر، شاسع الدار، ولي قائد لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن اصلي في بيتي؟ قال:((هل تسمع النداء؟)) قال: نعم. قال: ((لا أجد لك رخصة)) .
وفي إسناده اختلاف على عاصم:
وروي عنه، عن أبي رزين مرسلا.
ورواه أبو سنان سعيد بن سنان، عن عمرو بن مرة، عن أبي رزين، عن أبي هريرة.
وأبو سنان، قال أحمد: ليس بالقوي.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة، من حديث عبد الرحمن بن عابس، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن أم مكتوم، أنه قال: يا رسول الله، إن المدينة كثيرة الهوام والسباع. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((تسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح؟)) قال: نعم. قال: ((فحيهلا)) .
وخرج الإمام أحمد من حديث عبد العزيز بن مسلم، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن شداد، عن ابن أم مكتوم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المسجد فرأى في القوم رقة، فقال:((إني لأهم أن أجعل للناس إماما، ثم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه)) . فقال ابن أم مكتوم، يا رسول الله، إن بيني وبين المسجد نخلا وشجرا، ولا أقدر على قائد كل ساعة، أيسعني أن أصلي في بيتي؟ قال:((أتسمع الإقامة؟)) قال: نعم. قال: ((فأتها)) .
وخرجه ابن خزيمة والحاكم من رواية أبي جعفر الرازي، عن حصين، به - بنحوه.
وقد روي هذا الحديث من رواية البراء بن عازب وأبي أمامة وكعب بن عجرة. وفي أسانيدها ضعف. والله أعلم.
وقد أشكل وجه الجمع بين حديث ابن أم مكتوم وحديث عتبان بن مالك، حيث جعل لعتبان رخصة، ولم يجعل لابن أم مكتوم رخصة:
فمن الناس: من جمع بينهما بأن عتبان ذكر أن السيول تحول بينه وبين مسجد قومه، وهذا عذر واضح؛ لأنه يتعذر معه الوصول إلى المسجد، وابن أم مكتوم لم يذكر مثل ذلك. وإنما ذكر مشقة المشي عليه. وفي هذا ضعف؛ فإن السيول لا تدوم، وقد رخص له في الصلاة في بيته بكل حال، ولم يخصه بحالة وجود السيل، وابن أم مكتوم قد ذكر أن المدينة كثيرة الهوام والسباع، وذلك يقوم مقام السيل المخوف.
وقيل: إن ابن أم مكتوم كان قريبا من المسجد، بخلاف عتبان، ولهذا ورد في بعض طرق حديث ابن أم مكتوم: أنه كان يسمع الإقامة. ولكن في بعض الروايات أنه أخبر أن منزله شاسع كما تقدم.
ومن الناس من أشار إلى نسخ حديث ابن أم مكتوم بحديث عتبان، فإن الأعذار التي ذكرها ابن أم مكتوم يكفي بعضها في سقوط حضور المسجد.
وقد أشار الجوزجاني إلى أن حديث ابن أم مكتوم لم يقل أحد بظاهره.
يعني: أن هذا لم يوجب حضور المسجد على من كان حاله كحال ابن أم مكتوم.
وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد أنه لا يجد لابن أم مكتوم رخصة في حصول فضيلة الجماعة مع تخلفه وصلاته في بيته.
واستدل بعض من نصر ذلك - وهو: البيهقي - بما خرجه في ((سننه)) من طريق أبي شهاب الحناط، عن العلاء بن المسيب، عن أبيه، عن ابن أم مكتوم، قال: قلت: يا رسول الله، إن لي قائدا لا يلائمني في هاتين الصلاتين؟ قَالَ: ((أي
الصلاتين؟)) قلت: العشاء والصبح. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم القاعد عنهما ما فيهما لأتاهما ولو حبوا)) .
وحديث ابن أم مكتوم يدل على أن العمى ليس بعذر في ترك الجماعة، إذا كان قادرا على إتيانها، وهو مذهب أصحابنا.
ولو لم يمكنه المجيء إلا بقائد ووجد قائدا متبرعا له، فهل يجب عليه حضور المسجد؟ على وجهين، ذكرهما ابن حامد من أصحابنا.
وهذا بناء على قول أحمد: إن حضور المسجد للجماعة فرض عين.
وسيأتي ذكر ذلك مستوفى في موضعه - إن شاء الله تعالى.
وقد يستدل بحديث عتبان على أن الجماعة في البيت تكفي من حضور المسجد خصوصا للأعذار.
ويحتمل أن يكون عتبان جعل موضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من بيته مسجدا يؤذن فيه، ويقيم، ويصلي بجماعة أهل داره ومن قرب منه، فتكون صلاته حينئذ في مسجد: إما مسجد جماعة، أو مسجد بيت يجمع فيه،
وأما ابن أم مكتوم فإنه استأذن في صلاته في بيته منفردا، فلم يأذن له، وهذا اقرب ما جمع به بين الحديثين. والله أعلم.
لكن في ((سنن البيهقي)) من حديث كعب بن عجرة، أن رجلا أعمى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني اسمع النداء، ولعلي لا أجد قائدا، أفأتخذ مسجدا في داري؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:((تسمع النداء؟)) قال: نعم. قال: ((فإذا سمعت النداء فاخرج)) .
وفي إسناده اختلاف، وقد قال أبو حاتم فيه: أنه منكر.
ومع هذا؛ فلا دلالة فيه على أنه أراد أن يصلي في بيته جماعة، إنما فيه أنه أراد أن يجعل في داره مسجدا لصلاته في نفسه.
وفي حديث عتبان: دليل على جواز إمامة الأعمى، وجواز الجماعة في صلاة التطوع - أحيانا -، وجواز إمامة الزائر بإذن المزور في بيته.
وقوله: ((وحسبناه على خزيرة صنعناها له)) يدل على أن الزائر وإن كان صاحب المنزل قد استدعاه إلى بيته لحاجة له، فإنه يستحب له أن يضيفه، وإن حبسه لذلك في بيته بعد انقضاء حاجته لم يضر ذلك، بشرط ألا يكون على الزائر فيه مشقة.
((والخزيرة)) : مرقة تصنع من النخالة. وقيل: من الدقيق - أيضا -، وقيل: أنه لا بد أن يكون معها شيء من دسم من شحم أو لحم. وخص بعضهم دسمها باللحم خاصة.
وقوله: ((فثاب في البيت رجال)) - يعني جاءوا متواترين، بعضهم في اثر بعض.
وقوله: ((من أهل الدار)) - يعني: دار بني سالم بن عوف، وهم قوم عتبان.
وفي قوله النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تقل ذلك)) نهى أن يرمي احد بالنفاق لقرائن تظهر عليه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجري على المنافقين أحكام المسلمين في الظاهر، مع علمه بنفاق بعضهم، فكيف بمسلم يرمي بذلك بمجرد قرينة؟
وفيه: أن من رمى أحدا بنفاق، وذكر سوء عمله، فإنه ينبغي أن ترد غيبته، ويذكر صالح عمله؛ ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أن لا اله إلا الله وان محمد عبده ورسوله، لا يلتفت إلى قول من قال: إنما يقولها تقية ونفاقا.
وإنما لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجر مالك بن الدخشن؛ لأنه لم يعرف عنده بما يخشى عليه من النفاق، ولم يثبت ذلك ببينة، وإنما رمي بذلك، بخلاف الثلاثة الذين خلفوا؛ فإنهم اعترفوا بما يخشى عليهم منه النفاق؛
ولهذا عذر المعتذرين ووكلهم إلى الله، وكان كثير منهم كاذبا.
وقد سبق القول في معنى تحريم من قال: ((لا اله إلا الله)) على النار، في أواخر ((كتاب: العلم)) .
وقد شهد مالك بن الدخشم مع النبي صلى الله عليه وسلم بدرا واحدا والمشاهد كلها، واختلفوا: هل شهد مع الأنصار بيعة العقبة، أم لا؟
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه مع عاصم بن عدي لتحريق مسجد الضرار وهدمه.
وقد روى أسد بن موسى: ثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رجلا من الأنصار أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمع قومه، وتغيب رجل منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((أين فلان؟)) فغمزه رجل منهم، فقال: أنه، وانه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أليس قد شهد بدرا؟)) قالوا: بلى. قال: ((فلعل الله قد اطلع إلى أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) .
وخرجه الطبراني من طريق حماد - أيضا -، حديثه: أن رجلا من الأنصار عمي، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخطط لي في داري مسجدا لأصلي فيه. فجاء
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اجتمع إليه قومه وتغيب رجل.
وخرجه ابن ماجة أول الحديث فقط، وخرج أبو داود آخره فقط من طريق حماد.
ولأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث آخر في معنى حديث عتبان. خرجه البخاري في مواضع أخر، وقد ذكرناه في ((باب: الصلاة على الحصير)) فيما تقدم.
47 - باب
التيمن في دخول المسجد وغيره
وكان ابن عمر يبدأ برجله اليمنى، فإذا خرج بدأ برجله اليسرى.
426 -
حدثنا سليمان بن حرب: ثنا شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن أبيه، عن مسروق، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما استطاع في شانه كله، في طهوره، وترجله، وتنعله.
وقد سبق هذا الحديث في ((باب: التيمن في الوضوء والغسل)) وبسطنا القول عليه هناك، أنه يدل على تقديم اليمنى في الأفعال الشريفة، واليسرى فيما هو بخلاف ذلك، فالدخول إلى المسجد من اشرف الأعمال، فينبغي تقديم الرجل اليمنى فيه كتقديمها في الانتعال، والخروج منه بالعكس، فينبغي تأخير اليمنى فيه، كتأخيرها في خلع النعلين.
وأما ما ذكره عن ابن عمر تعليقا.
وروى شداد أبو طلحة الراسبي، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك، أنه كان يقول: من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى.
خرجه الحاكم.
وقال: صحيح على شرط مسلم.
وخرجه
البيهقي.
وقال: تفرد أبو طلحة، وليس بالقوي.
وسئل الدارقطني عنه، فقال: يعتبر به.
وخرجه له مسلم.
وروي عن أنس من وجه أخر أضعف من هذا، من فعله، ولم يقل فيه:((من السنة)) .
48 - باب
هل تنبش قبور مشركي الجاهلية، ويتخذ مكانها
مساجد
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))
وما يكره من الصلاة في القبور
ورأى عمر أنس بن مالك يصلي عند قبر، فقال: القبر القبر، ولم يأمره بالإعاده.
مقصود البخاري بهذا الباب: كراهة الصلاة بين القبور واليها، واستدل لذلك بان اتخاذ القبور مساجد ليس هو من شريعة الإسلام، بل من عمل اليهود، وقد لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وقد خرج البخاري هذا الحديث فيما تقدم، وسيأتي قريبا - أن شاء الله تعالى.
وقد دل القران على مثل ما دل عليه هذا الحديث، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف:{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}
[الكهف: 12] ، فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بان مستند القهر والغلبة واتباع الهوى، وانه ليس من فعل أهل العلم والفضل المتبعين لما انزل الله على رسله من الهدى.
وإذا كرهت الصلاة إلى القبور وبينها، فإن كانت القبور محترمة اجتنبت الصلاة فيها، وأن كانت غير محترمة كقبور مشركي الجاهلية ونحوهم ممن لا عهد له ولا ذمة مع المسلمين فإنه يجوز نبشها ونقل ما يوجد فيها من عظامهم، والصلاة في موضعها؛ فإنها لم تبق مقبرة ولا بقي فيها قبور، وقد نص الإمام أحمد على ذلك في رواية المروذي.
وأما ما ذكره عن عمر رضي الله عنه، فمن رواية سفيان، عن حميد، عن أنس، قال: رأني عمر وأنا اصلي إلى قبر، فجعل يشير إلي: القبر القبر.
ورواه إسماعيل بن جعفر عن حميد، عن أنس، حدثه أنه قام يصلي إلى قبر لا يشعر به، فناداه عمر: القبر القبر. قال: فظننت أنه يقول: القمر، فرفعت راسي، فقال رجل: أنه يقول: القبر، فتنحيت.
وروي عن أنس، عن عمر من وجوه أخر.
وروى همام: ثنا قتادة، أن أنسا مر على مقبرة وهم يبنون مسجدا، فقال أنس: كان يكره أن يبنى مسجد في وسط القبور.
وقال أشعث: عن ابن سيرين: كانوا يكرهون الصلاة بين ظهراني القبور.
خرج ذلك كله أبو بكر الأثرم.
وقال: سمعت أبا عبد الله - يعني:
أحمد - يسال عن الصلاة في المقبرة؟ فكره الصلاة في المقبرة. فقيل له: المسجد يكون بين القبور، أيصلي فيه؟ فكره ذَلِكَ. قيل لَهُ: أنه مسجد وبينه وبين القبور حاجز؟ فكره أن يصلي فيه الفرض، ورخص أن يصلي فيه على الجنائز. وذكر حديث أبي مرثد الغنوي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((لا تصلوا إلى القبور)) ، وقال: إسناد جيد.
وحديث أبي مرثد هذا: خرجه مسلم، ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها)) .
وروي عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، إلا المقبرة والحمام)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وابن حبان والحاكم
وصححه.
وقد اختلف في إرساله ووصله بذكر ((أبي سعيد)) فيه، ورجع كثير من الحفاظ إرساله: عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، ومنهم: الترمذي والدارقطني.
وفي هذا الباب أحاديث أخر، قد استوفيناها في ((في كتاب شرح الترمذي)) .
وأما ما ذكره البخاري: أن عمر لم يأمر أنسا بالإعادة.
فقد اختلف في الصلاة في المقبرة: هل تجب إعادتها، أم لا؟
وأكثر العلماء على أنه لا تجب الإعادة بذلك، وهو قول مالك، والشافعي، واحمد في رواية عنه.
والمشهور عن أحمد الذي عليه عامة أصحابه: أن عليه الإعادة؛
لارتكاب النهي في الصلاة فيها.
وهو قول أهل الظاهر - أو بعضهم -، وجعلوا النهي هاهنا لمعنى يختص بالصلاة من جهة مكانها، فهو كالنهي عن الصلاة المختص بها لزمانها كالصلاة في أوقات النهي، وكالصيام المنهي عنه لأجل زمنه المختص به كصيام العيدين.
حتى أن من أصحابنا من قال: متى قلنا: النهي عن الصلاة في المقبرة والأعطان ونحوها للتحريم، فلا ينبغي أن يكون في بطلان الصلاة فيها خلاف عن أحمد، وإنما الخلاف عنه في عدم البطلان مبني على القول بأنه مكروه كراهة تنزيه.
وأكثر العلماء على أن الكراهة في ذلك كراهة تنزيه، ومنهم من رخص فيه.
قال ابن المنذر: اختلفوا في الصلاة في المقبرة، فروينا عن علي وابن عباس
وعبد الله بن عمرو وعطاء والنخعي أنهم كرهوا الصلاة فيها. واختلف عن مالك فيه، فحكى ابن القاسم عنه أنه قال: لا باس به، وحكى أبو مصعب عنه أنه قال: لا أحب ذلك.
قال ابن المنذر: ونحن نكره من ذلك ما كرهه أهل العلم استدلالا بالثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:((اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورا)) ، ففي هذا دليل على أن المقبرة ليست بموضع للصلاة.
قلت: قد استدل البخاري بذلك - أيضا - وعقد له بابا مفردا، وسيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى.
قال ابن المنذر: وقد قال نافع مولى ابن عمر: صليتا على عائشة
وأم سلمه وسط البقيع، والإمام يومئذ أبو هريرة، وحضر ذلك ابن عمر.
قلت: صلاة الجنازة مستثناة من النهي عند الإمام أحمد وغيره، وقد سبق قول أحمد في ذلك. وقال أيضاً -: لا يصلي في مسجد بين المقابر إلا الجنائز؛ لأن الجنائز هذه سنتها.
يشير إلى فعل الصحابة رضي الله عنهم.
قال ابن المنذر: وروينا أن واثلة بن الأسقع كان يصلي في المقبرة، غير أنه لا يستتر بقبر.
قلت: لأنه هو روى عن أبي مرثد حديث النهي عن الصلاة إلى القبور، فكان يخص النهي بحاله استقبال القبر خاصة.
قال ابن المنذر: وصلى الحسن البصري قي المقابر.
قلت: لعله صلى على جنازة، فإنه روي عنه أنه أمر بهدم المساجد المبنية في المقابر.
قال: وكره عمر بن الخطاب وأنس بن مالك الصلاة إلى المقابر. انتهى ما ذكره.
واختلف القائلون بالكراهة في علة النهي:
فقال الشافعي: علة ذلك النجاسة، فإن تراب المقابر يختلط بصديد الموتى ولحومهم، فإن كانت طاهرة صحت الصلاة فيها مع الكراهة.
وقسم أصحابه المقبرة إلى ثلاثة أقسام: ما تكرر نبشها، فلا تصح
الصلاة فيها، لاختلاط ترابها بالصديد. وجديدة لم تنبش، فيصح الصلاة فيها مع الكراهة؛ لأنها مدفن للنجاسة.
وما شك في نبشها، ففي صحة الصلاة فيها قولان.
وأختلف أصحابنا في علة النهي [عن الصلاة]، فمنهم من قال: هو مظنة النجاسة، ومنهم من قال: هو تعبد لا يعقل.
وقالو مع هذا: لا فرق بين أن تكون قديمة أو حديثة، نبشت أو لم تنبش، إذا تناولها اسم مقبرة.
قالوا: فإن كان في بقعة قبر أو قبران فلا بأس بالصلاة فيها وما لم يصل إلى القبر.
وأنكر آخرون التعليل بالنجاسة، بناء على طهارة تراب المقابر بالاستحالة، وعللوا: بان الصلاة في المقبرة والى القبور، إنما نهى عنه سدا لذريعة الشرك، فإن اصل الشرك وعبادة الأوثان كانت من تعظيم القبور، وقد ذكر البخاري في ((صحيحه)) في ((تفسير سورة نوح)) عن ابن عباس معنى ذلك، وسنذكره فيما بعد - أن شاء الله.
وفي ((صحيح مسلم)) عن جندب، سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول:((أن من كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)) .
وهذا يعم كل القبور.
وخرج الإمام أحمد وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن من شرار الناس من
تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد)) .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي صالح، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج)) .
وقال الترمذي: حسن - وفي بعض النسخ: صحيح.
وخرج ابن حبان فِي ((صحيحه)) والحاكم وصححه.
واختلف في أبي صالح هذا، من هو؟
فقيل: إنه السمان -: قاله الطبراني، وفيه بعد. وقيل: إنه ميزان البصري، وهو ثقة؛ قاله ابن حبان. وقيل: إنه باذان مولى أم هاني -: قاله الإمام أحمد والجمهور.
وقد اختلف في أمره:
فوثقه العجلي. وقاله ابن معين: ليس
به باس. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتاج به. وقال النسائي: ليس بثقة. وضعفه الإمام أحمد وقال: لم يصح عندي حديثه هذا.
وقال مسلم في ((كتاب التفصيل)) : هذا الحديث ليس بثابت، وأبو صالح باذام قد اتقى الناس حديثه، ولا يثبت له سماع من ابن عباس.
وروي عن زيد بن ثابت، أنه نهى أن يبنى عند قبر أبيه مسجد.
خرجه حرب الكرماني.
وقال أبو بكر الأثرم في كتاب ((الناسخ والمنسوخ)) : إنما كرهت الصلاة في المقبرة للتشبه بأهل الكتاب؛ لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد.
ووجدنا في كتاب مصنف على مذهب سفيان الثوري: وإذا صلى الرجل وبين يديه ميت تنحى عنه. إنما كره الصلاة إلى القبور من اجل الميت، فإن صلى إليها فلا باس.
وفيه - أيضا -: قال سفيان: ويكره أن يصلي الرجل إلى القبور أو ما بين
القبور. ثم قال: ومن صلى إلى القبور فلا إعادة عليه.
وفيه: قال: ولا تعجبني الصلاة على الجنازة في المقبرة.
وهذا قول الشافعي وإسحاق ورواية عن أحمد؛ لعموم النهي عن الصلاة في المقبرة.
واستدل من رخص في صلاة الجنازة في المقبرة: بان الصلاة على القبر جائزة بالسنة الصحيحة، فعلم أن الصلاة على الميت في القبور غير منهي عنها.
خرج البخاري في هذا الباب حديثين:
الحديث الأول:
قال:
427 -
ثنا محمد بن المثنى: ثنا يحيى، عن هشام: اخبرني أبي، عن عائشة، أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، وأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) .
هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صورهم فيها كما يفعله النصارى، ولا ريب أن كل واحد منهما محرم على انفراد، فتصوير صور الآدميين محرم، وبناء القبور على المساجد بانفراده محرم كما دلت
عليه النصوص أخر يأتي ذكر بعضها.
وقد خرج البخاري في ((تفسير سورة نوح)) من ((كتابه)) هذا من حديث ابن جريج، فقال: عطاء، عن ابن عباس: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب تعبد، أما ود كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبإ وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع -: أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت.
وقد ذكر الإسماعيلي: أن عطاء هذا هو الخرساني، والخرساني لم يسمع من ابن عباس. والله أعلم.
فإن اجتمع بناء المسجد على القبور ونحوها من آثار الصالحين مع تصوير صورهم فلا شك في تحريمه، سواء كانت صورا مجسدة كالأصنام أو على حائط ونحوه، كما يفعله النصارى في كنائسهم، والتصاوير التي في الكنيسة التي ذكرتها أم حبيبة وأم سلمة أنهما رأتاها بالحبشة كانت على الحيطان ونحوها، ولم يكن لها ظل، وكانت أم سلمة وأم حبيبة قد هاجرتا إلى الحبشة.
فتصوير الصور على مثل
صور الأنبياء والصالحين؛ للتبرك بها والاستشفاع بها محرم في دين الإسلام، وهو من جنس عبادة الأوثان، وهو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أهله شرار الخلق عند الله يوم القيامة.
وتصوير الصور للتآنس برؤيتها أو للتنزه بذلك والتلهي محرم، وهو من الكبائر وفاعله من اشد الناس عذابا يوم القيامة، فإنه ظالم ممثل بأفعال الله التي لا يقدر على فعلها غيره، والله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله سبحانه وتعالى.
الحديث الثاني:
428 -
حدثنا مسدد: ثنا عبد الوارث، عن أبي التياح، عن أنس، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى بني النجار فجاءوا متقلدين السيوف، فكأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته، وأبو بكر ردفه، وملأ بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب، وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، وإنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملإ بني النجار، فقال:((يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا)) . قالوا: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عز وجل. قال أنس: فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خرب، وفيه نخل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، ثم بالخرب فسويت، ثم بنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه
بالحجارة، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون، والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وهو يقول:
اللهم لا خير إلا خير الآخرة
…
فاغفر للأنصار والمهاجره
أعلى المدينة: هو العوالي والعالية، وهو قباء وما حوله، وكانت قباء مسكن بني عمرو بن عوف.
وقيل: إن كل ما كان من جهة نجد من المدينة، من قراها وعمائرها إلى تهامة يسمى العالية، وما كان دون ذلك يسمى السافلة.
وبنو النجار كانوا أخوال النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرنا سبب ذلك في ((كتاب: الإيمان)) في ((باب: الصلاة من الإيمان)) .
وكان مقصود النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتقل من العوالي إلى وسط المدينة، وان يتخذ بها مسكنا يسكنه.
وفي إردافه لأبي بكر في ذلك اليوم دليل على شرف أبي بكر واختصاصه به دون سائر أصحابه.
وقوله: ((وملأ بني النجار حوله)) - يريد: رجالهم وشجعانهم وأشرافهم.
وقوله: ((حتى ألقى بفناء أبي أيوب)) - أي: بفناء داره، و ((ألقى)) بالقاف، ومعناه: أنه نزل به، فإن السائر إذا نزل بمكان ألقى فيه رحله وما معه.
وقد ذكر شرحبيل بن سعد وأهل السير: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كلما مر بدار من دور الأنصار كبني سالم وبني حارث بن الخزرج وبني عدي أخذوا بخطام راحلته، وعرضوا عليه النزول بحيهم، وهو يقول:((خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة)) ، حتى بركت بفناء دار أبي أيوب، عند مسجده الذي بناه.
وقول أنس: ((وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة ويصلي في مرابض الغنم)) ، موافق لقوله صلى الله عليه وسلم:((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره)) . ولقوله لما سئل: أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: ((المسجد الحرام)) . قيل له: ثم أي؟ قال: ((ثم مسجد بيت المقدس)) . قيل: كم بينهما؟ قال: ((أربعون سنة)) . ثم قال: ((الأرض لك مسجد، فأينما أدركتك الصلاة فصل؛ فإنه لك مسجد)) .
وقوله: فأرسل إلى بني النجار، فقال:((ثامنوني بحائطكم)) - يعني: بيعوني إياه بثمنه.
قال الخطابي: وفيه أن صاحب السلعة أحق بالسوم.
فإنه طلب منهم أن يذكروا له الثمن، ولم يقطع ثمنا من عنده.
والحائط: ما فيه
شجر وعليه بنيان.
وقوله: ((قالوا: والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله)) يدل على أنهم لم يأخذوا له ثمنا، وقد ذكر الزهري وغيره خلاف ذلك.
قال ابن سعد: أبنا الواقدي: حدثني معمر، عن الزهري، قال: بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موضع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ يصلي فيه رجال من المسلمين، وكان مربدا لسهل وسهيل: غلامين يتيمين من الأنصار، وكانا في حجر أبي أمامة أسعد بن زرارة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلامين، فساومهما بالمربد؛ ليتخذه مسجدا. فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ابتاعه منهما.
قال الواقدي: وقال غير معمر، عن الزهري: فابتاعه بعشرة دنانير. وقال معمر، عن الزهري: وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك.
وهذا إن صح يدل على أن الغلامين كانا قد بلغا الحلم.
وحديث أنس اصح من رواية يرويها الواقدي عن معمر وغيره، عن الزهري مرسلة، فإن مراسيل الزهري لو صحت عنه من اضعف المراسيل، فكيف إذا تفرد بها الواقدي؟
وقد روي عن الحسن، أنهما وهباه للنبي صلى الله عليه وسلم فقبله:
قال المفضل الجندي في ((فضائل المدينة)) له: ثنا محمد بن يحيى: ثنا سفيان، عن أبي موسى، عن الحسن، قال: كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مربدا لغلامين من الأنصار، يقال لهما: سهل وسهيل، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم أعجبه، فكلم فيه عمهما - وكانا في حجره - أن يبتاعه منهما، فأخبرهما عمهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراده، فقالا: نحن نعطيه إياه. فأعطياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبناه.
قال الحسن: فأدركت فيه أصول النخل غلابا - يعني: غلاظا -، وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جذع منها، ويسند إليه ظهره، ويصلي إليه.
ثم قال الواقدي - في روايته عن معمر، عن الزهري -: كان - يعني: ذلك المربد - جدارا مجدرا، ليس عليه سقف، وقبلته إلى بيت المقدس، كان أسعد بن زرارة بناه، فكان يصلي بأصحابه فيه، ويجمع فيه بهم الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل الذي في الحديقة، وبالغرقد الذي فيه أن يقطع، وأمر باللبن فضرب، وكان في المربد قبور جاهلية، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنبشت، وأمر بالعظام أن تغيب، وكان في المربد ماء مستنجل فسيروه حتى ذهب، وأسسوا المسجد، فجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، وفي هذين الجانبين مثل ذلك، فهو مربع - ويقال: كان اقل من المائة -، وجعلوا الأساس قريبا من ثلاث أذرع على الأرض بالحجارة، ثم بنوه باللبن، وبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل ينقل
معهم الحجارة بنفسه، وهو يقول:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة
…
فاغفر للأنصار والمهاجره
وجعل يقول:
هذا الحمال لا حمال خيبر
…
هذا أبر - ربنا -، وأطهر
وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: بابا في مؤخره، وبابا يقال له: باب الرحمة، وهو باب الذي يدعى باب عاتكة، والباب الثالث الذي يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الباب الذي يلي آل عثمان، وجعل طول الجدار بسطة وعمدة الجذوع، وسقفه جريدا، فقيل له: ألا نسقفه؟ فقال: ((عريش كعريش موسى، خشيبات وثمام، الشأن أعجل من ذلك)) .
وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن، وسقفها بجذوع النخل والجريد، فلما فرغ من البناء بنى بعائشة في البيت الذي بابه شارع إلى المسجد، وجعل سودة بنت زمعة في البيت الآخر الذي يليه إلى الباب الذي يلي آل عثمان. انتهى.
وذكر ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في منزل أبي أيوب سبعة أشهر.
وهذا يدل على أن بعض حجره تم بناؤه بعد ذلك، وانتقل إليها.
وروى ابن سعد - أيضا - عن الواقدي: ثنا عبد الرحمن بن
أبي الرجال، قال: مات أسعد بن زرارة في شوال، على رأس تسعة أشهر من الهجرة، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمئذ يبنى.
وهذا يدل على أن بناء المسجد لم يتم إلا بعد تسعة أشهر من الهجرة.
وأما قول أنس: ((فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خرب، وفيه نخل)) .
لفظه: ((خرب)) رويت بالخاء المعجمة والباء الموحدة. ورويت: ((حرث)) بالحاء والثاء المثلثة.
قال الإسماعيلي: من قال: ((حرث)) . فهو محتمل؛ لأن ما حرث ولم يزرع أو زرع فرفع زرعه، كانت الأخاديد والشقوق باقية في الأرض.
يشير إلى أن ذلك يناسب قوله: ((فأمر بالحرث فسويت)) .
قال: ومن قال: ((خرب)) فهو صحيح؛ فهو جمع خربة أو خربة – بضم الخاء – وهو العيب، كالجحر والشق ونحوه.
قال: وأما ((الخرب)) فهو كقولك: مكان خرب - يعني: أنه يكون وصفا لمذكر.
قال: والحديث خارج على تأنيث هذا الحرف، فكأنه بالجمع أشبه.
وقال الخطابي: روي ((خرب)) - يعني: بكسر الخاء وبفتح الراء - قال الليث: هي لغة تميم خرب، والواحد خربة.
قال: وسائر الناس يقولون: ((خرب)) - يعني: بفتح الخاء وكسر الراء -، جمع خربة، كما قيل: كلم جمع كلمة. ولعل الصواب ((الخرب)) مضمومة الخاء جمع خربة وهي الخروق التي في الأرض، إلا أنهم يقولونها في كل ثقبة مستديرة.
قال: ولعل الرواية: ((الجرف)) جمع الجرفة، وهي جمع الجرف،
كما قيل: خرج وخرجه، وترس وترسه.
قال: وأبين منها - إن ساعدت الرواية -: ((حدب)) جمع حدبة، لقوله:((فسويت)) ، وإنما يسوى المكان المحدودب، أو ما فيه خروق، فأما الخرب فتبنى وتعمر. انتهى ما ذكره.
وفيه تكلف شديد، وتلاعب بهذه اللفظة بحسب ما يدخلها من الاحتمالات المستبعدة. والرواية التي رواها الحفاظ:((خرب)) ، فإن كان مفردا، فإنما أنث
تسويته؛ لأن التأنيث يعود إلى أماكنه، والظاهر أنها كانت متعددة، وإن كان
((خرب)) ؛ - بالجمع - فتأنيثها واضح.
ومعنى تسوية الخرب: أن البناء الخراب المستهدم يصير في موضعه أماكن مرتفعة عن الأرض فتحتاج إلى أن تحفر وتسوى بالأرض، وهذا أمر واضح ظاهر، لا يحتاج إلى تكلف ولا تعسف.
وأما ((النخل)) فقد اخبر أنس أنه قطع، وصف قبلة للمسجد، وأما ((قبور المشركين)) فنبشت، وذكر أنهم بدءوا بنبش القبور، ثم بتسوية الخرب، ثم بقطع النخل.
والمقصود من تخريج الحديث في هذا الباب: أن موضع المسجد كان فيه قبور للمشركين، فنبشت قبورهم، وأخرجت عظامهم منها، وهذا يدل على أن المقبرة إذا نبشت وأخرج ما فيها من عظام الموتى لم تبق مقبرة، وجازت الصلاة فيها.
ويدل على كراهة الصلاة في المقبرة
ولو كانت قبور المشركين؛ لما فيه من سد الذريعة إلى اتخاذ القبور مساجد، فإنه إذا تطاول العهد، ولم تعرف الحال، خشي من ذلك الفتنة.
وقد يقال مع ذلك: إن في نبش عظام المشركين للصلاة في أماكنها تباعدا في الصلاة عن مواضع العذاب والغضب، وهي مما يكره الصلاة فيها، كما سيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى.
وفي الحديث: دليل على طهارة الأرض بالاستحالة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر عند نبش الأرض بإزالة تراب القبور ولا تطهيرها، ولو فعل ذلك لما أهمل نقله؛ للحاجة إليه.
ويدل عليه - أيضا -: أن الصحابة كانوا يخوضون الطين في الطرقات ولا يغسلون أرجلهم - كما تقدم عنهم - والنجاسات مشاهدة في الطرقات، فلو لم تطهر بالاستحالة لما سومح في ذلك.
وهذا قول طائفة من العلماء من السلف، كأبي قلابة وغيره، ورجحه بعض أصحابنا، وهو رواية عن أبي حنيفة، والمشهور عنه: أن الأرض النجسة إذا جفت فإنه يصلى عليها، ولا يتيمم بها. ومذهب مالك والشافعي واحمد وغيرهم: أنها نجسة بكل حال.
وفي الحديث: دليل على أن قبور المشركين لا حرمة لها، وأنه يجوز نبش عظامهم، ونقلهم من الأرض للانتفاع بالأرض إذا احتيج إلى ذلك.
واختلفوا في نبش قبورهم لطلب ما يدفن معهم من مال، فرخص فيه كثير من العلماء. حكاه ابن عبد البر عن أبي حنيفة والشافعي. قال وكرهه مالك ولم يحرمه، وكان الناس يفعلون ذلك في أول
الإسلام كثيرا.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقبر أبي رغال، فأخبرهم أن معه غصنا من
ذهب، فنبشوه واستخرجوه منه.
ومن العلماء من كره ذلك، منهم الأوزاعي، وعلل بأنه يكره الدخول إلى مساكنهم؛ خشية نزول العذاب، فكيف بقبورهم؟
وكره بعض السلف نبش القبور العادية المجهولة؛ خشية أن يصادف قبر نبي أو صالح، وخصوصا بأرض الشام كالأردن.
ونص أحمد على أنه إذا غلب المسلمون على ارض الحرب فلا تنبش قبورهم.
وهذا محمول على ما إذا كان النبش عبثا لغير مصلحة، أو أن يخشى منه أن يفعل الكفار مثل ذلك بالمسلمين إذا غلبوا على أرضهم.
وفي الحديث: دليل على أن بيع الأرض التي في بعضها قبور صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم طلب شراء هذا المربد.
وهذه المسألة على قسمين:
أحدهما: أن يكون المقبور في الأرض يجوز نبشه ونقله، كأهل الحرب، ومن دفن في مكان مغصوب، فهذا لا شك في صحة البيع للأرض كلها، وينقل المدفون فيها، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنقل عظام المشركين من المربد.
والثاني: أن يكون المقبور محترما لا يجوز نبشه، فلا يصح بيع موضع القبور خاصة.
وهل يصح في الباقي؟ يخرج على الخلاف المشهور في تفريق الصفقة.
ولو اشترى أرضا، فوجد في بعضها عظام موتى، ولم يعلم: هل هي مقبرة أم لا؟ فقال ابن عقيل من أصحابنا وبعض الشافعية في زمنه: لا يصح البيع في محل الدفن؛ لأن تلك البقعة إما أن تكون مسبلة، وإما أن تكون ملكا للميت قد وصى بدفنه فيها، فيكون أحق بها، ولا ينقل إلى الورثة.
وهذا الذي قالوه هو الأغلب، وإلا فيحتمل أن يكون الدفن في أرض مغصوبة أو مغارة للدفن، إلا أن هذا قليل أو نادر، فلا يعول عليه. والله أعلم.
والمنصوص عن أحمد: أنه إذا دفن في بيت من داره فلا بأس ببيعه، ما لم يجعل مقبرة مسبلة.
وفي الحديث: دليل على جواز قطع النخل لمصلحة في قطعه، وقد نص على جوازه أحمد: إذا كان في داره نخلة ضيقت عليه، فلا بأس أن يقطعها.
وكره جماعة قطع الشجر الذي يثمر، منهم: الحسن والأوزاعي وإسحاق، وكره أحمد قطع السدر خاصة لحديث مرسل ورد فيه، وقال: قل إنسان فعله إلا رأى ما يكره في الدنيا.
ورخص في قطعه آخرون. والله أعلم.
49 - باب
الصلاة في مرابض الغنم
429 -
حدثنا سليمان بن حرب: ثنا شعبة، عن أبي التياح، عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في مرابض الغنم.
ثم سمعته بعد يقول: كان يصلي في مرابض الغنم، قبل أن يبني المسجد.
هذا مختصر من الحديث الذي قبله، وإنما ترك الصلاة في مرابض الغنم بعد بناء المسجد؛ لاستغنائه عنها بالمسجد لا لنسخ الصلاة فيها، فإنه روي عنه أنه أذن في ذلك.
ففي ((صحيح مسلم)) عن جابر بن سمرة، أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أصلي في مرابض الغنم؟ قال:((نعم)) قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: ((لا)) .
وفيه أحاديث أخر، يأتي بعضها - إن شاء الله تعالى.
وقد روي الرخصة في ذلك عن ابن عمر، وأبي ذر، وأبي
هريرة، وجابر ابن سمرة، وابن الزبير وغيرهم، وهو قول العلماء بعدهم.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة الصلاة في مرابض الغنم، إلا الشافعي، فإنه قال: لا أكره الصلاة في مراح الغنم، إذا كان سليما من أبوالها وأبعارها.
50 - باب
الصلاة في مواضع الإبل
430 -
حدثنا صدقة بن الفضل: ثنا سليمان بن حيان: ثنا عبيد الله، عن
نافع، قال: رايت ابن عمر يصلي إلى بعيره، فقال: رايت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله.
سليمان بن حيان، هو: أبو خالد الأحمر.
وقد خرج الشيخان هذا الحديث في ((صحيحيهما)) من طريقة، ومن طريق المعتمر بن سليمان - أيضا -، عن عبيد الله بن عمر.
ورواه - أيضا - شريك، عن عبيد الله كذلك.
وخالفهم ابن نمير ومحمد بن عبيد، فروياه عن عبيد الله، عن نافع، أن ابن عمر كان يفعل ذلك - ولم يرفعاه.
وزعم الدارقطني: أنه صحيح.
وتصرف الشيخين يشهد بخلاف ذلك، وان الصحيح رفعه؛ لان من رفعه فقد زاد، وهم جماعة ثقات.
والحديث نص في جواز الصلاة إلى البعير.
قال ابن المنذر: فعل ذلك ابن عمر وانس، وبه قال مالك والاوزاعي.
وقال أبو طالب: سالت أحمد: يصلي الرجل
إلى بعيره؟ قال: نعم؛ النبي صلى الله عليه وسلم فعل، وابن عمر.
وكلام أحمد هذا يدل على صحة رفع الحديث عنده، كما هي طريقة البخاري ومسلم.
وممن روى عنه الاستتار ببعيره في الصلاة: سويد بن غفلة، والأسود بن يزيد، وعطاء، والقاسم، وسالم.
وقال الحسن: لا بأس به.
قال ابن عبد البر: لا أعلم فيه خلافا.
ونقل البويطي، عن الشافعي: أنه لا يصلي إلى دابة.
قال بعض أصحابه المتأخرين: لعل الشافعي لم يبلغه الحديث، وقد وصانا باتباع الحديث إذا صح، وقد صح هذا الحديث، ولا معارض له.
وتبويب البخاري: يدل على أن هذا الحديث يؤخذ منه يجوز الصلاة في مواضع الإبل وأعطانها، وقد سبقه إلى ذلك بعض من تقدم.
وقد كتب الليث بن سعد إلى عبد الله بن نافع مولى ابن عمر يسأله عن مسائل، منها: الصلاة في أعطان الإبل، فكتب له كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته، وقد كان ابن عمر ومن أدركنا من خيار أهل أرضنا يعرض احدهم ناقته بينه وبين القبلة، فيصلي إليها، وهي تبعر وتبول.
وروى وكيع، عن إسرائيل، عن جابر - هو: الجعفي -، عن عامر
الشعبي، عن جندب بن عامر السلمي، أنه كان يصلي في أعطان الإبل ومرابض الغنم.
ورخص سفيان الثوري في الصلاة في أعطان الإبل، وذكره بعض المصنفين على مذهبه، وقال: رواه عنه القناد.
وأكثر أهل العلم على كراهة الصلاة في أعطان الإبل.
قال ابن المنذر: وممن روينا عنه أنه رأى الصلاة في مرابض الغنم، ولا يصلي في أعطان الإبل: جابر بن سمرة، وعبد الله بن عمر، والحسن، ومالك وإسحاق، وأبو ثور. انتهى.
وهو - أيضا - قول الشافعي وأحمد.
وقد روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق متعددة، وقد سبق حديث جابر بن
سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الصلاة في أعطان الإبل، والأمر بالصلاة في مرابض
الغنم.
خرجه مسلم.
وخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في
((صحيحيهما)) من حديث ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل)) .
وصححه الترمذي، وإسناده كلهم ثقات، إلا أنه اختلف على ابن سيرين في رفعه ووقفه.
قال الدارقطني: كانت عادة ابن سيرين أنه ربما توقف عن رفع الحديث توقيا.
وخرجه الترمذي من حديث أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وذكر أنه اختلف في رفعه ووقفه - أيضا -، في كتاب ((العلل)) عن البخاري: أن المعروف وقفه.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث البراء بن عازب، قال: سئل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل؟ فقال: ((لا تصلوا في مبارك الإبل؛ فإنها من الشياطين)) .
وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: ((صلوا فيها؛ فإنها بركة)) .
قال ابن عبد البر: هو أحسن أحاديث الباب، وأكثرها تواترا.
وروى الحسن، عن عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في أعطان الإبل.
خرجه الإمام أحمد والنسائي وخرجه ابن ماجه وابن حبان في ((صحيحه)) ، ولفظهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل، فأنها خلقت من الشياطين)) .
وفي رواية للإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لاتصلوا في أعطان الإبل؛ فإنها من الجن خلقت، إلا ترون عيونها وهبتها، إذا نفرت، وصلوا في مرابد الغنم؛ فإنها هي اقرب من الرحمة)) .
وخرجه الشافعي بإسناد فيه ضعف، ولفظه: ((إذا أدركتم الصلاة وانتم في مراح الغنم فصلوا فيها؛ فأنها سكينة وبركة، وإذا أدركتكم الصلاة وانتم فِي أعطان الإبل فاخرجوا مِنْهَا فصلوا؛ فأنها جن من جن خلقت إلا ترونها إذا نفرت كيف تشمخ
بأنفها)) .
وله طرق متعددة عن الحسن.
قال ابن عبد البر: رواه عن الحسن خمسة عشر رجلا.
والحسن، سمع من عبد الله بن المغفل -: قاله الإمام أحمد.
وخرج مسلم حديثه
عنه في ((صحيحه)) .
وخرج الإمام أحمد - بإسناد جيد -، عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل)) .
وخرجه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو - مرفوعا - من رواية يونس ابن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عنه - مرفوعا.
ويونس وثقه غير واحد.
لكن رواه مالك عن هشام، عن أبيه، عن رجل من المهاجرين، أنه سأل عبد الله بن عمرو - فذكره، ولم يرفعه.
ورواه عبدة ووكيع، عن هشام: حدثني رجل من المهاجرين - فذكره، ولم يذكر في الإسناد:((عروة)) .
قال مسلم في ((كتاب التمييز)) : وهو الصواب.
واختلف القائلون بالكراهة: هل تصح الصلاة في أعطان الإبل، أم لا؟ فقال الأكثرون: تصح، وهو رواية عن أحمد، وأنه يعيد الصلاة استحبابا.
والمشهور عن أحمد: أنها لا تصح، وعليه الإعادة.
وعنه رواية ثالثة: إن علم بالنهي لم تصح، وألا صحت.
وعلله أصحاب الشافعي بأنها تنفر، فربما قطعت على المصلي صلاته.
وهذا ضعيف؛ لوجهين:
أحدهما: أنه يبطل بالصلاة إلى البعير، لكن في كلام الشافعي ما يدل على كراهته.
والثاني: أنه ينتقض بما إذا لم تكن الإبل في أعطانها، فإن الكراهة لا تنتفي بذلك.
والمنصوص عن الشافعي: التعليل بما ورد به النص، أنها خلقت من الشياطين.
قال الشافعي: وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تصلوا في أعطان الإبل؛ فأنها جن من جن خلقت)) دليل على أنه إنما نهى عنها، كما قال حين نام عن الصلاة:((اخرجوا بنا من هذا الوادي، فإنه واد به شيطان)) . فكره أن يصلي قرب شيطان وكذا كره أن يصلي قرب الإبل؛ لأنها خلقت من جن، لا لنجاسة موضعها.
وذكر أبو بكر الأثرم معنى هذا - أيضا - وأنه إنما كره الصلاة في معاطن الإبل؛ لأنها خلقت من الشياطين.
وقد فسر ابن قتيبة خلق الإبل من الشياطين بأنها خلقت من جنس خلقت منه الشياطين. قال: وورد في حديث آخر أنها خلقت من أعيان الشياطين، يريد من نواحيها وجوانبها. قال: ولم تزل العرب تنسب
جنسا من الإبل إلى الحوش، فتقول: ناقة حوشية، وهي أنفر الإبل وأصعبها، ويزعمون أن للجن إبلا ببلاد الحوش، وأنها ضربت في نعم الناس فنتجت منها هذه الحوشية، فعلى هذا يجوز أن يراد أنها خلقت من نتاج نعم الجن، لا من الجن نفسها. انتهى.
ويجوز أن خلقت في أصلها من نار، كما خلقت الجن من نار، ثم توالدت كما توالدت الجن. والله تعالى أعلم.
وزعم الخطابي أنها نسبت إلى الشياطين لما فيها من النفار والشرود. قال: والعرب تسمي كل مارد شيطانا.
وقال أبو عبيد: المراد: أنها في أخلاقها وطبائعها تشبه الشياطين.
وقد ورد في حديث آخر: ((إن على ذروة كل بعير شيطانا)) مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في السفر على بعيره النوافل، وهذا مما يستدل به من يقول: إن النهي عن الصلاة في الأعطان لا يمنع صحة الصلاة.
واختلفوا في تفسير أعطان الإبل.
فقال الشافعي: العطن: قرب البئر التي يستقى منها، وتكون البئر في موضع، والحوض قريبا منها، فيصب فيه فيملأ، فتسقى الإبل ثم تنحى عن البئر شيئا حتى تجد الواردة موضعا، فذلك العطن. قال: وليس العطن مراحها الذي تبيت فيه.
وكره أصحابه الصلاة في مأواها بالليل دون كراهة العطن.
وقال الإمام أحمد - في رواية ابنه عبد الله -: العطن: الذي تقيم في المكان تأوي إليه.
وقال - في رواية ابنه صالح -: يعيد الصلاة إذا صلى في الموضع الذي تأوي إليه.
وقال أبو بكر الخلال: العطن: الذي تأوي إليه بالليل والنهار.
وقال أصحاب مالك: لا يصلي في أعطان الإبل التي في المناهل.
وهذا يشبه قول الشافعي، وهو وجه لأصحابنا - أيضا -، وأن العطن: هو موضع اجتماعها إذا صدرت عن المنهل، وبذلك فسره كثير من أهل اللغة.
وبكل حال؛ فليس الموضع الذي تنزله في سيرها عطنا لها، ولا تكره الصلاة فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يعرض بعيره ويصلي إليه في أسفاره، ولم يكن يدخل إلى أعطان الإبل فيعرض البعير ويصلي إليه فيها، فلا تعارض حينئذ بين صلاته إلى بعيره، وبين نهيه عن الصلاة في أعطان الإبل، كما توهمه البخاري ومن وافقه. والله أعلم.
وأما مواضع البقر فغير منهي عن الصلاة فيه عند أكثر العلماء، ومنهم: عطاء ومالك وابن المنذر، واستدل لَهُ بقول النبي صلى الله عليه وسلم:((أينما أدركتك الصلاة فصل، فهو مسجد)) .
وقد ورد
فيه حديثان:
أحدهما: خرجه ابن وهب في ((مسنده)) عن سعيد بن أبي أيوب، عمن
حدثه، عن عبد الله بن مغفل صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى في معاطن الإبل، وأمر أن يصلى في مراح الغنم والبقر.
وفي إسناده جهالة.
والثاني: من حديث ابن لهيعة، عن حيي بن عبد الله، أن أبا عبد الرحمان الحبلي حدثه، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مرابد الغنم ولا يصلي في مرابد الإبل والبقر.
خرجه الإمام أحمد.
وهذا إسناد ضعيف. والله أعلم.
51 - باب
من صلى وقدامه تنور أو نار أو شيء مما يعبد،
فأراد به الله عز وجل
-
وقال الزهري: اخبرني أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم ((عرضت علي النار وأنا اصلي)) .
431 -
حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك عن زيد بن اسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عباس، قال: انخسفت الشمس، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:((أريت النار، فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع)) .
حديث ابن عباس هذا قد خرجه بطوله في ((أبواب صلاة الكسوف)) وخرج فيها - أيضا - معناه من حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.
وأما حديث أنس الذي علقه فهو قطعة من حديث طويل، فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر عند الزوال، ثم صعد المنبر فذكر الساعة، ثم قال:((من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل)) . وفي آخره: قال: ((عرضت علي الجنة والنار - آنفا - في عرض هذا الحائط، فلم أر كالخير والشر)) .
وقد خرجه البخاري بتمامه في ((باب: وقت الصلاة عند الزوال)) ، كما سيأتي - إن شاء
الله تعالى -، وخرج بعضه في ((كتاب: العلم)) فيما سبق.
وخرجه - أيضا - بمعناه من حديث قتادة، عن أنس في ((كتاب: الفتن)) .
وليس في حديث الزهري وقتادة عن أنس أن عرض الجنة والنار عليه كان في الصلاة.
وخرج - أيضا - في ((باب: رفع البصر إلى الإمام في الصلاة)) من حديث فليح: ثنا هلال بن علي، عن أنس، قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رقي المنبر، فأشار بيده قبل قبلة المسجد، ثم قال:((لقد رأيت الآن منذ صليت لكم الصلاة الجنة والنار ممثلتين في قبلة هذا الجدار، فلم أر كاليوم في الخير والشر)) - ثلاثا.
وخرج مسلم من حديث عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر، قال: انكسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر صلاته وخطبته بعد الصلاة، وانه قال فيها:((ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، لقد جيء بالنار، وذلك حين رأيتموني تأخرت؛ مخافة أن يصيبني من لفحها)) - وذكر الحديث.
ومقصود البخاري بهذا الباب: أن من صلى لله عز وجل، وكان بين يديه شيء من جنس ما عبد من دون الله كنار وتنور وغير ذلك، فإن صلاته صحيحة، وظاهر كلامه أنه لا يكره ذلك - أيضا.
واستدل بعرض النار على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، وفي هذا الاستدلال
نظر.
قال الإسماعيلي: ليس ما أراه الله من النار حتى أطلعها بمنزلة نار يتوجه المرء إليها وهي معبودة لقوم، ولا حكم ما أري ليخبرهم بما رآه كحكم من وضع الشيء بين يديه أو رآه قائما موضوعا فجعله أمام مصلاه وقبلته. انتهى.
فأشار إلى الفرق من وجوه:
منها: أن من كره الصلاة إلى نار أو تنور، فإنما كره أن يتعمد المصلي ذلك، وعرض النار على النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن كذلك.
ومنها: أن المكروه استقبال نار الدنيا؛ لأنها هي التي عبدت من دون الله عز وجل، فأما نار جهنم فهي دار عقاب الكفار، فليست كنار الدنيا.
ومنها: أن ما أري النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الغيب لا يتعلق به أحكام أمور الدنيا.
ومن هنا قيل: إن جبريل لما شق قلب النبي صلى الله عليه وسلم وغسله في طست من ذهب لم يجر على ذلك حكم استعمال أواني الذهب في الدنيا.
وقد كره أكثر العلماء الصلاة إلى النار، منهم: ابن سيرين، كره الصلاة إلى تنور، وقال: هو بيت نار.
وقال سفيان: يكره أن يوضع السراج في قبلة المسجد.
وقال إسحاق: السراج لا بأس به، والكانون أكرهه -: نقله عنه حرب.
وقال مهنا: سألت أحمد عن السراج والقنديل يكون في قبلة المسجد؟ قال: أكرهه، وأكره كل شيء؛ حتى كانوا يكرهون أن يجعلوا في القبلة شيئا حتى المصحف. وكان ابن عمر يكره أن يكون بينه وبين القبلة شيء.
ونقل الفرج بن الصباح البرزاطي عن أحمد، قال: إذا كان التنور في قبلة لا يصلى إليه؛ كان ابن سيرين يكره أن يصلي إلى التنور.
ووجه الكراهة: أن فيه تشبها بعباد النار في الصورة الظاهرة، فكره ذلك، وإن كان المصلي يصلي لله، كما كرهت الصلاة في وقت طلوع الشمس وغروبها لمشابهة سجود المصلي فيه سجود عباد الشمس لها في الصورة، وكما تكره الصلاة إلى صنم والى صورة مصورة.
قال أحمد في رواية الميموني: لا تصل إلى صورة منصوبة في وجهك.
وقد سبق ذكر كراهة الصلاة إلى الصور.
وأما استثناء إسحاق من ذلك السراج، فقد أشار حرب إلى الاستدلال له بما خرجه من طريق أسباط، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على حصير - وبين يديه مصباح - قال: فجاءت الفأرة، فأخذت الفتيلة: فألقتها على الحصير، وأحرقت منه قدر الدرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن الفويسقة لتضرم على أهل البيت)) .
وقد خرجه أبو داود، وليس عنده ذكر الصلاة على الحصير، ولا
أن بين يديه مصباحا.
ولو وضع بين يدي المصلي في صلاته نار لم تبطل صلاته، ويزيلها عنه بحسب القدرة.
وفي ((صحيح مسلم)) عن أبي الدرداء قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأم، فسمعناه يقول:((أعوذ بالله منك)) . ثم قال: ((ألعنك بلعنة الله)) - ثلاثا - وبسط يديه كأنه تناول شيئا، فلما فرغ من الصلاة قلنا يا رسول الله، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك. قال:((إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار؛ ليجعله في وجهي فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة. فلم يستأخر - ثلاث مرات -، ثم أردت آخذه، والله؛ لولا دعوة أخينا سليمان عليه السلام لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة)) .
وخرج الإمام أحمد من حديث سماك بن حرب، سمع جابر بن سمرة يقول: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، فجعل يهوي بيده فسأله القوم حين انصرف، فقال:((إن الشيطان كان يلقي علي شرر النار؛ ليفتنني عن الصلاة، فتناولته، فلو أخذته ما انفلت مني حتى يناط إلى سارية من سواري المسجد ينظر إليه ولدان أهل المدينة)) .
52 - باب
كراهية الصلاة في المقابر
432 -
حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورا)) .
قد سبق استدلال ابن المنذر بهذا الحديث - أيضا - على كراهة الصلاة في
المقبرة، وكذلك الخطابي وغيره.
ووجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بأن يصلوا في بيوتهم، ولا يتخذوها قبورا بترك الصلاة فيها، فدل على أن القبور ليس فيها صلاة، وان البيت يكره إخلاءه عن الصلاة، لما فيه من تشبيه بالمقابر الخالية عن الصلاة.
ولكن قد يقال: النهي عن تشبيه البيوت بالمقابر في إخلائها عن الصلاة إنما يراد منه أن المقابر تخلو عن الصلاة فيها في الواقع المشاهد؛ فإنها ليست محلا لصلاة الأحياء عادة. ومن فيها من الأموات لا يقدرون على الصلاة، فصارت خالية عن الصلاة عادة.
وهذا إخبار بحسب الغالب، وإلا فقد شوهد صلاة بعض الموتى في قبورهم، ورئي ذلك في المنام واليقظة، ولكنه نادر، فنهى عن تشبيه
بيوت الأحياء بمقابر الأموات في إخلائها عن الصلاة فيها لذلك.
وقد قال الحسن: من أوى إلى فراشه طاهرا، وذكر الله حتى تغلبه عيناه كان فراشه له مسجدا، ومن أوى إلى فراش غير طاهر، ولم يذكر الله كان فراشه له قبرا.
يشير إلى أنه يصير كالقبر لخلوه عن الذكر، والنائم عن الذكر يصير له كالمسجد.
وحينئذ فلا يبقى في الحديث تعرض لمنع الصلاة في المقابر شرعاً، حيث كان المراد ذكر امتناع الصلاة فيها في الواقع.
وقد قال بعضهم في قوله: ((ولا تتخذوها قبورا)) : أنه نهى عن الدفن في البيوت، وهذا بعيد جداً.
قال الخطابي: لا معنى لقول من تأوله على النهى عن دفن الموتى في البيوت، فقد دفن النبي صلى الله عليه وسلم في بيته الذي كان يسكنه.
وأكثر العلماء على جواز الدفن في البيوت، ووصى يزيد بن عبد الله بن الشخير أن يدفن في داره، فدفن فيها، وشهد الحسن جنازته، ولم ينكر ذلك أحد.
قال أحمد: لا بأس أن يشتري الرجل موضع قبره، ويوصي أن يدفن فيه إذا مات، قد فعل ذلك عثمان بن عفان وعائشة وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم.
وقال - أيضا -: ما أحب أن يدفن في بيته، يدفن في المقابر مع المسلمين.
وقال فيمن وصى أن يدفن في داره: يدفن في المقابر مع المسلمين. وإن دفن في داره
أضر بالورثة، والمقابر مع المسلمين أعجب إلي.
وتأوله بعض أصحابنا على أنه نقص من قيمة الدار بدفنه فيها أكثر من مقدار ثلث مال الموصي.
وهذا بعيد جدا، بل ظاهر هذه الرواية يدل على أن من وصى في دفنه بمكروه أو بما هو خلاف الأفضل أنه لا تنفذ وصيته بذلك.
53 - باب
الصلاة في موضع الخسف والعذاب
ويذكر أن علياً - رضوان الله عليه - كره الصلاة بخسف بابل.
هذا مروي عن علي من وجوه:
فروى وكيع عن سفيان، عن عبد الله بن شريك العامري، عن عبد الله بن أبي المحل، عن علي أنه كره الصلاة في الخسوف.
ورواه غير وكيع، فقال: عن عبد الله بن أبي المحل، عن أبيه، عن علي.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: سمعت أبي يسأل عن الأرض الخسف: أيصلى فيها؟ فكره ذلك، وقال: حديث علي - وذكر هَذَا الحديث.
وروى يعقوب بن شيبة، عن أبي النعيم: ثنا المغيرة بن أبي الحر الكندي: حدثني حجر بن عنبس، قال: خرجنا مع علي إلى الحرورية، فلما وقع في أرض بابل قلنا: أمسيت يا أمير المؤمنين، الصلاة! الصلاة! قال: لم أكن أصلي في أرض قد خسف الله بها.
وخرجه وكيع، عن مغيرة بن أبي الحر، به بنحوه.
وهذا إسناد جيد، والمغيرة بن أبي الحر وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: ليس به بأس. وحجر بن عنبس، قال ابن معين: شيخ كوفي مشهور.
وروي عن علي مرفوعا.
خرجه أبو داود من طريق ابن وهب: ثنا ابن لهيعة ويحيى بن أزهر، عن عمارة بن سعد المرادي، عن أبي صالح الغفاري، أن عليا مر ببابل وهو يسير، فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة، فلما فرغ قال: إن حبي نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة.
وخرجه - أيضا - من وجه آخر عن ابن وهب: أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة، عن الحجاج بن شداد، عن أبي صالح الغفاري، عن علي، بمعناه.
وقال ابن عبد البر: هو إسناد ضعيف، مجمع على ضعفه، وهو منقطع غير متصل، وعمارة بن سعد والحجاج وأبو صالح مجهولون.
قلت: الموقوف أصح، وضعف أبو الحسين ابن المنادي الجميع. والله أعلم.
قال البخاري رحمه الله:
433 -
ثنا إسماعيل بن عبد الله: حدثني مالك، عن عبد الله بن دينار، عن
عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم)) .
هذا الحديث: نص في المنع من الدخول على مواضع العذاب، إلا على أكمل حالات الخشوع والاعتبار، وهو البكاء من خشية الله وخوف عقابه الذي نزل بمن كان في تلك البقعة، وان الدخول على غير هذا الوجه يخشى منه إصابة العذاب الذي أصابهم.
وفي هذا تحذير من الغفلة عن تدبر الآيات فمن رأى ما حل بالعصاة ولم يتنبه بذلك من غفلته، ولم يتفكر في حالهم، ويعتبر بهم فليحذر من حلول العقوبة به، فإنها إنما حلت بالعصاة لغفلتهم عن التدبر وإهمالهم اليقظة والتذكر.
وهذا يدل على أنه لا يجوز السكنى بمثل هذه الأرض، ولا الإقامة بها، وقد صرح بذلك طائفة من العلماء، منهم: الخطابي وغيره، ونص عليه أحمد.
قال مهنا: سألت أحمد عمن نزل الحجر: أيشرب من مائها ويعجن به؟ قال: لا، إلا لضرورة، ولا يقيم بها.
وعلى هذا: فيتوجه أن من صلى بها لغير ضرورة، ولم يكن في صلاته على حالة الخشوع والخشية التي رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الدخول عليها أن لا تصح صلاته، على قياس قول من قال: إن الصلاة في المقبرة وأعطان الإبل لا تصح، إلا أن يفرق: بأن النهي هنا عن الدخول لا يخص الصلاة، بخلاف النهي عن الصلاة في المقبرة والأعطان، فيتخرج حينئذ الصلاة فيها على الصلاة في الأرض المغصوبة، كما سبق ذكره.
وأحمد - في رواية - مع جماعة من أهل الظاهر: يوجبون الإعادة على من صلى في أرض غصب، وكذلك إسحاق - في رواية عنه -، إذا كان عالما بالنهي.
وأما الوضوء من مائها: فقد صرح طائفة من الظاهرية بأنه لا يصح، ويتخرج على قواعد الإمام أحمد وأصحابه على الخلاف عندهم في الوضوء بالماء المغصوب.
وقد ورد النهي عن الوضوء بخصوصه في حديث خرجه الطبراني في ((أوسطه)) من رواية ابن إسحاق: حدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر واستقى الناس من بئرها، ثم راح فيها، فلما استقل أمر الناس ألا يشربوا من مائها، ولا يتوضئوا منه، وما كان من عجين عجن بشيء من مائها أن يعلف به، ففعل الناس.
وروى يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن العباس بن سهل بن سعد - أو عن العباس بن سعد -، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر ونزلها استقى الناس من بئرها، فلما راحوا منها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: ((لا تشربوا من مائها شيئا، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من
عجين عجنتم به فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا)) .
وهذا مرسل.
وقد خرج البخاري حديث ابن عمر هذا في ((قصص الأنبياء)) من ((كتابه)) هذا من حديث عبد الله بن دينار ونافع وسالم، عن ابن عمر. وفي رواية عبد الله ونافع: أنهم نزلوا الحجر. وفي حديث سالم: أنه مر بالحجر وتقنع بردائه، وهو على الرحل.
وخرج مسلم حديث سالم، وفيه: ثم زجر فأسرع حتى خلفها.
وحمل أبو الحسين ابن المنادي من متقدمي أصحابنا النهي عن دخولها وعن شرب مائها على الكراهة دون التحريم. والله أعلم.
54 - باب
الصلاة في البيعة
وقال عمر: إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور.
وكان ابن عباس يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل.
روى حجاج بن منهال: ثنا ربيعة بن كلثوم، عن نافع، قال: قال عمر: إنا لا ينبغي لنا أن ندخل كنيسة فيها تصاوير.
وروى وكيع في ((كتابه)) ، عن عبد الله بن نافع مولى ابن عمر، عن أبيه، عن أسلم مولى عمر، قال: قال عمر: إنا لا ندخل كنائسكم التي فيها تصاوير.
وعن سفيان، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، أنه كره الصلاة في الكنيسة إذا كان فيها تماثيل.
وقال سفيان: لا بأس بالصلاة فيها إذا لم يكن فيها تمثال، وإن وجد غيرها فهو أحب إلي.
وكره مالك الصلاة في البيع والكنائس؛ لنجاستها من أقدامهم، ولما فيها من الصور، وقال: لا ينزل بها إلا من ضرورة -: ذكره صاحب ((التهذيب)) .
ورخص أكثر أصحابنا في دخول ما ليس فيه صور منها، والصلاة فيها. وكرهه بعضهم، منهم: ابن عقيل
ومنهم من حكى في الكراهة عن أحمد روايتين، والمنصوص عن أحمد: كراهة دخولها في أعيادهم ومجامعهم فيها.
ويستدل للكراهة فيما فيه صور: بأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، وبأنه محل الشياطين، فتكره الصلاة فيه كالحمام والحش.
ويدل على كراهته - أيضا -: خروج النبي صلى الله عليه وسلم من الوادي الذي ناموا فيه عن الصلاة، وقال:((إن هذا الوادي حضرنا فيه شيطان)) .
وكره أصحاب الشافعي الصلاة فيها، مع الصحة.
وحكى ابن المنذر وغيره: الرخصة فيها عن طائفة من العلماء، منهم: أبو موسى، والحسن، والشعبي، والنخعي، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، واختاره ابن المنذر.
وأكثر المنقول عن السلف في ذلك قضايا أعيان لا عموم لها، فيمكن حملها على ما لم يكن فيه صور.
وصرح كثير من أصحابنا بتحريم الدخول إلى بيت فيه صور على جدرانه، وإن كان لا يقدر على إزالتها، وسواء كان حماما أو غيره، منهم: ابن بطة، والقاضي وأبو يعلى.
وذكر صاحب ((المغني)) أن ظاهر كلام أحمد أنه مكروه غير محرم، وحكاه - أيضا - عن مالك، وعن أكثر أصحاب الشافعي أنه محرم، وذكر في أثناء كلامه: أن دخول البيع والكنائس جائز، ولو كان
فيها صور، وجعله دليلا له، وهو يشعر بأنه محل إجماع.
ولعل الفرق: أن صور البيع والكنائس تقر ولا يلزم إزالتها، كما يقر أصل البيع والكنائس، وبخلاف الصور في بيوت المسلمين؛ فإنه يجب إزالتها ومحوها.
قال البخاري:
434 -
ثنا محمد: ثنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة، يقال لها: مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)) .
((محمد)) : شيخ البخاري، شيخ البخاري، الظاهر أنه: ابن سلام البيكندي. وشيخه، هُوَ: عبدة بْن سُلَيْمَان الكلابي.
وهذا الحَدِيْث: يدل على تحريم التصوير في المساجد المبنيه على القبور، والصور التي في البيع والكنائس في معناها؛ لأنها صور مصورة على صور أنبيائهم وصالحيهم للتبرك بها - في
زعمهم -، وكنائسهم وبيعهم منها ما هو على القبور أكابرهم، ومنها ما هو على أسمائهم، فالكل ملتحق بما بنى على القبور في المعنى، فلهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام عند ذكر الكنائس، وما فيها من الصور، وكفى بذلك ذما للكنائس المصور فيها، وأنها بيوت ينزل على أهلها الغضب والسخط، فلا ينبغي للمسلم أن يصلي فيها.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من رواية قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((لا تجتمع قبلتان في ارض)) .
وقال طاووس: لا ينبغي لبيت رحمة أن يكون عند بيت عذاب. وفسره أبو عبيد وغيره: بأنه لا ينبغي الجمع بين المساجد والكنائس في ارض واحدة.
فالجمع بين فعل الصلاة التي وضعت لأجلها المساجد، بين الكفر المفعول في الكنائس في بقعة واحدة أولى بالنهي عنه، فكما أنهم لا يمكنون من فعل عباداتهم في المساجد، فكذا لا ينبغي للمسلمين أن يصلوا صلواتهم في معابد الكفار التي هي موضع كفرهم.
فإن قيل: فقد روي ما يدل على جواز إقرارهم على أن يصلوا صلواتهم في مساجد المسلمين، وإذا جاز الإقرار على ذلك جاز للمسلمين أن يصلوا في بيعهم وكنائسهم بطريق الأولى:
فروى ابن إسحاق، قال حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: قدموا على
رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة - يعني: وفد نجران -، فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات: جنب وأردية، قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((دعوهم)) ، فصلوا إلى المشرق.
قيل: هذا منقطع ضعيف، لا يحتاج بمثله، ولو صح فإنه يحمل على أن النبي صلى الله عليه وسلم تألفهم بذلك في ذلك الوقت استجلابا لقلوبهم، وخشية لنفورهم عن الإسلام، ولما زالت الحاجة إلى مثل ذلك لم يجز الإقرار على مثله.
ولهذا شرط عليهم عمر رضي الله عنه عند عقد الذمة إخفاء دينهم، ومن جملة إلا يرفعوا أصواتهم في الصلاة، ولا القراءة في صلاتهم فيما يحضره المسلمون.
55 -
باب
435، 436 - حدثنا أبو اليمان: أبنا شعيب، عن الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، أن عائشة، وعبد الله بن عباس قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بِهَا كشفها عن وجهه، فقال - وهو كذلك -:((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) - يحذر ما صنعوا.
437 -
حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((قاتل الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) .
وقد خرج البخاري في موضع آخر من ((كتابه)) من حديث عروة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي لم يقم منه:((لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) . قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكنه خشي - أو خشي - أن يتخذ مسجدا.
وخرج الإمام أحمد من حديث سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) .
وروى مالك في ((الموطإ)) عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((اللهم، لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) .
ورواه محمد بن سليمان بن أبي داود الحراني: حدثنا عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
خرجه من طريقه البزار.
وعمر هذا، هو: ابن صهبان، جاء منسوبا في بعض نسخ ((مسند البزار)) ، وظن ابن عبد البر أنه: عمر بن محمد العمري، والظاهر أنه وهم.
وقد روي نحوه من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، بإسناد فيه نظر.
قال ابن عَبْد البر: الوثن الصنم. يقول: لا تجعل قبري صنما يصلى إليه، ويسجد نحوه، ويعبد، فقد اشتد غضب الله على من فعل ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبلهم الذين صلوا في قبور أنبيائهم، واتخذوها قبلة ومسجدا، كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها، وذلك الشرك الأكبر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه، وانه مما لا يرضاه؛ خشية عليهم من امتثال طرقهم، وكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يحب مخالفة أهل الكتاب وسائر الكفار، وكان يخاف على أمته اتباعهم، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم على جهة التعيير والتوبيخ:((لتتبعن سنن الذين كانوا قبلكم حذو النعل بالنعل، حتى إن أحدهم لو دخل حجر ضب لدخلتموه)) . انتهى.
ويؤيد ما ذكره: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحذر من ذلك في مرض موته، كما في حديث عائشة وابن عباس، وسبق حديث جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل موته بخمس.
وفي ((مسند الإمام أحمد)) من حديث أبي عبيده بن الجراح، قال: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أن شرار الناس الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) .
وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وانه قال ذلك في مرض موته من حديث علي، وأسامة بن زيد، وكعب بن مالك وغيرهم.
وخرج الإمام أحمد حديث أسامة بن زيد، ولفظه: قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أدخل علي أصحابي)) . فدخلوا عليه، فكشف القناع،
ثم قال: ((لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) .
وخرج حديث عائشة من رواية ابن إسحاق، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، وقال في آخر حديثه:((يحرم ذلك على أمته)) .
وقد اتفق أئمة الإسلام على هذا المعنى:
قال الشافعي رحمه الله: وأكره أن يعظم مخلوق حتى يتخذ قبره مسجدا، خشية الفتنة عليه وعلى من بعده.
وقال صاحب ((التنبيه)) من أصحابه: أما الصلاة عند رأس قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجها إليه فحرام.
قال القرطبي: بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فأعلوا حيطان تربته، وسدوا الداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذ كان مستقبل المصلين فتتصور إليه الصلاة بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من ناحية الشمال، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره. ولهذا المعنى قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره.
56 - باب
قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا))
438 -
حدثنا محمد بن سنان: ثنا هشيم: ثنا سيار - وهو أبو الحكم -: ثنا يزيد الفقير: ثنا جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي)) .
فذكر الحديث، وفيه:
((وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل)) .
وذكر بقية الحديث.
وقد خرجه بتمامه في أول ((التيمم)) من هذا الوجه، ومن وجه آخر، وسبق الكلام عليه هنالك مستوفى.
وذكرنا: أن قوله: ((جعلت لي الأرض مسجدا، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل)) قد استدل بعمومه بعض الناس على الصلاة في المقابر والأعطان والحمام وغير ذلك مما اختلف في الصلاة فيه، وإن من العلماء من منع دلالته على ذلك، وقال: إنما خرج الكلام لبيان أن هذه الأمة خصت عن الأمم بأنهم يصلون في غير المساجد المبنية للصلاة فيها، فيصلون حيث أدركتهم الصلاة من الأرض، في مسجد مبني وغير مبني، فالأرض كلها لهم مسجد ما بني للصلاة فيه وما لم يبن،
وهذا لا يمنع أن ينهى عن الصلاة في أماكن خاصة من الأرض؛ لمعنى يختص بها غير كونها غير مسجد مبني للصلاة فيه.
وقد خرج الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((أعطيت خمسا ما أعطيهن أحد كان قبلي)) - فذكر منها: ((وجعلت لي الأرض مساجد وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم)) .
وهذا يرجع إلى العموم إذا سيق لمعنى خاص عم ما سيق له من ذلك المعنى دون غيره مما لم يسق الكلام له، ومن الناس من يأخذ بعموم اللفظ، والأظهر الأول. والله أعلم.
وليس هذا كتخصيص العموم بسببه الخاص، فإن الشارع قد يريد بيان حكم عام يدخل فيه السبب وغيره، بخلاف ما إذا ظهر أنه لم يرد من العموم إلا معنى خاص سيق له الكلام، فإنه يظهر أن غير ما سيق له غير مراد من عموم كلامه. والله أعلم.
وقد زعم بعضهم: أن عموم قوله: ((جعلت لي الأرض مسجدا)) لا يصح الاستثناء منه؛ لأنه وقع في ((صحيح مسلم)) من حديث حذيفة: ((جعلت لي الأرض كلها مسجدا)) . قال: وتأكيد العموم بـ ((كل)) ينفي الاستثناء منه؛ لأن التأكيد ينفي المجاز، والعام المستثنى منه يصير مجازا.
وهذا الذي زعمه غير صحيح، وقد قالت عائشة:((كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كله، كان يصومه إلا قليلا)) . وهذا يدل على أن التأكيد بـ ((كل)) لا يمنع من الاستثناء، ولا من أن يراد به بعض مدلوله عند الإطلاق.
وقوله: ((إن العام المستثنى منه يصير مجازا)) فممنوع، بل هو حقيقة فيما عدا المستثنى منه عند أصحابنا وغيرهم.
وأيضا؛ فالعموم المؤكد بـ ((كل)) يصح الاستثناء منه بغير خلاف، فلو قال: نسائي كلهن طوالق إلا فلانة، فإنه مثل قوله: كل امرأة لي طالق إلا فلانة، أو كل عبد لي حر إلا فلانا، والاستثناء صحيح في الكل، ولو استثنى ذلك بقلبه من غير تلفظ به ففي صحته روايتان عن أحمد، حكاهما ابن أبي موسى وغيره.
وفي القرآن العظيم: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ - إِلاَّ إِبْلِيسَ} [ص:73و74] وحكى عن إبليس أنه قال: {لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ - إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82و83] وهذا استثناء من عموم مؤكد، وما صح الاستثناء منه صح تخصيصه.
57 - باب
نوم المرأة في المسجد
439 -
حدثنا عبيد بن إسماعيل: ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب، فأعتقوها، فكانت معهم. قالت: فخرجت صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور: قالت: فوضعته أو وقع منها، فمرت حدياة وهو ملقى، فحسبته لحماً، فخطفته. قالت: فالتمسوه فلم يجدوه. قالت: فاتهموني به. قالت: فطفقوا يفتشونني. حتى فتشوا قبلها. قالت: والله، إني لقائمة معهم إذ مرت الحدياة فألقته. قالت: فوقع بينهم. قالت: فقلت: هذا الذي اتهمتموني به، زعمتم، وأنا منه بريئة وهو ذا هو. قالت: فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت. قالت عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حفش. قالت: فكانت تأتيني فتحدث
عندي. قالت: فلا تجلس عندي مجلساً إلا قالت:
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا إلا أنه من بلدة الكفر أنجاني.
قالت عائشة: فقلت لها: ما شأنك؟ لا تقعدين معي مقعدا إلا قلت هذا؟ قالت: فحدثتني بهذا الحديث.
الوشاح: قيل: أنه ضرب من الحلي، وجمعه: وشح، ومنه: توشح بالثوب واتشح به، والظاهر: أنه كان شيئا من لباس المرأة الذي تتوشح به، وفيه حلي وسيور حمر. والله أعلم.
والحدياة: الحدأة. والرواية المشهورة: حدياة بضم الحاء وتشديد الياء، وقيل: إن الصواب: حديأة بتخفيف الياء وبعدها همزة، وهو تصغير حدأة.
وفي الحديث: دليل على أن الله تعالى قد يفرج كربات المكروبين ويخرق لهم العوائد وإن كانوا كفارا. كما روي أن جيشا من المسلمين حاصروا حصنا من الكفار، فعطش الكفار واشتد بهم العطش، فجأروا إلى الله يسألونه أن يسقيهم، فجاءت سحابة فمطرت على حصنهم حتى شربوا فارتحل عنهم المسلمون.
وقد ذكرها ابن أبي الدنيا بإسناده في ((كتاب: مجابي الدعوة)) .
فإن كان الكافر مظلوما كهذه المرأة فهو أقرب إلى تفريج كربته وإجابة دعوته، فإن دعوة المظلوم قد تجاب من الكافر، كما ورد في أحاديث مرفوعة متعددة؛ فإن عدل الله يسمع المؤمن والكافر، والبر والفاجر.
وظاهر هذا الحديث: يدل على أن هذه المرأة إنما أسلمت بعد قصة الوشاح.
وقول عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حفش، والحفش: خباء صغير.
ومقصود البخاري بتخريج هذا الحديث في هذا الباب: أنه يجوز للمرآة أن تقيم في المسجد وتنام فيه، فإن هذه المرأة كان لها خباء في المسجد تقيم فيه.
وقد روى محمد بن سعد في ((طبقاته)) : أبنا محمد بن عمر - هو: الواقدي -: حدثني عمر بن صالح بن نافع: حدثتني سودة بنت أبي ضبيس الجهني - وقد أدركت وبايعت، وكانت لأبي ضبيس صحبة -، عن أم صبية خولة بنت قيس، قالت: كنا نكون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر في المسجد نسوة قد
تخاللن، وبما غزلنا، وربما عالج بعضنا فيه الخوص. فقال عمر: لأردنكن حرائر. فأخرجنا منه، إلا أنا كنا نشهد الصلوات في الوقت.
وهذا الإسناد فيه ضعف.
واستدل بحديث عائشة المخرج في هذا الباب طائفة من أهل الظاهر: على جواز مكث الحائض في المسجد؛ لأن المرأة لا تخلو من الحيض كل شهر غالبا، وفي ذلك
نظر؛ لأنها قضية عين لا عموم لها، ويحتمل أن هذه السوداء كانت عجوزا قد يئست من الحيض، وأكثر العلماء على منع جلوس الحائض في المسجد.
وخرج أبو داود وابن خزيمة من حديث عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((لا أحل المسجد لحائض ولا جنب)) .
وفي إسناده مقال.
وفيه أحاديث أخر. والله أعلم.
58 - باب
نوم الرجال في المسجد
وقال أبو قلابة، عن أنس: قدم رهط من عكل على النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا في الصفة.
وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: كان أصحاب الصفة فقراء.
حديث أبي قلابة عن أنس خرجه البخاري في كتاب ((المحاربة)) : ثنا موسى ابن إسماعيل، عن وهيب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: قدم رهط من عكل على النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا في الصفة، فاجتووا المدينة - وذكر الحديث.
وحديث عبد الرحمن بن أبي بكر خرجه في ((أبواب: السمر بعد العشاء)) من حديث أبي عثمان النهدي، عن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال إن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث)) - وذكر الحديث بطوله.
وخرج - أيضا - في ((كتاب: الرقاق)) في ((باب: عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه)) من حديث مجاهد، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:((الحق أهل الصفة فادعهم)) . قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون
على أهل ولا مال، ولا على احد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها - وذكر حديثا طويلا.
خرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
440 -
ثنا مسدد: ثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: حدثني نافع، قال: أخبرني عبد الله بن عمر، أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
كذا في هذه الرواية: ((أعزب)) . وقال جماعة من أهل اللغة: إن الصواب: ((عزب)) ، يقال: رجل عزب إذا لم يكن له زوجة، وامرأة عزبة إذا لم يكن لها زوج، وأصل العزوبة الغيبة والبعد، ومنه قوله تعالى:{لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ - فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاء} [سبأ:3] و [يونس:61]، وسمي العزب: عزبا؛ لبعد عهده بالجماع.
وخرج البخاري في ((التعبير)) من ((صحيحه)) ، من حديث صخر بن
جويرية، عن نافع، عن ابن عمر - في حديث طويل ذكره -، قال: وكان بيتي
المسجد قبل أن أنكح.
ومن حديث سالم، عن ابن عمر، قال: كنت غلاما شابا عزبا في عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أبيت في المسجد.
وخرجه في ((المناقب)) بمعناه.
وروى الإمام أحمد عن ابن إدريس، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ننام في المسجد، ونقيل فيه ونحن شباب.
وروى وكيع، عن عبد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر، قال: ما كان لي مبيت ولا مأوى على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا في المسجد.
الحديث الثاني:
441 -
حدثنا قتيبة بن سعيد: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة، فلم يجد عليا في البيت. فقال:((أين ابن عمك؟)) . فقالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني، فخرج فلم يقل عندي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان:((انظر أين هو)) . فجاء، فقال يا رسول الله، هو في المسجد راقد. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع، قد سقط رداؤه عن شقه،
وأصابه تراب -، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول:((قم أبا تراب، قم أبا تراب)) .
وخرجه في ((المناقب)) عن القعنبي، عن عبد العزيز، بزيادة ونقص.
الحديث الثالث:
442 -
ثنا يوسف بن عيسى: ثنا ابن فضيل، عن أبيه، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده؛ كراهية أن تبدو عورته.
أبو حازم هذا، اسمه: سلمان الأشجعي الكوفي،: وأبو حازم الذي روى عن سهل بن سعد الحديث الذي قبله اسمه: سلمة بن دينار الأعرج الزاهد المدني.
وقد خرجه الإمام أحمد، عن وكيع، عن فضيل بن غزوان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: لقد رأيت سبعين من أهل الصفة يصلون في ثوب، فمنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من هو أسفل من ذلك، فإذا ركع أحدهم قبض عليه مخافة أن تبدو عورته.
وفيه: دليل على إعراء المناكب في الصلاة للضرورة، إذا لم يجد ما
يسترهما، وان الصلاة تصح حينئذ. وقد سبق ذكر ذلك.
وفي معنى هذا الحديث: ما رواه زيد بن واقد: حدثني بسر بن عبيد الله الحضرمي، عن واثلة بن الأسقع، قال: كنت من أصحاب الصفة، وما منا أحد عليه ثوب تام، قد اتخذ العرق في جلودنا طرقا من الوسخ والغبار.
وخرج أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري، قال: جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين، وإن بعضهم ليستتر عورته ببعض من العري، وقارئ يقرأ علينا، إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام علينا فسلم - وذكر حديثا.
وخرج الترمذي وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث فضالة بن عبيد، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة، وهم أصحاب الصفة، حتى تقول الأعراب: هؤلاء مجانين، فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إليهم، فقال:((لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة)) . قال فضالة: وأنا يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الترمذي: حديث صحيح.
وخرج ابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم من حديث طلحة
بن عمرو، قال: نزلت الصفة فرافقت رجلا، فكان يجري علينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم مد من تمر بين رجلين، فسلم ذات يوم من الصلاة، فناداه رجل منا، فقال: يا رسول الله، قد أحرق التمر بطوننا - وذكر بقية الحديث - وفي رواية: وتخرقت عنا الخنف.
وفي رواية عن طلحة بن عمرو، قال: كان الرجل إذا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان له بالمدينة عريف نزل عليه، وإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة. قال: وكنت ممن نزل الصفة - وذكر بقية الحديث.
وروى البيهقي بإسناده، عن عثمان بن اليمان، قال: لما كثر المهاجرون بالمدينة، ولم يكن لهم دار ولا مأوى أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، وسماهم: أصحاب الصفة، فكان يجالسهم ويأنس بهم.
والأحاديث في ذكر أهل الصفة كثيرة جدا في ذكر فقرهم وحاجتهم وصبرهم على ذلك، وليس المقصود من ذلك في هذا الباب إلا نومهم في المسجد، ولا شك في أن أهل الصفة كانوا ينامون في المسجد، لم يكن لهم مأوى بالليل والنهار غير الصفة، وكانت في مؤخر المسجد ينزلها من لا مأوى له من الغرباء الواردين على النبي صلى الله عليه وسلم ممن لا يجد مسكنا.
ويدل على نومهم في المسجد: ما خرجه الإمام أحمد وأبو داود
والنسائي وابن ماجه من حديث يحيى بن أبي كثير: ثنا أبو سلمة، عن يعيش بن طخفة بن قيس
الغفاري، قال: كان أبي من أصحاب الصفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((انطلقوا بنا إلى بيت عائشة)) ، فانطلقنا، فقال:((يا عائشة، أطعمينا)) ، فجاءت بحشيشة فأكلنا، ثم قال:((يا عائشة، أطعمينا)) ، فجاءت بحيسة مثل القطاة فأكلنا، ثم قال:((يا عائشة، اسقينا)) ، فجاءت بعس من لبن، فشربنا، ثم قال:((يا عائشة، اسقينا)) فجاءت بقدح صغير فشربنا، ثم قال:((إن شئتم بتم، وإن شئتم انطلقتم إلى المسجد)) . قال: فبينما أنا مضطجع من السحر على بطني إذا رجل يحركني برجله، فقال:((إن هذه ضجعة يبغضها الله عز وجل)) ، فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخرج الترمذي بعضه من رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: أنه وهم، والصواب: رواية يحيى بن أبي كثير، وقد اختلف عليه في إسناده.
وروى ابن سعد عن الواقدي: حدثني واقد بن أبي ياسر التميمي، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، قال: كان أهل الصفة ناسا فقراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا منازل لهم، فكانوا ينامون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ويظلون فيه، ما لهم مأوى غيره، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم بالليل إذا تعشى فيفرقهم على أصحابه، ويتعشى طائفة منهم
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاء الله بالغنى.
وقد سئل سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار عن النوم في المسجد؟ فقالا: كيف تسألون عنه وقد كان أهل الصفة ينامون فيه، وهم قوم كان مسكنهم المسجد؟
واعلم أن النوم في المسجد على قسمين:
أحدهما:
أن يكون لحاجة عارضة مثل نوم المعتكف فيه والمريض والمسافر، ومن تدركه القائلة ونحو ذلك، فهذا يجوز عند جمهور العلماء، ومنهم من حكاه إجماعا، ورخص في النوم في المسجد: ابن المسيب، وسليمان بن يسار، والحسن، وعطاء وقال: ينام فيه وإن احتلم كذا وكذا مرة.
وقال عمرو بن دينار: كنا نبيت في المسجد على عهد ابن الزبير.
وممن روي عنه أنه كان يقيل في المسجد: عمر وعثمان رضي الله عنهما.
ونهى مجاهد عن النوم في المسجد.
وقال أيمن بن نابل: رآني سعيد بن جبير نائما في الحجر فأيقظني، وقال: مثلك ينام هاهنا!
وكرهه الأوزاعي.
وممن كان لا يدع أحدا ينام في المسجد: عمر بن الخطاب وابن مسعود، وابن عمر.
وخرج الإمام أحمد وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث داود بن أبي هند، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن عمه، عن أبي ذر، قال: أتاني نبي الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم في المسجد، فضربني برجله، وقال:((ألا أراك نائما فيه؟)) . قلت: يا نبي الله، غلبتني عيني.
وعمُّ أبي حرب: قال الأثرم: ليس بالمعروف.
ورواه شريك، عن داود، عن أبي حرب، عن أبيه، عن أبي ذر.
والصحيح عن عمه -: قاله الدارقطني.
وخرج الإمام أحمد من رواية عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب: حدثتني أسماء، أن أبا ذر كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فرغ من خدمته أوى إلى المسجد، فكان هو بيته يضطجع فيه، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ليلة، فوجد أبا ذر نائما منجدلا في المسجد، فنكته رسول الله صلى الله عليه وسلم برجله حتى استوى جالسا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ألا أراك نائما؟)) قال أبو ذر: يا رسول الله، فأين أنام؟ هل لي من بيت غيره؟ - وذكر الحديث.
وروى ابن لهيعة، عن عمرو بن الحارث، عن ابن زياد، عن سعد بن أبي وقاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على ناس من أصحابه - وهم رقود في المسجد -، فقال:((انقلبوا؛ فإن هذا ليس بمرقد)) .
ذكره الأثرم، وقال: إسناده
مجهول منقطع.
قال: وحديث أبي ذر ليس فيه بيان نهي.
قلت: وقد روي حديث سعد: عن ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن سعد.
خرجه الهيثم بن كليب في ((مسنده)) ، وهو منقطع منكر.
والقسم الثاني:
أن يتخذ مقيلا ومبيتا على الدوام: فكرهه ابن عباس وقال: - مرة -: إن كنت تنام فيه لصلاة فلا بأس.
وهذا القسم - أيضا - على نوعين:
أحدهما: أن يكون لحاجة كالغريب، ومن لا يجد مسكنا لفقره، فهذا هو الذي وردت فيه الرخصة لأهل الصفة، والوفود، والمرأة السوداء ونحوهم.
وقد قال مالك في الغرباء الذين يأتون: من يريد الصلاة، فإني أراه واسعا، وأما الحاضر فلا أرى ذلك.
وقال أحمد: إذا كان رجل على سفر وما أشبهه فلا بأس، وأما أن يتخذه مبيتا أو مقيلا فلا.
وهو قول إسحاق - أيضا.
والثاني: أن يكون ذلك مع القدرة على اتخاذ مسكن، فرخص فيه طائفة، وحكي عن الشافعي وغيره، وحكي رواية عن أحمد، وهو اختيار أبي بكر الأثرم.
وقال الثوري: لا بأس بالنوم في المسجد.
وروى حماد بن سلمة في ((جامعه)) : ثنا ثابت، قال: قلت لعبد الله بن عبيد بن عمير: ما أراني إلا مكلم الأمير أن ينهى هؤلاء الذين ينامون في المسجد ويحدثون
ويجنبون. فقال: لا تفعل، فإن ابن عمر
سئل عنهم، فقال: هم العاكفون.
وحمل طائفة من العلماء كراهة من كره النوم في المسجد من السلف على أنهم استحبوا لمن وجد مسكنا ألا يقصد المسجد للنوم فيه. وهذا مسلك البيهقي.
واستدل بما خرجه أبو داود من حديث أبي هريرة - مرفوعا -: ((من أتى المسجد لشيء فهو حظه)) .
وفي إسناد عثمان بن أبي العاتكة الدمشقي، فيه ضعف.
ويعضده: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما بنيت المساجد لما بنيت له)) . وقوله: ((إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن)) - أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
59 - باب
الصلاة إذا قدم من سفر
وقال كعب بن مالك: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فصلى فيه.
443 -
حدثنا خلاد بن يحيى: ثنا مسعر: ثنا محارب بن دثار، عن جابر بن عبد الله، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد - قال مسعر: أراه قال: ضحى -، فقال:((صل ركعتين)) . وكان لي عليه دين، فقضاني وزادني.
حديث كعب قد خرجه بتمامه في مواضع أخر، وهو حديث توبته وتخلفه عن تبوك. وفي الحديث: وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس.
وخرجه مختصرا في أواخر ((السير)) ، فقال:((باب: الصلاة إذا قدم من سفر)) وخرج فيه من حديث كعب، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر ضحى دخل المسجد، فصلى ركعتين قبل أن يجلس.
وقد خرجه مسلم، ولفظه: كان لا يقدم من سفر إلا نهارا في الضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم جلس فيه.
وخرج البخاري - أيضا - من حديث شعبة، عن محارب بن دثار، قال: سمعت جابرا، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فلما قدمنا المدينة قال لي:((ادخل المسجد فصل ركعتين)) .
وفي رواية له - أيضا - بهذا الإسناد، عن جابر، قال: اشترى مني النبي صلى الله عليه وسلم بعيرا، فلما قدم المدينة أمرني أن أتي المسجد، فأصلي ركعتين، ووزن لي ثمن البعير.
وفي رواية أخرى، قال: قدمت من سفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((صل ركعتين)) .
وخرج مسلم من رواية وهب بن كيسان، عن جابر، قال: جئت المسجد، فوجدته - يعني: النبي صلى الله عليه وسلم على باب المسجد، فقال:((فدع جملك، وادخل المسجد فصل ركعتين)) . قال: فدخلت فصليت، ثم رجعت.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل من حجته دخل المدينة، فأناخ على باب
مسجده، ثم دخله فركع ركعتين، ثم انصرف إلى بيته. قال نافع: فكان ابن عمر كذلك يصنع.
ونقل حرب، عن إسحاق، قال: هو حسن جميل. قال: وإن صليتها في بيتك حين تدخل بيتك فإن ذلك يستحب.
وقد صرح الشافعية بأن صلاتهم في المسجد سنة، وهذا حق لا توقف فيه.
وقد بوب أبو بكر الخلال في ((كتاب الجامع)) في آخر الجهاد: ((باب سجدة الشكر للسلامة)) . ولم يورد في ذلك أثرا ولا نصا عن أحمد، ولا غيره في القدوم بخصوصه، وسجود الشكر للقدوم من الجهاد أو غيره سالما لا يعلم فيه شيء عن سلف، إنما الذي جاءت به السنة. صلاة ركعتين في المسجد عند القدوم.
60 - باب
إذا دخل المسجد فليركع ركعتين
444 -
حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن أبي قتادة السلمي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس)) .
أبو قتادة السلمي منسوب إلى بني سلمة - بكسر اللام -، بطن من الأنصار من الخزرج، واسم أبي قتادة، الحارث بن ربعي. وقيل: اسمه: النعمان.
وأما النسبة إلى بني سلمة، فيقال فيها: سلمي بفتح اللام. هذا ما اتفق عليه أهل العربية واللغة. ووافقهم على ذلك من أهل الحديث. وكذلك قيده بن ما كولا في ((إكماله)) وغيره.
وحكى الحازمي عن أكثر أهل الحديث أنهم يكسرون اللام، ويقولون: سلمي.
وفي الحديث: الأمر لمن دخل المسجد أن يركع ركعتين قبل جلوسه، وهذا الأمر على الاستحباب دون الوجوب عند جميع العلماء المعتد بهم.
وإنما يحكى القول بوجوبه عن بعض أهل الظاهر.
وإنما اختلف العلماء: هل يكره الجلوس قبل الصلاة أم لا؟
فروي عن طائفة منهم كراهة ذلك، منهم: أبو سلمة بن عبد الرحمن، وهو قول أصحاب الشافعي.
ورخص فيه آخرون، منهم: القاسم بن محمد وابن أبي ذئب واحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
قال أحمد: قد يدخل الرجل على غير وضوء، ويدخل في الأوقات
التي لا يصلى فيها.
يشير إلى أنه لو وجبت الصلاة عند دخول المسجد لوجب على الداخل إليه أن يتوضأ، وهذا مما لم يوجبه احد من المسلمين.
وأما الداخل في أوقات النهي عن الصلاة، فللعلماء فيه قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد، أشهرهما: أنه لا يصلي، وهو قول أبي حنيفة وغيره. وعند الشافعي يصلي.
وربما تأتي هذه المسالة في موضع أخر - أن شاء الله.
وروي عن جرير، عن مغيرة؛ عن إبراهيم، قال: كان يقال: إذا دخلت مسجدا من مساجد القبائل فلا باس أن تقعد ولا تركع، وإذا دخلت مسجدا من مساجد الجمع فلا تقعد حتى تركع.
ولعل أهل العلم هذه المقالة حملوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أحدكم المسجد)) على المسجد المعهود في زمنه، وهو مسجده الذي كان يجمع فيه، فيلتحق به ما في معناه من مساجد الجمع دون غيرها.
والجمهور حملوا الألف واللام في ((المسجد)) على العموم لا على العهد.
وروى الإمام أحمد في المسند: ثنا حسين بن محمد: ثنا ابن
أبي ذئب، عن رجل من بني سلمة، عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد بعض الأحزاب، فوضع رداءه، فقام ورفع يديه مدا يدعو عليهم، ولم يصل، ثم جاء ودعا عليهم وصلى.
وفي كتاب ((العلل)) لأبي بكر الخلال، عن أبي بكر المروذي، قال: قيل لأبي عبد الله - يعني: أحمد -: حديث حميد بن عبد الرحمن، عن هشام بن سعد، عن نعيم المجمر، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه دخل المسجد فاحتبى، ولم يصل الركعتين - أمحفوظ هو؟ قال: نعم.
قال المروذي: ورأبت أبا عبد الله كثيرا يدخل المسجد، يقعد ولا يصلي، ثم يخرج ولا يصلي في أوقات الصلوات.
وهذا الحديث غريب جدا، ورفعه عجيب، ولعله موقوف. والله أعلم.
وقال جابر بن زيد: إذا دخلت المسجد فصل فيه، فإن لم تصل فيه فاذكر الله، فكأنك صليت فيه.
والصلاة عند دخول المسجد تسمى: تحية المسجد، وقد جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم: خرج ابن حبان في ((صحيحه)) من حديث أبي ذر، قال: دخلت المسجد فإذا
رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، فقال:((يا أبا ذر، إن للمسجد تحية، وإن تحيته ركعتان، فقم فاركعهما)) ، فقمت فركعتهما، ثم عدت فجلست إليه - وذكر الحديث بطوله.
وفي إسناد إبراهيم بن هشام بن يحيى بن الغساني، تكلم
فيه أبو زرعة وغيره.
وقد روي من وجوه متعددة عن أبي ذر، وكلها لا تخلو من مقال.
وتسمى - أيضا - حق المسجد.
وروى ابن إسحاق، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرو ابن سليم الزرقي، عن أبي قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطوا المساجد حقها)) قالوا: وما حقها؟ قال: ((تصلوا ركعتين قبل أن تجلسوا)) .
واعلم أن حديث أبي قتادة قد روي بلفظين:
أحدهما: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس)) .
كذا رواه مالك، وقد خرجه البخاري هاهنا من طريقه كذلك.
وهذا اللفظ يقتضي الأمر لهم بالصلاة قبل الجلوس، فمن جلس في المسجد كان مأمورا بالصلاة قبل جلوسه.
ومن لم يجلس فيه، فهل يكون مأمورا بالصلاة؟ ينبغي على أن القبلية المطلقة هل تصدق بدون وجود ما أضيفت إليه أم لا؟ وفيه اختلاف قد سبق ذكره في ((باب: غسل القائم يده من النوم قبل إدخالها الإناء)) .
فإن قيل: إنها لا تصدق بدونه، فالأمر لا يتناول من لا يجلس، وإن قيل: إنها تصدق بدونه تناوله الأمر.
واللفظ الثاني: ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين)) .
وقد خرجه البخاري في ((أبواب: صلاة التطوع)) من رواية عبد الله بن سعيد - هو: ابن أبي هند - عن عامر بن عبد الله بن الزبير - بإسناده.
وهذه الرواية إنما فيها النهي عن الجلوس حتى يصلي، فمن دخل ولم يجلس، بل مر في المسجد مجتازا فيه، أو دخل لحاجة ثم خرج ولم يجلس لم يتناوله هذا النهي.
ولكن خرجه أبو داود من رواية أبي عميس، عن عامر بن عبد الله، عن رجل من بني زريق، عن أبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه، زاد فيه:((ثم ليقعد بعد إن شاء، أو ليذهب إلى حاجته)) .
وهذه الزيادة تدل على تناول الأمر لمن قعد ومن لم يقعد، ولعلها مدرجة في الحديث.
وقد خرج أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ((كتاب الشافي)) هذا الحديث من هذا الوجه، ووقفه كله على أبي قتادة.
وقد فرق أحمد وإسحاق بين أن يجلس الداخل في المسجد، فقالا: لا يجلس فيه حتى يصلي. قالا: وأما إذا مر فلا بأس، ولا
يتخذه طريقا. نقله إسحاق بن منصور عنهما.
وكان ابن عمر يمر في المسجد ولا يصلي فيه.
وفي ((تهذيب المدونة)) : قال مالك: ومن دخل المسجد فلا يقعد حتى يركع ركعتين، إلا أن يكون مجتازا لحاجة، فجائز أن يمر فيه ولا يركع، وقاله زيد بن ثابت ثم كره زيد أن يمر فيه ولا يركع، ولم يأخذ به مالك.
وقال زيد بن أسلم: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون. قال: ورأيت ابن عمر يفعله.
وكان سالم بن عبد الله يمر فيه مقبلا ومدبرا ولا يصلي فيه.
ورخص فيه الشعبي.
وقال الحسن: لا بأس أن يستطرق المسجد.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مر في المسجد فصلى فيه ركعة، وقال: إنما هو تطوع. وقال: كرهت أن أتخذه طريقا.
ومر طلحة في المسجد، فسجد سجدة.
ومر فيه الزبير فركع ركعة أو سجد سجدة.
خرجه وكيع في ((كتابه)) .
وفي أسانيد المروي عن عمر وطلحة والزبير مقال.
وفي جواز التطوع بركعة قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد.
وقد بوب البخاري على أن ((التطوع لا يكون إلا ركعتين يسلم فيهما)) .
وخرج فيه حديث أبي قتادة هذا مع غيره.
وللشافعية خلاف فيما إذا صلى ركعة: هل يقتضي بذلك حق المسجد، أم لا؟ والصحيح عندهم أنه لا يقضيه بذلك.
وأما الاقتصار على سجدة فقول غريب.
وفي النهي عن اتخاذ المسجد طريقا أحاديث مرفوعة متعددة، في أسانيدها ضعف.
وروينا من طريق الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، عن سالم، عن أبيه، قال: لقي عبد الله رجل فقال: السلام عليك يا بن مسعود. فقال عبد الله: صدق الله
ورسوله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أشراط الساعة أن يمر الرجل في المسجد لا يصلي فيه ركعتين، ولا يسلم الرجل إلا على من يعرفه، وان يبرد الصبي الشيخ)) .
الحكم بن عبد الملك، ضعيف.
ورواه - أيضا - ميمون أبو حمزة - وهو ضعيف جدا -، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود - مرفوعا.
وخرجه البزار من رواية بشير بن سليمان أبو
إسماعيل، عن سيار، عن طارق، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه.
وخرجه الإمام أحمد بغير هذا اللفظ، ولم يذكر فيه المرور في المسجد، وذكر خصالا أخر.
وأما من مر على المسجد، فهل يستحب له الدخول إليه لقصد الصلاة فيه؟ لا نعلم في ذلك إلا ما رواه سعيد بن أبي هلال: أخبرني مروان بن عثمان، أن عبيد بن حنين أخبره، عن أبي سعيد بن المعلى، قال: كنا نغدو إلى السوق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنمر على المسجد، فنصلي فيه.
خرجه النسائي.
وبوب عليه: ((صلاة الذي يمر على المسجد)) .
ومروان بن عثمان، قال فيه الإمام أحمد: لا يعرف. وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف.
61 - باب
الحدث في المسجد
445 -
حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه، ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه)) .
قد سبق ذكر هذا الحديث في ((أبواب الوضوء)) ، وخرجه البخاري في ((باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين)) من رواية المقبري، عن أبي هريرة.
وذكرنا هناك أن الحدث قد فسر بحدث اللسان والأعمال، وفسر بحدث
الفرج، وبهذا فسره البخاري.
ومقصوده: أنه يجوز تعمد إخراج الحدث في المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره، ولم ينه عنه، إنما أخبر أنه يقطع صلاة الملائكة.
وقد رخص في تعمد إخراج الحدث في المسجد الحسن وعطاء وإسحاق.
وقد تقدم أن النوم في المسجد جائز للضرورة بغير خلاف،
ومنه نوم المعتكف لضرورة صحة اعتكافه، ولغير ضرورة عند الأكثرين، والنوم مظنة خروج الحدث، فلو منع من خروج الريح في المسجد لمنع من النوم فيه بكل حال، وهو مخالف للنصوص والإجماع.
قال أصحاب الشافعي: والأولى اجتناب إخراج الريح فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)) . قالوا: ولا يكره الجلوس فيه للمحدث، سواء كان له غرض شرعي أو لم يكن.
ومن أصحابهم من كرهه لغير غرض. وقيل: أنه لم يوافق على ذلك.
62 - باب
بنيان المسجد
وقال أبو سعيد: كان سقف المسجد من جريد النخل.
وأمر عمر ببناء المسجد، وقال: أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس.
وقال أنس: يتباهون بها، لا يعمرونها إلا قليلا.
وقال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى.
وأما حديث أبي سعيد فقد خرجه بتمامه في مواضع من ((كتابه)) في
((الصلاة)) و ((الاعتكاف)) وغيروهما.
وفي الحديث: إن السماء مطرت فوكف المسجد، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاة الصبح وعلى جبهته وانفه اثر الماء والطين.
وهذا يدل على أن سقف المسجد لم يكن يكن الناس من المطر، ولا يمنع من نزول ماء المطر إليه.
وقد ذكرنا فيما سبق من مراسيل الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل طول جداره بسطه وعمده الجذوع وسقفه جريدا. فقيل له: إلا نسقفه؟ فَقَالَ: ((عريشا كعريش موسى، خشبات وثمام، الأمر أعجل
من ذَلِكَ)) .
وقال المروذي في ((كتاب الورع)) : قرئ على أبي عبد الله - يعني: أحمد -: سفيان، عن عمرو، عن أبي جعفر، قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد: هده، طده. قال:((لا عريش كعريش موسى)) ؟ قال أبو عبد الله: قد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يكحل المسجد، فقال:((لا، عريش كعريش موسى)) .
قال أبو عبد الله: إنما هو شيء مثل الكحل يطلى، أي: فلم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عبيد: كان سفيان بن عيينة يقول: معنى قوله: ((هده)) : أصلحه. قال: وتأويله كما قال، واصله: أنه يراد به الإصلاح بعد الهدم، وكل شيء حركته فقد هدته، فكان المعنى أنه يهدم ثم يستأنف ويصلح.
قال المروذي: وقلت لأبي عبد الله: أن محمد بن أسلم الطوسي لا يجصص مسجده، ولا بطوس مسجد مجصص إلا قلع جصه؟ فقال أبو عبد الله: هو من زينة الدنيا.
وروى ابن أبي الدنيا من حديث إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد أعانه عليه أصحابه وهو
معهم يتناول اللبن حتى اغبر صدره، فقال:((ابنوه عريشا كعريش موسى)) . فقيل للحسن: وما عريش موسى؟ قال: إذا رفع يده بلغ العريش - يعني السقف.
ومن رواية ليث، عن طاووس، قال: لما قدم معاذ اليمن، قالوا له: لو أمرت بصخر وشجر فينقل فبنيت مسجدا؟ قال: إني أكره أن انقله على ظهري يوم القيامة - كأنه يخاف إذا أتقن بناءه بالصخر والخشب.
وروى سفيان، عن أبي فزارة، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أمرت بتشييد المساجد)) .
قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفها اليهود والنصارى. خرجه الإمام أحمد وأبو داود.
كذا رواه ابن عيينة، عن الثوري.
ورواه وكيع عن الثوري فجعل أوله مرسلا عن يزيد بن الأصم،
لم يذكر فيه: ((ابن عباس)) . وكذا رواه ابن مهدي عن سفيان.
وخرج ابن ماجه كلام ابن عباس من وجه آخر - مرفوعا -: ((ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم)) .
وروى حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
وروى المروذي في كتاب الورع بإسناد عن أبي الدر داء، قال: إذا حليتم مصاحفكم وزخرفتم مساجدكم؛ فعليكم الدمار.
وقال المروذي: ذكرت لأبي عبد الله مسجدا قد بنى وانفق عليه مال كثير، فاسترجع وأنكر ما قلت.
قال حرب: قلت لإسحاق - يعني: ابن راهويه -: فتجصيص
المساجد؟ قال: أشد وأشد. المساجد لا ينبغي أن تزين، إلا بالصلاة والبر.
وقال سفيان الثوري: يكره النقش والتزويق في المساجد، وكل ما تزين به المساجد.
ويقال: إنما عمارته ذكر الله عز وجل.
وممن كره زخرفة المساجد وتزو يقها: عمر بن عبد العزيز، وكان قد أراد إزالة الزخرفة التي كان الوليد وضعها في مسجد دمشق الجامع فكبر ذلك على من يستحسنه ممن تعجبه زينة الحياة الدنيا، واحتالوا عليه بأنواع الحيل، وأوهموه أنه يغيظ الكفار، حتى كف عن ذلك.
وقد روي عن ابن جريج، قال: أول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك.
ذكره الأزرقي.
ولأصحابنا وأصحاب الشافعي في تحريم تحلية المساجد بالذهب والفضة وجهان، وكرهه المالكية وبعض الحنفية، ومنهم من رخص فيه، وقالوا: أن فعل ذلك من مال الوقف فقد ضمنه من ماله.
وأما ما حكاه البخاري عن عمر وأنس [............ ..............................] .
وقد روي عن أنس - مرفوعا -، رواه سعيد بن عامر: ثنا صالح بن رستم، قال: قال أبو قلابة: سمع أنس بن مالك يقول - وقد مروا بمسجد أحدث -، فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((يأتي على أمتي زمان
يتباهون فيه بالمساجد ولا يعمرونها إلا قليلا)) - أو قال: ((لا يعمرونها إلا قليلا)) .
خرجه ابن خزيمة في صحيحه.
ثم خرج البخاري هاهنا حديثا، فقال:
446 -
ثنا علي بن عبد الله: ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا أبي، عن صالح بن كيسان: ثنا نافع، أن عبد الله اخبره، أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه
عمر، وبناه على بنيانه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبا، ثم غيره عثمان، فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج.
القصة: الجص.
والساج: نوع من أرفع أنواع الخشب، يجلب من بلاد الهند والزنج.
ويستدل بما فعله عثمان من يرخص في تجصيص المساجد وتزويقها ونقشها.
وقد روي عن ابن عمر في هذا الباب روايات أخر:
فخرج أبو داود من طريق فراس، عن عطية، عن ابن عمر، أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كانت سواريه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من جذوع النخل، أعلاه مظلل بجريد النخل، ثم إنها تخربت في خلافة أبي بكر، فبناها بجذوع النخل وجريد النخل، ثم إنها تخربت في خلافة عمر، فبناها بجذوع النخل وجريد النخل، وتخربت في خلافة عثمان فبناها بالآجر، فلم تزل ثابتة حتى الآن.
وفي هذه الرواية زيادة تجديد أبي بكر له وإعادته على ما كان، لكنه لم يزد في بقعة المسجد شيئا، وإنما زاد فيه عمر.
وروى الإمام أحمد: ثنا حماد الخياط: ثنا عبد الله، عن نافع، أن عمر زاد في المسجد من الاسطوانة إلى المقصورة، وزاد عثمان، فقال عمر: لولا أني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ينبغي أن نزيد في مسجدنا)) ما زدت.
وليس في رواية ذكر ابن عمر، وهو منقطع.
وفيما فعله عمر وعثمان من تخريب المسجد والزيادة فيه: دليل
على جواز الزيادة في المساجد وتخريبها لتوسعتها وإعادة بناءها على وجه أصلح من البناء الأول؛ فإن هذا فعله عمر وعثمان بمشهد من المهاجرين والأنصار واقروا عليه.
فأما توسعة المساجد إذا احتيج إلى ذلك لضيقها وكثرة أهلها فقد صرح بجوازه أكثر العلماء من المالكية والحنفية وغيرهم.
وأما توسعة المسجد العامر، وإعادة بنائه على وجه أصلح من الأول فقد نص على جواز الإمام أحمد.
قال أبو داود في ((مسائله)) : سئل أحمد عن رجل بنى مسجدا فعتق، فجاء رجل فأراد أن يهدمه فيبنيه بناء أجود من ذلك، فأبى عليه الباني الأول وأحب الجيران لو تركه يهدمه؟ فقال: لو صار إلى رضا جيرانه لم يكن به باس.
قال: وسمعت أحمد سئل عن مسجد يريدون أن يرفعوه من الأرض، فمنعهم من ذلك مشايخ يقولون: لا نقدر نصعد؟ قال: أحمد: ما تصنع بأسفله؟ قال: اجعله سقاية. قال: لا أعلم به باسا. قال أحمد: ينظر إلى قول أكثرهم - يعني: أهل المسجد.
وبوب عليه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ((كتاب الشافي)) : ((باب: المسجد يبنى بناء أجود من بنائه)) .
وهو - أيضا - قول أصحاب أبي حنيفة، ومذهب سفيان الثوري، حكى أصحابه عنه في تصانيفهم على مذهبه أنه قال في المسجد يكون فيه ضيق، فأراد أهله أن يوسعوه من ملك
رجل منهم، فلهم ذلك، وان أرادوا أن يوسعوه من الطريق والطريق واسع لا يضر بالمارة فيه فليس لهم ذلك، إلا إن يأذن الإمام. قال: وللإمام أن يحول الجامع من موضع إلى غيره إذا كان فيه صلاح للرعية ونوى الشد فيه؛ ذكروا أن ابن مسعود حول مسجد الكوفة من موضع التمارين.
قال: وسئل سفيان عن بيع حصير المسجد الخلق فيجعل في ثمن الجديد؟ فلم يره به باسا.
ومذهب الإمام أحمد أن ما خرب من الأوقاف كلها ولم يمكن عمارتها، فأنها تباع ويستبدل بها ما يقوم مقامها.
وعنه في المساجد روايتان: إحداهما كذلك. والثانية: لا تباع وتنقل آلاتها إلى موضع آخر يبنى بها مثله.
ونقل عنه حرب في مسجد خرب، فنقلت آلاته وبني بها مسجد في مكان آخر: أن العتيق يرم ولا يعطل، ولا يبنى في مكانه بيت ولا خان للسبيل، ولكن يرم ويتعاهد.
ونقل حرب، عن إسحاق بن راهويه أنه أجاز للسلطان خاصة أن يبني مكان المسجد الخراب خانا للسبيل أو غيره، مما يكون للمسلمين، فيفعل ما هو خير لهم.
وروى حرب بإسناده عن عبيد الله بن الحسن العنبري في مسجد خافض أراد أهله أن يستبدلوا به؟ قال: إذا كان الخليفة هو الذي يفعل
ذلك أراه جائزا.
وروى وكيع بإسناد، عن جابر، عن الشعبي، قال: لا بأس أن يجعل المسجد حشا والحش مسجدا.
ومما يدل على جواز ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم عزم على هدم بناء الكعبة، وإعادتها على قواعد إبراهيم، فيدخل فيها غالب الحجر، ويجعل لها بابين لاصقين بالأرض.
وقد فعل ذلك ابن الزبير، وزاد مع ذلك في طولها، ثم أعادها الحجاج بأمر عبد الملك إلى حالها الأول، واقر الزيادة في طولها.
فيالله العجب!! كيف تقر زيادة لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وتزال زيادة ذكرها وعزم عليها؛ ولهذا ندم عبد الملك على ما فعل لما بلغه الحديث عن عائشة.
ومما يدل على جواز ذلك: أن العبادات يجوز إبطالها لأعادتها على وجه أكمل مما كانت، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة؛ ليعيدوا الحج على وجه أكمل مما كان، وهو وجه التمتع؛ فإنه لفضل من الأفراد والقران بغير سوق هدي، كما دل عليه هذه النصوص بالأمر بالفسخ.
وكما أن من دخل في صلاة مكتوبة منفردا، ثم حضر جماعة، فإن إبطال صلاته أو قلبها نفلا؛ ليعيد فرضه في جماعة، فإنه أكمل من صلاته منفردا.
وهذا قول جمهور العلماء، منهم: أحمد، والشافعي في أحد قوليه،
وكذلك قال مالك وأبو حنيفة إذا لم يكن قد صلى أكثر صلاته.
وكذلك الهدي المعين والأضحية المعينة يجوز إبدالها بخير منهما عند أبي حنيفة واحمد وغيرهما.
وإذا هدم المسجد، ثم أعيد بناؤه أو وسع، فالبناء المعاد يقوم مقام الأول، ولا يحتاج إلى تجديد وقفه.
وهذا يدل على قول من يرى أن الوقف ينعقد بالقول وبالفعل الدال عليه، وان المسجد يصير مسجدا بالأذان وصلاة الناس فيه، كما قول هُوَ مالك وأبي حنيفة والثوري واحمد - ظاهر، وتصير الزيادة في المسجد مسجدا بمجرد وصلها في المسجد وصلاة الناس فيها.
وقد قال مجاهد والأوزاعي في الفرس الحبيس إذا عطب، فاشتري بثمنه فرس آخر، وزيد في ثمنه زيادة: أن الفرس كله يكون حبيسا كالأول.
وحكم الزيادة حكم المزيد فيه في الفضل - أيضا - فما زيد في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم كله، والصلاة فيه كله سواء في المضاعفة والفضل.
وقد قيل: أنه لا يعلم عن السلف في ذلك خلاف، إنما خالف فيه بعض المتأخرين من أصحابنا، منهم ابن عقيل وابن الجوزي، وبعض الشافعية.
ولكن قد روي عن الإمام أحمد التوقف في ذلك:
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: الصف الأول في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم:
أي صف
هو، فإني رأيتهم يتوخون دون المنبر، ويدعون الصف الأول؟ قال: ما أدري. قلت لأبي عبد الله: فما زيد في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فهو عندك منه؟ فقال: وما عندي، إنما هم أعلم بهذا - يعني: أهل المدينة.
وقد روى عمر بن شبة في كتاب ((أخبار المدينة)) بإسناد فيه نظر، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((لو بني هذا المسجد إلى صنعاء لكان مسجدي)) . فكان أبو هريرة يقول: لو مد هذا المسجد إلى باب داري ما عدوت أن أصلي فيه.
وبإسناد فيه ضعف، عن أبي عمرة، قال: زاد عمر في المسجد في شاميه، ثم قال: لو زدنا فيه حتى نبلغ الجبانة كان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
وبإسناده، عن ابن أبي ذئب، قال: قال عمر: لو مد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة كان منه.
وكذلك الزيادة في المسجد الحرام:
روى مثنى بن الصباح، عن عطاء، أنه قيل له في المضاعفة في المسجد وحده، أو في الحرم؟ قال: في الحرم كله؛ فإن الحرم كله مسجد.
وروى الأزرقي بإسناده، عن أبي هريرة، قال: إنا لنجد في كتاب الله أن حد المسجد الحرام من الحزورة إلى المسعى.
وبإسناده، عن عبد الله بن عمرو، قال: أساس المسجد الحرام الذي وضعه إبراهيم عليه السلام من الحزورة إلى المسعى.
وبإسناده، عن عطاء، قال: المسجد الحرام الحرم كله.
وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) من رواية ليث، عن مجاهد، قال: الحرم كله مسجد، يعتكف في أيه شاء، وإن شاء في منزله، إلا أنه لا يصلي إلا في جماعة.
وقد ذكر الشافعية: أنه لو حلف لا يدخل هذا المسجد، فزيد فيه، فدخل موضع الزيادة لم يحنث، فلو حلف لا يدخل مسجد بني فلان، فزيد فيه، فدخل موضع الزيادة حنث.
وهذا مما يشهد لأن حكم الزيادة حكم المزيد في المسجد الحرام ومسجد النبي
صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عرف المسجد الحرام بالألف واللام، ومسجده بإضافته إليه، ولكنه جمع بين الإشارة إليه وتعريفه بالإضافة، فقال:((مسجدي هذا)) . والله سبحانه وتعالى أعلم.
63 - باب
التعاون في بناء المسجد
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} - إلى قوله -: {مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:17و18] .
عمارة المساجد تكون بمعنيين:
أحدهما: عمارتها الحسية ببنائها وإصلاحها وترميمها، وما أشبه ذلك.
والثاني: عمارتها المعنوية بالصلاة فيها، وذكر الله وتلاوة كتابه، ونشر العلم الذي أنزله على رسوله، ونحو ذلك.
وقد فسرت الآية بكل واحد من المعنيين، وفسرت بهما جميعا، والمعنى الثاني أخص بها.
وقد خرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان)) ، ثم تلا:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} - الآية [التوبة:18] .
ولكن قال الإمام أحمد: هو منكر.
وقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} - وقرئ ((مسجد
الله)) .
فقيل: إن المراد به جميع المساجد على كلا القراءتين؛ فإن المفرد المضاف يعم، كقوله:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} [البقرة:187] .
وقيل: المراد بالمسجد الحرام خاصة، كما قال:{وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاّ الْمُتَّقُونَ} [الأنفال:34] .
وقيل أنه المراد بالمساجد على القراءة الأخرى، وانه جمعه لتعدد بقاع المناسك هناك، وكل واحد منها في معنى مسجد. روي ذلك عن عكرمة. والله أعلم.
فمن قال: إن المراد به المسجد الحرام خاصة، قال: لا يمكن الكفار من دخول الحرم كله، بدليل قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] .
وجمهور أهل العلم على أن الكفار يمنعون من سكنى الحرم، ودخوله بالكلية، وعمارته بالطواف وغيره، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من ينادي:((لا يحج بعد العام مشرك)) .
ورخص أبو حنيفة لهم في دخوله دون الإقامة به.
ومن قال: المراد جميع المساجد، فاختلفوا:
فمنهم: من قال: لا يمكن الكفار من قربان مسجد من المساجد، ودخوله بالكلية.
ومنهم: من رخص لهم في دخول مساجد الحل في الجملة.
ومنهم: من فرق بين أهل الكتاب والمشركين، فرخص فيه لأهل الكتاب دون المشركين.
وقد أفرد البخاري بابا لدخول المشرك المسجد، ويأتي الكلام على هذه المسألة هناك مستوفى - إن شاء الله تعالى.
واتفقوا على منع الكفار من إظهار دينهم في مساجد المسلمين، لا نعلم في ذلك خلافا.
وهذا مما يدل على اتفاق الناس على أن العمارة المعنوية مرادة من الآية.
واختلفوا في تمكينهم من عمارة المساجد بالبنيان والترميم ونحوه على قولين:
أحدهما: المنع من ذلك؛ لدخوله في العمارة المذكورة في الآية، ذكر ذلك كثير من المفسرين كالواحدي وأبي فرج ابن الجوزي، وكلام القاضي أبي يعلى في كتاب ((أحكام القرآن)) يوافق ذلك وكذلك كيا الهراسي من الشافعية، وذكره البغوي منهم احتمالا.
والثاني: يجوز ذلك، ولا يمنعون منه، وصرح به طائفة من فقهاء أصحابنا والبغوي من الشافعية وغيرهم.
وهؤلاء؛ منهم من حمل العمارة على العمارة المعنوية خاصة، ومنهم من قال: الآية إنما أريد بها المسجد الحرام، والكفار ممنوعون من دخول الحرم على كل وجه، بخلاف بقية المساجد، وهذا جواب ابن عقيل من أصحابنا.
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز، أنه استعمل طائفة من النصارى في عمارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، لما عمره في خلافة الوليد بن عبد الملك.
ويتوجه قول ثابت، وهو: أن الكافر إن بنى مسجدا للمسلمين من ماله لم يمكن من ذلك، ولو لم يباشره بنفسه، وإن باشر بناءه بنفسه باستئجار المسلمين له جاز، فإن في قبول المسلمين منة الكفار ذلا للمسلمين، بخلاف استئجار الكفار للعمل للمسلمين؛ فإن فيه ذلا للكفار.
وقد اختلف الناس في هذا - أيضا - على قولين:
أحدهما: أنه لو وصى الكافر بمال للمسجد أو بمال يعمر به مسجد أو يوقد به، فإنه تقبل وصيته، وصرح به القاضي أبو يعلى في ((تعليقه)) في مسألة الوقيد، وكلامه يدل على أنه محل وفاق، وليس كذلك.
والثاني: المنع من ذلك، وانه لا تقبل الوصية بذلك، وصرح به الواحدي في ((تفسيره)) وذكره ابن مزين في كتاب ((سير
الفقهاء)) ، عن يحيى بن يحيى، قال: سمعت مالكا، وسئل عَن نصراني أوصى بمال تكسى به الكعبة؟ فأنكر ذلك، وقال: الكعبة منزهة عن ذلك.
وكذلك المساجد لا تجري عليها وصايا أهل الكفر.
وكذلك قال محمد بن عبد الله الأنصاري قاضي البصرة: لا يصح وقف النصراني على المسلمين عموما، بخلاف المسلم المعين، والمساجد من الوقف على عموم المسلمين -: ذكره حرب، عنه بإسناده.
وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن المرأة الفقيرة تجيء إلى اليهودي أو النصراني فتصدق منه؟ قَالَ: أخشى أن ذَلِكَ ذلة.
وَقَالَ مهنا: قُلتُ لأحمد: يأخذ الْمُسْلِم من النصراني من صدقته شيئا؟ قال:
نعم، إذا كان محتاجا.
فقد يكون عن أحمد روايتان في كراهة أخذ المسلم المعين من صدقة الذمي، وقد يكون كره السؤال، ورخص في الأخذ منه بغير سؤال. والله أعلم.
وأما وقفهم على عموم المسلمين كالمساجد، فيتوجه كراهته بكل حال، كما قاله الأنصاري.
وقد ذكر أهل السير كالوا قدي ومحمد بن سعد إن رجلا من أحبار اليهود، يقال له: مخيريق، خرج يوم أحد يقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إن أصبت في وجهي هذا فمالي لمحمد يضعه حيث يشاء، فقتل يومئذ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمواله، فقيل: أنه فرقها وتصدق بها،
وقيل: أنه حبسها ووقفها.
وروى ابن سعد ذلك بأسانيد متعددة، وفيها ضعف. والله أعلم.
قال البخاري رحمه الله:
447 -
حدثنا مسدد: ثنا عبد العزيز بن مختار: ثنا خالد الحذاء، عن عكرمة: قال لي ابن عباس ولابنه علي: إنطلقا إلى أبي سعيد، فاسمعا من حديثه، فإنطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ رداءه فاحتبى، ثم أنشأ يحدثنا، حتى أتى على ذكر بناء
المسجد. قال: كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل ينفض التراب عنه، ويقول:((ويح عمار، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار)) . قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن.
في هذا الحديث: حرص العالم المتسع علمه على أولاده ومواليه في تعليمهم
العلم، حتى يرسلهم إلى غيره من العلماء، وإن كان هو أعلم وأفقه، لما يرجى من تعليمهم من غيره ما ليس عنده.
وفيه: إن الصحابة كانوا يعملون في حوائطهم وهي بساتينهم
وحدائقهم
بأيديهم، وأن أحدهم كان إذا عمل في عمل دنياه ألقى رداءه واكتفى بإزاره، فإذا جاءه من يطلب العلم أخذ رداءه، وجلس معهم في ثوبين: إزار ورداء.
وقول أبي سعيد: ((كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين)) ، يدل على إن أبا سعيد شهد بناء المسجد وعمل فيه، وهذا يدل على إن المراد بناء المسجد ثاني مرة لا أول مرة، فإن جماعة من أهل السير ذكروا إن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما فتح الله عليه خيبر بنى مسجده مرة ثانية، وزاد فيه مثله.
وإنما استشهدنا لذلك بمشاركة أبي سعيد في بناء المسجد، ونقل اللبن؛ لأن أبا سعيد كان له عند بناء المسجد في المرة الأولى نحو عشر سنين أو دونها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رده يوم أحد ولم يجزه، وله نحو ثلاث عشرة سنة، وكانت غزوة أحد في أواخر السنة الثالثة من الهجرة، ومن له عشر سنين أو دونها فبعيد أن يعمل مع الرجال في البنيان.
ويدل على تجديد النبي صلى الله عليه وسلم لعمارة مسجده أدلة أخر:
منها: إن عثمان وسع مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في حياته بأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فاشترى له مكانا من ماله، وزاده في المسجد.
روى ثمامة بن حزن، قال: شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان، فقال: إنشدكم بالله والإسلام: هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((من يشتري بقعة آل فلان فيزيد ها في المسجد بخير له منها في الجنة)) ، فاشتريتها من صلب مالي، فأنتم اليوم تمنعوني أن اصلي فيها ركعتين؟ قالوا: اللهم نعم - وذكر الحديث.
خرجه النسائي والترمذي، وقال: حديث حسن.
وروى عمرو بن جاوان، عن الأحنف بن قيس، قال: إنطلقنا حجاجا، فمررنا بالمدينة، فإذا الناس مجتمعون على نفر في المسجد، فإذا علي والزبير وطلحة
وسعد، فلم يكن بأسرع من إن جاء عثمان، فقال لهم: إنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، أتعلمون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من يبتاع مربد بني فلان غفر الله له)) ،
فابتعته، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أني قد ابتعته، فقال:((اجعله في مسجدنا، وأجره لك)) ؟ قالوا: نعم - وذكر الحديث.
خرجه الإمام أحمد والنسائي.
وفي بعض الروايات: ((أحسبه قال: ابتعته بعشرين أو بخمسة وعشرين ألفا)) .
وروى ابن لهيعة: حدثني يزيد بن عمرو المعافري، قال: سمعت أبا ثور
الفهمي، قال: دخلت على عثمان، فقال: قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يشتري هذه الربعة ويزيد ها في المسجد، وله بيت في الجنة؟)) فاشتريتها وزدتها في المسجد.
خرجه البزار في ((مسنده)) .
وخرج الإمام أحمد والنسائي من رواية أبي إسحاق السبيعي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: أشرف عثمان - فذكر الحديث، وفيه:
أنه قال: أنشد بالله من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يوسع لنا بهذا البيت في المسجد ببيت له في الجنة؟)) فابتعته من مالي، فوسعت به المسجد فانتشد له رجال - وذكر بقية الحديث.
وفي سماع أبي سلمة من عثمان نظر.
وقد اختلف في إسناده على أبي إسحاق:
فرواه، عنه: ابنه يونس وحفيده إسرائيل بن يونس، كلاهما عن أبي إسحاق، عن أبي سلمة.
ورواه زيد بن أبي أنيسة وشعبة وغيروهما، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان.
وقد خرج البخاري في ((صحيحه)) قطعة من هذا الحديث من رواية شعبة، ولم يذكر فيه المسجد، إنما ذكر خصالا أخر.
وكذلك خرجه النسائي والترمذي من حديث زيد بن أبي أنيسة، وعند الترمذي:((وأشياء عدها)) .
وقال: صحيح غريب.
وقال الدارقطني: قول شعبة ومن تابعه أشبه بالصواب.
ومن الأدلة على أن النبي صلى الله عليه وسلم جدد عمارة مسجده مرة ثانية: أن وفد بني حنيفة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني مسجده، ومعلوم أن وفود العرب لم يفد منهم أحد على النبي صلى الله عليه وسلم مسلما في
السنة الأولى من الهجرة، هذا أمر معلوم بالضرورة لكل من عرف السير وخبرها، إنما قدمت الوفود مسلمين بعد انتشار الإسلام وظهوره وقوته، وخصوصا وفد بني حنيفة؛ فإنه قد ورد في ذمهم أحاديث متعددة في ((مسند الإمام أحمد)) والترمذي وغيرهما من الكتب، فكيف يظن بهم أنهم سبقوا الناس إلى الإسلام في أول سنة من سني الهجرة؟
ويدل على قدوم وفد بني حنيفة والنبي صلى الله عليه وسلم يبني مسجده: ما رواه ملازم ابن عمرو: حدثني جدي عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه، قال: بنيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد المدينة، فكان يقول:((قدموا اليمامي من الطين؛ فإنه من أحسنكم لَهُ مسا)) .
خرجه [..........] ابن حبان في ((صحيحه)) .
وخرجه الإمام أحمد، وزاد في آخره:((وأشدكم منكبا))
وعنده عن ملازم، عن سراج بن عقبة وعبد الله بن بدر، عن قيس.
وخرجه النسائي بهذا الإسناد، عن طلق، قال: خرجنا وفدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلينا معه - وذكر حديثا.
فتبين بهذا: أنه إنما قدم في وفد بني حنيفة.
وخرجه الدارقطني من رواية محمد بن جابر - وفيه ضعف -،
عن قيس ابن طلق، عن أبيه، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يؤسسون مسجد المدينة. قال: وهم ينقلون الحجارة. قال: فقلت يا رسول الله، ألا ننقل كما ينقلون؟ قال:((لا، ولكن اخلط لهم الطين يا أخا اليمامة، فأنت أعلم به)) . قال: فجعلت أخلطه، وهم ينقلونه.
وخرجه الإمام أحمد من رواية أيوب، عن قيس، عن أبيه، قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد. قال: فكأنه لم يعجبه عملهم. قال: فأخذت المسحاة، فخلطت بها الطين. قال: فكأنه أعجبه أخذي للمسحاة وعملي، فقال:((دعوا الحنفي والطين؛ فإنه أضبطكم للطين)) .
وأيوب، هو: ابن عتبة، فيه لين.
وأما نفض النبي صلى الله عليه وسلم عن عمار التراب الذي أصابه من نقل اللبن، فقد بوب عليه البخاري في ((السير)) :((مسح الغبار عن الناس في السبيل)) ، وخرج فيه هذا الحديث مختصرا، وفيه: فمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فمسح عن رأسه الغبار، وقال: ((ويح عمار، يدعوهم إلى الله،
ويدعونه إلى النار)) .
وقوله: ((ويح عمار)) ، ويح: كلمة رحمة -: قاله الحسن وغيره.
وروي مرفوعا من حديث عائشة بإسناد فيه ضعف.
وقيل: ويح: رحمة لنازل به بلية. وانتصابه بفعل مضمر، كأنه يقول: أترحم عمارا ترحما.
وقوله: ((يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار)) فيه: إخبار بأن ذلك سيقع
له، ولهذا تعوذ عمار عند ذلك من الفتن.
وفيه إشارة إلى أن عمارا على الحق من دون خالفه.
وقد وقع في بعض نسخ ((صحيح البخاري)) زيادة في هذا الحديث، وهي:((تقتله الفئة الباغية)) .
وقد خرجه بهذه الزيادة الإمام أحمد عن محبوب بن الحسن، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، سمع أبا سعيد يحدث عن بناء المسجد - فذكره، وقال فيه:((ويح عمار، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار)) .
وخرجه النسائي.
وقد رواه يزيد بن زريع وغيره، عن خالد الحذاء.
ولكن لفظة: ((تقتله الفئة الباغية)) لم يسمعها أبو سعيد من النبي صلى الله عليه وسلم؛ إنما سمعها من
بعض أصحابه عنه.
وقد خرج الإمام أحمد من رواية داود بن أبي هند، عن أبي نظرة، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر قصة بناء المسجد، وقال: حدثني أصحابي - ولم أسمعه -، أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ينفض التراب عن عمار، ويقول:((ويح ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية)) .
وخرج مسلم في ((صحيحه)) من حديث شعبة، عن أبي مسلمة: سمعت أبا نضرة يحدث، عن أبي سعيد ألخدري، قال: أخبرني من هو خير منى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار حين جعل يحفر الخندق، جعل يمسح رأسه ويقول:((بؤس ابن سمية، تقتلك فئة باغية)) .
وفي رواية له بهذا الإسناد تسمية الذي حدث أبا سعيد، وهو أبو قتادة.
وفي رواية له - أيضا - قال: أراه - يعني: أبا قتادة.
كذا قال أبو نضرة في روايته عن أبي سعيد، أن ذلك كان في حفر الخندق، والصحيح: أن ذلك كان في بناء المسجد.
وقد روى الدراوردي، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: كنا نحمل اللبن لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فكنا نحمل لبنة لبنة، وكان عمار يحمل
لبنتين لبنتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أبشر عمار، تقتلك الفئة الباغية)) .
خرجه يعقوب بن شيبة في ((مسنده)) ، عن أبي مصعب، عن الدراوردي.
وخرجه الترمذي عن أبي مصعب، لكنه اختصره، ولم يذكر فيه قصة بناء المسجد، وقال: حسن صحيح غريب من حديث العلاء.
وإسناد في الظاهر على شرط مسلم، ولكن قد أعله يحيى بن معين، بأنه لم يكن في كتاب الدراوردي، قال: وأخبرني من سمع كتاب العلاء - يعني: من الدراوردي - ليس فيه هذا الحديث. قال يحيى: والدراوردي حفظه ليس بشيء، كتابه أصح.
وهذا الحديث - أيضا - مما يدل على أن بناء المسجد الذي قيل لعمار فيه ذلك كان بعد فتح خيبر، لأن أبا هريرة أخبر أنه شهده.
وروي شهود أبي هريرة لبناء المسجد من وجه أخر ليس فيه ذكر عمار.
خرجه الإمام أحمد من رواية عمرو بن أبي عمرو، عن ابن عبد الله ابن حنطب، عن أبي هريرة، أنهم كانوا يحملون اللبن إلى بناء المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم. قال: فاستقبلت رسول صلى الله عليه وسلم وهو
عارض لبنة على بطنه، فظننت أنها شقت عليه، فقلت ناولنيها يا رسول الله،. قال:((خذ غيرها يا أبا هريرة؛ فإنه لا عيش إلا عيش الآخرة)) .
ولكن ابن حنطب، وهو: المطلب، ولا يصح سماعه من أبي هريرة.
وروى الأعمش عن عبد الرحمن بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول لأبيه يوم صفين: يا أبه، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وهم يبنون المسجد، والناس ينقلون لبنة لبنة، وعمار ينقل لبنتين لبنتين، وهو يوعك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:((انك لحريص على الأجر، وانك لمن أهل الجنة، وانك لتقتلك الفئة الباغية)) .
خرجه يعقوب بن شيبة في ((مسنده)) بتمامه.
وخرجه الإمام أحمد والنسائي في ((الخصائص)) - مختصرا. والحاكم.
وفي إسناده اختلاف عن الأعمش.
وهو - أيضا - مما يدل على تأخر بناء المسجد حتى شهده عمرو بن العاص وابنه عبد الله.
وروى ابن عون، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، قالت: لما
كان يوم الخندق، وجعل الناس يحملون لبنة لبنة، وجعل عمار يحمل لبنتين لبنتين، حتى اغبر شعر صدره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:((ويحك يا ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية)) .
خرجه [.........] .
وخرجه مسلم مختصرا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار:((تقتله الفئة الباغية)) .
وذكر حفر الخندق في هذا الحديث فيه نظر، والصواب: بناء المسجد، يدل على ذلك وجهان:
أحدهما: أن حفر الخندق لم يكن فيه نقل لبن، إنما كان ينقل التراب، وإنما ينقل اللبن لبناء المسجد.
والثاني: أن حديث أم سلمة قد روي بلفظ أخر، أنها قالت: ما نسيت الغبار على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول:
((اللهم إن الخير خير الآخرة
…
فاغفر للأنصار والمهاجرة))
إذ جاء عمار فقال: ((ويحك - أو ويلك - يا بن سمية، تقتلك الفئة الباغية)) .
وأم سلمة أين كانت من حفر الخندق؟ إنما كانت تشاهد بناء المسجد في المرة الثانية، لأن حجرتها كانت عند المسجد.
وقد اختلف في حديث: ((تقتل عمار الفئة الباغية)) .
فذكر الخلال في كتاب ((العلل)) : ثنا إسماعيل الصفار: سمعت أبا أمية الطرسوسي يقول: سمعت في حلقة أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبي خيثمة والمعيطي ذكروا: ((تقتل عمار الفئة الباغية)) ، فقالوا: ما هي حديث صحيح.
قال الخلال: وسمعت عبد الله بن إبراهيم يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: روي في عمار: ((تقتله الفئة الباغية)) ثمانية وعشرون حديثا، ليس فيها حديث صحيح.
وهذا الإسناد غير معروف، وقد روي عن أحمد خلاف هذا:
قال يعقوب بن شيبة الدسوسي في ((مسند عمار)) من ((مسنده)) : سمعت أحمد بن حنبل سئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في عمار: ((تقتلك الفئة الباغية)) فقال أحمد: كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قتلته الفئة الباغية)) . وقال: في هذا غير حديث صحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكره أن يتكلم في هذا بأكثر من هذا.
وقال الحاكم في ((تاريخ نيسابور)) : سمعت أبا عيسى محمد بن عيسى العارض - وأثنى عليه - يقول: سمعت صالح بن محمد الحافظ - يعني: جزرة - يقول: سمعت يحيى بن معين وعلي بن المديني يصححان حديث الحسن، عن أمه، عن أم سلمة:((تقتل عمارا الفئة الباغية)) .
وقد فسر الحسن البصري الفئة الباغية بأهل الشام: معاوية وأصحابه.
وقال أحمد: لا أتكلم في هذا، السكوت عنه أسلم.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في بناء المسجد: ((ويح عمار، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار)) هو من جنس الارتجاز كما كان يقول في بناء المسجد في أول أمره:
((اللهم أن العيش عيش الآخرة
…
فاغفر للأنصار والمهاجرة))
ومثل ارتجازه عند حفر الخندق بقول ابن رواحة:
((اللهم لولا أنت ما اهتدينا
…
ولا تصدقنا ولا صلينا))
وروى محمد بن سعد: أبنا عبد الله بن نمير، عن الأجلح، عن عبد الله بن أبي الهذيل، قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده، جعل القوم يحملون، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يحمل هو وعمار، فجعل عمر يرتجز، ويقول:
نحن المسلمون نبني المساجدا
وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((المساجدا)) .
وقد كان عمار اشتكى قبل ذلك، فقال بعض القوم: ليموتن عمار اليوم، فسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم فنفض لبنته، وقال:((ويحك)) - ولم يقل: ويلك - ((يا ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية)) .
وهذا مرسل.
وخرجه البزار من رواية شريك، عن الأجلح، عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن عمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال له:((تقتلك الفئة الباغية)) .
ثم قال: رواه أبو التياح، عن عبد الله بن أبي الهذيل - مرسلا، لم يقل: عن عمار.
قلت: وقد خرجه الطبراني بإسناد فيه نظر، عن حماد بن سلمة، عن أبي التياح، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبني المسجد، وكان عمار يحمل صخرتين، فقال:((ويح ابن سمية، تقتله الفئة الباغية)) .
والمرسل أشبه. والله أعلم.
وروى حماد بن سلمة في ((جامعه)) ، عن أبي جعفر الخطمي، أن عبد الله بن رواحه كان يقول وهم يبنون مسجد قباء:
أفلح من يعالج المساجدا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المساجدا)) .
يقرأ القرآن قائما وقاعدا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قاعدا)) .
ولا يبيت الليل عنه راقدا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((راقدا)) .
وفي هذا الارتجاز عند بناء المسجد فائدتان:
إحداهما: ما في هذا الكلام من الموعظة الحسنة، والحث على العمل، فيوجب ذلك للسامعين النشاط في العمل، وزوال ما يعرض للنفس من الفتور والكسل عند سماع ثواب العمل وفضله، أو الدعاء لعامله بالمغفرة.
والثانية: أن المتعاونين على معالجة الأعمال الشاقة كالحمل والبناء ونحوها قد جرت عادتهم بالاسترواح إلى استماع بعضهم إلى ما ينشده بعضهم، ويجيبه الأخر عنه، فإن كل واحد منهم يتعلق فكره بما يقول صاحبه، ويطرب بذلك، ويجيل فكره في الجواب عنه بمثله، فيخف بذلك على النفوس معالجة تلك الأثقال، وربما نسي ثقل المحمول بالاشتغال بسماع الارتجاز، والمجاوبة عنه.
ويؤخذ من هذا أنواع من الاعتبار:
منها: حاجة النفس إلى التلطف بها في حمل أثقال التكليف، حتى تنشط للقيام بها، ويهون بذلك عليها الأعمال الشاقة على النفس، من الطاعات.
ومنها: احتياج الإنسان في حمل ثقل التكليف إلى من يعونه على طاعة الله، وينشط لها بالمواعظ وغيرها كما قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] وقال: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] .
سئلت أم الدرداء: ما كان أفضل عمل أبي الدرداء؟ قالت: التفكر. قالت: ونظر إلى ثورين يخدان في الأرض، ثم استقلا بعملهما، فتعب أحدهما، فقام الأخر. فقال أبو الدرداء: في هذا تفكر استقلا بعملهما ما اجتمعا، وكذلك المتعاونون على ذكر الله عز وجل.
خرجه ابن أبي الدنيا في ((كتاب التفكر)) .
64 - باب
الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد
448 -
حدثنا قتيبة: ثنا عبد العزيز: حدثني أبو حازم، عن سهل، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة: ((مري غلامك النجار يعمل لي أعوادا اجلس عليهن)) .
449 -
حدثنا خلاد: ثنا عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر، أن امرأة قالت: يا رسول الله، ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه، فإن لي غلاما نجارا؟ قال:((إن شئت)) ، فعملت المنبر.
في هذين الحديثين كليهما: أن النجار الذي صنع المنبر كان غلاما لامرأة.
وحديث سهل مختصر، قد أتمه البخاري في مواضع، وقد سبق بتمامه في ((باب: الصلاة في المنبر والسطوح)) ، وفيه: أن سهلا سئل: من أي شيء المنبر؟ فقال: ما بقي في الناس أعلم به مني، هو من أثل الغابة، عمله فلان مولى فلانة - وذكر الحديث.
وخرج ابن سعد وغيره من حديث عباس بن سهل بْن سعد، عن أبيه، أنه ذكر المنبر، فقال: لم يكن بالمدينة إلا نجار واحد، فذهبت أنا وذلك
النجار إلى الخانقين، فقطعت هذا المنبر من أثلة.
وخرج الطبراني بإسناد ضعيف، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى
جذع، فمر رومي فقال: لو دعاني محمد لجعلت له ما هو أرفق من هذا، فدعي
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل له المنبر أربع مراق - وذكر الحديث.
وخرج ابن سعد عن الواقدي، بإسناد له، عن أبي هريرة - وبعض الحديث بإسناد أخر -، أن النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع في المسجد قائما، فقال:((إن القيام قد شق علي)) ، فقال له تميم الداري: إلا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في ذلك، فرأوا إن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: يا رسول الله، أن لي غلاما - يقال له: كلاب - أعمل الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((مره أن يعمله)) ، فأرسله إلى أثلة بالغابة، فقطعها، ثم عمل منها درجتين، ومقعدا، ثم جاء به فوضعه في موضعه اليوم - وذكر حديثا طويلا.
وإسناده لا يعتمد عليه.
وخرج أبو داود من طريق عبد العزيز بن أبي داود، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بدن قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك يا رسول الله منبرا يجمع - أو يحمل - عظامك؟ قال: ((بلى)) ، فاتخذ له منبرا مرقاتين.
وخرج الطبراني من رواية شيبة أبي قلابة عن الجريري، عن أبي نضرة عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع، فقيل له: أن الإسلام قد انتهى، وكثر الناس، فلو أمرت بصنعة شيء تشخص عليه، فقال لرجل:((أتصنع المنبر؟)) قال: نعم. قال: ((ما اسمك؟)) قال: فلان. قال: ((لست صاحبه)) ، فدعا أخر، فقال:((أتصنع المنبر؟)) فقال مثل مقالته، ثم دعا أخر، فقال: نعم - إن شاء الله - قال: ((ما اسمك؟)) قال: إبراهيم. قال: ((خذ في صنعته)) .
وخرجه عبد بن حميد في ((مسنده)) عن علي بن عاصم، عن الجريري عن أبي نضرة، عن أبي سعيد.
وروى عبد الرزاق، عن رجل من أسلم - وهو إبراهيم بن أبي يحيى -، عن صالح مولى التوأمة، أن باقوم مولى العاص بن أمية صنع للنبي صلى الله عليه وسلم منبره من طرفاء، ثلاث درجات.
ورواه محمد بن سليمان بن مسمول، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن صالح مولى التوأمة: حدثني باقوم مولى سعيد بن العاص، قال: صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم منبرا من طرفاء الغابة، ثلاث درجات: القعدة، ودرجتيه.
وكلا الإسنادين واه جدا.
وقد روي عن ابن سيرين، أن باقوم الرومي أسلم، فلم يدر به سهيل بن عمرو، ومات ولم يدع وارثا، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم ميراثه إلى سهيل.
ذكر ذلك ابن منده في كتاب ((معرفة الصحابة)) .
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: الغلام اسمه: مينا. ومولاته: لا نعلم أحدا سماها.
ثم رواه بإسناده، عن هارون بن موسى، ثنا محمد بن يحيى، قال: قال إسماعيل بن عبد الله: الذي عمل المنبر: غلام الأنصارية، واسمه: مينا.
ومما يدخل في هذا الباب: حديث قيس بن طلق، عن أبيه، في استعانة النبي صلى الله عليه وسلم به في بناء المسجد في عمل الطين، وقد سبق في الباب الماضي.
65 - باب
من بنى مسجدا
450 -
حدثنا يحيى بن سليمان: ثنا وهب: أخبرني عمرو، أن بكيرا حدثه، أن عاصم بن عمر بن قتادة حدثه، أنه سمع عبيد الله الخولاني، أنه سمع عثمان بن عفان يقول - عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنكم أكثرتم، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((من بنى مسجدا)) - قال بكير: حسبته أنه قال:
((يبتغى به وجه الله)) - بنى الله له مثله في الجنة)) .
لما أراد عثمان رضي الله عنه هدم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم واعادة بنائه على وجه أحسن من بنائه الأول كره الناس لذلك لما فيه من تغير بناء المسجد عن هيئة بنيانه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن عمر لما بناه أعاد بناءه على ما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما وسعه وزاد فيه، فلهذا أكثر الناس القول على عثمان.
وخرج مسلم من حيث محمود بن لبيد، أن عثمان بن عفان أراد بناء المسجد، فكره الناس ذلك، فأحبوا أن يدعه على هيئته، فقال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((من بنى مسجدا لله بنى الله له في الجنة مثله)) .
وقد اتفق صاحبا ((الصحيحين)) على تخريج حديث عثمان من رواية عبيد الله الخولاني عنه؛ لاتصال إسناده، وتصريح رواته بالسماع.
وتفرد مسلم بتخريج حديث محمود بن لبيد عن عثمان.
وخرجه الترمذي وصححه، وقال: محمود بن لبيد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم.
يشير بذلك إلى أنه لا يستنكر من عثمان؛ فإن له رؤية من النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف ينكر أن يروي عن عثمان؟
وقد اختلف فِي صحبة محمود بن لبيد، وقد أنكر ابن المديني حَدِيْث محمود بن لبيد، عَن عُثْمَان، وقال: في إسناده بعض الشيء، ومحمود بن لبيد أدرك عثمان.
ومسلم ومن وافقه يكتفون في اتصال الإسناد بإمكان اللقى، وغيرهم يعتبر ثبوت اللقى.
وقد ذكر الهيثم بن كليب في ((مسنده)) عن صالح بن محمد الحافظ، أنه قال: لا احسب محمود بن لبيد سمع من عثمان شيئا.
وخرجه ابن جرير الطبري من رواية محمود بن لبيد، عن أبان بن عثمان، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وليس ذكر: ((أبان)) في إسناده بمحفوظ.
وقد ذكرنا في الباب الماضي من غير وجه، عن عثمان، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يوسع في المسجد، وضمن له بيتا في الجنة؛ فلهذا - والله أعلم - ادخل عثمان هدم المسجد وتجديد بنيانه على وجه هو أتقن من البيان الأول مع التوسعة فيه في قوله:((من بنى مسجدا لله بنى الله له بيتا في الجنة)) .
وهذا يرجع إلى قاعدة الجزاء على العمل من جنسه، كما أن من اعتق رقبة اعتق الله بكل عضو منه عضوا منها من النار، ومن نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الاخرة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما في الدنيا ستره الله في الآخرة، والراحمون يرحمهم الرحمن.
ومثل هذا كثير، فمن بنى لله مسجدا يذكر فيه اسم الله في الدنيا بنى الله له في الجنة بيتا.
وأما قوله: ((مثله)) ، فليس المراد أنه على قدره، ولا على صفته في بنيانه، ولكن المراد - والله أعلم - أنه يوسع بنيانه بحسب توسعته، ويحكم بنيانه بحسب إحكامه، لا من جهة الزخرفة ويكمل انتفاعه بما يبنى له في
الجنة بحسب كمال انتفاع الناس بما بناه لهم في الدنيا، ويشرف على سائر بنيان الجنة كما تشرف المساجد في الدنيا على سائر البنيان، وإن كان لا نسبة لما في الدنيا إلى ما في الآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم ترجع)) .
وقد دل على ما قلناه: ما خرجه الإمام أحمد من حديث أسماء بنت يزيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((من بنى لله مسجدا في الدنيا فإن الله عز وجل يبني له بيتا أوسع منه في الجنة)) .
وخرجه بمعناه من حديث حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن حديث واثلة بن الاسقع، عن النبي صلى الله عليه وسلم ((من بنى مسجدا يصلى فيه بنى الله له في الجنة أفضل منه)) .
وخرج البزار والطبراني من حديث أبي هريرة - مرفوعا - ((من بنى لله بيتا يعبد الله فيه من حلال بنى الله له بيتا في الجنة من در وياقوت)) .
وقيل: أن الصحيح وقفه على أبي هريرة.
وأما اللفظة التي شك فيها بكير بن الاشج، وهي قوله:((يبتغي به وجه الله)) ، فهذا الشرط لا بد منه، ولكن قد يستفاد من قوله:((من بنى مسجدا لله)) أنه أريد به: من بنى مسجدا خالصا لله.
وقد روى المثنى بن الصباح؛ عن عطاء، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((من بنى مسجدا لا يريد به رياء ولا سمعة بنى الله له بيتا في الجنة)) .
خرجه الطبراني.
والمثنى، فيه ضعف.
وبكل حال؛ فالإخلاص شرط لحصول الثواب في جميع الأعمال؛ فإن الأعمال بالنيات، وإنما لا مريء ما نوى، وبناء المساجد من جملة الأعمال، فإن كان الباعث على عمله ابتغاء وجه الله حصل له هذا الأجر، وإن كان الباعث عليه الرياء والسمعة أو المباهاة فصاحبه متعرض لمقت الله وعقابه، كسائر من عمل شيئا من إعمال البر
يريد به الدنيا كمن صلى يرائي، أو حج يرائي، أو تصدق يرائي.
ولكن روى عن قتادة، أنه قال: كل بناء رياء فهو على صاحبه لا له، ألا من بنى المساجد رياء فهو لا عليه ولا له.
خرجه ابن أبي الدنيا بإسناد صحيح عنه.
وهذا فيه نظر، ولو كان النفع المتعدي يمنع من عقاب المرائي به لما عوقب العالم والمجاهد والمتصدق للرياء وهم أول من تسعر به النار يوم القيامة.
وأما من بنى المساجد من غير رياء ولا سمعة، ولم يستحضر فيه نية الإخلاص، فهل يثاب على ذلك، أم لا؟ فيه قولان للسلف.
وقد روى عن الحسن البصري وابن سيرين، أنه يثاب على إعمال البر والمعروف بغير نية، لما من النفع المتعدي.
وقد سبق ذكر ذلك في أواخر ((كتاب الإيمان)) . والله أعلم.
وبناء المساجد المحتاج إليها مستحب، وعده بعض أصحابنا من فروض الكفايات، ومراده: أنه لا يجوز أن يخلي مصر أو قرية يسكنها المسلمون من بناء مسجد فيها.
ويدل لهذا: مما روى موسى بن إسماعيل، عن عبد العزيز بن زياد أبي حمزة الحبطي، عن أبي شداد - رجل من أهل دما -، قال: جاءنا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم في قطعة ادم: ((من محمد النبي إلى أهل عمان، سلام: أما بعد؛ فأقروا بشهادة أن لا اله إلا
الله، وأني رسول الله، وأدوا الزكاة، وخطوا المساجد كذا وكذا، والا غزوتكم)) .
خرجه البزار والطبراني.
وخرجه أبو القاسم البغوي في ((معجمه)) - مختصرا -، وعنده: عبد العزيز بن نزار الحبطي.
وقد سماه ابن أبي حاتم: عبد العزيز بن زياد الحبطي. وسماه البخاري: في ((تاريخه)) : عبد العزيز بن شداد.
وكانه وهم، ولا يعرف بغير هذا الحديث.
66 - باب
يأخذ بنصول النبل إذا مر في المسجد
451 -
حدثنا قتيبة: ثنا سفيان، قال قلت لعمرو: أسمعت جابر بن عبد الله يقول: مر رجل في المسجد، ومعه سهام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((امسك
بنصالها)) ؟ قال: نعم.
وخرجه في موضع أخر من كتابه بلفظ أخر، وهو: أن رجلا مر في المسجد باسهم، قد أبدى نصولها، فأمره أن يأخذ بنصولها، لا تخدش مسلما.
خرجه مسلم من رواية أبي الزبير، عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا كان يتصدق بالنبل في المسجد أن لا يمر بها الا وهو اخذ بنصولها.
وقد خرج البخاري في الباب الذي يلي هذا: حديث موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ
على نصالها، لا يعقر بكفه مسلما)) .
وخرجه مسلم - أيضا.
وفي الحديث: ذكر علة ذلك، وهو: خشية أن تصيب مسلما من حيث لا يشعر صاحبها، وسوى في ذلك بين السوق والمسجد؛ فان الناس يجتمعون في الأسواق والمساجد فليس للمسجد خصوصية بذلك حينئذ. لكن؛ قَدْ يقال: أن المسجد يختص بقدر زائد عَن السوق، وَهُوَ: أنه قَدْ روي النهي عن إشهار السلاح فيه ونثر النبل.
خرجه ابن ماجه من رواية زيد بن جبيرة، عن داود بن الحصين، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعا -:((خصال لا ينبغين في المسجد: لا يتخذ طريقا، ولا يشهر فيه سلاحا، ولا ينبض فيه بقوس، ولا ينثر فيه نبل، ولا يمر فيه بلحم نيئ، ولا يضرب فيه حد، ولا يقتص فيه من احد، ولا يتخذ سوقا)) .
ورفعه منكر وزيد بن جبيرة ضعيف جدا، متفق على ضعفه.
وخرج - أيضا -: النهي عن سهل السيوف في المسجد، من حديث واثلة - مرفوعا - بإسناد ضعيف جدا.
وقال عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى: لا يسل السيف في المسجد.
خرجه وكيع في كتابه.
وقال أصحابنا: لا يشهر السلاح في المسجد.
67 - باب
المرور في المسجد
452 -
حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا عبد الواحد: ثنا أبو بردة بن عبد الله، قال: سمعت أبا بردة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها، لا يعقر بكفه مسلما)) .
أبو بردة بن عبد الله، هو بريد بن عبد الله بن أبي بردة.
وقد ذكرنا هذا الحديث في الباب الماضي، وإنما أعاده هاهنا: لأنه استنبط منه جواز المرور في المسجد، وقد ذكرنا حكمه في ((باب: الصلاة إذا دخل المسجد)) .
وقد دل على جوازه - أيضا - قول الله تعالى: {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]، على قول من تأول النهي: على قربان موضع الصلاة، وهو المسجد، وعابر السبيل: بالمجتاز، وقد سبق ذكره - أيضا.
68 - باب
الشعر في المسجد
453 -
حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع: ابنا شعيب، عن الزهري: اخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أنه سمع حسان بن ثابت يستشهد أبا هريرة: أنشدك الله، هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:((يا حسان، أجب عن رسول الله، اللهم أيده بروح القدس)) ؟ قال أبو هريرة: نعم.
ليس في هذه الرواية التي خرجها البخاري هاهنا إنشاد حسان في المسجد، إنما فيه ذكر مدح حسان على أجابته عن النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء له على ذلك، وكفى بذلك على فضل شعره المتضمن للمنافحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرد على أعدائه والطاعنين عليه، والمساجد لا تنزه عن مثل ذلك.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من الشعر حكمة)) .
وقد خرجه البخاري في موضع أخر من حديث أبي بن كعب - مرفوعا.
وخرج - أيضا - من حديث البراء، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان:((اهجهم - او هاجمهم - وجبريل معك)) .
وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم جبريل وهو روح القدس بنصرة من نصره ونافح عنه؛ لان جبريل صاحب وحي الله إلى رسله، وَهُوَ يتولى نصر رسله وإهلاك أعدائهم المكذبين
لهم، كما تولى إهلاك قوم لوط وفرعون في البحر.
فمن نصر رسول الله وذب عنه أعداءه ونافح عنه كان جبريل معه ومؤيدا له كما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] .
وقد خرج البخاري في بدء الخلق عن ابن المديني، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: مر عمر في المسجد وحسان ينشد، فقال كنت انشد فيه، وفيه من هو خير منك ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((اجب عني، اللهم أيده بروح القدس)) ؟ قال: نعم.
وهذا نوع إرسال من ابن المسيب؛ لأنه لم يشهد هذه القصة لعمر مع حسان عند أكثر العلماء الذين قالوا لم يسمع من عمر ومنهم من اثبت سماعه منه شيئا يسيرا.
وقد خرج هذا الحديث مسلم، عن غير واحد، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن عمر مر بحسان - فجعل الحديث كله عن أبي هريرة متصلا.
ورواية ابن المديني اصح، وكذا رواه جماعة عن الزهري.
وروى ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبرا في المسجد يقوم عليه قائما، يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قالت: ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن الله يؤيد حسان بروح القدس ما يفاخر - او ينافح - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)) .
خرجه الترمذي.
وخرجه - أيضا - في طريق ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وقال: حسن صحيح غريب، وهو حديث ابن أبي الزناد.
يعني أنه تفرد به.
وخرجه أبو داود من الطريقين - أيضا -.
وكذلك خرجه الإمام أحمد، وعنده:((ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشعر)) .
وذكره البخاري في موضع اخرمن صحيحه - تعليقا -، فقال: وقال ابن أبي الزناد.
وخرجه الطبراني، وزاد في حديثه:((فينشد عليه الأشعار)) .
وروى سماك، عن جابر بن سمرة، قَالَ: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة في المسجد، وأصحابه يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية، فربما تبسم معهم.
خرجه الإمام أحمد.
وخرجه النسائي، ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس، فيتحدث أصحابه، ويذكرون حديث الجاهلية، وينشدون الشعر، ويضحكون، ويبتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخرجه مسلم، إلا أنه لم يذكر الشعر.
وقد روى ما يخالف هذا وهو النهي عن إنشاد الأشعار في المساجد:
فروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى
أن ينشد في المسجد الأشعار - في حديث ذكره.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي، قال: حديث حسن.
وخرج أبو داود نحوه من حديث حكيم بن حزام، عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد فيه نظر وانقطاع.
وروى أبو القاسم البغوي في معجمه من طريق ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن الحارث بن عبد الرحمن بن هشام، عن أبيه، قال: أتى ابن الحمامة السلمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد؟ فَقَالَ: أني أثنيت عَلَى ربي تعالى ومدحتك. قَالَ:
((امسك عليك)) ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج به من المسجد، فقال:((ما أثنيت به على ربك فهاته، وأما مدحي فدعه عنك)) ، فانشد حتى إذا فرغ دعا بلالاً، فأمره أن يعطيه شيئا، ثم اقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، فوضع يده على حائط المسجد، فمسح به وجهه وذراعيه، ثم دخل.
وهذا مرسل، وفيه جواز التيمم بتراب جدار المسجد، وهو رد على من كرهه من متأخري الفقهاء، وهو من التنطع والتعمق.
وروى وكيع في كتابه عن مبارك بن فضالة، عن ظبيان بن صبيح الضبي، قال: كان ابن مسعود يكره أن ترفع الأصوات في المساجد، أو تقام فيها الحدود، أو ينشد فيها الأشعار، أو تنشد فيها الضالة.
وروى أسد بن موسى في كتاب الورع: ثنا ضمرة، عن ابن عطاء الخراساني، عن أبيه، قال: كان أهل العلم يكرهون أن ينشد الرجل ثلاثة أبيات من شعر في المسجد حتى يكسر الثالث.
وهذا تفريق بين قليل فيرخص فيه، وهو البيت والبيتان، وبين كثيرة، وهو ثلاثة أبيات فصاعدا.
وقال ابن عبد البر: إنما ينشد الشعر في المسجد غباً من غير مداومة. قال: وكذلك كان حسان ينشد.
وجمهور العلماء على جواز إنشاد الشعر المباح في المساجد، وحمل بعضهم حديث عمرو بن شعيب على أشعار الجاهلية، وما لا يليق ذكره في المساجد، ولكن الحديث المرسل يرد ذلك.
والصحيح في الجواب: أن أحاديث الرخصة صحيحة كثيرة، فلا تقاوم أحاديث الكراهة في أسانيدها وصحتها.
ونقل حنبل، عن أحمد، قال: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لا ينشد فيه الشعر، ولا يمر فيه بقطع اللحم، يجتنب ذلك كله، كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
69 - باب
أصحاب الحراب في المسجد
454 -
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله: ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: اخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة قالت: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما في باب حجرتي، والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، انظر إلى لعبهم.
455 -
زاد إبراهيم بن المنذر: ثنا ابن وهب: اخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحبشة يلعبون بحرابهم.
وخرجه في كتاب: المناقب من طريق عقيل، عن ابن شهاب، ولفظه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني وان أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، فزجرهم عمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((دعهم؛ أمنا بني أرفدة)) يعني: من الأمن.
وإنما ذكر هنا رواية إبراهيم بن المنذر تعليقا؟ لزيادة في الحديث: ذكر الحراب.
وقد خرجه الإمام أحمد، عن عثمان بن عمر، عن يونس بهذا الإسناد، وقال فيه:((يلعبون بحرابهم)) ولم يذكر: ((في المسجد)) .
وخرجه مسلم في ((صحيحه)) عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، قال فيه:
((والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) .
وقد خرجه البخاري في ((عشرة النِّسَاء)) من رواية معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت:((كان الحبشة يلعبون بحرابهم، فيسترني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنظر، فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن تسمع اللهو)) .
كذا خرجه من رواية هشام بن يوسف، عن معمر.
وقد روي عن عبد الرزاق، عن معمر، وفيه ذكر الحراب في المسجد.
وعند الزهري في هذا الحديث إسناد أخر: رواه عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، خرجه البخاري في ((كتاب: السير)) ومسلم - أيضا - من رواية معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، قال: بينا الحبشة يلعبون عند النبي صلى الله عليه وسلم بحرابهم دخل عمر، فأهوى إلى الحصى فحصبهم بها، فقال:((دعهم يا عمر)) .
قال البخاري: وزاد علي: ثنا عبد الرزاق: أبنا معمر: ((في
المسجد)) .
فجمع عبد الرزاق في روايته لهذا الحديث من هذا الوجه - أيضا - بين ذكر الحراب والمسجد.
وخرج - أيضا - في العيدين وفي ((السير)) من رواية أبي الأسود، عن عروة عن عائشة، قالت: كان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب، فإما سالت
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما قال: تشتهين أن تنظري؟)) قلت: نعم، فأقامني وراءه، خدي على خده، وهو يقول:((دونكم، بني أرفدة)) ، حتى إذا مللت قال:((حسبك؟)) قلت نعم. قال: ((فاذهبي)) .
وخرجه مسلم - أيضا.
وفي هذه الرواية زيادة: ((الدرق)) ، وفيها زيادة: أن ذلك كان يوم عيد وليس فيه ذكر المسجد.
وخرج مسلم من حديث جرير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاء حبش يزفون في يوم عيد في المسجد، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم، فوضعت راسي على منكبه، فجعلت أنظر إلى لعبهم حتى كنت أنا التي أنصرف عن النظر إليهم.
وخرجه من طريق يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ومحمد بن بشر، عن هشام ولم يذكرا:((في المسجد)) .
وخرج مسلم - أيضا - من طريق ابن جريج: أخبرني عطاء: أخبرني عبيد
بن عمير، قال: أخبرتني عائشة، أنها قالت للعابين: وددت أني أراهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمت على الباب أنظر بين أذنيه وعاتقيه، وهم يلعبون في المسجد. قال عطاء: فرس او حبش. قال: وقال لي ابن عتيق: بل حبش.
وقد رَوَى أن ذَلِكَ العيد كَانَ يوم عاشوراء؛ فإنه كَانَ عيداً لأهل الجَاهِلِيَّة ولأهل الكتاب.
فروى ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجه بن زيد، عن أبيه، أن يوم عاشوراء كان يوما تستر فيه الكعبة، وتقلس فيه الحبشة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث.
خرجه الطبراني.
والتقلس: اللعب بالسيوف ونحوها من آلات الحرب.
لكن خرج الإمام أحمد، عن وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كانت الحبشة يلعبون يوم عيد، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنت أطلع بين عاتقه فأنظر إليه، فجاء أبو بكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((دعها؛ فان لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا)) .
وهذا يدل على أنه كان أحد عيدي المسلمين.
وخرج - أيضا - من حديث أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة،
عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومئذ:((ليعلم يهود أن في ديننا فسحة، أني أرسلت بحنيفية سمحة)) .
والمقصود من هذا الحديث: جواز اللعب بآلات الحرب في المساجد؛ فان ذلك من باب التمرين على الجهاد، فيكون من العبادات.
ويؤخذ من هذا: جواز تعلم الرمي ونحوه في المساجد، ما لم يخشى الأذى بذلك لمن في المسجد، كما تقدم في الأمر بالإمساك على نصال السهم في المسجد لئلا تصيب مسلما، ولهذا لم تجر عادة المسلمين بالرمي في المساجد.
وقد قال الأوزاعي: كان عمر بن عبد العزيز يكره النصال بالعشي، فقيل له: لم؟ قال: لعمارة المساجد.
ولكن أن كان مسجد مهجور ليس فيه أحد، أو كان المسجد مغلقا ليس فيه إلا من يتعلم الرمي فلا يمنع جوازه حينئذ. والله أعلم.
وحكى القاضي عياض، عن بعض شيوخه، أنه قال: إنما يمنع في المساجد من عمل الصنائع التي يختص بنفعها آحاد الناس وتكتسب به، فأما الصنائع التي يشمل نفعها المسلمين في دينهم كالمثاقفة، وإصلاح آلات الجهاد مما لا امتهان للمسجد في عمله فلا بأس به. والله أعلم.
70 - باب
ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد
456 -
حدثنا علي بن عبد الله: ثنا سفيان، عن يحيى، عن عمرة، عن عائشة، قالت: أتتها بريرة تسألها في كتابتها، فقالت: إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي. وقال أهلها: إن شئت أعطيتها ما بقي - وقال سفيان مرة: إن شئت أعتقتها ويكون الولاء لنا - فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرته ذلك، فقال:((ابتاعيها فأعتقيها؛ فإنما الولاء لمن أعتق)) ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر - وقال سفيان مرة: فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر - فقال: ((ما بال أقوام يشترطون شروطا ليس في كتاب الله؟ من اشترط شرطا ليس فِي كِتَاب الله فليس لَهُ، وان اشترط مائة مرة)) .
ورواه مَالِك، عَن يَحْيَى، عَن عمرة، أن بريرة – ولم يذكر:((صعد المنبر)) .
قال علي: قال يحيى وعبد الوهاب، عن يحيى عن عمرة - نحوه.
وقال جعفر بن عون، عن يحيى: سمعت عمرة: سمعت عائشة.
حاصل ما ذكره من الاختلاف في إسناد هذا الحديث: أن ابن عيينة رواه عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، فوصله كله.
ورواه مالك في ((الموطإ)) ، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، أن بريرة أتت عائشة - فذكر الحديث، ولم يسند متنه عن عائشة، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:((اشتريها وأعتقيها؛ فإنما الولاء لمن أعتق)) ، ولم يذكر صعوده على المنبر.
وقد رواه بعضهم عن مالك، فأسنده كله عن يحيى، عن عمرة، عن عائشة، كما رواه سفيان، وليس بمحفوظ عن مالك.
وذكر البخاري، عن ابن المديني، أن يحيى - وهو: ابن سعيد - وعبد الوهاب - وهو: الثقفي - روياه عن يحيى بن سعيد، عن عمرة - نحوه.
والظاهر: أنه أراد أنهما لم يذكرا عائشة في أوله كمالك.
وإن جعفر بن عون رواه عن يحيى بن سعيد: سمعت عمرة، قالت: سمعت عائشة، فصرحت بسماعها من عائشة الحديث كله، وهذا يقوي رواية ابن عيينة.
لكن خرجه الإمام أحمد، عن جعفر بن عون، ولم يذكر فيه السماع.
وفي حديث ابن عيينة شك منه في لفظتين:
إحداهما: هل قال في الحديث: ((ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر)) ؟ أو قال: ((فصعد على المنبر)) ؟
وهذا اختلاف قريب؛ لأن المعنى متقارب، غير أن رواية:((قام على المنبر)) تقتضي أنه خطب بذلك قائما، وليس في مجرد صعوده ما يقتضي قيامه.
والثانية: شك سفيان: هل في الحديث: أن أهل بريرة قالوا لعائشة: ((أن شئت أعتقتها ويكون الولاء لنا)) ؟ أو قالوا: ((إن شئت أعطيتها ما بقي)) بدل: ((أعتقتها)) ؟
وقد خرج ابن خزيمة في مصنف له مفرد في الكلام على حديث بريرة: هذا الحديث، عن عبد الجبار بن العلاء، عن سفيان، وقال فيه: إنهم قالوا لعائشة: ((إن شئت فأعطي ما بقي، ويكون لنا الولاء)) .
وقال: هذه اللفظة: ((فأعطي ما بقي)) وهم؛ ثنا بهذا الخبر عبد الله بن محمد، عن الزهري، عن سفيان، ولم يذكر هذه اللفظة، ورواه الثقفي عن يحيى، وليس فيه هذه اللفظة.
قلت: قد تبين برواية البخاري، عن ابن المديني، عن سفيان، أنه كان يتردد في هذه اللفظة، ولا يجزم بها، وقد رواه الحميدي وغيره عن سفيان، ولم يذكروها، إنما ذكروا: لفظة العتق.
ومقصود البخاري بتخريج الحديث في هذا الباب: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب على المنبر في مسجده، وذكر في خطبته أحكام البيع والشراء، فدل على جواز مثل ذلك في المسجد.
وقد روى مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قصة بريرة - أيضا -، وقال في حديثه: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال:((ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله)) ؟ - الحديث.
وقد خرجه البخاري في موضع أخر.
وظاهر هذا: يدل على أنه خطب بذلك على المنبر.
وذكر البيع والشراء يقع على وجهين:
أحدهما: أن يكون ذكرهما على وجه الإفاضة في حديث الدنيا أو في التجارة، فهذا من مباح الكلام في غير المسجد، وقد اختلف في كراهة مثله في المسجد، فكرهه طائفة من العلماء.
قال أصحابنا، منهم ابن بطة وغيره: يكره الحديث فيه، إلا لمصلحة في الدين.
قال أحمد في رواية حنبل: لا أرى لرجل إذا دخل المسجد إلا أن يلزم نفسه الذكر والتسبيح؛ فإن المساجد إنما بنيت لذكر الله عز وجل.
وروى حماد بن سلمة في ((جامعه)) : ثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن عمر بن الخطاب سمع ناسا يذكرون تجاراتهم
في المسجد والدنيا، فقال: إنما بنيت المساجد لذكر الله، فإذا أردتم أن تذكروا تجاراتكم فاخرجوا إلى البقيع.
وقال سعيد بن عبد العزيز: رأى أبو الدرداء رجلا يقول لصاحبه في المسجد: اشتريت وسق حطب بكذا وكذا. فقال أبو الدرداء: أن المساجد لا تعمر لهذا.
وقال سفيان: عن رجل، عن الحسن: يأتي على الناس زمان لا يكون لهم حديث في مساجدهم إلا في أمر دنياهم، فليس لله فيهم حاجة، فلا تجالسوهم.
وكره أبو مسلم الخولاني وغيره من السلف.
وروي عن عمر، أنه بنى البطحاء خارج المسجد، وقال: من أراد أن يلغط فليخرج إليها.
ورخص أصحاب الشافعي في التحدث بأمور الدنيا المباحة في المساجد، وأن حصل معه ضحك.
واستدلوا بما خرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام. قال: وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون ويتبسم.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يختم مجالسه بكفارة المجلس، وأمر أن تختم المجالس به، وأخبر أنه إن كان المجلس لغوا كانت كفارة له، وروي ذلك عن جماعة من الصحابة، فإذا وقع اللغو في المساجد ثم ختم المجلس بكفارته، فهو شبيه
بالبصاق في المسجد ودفنها بعده، كما سبق.
الثاني: أن يكون ذكر البيع والشراء على وجه الإخبار عن أحكامهما الشرعية، وما يجوز من ذلك وما لا يجوز، فهذا من نوع تعليم العلم، وهو من أجل القرب وأفضلها مع صلاح النية فيه.
فإن أقترن بذلك إرادة الإنكار على من باع بيعا غير سائغ، أو شرط في بيعه شرطا غير سائغ، فقد اجتمع فيه حينئذ أمران: تعليم العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومثل هذا إذا أعلن به على المنابر في المساجد كان أبلغ في إشهاره ونشره وظهوره وارتداع المخالفين له، وهذا كله من أفضل القرب والطاعات.
وحينئذ؛ ففي دخول هذا الحديث في تبويب البخاري نظر، فإن كان قد أشار إلى الاستدلال بهذا الحديث على جواز البيع والشراء في المسجد فهو أبعد وأبعد.
وأما عقد البيع والشراء في المسجد: فقد ورد النهي عنه من حديث عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وحسنه.
وخرج الترمذي والنسائي وابن خزيمة في ((صحيحه)) والحاكم من
حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك)) .
وقد روي، عن ابن ثوبان - مرسلا، وهو أصح عند الدارقطني.
وحكى الترمذي في ((جامعه)) قولين لأهل العلم من التابعين في كراهة البيع في المسجد.
والكراهة قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وهو عند أصحابنا كراهة تحريم، وعند كثير من الفقهاء كراهة تنزيه.
وللشافعي قَوْلِ: أنه لا يكره، وَهُوَ قَوْلِ عَطَاء وغيره.
واختلف أصحابنا في انعقاد البيع في المسجد على وجهين.
وفرق مالك بين اليسير والكثير، فكره الكثير دون اليسير، وحكي عن أصحاب أبي حنيفة نحوه.
71 - باب
التقاضي والملازمة في المسجد
457 -
حدثنا عبد الله بن محمد: ثنا عثمان بن عمر: أبنا يونس، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن كعب، أنه تقاضي ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته، فنادى:((يا كعب!)) ، قال: لبيك يا رسول الله. قال: ((ضع من دينك هذا)) . وأومأ إليه، أي الشطر. قال: لقد فعلت يا رسول الله. قال: ((قم فاقضه)) .
مقصود البخاري: الاستدلال بهذا الحديث على جواز تقاضي الغريم لغريمه في المسجد، ومطالبته بدينه، وملازمته له لطلب حقه؛ فان النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك وسمعه ولم ينكره.
وهذا مما يعتضد به من يجيز البيع والشراء في المسجد، كما دل عليه تبويب البخاري في الباب الماضي.
ومن كره البيع، فرق بينه وبين التقاضي بأن البيع في المسجد ابتداء لتحصيل المال فيه، وذلك يجعل المسجد كالسوق المعد للتجارة، واكتساب الأموال، والمساجد لم تبن لذلك، ولهذا قال عطاء بن يسار وغيره لمن
رأوه يبيع في المسجد: عليك بسوق الدنيا، فهذا سوق الآخرة.
أما تقاضي الدين، فهو حفظ مال له، وقد لا يتمكن من مطالبته إلا في المسجد، فهو في معنى حفظ ماله من الذهاب، وفي معنى التحاكم إلى الحاكم في المسجد، كما سبق ذكره.
وممن رخص في المطالبة لغريمه في المسجد: عطاء وابن جريج.
وفي إشارة النبي صلى الله عليه وسلم بيده، وإيمائه إليه، أن يضع الشطر: دليل على أن إشارة القادر على النطق في الأمور الدينية مقبولة كالفتيا ونحوها، وقد سبق ذكر ذلك في ((كتاب: العلم)) .
ولم يكن هذا من النبي صلى الله عليه وسلم حكما؛ لأنه لم يستوف شرائط الحكم من ثبوت الدين ونحوه، وإنما كان على وجه الإصلاح. والله أعلم.
72 - باب
كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان
458 -
حدثنا سليمان بن حرب: ثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن رجلا أسود - أو أمرأة سوداء - كان يقم المسجد، فمات، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقالوا: مات. فقال: ((أفلا كنتم آذنتموني به؟ دلوني على قبره)) - أو ((على قبرها)) - فأتى قبره فصلى عليها)) .
فيه: دليل على أن المسجد حسن مندوب إليه؛ فان هذا الذي كان يقم المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حاله يخفى عليه.
والقم: هو إخراج القمامة، وهي الزبالة.
وقد روي من وجوه أخر أنها كانت امرأة، من غير شك:
فروي إسماعيل بن أبي أويس: حدثني أخي، عن سليمان بن بلال، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: كانت سوداء تلتقط الخرق والعيدان من المسجد، فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: ماتت من الليل، ودفنت، وكرهنا أن نوقظك، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبرها، وصلى عليها، وقال:((إذا مات أحد من المسلمين فلا تدعوا أن تؤذنوني به)) .
وروى ابن لهيعة، عن عبيد الله بن المغيرة، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، قال: كانت سوداء تقم المسجد، فتوفيت ليلا، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بموتها، فقال:((ألا آذنتموني بها؟)) فخرج بأصحابه، فوقف على قبرها، فكبر عليها والناس خلفه، فدعا لها، ثم انصرف.
خرجه ابن ماجه.
وقد روي: أن هذه المرأة يقال لها: أم محجن:
فروى محمد بن حميد الرازي: ثنا مهران بن أبي عمر، عن أبي سنان، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبر حديث عهد بدفن، ومعه أبو بكر وعمر، فقال:((قبر من هذا؟)) قال أبو بكر: هذه - يا رسول الله - أم محجن، كانت مولعة بأن تلتقط الأذى من المسجد. قال:((ألا آذنتموني؟)) قالوا: كنت نائما، فكرهنا أن نجهدك. قال:((فلا تفعلوا؛ فإن صلاتكم على موتاكم تنور لهم في قبورهم)) قال: فصف بأصحابه؛ فصلى عليها.
وفي هذا الإسناد ضعف.
وروى أبو الشيخ الأصبهاني في ((كتاب ثواب الأعمال)) بإسناد له، عن عبيد بن مرزوق، قال: كانت بالمدينة إمرأة يقال لها: أم محجن، تقم
المسجد، فماتت، فلم يعلم بها النبي صلى الله عليه وسلم فمر على قبرها، فقال:((ما هذا القبر؟)) قالوا: أم محجن. فقال: ((التي كانت تقم المسجد؟)) قالوا: نعم. فصف الناس، وصلى عليها، ثم قال:((أي العمل وجدت أفضل؟)) قالوا: يا رسول الله، أتسمع؟ قال:((ما أنتم بأسمع منها)) ، فذكر أنها أجابته: قم المسجد.
وهذا مرسل غريب.
وقد ذكرنا فيما تقدم حديث الأمر باتخاذ المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب.
وروى ابن جريج، عن عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((عرضت علي أجور أمتي، حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد)) .
خرجه أبو داود والترمذي.
والمطلب لم يسمع من أنس -: قاله ابن المديني وغير واحد. وابن جريج، قال الدارقطني: لم يسمع من المطلب. قال: ويقال: أنه كان يدلسه عن ابن أبي سبرة وغيره من الضعفاء.
وكنس المساجد وإزالة الأذى عنها فعل شريف، لا يأنف منه من يعلم آداب الشريعة، وخصوصا المساجد الفاضلة، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
رأى نخامة في قبلة المسجد فحكها بيده، وقد سبق هذا الحديث.
وروى وكيع: ثنا كثير بن زيد، عن عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب، أن عمر أتى مسجد قباء على فرس له، فصلى فيه ركعتين، ثم قال: يا أوفى، ائتني بجريدة، فأتاه بجريدة، فاحتجز عمر بثوبه، ثم كسحه.
وقال أبو نعيم الفضل: ثنا أبو عاصم الثقفي، قال: كنت أمشي أنا والشعبي في المسجد، فجعل يطأطئ رأسه، فقلت: ماذا تأخذ؟ قَالَ: المشاط والصوف.
73 - باب
تحريم تجارة الخمر في المسجد
459 -
حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة، قالت: لما أنزلت الآيات من سورة البقرة في الربا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فقرأهن على الناس، ثم حرم تجارة الخمر.
ذكر الخمر بالتحريم - إما لشربه أو للتجارة فيه -: من جملة تبليغ دين الله وشرعه؛ وذلك لأنه تصان عنه المساجد؛ فأن الله ذكر في كتابة الذي يتلى في الصلوات في المساجد: الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، كما ذكر: الزنا والربا وسائر المحرمات من الشرك والفواحش، ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يتلو ذلك في المسجد في الصلوات وغيرها، ولم يزل يذكر تحريم ما حرمه الله في المساجد وفي خطبه على المنبر، وهذا الباب مما لا تدعو الحاجة إليه؛ لظهوره.
ولكن يشكل في هذا الحديث أمران:
أحدهما: أن تحريم التجارة في الخمر مما شرع من حين نزول تحريم الخمر، ولم يتأخر إلى نزول آيات الربا، فإن آيات الربا من أخرما نزل من
القرآن، كما روى البخاري في ((التفسير)) من رواية الشعبي، عن ابن عباس، قال: آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا.
وفي ((الصحيحين)) عن جابر، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو بمكة يقول:((أن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)) .
وخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((يا أيها الناس، إن الله يعرض بالخمر، ولعل الله سينزل فيها أمرا، فمن كان عنده منها شيء فليبيعه ولينتفع به)) . قال: فما لبثنا إلا يسيرا حتى قال: ((أن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبع)) . قال: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها في طريق المدينة فسفكوها.
وهذا نص في تحريم بيعها مع تحريم شربها.
والثاني: أن آيات الربا ليس فيها ذكر الخمر، فكيف ذكر تحريم التجارة في الخمر مع تحريم الربا؟
ويجاب عن ذلك: بأن مراد عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بتحريم التجارة في الخمر مع الربا، وأن كان قد سبق ذكر تحريم بيع الخمر.
وقد روى حجاج بن أرطاة - حديث عائشة -، عن الأعمش بإسناد البخاري، ولفظه: لما نزلت الآيات التي في سورة البقرة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر والربا.
وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم - بتحريم التجارة في الخمر مع الربا ليعلم بذلك أن الربا الذي حرمه الله يشمل جميع أكل المال مما حرمه الله من المعاوضات، كما قال:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] ، فما كان بيعا فهو حلال، وما لم يكن بيعا فهو ربا حرام: أي: هو زيادة على البيع الذي أحله الله.
فدخل في تحريم الربا جميع أكل المال بالمعاوضات الباطلة المحرمة، مثل ربا الفضل فيما حرم فيه التفاضل، وربا النساء فيما حرم فيه النسأ، ومثل أثمان الأعيان المحرمة، كالخمر والميتة والخنزير والأصنام، ومثل قبول الهدية على الشفاعة، ومثل العقود الباطلة، كبيع الملامسة والمنابذة، وبيع حبل الحبلة، وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، والمخابرة، والسلف فيما لا يجوز السلف فيه.
وكلام الصحابة في تسمية ذلك ربا كثير، وقد قالوا: القبالات ربا، وفي النجش أنه ربا، وفي الصفقتين في الصفقة أنه ربا، وفي بيع الثمرة قبل صلاحها أنه ربا.
وروي: أن غبن المسترسل ربا، وأن كل قرض جر نفعا فهو ربا.
وقال ابن مسعود: الربا ثلاثة وسبعون بابا.
وخرجه ابن ماجه والحاكم عنه مرفوعا.
وخرج الإمام أحمد وابن ماجه، أن عمر قال: من آخر ما نزل آية الربا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة.
يشير عمر إلى أن أنواع الربا كثيرة، وأن من المشتبهات ما لا يتحقق دخوله في الربا الذي حرمه الله، فما رابكم منه فدعوه.
وفي ((صحيح مسلم)) عن عمر، أنه قال: ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا عهدا ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا.
وبعض البيوع المنهي عنها نهي عنها سدا لذريعة الربا، كالمحاقلة، والمزابنة، وكذلك قيل في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، وعن بيعتين في بيعة، وعن ربح ما لم يضمن، وبسط هذا موضعه ((البيوع)) .
وإنما أشرنا هنا إلى ما يبين كثرة أنواع أبواب الربا، وأنها تشمل جميع المعاوضات المحرمة، فلذلك لما نزل تحريم الربا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الربا، وعن بيع الخمر؛ ليبين أن جميع ما نهى عن بيعه داخل في الربا المنهي عنه. والله أعلم.
74 - باب
الخدم للمسجد
وقال ابن عباس {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران:35] : للمسجد يخدمها.
هذا من رواية عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وقاله - أيضا -: مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والربيع بن أنس وغيرهم.
وقال قتادة والربيع وغيرهما: كانوا يحررون الذكور من أولادهم للكنيسة يخدمها، فكانت تظن أن ما في بطنها ذكرا، فلما وضعت أنثى اعتذرت من ذلك إلى الله، وقالت:{وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36] ؛ لأن الأنثى لا تقوى على ما يقوى عليه الذكر من الخدمة، ولا تستطيع أن تلازم المسجد في حيضها ومع الله، فقال الله عز وجل:{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [آل عمران:37]- يعني: أن الله قبل نذرها، وأن كان أنثى؛ فإنه أعلم بما وضعت، وهذا كان في دين بني إسرائيل.
وقد ذكر طائفة من المفسرين: أن هذا كان شرعا لهم، وأن شرعنا غير موافق له.
وخالفهم آخرون:
قال القاضي أبو يعلى في ((كتاب أحكام القرآن)) : هذا النذر صحيح في شريعتنا، فإنه إذا نذر الإنسان أن ينشئ ولده الصغير على عبادة الله وطاعته، وأن يعلمه القرآن والفقه وعلوم الدين صح النذر.
وهذا الذي قاله حق؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه)) ، فلو نذر أحد أن يخدم مسجداً لله عز وجل لزمه الوفاء بذلك مع القدرة، وأما إن نذر أن يجعل ولده لله ملازما لمسجد يخدمه ويتعبد فيه، فلا يبعد أن يلزمه الوفاء بذلك، فإنه نذر طاعة فيلزمه أن يجرد ولده لما نذره له، ويجب على الولد طاعة أبيه إذا أمره بطاعة الله عز وجل.
وقد نص الإمام أحمد على أن الكافرين إذا جعلا ولدهما الصغير مسلما صار مسلما بذلك.
ولو وقف عبده على خدمة الكعبة صح -: نص عليه أحمد - أيضا.
ونص في عبد موقوف على خدمة الكعبة أنه إذا أبى أن يخدم بيع واشترى بثمنه عبد يخدم مكانه.
وروى سعيد بن سالم القداح، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، أن معاوية أخدم الكعبة عبيدا بعث بهم إليها، ثم اتبعت ذلك الولاة بعده.
خرجه الأزرقي.
قال البخاري:
460 -
حدثنا أحمد بن واقد: ثنا حماد، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن أمرأة - أو رجلا - كانت تقم المسجد - ولا أراه إلا أمرأة - فذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على قبرها.
وقد سبق الحديث قريبا بتمامه مع الكلام عليه.
وإنما خرج هاهنا منه ما يدخل في هذا الباب، وهو: أن هذه المرأة كانت تقم المسجد، وتقوم بخدمته وتنظيفه وإخراج القمامة منه.
75، 76 - باب
الأسير والغريم يربط إلى سارية المسجد
فيه حديثان:
أحدهما:
قال:
461 -
ثنا اسحاق بن إبراهيم: ثنا روح ومحمد بن جعفر، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((أن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة)) - أو كلمة نحوها - ((ليقطع علي الصلاة، فأمكنني الله منه، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] )) .
قال روح: ((فرده خاسئا)) .
والثاني:
قال:
462 -
ثنا عبد الله بن يوسف: ثنا الليث: حدثني سعيد بن أبي سعيد، أنه سمع أبا هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:((أطلقوا ثمامة)) ، فان طلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
دل هذان الحديثان: على ربط الأسير إلى سارية من سواري المسجد؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في زمانه سجن يسجن فيه الأسارى، ولهذا لما ندم أبو لبابة على ما قال لبني قريظة ربط نفسه بسارية من سواري المسجد.
وفي بعض نسخ ((كتاب البخاري)) في هذا الباب زيادة:
وكان شريح يأمر بالغريم أن يحبس إلى سارية المسجد.
وروي ذلك عن علي - أيضا -:
قال يعقوب بن شيبة: ثنا عبيد بن يعيش: ثنا صيفي بن ربعي الأنصاري، عن أبيه: حدثني مشيخة الحي، أن عليا استعمل رجلا على عمل، فأتاه، فسأله عن المال، فلم يرفع إليه ما أراد. قال: فشده على أسطوانة من أساطين المسجد، فقال: أد مال الله.
وربط الأسير، أن كان من الكفار فربطه من مصالح الدين، وقد أمر الله تعالى به بقوله:{حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] .
وإن كان من المسلمين على دين له أو حق ليخرج منه فهو من مصالح المسلمين المحتاج إليها، لحفظ أموالهم واستيفاء حقوقهم، وهو من جنس القضاء في المسجد، وأمر الخصوم بإنصاف بعضهم لبعض، والخروج من الحقوق اللازمة لبعضهم بعضا، وقد سبق أن القضاء في المسجد جائز.
وهم النبي صلى الله عليه وسلم بربط الشيطان هو من عقوبات العصاة المتمردين المتعرضين لإفساد الدين، وليس من جنس إقامة الحدود بالضرب والقطع حتى تصان عنه المساجد، إنما هو حبس مجرد، فهو كحبس الأسارى من الكفار.
وبقية فوائد الحديثين تذكر في مواضع أخر - إن شاء الله تعالى.
77 - باب
الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم
463 -
حدثنا زكريا بن يحيى: ثنا عبد الله بن نمير: ثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلم يرعهم - وفي المسجد خيمة من بني غفار - إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما، فمات فيها.
في الحديث: دليل على جواز ضرب الخيام في المسجد؛ فإنه كان فيه خيمة لبني غفار، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة لسعد بن معاذ لما رمي بسهم في أكحله يوم الخندق، وقصد بذلك أن يعوده من قرب؛ فإن منزله كان فيه بعد عن المسجد.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب له قبة في اعتكافه في المسجد، وأزواجه معه، وقد كان للأمة السوداء حفش أو خباء في المسجد كما سبق، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيف في قبة في المسجد.
وقد اختلف العلماء في ذلك: فكره أحمد للمعتكف أن يضرب خيمة ونحوها في المسجد، إلا لشدة البرد، ورخص فيه إسحاق
إذا كان قصده أن يصون المسجد عما يكون منه من حدث أو سقوط شيء من طعامه في المسجد -: نقله عنهما إسحاق بن منصور في ((مسائله)) .
ومن رخص في ضرب الأخبية ونحوها في المساجد - كما دلت عليه الأحاديث في هذا الباب - قال: هي لا تتأبد، فلا تكون ممنوعة، بخلاف ما يتأبد كالغراس والبناء، فإنه لا يجوز.
وقد نص أحمد على منع الغراس في المساجد، وهو قول مالك: وقال أصحاب الشافعي: يكره. وحكي جوازه عن الأوزاعي.
78 - باب
إدخال البعير في المسجد للعلة
وقال ابن عباس: طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير.
464 -
حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة، قالت: شكوت إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي. قال: ((طوفي من وراء الناس، وأنت راكبة)) ، فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت، يقرا بالطور وكتاب مسطور.
حديث ابن عباس في طواف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير، قد خرجه البخاري في ((كتاب: الحج)) مع حديث أم سلمة هذا في ((باب: طواف المريض راكبا)) .
وبوب على الحديثين هاهنا: ((إدخال البعير في المسجد للعلة)) - يعني: لحاجة إلى إدخاله، مثل أن يطوف عليه في مرضه.
وقد جاء في رواية أخرى في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة أن تطوف على بعيرها.
وإدخال ما يوكل لحمه من الحيوانات إلى المساجد ينبني على حكم بولها وروثها: فمن قال: أنه طاهر أجازه، ولم يكرهه للحاجة إليه.
وقد استدل أصحابنا وأصحاب مالك بهذه الأحاديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه، وقالوا: لو كان بول البعير نجسا لم يدخل المسجد.
وقد خرج البخاري في ((كتاب: العلم)) حديث قدوم ضمان بن ثعلبة ودخوله المسجد وعقله بعيره فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ في المسجد.
ومن قال: أنه نجس كره دخولها، وقد صرح به أصحاب الشافعي، وقالوا: إنما طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعيره لبيان الجواز.
وهذا مردود بأمره أم سلمة بالطواف راكبة، وبإقراره ضماما على عقل بعيره في المسجد.
وأما ما لا يؤكل لحمه من الحيوانات، فيكره إدخاله المسجد بغير خلاف، وقد نص عليه مالك في الكلاب وجوارح الطير، ورخص أحمد في غلق المساجد؛ لئلا تدخلها الكلاب.
وقد روي عن عمر، أنه نهى عن الطواف بالبيت راكبا على فرس ونحوها.
فروى سفيان: عن عمرو بن دينار، قال: طاف رجل بالبيت على فرس، فمنعوه، فقال: أتمنعوني؟ فكتب في ذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر: أن امنعوه.
وإنما منع عمر من ذلك مبالغة في صيانة المسجد؛ ولئلا يؤذي الراكب الماشين في الطواف. والله سبحانه وتعالى أعلم.
79 -
باب
465 -
حدثنا محمد بن المثنى: ثنا معاذ بن هشام: ثنا أبي، عن قتادة: ثنا أنس، أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، ومعهما مثل المصباحين يضيئان بين أيديهما، فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحد حتى أتى أهله.
وخرج في ((المناقب)) من رواية همام: ثنا قتادة، عن أنس، أن رجلين خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فإذا نور بين أيديهما، حتى تفرقا فتفرق النور معهما.
قال البخاري: وقال معمر، عن ثابت، عن أنس، أن أسيد بن حضير ورجلا من الأنصار. وقال حماد: أبنا ثابت، عن أنس: كان أسيد بن حضير وعباد بن بشر عند النبي صلى الله عليه وسلم.
وهاتان الروايتان المعلقتان ليستا على شرطه؛ لأن روايات معمر عن ثابت رديئة -: قاله ابن معين وابن المديني وغيرهما؛ فلذلك لا
يخرج البخاري منها شيئا، وحماد بن سلمة لم يخرج له شيئا استقلالا.
وفي رواية حماد بن سلمة: أن هما كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم وتحدثا عنده في ليلة ظلماء حندس، ثم خرجا من عنده.
فيحتمل أنهما كانا عنده في المسجد، وأنهما كانا عنده في بيته:
فإن كان اجتماعهما به في المسجد فإنه يستفاد من الحديث أن المشي إلى المساجد والرجوع منها في الليالي المظلمة ثوابه النور من الله عز وجل، وذلك يظهر في الآخرة عيانا، وأما في الدنيا فقد يستكن النور في القلوب، وقد يظهر أحيانا كرامة لمن أراد الله كرامته ولم يرد فتنته.
وإن اجتماعهما عند النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، فإنه يستنبط منه فضيلة الذهاب إلى المساجد والرجوع منها في الظلم – أيضا -؛ فإنه أفضل
ما مشى إليه المسلمون في الدنيا، فيلتحق بالمشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ذهابا إليه ورجوعا من عنده.
وإنما اقتصر البخاري على هذا الحديث في هذا الباب؛ لأن الأحاديث الصريحة فِي تبشير المشائين إلى المساجد فِي الظلم بالنور التام يوم القيامة ليس شيء مِنْهَا عَلَى
شرطه، وإن كانت قد رويت من وجوه كثيرة.
ولكن يستدل - أيضا - لفضيلة المشي إلى المساجد في الظلم بما في ((الصحيحين)) من رواية أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا)) .
ويستدل - أيضا - بحديث أنس الذي خرجه البخاري هاهنا على جواز الاستضاءة في الرجوع من المسجد في الليالي المظلمة.
وقد ورد حديث أصرح من هذا:
خرجه الإمام أحمد من رواية فليح بن سليمان، عن سعيد بن الحارث، عن أبي سلمة، سمع أبا سعيد الخدري، قال: هاجت السماء ليلة، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة برقت برقة، فرأى قتادة بن النعمان، فقال:((ما السرى يا قتادة؟)) قال: علمت أن شاهد الصلاة قليل، فأحببت أن أشهدها. قال:((فإذا صليت فاثبت حتى أمر بك)) ، فلما انصرف أعطاه عرجونا، وقال:((خذ هذا يستضيء لك أمامك عشرا وخلفك عشرا)) - وذكر حديثا فيه طول.
وهذا إسناد جيد.
وقد كان السلف يختارون المشي إلى صلاة العشاء والصبح في غير ضوء.
وروي عن سعيد بن المسيب، أنه قال لقوم معهم ضوء يمشون به إلى المساجد: ضوء الله خير من ضوئكم.
ولما ولى عمر بن عبد العزيز أبا بكر بن حزم إمرة المدينة مع قضائها أرسل إلى عمر يطلب منه شمعا كان للأمراء قبله يمشون به إلى المسجد في الليل، فأرسل إليه عمر رحمه الله يعاتبه على ذلك، ويأمره أن يفعل كما كان يفعل من قبل ولايته، ويمشي إلى المسجد في الظلمة، وإن ذلك خيرا له.
وقال النخعي: كانوا يرون أن المشي في الليلة الظلماء إلى الصلاة موجبة.
يعني: توجب المغفرة.
وروينا عن الحسن، قال: أهل التوحيد في النار لا يقيدون، فتقول الخزنة بعضهم لبعض: ما بال هؤلاء لا يقيدون وهؤلاء يقيدون؟ فيناديهم مناد: إن هؤلاء كانوا يمشون في ظلم الليل إلى المساجد.
وقد كان بعض المتقدمين يمشي بين يديه الشيطان في الليل إلى المسجد بضوء، فمنهم من يفطن لذلك فلم يغتر به، ومنهم من قل علمه فاغتر وافتتن بذلك؛ فإن جنس هذه الخوارق يخشى منها الفتنة، إلا لمن قوي إيمانه ورسخ في العلم قدمه، وميز بين حقها وباطلها.
والحق منها فتنة - أيضا -؛ فإنه شبيه بالقدرة والسلطان الذي يعجز عنه كثير من الناس، فالوقوف معه والعجب به مهلك، وقد اتفق على ذلك مشايخ العارفين الصادقين، كما ذكره عنهم أبو طالب المكي في كتابه ((قوت القلوب)) ،
وأنهم رأوا الزهد فيه كما آثروا الزهد في الملك والسلطان والرياسة والشهرة؛ فإن ذلك كله فتنة ووبال على صاحبه، إلا لمن شكر عليه وتواضع فيه وخشي من الافتتان به.
وقد اخبر الله تعالى عن سليمان عليه السلام أنه لما رأى عرش ملكة سبأ عنده قال:
وقد قيل: إن مراد البخاري بهذا الباب، وتخريج هذا الحديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مسجده بالليل في الظلمة، من غير سراج ولا ضوء، ولهذا خرجا من عنده ومعهما مثل المصباحين، وهذا يدل على أن هذا الضوء صحبهما من قبل مفارقته من المسجد، فلو كان في المسجد مصباح لما احتاجا إلى الضوء إلا بعد خروجهما.
وهذا حق - أعني: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المسجد في غير مصباح -، وقد اخبر أنس أنه رأى بريق خاتم النبي صلى الله عليه وسلم الذي في يده من فضة في الليل، وهذا إنما يكون في الظلمة.
وقيل: أن أول من أسرج مسجد المدينة تميم الداري في عهد عمر. وكان تميما اخذ الإيقاد في المساجد مما عرفه بالشام من إيقاد المسجد الأقصى.
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بإرسال زيت إلى المسجد الأقصى يسرج في قناديله، وقال: أن ذلك يقوم مقام الصلاة فيه.
وقد أبو داود.
وفي إسناده نظر.
وفي ((سنن ابن ماجه)) بإسناد ضعيف، عن أبي سعيد الخدري، قال: أول من أسرج المساجد تميم الداري.
والمراد به: المساجد في الإسلام.
80 - باب
الخوخة والممر في المسجد
466 -
حدثنا محمد بن سنان: ثنا فليح: ثنا أبو النضر، عن عبيد بن حنين، عن بسر بن سعيد، عن أبي سعيد الخدري، قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:((أن الله خير عبدا بَيْن الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله)) ، فبكى أبو بكر، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ؟ إن يكن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله عز وجل، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال:((يا أبا بكر، لا تبك، أن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر)) .
467 -
حدثنا عبد الله بن محمد الجعفي: ثنا وهب بن جرير: ثنا أبي، قال: سمعت يعلي بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((أنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذا من الناس
خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر رضي الله عنه)) .
حديث أبي سعيد، قد رواه - أيضا - مالك، عن أبي النضر. وخرجه البخاري من طريقه في موضع أخر، وخرجه مسلم من طريق مالك وفليح - أيضا.
وإنما خرج لفليح متابعة، ولم يخرج حديث ابن عباس؛ فإنه لا يخرج لعكرمة إلا متابعة - أيضا -، وحديث ابن عباس إنما يرويه عنه عكرمة.
وقد روى بعضه أيوب، عن عكرمة، وخرجه البخاري في موضع أخر.
هذه الخطبة التي خطبها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم كانت أخر خطبة خطبها على المنبر، فعرض فيها باختياره لقاء الله على المقام في الدنيا، واخبر أنه أعطى مفاتيح خزائن الدنيا، وخير بين أن يبقى ما شاء الله وبين لقاء ربه فاختار لقاء ربه، ولكنه لم يصرح بتخييره، واختار في نفسه وإنما قال:((إن عبدا خير)) ، فلم يتفطن لذلك احد غير أبي بكر الصديق، وكان أبو بَكْر أعلمهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وأفهمهم عنه، وهذا من الفهم في العلم الذي يخص الله به من شاء من عباده.
وذكر في هذه الخطبة تخصيص أبي بكر من بين الصحابة كلهم بالفضل، وأومأ إلى خلافته بفتح بابه إلى المسجد، وسد أبواب الناس كلهم، ففي ذلك إشارة إلى أنه هو القائم بالإمامة بعده، فإن الإمام يحتاج إلى استطراق المسجد، وذلك من مصالح المصلين فيه.
وفي هذه الخطبة وصى بالأنصار، وأمر من يلي الأمر بالإحسان إليهم، وفيه إشارة إلى أنه ليس لهم من الأمر شيء، كما ظنه من قال منهم للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير.
وفي هذه الخطبة اخبر عن نفسه صلى الله عليه وسلم أنه فرط لهم على الحوض - يعني: أنه سابق لهم إلى الحوض -، وهو ينتظرهم عنده، فهو الموعد بينه وبينهم، وحذر من الاغترار بزهرة الدنيا، والركون اليها؛ فإنه كان قد أعطى خزائنها فاختار لقاء ربه قبل ذلك، وفتحت بعده على أمته.
وهذا كله ثابت عنه صلى الله عليه وسلم، وقد خرج البخاري في ((كتابه)) هذا، فبعضه من حديث أبي سعيد، وبعضه من حديث عقبة بن عامر، وبعضه من حديث ابن عباس، وبعضه من حديث أنس.
وروى - أيضا - أنه صلى الله عليه وسلم وصى في تلك الخطبة بتنفيذ جيش أسامة، وذكر
فضله، ووصى به خيرا.
ونحن نذكر هذه الأحاديث هاهنا.
فأما حديث أبي سعيد: فقد خرجه البخاري ها هنا، وفي غير موضع، وخرجه مسلم - أيضا.
وخرج الإمام أحمد وابن حبان في ((صحيحه)) من رواية أنيس بن أبي يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، وهو معصوب الرأس، فاتبعه حتى قام على المنبر، فقال:((إني الساعة قائم على الحوض)) ، ثم قال:((إن عبدا عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة)) . قال: فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر، فقال: بأبي وأمي، بل نفديك بأموالنا وأنفسنا. قال: ثم هبط من المنبر، فما رئي عليه حتى الساعة.
وأما حديث عقبة بن عامر: فخرجه البخاري في ((غزوة أحد)) من رواية أبي الخير، عن عقبة، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى احد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر، فقال:((إني بين أيديكم فرط، وأنا شهيد عليكم، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها)) .
قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخرجه مسلم - أيضا -، وعنده: قال عقبة: فكانت أخر ما رأيت رسول الله على المنبر.
وتوديعه للأحياء والأموات: هو أنه صلى على الموتى واستغفر لهم وهنأهم بما هم فيه من سبقهم للفتن.
وتوديعه للأحياء: هو نصيحتهم وتحذيرهم من الاغترار بالدنيا، وإيماؤه إلى أنه منتقل عنهم إلى الآخرة، وأنه سابق لهم إلى الحوض، فهو موعدهم.
وقد كان صلى الله عليه وسلم أتى أهل البقيع بالليل فاستغفر لهم، ثم ذهب إلى شهداء احد بالنهار فاستغفر لهم، ثم رجع فخطب هذه الخطبة، وودع الأحياء.
ففي ((المسند)) عن أبي مويهبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة إلى البقيع فاستغفر لأهل البقيع، وقال:((ليهنكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس، أقبلت الفتن - كقطع الليل المظلم، يتبع بعضها بعضا، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى)) ، ثم قال:((يا أبا مويهبة إني قد أعطيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي، فاخترت لقاء ربي والجنة)) . ثم انصرف، فابتدأه وجعه الذي
قبضه الله فيه.
وذكر ابن سعد بإسناده عن زيد بن أسلم، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كل مرة يقال له: صل على أهل البقيع، فيفعل ذلك، وقال:((اللهم اغفر لأهل البقيع)) ، ثم أمر أن يأتي الشهداء، فذهب إلى أحد، فصلى على قتلى أحد، فرجع معصوب الرأس، فكان بدء الوجع الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم.
وأما حديث ابن عباس: فقد خرجه البخاري هاهنا.
وخرج في ((المناقب)) - أيضا - من حديث عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وعليه ملحفة متعطفا بها، وعليه عصابة برد دسماء حتى جلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال:((أما بعد، أيها الناس، فإن الناس يكثرون ويقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمرا يضر فيه أحدا آو ينفعه فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم)) .
وخرجه ابن سعد في ((طبقاته)) ، وزاد فيه:((وكان آخر مجلس جلسه حتى قبض صلى الله عليه وسلم)) .
وأما حديث أنس: فخرجه البخاري في ((المناقب)) من حديث هشام بن زيد، عن أنس، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم قد عصب على رأسه حاشية برد
فصعد المنبر - ولم يصعده بعد ذلك اليوم -، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:((أوصيكم بالأنصار؛ فأنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم)) .
وأما أمره صلى الله عليه وسلم بتجهيز جيش أسامة: فقد خرجه ابن سعد بإسناد فيه ضعف عن عروة - مرسلا -، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث أسامة وأمره أن يوطئ الخيل نحو البلقاء حيث قتل أبوه وجعفر، فجعل أسامة وأصاحبه يتجهزون، وقد عسكر بالجرف، فاشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ذلك، ثم وجد من نفسه راحة، فخرج عاصبا رأسه، فقال:((أيها الناس، أنفذوا بعث أسامة)) - ثلاث مرات -، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم فاستعز به، فتوفي صلى الله عليه وسلم.
وقد خرجا في ((الصحيحين)) من حديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على أسامة ووصى به، وقال:((أنه لخليق بالإمارة)) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر)) .
قال الخطابي: معنى قوله: ((أمن)) ، أي: أبذل لنفسه وأعطى لماله، والمن: العطاء من غير استثابة، ومنه قوله تعالى:{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} [ص:39] وقوله: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] أي: لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت، ولم يرد به المنة؛ فإنها تفسد الصنيعة، ولا منة لأحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل له المنة على جميع
الأمة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا)) يدل على أن مقام الخلة أفضل من مقام المحبة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان يحب أبا بكر وقد نفى عنه الخلة، والله تعالى يحب أنبياءه ورسله كلهم، ولم يخص بالخلة غير محمد وإبراهيم صلى الله عليهما.
وفي ((صحيح مسلم)) ، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((ألا إني أبرأ إلى كل خل من خلته، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، وإن صاحبكم خليل الله)) .
وفي رواية له - أيضا -: ((لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا)) .
وخرج مسلم - أيضا - من حديث جندب بن عبد الله: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بخمس يقول: ((قد كان لي منكم أخلاء وأصدقاء، وإني أبرأ إلى كل ذي خلة من خلتة، ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا)) .
والظاهر: أن جندب سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك في خطبته هذه، فإن كان كذلك فلعل خطبته صلى الله عليه وسلم كانت يوم الأربعاء؛ فإنه توفي يوم الاثنين، واشتد وجعه يوم الخميس، كما قال ذلك ابن عباس، فالظاهر أنه لم يخرج
فيه إلى الناس، أو لعله أعاد هذا القول في بيته فسمعه جندب، وهذا أظهر - والله أعلم -؛ فإن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم هذه كانت في ابتداء مرضه، وكانت مدة مرضه فوق عشرة أيام. والله أعلم.
وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى سبب براءته من خلة المخلوقين، وهو أن الله اتخذه خليلا لنفسه كما اتخذ إبراهيم خليلا، ومن كان خليلا لله فلا يصلح له أن يخالل بشرا.
ومن هنا قيل: إن إبراهيم عليه السلام إنما أمر بذبح ولده إسماعيل لتفريغ قلبه من محبته وشدة تعلقه به، حيث وهب له على الكبر، فلما بادر إلى اضطجاعه وإخراجه من قلبه امتثالا لأمر الله وطاعته أسقط عنه ذبحه بعد ذلك؛ لأنه لم يكن المقصود إراقة دمه، بل تفريغ محل الخلة منه، حتى لا تزاحم خلة الواحد الأحد محبة الولد.
والخلة: هي المحبة المبالغة المخللة لمسالك الروح من القلب والجسد، كما قيل.
قد تخللت مسلك الروح مني
…
وبهذا سمي الخليل خليلا
وهذا لا يصح لغير الله، وإنما يصلح للمخلوق المحبة، وهي درجة دون الخلة، فلهذا اقتصر صلى الله عليه وسلم في حق الصديق على الأخوة
والمودة، وهي أخوة الإسلام المشار إليها في حديث ابن عباس الذي خرجه هاهنا.
وقد خرجه في ((المناقب)) من حديث أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، وفيه:((ولكن أخوة الإسلام أفضل)) .
ولعل هذه الرواية أصح، وأيوب يقدم على يعلى بن حكيم في الحفظ والضبط.
وكان أبو بكر مقدما على سائر الرجال في المحبة من النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا لما سأله عمرو بن العاص عن أحب الناس إليه؟ قال: ((عائشة)) قال: ((فمن الرجال؟ قال: ((أبوها)) .
وقال عمر لأبي بكر يوم السقيفة: أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: ((سدوا عني كل باب في المسجد، إلا باب أبي بكر)) ، وفي حديث ابن عباس:((كل خوخة)) .
قال الخطابي: الخوخة: بويب صغير.
قال: وفي أمره صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد غير بابه اختصاص شديد له، وأنه أفرده بأمر لا يشاركه فيه أحد، وأول ما يصرف التأويل فيه الخلافة، وقد أكد الدلالة عليها بأمره إياه بإمامة الصلاة التي لها بني المسجد، ولأجلها يدخل إليه من أبوابه.
قال: ولا أعلم دليلا في إثبات القياس والرد على نفاته أقوى من
إجماع الصحابة رضي الله عنهم على استخلاف أبي بكر؛ مستدلين في ذلك باستخلاف النبي صلى الله عليه وسلم إياه في أعظم أمور الدين وهو الصلاة، وإقامته إياه فيها مقام نفسه، فقاسوا عليها سائر أمور الدين. انتهى.
وأشار بإجماع الصحابة في ذلك إلى ما روى ابن مسعود، قال: لما قبض
رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير. قال: فأتاهم عمر، فقال: يا معاشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر يؤم الناس؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر.
خرجه الإمام أحمد، وعلي بن المديني، وقال: هو صحيح، والحاكم، وقال: هُوَ صحيح الإسناد.
وقد روي هذا المعنى عن طائفة من الصحابة، منهم: علي والزبير وأبو عبيدة بن الجراح، رضي الله عنهم أجمعين.
وقد دل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب الشارعة في المسجد على منع إحداث الاستطراق إلى المساجد من البيوت؛ فإن ذلك نفع يختص به صاحب الاستطراق، فلا يجوز في المساجد كما لا يجوز الاستطراق إلى أملاك الناس بغير إذنهم.
وهذا بخلاف وضع الخشب على جدار المسجد، فإن فيه عن الإمام أحمد روايتين؛ لأن هذا النفع يجوز عنده في ملك الجار بغير إذنه، بخلاف الاستطراق إلى ملك الجار، فإنه غير
جائز.
واستثنى من ذلك الإمام ومن يتبعه؛ فإن استطراقه إلى المسجد فيه نفع يعود بمصلحة المصلين عموما، فكان النبي صلى الله عليه وسلم في حياته يستطرق إلى المسجد هو وآل بيته تبعا له، ولهذا روي أنه أمر بسد الأبواب غير باب علي، كما خرجه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما من وجوه.
فلما انقضت مدته صلى الله عليه وسلم من الدنيا سد الأبواب كلها إلى المسجد غير باب أبي بكر؛ لأنه الإمام بعده، واستطراقه إلى المسجد من بيته فيه نفع عام يعود على المصلين كلهم. والله سبحانه وتعالى أعلم.
81 - باب
الأبواب والغلق للكعبة والمساجد
وقال لي عبد الله بن محمد: ثنا سفيان، عن ابن جريج، قال: قال لي ابن أبي مليكة: يا عبد الملك، لو رأيت مساجد ابن عباس وأبوابها.
هذا الأثر رواه الإمام أحمد، عن ابن عيينة.
قال يعقوب بن بختان: سئل أبو عبد الله - يعني: أحمد - عن المسجد يجعل له أبواب؟ فلم ير به بأسا، وقال: ثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، قال: قال لي ابن أبي مليكة: لو رأيت مساجد ابن عباس وأبوابها.
وقال جعفر بن محمد: سمعت أبا عبد الله يسأل عن المسجد يغلق بابه؟ قال: إذا خاف أن يدخله كلب او صبيان.
وقال في رواية مهنا: ينبغي أن تجنب الصبيان المساجد.
وقال أصحاب الشافعي: لا بأس بإغلاق المسجد في غير وقت الصلاة؛ لصيانته أو حفظ آلاته.
قال بعضهم: هذا إذا خيف امتهانه وضياع ما فيه، ولم تدع إلى فتحه حاجة، فأما إذا لم يخف من فتحه مفسدة ولا انتهاك حرمة، وكان فيه
رفق بالناس، فالسنة فتحه، كما لم يغلق مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في زمنه ولا بعده.
وقالوا: يكره إدخال المجانين والصبيان - الذين لا يميزون - المساجد، ولا يحرم ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو حامل أمامة، وفعله لبيان الجواز.
وقال أصحاب مالك: إذا كان الصبي يعبث فلا يؤت به المسجد، وإن كان لا يعبث ويكف إن نهي فجائز.
قالوا: وإن أتى أباه وهو في الصلاة المكتوبة نحاه عن نفسه، ولا بأس بتركه في النافلة.
وخرج ابن ماجه بإسناد ضعيف، عن واثلة مرفوعا:((جنبوا مساجدنا صبيانكم، ومجانينكم)) .
وروي عن بعض السلف أن أول ما استنكر من أمر الدين لعب الصبيان في المساجد.
واختلف الحنفية في إغلاق المساجد في غير أوقات الصلوات: فمنهم من كرهه؛ لما فيه من المنع من العبادات. ومنهم من أجازه؛ لصيانته وحفظ ما فيه.
قال البخاري رحمه الله:
468 -
ثنا أبو النعمان وقتيبة بن سعيد، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة، فدعا عثمان بن طلحة ففتح الباب، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وبلال وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة، ثم أغلق الباب، فلبث فيه ساعة، ثم خرجوا. قال ابن عمر: فبدرت فسألت بلالا، فقال: صلى فيه، فقلت في أي؟ قال: بين الأسطوانتين. قال ابن عمر: فذهب علي أن أساله: كم صلى؟
هذا الحديث يدل على أن الكعبة كان لها باب يغلق عليهم ويفتح، ولم يزل ذلك في الجاهلية والإسلام، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم أمرها على ما كانت عليه، ودفع مفتاح الكعبة إلى عثمان بن
طلحة، وأقره بيده على ما كان.
وفي ((المسند)) أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة أن تطلب من شيبة أن يفتح لها الكعبة ليلا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: والله ما فتحته بليل في جاهلية ولا في إسلام، فقال:((فانظر ما كنت تصنع فافعله، ولا تفتحه)) وأمر عائشة أن تصلي في الحجر.
وقد روي عن ابن جريج وغيره، أن أول من جعل للكعبة بابا يغلق وكساها كسوة كاملة تبع.
وذكر ابن إسحاق أن ذلك بلغه عن غير واحد من أهل العلم -: ذكره الأزرقي في ((أخبار مكة)) .
ولكن الكعبة لا تقاس بها سائر المساجد في صيانتها
واحترامها؛ فإن سائر المساجد إنما تراد ليعبد الله فيها، فإغلاقها لغير حاجة يمنع من المقصود منها، وأما الكعبة فالعبادة حولها لا فيها؛ فإن أخص العبادات منها الطواف، وإنما يطاف حولها ثم الصلاة، وإنما يصلى إليها.
وقد اختلف العلماء في الصلاة فيها كما سبق ذكره، وكذلك الاعتكاف، فإغلاقها لا يمنع حصول المقصود منها من عبادة الله حولها.
وأما غلق المسجد الحرام المبني حولها، فحكمه حكم غلق سائر المساجد أو أشد؛ لما فيه من منع الطواف الذي لا يتمكن منه في غير ذلك المسجد، بخلاف غلق سائر المساجد؛ فإنه لا يتعذر بإغلاقها الصلاة؛ فإن الأرض كلها مسجد. والله أعلم.
82 - باب
دخول المشرك المسجد
469 -
حدثنا قتيبة: ثنا الليث، عن سعيد بن أبي سعيد، أنه سمع أبا هريرة يقول: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيل قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد.
قد سبق هذا الحديث بأتم من هذا السياق في ((باب: الأسير يربط في
المسجد)) ، وفيه: أن ثمامة حين ربط كان مشركا، وأنه إنما أسلم بعد إطلاقه.
وفي هذا: دليل على جواز إدخال المشرك إلى المسجد، لكن بإذن المسلمين.
وقد أنزل النبي صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف في المسجد؛ ليكون أرق لقلوبهم.
خرجه أبو داود من رواية الحسن، عن عثمان بن أبي العاص.
وروى وكيع، عن سفيان، عن يونس، عن الحسن، قال: إن وفدا
قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم من ثقيف، فدخلوا عليه المسجد، فقيل له: إنهم مشركون؟ قال: ((الأرض لا ينجسها شيء)) .
وخرجه أبو داود في ((المراسيل)) من رواية أشعث، عن الحسن، أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب لهم قبة في مؤخرة المسجد؛ لينظروا صلاة المسلمين، إلى ركوعهم، وسجودهم، فقيل: يا رسول الله، أتنزلهم المسجد وهم مشركون؟ قال:((أن الأرض لا تنجس، إنما ينجس ابن آدم)) .
وكذلك سائر وفود العرب ونصارى نجران، كلهم كانوا يدخلون المسجد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويجلسون فيه عنده.
ولما قدم مشركو قريش في فداء أسارى بدر كانوا يبيتون في المسجد.
وقد روى ذلك الشافعي بإسناد له.
وقد خرج البخاري حديث جبير بن مطعم - وكان ممن قدم في فداء الاسارى -، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرا في المغرب بالطور. قال: وكان ذلك أول ما وقر الأيمان في قلبي.
وخرج البخاري فيما سبق في ((كتاب: العلم)) حديث دخول ضمام بن ثعلبة المسجد، وعقله بعيره فيه، وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، ثم أسلم عقب ذلك. وروى أبو داود في المراسيل بإسناد عن الزهري، قال: اخبرني
سعيد بن المسيب، أن أبا سفيان كان يدخل المسجد بالمدينة وهو كافر، غير أن ذلك لا يصلح في المسجد الحرام؛ لما قَالَ الله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28]
وقد اختلف أهل العلم منهم في دخول الكافر المسجد، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وحكي رواية عن أحمد، رجحها طائفة من أصحابنا.
قال أصحاب الشافعي: وليس له أن يدخل المسجد إلا بأذن المسلم. ووافقهم طائفة من أصحابنا على ذلك.
وقال بعضهم: لا يجوز للمسلم أن يأذن فيه إلا لمصلحة من سماع قرآن، أو رجاء إسلام، أو إصلاح شيء ونحو ذلك، فأما لمجرد الأكل واللبث والاستراحة فلا.
ومن أصحابنا: من أطلق الجواز، ولم يقيده بإذن المسلم.
وهذا كله في مساجد الحل، فأما المسجد الحرام فلا يجوز للمسلمين الإذن في دخوله للكافر، بل لا يمكن الكافر من دخول الحرم بالكلية عند الشافعي وأحمد وأصحابهما.
واستدلوا بقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمر مناديا ينادي:((لا يحج بعد العام مشرك)) .
وأجازه أبو حنيفة وأصحابه.
فأما مسجد المدينة، فالمشهور عندنا وعند الشافعية أن حكمه حكم مساجد الحل.
ولأصحابنا وجه: أنه ملحق بالمسجد الحرام؛ لأن المدينة حرم، وحكي عن ابن حامد، وقاله القاضي أبو يعلى في بعض كتبه.
وهذا بعيد؛ فإن الأحاديث الدالة على الجواز إنما وردت في مسجد المدينة بخصوصه، فكيف يمنع منه ويخص الجواز بغيره؟
وقالت طائفة: لا يجوز تمكين الكافر من دخول المساجد بحال، وهذا هو المروي عن الصحابة، منهم: عمر، وعلي، وأبو موسى الأشعري، وعن عمر بن عبد العزيز، وهو قول مالك، والمنصوص عن أحمد، قال: لا يدخلون المسجد ولا ينبغي لهم أن يدخلوهم.
واستدلوا بقول الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ} [البقرة:114] .
وظاهره: يدل على أن الكفار لا يمكنون من دخول المساجد، فإن دخلوا أخيفوا وعوقبوا، فيكونون في حال دخولهم خائفين من عقوبة المسلمين لهم.
وقد روي عن علي، أنه كان على المنبر فبصر بمجوسي، فنزل وضربه وأخرجه.
خرجه الأثرم.
وعلى هذا القول، فأحاديث الرخصة قد تحمل على أن ذلك قبل النهي عنه، أو أن ذلك كان جائزا حيث كان يحتاج إلى تألف قلوبهم، وقد زال ذلك.
وفرقت طائفة بَيْن أهل الذمة وبين أهل الحرب، فقالوا: يجوز إدخال أهل الذمة دون أهل الحرب، وروي عن جابر بن عبد الله وقتادة.
وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ
هَذَا} [التوبة:28] قال: إلا أن يكون عبدا أو أحداً من أهل الذمة.
وقد روى مرفوعا من رواية شريك: ثنا أشعث بن سوار، عن الحسن، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((لا يدخل مسجدنا هذا مشرك بعد عامنا هذا، غير أهل الكتاب وخدمهم)) .
خرجه الإمام أحمد.
وفي رواية له: ((غير أهل العهد وخدمهم)) .
وأشعث بن سوار، ضعيف الحديث.
وقد خص بعض أصحابنا حكاية الخلاف المحكي عن أحمد في المسألة بأهل الذمة.
83 - باب
رفع الصوت في المسجد
خرج فيه حديثين:
الحديث الأول: موقوف:
470 -
ثنا علي بن المديني: ثنا يحيى بن سعيد القطان: ثنا الجعيد بن
عبد الرحمن: ثنا يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد، قال: كنت قائما في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين. قال: فجئته بهما، فقال: من أنتما - ومن أين أنتما؟ - قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم!
إنما فرق عمر بين أهل المدينة وغيرها في هذا؛ لأن أهل المدينة لا يخفى عليهم حرمة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، بخلاف من لم يكن من أهلها؛ فإنه قد يخفى عليه مثل هذا القدر من احترام المسجد، فعفى عنه بجهله.
ولعل البخاري يرى هذا القبيل من المسند - أعني: إذا أخبر الصحابي عن شهرة أمر وتقريره، وأنه مما لا يخفى على أهل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن
ذلك يكون كرفعه.
ويشبه هذا: ما قال الفقهاء: أن من ارتكب حدا كالزنا ونحوه ممن نشأ في بادية بعيدة عن الإسلام، وادعى الجهل بتحريمه، فإنه لا يقام عليه ويعذر بذلك، بخلاف من نشأ ببلاد الإسلام.
وفيه: أن التنبيه في المسجد بالحصب بالحصى جائز، وقد كان ابن عمر إذا رأى من يصلي ولا يرفع يديه حصبه بالحصى. وكذلك إذا رأى من يتكلم والإمام يخطب.
وفي هذه الرواية: ((كنت قائما في المسجد)) ، كذا هو في كثير من نسخ
((صحيح البخاري)) ، وقد خرجه البيهقي في سننه، وقرأته بخطه من رواية أبي خليفة، عن علي بن المديني، وفيه:((كنت نائما)) بالنون.
وقد خرجه الإسماعيلي في مسند عمر من طرق، وعنده: أنه قال: كنت مضطجعا وهذه صريحة في النوم، ولم ينكر عليه عمر نومه في المسجد.
وخرجه الإسماعيلي - أيضا - من رواية حاتم - هو: ابن إسماعيل -، عن الجعيد، عن السائب - لم يذكر بينهما:((يزيد بن خصيفة)) .
وأشار إلى ترجيح هذه الرواية على رواية القطان وفي قوله نظر.
والجعيد - ويقال: الجعد - بن عبد الرحمن بن أوس، وينسب تارة إلى جده. وقد وقع في بعض
روايات هذا الحديث تسميه: ((الجعد)) ، وفي بعضها تسميته:((الجعد بن أوس)) ، وهو رجل واحد، فلا يتوهمن غير ذلك.
وقد روي هذا عن عمر من وجه آخر:
خرجه الإسماعيلي في مسند عمر من طريق عبدة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، أن رجلا من ثقيف أخبره، أن عمر بن الخطاب سمع ضحك رجل في المسجد، فأرسل إليه، فدعاه، فقال: ممن أنت؟ فقال: أنا رجل من أهل الطائف، فقال: أما إنك لو كنت من أهل البلد لنكلت بك، أن مسجدنا هذا لا يرفع فيه صوت.
وقد روي في حديث واثلة المرفوع: ((جنبوا مساجدكم خصوماتكم ورفع أصواتكم)) .
خرجه ابن ماجه بإسناد ضعيف جدا.
وروي عن ابن مسعود، أنه كان يكره أن ترفع الأصوات في المسجد. وقد سبق.
ورفع الأصوات في المسجد على وجهين:
أحدهما: أن يكون بذكر الله وقراءة القرآن والمواعظ وتعليم العلم وتعليمه، فما كان من ذلك لحاجة عموم أهل المسجد إليه، مثل الأذان والإقامة
وقراءة الإمام في الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة، فهذا كله حسن مأمور به.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب علا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش، يقول:((صبحكم ومساكم)) ، وكان إذا قرأ في الصلاة بالناس تسمع قراءته خارج المسجد، وكان بلال يؤذن بين يديه ويقيم في يوم الجمعة في المسجد.
وقد كره بعض علماء المالكية في مسجد المدينة خاصة لمن بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يزيد في رفع صوته في الخطب والمواعظ على حاجة إسماع الحاضرين، تأدبا مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حاضر يسمع ذلك، فيلزم التأدب معه، كما لو كان حيا.
وما لا حاجة إلى الجهر فيه، فإن كان فيه أذى لغيره ممن يشتغل بالطاعات كمن يصلي لنفسه ويجهر بقراءته، حتى يغلط من يقرأ إلى جانبه أن يصلي، فإنه منهي عنه.
وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة على أصحابه وهم يصلون في المسجد ويجهرون بالقراءة، فقال: ((كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن.
وفي رواية: ((فلا يؤذ بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي سعيد.
وكذلك رفع الصوت بالعلم زائدا على الحاجة مكروه عند أكثر العلماء، وقد سبق ذكره مستوفى في أوائل ((كتاب: العلم))
في باب رفع الصوت بالعلم.
الوجه الثاني: رفع الصوت بالاختصام ونحوه من أمور الدنيا، فهذا هو الذي نهى عنه عمر وغيره من الصحابة.
ويشبه: إنشاد الضالة في المسجد، وفي صحيح مسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم كراهته والزجر عنه، من رواية أبي هريرة وبريدة.
وأشد منه كراهة: رفع الصوت بالخصام بالباطل في أمور الدين؛ فإن الله ذم الجدال في الله بغير علم، والجدال بالباطل، فإذا وقع ذلك في المسجد ورفعت الأصوات به تضاعف قبحه وتحريمه.
وقد كره مالك رفع الصوت في المسجد بالعلم وغيره.
ورخص أبو حنيفة ومحمد بن مسلمة من أصحاب مالك في رفع الصوت في المسجد بالعلم والخصومة وغير ذلك مما يحتاج إليه الناس؛ لأنه مجمعهم ولا بد لهم منه.
وهذا مبني على جواز القضاء في المساجد. وقد سبق ذكره.
الحديث الثاني:
قال البخاري:
471 -
حدثنا أحمد: ثنا ابن وهب: اخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: حدثني عبد الله بن كعب بن مالك، أن كعب بن مالك
اخبره، أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت اصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كشف سجف حجرته، ونادى كعب بن مالك، فقال:((يا كعب)) قال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ((ضع الشطر من دينك)) . قال كعب: قد فعلت يا رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قم فاقضه)) .
البخاري يروي في كتابه هذا عن أحمد - غير منسوب -، عن ابن وهب، وقد اختلف فيه:
فقيل: هو: ابن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي ابن وهب -: قاله أبو أحمد الحاكم وغيره.
وأنكر آخرون أن يكون يروي عن ابن أخي ابن وهب هذا شيئا في كتابه؛ فإنه قد كثر الطعن عليه.
قالوا: ويحتمل أنه أحمد بن صالح المصري الحافظ، أو أحمد بن عيسى التستري؛ فإنه روى عنهما صريحا في مواضع. والله أعلم.
ويستدل بهذا الحديث من يجيز رفع الأصوات بالخصومات في المساجد عند الحكام وغيرهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر ذلك عليهما، إنما أصلح بينهما، وأمر صاحب الحق بأن يضع شيئا منه، ثم أمر المدين بالقضاء لما بقي عليه، وهذا إصلاح.
ومن كره ذلك أجاب: بأن ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم هو قطع لما وقع
بينهما من التشاجر، ورفع الأصوات في المسجد، فهو في معنى الإنكار؛ لأن المقصود من الإنكار إزالة ما ينكر، وقد حصل بذلك لا سيما والنبي صلى الله عليه وسلم إنما خرج من بيته لسماع أصواتهما المرتفعة، فدل على أنه قصد إزالة ذلك، ومنعهما منه، فأزال ذلك وأزال المشاجرة بينهما، وأصلح ذات بينهما، وأمر كل واحد منهما بالإحسان إلى صاحبه برفق ورأفة من غير عنف.
ولعل هذين كانا غير عالمين بكراهة رفع الصوت في المسجد، فلهذا أزال ما وقع منهما من المكروه برفق ورأفة صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.
84 - باب
الحلق والجلوس في المسجد
خرج فيه ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
472 -
من رواية: عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: ما ترى في صلاة الليل؟ قال: ((مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة، فأوترت له ما صلى)) ، وأنه كان يقول: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به.
الضمير في: ((أنه كان يقول)) يعود إلى ابن عمر رضي الله عنهما.
والحديث الثاني:
473 -
من رواية: أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقال: كيف صلاة الليل؟ قال: ((مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة، توتر لك ما قَدْ صليت)) .
ثم قال: وقال الوليد بن كثير: حدثني عبيد الله بن عبد الله، أن ابن عمر حدثهم أن رجلا نادى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد.
وإنما ذكر رواية الوليد بن كثير تعليقا - وقد خرجها مسلم في ((صحيحه)) مسندة -؛ لأن فيما التصريح بأن ذلك كان في المسجد.
وفي الروايتين اللتين أسندهما البخاري أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب، وكان أكثر خطبه على المنبر في المسجد، إلا خطبه في العيدين وفي موسم الحج ونحو ذلك.
وإنما أدخل البخاري هذا الحديث في هذا الباب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب على المنبر جلس الناس حوله، واستقبلوه بوجوههم.
وقد خرج البخاري في ((كتاب: الجمعة)) حديث أبي سعيد، قال: جلس النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله.
فكانت خطبه على المنبر مثل حلق الذكر والعلم، وكان يسأل في حال الخطبة عن مسائل من الدين، ويجيب عنها، وقد سبق ذكر ذلك في أول ((كتاب: العلم)) ، وفي آخره - أيضا - في ((باب: ذكر العلم والفتيا في المسجد)) .
الحديث الثالث:
474 -
من رواية: مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أن
أبا مرة مولى عقيل أخبره، عن أبي واقد الليثي، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فأقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الآخر فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ألا أخبركم عن الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه)) .
وقد سبق في ((كتاب: العلم)) ، واستوفينا الكلام عليه هناك بما فيه كفاية - إن شاء الله تعالى.
85 - باب
الاستلقاء في المسجد
475 -
حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عباد بن تميم، عن عمه، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقيا في المسجد، واضعا إحدى رجليه على الأخرى.
وعن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب: كان عمر وعثمان يفعلان ذلك.
هذا الحديث رواه أكابر أصحاب الزهري، عنه، عن عباد، عن عمه.
وخالفهم عبد العزيز بن الماجشون، فرواه عن الزهري: حدثني محمود بن لبيد، عن عباد.
فزاد في إسناده: ((محمود بن لبيد)) ، وهو وهم -: قاله مسلم بن الحجاج، وأبو بكر الخطيب وغيرهما.
وعم عباد بن تميم، هو: عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، صاحب حديث الوضوء.
والاستلقاء في المسجد جائز على أي وجه كان، ما لم يكن منبطحا على وجهه؛ فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذلك، وقال: ((إنها
ضجعة يبغضها الله عز وجل) . وقد ذكرنا إسناده في ((باب: النوم في المسجد)) .
وقد ذكر الزهري، عن ابن المسيب، عن عمر وعثمان، إنهما كانا يفعلان ذلك.
وأما الاستلقاء على هذا الوجه، وهو وضع إحدى الرجلين على الأخرى في المسجد وغيره فقد اختلف فيه:
فروي كراهته والتغليظ فيه عن كعب بن عجرة، وأبي سعيد، وقتادة بن النعمان، وسعيد بن جبير.
وقد روي النهي عنه مرفوعا. خرجه مسلم من حديث أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ويروى - أيضا - من حديث ابن مسعود وأبي هريرة وأخي أبي سعيد - وهو: قتادة بن النعمان.
وأما أكثر العلماء، فرخصوا فيه.
وممن روي أنه كان يفعله: عمر، وعثمان، وابن مسعود، ونص أحمد على جوازه.
واختلفوا في أحاديث النهي:
فمنهم من قال: هي منسوخة بحديث الرخصة، ورجحه الطحاوي وغيره.
ومنهم من قال: هي محمولة على من كان بين الناس فيخاف أن تنكشف عورته، أو لم يكن عليه سراويل، روي ذلك عن الحسن.
وروي عنه، أنه قال فيمن كره ذلك: ما أخذوا ذلك إلا عن
اليهود.
خرجه الطحاوي.
وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) عن معمر، عن الزهري، قال: أخبرني ابن المسيب، قال: كان ذلك من عمر وعثمان ما لا يحصى منهما. قال الزهري: وجاء الناس بأمر عظيم.
وقال الحكم: سئل أبو مجلز عن الرجل يضع إحدى رجليه على الأخرى؟ فقال: لا بأس به، إنما هذا شيء قاله اليهود: أن الله لما خلق السموات والأرض استراح، فجلس هذه الجلسة، فأنزل الله عز وجل:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] .
خرجه أبو جعفر ابن أبي شيبة في ((تاريخه)) .
وقد ذكر غير واحد من التابعين: أن هذه الآية نزلت بسبب قول اليهود: أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع، منهم: عكرمة وقتادة.
فهذا كلام أئمة السلف في إنكار ذلك ونسبته إلى اليهود، وهذا يدل على أن الحديث المرفوع المروي في ذلك لا أصل لرفعه، وإنما هو متلقى عن اليهود، ومن قال: أنه على شرط الشيخين فقد أخطأ.
وهو من رواية محمد بن فليح بن سليمان، عن أبيه، عن سعيد بن الحارث، عن عبيد
بن حنين: سمع قتادة بن النعمان يحدثه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى قول أبي مجلز. وفي آخره: وقال عز وجل: ((إنها لا تصلح لبشر)) .
وعبيد بن حنين، قيل: أنه لم يسمع من قتادة بن النعمان - قاله البيهقي.
وفليح، وإن خرج له البخاري فقد سبق كلام أئمة الحفاظ في تضعيفه، وكان يحيى بن سعيد يقشعر من أحاديثه، وقال أبو زرعة - فيما رواه عنه سعيد البرذعي -: فليح واهي الحديث، وابنه محمد واهي الحديث.
ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يروي عن ربه أنه قال: ((إنها لا تصلح لبشر)) لم
يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان قد انتسخ فعله الأول بهذا النهي لم يستمر على فعله خلفاؤه الراشدون الذين هم أعلم أصحابه به، وأتبعهم لهديه وسنته.
وقد روي عن قتادة بن النعمان من وجه أخر منقطع، من رواية سالم أبي النضر، عن قتادة بن النعمان - ولم يدركه -، أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن ذلك.
خرجه الإمام أحمد.
وهذا محتمل، كما رواه عنه جابر وغيره.
فأما هذه الطامة، فلا تحتمل أصلاً.
وقد قيل: أن هذه مما اشتبه على بعض الرواة فيه ما قاله بعض اليهود، فظنه مرفوعاً فرفعه، وقد وقع مثل هذا لغير واحد من متقدمي الرواة، وأنكر ذلك عليهم، وأنكر الزبير على من سمعه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إنما حكاه النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض أهل الكتاب.
فروى مسلم بن الحجاج في ((كتاب التفصيل)) والبيهقي فِي ((المدخل)) من رواية ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن عبد الله بن عروة، عن عروة، أن الزبير سمع رجلاً يحدث حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فاستمع الزبير له، حتى إذا قضى الرجل حديثه قال له الزبير: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ الرَّجُلُ: نَعَمْ. فَقَالَ الزُّبَيْر: هَذَا وأشباهه مِمَّا يمنعنا أن نحدث عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، قَدْ – لعمري – سَمِعْت
هَذَا من
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا يومئذ حاضر، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأ هذا الحديث، فحدثاه عن رجل من أهل الكتاب حدثه إياه، فجئت أنت بعد أن تقضى صدر الحديث وذكر الرجل الذي من أهل الكتاب، فظننت أنه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى مسلم - أيضا - في ((كتاب التفصيل)) بإسناد صحيح، عن بكير بن الأشج، قال: لنا بسر بن سعيد: أيها الناس، اتقوا الله، وتحفظوا في الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة، فيحدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحدثنا عن كعب، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كعب، ويجعل حديث كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو ذكرنا الأحاديث المرفوعة التي أعلت بأنها موقوفة: إما على عبد الله بن سلام، أو على كعب، واشتبهت على بعض الرواة فرفعها، لطال الأمر.
86 - باب
المسجد يكون في الطريق من غير ضرر للناس فيه
وبه قال الحسن وأيوب ومالك.
476 -
حدثنا يحيى بن بكير: ثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، ويعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين.
هذه قطعة من حديث الهجرة الطويل، وقد خرجه بتمامه في ((باب: الهجرة)) .
والمقصود منه هاهنا: أن أبا بكر رضي الله عنه ابتنى مسجدا بفناء داره بمكة، والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة، وكان يأتي بيت أبي بكر كل يوم مرتين بكرة
وعشية، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على أبي بكر، ولم يغيره، فدل على جواز بناء المسجد في الطريق الواسع إذا لم يضر بالناس.
وقد حكى البخاري جوازه عن الحسن وأيوب ومالك، وهو - أيضا - قول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد - في رواية عنه -، وأبي حنيفة، وسليمان بن داود الهاشمي.
واختلفوا: هل يجوز ذلك بدون إذن الإمام، أم لا يجوز بدون إذنه؟ على قولين: أحدهما: أن إذنه معتبر لذلك، وهو قول الثوري ورواية عن أحمد، وحكي عن ابن مسعود وقتادة ما يدل عليه؛ لأن نفع الطريق حق مشترك بين المسلمين، فلا يجوز تخصيصه بجهة خاصة بدون إذن الإمام كقسمة الأموال المشتركة بين المسلمين.
والثاني: لا يعتبر إذن الإمام، وهو المحكي عن الحسن وأيوب وأبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم ممن جوزه، وهو رواية عن أحمد - أيضا - لأن الطريق إذا كان متسعا لا يضر بالمارة بناء مسجد فيه، فحق الناس في المرور فيه المحتاج إليه باق لم يتغير، بخلاف قسمة أموال بيت المال؛ فإن مصارفها كثيرة جدا، فيرجع فيها إلى اختيار الإمام.
وعن أحمد رِوَايَة ثالثة: أنه لا يجوز بناء المساجد فِي الطريق بحال، بل تهدم ولا يصلى فيها.
فمن أصحابنا من حكاها مطلقة، ومنهم من خصها بما إذا لم يأذن
فيها الإمام، وهذا أقرب.
وأجاز الجوزجاني بناء المساجد في الطريق، بشرط أن يبقى من الطريق بعد المسجد سبعة أذرع.
ونسب ذلك إلى أحمد، ولا يصح ذلك عن أحمد.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم ((إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع)) ، معناه - عند أحمد وأصحابه -: إذا أرادوا أن يحدثوا طريقا في ارض موات أو مملوكة، وليس معناه - عندهم - أنه يجوز البناء في الطريق الواسع حتى يبقى منه سبعة أذرع، كما قاله الجوزجاني.
87 - باب
الصلاة في مسجد السوق
وصلى ابن عون في مسجد في دار يغلق عليهم الباب.
قد سبق ذكر مساجد البيوت والصلاة فيها، وما ذكره البخاري هناك أن البراء ابن عازب صلى في مسجد بيته جماعة، وذكرنا قول أحمد، أنه لا يحصل بالصلاة فيها فضيلة الصلاة في المسجد، إلا أن يكون يؤذن فيه ويقام، كأنه يشير إلى أن يكون في حال الصلاة غير ممنوع، وأن إسحاق قال: لا يحصل بالصلاة فيه جماعة فضل الجماعة في المسجد، إلا أن يكون له عذر.
وما حكاه البخاري هنا عن ابن عون، ظاهره: يدل على حصول فضل الجماعة في المسجد بذلك، وإن كان مغلقا، وهو قياس قول من أجاز الاعتكاف فيه، كما سبق ذكره، ويحتمل أن يكون ابن عون لا يرى حضور المساجد في الجماعة واجبا، أو أنه كان لهم عذر. والله أعلم.
وأما مساجد الأسواق، إذا كانت مسبلة، فحكمها حكم سائر المساجد المسبلة.
وقد كره طلحة اليامي الصلاة في مساجد السوق.
خرجه حرب الكرماني من رواية ليث عنه.
وكأنه يشير إلى أنه إنما يستحب الصلاة في المسجد الأعظم الذي يجمع فيه.
وقد ورد التصريح بفضل الصلاة في مسجد الجامع على الصلاة في مساجد القبائل التي لا يجمع فيها.
خرجه ابن ماجه: ثنا هشام بن عمار: ثنا أبو الخطاب الدمشقي: ثنا رزيق أبو عبد الله الألهاني، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة)) .
رزيق الألهاني - بتقديم الراء على الزاي -، قال أبو زرعة الرازي: لا بأس به. وذكره ابن حبان في ((ثقاته)) وذكره - أيضا في ((الضعفاء)) ، وقال: لا يحتج به.
وأما أبو الخطاب الدمشقي، فقيل: اسمه: حماد، وقع كذلك مصرحا به في ((معجم الطبراني الأوسط)) ، وذكر ابن عدي أنه: معروف الخياط الذي رأى واثلة بن الأسقع، وأن هشام بن عمار يروي عنه وفيه ضعف.
وقال ابن ماكولا:
اسمه: سلمة بن علي، كان يسكن اللاذقية، روى عنه هشام بن عمار والربيع بن نافع. قال: والحديث منكر، ورجاله مجهولون.
كذا قال، وليس فيهم من يجهل حاله سوى أبي الخطاب هذا.
وقد كان بالمدينة مساجد في قبائل الأنصار، وهي دورهم، يصلون فيها الجماعات سوى الجمع.
وروى ابن لهيعة، أن بكير بن الأشج حدثه، أنه كان بالمدينة تسعة مساجد مع مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، يسمع أهلها تأذين بلال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلون في مساجدهم بني عمرو بن مبذول من بني النجار، ومسجد بني ساعدة، ومسجد بني عبيد، ومسجد بني سلمة، ومسجد بني رابح من بني عبد الاشهل، ومسجد بني زريق، ومسجد بني غفار، ومسجد أسلم، ومسجد جهينة. وشك في التاسع.
خرجه أبو داود في ((المراسيل)) .
قال البخاري رحمه الله:
477 -
حدثنا مسدد: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح،
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته
وصلاته
في سوقه خمسا وعشرين درجة، فإن أحدكم إذا توضأ فأحسن وأتى المسجد لا يريد
إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة أو حط عنه بها خطيئة حتى
يدخل المسجد، وإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه وتصلي
الملائكة عليه مادام في مجلسه الذي يصلي فيه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم
يحدث فيه)) .
وقد خرجه البخاري - أيضا - في موضع أخر من كتابه بزيادة تصريح الأعمش بالسماع له من أبي صالح، فزال ما كان يتوهم من تدليس الأعمش له.
والحديث: نص في أن الصلاة في المسجد تزيد على صلاة المرء في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين درجة، وهو أعم من أن تكون صلاته في بيته وفي سوقه في جماعة أو منفردا.
ويدل على ذلك: أنه ذكر سبب المضاعفة، وهو فضل مشيه إلى المسجد على طهارة،
وفضل انتظاره للصلاة حتى تقام، وفضل قعوده في المسجد حتى يحدث، وهذا كله لا يوجد شيء منه في صلاته في بيته وفي سوقه.
لكن المراد - والله أعلم -: صلاته في سوقه في غير مسجد، فإنه لو صلى في سوقه في مسجد لكان قد حصل له فضل المشي إلى المسجد، وانتظار الصلاة فيه، والجلوس فيه بعد الصلاة - أيضا -، وإن كان المسجد الأعظم يمتاز بكثرة الخطا إليه، وبكثرة الجماعة فيه، وذلك يتضاعف به الفضل - أيضا - عند جمهور العلماء، خلافا لمالك.
وقد روي من حديث أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله)) .
خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) والحاكم.
وقال علي بن المديني: ما أراه إلا صحيحا.
ويفضل - أيضا - المسجد الأعظم بكونه عتيقا:
قال أبو نعيم الفضل بن دكين: ثنا عمارة بن زاذان، عن ثابت البناني، قال كنت اقبل مع أنس بن مالك من الزاوية، فإذا مر بمسجد قال: أمحدث هذا؟ فإن قلت: نعم مضى، وأن قلت: عتيق صلى.
88 - باب
تشبيك الأصابع في المسجد وغيره
فيه حديثان:
أحدهما:
قال:
481 -
ثنا خلاد بن يحيى: ثنا سفيان: عن أبي بردة بن عبد الله بن أبي بردة، عن جده، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إن المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا)) - وشبك أصابعه.
ليس في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حينئذ في المسجد؛ فلهذا بوب على تشبيك الأصابع في المسجد وغيره.
وهذا التشبيك من النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كان لمصلحة وفائدة، لم يكن عبثا؛ فإنه لما شبه شد المؤمنين بعضهم بعضا بالبنيان، كان ذلك تشبيها بالقول، ثم أوضحه بالفعل، فشبك أصابعه بعضها في بعض؛ ليتأكد بذلك المثال الذي
ضربه لهم بقوله، ويزداد بيانا وظهورا.
ويفهم من تشبيكه: أن تعاضد المؤمنين بينهم كتشبيك الأصابع بعضها في بعض، فكما أن أصابع اليدين متعددة فهي ترجع إلى اصل واحد ورجل واحد، فكذلك المؤمنون وإن تعددت أشخاصهم فهم يرجعون إلى اصل واحد، وتجمعهم أخوة النسب إلى آدم ونوح، وأخوة الإيمان.
وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير: ((مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالحمى والسهر)) .
خرجاه في الصحيحين.
وفي رواية: ((المؤمنون كرجل واحد، أن اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) .
الحديث الثاني:
482 -
ثنا إسحاق: ثنا ابن شميل: أبنا ابن عون: عن ابن سيرين، عن أبي
هريرة، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدى صلاتي العشي - قال ابن سيرين: قد سماها أبو هريرة، ولكن نسيت أنا - قال: فصلى بنا ركعتين، ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه
غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى، وخرجت السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال:((لم أنس، ولم تقصر)) . فقال: ((أكما يقول ذو اليدين؟)) قالوا: نعم فتقدم فصلى ما ترك، ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر.
فربما سألوه: ثم سلم؟ فيقول: نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم.
المسئول: ((ثم سلم)) ؟ هو ابن سيرين.
وقد أعاده البخاري في ((أبواب: سجود السهو)) ، ويأتي الكلام عليه هناك مستوفي - إن شاء الله تعالى.
إنما المقصود في هذا الباب منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بعد سلامه من الصلاة إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها، ووضع يده اليمنى
على ظهر كفه اليسرى، وشبك بين أصابعه، فدل على جواز تشبيك أصابع اليدين في المسجد لغير حاجة إليه.
والظاهر: أنه إنما فعله لما غلبه من الهم؛ فإن ذلك يفعله المهموم كثيرا.
وقد رخص في التشبيك في المسجد جماعة:
قال وكيع: ثنا الربيع بن صبيح، قال رأيت الحسن في المسجد هكذا - وشبك وكيع بين أصابعه.
وقال حرب: رأيت إسحاق جالسا في المسجد يقرأ وشبك أصابعه.
وقد روي النهي عن التشبيك في المسجد من رواية مولى لأبي سعيد الخدري، أنه كان مع سعيد وهو مع رسول الله، قال: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى رجلا جالسا في وسط المسجد مشبكا أصابعه يحدث نفسه فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم فلم يفطن، فالتفت إلى أبي سعيد، فقال:((إذا صلى أحدكم فلا يشبكن بين أصابعه؛ فإن التشبيك من الشيطان؛ وإن أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه)) .
خرجه الإمام أحمد.
وفي إسناده عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، ضعفه ابن معين.
وروي - أيضا - النهي عن تشبيك الأصابع لمن هو
ماش إلى المسجد للصلاة فيه، من حديث كعب بن عجرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه؛ فإنه في صلاة)) .
خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه.
وفي إسناده اختلاف كثير واضطراب.
وقد ذكر أبو بكر الإسماعيلي في ((صحيحه)) المخرج على ((صحيح البخاري)) أن حديث كعب بن عجرة وما في معناه لا ينافي حديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري في هذا الباب، وأنه يمكن الجمع بينهما، بأنه إنما يكره التشبيك لمن كان في صلاة، أو حكمه حكم من كان في صلاة، كمن يمشي إلى المسجد أو يجلس فيه لانتظار الصلاة، فأما من قام من الصلاة وانصرف منها، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم من ركعتين وقام إلى الخشبة المعترضة، فإنه صار منصرفا من الصلاة لا منتظرا لها، فلا يضره التشبيك
حينئذ.
قال: وقد قيل إن من كان في صلاة ومنتظرا الصلاة في جماعة فهم على ائتلاف، فإذا شبك لم يؤمن أن يتطير بهم عدوهم، بأنهم سيختلفون، ألا تراه في حديث عبد الله بن عمرو يقول:((مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا وصاروا هكذا)) - وشبك بين أصابعه، ولم يؤمن أن يكون ذلك سببا أو أمارة لاختلاف فهم،
كما أمرهم بأن يستووا في صفوفهم، وقال:((لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)) . انتهى ما ذكره.
وهو مناسبة بعيدة جدا؛ فإن التشبيك كما مثل به الاختلاف والافتراق فقد مثل به الائتلاف والتعاون والتناصر، كما في حديث أبي موسى الذي خرجه البخاري في أول الباب، فليس كراهته لمشابهته لمثل الافتراق بأولى من عدم كراهته لمشابهته لمثل التعاون والتعاضد والتناصر.
ومثل هذه المعاني توجد كثيرا في كتب شروح الحديث المتأخرة، وأكثرها مدخول، ولم يكن علماء سلف الأمة يقعون في شيء من ذلك، وكذلك لم أستكثر من ذكر مثله في هذا الكتاب، وإنما ذكرت هذا لأن الإسماعيلي مع تقدمه ذكره في ((صحيحه)) ، ونبهت على ما فيه.
وجمع الخطابي في ((الأعلام)) بين حديث كعب بن عجرة في النهي وحديث أبي هريرة في فعل التشبيك، بأن النهي إنما يحمل على الاحتباء بالتشبيك للأصابع؛ لأنه يجلب النوم الناقض للوضوء، وما سواه فمباح.
فخص الكراهة بحالة الاحتباء، وهذا في غاية البعد؛ لأن حديث كعب فيه
النهي عن التشبيك للعامد إلى المسجد، والمراد به الماشي إليه، والماشي لا يحتبي،
وقد ورد مصرحا بذلك في رواية خرجها مسلم في كتاب ((العلل)) له عن أبي ثمامة القماح، قال: لقيني كعب بن عجرة وأنا رائح إلى المسجد مشبك بين أصابعي، فضرب يدي ضربة ففرق بينهما، وقال: نهينا أن نشبك بين أصابعنا في الصلاة. فقلت: إني لست في صلاة. فقال: أن الرجل إذا توضأ فأحسن وضوءه، ثم خرج يؤم المسجد فهو في صلاة.
وخرجه أبو داود بمعناه، إلا أنه لم يذكر قوله:((إني لست في صلاة)) ، وصرح برفع آخر الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأعل محمد بن يحيى الهمداني في ((صحيحه)) حديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري في هذا الباب، وقال: ذكر تشبيك الأصابع ووضع الخد لا أعلم ذكره غير النضر - يعني: ابن شميل -، عن ابن عون.
وأما تشبيك الأصابع في الصلاة فمكروه.
وقد خرج ابن ماجه حديث كعب بن عجرة المتقدم، ولفظه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد شبك بين أصابعه في الصلاة، ففرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه.
وخرج وكيع، عن عاصم بن محمد العمري، عن ابن المنكدر، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، مرسلا.
وخرج أبو داود بإسناده عن نافع، أنه سئل عن الرجل يصلي وهو مشبك
أصابعه؟ فقال: قال ابن عمر: تلك صلاة المغضوب عليهم.
وكرهه طاوس والنخعي.
وقال النعمان بن أبي عياش: كانوا ينهون عن ذلك.
وكلام ابن عمر يدل على أنه كره لما فيه من مشابهة أهل الكتاب، وهو - أيضا - من نوع العبث الذي تنزه عنه الصلاة، ومثله تفقيع الأصابع.
وقد روى الحارث، عن علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أن يفقع أصابعه في الصلاة.
وخرجه ابن ماجه.
وخرج الإمام أحمد من رواية زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن الضاحك في الصلاة، والملتفت، والمفقع أصابعه بمنزلة واحدة)) .
وزبان وسهل، فيهما ضعف.
وفيه إشارة إلى أن ذلك كله من العبث المنافي للخشوع في الصلاة.
89 - باب
المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي
صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم
-
خرج فيه حديثين:
أحدهما:
قال:
483 -
ثنا محمد بن بكر المقدمي: ثنا فضيل بن سليمان: ثنا موسى بن عقبة، قال: رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في تلك الأمكنة.
وحدثني نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلي في تلك الأمكنة.
وسألت سالما، ولا أعلمه إلا وافق نافعا في الأمكنة كلها، إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء.
قد ذكرنا فيما سبق في ((باب: اتخاذ المساجد في البيوت)) حكم أتباع آثار النبي صلى الله عليه وسلم، والصلاة في مواضع صلاته، وأن ابن عمر كان يفعل ذلك، وكذلك ابنه سالم.
وقد رخص أحمد في ذلك على ما فعله ابن عمر، وكره ما أحدثه الناس بعد ذلك من الغلو والإفراط، والأشياء المحدثة التي لا أصل لها في
الشريعة.
وقد كان ابن عمر مشهورا بتتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك صلاته في المواضع التي كان يصلي فيها.
وهي على نوعين:
أحدهما: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصده للصلاة فيه، كمسجد قباء، ويأتي ذكره في موضعه من ((الكتاب)) - إن شاء الله تعالى.
والثاني: ما صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقا لإدراك الصلاة له عنده، فهذا هو الذي اختص ابن عمر بأتباعه.
وقد روى ابن سعد: أنا معن بن عيسى: ثنا عبد الله بن المؤمل، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: ما كان أحد يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم في منازله، كما كان ابن عمر يتبعه.
وروى أبو نعيم من رواية خارجة بن مصعب، عن موسى بن عقبة، عن نافع، قال: لو نظرت إلى ابن عمر إذا اتبع أثر النبي صلى الله عليه وسلم لقلت: هذا مجنون.
ومن طريق عاصم الأحول، عمن حدثه، قال: كان ابن عمر إذا رآه أحد ظن أن به شيئا من تتبعه آثار النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن طريق أبي مودود، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان في طريق مكة يقود برأس راحلته يثنيها، ويقول: لعل خفا يقع على خف -
يعني: خف راحلة النبي صلى الله عليه وسلم.
والمسجد الذي وقع فيه الاختلاف بشرف الروحاء، والروحاء من الفرع، بينها وبين المدينة مرحلتان، يقال: بينهما أربعون ميلا، وقيل ثلاثون ميلا.
وفي ((صحيح مسلم)) : بينهما ستة وثلاثون ميلا.
يقال: أنه نزل بها تبع حين رجع من قتال أهل المدينة يريد مكة، فأقام بها وأراح، فسماها: الروحاء.
وقيل: إن بها قبر مضر بن نزار.
وقد روى الزبير بن بكار بإسناد له، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم: صلى بشرف الروحاء، عن يمين الطريق وأنت ذاهب إلى مكة، وعن يسارها وأنت مقبل من مكة.
ودون هذا الشرف الذي به هذا المسجد موضع يقال له: ((السيالة)) ، ضبطها صاحب ((معجم البلدان)) بتخفيف الياء، كان قرية مسكونة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وبها آثار البناء والأسواق، وآخرها شرف الروحاء، والمسجد المذكور عنده قبور عتيقة، كانت مدفن أهل السيالة، ثم تهبط منه في وادي الروحاء، ويعرف اليوم بوادي بني سالم.
الحديث الثاني:
هو حديث طويل، فنذكره قطعا قطعا، ونشرح كل قطعة منه بانفرادها:
قال البخاري رحمه الله:
484 -
حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي: ثنا أنس بن عياض: ثنا موسى بن
عقبة، عن نافع، أن عبد الله بن عمر أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر وفي حجته حين حج تحت سمرة في موضع المسجد الذي بذي الحليفة، وكان إذا رجع من غزوة، وكان في تلك الطريق أو حج أو عمرة هبط بطن واد، فإذا ظهر من بطن واد أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية، فعرس ثم حتى يصبح، ليس عند المسجد الذي بحجارة ولا على الأكمة التي عليها المسجد، كان ثم خليج يصلي عبد الله عنده في بطنه كثب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يصلي، فدحا فيه السيل بالبطحاء حتى دفن ذلك المكان الذي كان عبد الله يصلي فيه.
ذو الحليفة: قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة، وهي ميقات أهل المدينة، وتسمى - أيضا -: الشجرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل بها حين يعتمر وحين حج حجة الوداع، وقد اعتمر منها مرتين: عمرة الحديبية، وعمرة القضية.
وقد ذكر ابن عمر في حديثه هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل بها
تحت سمرة في موضع المسجد الذي بني بها، وهذا يدل على أن المسجد لم يكن حينئذ مبنيا، إنما بني بعد ذلك في مكان منزل النبي صلى الله عليه وسلم منها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحرم منها، وكان يصلي بها في موضع المسجد.
وقد روي أنه صلى في المسجد، ولعل المراد في بقعته وأرضه، قبل أن يجعل مسجدا، حتى يجمع بذلك بين الحديثين.
وقد خرج البخاري في ((الحج)) عن إبراهيم بن المنذر - أيضا -، عن أنس ابن عياض، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة
وخرج مسلم من حديث الزهري، أن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أخبره، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بذي الحليفة مبدأه، وصلى في مسجدها.
ومن حديث الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يركع بذي الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل.
وفي ((الصحيحين)) من حديث مالك، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه، قال: ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد - يعني: مسجد ذي الحليفة.
وفي رواية لمسلم من رواية حاتم بن إسماعيل، عن موسى بن عقبة: إلا من عند الشجرة.
وخرج البخاري - أيضا - في ((الحج)) من حديث عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: ((أتاني الليلة آت من ربي عز وجل، فقال: صل في هذا الوادي المبارك؛ وقل: عمرة في حجة)) .
ووادي العقيق متصل بذي الحليفة.
فهذا كان حال النبي صلى الله عليه وسلم في سفره إلى مكة.
فأما حاله في رجوعه إلى المدينة إذا رجع على ذي الحليفة من حج أو عمرة، أو من غزاة في تلك الجهة، فإنه كان يهبط بطن واد هنالك، فإذا ظهر من بطن الوادي أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية، فيعرس هناك حتى يصبح.
قال الخطابي: التعريس: نزول استراحة بغير إقامة، وفي الأكثر يكون آخر الليل، ينْزلون فينامون نومة خفيفة، ثم يرتحلون.
قال: والبطحاء: حجارة ورمل.
قلت: المراد بالتعريس هنا: نومة حتى يصبح.
وقد خرجه البخاري في ((الحج)) عن إبراهيم بن المنذر، عن أنس بن
عياض، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة، وإذا رجع صلى بذي الحليفة ببطن الوادي، وبات حتى يصبح.
وخرج فيه - أيضا - من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ بالبطحاء بذي الحليفة فصلى بها، وكان عبد الله يفعل ذلك.
ومن طريق موسى بن عقبة، قال: حدثني سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رئي وهو معرس بذي الحليفة ببطن الوادي، قيل له: إنك ببطحاء مباركة. وقد أناخ بنا سالم يتوخى بالمناخ الذي كان عبد الله ينيخ يتحرى معرس النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي، بينه وبين الطريق وسط من ذلك.
وقد خرجه مسلم مع حديث مالك الذي قبله، وخرج حديث أنس بن عياض بلفظ أخر.
فظهر من هذه الأحاديث كلها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيت بالمعرس، وهو ببطحاء ذي الحليفة حتى يصبح، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي هناك، وأنه كان هناك مسجد قد بني ولم يكن في موضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، بل
كان قريباً منه.
وفي حديث سالم: أن المسجد كان ببطن الوادي، وفي حديث موسى بن عقبة بن نافع - الطويل الذي خرجه البخاري هنا -، أنه كان مبنياً بحجارة على أكمة، وفي حديثه: أنه كان ثم خليج يصلي عبد الله عنده، في بطنه كثب، كان النبي صلى الله عليه وسلم ثم
يصلي.
قال الخطابي: الخليج: واد له عمق، ينشق من آخر أعظم منه. والكثب: جمع كثيب، وهو ما غلظ وأرتفع عن وجه الأرض.
وقوله: ((فدحا السيل فيه بالبطحاء حتى دفن ذلك المكان الذي كان عبد الله يصلي فيه)) .
قال الخطابي: معنى ((دحا السيل)) : سواه بما حمل من البطحاء. والبطحاء: حجارة ورمل.
وهذه الصلاة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في هذا الموضع قد جاء في رواية إنها كانت صلاة الصبح إذا أصبح.
وقد خرجه الأمام أحمد عن موسى بن قرة، عن موسى بن عقبة، عن نافع، أن
عبد الله حدثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرس بها حتى يصلي صلاة الصبح.
قال ابن عبد البر في كلامه على حديث مالك الذي ذكرناه من قبل:
هذه البطحاء المذكورة في هذا الحديث هي المعروفة عند أهل المدينة وغيرهم بالمعرس.
قال مالك في ((الموطإ)) : لا ينبغي لأحد أن يتجاوز المعرس إذا قفل حتى يصلي
فيه، وأنه من مر به في غير وقت صلاة فليقم حتى تحل الصلاة ثم يصلي ما بدا له؛ لأنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس به، وأن ابن عمر أناخ به.
قال ابن عبد البر: واستحبه الشافعي، ولم يأمر به.
وقال أبو حنيفة: من مر بالمعرس من ذي الحليفة فإن أحب أن يعرس به حتى يصلي فعل، وليس ذلك عليه.
وقال محمد بن الحسن: وهو عندنا من المنازل التي نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة، وبلغنا أن ابن عمر كان يتبع آثاره، فلذلك كان ينزل بالمعرس، لا أنه كان يراه واجباً ولا سنة على الناس. قال ولو كان واجباً أو سنه من سنن الحج لكان سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقفون وينزلون ويصلون، ولم يكن ابن عمر ينفرد بذلك دونهم.
وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي: ليس نزوله صلى الله عليه وسلم بالمعرس كسائر نزوله بطريق مكة؛ لأنه كان يصلي الفريضة حيث أمكنه، والمعرس إنما كان يصلي فيه نافلة. قال: ولو كان المعرس كسائر المنازل ما أنكر ابن عمر على نافع تأخره عنه.
وذكر حديث موسى بن عقبه، عن نافع، أن ابن عمر سبقه إلى المعرس فأبطأ عليه، فقال له: ما حسبك؟ فذكر
عذراً، قال: ما ظننت انك أخذت الطريق ولو فعلت لأوجعتك ضرباً. انتهى.
وفي قوله: ((أنه صلى بالمعرس نافلة)) نظر، وقد قدمنا أنه إنما صلى به الصبح لما أصبح.
وظاهر كلام أحمد: استحباب الصلاة بالمعرس، فإنه قال في رواية صالح: كان ابن عمر لا يمر بموضع صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا صلى فيه، حتى أنه صب الماء في أصل شجرة، فكان ابن عمر يصب الماء في أصلها.
وإنما أخرج أحمد ذلك مخرج الاحتجاج به؛ فإنه في أول هذه الرواية استحب ما كان ابن عمر يفعله من مسح منبر النبي صلى الله عليه وسلم ومقعده منه.
وقد تبين بهذه النصوص المذكورة في هذا الموضع: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من المدينة إلى مكة في طريق ويرجع في غيره، كما كان يفعل ذلك في العيدين، وكما كان يدخل مكة من أعلاها ويخرج من أسفلها.
وقد خرج البخاري في ((الحج)) من حديث ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج من طريق الشجرة ويدخل من طريق المعرس.
وخرجه مسلم - أيضا.
وهذا يدل على أن موضع الشجرة - وهو مسجد ذي الحليفة - غير طريق المعرس، والذي كان يرجع منه.
وخرج البزار نحوه من حديث أبي هريرة.
ثم رجعنا إلى بقية حديث موسى بن عقبة عن نافع الذي خرجه البخاري هاهنا:
485 -
وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى حيث المسجد الصغير الذي دون المسجد الذي بشرف الروحاء، وقد كان عبد الله يعلم المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ثم عن يمينك حين تقوم في المسجد تصلي، وذلك المسجد على حافة الطريق اليمنى، وأنت ذاهب إلى مكة، بينه وبين المسجد الأكبر رمية بحجر، أو نحو ذلك.
هذا هو المسجد الذي اختلف فيه سالم ونافع، كما ذكرناه في شرح الحديث الأول.
وهذا الحديث: يدل على أن بالروحاء مسجدين: كبير وصغير، فالكبير بشرف الروحاء، ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم عنده، إنما صلى موضع الصغير عن يمين ذلك المسجد، وأن بين المسجدين رمية بحجر.
ثم رجعنا إلى بقية الحديث.
486 -
وأن ابن عمر كان يصلي إلى العرق الذي عند منصرف الروحاء، وذلك العرق انتهاء طرفه على حافة الطريق، دون المسجد الذي بينه وبين المنصرف، وأنت ذاهب إلى مكة وقد ابتني ثم مسجد، فلم يكن عبد الله يصلي في ذلك المسجد، كان يتركه عن يساره ووراءه ويصلي أمامه إلى العرق نفسه، وكان عبد الله يروح من الروحاء فلا يصلي الظهر حتى يأتي ذلك المكان، فيصلي فيه الظهر، وإذا أقبل من مكة فإن مر به قبل الصبح بساعة أو من آخر السحر عرس حتى يصلي بها الصبح.
قال الخطابي: العرق: جبيل صغير.
ومنصرف الروحاء: المنصرف - بفتح الراء -، ويقال: أن بينه وبين بدر أربعة برد، والمسجد المبني هناك، قيل: أنه في آخر وادي الروحاء مع طرف الجبل على يسار الذاهب إلى مكة. وقيل: أنه لم يبق منه زمان إلا آثار يسيرة، وأنه كان يعرف حينئذ بمسجد الغزالة.
وذكروا: أن عن يمين الطريق لمن كان بهذا المسجد وهو مستقبل النازية موضع كان ابن عمر ينزل فيه، ويقول: هذا منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ثم شجرة، كان ابن عمر إذا نزل وتوضأ صب فضل وضوئه
في أصلها، ويقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.
والنازية: قال صاحب ((معجم البلدان)) : - بالزاي وتخفيف الياء -: عين على طريق لآخذ من مكة إلى المدينة قرب الصفراء، وهي إلى المدينة أقرب.
ولم يصرح ابن عمر في صلاته إلى هذا العرق بأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم صلى إليه، ولكن محافظته على الصلاة في هذا المكان ذاهبا وراجعا وتعريسه به حتى يصلي به يدل على أنه إنما فعل ذلك إقتداء بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه.
ثم رجعنا إلى بقية الحديث:
487 -
وأن عبد الله حدثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل تحت سرحة ضخمة دون الرويثة عن يمين الطريق، ووجاه الطريق في مكان بطح سهل حتى يفضي من أكمة دوين بريد الرويثة بميلين وقد انكسر أعلاها فانثنى في جوفها، وهي قائمة على ساق، وفي ساقها كثب كثيرة.
السرحة: شجرة، وتجمع على سرح كتمرة وتمر، وهو ضرب من الشجر له ثمر، وقيل: هي شجرة بيضاء. وقيل: كل شجرة طويلة سرحة.
وقال إبراهيم الحربي: السرح شجر كبار طوال لا ترعى، يستظل به، لا ينبت في رمل أبدا، ولا جبل، ولا تأكله الماشية إلا قليلا، له غصن اصفر.
وقد وصفها بأنها ضخمة - أي: عظيمة -، وأنه انكسر أعلاها فانثنى في جوفها، وأنها قائمة على ساق، وفي كثب كثيرة.
وقد سبق أن الكثب جمع كثيب، وهو ما غلظ وارتفع عن وجه الأرض.
والبطح: الواسع. والرويثة مكان معروف بين مكة والمدينة.
وأما مكان هذه السرحة، فلا يعرف منذ زمان، وقد ذكر ذلك بعض من صنف في أخبار المدينة بعد السبعمائة، وذكر أنه لا يعرف في يومه ذاك من هذه المساجد المذكورة في هذا الحديث سوى مسجد الروحاء ومسجد الغزالة، وذكر معهما مسجدا ثالثا، وزعم أنه معروف - أيضا - بالروحاء، عند عرق الظبية، عند جبل ورقان، وذكر فيه حديثا رواه الزبير بن بكار بإسناد ضعيف جدا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لقد صلى في هذا المسجد قبلي سبعون نبيا)) . وهذا لا يثبت، ولعله أحد المسجدين بالروحاء، وقد تقدم ذكرهما.
ثم رجعنا إلى بقية الحديث:
488 -
وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في طرف تلعة من وراء العرج كبيرة، وأنت ذاهب إلى هضبة عند ذلك المسجد
قبران أو ثلاثة، على القبور رضم من حجارة، عن يمين الطريق عند سلمات الطريق، بين أولئك السلمات كان
عبد الله يروح من العرج بعد أن تميل الشمس بالهاجرة، فيصلي الظهر في ذلك المسجد.
وفي رواية الإمام أحمد لهذا الحديث زيادة في هذا بعد قوله: ((وأنت ذاهب على راس خمسة أميال من العرج فِي مسجد إلى هضبة)) - وذكر باقيه.
والتلعة: المكان المرتفع من الأرض.
قال الخطابي: التلعة مسيل الماء من فوق لأسفل. قال: والهضبة فوق الكثيب في الارتفاع ودون الجبل. والرضم: حجارة كبار واحدتها رضمة. والسلمات: جمع سلمة، وهي شجرة ورقها القرظ الذي يدبغ به الأدم. وقيل: السلم يشبه القرظ وليس به. انتهى ما ذكره.
وحكى غيره أن الهضبة كل جبل خلق من صخرة واحدة وكل صخرة راسية تسمى هضبة، وجمعها هضاب -: قاله الخليل.
وقال الأصمعي: الهضبة: الجبل المنبسط على الأرض.
والسلمات - بالفتح -: شجر، والسلمات بالكسر -: حجارة. والرضم والرضام: دون الهضاب -: قاله أبو عمرو. والوحدة منها رضمة. والعرج: مكان معروف بين مكة والمدينة؛ يقال: أنه عقبة.
رجعنا إلى بقية الحديث:
489 -
وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عند سرحات عن يسار الطريق، في مسيل دون هرشي، ذلك المسيل لاصق بكراع هرشي، بينه وبين الطريق قريب من غلوة، وكان عبد الله بن عمر يصلي إلى سرحة هي اقرب السرحات إلى الطريق، وهي أطولهن.
قال الخطابي: هرشي: ثنية معروفة، وكراعها: ما يمتد منها دون سفحها.
وقال غيره: الغلوة - بفتح الغين المعجمة -: قدر رمية بعيدة بسهم أو حجر.
وعند الإمام أحمد في حديث ابن عمر هذا، في هذا الموضع زيادة: ((غلوة
سهم)) .
وقال صاحب ((معجم البلدان)) هرشي: ثنية في طريق مكة، قريبة من
الجحفة، يرى منها البحر ولها طريقان، فكل من سلك واحدا منهما أفضى به إلى موضع واحد.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بوادي الأزرق، فقال:((أي واد هذا؟)) قالوا: وادي الأزرق. قال: ((كأني أنظر إلى موسى هابطا من الثنية وله جؤار إلى الله بالتلبية)) ، ثم أتى على ثنية هرشي، فقال:((أي ثنية هذا؟)) قالوا: هرشي. قال: ((كأني أنظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء جعدة، عليه جبة من صوف، خطام ناقته خلبة، وهو يلبي)) .
قال هشيم: يعني: ليفا.
رجعنا إلى بقية الحديث:
490 -
وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل في المسيل الذي في أدنى مر الظهران قبل المدينة حين يهبط من الصفراوات، ينزل في بطن ذلك المسيل عن يسار الطريق، وأنت ذاهب إلى مكة، ليس بين منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الطريق إلا رمية بحجر.
مر الظهران: معروف قريب من مكة ويسمى بطن مر.
والصفراوات: موضع قريب منه بينه وبين عسفان.
رجعنا إلى بقية الحديث:
491 -
وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذي طوى، ويبيت حتى يصبح،
يصلي الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك على أكمة غليظة، ليس في المسجد الذي بني ثم، ولكن أسفل من ذلك على أكمة غليظة.
هذه القطعة من هذا الحديث خرجها مسلم في ((صحيحه)) عن محمد بن إسحاق المسيبي، عن أبي ضمرة أنس بن عياض، بإسناد البخاري.
وذو طوى: يروى بضم الطاء وكسرها وفتحها، وهو واد معروف بمكة بين الثنيتين، وتسمى أحداهما: ثنية المدنيين، تشرف على مقبرة مكة، وثنية تهبط على جبل يسمى: الحصحاص، بحاء مهملة وصادين مهملين.
وكان بذي طوى مسجد بني بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه، وإنما صلى أسفل منه على أكمة غليظة.
وذكر الأزرقي في ((أخبار مكة)) أن المسجد بنته زبيدة.
وخرج من طريق مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عم موسى بن عقبة، أن نافعا حدثه، أن ابن عمر اخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذي طوى حين يعتمر وفي حجته حين حج، تحت سمرة في موضع المسجد.
قال ابن جريج: وحدثني نافع، أن ابن عمر حدثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل ذا طوى فيبيت به حتى يصلي
الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك على أكمة غليظة الذي بالمسجد الذي بني ثم، ولكنه أسفل من الجبل الطويل الذي قبل مكة، تجعل المسجد الذي بني يسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسفل منه على الأكمة السوداء، تدع من الأكمة عشرة اذرع ونحوها بيمين، ثم تصلى مستقبل الفرضتين من الجبل الطويل الذي بينه وبين الكعبة.
كذا ذكره الأزرقي.
ومسلم بن خالد، لم يكن بالحافظ.
وهذا إنما يعرف عن موسى بن عقبة عن نافع، فجعله عن ابن جريج، عنه.
وبقي من الحديث الذي خرجه البخاري:
492 -
وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل فرضتي الجبل الذي بينه وبين الجبل الطويل نحو الكعبة، فجعل المسجد الذي بني ثم يسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى النبي صلى الله عليه وسلم أسفل منه على الأكمة السوداء، تدع من الأكمة عشرة أذرع أو نحوها، ثم تصلي مستقبل
الفرضتين من الجبل الذي بينك وبين الكعبة.
وهذه القطعة خرجها - أيضا - مسلم عن المسيبي، عن أبي ضمرة، وأعاد إسنادها بعد تخريج القطعة التي قبلها.
وهذا كله يوهم أن هذه صفة موضع آخر صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم قبل دخوله مكة، وليس كذلك، وإنما هو من تمام صفة موضع صلاته بذي طوى كما ساقه الأزرقي في رواية.
والظاهر: أنه هناك مسجدان مبنيان بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف منهما اليوم شيء.
وفرضة الجبل - بضم الفاء - مدخل الطريق إليه؛ وأصله مأخوذ من الفرض وهو القطع غير البليغ -: قاله الخطابي.
وفي مبيت النبي صلى الله عليه وسلم بذي طوى، وصلاته الصبح في هذا المكان: دليل على أن من كان قادرا على الدخول إلى مكة معاينة الكعبة فله أن يصلي خارجا منها بغير معاينة، وأن من كان بمكة وبينه وبين الكعبة حائل أصلي كالجبل فله أن يصلي بالاجتهاد إلى الكعبة، ولا يلزمه أن يعلو فوق الجبال حتى يشهد الكعبة؛ لما في ذلك من الحرج والمشقة.
وهذا قول أصحابنا والشافعية، ولا نعلم فيه خلافا.
وهذا ((أخر أبواب المساجد)) ، وبعدها ((أبواب السترة)) ، وما يصلى إليه، والمرور بين يدي المصلي، ونحو ذلك.