الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
90 - باب
سترة الإمام سترة لمن خلفه
خرج فيه ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
قال:
493 -
ثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عباس، أنه قال: أقبلت راكبا على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد.
وقد خرجه - أيضا - في ((كتاب العلم)) عن إسماعيل، عن مالك.
وخرجه في آخر ((المغازي)) في ((باب: حجة الوداع)) عن يحيى بن قزعة، عن مالك.
وذكره تعليقا، قال: وقال الليث: حدثني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله، أن ابن عباس أخبره، أنه أقبل يسير على حمار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بمنى في حجة الوداع يصلي بالناس، فسار الحمار بين يدي بعض الصف، ثم نزل عنه فصف مع الناس.
ولكن هذا لفظ رواية يونس.
وقد خرجه به مسلم في ((صحيحه)) من طريق ابن وهب، عنه.
وخرجه مسلم - أيضا - من طريق ابن عينية، عن الزهري، وقال: والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بعرفة.
ومن طريق معمر، عن الزهري، ولم يذكر فيه: منى ولا عرفة، وقال في حجة الوداع - أو يوم الفتح.
واقتصر من حديث ابن عيينة ومعمر على هذا.
وذكر يوم الفتح لا وجه له؛ فإن ابن عباس لم يكن قد ناهز يومئذ الاحتلام، ولا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي يومئذ بمنى ولا عرفة.
وفي رواية ابن عيينة: جئت أنا والفضل على أتان لنا.
وفي رواية - أيضا - فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا شيئا.
وقد خرجه النسائي بتمامه هكذا.
وخرج الترمذي حديث معمر بتمامه، ولفظه: كنت رديف الفضل على أتان، فجئنا والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه بمنى، فنزلنا عنها، فوصلنا الصف، فمرت بين أيديهم، فلم تقطع صلاتهم.
ففي هذه الروايات: أن ابن عباس مر على حماره بين يدي بعض الصف والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، فلم ينكر ذلك عليه أحد، لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد ممن صلى خلفه.
وبهذا استدل البخاري وغيره من العلماء على أن سترة الإمام سترة لمن خلف؛ لأن سترة الإمام إذا كَانَتْ محفوظة كفى ذَلِكَ المأمومين، ولم يضرهم مرور من مر بَيْن
أيديهم؛ ولذلك لا يشرع للمأمومين اتخاذ سترة لهم وهم خلف الإمام.
ولا نعلم أحدا ذكر في حديث ابن عباس: ((إلى غير جدار)) غير مالك. وقد خرجه في ((الموطإ)) في موضعين، ذكر في أحدهما هذه الكلمة، وأسقطها في الأخرى.
وقد قال الشافعي: قول ابن عباس: ((إلى غير جدار)) ، أراد - والله أعلم -: إلى غير سترة.
واستدل بذلك على أن السترة غير واجبة في الصلاة.
وحمله غيره على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى عنزة، فإن هذه كانت عادته في الأسفار، على ما يأتي - إن شاء الله تعالى.
فكلام البخاري قد يدل على هذا؛ لإدخاله هذا الحديث في أن سترة الإمام سترة لمن خلفه.
وحمله الإمام أحمد - في رواية ابن منصور والأثرم - على مثل هذا.
لكن البخاري قد خرج الحديث، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى غير جدار، كما تقدم، إلا أن يقال: لا يلزم من عدم الجدار نفي استتاره بحربة ونحوها.
وقد ذكر الأثرم أن ابن أخي الزهري روى هذا الحديث عن الزهري، وذكر فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى غير سترة.
وقد روي عن الإمام أحمد مثل قول الشافعي، وأنه حمل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى غير سترة -: نقله عنه الحسن بن ثواب.
واستدل بالحديث - في رواية جماعة من أصحابه عنه - على أن مرور الحمار بين يدي المصلي لا يقطع صلاته، وعارض به حديث أبي ذر.
وهذا إنما يكون إذا كان يصلي إلى غير سترة.
وقد ورد في رواية التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى غير سترة. وفي حديث آخر التصريح بأن ابن عباس مر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
فأما الأول، فمن طريق الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن أبي الصهباء، قال: تذاكرنا ما يقطع الصلاة عند ابن عباس، قال: جئت أنا وغلام من بني عبد المطلب على حمار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فنزل ونزلت وتركنا الحمار أمام الصف، فما بالاه، وجاءت جاريتان من بني عبد المطلب فدخلتا بين الصف، فما بالى ذلك.
خرجه أبو داود - وهذا لفظه -، والنسائي.
وخرجه الأثرم، وعنده: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في أرض خلاء.
وخرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ((كتاب الشافي)) من طريق شعبة، ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في فضاء ليس بين يديه سترة.
وقد ذكره الإمام أحمد بهذا اللفظ من حديث شعبة، واحتج به، ولم
نجده في ((المسند)) بهذا اللفظ.
وذكر الأثرم أن شعبة ومنصورا رويا في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في فضاء من الأرض، ليس بين يديه سترة، ولعل هذا مما تصرفوا في لفظه لما فهموه من معناه، هكذا رواه شعبة ومنصور، عن الحكم، عن يحيى، عن صهيب.
ورواه شعبة - أيضا - عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الجزار، عن ابن عباس - من غير ذكر:((صهيب)) في إسناده.
خرجه الإمام أحمد كذلك.
وقد روي عن منصور، عن الحكم كذلك - أيضا.
خرجه ابن حبان في ((صحيحه)) كذلك.
ورواه حجاج، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن ابن عباس - من غير ذكر:((أبي الصهباء)) - أيضا - ولفظ حديثه: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضاء، ليس بين يديه شيء - ولم يزد على ذلك.
خرجه من طريقه الإمام أحمد.
وأبو الصهباء، اسمه: صهيب المدني، وهو ثقة، وثقه أبو زرعة وغيره. ويقال أنه البكري، وهو مدني، لكن سئل عن صهيب هذا، فقال: شيخ من أهل البصرة. وهذا يدل على أنه غير المدني.
وصحح أبو حاتم الرازي - فيما نقله عنه ابنه - كلا القولين: إدخال صهيب في إسناده، وإسقاطه.
وفي ((مسند الإمام أحمد)) : أن يحيى بن الجزار لم يسمعه من ابن عباس.
والظاهر: أن ذلك من قول شعبة.
وكلام أحمد يدل على أن الصحيح دخوله في الإسناد.
وذكر الإمام أحمد هذا الحديث، واستدل به على أن الصلاة إلى غير سترة صحيحة، وقال: ليس هو بذاك.
يعني: من جهة إسناده، ولعله رأى أن صهيبا هذا غير معروف، وليس هو بأبي الصهباء البكري مولى ابن عباس؛ فإن ذاك مدني.
وأما الثاني: فمن طريق ابن جُرَيْج: حَدَّثَنِي عَبْد الكريم الجزري، أن
مجاهدا
أخبره، عن ابن عباس، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا والفضل على أتان، فمررنا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة وهو يصلي المكتوبة، ليس شيء يستره، يحول بيننا وبينه.
خرجه البزار.
وخرج الإمام أحمد من طريق ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: جئت أنا والفضل على حمار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس في فضاء من الأرض، فمررنا بين يديه ونحن عليه، حتى جاوزنا عامة الصف، فما نهانا ولا ردنا.
وشعبة هذا، تكلم فيه.
فعلى تقدير أن يكون ابن عباس مر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي إلى غير سترة، فإنه يحمل على أنه مر بين يديه من بعد؛ فإنه لا يظن بالفضل وأخيه أن يمرا على حمار بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بالقرب منه، وإذا كان مرورهما بين يديه متباعدا فإنه لا يضر، ومرورهما على هذه الحال وجوده كعدمه.
وعلى تقدير أن يكونا لم يمرا إلا بين يدي بعض الصف، ولم يمرا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، والروايات الصحيحة إنما تدل على ذلك فمع ما علم من عادة النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته إلى العنزة في أسفاره.
وقد روي ذلك من حديث
ابن عباس - أيضا.
خرجه الإمام أحمد: ثنا يزيد بن أبي حكيم: حدثني الحكم بن أبان، قال: سمعت عكرمة يقول: قال ابن عباس قال: ركزت العنزة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، فصلى والحمار من وراء العنزة.
والظاهر: أنه أشار إلى مروره على الحمار بين يديه، فيستدل بالحديث حينئذ على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، كما استدل به البخاري.
وسواء كان النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ يصلي إلى سترة أو إلى غير سترة؛ لأن قبلته كانت محفوظة عن المرور فيها، وكان هو صلى الله عليه وسلم سترة لمن وراءه؛ فلذلك لم يضرهم مرور الحمار بين أيديهم.
وهذا قول جمهور العلماء: إن سترة الإمام سترة لمن خلفه.
قال ابن المنذر: روي ذلك عن ابن عمر، وبه قال النخعي ومالك والأوزاعي واحمد. انتهى.
وروي - أيضا - عن أبي قلابة وعن الشعبي.
وروي عنه، عن مسروق.
ولكن أنكره الإمام أحمد، وذكره عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن فقهاء المدينة السبعة
في مشيخة سواهم من نظرائهم أهل ثقة وفضل، وهو قول الثوري.
وقد روي فيه حديث مرفوع:
خرجه الطبراني من رواية سويد بن عبد العزيز، عن عاصم الأحول، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((سترة الإمام سترة لمن خلفه)) .
ولكن لا يصح؛ وسويد هذا ضعيف جدا.
وقد أنكر الإمام أحمد عليه أنه روى عن حصين، عن الشعبي، عن مسروق أنه قال: سترة الإمام سترة لمن خلفه، وقال: إنما هو قول الشعبي. فكيف لو سمع أنه روى ذلك بإسناد له عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
ومنهم من قال: الإمام سترة لمن خلفه، وهو قول طائفة من أصحاب مالك.
ومعنى كون سترة الإمام سترة لمن خلفه: أن المأمومين لا يشرع لهم أن ينصبوا بين أيديهم سترة إمامهم، وأنه لا يضرهم من مر بين أيديهم إذا لم يمر بين يدي إمامهم.
ويدل على ذلك - أيضا -: ما روى هشام بن الغاز، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: هبطنا مع النبي صلى الله عليه وسلم -
ثنية أذاخر، فحضرت الصلاة - يعني: إلى جدر - فاتخذه قبلة ونحن خلفه، فجاءت بهيمة تمر بين يديه، فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدر، ومرت من ورائه.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود.
وهذا يدل على أن المرور بين الإمام وسترته محذور، بخلاف المرور بين يدي من خلفه، إذا كانت سترة الإمام محفوظة.
وأما جواز المرور بين يدي المأمومين إذا كانت سترة إمامهم محفوظة ففيه قولان:
أحدهما: أنه منهي عنه - أيضا - نص عليه في رواية الأثرم، في الرجل يكون خلف الإمام وبين يديه صف، فيكون في الصف الذي بين يديه خلل عن يساره ليس هو بحذائه، أيمشي إليه فيسده؟ قال: إن كان بحذائه فعل فأما أن يمشي معترضا فيؤذي الذي إلى جنبه ويمر بين يديه فلا.
وهذا يدل على أن المشي بين يدي المأمومين داخل في النهي.
ومن أصحابنا من حمل ذلك على كراهة التنزيه، بخلاف المشي بين الإمام والمنفرد.
والكراهة قول أصحاب الشافعي - أيضا - وسيأتي عن الشافعي ما يدل عليه.
وقال سفيان: لا يعجبني ذلك.
وذكر مالك في ((الموطإ)) أنه بلغه، أن ابن عمر كان يكره أن يمر بين يدي النساء وهن
يصلين.
وحمله بعضهم على كراهة المرور بين يدي صفوف النساء في مؤخرة المسجد إذا صلين مع الإمام.
والقول الثاني: جوازه من غير كراهة، وأنه غير داخل في النهي، وقد حكاه بعض أصحابنا رواية عن أحمد، إذا كان مشيه لحاجة؛ كمشيه إلى فرجة في الصف، أو إذا لم يجد موضعا يصلي قيه.
وهو ظاهر كلام كثير من أصحابنا؛ فإنهم استدلوا بحديث ابن عباس على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، وجعلوا عدم الإنكار على ابن عباس دليلا على ذلك.
وكلام ابن عباس يدل عليه - أيضا - فإنه استدل بعدم الإنكار على الجواز.
وهو مستلزم لعدم بطلان الصلاة، وهذا مذهب مالك وأصحابه.
ذكر مالك في ((الموطإ)) : ((باب: الرخصة في المرور بين يدي المصلي)) ، وخرج فيه حديث ابن عباس هذا، ثم قال: بلغني أن سعد بن وقاص كان يمر بين يدي بعض الصفوف والصلاة قائمة.
قال مالك: وأنا أرى ذلك واسعا، إذا أقيمت الصلاة بعد أن يحرم الإمام ولم يجد المرء مدخلا إلى المسجد إلا بين الصفوف.
وقد ذكر أبو داود في ((سننه)) بعض كلام مالك، عن القعنبي، عنه.
وقال سفيان الثوري: إذ انتهى إلى المسجد والطريق بين أيديهم، فانه يمشي معترضا حتى يدخل المسجد.
وفي ((تهذيب المدونة)) للبرادعي: ولا بأس بالمرور بين الصفوف عرضا، والإمام سترة لهم، وإن لم يكونوا إلى سترة، وكذلك من رعف وأحدث فليخرج عرضا، وليس عليه أن يرجع الى عجز المسجد.
وذكر ابن عبد البر في ((التمهيد)) أن المأموم لا يدفع من مر بين يديه، وقال: لا أعلم بين أهل العلم فيه خلافا.
وذكر في ((الاستذكار)) قول مالك الذي ذكره في ((الموطإ)) ، وذكر أن مالكا يرخص في ذلك لمن لم يجد منه بدا، وأن غيره لا يرى به بأسا - يعني: بكل حال، سواء اضطر إليه أو لا -؛ لحديث ابن عباس. قال: وقد قدمنا أن الإمام سترة لمن خلفه، فالماشي خلفه أمام الصف كالماشي خلفه دون صف. قال: ويحتمل هذا أن يكون المار لم يجد بدا كما قال مالك. ولكن الظاهر ما قدمنا من الآثار الدالة على أن الإمام سترة لمن خلفه.
وهذا الكلام يدل على أن للعلماء اختلافا: هل الرخصة تختص بحال الضرورة أم تعم؟
وقد حكى بعض أصحابنا رواية أخرى عن أحمد، بأن من كان بين يديه فرجة فلا يكره له أن يمشي عرضا بين الصفوف حتى يقوم فيها.
وهذا قول ثالث بالرخصة في ذلك لحاجة إليه، وإن لم يكن ضرورة.
وذكر البيهقي في كتابه ((المعرفة)) عن الشافعي في القديم، أنه ذكر قول مالك في هذا، واعتراض من اعترض عليه ثم أخذ في الذب عنه، واحتج بحديث ابن عباس
وغيره، وأشار إلى أن ذلك إنما قاله في المرور بين يدي المتنفلين الذين عليهم قطع النافلة للمكتوبة، ولا يجد الداخل طريقا غير الممر بين أيديهم.
ومعنى هذا أنه إنما يجوز المرور للضرورة بين يدي من يصلي صلاة مكروهة، هو من يتنفل بعد إقامة الصلاة، أو يطيل في نافلته وقد أقيمت الصلاة.
ولكن أصحاب مالك حملوا كلام مالك على عمومه في حال الضرورة كما تقدم، وهذا الكلام من الشافعي يدل على أن المأمومين لا يجوز المرور بين أيديهم إذا كانوا يقتدون بصلاة الإمام لضرورة ولا غيرها، كما قاله أحمد في غير حال الضرورة في رواية الأثرم.
وقال أصحاب الشافعي: إذا وجد الداخل فرجة في الصف الأول، فله أن يمر بين يدي الصف الثاني ويصف فيها؛ لتقصير أهل الثاني بتركها.
وهذا موافق لكلام الشافعي، حيث لم يجز المرور إلا مع تقصير المصلين، لكنه يخصه بحال الضرورة وأصحابه لم يخصوه بذلك.
ونص الشافعي في كتاب ((مختلف الحديث)) على أن المرور بين يدي المصلي إلى غير سترة مباح غير مكروه، واستدل بحديث
ابن عباس هذا، وبحديث المطلب بن أبي وداعة.
وذهبت طائفة من العلماء إلى أن سترة الإمام ليست سترة لمن خلفه من المأمومين:
فروى الجوزجاني وغيره من طريق ابن سيرين، أنه بلغه، أن الحكم الغفاري أم جيشا، وأنه كان بين يديه رمح، فمر به ما يقطع الصلاة، فأعاد بالقوم الصلاة، فلما انصرف ذكر ذلك له، فقال: أولم تروا إلى ما مر بين أيدينا؟ فأنا ومن يليني قد سترنا الرمح، فإنما أعدت الصلاة من أجل العامة.
قال ابن المنذر في ((كتابه الكبير)) : وروي عن عطاء نحوه.
وروى عمر بن شبة في كتاب ((أخبار قضاة البصرة)) : ثنا محمد بن حاتم: ثنا إسماعيل بن إبراهيم: ثنا يونس؛ قال: كان موسى بن أنس يصلي بالناس في صحن المسجد، فكان كلب يمر بين أيديهم، فسألوا الحسن، فقال: أما الإمام ومن كان إلى سارية ومن كان خلف الصف فلا يعيد، ومن كان بين السواري فليعد.
وأما على تقدير أن يكون ابن عباس مر على الأتان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي إلى غير سترة، ولم ينهه عن ذلك، فهذا يحتمل وجوها:
أحدها: أن يكون مر بين يديه من بعد، والمار أمام المصلي إلى غير
سترة عن بعد كالمار خلف سترته.
ولكن خرج الإمام أحمد من حديث الحسن العرني، عن ابن عباس، قال: أقبلت على حمار ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، حتى إذا كنت قريبا منه نزلت عنه، وخليت عنه، ودخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، فما أعاد صلاته، ولا نهاني عما صنعت.
والحسن العرني لم يسمع من ابن عباس -: قاله الإمام أحمد، فحديثه عنه منقطع.
والثاني: أن يحمل على أن الاستتار في الصلاة غير واجب، وإنما هو على الاختيار، وهذا حكاه البيهقي عن الشافعي.
ولكن يقال: فالمرور بين يدي المصلي إلى غير سترة، إما أنه حرام، أو مكروه، فكيف أقر عليه ولم ينكر؟
وقد يجاب: بأنه إذا كان مكروها، فإنكاره غير واجب.
ولأصحابنا وجه: أن من صلى إلى غير سترة لم يكن المرور بين يديه منهيا عنه إنما النهي يختص بمن صلى إلى سترة، فينهى عن المرور بينه وبين السترة، وهو قول ابن المنذر.
وقال أصحاب الشافعي: لا يحرم المرور بين يدي المصلي إلى غير
سترة، بل يكره.
وهل للمصلي إلى غير سترة أن يدفع المار بين يديه؟ على وجهين لهم، أصحهما: ليس له الدفع.
والثالث: أن يكون مرور ابن عباس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بمنى كما في رواية مالك وغيره من أصحاب الزهري، وحكم الحرم أنه يجوز المرور فيه بين يدي المصلي دون سائر البلدان -: قاله طائفة من أصحابنا، وستأتي هذه المسألة فيما بعد حيث بوب البخاري عليها.
وقد روي ما يخالف هذا، وأن المار يرد بالأبطح، فروى ابن لهيعة: حدثني حبان بن واسع، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد وأبي بشير الأنصاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم ذات يوم وامرأة بالبطحاء، فأشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم أن تأخري، فرجعت حتى صلى ثم مرت.
خرجه الإمام أحمد.
وابن لهيعة، حاله مشهور.
الحديث الثاني:
قال:
494 -
ثنا إسحاق: ثنا عبد الله بن نمير: ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس من ورائه، وكان يفعل ذلك في السفر، فمن ثم اتخذها الأمراء.
في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في فضاء من الأرض صلى إلى الحربة، فيركزها بين يديه، ثم يصلي إليها، فكان يفعل ذلك في العيدين؛ لأنه كان يصليهما بالمصلى، ولم يكن فيه بناء ولا سترة، وكان يفعل ذلك في أسفاره – أيضا -؛ لأن المسافر لا يجد غالبا جدارا يستتر به، وأكثر ما يصلي في فضاء من الأرض.
وخرج ابن ماجه من طريق الأوزاعي: أخبرني نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغدو إلى المصلى في يوم عيد، والعنزة تحمل بين يديه، فإذا بلغ المصلى نصبت بين يديه، فيصلي إليها، وذلك أن المصلى كان فضاء ليس شيء يستتر به.
وخرج البخاري أوله دون آخره.
وقال أبو نعيم: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن مكحول، قال: كانت تحمل الحربة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يصلي إليها.
وما ذكر في حديث ابن عمر من اتخاذ الأمراء لها، فالأمراء الذين عناهم في زمنه إنما اتخذوها تعاظما وكبرا، لم يتخذوها لأجل الصلاة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخذها للصلاة.
وفي الحديث: دليل على استحباب السترة للمصلي وإن كان في فضاء، وهو قول الأكثرين.
ورخص طائفة من العلماء لمن في فضاء أن يصلي إلى غير سترة، منهم: الحسن وعروة.
وكان القاسم وسالم يصليان في السفر إلى غير سترة. وروي عن الإمام أحمد نحوه -: نقله
عنه الأثرم وغيره. وهو - أيضا - مذهب مالك.
قال صاحب ((تهذيب المدونة)) : ولا يصلي في الحضر إلا إلى سترة، ويصلي في السفر أو بموضع يأمن فيه مرور شيء بين يديه إلى غير سترة.
ويستدل لذلك بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى إلى غير جدار، كما تقدم في رواية مالك لحديث ابن عباس، وان الشافعي وغيره فسروه بصلاته إلى غير سترة بالكلية.
وقد قيل: إن فائدة السترة منع المرور بين يدي المصلي.
وقيل: كف النظر عما وراء السترة.
والأول أظهر وأشبه بظواهر النصوص، والعنزة ونحوها لا تكف النظر.
وحيث تستحب الصلاة إلى السترة، فليس ذلك على الوجوب عند الأكثرين، وهو المشهور عند أصحاب الإمام أحمد.
ومنهم من قال: هي واجبة، لكن لا تبطل الصلاة بتركها حتى يوجد المرور المبطل للصلاة الذي لأجله شرعت السترة.
وقال الأثرم: حديث ابن عباس في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى غير سترة إن كان محفوظا فإنما وجهه إذا لم يجد سترة أجزأه.
فحمله على حالة تعذر وجود السترة، وفيه نظر؛ فان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتعذر عليه تحصيل ما يستتر به، وهو بمنى أو بعرفة، ومعه الخلق العظيم من
المسلمين.
ورخصت طائفة في الصلاة إلى غير سترة مطلقا؛ روى جابر، عن الشعبي، قال: لا بأس أن يصلي إلى غير سترة.
وقال ابن سيرين قلت لعبيدة: ما يستر المصلي، وما يقطع الصلاة؟ قال: يسترها التقوى ويقطعها الفجور. قال: فذكرته لشريح، فقال: أطيب لنفسك أن تجعل بين يديك شيئا.
خرجهما وكيع.
وروى بإسناده، عن ابن مسعود، قال: من الجفاء أن يصلي الرجل إلى غير سترة.
الحديث الثاني:
495 -
ثنا أبو الوليد: ثنا شعبة، عن عون بن أبي جحيفة، قال: سمعت أبي يحدث، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم بالبطحاء - وبين يديه عنزة - الظهر ركعتين والعصر ركعتين، يمر بين يديه المرأة والحمار.
هذا - أيضا - يدل - كما دل عليه حديث ابن عمر - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في أسفاره إلى عنزة تستره ممن يمر بين يديه،
وهذا مما يضعف حمل الأثرم لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى أو عرفة إلى غير سترة على أنه تعذر عليه السترة؛ فان حديث أبي جحيفة يدل على أن العنزة كانت معه في حجة الوداع، وانه صلى إليها بمكة.
وقوله: ((يمر بين يديه المرأة والحمار)) مما يسدل به على أن مرورها بين يدي المصلي إلى غير سترة يقطع عليه صلاته، ولولا ذلك لم يكن لتخصيص المرأة والحمار بمرورهما بين يديه من وراء السترة - معنى.
وقوله: ((يمر بين يديه المرأة والحمار)) - يعني: من وراء العنزة، كما في الرواية الأخرى: يمرون من ورائها، وستأتي قريبا - إن شاء الله تعالى.
91 - باب
قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة
؟
496 -
حدثنا عمرو بن زرارة: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل، قال: كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجدار ممر مشاة.
497 -
حدثنا المكي بن إبراهيم: ثنا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة، قال: كان جدار المسجد عند المنبر، ما كادت الشاة تجوزها.
هذا الحديث الثاني أحد ثلاثيات البخاري، وهي الأحاديث التي بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيها ثلاثة رجال.
وحديث سهل يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قريبا من الجدار بحيث لا يكون بين موقفه وبين الجدار غير قدر ما تمر فيه الشاة.
وأما حديث سلمة بن الأكوع، فتخريج البخاري له في هذا الباب يدل على أنه فهم منه أن المنبر كان بإزاء موقف النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته أو متقدما عليه، متنحيا عن جدار قبلة المسجد، وبينهما خلل لا تجوز منه الشاة.
وقد قيل: أنه يحتمل أن المراد به: أنه كان بين المنبر وبين جدار المسجد الغربي خلل يسير، لا تكاد الشاة تجوز منه، وانه
ليس المراد به جدار القبلة.
لكن قد خرج البخاري هذا الحديث في كتاب ((الاعتصام)) بلفظ صريح في المعنى الذي فهمه منه هاهنا، عن ابن أبي مريم، عن أبي غسان، عن أبي حازم، عن سهل، أنه كان بين جدار المسجد مما يلي القبلة وبين المنبر ممر الشاة.
وخرج الإمام أحمد، عن حماد بن مسعدة، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة، قال: كان بين المنبر والقبلة قدر ممر شاة.
وفي القرب من السترة أحاديث أخر:
فمنها: ما خرجه البخاري في باب مفرد بعد هذا من حديث موسى بن عقبة، عن نافع، أن عبد الله كان إذا دخل الكعبة مشى قبل وجهه حين يدخل، وجعل الباب قبل ظهره يمشي حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريب من ثلاثة أذرع صلى به، يتوخى المكان الذي أخبره به بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه.
ومنها: ما ورد في الأمر بالدنو من السترة من غير تقدير بشيء:
فروى نافع بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في
((صحيحه)) .
وذكر أبو داود في إسناده اختلافا، وكذلك ذكره البخاري في ((تاريخه)) .
وقد روى - أيضا - عن نافع بن جبير - مرسلا، وفيه:((فإن الشيطان يمر بينه وبينها)) .
وقال العقيلي: حديث سهل هذا ثابت.
وقال الميموني: قلت لأبي عبد الله - يعني: أحمد -: كيف إسناد حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلى أحدكم فليدن من سترته)) ؟ قال: صالح، ليس بإسناده بأس.
وروى ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه.
وروي هذا المتن من وجوه أخر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى إسحاق بن سويد، عن عمر، أنه رأى، رجلا يصلي متباعدا عن
القبلة، فقال: تقدم، لا يفسد الشيطان عليك صلاتك،
أما إني لم أقل إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
خرجه الإسماعيلي وغيره.
وهو منقطع؛ فإن إسحاق لم يسمع من عمر.
وقد روي عنه مرسلا.
وروي عنه، عمن حدثه، عن عمر.
وروى مصعب بن ثابت، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرهقوا القبلة)) .
خرجه البزار والأثرم.
وقال الدارقطني - فيما نقله عنه البرقاني -: لم يروه إلا مصعب بن ثابت، وليس بالقوي.
ومعنى إرهاق القبلة مضايقتها ومزاحمتها والدنو منها -: فسره ابن قتيبة وغيره، وتوقف أحمد في تفسيره.
وخرجه الجوزجاني، ولفظه:((إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليقرب منها)) .
وفي الباب أحاديث أخر مسندة ومرسلة:
وروى وكيع بإسناده عن ابن مسعود، قال: يصلي وبينه وبين القبلة مقدار ممر رجل.
وعنه: قال: لا يصلين أحدكم وبينه وبين القبلة فجوة.
وسئل الحسن: هل كانوا يرقبون في البعد شيئا؟ قال: لا أعلمه.
وقال ابن المنذر: كان عبد الله بن معقل يجعل بينه وبين سترته ستة
أذرع.
وقال عطاء: أقل ما يكفيك ثلاثة أذرع، وبه قال الشافعي.
وقال مهنأ: سألت أحمد عن الرجل يصلي، كم يكون بينه وبين القبلة؟ قال: يدنو من القبلة ما استطاع، ثم قال: إن ابن عمر قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة، فكان بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع.
وقال الأثرم: سئل أبو عبد الله عن مقدار ما بين المصلي وبين السارية؟ فذكر حديث ابن عمر هذا. قيل له: يكون بينه وبين الجدار إذا سجد شبر؟ قال: لا أدري ما شبر.
قال الأثرم: ورأيته يتطوع وبينه وبين القبلة كثير، أذرع ثلاثة أو أكثر.
قال ابن عبد البر: ولم يحد مالك في ذلك حدا.
ثم أشار ابن عبد البر إلى أن الآخذين بحديث سهل بن سعد الذي خرجه البخاري في قدر ممر الشاة أولى.
وقال في موضع آخر: حديث ابن عمر أصح إسنادا من حديث سهل، وكلاهما حسن.
قلت: ولو جمع بين حديث سهل وابن عمر فأخذ بحديث ابن عمر في النافلة وحديث سهل في الفريضة لكان له وجه؛ فإن صلاة النبي في الكعبة كانت تطوعا، وسهل إنما أخبر عن مقام النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده الذي كان يصلي فيه بالناس الفرائض.
وقال القرطبي: قدره بعض الناس بقدر شبر.
قلت: هذا فيما يفصل عن محل سجوده، لا عن محل قيامه، كما سئل عنه الإمام أحمد فيما سبق.
قال: ولم أحد في ذلك حدا، إلا أن ذلك بقدر ما يركع فيه ويسجد، ويتمكن من دفع من يمر بين يديه.
قال: وقد حمل بعض شيوخنا حديث ممر الشاة على ما إذا كان قائما، وحديث ثلاثة أذرع على ما إذا ركع أو سجد.
كذا وجدته، وينبغي أن يكون بالعكس؛ فإن الراكع والساجد يدنوان من السترة أكثر من القائم كما لا يخفى.
وذكر صاحب ((المهذب)) من الشافعية: أن ممر العنز قدر ثلاثة أذرع، فعلى قوله يتحد معنى حديث سهل وحديث ابن عمر، وهو بعيد جدا.
ومتى صلى إلى سترة وتباعد عنها، فقال أصحاب الشافعي: هو كما لو صلى إلى غير سترة، في المرور بين يديه ودفعه للمار، على ما سبق حكاية مذهبهم.
92 - باب
الصلاة إلى الحربة
498 -
حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن عبد الله بن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تركز له الحربة، فيصلي إليها.
قد تقدم هذا الحديث بأبسط من هذا السياق.
93 - باب
الصلاة إلى العنزة
499 -
حدثنا آدم: ثنا شعبة: ثنا عون بن أبي جحيفة، قال: سمعت أبي، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمهاجرة، فأتي بوضوء فتوضأ، فصلى بنا الظهر والعصر، وبين يديه عنزة، والمرأة والحمار يمرون من ورائها.
500 -
حدثنا محمد بن حاتم بن بزيع، ثنا شاذان، عن شعبة، عن عطاء بن أبي ميمونة، قال: سمعت انس بن مالك يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلام، ومعنا عكازة أو عصى أو عنزة، ومعنا إداوة، فإذا فرغ من حاجته ناولناه الإداوة.
((شاذان)) ، هو: أسود بن عامر، وشاذان لقب له.
وحديث انس قد خرجه في ((كتاب الوضوء)) ، في ((أبواب الاستنجاء)) ، وذكرنا هناك فائدة حمل العنزة.
وظاهر تبويب البخاري يدل على التفريق بين العنزة والحربة، وأكثر العلماء فسروا العنزة بالحربة.
وقال أبو عبيد: العنزة عصا قدر نصف الرمح أو أكثر، لها سنان.
وقد خرج مسلم حديث ابن عمر الذي خرجه البخاري في الباب الماضي من حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان تركز له العنزة ويصلي إليها.
قال عبيد الله: وهي الحربة.
وقد فرق قوم بين العنزة والحربة، فعن الأصمعي قال: العنزة: ما دور نصله، والحربة: العريضة النصل.
وأشار بعضهم إلى عكس ذلك.
وصلاته صلى الله عليه وسلم إلى العنزة والحربة يستفاد منه: أن السترة يستحب أن يكون عرضها كعرض الرمح ونحوه، وطولها ذراع فما فوقه.
قال ابن المنذر: جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبالي من مر وراء ذلك)) .
وقال أنس وأبو هريرة بذلك في الطول.
وقال الأوزاعي: يجزئ السهم والسوط والسيف.
وقال عطاء: قدر مؤخرة الرحل يكون حالقها على وجه الأرض ذراعا.
وبه قال الثوري وأصحاب الرأي.
وقال مالك والشافعي: قدر عظم الذراع فصاعدا.
وقال قتادة: ذراعا وشبرا.
وقال الأوزاعي: يستر المصلي مثل مؤخرة الرحل، وبه قال الثوري. انتهى.
وسئل أبو العالية عن السترة؟ فقال: طول الرحل، والعرض ما عرض أحب إلي.
وقال ابن عبد البر: قال مالك: أقل ما يجزئ المصلي في السترة غلظ الرمح، وكذلك السوط أن كان قائما، وارتفاعها: قدر عظم الذراع، هذا أقل ما يجزئ عنده، ولا تفسد عنده صلاة من صلى إلى غير سترة، وإن كان ذلك مكروها له.
وقول الشافعي في ذلك كقول مالك.
وقال الثوري وأبو حنيفة: أقل السترة: قدر مؤخرة الرحل، ويكون ارتفاعها على ظهر الأرض ذراعا، وهو قول عطاء.
وقال قتادة: ذراع وشبر.
وقال الأوزاعي: قدر مؤخرة الرحل، ولم يحد ذراعا، ولا عظم ذراع، ولا غير ذلك، وقال: يجزئ السهم والسوط والسيف - يعني في الغلظ. انتهى.
وفي ((تهذيب المدونة)) للبرادعي المالكي: ويستره قدر مؤخرة الرحل، وهو نحو من عظم الذراع. قال مالك: وإني لأحب أن يكون في جلة الرمح أو الحربة، وليس السوط بسترة. انتهى.
وأما مذهب الشافعي وأصحابه، فيستحب عندهم أن يكون ارتفاع السترة قدر مؤخرة الرحل، واختلفوا في تقديرها، فالمشهور عندهم: إنها نحو ثلثي ذراع فصاعدا. وقيل: ذراع، وأما عرضها فلا حد له عندهم،
بل يكفي الغليظ والدقيق.
وأما مذهب أحمد وأصحابه، فنص أحمد على أن السترة قدر مؤخرة الرحل، وأن مؤخرة الرحل ذراع -: نقله عنه أكثر أصحابه.
ونقل ابن قاسم، عنه في قدر ما يستر المصلي، قال: قدر عظم الذراع من الأشياء، وهو كمؤخرة الرحل.
وهذا مثل قول من قدره بنحو ثلثي ذراع؛ لأن ذَلِكَ هُوَ طول عظم ذراع الإنسان.
وأما عرضها فلا حد له عند أصحابنا، إلا أنه كلما غلظ كان أولى.
وقال إسحاق: قدر مؤخرة الرحل ذراع.
وقد خرج البخاري حديث الصلاة إلى مؤخرة الرحل من حديث ابن عمر، وسيأتي قريبا - أن شاء الله.
وخرج مسلم من حديث سماك، عن موسى ابن طلحة، عن أبيه طلحة بن عبيد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبالي بمن مر وراء ذلك)) .
قال علي بن المديني: إسناده حسن.
وخرج مسلم - أيضا - من حديث أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل في غزوة تبوك عن سترة المصلى؟ فقال:((كمؤخرة الرحل)) .
ومن حديث عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل)) .
وخرج الإمام أحمد من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة، عن أبيه، عن
جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يستر الرجل في صلاته السهم، وإذا صلى أحدكم فليستتر بسهم)) .
وفي رواية له ـ أيضا ـ بهذا الإسناد: ((ليستتر أحدكم في صلاته، ولو بسهم)) .
وخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.
وخرج الحاكم ـ أيضا ـ من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
((يجزئ من السترة مؤخرة الرحل، ولو بدقة شعرة)) .
وزعم أنه صحيح على شرطهما، وليس كذلك؛ فإن هذا تفرد برفعة محمد بن القاسم الأسدي، عن ثور بن يزيد، عن يزيد بن يزيد بن جابر، عن مكحول، عن يزيد بن جابر، عن أبي هريرة.
والأسدي، ضعيف جدا.
قال الدارقطني: غيره لا يرفعه ـ يعني: أنه يقفه على أبي هريرة.
وسئل ابن معين عن حديث أبي هريرة الموقوف. فقال: هو مستقيم الإسناد.
وروى مسعر، عن الوليد بن أبي مالك، عن أبي عبيد الله، عن أبي هريرة: يجزئ المصلي مثل مؤخرة الرحل في مثل جلة السوط.
كذا رواه الحفاظ عن مسعر، وهو المحفوظ ـ: قَالَ الدارقطني وغيره.
وأبو عُبَيْدِ الله، هُوَ: مُسْلِم بْن مشكم صاحب معاذ -: قاله يعقوب بن سفيان [وابن ناجية] .
والوليد ومسلم شاميان ثقتان.
ورواه أبو هشام الرفاعي، عن حفص بن غياث، عن مسعر ـ فرفعه.
خرجه الإسماعيلي.
وأبو هشام ليس بالقوي.
وسنذكر ـ أن شاء الله ـ حديث الصلاة إلى العصا.
وهذا كله مما استدل به على مالك في قوله: إن ما كان دون عرض الرمح لا تحصل به سنة الاستتار.
وعن أبي العالية، قال: يستر المصلي كحرف القلم.
خرجه وكيع.
وأما إذا لم يجد ما يصلي إليه، إلا ما كان دون مؤخرة الرحل في الانتصاب، مثل حجر أو عصا لا يستطيع نصبها، فهل يضعها بين يديه ويصلي إليها، أم لا؟ فِيهِ قولان:
أحدهما: أنه يصلي إلى ذَلِكَ إذا لَمْ يجد غيره، وحكاه ابن المنذر عَن سَعِيد بن جبير والأوزاعي وأحمد، وَهُوَ قَوْلِ إسحاق –أيضا -.
وروى ابن أبي شيبة في ((كتابه)) عن الشعبي ونافع بن جبير نحوه.
وقال طائفة من الشافعية: إذا لم يجد شيئا شاخصا بسط مصلى.
وروي عن أبي سعيد: كنا نستتر بالسهم والحجر في الصلاة.
ذكره ابن المنذر.
والثاني: تكره الصلاة إلى ذلك.
قال ابن المنذر: كره النخعي الصلاة إلى عصا يعرضها.
وقال الثوري: الخط أحب إلي من هذه الحجارة التي في الطريق إذا لم يكن ذراعا.
وحكى بعض من صنف في مذهب سفيان: أن سفيان سئل: هل يجزئ الحبل الممدود المعترض؟ قال: لا يغني من السترة.
وروى حرب بإسناده، عن النخعي، أنه سئل عن الرجل يصلي يستتر بحبل معترضا؟ قال: لو كان الحبل بالطول كان أحب إلي.
وهذا يدل على أن الصلاة إلى المستطيل أولى من الصلاة إلى المعترض عنده؛ لأن المستطيل أشبه بالسترة القائمة.
والأكثرون،
كالأوزاعي والثوري وأحمد يرون أن المعترض أولى؛ ولهذا رجحوا في الخط أن يكون معترضا.
ولو صلى وبين يديه ما يمنع الاستطراق من نهر أو نحوه، فهل هو سترة؟
قالت طائفة: هو سترة، منهم الحسن والأوزاعي.
وروي ذلك عن ابن عمر بإسناد ضعيف.
خرجه كله حرب الكرماني.
وقال: سألت إسحاق عن ذلك، فقال: إذا كان نهرا تجري فيه السفن فلا يصلي، وإن لم يكن تجري فيه فهو أسهل.
يشير إسحاق إلى أنه إذا كان تجري فيه السفن فهو طويق مسلوك، فلا يصلي إليه بدون سترة تحول بينه وبينه.
وأيضا؛ فالصلاة إلى النهر الجاري مما يلهي المصلي؛ فإنه مما يستحسن النظر إليه، وقد سبق كراهة الصلاة إلى ما يلهي.
وقال سفيان: إذا صلى على حائط قدر ثلاثة أذرع أو نحو ذلك فأرجو أن يكون سترة ما لم يكن طريقا.
وسئل النخعي عن الصلاة على السطح، والناس يمرون بين يديه؟ قال: يتأخر حتى لا يراهم.
ونقل الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز مثل قول النخعي.
قال الوليد: وقال مالك: إن كان ارتفاع السطح مثل مؤخرة الرحل فأكثر من ذلك فصل.
وأما الخط في الأرض إذا لم يجد ما يستتر به ففيه قولان:
أحدهما: أنه يحصل به الاستتار - أيضا -، وهو قول أبي هريرة،
وعطاء، وسعيد بن جبير، والأوزاعي، والثوري، والشافعي في أحد قوليه - ورجحه كثير من أصحابه أو أكثرهم - وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور.
والثاني: أنه ليس بسترة، وهو قول مالك، والنخعي، والليث، وأبي حنيفة، والشافعي في الجديد.
وقال مالك: الخط باطل.
واستدل من قال بالخط بما روى إسماعيل بن أمية، عن أبي محمد عمرو بن حريث العذري، عن جده، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يجد عصا فليخط خطا، ثم لا يضره ما مر بين يديه)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان في ((صحيحه)) .
وحكي عن ابن المديني أنه صححه.
وحكى ابن عبد البر عن أحمد وعلي بن المديني أنهما صححاه.
وأحمد لم يعرف عنه التصريح بصحته، إنما مذهبه العمل بالخط، وقد يكون اعتمد على الآثار الموقوفة لا على الحديث المرفوع.
فإنه قال
في رواية ابن القاسم: الحديث في الخط ضعيف.
وكان الشافعي يقول بالخط، ثم توقف فيه، وقال: إلا أن يكون فيه حديث يثبت.
وهذا يدل على أنه توقف في ثبوته.
وقال ابن عيينة لم نجد شيئا نشد به هذا الحديث، ولم يجئ إلا من هذا الوجه.
وذكر أن هذا الشيخ الذي روى عنه إسماعيل بن أمية سئل عنه فخلط فيه.
ذكر ذلك أبو داود في ((سننه)) بإسناده عن ابن عيينة.
وقد اختلف على إسماعيل في تسمية شيخه، وفيمن رواه عنه شيخه:
فقيل: عنه كما ذكرنا.
وقيل: عنه، عن أبي عمرو بن محمد بن حريث.
وقيل: عنه، عن أبي عمرو بن حريث.
وأما الاختلاف فيمن رواه عنه شيخه.
فقيل: عن إسماعيل، عن شيخه هذا - على اختلاف في تسميته كما تقدم -، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وقيل: عنه، عن شيخه هذا، عن جده، عن أبي هريرة.
وقيل: عنه، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وقيل: عنه، عن شيخه هذا، عن أبي هريرة - بغير واسطة بينهما.
وقال أبو زرعة: الصحيح: عن إسماعيل، عن أبي عمرو بن حريث، عن أبيه، عن أبي هريرة.
ونقل الغلابي في ((تاريخه)) عن يحيى بن معين، أنه قال: الصحيح: إسماعيل بن أمية، عن جده حريث - وهو: أبو أمية، وهو من عذرة.
قال: ومن قال فيه: عمرو بن حريث فقد أخطأ.
وهذا الكلام يفيد شيئين:
أحدهما: أن إسماعيل بن أمية هذا هو ابن حريث، وهو يروي هذا الحديث عن جده حريث العذري، عن أبي هريرة.
وكذا رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن إسماعيل، عن حريث بن عمار عن أبي هريرة.
والثاني: أن إسماعيل هذا ليس هو ابن أمية القرشي المشهور، بل هو: ابن أمية بن حريث العذري.
وهذا غريب جدا، ولا أعلم أحدا ذكر إسماعيل هذا، وهذا الحديث قد رواه الأعيان عن إسماعيل، منهم: الثوري وابن جريج وابن عيينة، وإنما يروي هؤلاء عن إسماعيل بن أمية الأموي المكي الثقة المشهور، ويمتنع أن يوري هؤلاء كلهم عن رجل لا يعرف، ولا يذكر اسمه في تاريخ ولا غيره.
ولكن هذا الرجل الذي روى عنه إسماعيل وأبوه وجده قد قيل: إنهم مجهولون.
وقد اختلف - أيضا - في رفع هذا الحديث ووقفه على أبي هريرة، لكن الأكثرون رفعوه.
وقال الدارقطني: رفعه عن إسماعيل بن أمية صحيح.
وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر:
روى وكيع في ((كتابه)) ، عن أبي مالك، عن أيوب بن موسى، عن المقبري، عن أبي هريرة، قال: إذا صلى أحدكم فلم يجد ما يستره فليخط خطا.
وقد روي عن الأوزاعي، عن أيوب بن موسى، عن أبي سلمة - مرفوعا.
وقيل: عن الأوزاعي، عن رجل من أهل المدينة، عن أبي هريرة - موقوفا.
قال الدارقطني: والحديث لا يثبت.
قلت: وقد روي في الخط بين يدي المصلي حديث مرفوع من حديث انس.
خرجه حمزة السهمي في ((تاريخ إستراباذ)) .
وإسناده مجهول ساقط بمرة.
واختلف القائلون بالخط: هل يخط طولا، أو عرضا كالهلال؟ على قولين:
قال عطاء والثوري وأحمد وإسحاق: يكون عرضا.
وقال عمرو بن قيس وغيره: يكون طولا.
وأجازه أحمد على كل حال، ولكن المعترض عنده أولى،
94 - باب
السترة بمكة وغيرها
501 -
حدثنا سليمان بن حرب: ثنا شعبة، عن الحكم، عن أبي جحيفة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، فصلى بالبطحاء الظهر والعصر ركعتين، ونصب بين يديه عنزة، وتوضأ، فجعل الناس يتمسحون بوضوئه.
مراد البخاري: أن السترة تشرع بمكة وغيرها، واستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالبطحاء - وهو أبطح مكة - في حجته إلى عنزة.
وقد اختلف العلماء في حكم مكة في السترة: هل حكمها كحكم سائر
البلدان، أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أن حكمها في سترة الصلاة حكم سائر البلدان، وهو اختيار البخاري وقول [........] والشافعي، وحكي رواية عن أحمد.
وروي نحوه عن ابن عمر:
قال أبو نعيم الفضل بن دكين في ((كتاب الصلاة)) : ثنا جعفر بن برقان، عن يزيد الفقير، قال: كنت أصلي إلى جنب ابن عمر بمكة، فلم أر رجلا اكره أن يمر بين يديه منه.
ثنا عبد العزيز الماجشون، عن صالح بن كيسان، قال: رأيت ابن عمر يصلي في الكعبة، فلا يدع أحدا يمر بين يديه، يبادره - قال: يرده.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن يحيى بن أبي كثير، قال: رأيت انس بن مالك في المسجد الحرام قد نصب عصا يصلي إليها.
القول الثاني: أن مكة تجوز الصلاة فيها إلى غير سترة، والمرور بين يدي المصلي من غير كراهة في ذلك، وهو قول طاوس وعطاء وأحمد، نص عليه في رواية ابن الحكم وغيره.
وكان محمد بن الحنفية يصلي بمسجد منى، والناس يمرون بين يديه، فجاء فتى من أهله، فجلس بين يديه.
وروى ابن جريج، عن ابن أبي عمار، قال: رأيت ابن الزبير طاف بالبيت، ثم جاء فصلى، والطواف بينه وبين القبلة.
قال: تمر بين يديه المرأة فينتظرها حتى تمر، ثم يضع جبهته في موضع قدميها.
واستدل الإمام أحمد بحديث المطلب بن أبي وداعة:
وقد خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه من رواية ابن جريج، عن كثير بن كثير، عن أبيه، عن المطلب بن أبي وداعة، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من سبعه جاء حتى يحاذي بالركن، فيصلي ركعتين في حاشية المطاف، وليس بينه وبين الطواف أحد.
وخرجه الإمام أحمد - أيضا - عن ابن عيينة، قال: حدثني كثير بن
كثير ابن أبي وداعة، سمع بعض أهله يحدث، عن جده، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مما يلي الباب بني سهم، والناس يمرون بين يديه، ليس بينهم سترة.
قال ابن عيينة: وكان ابن جريج أخبرنا عنه، فقال: ثنا كثير، عن أبيه، فسألته، فقال: ليس من أبي سمعته، ولكن من بعض أهلي، عن جدي، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى مما يلي باب بني سهم، ليس بينه وبين الطواف سترة.
وخرجه أبو داود عن الإمام أحمد.
وقد تبين برواية ابن عيينة هذه أنها أصح من رواية ابن جريج، ولكن يصير في إسنادها من لا يعرف.
وقد رواه غير واحد عن كثير بن كثير كما رواه عنه ابن جريج.
وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأبطح إلى العنزة لا يعارض حديث المطلب؛ لأن حديث المطلب دل على جواز الصلاة بمكة إلى غير سترة، وحديث أبي جحيفة دل على جواز الصلاة بمكة إلى سترة.
وقد نص أحمد على أن مكة مخصوصة من بين البلدان بذلك ومن أصحابنا من قال: إن حكم الحرم كله كذلك، ولو قيل: إن الصلاة إلى غير سترة مختص بالمسجد الحرام وحده دون بقاع مكة والحرم لكان جمعا بين الحديثين متوجها، وكلام القاضي
أبي يعلى في كتابه ((الجامع الكبير)) يدل عليه، وصرح به غيره من أصحابنا.
وحمل الشافعي حديث المطلب بن أبي وداعة على أن الأمر بالصلاة إلى السترة على الاستحباب دون الوجوب، كما حمل عليه حديث ابن عباس في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى إلى غير جدار.
وحديث أبي جحيفة قد يوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالهاجرة الظهر والعصر، فجمع بينهما في أول وقتهما وهو مقيم بمكة، ولم يستدل به أحد - فيما نعلم - على الجمع بين الصلاتين.
وقد جاء في رواية للإمام أحمد: ((فصلى الظهر أو العصر)) - بالشك.
ولكن رواية من قال: ((بالهاجرة)) يدل على أنه صلى الظهر بغير شك.
وقد خرجه مسلم، ولفظه: فتقدم، فصلى الظهر ركعتين، يمر بين يديه الحمار والكلب لا يمنع، ثم صلى العصر ركعتين، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة.
وهذا يدل على أنه إنما صلى العصر في وقتها.
وقد رواه حجاج بين أرطاة، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، وقال فيه - بعد ذكر صلاة الظهر - ثم حضرت العصر، فقام بلال فأذن، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين.
خرجه من طريقه ابن سعد.
وهو صريح في أنه لم يجمع بين الصلاتين.
وحجاج بن أرطاة، وإن كان متكلما فيه، إلا أنه فقيه يفهم معنى الكلام، فيرجع إلى زيادته على من ليس له مثل فهمه في الفقه والمعاني.
95 - باب
الصلاة إلى الأسطوانة
وقال عمر: المصلون أحق بالسواري من المتحدثين إليها.
ورأى ابن عمر رجلا يصلي بين أسطوانتين، فأدناه إلى سارية، فقال: صل إليها.
خرج فيه حديثين:
الحديث الأول:
502 -
ثنا المكي: ثنا يزيد بن أبي عبيد، قال: كنت آتي مع سلمة بن الأكوع، فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت: يا أبا مسلم، أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة؟ قال: فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها.
هذا - أيضا - من ثلاثيات البخاري.
والأسطوانة: السارية.
وهذه الأسطوانة الظاهر أنها من أسطوان المسجد القديم الَّذِي يسمى الروضة، وفي الروضة أسطوانتان، كل منهما يقال: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إليها:
الأسطوانة المخلقة، وتعرف بأسطوانة المهاجرين؛ لأن أكابرهم كانوا
يجلسون إليها ويصلون عندها، وتسمى: أسطوان عائشة.
ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إليها المكتوبة بعد تحويل القبلة بضع عشرة يوما، ثم تقدم إلى مصلاه اليوم.
وهي الأسطوانة الثالثة من المنبر، والثالثة من القبلة، والثالثة من القبر الشريف، وهي متوسطة في الروضة.
وأسطوانة التوبة، وهي التي ربط فيها أبو لبابة نفسه حتى تاب الله عليه.
وقد قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف في رمضان طرح له فراشه، ووضع سريره وراءها.
وقد روي عن عمر مولى غفرة ومحمد بن كعب، أن أكثر نوافل النبي صلى الله عليه وسلم كانت عندها.
وهي الأسطوانة الثانية من القبر الشريف، والثالثة من القبلة، والرابعة من المنبر.
وفي الحديث: دليل على أنه لا بأس أن يلزم المصلي مكانا معينا من المسجد يصلي فيه تطوعا.
وقد ورد في رواية التصريح بأن هذه الصلاة كانت تطوعا.
خرجه ابن ماجه، ولفظ حديثه: أن سلمة كان يأتي إلى سبحة الضحى فيعمد إلى الأسطوانة دون المصحف، فيصلي قريبا منها،
فأقول له: ألا تصلي هاهنا، وأشير إلى بعض نواحي المسجد، فيقول: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى هذا المقام.
وقوله: ((قريبا منها)) قد يحمل على أنه كان ينحرف عنها في صلاته، ولا يستقبلها استقبالا.
وخرج البزار، من رواية يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن عبد الرحمن ابن صفوان، قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من البيت سألت من كان معه: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: صلى ركعتين عند السارية الوسطى، عن يمينها.
ويزيد بن أبي زياد ليس بالحافظ.
وروى عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، سأل بلالا: أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم يعني: في الكعبة –؟ قَالَ: فأشار لَهُ بلال إلى السارية الثانية عِنْدَ
الباب. قال: صلى عن يمينها، تقدم عنها شيئا.
وعبد العزيز - أيضا - ليس بالحافظ.
وقد صرح أصحابنا وأصحاب الشافعي وغيرهم بأنه يستحب لمن صلى إلى سترة منصوبة أن ينحرف عنها ولا يستقبلها.
وصرح بذلك من أصحابنا: أبو بكر عبد العزيز وابن بطة والقاضي أبو يعلى وأصحابه.
وأخذوه من نص الإمام أحمد على أن الإمام يقوم عن
يمين طاق المحراب.
وكذا قال النخعي.
واستدلوا بما روى علي بن عياش، عن الوليد بن كامل، عن المهلب بن حجر البهراني، عن ضباعة بنت المقداد بن الأسود، عن أبيها: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى عود ولا إلى عمود ولا إلى شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمدا.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود.
وخرجه الإمام أحمد - أيضا من رواية بقية بن الوليد، عن الوليد بن كامل، عن حجر - أو ابن حجر - بن المهلب، عن ضبيعة بنت المقداد بن معد يكرب، عن أبيها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى إلى عمود أو خشبة أو شبه ذلك لا يجعله نصب عينيه ولكن يجعله على حاجبه الأيسر.
ولعل هذه الرواية أشبه: وكلام ابن معين وأبي حاتم الرازي يشهد له.
والشاميون كانوا يسمون المقدام بن معد يكرب: المقداد، ولا ينسبونه - أحيانا، فيظن من سمعه غير منسوب أنه ابن الأسود، وإنما هو ابن معد يكرب وقد وقع هذا الاختلاف لهم في غير حديث من رواياتهم.
والمهلب بن حجر شيخ ليس بالمشهور.
والوليد، قال أبو حاتم: وهو
شيخ. وقال البخاري: عنده عجائب.
قال القرطبي: لعل هذا كَانَ أول الإسلام؛ لقرب العهد بإلف عبادة الحجارة والأصنام، حتى تظهر المخالفة في استقبال السترة لما كانوا عليه من استقبالهم تلك المعبودات. انتهى.
وقد كره مالك أن يصلي إلى حجر في الطريق، فأما إلى حجارة كثيرة فجائز.
ذكره في ((تهذيب المدونة)) .
وقد ورد النهي عن أن يوطن الرجل له مكانا في المسجد يصلي فيه: من رواية تميم بن محمود، عن عبد الرحمن بن شبل، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل المكان الذي في المسجد كما يوطن البعير.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
وفي إسناده اختلاف كثير.
وتميم بن محمود، قال البخاري: في حديثه نظر.
وقد حمل أصحابنا حديث النهي على الصلاة المفروضة، وحديث الرخصة على الصلاة النافلة.
وكان للإمام أحمد مكان يقوم فيه في الصلاة المكتوبة خلف الإمام، فتأخر يوماً فنحاه الناس وتركوه، فجاء بعد ذلك فقام في طرف الصف ولم يقم فيه، وقال: قد جاء أنه يكره أن يوطن الرجل مكانه.
الحديث الثاني:
503 -
حدثنا قبيصة: ثنا سفيان، عن عمرو بن عامر، عن أنس، قال: لقد أدركت كبار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري عند المغرب.
وزاد شعبة، عن عمرو، عن أنس: حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم.
رواية شعبة قد أسندها البخاري في ((كتاب الأذان)) .
وخرج مسلم من رواية عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، قال: كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري، فركعوا ركعتين، حتى أن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما.
فهذا الحديث: يدل على أن عادة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في زمنه كان التنفل إلى السواري قبل الصلاة المكتوبة وبعدها، وبخلاف الصلاة المكتوبة، فإنهم كانوا يصلونها صفوفاً صفوفاً، ولا يعتبرون لها سترةً، بل يكتفون بسترة إمامهم.
وروى وكيع، عن هشام بن الغاز، عن نافع، قال: كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلاً إلى سارية من سواري المسجد قال لي: اجلس وول ظهرك.
96 - باب
الصلاة بين السواري في غير جماعة
504 -
حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحه وبلال، فأطال ثم خرج، فكنت أول الناس دخل على أثره، فسألت بلالاً: أين أصلي؟ فَقَالَ: بَيْن العمودين المقدمين.
505 – حَدَّثَنَا عبد الله بْن يوسف: أبنا مَالِك بْن أنس، عَن نَافِع، عَن ابن
عمر، أن رسوا الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي، فأغلقها عليه، ومكث فيها، فسألت بلالاً حين خرج: ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: جعل عمودا عن يساره، وعموداً عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه - وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة -، ثم صلى.
وقال إسماعيل: حدثني مالك، فقال: عمودين عن
يمينه.
قد دل هذان الحديثان على أن البيت الحرام كان فيه ستة أعمدة حين دخله النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت الأعمدة صفين، في كل صف ثلاثة أعمدة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الأعمدة الثلاثة التي تلي باب البيت خلف ظهره، وتقدم إلى الأعمدة المتقدمة، فصلى بين عمودين منها.
وفي رواية مالك التي ذكرها البخاري - تعليقا -: أنه جعل عمودين عن يمينه، وعمودا عن يساره.
وقد خرجها مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك.
وهذا يدل على أنه كان إلى جهة الركن اليماني أقرب منه من جهة الحجر.
ويشهد لذلك - أيضا -: رواية سالم، عن أبيه، أنه سأل بلالا: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، بين العمودين اليمانيين.
وقد خرجها البخاري في ((الحج)) .
والمراد باليمانيين: ما يلي جهة الركن اليماني.
ويدل عليه - أيضا -: حديث مجاهد، عن ابن عمر، أنه سأل بلالا: أصلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ قال: نعم، بين الساريتين اللتين على يساره إذا دخل.
وقد خرجه البخاري في ((أبواب استقبال القبلة)) ، وقد مضى.
وقد روى عبد العزيز بن أبي رواد، قال: حدثني نافع، أن ابن عمر
سأل بلالا: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأشار له بلال إلى السارية الثانية عند الباب، قال: صلى عن يمينها، تقدم عنها شيئا.
خرجه الأزرقي.
وقوله: ((السارية الثانية عند الباب)) ، كأنه يريد السارية الثانية مما يلي الباب؛ فإن الباب يليه سارية من الصف المؤخر، ثم يليها سارية ثانية من الصف المقدم، وهي السارية الوسطى من ذلك الصف.
وقوله: ((صلى عن يمينها)) يوهم أنه جعلها عن يساره حتى يكون مصليا عن يمينها، وعلى هذا التقدير، فيكون قد جعل عمودا عن يمينه وعمودين عن يساره.
وهذا يخالف رواية مالك المتقدمة، وتلك الرواية مع ما عضدها وشهد لها أصح من رواية ابن أبي رواد، ويزيد بن أبي زياد التي ذكرناها في الباب الماضي.
وقوله في رواية ابن أبي رواد: ((تقدم عنها شيئا)) يدل على أنه صلى متقدما عنها إلى مقدم البيت، وسيأتي في الباب الذي يلي هذا أنه صلى الله عليه وسلم جعل بينه وبين الجدار نحو ثلاثة أذرع.
وقد روى الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي الشعثاء - وهو: سليم المحاربي -، قال: خرجت حاجا، فجئت حتى دخلت البيت، فلما كنت بين الساريتين مضيت حتى لزقت بالحائط، فجاء ابن عمر فصلى إلى جنبي، فلما صلى قلت له: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
من البيت؟ قال: أخبرني أسامة بن زيد، أنه صلى هاهنا.
خرجه الإمام أحمد وابن حبان في ((صحيحه)) .
وفيه: دليل على أنه صلى متقدما على الساريتين، وإن لم يكن جعلهما خلف ظهره، كما جعل الأعمدة الثلاثة المتأخرة التي تلي باب البيت، فإنه جعلها وراء ظهره في صلاته.
ومقصود البخاري بهذا الباب: أن من صلى بين ساريتين منفردا، كمن يصلي تطوعا؛ فإنه لا يكره له ذلك كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، وكان ابن عمر يفعله.
وكذا لو صلى جماعة، وكان إمامهم، ووقف بين الساريتين وحده، وقد فعل ذلك سعيد بن جبير وسويد بن غفلة.
ورخص فيه سفيان للإمام وكرهه للمأمومين.
وإنما يكره ذلك؛ لصف تقطعه السواري، فلو صلى اثنان أو ثلاثة جماعة بين ساريتين لم يكره - أيضا -، هذا قول أصحابنا وأصحاب الشافعي وغيرهم من العلماء.
وعلى مثل ذلك حملوا ما ورد من النهي عنه - مرفوعا، وموقوفا.
فالمرفوع؛ روي من حديث سفيان، عن يحيى بن هانئ بن عروة المرادي، عن عبد الحميد بن محمود، قال: صلينا خلف أمير من الأمراء، فاضطرنا الناس فصلينا بين الساريتين، فلما صلينا قال انس بن مالك: كنا نتقي هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن خزيمة وابن
حبان في ((صحيحيهما)) والحاكم، وقال: صحيح.
وقال الترمذي: حديث حسن.
وعبد الحميد هذا ابن محمود المعولي البصري، روى عنه جماعة، وقال أبو حاتم: هو شيخ.
ويحيى بن هانئ المرادي، كوفي ثقة مشهور.
وروى هارون بن مسلم أبو مسلم، عن قتادة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه، قال: كنا ننهي أن نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونطرد عنها طردا.
خرجه ابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) والحاكم وصححه.
وقال ابن المديني: إسناده ليس بالصافي. قال: وأبو مسلم هذا مجهول.
وكذا قال أبو حاتم: هو مجهول.
وليس هو بصاحب الحناء؛ فإن ذاك معروف، وقد فرق بينهما مسلم في كتاب ((الكنى)) وأبو حاتم الرازي.
وفيه: عن ابن عباس - مرفوعا -، ولا يثبت.
قال ابن المنذر: لا اعلم في هذا خبرا يثبت.
وقد روي النهي عنه، عن حذيفة وابن مسعود وابن عباس، وهو قول النخعي، وحكاه الترمذي عن أحمد وإسحاق.
وقد نص أحمد على كراهة الصلاة بين الأساطين مطلقا من غير تفصيل -: نقله عنه جماعة، منهم: أبو طالب وابن القاسم، وسوى في روايته بين الجمعة وغيرها.
ونقل عنه حرب: يكره ذلك، قلوا أو كثروا، وإن كانوا عشرة.
وصرح أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ((كتاب الشافي)) بكراهة قيام الإمام بين السواري.
وأما القاضي أبو يعلى وأصحابه، فقالوا: إنما يكره ذلك لصف تقطعه السواري، وحملوا كلام أحمد على ذلك.
ويشهد له: ما نقله ابن منصور، عن أحمد، وقد سأله: هل يقوم الإمام بين الساريتين، يؤم القوم؟ قال: إنما يكره للصف، إذا كان يستتر بشيء فلا بأس.
قال إسحاق بن راهويه كما قال.
وكذا نقل حرب، عن إسحاق، أنه يكره ذلك للصف، ولا يكره لمن صلى وحده.
ورخص فيه ابن سيرين وأبو حنيفة ومالك وابن المنذر.
وفي
((تهذيب المدونة)) للمالكية: لا بأس بالصلاة بين الأساطين لضيق المسجد.
وقد روي عن حذيفة، أنه كرهه لقطع الصفوف - أيضا.
قال أبو نعيم: ثنا زفر - وهو ابن عبد الله، عن حصين بن عبد الرحمن، عن هلال بن يساف، قال: كان حذيفة يكره أن نقوم بين الأسطوانتين لتقطع الصفوف.
ومن أهل الحديث من حمل الكراهة على من صلى وحده مع الجماعة بين السواري، لأنه يصير فذا، بخلاف من صلى مع غيره.
وهذا بعيد جدا، ولا فرق في هذا بين ما بين السواري وغيرها.
97 -
باب
506 -
حدثنا إبراهيم بن المنذر: ثنا أبو ضمرة: ثنا موسى بن عقبة، عن نافع، أن عبد الله كان إذا دخل الكعبة مشى قبل وجهه حين يدخل، وجعل الباب قبل ظهره، فمشى حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريبا من ثلاثة أذرع صلى، يتوخى المكان الذي أخبره به بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه.
قال: وليس على أحدنا بأس أن يصلي في أي نواحي البيت شاء.
هذا الحديث: مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة تلقاء وجهه لما دخل، وجعل الباب وراء ظهره.
وقد خرج مسلم من حديث أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أنه سأل بلالا: أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: بين العمودين، تلقاء وجهه.
وفي هذا الحديث: زيادة: أنه صلى إلى الجدار الذي تلقاء وجهه حتى كان بينه وبينه قريب من ثلاثة أذرع.
وقد روي في حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن بلال هذه الزيادة - أيضا -، وانه صلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع.
وقد خرجها أبو داود من رواية ابن مهدي، عن مالك.
وقال جماعة، عن مالك،
فيه: ((نحو من ثلاثة أذرع)) .
وقد خرجه النسائي كذلك من رواية ابن القاسم، عن مالك.
وقد روى حماد بن سلمة، عن ابن أبي مليكة، أن معاوية قدم مكة، فدخل الكعبة، فأرسل إلى ابن عمر: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: صلى بين الساريتين بحيال الباب، فجاء ابن الزبير، فدخل، فقال لمعاوية: أما إنك قد علمت أني اعلم مثل الذي يعلم، ولكنك حسدتني.
خرجه الإمام أحمد.
وخرجه الأزرقي بسياق مطول، من حديث عبد الحميد بن جبير بن شيبة، عن أخيه شيبة بن جبير بن شيبة بن عثمان، قال: حج معاوية وهو خليفة - فذكر حديثا طويلا، وفيه: أنه فتح له باب الكعبة، فدخل وأرسل إلى ابن عمر، فجاءه، فقال له معاوية: يا أبا عبد الرحمن، أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام دخلها؟ فقال: بين العمودين المقدمين، واجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة - وذكر بقية الحديث في دخول ابن الزبير، وغير ذلك.
وقد ذكرنا هذا الحديث في ((باب الدنو من السترة)) .
وفي الحديث - أيضا - دليل على أن من دخل مسجدا وأراد أن يصلي فيه تطوعا، فالأولى له أن يصلي في صدر المسجد، لا
عند بابه.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ليلة اسري به إلى المسجد الأقصى في صدر المسجد - أيضا -: فخرج الإمام أحمد من رواية حماد بن سلمة: ثنا أبو سنان، عن عبيد بن
آدم، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لكعب: أين ترى أن اصلي - يعني: في بيت المقدس -؟ أن أخذت عني صليت خلف الصخرة، فكانت القدس كلها بين يديك. فقال عمر رضي الله عنه: ضاهيت اليهود، ولكن اصلي حيث صلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتقدم إلى القبلة، فصلى، ثم جاء فبسط رداءه وكنس الكناسة في ردائه، وكنس الناس.
عبيد بن آدم، ذكره ابن حبان في ((ثقاته)) . وأبو سنان، هو: القسملي عيسى بن سنان، ضعفه الأكثرون، منهم: أحمد ويحيى. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال العجلي: لا باس به. وقال ابن خراش: صدوق.
وقد رواه أبو أسامة، عن أبي سنان عيسى بن سنان القسملي، عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: صليت مع عمر في كنيسة مريم، في وادي جهنم، فلما انصرف قال: لقد كنت غنيا أن تصلي على باب من أبواب جهنم، ثم تنخع، فاخرج قميصه، فبزق فيه فقلنا: يا أمير المؤمنين، لو تفلت في الكنيسة، وهو مكان شرك؟ فَقَالَ: أنه وان كَانَ يشرك
فِيهِ فإنه يذكر فِيهِ اسم الله كثيرا. قَالَ ثُمَّ دخلنا المسجد، فَقَالَ عُمَر: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: ((صليت ليله اسري بي فِي مقدم المسجد، ثُمَّ دخلت فِي الصخرة الَّتِيْ فِي بيت المقدس)) – وذكر بقية الحَدِيْث، وفي أخره: قَالَ: ((ثُمَّ انطلق بي إلى السماء، ففرضت عَلِيّ الصلاة، ثُمَّ رجعت إلى خديجة، وما تحولت عَن جانبها الآخر)) .
خرجه الإسماعيلي في ((مسند عمر)) في ترجمة: ((حديث: عبد الرحمن بن محمد والد المغيرة بن عبد الرحمن، عن عمر)) .
وقد كره بعض المتقدمين التطوع في مقدم المسجد من السحر:
فخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عامر الالهاني، قال: دخل المسجد حابس بن سعد الطائي من السحر - وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى الناس يصلون في مقدم المسجد، فقال: مراءون ورب الكعبة، أرعبوهم، فمن أرعبهم فقد أطاع الله ورسوله، فأتاهم الناس فأخرجوهم، فقال: أن الملائكة تصلي من السحر في مقدم المسجد.
وإنما خرجه في ((المسند)) لقول حابس: ((من أرعبهم فقد أطاع الله
ورسوله)) ، وهذا في حكم المرفوع.
وحابس بن سعد معدود من الصحابة.
وقد روي - أيضا - النهي عن ذلك عن عمر بن الخطاب، وأنه ضرب من رآه في مقدم المسجد يصلي، وقال: ألم أنهكم أن تقدموا في مقدم المسجد بالسحر؛ إن له عوامر.
خرجه جعفر الفرياني في ((كتاب الصلاة)) .
قال القاضي أبو يعلى من أصحابنا: هذا يدل على كراهة التقدم في الصف الأول في صدر المسجد قبل السحر.
ويكره - أيضا - استناد الظهر إلى القبلة بين أذان الفجر والإقامة.
وكرهه ابن مسعود، وقال: لا تحولوا بين الملائكة وبين صلاتهم.
وقال النخعي: كانوا يكرهونه.
وقال الإمام أحمد: هو مكروه، وأمر من فعله أن يحول وجهه إلى القبلة.
وروي عن عمر بن عبد العزيز، أنه نهى أن يستند إلى القبلة في مواقيت الصلاة.
وهذا يعم سائر الصلوات، ولعله كرهه؛ لأن الداخل إلى المسجد يصلي عند دخوله، فإذا كان بين يديه رجل مسند ظهره إلى القبلة صلى مستقبل وجهه، وذلك مكروه، كما تقدم.
وقد روي فيه حديث مرفوع، يدل على الرخصة فيه في غير صلاة الفجر، من رواية عيسى بن المسيب، عن الشعبي، عن كعب بن عجرة، قال: بينما أنا جالس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسندي ظهورنا إلى قبلة مسجده سبعة رهط، إذ خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر حتى انتهى
إلينا، فقال:((ما يجلسكم ها هنا؟)) فقلنا: يا رسول الله، ننتظر الصلاة. قال: فارم قليلا، ثم رفع رأسه، فقال:((أتدرون ما يقول ربكم؟)) - ثم ذكر حديثا طويلا في فضل المحافظة على الصلوات.
خرجه الإمام أحمد.
وعيسى بن المسيب، تكلم فيه.
وذكر مالك عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع، قال: كنت اصلي وابن عمر مسند ظهره إلى جدار القبلة، فلما قضيت صلاتي انصرفت إليه.
قال ابن عبد البر: فيه الاستناد إلى حائط القبلة في المسجد، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يفعله من يستقبل الصلاة.
وقوله: ((وَقَالَ: ليس على احدنا باس أن يصلي في نواحي البيت شاء)) .
الظاهر أنه من قول نافع، وقد وافقه أكثر العلماء على ذلك، منهم: الثوري والشافعي.
وقد روي عن أحمد أنه لا يصلي في الكعبة إلا إلى الجهة التي صلى أليها النبي
صلى الله عليه وسلم.
وحمله أصحابنا على الاستحباب، وقد سبق ذلك.
98 - باب
الصلاة إلى الراحلة والبعير والشجر والرحل
507 -
حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي البصري: ثنا معتمر بن سليمان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يعرض راحلته فيصلي إليها. فقلت: أفرأيت إذا هبت الركاب؟ قال: كان يأخذ الرحل فيعد له، فيصلي إلى آخرته - أو قال: مؤخرته -، وكان ابن عمر يفعله.
قد ذكرنا في ((باب: الصلاة في مواضع الإبل)) الاختلاف في رفع هذا الحديث ووقفه، وحكم الاستتار بالبعير في الصلاة.
وقوله: ((يعرض راحلته)) بكسر الراء - أي: ينيخها، معترضة بينه وبين جهة القبلة.
وفيه لغة أخرى: يعرض - بضم الراء -، ذكرها صاحب ((كشف المشكل)) .
وقوله ((هبت الركاب)) ، معناه: قامت الإبل للسير -: قاله الهروي وغيره.
ويقال للنائم إذا قام من نومه: هب من منامه.
والمراد إذا لم يكن عنده إبل باركة يستتر بها.
وقاله الخطابي: هبت أي هاجت، يقال: هب الفحل هبيبا إذا هاج. قال: يريد، أن الإبل إذا هاجت لم تهدا، ولم تقر، فتفسد على المصلي إليها صلاته.
وهذا الذي قاله في غاية البعد، وان كان محتملا في اللفظ، فليس هو المراد في الحديث.
وقوله: ((يأخذ الرحل)) : رحل البعير، هو: ما على ظهره مما يركب عليه، والراحلة: هي ما يرتحل الرجل - أي: يركبه في ارتحاله، بعيرا كان أو ناقة -: قاله الأزهري وغيره.
ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم ((الناس كإبل مائة، ليست فيها راحلة)) .
وقوله: ((فيعدله)) - بفتح الياء، وكسر الدال.
قال الخطابي: أي يقيمه تلقاء وجهه.
و ((آخرة الرحل)) - بكسر الخاء -: هي الخشبة التي يستند إليها الراكب على الرحل.
وقد سبق الخلاف في تقديرها: هل هو ذراع تام بالذراع الذي يذرع به، أو ذراع بعظم ذراع الإنسان،
وهو نحو ثلثي ذراع مما يذرع به؟
ويقال في آخرة الرحل: مؤخرة الرحل.
واختلفوا في ضبطها:
فمنهم من ضبطها بضم الميم وسكون الهمزة، وكسر الخاء المعجمة.
وقد حكاها أبو عبيد، وانكرها ابن السكيت وغيره.
وقال بعضهم: لا يقال: مؤخرة ومقدم - بكسر -، إلا في العين خاصة، وإنما يقال في غيرها بالفتح.
وضبطها بعضهم بسكون الهمزة، وفتح الخاء وتخفيفها.
ذكره ثابت في ((دلائله)) وأنكر ذلك ابن قتيبة وغيره.
وضبطها الأصيلي في نسخته بالبخاري - فيما حكى عنه - بفتح الميم وسكون الواو وكسر الخاء.
وضبطها بعضهم بضم الميم وفتح الهمزة والخاء وتشديدها.
ذكره صاحب ((المشارق)) ، وانكرها صاحب ((النهاية)) .
وقال بعضهم: المحدثون يروونه بتشديد الخاء، والصواب: آخرة.
وقد تبين بهذا الحديث الذي ذكره البخاري في ((صحيحه)) جواز الاستتار بالراحلة وبالبعير، سواء كان مرتحلا أو غير مرتحل، اللهم إلا أن يكون غير المرتحل
هائجا، فيخشى من هيجانه إفساد الصلاة على من يصلي إليه كما ذكره الخطابي.
وجواز الاستتار برحل الراحلة.
وأما الشجر، فذكره البخاري في تبويبه، ولم يذكر فيه شيئا، وهو مأخوذ من الاستتار بالرحل؛ فإن الرحل خشب، والخشب
مأخوذ من الشجر، فإذا ثبت جواز الاستتار في الصلاة بالخشب دل على جواز الاستتار بالشجر قبل قطعه.
وفيه حديث ليس على شرط البخاري، من رواية أبي إسحاق، عن حارثة ابن مضرب، عن علي، قال: لقد رايتنا ليلة بدر، وما فينا إنسان ألا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يصلي إلى شجرة، ويدعو حتى أصبح.
خرجه الإمام أحمد والنسائي.
وابن حبان في صحيحه، وعنده:((تحت شجرة)) .
وقد رواه بعضهم، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي.
ورواه غيره، عن أبي إسحاق، عن البراء.
والصحيح: عن حارثة، عن علي -: قاله الدارقطني.
وخرج أبو داود بإسناد فيه نظر، أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بتبوك إلى نخلة، فقال:((هذه قبلتنا)) ، ثم صلى إليها.
وقد سبق حديث المقداد، أنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر.
99 - باب
الصلاة إلى السرير
508 -
حدثنا عثمان بن أبي شيبة: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: أعدلتمونا بالكلب والحمار؟! لقد رأيتني مضطجعة على السرير، فيجيء النبي صلى الله عليه وسلم فيتوسط السرير فيصلي، فأكره أن أسنحه، فأنسل من قبل رجلي السرير حتى أنسل من لحافي.
زعم الإسماعيلي: أن هذا الحديث لا دلالة فيه على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى السرير، وإنما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي على السرير.
قال: ولكن صلاته إلى السرير موجود في حديث الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي والسرير بينه وبين القبلة.
وحديث الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة: خرجه البخاري فيما بعد، ولفظه: لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وإني لبينه وبين القبلة، وأنا مضطجعة على السرير.
وخرجه - أيضا - من طريق الأعمش بهذا الإسناد، وبإسناد آخر، عن إبراهيم، عن الأسود، عن
عائشة، قالت: لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة.
وكذا خرجه مسلم من حديث الأعمش بالإسنادين، ومن طريق جرير عن منصور، كما خرجه البخاري في هذا الباب.
وهذه الألفاظ كلها ليس فيها تصريح بأنه كان يصلي تحت السرير.
ولكن خرجه الإمام أحمد، عن ابن نمير، عن الأعمش، بالإسنادين معا. فذكر الحديث -، وفيه: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي مقابل السرير، وأنا عليه بينه وبين القبلة.
وقول عائشة: ((فأكره أن أسنحه)) .
قال الخطابي: قولها: ((أسنحه)) من قولك: سنح لي الشيء، إذا عرض، تريد: أني أكره أن أستقبله ببدني في صلاته. ومن هذا سوانح الطير والظباء، وهي ما يعترض الركب والمسافرين، فتجيء عن مياسرهم وتجوز إلى ميامنهم.
في الحديث: دليل على جواز أن يصلي المصلي إلى سترة شاخصة من الأرض، وإن كان فوقها إنسان نائم.
ونظيره: الصلاة إلى سرير الطفل وهو فيه.
وروى الإمام أحمد: ثنا محمد بن بكر: أبنا ابن جريج: أخبرني عطاء، عن عروة أن عائشة أخبرته، قالت: لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وإني لمعترضة على السرير بينه وبين القبلة. قلت: أبينهما جدر المسجد؟ قالت: لا، في البيت إلى جدره.
وهذا يدل على أن سترته كانت جدار البيت دون السرير، ولعل السرير لم يكن مرتفعا شاخصا عن الأرض كمؤخرة الرحل.
ويدل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحيانا إذا سجد يغمزها برجله، ولو كان السرير مرتفعا عن الأرض قدر ذراع أو قريب منه لم يتمكن من ذلك.
100 - باب
يرد المصلي من مر بين يديه
ورد ابن عمر في التشهد وفي الكعبة، وقال: أن أبى إلا أن يقاتله قاتله.
رد ابن عمر في الكعبة قد ذكرناه في ((باب: السترة بمكة وغيرها)) .
وأما رده في التشهد، فقال أبو نعيم: ثنا فطر بن خليفة، عن عمرو بن دينار، قال: مررت بابن عمر بعد ما جلس في آخر صلاته حتى أنظر ما يصنع، فارتفع من مكانه فدفع في صدري.
قال: وثنا جعفر بن برقان، عن عمرو بن دينار، قال: أردت أن أمر بين يدي ابن عمر وهو يصلي، فانتهرني بتسبيحه.
قال: وثنا بشير بن مهاجر، قال: رأيت أنس بن مالك وهو جالس في صلاته لم ينصرف، فجاء رجل يريد أن يمر بينه وبين السارية، فأماطه.
وروى ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: انصرف الإمام من العصر، فقمت أبادر مجلس عبيد بن عمير، فمررت بين يدي ابن عمر وأنا لا أشعر، فقال: سبحان الله، سبحان الله - مرتين - وجثا على ركبتيه، ومد يديه حتى ردني.
وأما قول ابن عمر: ((أن أبى إلا أن تقاتله فقاتله)) . فقد خرجه عبد الرزاق في ((كتابه)) عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا تدع أحدا يمر بين يديك وأنت تصلي، فإن أبى إلا أن تقاتله فقاتله.
وقد روي عن ابن عمر مرفوعا من رواية الضحاك بن عثمان، عن صدقة بن يسار، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله؛ فإن معه القرين)) .
خرجه مسلم.
وفي رواية أخرى لابن ماجه: ((فإن معه العزى)) .
وروى النضر بن كثير أبو سهل السعدي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم،
قال: ((إذا كنت تصلي فمر بين يديك أحد، فرده، فإن أبى فرده، فإن أبى فقاتله؛ فإنه شيطان)) .
خرجه الدارقطني في ((المختلف والمؤتلف)) .
وقال في النضر هذا: فيه نظر.
وكذا قال أبو حاتم الرازي: شيخ فيه نظر. وكذا قال البخاري: فيه نظر. وقال في موضع آخر: عنده مناكير.
وخرجه الطبراني في ((الأوسط)) ، وقال: تفرد به النضر بن كثير.
ولفظه: ((فإن عاد الرابعة فقاتله)) .
وخرجه البزار، وقال: لا نعلم أسند قتادة عن نافع، عن ابن عمر إلا هذا، ولا رواه عن سعيد إلا النضر، وهو بصري مشهور لا بأس به.
وزعم ابن حبان: أنه يروي الموضوعات عن الثقات. فالله اعلم.
قال البخاري رحمه الله:
509 -
حدثنا أبو معمر: ثنا عبد الوارث: ثنا يونس، عن حميد بن هلال، عن أبي صالح، أن أبا سعيد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وحدثنا آدم: ثنا سليمان بن المغيرة: ثنا حميد بن هلال
العدوي: ثنا أبو صالح السمان، قال: رأيت أبا سعيد الخدري في يوم جمعة يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه، فدفع أبو سعيد في صدره، فنظر الشاب فلم يجد مساغا إلا بين يديه، فعاد ليجتاز، فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى، فنال من أبي سعيد، ثم دخل على مروان، فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد، ودخل أبو سعيد خلفه على مروان، فقال: مالك ولابن أخيك يا أبا سعيد؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله؛ فإنما هو شيطان)) .
سليمان بن المغيرة، لم يخرج له البخاري إلا هذا الحديث متابعة لحديث يونس بن عبيد، وإنما خرجه بعد إسناد حديث يونس؛ لما فيه من الزيادة في إسناده ومتنه.
أما في إسناده، ففيه: التصريح بسماع حميد له من أبي صالح، وسماع أبي صالح له من أبي سعيد.
وأما في المتن، فإن فيه: ذكر الصلاة إلى السترة، وليس هو في حديث يونس.
وكذلك رواه سليم بن حيان، عن حميد، ولم يقل - أيضا - ((إذا
صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس)) .
وحينئذ؛ فلفظ الحديث الذي ساقه البخاري لسليمان بن المغيرة، وحمل حديث يونس عليه، ولم ينبه على ما في حديث سليمان من الزيادة.
وقد نبه على ذلك الإسماعيلي.
وكذلك روى مالك، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد
الخدري، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إذا كان أحدكم يصلى فلا يدع أحدا يمر بين يديه، وليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله؛ فإنما هو شيطان)) .
خرجه مسلم.
وقد روي هذا الحديث عن أبي سعيد من رواية عطاء بن يسار وأبي الوداك.
وروي - أيضا - من رواية عطاء بن يسار، عنه.
وليس في حديث احد منهم ذكر الصلاة إلى السترة، وإنما تفرد بذكرها سليمان بن المغيرة في حديثه عن حميد بن هلال. والله اعلم.
وتابعه على ذكرها: ابن عجلان، عن زيد بن اسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه.
وقد خرج حديثه أبو داود وابن ماجه.
وليس ابن عجلان بذاك الحافظ.
وتابعه - أيضا -: داود بْن قيس، عَن زيد بْن أسلم.
خرج حديثه عبد الرزاق، عنه، بسياق مطول، وفيه: أن أبا سعيد دفع
الفتى حتى صرعه، وانه لما سأله مروان عن ذلك قال: ما فعلت، إنما دفعت شيطانا، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا أراد أن يمر بين يديك وبين سترتك احد فاردده، فإن أبى فاردده فإن أبى فقاتله؛ فإنما هو شيطان)) .
وخرج الإمام أحمد عن عبد الرزاق المرفوع منه خاصة.
وخرج من حديث زهير، عن زيد بن اسلم الحديث بنحو رواية مالك، من غير ذكر سترة.
وخرج مسلم حديث سليمان بن المغيرة: عن شيبان بن فروخ، عنه، وفي سياقه أشياء مخالفة لسياق البخاري.
منها: أن أبا سعيد دفع في نحر الشاب مرتين، وقال في الثانية: فمثل قائما، فنال من أبي سعيد، ثم زاحم الناس، فخرج فدخل على مروان. وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فليدفع في نحره)) .
وفيما فعله أبو سعيد: دليل على دفع المار بين المصلي وبين سترته، وإن ازدحم الناس، ولم يجد المار سبيلا سوى ذلك.
ويدل عليه - أيضا -: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر)) .
فإنه يدل على أن وقوفه أربعين ينتظر مسلكا يباح له المرور فيه خير له من المرور بين يدي المصلي، وإن لم يجد طريقا غيره.
وقد قال بعض الشافعية والمالكية وبعض أصحابنا: لا يكره المرور حينئذ، ولا يمنع منه.
قال أصحابنا: لكن يضع المار شيئا يمر من ورائه، أو يخط خطا إذا لم يجد.
وكلام أحمد وأكثر أصحابنا ليس فيه شيء من هذا، وكذا كلام أكثر أصحاب الشافعي، والرجوع إلى ما فهمه الصحابي من الحديث الذي رواه وعمل به مستدلا به أولى.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم ((إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه وليدرأه ما استطاع)) . أمر بدفع المار، ونهى عن تمكينه من المرور، وظاهره الوجوب.
وقد وقع في كلام ابن عبد البر ما يقتضيه، وانه لا يعلم فيه خلافا ووقع في كلامه - أيضا - ما يقتضي أنه على الندب دون الوجوب، وهو قول كثير من أصحابنا والشافعية وغيرهم.
وروي أبو نعيم: ثنا سفيان، عن داود، عن الشعبي، قال: إذا مر الرجل بين يديك وأنت تصلي فلا ترده.
ولعله أراد إذا مر وذهب من بين يديه إلى الناحية الأخرى، فإنه لا يرده من حيث جاء، فإنه يصير مرورا ثانيا.
وهذا قول الجمهور، وخالف فيه بعض السلف، منهم ابن مسعود وسالم.
وفي كلام بعض المالكية ما يقتضي وجوب الدفع، إذا كان للمار مندوحة عنه وكان المصلى قد تعرض لذلك في ابتداء صلاته.
وسيأتي مزيد بيان لذلك في الباب الأتي - إن شاء الله.
وفي رواية سليمان بن المغيرة المخرجة في ((الصحيحين)) : ((إذا كان أحدكم يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد احد أن يمر بين يديه، فليدفعه)) : دليل من قبل مفهوم الشرط على أن من صلى إلى غير سترة فلا يرد من مر بين يديه، وهو قول ابن المنذر وبعض أصحابنا.
وأما أكثر أصحابنا فعندهم: أن رد المصلي لا يختص بمن كان يصلي إلى سترة، بل يشترك فيه من صلى إلى سترة ومن صلى إلى غير سترة ومر بقربه مار.
واستدلوا بعموم الأحاديث التي لَمْ يذكر فيها هذا الشرط، وجعلوا هذه الرواية المذكور فيها الشرط من باب تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر، فلا يقتضي تخصيصه، إلا أن يكون له مفهوم، فيبنى على أنه: هل يخص العموم بالمفهوم، أم لا؟
وأما الشافعية، فقالوا يحرم المرور بين يدي المصلي إلى سترة وبين سترته، على الصحيح عندهم، ومن صلى إلى غير سترة كره المرور بين يديه، ولم يحرم.
وهل يدفعه المصلي؟ لهم فيه وجهان: أصحها
عندهم: لا يدفعه؛ لمفهوم قوله: ((إذا كان أحدكم يصلي إلى سترة)) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فليدفعه)) ، وفي رواية مسلم:((فليدفع في نحره)) ، وفي روايته: أن أبا سعيد دفع في نحر المار بين يديه، وفي رواية البخاري: أنه دفع في صدره.
وقد كان ابن عمر وغيره من الصحابة يدفعون المار بين أيديهم.
ونقل أبو طالب، عن أحمد، وذكر حديث أبي سعيد هذا، فقال أحمد: يمنعه فإن أبى عليه فهو في صلاته يدرأ عن نفسه ما استطاع.
وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء: رأيت أبا عبد الله - يعني: أحمد - إذا صلى فمر بين يديه احد دفعه دفعا رفيقا، فإن أبى إلا أن يمر دفعه دفعا شديدا.
وقال أبو الحارث: أخبرني بعض أصحابنا، أنه رأى أحمد يوم الجمعة يصلي في مسجد الجامع، فمر بين يديه رجل فرده، فأبى أن يرجع، فدفعه حتى رمى به.
وقال في رواية حنبل: إذا أراد أن يمر بين يديك رجل فامنعه ما قدرت.
وقد دل فعل أبي سعيد على أن المار إذا أبى أن يرجع بالدفع الأول فإنه يدفع في المرة الثانية اشد من
الدفع الأول وكذلك فعله الإمام أحمد.
وأما قوله: ((فإن أبى فليقاتله)) ، إذن في قتاله في المرة الثانية.
وفي رواية ابن عمر: أن القتال في الرابعة، لكن في إسنادها ضعف كما سبق.
وقال أصحاب الشافعي: يدفعه دفع الصائل بالأسهل فالأسهل، ويزيد بحسب الحاجة، وإن أدى إلى قتله فمات منه فلا ضمان فيه كالصائل.
وحكى القاضي أبو يعلى ومن تابعه من أصحابنا عن أحمد في قتاله روايتين:
إحداهما: يقاتله، وذكروا نصوص أحمد السابقة.
والثانية: لا يفعل؛ فإنه قال في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي: يدرأ ما استطاع، وأكره القتال في الصلاة.
ذكره عنه الجوزجاني في ((كتابه المترجم)) ، وخالف في ذلك، وقال: بل يقاتله؛ فإنه شيطان لا حرمة له.
وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) في قوله: ((فليقاتله)) : المراد بالمقاتلة: المدافعة، وأظنه كلاما خرج على التغليظ، ولكل شيء حد. قال: وأجمعوا على أنه لا يقاتله بسيف ولا بخاطفة ولا يبلغ معه مبلغا تفسد به صلاته.
وحكى عن أشهب، أنه قال: يرده بإشارة، ولا يمشي إليه؛ لأن مشيه إليه أشد من مروره بين يديه، فإن فعل لم تبطل صلاته إذا لم
يكن عملا كثيرا.
قال ابن عبد البر: وقد بلغني أن عمر بن عبد العزيز - في أكبر ظني - ضمن رجلا دفع آخر مرّ بين يديه وهو يصلي، فكسر أنفه دية ما جنى على أنفه، فدل على أنه لم يكن له أن يبلغ به ذلك.
وقد كان الثوري يدفع المار بين يديه دفعا عنيفا.
وذكر القاضي أبو يعلى من أصحابنا: أن أبا بكر أحمد بن سلمان النجاد روى بإسناده عن مالك، أنه بلغه أن رجلا في زمان عثمان مر بين يدي رجل وهو يصلي، فرماه فشجه، فأتوا عثمان، فقال: أيمر بين يدي وأنا أصلي؟ فقال عثمان: الذي صنعت أعظم.
وقال ابن عبد البر: في ((الاستذكار)) . فإن دافعه مدافعة لا يقصد بها قتله فكان فيها تلف نفسه كانت عليه ديته كاملة في ماله.
وقد قيل: الدية على عاقلته.
وقيل: هي هدر على حسب ثنية العاض.
قال: وهذا كله يدل على نفي القود؛ لأنه فعل تولد من عمل أصله مباح.
قال: وقد كان أبو سعيد الخدري يشتد في هذا - وهو راوي الحديث - طلبا لاستعمال ظاهره.
ثم ذكر عن ابن أبي شيبة، أنه روى عن أبي معاوية، عن عاصم، عن ابن
سيرين، قال: كان أبو سعيد قائما يصلي،
فجاءه عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يمر بين يديه، فمنعه، فأبى إلا أن يمضي، فدفعه أبو سعيد وطرحه، فقيل له: تصنع هذا بعبد الرحمن؟ فقال: والله لو أبى إلا أن آخذ بشعره لأخذت.
قال: وذكر عبد الرزاق، عن الثوري، عن عاصم، عن محمد بن سيرين، عن أبي العالية، عن أبي سعيد الخدري، قال: مر رجل من بني مروان بين يدي في الصلاة، فدفعته ثلاث مرات، فشكاني إلى مروان، فذكر ذلك لي، فقلت: لو أبى لأخذت بشعره.
قال عبد الرزاق: وأنا ابن جريج، قال: سمعت سليمان بن موسى يحدث، عن عطاء، قال: أراد داود بن مروان أن يمر بين يدي أبي سعيد الخدري، وهو يصلي، وعليه حلة له، ومروان أمير بالمدينة، فرده، فكأنه أبى، فلهزه في صدره، فذهب الفتى إلى أبيه، فاخبره، فدعا مروان أبا سعيد، فذكر ذلك له، فقال: نعم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أردده، فإن أبى فجاهده)) .
وروى أبو نعيم في ((كتاب الصلاة)) : ثنا عبد الله بن عامر، عن زيد بن أسلم، قال: بينما أبو سعيد يصلي في المسجد، فأقبل الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فأراد أن يمر بين يديه، فدرأه، فأبى إلا أن يمر، فدفعه ولطمه، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أن أبى إلا أن يمر فاردده، فإن أبى إلا أن يمر فادفعه؛ فإنما تدفع الشيطان)) .
عبد الله بن عامر الأسلمي فيه ضعف.
وزيد بن أسلم، إنما رواه عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، كما تقدم.
وتسمية المار الوليد بن عقبة غريب غير محفوظ.
وروى ابن أبي شيبة: ثنا أبو أسامة، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: سمعت عبد الحميد بن عبد الرحمن - عامل عمر بن عبد العزيز -، ومر بين يديه رجل وهو يصلي، فجبذه حتى كاد يخرق ثيابه.
وبإسناده، عن سعيد بن جبير، أنه سئل: أدع أحدا يمر بين يدي؟ قال: لا. فقيل له: فإن أبى؟ قال: فما تصنع؟ قيل له: إن ابن عمر كان لا يدع أحدا يمر بين يديه. قال: أن ذهبت تصنع صنيع ابن عمر دق أنفك.
وفي هذا إشارة إلى شدة رد ابن عمر من مر بين يديه، وأن غيره لا يتمكن من مثل ذلك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإنما هو شيطان)) . تعليل للإذن في قتاله.
وقد اختلف في معناه:
فقيل: المعنى: أن معه الشيطان المقترن به، وهو يأمره بذلك وهو اختيار أبي حاتم وغيره.
ويدل عليه: حديث ابن عمر: ((فإن معه
القرين)) .
وقيل: المراد: أن فعله هذا فعل الشيطان، فهو بذلك من شياطين الإنس، وهو اختيار الجوزجاني وغيره.
وروى الدراوردي، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، أنه كان يصلي ومر بين يديه ابن لمروان، فضربه، فقال مروان: ضربت ابن أخيك؟ فقال: ما ضربت إلا شيطانا؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أبى فرده، فإن أبى فقاتله؛ فإنما هو شيطان)) .
وبكل حال؛ فيستدل به على تحريم المرور بين المصلي وسترته؛ لأنه جعله من عمل الشياطين، وأمر بالعقوبة عليه، وذلك من أدلة التحريم.
101 - باب
إثم المار بين يدي المصلي
510 -
حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن
عبيد الله، عن بسر بن سعيد، أن زيد بن خالد أرسله إلى أبي جهيم يسأله: ماذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المار بين يدي المصلي؟ فقال أبو جهيم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه)) .
قال أبو النضر: لا أدري: قال أربعين يوما، أو شهرا، أو سنة؟
وخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك.
وخرجه - أيضا - من طريق وكيع، عن سفيان - هو: الثوري -، عن سالم أبي النضر - بمعنى حديث مالك.
ورواه ابن عيينة، عن سالم أبي النضر، عن بسر بن سعيد، قال: أرسلني أبو الجهيم، أسأل
زيد بن خالد الجهني: ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم يقول - فذكره من رواية زيد بن خالد، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
كذا رويناه في ((مسند الحميدي)) ، عن سفيان.
وكذا خرجه ابن ماجه، عن هشام بن عمار، عن ابن عيينة، إلا أنه قال:((أرسلوني إلى زيد بن خالد أسأله)) - ولم يذكر من أرسله.
وذكر أن الشك في تمييز الأربعين من ابن عيينة.
وهذا كله وهم.
وممن نص على أن جعل الحديث من مسند زيد بن خالد، عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم من ابن عيينة، وخطأ: ابن معين في رواية ابن أبي خيثمة، وأشار إليه الإمام أحمد في رواية حنبل.
وقد اضطرب ابن عيينة في لفظه وإسناده، ولم يحفظه جيدا.
وقد روي عنه كقول مالك وسفيان على الصواب.
خرجه ابن خزيمة، عن علي بن خشرم، عنه.
ومن تكلف الجمع بين القولين من المتأخرين، فقوله ليس بشيء، ولم
يأت بأمر يقبل منه.
وأبو الجهيم، هو: ابن الحارث بن الصمة، وقد سبق له حديث في ((التيمم)) .
وقد رواه الضحاك بن عثمان، عن سالم أبي النضر، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن خالد، قال: قَالَ: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم المار بين يدي المصلي والمصلي ما عليهما)) - وذكر الحديث.
خرجه أبو العباس السراج في ((مسنده)) .
وهذا يوافق رواية ابن عيينة، وهو - أيضا - وهم.
وزيادته: ((والمصلي)) غير محفوظة - أيضا.
وقد وقع في بعض نسخ كتاب البخاري، ومسلم - أيضا - بعد:((ماذا عليه)) : ((من الإثم)) ، وهي غير محفوظة.
وذكر ابن عبد البر: أن هذه اللفظة في رواية الثوري، عن سالم أبي النضر.
وقد وقعت في كتاب ابن أبي شيبة من رواية الثوري، مدرجة بلفظة:((يعني: من الإثم)) ، فدل على إنها مدرجة من قول بعض الرواة، وتفسير للمعنى؛ فإن هَذَا يفهم من قوله:((ماذا عَلِيهِ)) ، فإن ابن آدم لَهُ عمله الصالح وعليه عمله السيئ، كما قَالَ تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46] . وقال: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] ، وإذا كان هذا عليه فهو من سيئاته.
وفي المعنى أحاديث أخر، ليست على شرط البخاري:
فروى عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن عمه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((لو يعلم أحدكم ما له أن يمشي بين يدي أخيه معترضا وهو يناجي ربه، كان لأن يقف في ذلك المكان مائة عام أحب إليه أن يخطو)) .
خرجه أحمد، وهذا لفظه.
وخرجه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) بمعناه.
وخرجه ابن ماجه، ولم يذكر:((وهو يناجي ربه)) ، وعنده:((معترضا في الصلاة)) .
وعبيد الله بن عبد الله بن موهب، ضعفه يحيى. وقال النسائي: ليس بذاك القوي. وقال ابن عدي هو حسن الحديث يكتب حديثه.
وخرج الطبراني من رواية ابن أخي ابن وهب، عن عمه: ثنا عبد الله بن عيا ش، عن أبي رزين الغافقي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((الذي يمر بين يدي الرجل وهو يصلي عمدا، يتمنى يوم القيامة أنه شجرة يابسة)) .
إسناده ليس بقوي.
وقد روي موقوفا، بلفظ آخر، من وراية أبي عبد الرحمن المقري: ثنا موسى بن أيوب، قال: سمعت أبا عمران الغافقي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: لأن يكون الرجل رمادا يذرى به خيرا له من أن يمر بين يدي رجل متعمدا وهو يصلي.
خرجه ابن عبد البر وغيره.
وروى ابن أبي شيبة، عن أبي أسامة، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: سمعت عبد الحميد بن عبد الرحمن - عامل عمر بن عبد العزيز - يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم المار بين يدي المصلي لأحب أن تنكسر فخذه ولا يمر بين يديه)) .
هذا مرسل.
وأبو أسامة، قد قيل: إنه كان يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم الشامي، ويسميه: ابن جابر، وابن تميم ضعيف، وابن جابر ثقة.
وذكر مالك في ((الموطإ)) عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن كعب الأحبار، قال: لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يخسف به خير له من أن يمر بين يديه.
وروى أبو نعيم في ((كتاب الصلاة)) : ثنا سليمان بن المغيرة، عن
حميد بن هلال، قال: قَالَ عمر رضي الله عنه: لو يعلم المار بين يدي المصلي ما يصيب من الإثم ما مر أحد بَيْن يدي أحد، وهو يصلي.
وروى أبو بكر النجاد الفقيه الحنبلي، بإسناده عن ابن عمر، قال: لأن يكون الرجل رمادا يذري به خير من أن يمر بين يدي رجل وهو يصلي
وبإسناده، عن قتادة، أن عمر وأبا الدرداء قالا: لو يعلم المار بين يدي المصلي كان أن يقوم حولا أهون عليه من أن يمر بَيْن يديه.
وروى أبو النعيم – أيضا -: ثنا أبو خلدة، عن أبي العالية، قالا: إن الإنسان إذا صلى بين يديه ملك يكتب ما يقول، فما أحب أن يمر بين يدي شيء.
وفي هذا إشارة إلى علة كراهة المرور بين يدي المصلي، وهو قرب الملائكة منه، فالمار يصير دخيلا بين المصلي وملائكته الموكلين به.
وفي حديث أبي هريرة المتقدم: إشارة إلى أن المصلي مشتغل بمناجاة ربه، والرب تعالى يقرب المصلي له إليه، قربا لا يشبه قرب المخلوقين، كما سبق ذكره في ((أبواب: البصاق في القبلة)) .
فالداخل بين المصلي وبين ربه في حال مناجاته له، وتقريبه إياه، وإقباله عليه، واستماعه
منه ما يناجيه، ورده عليه جواب ما يتلوه من كتابه متعرض لمقت الله، ومستحق لعقوبته.
وهذا كله يدل على تحريم المرور بين يدي المصلي، وهو الصحيح عند أصحابنا، والمحققين من أصحاب الشافعي.
وطائفة منهم ومن أصحابنا أطلقوا الكراهة.
وكذلك أطلقها غيرهم من أهل العلم، منهم: ابن عبد البر وغيره.
وحكاه الترمذي عن أهل العلم.
وقد حمل إطلاق هؤلاء للكراهة على التحريم؛ فإن متقدمي العلماء كانوا يستعملون ذلك كثيرا.
وقد حكى ابن حزم في ((كتاب الإجماع)) الاتفاق على أن المار بين المصلي وسترته آثم.
وفي الحديث: دليل على تحريم المرور بين يدي المصلي، سواء كان يصلي إلى سترة أو لم يكن، فإن كان يصلي إلى سترة حرم المرور بينه وبينها، إذا لم يتباعد عنها كثيرا.
وإن لم يكن بينه وبين القبلة سترة، أو كانت سترة وتباعد عنها تباعدا فاحشا، ففي تحريم المرور وجهان لا صحابنا:
أصحهما: التحريم؛ لعموم حديث أبي جهيم.
والثاني: يكره ولا يحرم، وهو قول أصحاب الشافعي.
والذي نص عليه الشافعي في ((كتاب اختلاف الحديث)) أنه مباح غير مكروه،
واستدل عليه بحديث ابن عباس والمطلب بن أبي وداعة.
وفي قدر القرب الذي يمنع المرور فيه وجهان لأصحابنا
أحدهما: أنه محدود بثلاثة اذرع؛ لأنها منتهى المسنون في وضع السترة، على ما سبق.
والثاني: حده بما لو مشى إليه لدفع المار أو غيره، لم تبطل صلاته.
وجاء في حديث مرفوع من حديث ابن عباس: تقديره بقدر قذفة بحجر.
خرجه أبو داود وسنذكره فيما بعد - أن شاء الله تعالى.
وحكي عن الحنفية، أنه لا يمنع من المرور إلا في محل سجود المصلي خاصة.
وحكى أبو بكر ابن العربي، عن قوم أنهم قدروه بمثل طول الرمح، وعن آخرين أنهم قدروه برمية السهم، وقالوا: هو حريم للمصلي. قال: وأخذوه من لفظ المقاتلة، ولم يفهموا المراد منها. قال: والمقاتلة هنا: المنازعة بالأيدي خاصة.
وقال الشافعي: قوله: ((فليقاتله)) - يعني: فليدفعه.
فإما من وقف في مجاز الناس الذي ليس لهم طريق غيره وصلى، فلا إثم في المرور بين يديه، صرح به أصحابنا وغيرهم؛ لأنه مفرط بذلك، فلا حرمة له.
وحكى القرطبي، عن أصحابهم المالكية، أن المصلي إذا كان في موضع لا يأمن المرور عليه اشترك هو والمار في ألاثم.
وهذا يدل على أنه يحرم المرور بين يديه - أيضا -، ولكنه يأثم المار والمصلي جميعا.
وكذلك قال بعض الشافعية: أنه إذا صلى على الطريق، أو قصر في الدفع شارك المار في الإثم، وحملوا رواية السراج المتقدمة:((لو يعلم المار بين يدي المصلي والمصلي ما عليهما)) على ذلك.
وحكي عن بعض الفقهاء، أنه إن كان للمار مندوحة عن المرور، وكان المصلي متعرضا لذلك أثما جميعا، وإن لم يكن للمار مندوحة، ولا
المصلي متعرضا لذلك فلا إثم على واحد منهما، وإن لم يتعرض المصلي لذلك، وكان للمار مندوحة إثم المار وحده، وإن لَمْ يتعرض المصلي لذلك، ولم يكن للمار مندوحة أثم المصلي وحده.
وقال أبو عمر ابن عبد البر، الإثم على المار بين يدي المصلي فوق الإثم على الذي يدعه يمر بين يديه، وكلاهما عاص إذا كان بالنهي عالما، والمار اشد إثما إذا تعمد ذلك، وهذا مما لا اعلم فيه خلافا.
كذا قال؛ مع أنه ذكر في موضع آخر: أن الدفع ليس بلازم، ولا يأثم من تركه، وإنه قول الثوري وغيره.
وخرج ابن أبي شيبة من رواية الأسود، قال: قال عبد الله - هو: ابن مسعود -: من استطاع منكم أن لا يمر بين يديه وهو يصلي فليفعل؛ فإن المار بين يدي المصلي انقص من الممر عليه.
ولعله أراد أن المار انقص علما أو دينا أو خيرا من الممر عليه، ولم يرد - والله أعلم - أنه انقص منه إثما، اللهم إلا أن يحمل على ما إذا كان المصلي مفرطا بصلاته في موضع مرور الناس، والمار لا يجد بدا من مروره كما سبق.
وقد روى عن جماعة من الصحابة، أن الصلاة تنقص بمرور المار:
فروى أبو نعيم: ثنا سليمان بن المغيرة - أظنه: عن حميد بن هلال -، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو يعلم المصلي قدر ما ينقص من صلاته ما صلى أحدكم إلا إلى شيء يستره من الناس.
وهذا منقطع.
وقد روي عن ابن مسعود، أنه ينقص نصف صلاته.
قال أبو طالب: قلت لأحمد: قول ابن مسعود: أن ممر الرجل يضع نصف صلاته؟ قَالَ: نَعَمْ، يضع من صلاته، ولكن لا يقطعها، ينبغي له أن يمنعه.
وهذا الذي أشار إليه خرجه أبو بكر النجاد بإسناده، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، قال: كان عبد الله إذا مر بين يديه رجل وهو يصلي التزمه حتى يرده. قال: وقال عبد الله: إن مرور الرجل بين يدي الرجل ليضع نصف صلاته.
قال القاضي أبو يعلي: وينبغي أن يكون هذا محمولا على ما إذا
أمكنه أن يرده فلم يرده، فيكون قد اخل بفضيلة الرد.
كذا قال؛ وفيه نظر.
ومذهب أحمد وأصحابه: أن مرور الكلب الأسود يبطل الصلاة ويقطعها، سواء أمكنه الرد وتركه، أو تركه عجزا، كما سيأتي ذكره - أن شاء الله تعالى.
وعلى هذا؛ فلا يبعد القول بنقص كمال الصلاة بمرور غير الكلب، وإن عجز عَن دفع ذَلِكَ.
ولهذا المعنى رد طائفة من العلماء حديث قطع الصلاة بمرور الكلب وغيره، وقالوا: إنه مخالف للقرآن في قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] ، كما ذكر ذلك الشافعي.
وقد روي: أن مرور الرجل بين يدي الرجل في صلاته يقطع صلاته.
وخرجه أبو داود في ((سننه)) بإسناد فيه نظر، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بتبوك إلى
نخلة، فأقبل غلام يسعى حتى مر بينه وبين قبلته، فقال: ((قطع صلاتنا، قطع الله
أثره)) . قال: فما قمت عليها إلى يومي هذا.
وهذا مما يستدل به على أن قطع الصلاة يراد به إذهاب كمال فضلها، دون إبطالها من أصلها، وإيجاب إعادتها، كما سيأتي ذكره - أن شاء الله تعالى.
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في ((المسند)) : ثنا سويد بن سعيد: ثنا إبراهيم بن سعد: حدثني أبي، عن أبيه، قال: كنت أصلي، فمر رجل بين يدي فمنعته، فسألت عثمان بن عفان، فقال: لا يضرك يا ابن أخي.
وظاهر هذا: أنه لا ينقض الصلاة، ويحتمل أنه أراد أنه لم تبطل صلاته أو لعله أراد أنه إذا منعه من المرور فلا يضره إذا رجع ولم يمر.
وقد روي، عن عائشة ما يدل على أن المرور بين يدي المصلي إذا لم يقطع صلاته فهو جائز:
قال: عبد الله ابن الإمام أحمد في ((مسائله)) : ثنا أبي: ثنا حجاج: أبنا شعبة، قال: سمعت عبد الرحمن بن سعيد بن وهب، قال: سمعت صفية بنت شيبة، قالت: كانت امرأة تصلي عند البيت إلى مرفقة، وكانت عائشة تطوف، فمرت عَائِشَة بينها وبين المرفقة، فقالت عائشة: إنما يقطع الصلاة الهر والكلب الأسود.
ولعل عائشة رضي الله عنها كانت ترى أن المسجد الحرام لا يمنع فيه المرور بين يدي المصلي كما سبق، وإنما ذكرت أن الصلاة لا تقطع بذلك لئلا؛ تظن تلك المرأة بطلان صلاتها. والله أعلم.
102 - باب
استقبال الرجل الرجل وهو يصلي
وكره عثمان أن يستقبل الرجل وهو يصلي.
وهذا إذا اشتغل به، فأما إذا لم يشتغل به، فقد قال زيد بن ثابت: ما باليت؛ إن الرجل لا يقطع صلاة الرجل.
حكى البخاري عن عثمان رضي الله عنه، أنه كره أن يستقبل الرجل وهو يصلي، وعن زيد بن ثابت، أنه قال: لا يبالي بذلك؛ إن الرجل لا يقطع صلاة الرجل.
وجمع بينهما بان الكراهة إذا اشتغل به المصلي عن صلاته، وعدم الكراهة إذا لم يشتغل به عن صلاته.
وقد روى في هذا حديث مرفوع يشهد لما قاله:
رواه عبد الأعلى الثعلبي، عن محمد بن الحنفية، أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى رجل يصلي إلى رجل، فأمره أن يعيد الصلاة، فقال: يا رسول الله، إني قد أتممت؟ فقال:((إنك صليت وأنت تنظر إليه مستقبله)) .
خرجه أبو داود في ((المراسيل)) .
وخرجه البزار في ((مسنده))
والإسماعيلي في ((مسند علي)) ، وعندهما: عن ابن الحنفية، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعبد العلي هذا، ضعيف الحديث.
وقد علل الإعادة بالنظر إليه، وهو يشعر بأن نظره إليه ألهاه عن صلاته.
وقال البزار بعد تخريجه للحديث: إنما أمره بالإعادة؛ لاستقباله وجه الرجل من غير انحراف عنه.
وروى أبو نعيم: ثنا مسعر، قال: أراني أول من سمعته من القاسم، قال: ضرب عمر رجلين: أحدهما مستقبل الآخر وهو يصلي.
وهذا منقطع.
ونص أحمد على كراهة أن يصلي مستقبل رجل -: نقله عنه المروذي.
ونقل عنه ابنه صالح، أنه قال: هذا منهي عنه.
وعلل الأصحاب كراهة ذلك بان فيه تشبها بعبادة المخلوقين، فكره كما تكره الصلاة إلى صورة منصوبة.
وعلى هذا التعليل، فلا فرق بين أن يشتغل بالنظر إلى ذلك، أو لا يشتغل. والله اعلم.
وكره أصحاب الشافعي الصلاة إلى آدمي، يستقبله ويراه، وعللوه بأنه
يشغل المصلي ويلهيه نظره إليه.
قال البخاري رحمه الله:
511 -
ثنا إسماعيل بن خليل: أبنا علي بن مسهر، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة، ذكر عندها ما يقطع الصلاة، فقالوا: يقطعها الكلب والحمار والمرأة، فقالت: لقد جعلتمونا كلابا؛ لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، وإني لبينه وبين القبلة، وأنا مضطجعة على السرير، فتكون لي الحاجة، فأكره أن استقبله، فأنسل انسلالا.
وعن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة - نحوه.
وقد روى هذا الحديث أبو معاوية، عن الأعمش، بالإسناد الثاني، وقال في حديثه: فأنسل من قبل رجلى السرير، كراهة أن استقبله بوجهي.
خرجه عنه الإمام أحمد.
ورواه ابن أبي زائدة، عن الأعمش بالإسنادين، وقال فيه: وأكره أن أستقبله بوجهي فأوذيه، فأنسل من قبل رجلى السرير.
وهذا يدل عل إنها كانت تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره أن يستقبله أحد بوجهه وهو يصلي، وكان ذلك ليلا، ولم يكن في البيوت مصابيح،
كما صرحت به عائشة في حديثها الآخر، فدل على أن كراهة استقبال المصلي وجه إنسان والإنسان ليس هو لمعنى الاشتغال بالنظر إليه عن الصلاة، كما يراه البخاري. والله اعلم.
والظاهر: أن البخاري استدل بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة على أنه لا تكره الصلاة مستقبل إنسان، وفي ذلك نظر؛ فإن عائشة لم تكن مستقبلة له، بل كانت مضطجعة، وإنما كره من كره استقبال وجه الآدمي.
103 - باب
الصلاة خلف النائم
512 -
حدثنا مسدد: ثنا يحيى: ثنا هشام: قال: حدثني أبي، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، وأنا راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقضني فأوترت.
استدل البخاري بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة بالليل على أنه لا تكره الصلاة خلف النائم.
وكذلك قال أصحاب الشافعي.
ونقل حرملة عن الشافعي، أنه إن كان النائم لا يحتشم من المصلي، ولا يحتشم المصلي منه كالزوجة فلا بأس به، وان النهي عن الصلاة خلف نائم يحتشمه.
والنهي الذي أشار إليه هو من رواية محمد بن كعب القرظي، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((لا تصلوا خلف النيام والمتحدثين)) .
خرجه أبو داود وابن ماجه.
وله طرق إلى محمد بن كعب، كلها واهية -: قاله أبو داود والعقيلي والبيهقي وغيرهم.
وخرج البزار من رواية ابن أبي ليلى، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((نهيت أن أصلي إلى النيام والمتحدثين)) .
ابن أبي ليلى، ضعيف؛ لسوء حفظه.
وخالفه سُفْيَان، فرواه وكيع، عن سفيان، عن عبد الكريم، عن مجاهد -
مرسلا، وهو أصح.
وكره طائفة الصلاة إلى النائم مطلقا، منهم: أحمد وإسحاق.
وعلل ذلك أصحابنا؛ بأنه لا يؤمن أن يكون من النائم ما يشغل المصلي.
وأجاب من ذهب إلى هذا عن حديث عائشة، بأن الحاجة دعت إليه؛ لضيق البيت.
وعن أحمد، أنه تختص الكراهة بالفريضة دون
النافلة؛ جمعا بين حديث عائشة وحديث ابن عباس.
ولعل هذا القول اقرب مما قبله.
وإذا خالف وصلى، فلا إعادة عليه في ظاهر مذهب أحمد وإسحاق، وهو قول جمهور العلماء.
وعن أحمد، أنه يعيد الفريضة.
قال القاضي أبو يعلى: يحتمل أن هذا على الاستحباب دون الإيجاب.
وسئل النخعي عن الرجل يصلي إلى نائم ومضطجع: أيكون له سترة؟ قَالَ:
لا. قيل له: فيستر الجالس؟ قال: نعم.
وأما الصلاة خلف المتحدث، فكرهها أكثر العلماء.
روى سفيان، عن أبي إسحاق، عن معد يكرب، عن عبد الله، قال: لا تصلوا إلى قوم يتحدثون.
خرجه الأثرم.
وخرجه أبو نعيم في ((كتاب الصلاة)) ، ولفظه: لا تصلوا بين يدي قوم يمترون.
وهذا يدل على كراهة الصلاة أمام المتحدثين - أيضا.
قال ابن المنذر: روينا عن ابن مسود وسعيد بن جبير، أنهما كرها الصلاة إلى المتحدثين. وبه قال أحمد وأبو ثور. ورخص فيه الزهري والنعمان.
وحكى الخطابي، عن الشافعي، أنه كرهه - أيضا.
وعلل أحمد الكراهة بأن المتحدث يشغل المصلي إليه.
وفرق سعيد بن جبير بين المتحدثين بذكر الله وغيره، فكره الصلاة إلى المتحدث بغير الذكر، دون الذاكر.
خرجه حرب الكرماني وغيره.
ولا إعادة على من صلى إلى متحدث عند الجمهور.
ونقل حرب، عن أحمد، أنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه. وقال: الفريضة أشد.
وكأنه ذهب إلى أنه يعيد.
104 - باب
التطوع خلف المرأة
513 -
حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن
عبيد الله، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني، فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما.
قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح.
دل هذا الحديث على أن من صلى إلى امرأة بين يديه، وليست معه في صلاة واحدة فإن صلاته صحيحة، وقد نص على ذلك سفيان وأحمد وإسحاق، ولا نعلم فيه خلافا.
وإنما اختلفوا: إذا كانا في صلاة واحدة، وليس بينهما سترة.
وقد سبق ذكر ذلك في ((باب: إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد)) .
ولكن يجيء على قول من يقول: إن مرور المرأة يبطل الصلاة، وإن قيامها وجلوسها واضطجاعها كمرورها، أنه تبطل الصلاة باستقبالها.
وقد حكي رواية عن أحمد، ونص أحمد على أن المرأة إذا كانت بين يدي المصلي، وهي في غير صلاة فلا بأس به، واحتج بحديث عائشة -: نقله عنه حرب.
وكره الشافعي أن يستتر الرجل بالمرأة في صلاته؛ لما يخشى من فتنتها للمصلي، وشغلها لقلبه.
وهذا إذا كان بحيث ينظر إليها، فأما إن كان ذلك في ظلمة الليل، كما في حديث عائشة، فقد أمن من ذلك.
ولم يفرق الشافعي وأحمد بين النفل والفرض.
وظاهر تبويب البخاري يدل على التفريق بينهما، وأن الرخصة في النفل خاصة.
وقد نص أحمد على مثل ذلك في رواية أخرى عنه، وأن الرخصة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة كان مخصوصا به؛ لأنه كان يملك نفسه، وغيره يخشى عليه الفتنة، وهذه دعوى لا دليل عليها.
105 - باب
من قال: لا يقطع الصلاة شيء
514 -
حدثنا عمر بن حفص بن غياث: ثنا أبي: ثنا الأعمش: ثنا إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة.
قال الأعمش: وحدثني مسلم، عن مسروق عن عائشة، ذكر عندها ما يقطع الصلاة: الكلب والحمار والمرأة، فقالت: شبهتمونا بالحمير والكلاب، والله لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا على السرير، بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس فأوذي النبي صلى الله عليه وسلم، فانسل من عند رجليه.
515 -
حدثنا إسحاق بن إبراهيم: ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد: ابنا ابن أخي ابن شهاب، أنه سأل عمه عن الصلاة يقطعها شيء؟ قال: لا يقطعها شيء.
قال: وأخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم فيصلي من الليل، وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله.
في الرواية الأولى: أن عائشة استدلت بحديثها هذا على أن المرأة لا تقطع
الصلاة، وأنكرت التسوية بين المرأة والحمار والكلب، وهذا يشعر بموافقتها على الحمار والكلب، وسيأتي كلامها صريحا في ذلك فيما بعد - إن شاء الله تعالى.
وفي الرواية الثانية: أن الزهري استدل بحديث عائشة على أن الصلاة لا يقطعها شئ؛ لما فيه من الدلالة على أن المرأة لا
تقطع صلاة الرجل إذا كانت بين يديه.
وقد اختلف العلماء في هذا:
فقالت طائفة - كما قاله الزُّهْرِيّ -: لا يقطع الصلاة شئ.
وروي ذلك عن عثمان وعلي وحذيفة وأبي سعيد وابن عمر وابن عباس، على اختلاف عن بعضهم.
وروي عن أبي بكر وعمر من وجه لا يصح، وسيأتي ذكره ـ أن شاء الله.
وممن قال ذلك بعد الصحابة: سعيد بن المسيب وعبيدة السلماني والشعبي والقاسم بن محمد وعروة والزهري، وهو قول الثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأبي ثور وغيرهم.
وروى شعبة، عن عبيد الله بن عمر، عن سالم ونافع، عن ابن عمر، قال: كان يقال: لا يقطع صلاة المسلم شئ.
ورواه إبراهيم بن يزيد الخوزي، عن سالم، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر قالوا:((لا يقطع صلاة المسلم شئ، وادرأ ما استطعت)) .
خرجه الدارقطني.
والخوزي، ضعيف جدا.
وصحح الدارقطني في كتاب ((العلل)) وقفة، وأنكر رفعه.
وخرج أبو داود من رواية أبي أسامة، عن مجالد، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ((لا يقطع الصلاة شئ، وادرءوا ما استطعتم)) .
وخرجه –أيضا - من رواية عبد الواحد بن زياد، عن مجالد، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد، قال: إن الصلاة لا يقطعها شئ، ولكن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ادرءوا ما استطعتم)) .
فجعل أوله موقوفا.
ومجالد، فيه ضعف مشهور.
وقال أحمد: كم من أعجوبة لمجالد.
وروى إدريس بن يحيى الخولاني، عن بكر بن مضر، عن صخر بن عبد الله بن حرملة، سمع عمر بن عبد العزيز يقول: عن أنس بن مالك، أن رسول ألله صلى الله عليه وسلم صلى بالناس، فمر بين أيديهم حمار، فقال عياش بن أبي ربيعة: سبحان الله، سبحان الله، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من المسبح آنفا: سبحان الله وبحمده؟)) قال: أنا يا رسول الله؛ إني سمعت أن الحمار يقطع الصلاة. قال: ((لا يقطع الصلاة شئ)) .
خرجه الدارقطني.
وقال في كتاب ((العلل)) : خالف إدريس في رواية هذا الحديث الوليد
بن مسلم، فرواه عن بكر بن مضر، عن صخر، عن عمر بن عبد العزيز، عن عياش بن أبي ربيعة. وغيرهما يرويه عن بكر بن مضر، عن صخر، عن عمر ابن عبد العزيز - مرسلا. والمرسل أصح.
وقد روي هذا المتن من حديث علي وأبي هريرة وعائشة وأبي أمامه، ولا يثبت منها شئ.
قال العقيلي: الرواية في هذا الباب فيها لين وضعف.
وقالت طائفة: يقطع الصلاة مرور بعض الحيوانات.
ثم اختلفوا:
فمنهم من قال: يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة، روي ذلك عن ابن عباس وأنس وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة
ومكحول والحسن وأبي الإحوص.
ومنهم من قال: يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض والحمار والكافر، رواه جابر بن زيد، عن ابن عباس.
وروي عن الحكم الغفاري، أنه أعاد الصلاة من مرور حمار بين يديه.
وروي عن عكرمة، قال: يقطع الصلاة الكلب والمرأة والخنزير والحمار والكافر.
وعن عطاء، قال: يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب الأسود.
واختاره أبو بكر ابن خزيمة، وزاد عليهما: الحمار.
والمشهور: عن عطاء، أنه يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود.
وهو قول ابن جريج وأحمد في رواية عنه.
وروت صفية بنت شيبة، عن عائشة، قالت: إنما يقطع الصلاة الكلب والحمار والسنور.
وفي رواية أخرى عن عائشة، أنها قالت: والسنور الأسود.
وحكي رواية عن أحمد في السنور الأسود.
وقالت طائفة: لا يقطع الصلاة سوى الكلب، وروي ذلك عن ابن عمر.
وروي عنه أنه أعاد صلاته من مرور كلب أصفر بين يديه، رواه مطر الوراق، عن نَافِع، عَنْهُ.
وروى بكر المزني، أن ابن عمر أعاد ركعة
من جرو مر بين يديه.
وهذا يدل على أنه تختص الإعادة بالركعة التي مر فيها الكلب.
وروى ليث، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: ادرءوا عن صلاتكم ما استطعتم، وأشد ما يتقى عليها مرابض الكلاب.
وقال ابن طاوس: كان أبي يشدد في الكلاب.
ومن هؤلاء من خص القطع بالكلب الأسود دون غيره من سائر الألوان.
وروى شعبة، عن الحكم، عن خيثمة، عن الأسود، عن عائشة، قالت: لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود.
وقال أبو نعيم: ثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الكلب الأسود البهيم شيطان، وهو يقطع الصلاة.
حدثنا ابن عيينة، عن ليث، عن مجاهد، عن معاذ ـ مثله.
وهو المشهور عن أحمد، وقول إسحاق وأبي خيثمة زهير بن حرب وسليمان ابن داود الهاشمي والجوزجاني وغيرهم من فقهاء أهل الحديث.
واستدل من قال: تقطع الصلاة بشئ من ذلك بأحاديث رويت عن
النبي صلى الله عليه وسلم، وليس شئ منها على شرط البخاري، ولا مما يحتج به.
وقد خرج مسلم منها حديثين: حديث: أبي ذر، وحديث أبي هريرة.
فحديث أبي ذر: خرجه من طريق حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود. قلت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ فقال: يا ابن أخي، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني، فقال: ((الكلب الأسود شيطان)) .
وحديث أبي هريرة خرجه من طريق عبيد الله بن عبد الله بن الأصم: ثنا يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل)) .
فأما حَدِيْث أبي ذر، فَقَدْ قَالَ الإمام أحمد –فِي رِوَايَة المروذي -: إليه أذهب، وَهُوَ صحيح الإسناد، وَقَالَ - في رواية علي بن سَعِيد -: هو حديث ثبت، يرويه شعبة وسليمان بن المغيرة - يعني: عن حميد بن هلال -، ثم قال: ما في نفسي من هذا الحديث شيء.
وقال الترمذي: حديث أبي ذر حسن صحيح.
وقال البيهقي في ((كتاب
المعرفة)) : هذا الحديث صحيح إسناده، ونحن نحتج بأمثاله في الفقهيات، وإن كان البخاري لا يحتج به.
وقوله: ((إن البخاري لا يحتج به)) ، يشير إلى أنه لا يحتج بحديث عبد الله ابن الصامت بن أخي أبي ذر، ولم يخرج له في ((كتابه)) شيئا.
وقال الشافعي في كتاب ((مختلف الحَدِيْث)) - في الحديث الذي فيه المرأة والحمار والكلب -: أنه عندنا غير محفوظ.
ورده لمخالفته لحديث عائشة وغيره، ولمخالفته لظاهر قول الله عز وجل:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] .
وفي مسائل الحسن بن ثواب عن الإمام أحمد: قيل له: ما ترى في الحمار والكلب والمرأة؟ قال: الكلب الأسود يقطع؛ أنه شيطان. قيل له حديث أبي ذر؟ قال: هاتوا غير حديث أبي ذر، ليس يصح إسناده، ثم ذكر حديث الفضل بن عباس، أنه مر على بعض الصف وهو على حمار. قيل له: إنه كان بين يديه عنزة؟ قَالَ: هَذَا الحَدِيْث فِي
فضاء.
وأما حَدِيْث أبي هُرَيْرَةَ، فَلَمْ يخرج البخاري ليزيد بْن الأصم، ولا بني أخيه:
عبد الله بن عبد الله أبي العنبس، وأخيه عبيد الله شيئا.
وهذا الحديث من رواية عبيد الله كما وجد في بعض النسخ، وقيل: إن الصواب: أنه من رواية عبد الله.
وقد روى حديث أبي هريرة من وجه آخر: من رواية هشام الدستوائي، عن قتادة عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
((يقطع الصلاة المرأة والكلب والحمار)) .
خرجه الإمام أحمد وابن ماجه.
وفي إسناده اختلاف على هشام في رفعه ووقفه، وفي ذكر: ((سعد بن
هشام)) في إسناده وإسقاطه منه، والصحيح: ذكره -: قاله الدارقطني.
ورواه ابن أبي عروبة وغير واحد، عن قتادة، فوقفوه، وذكروا في إسناده:
((هشاما)) .
ولعل وقفه أشبه.
وقد روي عن أبي هريرة مرفوعا من وجه أخر لا يصح.
وروى يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة؛ قال: سمعت جابر بن
زيد يحدث، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب)) .
خرجه أبو داود، وابن ماجه وابن خزيمة في ((صحيحة)) ، وعند هما:((الكلب الأسود)) .
قال أبو داود: وقفه سعيد وهشام وهمام، عن قتادة، عن ابن عباس. انتهى.
وكذا وقفه غندر، عن شعبة. ورفعه سفيان بن حبيب، عن شعبة.
وذكر الحافظ أبو نعيم بإسناده، عن يحيى بن سعيد، قال: لم يرفعه عن قتادة غير شعبة. قال يحيى: وأنا أفرقه.
وحكى غيره عن يحيى، أنه قال: أخاف أن يكون وهم - يعني: شعبة.
وقال الإمام أحمد: ثنا يحيى، قال شعبة رفعه. قال: وهشام لم يرفعه.
قال أحمد: كان هشام حافظا.
وهذا ترجيح من أحمد لوقفه، وقد تبين أن شعبة اختلف عليه في وقفه ورفعه.
ورجح أبو حاتم الرازي رفعه.
وخرج أبو داود، عن محمد بن إسماعيل البصري - هو: ابن أبي
سمينة -، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن يحيى - هو: ابن أبي كثير -، عن عكرمة، عن ابن عباس - قال: أحسبه عَن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا صلى أحدكم إلى غير سترة فإنه يقطع صلاته الحمار والخنزير واليهودي والمجوسي والمرأة، ويجزئ عنه إذا مروا بين يديه على قذفه بحجر)) .
وقال أبو داود: لم أر أحدا يحدث به عن هشام، واحسب الوهم فيه من ابن أبي سمينة؛ لأنه يحدثنا من حفظه. انتهى.
وهو مشكوك في رفعه.
وقد خرجه ابن عدي من طريقين، عن معاذ، وقال: هذا عن يحيى غير محفوظ بهذا المتن.
وقد تبين بذلك أن ابن أبي سمينة لم ينفرد به كما ظنه أبو داود، ولكنه منكر كما قاله ابن عدي.
وخرجه ابن أبي شيبة عن أبي داود، عن هشام، عن يحيى، عن عكرمة - من قوله.
ورواه عبيس بن ميمون، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو زرعة الرازي، هو حديث منكر، وعبيس شيخ ضعيف الحديث.
وقال الأثرم: هذا إسناد واه.
وروى سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب)) .
خرجه الإمام أحمد وابن ماجه وابن حبان في ((صحيحة)) .
وقد اختلف فيه على قتادة، وعلى الحسن:
فقيل: عن قتادة، كما ترى في الإسناد، وهو الصحيح عند الدارقطني وغيره.
وقيل عن سعيد، عن قتادة، عن أنس.
وقيل عنه، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس - من قوله كما سبق.
وقال هشام: عن قتادة، عن زرارة، عن سعد، عن أبي هريرة كما سبق.
واختلف فيه عن الحسن:
فقيل: عنه كما ترى.
وقال حوشب: عن الحسن، عن الحكم بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر هذا الاختلاف الدارقطني، وقال: الصحيح من ذلك: قتادة، عن الحسن، عن ابن مغفل.
وروى يحيى بن أبي كثير، عن شعبة: عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((يقطع الصلاة الكلب والمرأة والحمار)) .
خرجه البزار.
وكذا رواه أبو زيد الهروي سعد بن
الربيع، عن شعبة - مرفوعا.
ورواه غندر وأبو الوليد ومحمد بن كثير، عن شعبة، عن عبيد الله، عن أنس موقوفا.
قال الدارقطني: والموقوف اصح.
وخرج الإمام أحمد ثنا أبو المغيرة: ثنا صفوان: ثنا راشد بن سعد، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يقطع صلاة المسلم شيء، إلا الحمار والكافر والكلب والمرأة)) . قالت عائشة: يا رسول الله، لقد قرنا بدواب سوء.
هذا منقطع؛ راشد لَمْ يسمع من عَائِشَة بغير شك.
ووهم فِي ذَلِكَ، وإنما الصحيح: ما رواه أصحاب عائشة الحفاظ، عنها، أنه ذكر عندها ذلك، فقالت: لقد قرنتمونا بقرناء سوء، ونحو هذا المعنى.
وقد ذكر الميموني أن أحمد ذكر له أن ألحوضي روى من طريق الأسود، عن عائشة - مرفوعا -:((يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود)) . . فقال أحمد: غلط الشيخ عندنا؛ هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: عدلتمونا بالكلب والحمار؟ ! .
يعني: لو كان هذا عندها عن النبي صلى الله عليه وسلم -
لما قالت ما قالت.
وخرج أبو داود من رواية سعيد بن عبد العزيز، عن مولى ليزيد بن نمران، عن يزيد بن نمران، قال، رأيت رجلا بتبوك مقعدا، فقال: مررت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا على حمار وهو يصلي، فقال:((اللهم اقطع أثره)) ، فما مشيت عليها بعد.
وفي رواية له: فقال: ((قطع صلاتنا قطع الله أثره)) .
وفي إسناد جهالة.
فالقائلون: بأن الصلاة يقطعها الكلب والحمار والمرأة تعقلوا بظواهر هذه الأحاديث.
وأما من قال: لا يقطع الصلاة غير الكلب الأسود، كما قاله أحمد في ظاهر مذهبه، وإسحاق، فقالوا: المرأة والحمار قد تعارضت فيهما الأحاديث، فحديث عائشة دل على عدم قطع الصلاة بالمرأة، وحديث ابن عباس دل على أن الحمار لا يقطع الصلاة، وبقي الكلب الأسود لا معارض له فيؤخذ به.
وهذا هو جادة مذهب أحمد وأصحابه، وما قالوه في ذلك.
ولهم في ذلك مسلكان آخران:
أحدهما: أن حديث عائشة لا يعارض حديث أبي ذر؛ فإن حديث
عائشة في وقوف المرأة بين يدي المصلي، وانه لا يبطل صلاته، وحديث أبي ذر في مرور المرأة، وأنه مبطل للصلاة، فيعمل بكلا الحديثين، فتبطل الصلاة بمرور هذه الثلاثة دون وقوفها في قبلة المصلي، وهو رواية عن أحمد.
وهذا يتوجه على إحدى الروايتين عن أحمد في إبطال الصلاة بمرور الثلاثة المذكورة في حديث أبي ذر، وقد رجحها بعض أصحابنا المتأخرين.
وقد تقدم قول عائشة: ((فأكره أن أسنحه)) - أي: أعترض بين يديه مارة، فدل على أن مرورها بين يديه مما يكره ويتقى، بخلاف نومها معترضة.
وروى الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر: ثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كنت أكون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فإذا أردت أن أقوم كرهت أن أمر بين يديه، فأنسل انسلالا.
ويدل على أنه يفرق بين المرور والوقوف: أن المصلي مأمور بدفع المار ولو كان حيوانا، وقد وردت السنة بالصلاة إلى الحيوان البارك والمرأة النائمة، فدل على الفرق بين الأمرين.
وقد استدل الإمام أحمد بهذا على التفريق بين المرور والوقوف.
والثاني: أن يحمل حديث عائشة على صلاة النفل،
فلا تقطعها المرأة، وحديث أبي ذر على الفريضة.
وهذا مسلك آخر لأصحابنا، وقد حكوا رواية عن أحمد بالفرق بين الفريضة والنافلة في قطع الصلاة بمرور هذه الثلاثة.
ومما استدل به أحمد على الفرق بين الفريضة والنافلة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أو يوتر أيقظ عائشة، ولم يوتر وهي معترضة بين يديه.
وفي رواية خرجها أبو داود من حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يوتر قال لها:((تنحي)) .
وبهذه الرواية احتج أحمد في هذه المسألة.
وخرج الجوزجاني من رواية موسى بن أيوب الغافقي، أن عمه إياس بن عامر حدثه، أنه سمع علي بن أبي طالب يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يوتر أمرها - يعني: عائشة - أن تتنحى عنه، وقال: إنها صلاة ازددتموها.
فإذا فرق بين النفل المطلق والوتر في الصلاة إلى المرأة، فالفريضة أولى.
وقد سلك بعضهم مسلكا آخر، وهو نسخ القطع بالمرأة والحمار بحديث عائشة وابن عباس؛ لأن حَدِيْث ابن عَبَّاس كَانَ فِي حجة الوداع فِي آخر عُمَر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وحديث عَائِشَة يدل بظاهره عَلَى استمرار النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا أخبرت بِهِ عَنْهُ إلى آخر
عمره، ولو كان قد
ترك ذلك في آخر عمره لما خفي عليها، وبقي الكلب الأسود لا ناسخ له.
وهذا المسلك فيه نظر، وقد أنكره الإمام أحمد في رواية حرب، وأنكره - أيضا - الشافعي في ((كتاب مختلف الحديث)) .
وعلى هذا المسلك يتوجه القول بإبطال الصلاة بالكلب الأسود خاصة.
وأحمد كان شديد الورع في دعوى النسخ، فلا يطلقه إلا عن يقين وتحقيق؛ فلذلك عدل عن دعوى النسخ هنا إلى دعوى تعارض الأخبار، والأخذ بأصحها إسنادا، فأخذ بحديث عائشة في المرأة، وحديث ابن عباس في الحمار، فبقي الكلب الأسود من غير معارض.
وهذا إنما يتوجه على القول بالفرق بين الوقوف والمرور، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد.
فأما على الرواية الثانية عنه بالتسوية بينهما، فلا تعارض بين حديث عائشة وحديث أبي ذر في المرأة، وإنما التعارض بين حديث ابن عباس في مرور الحمار وبين حديث أبي ذر، فمقتضى ذلك حينئذ أن تبطل الصلاة بمرور الكلب والمرأة دون الحمار، ولا يعرف هذا عن أحمد.
وعلى رواية التفريق بين الفرض والنفل، فلا تعارض بين حديث عائشة
وأبي ذر في حق المرأة، وإن قلنا: إن الوقوف كالمرور، وأما أن فرقنا بينهما انتفى التعارض حينئذ من وجهين، وتبقى المعارضة بين حديث أبي ذر وحديث ابن عباس في مرور الحمار، فإن حديث ابن عباس في الفرض وحديث أبي ذر عام في الفرض والنفل، فيخرج من هذا أن يقال: حديث أبي ذر عام في الفرض والنفل في مرور الثلاثة، خص من عمومه النفل بمرور المرأة إن سوينا بينه وبين الوقوف، وإن فرقنا بينهما فالوقوف غير داخل في لفظ حديث أبي ذر ولا في معناه.
فأما الحمار فقد عارضه حديث ابن عباس، وهو في الفرض، وهو أصح من حديث أبي ذر، ولكن يلزم من العمل بحديث ابن عباس وترك حديث أبي ذر في الفرض إبطال حكم مرور الحمار جملة، وذلك نسخ.
ويخص - أيضا - من عموم حديث أبي ذر في الكلب النفل بالقياس على المرأة، فيقتضي هذا التقرير أن يقال: إن مرور الكلب والمرأة يبطل الصلاة المفروضة دون النافلة، ومرور الحمار لا يبطل شيئا.
وهذا - أيضا - قول غريب لا يعرف عن أحمد ولا غيره.
وإنما حكى القاضي أبو يعلى رواية عن أحمد أن هذه الثلاثة يبطل مرورها الفرض دون النفل.
وأخذه مما رواه بكر بن محمد وغيره، عن أحمد: يقطع الصلاة الكلب والمرأة والحمار، فذكر حديث عائشة،
فقال: هو عندي في المار بين يدي المصلي، فإذا كانت بين يديه كان أسهل، وهذا في التطوع، فأما الفرض فهو آكد، أليس النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد أن يوتر قال:((تنحي)) ؟
قال: هذا إنما يدل على تفريق أحمد بين الفرض والتطوع في استقبال المرأة في الصلاة دون مرورها، أما في المرور فلم يفرق، وإنما فرق في الصلاة إلى المرأة النائمة ونحوها بين الفرض والنفل، فجوزه في النفل وكرهه في الفرض، وفرق بين المرور والوقوف في إبطال الصلاة بالمرور دون الوقوف، فما يبطل الصلاة - وهو المرور - لم يفرق فيه بين فرض ونفل، إنما فرق بينهما فيما يكره في الصلاة، وهو الصلاة إلى المرأة، فكرهه في الفرض دون النفل، هذا هو الذي دل عليه كلام أحمد هذا. والله اعلم.
وظاهر قول عائشة رضي الله عنها: ((عدلتمونا بالحمر والكلاب)) ، واستدلالها بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم إليها: يدل على أنها رأت المرور والوقوف سواء، وإلا فلو كان الحكم عندها مختصا بالمرور لم يكن لها في حديثها دليل.
ومتى قيل: إن حديث ابن عباس في مروره بالحمار بين يدي بعض الصف لم يكن مرورا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانت سترته محفوظة، فلا
دليل في حديثه هذا على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة، وإن انضم إلى ذلك التفريق بين مرور المرأة ووقوفها وجلوسها ونومها لم يبق في حديثها دليل على أن المرأة لا يقطع مرورها، فيسلم حينئذ حديث أبي ذر وما أشبهه من معارض في الكلب والمرأة والحمار.
وأما جمهور أهل العلم الذين لم يروا قطع الصلاة وبطلانها بمرور شيء بين يدي المصلي، فاختلفت مسألكهم في هذه الأحاديث المروية في قطع الصلاة:
فمنهم: من تكلم فيها من جهة أسانيدها، وهذه تشبه طريقة البخاري؛ فإنه لم يخرج منها شيئا، وليس شيء منها على شرطه كما سبق بيانه.
ومنهم: من ادعى نسخها بحديث مرور الحمار وهو في حجة الوداع، وهي في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا نسخ منها شيء دل على نسخ الباقي، وسلك هذا الطحاوي وغيره من الفقهاء.
وفيه ضعف، وقد أنكر الشافعي وأحمد دعوى النسخ في شيء من هذه الأحاديث؛ لعدم العلم بالتاريخ.
ومنهم من قال: حديث أبي ذر ونحوه قد عارضه ما هو أصح منه إسنادا، كحديث ابن عباس وعائشة، وقد أعضدهما أحاديث أخر تشهد لهما:
فروى شعبة، أن الحكم أخبره، قال: سمعت يحيى - هو: ابن
الجزار - يحدث، عن صهيب، قال: سمعت ابن عباس يحدث، أنه مر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وغلام من بني هاشم على حمار بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فنزلوا ودخلوا معه، فصلوا فلم ينصرف، فجاءت جاريتان تسعيان من بني عبد المطلب، فأخذنا بركبتيه، ففرع بينهما ولم ينصرف.
خرجه الإمام أحمد والنسائي، وهذا لفظه، وقد سبق ذكر إسناده.
وخرج النسائي - أيضا - من رواية ابن جريج: أخبرني محمد بن عمر بن علي، عن عباس بن عبيد الله بن عباس، عن الفضل بن عباس بن عبد المطلب، قال: زار رسول الله صلى الله عليه وسلم عباسا في بادية لنا، ولنا كليبة وحمارة ترعى، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر وهما بين يديه، فلم يزجرا ولم يؤخرا.
وخرجه الإمام أحمد وأبو داود، ولفظه: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في بادية لنا، ومعه عباس، فصلى في صحراء، ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا وكليبة تعبثان - أو تعيثان - بين يديه، فما بالى ذاك.
ومحمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، وثقه الدارقطني وغيره.
وعباس بن عبيد الله بن عباس، روى عنه أيوب السختياني مع جلالته، انتقاده للرجال، حتى قال أحمد: لا تسأل عمن روى عنه أيوب. وذكره ابن حبان في ((الثقات)) .
وقد اختلف قول أحمد في هذا: فمرة، قال: حديث أبي ذر يخالفه، ولم يعتد به -: نقله عنه علي بن سعيد. ومرة، عارض به حديث أبي ذر، وقدمه عليه -: نقله عنه الحسن بن ثواب.
لكن ليس في هذا الحديث أن الكلب كان أسود؛ فلذلك لم يرد به حديث أبي ذر في الكلب الأسود، ولم يجعله معارضا له.
وروى أسامة بن زيد، عن محمد بن قيس - قاص عمر بن عبد العزيز -، عن أبيه، عن أم سلمة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في حجرة أم سلمة، فمر بين يديه عبد الله - أو عمر بن أبي سلمة -، فقال بيده فرجع، فمرت زينب بنت أم سلمة، فقال بيده هكذا، فمضت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((هن أغلب)) .
خرجه ابن ماجه.
وقد يفرق من يقول ببطلان الصلاة بمرور المرأة بين الجارية التي لم تبلغ وبين
البالغ، ويقول: إذا أطلقت المرأة لم يرد بها إلا البالغ، وزينب حينئذ كانت صغيرة، والصغيرة لا تسمى امرأة في الحال؛ ولهذا قَالَتْ
عَائِشَة: إذا بلغت الجارية تسع سنين فَهِيَّ امرأة.
وفي دخول الصغيرة في مسمى النساء خلاف ذكره الماوردي وغيره من
المفسرين، فكذا ينبغي أن يكون في دخولها في مسمى المرأة.
وقد سلك الشافعي في ((كتاب مختلف الحديث)) هذا المسلك في ترجيح أحاديث الرخصة على أحاديث قطع الصلاة، وعضدها بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ} [الأنعام:164] .
وسلك آخرون مسلكا آخر، وهو: أن الأحاديث إذا تعارضت نظر إلى ما عمل به الصحابة فيرجح، وقد عمل الصحابة بأن الصلاة لا يقطعها شيء، وقد روي ذلك عن الخلفاء الراشدين الأربعة وغيرهم.
وقد سلك هذا أبو داود في ((سننه)) ، وهو من أجل أصحاب الإمام أحمد.
وسلك آخرون مسلكا آخر، وهو: تأويل القطع المذكور في هذه الأحاديث، وانه ليس المراد به إبطال الصلاة وإلزام إعادتها، وإنما المراد به القطع عن إكمالها والخشوع فيها بالاشتغال بها، والالتفات إليها، وهذا هو الذي قاله الشافعي في رواية حرملة، ورجح هذا الخطابي والبيهقي وغيروهما من العلماء.
وقد تعرض عليه بأن المصلي قد يكون أعمى، وقد يكون ذلك ليلا
بحيث لا يشعر به المار ولا من مر عليه، والحديث يعم هذه الأحوال كلها،
وأيضا؛ فقد يكون غير هذه الثلاثة أكثر إشغالا للمصلي كالفيل والزرافة والوحوش والخيل المسومة، ولا يقطع الصلاة مرور شيء من ذلك.
وأقرب من هذا التأويل: أن يقال: لما كان المصلي مشتغلا بمناجاة الله، وهو في غاية القرب منه والخلوة به، أمر المصلي بالاحتراز من دخول الشيطان في هذه الخلوة الخاصة، والقرب الخاص؛ ولذلك شرعت السترة في الصلاة خشية من دخول الشيطان، وكونه وليجة في هذه الحال فيقطع بذلك مواد الأنس والقرب؛ فإن الشيطان رجيم مطرود مبعد عن الحضرة الإلهية، فإذا تخلل في محل القرب الخاص للمصلي أوجب تخلله بعدا وقطعا لمواد الرحمة والقرب والأنس.
فلهذا المعنى - والله اعلم - خصت هذه الثلاث بالاحتراز منها، وهي: المرأة؛ فإن النساء حبائل الشيطان، وإذا خرجت المرأة من بيتها استشرفها الشيطان، وإنما توصل الشيطان إلى إبعاد آدم من دار القرب بالنساء. والكلب الأسود: شيطان، كما نص عليه الحديث. وكذلك الحمار؛ ولهذا يستعاذ بالله عند سماع صوته بالليل، لأنه يرى الشيطان؛ فلهذا أمر صلى الله عليه وسلم بالدنو من السترة خشية أن يقطع الشيطان عليه صلاته، وليس ذلك موجبا لإبطال الصلاة وإعادتها. والله أعلم.
وإنما هو منقص لها، كما نص عليه الصحابة، كعمر وابن مسعود، كما سبق
ذكره في مرور الرجل بين يدي المصلي، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفعه وبمقاتلته، وقال:((إنما هو شيطان)) .
وفي رواية: ((أن معه القرين)) .
لكن النقص الداخل بمرور هذه الحيوانات التي هي بالشيطان أخص أكثر وأكثر، فهذا هو المراد بالقطع، دون الإبطال والإلزام بالإعادة. والله اعلم.
وقد ذكرنا فيما سبق حديث أبي داود في مرور الغلام بتبوك بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قال:((قطع علينا صلاتنا)) ، ودعا عليه، فهذا قطع لا يقتضي البطلان.
ويدل على ذلك - أيضا -: أن ابن عباس قد قال: يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب الأسود والحمار، كما سبق عنه.
وروي عنه إنكار بطلان الصلاة بذلك:
فروى الحسن العرني، قال: ذكر عند ابن عباس: يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة. قال: بئسما عدلتم بامرأة مسلمة كلبا وحمارا، لقد رأيتني أقبلت على حمار ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، حتى إذا كنت قريبا منه نزلت عنه، وخليت عنه، ودخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته، فما أعاد صلاته ولا نهاني عما صنعت، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، فجاءت وليدة تخلل الصفوف، حتى عاذت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، ولا نهاها عما صنعت، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في مسجد، فخرج جدي من بعض حجراته، فذهب يجتاز بين يديه، فمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس: أفلا
تقولون: الجدي يقطع الصلاة؟
خرجه الإمام أحمد.
ومراد ابن عباس، أنه ليس كل ما أمر بدفعه ومنعه من المرور تبطل الصلاة بمروره، ولا يقطعها بمعنى أنه يبطلها، وإن كان قد يسمى قطعا باعتبار أنه ينقصها.
وروى سفيان، عن سماك، عن عكرمة، قال: قيل لابن عباس: أيقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب؟ فقال: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، فما يقطع هذا، ولكن يكره.
خرجه البيهقي.
وقد أشار طائفة من السلف إلى أن الشيطان لا سبيل له إلى قطع قرب المصلي، ولا أن يحول بين المصلي وبين تقريب الله له، واختصاصه بما اختصه به.
قال ابن أبي شيبة: ثنا ابن نمير: ثنا حنظلة، عن القاسم، قال: لا يقطع الصلاة شيء، الله أقرب من كل شيء.
وقال الحكيم الترمذي في ((تفسيره)) : ثنا مؤمل بن هشام اليشكري: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن ابن عون، عن القاسم بن محمد، قال: لا يقطع الصلاة شيء؛ فإن الله دون كل شيء إلى العبد.
قال الحكيم: يعني: أدنى إليه من كل شيء، كما
قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] .
وحينئذ فيتوجه أن يقال: أن المصلي وجد منه تفريط في حصول مرور الشيطان بين يديه، إما بصلاته في موضع تجتاز فيه المرأة والحمار والكلب من غير سترة، أو مر ذلك وفرط في دفعه ورده، فإنه ينقص أجر صلاته.
وربما يقال: أنه يستحب له إعادتها، كما أعاد ابن عمر صلاته من مرور جرو الكلب.
وكذلك الحكم الغفاري، أعاد من مرور حمار.
وإما إن لَمْ يحصل منه تفريط في ذلك بالكلية، فإنه لا ينقص صلاته، كمن صلى ومر بين يديه رجل فدفعه ولم يندفع، فإنه لا تبطل صلاته، بل ولا تنقص مع إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن المار بين يديه شيطان.
وهو بمنزلة من صلى وهو يدافع وساوس الشيطان، فإنه لا يضره ذلك، ولا يكون به محدثا لنفسه في صلاته، وإنما يكون محدثا لنفسه إذا استرسل مع وساوسه وخواطره.
وقد ألحق طائفة من أصحابنا بمرور الكلب والمرأة والحمار: مرور الشيطان حقيقة، وقالوا: إن حكم مروره حكم مرور الكلب.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أن الشيطان تفلت علي البارحة؛ ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه)) .
وقد خرجه البخاري فيما سبق في ((باب: ربط الأسير ونحوه في المسجد)) .
والظاهر: أنه صلى الله عليه وسلم أراد بقطع صلاته ما ذكرناه.
وقد خرج البخاري حديث عائشة، قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: ((هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)) .
وفي حديث أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((لا يزال الله مقبلا على العبد وهو مقبل عليه في صلاته، ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة في ((صحيحة)) .
وفي حديث الحارث الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات، أن يعمل بهن، وان يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن)) - فذكر الحديث - وفيه: ((وآمركم بالصلاة؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا)) .
خرجه الإمام أحمد والترمذي وصححه.
والالتفات - أيضا - مما يسرقه الشيطان من صلاة العبد، فتنقص به صلاته.
وقد روي: ((لا صلاة لملتفت)) ، وإنما أريد نفي كمالها وتمامها؛
فإنه يوجب إعراض الله من عبده في تلك الحال.
وكذلك تنخم المصلي أمامه في صلاته يوجب إعراض الله عن عبده المصلي له في حال تقريبه له وخلوته بمناجاته.
فالشيطان يحمل المصلي على هذا كله ليقطع عليه صلاته، بمعنى: أنه ينقص عليه كمالها وفوائدها وثمراتها من خشوعها وحضورها، وما يتنعم به المصلي وتقر به عينه من ذكر الله فيها، ومناجاته بتلاوة كتابه.
وكذلك ما يقذفه الشيطان في قلب المصلي من الوساوس ويذكره به حتى ينسيه كم صلى وقد أمر المصلي حينئذ بان يسجد سجدتين، فتكونا ترغيمتين للشيطان، ولا تبطل الصلاة، ولا تجب إعادتها بشيء من ذلك كله. والله أعلم.
* * *
106 - باب
إذا حمل جارية صغيرة على عنقه
516 -
حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن أبي قتادة الأنصاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها.
((أمامة)) ، هذه التي حملها النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته هي بنت ابنته زينب، وأبوها: أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، وأم أبي العاص: هالة بنت خويلد، أخت خديجة بنت خويلد.
وفي رواية مالك لهذا الحديث: ((أبو العاص بن ربيعة)) ، وكذا رواه عامة رواه ((الموطإ)) عنه.
والصواب: ابن الربيع.
وقد خرجه مسلم، عن يحيى بن يحيى، عن مالك على الصواب.
وأمامة، تزوجها علي بن أبي طالب بعد موت فاطمة عليها السلام.
وقد خرج مسلم هذا الحديث من طريق مالك.
وخرجه - أيضا - من طريق سفيان بن عيينة، عن عثمان بن أبي سليمان وابن عجلان، سمعا عامر بن عبد الله بن الزبير يحدث، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن أبي قتادة، قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يؤم الناس وأمامة ابنة أبي العاص - وهي بنت زينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها.
ومن طريق ابن وهب: أخبرني مخرمة، عن أبيه، عن عمرو بن سليم الزرقي، قال: سمعت أبا قتادة الأنصاري يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي للناس، وأمامة ابنة أبي العاص على عنقه، فإذا سجد وضعها.
ومن طريق سعيد المقبري، عن عمرو بن سليم، سمع أبا قتادة يقول: بينا نحن في المسجد جلوس، خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه، غير أنه لم يذكر أنه أم الناس في تلك الصلاة.
وخرجه أبو داود من طريق ابن إسحاق، عن المقبري، عن عمرو بن سليم، عن أبي قتادة، قال: بينما نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر، وقد دعاه بلال للصلاة، خرج إلينا وأمامة بنت أبي العاص بنت ابنته على عاتقه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصلاه، فقمنا خلفه، وهي في مكانها الذي هي فيه، قال: فكبر فكبرنا. قال: حتى إذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركع أخذها فوضعها، ثم ركع وسجد حتى إذا فرغ من سجوده وقام أخذها فردها في مكانها، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع بها ذلك في كل ركعة حتى فرغ من صلاته.
وخرج الزبير بن بكار في كتابه ((الجمهرة)) بإسناد له عن عمرو بن سليم
الزرقي، أن الصلاة التي صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحمل أمامة صلاة الصبح.
وهو مرسل، ضعيف الإسناد.
فمجموع هذه الروايات يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم استفتح الصلاة بالناس إماما لهم في صلاة الفريضة، وهو حامل أمامة، وأنه كان إذا ركع وسجد وضعها بالأرض، فإذا قام إلى الركعة الثانية عاد إلى حملها إلى أن فرغ من صلاته.
والحديث نص صريح في جواز مثل هذا العمل في الصلاة المكتوبة، وأن ذلك لا يكره فيها، فضلا عن أن يبطلها.
وقد أخذ بذلك كثير من العلماء أو أكثرهم:
فقال الحسن والنخعي: ترضع المرأة جنينها وهي تصلي.
خرجه الأثرم عنهما بإسناد صحيح.
وروى - أيضا - بإسناد صحيح، عن ابن مسعود، أنه ركع ثم سجد، فسوى الحصى ثم خبطه بيده.
قال الأثرم: وسئل أبو عبد الله - يعني: أحمد - عن الرجل يكبر للصلاة وبين يديه رمح منصوب، فيريد أن يسقط فيأخذه فيركزه مرة أخرى - وقيل له: حكوا عن ابن المبارك أنه أمر رجلا صنع هذا أن يعيد التكبير -؟ فقال: أرجو أن لا يكون به بأس أن لا يعيد التكبير، ثم ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي الفرض بالناس وأمامة على عاتقه.
قال: وسمعت أبا عبد الله سئل: أيأخذ الرجل ولده وهو يصلي؟ قال: نعم.
قال: وأخبرني محمد بن داود
المصيصي، قال: رأيت أبا عبد الله رأى رجلا قد خرج عن الصف، فرده وهو في الصلاة.
قال: وربما رأيته يسوي نعليه برجليه في الصلاة.
وقال الجوزجاني في كتابه ((المترجم)) : حدثني إسماعيل بن سعيد، قال: سألت أحمد بن حنبل عمن حمل صبيا ووضعه في صلاته، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: صلاته جائزة.
قلت له: فمن فعل في صلاته فعلا كفعل أبي برزة حين مشى إلى الدابة، فأخذها حين انفلتت منه، وهو في صلاته؟ فقال: صلاته جائزة.
وبه قال أبو أيوب - يعني: سليمان بن داود الهاشمي - وأبو خيثمة.
وقال ابن أبي شيبة: من فعل ذلك على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم رجونا أن تكون صلاته تامة.
قال: ويجزئ عمن فعل كفعل أبي برزة في صلاته.
قال الجوزجاني: وأقول: إن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم نجاة لا رجاء، وإنما الرجاء في اتباع غيره فيما لم يكن عنه صلى الله عليه وسلم.
ثم خرج حديث أبي قتادة في حمل أمامة بإسناده.
ومراده: الإنكار على ابن أبي شيبة في قوله: ((أرجو)) ، وأن مثل هذا لا ينبغي أن يكون فيه رجاء؛ فإنه اتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك نجاة وفلاح.
وحديث أبي برزة في اتباع فرسه وأخذها في صلاته، قد خرجه
البخاري، وسيأتي في موضعه - إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وحكى ابن المنذر عن الشافعي وأبي ثور جواز حمل الصبي في الصلاة المفروضة.
وإذا عرفت هذا تبين لك ضعف ما قاله ابن عبد البر: أنه لا نعلم خلافا أن هذا العمل في الصلاة مكروه، ولم يحك كراهته عن أحد إلا عن مالك، فإنه قال: ذكر أشهب عن مالك، أن ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة النافلة، وان مثل هذا الفعل غير جائز في الفريضة، وحكى عن بعض أهل العلم أنه لا يحب لأحد فعل ذلك في صلاته، ولا يرى عليه إعادة به.
وقد تبين أن أكثر العلماء أجازوه من غير كراهة، وتخصيصه بالنافلة مرود بالنصوص المصرحة بأنه فعل ذلك في الفريضة، وهو يؤم الناس فيها.
وروى الإسماعيلي في ((صحيحه)) من حديث عبد الله بن يوسف، عن مالك، أنه قال - بعد روايته هذا الحديث -: من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ناسخ ومنسوخ، وليس العمل على هذا.
ومالك إنما يشير إلى عمل من لقيه من فقهاء أهل المدينة خاصة كربيعة ونحوه، وقد عمل به فقهاء أهل العراق كالحسن والنخعي، وفقهاء أهل الحديث،
ويتعذر على من يدعي نسخه الإتيان بنص ناسخ له.
وقد رخص عطاء في ذلك - أيضا -:
قال عبد الرزاق: عن ابن جريج، قلت لعطاء: أمرآة يبكي ابنها وهي في الصلاة أتتوركه: قال: نعم: قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ حسنا في الصلاة فيحمله حتى إذا سجد وضعه. قلت: في المكتوبة؟ قال: لا أدري.
وقال حرب الكرماني: ثنا محمد بن يحيى، ثنا عمر بن علي: ثنا عبد الملك ابن أبي سليمان، عن عطاء في الرجل يصلي ومعه المتاع بين يديه، فيتقدم الصف أو يتأخر فيحني ظهره، فيقدم متاعه أو يؤخره؟ قال: لا بأس به.
قال حرب: قلت لأحمد: الرجل يكون في الصلاة فيسقط رداؤه عن ظهره، أيحمله؟ قال: أرجو أن لا يضيق ذلك. قلت: فيفتح الباب بحيال القبلة؟ قال: في التطوع.
قال حرب: وثنا المسيب بن واضح، قال: سمعت ابن المبارك سئل عن الرجل يكون معه الثوب أو غيره، فيضعه بين يديه في الصلاة، فيتقدم الصفوف، أو يتأخر فيتناول ذلك الشيء، ويتقدم ويتأخر؟ قال: لا بأس بذلك. قيل: وما وقت ما يمشي المصلي في صلاته؟ قال: ما لا يخرج إلى حد المشي.
وقال الخطابي: في هذا الحديث من الفقه أن من صلى وعلى ظهره أو عاتقه كارة أو نحوها لم تبطل صلاته، ما لم يحتج لإمساكه إلى
عمل كثير، أو التزام له ببعض أعضائه.
قال: ويشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعمد لحملها؛ لأن ذلك يشغله عن صلاته وعن الخشوع فيها، وأنها كانت إذا سجد جاءت فتعلقت بأطرافه والتزمته، فينهض من سجوده فيخليها وشأنها، فتبقى محمولة كذلك إلى أن يركع، فيرسلها إلى الأرض، حتى إذا سجد وأراد النهوض عاد إلى مثله.
قلت: هذا تبطله الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه خرج على الناس وهو حاملها، ثم صلى لهم وهو حاملها.
وفي حديث أبي قتادة: دليل على أن حمل الجارية الصغيرة في الصلاة ووضعها ليس بمبطل للصلاة، ولا هو بداخل فيما يبطل الصلاة من مرور المرأة بين يدي المصلي؛ فإن هذا ليس بمرور، وأكثر ما فيه أنه كان يضعها بين يديه، وليس هذا بأكثر من صلاته إلى عائشة وهي معترضة بين يديه، بل هذا أهون؛ لأن ذلك لم يكن يستمر في جميع صلاته. وأيضا؛ فهذه صغيرة لَمْ تكن بلغت حينئذ.
وقد سبق فِي حَدِيْث أن زَيْنَب بِنْت أم سَلَمَة مرت بَيْن يدي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ
يصلي، فلم يقطع صلاته، وكانت زينب حينئذ صغيرة، وأن المرأة إذا أطلقت لم يرد بها إلا المرأة البالغ.
وهذا هو المعنى الذي بوب البخاري عليه هنا،
وخرج الحديث لأجله.
وفيه - أيضا -: دليل على طهارة ثياب الأطفال؛ فإنه لو كان محكوما بنجاستها لم يصل وهو حامل لأمامة.
وقد نص الشافعي وغيره على طهارتها، ومن أصحاب الشافعي من حكى لهم قولين في ذلك.
ومنع ابن أبي موسى من أصحابنا من الصلاة في ثيابهم حتى تغسل؛ لأنهم لا يتنزهون من البول.
وروى أبو النعيم الفضل بن دكين في ((كتاب الصلاة)) : ثنا مندل: ثنا إسماعيل بن مسلم، عن الحارث العكلي، عن إبراهيم النخعي، قال: كانوا يكرهون أن يصلوا في ثياب الصبيان.
إسناد ضعيف.
وقد كره الصلاة في ثيابهم كثير من أصحابنا، وحكي مثله عن الحسن، ورخص فيه آخرون، وهو اختيار بعض أصحابنا، وهذا أصح، وهذا الحديث نص في ذلك. والله سبحانه وتعالى اعلم.
107 - باب
إذا صلى إلى فراش فيه حائض
517 -
حدثنا عمرو بن زرارة: أبنا هشيم، عن الشيباني: عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: أخبرتني خالتي ميمونة بنت الحارث، قالت: كان فراشي حيال مصلى النبي صلى الله عليه وسلم، فربما وقع ثوبه علي وأنا على فراشي.
518 -
حدثنا أبو النعمان: ثنا عبد الواحد بن زياد: أبنا الشيباني: ثنا عبد الله بن شداد، قال: سمعت ميمونة تقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا إلى جنبه نائمة، فإذا سجد أصابني ثوبه، وأنا حائض.
ليس في الرواية الأولى أنها كانت حائضا، وهو في الرواية الثانية.
وقد خرجه البخاري في آخر ((كتاب الحيض)) بلفظ ثالث، وهو: عن
ميمونة: أنها كانت تكون حائضا لا تصلي، وهي مفترشة بحذاء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي على خمرته، إذا سجد أصابني بعض ثوبه.
وخرجه - أيضا - فيما سبق في ((أبواب الصلاة في الثياب)) ، في ((باب: إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد)) ، ولفظه فيه: قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا حذاءه، وأنا حائض، وربما أصابني ثوبه إذا سجد.
وقد تبين بالرواية الثانية التي خرجها البخاري في هذا الباب، أنها كانت نائمة إلى جانبه وهو يصلي، ولم تكن مضطجعة بين يديه.
وقد روي من حديث عائشة، أنها كانت تضطجع أمامه وهي حائض، فيصلي إليها.
خرجه أبو داود من رواية شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن عروة، عن عائشة، قالت: كنت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين القبلة - قال شعبة: وأحسبها قالت -: وأنا حائض.
قال أبو داود: رواه الزهري وعطاء وأبو بكر بن حفص وهشام
بن عروة وأبو مالك وأبو الأسود وتميم بن سلمة، كلهم عن عروة، عن عائشة. لم يذكروا فيه:((وأنا حائض)) . ورواه إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة - وأبو الضحى، عن مسروق، عن عائشة - والقاسم، وأبو سلمة، عن عائشة -، ولم يذكروا: حائض.
وقد روي عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، وأنا إلى جنبه، وأنا حائض.
خرجه مسلم من طريق طلحة بن يحيى، عن عبيد الله بن عبد الله، قال: سمعته عن عائشة.
وقد سبق الكلام على ما يتعلق بحديث ميمونة من طهارة الحائض وثيابها.
والمقصود هنا منه: أن الصلاة إليها لا تبطل الصلاة.
ولكن لم يخرج البخاري لفظا صريحا في الصلاة إلى فراش الحائض، بل في إحدى روايتيه: أنها كانت نائمة إلى جانبه، وفي الثانية أن فراشها كان حيال مصلاه، والمراد: أنه كان محاذيا له ومقابلا، وهذا يصدق بكونه إلى جانبه، عَن يمينه أوشماله، ويشهد لذلك: قولها في تمام الحديث: ((فربما وقع ثوبه علي وأنا على
فراشي)) ، وهذا إنما يكون إذا كانت إلى جانبه، أما لو كانت بين يديه فمن أين كان يقع بعض ثيابه عليها؟
وبكل حال؛ فالصلاة إلى المرأة الحائض كالصلاة إلى الطاهر، إلا عند من يرى أن مرور الحائض يقطع الصلاة دون الطاهر، وأن وقوف المرأة واضطجاعها في قبلة المصلي كمرورها فيها.
وقد سبق ذلك كله، وسبق الكلام - أيضا - على التطوع خلف المرأة في بابه.
ولو كان بين يدي المصلي كافر قاعدا أو مضطجعا، فرخص الحسن في الصلاة إليه، وكرهه الإمام أحمد، وقال: هو نجس، وحكي مثله عن إسحاق.
108 - باب
هل يغمز الرجل امرأته عند السجود لكي يسجد
؟
519 -
حدثنا عمرو بن علي: ثنا يحيى: ثنا عبيد الله: ثنا القاسم، عن عائشة، قالت: بئسما عدلتمونا بالكلب والحمار؛ لقد رأيتني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة، فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي فقبضتهما.
وقد تقدم هذا الحديث في ((باب: التطوع خلف المرأة)) من رواية أبي سلمة، عن عائشة، أنها قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما. قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح.
فدل على أن غمزها عند السجود كان لضيق المكان حيث كانت قدماها في موضع سجوده، فكان يغمزها لتكف قدميها فيسجد في موضعهما، وكان ذلك في سواد الليل وظلمته، فلم يكن يدرك التنبيه منه بإشارة ونحوها، فلذلك احتاج إلى غمزها.
ولم يجئ في حديثها هذا: بأي شيء كان يغمزها.
وقد روي في حديث آخر، أنه كان إذا أراد أن يوتر غمزها برجله.
وفي رواية: مسها برجله. ويأتي في موضعه - أن شاء الله تعالى.
واستدل بالحديث على
أن مس النساء بغير شهوة لا ينقض الطهارة، كما هو قول مالك وأحمد في ظاهر مذهبه. ومن يقول: إن المس لا ينقض بكل حال، كما يقول أبو حنيفة وأحمد في رواية عنه.
109 - باب
المرأة تطرح عن المصلي شيئا من الأذى
520 -
حدثنا أحمد بن إسحاق: ثنا عبيد الله بن موسى: ثنا إسرائيل: عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، وجمع قريش في مجالسهم، إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي، أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا، فضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة - وهي جويرية -، فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قال:((اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش)) ، ثم سمى: ((اللهم
عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة ابن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد)) .
قال عبد الله: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب: قليب بدر.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأتبع أصحاب القليب لعنة)) .
قد سبق هذا الحديث بتمامه في أواخر ((الوضوء)) في ((باب: إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته)) .
وخرجه هناك من طريق شعبة ويوسف بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، ببعض زيادة في متنه ونقص، وفيه:((وعد السابع فلم نحفظه)) .
وفي هذه الرواية: أن السابع عمارة بن الوليد.
والمعروف في السير: أن عمارة بن الوليد مات في جزيرة في أرض الحبشة في يد ابن عمه عبد الله بن أبي ربيعة، وكان النجاشي قد أمر به فنفخ في إحليله سحر، فذهب مع الوحش، ولم يقدر عليه حتى أمسكه عبد الله بن أبي ربيعة، فجعل يقول: أرسلني، فلم يرسله فمات في يده.
وفي هذه الرواية - مع الرواية التي خرجها في الطهارة -: ذكر عقبة بن أبي معيط، وقد روي أن عقبة أسر يوم بدر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قتله
صبرا بين يديه، وصلبه بالصفراء في مرجعهم إلى المدينة.
وخرجه - أيضا - في ((مبعث النبي صلى الله عليه وسلم)) ، من طريق شعبة، عن أبي إسحاق - مختصرا، وفي سياقه: أن عقبة بن أبي معيط هو الذي جاء بسلى الجزور، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم عليك الملأ من قريش: أبا جهل بن هشام، وعقبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف)) - أو ((أبي بن خلف)) ، شعبة الشاك -، فرأيتهم قتلوا يوم بدر، فألقوا في بئر، غير أمية - أو أبي - تقطعت أوصاله، فلم يلق في البئر.
وذكر أبي بن خلف وهم - أيضا -؛ فإن أبي بن خلف إنما قتل يوم أحد، ومات بعد الوقعة، كما روى ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، قال: أسر أبي بن خلف يوم بدر، فلما افتدى من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أن عندي فرسا أعلفها كل يوم من ذرة، لعلي أقتلك عليها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:((بل أنا أقتلك عليها، إن شاء الله)) . فلما كان يوم أحد أقبل أبي ابن خلف تركض فرسه تلك، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعترض رجال من المسلمين له ليقتلوه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:((استأخروا، استاخروا)) ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحربة في يده، فرمى بها أبي بن خلف، فكسرت ضلعا من أضلاعه، فرجع إلى أصحابه ثقيلا، فاحتملوه حتى ولوا به، وطفقوا يقولون له: لا بأس، فقال أبي: ألم يقل لي: ((بل أنا أقتلك، إن شاء الله)) ، فانطلق به
أصحابه، فمات ببعض الطريق، فدفنوه.
قال سعيد بن المسيب: وفيه أنزل الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] .
وفي هذا الحديث: أنواع من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وإجابة دعوته، وتعجيل عقوبة من أذاه، وأن العقوبة من جنس الذنب، بأن هؤلاء تواطؤا على وضع فرث الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم في السجود، فما مضى إلا يسير حتى قتلوا وسحبوا إلى القليب في يوم شديد الحر، وخرج فرث كل منهم وحشوته من بطنه، وكان ذلك جزاء وفاقا.
والمقصود من تخريج هذا الحديث في هذا الباب: أن المصلي يجوز أن تدنو منه المرأة في صلاته، وتزيل عنه الأذى، ولا يقدح ذلك في صلاته.
والظاهر: أن فاطمة عليها السلام إنما جاءت من ورائه، فطرحت عنه ما طرحوا عليه، وكانت إذا ذاك جويرية صغيرة، كما صرح به في الحديث.
وقد سبق الكلام على حكم النجاسة إذا أصابت المصلي في صلاته، ثم أزيلت عنه في ((الطهارة)) ، وعلى حكم تكرار الدعاء ثلاثا في ((كتاب العلم)) .
والله سبحانه وتعالى أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
9 -
كتاب مواقيت الصلاة
1 - باب مواقيت الصلاة وفضلها
وقول الله عز وجل: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا)[النساء: 103] . موقتا، وقته عليهم.
أما " الكتاب " فالمراد به: الفرض، ولم يذكر في القرآن لفظ الكتاب وما تصرف منه إلا فيما هو لازم: إما شرعا، مثل قوله:(كتب عليكم الصيام)[البقرة: 183]، (كتب عليكم القتال) [البقرة: 216] وقوله: (كتاب الله عليكم)[النساء: 24] . وإما قدرا، نحو قوله:(كتب الله لأغلبن أنا ورسلي)[المجادلة: 21]، وقوله:(ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء)[الحشر: 3] .
وأما قوله: (موقوتا) ففيه قولان.
أحدهما: أنه بمعنى المؤقت في أوقات معلومة، وهو قول ابن
مسعود وقتادة وزيد بن أسلم، وهو الذي ذكره البخاري هنا، ورجحه ابن قتيبة وغير واحد.
قال قتادة في تفسير هذه الآية: قال ابن مسعود: إن للصلاة وقتا كوقت الحج.
وقال زيد بن أسلم: منجما، كلما مضى نجم جاء نجم، يقول: كلما مضى وقت جاء وقت.
وقالت طائفة: معنى {موْقُوتًا} : مفروضاً او واجبا -: قاله مجاهد والحسن وغيرهما.
وروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: يعني: مفروضا.
وتأول بعضهم الفرض هنا على التقدير، فرجع المعنى حينئذ إليَ تقدير اعدادها ومواقيتها. والله أعلم.
وقال الشافعي: الموقوت - والله أعلم -: الوقت الذي تصلى فيه وعددها.
قال البخاري رحمه الله:
521 -
نا عبد الله بن مسلمة، قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، أن عمر بن عبد العزيز أَخر الصلاة يوما، فدخل عليه عروة بن الزبير، فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوما وهو بالعراق، فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري، فقال: ما هذا يا مغيرة؟ أليس قد علمت أَن جبريل
عليه السلام نزل فصلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:((بهذا أمرت)) . فقال عمر لعروة: اعلم ما تحدث به، أو أن جبريل هو أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة؟ قال عروة: كذلك كان بشير بن أبي مسعود يحدث عن أبيه.
522 -
قال عروة: ولقد حدثتني عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها، قبل ان تظهر.
هذا الحديث يدل على أن مواقيت الصلوات الخمس بينها جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم بفعله، فكان ينزل فيصلي به كل صلاة في وقتها إلى أن بين له مواقيتها كلها، وكان ذلك في أول ما افترض الصلوات الخمس.
وقد روي في ذلك أحاديث متعددة، ولم يخرج في ((الصحيحين)) منها غير حديث أبي مسعود هذا، وقد خرجه البخاري - أيضا - في ((المغازي)) من رواية شعيب، عن الزهري - مختصراً.
وخرجه من طريق مالك والليث بن سعد، عن الزهري، ولفظ
حديث الليث عنده: أن عروة قال لعمر: سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبا مسعود يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
{يقول} : ((نزل جبريل عليه السلام، فأمني، فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه)) ، ويحسب بأصابعه خمس صلوات.
ورواه ابن أبي ذئب في ((موطئه)) ، عن ابن شهاب، ولفظ حديثه: أن أبا مسعود قال للمغيرة: ألم تعلم أن جبريل نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فصلى، وصلى، وصلى، وصلى، وصلى، ثم صلى، ثم صلى، ثم صلى، ثم صلى، ثم صلى، ثم قال:((هكذا امرت)) .
وفي هذا تكرار صلاة جبريل، وليس فيه ذكر بيان شيء من الأوقات.
قال أبو داود: يروي هذا الحديث عن الزهري: معمر ومالك وابن عيينة وشعيب بن أبي حمزة والليث بن سعد وغيرهم، لم يذكروا الوقت الذي صلى فيه، ولم يفسروه.
وكذلك - أيضا - رواه هشام بن عروة وحبيب بن أبي مرزوق، عن عروة نحو رواية معمر وأصحابه، الا ان حبيبا لم يذكر ((بشيرا)) .
وخرجه أبو داود بسياق فيه تفسير المواقيت من رواية أسامة بن زيد الليثي، ان ابن شهاب أخبره، أن عروة قال لعمر بن عبد العزيز: سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبا مسعود الأنصاري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم {يقول} : ((نزل جبريل عليه السلام فاخبرني بمواقيت الصلاة، فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت {معه} ، ثم صليت معه، ثم صليت معه)) ، يحسب بأصابعه خمس صلوات، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر حين تزول الشمس، وربما أخرها حين يشتد الحر، ورأيته يصلى العصر والشمس مرتفعة بيضاء قبل ان تدخلها الصفرة، فينصرف الرجل من الصلاة فيأتي ذا الحليفة قبل غروب الشمس، ويصلى المغرب حين تسقط الشمس، ويصلى العشاء حين يسود الأفق، وربما أخرها حتى يجتمع الناس، وصلى الصبح مرة بغلس ثم صلى مرة اخرى فأسفر
بها ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، لم يعد إلى أن يسفر.
وخرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) والحاكم وصححه.
وقال الخطأبي: هو صحيح الإسناد.
وقال ابن خزيمة: هذه الزيادة لم يقلها أحد غير أسامة بن زيد.
وقال الدارقطني: خالفه يونس وابن أخي الزهري، فروياه عن الزهري، قال: بلغنا ان
…
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر مواقيت الصلاة بغير إسناد فوق الزهري، وحديثهما اولى بالصواب.
وقال أبو بكر الخطيب: وَهِمَ أسامة بن زيد إذا ساق الحديث كله بهذا الإسناد؛ لأن قصة المواقيت ليست من حديث أبي مسعود، وإنما كان الزهري يقول فيها: وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر حين تزول الشمس - إلى آخره، بين ذلك يونس في روايته عن ابن شهاب، وفصل حديث أبي مسعود
المسند من حديث المواقيت المرسل، وأورد كل واحد منهما منفرداً.
وقد روي بيان المواقيت في حديث أبي مسعود من وجه آخر، من رواية أيوب بن عتبة، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم، أن عروة بن الزبير حدث عمر بن عبد العزيز، قال: حدثني أبو مسعود الانصاري - أو بشير بن أبي مسعود، قال: كلاهما قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين دلكت الشمس، فقال: يا محمد، صلي الظهر فصلى. قال: ثم جاء حين صار ظل كل شيء مثله، فقال: يا محمد صلي العصر. قال: فصلى، ثم أتاه حين غربت الشمس، فقال: يا محمد، صلي المغرب. قال: فصلى، ثم جاءه حين غاب الشفق، فقال: يا محمد، صلي العشاء. قال: فصلى، ثم اتاه حين انشق الفجر، فقال: يا محمد، صلي الصبح. قال: فصلى. قال: ثم أتاه حين كان ظل كل شيء مثله في الغد، فقال: يا محمد، صلي الظهر. قال: فصلى. قال: ثم أتاه حين صار ظل كل شيء مثليه، فقال: يا محمد، صلي العصر. قال: فصلى. قال: ثم أتاه حين غربت الشمس، فقال: يا محمد، صلي المغرب. قال: فصلى، ثم أتاه حين ذهب ساعة من الليل، قال: يا محمد، صلي العشاء. قال: فصلى. قال: ثم أتاه حين أضاء الفجر وأسفر، قال: يامحمد، صلي الصبح. قال: فصلى. ثم قال: ((ما بين هذين
وقت)) - يعني: أمس واليوم.
أيوب بن عتبة اليمامي، ضعفه أحمد، وقال مرة: ثقة إلا أنه لا يقيم حديث يحيى بن أبي كثير. وقال البخاري: هو عندهم لين. وقال الدارقطني: يترك، وقال مرة: يعتبر به، هو شيخ. وقال ابن عدي: هو مع ضعفه يكتب حديثه. وضعف أبو حاتم حديثه من حفظه، وقال: كتابه صحيح.
وقد شك في إسناد هذا الحديث: هل هو عن أبي مسعود، أو عن بشير ابنه؟ وعلى تقدير أن يكون عن بشير ابنه فيكون مرسلا، وقوله: ((وكلاهما صحب النبي
صلى الله عليه وسلم)) وهم، ونسب الدارقطني الوهم إلى أبي بكر بن حزم -: ذكره في "العلل".
وخرجه في "سننه" مختصرا من طريق ايوب بن عتبة، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عروة، {عن} ابن أبي مسعود، عن أبيه - إن شاء الله.
وهذا يدل على إنه اضطراب في إسناده.
وقد خالفه الثقات في هذا، فرووا هذا الحديث مرسلاً:
رواه معمر، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن أبيه مرسلاً. ورواه الثوري وابن عيينة، عن عبد الله بن أبي بكر ويحيى بن سعيد - كلاهما -، عن أبي بكر بن حزم، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وكذا رواه أبو ضمرة، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن حزم مرسلاً.
لكن رواه سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمد، عن أبي مسعود الأنصاري، من غير ذكر ((عروة)) .
خرجه بقي بن مخلد في "مسنده" عن ابن كاسب، عن إسماعيل بن عبد الله - هو: ابن أبي أويس -، عن سليمان، به - فذكر حديث المواقيت بطوله.
وخرجه البيهقي في "المعرفة" من طريق أحمد بن عبيد الصفار: حدثنا الأسفاطي: نا إسماعيل - فذكره.
{وخرجه} أبو بكر الباغندي في ((مسند عمر بن عبد العزيز)) ، عن إسحاق بن ابراهيم بن سويد الرملي، عن أيوب بن سليمان بن بلال، عن أبي بكر عبد الحميد بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن حزم، عن أبي مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث بطوله.
ورواه البخاري في "تاريخه"، عن أيوب بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، قال: قال صالح بن كيسان: سمعت أبا بكر بن حزم، أنه بلغه أن أبا مسعود {قال:} نزل {جبريل} على النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة - فذكر الحديث بطوله، وقال في آخره: قال صالح بن كيسان: وكان عطاء يحدث عن جابر في وقت الصلاة بنحو ما كان أبو مسعود يحدث. قال صالح: وكان عمرو بن دينار وأبو الزبير المكي يحدثان مثل {ذلك، عن?} جابر بن عبد الله.
قال الدارقطني في "العلل": ورواه زفر بن الهذيل، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن [محمد] بن عمرو بن حزم، عن أُناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر حديث المواقيت بطوله.
ورواه زفر - أيضا -، عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم - بمثله، مرسلاً.
وزفر: قال الدارقطني: ثقة.
وقد روي حديث صلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس في مواقيتها في يومين مع بيان مواقيتها من رواية: ابن عباس، وجابر،
وأبي سعيد، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وابن عمر، وأنس، ولم يخرج شيء منها في "الصحيح".
وحكى الترمذي في كتابه عن البخاري، أنه قال: أصح شيء في المواقيت حديث جابر.
وحديث جابر المشار إليه خرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي في "كتابه الكبير"، ولفظه: قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين مالت الشمس، فقال: قم يا محمد، فصل [الظهر] حين مالت الشمس، ثم مكث حتى إذا كان فيء الرجل مثله جاءه للعصر، فقال: قم يا محمد، فصل العصر، ثم مكث حتى إذا غابت الشمس جاءه، فقال: قم، فصل المغرب، فقام فصلاها حين غابت الشمس. سواء، ثم مكث حتى إذا ذهب الشفق جاءه فقال: قم، فصل العشاء، فقام فصلاها، ثم جاء جبريل حين سطع الفجر بالصبح، فقال: يا محمد، قم فصل، فقام فصلى الصبح،
ثم جاءه من الغد، فقال: قم يا محمد فصل فقام فصلى الظهر ثم جاءه حين كان فيء الرجل مثليه فقال: قم يامحمد، فصل العصر، ثم جاءه للمغرب حين غابت الشمس وقتا واحداً لم يزل عنه، فقال: قم، فصل المغرب، ثم جاءه للعشاء حين ذهب ثلث الليل الأول، فقال: قم، فصل العشاء، ثم جاءه للصبح حين أسفر جداً، فقال: قم فصل الصبح، ثم قال:((ما بين هذين وقت كله)) .
وذكر أبو داود في "كتابه" بعضه - تعليقاً.
وخرجه ابن حبان في "صحيحه" والحاكم، وقال: صحيح مشهور من حديث ابن المبارك، عن حسين بن علي بن حسين، عن وهب بن كيسان، عن جابر. قال: والشيخان لم يخرجاه لقلة حديث الحسين بن علي الأصغر.
وحسين هذا: وثقة النسائي وغيره.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبي عن هذا الحديث: ما ترى
فيه، وكيف حال الحسين؟ فقال أبي: أماالحسين فهو أخو أبي جعفر محمد بن علي، وحديثه الذي روي في المواقيت ليس بالمنكر؛ لأنه قد وافقه على بعض صفاته غيره.
وإنما قال الإمام أحمد: ((ليس بالمنكر؛ لأنه قد وافقه على بعضه غيره)) ، لأن قاعدته: أن ما انفرد به ثقة، فإنه يتوقف فيه حتى يتابع عليه، فإن توبع عليه زالت نكارته، خصوصاً إن كان الثقة ليس بمشتهر في الحفظ والاتقان، وهذه قاعدة يحيى القطان وابن المديني وغيرهما.
وقال الترمذي: حديث جابر قد رواه عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار وأبو الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو حديث وهب بن كيسان، عن جابر. انتهى.
ورواه - أيضا - بشير بن سلام الأنصاري المدني عن جابر - أيضا.
وقد ذكرت أحاديث هذا الباب كلها بطرقها وعللها في "كتاب شرح الترمذي".
وقد دل القرآن في غير موضع على مواقيت الصلوات الخمس، وجاءت السنة مفسرة لذلك ومبينة له:
فمن ذلك: قوله الله تعالى: {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} .
وقد ذكر غير واحد من الأئمة كمالك والشافعي: أن هذه الآية تدل على الصلوات الخمس، وروي معناه عن طائفة من السلف.
فقال ابن عمر: دلوك الشمس: ميلها - يشير إلى صلاة الظهر حينئذ.
وعن ابن عباس، قال: دلوك الشمس: إذا جاء الليل. وغسق الليل: اجتماع الليل وظلمته.
وقال قتادة: دلوك الشمس: إذا زالت الشمس عن بطن السماء لصلاة الظهر. وغسق الليل: بدء الليل صلاة المغرب.
وقد قيل: إن الله تعالى ذكر ثلاثة أوقات، لأن اصل
الأوقات ثلاثة، ولهذا تكون في حالة جواز الجمع بين الصلاتين ثلاثة فقط، فدلوك الشمس: وقت لصلاة الظهر والعصر في الجملة، وغسق الليل: وقت لصلاة المغرب والعشاء في الجملة، ثم ذكر وقت الفجر بقوله:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} ??.
وقد ثبت في "الصحيحين" عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((يجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر)) ، ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} ?.
وكذلك قوله تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ} . [هود: 144] .
فقوله: {طَرَفِي النَّهَارِ} يدخل فيه صلاة الفجر وصلاة العصر.
وقد قيل: إنه يدخل فيه صلاة الظهر والعصر، لأنهما في الطرف الأخير، وزلف الليل يدخل فيه المغرب والعشاء.
وكذا قال قتادة: إن زلف الليل يدخل فيه المغرب والعشاء، وإن طرفي النهار يدخل فيه الفجر والعصر.
وروي عن الحسن، أنه قال في قوله:{طَرَفِي النَّهَارِ} ، قال: صلاة الفجر، والطرف الآخر الظهر والعصر {وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ} ? المغرب والعشاء.
وكذلك قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه:130] .
وفي الحديث الصحيح عن جرير البجلي - حديث الرؤية -: ((فان استطعتم ان لاتغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)) ، ثم قرأ:{فسبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} ?.
وقد ادرج اكثر الرواة القراءة في الحديث، وبين بعضهم: أن جريرا هو الذي قرأ ذلك، فبين أن صلاة الصبح وصلاة العصر يدخل في التسبيح قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وأماالتسبيح من آناء الليل فيدخل فيه صلاة المغرب وصلاة العشاء. وقوله:
{واطراف النَّهَارِ} يدخل في صلاة الفجر وصلاة العصر،
وربما دخلت فيه صلاة الظهر؛ لأنها في أول طرف النهار الاخر.
وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} [ق 39، 40] .
وقد قال ابن عباس وأبو صالح: إن التسبيح قبل طلوع الشمس وقبل الغروب: الصبح وصلاة العصر.
وقوله: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} ، قال مجاهد: الليل كله.
وهذا يدخل فيه صلاة المغرب والعشاء، ويدخل فيه التهجد المتنقل به - أيضا.
وقال خصيف: المراد بتسبيحه من الليل: صلاة الفجر المكتوبة، وفيه بعد.
وأما {َأَدْبَارَ السُّجُودِ} ، فقال اكثر الصحابة، منهم: عمر، وعلي، والحسن بن علي، وأبو هريرة، وأبو أمامة وغيرهم: أنهما ركعتان بعد الغروب، وهو رواية عن ابن عباس، وروي عنه مرفوعاً، خرجه الترمذي بإسناد فيه ضعف.
فاشتملت الآية على الصلوات الخمس مع ذكر بعض التطوع.
وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 48، 49] .
فقوله: {حِينَ تَقُومُ} قد فسر بإرادة القيام إلى الصلاة، وهو قول زيد بن اسلم والضحاك، وفسر بالقيام من النوم، وهو قول أبي الجود، وفسر بالقيام من المجالس.
وقوله: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} ، قال مجاهد: من الليل كله، يدخل في ذلك صلاة المغرب والعشاء وصلاة الليل المتطوع بها.
وفسره خصيف بصلاة الفجر، وفيه نظر.
{وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} : ركعتا الفجر كذا قاله علي وابن عباس في
رواية، وروي عن ابن عباس مرفوعاً.
خرجه الترمذي وفيه ضعف.
وقال تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17، 18] .
قال الإمام أحمد: نا ابن مهدي: نا سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، قال: جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس، فقال،: الصلوات الخمس في القران؟ فقال: نعم، فقرأ:
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} قال: صلاة المغرب {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} صلاة الفجر
{وَعَشِيًّا} صلاة العصر {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} صلاة الظهر، وقرأ:{وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} ? [النور:58] .
ورواه أدم بن أبي إياس في "تفسيره"، عن حماد بن سلمة، عن
عاصم، قال: جاء نافع - ولم يذكر: أبا رزين.
وروى آدم - أيضا -: نا شريك، عن ليث بن أبي سليم، عن الحكم بن عتيبة، عن أبي البختري، عن ابن عباس، قال: جمعت هذه الآية الصلوات كلها - فذكره بمعناه، ولم يذكر فيه: صلاة العشاء.
روي عن الحسن وقتادة في قوله تعالى {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} ، قال: صلاة المغرب والعشاء، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} : صلاة الغداة، {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا} ، قال: العصر، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} ، قال: الظهر:
خرجه البيهقي وغيره.
وأماتأخير المغيرة بن شعبة وعمر بن عبد العزيز الصلاة يوماً، فإنما كان تأخيرهما كذلك عن وقت صلاتهما المعتادة ولم يؤخراها حتى خرج الوقت.
وقد روى الليث هذا الحديث، عن الزهري، وفيه:((أن عمر أخر العصر شيئاً)) .
ولهذا ذكر عروة حديث عائشة في تعجيل النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العصر،
ولم يكن عمر بن
…
عبد العزيز يؤخر الصلاة كتأخير سائر بني أمية، إنما أخر العصر يوماً.
وفي حديث أسامة بن زيد، عن الزهري، أن عمر كان قاعدا على المنبر، فأخر العصر شيئاً.
وكان هذا في أيام ولايته للمدينة نيابة عن الوليد، ولم يكن - رحمة الله عليه - يظن أن توقيت الصلوات في هذه الأوقات الخمس كان بوحي من الله عز وجل مع جبريل عليه السلام، بل كان يظن ان النبي صلى الله عليه وسلم سن ذلك لأمته، وربما لم يكن بلغَهُ ما سنه النبي صلى الله عليه وسلم من التوقيت، فكان يجري على العادة التي اعتادها الناس، حيث لم يكن في القران تصريح بمواقيت الخمس، ولم يبلغه ما سنه النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بتعليم جبريل إياه، فلما بلغه ذلك اجتهد حينئذ على المحافظة على مواقيت الصلاة، وكان في أيام خلافته يوصي عماله بذلك، وكان يعتب على الحجاج وغيره من ولاة السوء تأخيرهم الصلاة عن مواقيتها.
وفي رواية معمر، عن الزهري لهذا الحديث، قال: فما زال عمر يعلم وقت الصلاة بعلامة حتى فارق الدنيا.
وفي رواية حبيب بن أبي مرزوق، عن عروة لهذا الحديث، قال:
فبحث عمر عن ذلك حتى وجد ثبته، فما زال عمر عنده علامات الساعات ينظر فيها حتى قُبض رحمه الله.
وقد كان عمر بن عبد العزيز - أحياناً - قبل سماعه لهذا الحديث يؤخر الصلوات إلى آخر الوقت على ما جرت به عادة بني أمية.
وفي "الصحيحين" عن أبي أمامة بن سهل، قال: صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر، ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك، فوجدناه يصلي العصر فقلت: يا عم، ما هذه الصلاة التي صليت؟ قال: العصر، وهذه الصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كنا نصلي معه.
وخرج مسلم من حديث عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها - أو يميتون الصلاة عن وقتها؟)) قال: فما تأمرني؟ قال: ((صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتهما معهم فصل، فانها لك نافلة)) .
وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من روايات متعددة.
وقد كان الصحابة يأمرون بذلك ويفعلونه عند ظهور تأخير بني أمية للصلاة عن أوقاتها، وكذلك أعيان التابعين ومن بعدهم من أئمة
العلماء:
قال [أحمد] وإسحاق: إنما يصلي في بيته ثم يأتي المسجد إذا صلى الأئمة في غير الوقت -: نقله عنهما ابن منصور.
ومرادهما: إذا صلوا بعد خروج الوقت، فإن تأخير الصلاة عن وقتها عمداً في غير حال يجوز فيها الجمع لا يجوز إلا في صور قليلة مختلف فيها، فأماإن أخروا الصلاة عن أوائل وقتها الفاضلة، فإنه يصلي معهم ويقتصر على ذلك.
وقد روى الشافعي بإسناده، عن ابن عمر، أنه أنكر على الحجاج إسفاره بالفجر، وصلى معه يومئذ.
وقد قال النخعي: كان ابن مسعود يصلي مع الأمراء في زمن عثمان وهم يؤخرون بعض التأخير، ويرى أنهم يتحملون ذلك.
وإنما كان يفعل ذلك في أيام إمارة الوليد بن عقبة على الكوفة في زمن عثمان، فإنه كان أحيانا يؤخر الصلاة عن أول وقتها.
وفي "مسند الإمام أحمد" أن الوليد بن عقبة أخر الصلاة مرة،
فقام ابن مسعود فتقرب، فصلى بالناس، وقال: أبن الله ورسوله علينا أن ننتظرك بصلاتنا وأنت في حاجتك.
وفي "سنن أبي داود": عن صالح بن عبيد، عن قبيصة بن وقاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكون عليكم أمراء من بعدي، يؤخرون الصلاة، فهي لكم وعليهم، فصلوا معهم ما صلوا القبلة)) .
وهذا الحديث معلول من وجهين:
أحدهما: أن قبيصة بن وقاص وإن عده بعضهم في الصحابة، فقد أنكر ذلك آخرون.
والثاني: أن صالح بن عبيد، قال بعضهم: إنه لا يعرف حاله، منهم: الأثرم وغيره.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عطاف بن خالد، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن رجل من جهينة، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه.
وفي هذا الإسناد ضعف.
وخرج الإمام أحمد نحو من حديث عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعاصم، ضعيف.
وإن صحت هذه الأحاديث، فهي محمولة على من أخر الصلاة عن أول وقتها الأفضل إلى آخر الوقت، وحديث أبي ذر وما في معناه محمول على من أخرها عن الوقت حتى خرج الوقت، أو إلى وقت يكره تأخير الصلاة إليه، كتأخير العصر إلى أن تصفر الشمس، وقد روي ذلك عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعاً.
وعلى هذا يدل كلام أحمد وإسحاق كما سبق ذكره، وإن الإمام إذا صلى في آخر الوقت فإنه يصلي معه ولا
يصلي قبله في البيت، كما إذا أخرها عن الوقت.
واستدل الإمام أحمد بقول ابن مسعود في الذين يؤخرون الصلاة إلى شرق الموتى، فأمرهم أن يصلوا للوقت، ثم يصلوا معهم.
وقد خرجه مسلم في "صحيحه".
وروي عن عطاء، أنه يكتفي بالصلاة معهم ولا يصلي في بيته ما لم يؤخروا حتى تغرب الشمس.
ذكره عبد الرزاق، عن ابن جريج، عنه.
وقال القاضي أبو يعلي من أصحابنا: إذا أخر الإمام الصلاة عن أول الوقت فإن وجد جماعة غيره في أول الوقت صلى مع الجماعة، وإلا انتظر الإمام حتى يصلي؛ لأن الجماعة عندنا فرض.
وكذلك مذهب مالك وأصحابه: أن تأخير الصلاة لانتظار الجماعة أفضل من الصلاة في أول الوقت منفرداً.
ونص الإمام أحمد في رجل أمره أبوه أن يصلي به، وكان أبوه يؤخر الظهر إلى العصر، أنه يصلي به. فإن كان يؤخر الصبح حتى تطلع الشمس لم يفعل.
وللشافعي في ذلك قولان: أحدهما: ينتظر الإمام إذا أخرها عن أول الوقت.
والثاني: يصلي في أول الوقت منفرداً، وهو أفضل من التأخير للجماعة.
وقالت طائفة من أصحابه: الأفضل أن يجمع بين الأمرين، فيصلي في اول الوقت منفرداً، ثم يصلي مع الجماعة في أثناء الوقت، وإن أراد الاقتصار على صلاة واحدة فالتأخير للجماعة أفضل.
ومنهم من ذكر احتمالا: ان فحش التأخير فالانفراد أول الوقت أفضل، وإن خف فالانتظار أفضل.
واستدل صاحب "شرح المهذب" لتفضيل الجمع بينهما، بأن في "صحيح مسلم"، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه "سيجيء قوم يؤخرون الصلاة عن أول وقتها" - وذكر الحديث المتقدم.
وليس في "صحيح مسلم " ذكر أول الوقت ولا وجدناه في غيره - أيضا -، بل في الأحاديث ما يدل على خلاف ذلك، وأنهم يؤخرون الصلاة حتى يذهب وقتها. كذلك في حديث عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد خرجه الإمام أحمد وأبو داود.
وقد استدل الإمام أحمد بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة في الوقت عند تأخير الإمراء على أن الجمع بين الصلاتين لغير عذر غير جائز.
وسيأتي زيادة بيان لذلك في موضع آخر - إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وأماتقديم الصلاة على وقتها في غير جمع فلا يجوز - أيضا -، فلو صلى الظهر قبل الزوال، والصبح قبل طلوع الفجر، والمغرب قبل غروب الشمس فعليه الاعادة، وسواء تعمد ذلك او لم يتعمده، هذا قول جمهور العلماء.
قال ابن المنذر: اختلفوا في الصلاة قبل دخول الوقت، فروينا عن عمر وأبي موسى الاشعري، أنهما أعادا الفجر لأنهما كان صلياها قبل الوقت، وبه قال الزهري ومالك والأوزعي والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي، وقد روينا عن ابن عباس، أنه قال في رجل صلى الظهر في السفر قبل أن تزول الشمس، قال: يجزئه. وقال الحسن: مضت صلاته. وبنحو ذلك قال الشافعي.
وعن مالك فيمن صلى العشاء في السفر قبل غيبوبة الشفق جاهلا وساهياً يعيد ما كان في وقت، فإذا ذهب الوقت قبل أن يعلم أو يذكر فلا إعادة عليه.
انتهى.
وقال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أن وقت الصلاة من فرائضها، وأنها لا تجزيء قبل وقتها، إلا شيء روي عن أبي موسى الأشعري وعن بعض التابعين، أجمع العلماء عن خلافه، فلم أر لذكره وجها؛ لأنه لا يصح عنهم، وقد صح عن أبي موسى خلافه بما وافق الجماعة، فصار اتفاقا صحيحاً.
قلت: ليس هذا الاختلاف في جواز تقديم الصلاة على وقتها عمداً، إنما الاختلاف فيمن اجتهد وصلى ثم تبينت صلاته قبل الوقت، وقد مضى الوقت، فهذا في وجوب الإعادة فيه قولان للشافعي، والاختلاف المروي عن السلف يرجع إلى هذين القولين، وقد حكي رواية عن أحمد أنه لايلزمه القضاء. قال القاضي أبو يعلى الصغير في "تعليقه": قد تأولها أصحابنا.
وما حكاه ابن المنذر عن مالك قد روي صالح بن أحمد
وأبو الحارث، عن أحمد في المسافر إذا صلى العشاء قبل مغيب الشفق: أرجو.
وتأوله بعض أصحابه عن الشفق الأبيض، وهو بعيد.
وقد نقل ابن منصور، عن أحمد، أنه إذا صلى العشاء في السفر بعد غيبوبة الشفق الاحمر وقبل غيبوبة البياض، فإنه يجوز، وعلل بأنه أماأن يكون مصليا في الوقت عند من يرى أن الشفق الحمرة، وأماأن يكون جامعاً بين الصلاتين في السفر، وهو جائز.
وهذا يدل على جواز الجمع في السفر في وقت الأولى مع التفريق بين الصلاتين، وعلى أن نية الجمع لا تشترط.
وروى حرب، عن أحمد فيمن صلى العشاء قبل مغيب الشفق، قال: لا ادري. وفيمن صلى العصر قبل مصير ظل الشيء مثله: انه يعيد، ولم يقيد هذا بالسفر.
ولو كان معللا يجواز الجمع كما نقله عنه ابن منصور، لم يكن فرق بين العشاء والعصر، لأن كلتا الصلاتين تجمع إلى ما قبلها.
والظاهر: أنه أراد بالشفق الحمرة؛ فإن أحمد متوقف في صلاة العشاء قبل مغيب البياض، على ما سيأتي ذكره - إن شاء الله سبحانه وتعالى.
2 -
باب
{منِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا
تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31]
قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] .
فأمره بإقامة وجهه، وهو إخلاص قصده وعزمه وهمه للدين الحنيف، وهو الدين القيم، وهو فطرة الله التي فطر العباد عليها، فإن الله ركب في قلوب عباده كلهم قبول توحيده والإخلاص له، وإنما يغيرهم عن ذلك تعليم من عملهم الخروج عنه.
ولما كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم لم تدخل فيه أمته معه قال بعد ذلك {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} ، فجعل ذلك حالا له ولأمته، وهو إنابتهم إليه، ويعني به: رجوعهم إليه، وأمرهم بتقواه، والتقوى تتضمن فعل جميع الطاعات وترك المعاصي والمخالفات.
وخص من ذلك إقام الصلاة، فلم يذكر من أعمال الجوارح باسمه الخاص سواها، والمراد بإقامتها: الاتيان بها قائمة على وجهها التام،
وفي ذلك دليل على شرف الصلاة وفضلها، وأنها اهم أعمال الجوارح.
ومن جملة إقامتها المأموربه: المحافظه على مواقيتها، فمن صلى الصلاة لغير مواقيتها التي وقتها الله فلم يقم الصلاة، بل ضيعها وفرط فيها وسها عنها.
قال ابن عباس في قوله تعالى {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [المائدة:55]، قال: يقيمون الصلاة بفرضها.
وقال قتادة: إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها وسجودها.
وقال مقاتل بن حيان: إقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القران فيها، والتشهد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا إقامتها.
خرجه كله ابن أبي حاتم.
ولهذا مدح سبحانه الذين هم على صلاتهم يحافظون والذين هم
على صلاتهم دائمون، وقد فسره ابن مسعود وغيره بالمحافظة على مواقيتها، وفسره بذلك مسروق والنخعي وغيرهما.
وقيل لابن مسعود: إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23] و {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34] ؟ قال: ذاك على مواقيتها. قيل له: ما كنا نرى ذلك إلا على تركها، قال: تركها الكفر.
خرجه ابن أبي حاتم ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما.
وكذلك فسر سعد بن أبي وقاص ومسروق وغيرهما السهو عن الصلاة بالسهو عن مواقيتها.
وروي عن سعد مرفوعا، والموقوف أصح
قال البخاري رحمه الله:
523 -
نا قتيبة بن سعيد: نا عباد - هو: ابن عباد -، عن أبي جمرة، عن ابن عباس، قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا هذا الحي من ربيعة، ولسنا نصل إليك إلا في الشهر الحرام، فمرنا بشيء نأخذه عنك، وندعو إليه من وراءنا. فقال:((آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله)) ، ثم فسرها لهم:((شهادة أن لا الله إلا الله، وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا إِليَّ خمس ما غنمتم، وأنهى عن الدباء والحنتم والنقير والمقير)) .
قد تقديم هذا الحديث في "كتاب: الايمان" و"كتاب: العلم" خرجه البخاري فيهما من حديث شعبة، عن أبي جمرة، وذكرنا شرحه في الموضعين المذكورين.
والمقصود منه هاهنا: أمره لهم بإقامة الصلاة، وقد ذكرنا هاهنا تفسير إقامة الصلاة، وأن من جملته المحافظه على مواقيتها.
وخرج أبو داود من حديث عباد بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
…
((خمس صلوات افترضهن الله، من أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن واتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهدا أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد، إِن شاء غفر له، وإن شاء عذبه)) .
وخرج ابن ماجه من حديث [أبي] قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((قال الله تعالى: افترضت على أمتك خمس صلوات، وعهدت عندي عهداً: أنه من حافظ عليهن لوقتهن أدخلته الجنة، ومن لم يحافظ عليهن فلا عهد له عندي)) .
وخرج الأمام أحمد من حديث كعب بن عجرة: سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال ربكم: من صلى الصلاة لوقتها، وحافظ عليها ولم يضيعها استخفافا بحقها، فله علي عهد أن أدخله الجنة، ومن لم يصلها لوقتها، ولم يحافظ عليها وضيعها استخفافا بحقها، فلا عهد له، إن شئت عذبته،
وإن شئت غفرت له)) .
ومن حديث حنظلة الكاتب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حافظ على الصلوات الخمس بركوعهن وسجودهن ووضوئهن ومواقيتهن، وعلم أنهن حق من عند الله عز وجل دخل الجنة)) - او قال: ((وجبت له الجنة)) -، وفي رواية قال:((حرم على النار)) .
وروى محمد بن نصر المروزي بإسناد صحيح عن ابن سيرين، قال: نبئت أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يعلمان الناس الإسلام: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة التي افترض الله لمواقيتها، فان في تفريطها الهلكة.
3 - باب
البيعة على إقام الصلاة
524 -
حدثنا محمد بن المثنى: نا يحيى: نا إسماعيل: نا قيس، عن جرير بن عبد الله، قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم.
خرج البخاري هذا الحديث فيما سبق في آخر " كتاب: الإيمان"، عن مسدد، عن يحيى - هو: ابن سعيد -، بمثله.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان بايع الناس على الإسلام، وأركان الإسلام خمس: الشهادتان، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام رمضان.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع - أحياناً - عليهن كلهن، كما في " مسند الإمام أحمد" عن بشير بن الخصاصية، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه، فاشترط عليَّ: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن أقيم الصلاة، وأن أؤدي الزكاة، وأن أحج حجة الإسلام، وأن أصوم رمضان، وأن أجاهد في سبيل الله، فقلت: يا رسول الله، أمااثنتين، فوالله ما
أطيقهما: الجهاد، فإنهم زعموا أنه من ولى الدبر فقد باء بغضب من الله، فأخاف إن حضرت ذلك جشعت نفسي، وكرهت الموت. والصدقة، فوالله ما لي إلا غنيمة وعشر ذود، هن رسل أهلي وحمولتهم. قال: فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم حرك يده، ثم قال:((فلا جهاد ولا صدقة، فبم تدخل الجنة إذاً؟)) قلت: يا رسول الله، أبايعك، فبايعته عليهم كلهن.
وتارة كان يبايع على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع الشهادتين، كما بايع جرير بن عبد الله؛ فإن الصلاة والزكاة أفضل خصال الإسلام العملية.
وتارة يكتفي بالبيعة على الشهادتين؛ لأن باقي الخصال حقوق لها ولوازم.
وتارة كان يقتصر في المبايعة على الشهادتين فقط، لأنهما رأس الإسلام، وسائر الأعمال تبع لهما.
وقد كان أحيانا يتآلف على الإسلام من يريد أن يسامح بترك بعض حقوق الإسلام، فيقبل منهم الإسلام، فإذا دخلوا فيه رغبوا في الإسلام فقاموا بحقوقه وواجباته كلها.
كما روى عبد الله بن فضالة الليثي، عن أبيه، قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان فيما علمني: ((وحافظ على الصلوات الخمس)) . قال: قلت: إن هذه ساعات لي فيها أشغال، فمرني بأمر جامع، إذا أنا فعلته أجزأ عني. قال: ((حافظ على
العصرين)) - وما كانت من لغتنا – قلت: وما العصران؟ قال: ((صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها)) .
خرجه أبو داود وابن حبان في " صحيحه" والحاكم.
وظن أن فضالة هو ابن عبيد، ووهم في ذلك، فليس هذا فضالة بن عبيد -: قاله ابن معين وغيره.
وفي " المسند" من حديث قتادة، عن نصر بن عاصم الليثي، عن رجل منهم، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على أن يصلي صلاتين، فقبل منه.
وفي رواية: على أن لا يصلي إلا صلاتين، فقبل منه.
وفيه - أيضا - عن جابر، أن ثقيفاً إذ بايعت اشترطت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((يصدقون ويجاهدون إذا أسلموا)) .
قال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: إذا أسلم على أن يصلي صلاتين يقبل منه، فإذا دخل يؤمر بالصلوات الخمس، وذكر حديث قتادة عن نصر بن عاصم الذي تقدم.
4 - باب
الصلاة كفارة
فيه حديثان:
الأول: كفارة الصلاة:
قال:
525 -
حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن الأعمش: حدثني شقيق: حدثني حذيفة، قال: كنا جلوساً عند عمر، فقال: أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قلت: أنا كما قاله. قال: إنك عليه - أو عليها - لجريء. قلت: فتنة الرجل في أهله وماله ولده وجاره، تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي. قال: ليس هذا أريد، ولكن الفتنة التي تموج كما يموج البحر. قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقاً. قال: يكسر أم يفتح؟ قال: يكسر. قال: إذن لا يغلق أبداً.
قلنا: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم، كما أن دون غد الليلة، إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط، فهبنا أن نسأل حذيفة، فأمرنا مسروقاً فسأله، فقال: الباب عمر.
أصل الفتنة: الابتلاء والامتحان والاختبار، ويكون
تارةً بما يسوء، وتارة بما يسر، كما قال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، وقال:{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168] .
وغلب في العرف استعمال الفتنة في الوقوع فيما يسوء.
والفتنة نوعان: أحدهما: خاصة، تختص بالرجل في نفسه. والثاني: عامة، تعم الناس.
فالفتنة الخاصة: ابتلاء الرجل في خاصة نفسه بأهله وماله وولده وجاره، وقد قال [تعالى] :{?إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] ؛ فإن ذلك غالباً يلهي عن طلب الآخرة والاستعداد لها، ويشغل عن ذلك.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر، ورأى الحسن والحسين يمشيان ويعثران
وهما صغيران، نزل فحملهما، ثم قال:((صدق الله ورسوله، {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} ، إني رأيت هذين الغلامين يمشيان ويعثران فلم أصبر)) .
وقد ذم الله تعالى من ألهاه ماله وولده عن ذكره، فقال:{لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9] .
فظهر بهذا: أن الأنسان يبتلى بماله وولده وأهله
وبجاره المجاور له، ويفتتن بذلك، فتارةً يلهيه الاشتغال به عما ينفعه في آخرته، وتارةً تحمله محبته على أن يفعل لأجله بعض ما لا يحبه الله، وتارةً يقصر في حقه الواجب عليه، وتارةً يظلمه ويأتي إليه ما يكرهه الله من قول أو فعل، فيسأل عنه ويطالب به.
فإذا حصل للأنسان شيء من هذه الفتن الخاصة، ثم صلى أو صام أو تصدق أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر كان ذلك كفارةً له، وإذا كان الأنسان تسوؤه سيئته، ويعمل لأجلها عملاً صالحاً كان ذلك دليلاً على إيمانه.
وفي " مسند بقي بن مخلد"، عن رجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان يا رسول الله؟ قال: ((أن تؤمن بالله ورسوله)) ، فأعادها ثلاثا، فقال له في الثالثة:((أتحب أن أخبرك ما صريح الإيمان؟)) فقال: ذلك الذي أردت. فقال: ((إن صريح الإيمان إذا أسأت أو ظلمت أحداً: عبدك أو أمتك، أو واحداً من الناس، صمت أو تصدقت وإذا أحسنت استبشرت)) .
وأماالفتن العامة: فهي التي تموج موج البحر، وتضطرب، ويتبع بعضها بعضاً كأمواج البحر، فكان أولهما فتنة قتل عثمان – رضي الله عنه، وما نشأ منها من افتراق قلوب المسلمين، وتشعب أهوائهم وتكفير بعضهم بعضاً، وسفك بعضهم دماء بعض، وكان الباب المغلق الذي بين الناس وبين الفتن عمر رضي الله عنه، وكان قتل عمر كسراً لذلك الباب، فلذلك لم يغلق ذلك الباب بعده أبداً.
وكان حذيفة أكثر الناس سؤالاً للنبي صلى الله عليه وسلم عن الفتن، وأكثر الناس علماً بها، فكان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم علم بالفتن العامة والخاصة، وهو حدث عمر تفاصيل الفتن العامة، وبالباب الذي بين الناس وبينها، وأنه هو عمر، ولهذا قال: إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط، والأغاليط: جمع أغلوطة، وهي التي يغالط بها، واحدها: أغلوطة ومغلطة، والمعنى: أنه حدثه حديثاً حقاً، ليس فيه مرية، ولا إيهام.
وهذا مما يستدل به على أن رواية مثل حذيفة يحصل بها لمن سمعها العلم اليقيني الذي لا شك فيه؛ فإن حذيفة ذكر أن عمر علم ذلك وتيقنه كما تيقن أن دون غد الليلة لما حدثه به من الحديث الذي لا يحتمل غير الحق والصدق.
وقد كانت الصحابة تعرف في زمان عمر أن بقاء عمر أمان للناس من الفتن.
وفي "مسند الإمام أحمد" أن خالد بن الوليد لما عزله عمر، قال له رجل: اصبر أيها الأمير، فإن الفتن قد ظهرت. فقال خالد: وابن الخطاب حي! إنما يكون بعده رضي الله عنهما.
وقد روي من حديث عثمان بن مظعون، أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى عمر: غلق الفتنة، وقال:((لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغلق ما عاش هذا بين أظهركم)) .
خرجه البزار.
وروي نحوه من حديث أبي ذر.
وروى كعب، أنه قال لعمر: أجدك مصراع الفتنة، فإذا فتح لم يغلق أبداً.
الحديث الثاني:
526 -
حدثنا قتيبة: ثنا يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود، أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله تعالى:{وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}
[هود: 114] . قال الرجل: يا رسول الله، إلي هذا؟ قال:((لجميع أمتي كلهم)) .
هذا الذنب الذي أصابه ذلك الرجل وسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية بسببه كان من الصغائر، وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن الصلاة إنما تكفر الصغائر دون الكبائر.
وكذلك الوضوء، غير أن الصلاة تكفر أكثر مما يكفر الوضوء، كما قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: الوضوء يكفر الجراحات الصغار، والمشي إلى المسجد يكفر أكثر، والصلاة تكفر أكثر من ذلك.
خرجه محمد بن نصر المروزي وغيره.
وقد سبق في حديث حذيفة: فتنة الرجل في أهله وماله وولده
وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة؛ وذلك لأن أكثر ما يصيب الأنسان في هذه الإشياء تكون من الصغائر دون الكبائر.
وقد ذكرنا في " كتاب الوضوء" الاختلاف في أن الوضوء: هل يكفر الصغائر خاصة، أم يعم الذنوب كلها؟ والأكثرون على أن لا يكفر سوى الصغائر، وقد ذهب قوم إلى أنه يكفر الكبائر
…
- أيضا -، وسنذكره فيما بعد – إن شاء الله سبحانه وتعالى.
5 - باب
فضل الصلاة لوقتها
527 -
حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك: ثنا شعبة، قال: الوليد بن العيزار أخبرني، قال: سمعت أبا عمرو الشيباني يقول: ثنا صاحب هذه الدار - وأشار إلى دار عبد الله -، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) . قال: ثم أي؟ قال: ((ثم بر الوالدين)) . قال: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) . قال: حدثني بهن، ولو استزدته لزداني.
وخرجه بهذا الإسناد بعينه في " كتاب البر والصلة".
وخرجه أول " الجهاد" من طريق مالك بن مغول، عن الوليد، به، ولفظه: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: قال: ((الصلاة على ميقاتها)) – وذكر باقيه بمعناه.
وفي رواية لمسلم من حديث أبي يعفور، عن الوليد - بهذا الإسناد -، قلت: يا نبي الله، أي الأعمال أقرب إلى الجنة؟ قال: ((الصلاة على
مواقيتها)) – وذكر باقية.
وهذه الألفاظ متقاربة المعنى أو متحدة؛ لأن ما كان من الأعمال أحب إلى الله فهو أفضل الأعمال، وهو أقرب إلى الجنة من غيره؛ فإن ما كان أحب إلى الله فعامله أقرب إلى الله من غيره، كما في حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه، قال:((ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)) – وذكر الحديث.
خرجه البخاري في " الرقاق" من " كتابه" هذا.
وقال عمر بن الخطاب: أفضل الأعمال أداء ما فرض الله.
وكذا قال عمر بن عبد العزيز في خطبته.
فدل حديث ابن مسعود هذا على أن أفضل الأعمال وأقربها إلى الله وأحبها إليه الصلاة على مواقيتها المؤقتة لها.
وقد روي في هذا الحديث زيادة، وهي:((الصلاة في أول وقتها)) ، وقد خرجها ابن خزيمة وابن حبان في " صحيحهما" والحاكم والدارقطني من طرق متعددة.
ورويت من حديث عثمان بن عمر، عن مالك بن مغول، [و] من حديث علي بن حفص المدائني، عن شعبة، ورويت عن شعبة من وجه
آخر، وفيه نظر، ورويت من وجوه أخر.
واستدل بذلك على أن الصلاة في أول الوقت أفضل، كما استدل لحديث ام فروة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سئل: أي العمل أفضل؟ قال: ((الصلاة لأول وقتها)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي.
وفي إسناده اضطراب -: قاله الترمذي والعقيلي.
وقد روي نحوه من حديث ابن عمر، إلا أن إسناده وهم، وإنما هو حديث أم فروة -: قاله الدارقطني في " العلل".
وروي نحوه من حديث الشفاء بنت عبد الله.
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الصلاة على وقتها - أو على مواقيتها)) : دليل – أيضا - على فضل أول الوقت للصلاة؛ لأن " على " للظرفية، كقولهم:((كان كذا على عهد فلان)) ، والأفعال الواقعة في الأزمان المتسعة عنها لا تستقر فيها، بل تقع في جزء منها، لكنها إذا وقعت في أول ذلك الوقت فقد صار الوقت كله ظرفاً لها حكماً.
ولهذا سمى المصلي مصليا في حال
صلاته وبعدها أماحقيقة أو مجازاً على اختلاف في ذلك، وأماقبل الفعل في الوقت فليس بمصل حقيقة ولا حكماً، وإنما هو مصل بمعنى استباحة الصلاة فقط، فإذا صلى في أول الوقت فإنه لم يسم مصلياً إلا في آخر الوقت.
وقوله: ((ثم بر الوالدين)) لما كان ابن مسعود له أم احتاج إلى ذكر بر والديه بعد الصلاة؛ لأن الصلاة حق الله وحق الوالدين متعقب لحق الله عز وجل، كما قال تعالى:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] .
وقوله: ((ثم الجهاد في سبيل الله)) ؛ لأن الجهاد فرض كفاية، والدخول فيه بعد قيام من سقط به حق فرض الكفاية تطوع إذا لم يتعين بحضور العدو، ولهذا تقدم بر الوالدين على الجهاد إذا لم يتعين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن أراد أن يجاهد معه:((إلك والدان؟)) قال: نعم. [قال] :
…
((ففيهما فجاهد)) – وفي رواية: ((فأمره أن يرجع إليهما)) .
فذكر النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود أن أفضل الأعمال القيام بحقوق الله التي فرضها على عباده فرض، وأفضلها: الصلاة لوقتها، ثم القيام بحقوق عباده، وأكده بر الوالدين، ثم التطوع بأعمال البر، وأفضلها الجهاد في سبيل الله.
وهذا مما يستدل به الإمام أحمد ومن وافقه على أن أفضل أعمال التطوع الجهاد.
فإن قيل: فقد روي خلاف ما يفهم منه ما دل عليه حديث ابن مسعود هذا؛ ففي
…
" الصحيحين"، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي
الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله)) . قيل: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) . قيل: ثم أي؟ قال: ((حج مبرور)) .
وفيهما – أيضا - عن أبي ذر، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله، والجهاد في سبيله)) .
ولم يذكر في هذين الحديثين الصلاة ولا بر الوالدين، وروي نصوص أُخر بأن الجهاد أفضل الأعمال مطلقاً، وروي ما يدل على أن أفضل الأعمال ذكر الله عز وجل، وجاء ذلك صريحاً عن جماعة كثيرة من الصحابة – رضي الله عنهم.
قيل: هذا مما أشكل فهمه على كثير من الناس، وذكروا في توجيهه والجمع بين النصوص الواردة به وجوها غير مرضية.
فمنهم من قال: أراد بقوله: " أفضل الأعمال كذا" أي: أن ذلك من أفضل الأعمال، لا أنه أفضلها مطلقاً.
وهذا في غاية البعد.
ومنهم من قال: أجاب كل سائل بحسب ما هو أفضل الأعمال له خاصة كما خص ابن مسعود بذكر الوالدين لحاجته إليه، ولم يذكر ذلك لغيره.
لكن أبو هريرة كانت له أم – أيضا.
وظهر لي في الجمع بين نصوص هذا الباب ما أنا ذاكره بحمد الله
وفضله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فنقول:
لا ريب أن أفضل الأعمال ما افترضه الله على عباده، كما ذكرنا الدليل عليه في أول الكلام على هذا الحديث، وأولى الفرائض الواجبة على العباد وأفضلها الإيمان بالله ورسوله، تصديقاً بالقلب، ونطقاً باللسان، وهو النطق بالشهادتين، وبذلك بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بالقتال عليه، وقد سبق ذلك مبسوطا في " كتاب الإيمان".
ثم بعد ذلك: الإتيان ببقية مباني الإسلام الخمس التي بني عليها، وهي: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر من يبعثه يدعو إلى الإسلام أن يدعو أولاً إلى الشهادتين، ثم إلى الصلاة، ثم إلى الصيام، ثم إلى الزكاة، كما أمر بذلك معاذ بن جبل لما أرسله إلى اليمن، وكان يعلم من يسأله عن الإسلام مبانيه الخمس، كما في حديث سؤال جبريل عليه السلام له عن الإسلام، وكما في حديث طلحة، أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الأعرأبي الذي سأله عن الإسلام المباني.
فإذا تقرر هذا، فقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة لما سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله)) فهذا وجه ظاهر، لا إشكال فيه؛ فإن الإيمان بالله ورسوله أفضل الأعمال مطلقاً، وسمى الشهادتين مع التصديق بهما عملاً، لما في ذلك من عمل القلب واللسان.
وقد قرر البخاري ذلك في " كتاب الإيمان" وسبق الكلام عليه في موضعه.
وقوله في حديث أبي هريرة: ((ثم الجهاد في سبيل الله)) ، وفي حديث أبي ذر:"والجهاد" - بالواو - يشهد له أن الله قرن بين الإيمان به وبرسوله
والجهاد في سبيله في مواضع، كقوله تعالى: ? {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} ، وقوله:{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف: 10، 11] الآية.
فالإيمان بالله ورسوله: التصديق بهما في القلب مع الإقرار بذلك باللسان. والجهاد هو دعاء الناس إلى ذلك بالسيف والسنان، بعد دعائهم بالحجة والبيان، ولهذا يشرع الدعاء إلى الإسلام قبل القتال.
وقد قيل: إن الجهاد كان في أول الإسلام فرض عين على المسلمين كلهم، لا يسع أحداً التخلف عنه، كما قال تعالى:{انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41] ، ثم بعد ذلك رخص لأهل الأعذار، ونزل قوله:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] ، روي ذلك عن ابن عباس وغيره، وحينئذ فيحتمل جعل النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأعمال بعد الإيمان الجهاد معنيين:
أحدهما: أن يقال: إنما كان ذلك حيث كان الجهاد فرض عين، فكان حينئذ أفضل الأعمال بعد الإيمان، وقريناً له، فلما نزلت الرخصة وصار الجهاد فرض كفاية تاخر عن فرض الأعيان.
وقد اختلف ابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص في عد الجهاد
من فرائض الإسلام، فعده عبد الله بن عمرو منها بعد الحج، وأنكر ذلك ابن عمر عليه، وقال: فرائضه تنتهي إلى الحج.
وقد روى اختلافهما في ذلك أبو عبيد في " كتاب الناسخ والمنسوخ" وغيره.
وعد حذيفة بن اليمان الجهاد من سهام الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأضافهما إلى مباني الإسلام الخمس، وجعلها ثمانية سهام، وكأنه جعل الشهادتين سهمين.
والثاني - وهو أشبه -: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل عن أفضل الأعمال، فتارةً يذكر الإيمان بالله ورسوله لدخوله في مسمى الأعمال، كما سبق تقريره، وتارة يذكر أعمال الجوارح؛ لأن المتبادي إلى الفهم عند ذكر الأعمال مع الإطلاق أعمال الجوارح، دون عمل القلب واللسان، فكان إذا تبين له أن ذلك هو مراد السائل ذكر الصلاة له، كما ذكرها في حديث ابن مسعود هذا؛ فإن الصلاة أفضل أعمال الجوارح، وحيث اجاب بذكر الإيمان أو بذكر الصلاة، فإنما مقصوده التمثيل بأفضل مباني الإسلام، ومراده المباني بجملتها؛ فإن المباني الخمس كالشيء الواحد، وكل من دخل في الإسلام بالإقرار بالشهادتين أو بالصلاة - على رأي من يرى فعلها إسلاماً -، فإنه يؤمر ببقية المباني، ويلزم بذلك، ويقاتل على تركه.
وفي حديث خرجه الإمام أحمد. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع فرضهن الله في الإسلام، فمن أتى بثلاث لم يغنين عنه شيئاً حتى يأتي بهن
جيمعاً: الصلاة، والزكاة، وصيام رمضان، [وحج البيت] )) .
وفي حديث آخر: ((الدين خمس لا يقبل الله منهن شيئاً دون شيء)) - فذكر مباني الإسلام الخمس، وأن من أتى ببعضها دون بعض لم يقبل منه.
ونفي القبلول لها بمعنى نفي الرضا بذلك واستكمال الثواب عليه، وحينئذٍ فذكر بعض المباني مشعر بالباقي منها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم تارة يكتفي في جواب من ساله عن أفضل الأعمال بالشهادتين، وتارة بالصلاة، ومراده في كلا الجوأبين سائر المباني، لكنه خص بالذكر أشرفها، فكأنه قال: الشهادتان وتوابعهما، والصلاة وتوابعها ولوازمها، وهو بقية المباني الخمس.
ويشهد لهذا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم)) .
فتوهم طائفة من الصحابة أن مراده أن مجرد هذه الكلمة يعصم الدم حتى توقفوا في قتال من منع الزكاة، حتى بين لهم أبو بكر -
ورجع الصحابة إلى قوله -: أن المراد: الكلمتان بحقوقهما ولوازمهما، وهو الإتيان ببقية مباني الإسلام.
وقد تبين صحة قولهم بروايات أخر تصرح بإضافة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة إلى الشهادتين في شرط عصمة الدم.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((من قال: لا إله إلا الله لم تمسه النار - أو دخل الجنة)) .
إنما أراد الشهادتين بلوازمهما وتوابعهما، وهو الإتيان ببقية أركان الإسلام ومبانيه.
وفي حديث ابن مسعود قدم بر الوالدين على الجهاد إشارة إلى أن حقوق العباد اللازمة التي هي من فروض الأعيان تقدم على التطوع بالجهاد.
وحديث أبي هريرة وأبي ذر فيهما اقتران الجهاد بالإيمان، لكنه في حديث أبي هريرة جعله بعد الإيمان، وجعل بعده الحج المبرور، فيحتمل أن يقال: كان ذلك في زمان كان الجهاد فيه فرض عين، فكان مقدماً على الحج، ويحتمل أن يقال: قد فهم دخول الحج من ذكر الإيمان بالله ورسوله؛ لأن ذلك يتبعه بقية مباني الإسلام، ومنها الحج، لا سيما وقد تقرر في أول الكتاب أن الإيمان قول وعمل ويكون المراد به جهاد المتطوع.
وهذا أشبه بقواعد الشريعة؛ فإن من معه مال، وعليه زكاة أو حج، وأراد التطوع بالجهاد، فإنه لا خلاف أنه يقدم الزكاة والحج على التطوع بالجهاد، كما قال عبد الله بن عمرو بن العاص: حجة قبل الغزو أفضل من عشر غزوات، وغزوة بعد حجة أفضل من عشر حجات.
وروي - مرفوعا - من وجوه في أسانيدها مقال.
فتبين بهذا التقرير أن الأحاديث كلها دالة على أن أفضل الأعمال الشهادتان مع توابعهما، وهي بقية مباني الإسلام، أو الصلاة مع توابعها - أيضا - من فرائض الأعيان التي هي من حقوق الله عز وجل، ثم يلي ذلك في الفضل حقوق العباد التي هي من فروض الأعيان، كبر الوالدين، ثم بعد ذلك [أعمال] التطوع المقربة إلى الله، وأفضلها الجهاد.
وفي حديث أبي هريرة تأخير الحج عن الجهاد، ولعله إنما ذكره بعد الجهاد حيث كان الحج تطوعاً، فإن الصحيح أن فرضه تأخر إلى عام الوفود.
وقد يقال: حديث أبي هريرة دل على أن جنس الجهاد أشرف من جنس الحج، فإن عرض للحج وصف يمتاز به على الجهاد وهو كونه فرض عين، كان ذلك الحج المخصوص أفضل من الجهاد، وإلا فالجهاد أفضل منه.
فهذه الثلاثة المذكورة في هذا الحديث هي رأس الإسلام وعموده وذروة سنامه، كما في حديث معاذ: ((فرأسه الشهادتان، وعموده
الصلاة، وذروة سنامه الجهاد)) .
والجهاد أفضل ما تطوع به من الأعمال، على ما دلت عليه النصوص الصحيحة الكثيرة، وهو مذهب الإمام أحمد.
وفي " الصحيحين" عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((أفضل الناس مؤمن آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره)) .
فهذا نص في أن المجاهد أفضل من المتخلي لنوافل العبادات من الصلاة والذكر وغير ذلك، فأماالنصوص التي جاءت بتفضيل الذكر على الجهاد وغيره من الأعمال، وأن الذاكرين لله أفضل الناس عند الله مطلقاً فالمراد بذلك أهل الذكر الكثير المستدام في أغلب الأوقات.
وليس الذكر مما يقطع عن غيره من الأعمال كبقية الأعمال، بل يمكن اجتماع الذكر مع سائر الأعمال، فمن عمل عملاً صالحاً، وكان أكثر لله ذكراً فيه من غيره فهو أفضل ممن عمل مثل ذلك العمل من غير أن يذكر الله معه.
وقد ورد في نصوص متعددة أن أفضل المصلين والمتصدقين والمجاهدين والحاج وغيرهم من أهل العبادات أكثرهم لله ذكراً.
وقد خرجه الإمام أحمد متصلاً، وخرجه ابن المبارك وغيره مرسلاً.
فهؤلاء أفضل الناس عند الله، ثم يليهم الذين يذكرون الله كثيراً وليس لهم نوافل من غير الذكر كالجهاد وغيره، بل يقتصرون مع الذكر على فرائض الأعيان، فهؤلاء هم الذاكرون لله كثيراً، المفضلون على المجاهدين، ويليهم قوم يقومون بالفرائض وبالنوافل كالجهاد وغيره من غير ذكر كثير لهم.
وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عما يعدل الجهاد: ((هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر، وتقوم ولا تفتر؟)) . قال: لا. قال: ((فذلك الذي يعدل الجهاد)) ؛ لأنه سأله عن عمل ينشئه عند خروج المجاهد يعادل فضل جهاده.
وأماالذاكرون لله كثيراً، فإنما فضلوا على المجاهدين بغير ذكر؛ لأن لهم عملاً مستمراً دائماً قبل جهاد المجاهدين، ومعه وبعده، فبذلك فضلوا على المجاهدين بغير ذكر كثير.
وبهذا تجتمع النصوص الواردة في ذلك.
وأماحديث: ((خير الإسلام إطعام الطعام وافشاء السلام)) فقد سبق الكلام عليه في أول الكتاب، وأنه ليس المراد به تفضيل هاتين الخصلتين على سائر خصال الإسلام من الشهادتين والصلاة وغيرهما، بل المراد أن أفضل أهل الإسلام القائمين بخصاله المفروضة من الشهادتين والصلاة والصيام والزكاة والحج من قام بعد ذلك بإطعام الطعام وافشاء السلام.
فإن قيل: فيكون التطوع بذلك أفضل من التطوع بالجهاد والحج.
قيل: فيه تفصيل: فإن كان إطعام الطعام فرض عين كنفقة من
تلزم نفقته من الأقارب فلا ريب أنه أفضل من التطوع بالنفقة في الجهاد والحج، فإن كان تطوعاً، فإن كان صلة رحم فهو أفضل من الجهاد والحج، نص عليه أحمد وكذا إن كان في عام مجاعة ونحوها، فهو أفضل من الحج عند الإمام أحمد، وقد يقال في الجهاد كذلك إذا لم يتعين.
وهذا الكلام كله في تفضيل بعض الأعمال على بعض لذاتها، فأماتفضيل بعض الأعمال على بعض لزمانها أو مكانها فإنه قد يقترن بالعمل المفضول من زمان أو مكان ما يصير به فاضلاً، فهذا فيه كلام آخر نذكره في موضع آخر - إن شاء الله سبحانه وتعالى.
6 - باب
الصلوات الخمس كفارة للخطايا
إذا صلاهن لوقتهن في الجماعة وغيرها
528 -
حدثني إبراهيم بن حمزة: ثنا ابن أبي حازم والدراوردي، عن يزيد بن عبد الله، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمان، عن أبي هريرة، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:((أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً ما تقول ذلك يبقي من درنه؟)) قالوا: لا يبقي من درنه شيئاً. قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها الخطايا)) .
هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لمحو الخطايا بالصلوات الخمس، فجعل مثل ذلك مثل من ببابه نهر يغتسل فيه كل يوم خمس مرار، كما أن درنه ووسخه ينقى بذلك حتى لا يبقى منه شيء، فكذلك الصلوات الخمس في كل يوم تمحو الذنوب والخطايا حتى لا يبقى منها شيء.
واستدل بذلك بعض من يقول: إن الصلاة تكفر الكبائر والصغائر، لكن الجمهور القائلون بأن الكبائر لا يكفرها مجرد الصلاة بدون توبة،
يقولون: هذا العموم خص منه الكبائر بما خرجه مسلم من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، ما اجتنبت الكبائر)) .
وفيه – أيضا -: عن عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها؛ إلا كانت كفارةً لما قبلها من الذنوب، ما لم تؤت كبيرة وكذلك الدهر كله)) .
وخرج النسائي وابن حبان والحاكم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((والذي نفسي بيده، ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة، ثم قيل له: ادخل بسلام)) .
وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي أيوب، عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه - أيضا.
وقال ابن مسعود: الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.
وروي عنه مرفوعاً. والموقوف أصح.
وقال سلمان: حافظوا على هذه الصلوات الخمس؛ فإنهن كفارة لهذه الجراح، ما لم تصب المقتلة.
وقد حكى ابن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك، وأن الكبائر لا تكفر بمجرد الصلوات الخمس، وإنما تكفر الصلوات الخمس الصغائر خاصة.
وقد ذهب طائفة من العلماء، منهم: أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا – إلى أن اجتناب الكبائر شرط لتكفير الصلوات الصغائر، فإن لم تجتنب الكبائر لم تكفر الصلوات شيئاً من الصغائر، وحكاه ابن عطية في " تفسيره" عن جمهور أهل السنة؛ لظاهر قوله:((ما اجتنبت الكبائر)) .
والصحيح الذي ذهب إليه كثير من العلماء، ورجحه ابن عطية، وحكاه عن الحذاق: أن ذلك ليس بشرط، وأن الصلوات تكفر الصغائر مطلقاً إذا لم يصر عليها، فإنها بالإصرار عليها تصير من الكبائر.
وحديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري في هذا الباب وغيره من الأحاديث يدل على ذلك، وقد ذكر البخاري في تبويبه عليه أن صلاتهن في وقتهن شرط لتكفير الخطايا، وأخذ ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم:((يغتسل فيه كل يوم خمساً)) ، وهذا يدل على تفريق الصلوات خمس مرار في كل يوم وليلة، ومن جمع بينهما في وقت واحد أو في وقتين أو ثلاثة لغير عذر لم يحصل منه هذا التفريق ولا تكرير الاغتسال، وهو بمنزلة من اغتسل مرة أو مرتين أو ثلاثاً.
وحديث عثمان الذي خرجه مسلم يدل على أن كل صلاة تكفر ذنوب ما بينهما وبين الصلاة الأخرى خاصة، وقد ورد مصرحاً بذلك في أحاديث كثيرة.
وحينئذ؛ فمن ترك صلاة إلى وقت صلاة أخرى لغير عذر وجمع بينهما فلا يتحقق أن هاتين الصلاتين المجموعتين في وقت واحد لغير عذر يكفران ما مضى من الذنوب في الوقتين معاً، وإنما يكون ذلك إن كان الجمع لعذر يبيح الجمع.
وتمثيله صلى الله عليه وسلم بالنهر هو مبالغة في إنقاء الدرن؛ فإن النهر الجاري يذهب الدرن الذي غسل فيه ولا يبقى له فيه أثر، بخلاف الماء الراكد؛ فإن الدرن الذي غسل فيه يمكث في الماء، وربما ظهر مع كثرة الاغتسال فيه على طول الزمان؛ ولهذا روي النهي عن الاغتسال في الماء الدائم كما سبق ذكره في الطهارة.
وفي " صحيح مسلم" من حديث الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات)) . قال: قال الحسن: وما يبقى ذلك من الدرن.
وقد روي عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن عبيد بن عمير، عن
النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
قال أبو حاتم: كذلك أرسله الحفاظ، وهو أشبه.
وروي تشبيه الصلوات بخمس أنهار.
خرجه ابن جرير الطبري والطبراني والبزار من طريق يحيى بن أيوب: وحدثني عبد الله بن قريط، أن عطاء بن يسار حدثه، أنه سمع أبا سعيد الخدري يحدث، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الصلوات
الخمس كفارة ما بينهما)) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرأيت لو أن رجلاً كان له معتمل، وبين منزله ومعتمله خمسة أنهار، فإذا انطلق إلى معتمله عمل ما شاء الله، فأصابه الوسخ والعرق، فكلما مر بنهر اغتسل ما كان ذلك مبقياً من درنه، فكذلك الصلوات، كلما عمل خطيئة أو ما شاء الله، ثم صلى صلاة فدعا واستغفر غفر له ما كان قبلها)) .
وخرج البزار نحوه - أيضا - من طريق عمر بن صهبان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه متابعة لابن قريط، ولكن ابن صهبان فيه ضعف شديد.
وأمااستنباط البخاري: أن هذا التكفير لا يشترط له أن تكون الصلاة في جماعة، فإنه أخذه من قوله ((بباب أحدكم)) ، ومن صلى في بيته فهو كمن صلى في باب منزله.
ولقائل أن يقول: لو كان الأمر على ذلك لجعل النهر في المنزل، فلما جعله ببابه دل على أنه خارج من بيته، ففيه إشارة إلى الصلاة في المساجد، وإن قربت من المنازل.
وحديث أبي سعيد صريح في أن النهر بين المنزل وبين المعتمل، وهو
المكان الذي يعمل فيه المرء عمله وينتشر فيه لمصالح اكتسابه ونحو ذلك.
وهذا مما يدل على أن المراد بالدرن الصغائر التي تصيب الأنسان في كسبه ومعاشه ومخالطته للناس المخالطة المباحة.
7 - باب
في تضييع الصلاة عن وقتها
529 -
حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا مهدي، عن غيلان، عن أنس، قال: ما أعرف شيئاً مما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل: الصلاة؟ قال: أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها؟
530 -
حدثنا عمرو بن زرارة: ثنا عبد الواحد بن واصل أبو عبيدة الحداد، عن عثمان بن أبي رواد أخي عبد العزيز، قال: سمعت الزهري يقول: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت.
وقال بكر بن خلف: حدثنا محمد بن بكر البرساني: أبنا عثمان بن أبي رواد نحوه.
إنما كان يبكي أنس بن مالك من تضييع الصلاة إضاعة مواقيتها، وقد جاء ذلك مفسراً عنه، وروى سليمان بن المغيرة، عن ثابت، قال: قال أنس: ما أعرف فيكم
اليوم شيئاً كنت أعهده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس قولكم: لا إله إلا الله. قلت: يا أبا حمزة، الصلاة؟ قال: قد صليتم حين تغرب الشمس، فكانت تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ !.
خرجه الإمام أحمد.
ورواه حماد بن سلمة، أن ثابتاً أخبره، قال: قال أنس: ما شيء شهدته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد أنكرته اليوم، إلا شهادتكم هذه. فقيل: ولا الصلاة؟ فقال: إنكم تصلون الظهر مع المغرب، أهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلي؟ !.
وهذا استفهام إنكار من أنس، يعني: ان هذه لم تكن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وخرج الإمام أحمد من حديث عثمان بن سعد، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ما أعرف شيئاً مما عهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم. قيل له: ولا الصلاة؟ قال: أوليس قد علمت ما صنع الحجاج في الصلاة؟
ويقال: أن الحجاج هو أول من أخر الصلاة عن وقتها بالكلية، فكان يصلي الظهر والعصر مع غروب الشمس، وربما كان يصلي الجمعة عند غروب الشمس، فتفوت الناس صلاة العصر، فكان بعض التابعين يومئ في المسجد الظهر والعصر خوفا من الحجاج.
وقد روي هذا الحديث عن أنس من وجوه متعددة.
وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي عمران الجوني، عن أنس، قال: ما أعرف شيئاً مما كنا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: أين الصلاة؟ قال: أو لم تصنعوا في صلاتكم ما قد علمتم؟
وغيلان - الذي خرجه البخاري من طريقه أولاً، عن أنس - هو: ابن جرير، رواه عنه مهدي بن ميمون.
وعثمان بن أبي رواد هو اخو عبد العزيز بن أبي رواد، يكنى: أبا عبد الله. قال ابن معين: كان ثقة. وقد روى عنه شعبة وغيره، وقد بين البخاري أنه روى عنه هذا الحديث: أبو عبيدة الحداد ومحمد بن بكر البرساني.
وبكر بن خلف الذي علق البخاري عنه الحديث، يقال له: ختن المقرئ، يكنى ابا بشر، ثقة، روى عنه أبو داود وابن ماجه.
ولهم شيخ آخر، يقال له: عثمان بن جبلة بن أبي رواد المروزي والد عبدان عبد الله بن عثمان، وهو ابن أخي عثمان هذا، يروي عن شعبة وطبقته، وروى عنه عمه عثمان بن أبي رواد، وهو ثقة – أيضا -، وقد خرج البخاري عن أبيه عبدان، عنه.
8 - باب
المصلي يناجي ربه عز وجل
531 -
حدثنا مسلم بن إبراهيم: نا هشام، عن قتادة، عن أنس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم إذا صلى يناجي ربه، فلا يتفلن عن يمينه، ولكن تحت قدمه اليسرى)) .
وقال سعيد، عن قتادة:((لا يتفل قدامه أو بين يديه. ولكن عن يساره أو تحت قدمه)) .
وقال شعبة: ((لا يبزق بين يديه، ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه)) .
وقال حميد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((لا يبزق في القبلة، ولا عن يمينه، ولكن عن شماله، أو تحت قدمه)) .
532 -
حدثنا حفص بن عمر: ثنا يزيد بن إبرهيم: ثنا قتادة، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:((اعتدلوا في السجود، ولا يبسط احدكم ذراعية كالكلب، وإذا بزق فلا يبزق بين يديه، ولا عن يمينه؛ فإنه يناجي ربه عز وجل) .
عامة إلفاظ حديث أنس التي علقها هاهنا قد خرجها في " أبواب القبلة والبزاق في المسجد". وخرج هناك مناجاة المصلي لربه عز وجل من حديث أبي هريرة، ومعناه من حديث ابن عمر، وذكرنا نحن هناك أحاديث متعددة في هذا المعنى، وتكلمنا [على ذلك] بما فيه كفاية.
والنجاء: الحديث الخفي. والنداء: عكسه.
وإنما خرج البخاري هذه الأحاديث في هذا الباب ليبين بذلك فضل الصلاة، وإن المصلى مناج لربه في صلاته، وإذا كان المصلي مناجياً لربه وكان ربه قد أوجب عليه أن يناجيه كل يوم وليلة خمس مرات في خمس أوقات، واستدعاه لمناجاته بدخول الوقت والأذان فيه؛ فإن الأذان يشرع في أول الوقت، فإفضل المناجين له أسرعهم إجابة لداعيه، وقيأماإلى مناجاته، ومبادرة إليها في أول الوقت.
ولهذا المعنى - والله أعلم - خرجه في " أبواب مواقيت الصلاة".
ويستدل لذلك بأن الله تعالى لما استدعى موسى عليه السلام لمناجاته وكلامه أسرع إليه، فقال له ربه:{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 83، 84] فدل على أن المسارعة إلى مناجاة الله توجب رضاه.
وهذا دليل حسن على فضل الصلاة في أول أوقاتها. والله سبحانه وتعالى أعلم.
9 - باب
الإبراد بالظهر في شدة الحر
خرج فيه أربعة أحاديث:
الحديث الأول:
قال:
533، 534 - ثنا أيوب بن سليمان بن بلال: ثنا أبو بكر، عن سليمان، قال صالح بن كيسان: حدثنا الأعرج عبد الرحمان وغيره، عن أبي هريرة - ونافع مولى عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر -، أنهما حدثاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:((إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم)) .
أبو بكر، هو: ابن أبي أويس. وسليمان، هو: ابن بلال.
وهذا من جملة نسخة يرويها أيوب، عن أبي بكر، عن سليمان. والبخاري يخرج منها كثيراً، وقد توقف فيها أبو حاتم الرازي؛ لأنها مناولة، فإنه قال: قال ابن أبي أويس: أخذت أنا وأيوب بن سليمان بن بلال من أخي ألفاً ومائتي ورقة مناولة، فعارضنا بها. قال أبو حاتم: فزهدت فيها من أجل ذلك، فلم أسمعها من واحد منهما.
ولكن الرواية بالمناولة جائزة عند الأكثرين.
وقد ذكر الطبراني أن هذا الحديث تفرد به أيوب بهذا الإسناد.
ولكن قد روي حديث الأعرج، عن أبي هريرة من غير هذا الوجه.
خرجه ابن ماجه عن هشام بن عمار، عن مالك، عن أبي الزناد، عنه. وهو في " الموطا" كذلك.
وكذلك حديث نافع، خرجه ابن ماجة - أيضا - من طريق الثقفي، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((أبردوا بالظهر)) .
الحديث الثاني:
535 -
حدثنا محمد بن بشار: ثنا غندر ثنا شعبة، عن المهاجر أبي الحسن: سمع زيد بن وهب، عن أبي ذر: أذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم الظهر، فقال:((أبرد، أبرد)) - او قال - ((انتظر، انتظر)) - وقال: ((شدة الحر من فيح جهنم؛ فإذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة)) . حتى رأينا فيء التلول.
قال ابن خراش في " تاريخه": زيد بن وهب، كوفي ثقة، دخل الشام، وروايته عن أبي ذر صحيحة. والمهاجر أبو الحسن صدوق كوفي.
وهذا الحديث لم يروه إلا شعبة: ((أبردوا بالظهر)) .
الحديث الثالث:
قال:
536 -
ثنا علي بن عبد الله المديني: ثنا سفيان، قال: حفظناه من الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم)) .
537 -
((واشتكت النار إلى ربها، فقالت: ربي، أكل بعضي بعضاً. فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير)) .
قول سفيان بن عيينة: ((حفظناه من الزهري عن سعيد)) يشير إلى أنه إنما حفظه عن الزهري، عن ابن المسيب، لم يحفظه عنه عن أبي سلمة.
وقد روي عن ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد أو أبي سلمة - بالشك.
ذكره الدارقطني.
وروي عن الزهري، عن أبي سلمة وحده، عن أبي هريرة -: قاله عنه شعيب بن أبي حمزة.
وقد خرج البخاري في " بدء الخلق" من طريقه بهذا الإسناد حديث:
((اشتكت النار إلى ربها)) .
ورواه جماعة، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة - معاً -، عن أبي هريرة.
وقد خرج مسلم حديث: الإبراد من رواية الليث ويونس وعمرو بن الحارث، عن الزهري، عنهما.
وخرج حديث: ((اشتكت النار)) من حديث يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وحده.
وروى حديث [الإبراد] عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة - معاً -: يحيى الأنصاري
…
وعبيد الله بن عمر وابن جريج وابن أبي ذئب ومعمر وغيرهم.
قال الدارقطني: القولان محفوظان عن الزهري.
يعني: عن سعيد وأبي سلمة.
الحديث الرابع:
538 -
حدثنا عمر بن حفص بن غياث: ثنا أبي: ثنا الأعمش: ثنا أبو صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبردوا بالظهر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم)) .
تابعه: سفيان ويحيى وأبو عوانة، عن الأعمش.
يعني: كلهم رووه، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري.
وقد خرجه البخاري في " بدء الخلق" عن الفريأبي، عن سفيان كذلك، ولفظه:((أبردوا بالصلاة)) .
إلا أن رواية حفص فيها تصريح الأعمش بسماعه له من أبي صالح، فأمن بذلك تدليسه له عنه.
وإنما ذكر البخاري المتابعة لحفص على قوله؛ لأن عبد الرزاق والأشجعي روياه، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.
ذكره الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله.
وخرجه كذلك في " مسنده" في " مسند أبي هريرة"، ثم أتبعه بحديث أبي سعيد أنه هو الصواب.
وكذلك حدث به عبد الرحمان بن عمر الأصبهاني – ويلقب: رسته -، عن ابن مهدي، عن سفيان، أملاه عليهم - قال أبي: من حفظه -، فأنكره عليه أبو زرعة، وقال: هو غلط؛ الناس يروونه عن أبي سعيد، فلما رجع رسته إلى بلده نظر في أصله فإذا هو عن أبي سعيد، فرجع عما أملاه، وكتب إلى أبي زرعة يعتذر عما وقع منه.
وعامة روايات هذا الحديث من طرقه إنما فيها: ((أبردوا بالصلاة)) أو ((عن الصلاة)) ، وليس في شيء منها في " الصحيح" ذكر " الظهر"، إلا في رواية أبي سعيد التي خرجها البخاري هاهنا.
وفي أحاديث الباب كله؛ الأمر بالإبراد بالصلاة في اشتداد الحر.
قال الخطأبي: قوله: ((أبردوا بالصلاة)) أي: تأخروا عنها مبردين، أي: داخلين في وقت البرد. قال: والمراد: كسر شدة [حر] الظهيرة؛ لأن فتور حرها بالإضافة إلى وهج الهاجرة برد، وليس المراد أن يؤخر إلى أحد بردي النهار، وهو برد العشي؛ إذ فيه الخروج من قول الأمة.
قال: وفيح جهنم شدة استعارها، وأصله السعة والانتشار، وكانت العرب تقول في غاراتها: فيحي فياح.
وقال غيره: الفيح سطوع الحر، يقال: فاحت القدر تفوح إذا غلت.
وأماقول صاحب " الغريبين": أبردوا بالظهر: صلوها في أول وقتها. وبرد النهار أوله.
فهو خطأ، وتغيير للمعنى، وصلاة الظهر في أول وقتها في شدة الحر ليس إبراداً، بل هو ضده، بخلاف أول النهار، كما في الحديث:((من صلى البردين دخل الجنة)) .
وقد بوب البخاري على هذه الأحاديث: ((الإبراد بالظهر في شدة الحر)) فدل ذلك على أنه يرى الإبراد في شدة الحر بكل حال، سواء كان في البلاد الحارة أو غيرها، وسواء كان يصلي جماعة أو وحده.
وهذا قول كثير من أهل العلم، وذكر طائفة من المالكية كالقاضي إسماعيل وأبي الفرج أنه مذهب مالك، وذكر صاحب " المغني" من أصحابنا أنه ظاهر كلام أحمد والخرقي، ورجحه، وكذلك حكاه ابن المنذر عن أحمد وإسحاق، وحكاه الخطأبي عن أحمد ورجحه ابن المنذر، وحكاه عن أهل الرأي، وحكاه الترمذي في " جامعه" عن ابن المبارك وأحمد وإسحاق، ورجحه.
ولذلك ذكر
بعض الشافعية أنه ظاهر الحديث، ومال إليه، والمنصوص عن الشافعي: أنه لا يستحب الإبراد إلا في شدة الحر في البلاد الحارة لمن يصلي جماعة في موضع يقصده الناس من بعد، كذا نص عليه في " الأم"، وعليه جمهور أصحابه.
ولهم وجه: أنه لا يشترط البلاد الحارة، وحكوا قولاً للشافعي: أنه لا يشترط بعد المسجد، بل يبرد ولو كانت منازلهم قريبة منه.
واشترط طائفة من أصحابنا للإبراد: أن تكون الصلاة في مسجد، قالوا: وسواء كان مما ينتابه الناس أو لا، وأن تكون البلدان حارة شديدة الحر أو متوسطة.
ومنهم من اشترط مسجد الجماعة فقط.
وكذلك قال ابن عبد الحكم وطائفة من المالكية العراقيين: أنه لا يبرد إلا بالصلاة في مساجد الجماعة دون من صلى منفرداً.
وذكر القاضي إسماعيل، عن ابن أبي أويس، عن مالك، قال: بلغني أن عمر قال لأبي محذورة: إنك بأرض حارة، فأبرد، ثم أبرد، ثم ناد، فكأنني عندك.
واختلفوا في المعنى الذي لأجله أمر بالإبراد.
فمنهم من قال: هو حصول الخشوع في الصلاة؛ فإن الصلاة في شدة الحر
كالصلاة بحضرة طعام تتوق نفسه إليه، وكصلاة من يدافع الأخبثين، فإن النفوس حينئذ تتوق إلى القيلولة والراحة، وعلى هذا فلا فرق بين من يصلي وحده أو في جماعة.
ومنهم من قال: هو خشية المشقة على من بعد من المسجد بمشيه في الحر، وعلى هذا فيختص الإبراد بالصلاة في مساجد الجماعة التي تقصد من الأمكنة المتباعدة.
ومنهم من قال: هو وقت تنفس جهنم.
وقد ثبت في " صحيح مسلم" من حديث عمرو بن عبسة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم اقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر)) .
وفي " صحيحي ابن خزيمة وابن حبان" من حديث أبي هريرة - مرفوعاً، قال:
((فإذا انتصف النهار فاقصر عن الصلاة حتى تميل الشمس؛ فإن حينئذ تسعر جهنم، وشدة الحر من فيح جهنم، فإذا مالت الشمس فالصلاة محضورة مشهودة متقبلة حتى تصلي العصر)) .
وخرجه ابن ماجه، ولفظه: " فإذا كانت - يعني: الشمس – على رأسك كالرمح فدع الصلاة؛ فإن تلك الساعة تسعر فيها جهنم، وتفتح فيها أبوابها، حتى تزيغ الشمس عن حاجبك الأيمن، فإذا زالت فالصلاة
محضورة متقبلة".
وهذا يدل على أن شدة الحر عقيب الزوال من أثر تسجرها، فكما تمنع الصلاة وقت الزوال، فإنه يستحب تأخرها بعد الزوال حتى يبرد حرها ويزول شدة وهجها؛ فإنه إثر وقت غضب، والمصلي يناجي ربه، فينبغي أن يتحرى بصلاته أوقات الرضا والرحمة، ويجتنب أوقات السخط والعذاب، وعلى هذا فلا فرق بين المصلي وحده وفي جماعة – أيضا.
والأمر بالإبراد أمر ندب واستحباب، لا أمر حتم وإيجاب، هذا مما لا خلاف فيه بين العلماء.
فإن شذ أحد من أهل الظاهر جرياً على عادتهم، ولم يبال بخرق إجماع المسلمين، كان محجوباً بالإجماع قبله، وبحديث عمرو بن عبسة وأبي هريرة المذكورين، فإنهما يصرحان بأن الصلاة بعد الزوال مشهودة محضورة متقبلة، ولم يفرق بين فرض ونفل.
وذهب طائفة من العلماء إلى أن الإبراد رخصة، وأن تركه سنة، والصلاة في أول الوقت بكل حال أفضل، وهو قول الليث بن سعد وطائفة من أصحاب الشافعي.
والأحاديث الصحيحة ترده.
وقد جعل مالك القول بترك الإبراد قول الخوارج.
وأماحد الإبراد، فقال القاضي أبو يعلى من أصحابنا: يكون بين الفراغ من الصلاة وبين آخر وقت الصلاة فضل.
وقال الشافعية: حقيقة الإبراد: أن يؤخر الصلاة عن أول الوقت بقدر ما يحصل للحيطان فيء يمشي فيه طالب الجماعة، ولا يؤخر عن النصف الأول من الوقت.
وحكى سفيان الثوري وإسحاق بن راهوية عن بعض العلماء، أنه إذا أخر الصلاة إلى نصف وقتها فلم يفرط، وإذا أخرها حتى كانت إلى وقت الصلاة الأخرى أقرب فقد فرط.
ولعله يريد: أنه يكره ذلك، لا أنه يحرم.
وأماصلاة الظهر في غير شدة الحر، فجمهور العلماء على أن الأفضل تعجيلها، وفيه خلاف عن مالك يأتي ذكره فيما بعد - إن شاء الله.
واستدل من لم ير استحباب الإبراد بحديث خباب بن الأرت: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء، فلم يشكنا، وقد ذكرناه في " باب: السجود على الثوب"، وذكرنا أن الصحيح في تفسيره: أنهم طلبوا منه تأخير الصلاة بالهاجرة، فلم يجبهم إلى ذلك، وأمرهم بالصلاة إذا زالت الشمس.
وقد أجيب عنه بوجهين:
أحدهما: أنهم طلبوا منه التأخير الفاحش المقارب آخر الوقت، فلم يجبهم إليه.
والثاني: أنه منسوخ بالأمر بالإبراد، وهو جواب الإمام أحمد والأثرم.
واستدلا بحديث المغيرة بن شعبة، قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
الظهر بالهاجرة، فقال لنا:((أبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم)) .
خرجه الإمام أحمد وابن حبان في " صحيحه" وابن ماجه.
وزعمت طائفة أن معنى حديث خباب: أنهم شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يعذبون في رمضاء مكة في شدة الحر، وسألوه أن يدعو لهم، فلم يجبهم.
وهذا بعيد، وألفاظ الحديث ترده، وقد سبق ذكره.
وأماقوله صلى الله عليه وسلم: ((اشتكت النار إلى ربها)) ، فالمحققون من العلماء على أن الله أنطقها بذلك نطقاًحقيقياً كما ينطق الأيدي والأرجل والجلود يوم القيامة، وكما أنطق الجبال وغيرها من الجمادات بالتسبيح والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك مما يسمع نطقه في الدنيا.
ويشهد لذلك: ما خرجه الإمام أحمد والترمذي - وصححه -، من حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((يخرج عنق من النار يوم القيامة، لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين)) .
وقد روي عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
خرجه الإمام أحمد - أيضا.
وقيل: إن هذا الإسناد هو المحفوظ.
وخرجه البزار بهذا الإسناد، ولفظ حديثه:((يخرج عنق من النار يتكلم بلسان طلق ذلق، لها عينان تبصر بهما، ولها لسان تتكلم به)) - وذكر الحديث.
وقوله: ((فأشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير)) - بمعنى: أنه من تنفس جهنم.
وقد فسر ذلك الحسن بما يحصل منه للناس أذى من الحر والبرد.
قال ابن عبد البر: أحسن ما قيل في معنى هذا الحديث: ما روي عن الحسن البصري رحمه الله، قال: اشتكت النار إلى ربها، قالت: يارب، أكل بعضي بعضاً، فخفف عني. قال: فخفف عنها، وجعل لها كل عام نفسين، فما كان من برد يهلك شيئاً فهو من زمهريرها، وما كان من سموم يهلك شيئاً فهو من حرها.
وقد جعل الله تعالى ما في الدنيا من شدة الحر والبرد مذكوراً بحر جهنم وبردها، ودليلاً عليها، ولهذا تستحب الاستعاذة منها عند وجود ذلك.
كما روى عثمان الدارمي وغيره من رواية دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد - أو عن ابن حجيرة الأكبر، عن أبي هريرة، أو أحدهما - حدثه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا كان يوم حار، فإذا قال الرجل: لا إله إلا الله، ما أشد حر هذا اليوم، اللهم أجرني من حر
جهنم، قال الله لجهنم: إن عبداً من عبيدي استجارني من حرك، وأنا أشهدك أني قد أجرته، وإذا كان يوم شديد البرد، فإذا قال العبد: لا إله إلا الله، ما أشد برد هذا اليوم، اللهم أجرني من زمهرير جهنم، قال الله لجهنم: إن عبداً من عبادي قد استعاذني من زمهريرك، فإني أشهدك أني قد أجرته)) . قالوا: وما زمهرير جهنم؟ قال: ((بيت يلقى فيه الكافر فيتميز من شدة بردها)) .
10 - باب
الإبراد بالظهر في السفر
539 -
حدثنا آدم: ثنا شعبة: ثنا مهاجر أبو الحسن مولى لبني تيم الله، قال: سمعت زيد بن وهب، [عن أبي ذر] الغفاري، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال له:" أبرد"، ثم أراد أن يؤذن، فقال له:" أبرد"، حتى رأينا فيء التلول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة".
وقال ابن عباس: {يَتَفَيَّأُ} [النحل: 48] يتميل.
مقصود البخاري بهذا الباب: أن الإبراد بالظهر مشروع في الحضر والسفر، وسواء كان جماعة المصلين مجتمعين في مكان الصلاة أو كانوا غائبين.
وقد استدل الترمذي في " جامعه" بهذا الحديث على أن الإبراد لا يختص بالمصلي في مسجد ينتابه الناس من البعد، كما يقوله الشافعي؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو وأصحابه مجتمعين في السفر، وقد أبرد بالظهر.
وقوله: " حتى رأينا فيء التلول" - يعني: حتى مالت الشمس وبعدت عن وسط السماء، حتى ظهر للتلول فيء.
والفيء هو الظل العائد بعد زواله، فإن الشمس إذا طلعت كان للتلول ونحوها ظل مستطيل، ثم يقصر حتى يتناهى قصره وقت قيام الشمس بالظهيرة، ثم إذا زالت الشمس عاد الظل وأخذ في الطول، فما كان قبل الزوال يسمى ظلاً، وما كان بعده يسمى فيئاً؛ لرجوع الظل بعد ذهابه، ومنه سمى الفيء فيئاً، كأنه عاد إلى المسلمين ما كانوا أحق به مما كان في يده.
وقد حكى البخاري عن ابن عباس أنه فسر قوله: {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ} : يتميل.
وفي حديث أبي ذر دليل على أن حد الإبراد إلى [أن] يظهر فيء التلول ونحوها.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم من حديث ابن مسعود، قال: كان قدر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصيف ثلاثة أقدام، وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام.
وقد روي موقوفاً على ابن مسعود، وأنه قال في الصيف: ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام.
قال بعض أصحابنا: وهذا يدل على أنه إلى الطرف الأول أقرب، وهذا يشبه قول الشافعية: أنه لا يؤخر إلى النصف الآخر من الوقت، وهو
الصحيح.
وقد تقدم عن سفيان، أنه حكى عن بعض العلماء، أنه عد التاخير إلى النصف الثاني تفريضاً، فظاهر حديث أبي ذر الذي خرجه البخاري يدل على انه يشرع الإبراد بالأذان عند إرادة الإبراد بالصلاة، فلا يؤذن إلا في وقت يصلي فيه، فإذا أخرت الصلاة أخر الأذان معها، وأن عجلت عجل الأذان.
وقد وقع في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن من أخر الصلاة في السفر إلى آخر وقتها وهو سائر، أنه يؤذن إذا نزل وأراد الصلاة، وحملوا فعل ابن مسعود بالمزدلفة على ذلك، إذا دخل وقت الثانية أذن لها.
ويشهد لذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة جمع لما غربت له الشمس بعرفة، ودفع، لم ينقل عنه أنه أذن للصلاة، فلما قدم جمعاً أذن وأقام وصلى.
وهذا يدل على أن الصلاتين المجموعتين في وقت الثانية لا يؤذن لهما إلا عند صلاتهما في وقت الثانية، فيكون الأذان للوقت الذي يصلي فيه لا للوقت الذي يجمع فيه.
ولكن قد روى أبو داود الطيالسي هذا الحديث في " مسنده"، عن شعبة - وخرجه من طريقه الترمذي - ولفظه: قال أبو ذر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ومعه بلال، فأراد ان يقيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أبرد"، ثم أراد أن يقيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أبرد في الظهر". قال: حتى رأينا فيء التلول، ثم أقام فصلى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن شدة الحر من فيح جهنم، فأبردوا عن الصلاة".
ففي هذه الرواية التصريح بأن الإبراد إنما كان بالإقامة، والإقامة تسمى أذاناً، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:" بين كل أذانين صلاة"، ومراده: بين الأذان والإقامة.
وقد خرجه البخراي في الباب الماضي، ولفظه: أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، فقال:"أبرد، أبرد" - أو قال: " انتظر، انتظر".
وهذا – أيضا - يدل على أنه إنما أخره بالإبراد والانتظار بعد ان أذن، وهو دليل على أنه يؤذن في أول وقت الصلاة بكل حال، سواء أبراد أو لم يبرد.
ولكن إن أراد تأخيرها عن وقتها بالكلية حتى يصليها في وقت الثانية جمعاً، فإنه يؤخر الأذان إلى وقت الثانية.
ويدل على هذا: ما خرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة، قال: كان بلال يؤذن إذا دحضت الشمس، فلا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا خرج أقام حين يراه.
وفي الأذان للمجوعتين في وقت الثانية خلاف يذكر في موضع آخر.
ومتى فرق بين المجموعتين في وقت الثانية تفريقاً كثيراً، فقال القاضي أبو يعلى من أصحابنا: تحتاج الثانية إلى أذان آخر.
وقد روي عن ابن مسعود في جمعه بالمزدلفة ما يشهد له. والله سبحانه وتعالى أعلم.
11 - باب
وقت الظهر عند الزوال
وقال جابر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة.
حديث جابر هذا خرجه في " باب وقت المغرب "، ويأتي في موضعه - إن شاء الله.
وقد سبق الحديث أبي جحيفة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالبطحاء بالهاجرة.
وقد ذكرنا - أيضا - حديث جابر بن سمرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر إذا دحضت الشمس.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث زيد بن ثابت، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم يكن (يصلي) صلاة أشد على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منها، فنزلت:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} (البقرة: 238) .
وخرج الإمام أحمد والنسائي نحوه من حديث أسامة بن زيد، أن رسول الله كان يصلي الظهر بالهجير، ولا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم، فأنزل الله:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} .
والحديثان إسنادهما واحد، مختلف فيه، وفيه نظر.
خرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
قال:
540 -
حدثنا أبو اليمان: أبنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس، فصلى الظهر، فقام على المنبر، فذكر الساعة؛ فذكر أن فيها أموراً عظاماً، ثم قال:" من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل، فلا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم ما دمت في مقامي " فأكثر الناس في البكاء، وأكثر أن يقول:" سلوا "، فقام عبد الله بن حذاقة السهمي، فقال: من أبي؟ قال: " أبوك
حذافة "، ثم أكثر أن يقول: " سلوني " فبرك عمر على ركبتيه، فقال: رضينا بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد نبيا. فسكت. ثم قال: " عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط، فلم أر كالخير والشر ".
زيغ الشمس: ميلها، وهو عبارة عن زوالها.
والحديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر في ذلك اليوم حين زالت الشمس من غير مهلة، لكن هل كانت تلك عادته في صلاة الظهر، أم
عجلها ذلك اليوم لأمر حدث حتى يخبرهم به، ولذلك خطبهم وذكر الساعة؟
هذا محتمل، والثاني أظهر، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يؤخر صلاة الظهر في شدة الحر، كما تقدم، وأمافي غير ذلك فكان يعجلها، لكن هل كانت عادته أن يدخل في صلاة الظهر حين تزول الشمس في غير وقت شدة الحر دائما؟ هذا فيه نظر، بل الأظهر خلافه.
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم، أنه كان يصلي إذا زالت الشمس أربع ركعات، ويقول:
" إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، ويستجاب الدعاء " خرجه الترمذي وغيره.
وقد كان يصلي قبل الظهر ركعتين، وروي عنه أنه كان يصلي أربعا.
وهذا كله يدل على أنه لم يكن يحرم الصلاة عقيب الزوال من غير مهلة بينهما.
وقد ذكرنا في الباب الماضي حديث ابن مسعود في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة – يعني: قدر الظل.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه أمر بلالاً أن يجعل بين أذانه وإقامته قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته.
خرجه الترمذي من حديث جابر، وقال: إسناده مجهول.
وخرجه عبد الله ابن الإمام أحمد من حديث أبي بن كعب.
وخرجه الدارقطني وغيره من حديث علي.
وروي – أيضا – من حديث أبي هريرة وسلمان.
وأسانيده كلها ضعيفة.
والصحيح عند أصحابنا: أنه يستحب أن تكون الصلاة بعد مضي قدر الطهارة وغيرها من شرائط الصلاة، وكذلك هو الصحيح عند أصحاب الشافعي، وقالوا: لا يضر الشغل الخفيف كأكل لقم وكلام قصير، ولا يكلف خلاف العادة.
ولهم وجه آخر: أنه لا يحصل فضيلة أول الوقت حتى يقدم ذلك كله قبل الوقت حتى تنطبق الصلاة على أول الوقت.
قال بعضهم: وهذا غلط صريح مخالف للسنة المستفيضة، وقد جعله مالك قول الخوارج وأهل الاهواء.
وللشافعية وجه آخر: لا تفوت فضيلة أو نصف الوقت، ولا يستحب عندهم أن ينتظر بها مصير الفيء مثل الشراك.
وحكى الساجي، عن الشافعي، أنه يستحب ذلك، وحكى عن غيره أنه لا يجوز فعلها قبل ذلك؛ فإن جبريل عليه السلام صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم أول يوم الظهر والفيء مثل الشراك.
وهذا ليس بشيء، وهو مخالف للإجماع، وقد حمل حديث جبريل على أن الشمس يومئذ زالت على قدر الشراك من الفيء.
ونقل ابن القاسم، عن مالك، أنه كان يستحب لمساجد الجماعات أن يؤخروا صلاة الظهر بعد الزوال حين يكون الفيء ذراعاً، صيفا وشتاءً،
عملا بما رواه في " الموطإ " عن نافع، أن عمر كتب إلى عماله بذلك.
وقال سفيان الثوري: كان يستحب أن يمهل المؤذن بين أذانه وإقامته في الصيف مقدار أربعين آية، وفي الشتاء على النصف منها، ويمهل في العصر أربعين آية، وفي الشتاء على النصف منها، وفي المغرب إذا وجبت الشمس أذن، ثم قعد قعدة، ثم قام وأقام الصلاة. قال: ويمهل في العشاء الآخرة قدر ستين آية. وفي الفجر إذا طلع الفجر أذن، ثم صلى ركعتين، ثم سبح الله وذكره.
وهذا يدل على استجابة الإبراد بالعصر في الصيف.
وحكي مثله عن أشهب من المالكية.
وقد استحب كثير من السلف المشي إلى المساجد قبل الأذان، وكان الإمام أحمد يفعله في صلاة الفجر، والاثار في فضل المبادرة بالخروج إلى المساجد كثيرة.
وبقية الحديث، قد سبق الكلام عليه، بعضه في " كتاب العلم "، وبعضه في " الصلاة على التنور والنار ".
وعرض الحائط – يضم العين -: جانبه.
الحديث الثاني:
قال:
541 -
حدثنا حفص بن عمر: ثنا شعبة، عن أبي المنهال، عن أبي برزة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح وأحدنا يعرف جليسه، ويقرأ
فيها ما بين الستين إلى المئة، ويصلي الظهر إذا زالت الشمس، والعصر وأحدنا يذهب إلى أقصى المدينة، ثم يرجع والشمس حية، ونسيت ما قال في المغرب، ولا يبالي بتأخر العشاء إلى ثلث الليل – ثم قال: إلى شطر الليل.
وقال معاذ: قال شعبة: ثم لقيته مرة، فقال: أو ثلث الليل.
الكلام على هذا الحديث يأتي مفرقاً في أبوابه، حيث أعاد البخاري تخريجه فيها.
والغرض منه هاهنا صلاة الظهر، وأنه كان يصليها إذا زالت الشمس، وهذا يدل على مداومته على ذلك، أو على كثرته وتكراره، وهذا هو الأغلب في استعمال:" كان فلان يفعل ". وإنما يقع ذلك لغير التكرار نادراً.
وهذا لا ينافي ما قدمنا أنه يتأهب لها بعد دخول الوقت، وبعد الأذان فيه، وصلاة ركعتين أو أربع.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة إذا زالت الشمس ومعلوم أنه كان يخطب قبل صلاته خطبتين، ثم يصلي، وهذا كله لا يمنع أن يقال: كان يصلي الظهر أو الجمعة إذا زالت الشمس.
وفي رواية لحديث أبي برزة – وقد خرجها البخاري فيما بعد -: كان يصلي الهجير التي تدعونها الاولى إذا دحضت الشمس.
وفي هذه الرواية: أن لصلاة الظهر اسمين آخرين:
أحدهما: الهجير؛ لأنها تصلى بالهاجرة.
والثاني: الأولى.
وقيل: سميت بذلك لأنها أول
صلاة صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم عند البيت، في أول ما فرضت الصلوات الخمس ليلة الإسراء.
الحديث الثالث:
قال:
542 -
حدثنا محمد بن مقاتل: ثنا عبد الله: أبنا خالد بن عبد الرحمان: حدثني غالب القطان، عن بكر بن عبد الله المزني، عن أنس بن مالك، قال: كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر.
قد سبق هذا الحديث في " باب: السجود على الثياب".
وفيه: دليل على أن صلاة الظهر كانت تصلى في حال شدة حر الحصى الذي يسجد عليه.
ويشهد لهذا المعنى: حديث خباب: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء، فلم يشكنا، وكله يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يبرد بالظهر إبراداً يسيراً حتى تنكسر شدة الحر، ولم يكن يؤخرها إلى آخر وقتها حتى يبرد الحصى.
وقد روي بمثل هذا الإسناد الذي خرجه البخاري ها هنا عن بكر، عن أنس، قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فيأخذ أحدنا الحصى في يده، فإذا برد وضعه وسجد عليه.
ذكره البيهقي في كتاب " المعرفة " تعليقاً.
والمعروف في هذا حديث جابرٍ، قال: كنت أصلي الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآخذ قبضة من الحصى لتبرد في كفي، أضعها لجبهتي، أسجد عليها؛ لشدة الحر.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في " صحيحه" والحاكم.
وليس هذا مما ينهى عنه من مس الحصى في الصلاة، كما سيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى – فإن ذلك المنهي عنه مسه عبثا، وهذا لمصلحة المصلي.
وقال مالك: يكره أن ينقل التراب والحصى من موضع الظل إلى موضع الشمس ليسجد عليه.
12 - باب
تأخير الظهر إلى العصر
543 – حدثنا أبو النعمان: ثنا حماد بن زيد، عن عمرو - وهو: ابن دينار - عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
فقال أيوب: لعله في ليلة مطيرة؟ قال: عسى.
وخرجه مسلم من طريق حماد - أيضا -، ولم يذكر فيه قول أيوب.
وخرجه من طريق ابن عيينة، عن عمرو، ولفظ حديثه: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثمانيا جميعاً وسبعاً جميعاً. قلت: يا أبا الشعثاء، أظنه أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا أظن ذلك.
وخرجه البخاري - أيضا - في " أبواب: صلاة التطوع".
وخرجه النسائي عن قتيبة، عن سفيان، وأدرج تفسيره في الحديث.
قال ابن عبد البر: الصحيح: أن هذا ليس من الحديث، إنما هو من ظن أبي الشعثاء وعمرو بن دينار.
ورواه محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، وزاد في حديثه:" من غير مرضٍ ولا علة".
خرجه من طريقه الطبراني.
ومحمد بن مسلم، ليس بذاك الحافظ.
وخرج النسائي من طريق حبيب بن أبي حبيب، عن عمرو بن هرم، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، أنه صلى بالبصرة الأولى والعصر، ليس بينهما شيء، والمغرب والعشاء، ليس بينهما شيء، [فعل ذلك من شغلٍ، وزعم ابن عباس، أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الأولى والعصر ثمان سجدات، ليس بينهما شيء] .
وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من وجوه أخر، بألفاظ مختلفة، روي عنه من رواية سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً بالمدينة، في غير خوفٍ ولا سفرٍ.
خرجه مسلم.
وخرجه أبو داود، وزاد: قال مالك: أرى ذلك كان في مطرٍ.
وخرجه مسلم – أيضا - من طريق زهير، عن أبي الزبير - بمثله، وزاد: قال ابن عباس: أراد أن لا يحرج أحداً من أمته.
وخرجه – أيضا - من طريق قرة، عن أبي الزبير، وذكر فيه: أن ذلك كان في سفرةٍ سافرها في غزوة تبوك، وذكر فيه قول ابن عباس: أراد
أن لا يحرج أمته.
وخرج - أيضا - من طريق الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة، في غير خوف ولا مطر. قلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: كيلا يحرج أمته.
وقد اختلف على الأعمش في إسناد هذا الحديث، وفي لفظه - أيضا -:
فقال كثير من أصحاب الأعمش، عنه فيه: من غير خوف ولا مطر.
ومنهم من قال عنه: من غير خوف ولا ضررٍ.
ومنهم من قال: ولا عذرٍ.
وذكر البزار، أن لفظة " المطر" تفرد بها حبيبٌ، وغيرهُ لا يذكرها. قال: على أن عبد الكريم قد قال نحو ذلك.
وكذلك تكلم فيها ابن عبد البر.
وروينا من طريق عبد الحميد بن مهدي البالسي: حدثنا المعافي بن سليمان الجزري: ثنا محمد بن سلمة: ثنا أبو عبد الرحيم، عن
زيد بن [أبي أنيسة، عن] أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة من غير مطر ولا قر الظهر والعصر جمعاً. قلت له: لم فعل ذلك؟ قال ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته.
وعن زيد، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس – مثله.
ولكن؛ عبد الحميد هذا، قال فيه الحافظ عبد العزيز النخشبي: عنده مناكير.
وأمارواية عبد الله بن شقيق، فمن طريق الزبير بن الخريت، عن عبد الله بن شقيق، قال: خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة. قال فجاءه رجل من بني تميم، لايفتر ولا ينثني: الصلاة الصلاة. فقال ابن عباس: أتعلمني السنة لا أم لك؟ ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة، فسألته فصدق مقالته.
خرجه مسلم.
وخرجه - أيضا - من رواية عمران بن حدير، عن عبد لله بن شقيق، قال: قال رجل لابن عباس: الصلاة، فسكت، ثم قال: الصلاة، فسكت، ثم قال: الصلاة، فسكت، ثم قال: لا أم لك، تعلمنا الصلاة؟ ! كنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأمارواية عكرمة، فمن طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيما غير مسافر سبعاً وثمانياً.
خرجه الإمام أحمد.
وفي رواية أشعث بن سوار - وفيه ضعف -، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة، من غير خوف ولا مطر، أراد التخفيف عن أمته.
وأمارواية عطاء بن يسار، فمن رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، من غير مرض ولا مطر. فقيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: التوسعة على أمته.
خرجه حرب الكرماني، عن يحيى الحماني، عن عبد الرحمان، به.
وعبد الرحمان، فيه ضعف.
وأمارواية صالح مولى التوأمة، فذكرها أبو داود تعليقاً. وفيها: من
غير مطر.
وخرجها الإمام أحمد من طريق داود بن قيس، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، في غير مطر ولا سفر. قالوا: يا أبن عباس، ما أراد بذلك؟ قال: التوسع على الامة.
وصالح، مختلف في أمره، وفي سماعه من ابن عباس - أيضا.
وفي الباب أحاديث أخر، في أسانيدها مقال.
وخرج النسائي من رواية يحيى بن هانئ المرادي: حدثنا أبو حذيفة، عن عبد الملك بن محمد بن أبي بشير، عن عبد الرحمان بن علقمة، قال: قدم وفد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم، فأهدوا له هدية، وقعد معهم يسألهم ويسألونه، حتى صلى الظهر مع العصر.
قال الدارقطني: عبد الملك وابو حذيفة مجهولان. وعبد الرحمان بن علقمة لا تصح صحبته ولا يعرف.
وقد اختلفت مسالك العلماء في حديث ابن عباس هذا، في الجمع من غير خوف ولا سفر، ولهم فيه مسالك متعددة:
المسلك الاول: أنه منسوخ بالإجماع على خلافه، وقد حكى الترمذي في آخر " كتابه" أنه لم يقل به أحد من العلماء.
وهؤلاء لا يقولون: إن الإجماع ينسخ، كما يحكى عن بعضهم، وإنما يقولون: هو يدل على وجود نص ناسخ.
المسلك الثاني: معارضته بما يخالفه، وقد عارضه الإمام أحمد بأحاديث المواقيت، وقوله:" الوقت ما بين هذين"، وبحديث أبي ذر في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وأمره بالصلاة في الوقت، ولو كان الجمع جائزاً من غير عذر لم يحتج إلى ذلك، فإن أولئك الأمراء كانوا يجمعون لغير عذرٍ، ولم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل، ولا صلاة الليل إلى النهار.
وكذلك في حديث أبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لما ناموا عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس:" ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الاخرى".
خرجه مسلم.
وخرجه أبو داود، وعنده:" إنما التفريط في اليقظة أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقت صلاة اخرى".
وقد عارض بعضهم حديث ابن عباس هذا بحديث آخر يروى عنه، وقد أشار إلى هذه المعارضة الترمذي وابن شاهين، وهو من رواية حنش، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من جمع بين
صلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من ابواب الكبائر".
خرجه الترمذي.
وقال: حنش هذا هو أبو علي الرحبي، وهو حسين بن قيس، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أحمد وغيره، والعمل على هذا عند أهل العلم.
يعني: على حديث حنش مع ضعفه.
وخرجه الحاكم وصححه، ووثق حنشا، وقال: هو قاعدة في الزجر عن الجمع بلا عذر.
ولم يوافق على تصحيحه.
وقال العقيلي: ليس لهذا الحديث أصل.
ورواه بعضهم، وشك في رفعه ووقفه.
كذلك خرجه الحارث بن أبي اسامة.
ولعله من قول ابن عباس.
وقد روي مثله عن عمر وأبي موسى:
وروي وكيع، عن سفيان، عن هشام، عن رجل، عن أبي العالية، عن عمر بن الخطاب، قال: الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر.
وعن أبي هلال الراسبي، عن حنظلة السدوسي، عن أبي موسى، قال: الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر.
المسلك الثالث: حمله على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الظهر إلى آخر وقتها، فوقعت في آخر جزء من الوقت، وقدم العصر في أول وقتها، فصلاها في أول جزء من الوقت، فوقعت الصلاتان مجموعتين في الصورة، وفي المعنى كل صلاة وقعت في وقتها، وفعل هذا ليبين جواز تأخير الصلاة [إلى] آخر وقتها.
وقد روي من حديث معاذ بن جبل، أن جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين بتبوك كان على هذا الوجه - أيضا.
خرجه الطبراني في " أوسطه" بإسناد في ضعف.
وقد سبق عن عمرو بن دينار وأبي الشعثاء، أنهما حملا الحديث على هذا الوجه، كما خرجه مسلم، وأشار اليه الإمام أحمد وغيره.
وعلى مثل ذلك حمل الجمع بين الصلاتين في السفر بغير عرفة والمزدلفة من لا يرى الجمع في السفر، منهم: سفيان الثوري وغيره من الكوفيين.
والمسلك الرابع: أن ذلك كان جمعا بين الصلاتين لمطر، وهذا هو الذي حمله عليه ايوب السختياني كما في رواية البخاري، وهو الذي حمله عليه مالك - أيضا.
ومن ذهب إلى هذا المسلك فإنه يطعن في رواية من روى: " من غير خوف ولا مطر" كما قاله البزار وابن عبد البر وغيرهما.
ومن حمل الحديث على هذا فإنه يلزم من قوله جواز الجمع في الحضر للمطر بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقد اختلف في ذلك:
فأماالجمع بين العشاءين للمطر، فقد روي عن ابن عمر.
روى مالك، عن نافع، أن ابن عمر كان يجمع في الليلة المطيرة.
وقد رويناه من طريق سفيان بن بشير، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعاً -، ولا يصح رفعه.
وفيه حديث آخر مرفوع من رواية أولاد سعد القرظ، عن آبائهم، عن أجدادهم، عن سعد القرظ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين المغرب والعشاء في المطر.
خرجه الطبراني.
وإسناده ضعيف.
قال يحيى في أولاد سعد القرظ: كلهم ليسوا بشيء.
وممن رأى الجمع للمطر: مالك في المشهور عنه، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.
وروي عن عمر بن عبد العزيز، عن فقهاء المدينة السبعة.
وعن مالك رواية: لا يجوز الجمع للمطر إلا في المدينة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لفضله، ولأنه ينتاب من بعد، فيجمع بينهما بعد مغيب الشفق، وليس بالمدينة غيره.
والمشهور عنه الأول.
وأصل هذا: أن الأمراء بالمدينة كانوا يجمعون في الليلة المطيرة، فيؤخرون المغرب ويجمعون بينها وبين العشاء قبل مغيب الشفق،
وكان ابن عمر يجمع معهم، وقد علم شدة متابعة ابن عمر للسنة، فلو كان ذلك محدثا لم يوافقهم عليه البتة.
وقد نص على ان جمع المطر يكون على هذا الوجه المذكور قبل مغيب الشفق: مالك وأحمد وإسحاق.
وقيل لأحمد: فيجمع بينهما بعد مغيب الشفق؟ قال: لا، إلا قبل، كما فعل ابن عمر. وقال: يجمع إذا اختلط الظلام.
وأماالجمع بين الظهر والعصر في المطر، فالأكثرون على أنه غير جائز: وقال أحمد: ما سمعت فيه شيئاً. وأجازه الشافعي إذا كان المطر نازلاً، وبه قال أبو ثور، هو رواية عن أحمد.
والعجب من مالك رحمه الله كيف حمل حديث ابن عباس على الجمع للمطر، ولم يقل به في الظهر والعصر، والحديث صريح في جمع الظهر والعصر والمغرب والعشاء؟!
المسلك الخامس: أن الذي نقله ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان في السفر لا في الحضر، كما في رواية قرة، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن ذلك كان في غزوة تبوك، وقد خرجه مسلم كما تقدم.
وكذلك روى عبد الكريم، عن مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس، أخبروه عن ابن عباس، أنه أخبرهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين المغرب والعشاء في السفر من غير أن يعجله شيء، ولا يطلبه عدو،
ولا يخاف شيئا.
ولكن؛ عبد الكريم هذا، هو: أبو أمية، وهو ضعيف جداً.
وأكثر رواة حديث ابن عباس ذكروا أن جمعه كان بالمدينة، وهم أكثر وأحفظ.
والمسلك السادس: أن جمعه ذلك كان لمرض.
وقد روي عن الإمام أحمد، أنه قال: هذا عندي رخصة للمريض والمرضع.
وقد اختلف في جمع المريض بين الصلاتين:
فرخص فيه طائفة، منهم: عطاء والنخعي والليث وأحمد وإسحاق.
وكذلك جوزه مالك للمضطر في [رمضة] ، فإن جمع لغير ضرورة أعاد في الوقت عنده، وعند أبي حنيفة.
والشافعي لا يبيح من المرض الجمع بين الصلاتين بحالٍ.
واستدل من أباح الجمع للمريض، بأمر النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة أن تجمع بين الصلاتين بغسل واحد؛ لمشقة الغسل عليها لكل صلاة، وذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث حمنة بنت جحش وعائشة وأسماء بنت عميس، وفي أسانيدها بعض شيء.
وأمر به: علي وابن عباس، وهو قول عطاء والنخعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق.
والمسلك السابع: أن جمعه كان لشغل، وفي رواية حبيب بن أبي حبيب، عن عمرو بن هرم، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، أنه جمع من شغل، كما خرجه النسائي وقد سبق.
وكذلك في حديث عبد الرحمان بن علقمة، أن وفد ثقيف شغلوا النبي صلى الله عليه وسلم.
وخرج النسائي من رواية سالم، عن ابن عمر، أنه لما استصرخ على امرأته صفية أسرع السير، وجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ?: " إذا حضر أحدكم أمراً يخشى فوته فيصلي هذه الصلاة".
وخرجه النسائي، وفي رواية له:"إذا حضر أحدكم الأمر الذي يخاف فواته، فليصل هذه الصلاة".
وقد نص أحمد على جواز الجمع بين الصلاتين للشغل.
قال القاضي وغيره من أصحابنا: مراده: الشغل الذي يباح معه ترك الجمعة والجماعة.
وفي ذلك نظر.
وعن ابن سيرين: لا بأس بالجمع بين الصلاتين للحاجة والشيء مالم يتخذ عادة.
المسلك الثامن: حمل الحديث على ظاهره، وأنه يجوز الجمع بين
الصلاتين في الحضر لغير عذر بالكلية، وحكي ذلك عن ابن عباس وابن سيرين، وعن أشهب صاحب مالك.
وروى ابن وهب وغيره، عن مالك أن آخر وقت الظهر والعصر غروب الشمس.
قال ابن عبد البر: وهذا محمول عند أصحابه على أهل الضرورات كحائض تطهرت، ومغمى عليه يفيق.
وحكى – أيضا - عن طاوس: امتداد الظهر والعصر إلى غروب الشمس.
وعن عطاء: امتدادهما إلى أن تصفر الشمس.
وكذلك روي عن عطاء وطاوس أن وقت المغرب والعشاء لا يفوت حتى يطلع الفجر.
وحكي معنى ذلك عن ربيعة، وأن الوقتين مشتركان، وأن وقت الصلاتين يمتد إلى غروب الشمس.
وحكي عن أهل الحجاز جملة.
وعده الأوزاعي مما يجتنب من أقوالهم، فروى الحاكم، عن الأصم: أخبرنا العباس بن الوليد البيروتي: ثنا أبو عبد الله بن بحر، قال: سمعت الأوزاعي يقول: يجتنب من قول أهل العراق: شرب المسكر، والأكل عند الفجر في رمضان، ولا جمعة إلا في سبعة أمصار، وتأخير صلاة العصر حتى يكون ظل كل شيء أربعة امثاله، والفرار يوم الزحف. ومن قول أهل الحجاز: استماع الملاهي، والجمع بين الصلاتين من غير عذر، والمتعة بالنساء، والدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين، وإتيان النساء
في أدبارهن.
قال الأثرم في " كتاب العلل": قلت لأبي عبد الله – يعني: أحمد – أي شيء تقول في حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً، من غير خوف ولا سفر؟
فقال: ابن عباس كما ترى قد أثبت هذا - أو صححه -، وغيره يقول - ابن عمر ومعاذٌ وغير واحدٍ -، يقولون: إنه في السفر. فقلت: أيفعله الأنسان؟ فقال: إنما فعله لئلا يحرج أمته.
وذكر الأثرم نحوه في " كتاب مسائله لأحمد"، وزاد: قال أحمد: أليس قال ابن عباس: أن لا يحرج أمته، إن قدم رجل أو آخر - نحو هذا.
وهذا الذي زاده في " كتاب المسائل" يبين أن أحمد حمله على تأخير الصلاة الأولى إلى آخر وقتها، وتقديم الثانية إلى أول وقتها، كما حمله على ذلك أبو الشعثاء وعمرو بن دينار وغيرهما كما سبق. والله أعلم.
وقول ابن عباس: " من غير خوف ولا سفر"، يدل بمفهومه على جواز الجمع للخوف والسفر، فأماالجمع للسفر فيأتي الكلام فيه في موضعه - إن شاء الله تعالى -، وأماالجمع للخوف للحضر فظاهر حديث ابن عباس جوازهُ.
وقد اختلف العلماء في جواز تأخير الصلاة عن وقتها بالكلية، وإن لم تكن مما تجمع، كتأخير صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، والعصر حتى تغرب الشمس، إذا اشتد الخوف.
وفيه عن أحمد روايتان.
فتأخير الصلاتين المحموعتين إلى وقت الثانية وتقديمها في أول وقت الأولى إذا احتيج إلى ذلك في الخوف أولى بالجواز، بل لاينبغي أن يكون في جوازه خلاف عند من يبيح الجمع للسفر والمرض والمطر، ونحو ذلك من الأعذار الخفيفة.
وعن أحمد روايتان في جواز الفطر في الحضر للقتال، ومن أصحابنا من طردهما في قصر الصلاة - أيضا.
وقد حكى ابو عبيد في " غريبه" عن عثمان بن عفان – رضي الله عنه جواز قصر الصلاة في الحضر للخوف.
فالجمع أولى بالجواز. والله أعلم.
13 - باب
وقت العصر
خرج فيه عن عائشة، وأبي برزة، وأنس:
فحديث عائشة: خرجه من طرق مسندات تعليقاً، فقال:
وقال أبو أسامة، عن هشام: في قعر حجرتها.
وفي بعض النسخ ذكر هذا بعد ان اسنده من حديث أبي ضمرة، وهو أحسن وقال:
544 -
نا إبراهيم بن المنذر، قال: نا أنس بن عياض، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس لم تخرج من حجرتها.
545 -
ثنا قتيبة: ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العصر والشمس في حجرتها، لم يظهر الفيء من حجرتها.
546 -
ثنا ابو نعيم: نا ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة،
عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة العصر والشمس طالعة في حجرتي، لم يظهر الفيء بعد.
قال ابو عبد الله: وقال مالك، ويحيى بن سعيد، وشعيب، وابن أبي حفصة: والشمس قبل أن تظهر.
حديث مالك هذا الذي اشار اليه، قد خرجه في أول " كتاب: المواقيت" في ضمن حديث أبي مسعود الأنصاري، من طريق مالك، عن الزهري، ولفظه: قال عروة: ولقد حدثتني عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها، قبل أن تظهر.
وكان مقصود عروة: الاحتجاج على عمر بن عبد العزيز رحمه الله حيث أخر العصر يوماً شيئاً، فأخبره عروة بهذا الحديث، مستدلاً به على ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجل العصر في اول وقتها.
ووجهة الدلالة من الحديث على تعجيل العصر: أن الحجرة الضيقة القصيرة الجدران يسرع ارتفاع الشمس منها، ولا تكون الشمس فيها موجودة، إلا والشمس مرتفعة في الافق جداً.
وفسر الهروي وغيره: ظهور الشمس من الحجرة بعلوها على السطح، فيكون الظهور العلو، ومنه: قوله تعالى: {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف:33]، وقوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ
يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق".
وقد ذكر ابن عبد البر في معنى ظهور الشمس من الحجرة في هذا الحديث قولين: أحدهما: العلو كما تقدم. والثاني: أن معناه خروج الشمس من قاعة الحجرة. قال: وكل شيء خرج فقد ظهر.
قلت: ورواية أبي ضمرة أنس بن عياض، عن هشام التي خرجها البخاري ها هنا تدل على هذه؛ لأنه قال في روايته:" والشمس لم تخرج من حجرتها " وفي رواية الليث وغيره: " لم يظهر الفيء من حجرتها ".
والفيء: هو الظل بعد الزوال بذهاب الشمس منه، والمعنى: أن الفيء لم يعم جميع حجرتها، بل الشمس باقية في بعضها.
وعلى هذه الرواية، فيكون معنى ظهور الفيء من الحجرة: وجوده وبيانه ووضوحه.
وفسر - أيضا - ظهوره: بعلوه لجدر الحجرة.
وفسر محمد بن يحيى الهمداني في " صحيحه" ظهور الفيء بغلبته على الشمس. قال: والمعنى: لم يكن الفيء أكثر من الشمس حين صلى العصر، كما يقال: ظهر فلان على فلان إذا غلب عليه.
وفي بعض روايات ابن عيينة لهذا الحديث زيادة: " بيضاء نقية".
وأمارواية أبي أسامة، عن هشام التي ذكرها البخاري - تعليقا -:" والشمس في قعر حجرتها"، فهذه الرواية تدل على أن الشمس كانت موجودة في وسط الحجرة وأرضها، لم تظهر على جدران الحجرة.
وهذه الرواية تدل على شدة تعجيل العصر أكثر من غيرها من الروايات، فإن بقية الروايات إنما تدل على بقاء الشمس في الحجرة لم تخرج منها، فيحتمل ان تكون موجودة على حيطان الحجرة قد قاربت الخروج.
ورواية أبي أسامة تدل على ان الشمس كانت موجودة في أرض الحجرة.
وقد خرجه الإسماعيلي في " صحيحه" والبيهقي من حديث أبي أسامة، عن هشام، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس في قعر حجرتي.
وخرجه البيهقي - أيضا - من طريق أبي معاوية: نا هشام - فذكره، وقال:" والشمس بيضاء في قعر حجرتي طالعة".
وحكى عن الشافعي، أنه قال: هذا من أبين ما روي في أول الوقت؛ لأن حجر النبي صلى الله عليه وسلم في موضع منخفض من المدينة، وليست بالواسعة، وذلك أقرب لها من أن ترتفع الشمس منها في اول وقت العصر.
وحديث أبي برزة:
قال:
547 -
حدثنا محمد بن مقاتل: أبنا عبد الله: أبنا عوف، عن سيار بن سلامة، قال: دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي، فقال له أبي: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة؟ فقال: كان يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس، ويصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية - ونسيت ما قال في المغرب -، وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، ويقرأ بالستين إلى المائة.
المقصود من هذا الحديث في هذا الباب: قول أبي برزة: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية".
وقد سبق الحديث من رواية شعبة، عن أبي المنهال، وفيه:" ويصلي العصر وأحدنا يذهب إلى اقصى المدينة، ثم يرجع والشمس حية"، وذكر في حديثه: زيادة الرجوع.
وقوله: " والشمس حية" فسر خيثمة حياتها بأن تجد حرها.
خرجه البيهقي.
وقيل: حياتها: بقاء لونها.
وقيل: بقاء حرها ولونها -: قاله الخطأبي وغيره.
وحديث أنس:
خرج له ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
548 -
حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، قال: كنا نصلي العصر، ثم يخرج الأنسان إلى بني عمرو بن عوف، فنجدهم يصلون العصر.
وكذا خرجه مسلم، عن يحيى بن يحيى، عن مالك، به. وكذا هو في " الموطإ ".
ورواه ابن المبارك وعتيق بن يعقوب، عن مالك، عن إسحاق، عن أنس، قال: كنا نصلي العصر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا الحديث، وصرحا برفعه.
والرواية المشهورة عن مالك في معنى المرفوع؛ لأن أنسا إنما أخرجه في مخرج الاستدلال به على تعجيل العصر.
وبنو عمرو بن عوف على ثلثي فرسخ من المدينة، وروي ذلك في حديث عن عروة بن الزبير.
وفي الحديث: دليل على جواز تأخير العصر، ما لم يدخل وقت الكراهة؛ فإن الصحابة فيهم من كان يؤخرها عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في عهده، والظاهر: أنه كان صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك، ويقر عليه.
وروى ربعي بن حراش، عن أبي الأبيض، عن أنس، قال: كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر والشمس بيضاء محلقة، ثم آتي عشيرتي وهم جلوس، فأقول: ما مجلسكم؟ صلوا؛ فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
خرجه الإمام أحمد.
وخرج النسائي إلى قوله: " محلقة".
وخرجه الدارقطني بتمامه، وزاد فيه: وهم في ناحية المدينة.
وأبو الأبيض هذا، قال الإمام أحمد: لا أعرفه، ولا أعلم روى عنه الا ربعي بن حراش.
الحديث الثاني:
549 -
حدثنا ابن مقاتل: أبنا عبد الله: أبنا أبو بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف، قال: سمعت أبا أمامة يقول: صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر، ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك، فوجدناه يصلي العصر، فقلت: ياعم، ما هذه الصلاة التي صليت؟
قال: العصر، وهذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ? التي كنا نصلي معه.
أبو أمامة، هو: ابن سهل بن حنيف.
وصلاة عمر بن عبد العزيز هذه كانت بالمدينة، حيث كان أميراً من قبل الوليد، وقد تقدم أنه حينئذ لم يكن عنده علم من مواقيت الصلاة المسنونة، فكان يجري على عادة أهل بيته وعموم الناس معهم في تأخير الصلاة أحياناً، فلما بلغته السنة اجتهد حينئذ على العمل بها، ولكنه لم يعمل القيام بها على وجهها إلا في أيام خلافته، فإنه بالغ حينئذ في إقامة الحق على وجهه، ولم يترخص في شيء مما يقدر عليه، ولا أخذته في الله لومة لائم رضي الله عنه.
[الحديث الثالث] :
550 -
حدثنا أبو اليمان: أبنا شعيب، عن الزهري: حدثني أنس بن مالك، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي، فيأتيهم والشمس مرتفعة.
وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه.
551 -
حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك، قال: كنا نصلي العصر، ثم يذهب الذاهب إلى قباء،
فيأتيهم والشمس مرتفعة.
إنما خرجه من هذين الوجهين، ليبين مخالفته لأصحاب الزهري في هذا الحديث.
وقد خالفهم فيه من وجهين:
أحدهما: أنه لم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره أصحاب الزهري، كما خرجه البخاري هنا من رواية شعيب.
وخرجه في أواخر " كتابه" من رواية صالح بن كيسان، ثم قال: زاد الليث، عن يونس:" وبعد العوالي أربعة أميال أو ثلاثة".
وخرجه مسلم من رواية الليث وعمرو بن الحارث - كلاهما -، عن الزهري، به.
ورواه أبو صالح، عن الليث، عن يونس، عن الزهري.
وما ذكره البخاري في رواية شعيب من قوله: " وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه"، فهو من قول الزهري، أدرج في الحديث.
قال البيهقي: وقد بين ذلك معمر، عنه.
ثم خرجه من طريق معمر عنه، وقال في آخر حديثه: قال الزهري: والعوالي من المدينة على ميلين وثلاثة - أو حسبه قال: وأربعة.
والوجه الثاني: أن مالكا قال في روايته: " ثم يذهب الذاهب إلى قباء"، كذا رواه أصحابه عنه، وكذا هو في " الموطا ".
وخالفه سائر
أصحاب الزهري، فقالوا:" إلى العوالي".
وقد رواه خالد بن مخلد، عن مالك، فقال فيه:" العوالي"، وليس هو بمحفوظ عن مالك.
قال النسائي: لم يتابع مالكاً احد على قوله في هذا الحديث: " إلى قباء " والمعروف: " إلى العوالي".
وقال ابن عبد البر: رواه جماعة أصحاب الزهري عنه، فقالوا:" إلى العوالي"، وهو الصواب عند أهل الحديث. قال: وقول مالك: " إلى قباء " وهم لا شك فيه عندهم، ولم يتابعه أحد عليه.
وكذا ذكر أبو بكر الخطيب وغيره.
قلت: قد رواه الشافعي في القديم: أنا [أبو] صفوان ابن سعيد بن عبد الملك ابن مروان، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر، ثم يذهب الذاهب إلى قباء فيأتيها والشمس مرتفعة.
ورواه عن ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، وقال:" إلى العوالي".
وكذا رواه الواقدي، عن معمر، عن الزهري. وهذا لا يلتفت إليه.
قال ابن عبد البر: إلا أن المعنى في ذلك متقارب على سعة الوقت؛ لأن العوالي مختلفة المسافة، فأقربها إلى المدينة ما كان على ميلين أو ثلاثة، ومثل هذا هي المسافة بين قباء وبين المدينة، وقباء من بني عمرو بن عوف، وقد نص على بني عمرو بن عوف في [حديث أنس] هذا إسحاق بن أبي طلحة.
يشير إلى حديثه المتقدم، وخرجه من طريق إبراهيم بن أبي عبلة، عن الزهري، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال فيه:" والعوالي من المدينة على عشرة أميال"، وكان الزهري ذكر في هذه الرواية أبعد ما بين العوالي والمدينة، كما ذكر في الرواية المتقدمة أقرب ما بينها وبين المدينة.
وفي الباب حديث آخر: خرجه البخاري في " القسمة"، فقال: نا محمد ابن يوسف: نا الأوزاعي: نا أبو النجاشي، قال: سمعت رافع بن خديج [قال] : كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العصر، فننحر جزرواً، فتقسم عشر قسم، فناكل لحماً نضيجاً قبل ان تغرب الشمس.
قال الدارقطني: ابو النجاشي، اسمه: عطاء بن صهيب، ثقة مشهور، صحب رافع بين خديج ست سنين.
والكلام هاهنا في مسألتين:
احداهما:
في حد وقت العصر: اوله واخره:
فأمااوله: فحكى ابن المنذر فيه اقوالا، فقال:
اختلفوا في اول وقت العصر: فكان مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وابو ثور يقولون: وقت الظهر إذا صار ظل كل شيء مثله.
واختلفوا بعد، فقال بعضهم: اخر وقت الظهر اول وقت العصر، فلو ان رجلين صلى احدهما الظهر والاخر العصر حين صار ظل كل شيء مثله لكانا مصليين الصلاتين في وقتها، قال بهذا إسحاق، وذكر ذلك عن ابن المبارك.
وأماالشافعي فكان يقول: اول وقت العصر إذا جاوز ظل كل شيء مثله ما كان، وذلك حين ينفصل من اخر وقت الظهر.
قلت: هذا هو المعروف في مذهب أحمد وأصحابه، وحكى بعض المتأخرين رواية عنه كقول ابن المبارك وإسحاق، وهي غير معروفة.
قال ابن المنذر: وحكي عن ربيعة قول ثالث، وهو: ان وقت الظهر والعصر إذا زالت الشمس.
وفيه قول رابع، وهو: ان وقت العصر ان يصير
الظل قائمتين بعد الزوال، ومن صلاها قبل ذلك لم تجزئه، وهذا قول النعمان - يعني: ابا حنيفة.
وحكى ابن عبد البر، عن مالك مثل قول ابن المبارك وإسحاق، وعن الثوري والحسن بن صالح وأبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبي ثور مثل قول الشافعي، وعن أبي حنيفة: آخر وقت الظهر إذا صار ظل كل شيء مثليه.
قال: فخالف القياس في ذلك، وخالفه أصحابه فيه.
وذكر الطحاوي رواية اخرى عن أبي حنيفة، أنه قال: آخر وقت الظهر حين يصير ظل كل شيء مثله، كقول الجماعة. ولا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه، فترك بين الظهر والعصر وقتا مفرداً لا يصلح لاحدهما.
قال: وهذا لم يتابع عليه - أيضا.
وحكى ابن عبد البر، عن أبي ثور والمزني مثل قول ابن المبارك ومن تابعه، بالاشترك بين الوقتين إذا صار ظل كل شيء مثليه بقدر اربع ركعات، فمن صلى في ذلك الوقت الظهر والعصر كان مؤديا لها.
وحكي عن عطاء وطاوس، ان ما بعد مصير ظل كل شيء مثله وقت الظهر والعصر معاً، قال طاوس: إلى غروب الشمس، وقال عطاء:
إلى اصفرارها، وقد سبق ذكر قولها، وانه حكى رواية عن مالك.
وقد نص الشافعي على ان وقت العصر لا يدخل حتى يزيد ظل الشيء على مثله، وكذلك قاله الخرقي من أصحابنا.
واختلف أصحاب الشافعي في معنى قوله: "بالزيادة".
فمنهم من قال: هي لبيان انتهاء الظل إلى المثل، والا فالوقت قد دخل قبل حصول الزيادة بمجرد حصول المثل، فعلى هذا تكون الزيادة من وقت العصر.
ومنهم من قال: انها من وقت الظهر، وانما يدخل العصر عقبها، وقيل: انه ظاهر كلام الشافعي والعراقيين من أصحابه.
ومنهم من قال: ليست الزيادة من وقت الظر ولا من وقت العصر، بل هي فاصل بين الوقتين. وهو اضعف الاقوال لهم.
وأماالمنقول عن السلف، فاكثرهم حدده بقدر سير الراكب فرسخاً أو فرسخين قبل غروب الشمس.
فروى مالك، عن نافع، أن عمر كتب إلى عماله: صلوا الظهر إذا كان الفيء ذراعاً، الا ان يكون ظل أحدكم مثله، والعصر والشمس بيضاء نقية، قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ثلاثة، قبل غروب الشمس.
ورواه غيره: عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر.
وروى ابو نعيم الفضل بن دركين: نا سعد بن أوس، عن بلال العبسي، ان عمر كتب إلى سعد: صل العصر وانت تسير لها ميلين او ثلاثة.
نا يزيد بن مردانبه، قال: سالت أنس بن مالك عن وقت العصر، فقال: إذا صليت العصر ثم سرت ستة اميال حتى إلى غروب الشمس فذلك وقتها.
نا ابن عيينة، عن أبي سنان، عن سعيد بن جبير، قال: تصلي العصر قدر ما تسير البعير المحملة فرسخين.
نا ابن عيينة، عن أبي سنان، عن عبد الله بن أبي الهذيل، قال: فرسخ.
وأمااخر وقت العصر، ففيه اقوال:
أحدهما: أنه غروب الشمس، روي ذلك عن ابن عباس وعكرمة وأبي جعفر محمد بن علي.
والثاني: إلى مصير ظل كل شيء مثليه، روي عن أبي هريرة، وهو قول الشافعي، وأحمد في رواية.
والثالث: حتى تصفر الشمس، روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو قول الاوزعي، وأحمد في
رواية، وأبي يوسف، ومحمد.
وفيه حديث، عن عبد الله بن عمرو، اختلف في رفعه ووقفه، وقد خرجه مسلم في "صحيحه" مرفوعاً.
واكثر من قال بهذا القول والذي قبله، قالوا: لا يخرج وقت العصر بالكلية باصفرار الشمس ولا بمصير ظل كل شيء مثليه، انما يخرج وقت الاختيار، ويبقى ما بعده وقت ضرورة.
وهل يكون التأخير اليه لغير ذوي الاعذار محرما، او مكروهاً كراهة تنزيه؟ فيه وجهان لأصحابنا.
وقال الاصطخري من الشافعية: يخرج وقت العصر بالكلية حتى يصير ظل الشيء مثليه، ويصير بعد ذلك قضاء، ولم يوافقه على ذلك احد.
والمشهور عند الشافعية: انه بعد مصير ظل كل شيء مثليه إلى اصفرار الشمس يجوز التأخير اليه بلا كراهة، ولكن يفوت وقت الفضيلة والاختيار، وقالوا: يفوت وقت الفضيلة بمصير ظل الشيء مثله ونصف مثله، ووقت الاختيار بمصير ظل الشيء مثليه، ووقت الجواز يمتد إلى اصفرار الشمس، ومن وقت الاصفرار إلى ان تغرب الشمس وقت كراهة لغير ذوي الاعذار.
وحكى ابن عبد البر عن مالك وغيره من العلماء: ان من صلى العصر قبل اصفرار الشمس فقد صلاها في وقتها المختار، وحكاه اجماعاً، وحكاه عن الثوري وغيره.
قال: وهذا يدل على ان
اعتبار المثلين انما هو للاستحباب فقط.
وحكى عن أبي حنيفة: ان وقت الاختيار بمتد إلى اصفرار الشمس.
وحكى عن إسحاق وداود: اخر وقت العصر ان يدرك المصلي منها ركعة قبل الغروب، وسواء المعذور وغيره.
وسيأتي القول في ذلك فيما بعد - ان شاء الله سبحانه وتعالى.
وحكى الترمذي في "جامعه" عن أبي بكرة انه نام عن صلاة العصر، فاستيقط عند الغروب، فلم يصل حتى غربت الشمس.
وهذا قد ينبني على ان وقت العصر يخرج بالكلية باصفرار الشمس، فتصير قضاء، والفوائت لا تقضي في اوقات النهي عند قوم من اهل العلم.
ونهى عمر بن الخطاب من فاته شيء من العصر ان يطول فيما يقضيه منها، حشية ان تدركه صفرة الشمس قبل ان يفرغ من صلاته.
والمسألة الثانية:
هل الافضل تعجيل العصر في اول وقتها، او تأخيرها؟ فيه قولان:
احدهما - وهو قول الحجازيين وفقهاء الحديث -: ان تعجيلها في اول وقتها افضل، وهو قول الليث، والاوزاعي، وابن مبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وقول اهل المدينة: مالك وغيره.
ولكن مالك
يستحب لمساجد الجماعات ان يوخروا العصر بعد دخول وقتها قليلاً؛ وليتلاحق الناس إلى الجماعة.
وقد تقدم انكار عروة على عمر بن عبد العزيز تأخيره العصر شيئا، وانكار أبي مسعود الانصاري على المغيرة تأخير العصر شياً.
والاحاديث التي خرجها البخاري في هذا الباب كلها تدل على استحباب تعجيل العصر وتقديمها في اول وقتها.
والقول الثاني: ان تأخير إلى اخر وقتها ما لم تصفر الشمس افضل، وهو قول اهل العراق، منهم: النخعي، والثوري، وابو حنيفة.
قال النخعي: كان من قبلكم اشد تأخير للعصر منكم، وكان ابراهيم يعصر العصر - أي: يضيقها إلى اخر وقتها.
وقال ابو قلابة وابن شبرمة: انما سميت العصر لتعصر.
وقد روي هذا القول عن علي، وابن مسعود وغيرهما، وفيه احاديث مرفوعة، كلها غير قوية.
قال العقيلي: الرواية في تأخير العصر فيها لين.
وذكر الدارقطني انه لا يصح منها شيء يقاوم احاديث التعجيل؛ فانها احاديث كثيرة، واسانيدها صحيحة من اصح الاسانيد واثبتها. وقال: احاديث تأخير العصر لم يثبت، وانما وجهها - ان كانت محفوظة -: ان يكون ذلك على غير تعمد، ولكن للعذر والأمر يكون.
14 - باب
إثم من فاتته العصر
522 -
حدثنا عبد الله بن يوسف: انا مالك عن، نافع، عن عبد الله بن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)) .
قال أبو عبد الله: ? {يَتِرَكُمْ} [محمد:35] : وترت الرجل، إذا قتلت له قتيلاً، وأخذت ماله.
فوات صلاة العصر: أريد به: فواتها في وقتها كله، كذا فسره ابن عبد البر وغيره.
وقد فسره الاوزاعي: بفوات وقت الاختيار، بعد أن روى هذا الحديث عن نافع، قال الأوزاعي: وذلك أن ترى ما على الأرض من الشمس مصفراً.
خرجه أبو داود في " سننه" ومحمد بن يحيى الهمداني في " صحيحه".
وقد أدرج بعضهم هذا في الحديث:
قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه الوليد، عن الأوزاعي، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فاتته صلاة العصر - وفواتها: أن تدخل الشمس صفرةٌ - فكأنما وتر أهله وماله)) ؟ فقال أبي: التفسير من قول نافع. انتهى.
وقد تبين أنه من قول الأوزاعي كما سبق.
وقد رويت هذه اللفظة من حديث حجاج والأوزاعي، عن الزهري، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم ?.
وروى هذا الحديث الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
خرجه من طريقه مسلم.
ورواه حفص بن غيلان، عن سالم، وزاد فيه:" في جماعة".
وهذه - أيضا - مدرجة، وكأنها في تفسير بعض الرواة، فسر فواتها المراد في الحديث بفوات الجماعة لها، وإن صلاها في وقتها، وفي هذا نظر.
وعلى تفسير الأوزاعي يكون المراد: تأخيرها إلى وقت الكراهة، وإن صلاها في وقتها المكروه.
وعلى مثل ذلك يحمل ما رواه مالك في " الموطأ" عن يحيى بن سعيد، أنه قال: إن الرجل ليصلي الصلاة وما قاتته، ولما فاتته من وقتها أعظم - أو أفضل - من أهله وماله.
وقد رواه الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن يعلى بن مسلم،
عن طلق بن حبيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
ورواه جعفر بن عون، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن المنكدر، عن يعلى، عن طلق، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن المنكدر، عن طلق بن حبيب، قال: كان يقال - فذكره، ولم يذكر: النبي صلى الله عليه وسلم.
خرجه محمد بن نصر المروزي من هذه الوجوه كلها.
وقد روي موصولاً من وجوه أخر:
فروى وكيع في " كتابه" عن شعبة عن سعد بن إبراهيم، عن الزهري، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل ليدرك الصلاة، وما فاته من وقتها خير له من أهله وماله".
ورواه نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، عن شعبة، به.
والزهري لم يسمع من ابن عمر عند جماعة، وقيل: سمع منه حديثاً أو حديثين.
ورواه هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن
القرشي، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
خرجه محمد بن نصر المروزي.
والوليد هذا، لا أعرفه، إلا أن يكون الجرشي الحمصي، فإنه ثقة معروف.
وروى إبراهيم بن الفضل المدني، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إن أحدكم ليصلي الصلاة لوقتها، وقد ترك من الوقت الأول ما هو خير له من اهله وماله)) .
خرجه الدارقطني.
وإبراهيم هذا، ضعيف جداً.
ورواه - أيضا - يعقوب بن الوليد المدني، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
ويعقوب هذا، منسوب إلى الكذب.
قال ابن عبد البر في " الاستذكار": وقد روي هذا الحديث من وجوه ضعيفة. وزعم في " التمهيد" أن حديث أبي هريرة هذا حسن، وليس كما قال.
قال ابن عبد البر: كان مالك - فيما حكى عنه ابن القاسم - لا يعجبه قول يحيى بن سعيد هذا - يعني: الذي حكاه عنه في " الموطا".
وذكر ابن
عبد البر أن سبب كراهة مالك لذلك - والله اعلم - أن وقت الصلاة كله يجوز الصلاة فيه، كما قال:" ما بين هذين وقت"، ولم يقل: أوله أفضل. والذي يصح عندي في ذلك: أن مالكا إنما أنكر قول يحيى بن سعيد؛ لأنه إنما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك فيمن فاتته العصر بالكلية حتى غربت الشمس، فكأن مالكا لم ير أن بين اول الوقت ووسطه وآخره من الفضل ما يبلغ ذهاب الأهل والمال؛ لأن ذلك إنما هو في ذهاب الوقت كله.
وفي هذا الحديث: أن ذهاب بعض الوقت كذهاب الوقت كله، وهذا لا يقوله أحد من العلماء، لا من فضل اول الوقت على آخره، ولا من سوى بينهما؛ لأن فوت بعض الوقت مباح، وفوت الوقت كله لا يجوز، وفاعله عاص لله إذا تعمد ذلك، وليس كذلك من صلى في وسط الوقت وآخره، وان كان من صلى في [أول] وقته أفضل منه. انتهى.
وقد تقدم أن الأوزاعي حمله على من فوت وقت الاختيار، وصلى في وقت الضرورة، وهو يدل على انه يرى ان التأخير إليه محرم، كما هو أحد الوجهين لأصحابنا، وهو قول ابن وهب وغيره.
ومنهم من حمله على من فوتها حتى غربت الشمس بالكلية.
وظاهر تبويب البخاري يدل على ان الحديث محمول على من فوت العصر عمداً لتبويبه عليه: " باب: إثم من فاتته العصر".
فأمامن نام عنها أو نسيها فإن كفارته أن يصليها إذا ذكرها، وإذا كان ذلك كفارة له فكأنه قد أدرك بذلك فضلها في وقتها.
وفي هذا نظر، ولا يلزم من الإتيان بالكفارة إدراك فضل ما فاته من العمل، وفي الحديث:" من ترك الجمعة فليتصدق بدينار، أو بنصف دينار"، ولا يلزم من ذلك ان يلحق فضل من شهد الجمعة.
ولهذا المعنى يقول مالك والأوزاعي وغيرهما فيمن صلى في الوقت صلاة فيها بعض نقص: إنها تعاد في الوقت، ولا تعاد بعده؛ لأن نقص فوات الوقت أشد من ذلك النقص المستدرك بالإعادة بعده، فلا يقوم الإتيان به خارج الوقت مقام الإتيان به في الوقت، بل الإتيان في الوقت بالصلاة على وجه فيه نقص أكمل من الإتيان بالصلاة كاملة في غير الوقت.
ويدل على ما قاله البخاري: ما خرجه الإمام أحمد من رواية حجاج بن أرطاة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" الذي تفوته صلاة العصر متعمداً حتى تغرب الشمس فكأنما وتر أهله وماله".
ويدل عليه - أيضا - حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "
من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فلم تفته".
خرجه الإمام أحمد من رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه ابو غسان وهشام بن سعد، عن زيد بن اسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه.
وقد روي ما يدل على أن الناسي لا تكون الصلاة فائتة له كالنائم:
فروى الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة الأنصاري - فذكر قصة نومهم مع النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس -، وفيه: قال: فقلت: يا رسول الله، هلكنا، فاتتنا الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لم تهلكوا ولم تفتكم الصلاة، وإنما تفوت اليقطان ولا تفوت النائم)) - وذكر الحديث.
وقد حمل بعض السلف هذا الحديث على من فاتته العصر بكل حال، وإن كان ناسياً.
فروى زهير بن معاوية: نا أسيد بن شبرمة الحارثي، قال: سمعت سالما يحدث عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)) قال: فقلت: وإن نسي؟ قال: وإن نسي، فصلاة ينساها أشد عليه من ذهاب أهله وماله.
خرجه الدارقطني في أول كتابه " المختلف والمؤتلف".
وذكر أن أسيد بن شبرمة، يقال: فيه " أسيد " - أيضا - بالضم، قال: ولا اعرف له غير هذا الحديث، وحديث آخر رواه عن الزهري.
وقوله: " وتر أهله وماله ".
قيل: معناه: حرب أهله وماله وسلبهما، من وترت فلاناً إذا قتلت حميمه، والوتر: الحقد، بكسر الواو، ولا يجوز فتحها، وذلك أبلغ من ذهاب الأهل والمال على غير هذا الوجه، لأن الموتور يهم بذهاب ما ذهب منه ويطلب ثأره حتى يأخذ به.
وقيل: معناه: أفرد عن أهله وماله، من الوتر - بكسر الواو وفتحها -، وهو الفرد - أي: صار هو فرداً عن أهله وماله.
وعلى هذا والذي قبله، فالمعنى: ذهاب جميع أهله وماله.
وقيل: معناه: قلل ونقص، ومنه: قوله تعالى: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] .
و ((أهله وماله)) : روايتهما بنصب اللام، على أنه مفعول ثان لـ" وتر "؛ لأن ((وتر)) و ((نقص)) يتعديان إلى مفعولين، ولو روي بضم اللام على المفعول الأول لم يكن لحنا، غير أن المحفوظ في الرواية الأول -: قاله الحافظ أبو موسى المديني.
وقال أبو الفرج ابن الجوزي في " كشف المشكل": في إعراب الأهل
والمال، قولان:
أحدهما: نصبهما، وهو الذي سمعناه وضبطناه على أشياخنا في كتاب أبي عبيد وغيره، ويكون المعنى: فكأنما وتر في أهله وماله، فلما حذف الخافض انتصب.
والثاني: رفعهما على من لم يسم فاعله، والمعنى: نقصنا.
وكأنه يشير إلى أن النصب والرفع يبنى على الاختلاف في معنى " وتر": هل هو بمعنى: سلب، أو بمعنى: نقص؟ والله اعلم.
وفي الحديث: دليل على تعظيم قدر صلاة العصر عند الله عز وجل وموقعها من الدين، وأن الذي تفوته قد فجع بدينه وبما ذهب منه، كما يفجع من ذهب أهله وماله.
وهذا مما يستدل به على أن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى المأمور بالمحافظة عليها خصوصاً بعد الأمر بالمحافظة على الصلوات عموماً.
وقد زعم بعض العلماء: أن هذا لا يختص بفوات العصر، وأن سائر الصلوات فواتها كفوات العصر في ذلك، وأن تخصيص العصر بالذكر إنما كان بسؤال سائل سأل عنه فأجيب، ورجحه ابن عبد البر، وفيه نظر.
وقد يستدل له بما خرجه الإمام أحمد وغيره من حديث عمرو بن
شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" من ترك الصلاة سكراً مرةً واحدة فكأنما كانت له الدنيا وما عليها، فسلبها".
واستدل من قال: إن جميع الصلوات كصلاة العصر في ذلك بما روى ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن نوفل بن معاوية الديلي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من فاتته الصلاة فكأنما وتر اهله وماله".
قال: وهذا يعم جميع الصلوات، فإن الاسم المعرف بالألف واللام كما في قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] .
وهذا ليس بمتعين؛ لجواز أن يكون الألف واللام هنا للعهد، كما في قوله تعالى {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة:106] على تأويل من فسرها بصلاة العصر.
وحديث نوفل بن معاوية قد اختلف في إسناده ومتنه، وقد خرجه البخاري ومسلم في " الصحيحين" في ضمن حديث آخر تبعا لغيره مخرجاً من حديث صالح بن كيسان، عن الزهري، عن
ابن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم" - الحديث.
وعن الزهري: حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن عبد الرحمن بن مطيع بن الأسود، عن نوفل بن معاوية، مثل حديث أبي هريرة، إلا أن أبا بكر يزيد:" من الصلاة صلاةٌ من فاتته فكأنما وتر أهله وماله". كذا خرجه البخاري في " علامات النبوة" من " صحيحه"، وخرجه مسلم في " كتاب الفتن".
وكذا رواه عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري بهذا الإسناد لحديث نوفل.
ورواه ابن أبي ذئب، عن الزهري، فأسقط من إسناده: عبد الرحمن بن مطيع.
وكذلك روي عن معن، عن مالك، عن الزهري.
قال النسائي: أخاف أن لا يكون محفوظاً، عن مالك، ولعله: معن، عن ابن أبي ذئب.
وقد روي، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن نوفل، وهو وهم على ابن أبي ذئب.
وأماالاختلاف في متن الحديث، فقد روي عن [ابن] أبي ذئب أنه قال في الحديث:" من فاتته الصلاة" كما تقدم، وروي عنه أنه قال في حديثه:" من فاتته صلاة" وروي عنه في حديثه: " من فاتته صلاة العصر".
وفي رواية له: " من فاتته الصلاة " وفي آخر الحديث - قلت لأبي بكر: ما هذه الصلاة؟ قال: هي العصر؛ سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فاتته صلاة العصر" - الحديث.
وفي رواية: قال ابو بكر: لا أدري.
وقد خرجه الإمام أحمد بالوجهين، وهذه الرواية إن كانت محفوظة فإنها تدل على أن الزهري سمعه من أبي بكر بن عبد الرحمن، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما سمعه من سالم، عن أبيه.
وقد أشار الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله إلى أن الصحيح حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه كما سبق.
ويدل على صحة ما ذكره: أن البيهقي خرج حديث ابن أبي ذئب، ولفظه:" من فاتته الصلاة فكأنما وتر أهله وماله"، وزاد: قال ابن شهاب: فقلت: يا أبا بكر، أتدري أنت [أية] صلاة هي؟ قال ابن شهاب: بلغني أن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله".
قال: ورواه أبو داود الطيالسي، عن ابن أبي ذئب، وقال في آخره: قال الزهري: فذكرت ذلك لسالم، فقال: حدثني أبي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من ترك صلاة العصر".
وأمارواية صالح بن كيسان، عن الزهري المخرجة في " الصحيحين"، فقد سبق لفظها، وهو:" إن في الصلاة صلاةٌ من فاتته فكأنما وتر أهله وماله".
ولحديث نوفل طريق آخر: من رواية جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن نوفل بن معاوية، أنه حدثه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" من فاتته صلاةٌ فكأنما وتر أهله وماله". قال عراك: فأخبرني عبد الله بن عمر انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر اهله وماله".
خرجه النسائي.
وخرجه - أيضا - من طريق الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عراك، أنه بلغه ان نوفل بن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من الصلاة، صلاةٌ من فاتته فكأنما وتر أهله وماله"؛ قال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " هي صلاة العصر".
وخرجه - أيضا - من طريق ابن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن عراك، قال: سمعت نوفل بن معاوية يقول: صلاةٌ، من فاتته فكأنما وتر أهله وماله؛ قال ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هي صلاة العصر".
ففي رواية ابن إسحاق وجعفر بن ربيعة، ان عراكا سمعه من نوفل، وفي حديث الليث ان عركا بلغه عن نوفل.
قال ابو بكر الخطيب: الحكم يوجب القضاء في هذا الحديث لجعفر بن
ربيعة بثبوت اتصاله للحديث؛ لثقته وحفظه. قال: ورواية الليث ليست تكذيباً؛ لأنه يجوز أن يكون عراك بلغه الحديث عن نوفل ثم سمعه منه، فرواه على الوجهين
جميعاً. انتهى.
وخرج الطحاوي حديث ابن إسحاق بزيادة حسنة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عراك بن مالك، قال: سمعت نوفل بن معاوية وهو جالس مع عبد الله بن عمر بسوق المدينة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " صلاةٌ من فاتته فكأنما وتر أهله وماله" فقال ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هي العصر".
وهذه الرواية إن كانت محفوظة دلت على سماع عراك للحديث من نوفل وابن عمر.
وقال البيهقي: الحديث محفوظ عنهما جميعاً؛ رواه عراك عنهما، أمابلاغاً او سماعاً.
وهذا يدل على توقفه في سماع عراك له منهما.
15 - باب
من ترك العصر
553 -
حدثنا مسلم بن إبراهيم ثنا هشام: أبنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي المليح، قال: كنا مع بريدة في غزوة في يوم ذي غيم، فقال: بكروا بصلاة العصر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله".
قد سبق القول مبسوطا في حبوط العمل بترك بعض الفرائض وارتكاب بعض المحارم في " كتاب الايمان"، وبينا أن أكثر السلف والأمة على القول بذلك، وإمرار الاحاديث الواردة فيه على ما جاءت من غير تعسف في تأويلاتها، وبينا أن العمل إذا أطلق لم يدخل فيه الايمان وإنما يراد به أعمال الجوارح، وبهذا فارق قول السلف قول الخوارج؛ فإنهم أحبطوا بالكبيرة الإيمان [والعمل] ، وخلدوا بها في النار، وهذا قول باطل.
وأماالمتأخرون فلم يوافقوا السلف على ما قالوه، فاضطربوا في تأويل هذا الحديث وما أشبهه، وأتوا بأنواع من التكلف والتعسف.
فمنهم من قال: ترك صلاة العصر يحبط عمل ذلك اليوم.
ومنهم من قال: إنما يحبط العمل الذي هو تلك الصلاة التي تركها
فيفوته أجرها، وهذا هو الذي ذكره ابن عبد البر.
وهو من أضعف الاقوال، وليس في الإخبار به فائدة:
ومنهم من حمل هذا الحديث على ان من ترك صلاة واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فإنه يصير بذلك كافراً مرتداً، كما يقول ذلك من يقوله ممن يرى أن ترك الصلاة كفر.
وهذا يسقط فائدة تخصيص العصر بالذكر، فإن سائر الصلوات عنده كذلك.
وقد روي تقييد تركها بالتعمد:
فروى عباد بن راشد، عن الحسن وأبي قلابة؛ أنهما كانا جالسين، فقال أبو قلابة: قال أبو الدرداء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ترك صلاة العصر متعمداً حتى تفوته فقد حبط عمله".
خرجه الإمام أحمد.
وأبو قلابة لم يسمع من أبي الدرداء.
ورواه أبان بن أبي عياش - وهو متروك -، عن أبي قلابة، عن أم الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى راشد أبو محمد، عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم: " لا تترك صلاةً مكتوبةً متعمداً، فمن تركها متعمداً فقد برئت منه الذمة".
خرجه ابن ماجة.
وخرجه البزار، ولفظه:" فقد كفر".
وهذا مما استدل به على كفر تارك الصلاة المكتوبة متعمداً؛ فإنه لم يفرق بين صلاةٍ وصلاة.
وروى إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن معاذ بن جبل، قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم فذكره بنحوه، وقال:" فقد برئت منه ذمة الله عز وجل".
خرجه الإمام أحمد.
ورواه - أيضا - عمرو بن واقد - وهو ضعيف -، عن يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس، عن معاذ.
خرجه الطبراني ومحمد بن نصر المروزي.
وخرجه المروزي - أيضا - من طريق سيار بن عبد الرحمن، عن يزيد بن قوذر، عن سلمة بن شريح، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وقال:" فمن تركها متعمداً فقد خرج من الملة".
وقال البخاري في " تاريخه": لا يعرف إسناده.
وروى مكحول عن أم أيمن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تتركي الصلاة متعمداً؛ فإنه من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه ذمةُ الله ورسوله".
خرجه الإمام أحمد.
وهو منقطع؛ مكحول لم يلق أم أيمن.
ورواه غير واحد؛ عن مكحول، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
ورواه عبد الرزاق، عن محمد بن راشد، عن مكحول، عن رجل، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال عبد الرزاق: وأبنا شيخ من أهل الشام، عن مكحول، قال: ومن برئت منه ذمة الله فقد كفر.
ورواه أبو فروة الرهاوي - وفيه ضعف -، عن أبي يحيى الكلاعي، عن جبير بن نفير، عن أميمة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه.
خرجه محمد بن نصر المروزي.
وذكر عن محمد بن يحيى الذهلي،
أنه قال: هذه هي أم أيمن، فقال أبو فروة: أميمة - يعني: أنه أخطأ في تسميتها.
فأسانيد هذا الحديث كلها غير قوية.
وأماحديث بريدة، فصحيح، وقد رواه عن يحيى بن أبي كثير: هشام الدستوائي والأوزاعي، فأماهشام فرواه كما خرجه البخاري من طريقه، وأماالأوزاعي فخالفه في إسناده ومتنه.
أماإسناده: فقيل فيه: عن الأوزاعي: حدثني يحيى، وثني أبو قلابة: حدثني أبو المهاجر، عن بريدة.
وخرجه من هذا الوجه الإمام أحمد وابن ماجة.
وقال الإمام أحمد في رواية مهنا: هو خطأ من الأوزاعي، والصحيح حديث هشام الدستوائي. وذكر – أيضا - أن أبا المهاجر لا أصل له، إنما هو أبو المهلب عم أبي قلابة، كان الأوزاعي يسميه أبا المهاجر خطأ، وذكره في هذا الإسناد من أصله خطأ، فإنه ليس من روايته، إنما هو من رواية أبي المليح،
وكذا قاله الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله.
وقيل: عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي الميح، كما رواه هشام، عن يحيى.
وخرجه من هذا الوجه الاسماعيلي في " صحيحه".
وقيل: عن الأوزاعي، عن يحيى، عن ابن بريدة.
وقيل: عن الثوري، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن بريدة، بغير واسطة بينهما.
وهذا كله مما يدل على اضطراب الأوزاعي فيه، وعدم ضبطه.
وأمامتنه، فقال الأوزاعي فيه: إن بريدة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فقال:" بكروا بالصلاة في اليوم الغيم فإنه من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله".
كذلك خرجه الإمام أحمد وابن ماجة والإسماعيلي وغيرهم.
فخالف هشأمافي ذلك؛ فإن هشأماقال في روايته: إن أبا المليح قال: كنا مع بريدة في غزوة في يوم غيم، فقال: بكروا بصلاة العصر؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله".
فلم يرفع منه غير هذا القدر، وجعل الذين كانوا معه في الغزوة في يوم الغيم، والذي أمر بالتكبير بصلاة العصر هو بريدة، وهو الصحيح.
واللفظ الذي رواه الأوزاعي لو كان محفوظاً لكان دليلاً على تأخير العصر في غير يوم الغيم، ولكنه وهم.
وقد خرج البخاري حديث بريدة فيما بعد وبوب عليه: " باب: التبكير بالصلاة في يوم غيم "، ثم خرج فيه حديث بريدة، عن معاذ بن فضالة، عن هشام، فذكره كما خرجه هاهنا، غير أنه لم يذكر:" في غزوة"، وقال فيه: عن بريدة: " بكروا بالصلاة"، ولم يقل:" صلاة العصر".
قال الإسماعيلي: جعل الترجمة لقول بريدة، لا لما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان حق هذه الترجمة أن يكون الحديث المقرون بها ما فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم الامر بتعجيل العصر في اليوم الغيم.
ثم ذكر حديث الأوزاعي بإسناده ولفظه، ثم قال: فإن كان هذا الإسناد لا يصح عنده كان ترك هذه الترجمة أولى.
وإنما أراد البخاري قول بريدة في يوم غيم: " بكروا بالصلاة"، ولهذا ساق الرواية التي فيها ذكر الصلاة، ولم يسقه كما ساقه في هذا الباب بتخصيص صلاة العصر، يشير إلى أنه يستحب في الغيم التبكير بالصلوات والقول بالتبكير لجميع الصلوات في يوم الغيم مما لا يعرف به قائل من العلماء، ولم يرد بريدة ذلك إنما أراد صلاة العصر خاصة، ولا يقتضي القياس ذلك، فإن التبكير بالصلوات في الغيم مطلقا يخشى منه وقوع الصلاة قبل الوقت، وهو محذور، والأفضل أن لا يصلي
الصلاة حتى يتيقن دخول وقتها.
فإن غلب على ظنه، فهل يجوز له الصلاة حينئذ، أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه جائز، وهو قول الثوري والشافعي وأكثر أصحابنا.
والثاني: لا يجوز حتى يتيقن، وهو وجه لأصحابنا وأصحاب الشافعي.
واستدل الأولون: بأن جماعة من الصحابة صلوا ثم تبين لهم أنهم صلوا قبل الوقت، فأعادوا، منهم: ابن عمر وأبو موسى، وهذا يدل على أنهم صلوا عن اجتهاد، وغلب على ظنهم دخول الوقت من غير يقين.
وقال الحسن: شكوا في طلوع الفجر في عهد ابن عباس، فأمر مؤذنه فأقام الصلاة.
خرجه ابن أبي شيبة.
وقال ابو داود: " باب: المسافر يصلي ويشك في الوقت"، ثم خرج من حديث المسحاج بن موسى، أن أنسا حدثه، قال: كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، فقلنا: زالت الشمس، أو لم تزل، صلى الظهر ثم ارتحل.
والمنصوص عن أحمد: أنه لا يصلي الظهر حتى يتيقن الزوال في حضر ولا سفر، وكذا قال إسحاق في الظهر والمغرب والصبح؛ لأن هذه الصلوات لا تجمع إلى ما قبلها.
ولكن وقع في كلام مالك
وأحمد وغيرهما من الأئمة تسمية الظن الغالب يقينا، ولعل هذا منه. والله اعلم.
وقد اختلف العلماء في الصلاة في يوم الغيم:
فقال الشافعي: ويحتاط ويتوخى أن يصلي بعد الوقت أو يحتاط بتأخيرها ما بينه وبين أن يخاف خروج الوقت. وقال إسحاق نحوه.
ولا يستحب عند الشافعي التاخير في الغيم مع تحقق دخول الوقت، إلا في حال يستحب التاخير في الصحو كشدة الحر ونحوه.
وحكى بعض أصحابنا مثل ذلك عن الخرقي، وحكاه – أيضا - رواية عن أحمد.
وعن أبي حنيفة رواية باستحباب تاخير الصلوات كلها مع الغيم.
وقالت طائفة: يؤخر الظهر ويعجل العصر، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء مع الغيم، وهو قول أبي حنيفة والثوري وأحمد، وحكي - أيضا - عن الحسن والأوزاعي، ونقله ابن منصور عن إسحاق.
وقال النخعي: كانوا يؤخرون الظهر ويعجلون العصر، ويؤخر المغرب في يوم الغيم.
قال ابن المنذر: روينا عن عمر، أنه قال: إذا كان يوم الغيم فعجلوا العصر وأخروا الظهر.
قال أصحابنا: يستحب ذلك مع تحقق دخول الوقت.
واختلفوا في
تعليل ذلك:
فمنهم من علل بالاحتياط لدخول الوقت، ولو كان الأمر كذلك لاستوت الصلوات كلها في التأخير.
ومنهم من علل بأن يوم الغيم يخشى فيه وقوع المطر، ويكون فيه ريح وبرد غالبا، فيشق الخروج إلى الصلاتين المجموعتين في وقتين، فإذا أخر الأولى وقدم الثانية خرج لهما خروجاً واحداً، فكان ذلك أرفق به، وهذا قول القاضي أبي يعلى وأصحابه.
واختلفوا: هل يختص ذلك بمن يصلي جماعة، أو تعم الرخصة من يصلي وحده؟ وفيه وجهان:
ومن المتأخرين من قال: المعنى في تأخير الأولى من المجموعتين في يوم الغيم وتعجيل الثانية: أن تعجيل الأولى منهما عن الوقت غير جائز، وتعجيل الثانية جائز في حال الجمع، والجمع يجوز عند أحمد للأعذار، والاشتباه في الوقت نوع عذر؛ فلهذا استحب تأخير الأولى حتى يتيقن دخول الوقت دون الثانية، فهذا احتياط للوقت لكن مع وقع الصلاة في الوقت المشترك فكان اولى.
وقد نص أحمد على ان المسافر حال اشتباه الوقت عليه في الصحو – أيضا - يؤخر الظهر ويعجل العصر؛ لهذا المعنى، وهو يدل على ان التفريق بين المجموعتين في وقت الأولى لا يضر وأن نية الجمع لا تشترط، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في أول " أبواب المواقيت".
ويدل – أيضا - على أنه يجوز تعجيل الثانية من المجموعتين، وإن لم يتيقن دخول وقتها،
ويستحب تأخير الاولى منهما حتى يتيقن دخول وقتها في السفر والغيم، وهذا أشبه بكلام الإمام أحمد.
ومن أصحابنا من استحب تأخير الظهر وتعجيل العصر في الغيم دون المغرب لما في تأخيرها من الكراهة؛ فإن وقتها مضيق عند كثيرٍ من العلماء، والمنصوص عن أحمد خلافه.
وروي عن ابن مسعود، قال: إذا كان يوم الغيم فعجلوا الظهر والعصر، وأخروا المغرب والإفطار.
وعن عبد العزيز بن رفيع، قال: عجلوا صلاة العصر؛ فإنه بلغنا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عجلوا الصلاة" –يعني: صلاة في اليوم الغيم.
وفي رواية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عجلوا الصلاة في يوم غيم، وأخروا المغرب".
وكان الربيع بن خثيم إذا كان يوم غيم قال لمؤذنه: أغسق، أغسق - يعني: أخر حتى يظلم الوقت.
وروي استحباب التبكير بالصلاة في اليوم الغيم من وجوه:
فخرج محمد بن نصر المروزي في " كتاب الصلاة" بإسناد فيه ضعف عن أبي سعيد الخدري - مرفوعاً -، قال:" أربع من كن فيه بلغ حقيقة الإيمان" -
فذكر منها -: " ابتدار الصلاة في اليوم الدجن".
وخرج ابن وهب في " مسنده" بإسناد ضعيف - أيضا -، عن أبي الدرداء - مرفوعاً -، قال:" تعجيل الصلاة في اليوم الدجن من حقيقة الإيمان".
وروى ابن سعد في " طبقاته" بإسناده، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصى ابنه عند موته بخصال الإيمان، وعد منها: تعجيل الصلاة في يوم الغيم.
وقال الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير: ست من كن فيه فقد استكمل الإيمان، فذكر منها: التبكير بالصلاة في اليوم الغيم.
16 - باب
فضل صلاة العصر
فيه حديثان:
أحدهما:
قال:
554 -
حدثنا الحميدي: ثنا مروان بن معاوية: ثنا إسماعيل، عن قيس، عن جرير بن عبد الله، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال:" إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها فافعلوا". ثم قرأ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] .
قال إسماعيل: افعلوا لا تفوتنكم.
هذا الحديث نص في ثبوت رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، كما دل على ذلك قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ*إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]، ومفهوم قوله في حق الكفار:{كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] .
قال الشافعي وغيره: لما حجب أعداءه في السخظ دل على أن أولياءه يرونه في الرضا.
والأحاديث في ذلك كثيرة جداً، وقد ذكر البخاري بعضها في أواخر " الصحيح" في
…
" كتاب التوحيد"، وقد أجمع على ذلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من الإئمة وأتباعهم.
وإنما خالف فيه طوائف أهل البدع من الجهمية والمعتزلة ونحوهم ممن يرد النصوص الصحيحة لخيالات فاسدة وشبهات باطلة، يخيلها لهم الشيطان، فيسرعون إلى قبولها منه، ويوهمهم أن هذه النصوص الصحيحة تستلزم باطلاً، ويسميه تشبيها أو تجسيما، فينفرون منه، كما خيل إلى المشركين قبلهم أن عبادة الأوثان ونحوها تعظيم لجناب الرب، وأنه لا يتوصل إليه من غير وسائط تعبد فتقرب إليه زلفا، وأن ذلك أبلغ في التعظيم والاحترام، وقاسه لهم على ملوك بني آدم، فاستجابوا لذلك، وقبلوه منه.
وإنما بعث الله الرسل وانزل الكتب لإبطال ذلك كله، فمن اتبع ما جاءوا به فقد اهتدى، ومن أعرض عنه أو عن شيءٍ منه واعترض فقد ضل.
وقوله: " كما ترون هذا القمر" شبه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي سبحانه وتعالى.
وإنما شبه الرؤية برؤية البدر؛ لمعنيين:
أحدهما: أن رؤية القمر ليلة البدر لا يشك فيه ولا يمترى.
والثاني: يستوي فيه جميع الناس من غير مشقة.
وقد ظن المريسي ونحوه ممن ضل وافترى على الله، أن هذا الحديث يرد؛ لما يتضمن من التشبيه، فضل وأضل. واتفق السلف الصالح على تلقي هذا الحديث
بالقبول والتصديق.
قال يزيد بن هارون: من كذب بهذا الحديث فهو بريء من الله ورسوله.
وقال وكيع: من رد هذا الحديث فاحسبوه من الجهمية.
وكان حسين الجعفي إذا حدث بهذا الحديث قال: زعم المريسي.
وقوله: " لا تضامون في رؤيته".
قال الخطأبي: " لا تضامون"، روي على وجهين:
مفتوحة التاء، مشددة الميم. وأصله تتضامون، أي: لا يضام بعضكم بعضاً، أي: لا يزاحم، من الضم، كما يفعل الناس في طلب الشيء الخفي، يريد أنكم ترون ربكم وكل واحد منكم وادع في مكانه، لا ينازعه فيه احد.
والآخر: مخفف: تضامون - بضم التاء - من الضيم، أي: لا يضيم بعضكم بعضا فيه. انتهى.
وذكر ابن السمعاني فيه رواية ثالثة: " تضامون" - بضم التاء، وتشديد الميم -، قال: ومعناها: لا تزاحمون، قال: ورواية فتح التاء مع تشديد الميم معناها: لا تزاحمون.
وقوله: " كما ترون القمر ليلة البدر" يقوي المعنى الأول.
وجاء التصريح به في رواية أبي رزين العقيلي، أنه قال: يارسول الله، أكلنا يرى ربه يوم القيامة؟ وما آيةُ ذلك في خلقه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أليس
كلكم ينظر إلى القمر مخلياً به؟ " قال: بلى، قال: " فالله أعظم".
خرجه الإمام أحمد.
وخرجه ابنه عبد الله في " المسند" بسياق مطول جداً، وفيه ذكر البعث والنشور، وفيه:" فتخرجون من الأصواء - أو من مصارعكم -، فتنظرون إليه وينظر إليكم". قال: قلت: يا رسول الله، وكيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد، ينظر إلينا وننظر إليه؟ قال:" أنبئك بمثل ذلك، الشمس والقمر، آية منه صغيرة، ترونهما ويريانكم ساعة واحدة، لا تضارون في رؤيتهما، ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وترونه من أن ترونهما ويريانكم، لا تضارون في رؤيتهما" - وذكر بقية الحديث.
وخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وقد ذكر أبو عبد الله بن منده إجماع أهل العلم على قبول هذا الحديث ونقل عباس الدوري، عن ابن معين أنه استحسنه.
وقوله: " فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع
الشمس وقبل غروبها فافعلوا". أمر بالمحافظة على هاتين الصلاتين، وهما صلاة الفجر وصلاة العصر، وفيه إشارة إلى عظم قدر هاتين الصلاتين، وأنهما أشرف الصوات الخمس، ولهذا قيل في كل منهما: إنها الصلاة الوسطى، والقول بأن الوسطى غيرهما لا تعويل عليه.
وقد قيل في مناسبة الأمر بالمحافظة على هاتين الصلاتين عقيب ذكر الرؤية: أن أعلى ما في الجنة رؤية الله عز وجل، وأشرف ما في الدنيا من الأعمال هاتان الصلاتان، فالمحافظة عليهما يرجى بها دخول الجنة ورؤية الله عز وجل فيها.
كما في الحديث الآخر: " من صلى البردين دخل الجنة"، وسيأتي – إن شاء الله – في موضعه.
وقيل: هو إشارة إلى أن دخول الجنة إنما يحصل بالصلاة مع الإيمان، فمن لا يصلي فليس بمسلم، ولا يدخل الجنة بل هو من أهل النار، ولهذا قال أهل النار لما قيل لهم:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 42، 43] .
ويظهر وجه آخر في ذلك، وهو: أن أعلى أهل الجنة منزلة من ينظر في وجه الله عز وجل مرتين بكرة وعشياً، وعموم أهل الجنة يرونه في كل جمعة في يوم المزيد، والمحافظة على هاتين الصلاتين على ميقاتهما ووضوئهما وخشوعهما وآدابهما يرجى به أن يوجب النظر إلى الله عز وجل في
الجنة في هذين الوقتين.
ويدل على هذا ما روى ثوير بن أبي فاختة، قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمة وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوةً وعشياً"، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ*} [القيامة: 22، 23] .
خرجه الإمام أحمد والترمذي، وهذا لفظه. وخرجه - أيضا - موقوفاً على ابن عمر. وثوير فيه ضعف.
وقد روي هذا المعنى من حديث أبي برزة الأسلمي مرفوعاً - أيضا -، وفي إسناده ضعف.
وقاله غير واحد من السلف، منهم: عبد الله بن بريدة وغيره.
فالمحافظة على هاتين الصلاتين تكون سبباً لرؤية الله في الجنة في مثل هذين الوقتين، كما أن المحافظة على الجمعة سبب لرؤية الله في يوم المزيد في الجنة، كما قال ابن مسعود: سارعوا إلى الجمعات؛ فإن الله يبرز لأهل الجنة في كل جمعة على كثيب من كافور أبيض، فيكونون منه في الدنو على قدر تبكيرهم إلى الجمعات.
وروي عنه مرفوعاً.
خرجه ابن ماجة.
وروي عن ابن عباس، قال: من دخل الجنة من أهل القرى لم ينظر إلى وجه الله؛ لأنهم لا يشهدون الجمعة.
خرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في " كتاب الشافي" بإسناد ضعيف.
وقد روي من حديث أنس - مرفوعاً -: " إن النساء يرين ربهن في الجنة في يومي العيدين".
والمعنى في ذلك: أنهن كن يشاركن الرجال في شهود العيدين دون الجمع.
وقوله: ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] الظاهر أن القارئ لذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روي من رواية زيد بن أبي أنيسة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن جرير البجلي في هذا الحديث: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} - الآية.
خرجه أبو إسماعيل الأنصاري في " كتاب الفاروق".
وقد قيل: إن هذه الكلمة مدرجة، وإنما القارئ هو جرير بن عبد الله البجلي.
وقد خرجه مسلم في " صحيحه" عن أبي خيثمة، عن مروان بن
معاوية - فذكر الحديث، وقال في آخره: ثم قرأ جرير: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] .
وكذا رواه عمرو بن زرارة وغيره، عن مروان بن معاوية، وأدرجه عنه آخرون.
الحديث الثاني:
555 -
حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي ? صلى الله عليه وسلم، قال:" يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين كانوا فيكم، فيسألهم – وهو أعلم بهم -: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون".
قوله: " يتعاقبون فيكم ملائكة" جمع فيه الفعل مع إسناده إلى ظاهر، وهو مخرج على اللغة المعروفة بلغة " أكلوني البراغيث"، وقد عرفها بعض متأخري النحاة بهذا الحديث، فقال:" هي لغة يتعاقبون فيكم ملائكة".
والتعاقب: التناوب والتداول، والمعنى: أن كل ملائكة تأتي تعقب الأخرى.
وقد دل الحديث على أن ملائكة الليل غير ملائكة النهار.
وقد خرجا في "الصحيحين" من حديث الزهري، عن سعيد وأبي سلمة،
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" تجتمع ملائكة الليل، وملائكة النهار في صلاة الفجر". ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] .
ففي هذه الرواية: ذكر اجتماعهم في صلاة الفجر، واستشهد أبو هريرة بقول الله عز وجل:{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] .
وقد روي في حديث من رواية أبي الدرداء - مرفوعاً -، انه يشهده الله وملائكته.
وفي رواية: " ملائكة الليل وملائكة النهار".
خرجه الطبراني وابن منده وغيرهما.
فقد يكون تخصيص صلاة الفجر لهذا، وصلاة العصر يجتمع –أيضا - فيها ملائكة الليل والنهار، كما دل عليه حديث الأعرج، عن أبي هريرة.
وقد روي نحوه من حديث حميد الطويل، عن بكر المزني، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
وهؤلاء الملائكة، يحتمل أنهم المعقبات، وهم الحفظة، ويحتمل أنهم كتبة الأعمال.
وروى أبو عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود، في قوله:{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} ، قال: يعني صلاة الصبح، يتدارك فيه الحرسان ملائكة الليل وملائكة النهار.
وقال إبراهيم، عن الأسود بن يزيد: يلتقي الحارسان من ملائكة الليل وملائكة النهار عند صلاة الصبح، فيسلم بعضهم على بعض، ويحيى بعضهم بعضاً، فتصعد ملائكة الليل وتبسط ملائكة النهار.
قال ابن المبارك: وكل بابن آدم خمسة أملاك: ملكا الليل، وملكا النهار، يجيئان ويذهبان، والخامس لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً.
وممن قال: إن ملائكة الليل وملائكة النهار تجتمع في صلاة الفجر، وفسر بذلك قول الله عز وجل:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ] كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] : مجاهدٌ ومسروقٌ وغيرهما.
قال ابن عبد البر: والأظهر أن ذلك في الجماعات. قال: وقد يحتمل الجماعات وغيرها.
قلت: يشهد للأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أمن الإمام فأمنوا، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه".
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم من أكل الثوم أن يشهد المسجد، وتعليله: أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم.
وقد بوب البخاري على اختصاصه بالجماعات في " أبواب صلاة الجماعة"، كما سيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى.
ويشهد الثاني: أن المصلي ينهى عن أن يبصق في صلاته عن يمينه؛ لأن عن يمينه ملكاً، ولا يفرق في هذا بين مصلي جماعة وفرادي.
17 -
باب
من أدرك من العصر ركعة قبل الغروب
فيه ثلاثة أحاديث:
الأول:
556 -
حدثنا أبو نعيم: ثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته".
وقد خرجه فيما بعد من وجه آخر عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه:" من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر".
ومقصود البخاري بهذا الحديث في هذا الباب: أن وقت العصر يمتد إلى غروب الشمس؛ ولهذا جعله مدركا لها بإدراك ركعة منها قبل غروب الشمس، فإدراكها كلها قبل الغروب أولى أن يكون مدركاً لها.
وقد سبق قول من قال: إن وقت العصر إلى غروب الشمس، منهم:
ابن عباس وعكرمة، وهو رواية عن مالك والثوري وهو قول إسحاق.
قال إسحاق: آخر وقتها للمفرط، وصاحب عذر هو قدر ما يبقى إلى غروب الشمس ركعة -: نقله عنه ابن منصور.
وحكي مثله عن داود.
وروي عن أبي جعفر محمد بن علي ما يشبهه.
وهو وجه ضعيف للشافعية مبني على قولهم: إن الصلاة كلها تقع أداء كما سيأتي.
والصحيح عندهم: أنه لا يجوز التاخير حتى يبقى من الوقت ركعة.
وإن قيل: إنها أداء - كمذهبنا ومذهب الأكثرين وأكثر العلماء - على ان تأخيرها إلى أن يبقى قدر ركعة قبل الغروب لا يجوز لغير أهل الأعذار، وهو قول الأوزاعي والشافعي وأحمد وأبي ثور وحكاه عن العلماء.
وقد دل على ذلك ما خرجه مسلم في " صحيحه" من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" وقت العصر ما لم تصفر الشمس".
ومن حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً".
وخرجه أبو داود - بمعناه، وزاد:"حتى إذا اصفرت الشمس فكانت بين قرني الشيطان - أو على قرني الشيطان" - وذكر باقيه.
فهذا يدل على [أن] تأخيرها إلى بعد اصفرار الشمس وتضيقها للمغرب غير جائز لمن لا عذر له.
وأجمع العلماء على ان من صلى بعض العصر ثم غربت الشمس أنه يتم صلاته، ولا إعادة عليه.
وأجمعوا على أن عليه إتمام ما بقي منها، وهو يدل على أن المراد بإدراكها إدراك وقتها.
واختلفوا في الواقع منها بعد غروب الشمس: هل هو أداء، أو قضاء؟ وفيه وجهان لأصحابنا والشافعية:
أحدهما: أنه قضاء، وهو قول الحنفية؛ لوقوعه خارج الوقت.
والثاني: أنه أداء، وهو أصح عند أصحابنا والشافعية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:" فقد أردكها".
وللشافعية وجه آخر: أنها كلها تكون قضاء، وهو ضعيف.
هذا كله إذا أدرك في الوقت ركعة فصاعداً، فإن أدرك دون ركعة ففيه للشافعية طريقان:
أحدهما: أنه على هذا الخلاف - أيضا.
والثاني: أن الجميع قضاء، وبه قطع أكثرهم.
وأمامذهب أصحابنا:
فقال أكثرهم: لا فرق بين أن يدرك في الوقت
ركعة أو ما دونها، حتى لو أدرك تكبيرة الإحرام كان كإدراك ركعة.
واستدلوا بحديث " من أدرك سجدة"، وقالوا: المراد به قدر سجدة.
وفيه نظر؛ فإن السجدة يراد بها الركعة، وهو المراد من هذا الحديث والله اعلم.
وحكى بعضهم رواية عن أحمد، أنه لا يكون مدركا لها في الوقت بدون إدراك ركعة كاملة، وبذلك جزم ابن أبي موسى في " إرشاده"، وجعله مذهب أحمد ولم يحك عنه فيه خلافاً، فعلى هذا ينبغي أن يكون الجميع قضاء إذا لم يدرك في الوقت ركعة، وهو ظاهر قول الأوزاعي.
الحديث الثاني:
قال:
557 -
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله: حدثني إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، أنه أخبره، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا بها حتى إذا انتصف النهار عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتينا القرآن، فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين. فقال أهل الكتأبين: أي ربنا، أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطاً قيراطاً، ونحن أكثر عملاً؟ قال الله: هل ظلمتكم
من أجركم من شيء؟ قالوا: لا. قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء".
قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم" إنما أراد به - والله أعلم -: أتباع موسى وعيسى عليهما السلام، وقد سمى الله بني إسرائيل بانفرادهم أمما، فقال:
{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} ? [الأعراف: 168] ؛ ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بعمل أهل التوارة بها إلى انتصاف النهار، وعمل أهل الإنجيل به إلى العصر، وعمل المسلمين بالقرآن إلى غروب الشمس.
ويدل على ذلك - أيضا -: حديث أبي موسى الذي خرجه البخاري بعد هذا، ولفظه:" مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل أستأجر قوما يعملون له إلى الليل" - وذكر الحديث، كما سيأتي - إن شاء الله.
وإنما قلنا: إن هذا هو المراد من الحديث؛ لأن مدة هذه الأمة بالنسبة إلى مدة الدنيا من أولها إلى آخرها لا يبلغ قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس بالنسبة إلى ما مضى من النهار، بل هو أقل من ذلك بكثير.
ويدل عليه صريحا: ما خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة العصر يوماً بنهار، ثم قام خطيباً، فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به - فذكر الحديث بطوله، وقال في آخره: قال: وجعلنا نلتفت إلى الشمس هل بقي منها شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الا إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه".
وقال الترمذي: حديث حسن.
وخرج الإمام أحمد من حديث ابن عمر، قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم والشمس على قعيقعان بعد العصر، فقال:" ما أعماركم في أعمار من مضى إلى كما بقي من النهار فيما مضى منه".
ومن حديث ابن عمر، أنه كان واقفا بعرفات ينظر إلى الشمس حين تدلت مثل الترس للغروب، فبكى، وقال: ذكرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بمكاني هذا، فقال: " أيها الناس، لم يبق من دنياكم فيما مضى إلا كما
بقي من يومكم هذا فيما مضى منه".
ويشهد لذلك من الأحاديث الصحيحة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين"، وقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى.
خرجاه في " الصحيحين" من حديث أنس، وخرجاه - أيضا - بمعناه من حديث أبي هريرة وسهل بن سعد.
وخرجه مسلم بمعناه من حديث جابر.
وخرج الترمذي من حديث المستورد بن شداد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" بعثت في نفس الساعة، فسبقتها كما سبقت هذه هذه" - لأصبعيه: السبابة والوسطى.
وفي " مسند الإمام أحمد" عن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" بعثت أنا والساعة جميعاً، إن كادت لتسبقني".
وروى الإمام أحمد –أيضا: ثنا أبو ضمرة: حدثني أبو حازم، لا أعلمه إلا عن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" مثلي ومثل الساعة كهاتين" - وفرق كذا بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام، ثم قال:" مثلي ومثل الساعة كمثل فرسي رهان"، ثم قال:"مثلي ومثل الساعة كمثل رجل بعثه قومه طليعة، فلما خشي أن يسبق الاح بثوبه أتيتم أتيتم". ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا ذاك".
وكل هذا النصوص تدل على شدة اقتراب الساعة، كما دل عليه قوله تعالى:
{اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وقوله تعالى:{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1] .
وقد فسر قوله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين" - وقرن بين السبابة والوسطى بقرب زمانه من الساعة، كقرب السبابة من الوسطى، وبأن زمن بعثته تعقبه السعة من غير تخلل نبي آخر بينه وبين الساعة، كما قال في الحديث الصحيح: " أنا الحاشر،
يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب".
فالحاشر: الذي يحشر الناس لبعثهم يوم القيامة على قدمه - يعني: ان بعثهم وحشرهم يكون عقيب رسالته، فهو مبعوث بالرسالة وعقيبه يجمع الناس لحشرهم.
والعاقب: الذي جاء عقيب الأنبياء كلهم، وليس بعده نبي، فكان إرساله من علأماالساعة.
وفي " المسند"، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" بعثت بالسيف بني يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له".
وفسر قتادة وغيره قوله: " كهاتين" - وأشار بالسبابة والوسطى، بأن المراد: كفضل إحداهما على الأخرى – يعني: كفضل الوسطى على السبابة.
وقد ذكر ابن جرير الطبري: أن فضل ما بين السبابة والوسطى نحو نصف سبع، وكذلك قدر ما بين صلاة العصر في أوسط نهارها بالإضافة إلى باقي النهار نصف سبع اليوم تقريباً، فإن كانت الدنيا سبعة آلاف سنة، فنصف يوم خمسمائة سنة.
وقد روي في ذلك حديث ابن زمل - مرفوعاً - أن الدنيا سبعة آلاف سنة، وأنه صلى الله عليه وسلم في آخرها ألفاً.
وإسناده لا يصح.
ويشهد لهذا الذي ذكره ابن جرير: ما خرجه أبو داود من حديث أبي ثعلبة الخشني، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم".
وروي موقوفاً، ووقفه أصح عند البخاري وغيره.
وخرج أبو داود –أيضا - بإسناد منقطع عن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" إني لأرجو أن لا يعجز امتي عند ربهم أن يؤخرهم نصف يوم". قيل لسعد: كم نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة.
وإن صح هذا، فإنما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم رجا لأمته تاخير نصف يوم، فأعطاه الله رجاءه وزاده عليه، فإنا الآن في قريب رأس الثمانمائة من الهجرة، وما ذكره ابن جرير من تقدير ذلك بنصف سبع يوم على التحديد لا يصلح، وقد ذكر غيره أن المسبحة ستة أسباع الوسطى طولاً، فيكون بينهما من الفضل سبع كامل، وذلك ألف سنة، على تقدير أن تكون الدنيا سبعة آلاف سنة، وأن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في آخرها ألفاً، وهذا – أيضا - لا يصح، ولا يبلغ الفضل بينهما سبعاً كاملاً.
وقيل: إن قدر الفضل بينهما نحو من ثمن، كما سنذكره - ان شاء الله.
وفي " صحيح مسلم" عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" بعثت أنا والساعة كهاتين". قال: وضم السبابة والوسطى.
وقد سبق في رواية الإمام أحمد، أنه فرق بينهما، وقد ذكر بعضهم على تقدير صحة رواية التفريق ان فرج ما بين الأصابع الخمسة ستة امثال فرجة ما بين السبابة والوسطى، وحجم الأصابع الخمس ضعف ما بين المسبحة والوسطى، فيكون حجم الأصابع الخمس مع الفرج الأربع الواقعة بينهم ثمانية أجزاء فرجة ما بين السبابة والوسطى جزء منها.
ويئول المعنى إلى أن ما بينه صلى الله عليه وسلم وبين الساعة قدر ثمن الدنيا، وهو ثمانمائة وخمس وسبعون سنة على تقدير ما تقدم ذكره.
قال: ويعتضد ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم كما بين صلاة العصر والمغرب)) ، فإن ما بين العصر والغرب قريب من ثُمن زمان دورة الفلك التامة مرةً واحدة، وهي أربعة وعشرون ساعة. انتهى ما ذكره.
وأخذ بقاء ما بقي من الدنيا على التحديد من هذه النصوص لا يصح؛ فإن الله استأثر بعلم الساعة، ولم يطلع عليه أحداً من خلقه، وهو من مفاتح الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)) . وإنما خرج هذا من النبي صلى الله عليه وسلم على وجه التقريب للساعة من غير تحديد لوقتها.
وقد قدمنا أن المراد بهذا الحديث مدةُ أمة محمد صلى الله عليه وسلم مع مدة أمة موسى وعيسى عليهم السلام، فمدة هذه الأمم الثلاث كيوم تام، ومدة ما مضى من الأمم في أول الدنيا كليلة هذا اليوم؛ فإن الليل سابق للنهار، وقد خلق قبله على أصح القولين، وتلك الليلة السابقة كان فيها نجومُ تضيء ويهتدى بها، وهم الأبيياء المبعوثون فيها، وقد كان –أيضا - فيهم قمرٌ منير، وهو إبراهيم الخليل عليه السلام، إمام الحنفاء ووالدُ الأنبياء، وكان بين آدم ونوح ألف سنة، وبين نوح وإبراهيم ألف سنة، وبين إبراهيم وموسى عليه السلام ألف سنة. قال ذلك غير واحد من المتقدمين، حكاه عنهم الواقدي.
وذكر بعض علماء أهل الكتاب أن من آدم إلى إبراهيم ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثمان وعشرون سنة، ومن إبراهيم إلى خروج موسى من مصر خمسمائة وسبع وستون سنة، وذكر إن من آدم إلى مولد المسيح خمسة آلاف وخمسمائة سنة، ومن مولد المسيح إلى هجرة محمد صلى الله عليه وسلم ستمائة وأربع عشر سنة، ومن آدم إلى الهجرة ستة آلاف سنة ومائة وأربع عشرة سنة، ومن خروج بني أسرائيل إلى الهجرة ألفان ومائتان وتسع وسبعون سنة، ولكن إنما يؤرخون بالسنة الشمسية لا القمرية.
وأماابتداء رسالة موسى عليه السلام فكانت كابتداء النهار، فإن موسى وعيسى ومحمداً صلى الله عليه وسلم هم أصحاب الشرائع والكتب المتبعة والأمم العظيمة.
وقد أقسم الله بمواضع رسالاتهم في قوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ*} .
[التين: 1 - 3]
وفي التوراة: ((جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران)) .
ولهذا سمي محمداً صلى الله عليه وسلم سراجاً منيراً؛ لأن نوره للدنيا كنور الشمس وأتم وأعظم وأنفع، فكانت مدة عمل بني إسرائيل إلى ظهور عيسى كنصف النهار الأول، ومدة عمل أمة عيسى كما بين الظهر والعصر، ومدة عمل المسلمين كما بين العصر إلى غروب الشمس، وهذا أفضل أوقات النهار.
ولهذا كانت الصلاة الوسطى هي العصر على الصحيح؛ وأفضل ساعات يوم الجمعة ويوم عرفة من العصر إلى غروب الشمس، فلهذا كان خيرُ قرون بني آدم القرن الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد خرج البخاري ذلك من حديث أبي هريرة – مرفوعاً.
وقد أعطى الله تعالى من عمل بالتوراة والإنجيل قيراطاً قيراطاً، وأعطى هذه الامة لعملهم قيراطين.
فقال الخطأبي: كان كل من الأمم الثلاثة قد استؤجر ليعمل تمام النهار بقيراطين، فلما عجز كل واحد من الأمتين قبلها، وانقطع عن عمله في وسط المدة أعطى قيراطاً واحداً، وهذه الأمة قد أتمت مدة عملها فكمل لها أجرها.
وقد جاء في رواية أخرى من حديث ابن عمر، أن كل طائفة منهم استؤجرت لتعمل إلى مدة انتهاء عملها على ما حصل لها من الأجر.
فقال الخطأبي: لفظه مختصر، وإنما أخبر الراوي بما آل إليه الأمر فقط.
وفيما قال نظر، وسيأتي الكلام عليه في الحديث الثالث – إن شاء الله.
وعجز اليهود والنصارى عن إتمام المدة هو بما حصل لهم مما لا ينفع معه عمل، مع البقاء على ما هم عليه من النسخ والتبديل، مع تمكنهم من إتمام العمل بالإيمان بالكتاب الذي أنزل بعد كتابهم.
وقولهم: ((نحن أكثر عملاً وأقل أجراً)) .
أماكثرة عمل اليهود فظاهر؛ فإنهم عملوا إلى انتصاف النهار، وأماالنصارى فإنهم عملوا من الظهر إلى العصر، وهو نظير مدة عمل المسلمين.
فاستدل بذلك من قال: إن أول وقت العصر مصير كل شيء مثليه، وهم أصحاب أبي حنفية، قالوا: لأنه لو كان أول وقت العصر مصير ظل كل شيء مثله لكان مدة عملهم ومدة عمل المسلمين سواء.
وأجاب عن ذلك من قال: إن أول وقت العصر مصير ظل الشيء مثله من أصحابنا والشافعية وغيرهم بوجوه:
منها: أن أحاديث المواقيت مصرحة بأن أول وقت العصر مصير ظل الشيء مثله، وهذا الحديثُ إنما ساقه النبي صلى الله عليه وسلم مساق ضرب الأمثال، والأمثال مظنة التوسع فيها، فكان الأخذ بأحاديث توقيت العصر المسوقة لبيان الوقت أولى.
ومنها: أن المراد بقولهم: ((أكثر عملاً)) ، أن عمل مجموع
الفريقين أكثر.
فإن قيل: فقد قالوا: ((وأقل أجراً)) ومجموع الفريقين لهم قيراطان كأجر هذه الأمة.
قيل: لكن القيراطان في مقابلة عمل كثير، فإنهما عملا ثلاثة أرباع النهار بقيراطين، وعمل المسلمون ربع النهار بقيراطين، فلذلك كان أولئك أقل أجراً.
ومنها: أن وقت العصر إذا سقط من أوله مدة التأهب للصلاة بالأذان والإقامة والطهارة والستارة وصلاة أربع ركعات والمشي إلى المساجد، صار الباقي منه إلى غروب الشمس أقل مما بين الظهر والعصر.
وحقيقةُ هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد أن أمته عملت من زمن فعل صلاة العصر المعتاد لا من أول دخول وقتها.
ومنها: أن كثرة العمل لا يلزم منه طول المدة، فقد يعمل الأنسان في مدة قصيرة أكثر مما يعمل غيره في مدة طويلة.
وقد ضعف هذا؛ بأن ظاهر الحديث يرده، ويدل على اعتبار طول المدة وقصرها، إلا أن يقال: كنى عن كثرة العلم وقلته بطول المدة وقصرها، وفيه بعد.
وقد روى هشام بن الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: كان بين موسى وعيسى ألف سنة وتسعمائة سنة، ولم يكن بينهما فترة، وأنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى والنبي صلى الله عليه وسلم ألف سنة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء، وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولاً أربعمائة سنة وأربع وثمانون سنة.
هذا إسناد ضعيف، لا يعتمد عليه.
وإنما يصح ذلك على تقدير أن يكون بين عيسى ومحمد أنبياء، والحديث الصحيح يدل على أنه ليس بينهما نبي، ففي ((صحيح البخاري)) عن سلمان، أن مدة الفترة كانت ستمائة سنة.
وقد ذكر قوم: أن من لدن خلق آدم إلى وقت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ستة آلاف سنة، تنقص ثمان سنين.
وقال آخرون: بينهما أربعة آلاف وستمائة واثنان وأربعون سنة وأشهر.
واختلفوا في مدة بقاء الدنيا جميعها:
فروي عن ابن عباس، أنها جمعة من جمع الآخرة، سبعة آلاف سنة.
وعن كعب ووهب، أنها ستة آلاف سنة.
وعن مجاهد وعكرمة، قالا: مقدار الدنيا من أولها إلى آخرها خمسون ألف سنة، ولا يعلم ما مضى منه وما بقي إلا الله عز وجل، وأن ذلك هو اليوم الذي قال الله فيه:
{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} . [المعارج: 4]
خرجه ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) .
وقد قدمنا: أن حديث ابن عمر الذي خرجه البخاري هاهنا يدل على أن مدة الدنيا كلها كيوم وليلة، وأن مدة الأمم الثلاث أصحاب الشرائع المتبعة قريب من نصف ذلك، وهو قدر يوم تام، وأن مدة اليهود منه إلى ظهور عيسى حيث كانت أعمالهم صالحة تنفعهم
عند الله كما بين صلاة الصبح إلى صلاة الظهر، ومدة النصارى إلى ظهور محمد صلى الله عليه وسلم حيث كانت أعمالهم صالحة مقبولة كما بين صلاةِ الظهر والعصر، ومدة المسلمين منه من صلاة العصر إلى غروب الشمس، وذلك في الزمان المعتدل قدر ربع النهار، وهو قدر ثمن الليل والنهار كما سبق ذكره وتقديره.
لكن مدة الماضي من الدنيا إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ومدة الباقي منها إلى يوم القيامة، لا يعلمه على الحقيقة إلا الله عز وجل، وما يذكر في ذلك فأنما هو ظنون لا تفيد علماً.
وكان مقصود البخاري بتخريج هذا الحديث في هذا الباب: أن وقت العصر يمتد إلى غروب الشمس؛ لأنه جعل عمل المسلمين مستمراً من وقت العصر إلى غروب الشمس، وإنما ضرب المثل لهم بوقت صلاة العصر، واستمرار العمل إلى آخر النهار لاستمرار مدة وقت العصر إلى غروب الشمس، وأن ذلك كله وقت لعملهم، وهو صلاة العصر، فكما أن مدة صلاتهم تستمر إلى غروب الشمس، فكذلك مدة عملهم بالقرآن في الدنيا مستمر من حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم حتى تقوم عليهم الساعة ويأتي أمر الله وهم على ذلك.
الحديث الثالث:
قال:
558 -
حدثنا أبو كريب: ثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوماً يعملون له عملاً إلى الليل، فعملوا إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك، فاستأجر آخرين، فقال: أكملوا بقية
يومكم ولكم الذي شرطت، فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: لك ما عملنا، فاستأجر قوماً فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين)) .
ظاهر هذه الرواية: يدل على أن كلاً من الفريقين اليهود والنصارى أبطلوا عملهم ولم يسقطوا أجرهم فلم يستحقوا شيئاً، وهذا بخلاف ما في حديث ابن عمر الماضي أنهم أعطوا قيراطاً قيراطاً.
وقد يحمل حديث ابن عمر على من مات قبل نسخ دينه وتبديله، وكان عمله على دين حق، وحديث أبي موسى هذا على من أدركه التبديل والنسخ، فاستمر على عمله، فإنه قد أحبط عمله وأبطل أجره، فلم يستحق شيئاً من الأجر.
فإن قيل: فمن مات قبل التبديل والنسخ مؤمن، له أجره عند الله، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:
62] .
قيل: هو كذلك، وإنما لهم أجر واحد على عملهم؛ لأنه شرط لهم ذلك، كما جاء في رواية أخرى صريحة من حديث أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، وهذه الأمة شرط لها على اتمام عمل بقية اليوم أجران.
وقوله: ((فاستكملوا أجر الفريقين)) ؛ لأنه لما بطل عملهما وسقط أجرهما، وعمل المسلمون بقيةَ النهار على قيراطين، فكأنهم أخذوا القيراطين منهما واستحقوا ما كان لهما على عملهما وحازوه دونهما،
ولهذا قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لئلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 28، 29] ؛ ولهذا اعترف أهل الكتاب أنهم لم يظلموا من أجرهم شيئاً.
وفي حديث أيوب: ((أن اليهود استؤجرت لتعمل إلى الظهر على قيراط، والنصارى إلى العصر على قيراط)) ، وهذا صحيح؛ فإن كلاً من الطائفتين أشعر بنسخ دينه وتأقيته، وانه يعمل عليه إلى أن يأتي نبي آخر بكتاب آخر مصدق له، وإن لم يذكر لهم ذلك الوقت معيناً.
وقد تنازع أهل الأصول فيمن أمر أن يعمل عملاً إلى وقت غير معين، ثم أمر بترك ذلك العمل، والعمل بغيره: هل هو نسخ في حقه، أم لا؟ مثل قوله تعالى:{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] .
وفي الجملة، فاستحقاق اليهود والنصارى قيراطاً واحداً على عملهم وإحباط أجرهم وإبطاله هو بالنسبة إلى طائفتين منهم، لا إلى طائفة واحدة.
وقد استدل أصحابنا بحديث أبي موسى على أن من استؤجر لعمل في مدة معينة، فعمل بعضه في بعض المدة، ثم ترك العمل في باقي المدة باختياره من غير عذر، أنه قد أسقط حقه من الأجرة، ولا يستحق منها شيئاً.
ومقصود البخاري بهذا الحديث – أيضا -: أن ضرب المثل لعمل المسلمين من وقت صلاة العصر إلى غروب الشمس يؤخذ منه بقاء وقت صلاة العصر وامتداده إلى غروب الشمس، كما سبق.
18 - باب
وقت المغرب
وقال عطاء: يجمع المريض بين المغرب والعشاء.
قد سبق الكلام على جمع المريض مستوفى في الكلام على حديث ابن عباس في الجمع لغير عذر.
وخرج في هذا الباب أربعة أحاديث:
الحديث الأول:
قال:
559 -
حدثنا محمد بن مهران: ثنا الوليد: ثنا الأوزاعي: حدثني أبو النجاشي مولى رافع – هو: عطاء بن صهيب -، قال: سمعت رافع بن خديج قال: كنا نصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم، فينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع نبله.
وقد روي هذا المعنى عن غير واحد من الصحابة في صلاتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب، ولم يخرج في ((الصحيحين)) من غير هذه الطريق.
وقد روى شعبة، عن أبي بشر، عن حسان بن بلال، عن رجال من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنهم كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرجعون
إلى أهليهم إلى أقصى المدينة يرمون، يبصرون مواقع سهامهم.
خرجه النسائي.
وخرجه الإمام أحمد عن هشيم، عن أبي بشر، عن علي بن بلال الليثي، عن ناس من الأنصار، قالوا: كنا نصلي مع رسول الله المغرب، ثم ننصرف فنترامى حتى نأتي ديارنا، فيما يخفى علينا مواقع سهامنا.
وخرجه –أيضا - من رواية أبي عوانة، عن أبي بشر – بنحوه.
وهو أشبه من رواية شعبة -: قاله البخاري في ((تاريخه)) .
وروى الزهري، عن رجل من أبناء النقباء، عن أبيه، قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم ننصرف فننظر إلى مواقع النبل، وبينهم نحو من ميل – يعني: قباء.
وفي رواية: ثم نخرج إلى منازلنا، وإن أحدنا لينظر إلى موقع نبله، قيل للزهري: كم كان منازلهم؟ قال: ثلثا ميل.
وخرج الإمام أحمد وابن خزيمة في ((صحيحه)) من حديث جابر، قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم نأتي بني سلمة ونحن نبصر مواقع النبل.
وخرجه الإمام أحمد من رواية ابن عقيل، عن جابر – بنحوه، إلا أنه قال: ثم نرجع إلى منازلنا وهي [على قدري] ميل وأنا أبصر موقع النيل.
وهذا كله يدل على شدة تعجيل النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة المغرب، ولهذا كانت تسمى صلاة البصر.
كما خرجه الإمام أحمد من رواية أبي طريف الهذلي، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين جاء خبر أهل الطائف، فكان يصلي بنا صلاة البصر، حتى لو أن رجلاً رمي لرأى موقع نبله.
قال الإمام أحمد: صلاة البصر: هي صلاة المغرب.
الحديث الثاني:
560 -
ثنا محمد بن بشار: ثنا محمد بن جعفر: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي، قال: قدم الحجاج، فسألنا جابر بن عبد الله، فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس نقية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء أحياناً وأحياناً، إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطئوا أخر، والصبح كانوا – أو كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس.
مقصوده من هذا الحديث في هذا الباب: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم المغرب إذا وجبت – يعني: الشمس -، ووجوبها: سقوطها، كقوله تعالى:{فَإذا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 36]، والمعنى: إذا سقط قرص الشمس وذهب في الأرض وغاب عن أعين الناس.
الحديث الثالث:
قال: 561 - حدثنا المكي بن إبراهيم: ثنا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة، قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب إذا توارت بالحجاب.
هذا [أحد] ثلاثيات البخاري، والضمير يعود إلى غير مذكور، وهو الشمس، وقرينة صلاة المغرب تدل عليه، وهو كقوله تعالى في قصة سليمان:
{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 31، 32] ، فحذف ذكر الشمس لدلالة العشي عليها، والمعني بتواريها بالحجاب: تواري قرصها عن أعين الناظرين، بما حجبها عنها من الأرض.
وخرج مسلم حديث سلمة، ولفظه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب.
وخرجه أبو داود، ولفظه: كان يصلي ساعة تغرب الشمس، إذا غاب حاجبها.
وهذا الحديث والذي قبله يدلان على أن مجرد غيبوبة القرص يدخل به وقت صلاة المغرب، كما يفطر الصائم بذلك، وهذا إجماع من أهل العلم -: حكاه ابن المنذر وغيره.
قال أصحابنا والشافعية وغيره: ولا عبرة ببقاء الحمرة الشديدة في السماء بعد سقوط قرص الشمس وغيبوبته عن الأبصار.
ومنهم من حكى رواية عن أحمد باعتبار غيبوبة هذه الحمرة، وبه قال الماوردي من الشافعية. ولا يصح ذلك.
وأماإن بقي شيء من شعاعها على الجدران أو تلك الجبال فلابد من ذهابه.
وحكى الطحاوي عن قوم، أنهم اعتبروا مع مغيب الشمس طلوع
النجم، ولم يسمهم.
والظاهر: أنه قول طائفة من أهل البدع كالروافض ونحوهم، ولم يقل أحد من العلماء المعتد بهم.
وروى أبو نعيم الفضل بن دكين: ثنا إسرائيل، عن طارق، عن سعيد بن المسيب، قال: كتب عمر إلى أمراء الأمصار: لا تصلوا المغرب حتى تشتبك النجوم.
وهذا إنما يدل على استحباب ذلك، وقد روي عن عمر خلاف ذلك موافقة لجمهور الصحابة.
والأحاديث والآثار في كراهة التأخير حتى يطلع النجم كثيرة جداً:
ومن أجودها: ما روى ابن إسحاق: ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله، قال: قدم علينا أبو أيوب غازياً وعقبة بن عامر يومئذ على مصر، فأخر المغرب، فقام إليه أبو أيوب، فقال له: ما هذه الصلاة يا عقبة؟ قال: شغلنا. قال: أماسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تزال أمتي بخير – أو قال: على الفطرة – ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم)) ؟
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن خزيمة في ((صحيحه)) والحاكم وصححه.
وقد خولف ابن إسحاق في إسناده،
فرواه حيوة بن شريح، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران، عن أبي أيوب، قال: كنا نصلي المغرب حين تجب الشمس.
ورواه ابن لهيعة، عن يزيد، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو زرعة: حديث حيوة أصح.
وخرج الإمام أحمد معناه من حديث السائب بن يزيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وخرجه ابن ماجه من حديث العباس بن عبد المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز، أنه أخر ليلة المغرب حتى طلع نجمان، فأعتق رقبتين كفارة لتأخيره.
فأماالحديث الذي خرجه مسلم من حديث أبي بصرة الغفاري، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، فقال:((إن هذه الصلاة عرضت على من قبلكم فضيعوها، فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد)) ، والشاهد النجم.
فقد اختلف العلماء في تأويله:
فمنهم من حمله على كراهة التنفل قبل المغرب حتى تصلى، وهو قول من كره ذلك من العلماء، وقال: قوله: ((لا صلاة بعدها)) إنما هو نهي عن التنفل بعد العصر فيستمر النهي حتى تصلى المغرب، فإذا فرغ منها حينئذ جاز التنفل، وحينئذ تطلع النجوم غالباً.
ومنهم من قال: إنما أراد أن النهي يزول بغروب الشمس، وإنما علقه بطلوع الشاهد لأنه مظنة له، والحكم يتعلق بالغروب نفسه.
ومنهم من زعم أن الشاهد نجم خفي يراه من كان حديد البصر بمجرد غروب الشمس، فرؤيته علامة لغروبها.
وزعم بعضهم: أن المراد بالشاهد الليل، وفيه بعد.
وقد أجمع العلماء على أن تعجيل المغرب في أول وقتها أفضل، ولا خلاف في ذلك مع الصحو في الحضر، إلا ما روي عن عمر كما تقدم، وروي عنه خلافه من وجوه.
فأمافي الغيم ففيه اختلاف سبق ذكره، وأمافي السفر فيستحب تأخيرها ليلة النحر بالمزدلفة من دفع من عرفة حتى يصليها مع العشاء بالمزدلفة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي صحة صلاتها في طريقه قبل وصوله إلى المزدلفة اختلاف يذكر في موضع آخر – إن شاء الله.
وأمافي غير تلك الليلة في السفر فيجوز تأخيرها للجمع بينها وبين العشاء.
وقال مالك: يصلي المقيم المغرب إذا غربت
الشمس، والمسافر لا بأس أن يمد ميلاً ثم ينزل فيصلي.
وقد روي ذلك عن ابن عمر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا.
وكذلك رخص الثوري في تأخيرها في السفر دون الحضر، وقال: كانوا يكرهون تأخيرها [في الحضر دون السفر] .
وهل يستحب أن يفصل بين آذان المغرب وإقامتها بجلسة خفيفة؟ فيه قولان:
أحدهما: يستحب، وهو قول النخعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبي يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: يفصل بينهما بسكتة بقدر ثلاث آيات قائماً؛ لأن مبناها على التعجيل، والقائم أقرب إليه، فإن وصل الإقامة بالأذان كره عنده.
والقول الثاني: لا يستحب الفصل بجلوس ولا غيره؛ لأن وقتها مضيق، وهو قول مالك.
وقال أحمد: الفصل بينهما بقدر ركعتين كما كانوا يصلون الركعتين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بين الأذان والإقامة للمغرب. كما سيأتي في موضعه – إن شاء الله تعالى.
وعند الشافعي وأصحابه: يفصل بينهما فصلاً يسيراً بقعدة أو سكوت ونحوهما.
الحديث الرابع:
قال:
562 -
ثنا آدم: ثنا شعبة ثنا عمرو بن دينار، قال: سمعت جابر بن زيد، عن عبد الله بن عباس، قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم سبعاً جميعاً،
وثمانياً جميعاً.
قد سبق هذا الحديث في ((باب: تأخير الظهر إلى العصر)) والكلام عليه مستوفى.
ومقصود البخاري بتخريجه في هذا الباب: أن يستدل به على جواز تأخير المغرب إلى آخر وقتها قبل غروب الشفق، وأن وقتها ممتد إلى غروب الشفق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها مع العشاء جميعاً في الحضر من علة، وقد حمله طائفة من العلماء على أنه أخر المغرب إلى آخر وقتها، وقدم العشاء في أول وقتها، كذلك حمله عليه أبو الشعثاء وعمرو بن دينار، وأحمد في رواية عنه، وتبويب البخاري هنا يدل عليه.
وعلى هذا التقدير، فهو دليل ظاهر على امتداد وقت المغرب إلى مغيب الشفق.
ويدل على ذلك صريحاً: ما في ((صحيح مسلم)) عن عبد الله بن شقيق، قال: خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، فجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة. قال: فجاءه رجل من بني تميم، لا يفتر ولا ينثني: الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس: أتعلمني السنة لا أم لك؟! ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء.
قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة فسألته، فصدق مقالته.
وممن ذهب إلى أن وقت المغرب يمتد إلى مغيب الشفق: الحسن بن حي والثوري وأبو حنيفة ومالك في ((الموطأ)) ، والشافعي في قول له رجحه طائفة من أصحابه، وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وروي عن ابن عباس وغيره.
وخرج مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم،
قال: ((إذا صليتم المغرب، فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق)) .
وفي رواية له – أيضا -: ((وقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق)) .
وفي رواية له – أيضا -: ((وقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق)) .
وقد اختلف في رفعه ووقفه.
وخرج مسلم – أيضا – من حديث بريدة، أن سائلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مواقيت الصلاة – فذكر الحديث بطوله، وفيه: أنه صلى في اليوم الأول المغرب حين وجبت الشمس، وفي اليوم الثاني صلى قبل أن يقع الشفق، وقال:((ما بين ما رأيت وقت)) .
وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((إن للصلاة أولاً وآخراً)) – فذكر الحديث، وفيه:((وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق)) .
وله علة، وهي أن جماعة رووه عن الأعمش، عن مجاهد، قال: كان يقال ذلك.
وهذا هو الصحيح عند ابن معين والبخاري والترمذي
وأبي حاتم والبزار والعقيلي والدارقطني وغيرهم.
وذهب طائفة إلى أن للمغرب وقتاً واحداً حين تغرب الشمس، ويتوضأ ويصلي ثلاث ركعات، وهو قول ابن المبارك، ومالك في المشهور عنه، والأوزاعي، والشافعي في ظاهر مذهبه.
واستدلوا: بأن جبريل صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم المغرب في اليومين في وقت واحد، وصلى به سائر الصلوات في وقتين.
وزعم الأثرم أن هذه الأحاديث أثبت، وبها يعمل.
ومن قال: يمتد وقتها، قال: قد صح حديث بريدة، وكان ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فهو متأخر عن أحاديث صلاة جبريل.
وفي حديث عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك بقوله، وهو أبلغ من بيانه بفعله.
ويعضده: عموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة: ((إنما التفريط في اليقظة، أن
يؤخر صلاة حتى يدخل وقت الأخرى)) ، خرج من عموم ذلك الصبح بالنصوص والإجماع، بقي ما عداها داخلاً في العموم.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من حضره العشاء بتقديمه على الصلاة، ولولا اتساع وقت المغرب لكان تقديم العشاء تفويتاً للمغرب عن وقتها للأكل، وهو غير جائز.
ولأن الجمع بين المغرب والعشاء جائز في وقت المغرب للعذر بالاتفاق من القائلين: بأن وقتها واحد، ولا يمكن الجمع بينهما في وقت المغرب إلا مع امتداد وقتها واتساعه لوقوع الصلاتين.
ولعل البخاري إنما صدر الباب بقول عطاء: ((يجمع المريض بين المغرب والعشاء)) لهذا المعنى الذي أشرنا إليه. والله أعلم.
ومتى غاب الشفق، فات وقت المغرب بإجماع من سمينا ذكره.
وروي عن عطاء وطاوس: لا يفوت حتى يفوت العشاء بطلوع الفجر، وحكي رواية عن مالك – أيضا -، والأحاديث المذكورة ترد ذلك.
واختلفوا في الشفق الذي يفوت وقت المغرب بمغيبه: هل هو الحمرة، أو البياض؟ على قولين.
ومذهب الثوري ومالك والشافعي: أنه الحمرة.
ومذهب أبي حنيفة والمزني: أنه البياض.
واختلف قول أحمد وأصحابه في ذلك، وسنذكره فيما بعد – إن شاء الله تعالى.
19 - باب
من كره أن يقال للمغرب: العشاء
563 -
حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو: ثنا عبد الوارث، عن الحسين: ثنا عبد الله بن بريدة: حدثني عبد الله المزني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب)) . قال: وتقول الأعراب: هي العشاء.
عبد الله المزني، هو: ابن مغفل – رضي الله عنه.
وقد استدل بهذا الحديث من كره تسمية المغرب العشاء، وهو قول الشافعي وغيرهم.
وقال أصحابنا: لا يكره ذلك، واستدلوا بأن العشاء تسمى العشاء الآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة)) .
خرجه مسلم.
وسيأتي بعض الأحاديث المصرحة بذلك، فدل على أن المغرب العشاء الأولى.
وأجاب بعضهم بأن وصف العشاء بالآخرة لأنها آخر الصلوات، لا لأن قبلها عشاء أخرى.
وقد حكي عن الاصمعي، انه أنكر تسميتها العشاء الآخرة، ولا يلتفت إلى ذلك.
وفي ((صحيح مسلم)) عن علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العصر يوم الأحزاب بين العشاءين: المغرب والعشاء.
قال أصحابنا: وحديث أبن مغفل يدل على أن تسميتها بالمغرب أفضل، ونحن نقول بذلك.
ومن متأخريهم من قال: حديث ابن مغفل إنما يدل على النهي عن أن يغلب اسم العشاء على المغرب حتى يهجر اسم المغرب، أو يقل تسميتها بذلك، كما هي عادة الأعراب، فأماإذا لم يغلب عليها هذا الاسم فلا يتوجه النهي حينئذ إليه.
وقد تقدم أنها تسمى صلاة البصر - أيضا - فإذا سميت بذلك من غير أن يهجر تسميتها بالمغرب، ويغلب تسميتها بذلك؛ جاز.
20 - باب
ذكر العشاء والعتمة، ومن رآه واسعاً
مراده: أن العشاء الآخرة تسمى العشاء، وتسمى العتمة، وأنه يجوز تسميتها بالعتمة من غير كراهة، وإن كان تسميتها بالعشاء أفضل اتباعاً لقول الله عز وجل:
{وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58] .
وهذا قول كثير من العلماء، أو اكثرهم، وهو ظاهر كلام أحمد، وقول أكثر أصحابه، وكذا قال الشافعي في ((الأم)) : أحب إلي أن لا تسمى العشاء الآخرة عتمة، وهو قول كثير من أصحابه، أو أكثرهم.
ومنهم من قال: يكره أن تسمى عتمة، وهو وجه ضعيف لأصحابنا.
وقد روي عن طائفة من السلف، منهم: ابن عمر وكان يكرهه كراهة شديدة، ويقول أول من سماها بذلك الشيطان. وكرهه - أيضا - ابنه سالم وابن سيرين.
وخرج مسلم من حديث عبد الله بن أبي لبيد، عن أبي سلمة، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، ألا إنها العشاء، وهم يعتمون بالإبل)) .
وفي رواية له - أيضا -: ((لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء، فإنها في كتاب الله
العشاء، وإنها تعتم بحلاب الإبل)) .
كذا رواه ابن أبي لبيد، عن أبي سلمة.
وابن أبي لبيد كان يتهم بالقدر. وقال العقيلي: كان يخالف في بعض حديثه.
وتابعه عليه ابن أبي ليلى، عن أبي سلمة، وابن أبي ليلى ليس بالحافظ.
ورواه عبد الرحمن بن حرملة، عن أبي سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
وقيل: عن ابن حرملة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة – مرفوعاً.
خرجه ابن ماجه. وليس بمحفوظ.
وفيه – أيضا -: عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي إسناده جهالة.
وقد حمله بعض أصحابنا على كراهة نفي الكمال دون الكراهة، وحمله بعضهم على كراهة هجران اسم العشاء وغلبة اسم العتمة علها كفعل الإعراب.
وتسميتها في كتاب الله بالعشاء لا يدل على كراهة تسميتها بغيره، كما أن الله تعالى سمى صلاة الصبح صلاة الفجر، ولا يكره تسميتها صلاة الصبح.
خرج البخاري في هذا الباب حديثاً مسنداً، وذكر فيه أحاديث كثيرة تعليقاً، وقد خرج عامتها في مواضع أخر من كتابه، فقال:
وقال أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((أثقل الصلاة على المنافقين العشاء والفجر) . وقال: (لو يعلمون ما في العتمة والفجر)) .
حديث أبي هريرة قد أسنده في ((باب: فضل صلاة العشاء في جماعة)) ، وخرج قبله في ((باب: فضل التهجير إلى الظهر)) من حديث أبي هريرة – مرفوعاً -: ((لو يعلمون ما في العتمة والصبح)) . وخرجه أيضا – في ((باب: الأستهمام على الأذان)) ثم قال البخاري:
58] .
قال:
ويذكر عن أبي موسى: كنا نتناوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند صلاة العشاء، فأعتم بها.
حديث أبي موسى هذا قد خرجه بعد هذا قريباً في ((باب: فضل العشاء)) ، وخرجه في مواضع أخر، وقد علقه هنا بقوله:((ويذكر)) ، فدل على أن هذه الصيغة عنده لا تقتضي ضعفاً فيما علقه بها، وأنه يعلق بها الصحيح والضعيف، إلا أن أغلب ما يعلق بها ما ليس على شرطه.
ثم قال:
وقال ابن عباس وعائشة: أعتم النبي صلى الله عليه وسلم[بالعشاء.
وقال بعضهم: عن عائشة أعتم النبي صلى الله عليه وسلم] بالعتمة.
حديث عائشة خرجه في ((باب: فضل العشاء)) ، ولفظ:((أعتم بالعشاء)) .
وحديث ابن عباس خرجه في ((باب: النوم قبل العشاء)) ، بلفظ حديث عائشة.
وخرج مسلم حديث عائشة، ولفظه: ((أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة
بصلاة العشاء، وهي التي تدعى العتمة)) .
وخرج النسائي حديث عائشة وابن عباس، وعنده فيهما: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتمة.
وخرج أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري، قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العتمة.
ومن حديث معاذ بن جبل، قال: أبقينا النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العتمة.
ثم قال البخاري:
وقال جابر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء.
حديث جابر قد خرجه البخاري في الباب الذي بعد هذا، وقد خرجه فيما مضى – أيضا.
قال:
وقال أبو برزة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء.
حديث أبي برزة هذا خرجه فيما مضى في ((باب: وقت العصر)) ولفظه: ((وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي
تدعونها العتمة)) .
ثم قال:
وقال أنس: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة.
حديث أنس هذا خرجه النسائي، وخرجه البخاري في مواضع، ولفظه:((أخر العشاء)) .
وخرج مسلم من حديث ابن عمر، قال: مكثنا ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة.
ثم قال البخاري:
وقال ابن عمر وأبو أيوب: صلى النبي صلى الله عليه وسلم المغرب والعشاء.
وحديثهما في جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، وقد خرجه البخاري في ((كتاب الحج)) . وخرجه مسلم – أيضا.
وأماالحديث الذي أسنده في هذا الباب:
فقال:
564 -
حدثنا عبدان: أبنا عبد الله: ثنا يونس، عن الزهري: قال سالم: أخبرني عبد الله، قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة صلاة العشاء –
وهي التي يدعو الناس العتمة -، ثم أنصرف فأقبل علينا، فقال:((أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن راس مائة سنة [منها] لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد)) .
في هذا الحديث: أن صلاة العشاء يدعوها الناس العتمة، وكذا في حديث عائشة وأبي برزة، وهذا كله على اشتهار اسمها بين الناس بالعتمة، وهو الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ابن عمر وغيره يكرهونه أن يغلب عليها اسم العتمة حتى لا تسمى بالعشاء إلا نادراً.
وأماإذا غلب عليها اسم العشاء، ثم سميت – أحياناً - بالعتمة بحيث لا يزول بذلك غلبة اسم العشاء عليها، فهذا غير منهي عنه، وإن كان تسميتها بالعشاء – كما سماها الله بذلك في كتابه – أفضل.
وأماما قاله صلى الله عليه وسلم من أنه: ((لا يبقى على رأس مائة سنة من تلك الليلة أحد)) ، فمراده بذلك: انخرام قرنه وموت أهله كلهم الموجودين منهم في تلك الليلة على الأرض، وبذلك فسره أكابر الصحابة كعلي بن أبي طالب وابن عمر وغيرهما.
ومن ظن أنه أراد بذلك قيام الساعة الكبرى فقد وهم، وإنما اراد قيام ساعة الأحياء حينئذ وموتهم كلهم، وهذه الساعة الوسطى، والساعة الصغرى موت كل أنسان في نفسه، فمن مات فقد قامت ساعته الصغرى، كذا قاله المغيرة بن شعبة وغيره.
21 - باب
وقت العشاء إذا اجتمع الناس أو تأخروا
565 -
حدثنا مسلم بن إبراهيم: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن محمد ابن عمرو – وهو: ابن الحسن بن علي -، قال: سألنا جابر بن عبد الله عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس حية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء إذا كثر الناس عجل، وإذا قلوا اخر، والصبح بغلس.
هذا الحديث: دليل على أن الأفضل في صلاة الإمام العشاء الآخرة مراعاة حال المأمومين المصلين في المسجد، فإن اجتمعوا في أول الوقت فالأفضل أن يصلي بهم في أول الوقت، وإن تأخروا فالأفضل أن يؤخر الصلاة حتى يجتمعوا؛ لما في ذلك من حصول فضل كثرة الجماعة، ولئلا يفوت صلاة الجماعة لكثير من المصلين.
وتبويب البخاري: يدل على استحباب ذلك، وهو – أيضا - قول عطاء وأبي حنيفة، وأحمد، نص عليه في رواية الأثرم، قال: يؤخرها ما قدر بعد أن لا يشق على الناس، وهو المذهب عند القاضي أبي يعلي في (كتاب الجامع الكبير) من غير خلاف.
ومن الأصحاب من حكى رواية اخرى عن أحمد: أن تأخيرها أفضل
بكل حال.
والصحيح: ما قاله القاضي، وأن المذهب أن تأخيرها أفضل، إلا أن يشق على المأمومين، أو يشق على من كان يصلي وحده.
وقال عطاء: الأفضل تأخيرها، إمأماكان أو منفرداً، إلا أن يشق عليه أو على الجماعة فيصليها وسطاً لا معجلة ولا مؤخرة.
خرجه مسلم بإسناده عنه في (صحيحه) .
وروي أن عمر كتب إلى أبي موسى كتاباً، وقال فيه: صلي العشاء ما لم تخف رقاد الناس.
خرجه البيهقي.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لوقتها، لولا أن أشق على أمتي) يدل على أنه كان يراعي حالهم إذا شق عليهم التأخير إلى وقتها الأفضل.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه وصى معاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن:(أن تعجل العشاء في الصيف، وتؤخرها في الشتاء) ، وذلك مراعاة لحال المأمومين.
وقد قال ابن أبي هريرة – من أعيان الشافعية -: إن قولي الشافعي في استحباب تأخير العشاء وتقديمها ليسا على قولين، بل على حالين: فإن علم من نفسه أنه إذا أخرها لا يغلبه نوم ولا كسل استحب تأخيرها، وإلا فتعجيلها، وجمع بين الأحاديث بهذا.
وضعف الشاشي قوله في ذلك، ورد عليه صاحب (شرح المهذب) ، ورجح ما قاله ابن أبي هريرة، وقال: هو ظاهر، أو الأرجح. والله أعلم.
22 - باب
فضل العشاء
فيه حديثان:
الأول:
566 -
حدثنا يحيى بن بكير: ثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، أن عائشة أخبرته، قالت: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بالعشاء، وذلك قبل أن يفشو الإسلام، فلم يخرج حتى قال عمر: نام النساء والصبيان، فخرج، فقال لأهل المسجد:(ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم) .
قوله صلى الله عليه وسلم: (ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم) ، قد فهمت منه عائشة – رضي الله عنها – أن الصلاة لم يكن يجتمع لها بغير المدينة.
وقد خرجه البخاري في موضع آخر، وفيه: قال: (ولا يصلى يومئذ إلا بالمدينة) ، ولعل هذا مدرج من قول الزهري أو عروة، وقد كان يصلي بالمدينة في غير مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، كمسجد قباء وغيره من مساجد قبائل الأنصار.
وقد روي ما يدل على أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لا يصليها أحد من أهل الأديان غير المسلمين.
ففي (صحيح مسلم) من حديث منصور، عن الحكم، عن نافع، عن ابن عمر، قال: مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة عشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده، فلا ندري أشيء شغله في أهله أو غير ذلك؟ فقال حين خرج:(إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة) ، ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى.
وخرج الإمام أحمد من رواية عاصم، عن زر، عن ابن مسعود، قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال:(أماإنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم)، قال: وأنزلت هؤلاء الآيات: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] .
وخرجه يعقوب بن شيبة في (مسنده)، وقال: صالح الإسناد.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من رواية عاصم بن حميد السكوني، أنه سمع معاذ بن جبل قال: رقبنا النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العتمة، فتأخر حتى خرج، فقال: (أعتموا بهذه الصلاة؛ فإنكم قد فضلتم بها على
سائر الأمم، ولم تصلها أمة قبلكم) .
وعاصم هذا؛ وثقه ابن حبان والدارقطني، وهو من أصحاب معاذ.
وخرج أبو مسلم الكجي في (سننه) من حديث الشعبي، قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر صلاة العشاء ذات ليلة حتى ذهب من الليل ما شاء الله، ثم جاء، فقال:(هذه الصلاة لم يعطها أحد من الأمم قبلكم – أو غيركم - فمن كان طالباً إلى الله عز وجل حاجة لآخرة أو دنيا فليطلبها في هذا الصلاة) .
وقد دلت هذه الأحاديث على فضل ذكر الله تعالى في الأوقات التي يغفل عموم الناس فيها، ولهذا فضل التهجد في وسط الليل على غيره من الأوقات؛ لقلة من يذكر الله في تلك الحال.
وفي (المسند) عن أبي ذر، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي قيام الليل أفضل؟ قال: (جوف الليل الغابر – أو نصف الليل – وقليل فاعله) .
وفي الترمذي عن عمرو بن عبسة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن) .
قال بعض السلف: ذاكر الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة، ولولا من يذكر الله في غفلة الناس هلك الناس.
ورويناه مرفوعاً بإسناد ضعيف، عن ابن عمر – مرفوعاً -:(ذاكر الله في الغافلين كالذي يقاتل عن الفارين، وذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء في وسط الشجر الذي تحات ورقه من الصريد) – والصريد: البرد الشديد – (والذاكر الله في الغافلين يغفر له بعدد كل رطب ويابس، وذاكر الله في الغافلين يعرف مقعده من الجنة) .
الحديث الثاني:
567 -
حدثنا محمد بن العلاء: ثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: كنت أنا وأصحابي الذين قدموا معي في السفينة نزولاً في بقيع بطحان، والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فكان يتناوب النبي صلى الله عليه وسلم عند صلاة العشاء كل ليلة نفر منهم، فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأصحابي، وله بعض الشغل في بعض أمره، فأعتم بالصلاة، حتى أبهار الليل، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم، فلما قضى صلاته قال لمن حضره:(على رسلكم، أبشروا، إن من نعمة الله عليكم أنه ليس أحد من الناس يصلي هذه الساعة غيركم) – أو قال: (ما صلى هذه الساعة أحد غيركم)، لا أدري أي الكلمتين قال – قال أبو موسى: فرجعنا فرحى، وفرحنا بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
البقيع – في اللغة -: المكان الذي فيه شجر من ضروب شتى.
وبطحان: أحد أودية المدينة المشهورة، وهي ثلاثة: بطحان، والعقيق، وقناة.
وبطحان: يقوله أهل الحديث بضم أوله، وسكون ثانيه، وقيل: بفتح أوله، وأهل اللغة يقولونه بفتح أوله وكسر ثانيه، وقالوا: لا يجوز فيه غير ذلك -: ذكره صاحب (معجم البلدان) .
وقوله: (أعتم بالصلاة) أي أخرها، ومنه قيل:(قرى عاتم) إذا لم يقدم العجالة للضيف، وأبطأ عليه بالطعام.
ومعنى: (أبهار الليل) انتصف -: قاله الأصمعي وغيره، وقالوا: بهرة كل شيء وسطه.
وقيل: معناه: استنار الليل [باستهام] طلوع نجومه بعد أن تذهب فحمة الليل وظلمته بساعة، وهذا بعيد.
وقوله: (ليس أحد من الناس يصلي هذه
الساعة غيركم) – أو (ما صلى هذه الساعة أحد غيركم) – يحتمل أنه أراد به أهل الأديان، كما تقدم وأنه أراد به المسلمين - أيضا.
وفي هذا الحديث والذي قبله: دليل على استحباب تأخير العشاء.
وفي حديث أبي موسى: دلالة على جواز تأخيرها إلى انتصاف الليل، وسيأتي القول في ذلك مبسوطاً – إن شاء الله تعالى.
23 - باب
ما يكره من النوم قبل العشاء
568 -
حدثنا محمد بن سلام: ثنا عبد الوهاب الثقفي: ثنا خالد الحذاء، عن أبي المنهال، عن أبي برزة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها.
قد اخذ بظاهر هذا الحديث طائفة من العلماء، وكرهوا النوم قبل العشاء بكل حال.
قال ابن المبارك: أكثر الأحاديث على ذلك.
ورويت الكراهة عن عمر، وابن عمر وابن عباس، وأبي هريرة، وعن مجاهد، وطاوس، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والنخعي، وهو قول أصحاب الشافعي، وحكي عن مالك وأبي حنيفة والشافعي -: حكاه ابن عبد البر.
وذكره ابن أبي موسى من أصحابنا مذهباً لنا، وهو قول الثوري.
وروي عن ابن عمر كراهة النوم قبل العشاء وإن وكل به من يوقظه من رواية الفقير وغيره، عنه.
وعن مجاهد: لأن أصلي صلاة العشاء قبل أن يغيب الشفق وحدي أحب إلي من أن أنام ثم أدركها مع الإمام.
كذا رواه عبد الكريم البصري، عنه.
وروى عنه – أيضا -، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا نامت عين رجل نام قبل أن يصلي العشاء) .
وعبد الكريم هذا، ضعيف.
وروى عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلي الطائفي، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: ما نام رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل العشاء الآخرة ولا سمر بعدها.
خرجه ابن ماجه.
وعبد الله هذا، قال ابن معين: صويلح. وقال البخاري: مقارب الحديث. وقال الدارقطني: يعتبر به. وقال النسائي: ليس بالقوي.
وروى يحيى بن سليم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماَ قبل العشاء ولا متحدثاً بعدها.
ذكره الأثرم، وضعفه من أجل يحيى بن سليم، وقال: لم يروه غيره.
كذا قاله.
وخرجه ابن حبان في (صحيحه) من طريق جعفر بن سليمان، عن هشام.
وخرجه البزار من طريق محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير – وهو متروك -، عن ابن أبي مليكة، عن عروة، عن عائشة – وزاد فيه، في أوله: عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(من نام قبل العشاء فلا أنام الله عينه) .
وهذا لا يثبت مرفوعاً، وإنما روي عن عمر من قوله.
وروى ابن وهب في (مسنده)، قال: أخبرني مخرمة بن بكير، عن أبيه، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأنسان يرقد عن العشاء قبل أن يصلي؟ قال: (لا نامت عينه) – ثلاث مرات.
وخرجه بقي بن مخلد من طريقه.
وهو منقطع بين بكير بن الأشج وعائشة.
وخرجه بقي من وجه آخر ضعيف، عن عائشة، مرفوعاً – بمعناه.
24 - باب
النوم قبل العشاء لمن غلب
خرج فيه حديثين:
الأول:
قال:
569 -
حدثنا أيوب بن سليمان بن بلال: حدثني أبو بكر، عن سليمان – هو ابن بلال -: ثنا صالح بن كيسان، قال: أخبرني ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعشاء حتى ناداه عمر: الصلاة، نام النساء والصبيان. فخرج فقال:(ما ينتظرها من أهل الأرض أحد غيركم) .
قال: ولا يصلى يومئذ إلا بالمدينة، قال: وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول.
(أبو بكر) هو عبد الحميد بن أبي أويس، وهذا الحديث من جملة نسخة تروى بهذا الإسناد، قد سبق بعضها.
وقوله: (قال: ولا يصلى يومئذ إلا بالمدينة) قال: (وكانوا يصلون) – إلى آخره. الظاهر أنه مدرج من قول الزهري.
وقد خرج هذا الحديث مسلم بدون هذا الكلام في آخره من رواية يونس وعقيل، عن ابن شهاب، وزاد فيه: وذلك قبل أن يفشو الإسلام في الناس.
وقد خرجه البخاري قبل هذا من حديث عقيل كذلك.
وخرجه فيما يأتي في أواخر الصلاة في (باب: وضوء الصبيان) : حدثنا أبو اليمان: أبنا شعيب، عن الزهري.
ثم قال: وقال عياش: ثنا عبد الأعلى: ثنا معمر، عن الزهري – فذكر هذا الحديث بمعناه. وفيه: قال: (إنه ليس أحد من أهل الأرض يصلي هذه الصلاة غيركم) . ولم يكن يومئذ يصلي غير أهل المدينة.
ثم خرجه في الباب الذي يليه: (باب: خروج النساء إلى المساجد) عن أبي اليمان، عن شعيب، وقال في حديثه: ولا يصلي يومئذ إلا بالمدينة، وكانوا يصلون العتمة فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل.
وخرجه النسائي من طريق شعيب، عن الزهري.
ومن طريق محمد بن حمير، عن ابن أبي عبلة، عن الزهري، به، وزاد فيه:(ولم يكن يصلي يومئذ إلا بالمدينة) . ثم قال: (صلوها فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل) .
قال: ولفظه لمحمد بن حمير.
فجعله من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا غير محفوظ؛ والظاهر أنه مدرج من قول الزهري. والله أعلم.
وقد خرجه الطبراني في (مسند إبراهيم بن [أبي] عبلة) من غير وجه، عن محمد بن حمير، وفيه:(وكانوا يصلونها) ، وهذا يبين أنه مدرج.
وعند مسلم فيه زيادة اخرى مرسلة. قال ابن شهاب: وذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما كان لكم أن تنزروا رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة) . وذلك حين صاح عمر بن الخطاب.
وهذا يدل على أن في هذا الحديث ألفاظاً أرسلها الزهري، وكانت تلك عادته أنه يدرج في أحاديثه كلمات يرسلها أو يقولها من عنده.
وفي هذا ما يستدل به على وقت العشاء، وأنه من مغيب الشفق إلى ثلث الليل، وهذا القدر متفق على أنه وقت للعشاء، وأن المصلي فيه مصل للعشاء في وقتها، إلا ما حكاه ابن المنذر عن النخعي: أن وقت العشاء إلى ربع الليل، ونقله ابن منصور عن إسحاق.
واختلفوا: فيمن صلى بعد ذهاب ثلث الليل، وفيمن صلى قبل الشفق؟
فأمامن صلى بعد ثلث الليل فسيأتي الكلام عليه في موضعه من الكتاب – إن شاء الله.
وأماتقديم صلاة العشاء على مغيب الشفق:
فحكى طائفة من العلماء الإجماع على أن من صلى العشاء قبل مغيب الشفق فعليه الإعادة؛ لأنه مصل في غير الوقت، وحكي فيه خلاف شاذ.
وقد تقدم عن عبد الكريم، عن مجاهد، أنه قال: لأن أصلي صلاة العشاء وحدي قبل أن يغيب الشفق أحب إلي من أن أنام ثم أدركها مع الإمام.
خرجه أبو نعيم في (كتاب الصلاة) له.
وعبد الكريم، هو أبو أمية، ضعيف جداً، مع أن البخاري حسن الرأي فيه.
وقال حرب: سئل أحمد عن الرجل يصلي المغرب قبل أن يغيب الشفق؟ قال: لا أدري.
وروى الإمام أحمد: ثنا عبد الله بن الحارث المخزومي: ثنا ثور بن يزيد، عن سليمان بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر حديث صلاة جبريل به في اليومين، وقال في الأول:(ثم صلى العشاء قبل غيبوبة الشفق) .
قال البيهقي: هذا مخالف لسائر الروايات.
وقد خرجه النسائي عن عبيد الله بن سعيد، عن المخزومي به، وقال في الأول:(والعشاء حين غاب الشفق) .
وقد يحمل الشفق في هذا الحديث – على تقدير كونه محفوظاً -، وفي كلام مجاهد وأحمد على البياض، أو يكون مجاهد يرى أن وقت العشاء يدخل بدخول وقت المغرب.
وقد اختلف العلماء في الشفق الذي يدخل به وقت العشاء: هل هو البياض، أو الحمرة؟
فقال طائفة: هو الحمرة، وهو قول ابن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس.
وروي عن عمر وعلي وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس وقول كثير من التابعين، ومذهب الثوري والأوزاعي والحسن بن حي ومالك والشافعي وإسحاق وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور.
ورواه عتيق بن يعقوب، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر – مرفوعاً.
خرجه الدارقطني وغيره.
ورفعه وهم.
وقال البيهقي في (كتاب المعرفة) : لا يصح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء.
وفي (صحيح ابن خزيمة) في حديث عبد الله بن عمرو المرفوع:
(ووقت المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق) .
وقد أعلت هذه اللفظة بتفرد محمد بن يزيد الواسطي بها عن سائر أصحاب شعبة.
وقال طائفة: الشفق البياض الباقي بعد الحمرة.
وروي عن عمر بن عبد العزيز، وقو قول أبي حنيفة، وزفر، والمزني، وروي – أيضا - عن الثوري والأوزاعي.
وأماالإمام أحمد فالمشهور عند القاضي أبي يعلي ومن بعده من أصحابه أن مذهبه أن الشفق الحمرة حضراً وسفراً.
وقد نص أحمد في رواية الأثرم فيمن صلى العشاء في الحضر قبل مغيب البياض: يجزئه، ولكن أحب إلي أن لا يصلي في الحضر حتى يغيب البياض.
ونقل عنه جمهور أصحابه: أن الشفق في الحضر البياض، وفي السفر الحمرة وهو الذي ذكره الخرقي في (كتابه)، قال: لأن في الحضر قد تنزل الحمرة فيواريها الجدران، فيظن أنها قد غابت، فإذا غاب البياض فقد تيقن.
وحمل القاضي ومن بعده هذا على مجرد الاحتياط والاستحباب دون الوجوب.
ومن الأصحاب من حكى رواية أخرى عن أحمد: أن الشفق
البياض في السفر والحضر، ولا يكاد يثبت عنه.
وقال ابن أبي موسى: لم يختلف قول أحمد: أن الشفق الحمرة في السفر، واختلف قوله في الحضر على روايتين.
ونقل ابن منصور في (مسائله)، قال: قلت لأحمد: ما الشفق؟ قال: في الحضر البياض، وفي السفر أرجو أن يكون الحمرة؛ لأن في السفر يجمع بين الصلاتين جد به السير أو لم يجد، فإذا جمع بينهما فلا يبالي متى صلاها.
وهذا تعليل آخر بجواز الجمع بين الصلاتين، وهو يدل على جواز جمع التقديم مع التفريق بين الصلاتين، وعلى أنه لا يشترط للجمع نية الجمع، وقد سبق التنبيه على ذلك.
ومقصود البخاري بتخريج هذا الحديث في هذا الباب: أن من نام قبل صلاة العشاء مغلوباً على ذلك من غير تعمد له فإنه لا يدخل في النهي، لأن النهي إنما هو عن تعمد ذلك، فأمامن لم يتعمده فلا يتوجه إليه النهي.
الحديث الثاني:
قال:
570 -
حدثنا محمود: ثنا عبد الرزاق: أبنا ابن جريج: أخبرني نافع: ثنا عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل عنها ليلة، فأخرها حتى رقدنا في المسجد، ثم استيقظنا، ثم رقدنا، ثم استيقظنا، ثم خرج علينا
النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال:(ليس أحد من أهل الأرض ينتظر الصلاة غيركم) .
وكان ابن عمر لا يبالي أقدمها أم أخرها، إذا كان لا يخشى أن يغلبه النوم عن وقتها، وقد كان يرقد قبلها.
571 -
قال ابن جريج: قلت لعطاء، فقال: سمعت ابن عباس يقول: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بالعشاء حتى رقد الناس، واستيقظوا، ورقدوا واستيقظوا، فقام عمر بن الخطاب، فقال: الصلاة.
قال عطاء: قال ابن عباس: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه الآن يقطر رأسَهُ ماءً، واضعاً يده على رأسه، فقال:(لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يصلوها هكذا) .
فاستثبت عطاء: كيف وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسه كما أنبأه ابن عباس.؟ فبدد لي عطاء بين أصابعه شيئاً من تبديد، ثم وضع أطراف أصابعه على قرن الرأس، ثم ضمها يمر بها كذلك على الرأس حتى
مست إبهامه طرف الأذن مما يلي الوجه على الصدغ وناحية اللحية، لا يقصر ولا يبطش إلا كذلك، وقال:(لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يصلوها كذلك) .
في حديث ابن عمر أن تأخيرها ليلتئذ كان لشغل شغل النبي صلى الله عليه وسلم عنها، ولم يكن عمداً.
وفي رواية لمسلم عنه، قال: مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده قليلاً، فلا ندري أشيء شغله في أهله أو غير ذلك؟ – وذكر بقية الحديث.
وخرجه الإمام أحمد من رواية فليح، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر ليلة العشاء حتى رقدنا، ثم استيقظنا، ثم رقدنا، ثم استيقظنا، وإنما حبسنا لوفدٍ جاءه، ثم خرج – فذكر الحديث.
وخرج – أيضا – من رواية الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً ليلة حتى ذهب نصف الليل أو بلغ ذلك، ثم خرج، فقال:(قد صلى الناس ورقدوا وأنتم تنتظرون هذه الصلاة، أماإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتموها) .
وقوله: (حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا، ثم رقدنا ثم استيقظنا) . إدخال البخاري له في هذا الباب يدل على أنه يرى أن رقود من رقد إنما كان عن غلبة لم يكن تعمداً وقد كان الصحابة ينامون عن غلبة في انتظار الصلوات.
وقد خرج البخاري فيما بعد حديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، قال: أقيمت الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يناجي رجلاً في جانب المسجد فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم.
وفي (صحيح مسلم) عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: أقيمت صلاة العشاء فقال رجل: لي حاجة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يناجيه حتى نام القوم – أو بعض القوم – ثم صلوا.
فحاصل ما ذهب إليه البخاري، وبوب عليه: أنه يكره النوم قبل العشاء إلا لمن غلب، وهو قريب من قول من قال: يكره النوم قبلها مطلقاً كما سبق؛ فإن النوم المغلوب عليه لا يوصف بالكراهة.
وفي حديث عائشة المتقدم ما يدل على ذلك، وأنه إنما نام النساء والصبيان لضعفهم وقلة ضبط نفوسهم عن النوم دون الرجال.
وقد ذهب قوم من العلماء إلى جواز تعمد النوم قبلها، كما في رواية البخاري، أن ابن عمر كان يرقد قبلها
وروى أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان ينام قبل العشاء ويوكل من أهله من يوقظه.
وروى زفر بن الحارث أنه نام عند عائشة – يعني: قبل العشاء – فذهب بعض أهلها يوقظه، فقال: دعوه؛ فإنه في وقت ما بينه وبين نصف الليل.
وقال أبو حصين، عن أصحاب ابن مسعود، أنهم كانوا ينامون قبل العشاء. وقال: وكان الأسود ينام بين المغرب والعشاء في رمضان.
وقال حجاج: قلت لعطاء: إن أناساً يقولون: من نام قبل العشاء، فلا نامت عليه؟ فقال: بئس ما قالوا.
وروي – أيضا – عن علي وخباب وأبي وائل وعروة وسعيد بن جبير، وابن سيرين وغيرهم.
وقال الحاكم: كانوا يفعلون ذلك.
وروى الإمام أحمد في (المسند) : ثنا يحيى بن سعيد الأموي، حدثنا ابن أبي ليلى، عن ابن الأصبهاني، عن جدةٍ له – وكانت سرية لعلي -، قالت: قال علي: كنت رجلاً نئوماً، وكنت إذا صليت المغرب وعلي ثيأبي نمت – ثم قال يحيى بن سعيد: فأنام -، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم -
عن ذلك، فرخص لي.
وروي موقوفاً، وهو أشبه.
رواه أبو بكر الحنفي، عن سفيان، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عبد الله، عن جده، عن علي، أنه كان يتعشى ثم يلتف في ثيابه، فينام قبل أن يصلي العشاء.
ذكره ابن أبي حاتم، وقال: سألت أبي عنه؟ فقال: هو عبد الله بن عبد الله الرازي، عن جدته أسيلة، عن علي، وغلط من قال: عن جده.
وروى أبو نعيم في (كتاب الصلاة) : ثنا إسرائيل، عن حجاج، عن عبد الله ابن عبد الله، عن جدته – وكانت تحت رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان ينام قبل العشاء، فإذا قام كان أنشط له.
وروي – مرفوعاً – من وجه آخر، رويناه من طريق سوار بن مصعب، عن المنهال، عن أبي عبد الله – أبو عبد الله -، عن علي، قال: قلت: يا رسول الله إني رجل نئوم، وقد نهيت عن النوم قبل العشاء، وعن السمر بعدها؟ فقال:(إن يوقظك فلا بأس) .
سوار، متروك الحديث، ورفعه لا يثبت.
ونص أحمد على جواز النوم قبل العشاء -: نقله عنه حنبل.
وقال عبد الله: سألت أبي عن الحديث الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النوم قبل العشاء الآخرة؟ فقال: كان ابن عمر ينام قبل العشاء ويوكل
من يوقظه من نومه.
وهذا هو المذهب عند القاضي أبي يعلي وأصحابه.
وحكى الترمذي في (جامعة) عن بعضهم، أنه رخص في النوم قبل العشاء في رمضان خاصة.
وهذا مأخوذ مما روى إبراهيم، عن الأسود، أنه كان ينام في رمضان ما بين المغرب والعشاء، ولعل من خص ذلك برمضان رأى أن قيام ليله يستحب من أول الليل بخلاف سائر الشهور؛ فإن المستحب فيها التهجد بعد هجعة بعد صلاة العشاء.
وذكر عبد الرزاق بإسناده، عن الحسن، قال: كان الناس يقومون في رمضان، فيصلون العشاء إذا ذهب ربع الليل، وينصرفون وعليهم ربع.
وهذا يدل على أنهم كانوا يؤخرون العشاء إلى آخر وقتها المختار ثم يقومون عقيب ذلك. ومن فعل هذا فإنه يحتاج أن ينام قبل صلاة العشاء لينشط للقيام.
واستدل من لم يكره النوم قبل العشاء إذا كان له من يوقظه بأن الذي يخشى من النوم قبل العشاء هو خوف فوات وقتها المختار، أو فوات الصلاة مع الجماعة وهذا يزول إذا كان له من يوقظه للوقت أو للجماعة.
ويدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرس من آخر الليل وأراد النوم وخشي أن تفوته الصلاة قال: (من يكلؤنا الليلة لا نرقد عن صلاة الصبح؟) قال بلال: أنا، فنام هو وبقية أصحابه وجلس بلال يرقب لهم الصبح، حتى غلبته عيناه، فدل على أن النوم قبل الصلاة وإن قرب وقتها إذا وكل من يوقظه غير مكروه.
وفي ذلك دليل على جواز إيقاظ النائم للصلاة المكتوبة، ولا سيما إذا ضاق وقتها، وقد تقدم أن ابن عمر كان ينام قبل العشاء ويوكل من يوقظه، وأن أحمد استدل به.
وهذا يدل على أن أحمد يرى إيقاظ النائم للصلاة المكتوبة مطلقاً، وصرح به بعض أصحابنا، وهو قول الشافعية وغيرهم.
وقال الشافعية: إنه يستحب، لاسيما إن ضاق الوقت.
واستدلوا بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ عائشة لتوتر.
وبما روى أبو داود من حديث أبي بكرة، قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة الصبح، فكان لا يمر برجل إلا ناداه بالصلاة، أو حركه برجله.
ويدل عليه – أيضا - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطرق علياً وفاطمة بالليل،
ويوقظهما للصلاة.
وورد الحث على إيقاظ أحد الزوجين الآخر بالليل للصلاة.
فإذا استحب إيقاظ النائم لصلاة التطوع، فالفرض أولى.
وكان عمر وعلي – رضي الله عنهما إذا خرجا لصلاة الصبح أيقظا الناس للصلاة. وقد روي ذلك في خبر مقتل عمر وعلي – رضي الله عنهما.
وقد خرج البخاري في (التيمم) حديث عمران بن حصين في نوم النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بطوله، وفيه: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام لم نوقظه حتى يكون هو يستيقظ، لأنا لا ندري ما يحديث له في نومه – وذكر الحديث.
وهذا يفهم منه أنهم كان يوقظ بعضهم بعضاً للصلاة؛ فإن هذا المعنى غير موجود في حق أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذهب بعض المتأخرين من أصحابنا إلى أنه لا يوقظ النائم للصلاة إلا عند تضايق الوقت، وبعضهم إلى أنه لا يوقظه بحال لأنه غير مكلف، ويلزمه أن لا يذكر الناسي بالصلاة؛ فإنه معفو عنه – أيضا.
ومن أصحابنا من حكى هذا الاختلاف في لزوم إيقاظه وعدم لزومه، وهذا أشبه.
وكان سفيان الثوري ينهى عن إيقاظ أحد من أعوان الظلمة للصلاة، لما يخشى من تسلطه على الناس بالظلم.
وهذا يدل على أنه يرى إيقاظ من لا يخشى منه الأذى للصلاة. والله أعلم.
وحمل أبن خزيمة حديث النهي عن النوم قبل الصلاة على ما إذا عجلت الصلاة في أول وقتها، والجواز على ما إذا أخرت إلى آخر وقتها وطال تأخيرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إليهم ليلة تأخيرها وقد ناموا لم ينكر عليهم النوم حينئذ.
ويشبه هذا قول الليث بن سعد، قال: إنما معنى قول عمر: فلا نامت عينه: من نام قبل ثلث الليل.
وفي حديث ابن عباس الذي خرجه البخاري هاهنا زيادة خرجها مسلم، وهي: قال ابن جريج: قلت لعطاء: كم ذكر لك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرها ليلتئذ؟ قال: لا أدري.
وفيه – أيضا - قول عطاء: في وقت استحباب صلاة العشاء.
وقد ذكرنا مذهبه في ذلك فيما مضى.
25 - باب
وقت العشاء إلى نصف الليل
وقال أبو برزة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب تأخيرها.
حديث أبي برزة، قد خرجه فيما تقدم بألفاظ مختلفة.
ففي رواية عوف، عن أبي المنهال، عن أبي برزة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة.
وفي رواية شعبة، عن أبي المنهال، عن أبي برزة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يبالي بتأخير العشاء إلى ثلث الليل. ثم قال: إلى شطر الليل.
وفي رواية: قال شعبة: ثم لقيته مرة، فقال: أو ثلث الليل.
فقد روى شعبة أن أبا المنهال شك: هل كان تأخيره للعشاء إلى ثلث الليل أو نصفه؟
وكذا خرجه مسلم من حديث شعبة.
وخرجه من حديث حماد بن سلمة، عن أبي المنهال، وقال في حديثه: كان يؤخر العشاء إلى ثلث الليل.
وقد تقدم – أيضا – حديث أبي موسى في تأخير النبي صلى الله عليه وسلم العشاء حتى ابهار الليل – أي: توسط وانتصف.
قال البخاري:
572 -
حدثنا عبد الرحيم المحاربي: ثنا زائدة، عن حميد الطويل، عن أنس، قال: أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل، ثم صلى، ثم قال:(قد صلى الناس وناموا، أماإنكم في صلاة ما انتظرتموها) .
وزاد ابن أبي مريم: أبنا يحيى بن أيوب: حدثني حميد: سمع أنسا: كأني أنظر إلى وبيص خاتمه ليلتئذ.
هذا الحديث صريح في تأخير العشاء إلى نصف الليل.
وعبد الرحيم المحاربي، هو: ابن عبد الرحمن بن محمد المحاربي، وكان أفضل من أبيه.
وإنما ذكر حديث يحيى بن أيوب، عنه تعليقاً؛ لأنه ذكر فيه سماع حميد له من أنس، فزال ما كان يتوهم من تدليسه؛ فإنه قد قيل: إن أكثر رواياته عن أنس مدلسة.
وقد تقدم عن الإسماعيلي، أنه قال في المصريين: إنهم يتسامحون في لفظة الإخبار بخلاف أهل العراق. ولفظة السماع قريب من ذلك.
وقد خرج البخاري هذا الحديث في (اللباس) من رواية يزيد بن زريع، عن حميد، قال: سئل أنس: هل اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً - فذكره.
ورواه يزيد بن هارون، عن حميد، عن أنس، وزاد فيه: فجعل الناس يصلون، فخرج وقد بقيت عصابة، فصلى بهم، فلما سلم أقبل عليهم بوجهه - وذكر باقي الحديث.
خرجه أحمد بن منيع في (مسنده) ، عن يزيد كذلك.
وخرجه البخاري في (باب: يستقبل الإمام الناس) . وكذا مسلم - مختصراً.
وقد روي هذا الحديث عن أنس من وجوه أخر:
وخرجه البخاري في أواخر (المواقيت) من حديث الحسن، عن أنس، قال: نظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، حتى كان شطر الليل يبلغه، فجاء فصلى لنا، ثم خطبنا، فقال:(ألا إن الناس قد صلوا ثم رقدوا، وإنكم لن تزالوا في صلاةٍ ما انتظرتم الصلاة) .
وخرج مسلم من حديث قتادة، عن أنس، قال: نظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة حتى كان قريب من نصف الليل، ثم جاء فصلى، ثم أقبل علينا بوجهه، فكأنما أنظر إلى وبيض خاتمه في يده من فضة.
ومن حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، أنهم سألوا أنساً عن خاتم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ذات ليلة إلى شطر الليل، أو كاد يذهب شطر الليل، ثم جاء فقال:(إن الناس قد صلوا وناموا، وإنكم لم تزالوا في صلاةٍ ما انتظرتم الصلاة) . قال أنس: كأني أنظر إلى وبيص خاتمه من فضة، ورفع إصبعه اليسرى بالخنصر.
وفي تأخير العشاء إلى نصف الليل أحاديث أخر، لم تخرج في (الصحيح) .
وروى داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العتمة، فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل، فقال:(خذوا مقاعدكم) ، فأخذنا مقاعدنا، فقال:(إن الناس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة، ولولا ضعف الضعيف، وسقم السقيم لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل) .
خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه وابن خزيمة
في (صحيحه) .
وإسناده على شرط مسلم، إلا أن أبا معاوية رواه عن داود، فقال: عن أبي نضرة، عن جابر.
والصواب: قول سائر أصحاب داود في قولهم: عن أبي سعيد -: قاله أبو زرعة، وابن أبي حاتم، والدارقطني وغيرهم.
وقد سبق في حديث ابن عباس الذي خرجه البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يصلوا هكذا) .
وهذا مما استدل به من قال: إن تعجيل العشاء أفضل؛ لأنه لم يأمرهم بالتأخير، بل أخبر أنه لولا أنه يشق عليهم لأمرهم. وما كان ليؤثر ما يشق على أمته، فلذلك لم يأمرهم.
وكذلك قوله: (لولا ضعف الضعيف، وسقم السقيم لأخرت) ، فإنه يدل على أنه لم يؤخر، وإذا كان الأمر بذلك مستلزماً للمشقة فهو لا يأمر بما يشق عليهم.
وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يراعي حال المأمومين في تأخير العشاء وتقديمها، فإن اجتمعوا عجل، وإن أبطئوا أخر.
وقد أجاب عن ذلك من قال باستحباب التأخير: أن المنتفي هو أمر الإيجاب، دون أمر الاستحباب، كما في السواك.
وقد خرج النسائي الحديث، وقال فيه:(لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن لا يصلوها إلا هكذا) .
ويدل على ذلك أن (لولا) تقتضي جملتين: اسمية، ثم فعلية، فيربط امتناع الثانية فيهما بوجود الأولى، والأولى هنا: خوف المشقة، وهو موجود، فالثانية منتفية، وهو الأمر.
وليس الأمر للإيجاب؛ لأنه ندب إلى تأخيرها، والمندوب مأمور به؛ ولأن في حديث معاذ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(اعتموا بهذه الصلاة) .
خرجه أبو داود.
وهذا أمر.
وهاهنا مسألتان يحتاج إلى ذكرهما:
المسألة الأولى:
هل تأخير العشاء إلى آخر وقتها المختار أفضل؟ أم تعجيلها أفضل؟ أم الأفضل مراعاة حال المأمومين؟
فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن تعجيلها أفضل، وهو أحد قولي الشافعي، بل أشهرهما، وقول مالك.
وفي (المدونة) عنه: أنه قال: أحب للقبائل تأخيرها قليلاً بعد مغيب الشفق، وكذلك في الحرس، ولا تؤخر إلى ثلث الليل.
وقال ابن عبد البر: المشهور عن مالك أنه يستحب لأهل مساجد الجماعات أن لا يعجلوا بها في أول وقتها، إذا كان ذلك غير مضر بالناس، وتأخيرها قليلاً عنده أفضل.
وروي عنه: أن أول الوقت أفضل في كل الصلوات إلا الظهر في شدة الحر.
ورجح الجوزجاني القول باستحباب تعجيل العشاء، وادعى أن التأخير منسوخ، واستدل بما روى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الحسن، عن أبي بكرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر صلاة العشاء الآخرة تسع ليال – وفي رواية: ثمان ليال -، فقال أبو بكر الصديق: لو عجلت يا رسول الله كان أمثل لقيامنا بالليل، فكان بعد ذلك يعجل.
خرجه الإمام أحمد.
وعلي بن زيد جدعان، ليس بالقوي.
وروى سويد بن غفلة، قال: قال عمر: عجلوا العشاء قبل أن يكسل العامل.
وقال مكحول: كان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس إذا غابت الحمرة ببيت المقدس صلوا العشاء.
خرجهما أبو نعيم.
وهذا منقطع.
والقول الثاني: أن تأخيرها أفضل، وحكاه الترمذي في (جامعه) عن أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين.
قال عبد الرحمن بن يزيد: كنت أشهد مع عبد الله – يعني: ابن مسعود – الجماعة، فكان يؤخر العشاء.
وكان ابن عباس يستحب تأخير العشاء، ويقرأ:{زُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ} [هود:
114] .
وممن رأى تأخير العشاء: أبو حنفية وأصحابه، والشافعي في أحد قوليه – وقيل: إنه نص على ذلك في أكثر كتبه الجديدة -، وأحمد وإسحاق.
وعلى هذا؛ فقال أصحابنا وأصحاب الشافعي: يكون تأخيرها إلى آخر وقتها المختار أفضل.
والمنصوص عن أحمد: أن تأخيرها في الحضر حتى يغيب البياض؛ لأنه يكون بذلك مصلياً بعد مغيب الشفق المتفق عليه.
وهذا يدل على أن تأخيرها بعد مغيب البياض لا يستحب مطلقاً، أو يكون مراعى بقدر ما لا يشق على الجيران -: كما نقله عنه الأثرم.
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: قدر كم تأخير العشاء الآخرة؟ قال: ما قدر ما يؤخر بعد أن لا يشق على الجيران.
فقد نص في رواية غير واحد على أنه يستحب للحاضر تأخير العشاء
حتى يغيب البياض من غير اعتبار للمشقة، ونص على أنه يستحب التأخير مهما قدر بحيث لا يشق على الجيران، فيحمل هذا على ما بعد مغيب الشفق الأبيض.
ويدل على صحة هذا، وأن التأخير لا يكون على الدوام إلى نصف الليل ولا إلى ثلثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤخر على الدوام العشاء إلى آخر وقتها، وإنما أخرها ليلة واحدة أو ليالي يسيرة، وشق ذلك على أصحابه فأخبرهم أنه وقتها لولا أن يشق عليهم، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يشق عليهم، بل كان يراعي التخفيف.
ولهذا صح عنه، أنه كان أحياناً وأحياناً: إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم ابطئوا أخر.
وحديث أبي بكر المتقدم يدل على مثل ذلك – أيضا.
وخرج ابن خزيمة في (صحيحه) وغيره من حديث أبي مسعود الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مواقيت الصلاة، وقال: ويصلي العشاء حين يسود الأفق، وربما أخرها حتى يجتمع الناس.
ومما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤخرها دائماً قليلاً، ولم يكن يؤخرها إلى آخر وقتها: ما خرجه مسلم من رواية سماك، عن جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات نحواً من صلاتكم، وكان
يؤخر العتمة بعد صلاتكم شيئاً، وكان يخف.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث النعمان بن بشير، قال: أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة – يعني: العشاء -، كان رسو الله صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر لثالثة.
وفي رواية الإمام أحمد: كان يصليها بعد سقوط القمر في الليلة الثالثة من أول الشهر.
وفي رواية له: كان يصليها مقدار ما يغيب القمر ليلة ثالثة – أو ليلة رابعة.
وهذا الشك من شعبة، ولم يذكر الرابعة غيره.
قال أحمد: وهم فيه – يعني: في ذكر الرابعة.
ومما يدل على اعتبار حال المأمومين، وأنه لا يشق عليهم: ما روى أسامة ابن زيد، عن معاذ بن عبد الله بن خبيب، عن جابر بن عبد الله، قال: كان معاذ يتخلف عند النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء أم قومه، فاحتبس عنهم معاذ ليلة فصلى سليم وحده وانصرف، فأخبر معاذ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى سليم، فسأله عن ذلك، فقال: إني رجل أعمل نهاري، حتى إذا أمسيت أمسيت ناعساً، فيأتينا معاذ وقد
أبطأ علينا، فلما أبطأ عليّ أمسيت، ثم انقلبت إلى أهلي. قال: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ: (لا تكن فاتنا تفتن الناس، ارجع إليهم فصل بهم قبل أن يناموا) .
خرجه البزار.
وخرجه الخرائطي من حديث عثمان بن أبي العاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما بال رجال ينفرون عن هذا الدين، يمسون بعشاء الآخرة) .
وإسناده ضعيف.
وقال سويد بن غفلة: قال عمر: عجلوا العشاء قبل أن يكسل العامل، وينام المريض.
فقد تبين بهذا أن هذا القول الثالث، وهو مراعاة حال المأمومين في التأخير الكثير دون اليسير، هو الأرجح في هذا المسألة.
وقد عقد له البخاري باباً منفرداً، سبق ذكره والكلام عليه.
المسألة الثانية:
في آخر وقت العشاء الآخرة، وفيه أقوال:
أحدها: ربع الليل، حكاه ابن المنذر عن النخعي، ونقله ابن منصور، عن إسحاق.
والقول الثاني: إلى ثلث الليل، روي ذلك عن عمر، وأبي هريرة وعمر ابن عبد العزيز، وهو المشهور عن مالك، وأحد قولي الشافعي، بل هو أشهرهما، ورواية عن أحمد، وقول أبي ثور وغيره.
والقول الثالث: إلى نصف الليل، وروي عن عمر بن الخطاب – أيضا -، وهو قول الثوري والحسن بن حي وابن المبارك وأبي حنفية، والشافعي في قوله الآخر، وأحمد في الرواية الأخرى، وإسحاق، وحكي عن أبي ثور – أيضا.
وتبويب البخاري هاهنا يدل عليه.
وحمل ابن سريج من أصحاب الشافعي قوليه في هذا المسألة على أنه أراد أن أول ابتدائها ثلث الليل، وآخر انتهائها نصفه، وبذلك جمع بين الأحاديث الواردة في ذلك، ولم يوافق على ما قاله في هذا.
والقول الرابع: ينتهي وقت العشاء إلى طلوع الفجر.
رواه ليث، عن طاوس، عن ابن عباس، وعن أبي هريرة، قال: إفراط صلاة العشاء طلوع الفجر.
وهو قول داود.
ورواه ابن وهب، عن مالك، إلا أن أصحابه حملوه
على حال أهل الأعذار؛ فإن قول من قال: آخر وقتها ثلث الليل أو نصفه، إنما أراد وقت الاختيار.
وقالوا: يبقى وقت الضرورة ممتداً إلى طلوع الفجر، فلو استيقظ نائم، أو أفاق مغمى عليه، أو طهرت حائض، أو بلغ صبي، أو أسلم كافر بعد نصف الليل لزمهم صلاة العشاء، وفي لزوم صلاة المغرب لهم قولان مشهوران للعلماء.
وقد روي عن عبد الرحمن بن عوف: أن المرأة إذا طهرت قبل طلوع الفجر صلت المغرب والعشاء، وعن ابن عباس – أيضا - وحكي مثله عن الفقهاء السبعة، وهو قول أحمد.
وقال الحسن وقتادة وحماد والثوري وأبو حنيفة ومالك: يلزمهم العشاء دون المغرب.
وللشافعي قولان، أصحهما: لزوم الصلاتين.
واختلفوا في تأخير العشاء اختياراً إلى بعد نصف الليل: فكرهه الأكثرون، منهم: مالك وأبو حنيفة.
ولأصحابنا وجهان في كراهته وتحريمه.
وقال عامة أصحاب الشافعي: هو وقت جواز.
واستدل من لم يحرمه بما في (صحيح مسلم) من حديث ابن جريج: أخبرني المغيرة بن حكيم، عن أم كلثوم بنت أبي بكر، أنها أخبرته، عن عائشة، قالت: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، ونام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، فقال: (إنه لوقتها، لولا
أن أشق على أمتي) .
وهذا إن كان محفوظاً دل على استحباب التأخير إلى النصف الثاني، ولا قائل بذلك، ولا يعرف له شاهد.
وإنما يتعلق بهذا من يقول: يمتد وقت العشاء المختار إلى طلوع الفجر، كما روي عن ابن عباس، وهو قول داود وغيره، إلا أنهم لا يقولون باستحباب التأخير إلى النصف الثاني، هذا مما لا يعرف به قائل، والأحاديث كلها تدل على خلاف ذلك، مثل أحاديث صلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم عند مغيب الشفق في اليوم الأول، وفي الثاني إلى ثلث الليل، وقوله:(الوقت ما بين هذين) .
ومثل حديث بريدة الذي فيه أن سائلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت العشاء، فأمره أن يشهد معه الصلاة، فصلى بهم في أول مرة العشاء لما غاب الشفق، وفي الثانية إلى ثلث الليل، وقال:(ما بين هذين وقت) .
وقد خرجه مسلم.
وخرج نحوه من حديث أبي موسى.
وخرج – أيضا – من حديث عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(وقت العشاء إلى نصف الليل) .
وهذا كله يدل على أن ما بعد ذلك ليس بوقت، والمراد: أنه ليس بوقت اختيار، بل وقت ضرورة.
وذهب الاصطخري من أصحاب الشافعي إلى أن الوقت بالكلية يخرج بنصف الليل أو ثلثه ويبقى قضاء.
وقد قال الشافعي: إذا ذهب ثلث الليل لا أراها إلا فائتة.
وحمله عامة أصحابه على فوات وقت الاختيار خاصة. والله أعلم.
26 - باب
فضل صلاة الفجر
وفيه حديثان:
الأول:
573 -
حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن إسماعيل: ثنا قيس، قال لي جرير بن عبد الله: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال:(أماإنكم سترون ربكم كما ترون هذا لا تضامون – أو لا تضاهون – في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) . ثم قال: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} .
قد سبق هذا الحديث والكلام عليه في (باب: فضل صلاة العصر) ، وليس في هذه الرواية زيادة على ما في الرواية السابقة، إلا الشك في (تضامون أو تضاهون)، وقد سبق تفسير: تضامون.
وأما (تضاهون) : فإن كانت محفوظة، فالمعنى – والله أعلم -: أنكم لا تشبهون به عند رؤيته شيئاً من خلقه؛ فإنه سبحانه وتعالى لا مثل له
ولا عدل ولا كفء.
ويشهد لهذا: ما روى علي بن زيد بن جدعان، عن عمارة القرشي عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(يجمع الله الأمم في صعيد واحد يوم القيامة، ثم يأتينا ربنا ونحن على مكان مرتفع فيقول: من أنتم؟ فنقول: نحن المسلمون. فيقول: ما تنتظرون. فنقول: ننتظر ربنا عز وجل، فيقول: وهل تعرفون إن رأيتموه؟ فنقول: نعم؛ إنه لا عدل له، فيتجلى لنا ضاحكاً، فيقول: أبشروا معاشر المسلمين؛ فإنه ليس منكم أحد إلا جعلت في النار يهودياً أو نصرانياً مكانه) .
خرجه الإمام أحمد.
وخرجه أبو بكر الآجري في كتاب (التصديق بالنظر)، ولفظه:(فيقولون: إن لنا رباً كنا نعبده في الدنيا لم نره. قال: وتعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون: نعم. فيقال لهم: وكيف تعرفونه ولم تروه؟ قالوا: إنه لا شبه له، فيشكف لهم الحجاب، فينظرون إلى الله عز وجل، فيخرون له سجداً) – ذكر الحديث.
وروى أبو حمة محمد بن يوسف: حدثنا أبو قرة الزبيدي، عن
مالك بن أنس، عن زياد بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان يوم القيامة جمعت الأمم، ودعي كل أناس بإمامهم) – فذكر الحديث بطوله، إلى أن قال:(حتى يبقى المسلمون، فيقف عليهم، فيقول: من أنتم؟ فيقولون: نحن المسلمون. قال: خير اسم وخير داعية. فيقول: من نبيكم؟ فيقولون: محمد، فيقول: ما كتابكم؟ فيقولون: القرآن، فيقول: ما تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله وحده، لا شريك له. قال: سينفعكم ذلك إن صدقتم. قالوا: هذا يومنا الذي وعدنا. فيقول: أتعرفون الله إن رأيتموه؟ فيقولون: نعم. فيقول: وكيف تعرفونه ولم تروه؟ فيقولون: نعلم أنه لا عدل له. قال: فيتجلى لهم تبارك وتعالى، فيقولون: أنت ربنا تباركت أسماؤك، ويخرون له سجداً، ثم يمضي النور بأهله) .
خرجه أبو إسماعيل الأنصاري في (كتاب الفاروق) .
وروى شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد حديث جرير بن عبد الله، وقال في روايته:(لا تضارون في رؤيته) .
وكذا في رواية أبي سعيد وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد خرج حديثهما البخاري في آخر (كتابه) .
ورويت: (تضارون) بتشديد الراء وتخفيفها.
فمن رواه بالتشديد، فالمعنى: لا يخالف بعضكم بعضاً فيكذبه، كما يفعل الناس في رؤية الأشياء الخفية عليهم كالأهلة. يقال: ضاررته مضارة إذا خالفته، ومنه سميت الضرة لمخالفتها الأخرى.
وقيل: المعنى: لا تضايقون، والمضارة: المضايقة -: ذكره الهروي.
ومن رواه بتخفيف الراء، فهي من الضير، والضير: الضر، يقال: ضاره يضيره ويضروه، إذا ضره. وهي قريبة من المعنى إلى الأولى.
وفي رواية أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:(هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟) قالوا: لا. قال: (فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب؟) قالوا: لا. قال: (فإنكم ترونه كذلك) .
وفسر قوله: (هل تمارون) بأن المعنى: هل تشكون، والمرية: الشك.
ويحتمل أن يكون المراد: هل يحصل لكم تمار واختلاف في رؤيتهما؟ فكما لا يحصل لكم في رؤيتهما تمارٍ واختصام، فكذلك رؤية الله عز وجل.
والتماري والتنازع إنما يقع من الشك وعدم اليقين، كما يقع في رؤية الأهلة.
وقوله في هذه الرواية: (ثم قال: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها} هكذا في هذه الرواية، وهذا إشارة إلى آية سورة {طه} ، وتلك إنما هي بالواو {وَسَبِّحْ} ، وفي الرواية السابقة {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] . وهو إشارة إلى آية سورة {ق} وهي بالفاء كما في الرواية.
الحديث الثاني:
574 -
حدثنا هدبة بن خالد: ثنا همام: حدثني أبو جمرة، عن أبي بكر، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من صلى البردين دخل الجنة) .
وقال ابن رجاء: حدثنا همام، عن أبي جمرة، أن أبا بكر بن عبد الله بن قيس أخبره بهذا.
حدثنا إسحاق: ثنا حبان: ثنا همام: ثنا أبو جمرة، عن أبي بكر بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
(أبو جمرة)، هو: نصر بن عمران الضبعي، وهو بالجيم والراء المهملة.
وقد خرج هذا الحديث مسلم عن هداب بن خالد، وهو هدبة الذي خرجه عنه البخاري، ونسب فيه أبا جمرة، فقال: حدثني أبو جمرة الضبعي.
وأما أبو بكر، فقد أشار البخاري إلى انه أبو بكر بن أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس، واستشهد له بشيئين:
أحدهما: رواية ابن رجاء التي ذكرها تعليقاً، عنه، عن همام، عن أبي جمرة، أن أبا بكر بن عبد الله بن قيس أخبره.
والثاني: أنه أسنده من رواية حبان بن موسى، عن همام: ثنا أبو جمرة، عن أبي بكر بن عبد الله – وهو: ابن أبي موسى عبد الله بن قيس.
وخرجه مسلم من طريق بشر بن السري عمرو بن عاصم، قالا: ثنا همام – بهذا الإسناد، ونسبا أبا بكر، فقالا: ابن أبي موسى.
وإنما احتيج إلى هذا؛ لاختلاف وقع بين الحفاظ في نسبة أبي بكر هذا:
فمنهم من قال: هو أبو بكر بن أبي موسى، وتصرف الشيخين في (صحيحهما) يدل على ذلك.
ومنهم من قال: هو أبو بكر بن عمارة بن رؤيبة.
واستدلوا بما خرجه مسلم من رواية وكيع، عن ابن أبي خالد ومسعر والبختري بن المختار، سمعوا من أبي بكر بن عمارة بن رؤيبة، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) – يعني: الفجر والعصر. وعنده رجل من أهل البصرة، فقال له: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال الرجل: وأنا أشهد أني سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته أذناي، ووعاه قلبي.
وخرجه –أيضا – من حديث ابن عمارة بن رؤيبة، عن أبيه والرجل البصري. وزاد البصري: قال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمكان الذي سمعته منه.
فمن هنا قال بعضهم: أبو بكر الذي روى أبو جمرة هو ابن عمارة بن رؤيبة، عن أبيه عمارة بن رؤيبة، لأن معنى الحديثين متقارب.
قال ابن أبي خيثمة في (كتابه) : سألت يحيى بن معين عن أبي بكر الذي روى حديث (البردين) : من أبوه؟ قال: يرون أنه أبو بكر بن أبي موسى؛ فلذلك استغربوه. قال: فقال له أبي: يشبه أن يكون: أبو بكر بن عمارة
بن رؤيبة؛ لأنه يروي عن أبيه عمارة: (من صلى قبل الغداة وقبل غروب الشمس) .
وقال صالح بن محمد، عن علي بن المديني: هو عندي أبو بكر بن عمارة؛ لأن معنى الحديثين واحد. قيل له: إن أبا داود الطيالسي وهدبة نسباء، فقالا: عن أبي بكر بن أبي موسى؟ فقال: ليسا ممن يضبط هذا؛ حدثاه بهز وحبان ولم ينسباه.
قال أبو بكر الخطيب: قد نسبه جماعة عن همام، منهم: بشر بن السري، وعبد الله بن رجاء، وعمرو بن عاصم وللناسب فضل تعرف وبيان على من لم ينسبه.
قال: وكان عفان بنسبه كذلك حتى قال له بلبل وعلي بن المديني: إنه أبو بكر بن عمارة، فترك نسبته، وقال: عن أبي بكر، عن أبيه.
ونقل البرقاني عن الدارقطني، أنه كان يقول: هو أبو بكر بن عمارة بن رؤيبة،
وعن الإسماعيلي عن مطين مثله.
وقال أبو الحسن [العقيلي] : اختلف فيه، فالأقوى أنه ابو بكر بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه. ويقال: هو أبو بكر بن عمارة بن رؤبية، عن أبيه.
وكذلك قال مطين، وإليه كان يميل شيخنا أبو الحسن – يعني: الدارقطني رحمه الله.
و (البردان) : صلاة الصبح والعصر؛ لأنهما يصليان في برد النهار من أوله وآخره.
وأماالظهر فتسمى الهجير كما في حديث أبي برزة؛ لأنها تصلي بالهاجرة.
ويقال للعصر والفجر: العصران؛ كذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث فضالة الليثي، وأنه وصاه بالمحافظة عليهما.
وصلاة الصبح من صلاها فهو في ذمة الله، كما في حديث جندب ابن سفيان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا تخفروا الله في ذمته)
خرجه مسلم.
وفي رواية له – أيضا – زيادة: (فإنه من يطلبه من
ذمته بشيء يدركه، ثم يكبه على وجهه في نار جهنم) .
وقد روي مثله في صلاة العصر – أيضا.
خرجه نعيم بن حماد في (كتاب الفتن) عن عبد العزيز الدراوردي، عن زيد ابن أسلم، عمن حدثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من صلى الصبح كان في جوار الله حتى يمسي، ومن صلى العصر كان في جوار الله حتى يصبح، فلا تخفروا الله في جواره؟ فإنه من أخفر الله في جواره طلبه الله، ثم أدركه، ثم كبه على منخره) – أي: في جهنم.
27 - باب
وقت الفجر
صلاة الفجر تسمى صلاة الفجر؛ قال تعالى: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} [النور: 58] وقال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] .
وتسمى صلا الصبح، والأحاديث بذلك كثيرة.
قال الشافعي: ولا أحب أن تسمى صلاة الغداة، وكرهه بعض أصحابه، ولا دليل لقوله، والأحاديث تدل على خلافه، وقد سبق حديث جابر:(والصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس) ، وحديث أبي برزة، (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينصرف من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، ويقرأ فيها بالستين إلى المائة) ، وهذا يدل على شدة التغليس بها.
وخرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
575 -
حدثنا عمرو بن عاصم: ثنا همام، عن قتادة، عن أنس، أن زيد بن ثابت حدثه، أنهم تسحروا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قاموا إلى الصلاة.
قلت: كم كان بينهما؟ قال: قدر خمسين أو ستين - يعني: آية.
576 -
حدثنا الحسن بن الصباح: سمع روح بن عبادة: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم وزيد بن ثابت تسحرا، فلما فرغا من سحورهما قام نبي الله صلى الله عليه وسلم فصليا.
قلت لأنس: كم بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية.
مقصود البخاري: تبيين الاختلاف في إسناد هذا الحديث على قتادة، فهمام جعله عن قتادة عن أنس عن زيد بن ثابت، وسعيد بن أبي عروبة جعله عن قتادة عن أنس من مسنده.
وقد خرجه البخاري في (الصيام) من حديث هشام الدستوائي، عن قتادة ومسلم من رواية هشام وهمام وعمر بن عامر، كلهم عن قتادة، عن أنس، عن زيد.
وفي رواية البخاري: (كم بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية) .
وقال عفان وبهز بن أسد، عن همام في حديثه: قلت لزيد: كم بين ذلك؟
فصرح بأن المسؤل زيد.
وقد خرجه عنهما الإمام أحمد.
وكذا رواه خالد بن الحارث، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس عن زيد، وقال في حديثه:(أنس القائل: كم كان بينهما) .
فخالف خالد سائر أصحاب سعيد في ذكره زيداً في الإسناد.
وقد خرجه الإسماعيلي في (صحيحه)، وقال: يحتمل أن يكون أنس سأل زيداً فأخبره، وأن يكون قتادة أو غيره سأل أنساً فأرسل له قدر ما كان بينهما، كما أرسل أصل الخبر، ولم يقل: عن زيد.
وهذا يدل على أن الصواب عنده: أن الحديث عن أنس، عن زيد، فهو من مسند زيد، لا من مسند أنس.
ورواه معمر، عن قتادة كما رواه سعيد، جعله من مسند أنس.
خرجه النسائي من طريقه.
ولفظ حديثه: عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك عند السحر -: (يا أنس، إني أريد الصيام، أطعمني شيئاً) ، فأتيته بتمر وإناء فيه ماء، وذلك بعد ما أذن بلال. قال:(يا أنس، انظر رجلاً يأكل معي) ، فدعوت زيد بن ثابت، فجاءه، فقال:(إني شربت شربة من سويق، وأنا أريد الصيام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأنا أريد الصيام) ، فتسحر معه، ثم قام فصلى ركعتين، ثم خرج إلى الصلاة.
ومقصود البخاري بهذا الحديث في هذا الباب: الاستدلال به على تغليس النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الفجر؛ فإنه تسحر ثم قام إلى الصلاة، ولم يكن بينهما إلا قدر خمسين آية.
وأكثر الروايات تدل على أن ذلك قدر ما بين السحور والصلاة.
وفي رواية البخاري المخرجة في (الصيام) : أن ذلك قدر ما بين
[الأذان و] السحور.
وهذه صريحة بأن السحور كان بعد أذان بلال بمدة قراءة خمسية آية.
وفي رواية معمر: أنه لم يكن بين سحوره وصلاة الفجر سوى ركعتي الفجر، والخروج إلى المسجد.
وهذا مما يستدل به على أنه صلى الله عليه وسلم صلى يومئذ الصبح حين بزغ الفجر.
وقد روى حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث زيد، لكنه استدل به على تأخير السحور، وأنه كان بعد الفجر.
فروى عاصم، عن زر بن حبيش، قال: تسحرت، ثم انطلقت إلى المسجد، فمررت بمنزل حذيفة بن اليمان، فدخلت عليه، فأمر بلقحة فحلبت وبقدر فسخنت، ثم قال: ادن فكل. فقلت: إني أريد الصوم. فقال: وأنا أريد الصوم، فأكلنا وشربنا، وأتينا المسجد، فأقيمت الصلاة، فقال حذيفة: هكذا فعل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: أبعد الصبح؟ قال: نعم، هو الصبح غير أن لم تطلع الشمس.
خرجه الإمام أحمد.
وخرج منه النسائي وابن ماجه: أن حذيفة قال: تسحرت مع النبي صلى الله عليه وسلم، هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع.
وقد روي من غير وجه، عن حذيفة.
قال الجوزجاني: هو حديث أعيا أهل العلم معرفته.
وقد حمل طائفة من الكوفيين، منهم: النخعي وغيره هذا الحديث على جواز السحور بعد طلوع الفجر في السماء، حتى ينتشر الضوء على وجه الأرض.
وروي عن ابن عباس وغيره: حتى ينتشر الضوء على رؤوس الجبال.
ومن حكى عنهم، أنهم استباحوا الأكل حتى تطلع الشمس فقد أخطأ.
وأدعى طائفة: أن حديث حذيفة كان في أول الإسلام ونسخ.
ومن المتأخرين من حمل حديث حذيفة على أنه يجوز الأكل في نهار الصيام حتى يتحقق طلوع الفجر، ولا يكتفي بغلبة الظن بطلوعه.
وقد نص على ذلك أحمد وغيره؛ فإن تحريم الأكل معلق بتبين الفجر، وقد قال علي بعد صلاته للفجر: الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
وأنه يجوز الدخول في صلاة الفجر بغلبة ظن طلوع الفجر كما هو قول أكثر العلماء على ما سبق ذكره.
وعلى هذا، فيجوز السحور في وقت تجوز فيه صلاة الفجر، إذا غلب على الظن طلوع الفجر، ولم يتيقن ذلك.
وإذا حملنا حديث حذيفة على هذا، وأنهم أكلوا مع عدم تيقن طلوع الفجر، فيكون دخولهم في الصلاة عند تيقن طلوعه والله أعلم.
ونقل حنبل عن أحمد، قال: إذا نور الفجر وتبين طلوعه حلت الصلاة، وحرم الطعام والشراب على الصائم.
وهذا يدل على تلازمهما، ولعله يرجع إلى أنه لا يجوز الدخول في الصلاة إلا بعد تيقن دخول الوقت.
وقد روي عن ابن عباس وغيره من السلف تلازم وقت صلاة الفجر وتحريم الطعام على الصائم.
وروي في حديث ابن عباس المرفوع، أن جبريل صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الأول حين حرم الطعام على الصائم.
وقد خرج البخاري في (الحج) حديث ابن مسعود، أنه قال بالمزدلفة حين طلع الفجر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم.
وفي رواية له: أنه صلى الفجر حين طلع الفجر، قائل يقول: قد طلع الفجر، وقائل يقول: لم يطلع الفجر، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان المغرب والعشاء فلا يقدم الناس جمعاً حتى يعتموا، وصلاة الفجر هذه
الساعة) .
وهذا كله يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن عادته أنه يصلي الفجر ساعة بزوغ الفجر، وإنما فعل ذلك بمزدلفة يوم النحر. والله أعلم.
الحديث الثاني:
قال:
577 -
حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، عن أخيه، عن سليمان، عن أبي حازم، أنه سمع سهل بن سعد يقول: كنت أتسحر في أهلي، ثم يكون سرعة بي أن أدرك صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رواه عن أبي حازم: سليمان بن بلال وعبد الله بن عامر.
وفيه: دلالة على تعجيل النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الفجر - أيضا -، كحديث زيد بن ثابت الذي قبله.
الحديث الثالث:
578 -
حدثنا يحيى بن بكير: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة أخبرته، قالت: كن نساء المؤمنات يشهدن مع النبي صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يعرفهن أحد من الغلس.
(المروط) : الأكسية، وقد سبق تفسيرها.
و (التلفع) : تغطية الرأس.
وروي عن مالك: (متلففات) - بفائين -، والمشهور عنه:(متلفعات) أيضا - بالعين، كرواية الأكثرين.
والحديث عند مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة.
وقد خرجه من طريقه البخاري في موضع آخر من (كتابه) ومسلم - أيضا.
وخرجه البخاري - أيضا - من رواية فليح، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة - بنحوه.
والحديث: يدل على تغليس النبي صلى الله عليه وسلم بالفجر، فإنه كان يطيل فيها القراءة، ومع هذا فكان ينصرف منها بغلس.
فإن قيل: ففي حديث أبي برزة، أنه كان ينصرف من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، وهذا يخالف حديث عائشة.
قيل: لا اختلاف بينهما، فإن معرفة الرجل رجلاً يجالسه في ظلمة الغلس لا يلزم منه معرفته في ذلك الوقت أمرأة منصرفة متلفعة بمرطها، متباعدة عنه.
وروى الشافعي حديث أبي برزة في كتاب (اختلاف علي عبد الله) ، عن ابن علية، عن عوف، عن أبي المنهال، عن أبي برزة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح، ثم ننصرف وما يعرف الرجل منا جليسه.
قال البيهقي: هذا الكتاب لم يقرأ على الشافعي، فيحتمل أن يكون قوله:(وما يعرف الرجل منا جليسه) وهما من الكاتب؛ ففي سائر الروايات: (حتى يعرف الرجل منا جليسه) . انتهى.
والظاهر: أن أبا برزة أراد أن الرجل إنما كان يعرف جليسه إذا تأمل وردد فيه نظره.
ويدل عليه: أحاديث أخر، منها: حديث قيلة بنت مخرمة، أنها قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس صلاة الغداة، وقد أقيمت حين انشق الفجر، والنجوم شابكة في السماء، والرجال لا تكاد تتعارف مع ظلمة الليل.
خرجه الإمام أحمد.
وهو إخبار عن حال الصلاة دون الانصراف منها.
وروى أبو داود الطيالسي وغيره من رواية حرملة العنبري، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فصليت معه الغداة، فلما قضى الصلاة نظرت في وجوه
القوم، ما أكاد أعرفهم.
وخرج البزار والإسماعيلي من رواية حرب بن سريج، عن محمد بن علي ابن حسين، عن محمد بن الحنفية، عن علي بن أبي طالب، قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، وما يعرف بعضنا وجه بعض.
حرب بن سريج، قال أحمد: ليس به بأس، ووثقه ابن معين. قال أبو حاتم: ليس بقوي؛ منكر عن الثقات.
وفي الباب أحاديث أخر.
والكلام هاهنا في مسألتين:
المسألة الأولى:
في وقت الفجر:
أماأول وقتها: فطلوع الفجر الثاني، هذا مما لا اختلاف فيه.
وقد اعاد أبو موسى وابن عمر صلاة الفجر لما تبين لهما أنهما صليا قبل طلوع الفجر.
وروى ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: الفجر فجران: فجر يطلع بليل، يحل فيه الطعام والشراب ولا يحل فيه الصلاة. وفجر تحل فيه الصلاة ويحرم فيه الطعام والشراب، وهو الذي ينتشر على رؤوس الجبال.
ورواه أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن ابن جريج، فرفعه.
خرجه من طريقه ابن خزيمة وغيره.
والموقوف أصح -: قاله البيهقي وغيره.
وروى ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(الفجر فجران، فإن الفجر الذي يكون كذنب السرحان فلا يحل الصلاة فيه ولا يحرم الطعام) .
وروي عن ابن أبي ذئب - بهذا الإسناد - مرسلاً من غير ذكر: جابر.
قال البيهقي: هو أصح.
وأماآخر وقت الفجر: فطلوع الشمس، هذا قول جمهور العلماء من السلف والخلف، ولا يعرف فيه خلاف، إلا عن الاصطخري من الشافعية، فإنه قال: إذا أسفر الوقت جداً خرج وقتها وصارت قضاء.
ويرد قوله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها) .
وفي (صحيح مسلم) عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(وقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس) .
وفي رواية له - أيضا -: (وقت الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول) .
المسألة الثانية:
في أن الأفضل: هل هو التغليس بها في أول وقتها، أم الإسفار بها؟ وفيه قولان:
أحدهما: أن التغليس بها أفضل، وروي التغليس بها عن أبي بكر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأبي موسى، وابن عمر، وابن الزبير، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، ومعاوية، وعمر بن عبد العزيز، وهو قول الليث، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وإسحاق، وأبي ثور، وداود.
وقد ذكرنا في هذا الباب عامة أحاديث التغليس بالفجر.
وذهب آخرون إلى أن الإسفار بها أفضل، وروي الإسفار بها عن عثمان، وعلي وابن مسعود.
روى الأوزاعي: حدثني نهيك بن يريم الأوزاعي: حدثني مغيث بن سمي، قال: صليت مع عبد الله بن الزبير الصبح بغلس، فلما سلم أقبلت على ابن عمر، فقلت: ما هذه الصلاة؟ قال: هذه صلاتنا، كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما طعن عمر أسفر بها عثمان.
خرجه ابن ماجه.
وذكر الترمذي في (علله) عن البخاري، أنه قال: هو حديث
حسن.
وقال يزيد الأودي: كنت أصلي مع علي صلاة الغداة، فتخيل إلى أنه يستطلع الشمس.
وقال علي بن ربيعة: سمعت علياً يقول: يابن التياح، أسفر أسفر بالفجر.
وقال أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود، أنه كان يسفر بصلاة الغداة.
وقال نافع بن جبير: كتب عمر إلى أبي موسى أن صل الفجر إذا نور النور.
وممن كان يرى التنوير بها: الربيع بن خثيم وسعيد بن جبير، وكان النخعي يسفر بها.
ذكر ذلك كله أبو نعيم في (كتاب الصلاة) بأسانيده.
وقال: رأينا سفيان يسفر بها.
وممن رأى الإسفار بها: طاوس وفقهاء الكوفيين، مثل: سفيان والحسن ابن حي وأبي حنيفة وأصحابه.
وروى وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، قال: ما اجتمع
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على شيء ما اجتمعوا على التنوير بالفجر.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده، عن أبي الدرداء، قال: أسفروا بهذه الصلاة، فإنه أفقه لكم.
واستدل من رأى الإسفار: بما روى عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود ابن لبيد، عن رافع بن خديج، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي.
وقال: حديث حسن صحيح.
وخرجه ابن حبان في (صحيحه) .
وقال العقيلي: إسناده جيد.
قال الأثرم: ليس في أحاديث هذا الباب أثبت منه.
يشير إلى أن في الباب أحاديث وهذا أثبتها، وهو
كما قال.
وأجاب من يرى التغليس أفضل عن هذا بأجوبةٍ:
منها: تضعيفه، وسلك ذلك بعض أصحابنا الفقهاء، وسلكه ابن عبد البر، وقال: مدار الحديث على عاصم بن عمر بن قتادة، وليس بالقوي.
كذا قال؛ وعاصم هذا مخرج حديثه في (الصحيحين)، وقال ابن معين وأبو زرعة: ثقة.
وقد يعلل هذا بالاختلاف في إسناده على عاصم بن عمر بن قتادة:
فرواه ابن إسحاق وابن عجلان، عن عاصم، عن محمود بن لبيد، عن رافع كما تقدم.
ورواه زيد بن أسلم، عن عاصم بن عمر، واختلف عنه:
فرواه أبو غسان، عن زيد بن أسلم، عن عاصم، عن محمود بن لبيد، عن رجال من قوم من الأنصار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(ما أسفرتم بالصبح، فإنه أعظم للأجر) .
وخرجه من طريقه النسائي كذلك.
ورواه يعقوب بن عبد الرحمن القاري، عن زيد بن أسلم، عن عاصم، عن رجال من قومه، عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر: محمود بن لبيد.
ورواه هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن محمود بن لبيد، عن رجال من الصحابة – ولم يذكر: عاصماً.
ورواه وكيع، عن هشام، عن زيد – مرسلاً.
ورواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن محمود بن لبيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وخرجه من طريقه الإمام أحمد.
وروي عن شعبة، عن أبي داود، عن زيد بن أسلم، عن محمود بن لبيد، عن رافع.
قال البزار: أبو داود هذا، هو: الجزري، لم يسند عنه شعبة إلا هذا.
وقال أبو حاتم الرزاي: شيخ واسطي مجهول.
ورواه بقية، عن شعبة، عن داود البصري، عن زيد.
وزعم بعضهم: أنه داود بن أبي هند، وهو بعيد.
وزيد بن أسلم لم يسمع من محمود بن لبيد.
ورواه يزيد بن عبد الملك، عن زيد بن أسلم، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهو وهم -: قاله الدارقطني وغيره.
ورواه إسحاق الحنيني، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن ابن بجيد الحارثي، عن جدته حواء، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
لم يتابع عليه الحنيني، وهو وهم منه -: قاله الدارقطني، وأشار إليه الأثرم وغيره.
ورواه فليح بن سليمان، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال البزار: لا نعلم أحداً تابع فليحاً على هذا الإسناد.
والصواب من الخلاف على زيد بن أسلم، عن عاصم، عن محمود، عن رافع -: قاله الدارقطني.
قلت: أماابن إسحاق وابن عجلان فروياه عن عاصم بهذا الإسناد،
وأمازيد فاختلف عنه كما ترى، ولا نعلم أحداً قال عنه مثل قول ابن إسحاق وابن عجلان، فكيف يكون هو الصواب عن زيد؟ فرجع الأمر إلى ما رواه ابن إسحاق وابن عجلان، عن عاصم وليسا بالمبرزين في الحفظ.
ومنها: تأويله، واختلف المتأولون له:
فقال الشافعي وأحمد وإسحاق وغيره: المراد بالإسفار: أن يتبين الفجر ويتضح، فيكون نهياً عن الصلاة قبل الوقت، وقبل تيقن دخول الوقت.
وذكر الشافعي: أنه يحتمل أن بعض الصحابة كان يصلي قبل الفجر الثاني، فأمر بالتأخير إلى تبين الفجر وتيقنه.
ورد ذلك بعضهم بأن قوله: (هو أعظم للأجر) يدل على أن في ترك هذا الإسفار أجراً، ولا أجر في الصلاة قبل وقتها إلا بمعنى أنها تصير نافلة.
ومنهم من قال: أمروا أن لا يدخلوا في صلاة الفجر حتى يتيقنوا طلوع الفجر، وقيل لهم: هو أفضل من الصلاة بغلبة الظن بدخوله.
وهذا جواب من يقول بجواز الدخول في الصلاة إذا غلب على الظن دخول وقتها من أصحابنا كالقاضي أبي يعلي وغيره، وأكثر أصحاب الشافعي، وحملوا حديث ابن مسعود في تقديم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم النحر بالمزدلفة على أنه صلاها يومئذ بغلبة ظن دخول الوقت.
وكلام أحمد يدل على أنه لا يدخل في الصلاة حتى يتيقن دخول وقتها كما سبق.
ومن أصحابنا من حمل حديث ابن مسعود في الصلاة بالمزدلفة على أن عادة النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد تيقن طلوع الفجر تأخير الصلاة بقدر الطهارة والسعي إلى المسجد، ولم يؤخر هذا القدر بالمزدلفة. وهذا أشبه.
واستدل بعض من فسر الإسفار المأمور به بتبين الفجر: بأن العرب تقول: أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته وأبانت عنه فدل على أن الإسفار هو التبيين والظهور.
وفي هذا نظر؛ فإنه لا يعرف في اللغة أسفرت المرأة عن وجهها، إنما يقال: سفرت، وأماالإسفار فإنما يقال في الفجر والصبح، يقال: سفر، وأسفر؛ قال تعالى:
{وَالصُّبْحِ إذا أَسْفَرَ} [المدثر: 34] ، ومعناه أضاء وأنار، ويقال: أسفر وجهه من السرور، إذا أنار، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذ سر استنار وجهه كأنه فلقة قمر. ومنه قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ* ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 38، 39] فليس معنى قوله: (أسفروا بالفجر) إلا أنيروا به.
لكن: هل المراد إنارة الأفق بطلوع الفجر فيه ابتداء، أم إنارة الأرض بظهور النور على وجهها؟ هذا محل نظر.
وحمله على الأول أقرب؛ لأنه موافق فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين.
وعلى هذا المعنى يحمل كلام أحمد، بل هو ظاهره أو صريحه، وهو حسن.
ويدل عليه: ما روى مسلم الملائي، عن مجاهد، عن قيس بن السائب، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح إذا يغشى النور السماء – وذكر الحديث:
خرجه الطبراني.
وقال آخرون: بل الإسفار يكون باستدامته الصلاة، لا بالدخول فيها، فيدخل فيها بغلس، ويطيلها حتى يخرج منها وقد أسفر الوقت.
وقد روي هذا المعنى عن عطاء، وقاله – أيضا – من أصحابنا: أبو حفص البرمكي والقاضي أبو يعلي في (خلافه الكبير) ، ورجحه
الطحاوي.
ويعضد هذا: حديث أبي برزة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينصرف من صلاة الفجر حتى يعرف الرجل جليسه، ويقرأ فيها بالستين إلى المائة.
وقد رد هذا القول على من قاله كثير من العلماء، منهم: الشافعي وابن عبد البر والبيهقي، وقال: أكثر الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل فيها بغلس، ويخرج منها بغلس؛ لحديث عائشة وغيره، وكذلك أكثر أصحابنا، وإن كان منهم من كان يخرج منها بإسفار ويطيل القراءة، كما روي عن الصديق لما قرأ بالبقرة، وعن عمر – أيضا.
وقد روي أن عمر هو الذي مد القراءة في الفجر، وروي عن عثمان أنه تبعه على ذلك.
وروي عن علي، أنه كان يقصر فيها القراءة، ولعله لما كان يسفر بها.
ومن الناس من ادعى أن في هذه الأحاديث ناسخاً ومنسوخاً، وهم فرقتان.
فرقة منهم ادعت أن الأحاديث في الإسفار منسوخة.
واستدلوا بما في حديث أسامة بن زيد، عن الزهري، عن عروة، عن بشير ابن أبي مسعود، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر حديث المواقيت بطوله، وقال في آخره: وصلى الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، لم يعد إلى أن يسفر.
خرجه أبو داود.
وقد تقدم أن أسامة تفرد به بهذا الإسناد، وإنما أصله: عن الزهري – مرسلاً.
وفرقةً ادعت أن أحاديث التغليس منسوخة بالإسفار، منهم: الطحاوي.
وزعم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغلس بالفجر قبل أن تتم الصلوات لما قدم المدينة، ثم لما أتمت الصلوات أربعاً أربعاً أطال في قراءة الفجر، وغلس بها حينئذ.
وأخذه من حديث عائشة الذي ذكرناه في أول (الصلاة) : أن الصلوات أتمت بالمدينة أربعاً، وأقرت الفجر لطول القراءة.
وهذا في غاية البعد، ولم ترد عائشة أنه حينئذ شرعت طول القراءة فيها عوضاً عن الإتمام، وإنما أخبرت أنها تركت على حالها لما فيها من طول القراءة، ولم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخفف القراءة في الفجر ثم أطالها، ولا أنه لما كان يخففها كان يسفر بها، وكل هذه ظنون لا يصح منها شيء.
واختلف القائلون باستحباب التغليس بها إذا كان جيران المسجد يشق عليهم التغليس، ولا يجتمعون في المسجد إلا عند الإسفار: هل الأفضل حينئذ التغليس، أم الإسفار؟
فقالت: طائفة: التغليس افضل بكل حال وهو قول مالك والشافعي وحكي رواية عن أحمد وقالت طائفة: الإسفار حينئذ أفضل، وهو منصوص أحمد في رواية غير واحد من أصحابه.
وجعله القاضي أبو يعلي في (خلافة الكبير)[و] في (جامعه الكبير) مذهب أحمد رواية واحدة، ولم يحك عنه في ذلك خلافاً في هذين الكتأبين، وهما من آخر كتبه.
واستدلوا بحديث جابر في مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم حال المأمومين في العشاء الآخرة، وقد سبق.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه أمر بذلك معاذ بن جبل لما أرسله إلى اليمن، فأمره أن يغلس بالفجر في الشتاء؛ لطول الليل واستيقاظ الناس في أول الوقت، وأن يؤخر في الصيف، لأن الناس ينامون لقصر الليل فيه.
وحمل بعض أصحابنا أحاديث الأمر بالإسفار على حالة تأخير المأمومين.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يعجل الصبح تارةً، ويؤخرها تارة، وعن جماعة من السلف.
فروى الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد الزبيري: ثنا أبو شعبة الطحان جار الأعمش، عن أبي ربيع، قال: قلت لابن عمر: إني أصلي معك الصبح، ثم التفت فلا أرى وجه جليسي، ثم أحياناً تسفر؟ قال: كذلك رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، وأحببت أن أصليها كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها.
وهذا إسناد ضعيف.
نقل البرقاني، عن الدارقطني، قال: أبو شعبة: متروك، وأبو الربيع: مجهول.
وروينا من طريق أبي خالد الواسطي، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر فيغلس ويسفر، ويقول:(ما بين هذين وقت، لئلا يختلف المؤمنون) .
قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هذا الحديث، فقال: أبو خالد الواسطي هو عمرو بن خالد، ضعيف الحديث جداً.
وروى بيان الرقاشي، قال: قلت لأنس: حدثني عن وقت نبي الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة – فذكر حديث المواقيت، وقال: كان يصلي الغداة عند الفجر إلى أن ينفسح البصر، كل ذلك وقت.
بيان هذا، هو: ابن جندب، يكنى أبا سعيد. وقال أبو داود: لا أعلم له إلا حديث المواقيت. وقال ابن معين: هو مجهول.
وله شاهد من وجهٍ آخر أقوى منه.
خرجه الإمام أحمد
والنسائي من طريق شعبة، عن أبي صدقة، عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم -
يصلي الفجر إلى أن ينفسح البصر.
وأبو صدقة مولى أنس، أثنى عليه شعبة خيراً، ووثقه النسائي.
وممنى روي عند التغليس والإسفار: عمر وعثمان وعلي وابن مسعود – رضي الله عنهم.
قال أبو نعيم: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن خرشة بن الحر، قال: كان عمر يغلس بالفجر وينور.
وحدثنا سيف بن هارون، عن عبد الملك بن سلع، عن عبد خير، قال: كان علي ينور بها أحياناً، ويغلس بها أحياناً.
وفعل هؤلاء يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون ذلك على حسب مراعاة حال المأمومين في تقديمهم وتأخيرهم، وقد روي هذا صريحاً عن عمر.
والثاني: أن يكون التقديم والتأخير عندهم سواء في الفضل.
قال ابن عبد البر: ذهب طائفة إلى أن أول الوقت وآخره سواء في الفضل؛ لقوله: (ما بين هذين وقت) .
قال: ومال إلى ذلك بعض
أصاب مالك، وذهب إليه أهل الظاهر، وخالفهم جمهور العلماء.
هذا؛ مع أنه حكى عن داود أن التغليس بالفجر أفضل، وحكى الاتفاق من المسلمين على أن التعجيل بالمغرب أفضل، من يقول: لها وقت، ومن يقول: إن وقتها متسع إلى العشاء.
واختلف – أيضا – من يقول بأن التغليس أفضل من الإسفار: هل حكمه كله واحد، أو مختلف؟
فقال أصحاب الشافعي: آخر وقت الاختيار إذا أسفر – أي أضاء -، ثم يبقى وقت الجواز إلى طلوع الشمس.
وقال الاصطخري منهم: يخرج الوقت بالإسفار جداً، فتكون الصلاة معه قضاء، وقد سبق حكاية قوله والرد عليه.
وقال بعض الشافعية: يكره تأخير الصبح بغير عذر إلى طلوع الحمرة – يعني: الحمرة التي قبيل طلوع الشمس.
واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: وقتها كله مختار إلى طلوع الشمس؛ لأن أبا موسى روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سأله سائل عن وقت الصلاة، فصلى بهم في يومين، فقدم في الأول، [وأخر في الثاني]، وأخر في اليوم الثاني الصبح حتى انصرف منها والقائل يقول: طلعت الشمس أو كادت.
خرجه مسلم.
وقد سبق عن علي بن أبي طالب نحو ذلك.
ومنهم من قال: يذهب وقت الاختيار بالإسفار، ويبقى وقت الإدراك إلى طلوع الشمس، وهو قول القاضي أبي يعلي في (كتابه المجرد) .
وقد روي عن أحمد ما يدل على كراهة التأخير إلى الإسفار الفاحش.
قال إسحاق بن هانئ في (مسائله) : خرجت مع أبي عبد الله من المسجد في صلاة الفجر، وكان محمد بن محرز يقيم الصلاة، فقلت لأبي عبد الله: هذه الصلاة على مثل حديث رافع بن خديج في الإسفار؟ فقال: لا، هذه صلاة مفرط؛ إنما حديث رافع في الإسفار أن يرى ضوء الفجر على الحيطان. قال:
وسمعت أبا عبد الله يقول: الحديث في التغليس أقوى.
يشير أحمد إلى أنه مع تعارض الأحاديث يعمل بالأقوى منها، وأحاديث التغليس أقوى إسناداً وأكثر.
وكذلك الشافعي أشار إلى ترجيح أحاديث التغليس بهذا، وعضده: موافقاً ظاهر القرآن من الأمر بالمحافظة على الصلوات.
وقد حمل أحمد حديث رافع في الإسفار في هذه الرواية على ظاهره، لكنه فسر الإسفار برؤية الضوء على الحيطان، وجعل التأخير بعده تفريطاً، وهذا خلاف ما يقول أصحابنا.
وروى ابن القاسم، عن مالك، أن آخر وقتها الإسفار. وكذلك روى ابن عبد الحكم، عنه، أن آخر وقتها الإسفار الأعلى.
وهذا يشبه قول الاصطخري، إلا أن يكون مراده آخر وقت الاختيار.
وأمامن يرى أن الإسفار أفضل فلا كراهة عندهم في التأخير إلى قريب طلوع الشمس، وهو أفضل عندهم، وهو قول الثوري والحسن بن حي وأبي حنيفة وأصحابه.
واستدل من كره التأخير إلى شدة الإسفار بما روى الحارث بن وهب، عن أبي عبد الرحمن الصنابحي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال أمتي في مسكة ما لم يعملوا بثلاث: ما لم يؤخروا المغرب انتظار الظلام مضاهاة اليهود، وما لم يؤخروا الفجر إمحاق النجوم مضاهاة النصارى، وما لم يكلوا الجنائز إلى أهلها) .
خرجه الإمام أحمد،
وهو مرسل.
وإن ثبت حمل على اجتماع الأمة على ذلك؛ فإنه يخشى أن يظن أن ما قبل ذلك ليس بوقت.
والحارث بن وهب، قال البخاري: روايته عن الصنابجي مرسلة - يعني: لم يسمع منه.