المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌28 - باب من أدرك من الفجر ركعة - فتح الباري لابن رجب - جـ ٥

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

‌28 - باب

من أدرك من الفجر ركعة

ص: 5

579 -

حدثنا عبد الله بن مسلمة: عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار وعن بسر بن سعيد وعن الأعرج، يحدثونه عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) .

هذا الحديث نص في أن من صلى الفجر قبل طلوع الشمس فإنه مدرك لوقتها؛ فإنه إذا كان مدركاً لها بإدراكه منها ركعة قبل طلوع الشمس، فكيف إذا أدركها كلها قبل الطلوع؟

فإن قال فائل: نحمله على أهل الأعذار والضرورات، كما حملتم قوله:(من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها) على حال الضرورة.

قلنا: في العصر قد دل دليل على كراهة التأخير إلى اصفرار الشمس، ولم يدل دليل على كراهة تأخير الفجر إلى الإسفار.

ص: 5

وقد ذكرنا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فقد أدركها) في (باب: من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب) .

وقد فسره الإمام أحمد بإدراك وقتها.

وجمهور العلماء على أن تأخير صلاة الفجر حتى يبقى منها مقدار ركعة قبل طلوع الشمس لغير ضرورة غير جائز، وقد نص عليه الإمام أحمد، وحكي جوازه عن إسحاق وداود.

وتقدم مثله في صلاة العصر.

وقد سبق الحديث في (باب: من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب) من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(إذا أدرك أحدكم سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته) .

وقد روى الدراوردي عن زيد بن أسلم حديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري هاهنا بالإسناد الذي رواه عنه مالك، ولفظ حديثه:(من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس وركعة بعد ما تطلع فقد ادركها، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس وثلاثاً بعد ما تغرب فقد أدركها) .

ورواه –أيضا - مسلم بن خالد، عن زيد بن أسلم، عن الأعرج

ص: 6

وعطاء، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح بمعنى رواية الداروردي.

ورواه أبو غسان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من صلى سجدة واحدة من العصر قبل غروب الشمس، ثم صلى ما بقي بعد غروب الشمس فلم تفته العصر، ومن صلى سجدة من الصبح قبل طلوع الشمس، ثم صلى ما بقي بعد طلوع الشمس فلم تفته الصبح) .

وروى سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن خلاس، عن أبي رافع، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إذا ادركت ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فصل إليها اخرى) .

خرجه الإمام أحمد.

ص: 7

ورواه همام عن قتادة - بنحوه، وصرح فيه بسماع قتادة من خلاس.

ورواه هشام الدستوائي، عن قتادة، عن عزرة بن تميم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(إذا صلى أحدكم ركعة من صلاة الصبح ثم طلعت الشمس فليصل إليها اخرى) .

وفي هذه النصوص كلها: دليل صريح على أن من صلى ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس ثم طلعت الشمس أنه يتم صلاته وتجزئه، وكذلك كل من طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الفجر فإنه يتم صلاته وتجزئه، وكذلك كل من طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الفجر فإنه يتم صلاته وتجزئه، وهو قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

وروى الشافعي: اخبرنا ابن عيينة، عن ابن شهاب، عن أنس،

ص: 8

أن أبا بكر صلى بالناس الصبح، فقرأ سورة البقرة، فقال له عمر: كادت الشمس أن تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين.

وروى عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، قال: صليت مع عمر بن الخطاب الفجر، فلما سلم ظن الرجال ذوو العقول أن الشمس طلعت، فلما سلم قالوا: يا أمير المؤمنين، كادت الشمس تطلع، فتكلم بشيء لم أفهمه، فقلت: أي شيء قال؟ فقالوا: قال: لو طلعت لم تجدنا غافلين.

وروى الأوزاعي: حدثني يحيى بن سعيد، عن سعيد المقبري، قال: كان أبو هريرة يقول: من نام أو غفل عن صلاة الصبح فصلى ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس والأخرى بعد طلوعها فقد أدركها. وقال في العصر كذلك.

وممن ذهب إلى ذلك من العلماء: مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور.

وكذلك قال الثوري، إلا أنه قال: يستحب أن يعيدها.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: تبطل صلاته؛ لأنه دخل في وقت نهي عن الصلاة فيه.

ص: 9

فبطلت صلاته، بناء على أصلين لهم: أحدهما: أن ما وقع منها بعد طلوع الشمس يكون قضاءً. والثاني: أن الفوائت لا تقضى في أوقات النهي.

وأماالجمهور فخالفوا في الأصلين.

وقد تقدم ذكر الاختلاف فيما يقع من الصلاة خارج الوقت إذا وقع أولها في الوقت: هل هو قضاء، أو لا؟ وأن ظاهر مذهب الشافعي وأحمد لا يكون قضاء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(فقد أدركها) .

وأماقضاء الفوائت في أوقات النهي، فخالف فيه جمهور العلماء، وأجازوه عملاً بعموم قوله:(من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) .

وقالوا: إنما النهي عن النفل، لا عن الفرض، ولهذا يجوز أن يصلي بعد اصفرار الشمس ودخول وقت النهي صلاة العصر الحاضرة، وقد وافق عليه أبو حنيفة وأصحابه، وإنما خالف فيه بعض الصحابة.

وعلى تقدير تسليم منع القضاء في أوقات النهي، فإنما ذاك في القضاء المبتدأ به في وقت النهي، فأم المستدام فلا يدخل في النهي؛ فإن القواعد تشهد بأنه يغتفر في الاستدامة ما لا يغتفر في الابتداء.

وعلى هذا؛ فنقول في النفل كذلك، وأن من كان في نافلة فدخل عليه وقت نهي عن الصلاة لم تبطل صلاته ويتمها، وهو ظاهر كلام الخرقي من أصحابنا، وصرح به ابن عقيل منهم.

ص: 10

وقد روى محمد بن سنان العوقي: حدثنا همام: ثنا قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(من صلى ركعة من الصبح ثم طلعت الشمس فليصل الصبح) .

قال البيهقي في (خلافياته) : هذا ليس بمحفوظ، إنما المحفوظ: عن قتادة – بغير هذا الإسناد -: (فليتم صلاته) – كما تقدم، وإنما المحفوظ بهذا الإسناد: حديث: (من لم يصل ركعتي الفجر حتى طلعت الشمس فليصلها) . انتهى.

وقد خرج الترمذي في (جامعه) حديث همام، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة – مرفوعاً -:(من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس) .

ثم قال: لم يروه عن همام بهذا الإسناد نحو هذا إلا عمرو بن عاصم الكلأبي، والمعروف من حديث قتادة: عن النصر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح) . انتهى.

وإذا كان هذا معروفاً بهذا الإسناد عن قتادة، فلم يهم فيه محمد بن سنان، وإنما غير بعض لفظه حيث قال:(فليصل الصبح)، وهو رواية بالمعنى الذي فهمه من قوله:(فليتم صلاته)، ومراده: فليتم صلاة الصبح، وليستمر فيها.

والحديث الذي أشار إليه الترمذي خرجه الإمام أحمد: حدثنا بهز، قال: ثنا همام: ثنا قتادة، عن النضر بن أنس، عن

ص: 11

بشير بن نهيك، عن أبي هريرة - قال همام: وجدت في كتأبي: عن بشير بن نهيك، ولا أظنه إلا عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هرية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من صلى – يعني: ركعتي الصبح -، ثم طلعت الشمس، فليتم صلاته) .

ورواه – أيضا – عن عبد الصمد، عن همام: ثنا قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(من صلى من الصبح ركعة ثم طلعت الشمس فليصل اليها أخرى) .

هكذا روى همام، عن قتادة هذا الحديث، وقد تقدم أن سعيد بن أبي عروبة وهشأماالدستوائي رويا أصل الحديث عن قتادة، واختلفا في إسناده.

قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن اختلافهم على قتادة؟ فقال أبي:

ص: 12

أحسب الثلاثة كلها صحاحاً، وقتادة كان واسع الحديث، وأحفظهم سعيد قبل أن يختلط، ثم هشام، ثم همام.

ص: 13

‌29 - باب

من أدرك من الصلاة ركعة

ص: 14

580 -

حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) .

روى بعضهم هذا الحديث عن مالك، وقال فيه:(من أدرك ركعة من العصر) ، وهو وهم على مالك، وإنما حديث مالك:(من أدرك ركعة من الصلاة) .

وخرجه مسلم، عن عبد بن حميد: ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث مالك، عن زيد بن أسلم.

يعني: الحديث الذي خرجه البخاري في الباب الماضي.

ص: 14

وذكر الدارقطني في (العلل) أنه ليس بمحفوظ عنه – يعني: عن معمر.

وذكر أنه عبد الرزاق رواه بخلاف ذلك.

قال: وروي – أيضا - عن محمد بن أبي حفصة وسفيان بن حسين، عن الزهري – يعني: بذكر العصر والفجر.

والمحفوظ: عن الزهري في حديث: (من أدرك ركعة من الصلاة) .

وقد اختلف في معنى ذلك:

فقالت طائفة: معناه: إدراك وقت الصلاة، كما في حديث عطاء بن يسار وبسر بن سعيد والأعرج، عن أبي هريرة الذي سبق في الباب الماضي.

وقد روى هذا الحديث المذكور في هذا الباب عمار بن مطر، عن مالك، وقال فيه:(فقد أدرك الصلاة ووقتها) .

قال ابن عبد البر: لم يقله عن مالك غير عمار، وهو مجهول لا يحتج به.

ص: 15

وقالت طائفة معناه: إدراك الجماعة.

ويشهد له. ما خرجه مسلم من رواية يونس، عن ابن شهاب، ولفظه:(من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة) .

وهؤلاء لهم في تفسير إدراك الجماعة قولان:

أحدهما:

أن المراد إدراك فضل الجماعة وتضعيفها.

وروى نوح بن أبي مريم هذا الحديث، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(من أدرك الإمام جالساً قبل أن يسلم فقد أدرك الجماعة وفضلها) .

خرجه الدارقطني.

وقال: نوح متروك.

وقد وهم في لفظه، وخالف جميع أصحاب الزهري، ووهم –أيضا - في إسناده، فإنه عن أبي سلمة لا عن سعيد بن المسيب.

مع أنه قد روي عن مالك والأوزاعي، عن الزهري، عن سعيد، وليس بمحفوظ.

وروى أبو الحسن ابن جوصا في (مسند الأوزاعي) : حدثنا أحمد بن

ص: 16

محمد بن يحيى بن حمزة: ثنا أبي: عن أبيه يحيى بن حمزة: حدثني الأوزاعي، أنه سأل الزهري عن رجل أدرك من صلاة الجمعة ركعة؟ فقال: حدثني أبو سلمة، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك من صلاة ركعة فقد أدرك فضيلة الجماعة) .

وهذا اللفظ –أيضا - غير محفوظ.

وأحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة، ضعفوه؛ ذكره الحاكم أبو أحمد في (كتاب الكنى) .

وروى أبو علي الحنفي – وأسمه: عبيد الله بن عبد المجيد - هذا الحديث، عن مالك، وقال في حديثه:(فقد أدرك الفضل) .

قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً من الرواة قاله عن مالك غيره.

قال: ورواه نافع بن يزيد، عن يزيد بن الهاد، عن عبد الوهاب بن أبي بكر، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من ادرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وفضلها) .

قال: وهذا اللفظ – أيضا - لم يقله أحد عن ابن شهاب غير عبد الوهاب هذا، وليس ممن يحتج به على أصحاب ابن شهاب.

قال: وقد روى هذا الحديث الليث بن سعد، عن ابن الهادي، عن ابن شهاب، فلم يذكر في الإسناد:(عبد الوهاب) ، ولا جاء بهذه اللفظة.

وقد اختلف العلماء في ما يدرك به فضل الجماعة مع الإمام:

فقالت طائفة: لا يدرك بدون إدرك ركعة تامة؛ لظاهر الحديث.

ص: 17

وقد رواه قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وزاد فيه:(قبل أن يقيم الإمام صلبه) .

خرج حديثه ابن خزيمة في (صحيحه) والدارقطني.

وليس هذا اللفظ بمحفوظ عن الزهري –أيضا -، وقرة هذا مختلف في أمره، وتفرد بهذا الحديث عنه يحيى بن حميد بهذه الزيادة، وقد أنكرها عليه البخاري والعقيلي وابن عدي والدارقطني وغيرهم.

وحكي هذا القول عن مالك: أنه لا يدرك الجماعة بدون ركعة.

وذكره ابن أبي موسى من أصحابنا مذهباً لأحمد، ولم يحك فيه خلافاً.

وهو قول عطاء، حتى قال: إذا سلم إمامه، فإن شاء تكلم، فلم يكن في صلاة، قد فاتته الركعة.

خرجه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عنه.

وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من

ص: 18

أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة) .

وخرجه الحاكم وصححه.

وفي إسناده من ضعف.

وخرجه الطبراني وغيره من رواية عبد الحميد بن عبد الرحمن بن الأزهر، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وإسناده جيد.

قال الحافظ محمد بن عبد الواحد المقدسي: لا أعلم له علة.

وقالت طائفة: تدرك فضيلة الجماعة بإدراك تكبيرة الإحرام قبل سلام الإمام، وهو قول أبي وائل.

وقال قتادة: إن ابن مسعود أدرك قوماً جلوساً في آخر صلاتهم، فقال: قد أدركتم إن شاء الله.

وهو مذهب الشافعي، والمشهور عن أحمد عند القاضي أبي يعلي وأتباعه، حتى قال بعض أصحابنا: هو إجماع من العلماء، لا نعلم فيه خلافاً؛ ولكن ليس بإجماع كما تقدم.

وروى ابن عدي من طريق محمد بن جابر، عن أبان بن طارق،

ص: 19

عن كثير بن شنظير، عن عطاء، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك فضل الجماعة، ومن أدرك الإمام قبل أن يسلم فقد أدرك فضل الجماعة) . قال: وكنا نتحدث أن من أدرك قبل أن يتفرقوا فقد أدرك فضل الجماعة.

وليس هذا بمحفوظ، وأبان بن طارق ومحمد بن جابر ضعيفان.

وقد رواه ابن علية، عن كثير بن شنظير، عن عطاء، عن أبي هريرة، قال: إذا انتهى إلى القوم وهم قعود في آخر صلاتهم فقد دخل في التضعيف، وإذا انتهى اليهم وقد سلم الإمام، ولم يتفرقوا فقد دخل في التضعيف.

قال عطاء: وكان يقال: إذا خرج من بيته وهو ينويهم، فأدركهم أو لم يدركهم فقد دخل في التضعيف.

وهذا الموقوف أصح.

وكذا قال أبو سلمة: من خرج من بيته قبل أن يسلم الإمام فقد أدرك.

ومعنى هذا كله: أنه يكتب له ثواب الجماعة؛ لما نواها وسعى إليها، وإن كانت قد فاتته، كمن نوى قيام الليل ثم نام عنه، ومن كان له عمل فعجز عنه بمرض أو سفر، فإنه يكتب له أجره.

ويشهد لهذا: ما خرجه أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من توضأ فأحسن الوضوء، ثم راح فوجد الناس قد صلوا، أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها، لا

ص: 20

ينقص ذلك من أجرهم شيئاً) .

وخرج أبو داود من حديث سعيد بن المسيب، عن رجل من الأنصار، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:(إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، فإن أتي المسجد وقد صلوا بعضاً وبقي بعض فصلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك، فإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة كان كذلك) .

وخرج النسائي في هذا الباب من حديث عثمان: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من توضأ للصلاة فاسبغ الوضوء، ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة، فصلاها مع الناس، أو مع الجماعة، أو في المسجد غفر له ذنبه) .

ولا خلاف عن الشافعي وأحمد أن الجمعة لا تدرك بدون إدراك ركعة تامة؛ لأن الجماعة شرط لها، وهذا مما يقوي بأن الجماعة لا تدرك بدون إدراك ركعة.

والقول الثاني:

أن المراد بإدراك الركعة في الجماعة إدراك جميع أحكام الجماعة، من الفضل، وسجود السهو، وحكم الإتمام، وهذا مذهب مالك.

فعلى هذا؛ إذا أدرك المسافر المقيم في التشهد الآخر لم يلزمه الإتمام، وإن أدرك معه ركعة تامة فأكثر لزمه الإتمام، وإذا خرج من بلده مسافراً وقد بقي عليه من وقت الصلاة قدر ركعة قصر الصلاة، وإن كان أقل من قدر ركعة أتمها، وإذا أدرك المسبوق مع الإمام ركعة لزمه أن يسجد معه

ص: 21

لسهوه، سواء أدركه في ذلك السهو أو لم يدركه، وإن لم يدرك معه ركعة لم يلزمه السجود له.

هذا كله مذهب مالك.

ووافقه الليث والأوزاعي في مسألة سجود السهو.

ووافقه أحمد – في رواية عنه – في المسافر إذا أدرك من صلاة المقيم أقل من ركعة فدخل معه أن له أن يقصر.

والمشهور عنه أنه يلزمه الإتمام كقول الشافعي وأبي حنيفة.

وكذا قال طائفة من أصحابنا في ائتمام المفترض بالمتنفل، ومن يصلي فرضاً خلف من يصلي فرضاً آخر، أنه إن أدرك معه دون ركعة جاز ائتمامه به؛ لأنه لم يدرك معه ما يعتد به من صلاة، وإن أدرك معه ركعة فصاعداً لم يجز إئتمامة به.

وقالت طائفة اخرى: قوله: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) يدخل في عمومه إدراك الوقت بالنسبة إلى أداء الصلاة، وإدراك الجماعة كما تقدم.

ويدخل فيه – أيضا - إدرك قدر ركعة من وقت الوجوب إذا زال عذر المعذور في آخر وقت الصلاة.

فلو طهرت من حيضها في آخر الوقت وقد بقي منه قدر ركعة لزمها القضاء، وإن لم يبق منه قدر ركعة فلا قضاء عليها.

وهذا قول مالك والليث، وأحد قولي الشافعي، ورواية عن أحمد، حكاها أبو الفتح الحلواني وغيره.

والمشهور عن الشافعي وأحمد: أنه يعتبر إدراك قدر تكبيرة الإحرام من الوقت إذا زال العذر.

وهو قول أبي حنيفة، وحكي عن الأوزاعي

ص: 22

والثوري.

وكذا المشهور عند أصحاب أحمد من مذهب أحمد فيما إذا طرأ العذر بعد دخول الوقت في أوله.

وقالت طائفة من أصحابنا كابن بطة وابن أبي موسى: يعتبر في أول الوقت ذهاب وقت يمكن فيه أداء الصلاة كلها، وهو قول الشافعي وإسحاق.

والقولان للشافعي في اعتبار ركعة وقدر تكبيرة فيما إذا زال العذر في آخر الوقت كالحائض تطهر.

فإن طرأ العذر في أوله كالطاهر تحيض، فلأصحابنا طريقان: أحدهما: أنه على الخلاف في زواله في آخر الوقت. والثاني – وهو الصحيح المشهور عندهم -: يعتبر ذهاب قدر الصلاة بكمالها.

فإن طرأ العذر قبل ذلك فلا قضاء، كما قاله ابن بطة وابن أبي موسى من أصحابنا.

وفرقوا بين أول الوقت وآخره، فإن أول الوقت إذا لم يمض قدر التمكن من الفعل كان الإلزام بالفعل تكليفاً بما لا يطاق، وأمافي آخر الوقت فيمكن فعل ما أدركه في الوقت، ويكمله بعد الوقت، ويكون كله أداء على ما سبق تقريره.

وأمامن سوى بين الصورتين في الوجوب – وهو المشهور عند أصحابنا -، فقالوا: ليس ذلك تكليفاً لما لا يطاق، فإنا لا نكلف من طرأ عليه العذر بالفعل في الوقت الذي لا يتمكن فيه، بل يلزمه في ذمته ويجب عليه القضاء.

ص: 23

وخرج ابن سريج قولاً آخر: انه لا يجب القضاء حتى يدرك جميع الوقت خالياً من العذر من نص الشافعي على المسافر إذا سافر في أثناء الوقت فله القصر.

وفرق أكثر أصحابه بينهما، بأن المسافر والمقيم كلاهما تجب عليه الصلاة، لكن المسافر له القصر إذا صلى في السفر، وإن لزمته الصلاة قبل ذلك في الحضر اعتباراً في صفة الصلاة بحال أدائها في وقتها، كما لو كان في أول الوقت قادراً على القيام أو الطهارة بالماء ثم عجز عن ذلك في آخره، فإنه يصلي قاعداً وبالتيمم.

ومذهب الحسن وابن سيرين وحماد، والأوزاعي، وأبي حنيفة في المشهور عنه، أنه لا قضاء، وإن وجد المانع في آخر الوقت.

ورواه ابن وهب، عن مالك -: نقله ابن عبد البر، ولم يذكر عنه خلافه.

وفي (تهذيب المدونة) : أن مذهب مالك: لا قضاء إلا أن يتضايق الوقت عن الفعل، ويبقى منه قدر ركعة، ثم يوجد بعد ذلك، لأن تركها قبل ذلك جائز.

وهو رواية زفر، عن أبي حنيفة.

وهذا الاختلاف عنهم فيما إذا تجدد المانع من الصلاة في أثناء الوقت مبني على أصلين:

ص: 24

أحدهما: أن الصلاة: هل تجب بأول الوقت وجوباً موسعاً، أم لا؟

فقال الأكثرون: تجب بأوله، وهو المحكي عن مالك، والشافعي، وأحمد، وبعض أصحاب أبي حنيفة.

وقال أكثر أصحابه: تجب بآخره إذا بقي من الوقت قدر ما يتسع لتلك الصلاة، لأن ما قبله يجوز تركها فيه، فلا يوصف فيه بالوجوب.

ومنهم من قال: لا تجب حتى يبقى من الوقت قدر تكبيرة واحدة.

ومن الناس من يحكي هذه الأقوال الثلاثة ثلاث روايات عن أبي حنيفة.

ومن أصحابنا من قال: تجب في جزء منه غير معين، وهو ما يقع فيه فعل الصلاة، فتكون أجزاء الوقت كخصال الكفارة.

والثاني: هي يستقر الوجوب في الذمة بما يجب به الصلاة، وهو أول جزء من الوقت عند من يرى ذلك، أم لا يستقر الوجوب حتى يمضي من الوقت مقدار ما يفعل فيه، أم لا يستقر حتى يبقى من الوقت مقدار ما يتسع لفعل الصلاة، أم لا يستقر حتى يخرج آخر الوقت سالماً من الموانع؟ فهذه أربعة أقوال.

والأول: هو المشهور عند أصحابنا، وذكروا أنه المنصوص عن أحمد، وقد نص أحمد على أن المرأة إذا حاضت بعد دخول الوقت قليلاً فعليها القضاء، وهو – أيضا - قول بعض الشافعية، وحكي عن الثوري وطائفة من السلف.

والثاني: قول الشافعي وإسحاق وابن بطة وابن أبي

ص: 25

موسى.

والثالث: قول مالك، ورواية زفر عن أبي حنيفة.

والرابع: قول أبي حنيفة ومن وافقه كالأوزاعي وابن سريج من الشافعية.

وأماإذا زال العذر في آخر الوقت، فالأكثرون على أنه لو زال قبل خروج الوقت ولو بقدر تكبيرة وجبت تلك الصلاة به، وهو قول الثوري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، والشافعي في أشهر قوليه، وأحمد في ظاهر مذهبه.

وقال طائفة: يعتبر أن يدرك من الوقت قدر ركعة، وهو قول مالك، والليث، والشافعي في قوله الآخر، وحكي رواية عن أحمد؛ لمفهوم الحديث المخرج في هذا الباب.

وحكي عن بعضهم، انه اعتبرها هنا للوجوب إدراك قدر الصلاة بكمالها من الوقت.

وهذه طريقة ضعيفة في مذهب الشافعي وأحمد، وحكي عن زفر.

والمروي عن الصحابة يدل على القول الأول؛ فإنه روي عن عبد الرحمن ابن عوف وابن عباس وأبي هريرة، في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر: تصلي المغرب والعشاء. زاد عبد الرحمن وابن عباس: وإذا طهرت قبل غروب الشمس صلت الظهر والعصر.

ولم يفرقوا بين قليل من الوقت وكثير.

ص: 26

‌30 - باب

الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس

فيه حديث عن عمر، وابن عمر، وأبي هريرة: فحديث عمر:

قال فيه:

ص: 27

581 -

حدثنا حفص بن عمر: ثنا هشام، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس، قال: شهد عندي رجال مرضيون – وأرضاهم عندي عمر -، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب.

حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن شعبة، عن قتادة: سمعت أبا العالية، عن ابن عباس، قال: حدثني ناس بهذا.

إنما أعاده من طريق شعبة لتصريح قتادة فيه بالسماع من أبي العالية.

وقد قال شعبة: لم يسمع قتادة من أبي العالية إلا ثلاثة أشياء: هذا الحديث، وحديث ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:(لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متي)، وحديث علي:(القضاة ثلاثة) .

ذكره أبو داود والترمذي في (كتأبيهما) عن شعبة – تعليقاً.

ص: 27

وقد خرج في (الصحيحين) لقتادة عن أبي العالية، حديث ابن عباس في (دعاء الكرب)، وحديثه: في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء الأنبياء.

وقد روي هذا الحديث من حديث الحسن، عن أبي العالية، وليس بمحفوظ -: ذكره العقيلي.

وقول ابن عباس: شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر، معناه: أخبرني بذلك وحدثني به، ولم يرد أنهم أخبروه به بلفظ الشهادة عنده.

وهذا ما استدل به من يسوي بين لفظ الإخبار والشهادة،

ص: 28

وقد نص عليه أحمد في الشهادة بالجنة للصحابة الذين روي أنهم في الجنة؛ فإن من الناس من قال: يقال: إنهم في الجنة، ولا نشهد، فقال أحمد: إذا قال فقد شهد.

وسوى بين القول والشهادة في ذلك.

وأمافي أداء الشهادة عند الحاكم، فاعتبر أكثر أصحابنا لفظ الشهادة، وذكر القاضي أبو يعلي في موضع احتمالاً آخر، بأنه لا يشترط ذلك.

وكان ابن عباس يروي – أحياناً -، عن النبي صلى الله عليه وسلم ما شهده وسمعه منه، ويقول: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال ذلك في روايته لخطبة العيد، وقد سبق حديثه بهذا في (كتاب العلم) في (باب: عظة الإمام النساء وتعليمهن) .

وقوله: (نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس) ، أول هذا الوقت المنهي عن الصلاة فيه إذا طلع الفجر، وهو المراد بقوله في هذه الرواية:(بعد الصبح) ؛ فإن الصبح هو الفجر، كما قال تعالى:{وَالصُّبْحِ إذا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18]، وقال:{إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81] .

وفي رواية لمسلم في هذا الحديث: نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس

وهذا قول جمهور العلماء: أن أول وقت النهي عن الصلاة إذا طلع الفجر.

وروي معنى ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة.

وقال النخعي: كانوا يكرهون ذلك.

وكرهه سعيد

ص: 29

بن المسيب، قال: هو خلاف السنة.

وعطاء والحسن – [قال] : وما سمعت فيه بشيء -، والعلاء بن زياد وحميد ابن عبد الرحمن.

وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه.

وذكر أبو نصر بن الصباغ من الشافعية: أنه ظاهر مذهب الشافعي.

وحكى الترمذي في (جامعه) أن أهل العلم أجمعوا عليه، وكرهوا أن يصلي الرجل بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين) .

وله طرق متعددة عن ابن عمر.

وخرج الطبراني والدارقطني والبزار نحوه من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وخرج الطبراني نحوه من حديث ابن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وله عنه طرق.

وروي عن ابن المسيب مرسلاً، وهو أصح.

ومراسيل ابن المسيب أصح المراسيل.

ص: 30

وفي (صحيح مسلم) ، عن حفصة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين.

وخرج الإمام أحمد من حديث شهر بن حوشب، عن عمرو بن عبسة، قال: قلت: يا رسول الله، أي الساعات أفضل؟ قال:(جوف الليل الآخر، ثم الصلاة مكتوبة مشهودة حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر فلا صلاة، إلا الركعتين حتى تصلي الفجر) .

وخرجه ابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن البيلماني، عن عمرو بن عبسة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، وقال فيه:(فصل ما بدا لك حتى يطلع الصبح، ثم انته حتى تطلع الشمس) .

وخرجه النسائي، وعنده:(حتى تصلي الصبح) .

فقد تعارضت الروايتان في حديث عمرو بن عبسة.

ومما يدل على أن وقت النهي يدخل بطلوع الفجر: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بلالاً يؤذن بليل حتى يرجع قائمكم ويوقظ نائمكم) .

وقد خرجاه في (الصحيحين) من حديث ابن مسعود.

فإن معنى: (يرجع قائمكم) : أن المصلي بالليل يمسك عن الصلاة ويكف عنها.

وقد رخص طائفة من العلماء في بعض الصلوات بعد طلوع الفجر، قبل صلاة الفجر، كالوتر وصلاة الليل.

ص: 31

روي عن عمر وعائشة في صلاة الليل.

وإلى ذلك ذهب مالك في الوتر وقضاء صلاة الليل.

وروي عن عطاء.

ونص أحمد عليه في الوتر، وحكى ابن أبي موسى مذهب أحمد جواز قضاء صلاة الليل فيه بغير خلاف حكاه في المذهب، وحكى الخلاف في بقية ذوات الأسباب، كتحية المسجد وغيرها.

وقال آخرون: لا يدخل وقت النهي حتى يصلي الفجر.

ورويت الرخصة في الصلاة قبل صلاة الفجر عن الحسن وطاوس.

والمشهور عند عامة أصحاب الشافعي من مذهبه: الرخصة في ذلك، حتى يصلي الفجر.

وحكي رواية عن أحمد.

وفي (صحيح مسلم) عن عمرو بن عبسة، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أخبرني عن الصلاة؟ فقال:(صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، حتى ترتفع؛ فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحيئذ يسجد لها الكفار) – وذكر الحديث.

وهذا إنما يدل بمفهومه، وقد عارض مفهومه منطوق الروايات الأولى، فيقدم المنطوق عليه.

وقوله: (حتى تشرق الشمس) هكذا الرواية: (تشرق) بضم التاء وكسر الراء، من قولهم: أشرقت الشمس.

وزعم بعضهم: أن الصواب:

ص: 32

(تشرق) بفتح التاء، وضم الراء، من قولهم: شرقت الشمس، إذا طلعت.

قال: ومعنى أشرقت: أضاءت وصفت.

قال: والمناسب هنا ذكر طلوعها، لا ذكر إضاءتها وصفائها.

وهذا ليس بشيء، والصواب:(تشرق)، والمعنى: حتى ترتفع الشمس، كما بوب عليه البخاري.

والنهي يمتد إلى أن ترتفع وتضيء ويصفو لونها، كما في حديث أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم:(لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس) . وسيأتي – إن شاء الله.

مع أن كلا الحديثين قد روي فيه: (حتى تطلع الشمس) ، وهو من رواية بعض رواته بالمعنى الذي فهمه منه. والله أعلم.

وحديث ابن عمر:

قال البخاري:

ص: 33

582 -

حدثنا مسدد: ثنا يحيى بن سعيد، عن هشام، قال: أخبرني أبي، قال: أخبرني ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها) .

ص: 33

583 -

قال: وحدثني ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصالة حتى ترتفع، وإذا غاب حاجب الشمس فاخروا الصلاة، حتى تغيب) .

تابعه: عبدة.

وحديث عبدة الذي أشار إلى متابعته: قد خرجه في (كتاب بدء

ص: 33

الخلق) : أخبرنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب، لا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان) – أو (الشيطان) ، لا أدري أي ذلك قال هشام؟

وخرجه مسلم من رواية وكيع وابن نمير ومحمد بن بشر، كلهم عن هشام – بنحوه.

وفي رواية له: (فإنها تطلع بقرني الشيطان) .

وإنما احتاج البخاري إلى ذكر المتابعة في هذا الإسناد؛ لأن عروة قد اختلف عليه فيه:

وهما حديثان: حديث: (لا تحروا بصلاتكم)، وحديث:(إذا طلع حاجب الشمس) .

وقد روى ابن إسحاق، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: حديث: (إذا طلع حاجب الشمس) - الحديث، ووهم في قوله:(عن عائشة) .

ورواهما عن مالك وعروة، عن هشام، عن أبيه – مرسلاً.

وروى مسلمة بن قعنب، عن هشام، عن أبيه، عن ابن عمر – أو:

ص: 34

ابن عمرو -، عن النبي صلى الله عليه وسلم: حديث: (لا تحروا) .

والصحيح: قول القطان ومن تابعه -: [رواه] الدارقطني.

وذكر ابن عبد البر أن أيوب بن صالح رواه، عن مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة.

قال: وأيوب هذا ليس ممن يحتج به، وليس بالمشهور بحمل العلم.

وروى ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: حديث: النهي عن الصلاة عند الطلوع والغروب.

خرجه الإمام أحمد.

وروى ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة – موقوفاً -: إذا طلع حاجب الشمس.

والصواب: حديث عروة، عن ابن عمر.

ومن قال: (عن عائشة) فقد وهم: ذكره الدارقطني وغيره.

فإن عروة عن عائشة سلسلة معروفة يسبق إليها لسان من لا يضبط ووهمه، بخلاف: عروة،

ص: 35

عن ابن عمر، فإنه غريب، لا يقوله إلا حافظ متقن.

ورواه الدراوردي، عن هشام، عن أبيه، عن سالم، عن أبيه.

ووهم في قوله: (عن سالم)، ولم يتابع عليه -: قاله الدارقطني – أيضا.

واختلف في معنى قوله: (تطلع بين قرني الشيطان) على قولين:

أحدهما: أنه على ظاهره وحقيقته.

وفي حديث الصنابحي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا كانت في وسط السماء قارنها فإذا دلكت) – أو قال: (زالت – فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها، فلا تصلوا هذه الساعات الثلاث) .

خرجه مالك وأحمد والنسائي وابن ماجه.

وروى أبو بكر الهذلي، عن عكرمة، عن ابن عباس: إن الشمس إذا طلعت أتاها ملك عن الله يأمرها بالطلوع، فيأتيها شيطان يريد أن يصدها

ص: 36

عن الطلوع، فتطلع بين قرنيه، فيحرقه الله فيها، وما غربت الشمس قط إلا خرت لله ساجدة، فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن الغروب، فتغرب بين قرنيه، فيحرقه الله تحتها، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(ما طلعت إلا بين قرني شيطان، ولا غربت إلا بين قرني شيطان) .

خرجه ابن عبد البر.

والهذلي، متروك الحديث.

وأهل هذا القول، منهم من حمل القرن على ظاهره، وقال: يمكن أن يكون للشيطان قرن يظهره عند طلوع الشمس وغروبها.

ومنهم من قال: المراد بقرنيه جانبي رأسه، وإليه ميل ابن قتيبة.

والقول الثاني: أن المراد بطلوعها وغروبها بين قرني الشيطان: من يسجد لها من المشركين، كما في حديث عمرو بن عبسة المتقدم، (إنها تطلع بين قرني الشيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار) .

والقرن: الأمة. ونسبه إلى الشيطان؛ لطاعتهم إياه، كما قال:{أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 19] .

ومنه: قول خباب في القصاص للإنكار عليهم: هذا قرن [قد] طلع.

ورجح هذا القول كثير من المتأخرين أو أكثرهم، وفيه نظر؛ فإن حديث عمرو بن عبسة يدل على أن طلوعها بين قرني الشيطان غير سجود الكفار لها؛ ولأن الساجدين للشمس لا ينحصرون في أمتين فقط.

ص: 37

وقالت طائفة: معنى: (بين قرني الشيطان) : أن الشيطان يتحرك عند طلوعها ويتسلط -: قاله إبراهيم الحربي، ورجحه بعضهم بأنه يقال: أنا مقرن لهذا الأمر، أي: مطيق له.

وهذا بعيد جداً. والله أعلم.

وحديث أبي هريرة:

قال البخاري:

ص: 38

584 -

حدثنا عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن عبيد الله، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين، وعن لبستين، وعن صلاتين: نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن اشتمال الصماء، وعن الاحتباء في ثوب واحد، يفضي فرجه إلى السماء، وعن المنابذة والملامسة.

النهي عن اشتمال الصماء والاحتباء سبق الكلام عليه.

والنهي عن المنابذة والملامسة موضعه البيع.

وأماالنهي عن الصلاتين، فهو موافق لحديث عمر المتقدم.

ص: 38

‌31 - باب

لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس

فيه أربعة أحاديث:

الأول

ص: 39

585 -

حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها) .

هكذا في رواية البخاري: (لا يتحرى)، على أنه خبر أريد به النهي. وفي رواية لمسلم:(لا يتحر) ، على أنه نهي.

وهذا الحديث موافق لرواية عروة، عن ابن عمر، كما تقدم.

وقد روى هذا الحديث – أيضا - عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى مع طلوع الشمس، أو مع غروبها.

خرجه النسائي من طريق خالد، عنه.

ورواه يحيى بن سليم وعبد الرحيم بن سليمان، عن عبيد الله، عن نافع، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع

ص: 39

الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس.

وهو حديث منكر -: قاله أبو حاتم الرازي وغيره.

وذكر الدارقطني أنهما وهما في إسناده على عبيد الله بن عمر؛ فإن عبيد الله إنما روى هذا المتن عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة كما سبق.

وروى – أيضا – ابن أبي ذئب، عن مسلم الخياط، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا بعد الصبح حتى ترتفع الشمس وتضحى) .

مسلم، وثقه ابن معين وغيره.

وهذا غريب عن ابن عمر، بل منكر؛ فإنه لا يصح عنه رواية في النهي عن الصلاة بعد الفجر والعصر؛ فقد صح عنه أنه رخص في ذلك، كما خرجه البخاري، وسيأتي – إن شاء الله تعالى.

الحديث الثاني:

ص: 40

586 -

حدثنا عبد العزيز بن عبد الله: ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: حدثني عطاء بن يزيد الجندعي، أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغيب الشمس) .

وقد روي هذا عن أبي سعيد من وجوه متعددة:

وخرجه البخاري في (الصيام) من طريق عبد الملك بن عمير، عن قزعة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لا صلاة بعد

ص: 40

الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس) .

ومن حديث عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن صلاة بعد الصبح والعصر.

الحديث الثالث:

قال:

ص: 41

587 -

حدثنا محمد بن أبان: ثنا غندر: ثنا شعبة، عن أبي التياح، قال: سمعت حمران بن أبان يحدث، عن معاوية، قال: إنكم لتصلون صلاة، لقد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيناه يصليها، ولقد نهى عنها – يعني: الركعتين بعد العصر.

قال الإسماعيلي: قد رواه عثمان بن عمر، عن شعبة، عن أبي التياح، عن معبد الجهني، عن معاوية –جعل بدل حمران: معبدا.

قلت: غندر مقدم في أصحاب شعبة على عثمان بن عمر وغيره.

قال أحمد: ما في أصحاب شعبة أقل خطأ من غندر.

ص: 41

وقد توبع عليه؛ فخرجه الإمام أحمد في (مسنده) عن غندر وحجاج، عن شعبة، عن أبي التياح، عن حمران.

وكذا رواه شبابة بن سوار وقراد أبو نوح، عن شعبة.

ورواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة، قال: أخبرني أبو التياح، عن معبد الجهني، قال: خطب معاوية، فقال: ألا ما بال أقوام يصلون صلاة، قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيناه يصليها، وقد سمعناه نهى عنها – يعني: الركعتين بعد العصر.

وهذه متابعة لعثمان بن عمر.

قال البيهقي: كأن أبا التياح سمعه منهما. والله أعلم.

الحديث الرابع:

قال:

ص: 42

588 -

حدثنا محمد بن سلام: ثنا عبدة، عن عبيد الله، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاتين: بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب.

وهذا الحديث سبق في الباب الماضي بأتم من هذا السياق.

ومقصود البخاري بهذا: ذكر الوقتين الضيقين المنهي عن الصلاة فيهما، وهما: عند غروب الشمس، وعند طلوعها.

ومقصوده بالباب الذي قبله: ذكر الوقتين المتسعين، وهما: بعد الفجر، وبعد العصر.

ص: 42

فهذه أربعة أوقات:

الوقت الأول: أوله: طلوع الفجر عند جمهور العلماء، ومنهم من قال: الانصراف من صلاة الفجر.

وقد سبق ذكر هذا الاختلاف في الباب الماضي.

وآخره: اخذ الشمس في الطلوع.

والوقت الثاني: أوله: أخذ الشمس في الطلوع، وهو بدو حاجبها، كما في حديث ابن عمر.

وآخره: أن ترتفع الشمس، كما في حديث ابن عمر وأبي سعيد وغيرهما.

وجاء من حديث ابن مسعود – مرفوعاً -: (حتى ترتفع وتبيض) .

خرجه الهيثم بن كليب بإسناد فيه انقطاع.

وجاء في حديث كعب بن مرة – أو مرة بن كعب -، عن النبي صلى الله عليه وسلم:(حتى ترتفع قيد رمح أو رمحين) .

خرجه الإمام أحمد.

وفي إسناده اختلاف.

وخرجه الإسماعيلي من حديث عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بإسناد حديثه الذي خرجه البخاري هاهنا، ولكن متنه بهذا الإسناد منكر غير معروف.

وفي (مسند الإمام أحمد) عن سعيد بن نافع، قال: رآني أبو بشير الأنصاري صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي صلاة الضحى حين طلعت الشمس، فعاب ذلك علي، ونهاني، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصلوا حتى ترتفع الشمس؛ فإنها تطلع في قرني الشيطان) .

وسعيد بن نافع، روى عن جماعة من الصحابة، وذكره ابن حبان في (ثقاته) .

ص: 43

وخرج النسائي من حديث عبد الرحمن بن البيلماني، عن عمرو بن عبسة، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل من ساعة أقرب من الله؟ قال: (نعم؛ جوف الليل الآخر، فصل ما بدا لك حتى تصلي الصبح، ثم انته حتى تطلع الشمس، فما دامت كأنها جحفة حتى تنتشر، ثم صل ما بدا لك) – وذكر الحديث.

وخرجه – أيضا – من حديث أبي أمامة الباهلي، عن عمرو بن عبسة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: قال: (فدع الصلاة حتى ترتفع قيد رمح، ويذهب شعاعها) .

وخرجه أبو داود، وعنده:(ثم أقصر حتى تطلع الشمس قيد رمح – أو رمحين) .

وقال سفيان، عن هشام، عن ابن سيرين: تحرم الصلاة إذا طلعت الشمس حتى تكون قيد نخلة، وتحرم إذا تغيرت حتى تغرب.

والوقت الثالث: أوله: إذا فرغ المصلي من صلاة العصر.

وآخره: دخول الوقت الرابع.

والوقت الرابع: آخره: تكامل غروب الشمس بغير خلاف.

ولم يرد ما يخالف هذا إلا حديث: (لا صلاة بعدها – يعني: العصر – حتى

ص: 44

يطلع الشاهد) ، وهو النجم.

وقد سبق ذكره، وأن من الفقهاء من تعلق به في قوله بكراهة التنفل قبل صلاة المغرب، وهو قول أبي حنيفة وغيره.

وقال إسحاق: صلاة الركعتين قبل المغرب رخصة، فلا يزاد حينئذ على ركعتين وليست بسنة، نقله عنه ابن منصور.

ويكون عنده ما بعد غروب الشمس وقبل صلاة المغرب، كما بين طلوع الفجر وصلاة الصبح، لا يزاد فيه على ركعتين.

وأماأوله: ففيه قولان:

أحدهما: أنه اخذ الشمس في الغروب حتى تتكامل؛ لحديث ابن عمر: (إذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب) .

وهذا قول الحنفية، وأكثر أصحابنا وغيرهم.

والثاني: أوله: إذا اصفرت الشمس، وقد تقدم عن ابن سيرين، وحكي عن مالك والشافعي وإسحاق، وحكاه ابن المنذر عن أهل الرأي، ورجحه بعض أصحابنا، ومنهم من حكاهما روايتين عن أحمد.

ورأى شريح رجلاً يصلي حين أصفارت الشمس، فقال: أنهوه أن يصلي؛ فإن هذه ساعة لا تحل فيها الصلاة.

وتبويب البخاري هاهنا يشهد لهذا القول، ولكنه لم يستشهد له إلا

ص: 45

بالنهي عن الصلاة بعد العصر، وفيه نظر؛ فإنه يجعل الوقتين وقتاً واحداً.

وإنما يستدل له بحديث عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن الصلاة حين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب.

خرجه مسلم.

ومعنى: تضيف للغروب: تميل إليه.

وفي رواية للإمام أحمد من حديث كعب بن مرة – أو مرة بن كعب -، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال بعد زوال الشمس:(ثم الصلاة مقبولة حتى تكون الشمس قيد رمح – أو رمحين -، ولا صلاة حتى تغرب الشمس) .

وخرج – أيضا - من حديث عمرو بن عبسة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(إذا تدلت الشمس للغروب فأقصر عن الصلاة حتى تغيب الشمس) .

وسنذكره بتمامه فيما بعد – إن شاء الله تعالى.

فأماالوقتان الضيقان عند طلوع الشمس وغروبها، فجمهور العلماء على النهي عن التنفل بالصلاة فيهما، وقد حكاه غير واحد إجماعاً، ولكن روي عن ابن الزبير، أنه كان يصلي عند غروب الشمس.

فخرج النسائي من طريق عمران بن حدير،

ص: 46

قال: سألت أبا مجلز عن الركعتين عند غروب الشمس؟ فقال: كان عبد الله بن الزبير يصليهما، فأرسل إليه معاوية: ما هاتان الركعتان عند غروب الشمس، فاضطر الحديث إلى أم سلمة، فقالت أم سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين قبل العصر، فشغل عنهما فركعهما حين غابت الشمس، ولم أره يصليهما قبل ولا بعد.

وروى محمد بن حيي بن يعلي بن أمية، عن أبيه، قال: رأيت يعلي بن أمية صلى قبل أن تطلع الشمس، فقيل له: أنت رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، تصلي قبل أن تطلع الشمس؟ قال يعلي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، فلأن تطلع وأنت في أمر الله خير من أن تطلع وأنت لاه) .

خرجه الإمام أحمد.

ومحمد بن حيي بن يعلي بن أمية، قال ابن المديني: هو مجهول. قال: وأبوه معروف، قد روي عنه.

مع أن يعلي إنما كانت صلاته قبل طلوع الشمس، لكن تعليله يقتضي عدم كراهة الصلاة عند طلوعها.

وأماالوقتان المتسعان، وهما: بعد الفجر، وبعد العصر، فاختلف العلماء: فمنهم من قال: لا بأس بالصلاة فيهما، وهذا مروي عن جماعة من الصحابة:

منهم: ابن عمر.

وقد خرج البخاري قوله في الباب الاتي.

ومنهم: عائشة.

ففي (صحيح مسلم) عن طاوس، قال: قالت عائشة: وهم عمر، إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحرى طلوع

ص: 47

الشمس وغروبها.

ومعنى قولها: وهم عمر – أي: فيما روى من النهي عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر.

وفي (صحيح ابن حبان) من رواية شعبة، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، قال: سألت عائشة عن الصلاة بعد العصر، فقالت: صل؛ إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إذا طلعت الشمس، وإذا غربت الشمس.

ومنهم: بلال.

روى قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن بلال، قال: لم يكن ينهى عن الصلاة إلا عند طلوع الشمس، فإنها تطلع بين قرني الشيطان.

وخرجه الإمام أحمد.

وخرجه ابن أبي شيبة، وعنده:(عند غروب الشمس) .

والظاهر: استواء الطلوع والغروب، ولا يعلم عن أحد التفريق بينهما.

واختار ابن المنذر أن أوقات النهي ثلاثة: وقت الطلوع، ووقت الغروب، ووقت الزوال خاصة.

وممن رخص في الصلاة بعد العصر والشمس مرتفعة: علي بن أبي طالب، والزبير، وتميم الداري، وأبو أيوب، وأبو موسى، وزيد بن خالد الجهني، وابن الزبير، والنعمان بن بشير، وأم سلمة – رضي الله عنهم.

ومن التابعين: الأسود، ومسروق، وشريح، وعمرو بن ميمون، وعبد الرحمن بن الأسود، وعبيدة، والأحنف بن قيس، وطاوس.

وحكاه ابن عبد البر، عن عطاء، وابن جريج، وعمرو بن دينار.

قال:

ص: 48

وروي عن ابن مسعود نحوه.

ولم يعلم عن أحد منهم الرخصة بعد صلاة الصبح.

وهو قول داود، فيما حكاه ابن عبد البر.

وحكي رواية عن أحمد:

قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد: هل ترى بأساً أن يصلي الرجل تطوعاً بعد العصر والشمس بيضاء مرتفعة؟ قال: لا نفعله، ولا نعيب فاعله.

قال: وبه قال أبو حنيفة.

وهذا لا يدل على أن أحمد رأى جوازه، بل رأى أن من فعله متأولاً، أو مقلداً لمن تأوله لا ينكر عليه، ولا يعاب قوله؛ لأن ذلك من موارد الاجتهاد السائغ.

ومما استدل به من ذهب إلى ذلك: ما رواه هلال بن يساف، عن وهب بن الأجدع، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(لا تصلوا بعد العصر، إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود.

والنسائي، وعنده:(إلا أن تكون الشمس بيضاء نقية مرتفعة) .

وابن خزيمة وابن حبان في (صحيحهما) .

وثبته ابن المنذر.

ووهب بن الأجدع، قال محمد بن يحيى الذهلي: ليس بمجهول؛

ص: 49

قد روى عنه الشعبي – أيضا.

واحتجوا - أيضا - بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعد العصر.

وقد خرجه البخاري فيما بعد.

وخرج النسائي من حديث أبي أمامة، عن عمرو بن عبسة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:(إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة) – يعني: جوف الليل – (فكن؛ فإن الصلاة مشهودة محضورة إلى طلوع الشمس؛ فإنها تطلع بين قرني الشيطان) – وذكر الحديث، وقال فيه:(ثم الصلاة مشهودة) – يعني: بعد أن يفئ الشيطان) – وذكر الحديث، وقال فيه:(ثم تغيب بين قرني شيطان) .

وخرجه الإمام أحمد – بنحوه من حديث سليم بن عامر، عن عمرو بن عبسة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال فيه – في ذكر جوف الليل -:(فصل حتى تطلع الشمس)، وقال فيه:(فإذا فاء الفيء فصل، فإن الصلاة محضورة مشهودة حتى تدلى الشمس للغروب، فإذا تدلت فأقصر عن الصلاة حتى تغيب الشمس) .

وهذا كله تصريح بجواز الصلاة بعد العصر وبعد الفجر؛ ولكن في هذه الروايات؛ فإن مسلماً خرج حديث عمرو بن عبسة من طريق أبي أمامة عنه، وذكر فيه: أنه أمره أن يقصر عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر حتى تغرب.

وكذا في أكثر الروايات.

ص: 50

وهذه زيادة صحيحة، سقطت في تلك الروايات.

وذهب أكثر العلماء إلى النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، وهذا هو الثابت عن عمر بن الخطاب، وكان يضرب من صلى بعد العصر، وكذلك روي عن خالد بن الوليد – أيضا -، وهو قول ابن عباس ومعاوية، وروي عن ابن عمر وجماعة من الصحابة.

وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم، وهو قول مالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور.

وفي (صحيح مسلم) عن المختار بن فلفل، قال: سألت أنس بن مالك عن التطوع بعد العصر، فقال: كان عمر يضرب الأيدي على صلاة بعد العصر.

وروى الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: كره عمر الصلاة بعد العصر، وأنا أكره ما كره عمر.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب كما سبق ذلك من حديث عمر وغيره من الصحابة، الذي رواه عنهم ابن عباس، ومن حديث أبي هريرة، وأبي

ص: 51

سعيد، ومعاوية.

وخرج مسلم من حديث عمرو بن عبسة، ومن حديث أبي بصرة في الصلاة بعد العصر كحديث معاوية.

وأكثر من جعل ما بعد الفجر والعصر وقت نهي حرم الصلاة فيه إلى طلوع الشمس وغروبها في الجملة، وإن أجاز بعضهم في الوقتين الطويلين للتنزيه، روي ذلك صريحاً عن ابن سيرين.

وسبب هذا: أن المقصود بالنهي بالأصالة هو وقت الطلوع والغروب؛ لما في السجود حينئذ من مشابهة سجود الكفار في الصورة، وإنما نهى عن الصلاة قبل ذلك سداً للذريعة؛ لئلا يتدرج بالصلاة فيه إلى الصلاة في وقت الطلوع والغروب. وقد جاء ذلك صريحاً عن غير واحد من الصحابة والتابعين.

وروى ابن جريج: سمعت أبا سعد الأعمى يخبر، عن رجل، يقال

ص: 52

له: السائب مولى الفارسيين، عن زيد بن خالد، أن عمر رآه يركع بعد العصر ركعتين، فمشى إليه فضربه بالدرة وهو يصلي، فلما انصرف قال: دعها يا أمير المؤمنين، فوالله لا أدعها أبداً بعد إذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما، فجلس إليه عمر، فقال: يا زيد، لولا أني أخشى أن يتخذها الناس سلماً إلى الصلاة حتى الليل، لم أضرب فيهما.

وخرجه الإمام أحمد.

وفي إسناده رجلان غير معروفين.

وروى الليث بن سعد، عن أبي الأسود، عن عروة، أنه قال: أخبرني تميم الداري – أو أخبرت - أن تميماً الداري ركع ركعتين بعد نهي عمر بن الخطاب عن الصلاة بعد العصر، فأتاه عمر، فضربه بالدرة، فأشار إليه تميم أن اجلس، وهو في صلاته، فجلس عمر حتى فرغ تميم من صلاته، فقال لعم: لم ضربتني؟ قال: لأنك ركعت هاتين الركعتين، وقد نهيت عنهما. قال: فإني قد صليتهما مع من هو خير منك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: إنه ليس بي أيها الرهط، ولكني اخاف أن يأتي بعدكم قوم يصلون ما بين العصر إلى المغرب حتى يمروا بالساعة التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلوا فيها، كما وصلوا ما بين الظهر والعصر.

خرجه الطبراني.

وخرجه الإمام أحمد – مختصراً -، عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: خرج عمر على الناس يضربهم على السجدتين بعد العصر، حتى مر بتميم الداري، فقال: لا أدعهما؛

ص: 53

صليتهما مع خير منك، رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: لو أن الناس كانو كهيئتك لم أبال.

ورواية عروة عن عمر مرسلة.

وخرج الحاكم من رواية هشام بن حجير، قال: كان طاوس يصلي ركعتين بعد العصر، فقال له ابن عباس: اتركهما، فقال: إنما نهي عنهما أن تتخذ سلماً أن يوصل ذلك إلى غروب الشمس.

قال ابن عباس: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن صلاة بعد العصر، وما ندري أتعذب عليه أم تؤجر؛ لأن الله يقول:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب: 36] .

وقول من قال: إن النهي عنها كان سداً لذريعة الصلاة في وقت الكراهة الأصلي، فلا يكون محرماً – غير صحيح؛ فإنه إذا ثبت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنها كان نهيه للتحريم، وإن كان معللاً بسد الذريعة، كما نهى عن ربا الفضل معللاً بسد الذريعة لربا النسيئة، وكل منهما محرم، وكما نهى عن شرب قليل ما أسكر كثيرة، لأنه ذريعة إلى السكر، وكلاهما محرم، ونظائر ذلك.

والذين حرموا الصلاة بعد الفجر والعصر اتفقوا على تحريم التنفل الذي لا سبب له، وأماما له سبب كتحية المسجد ونحوها فلهم فيه قولان مشهوران: أجازه الشافعي، ومنعه أبو حنيفة ومالك، وعن أحمد فيه روايتان.

ولذلك اختلفت الرواية عن مالك فيمن صلى ركعتي الفجر في

ص: 54

بيته، ثم دخل المسجد: هل يصلي ركعتين، أم لا؟ وأجاز سجود التلاوة في هذا الوقت، وأمابعد صلاة الفجر فلا يفعل عنده شيء من ذلك في المشهور عنه.

وعنه رواية أخرى: يفعل سجود التلاوة، وصلاة الكسوف خاصة.

وفي (سنن أبي داود) بإسناد فيه نظر، عن ابن عمر، أنه نهى عن سجود التلاوة بعد الصبح، وقال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر وعثمان، فلم يسجدوا حتى تطلع الشمس.

وأماقضاء الفرائض الفائتة، فأجازه الأكثرون، منهم: مالك والشافعي وأحمد استدلالاً بامر النبي صلى الله عليه وسلم من صلى ركعة من الصبح ثم طلعت عليه الشمس أن يتم صلاته. ومنع ذلك أبو حنيفة، وقد سبق ذكره، ويأتي فيما بعد – إن شاء الله.

فأمافروض الكفاية كصلاة الجنازة، فيجوز فعلها في الوقتين المتسعين عند الجمهور، ومنهم من حكاه إجماعاً كابن المنذر وغيره.

وفي فعلها في الوقتين الضيقين قولان، هما روايتان عن مالك وأحمد، ومنع أحمد – في رواية عنه – من فعلها بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وترتفع، اتباعاً لما روي في ذلك عن ابن عمر.

وكذا روى ابن القاسم عن مالك، أنه لا يصلي على الجنائز إذا اصفرت الشمس حتى تغرب، وإذا أسفر الضوء حتى ترتفع الشمس.

ص: 55

وهذا يرجع إلى أن وقت الاختيار يخرج بالإسفار ويدخل وقت الكراهة. وعلى مثل هذا ينبغي حمل المروي عن أحمد – أيضا.

وينبغي على هذا القول أن يكون أول وقت النهي عن الصلاة إسفار الوقت جداً.

وعن الليث، قال: لا يصلي على الجنازة في الساعة التي تكره فيها الصلاة.

ومنع الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة من الصلاة على الجنازة في الوقتين الضيقين دون الواسعين.

وأجازه الشافعي في جميع الأوقات؛ لأنه يرى أن النهي يختص بالتطوع المطلق الذي ليس له سبب.

ص: 56

‌32 - باب

من لم يكره الصلاة إلا بعد العصر والفجر

رواه عمر، وابن عمر، وأبو سعيد، وأبو هريرة.

معنى هذا الباب أنه لا تكره الصلاة إلا بعد العصر والفجر، فلا تكره في وقت قيام الشمس في وسط النهار قبل الزوال.

وقوله: رواه عمر وابن عمر وأبو سعيد وأبو هريرة - يعني: أنهم رووا النهي عن الصلاة بعد الفجر والعصر، سوى ابن عمر؛ فإنه لم تصح عنه الرواية إلا في النهي عن الصلاة في وقت الطلوع والغروب خاصة.

ومراده: أن أحداً منهم لم يرو النهي عن الصلاة في وقت آخر غير هذه الأوقات.

ثم قال:

ص: 57

589 -

حدثنا أبو النعمان: ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أصلي كما رأيت أصحابي يصلون، لا أنهى أحداً يصلي بليل أو نهار ما شاء، غير أن لا تتحروا طلوع الشمس ولا غروبها.

ووجه استدلاله بهذا على مراده: أن ابن عمر أخبر أنه لا ينهى أحداً

ص: 57

يصلي في ساعة من ليل أو نهار، غير أنه لا يتحرى طلوع الشمس ولا غروبها، وأنه يصلي كما رأى أصحابه يصلون، وهذا يشعر بأنه رأى أصحابه، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصلون في كل وقت من ليل أو نهار، سوى وقت الطلوع والغروب.

وهذا عجيب من ابن عمر – رضي الله عنه؛ فإنه يعلم أن أباه كان ينهى عن الصلاة بعد العصر ويضرب على ذلك.

وقد روي عن عمر من وجوه، أنه نهى عن سجود التلاوة وصلاة الجنازة بعد الصبح قبل طلوع الشمس.

وقد روي مثل قول ابن عمر مرفوعاً:

رويناه في كتاب (وصايا العلماء) لابن زبر من طريق مروان بن جعفر، عن محمد بن إبراهيم بن خبيب، عن جعفر بن سعد، عن خبيب بن سليمان، عن أبيه سليمان بن سمرة، عن سمرة، قال: هذه وصية سمرة إلى بنيه، فذكر فيها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نصلي أي ساعة شئنا من الليل أو النهار، غير أنه أمرنا أن نجتنب طلوع الشمس وغروبها، وقال:(إن الشيطان يغيب معها حين تغيب، ويطلع معها حين تطلع) .

وهذه نسخة، خرج منها أبو داود في (سننه) أحاديث.

وخرجه البزار في (مسنده) عن خالد بن يوسف السمتي، عن أبيه، عن جعفر بن سعد.

ويوسف بن خالد السمتي، ضعيف جداً.

ص: 58

وقد اختلف العلماء في وقت قيام الشمس في نصف النهار قبل زوالها: هل هو وقت نهي عن الصلاة، أم لا؟

فقالت طائفة: ليس هو وقت نهي، كما أشار إليه البخاري، وهو قول مالك، وذكر أنه لا يعرف النهي عنه، قال: وما أدركت أهل الفضل إلا وهم يجتهدون ويصلون نصف النهار.

وروي عنه، أنه قال: لا أكرهه ولا أحبه.

هذا مع أنه روى في (الموطأ) حديث الصنابحي في النهي عنه، ولكنه تركه لما رآه من عمل أهل المدينة.

وممن رخص في الصلاة فيه: الحسن، وطاوس، والأوزاعي في رواية عنه، وهو ظاهر كلام الخرقي من أصحابنا.

وقال آخرون: هو وقت نهي لا يصلي فيه، وهو قول أبي حنيفة، والثوري، والحسن بن حي، وابن المبارك، وأحمد، وابن المنذر.

وقال: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه.

ونهى عنه عمر بن الخطاب.

وقال ابن مسعود: كنا ننهى عنه.

وقال سعيد المقبري: أدركت الناس وهم يتقون ذلك.

وقد خرج مسلم في (صحيحة) حديثين في النهي عن الصلاة في هذا الوقت:

أحدهما: حديث أبي أمامة، عن عمرو بن عبسة، قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الصلاة؟ قال: (صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، حتى ترتفع؛ فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل؛ فإن الصلاة مشهودة

ص: 59

محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة؛ فإن حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل؛ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني الشيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار) .

والثاني: حديث موسى بن علي بن رباح، عن أبيه: سمعت عقبة بن عامر يقول: ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازعة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب.

وفي المعنى أحاديث أخر:

منها: حديث الصنابحي، وقد ذكرناه فيما تقدم.

ومنها: حديث كعب بن مرة - أو مرة بن كعب -، أن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث، وفيه:(ثم الصلاة مقبولة حتى يقوم الظل قيام الرمح، ثم لا صلاة حتى تزول الشمس) .

خرجه الإمام أحمد.

وخرج – أيضا - من حديث ليث، عن ابن سابط، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(لا تصلوا عند طلوع الشمس؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان، ويسجد لها كل كافر، ولا نصف النهار، فإنها عند سجر جهنم) .

ص: 60

وليث، هو: ابن أبي سليم. وعبد الرحمن بن سابط، لم يسمع من أبي أمامة -: قاله ابن معين وغيره.

والصحيح: أن أبا أمامة إنما سمعه من عمرو بن عبسة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم.

وقد روي، عن ليث، عن ابن سابط، عن أخي أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى ابن وهب، أخبرني عياض بن عبد الله، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، أن رجلاً سال النبي صلى الله عليه وسلم: أمن ساعات الليل والنهار ساعة تأمرني أن لا أصلي فيها؟ – فذكر الحديث بطوله، وفيه:(فإذا انتصف النهار فأقصر عن الصلاة حتى تميل الشمس؛ فإنه حينئذ تسعر جهنم، وشدة الحر من فيح جهنم. فإذا مالت الشمس فالصلاة محضورة مشهودة متقبلة حتى تصلي العصر) – وذكر الحديث.

خرجه ابن خزيمة في (صحيحه) .

وخرجه ابن ماجه وابن حبان في (صحيحه) من طريق ابن أبي فديك، عن الضحاك بن عثمان، عن المقبري، عن أبي هريرة، أن صفوان بن المعطل سأل النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بنحوه.

وخرجه عبد الله بن الإمام أحمد والحاكم من رواية حميد بن

ص: 61

الأسود، عن الضحاك، عن المقبري، عن صفوان بن المعطل – لم يذكر في إسناده: أبا هريرة.

وقال الحاكم: صحيح الإسناد.

ورواه الليث بن سعد، عن سعيد المقبري، عن عون بن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود، أن عمرو بن عبسة سأل النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.

خرجه الهيثم بن كليب في (مسنده) .

وهو منقطع؛ عون لم يسمع من ابن مسعود.

قال الدارقطني: قول الليث أصح – يعني: من قول الضحاك ويزيد بن عياض.

قال: وروي عن الليث، عن ابن عجلان، عن المقبري، عن ابن المسيب، عن عمرو بن عبسة، وهو وهم على الليث؛ إنما روى الليث في آخر الحديث ألفاظاً عن ابن عجلان عن سعيد المقبري – مرسلاً.

قلت: ورواه ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن المقبري، عن عون ابن عبد الله، عن أبي هريرة، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 62

عن الصلاة نصف النهار.

خرجه الطبراني.

وابن لهيعة، سيء الحفظ.

وروى الطبراني – أيضا -: أخبرنا أبو زرعة الدمشقي: ثنا يحيى بن صالح الوحاظي: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن يونس بن عبيد، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن الصلاة في ثلاث ساعات: عند طلوع الشمس حتى تطلع، ونصف النهار، وعند غروب الشمس.

وهذا غريب جداً، وكأنه غير محفوظ.

وروى عاصم عن زر، عن ابن مسعود، قال: إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، فما ترتفع قصمة في السماء إلا فتح لها باب من أبواب النار، فإذا كانت الظهيرة فتحت أبواب النار كلها، فكنا ننهى عن الصلاة عن طلوع الشمس، وعند غروبها، وعند نصف النهار.

خرجه يعقوب بن شيبة السدوسي في (مسنده) .

وخرجه البزار، ولفظه: عن ابن مسعود، قال: نهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الفجر – أو قال: بعد صلاة الصبح – حتى تطلع الشمس، ونصف النهار. قال: في شدة الحر.

القصمة – بالفتح -: الدرجة، سميت لأنها كسرة من القصم:

ص: 63

الكسر.

وروى الإسماعيلي من حديث أيوب بن جابر، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(لا تصلوا قبل طلوع الشمس حتى تطلع، ولا عند غروبها حتى تغرب، ولا نصف النهار حتى تزول) .

أيوب بن جابر، ضعيف الحديث.

وقالت طائفة: تكره الصلاة وسط النهار، إلا يوم الجمعة، وهو قول مكحول والأوزاعي في رواية، وسعيد بن عبد العزيز وأبي يوسف والشافعي وإسحاق.

وروى الشافعي فيه حديثاً بإسناد ضعيف، عن أبي هريرة.

وروى مالك، عن ابن شهاب، عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي، أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب يصلون حتى يخرج، فإذا خرج عمر جلس على المنبر وأذن المؤذنون جلسوا.

وخرج أبو داود من حديث ليث، عن مجاهد، عن أبي الخليل،

ص: 64

عن أبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال:(إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة) .

وقال: هو مرسل؛ أبو الخليل لم يسمع من أبي قتادة.

وقال الأثرم: له علل، ومنها: أنه من حديث ليث، ومنها: أن أبا الخليل لم يلق أبا قتادة. انتهى.

وأبو الخليل، هو: صالح بن أبي مريم، ومن زعم أنه عبد الله بن الخليل صاحب علي فقد وهم.

وقال طاوس: يوم الجمعة صلاة كله.

وذكر قوله للإمام أحمد، فأنكره، وقال: فيصلي بعد العصر حتى تغرب الشمس؟!.

وقالت طائفة اخرى: يكره ذلك في الصيف لشدة الحر فيه، دون الشتاء، وحكي عن عطاء.

وفي بعض روايات حديث ابن مسعود المتقدم ما يشهد له.

وقال ابن سيرين: يكره نصف النهار في شدة الحر، ولا يحرم.

والمعنى في كراهة الصلاة وقت استواء الشمس: أن جهنم تسعر فيها،

ص: 65

فيكون ساعة غضب الرب سبحانه، فهي كساعة سجود الكفار للشمس، والصلاة صلة بين العبد وربه؛ لأن المصلي يناجي ربه، فتجتنب مناجاته في حال غضبه حتى يزول المقتضي لذلك. والله أعلم.

ص: 66

‌33 - باب

ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها

وقال كريب، عن أم سلمة: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد العصر ركعتين، وقال:(شغلني ناس من عبد القيس عن الركعتين بعد الظهر) .

هذا الحديث اسنده في أواخر (كتاب الصلاة) في (الإشارة باليد في الصلاة)، وفي (المغازي) في (باب: وفد عبد القيس) من طريق عمرو بن الحارث، عن بكير، أن كريباً مولى ابن عباس حدثه، أن ابن عباس وعبد الرحمن ابن أزهر والمسور بن مخرمة أرسلوا إلى عائشة، فقالوا: أقرأ عليها السلام منا جميعاً، وسلها عن الركعتين بعد العصر؛ فإنا أخبرنا أنك تصليها، وقد بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها. قال ابن عباس: وكنت أضرب مع عمر الناس عنهما. قال كريب: فدخلت عليها، وبلغتها ما أرسلوني، [فقالت: سل أم سلمة، فأخبرتهم، فردوني إلى أم سلمة بمثل ما أرسلوني إلى عائشة] ، فقالت أم سلمة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنهما، وإنه صلى العصر ثم دخل علي، وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار، فصلاهما، فأرسلت إليه الخادم، فقلت: قومي إلى جنبه، فقولي: تقول أم سلمة: يار سول الله، ألم أسمعك تنهى عن هاتين الركعتين؟ فأراك تصليها، فإن أشار بيده فاستأخري، ففعلت الخادم، فأشار بيده فاستأخرت عنه، فلما أنصرف قال: (يا بنت أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد

ص: 67

العصر، إنه أتاني أناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان) .

وخرجه مسلم – أيضا.

قال الدارقطني في (العلل) : هو أثبت هذه الأحاديث وأصحها.

يشير إلى الأحاديث التي فيها ذكر عائشة وأم سلمة.

وقد روي عن أم سلمة من وجه آخر، أنها لم تر النبي صلى الله عليه وسلم صلاها غير تلك المرة.

خرجه الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق: أنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر قط إلا مرة، جاءه ناس بعد الظهر، فشغلوه في شيء، فلم يصل بعد الظهر شيئاً حتى صلى العصر. قالت: فلما صلى العصر دخل بيتي فصلى ركعتين.

وخرجه النسائي – بمعناه.

وهذا – أيضا - إسناد صحيح.

وخرجه بقي بن مخلد في (مسنده) من رواية ابن أبي لبيد، عن أبي سلمة، قال: قدم معاوية المدينة، فأرسل إلى عائشة. فسألها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر؟ فقالت: ما أدري، سلوا أم سلمة، فسألوا أم سلمة – فذكرت الحديث.

وهذه الرواية تدل على أن عائشة لم يكن عندها عن النبي صلى الله عليه وسلم في

ص: 68

ذلك شيء.

ورواه الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن أبي لبيد، به، وفي حديثه: أن عائشة قالت: لا علم لي، ولكن أذهب إلى أم سلمة.

وكذا رواه الشافعي – أيضا – عن سفيان.

وخرجه النسائي – أيضا - من حديث أبي مجلز، عن أم سلمة، وفيه: قالت: فركعهما حتى غابت الشمس، ولم أره يصليهما قبل ولا بعد.

وقد سبق بتمامه.

وهذا يدل على أنه صلاهما بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، وحينئذ فلا يبقى إشكال في ذلك.

وخرج الإمام أحمد من طريق عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب: حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أنه كان عند مروان، فأرسل إلى عائشة: ما ركعتان يذكرهما ابن الزبير عنك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصليهما بعد العصر؟ فأرسلت إليه: أخبرتني أم سلمة، فأرسل إلى أم سلمة، فقالت: يغفر الله لعائشة، لقد وضعت أمري على غير موضعه، ثم ذكرت قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لهما، وقالت أم سلمة: وما رأيته صلاهما قبلها ولا بعدها.

وقد روى عن أم [سلمة]، أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أفنقضيهما إذا فاتتا؟

ص: 69

قال: (لا) . وسيأتي فيما بعد – إن شاء الله تعالى.

وقد روي عن أم سلمة ما يخالف هذا، إلا أن إسناده لا يصح: من رواية محمد بن حميد الرازي، عن هارون بن المغيرة، عن ابن سعيد، عن عمار الدهني، عن عبد الملك بن عبيدة بن ربيعة، عن جدته أم سلمة، أنها أمرت بالركعتين بعد العصر، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليصليهما إذا صلى مع الناس هو جالس، مخافة شهرتها، وإذا صلاها في بيته صلاها قائماً.

قال محمد بن حميد: كتب عني أحمد بن حنبل هذا الحديث.

محمد بن حميد، كثير المناكير، وقد اتهم بالكذب، فلا يلتفت إلى تفرده بما يخالف الثقات.

ثم أسند حديث عائشة في هذا الباب من أربعة أوجه:

الأول:

قال:

ص: 70

590 -

حدثنا أبو نعيم: ثنا عبد الواحد بن أيمن: حدثني أبي، أنه سمع عائشة قالت: والذي ذهب به، ما تركهما حتى لقي الله، وما لقي الله حتى ثقل عن الصلاة، وكان يصلي كثيراً من صلاته قاعداً - تعني: الركعتين بعد العصر -، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصليهما، ولا يصليهما في المسجد، مخافة أن يثقل على أمته، وكان يحب ما يخفف عنهم.

ص: 70

هذا انفرد به البخاري عن مسلم.

وخرجه الإسماعيلي في (صحيحه) : (المستخرج على صحيح البخاري)، وزاد في روايته: فقال لها أيمن: وإن عمر كان ينهى عنها، يضرب فيها؟ قالت: صدقت، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصليها، وكان لا يصليهسا في المسجد مخافة أن يشق على أمته، وكان يخفف ما خفف عنهم.

وهذا يشبه اعتذارها عن ترك النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الضحى؛ فإنها قالت: ما رأيت رسول الله يسبح سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.

خرجه مسلم.

وخرج البخاري أوله.

الوجه الثاني:

قال:

ص: 71

591 -

حدثنا مسدد: ثنا يحيى: ثنا هشام: أخبرني أبي، قال: قالت عائشة: ابن أختي، ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم السجدتين بعد العصر عندي قط.

وخرجه مسلم من طريق جرير وابن نمير، كلاهما عن هشام بن عروة، به.

ص: 71

الوجه الثالث:

قال:

ص: 72

592 -

حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا عبد الواحد: ثنا الشيباني: ثنا عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة، قالت: ركعتان لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعهما سراً ولا علانية: ركعتان قبل صلاة الصبح، وركعتان بعد العصر.

وخرجه مسلم من طريق علي بن مسهر، عن الشيباني، به، ولفظه: قالت: صلاتان ما تركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي قط سراً ولا علانية: ركعتين قبل الفجر، وركعتين بعد العصر.

وذكر البيت مع قولها: (سراً وعلانية) فيه إشكال؛ فإن لم يكن ذكر البيت محفوظاً كان المعنى: أنه لم يكن يتركهما في المسجد وفي البيت، وهذا يخالف حديث أنس عنها.

الوجه الرابع:

قال:

ص: 72

593 -

حدثنا محمد بن عرعرة: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: رأيت الأسود ومسروقاً شهداً على عائشة، قالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني في يوم بعد العصر إلا صلى ركعتين.

وخرجه مسلم من طريق غندر، عن شعبة، عن أبي إسحاق – وهو: السبيعي، به بمعناه.

وخرجه البخاري في موضع آخر من حديث ابن الزبير، عن عائشة.

ص: 72

وخرجه مسلم من طريق آخر، من رواية محمد بن أبي حرملة: أخبرني أبو سلمة، أنه سأل عائشة عن السجدتين اللتين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما بعد العصر؟ فقالت: كان يصليهما قبل العصر، ثم إنه شغل عنهما – أو نسيهما -، فصلاهما بعد العصر، ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها.

قال إسماعيل: تعني: داوم عليها.

وخرجه من وجه آخر، من طريق طاوس، عن عائشة، قالت: لم يدع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعتين بعد العصر. فقالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فتصلوا عند ذلك) .

ففي هذه الرواية: إشارة من عائشة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي في وقت نهى عن الصلاة فيه؛ لأنه إنما نهى عن تحري الطلوع والغروب، وكان يصلي قبل ذلك.

وعلى هذا؛ فلا إشكال في جواز المداومة عليها لمحبته المداومة على أعماله، كما في الرواية التي قبلها؛ لأن ذلك الوقت ليس بوقت نهي عن الصلاة بالكلية.

وقد روي عن عائشة، أنه لم يداوم عليها.

ص: 73

خرجه الطبراني من رواية كامل أبي العلاء، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن عائشة، قالت: فاتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان قبل العصر، فلما انصرف صلاهما، ثم لم يصلهما بعد.

وروى بقي بن مخلد في (مسنده) : حدثنا محمد بن مصفى: ثنا بقية: حدثني محمد بن زياد: سمعت عبد الله بن أبي قيس يقول: سألت عائشة عن الركعتين بعد العصر؟ فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركعهما قبل الهاجرة، فنهى عنهما، فركعهما بعد العصر، فلم يركعهما قبلها ولا بعدها.

وهذا إسناد جيد

وخرجه الإمام أحمد عن غندر: حدثنا شعبة، عن يزيد بن خمير، قال: سمعت عبد الله بن [أبي] موسى، قال: دخلت على عائشة، فسألتها عن الوصال في الصوم، وسألتها عن الركعتين بعد العصر؟ فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على الصدقة، فجاءته عند الظهر، فصلى الظهر، وشغل في قسمته حتى صلى العصر، ثم صلاها، وقالت: عليكم بقيام الليل؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه.

قال أحمد: يزيد بن خمير صالح الحديث. قال: وعبد الله بن أبي موسى هذا خطأ، أخطأ فيه شعبة، هو: عبد الله بن أبي قيس. انتهى.

ص: 74

والأمر كما قاله.

وقد روي عن عبد الله بن أبي قيس، عن عائشة من وجه آخر، وهو شامي حمصي، خرج له مسلم.

وإنما سئلت عائشة عن الوصال والركعتين بعد العصر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عنهما ويفعلهما، وحديث عائشة هذا يدل على أنه إنما فعلهما في هذه المرة؛ ولذلك لم تأمر السائل بفعهلما، وإنما عدلت إلى أمره بقيام الليل، مع أنه [لم] يسأل عنه، وأخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه، وهذا يشعر بأن الصلاة بعد العصر بخلاف ذلك.

وخرج الإمام أحمد – أيضا – من رواية معاوية بن صالح، عن عبد الله بن أبي قيس، قال: سألت عائشة عن الركعتين بعد العصر؟ فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين بعد الظهر، فشغل عنهما حتى صلى العصر، فلما فرغ ركعهما في بيتي، فما تركهما حتى مات.

قال عبد الله بن أبي قيس: فسألت أبا هريره عنه؟ فقال: قد كنا نفعله، ثم تركناه.

فخالف معاوية بن صالح محمد بن زياد ويزيد بن خيمر، وقولهما أولى.

وقد روي عن عائشة، أنها ردت الأمر إلى أم سلمة في ذلك، وقد سبق حديث كريب عنها – وهو أصح روايات الباب كما ذكره الدارقطني -،

ص: 75

وحديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن عائشة قالت: اخبرتني أم سلمة، وحديث أبي سلمة، عن عائشة وأم سلمة.

وخرج الإمام أحمد من رواية يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: دخلت أنا وابن عباس على معاوية، فذكر الركعتين بعد العصر، فجاء ابن الزبير، فقال: حدثتني عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأرسل إلى عائشة، فقالت: ذاك ما أخبرته أم سلمة، فدخلنا على أم سلمة، فاخبرناها ما قالت عائشة، فقالت: يرحمها الله، أو لم أخبرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عنهما؟

وفي رواية بهذا الإسناد: أن عائشة قالت: لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن حدثتني أم سلمة، فسألناها، فذكرت القصة، ثم قالت: ولقد حدثتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنهما.

ورواه حنظلة السدوسي، عن عبد الله بن الحارث، قال: صلى بنا معاوية العصر، فأرسل إلى ميمونة رجلاً، ثم أتبعه رجلاً آخر، فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجهز بعثاً، ولم يكن عنده ظهر، فجاءه ظهر من ظهر الصدقة، فجعل يقسمه بينهم، فحبسوه حتى أرهق العصر، وكان يصلي قبل العصر ركعتين، أو ما شاء الله، فصلى العصر ثم رجع، فصلى ما كان يصلي قبلها، وكان إذا صلى صلاة، أو فعل شيئاً يحب أن يداوم عليه.

خرجه الإمام

ص: 76

أحمد.

وفي رواية له بهذا الإسناد: أن معاوية أرسل إلى عائشة، فأجابته بذلك.

وكلاهما وهم. والله أعلم.

ورواية يزيد بن أبي زياد له، عن عبد الله بن الحارث، عن [ام] سلمة أصح.

وحنظلة هذا، قال الإمام أحمد: منكر الحديث. وضعفه ابن معين والنسائي.

وقد روي عن عائشة ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي بعد العصر شيئاً.

ففي (صحيح مسلم) عن عبد الله بن شقيق، قال: سألت عائشة عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عن تطوعه؟ فقالت: كان يصلي في بيتي قبل الظهر اربعاً، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين، ويصلي بالناس العشاء، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالليث تسع ركعات فيهن الوتر، وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين.

فهذا يدل على أنه لم يكن يصلي بعد العصر شيئاً في بيتها؛ لأنه لو كان ذلك لذكرته كما ذكرت صلاته في بيتها بعد الظهر والمغرب والعشاء.

ص: 77

وقد خرجه الإمام أحمد، وزاد فيه:(وركعتين قبل العصر) . ولم يذكر بعدها شيئاً.

وروى سعد بن أوس: حدثني مصدع أبو يحيى، قال: حدثتني عائشة – وبيني وبينها ستر -، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة إلا اتبعها ركعتين، غير الغداة وصلاة العصر؛ فإنه كان يجعل الركعتين قبلهما.

خرجه بقي بن مخلد.

فقد تبين بهذا كله أن حديث عائشة كثير الاختلاف والاضطراب، وقد رده بذلك جماعة، منهم: الترمذي والأثرم وغيرهما.

ومع اضطرابه واختلافه فتقدم الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا اختلاف فيها ولا اضطراب في النهي عن الصلاة بعد العصر عليه.

وعلى تقدير معارضته لتلك الأحاديث، فللعلماء في الجمع بينهما مسالك:

المسلك الأول:

أن حديث عائشة يدل على التطوع المداوم عليه قبل الفريضة وبعدها، إذا فات شيء منه فإنه يجوز قضاؤه بعد العصر.

وقد روي هذا المعنى عن زيد بن ثابت وابن عباس، وإليه ذهب الشافعي والبخاري والترمذي وغيرهم.

ورجح أكثرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يداوم على ذلك، كما في حديث أم سلمة، وقد تبين أن عائشة رجعت إليها في ذلك.

وعلى تقدير أن يكون داوم عليها فقد كان صلى الله عليه وسلم -

ص: 78

يحافظ على نوافله كما يحافظ على فرائضه، ويقضي ما فاته منها، كما روي عنه أنه كان يقضي ما فاته من الصيام في الأشهر في شعبان – كما كانت عائشة تقضي ما فاتها من رمضان – حتى لا يأتي رمضان آخر وقد فاته شيء من نوافله في العام الماضي فلما صلى يوماً ركعتين بعد العصر قضاءً لما فاته من النوافل كان ذلك سبباً مجوزاً لمداومته على مثل ذلك.

وفي هذا نظر؛ فإنه لما فاته صلاة الصبح بالنوم، وقضاها نهاراً لم يداوم على مثل تلك الصلاة كل يوم، وكذلك لما قضى صلاة العصر يوم الخندق.

واختلف الشافعية فيمن قضى شيئاً من التطور في وقت النهي: هل له المداومة؟ على وجهين لهم، أصحهما: أنه لا يجوز المداومة.

ورجح الأكثرون: أنه صلى الله عليه وسلم لم يداوم على هذه الصلاة.

كما روى ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، قال: سمعت قبيصة بن ذؤيب، أن عائشة اخبرت آل الزبير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عندها ركعتين بعد العصر، فكانوا يصلونها.

قال قبيصة: فقال زيد بن ثابت: يغفر الله لعائشة، نحن أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم من عائشة، إنما كان كذلك لأن أناساً من الأعراب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهجير، فقعدوا يسألونه ويفتيهم حتى صلى الظهر، ولم يصل ركعتين، ثم قعد يفتيهم حتى صلى العصر، فانصرف إلى بيته، فذكر أنه لم يصل بعد الظهر شيئاً، فصلاهما بعد العصر، يغفر الله لعائشة، نحن أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم من عائشة، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد

ص: 79

العصر.

وروى عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الركعتين بعد العصر؛ لأنه أتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر، فصلاهما بعد العصر، ثم لم يعد لهما.

خرجه الترمذي، وقال: حديث حسن، وابن حبان في (صحيحه) .

والمسلك الثاني:

أنه صلى الله عليه وسلم كان مخصوصاً بإباحة الصلاة بعد العصر، أو في أوقات النهي مطلقاً، وهذا قول طائفة من الفقهاء من أصحابنا كابن بطة، ومن الشافعية وغيرهم.

وروى إسحاق بن راهويه في (مسنده) عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، قال: رأيت عبد الله بن الزبير يصلي ركعتين بعد العصر، فقلت: ما هذ؟ قال: أخبرتني عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يصلي ركعتين بعد العصر في بيتي، قال: فأتيت عائشة، فسألتها، فقالت: صدق، فقلت لها: فأشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس) ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ما أمر، ونحن نفعل ما أمرنا.

أبو هارون، ضعيف الحديث.

ص: 80

ولهذا المعنى قال طائفة من العلماء: إنه إذا تعارض نهي النبي صلى الله عليه وسلم وفعله أخذنا بنهيه؛ لاحتمال أن يكون فعله خاصاً به، كما في نهيه عن نكاح المحرم مع أنه نكح وهو محرم، إن ثبت ذلك، وكما كان يواصل في صيامه، ونهى عن الوصال.

ويعضد هذا: ماروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سئل: أنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: (لا) .

فروى حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن ذكوان، عن أم سلمة، قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، ثم دخل بيتي فصلى ركعتين، فقلت: يا رسول الله، صليت صلاة لم تكن تصليها؟ فقال:(قدم علي مال فشغلني عن ركعتين كنت أركعهما بعد الظهر، فصليتهما الآن) . فقلت: يا رسول الله، أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال (لا) .

خرجه الإمام أحمد وابن حبان في (صحيحه) .

وإسناده جيد.

قال الدارقطني: وروي عن ذكوان، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعن ذكوان، عن عائشة، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد ضعفه البيهقي بغير حجة في (كتاب المعرفة) .

وخرجه في

ص: 81

(كتاب السنن) من رواية ذكوان، عن عائشة، قالت: حدثتني أم سلمة - فذكرت الحديث.

ورجح الأثرم والبيهقي: من رواه عن حماد، عن الأزرق، عن ذكوان، عن عائشة، عن أم سلمة.

وهذا مما يستدل به على أن عائشة إنما تلقت هذا الحديث عن أم سلمة.

وخرج أبو داود من رواية ابن إسحاق، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن ذكوان مولى عائشة، أنها حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العصر، وينهى عنها.

وهذا يدل على أن عائشة روت اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصلاة.

وروي عنها من وجه آخر، من رواية عبيدة بن معتب، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها بعد العصر فصلى ركعتين. فقلت: يا رسول الله، أحدث الناس؟ قال:" لا، إن بلالا عجل الإقامة فلم نصل الركعتين قبل العصر، فأنا أقضيهما الآن ". قلت: يا رسول الله، أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال:" لا ".

قال الدارقطني في " العلل ": لا أعلم أتى بهذا اللفظ غير عبيدة بن معتب، وهو ضعيف.

قلت: رواية ذكوان تعضده وتشهد له.

ص: 82

وقد روي عن أم سلمة من وجه آخر: خرجه ابن بطة في مصنف له في مسألة الصلاة أوقات النهي، من حديث ابن فضيل، عن أبيه: حدثنا ابن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن أم سلمة، أنه سمعها ذكرت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركعتين، بينهما ركعتين بعد العصر، لم تره صلى قبلها ولا بعدها مثلها، وأنه أعلمها أنها ركعتان كان يصليهما قبل العصر، فصلاهما بعد العصر. قال: فقلت له: أفنصليهما إذا فاتتا؟ قال: " لا "

المسلك الثالث:

النسخ، وأهل هذا المسلك فرقتان:

منهم: من يدعي أن أحاديث النهي ناسخة للرخصة؛ لأن النهي إنما يكون عن شيء تقدم فعله، ولا يكون عن شيء لم يفعل بعد، وهذا سلكه ابن بطة من أصحابنا وغيره، وفيه بعد.

ومنهم: من يدعي أن أحاديث الرخصة ناسخة للنهي، وهذا محكي عن داود.

وفي حديث أم سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر بعد نهيه عن ذلك [. . .] .

ومن الناس من يحكي عن داود أن النهي عن الصلاة في جميع الأوقات انتسخ بالصلاة بعد العصر.

وهذا بعيد على أصول داود.

ومنهم من حكي عنه أنه خص النسخ بالنهي عن الصلاة بعد العصر.

وهذا أشبه،

ص: 83

وقد حكي مثله رواية عن أحمد.

وأكثر العلماء على أنه ليس في ذلك ناسخ ولا منسوخ، وهو الصحيح.

وقد روى جماعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه لم يكن يصلي بعد العصر شيئا.

فروى أبو إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على إثر كل صلاة مكتوبة ركعتين، إلا الفجر والعصر.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن خزيمة في " صحيحه ".

وعاصم، وثقه جماعة من الأئمة.

وروى زهير بن محمد، عن يزيد بن خصيفة، عن سلمة بن الأكوع، قال: كنت أسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيته صلى بعد العصر ولا بعد الصبح قط.

خرجه الإمام أحمد.

وذكره الترمذي في (علله)، وقال: سألت عنه محمداً – يعني: البخاري -، فقال: لا أعرف ليزيد بن خصيفة سماعاً من سلمة بن الأكوع. قال: ولم نعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه.

كذا قال.

وقد خرجه من طريق سعيد بن أبي الربيع: حدثنا سعيد بن سلمة: ثنا يزيد ابن خصيفة، عن ابن سلمة بن الأكوع، عن أبيه سلمة – فذكره - فأدخل بينهما:(ابن سلمة) ، لكنه لم يسمه.

ص: 84

وقد خرج البخاري فيما سبق حديث معاوية، أنه قال: إنكم لتصلون صلاة، لقد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيناه يصليها، ولقد نهى عنها – يعني: الركعتين بعد العصر.

وقد ذكرنا فيما سبق عن عائشة حديثاً في هذا المعنى – أيضا -، وأنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة إلا أتبعها ركعتين، غير الغداة وصلاة العصر؛ فإنه كان يجعل الركعتين قبلهما.

يستأنس لدعوى النسخ: بقول أبي هريرة: قد كنا نفعله – يعني: الصلاة بعد العصر -، ثم تركناه.

خرجه الإمام أحمد من طريق معاوية بن صالح، عن عبد الله بن أبي قيس، أنه سأل عائشة عن الركعتين بعد العصر – فذكر حديثها.

قال عبد الله بن أبي قيس: وسألت أبا هريرة عنه؟ فقال: قد كنا نفعله، ثم تركناه.

ويحتمل عندي: أن يجمع بين أحاديث عائشة المختلفة في هذا الباب بوجه آخر غير ما تقدم، وهو:

مسلك رابع:

لم نجد أحداً سبق إليه، وهو محتمل:

فنقول: يمكن أن تكون عائشة – رضي الله عنها لما بلغها عن عمر وغيره من الصحابة النهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ظنت أنهم ينهون عن الصلاة بمجرد دخول وقت العصر، كما قال ذلك كثير من العلماء أو أكثرهم في النهي عن الصلاة بعد الفجر، أن النهي يدخل بطلوع الفجر كما سبق ذكره.

وكانت عائشة عندها علم من النبي صلى الله عليه وسلم، أنه يصلي قبل صلاة العصر ركعتين في بيتها، وكان عندها رواية عن

ص: 85

أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في بيتها مرة ركعتين بعد العصر، فكانت ترد بذلك كله قول من نهى عن الصلاة بعد العصر.

فإذا وقع التحقيق معها في الصلاة بعد صلاة العصر كما أرسل إليها معاوية يسألها عن ذلك تقول: لا أدري، وتحيل على أم سلمة؛ لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العصر لم تره عائشة، إنما أخبرتها به أم سلمة، وإنما رأت عائشة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها؛ وذلك بعد دخول وقت العصر وقبل صلاة العصر، مع أنها كانت –احياناً – تروي حديث أم سلمة وترسله، ولا تسمي من حدثها به.

وهذا وجه حسن يجمع بين عامة اختلاف الأحاديث في هذا الباب، إلا أنه يشكل عليه أحاديث:

منها: رواية يحيى بن قيس: اخبرني عطاء: أخبرتني عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدخل عليها بعد صلاة العصر إلا صلى ركعتين.

خرجه الإمام أحمد عن محمد بن بكر البرساني، عن يحيى، به.

ورواه أحمد بن المقدام وغيره، عن محمد بن بكر، ولم يذكروا لفظة:(صلاة) .

ولعل هذه اللفظة رواها محمد بن بكر بما فهمه من المعنى، فكان تارةً يذكرها، وتارةً لا يذكرها، فإن المتبادر عند إطلاق الصلاة بعد العصر الصلاة بعد صلاة العصر، لا بعد وقت العصر، مع احتمال إرادة المعنى الثاني.

وقد روي عن عائشة – أيضا -، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع ركعتين بعد

ص: 86

الصبح.

وقد خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ.

والمراد: بعد وقت الصبح، لا بعد صلاته، بغير إشكال.

ومنها: ما روى خلاد بن يحيى: ثنا عبد الواحد بن أيمن: حدثني أبي، قال: دخلت على عائشة، فسألتها عن ركعتين بعد العصر؟ فقالت: والذي ذهب بنفسه، ما تركهما حتى لقي الله. فقال: يا أم المؤمنين، فإن عمر كان ينهى عنها ويشدد فيها؟ قالت: صدقت، كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس العصر، فإذا فرغ دخل بيوت نسائه فصلاهما؛ لئلا يروه فيجعلوها سنة، وكان يحب ما خف على أمته.

وهذا تصريح بأنه كان يصليهما بعد صلاة العصر.

ويعضده –أيضا -: رواية الأسود ومسروق، عن عائشة، قالت: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيني في يوم بعد العصر إلا صلى ركعتين.

وقد خرجه البخاري فيما سبق.

وقد روي –أيضا - بنحو هذا اللفظ، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: ما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العصر إلا صلى ركعتين عندي.

وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل على عائشة بعد صلاة العصر، كما في حديث هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من العصر ودخل على نسائه فيدنو من إحداهن – وذكرت قصة

ص: 87

حفصة والعسل.

وقد خرجه البخاري في (النكاح) .

ويجاب عن ذلك كله: بأن رواية خلاد بن يحيى قد خالفه فيها أبو نعيم، لم يذكر ما ذكره خلاد.

وقد خرج البخاري حديث أبي نعيم كما سبق دون حديث خلاد.

وقد دل على أنه غير محفوظ: أن فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل بيوت نسائه فيصليها.

وقد صح عن أم سلمة كما تقدم أنها قالت: لم أره صلاها إلا يوماً واحداً، وذكرت سبب ذلك.

وأمادخوله صلى الله عليه وسلم على نسائه بعد العصر، فذاك كان يفعله دائماً أو غالباً، وعائشة إنما أخبرت عما رأته يفعله في يومها المختص بها.

يدل على ذلك: ما خرجه مسلم في (صحيحه) من حديث شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود ومسروق، قالا: نشهد على عائشة أنها قالت: ما كان يومه الذي كان يكون عندي إلا صلاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي – تعني: الركعتين بعد العصر.

فتبين بهذا أنها أرادت يومها المختص بها الذي كان يكون مكثه عندها في بيتها، فكان يتوضأ عندها للعصر ويصلي ركعتين، ثم يخرج للصلاة، وربما كان يدخل بيتها في وقت العصر كذلك.

فدل هذا: على أن مرادها: انه كان يصلي ركعتين بعد دخول وقت العصر، ولكن كان ذلك قبل صلاة العصر، وكانت تظن أن هذا يرد قول عمر ومن وافقه بالنهي عن الصلاة بعد العصر، وإنما كان مراد عمر

ص: 88

وغيره من الصحابة: النهي عن الصلاة بعد صلاة العصر.

ولاشتباه الأمر في هذا على كثير من الناس كان كثير من الرواة يروي حديث عائشة بالمعنى الذي يفهمه منه، ولا يفرق بين وقت العصر وفعل العصر، فوقع في ذلك اضطراب في الفاظ الروايات.

وقد ظهر بهذا أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى ركعتين بعد صلاة العصر، إلا يوم صلاهما في بيت أم سلمة، وكانت عائشة ترويه عنها – أحياناً -، كما في حديث ذكوان عنها، وأحياناً ترسله، كما في حديث أم سلمة عنها.

وفي رواية ابن أبي لبيد، عن أبي سلمة، أن عائشة لما أرسل اليها معاوية يسألها عن ذلك، قالت:(لا علم لي) – تشير إلى أنها ليس عندها عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء سمعته منه أو راته يفعله – (ولكن سلوا أم سلمة) – تشير إلى أنها هي التي أخبرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنها رأته يفعل ذلك.

وفي رواية محمد بن أبي حرملة، عن عائشة، أنها حدثت عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أم سلمة، فإن كان هذا محفوظاً فقد أرسلت الحديثين عنها، ويحتمل أن تكون أخبرت عما رأته، وأن يكون مرادها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين قبل وقت العصر – تعني: بعد الظهر -، فشغل عنهما أو نسيهما، ثم صلاهما بعد العصر - تعني: بعد وقت العصر، قبل صلاة العصر -، ثم أثبتهما من حينئذ، فداوم عليهما قبل صلاة العصر وبعد دخول وقت صلاة العصر.

ص: 89

ورواية ابن أبي لبيد أشبه من رواية ابن أبي حرملة، وكل منهما ثقة مخرج له في (الصحيحين) .

وقال البيهقي في حديث ابن أبي لبيد: إنه حديث صحيح.

وإنما رجح أبن عبد البر رواية ابن أبي حرملة على رواية ابن أبي لبيد لموافقته في الظاهر لما فهمه من سائر الرواة عن عائشة في الصلاة بعد العصر، وقد بينا الفرق بينهما

فإن قيل: فقد فرقت عائشة بين ركعتي الفجر والعصر، فقالت:(لم يكن يدع ركعتين قبل الفجر، وركعتين بعد العصر) ، كما في حديث الأسود وغيره، عنها كما سبق، ولو أرادت الوقت دون الفعل لسوت بينهما، وقالت: بعد الفجر وبعد العصر.

فالجواب عنه من وجهين:

أحدهما: أنه روي عنها أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدع ركعتين بعد الصبح. وقد خرجه الإمام أحمد من رواية ابن المنتشر، عنها.

فهذا كقولنا: لا يدع ركعتين بعد العصر سواء.

والثاني: أن ركعتي الفجر لم يكن فيها اختلاف بين الصحابة أنها قبل الصلاة، ولم يكن أحد منهم يصلي بعد الصبح تطوعاً، ولا نقله عن

ص: 90

النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك كانت أحياناً تقول: كان يصلي قبل الفجر، وأحياناً تقول: بعد الصبح؛ لأن المعنى مفهوم.

وأماالركعتان بعد العصر، فهما اللتان وقع فيهما الاختلاف بين الصحابة، وكان كثير منهم يصليهما وكان ابن الزبير قد أشاعهما بعد موت عمر، وكان عمر في خلافته ينهى عنهما، ويعاقب عليهما، وكانت عائشة تخالفه في ذلك، وكانت تروي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عندها بعد العصر؛ لترد على من قال: لا يصلى بعد العصر.

ولكن ليس في روايتها ما يرد عليهم؛ لأنهم إنما نهوا عن الصلاة بعد صالة العصر، وهي كان عندها علم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعد دخول وقت العصر. ولعل عمر كان ينهى عن الصلاة بعد دخول وقت العصر، كما نهى ابنه وغيره عن الصلاة بعد طلوع الفجر سوى ركعتي الفجر، وكانت عائشة تنكر ذلك لكنها كانت تسوى بين حكم ما قبل الصلاة وبعدها في الرخصة في الصلاة.

فتبين بهذا كله: أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى ركعتين بعد صلاة العصر، سوى ما روته عنه أم سلمة وحدها.

فإن قيل: فقد سبق عن زيد بن خالد وتميم الداري، أنهما رويا عن النبي صلى الله عليه وسلم،

[أنه] صلاهما.

قيل: ليس إسناد واحد منهما مما يحتج به؛ لأن حديث تميم منقطع الإسناد، وحديث زيد بن خالد فيه مجهولان، ولعل مرادهما:

ص: 91

الصلاة بعد وقت العصر، قبل صلاة العصر – أيضا.

ولعل كثيراً ممن نقل عنه من الصحابة الصلاة بعد العصر أرادوا ذلك – أيضا -، ومع هذا فلا يقطع عليهم أنهم أرادوا الصلاة بعد صلاة العصر.

وقد رويت الصلاة بعد العصر عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، من رواية أبي دارس النصري: حدثنا أبو بكر بن أبي موسى، عن أبيه، أنه كان يصلي بعد العصر ركعتين، ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعد العصر في منزل عائشة.

خرجه بقي بن مخلد.

وخرجه الإمام أحمد مختصراً، ولفظه: عن أبي موسى، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين بعد العصر.

وهذا – أيضا - يحتمل أنه رآه يصلي بعد دخول وقت العصر.

وأبو دارس، اسمه: إسماعيل بن دارس، قال ابن المديني: هو مجهول لا أعرفه.

وقال ابن معين: ضعيف الحديث. وقال مرة: ما به بأس إنما روى حديثاً واحداً. وقال أبو حاتم: ليس بالمعروف.

ويقال فيه – أيضا -: أبو دراس، وقد فرق بينهما ابن أبي حاتم، وهو واحد.

وله طريق آخر من رواية يحيى بن عاصم صاحب أبي عاصم: حدثنا محمد ابن حمران بن عبد الله: حدثني شعيب بن سالم، عن

ص: 92

جعفر بن أبي موسى، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العصر ركعتين، وكان أبو موسى يصليهما.

خرجه الطبراني في (الأوسط) .

وهذا الإسناد مجهول لا يعرف.

وروى محمد بن عبيد الله الكوفي، عن [أبي] إسحاق، عن البراء، قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة غزوة، فما رأيته تاركاً ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد العصر.

غريب منكر، والكوفي، لعله: العرزمي، وهو متروك، وإلا فهو مجهول.

فهذه أحاديث الصلاة بعد العصر وما فيها.

ويمكن أن نسلك في حديث عائشة مسلكاً آخر، وهو: أن صلاة الركعتين للداخل إلى منزله حسن مندوب إليه، وقد ورد في فضله أحاديث في أسانيدها نظر.

فخرج البزار في الأمر به، وأنه يمنع مدخل السوء: حديثاً عن أبي هريرة – مرفوعاً، في إسناده ضعف.

وروى الأوزاعي، عن عثمان بن أبي سودة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(صلاة الأوأبين) – أو قال: (صلاة الأبرار – ركعتان إذا دخلت بيتك،

ص: 93

وركعتان إذا خرجت منه) .

وهذا مرسل.

ويروى عن هشام بن عروة، عن عائشة، قالت: ما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي قط إلا صلى ركعتين.

قال أبو بكر الأثرم: هو خطأ.

كأنه يشير إلى أنه مختصر من حديث الصلاة بعد العصر.

وممن روي عنه أنه كان يصلي إذا دخل بيته وإذا خرج منه: عبد الله بن رواحة، وثابت البناني.

وإذا كانت هذه صلاة مستحبة فلا يبعد أن تلتحق بذوات الأسباب فيها، كتحية المسجد ونحوها، وفي هذا نظر. والله أعلم.

ومقصود البخاري بهذا الباب: أنه يجوز قضاء الفوائت من النوافل الراتبة فيما بعد العصر، كما يقوله الشافعي.

وقد احتج الشافعي – أيضا – لذلك: بما روى سعد بن سعيد الأنصاري، قال: حدثني محمد بن إبراهيم التيمي، عن قيس بن عمرو، قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(صلاة الصبح ركعتان)، فقال: إني لم [أكن] صليت الركعتين اللتين قبلها، فصليتهما الآن، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم.

وقال

ص: 94

الترمذي: إسناده ليس بمتصل؛ محمد بن إبراهيم التيمي لم يسمع من قيس. ورواه بعضهم عن سعد، عن محمد، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فرأى قيساً.

وذكر أبو داود أن يحيى بن سعيد وأخاه عبد ربه روياه – مرسلاً -، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فرأى قيساً يصلي.

وقيس جدهما – هو أخوهما.

وقد روى الليث، عن يحيى بن سعيد، عن أبيه، عن جده، أنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي – فذكره.

خرجه ابن حبان في (صحيحه) والدارقطني والحاكم.

وزعم أنه صحيح، وليس كذلك.

قال ابن أبي خيثمة: ذكر عن أبيه، أنه قال: يقال: إن سعيداً لم يسمع من أبيه قيس شيئاً.

فهو – أيضا – مرسل.

وقد ضعف أحمد هذا الحديث، وقال: ليس بصحيح.

وقد رواه عبد الملك بن أبي سليمان، عن قيس بن سعد، عن عطاء،

ص: 95

عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل.

وذكر أبو داود والترمذي: أن ابن عيينة قال: سمع هذا الحديث عطاءً من سعد بن سعيد.

فعاد الحديث إلى حديث سعيد المتقدم.

وقد رواه الضعفاء، فأسندوه عن عطاء، وإسناده ووصله وهم:

فرواه أيوب بن سويد، عن ابن جريح، عن عطاءٍ، عن قيس.

وأيوب ضعيف، وهم في إسناده له عن قيس.

ورواه سعيد بن راشد السماك، عن عطاء، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وسعيد هذا، ضعيف.

ورواه محمد بن سليمان بن أبي داود الحراني، عن أبيه، عن عطاء، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ومحمد بن سليمان، يقال له: البومة، ضعيف.

والصحيح عن عطاء: المرسل -: قاله أبو حاتم والدارقطني وغيرهما.

وممن ذهب إلى هذا الحديث ورخص في صلاة ركعتي الفجر بعد صلاة الفجر وقبل طلوع الشمس: عطاء وطاوس وابن جريج،

ص: 96

والشافعي – فيما نقله عنه المزني.

وهو رواية عن أحمد، واختارها صاحب (المغني) ، وقصر الجواز على قضاء ركعتي الفجر بعدها، وقضاء السنن الراتبة بعد العصر، وقضاء الوتر بعد طلوع الفجر، لورود النص بذلك.

وقد نص أحمد في رواية ابن منصور على جواز قضاء السنن الفائتة بعد العصر، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية المروذي على قضاء الوتر بعد طلوع الفجر.

واختلفت الرواية عنه في قضاء سنة الفجر بعد الصلاة. والمشهور عند أكثر أصحابنا: أن الحكم يتعدى إلى قضاء جميع السنن والرواتب في جميع أوقات النهي، وفعل جميع ذوات الأسباب فيها، كصلاة الكسوف وتحية المسجد، وحكوا في جواز ذلك كله روايتين عن أحمد في جميع أوقات النهي.

ولو قيل: إن الخلاف مختص بالوقتين الطويلين دون الأوقات الثلاثة الضيقة لكان أقرب.

ولا يعرف لأحمد نص بجواز شيء من ذلك في الأوقات الضيقة.

هذا، والتفريق هو قول إسحاق بين راهويه، وهو متوجه.

والمشهور عن أحمد: أن ذلك لا يفعل في أوقات النهي، وأن سنة

ص: 97

الفجر إنما تقضى بعد طلوع الشمس.

حتى نقل عبد الله بن أحمد، أنه سأل أباه، فقال له: حكي عنك أنك تقول: يصليهما إذا فرغ من الصلاة؟ فقال: ما قلت هذا قط.

ولابن بطة في ذلك مصنف مفرد في منع ذلك، وهو اختيار الخرقي وأبي الحسن التميمي والقاضي أبي يعلي.

وحكي جوازه عن أبي بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا، ورجحه طائفة من المتأخرين منهم.

وقال ابن أبي موسى: الأظهر عنه أنه لا يفعل شيئاً من ذلك في وقت النهي، لكنه استثنى من ذلك قضاء قيام الليل والوتر بعد طلوع الفجر.

وروى نافع، عن ابن عمر، أنه كان إذا فاتته ركعتا الفجر قضاهما من الضحى.

وروى عنه عطية، أنه قضاها بعد الصلاة.

ورواية نافع أصح عن أحمد وغيره.

وممن قال: يقضيها بعد طلوع الشمس: القاسم بن محمد والأوزاعي وأبو حنيفة ومالك وإسحاق وأبو ثور، ونقله البويطي عن الشافعي.

وروى عمرو بن عاصم، عن همام، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما إذا طلعت الشمس) .

ص: 98

خرجه الترمذي وابن حبان في (صحيحه) والحاكم.

وقال: صحيح على شرطهما.

وروى مروان بن معاوية، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتي الفجر حتى طلعت الشمس.

قال أبو حاتم الرازي: هذا اللفظ اختصره من حديث نوم النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر، وأنه استيقظ بعد أن طلعت الشمس، فصلى ركعتي الفجر، ثم صلى الفجر، فقد قضى السنة والفريضة معها بعد طلوع الشمس.

ويدل على ذلك: أن ابن ماجه خرج الحديث، ولفظه: إن النبي صلى الله عليه وسلم نام عن ركعتي الفجر، فقضاهما بعد ما طلعت [الشمس] .

وخرج ابن بطة من رواية أبي عامر الخزاز، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، قال: صليت الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقمت أصلي الركعتين، فجذبني النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:(أتصلي الفجر أربعاً؟) .

واستدل به على منع القضاء بعد الصلاة.

وقد خرجه الإمام أحمد وابن حبان في (صحيحه) والحاكم،

ص: 99

وعندهم: أنه قام ليصلي الركعتين بعد إقامة الصلاة.

وهو الصحيح.

ومما يدل على منع قضاء السنن بعد صلاة الفجر والعصر: أن هاتين الصلاتين يعقبهما وقت نهي عن الصلاة، فلذلك لم تشرع بعدهما صلاة لهما كالظهر والمغرب والعشاء، فإذا منع من الصلاة بعدهما في وقتهما لأجلهما، ولم يكن لهما سنة راتبة بعدهما كذلك، فلأن يمنع من صلاة سنة غيرهما بعدهما في وقت النهي مع فوات وقت الصلاة أولى وأحرى.

وهذا بخلاف قضاء الفرائض في هذه الأوقات، فإنه لمّا جاز فعل الفرض الحاضر فيهما ولو في وقت الكراهة جاز قضاء غيرهما من الفرائض – أيضا.

فتبين بهذا: أن القضاء تابع للأداء، فحيث جاز أداء الفرض جاز قضاؤه، وحيث منع أداء النفل منع من قضائه، بل القضاء أولى بالمنع من الأداء.

ولهذا كان ما بعد طلوع الفجر إلى صلاة الوقت وقتاً لأداء سنتها الراتبة، وليس وقتاً لقضاء شيء من النوافل كما عند كثير من العلماء.

ومنهم من رخص في قضاء الوتر وقيام الليل فيه – كما سبق – إلحاقاً للقضاء بالأداء.

ص: 100

‌34 - باب

التبكير بالصلاة في يوم غيم

ص: 101

594 -

حدثنا معاذ بن فضالة: ثنا هشام، عن يحيى - هو: ابن أبي كثير -، عن أبي قلابة، أن أبا المليح حدثه، قال: كنا مع بريدة في يوم ذي غيم، فقال: بكروا بالصلاة؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) .

قد سبق هذا الحديث في (باب: ترك صلاة العصر)، وذكرنا فيه: مناقشة الإسماعيلي للبخاري في تبويبه عليه: (التبكير بالصلاة في يوم غيم) ، وحكم التبكير في الغيم بما فيه كفاية.

ص: 101

‌35 - باب

الأذان بعد ذهاب الوقت

ذكر البخاري أربعة أبواب - هذا أولها - في قضاء الصلوات الفوائت، وأول الأبواب: ذكر الأذان للصلاة الفائتة إذا قضاها بعد ذهب وقتها.

وقال:

ص: 102

595 -

حدثنا عمران بن ميسرة: ثنا محمد بن فضيل: ثنا حصين، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فقال بعض القوم: لو عرست بنا يا رسول الله. قال: (أخاف أن تناوموا عن الصلاة) . قال بلال: [إني] اوقظكم، فاضطجعوا، وأسند بلال ظهره إلى راحلته، فغلبته عيناه، فنام، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشمس، فقال:(يا بلال، أين ما قلت؟) قال: ما ألقيت علي نومة مثلها قط. قال: (إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء، يا بلال، قم فأذن بالناس بالصلاة) ، فتوضأ، فلما ارتفعت الشمس وأبياضت قام فصلى.

ص: 102

(التعريس) : النزول للنوم.

وقيل: يختص بآخر الليل، وحكى ابن عبد البر الاتفاق عليه.

وفي الحديث: دليل على أن من نام قرب وقت الصلاة وخشي من أن يستغرق نومه الوقت حتى تفوته الصلاة، فوكل من يوقظه، أنه يجوز له أن ينام حينئذ، وقد ذكرنا ذلك في (باب: النوم قبل العشاء) .

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام قرب طلوع الفجر ينام على حالة لا يستثقل معها في نومه، لتكون أقرب إلى استيقاظه.

وقد روى الإمام أحمد حديث أبي قتادة هذا بسياق مطول، وفيه: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عرس وعليه ليل توسد يمينه، وإذا عرس الصبح وضع رأسه على كفه اليمنى، وأقام ساعده.

وقد خرجه مسلم من طريق الإمام أحمد بدون هذه الزيادة.

وظن جماعة، أنها في سياق حديث مسلم، فعزوها إليه، ومنهم: الحميدي وأبو مسعود الدمشقي، حتى إنه عزاها بانفرادها إلى مسلم، ولعلهم وجدوها في بعض نسخ (الصحيح) . والله أعلم.

وقوله: (إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء) يدل على أن النائم تقبض روحه.

وهذا مطابق لقول الله عز وجل? {اللَّهُ

ص: 103

يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42] .

فدلت الآية على أن النوم وفاة، ودل الحديث على أن النوم قبض، ودلاً على أن النفس المتوفاة هي الروح المقبوضة.

وفي حديث أبي جحيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في نومهم عن الصلاة، أنه قال لهم:(إنكم كنتم أمواتاً، فرد الله إليكم أرواحكم) .

خرجه أبو يعلي الموصلي والأثرم وغيرهما.

ويشهد لهذا: قول النبي صلى الله عليه وسلم عند استيقاظه من منامه: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا) .

وفي حديث أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قصة نومهم عن الصلاة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن هذه الأرواح جارية في أجساد العباد، فيقبضها إذا شاء، ويرسلها إذا شاء) .

خرجه البزار.

وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لما استيقظوا:(أي بلال)، فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ – بأبي [أنت] وأمي يا رسول الله – بنفسك.

وفيه: دليل لمن لا يفرق بين الروح والنفس؛ فإنه أقر بلالاً على قوله: إن الله أخذ بأنفسهم، مع قوله:(إن الله قبض أرواحنا) .

ص: 104

وقد قيل: إن ذاتهما واحدة وصفاتهما مختلفة، فإذا اتصفت النفس بمحبة الطاعة والانقياد لها نهى روح، وإن اتصفت بالميل إلى الهوى المضر والانقياد لها فهي نفس.

وقد تسمى في الحالة الأولى نفساً – أيضا -، أمامع قيد، كقوله تعالى: ? {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27]، وقوله {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2] ، وأمامع الاطلاق، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في يمينه:(والذي نفسي بيده) .

وفي الآية والحديث: دليل على أن قبض الأرواح من الأبدان لا يشترط له مفارقتها للبدن بالكلية، بل قد تقبض ويبقى لها به منه نوع اتصال كالنائم.

ويستدل بذلك على أن اتصال الأرواح بالأجساد بعد الموت لإدراك البدن النعيم والعذاب، أو للسؤال عند نزول القبر لا يسمى حياة تامة، ولا مفارقتها للجسد بعد ذلك موتاً تاماً، وإلا لكان الميت يحيى ويموت في البرزخ مراراً كثيرة.

وهذا يرد قول من أنكر إعادة الروح إلى الجسد عند السؤال والنعيم أو العذاب.

وبسط القول في هذا يتسع، وقد ذكر في موضع آخر.

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حكم الله في قضائه عليهم بالنوم عن الصلاة:

وفي حديث ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة نومهم عن الصلاة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن الله عز وجل لو شاء أن لا تناموا عنها لم تناموا، [ولكن] أراد أن يكون لمن بعدكم، فهذا لمن نام أو نسي) .

خرجه الإمام أحمد.

ص: 105

وخرج – أيضا - بإسناده، عن ابن عباس، أنه قال عقب روايته لهذا الحديث: ما يسرني به الدنيا وما فيها – يعني: للرخصة.

وفي إسناده مقال.

وقد روي عن مسروق مرسلاً، وأن هذا الكلام في آخره من قول مسروق، وهو أصح -: قاله أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان.

ويشبه هذا الحديث: [ما] ذكره مالك في (الموطأ) ، أنه بلغه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إنما أنسى لأسن) .

وقد قيل: إن هذا لم يعرف له إسناد بالكلية.

ولكن في (تاريخ المفضل بن غسان الغلأبي) : حدثنا سعيد بن عامر، قال: سمعت عبد الله بن المبارك قال: قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنسى – أو أسهو – لأسن) .

وقوله صلى الله عليه وسلم: (يا بلال، قم فأذن للناس بالصلاة) دليل على أن الصلاة الفائتة يؤذن لها بعد وقتها عند فعلها، وهو مقصود البخاري بهذا.

وقد خرج البخاري في (أبواب التميم) حديث النوم عن الصلاة من حديث عمران بن حصين، بسياق مطول، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم، فقال:(لا ضير – أو لا يضير -، ارتحلوا) ، فارتحلوا، فسار غير بعيد، ثم نزل فدعا بالوضوء، فتوضأ، ونودي بالصلاة فصلى بالناس.

ص: 106

وقد خرج مسلم من حديث سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الله ابن رباح، عن أبي قتادة، بسياق مطول، وفيه: فكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم والشمس في ظهره. قال: فقمنا فزعين، ثم قال:(اركبوا) ، فركبنا، فسرنا حتى إذا ارتفعت الشمس نزل، ثم دعا بميضأة، فتوضأ وضوءاً دون وضوء، ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم صلى الغداة، فصنع كما كان يصنع كل يوم – وذكر بقية الحديث – وفي آخره -: أن عمران بن حصين صدق عبد الله بن رباح، لما سمعه يحدث به عن أبي قتادة.

وخرجه الإمام أحمد من حديث قتادة، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، وقال في حديثه: وأمر بلالاً فأذن، فصلى ركعتين، ثم تحول من مكانه، فأمره فأقام الصلاة، فصلى صلاة الصبح.

وخرج مسلم – أيضا – من رواية الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - فذكر هذه القصة، وقال في آخر الحديث: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتادوا) ، فاقتادوا رواحلهم شيئاً، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بلالاً فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح.

ص: 107

وقد اختلف علي الزهري في وصله بذكر أبي هريرة، وإرساله عن سعيد بن المسيب.

وصحح أبو زرعة ومسلم وصله، وصحح الترمذي والدارقطني إرساله.

وذكر الاختلاف في ذلك أبو داود، وخرجه من طريق معمر موصولاً، وذكر في حديثه، قال: فأمر بلالاً فأذن، وأقام وصلى.

وذكر أبو داود: أن مالكاً وابن عيينة والأوزاعي وغيرهم لم يذكروا في حديثهم: الأذان.

وخرجه مسلم من حديث أبي حازم، عن أبي هريرة، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثم صلى سجدتين، وأقيمت الصلاة فصلى الغداة.

وقد خرجه النسائي من حديث عطاء بن السائب، عن بريد بن أبي مريم، عن أبيه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر – فذكر الحديث، وقال في آخره: فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤذن فأذن، ثم صلى الركعتين قبل الفجر، ثم أمره فأقام، فصلى بالناس.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود ذكر الأذان والإقامة وصلاة ركعتي الفجر بينهما في هذه القصة، من حديث الحسن، عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والحسن، لم يسمع من عمران عند الأكثرين.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود – أيضا - كذلك من حديث

ص: 108

عمرو بن أمية الضمري. ومن حديث ذي مخبر الحبشي، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وخرج الإمام أحمد ذكر الأذان والإقامة من حديث إبن مسعود – أيضا – في هذه القصة.

وقد اختلف العلماء فيمن فاتته صلاة وقضاها بعد وقتها: هل يشرع له أن يؤذن لها ويقيم، أم يقيم ولا يؤذن؟ وفي ذلك أقوال:

أحدها: أنه يؤذن ويقيم، وهو قول أبي حنيفة والشافعي في أحد أقواله، وأحمد في ظاهر مذهبه، وأبي ثور وداود.

والثاني: يقيم ولا يؤذن، وهو قول الحسن والأوزاعي ومالك، والشافعي في قول له، وحكي رواية عن أحمد.

لأن الأذان للإعلام بالوقت وقد فات، والإقامة للدخول في الصلاة وهو موجود.

والثالث: إن أمل اجتماع الناس بالأذان، وإلا فلا، وهو قول للشافعي.

لأن الأذان إنما يشرع لجمع الناس.

والرابع: إن كانوا جماعة أذن وأقام، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإن فاته وحده أقام ولم يؤذن، وهو قول إسحاق.

والخامس: إن كان في سفر أذن وأقام، وإن كان في حضر أجزأته

ص: 109

الإقامة -: نقله حرب، عن أحمد.

ومأخذ الاختلاف بين العلماء: هل الأذان حق للوقت، أو حق لأقامة الصلاة المفروضة، أم حق للجماعة – وعلى هذا؛ فهو يشرع للجماعة بكل حال -، أم إذا كانوا متفرقين وكان الأذان يجمعهم؟

وعلى رواية حرب عن أحمد، فيكتفي بأذان أهل المصر عن الأذان للفائتة.

قال أصحابنا والشافعية: ويشرع للفائتة رفع الصوت بالأذان، إلا أن يكون في مصر ويخشى التلبيس على الناس، فيسر به، وإنما كان أذان بلال في فلاة، ولم يكن معهم غيرهم.

وقوله في حديث أبي قتادة الذي خرجه البخاري: (فاستيقظ وقد طلع حاجب الشمس) – إلى قوله -: (فلما ارتفعت الشمس وأبياضت قام فصلى) .

وهذا قد يوهم أنه أخر الصلاة قصدا حتى زال وقت النهي.

وقد خرجه البخاري في آخر (صحيحه) بلفظ آخر، وهو:(فقضوا حوائجهم وتوضئوا إلى أن طلعت الشمس وأبيضت، فقام فصلى) .

وهذا يشعر بأنه لم يكن التأخير قصداً، بل وقع اتفاقاً حتى كمل الناس قضاء حوائجهم – وهو كناية عن التخلي – ووضوئهم.

وفي رواية مسلم لحديث أبي قتادة، أنه صلى الله عليه وسلم سار حتى ارتفعت الشمس، ثم نزل فصلى.

وخرج النسائي من حديث حبيب بن أبي حبيب، عن عمرو

ص: 110

بن هرم، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، قال: أدلج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عرس، فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس – أو بعضها -، فلم يصل حتى ارتفعت الشمس، فصلى، وهي صلاة الوسطى.

حبيب هذا، خرج له مسلم. وقال أحمد: لا أعلم به بأساً. وقال يحيى القطان: لم يكن في الحديث بذاك.

وقد اختلف الناس في قضاء الفوائت في أوقات النهي عن الصلاة الضيقة والمتسعة:

فقالت طائفة: لا يقضي الصلاة في وقت نهي ضيق خاصة، وهو وقت الطلوع والغروب والاستواء.

هذا قول أبي حنيفة وأصحابه، ورواية عن سفيان الثوري.

وتعلقوا بظاهر حديث أبي قتادة وابن عباس.

ولذلك قالوا: إن من طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الصبح فسدت صلاته، كما سبق كذلك.

وروي عن ابن عباس وكعب بن عجرة وأبي بكرة ما يدل على مثل ذلك.

وحكي عن بعض المتأخرين من أصحابنا، ورواية عن أحمد، أنه لا يقضي الفائتة في وقت نهي.

وهذا لا يصح عن أحمد.

وجمهور العلماء: على أن الفوائت تقضى في كل وقت، سواء كان وقت نهي أو غيره.

ص: 111

وروي عن علي وابن عمر وابن عباس وأبي ذر.

وهو مذهب النخعي والثوري والأوزاعي والثوري في رواية، ومالك والشافعي وأحمد.

وكل هؤلاء رأوا أن النهي عن الصلاة في الأوقات المخصوصة إنما توجه إلى النفل دون الفرض، بدليل أمره صلى الله عليه وسلم بذلك من صلى ركعة من الفجر ثم طلعت عليه الشمس أن يصلي معها أخرى، وقد تمت صلاته، وقد سبق ذكره.

واستدلوا – أيضا - بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا أدركها) .

وهذا يعم كل وقت ذكر فيه، سواء كان في أوقات النهي أو غيرها.

فإن قيل: فقد عارض ذلك عموم النهي عن الصلاة في أوقات النهي، فإنه لم يخص مفروضة من نافلة.

قيل: تحمله على النافلة ونخص الفرض من عمومه؛ بدليل فرض الوقت؛ فإنه يجوز فعله في وقت النهي، كما يصلى العصر في وقت غروب الشمس، وهذا مجمع عليه، وليس فيه خلاف، إلا عن سمرة، وبدليل لمن طلعت عليه الشمس وهو يصلي الفجر أن يتمها؛ ولأن العمومين إذا تعارضا وكان أحدهما موجباً ملزماً، والآخر مانعاً حاظراً، فإنه يقدم الواجب الملزم، فإنه أحوط.

ويدل عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا أبا سعيد بن المعلى وهو يصلي، فلم يجبه حتى سلم، أنكر عليه تأخره للإجابة، وقال

ص: 112

له: (ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُمْ} ؟ [الأنفال: 24] .

وهذا يدل على أن عموم النص الموجب الملزم مقدم على عموم النص الحاظر المانع، وهو النهي عن الكلام في الصلاة.

وهذا بخلاف النصوص العامة المبيحة، أو النادبة، فإنها لا تقدم على المانعة الحاظرة؛ ولهذا كان المرجح أنه لا يصلي في أوقات النهي.

فأماصلاة الركعتين والإمام يخطب، كما دلت عليه السنة، فإنه لم يعارض نص الأمر للداخل إلى المسجد بالصلاة نص آخر يمنع الصلاة والإمام يخطب.

وفي حديث أبي قتادة الذي خرجه مسلم، أنه صنع كما يصنع كل يوم.

وهذا يدل على أنه صلى الصبح كما كان يصليها كل يوم من غير زيادة ولا نقص.

وفي حديث ذي مخبر الحبشي، أنه قال: فصلى غير عجل.

وهذا يرد الحديث المروي عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح ذلك اليوم، فقرأ بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:

ص: 113

1] ، ثم قال:(صليت بكم بثلث القرآن، وربع القرآن)، وقال:(إذا نسيت صلاة الفجر إلى صلاة العشاء فذكرتها، [فابدأ] ، فإنها كفارتها) .

ص: 113

خرجه ابن عدي من رواية جعفر بن أبي جعفر الأشجعي، عن أبيه، عن أبن عمر.

وجعفر هذا، قال البخاري فيه: منكر الحديث.

وروى أبو داود في (المراسيل) : ثنا يوسف بن موسى: ثنا جرير، عن علي بن عمرو الثقفي، قال: لما نام النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الغداة استيقظ، فقال (لنغيظن الشيطان كما أغاظنا) ، فقرأ يومئذ بسورة المائدة في صلاة الفجر.

وهذا غريب جداً.

وظاهر الأحاديث يدل على أنه جهر في صلاته تلك بالقراءة؛ فإنه صلى كما كان يصلي كل يوم، وقد تقدم في كثير من الروايات أنه صلى ركعتي الفجر، ولم يذكر ذلك في بعض الروايات.

وقد اختلف العلماء في قضاء ركعتي الفجر لمن نام عنها حتى تطلع الشمس:

فذهب الأكثرون إلى أنها تقضى قبل الصلاة المفروضة، منهم: أبو حنيفة والثوري والحسن بن حي والشافعي وأحمد وأبو ثور وداود، وهو قول أشهب وغيره من أصحاب مالك.

وسئل أحمد: هل قال أحد: لا يصلي ركعتي الفجر؟ قال: لا.

وقال مالك: لا يركع ركعتي الفجر، ويبدأ بالمفروضة. قال: ولم

ص: 114

يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ركعهما.

ومالك إنما قال بحسب ما بلغه من الروايات في هذا الباب، وقد صح عند غيره أنه صلى الله عليه وسلم ركعهما.

وقد روي في بعض طرق حديث أبي قتادة في هذا الباب زيادة أخرى، وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالوتر فقضاه.

قال أبو بكر الأثرم: ثنا عبد الحميد بن أبان الواسطي: ثنا خالد بن عمرو، عن شعبة، عن ثابت البناني، عن أنس – وعن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة -، أن النبي صلى الله عليه وسلم نام، فلم يستيقظ حتى ارتفعت الشمس، ثم استيقظ فقام، فأوتر، فصلى الركعتين، ثم صلى بأصحابه.

وذكر: (أنس) في إسناده ليس بمحفوظ.

وخالد بن عمرو، هو: القرشي الأموي الكوفي، ضعيف الحديث جداً.

وذكر محمد بن يحيى الهمداني في (صحيحه)، قال:: روى قتيبة، عن عبد الله بن الحارث، عن ثابت، عن بكر، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أيقظهم حر الشمس أمرهم أن يوتروا.

كذا ذكره تعليقاً، ولم يسنده.

ص: 115

وقد قال الإمام أحمد: لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى شيئاً من التطوع، إلا ركعتي الفجر والركعتين بعد العصر.

وهذا يدل على انه لم يثبت عنده قضاء الوتر؛ ولهذا نص في رواية غير واحد من أصحابه على أنه تقضى السنن الرواتب دون الوتر.

وروي عنه رواية أخرى، أنه يقضي الوتر.

وعلى قوله بقضاء الوتر، فهل يقضى ركعة واحدة، أو ثلاث ركعات؟ على روايتين عنه.

مأخذهما: أن الوتر، هل هو الثلاث، أو الركعة الواحدة، وما قبلها تطوع مطلق؟

وفي الأمر بقضاء الوتر بعد طلوع الفجر أحاديث متعددة يطول ذكرها.

وممن أمر بقضاء الوتر من النهار: علي وابن عمر، وهو قول الأوزاعي ومالك وأبي ثور.

وعن الأوزاعي، قال: يقضيه نهاراً، ولا يقضيه ليلاً بعد العشاء إذا دخل وقت وتر الليل؛ لئلا يجتمع وتران في ليلة.

وعن سعيد بن جبير، قال: يقضيه في الليلة التالية.

وقالت طائفة: من فاته الوتر وحده لم يقضه، ومن فاته الوتر مع صلاة الفجر قضاه قبلها.

وهذا قول إسحاق -: نقله عنه حرب.

ويتخرج رواية عن أحمد مثله؛ لأنه يرى الوتر بعد طلوع الفجر قبل صلاة الغداة.

وهل هو قضاء، أو أداء؟ حكي عنه فيه روايتان.

والقول بأنه أداء يحكى عن مالك وإسحاق، وهو قول كثير من

ص: 116

السلف؛ فإنه قد روي في وقت الوتر أنه من بعد صلاة الصبح، فمن لم يصل الصبح فوقت الوتر باقٍ في حقه، ولو طلع الفجر فكذا إذا لم يصل الغداة حتى تطلع الشمس.

وروي من حديث ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح يومئذ وصلى بعدها الضحى.

خرجه الهيثم بن كليب في (مسنده) .

وقد خرج مسلم من حديث سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم بعدما صلى بهم:(ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها) .

ومن حديث خالد بن سمير، [عن عبد الله بن أبي قتادة] ، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم:(فمن أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحاً فليقض معها مثلها) .

وقد ذهب إلى هذا سعد بن أبي وقاص وسمرة بن جندب، وأن من نام عن صلاة صلاها إذا ذكرها، وصلاها لمثلها من الغد.

وأنكر ذلك

ص: 117

عمران بن حصين، وأخذ بقوله جمهور العلماء.

وقد قيل: إن هذه اللفظة في هذا الحديث وهم -: قاله البخاري والبيهقي وغيرهما.

وقيل: معنى قوله: (فليصلها من الغد عند وقتها) ، أنه يصلي صلاة الغد الحاضرة في وقتها لئلا يظن أن وقتها تغير بصلاتها في غير وقتها.

ولكن [

] خالد بن سمير فهم منه غير هذا، فرواه بما فهمه.

وروى الحسن، عن عمران بن حصين، أنهم قالوا: يا رسول الله، ألا نعيدها في وقتها من الغد؟ قال:(أينهاكم ربكم عن الربا ويقبله منكم؟) .

خرجه الإمام أحمد.

وأماما روي من ارتحال النبي صلى الله عليه وسلم عن مكان نومه، وأمره بالارتحال، فقد روي التعليل بذلك بأنه منزل حضرهم فيه الشيطان.

ففي (صحيح مسلم) من حديث أبي حازم، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم:(ليأخذ كل رجل برأس راحلته؛ فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان) قال: ففعلنا.

وخرج أبو داود من رواية معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب،

ص: 118

عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم:(تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة) .

وقد استحب الانتقال لمن نام في موضع حتى فاته الوقت عن موضعه ذلك جماعة من العلماء، منهم: الشافعي وأحمد؛ لهذه الأحاديث.

وحكى ابن عبد البر عن قوم أنهم أوجبوا ذلك، وعن قوم أنهم أوجبوه في ذلك الوادي الذي نام فيه النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.

وقال قوم: لا يستحب ذلك؛ لأنه لا يطلع على حضور الشيطان في مكان إلا بوحي.

وهذا قول محمد بن مسلمة ومطرف، وابن الماجشون من المالكية، وأبي بكر الأثرم.

وهو ضعيف؛ فإن كل نوم استغرق وقت الصلاة حتى فات به الوقت فهو من الشيطان؛ فإنه هو الذي ينوم عن قيام الليل، ويقول للنائم: ارقد، عليك نوم طويل، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال في الذي نام حتى أصبح: (بال الشيطان في أذنه) .

وأماكم الشياطين ينبغي تجنب الصلاة فيها، كالحمام والحش وأعطان الإبل.

وأيضا؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: (تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة) يدل على أن كل مكان غفل العبد فيه عن الصلاة حتى فات وقتها ينبغي أن لا يصلي فيه، سواء كان بنوم أو غيره. والله أعلم.

ص: 119

وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وركع ركعتين في معرسه، ثم سار ساعة، ثم صلى الصبح.

قال ابن جريج: قلت لعطاء: أي سفر هو؟ قال: لا أدري.

وهذا المرسل مما يستدل به على صحة الصلاة في موضع النوم، وأن التباعد عنه على طريق الندب.

وروى وكيع، عن سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عطاء بن يسار، وقال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعتين بعدما جاوز الوادي، ثم أمر بلالاً فأذن وأقام، ثم صلى الفريضة.

وروي، عن عطاء بن يسار، أنها كانت في غزوة تبوك، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً فإذن في مضجعه ذلك، ثم مشوا قليلاً، ثم أقام فصلوا.

وكذا قال يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة: اخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو بتبوك أمر بلالاً أن يحرسهم لصلاة الصبح، فرقدوا حتى طلعت الشمس، فتنحى النبي صلى الله عليه وسلم عن مكانه ذلك، ثم صلى الصبح.

وضعف ابن عبد البر هذا القول؛ فإن في (صحيح مسلم) من حديث ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر، سار ليلاً حتى أدركه الكرى عرس – وذكر الحديث بطوله.

كذا في رواية مسلم.

ص: 120

وخرجه ابن حبان في (صحيحه) بلفظين: هذا أحدهما. والآخر: فيه: غزوة حنين.

ثم قال: إن صح ذكر (خيبر) في الخبر، فقد سمعه أبو هريرة عن صحابي آخر فأرسله، وإن كان (حنين)، فقد شهدها أبو هريرة. قال: والنفس إلى أنها حنين أميل

قلت: الصحيح: أن أبا هريرة قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد فتحها.

وقد خرج البخاري ذلك في (صحيحه) في (المغازي) من حديث أبي هريرة.

وخرجه الإمام أحمد بإسناد آخر عن أبي هريرة.

وفي (الصحيحين) عن سالم مولى ابن مطيع، قال: سمعت أبا هريرة يقول: افتتحنا خيبر ولم نغنم ذهباً ولا فضة – الحديث.

ومن زعم: أن ذكر خيبر وهم، وإنما هو حنين فقد وهم، وسيأتي بسط ذلك في موضعه - إن شاء الله تعالى.

وفي (المسند) و (سنن أبي داود) ، عن ابن مسعود، قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من (يكلؤنا؟) فقال بلال: أنا – فذكر الحديث بطوله في نومهم وصلاتهم.

وعن ذي مخبر الحبشي، أنه هو الذي كلأهم تلك الليلة.

وهذا

ص: 121

يدل على أنها ليلة أخرى غير ليلة بلال.

وفي (مسند البزار) ، عن أنس، أنه هو الذي كلأهم تلك الليلة، ولكن إسناد ضعيف.

وروي من حديث ابن مسعود، أنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال القوم: عرس بنا. فقال: (من يوقظنا؟) قلت: أنا أحرسكم فأوقظكم، فنمت وناموا – وذكر الحديث. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 122

‌36 - باب

من صلى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت

.

ص: 123

596 -

ثنا معاذ بن فضالة: ثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن جابر، أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش، فقال: يا رسول الله، ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب. قال النبي صلى الله عليه وسلم:(والله ما صليتها) ، فقمنا إلى بطحان، فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها [فصلى العصر] بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب.

تأخير النبي صلى الله عليه وسلم العصر حتى غربت الشمس يوم الخندق لم يكن عن نوم بغير خلاف، وإنما اختلف.

وقد أشار البخاري في (أبواب الخوف) إلى أنه كان اشتغالاً بالعدو.

ويعضده: حديث علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس) – الحديث.

وسيأتي ذلك مبسوطاً في موضعه – إن شاء الله.

وفي حديث جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العصر بعدما غربت الشمس

ص: 123

ثم صلى بعدها المغرب.

ولم يصرح فيه بأنه صلى بهم جماعة، لكن قوله:(فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها) مما يدل على أنه صلاها جماعة.

وقد خرجه الإسماعيلي في (صحيحه)، ولفظه:(فصلى بنا العصر) – وذكر باقيه.

وهذا تصريح بالجماعة.

[و] في حديث نومهم عن صلاة الفجر، أنه صلى الله عليه وسلم صلى الفجر بأصحابه جماعة.

وأكثر العلماء على مشروعية الجماعة للفوائت.

فمن قال: إن صلاة الجماعة سنة، فهي عنده سنة للحاضرة والفائتة.

ومن قال: صلاة الجماعة فرض – كما هو ظاهر مذهب الإمام أحمد -، فاختلف أصحابنا: هل الجماعة واجبة، أو لا؟ على وجهين.

وممن قال بأن الجماعة مشروعة للفوائت: مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم.

وحكي عن الليث بن سعد: أن قضاء الفائتة فرادى أفضل.

وترده هذه الأحاديث الصحيحة.

وفي الحديث: دليل على اتساع وقت المغرب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا بعد غروب الشمس، فنزلوا إلى بطحان، فتوضئوا، ثم صلوا العصر قبل المغرب، ثم صلوا المغرب، فلو كان وقت المغرب مضيقاً لكان قد وقعت صلاة العصر في وقت المغرب، ولم يكن فرغوا منها حتى فات وقت المغرب، فتكون صلاة المغرب حينئذ مقضية بعد وقتها.

ويرجع الكلام في ذلك إلى من كان عليه صلاة فائتة، وقد ضاق وقت الصلاة الحاضرة عن فعل الصلاتين، فأكثر العلماء على أنه يبدأ بالحاضرة فيما بقي من وقتها، ثم يقضي الفائتة بعدها؛ لئلا تصير الصلاتان فائتتين،

ص: 124

وهو قول الحسن وابن المسيب وربيعة والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة، وأحمد في ظاهر مذهبه، وإسحاق وطائفة من أصحاب مالك.

وهؤلاء أوجبوا الترتيب، ثم أسقطوه بخشية فوات الحاضرة.

وكذلك قال الشافعي، فإنه لا يوجب الترتيب، إنما يستحبه، فأسقط هاهنا استحبابه وجوازه، وقال: يلزمه أن يبدأ بالحاضرة، ويأثم بتركه.

وقالت طائفة: بل يبدأ بالفائتة، ولا يسقط الترتيب بذلك، وهو قول عطاء والنخعي والزهري ومالك والليث والحسن بن حي.

وهو رواية عن أحمد، اختارها الخلال وصاحبه أبو بكر.

وأنكر ثبوتها القاضي أبو يعلى، وذكر أن أحمد رجع عنها.

ص: 125

‌37 - باب

من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها

ولا يعيد إلا تلك الصلاة

وقال إبراهيم: من ترك صلاة واحدة عشرين سنة لم يعد إلا تلك الصلاة الواحدة.

يدخل تحت تبويب البخاري رحمه الله هاهنا مسألتان:

إحداهما.

أن من نسي صلاة، ثم ذكرها، فإنه يعيدها مرة واحدة، ولا يعيدها مرة ثانية.

وهذا قول جمهور أهل العلم.

وروي عن سمرة بن جندب، أنه يعيدها إذا ذكرها، ثم يعيدها من الغد لوقتها.

وق سبق عنه في النوم كذلك.

وروي مرفوعاً:

فخرج أبو داود من حديث أبي قتادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم لما قضى الصلاة التي نام عنها:(إذا سها أحدكم عن الصلاة فليصلها حين يذكرها، ومن الغد للوقت) .

وخرج الإمام أحمد من طريق حماد، عن بشر بن حرب، قال: سمعت سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نسي صلاة فليصلها حين

ص: 126

يذكرها، ومن الغد للوقت) .

خرجه الإمام أحمد.

وخرجه - أيضا - من طريق همام، عن بشر، عن سمرة، قال: أحسبه مرفوعاً - فذكره.

قال أحمد في رواية أبي طالب: هو موقوف.

يعني: أن رفعه وهم.

وبشر بن حرب، ضعفه غير واحد.

وخرجه البزار في (مسنده) من طريق أولاد سمرة، به، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا إذا نام أحدنا عن الصلاة أو نسيها حتى يذهب حينها التي تصلى فيه أن نصليها مع التي تليها من الصلاة المكتوبة.

وفي إسناده يوسف السمتي، وهو ضعيف جداً.

وفيه: دليل على أنه لا يجب قضاؤها على الفور.

المسألة الثانية:

إذا نسي صلاةً، ثم ذكرها بعد أن صلى صلوات في مواقيتهن، فإنه يعيد تلك الصلاة المنسية وحدها.

وهذا هو معنى ما حكاه عن النخعي.

وهذا يبنى على أصل، وهو: أن ترتيب القضاء، هل هو واجب، أم لا؟ وفيه اختلاف، سيذكر في الباب الآتي - إن شاء الله تعالى.

ومذهب الشافعي: أنه مستحب غير واجب، وحكي رواية عن أحمد،

ص: 127

وجزم بها بعض الأصحاب.

ومذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد - في المشهور عنه -: أنه واجب.

ثم اختلفوا:

فقال أبو حنيفة ومالك: يجب الترتيب فيما دون ست صلوات، ولا يجب في ست صلوات فصاعداً.

وقال أحمد: يجب بكل حال.

وحكى ابن عبد البر الإجماع على خلافه.

فمن قال: إنه غير واجب، قال: لا يجب الترتيب بين الصلوات الفوائت في القضاء، ولا بين الفائت والحاضر.

ومن قال: إنه واجب، فهل يسقط الترتيب عندهم بنسيان الثانية حتى يصلي صلوات حاضرة، أم لا يسقط بالنسيان؟ فيه قولان:

أحدهما: أنه يسقط بالنسيان، وهو قول النخعي، كما ذكره البخاري عنه، وقول الحسن وحماد والحكم وأبي حنيفة والحسن بن حي، وأحمد في ظاهر مذهبه، وإسحاق.

والثاني: لا يسقط بالنسيان - أيضا -، فيعيد الفائتة وما صلى بعدها.

وحكي رواية عن أحمد، حكاها بعض المتأخرين عنه، والله أعلم بصحتها عنه.

وأماملك، فعنده: إن ذكر قبل أن يذهب وقت الحاضرة، وقد بقي منه قدر ركعة فصاعداً أعادهما، وإن بقي دون ذلك، أو كان الوقت قد

ص: 128

ذهب بالكلية أجزأه.

وأماإن صلى الحاضرة، وعليه فائتة، وهو ذاكر لها:

فمن اشترط الترتيب أوجب قضاء ما صلاه وهو ذاكر للفائتة.

ومن لم يوجب الترتيب، لم يوجب سوى قضاء الفائتة.

ويحتمله كلام النخعي الذي حكاه عنه البخاري، ولكن روي عنه صريحاً خلافه.

فروى مغيرة، عن إبراهيم، قال: إذا ترك صلاة متعمداً عاد، وعاد كل صلاة صلاها بعدها.

فيكون الذي حكاه البخاري عنه محمولاً على حال النسيان، أو يكون عن النخعي روايتان.

وكان الإمام أحمد لشدة ورعه واحتياطه في الدين يأخذ في مثل هذه المسائل المختلف فيها بالاحتياط، وإلا فإيجاب سنين عديدة فيها صلاة واحدة فائتة في الذمة لا يكاد يقوم عليه دليل قوي.

والذي صح عن ابن عمر في ذلك، إنما هو في صلاة واحدة فائتة ذكرت مع اتساع وقت الحاضرة لهما، فلا يلزم ذلك أن يكون حكم الصلوات إذا كثرت أو تأخر قضاؤها حتى صلى صلوات كثيرة في أوقاتها كذلك.

وبهذا فرق أكثر العلماء بين أن تكثر الفوائت أو تقل.

ولم ير مالك إلا إعادة الصلاة التي وقتها باق خاصة، فإن إيجاب إعادة صلوات سنين عديدة لأجل صلاة واحدة فيه عسر عظيم، تأباه قواعد الحنيفية السمحة.

وقد أخبرني بعض أعيان علماء شيوخنا الحنبليين، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه، وسأله عما يقوله الشافعي وأحمد في هذه المسائل: أيهما أرجح؟ قال: ففهمت منه صلى الله عليه وسلم، أنه أشار إلى رجحان ما يقوله الشافعي رحمه الله.

ص: 129

ومما يدل على صحة ذلك: حديث عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:(لا ينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم) .

فهذا يدل على أن من عليه صلاة واحدة لم يأمره الله بأن يصلي زيادة عليها.

قال البخاري رحمه الله:

ص: 130

597 -

ثنا أبو نعيم وموسى بن إسماعيل، قالا: ثنا همام، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من نسي صلاة فليصل إذا ذكر، [لا كفارة] لها إلا ذلك؛

{وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ) .

قال موسى: قال همام: سمعته يقول بعد: {?وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} .

وقال حبان: ثنا همام: ثنا قتادة: ثنا أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

هذا الحديث قد رواه جماعة عن همام، وجماعة عن قتادة.

وقد خرجه مسلم من طريق همام وأبي عوانة وسعيد والمثني، كلهم عن قتادة، عن أنس، وليس في رواية أحد منهم: التصريح بقول قتادة: (ثنا أنس) ، كما ذكر البخاري أن حباناً رواه عن همام.

وإنما احتاج إلى ذلك؛ لما عرف من تدليس قتادة.

ولفظ رواية سعيد، عن قتادة التي خرجها مسلم: (من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها

ص: 130

إذا ذكرها) .

ولفظ حديث المثني، عن قتادة، عنده:(إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها) .

وقد دل الحديث على وجوب القضاء على النائم إذا استيقظ، والناسي إذا ذكر، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد.

وذكر ابن عبد البر أن محمد بن رستم روى عن محمد بن الحسن، أن النائم إذا فاته في نومه أكثر من خمس صلوات لا قضاء عليه، إلحاقاً للنوم الطويل إذا زاد على يوم وليلة بالإغماء، والمغمى عليه لا قضاء عليه عنده، ويكون الأمر عنده بالقضاء في النوم المعتاد، وهو ما تفوت فيه صلاة أو صلاتان أو دون خمس أو أكثر.

وأخذ الجمهور بعموم الحديث.

وقوله: (فليصل إذا ذكر) استدل به من يقول بوجوب قضاء الصلوات على الفور؛ وهو قول أبي حنيفة ومالك.

وأحمد يوجبه بكل حال، قلت الصلوات أو كثرت.

واستدلوا - أيضا -: بقوله: (لا كفارة لها إلا ذلك) .

وذهب الشافعي إلى أن القضاء على التراخي، كقضاء صيام رمضان، وليس الصوم كالصلاة عندهم، فإن الصيام لا يجوز تأخيره حتى يدخل نظيره من العام القابل والصلاة عندهم بخلاف ذلك.

واستدلوا - أيضا -: بتأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة حتى خرج من الوادي.

وفيه نظر؛ فإن ذلك تأخير يسير لمصلحة تتعلق بالصلاة، وهو التباعد عن موضع يكره الصلاة فيه.

وقد روي عن سمرة بن جندب، فيمن عليه

ص: 131

صلوات فائتة، أنه يصلي مع كل صلاة صلاة.

وقد روي عنه - مرفوعاً.

خرجه البزار بإسناد ضعيف.

ولأصحاب الشافعي فيما إذا كان الفوائت بغير عذر في وجوب القضاء على الفور وجهان.

وحمل الخطأبي قوله: (لا كفارة لها إلا ذلك) على وجهين:

أحدهما: أن المعنى أنه لا يجوز له تركها إلى بدل، ولا يكفرها غير قضائها.

والثاني: أن المعنى أنه لا يلزمه في نسيانها كفارة ولا غرامة. قال: إنما عليه أن يصلي ما فاته.

وقد روي عن أبي هريرة - مرفوعاً -: (من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها) .

خرجه الطبراني والدارقطني والبيهقي من رواية حفص بن أبي العطاف.

واختلف عليه في إسناده إلى أبي هريرة.

وحفص هذا، قال البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث. وقال يحيى بن يحيى: كذاب.

فلا يلتفت إلى ما تفرد به.

وأماتلاوته قوله تعالى: {?وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}

وقد رواه

ص: 132

قتادة - مرة -، فقال:{للذِكْرِى} ومرة، قال:{لِذِكْرِي} ، كما هي القراءة المتواترة.

وكان الزهري - أيضا - يقرؤها: {للذِكْرِى} .

وهذه القراءة أظهر في الدلالة على الفور؟ لأن المعنى: أدَّ الصلاة حين الذكرى، والمعنى: أنه يصلي الصلاة إذا ذكرها.

وبذلك فسرها أبو العالية والشعبي والنخعي.

وقال مجاهد: {?َأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} : أي تذكرني. قال: فإذا صلى عبد ذكر ربه.

ومعنى قوله: أن قوله: {?َأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} - أي: لأجل ذكري بها.

والصلاة إنما فرضت ليذكر الله بها، كما في حديث عائشة المرفوع:(إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله) .

خرجه الترمذي وأبو داود.

فأوجب الله على خلقه كل يوم وليلة أن يذكروه خمس مرار بالصلاة المكتوبة، فمن ترك شيئاً من ذكر الله الواجب عليه سهواً فليعد إليه إذا ذكره، كما قال تعالى:

{واذكر ربك إذا نسيت} [الكهف: 24] ، فقد أمره إذا نسي ربه أن يذكره بعد ذلك، فمن نسي الصلاة فقد نسي ذكر ربه، فإذا ذكر أنه نسي فليعد إلى ذكر ربه بعد نسيانه.

وأماترك الصلاة متعمداً، فذهب أكثر العلماء إلى لزوم القضاء له، ومنهم من يحكيه إجماعاً.

واستدل بعضهم بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقضوا الله الذي له، فالله أحق بالقضاء) .

ص: 133

واستدل بعضهم: بأنه إذا أمر المعذور بالنوم والنسيان بالقضاء، فغير المعذور أولى.

وفي هذا الاستدلال نظر؛ فإن المعذور إنما أمره بالقضاء لأنه جعل قضاءه كفارة له، والعامد ليس القضاء كفارة له؛ فإنه عاص تلزمه التوبة من ذنبه بالاتفاق.

ولهذا قال الأكثرون: لا كفارة على قاتل العمد، ولا على من حلف يميناً متعمداً فيها الكذب؛ لأن الكفارة لا تمحو ذنب هذا.

وأيضا؛ فإذا قيل: إن القضاء إنما يجب بأمر جديد، وهو ألزم لكل من يقول بالمفهوم، فلا دليل على إلزام بالقضاء؛ فإنه ليس لنا أمر جديد يقتضي أمره بالقضاء، كالنائم والناسي.

واستدل بعضهم للزوم العامد القضاء: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المجامع في رمضان عمداً بالقضاء.

كما خرجه أبو داود.

وهو حديث في إسناده مقال؛ تفرد به من لا يوثق بحفظه وإتقانه.

وأيضا؛ فيفرق بين من ترك الصلاة والصيام، ومن دخل فيهما ثم أفسدهما.

فالثاني عليه القضاء، كمن أفسد حجه، والأول كمن وجب عليه الحج ولم يحج، وإنما أمره أن يحج بعد ذلك؛ لأن الحج فريضة العمر.

ومذهب الظاهرية - أو أكثرهم: أنه لا قضاء على المتعمد.

وحكي عن عبد الرحمن صاحب الشافعي بالعراق، وعن ابن بنت الشافعي. وهو قول أبي بكر الحميدي في الصوم والصلاة إذا تركهما عمداً، أنه لا يجزئه

ص: 134

قضاؤهما.

ذكره في عقيدته في آخر (مسنده) .

ووقع مثله في كلام طائفة من أصحابنا المتقدمين، منهم: الجوزجاني وأبو محمد البربهاري وابن بطة.

قال ابن بطة: أعلم أن للصلاة أوقاتاً، فمن قدمها على وقتها فلا فرض له من عذر وغيره، ومن اخرها عن وقتها مختاراً لذلك من غير عذر، فلا فرض له.

فجعل الصلاة بعد الوقت لغير عذر، كالصلاة قبل الوقت، وقال في كل منهما:(إنه ليس بفرض) - يريد: أنها تقع نفلاً في الحالين.

وقال البربهاري: الصلوات لا يقبل الله منها شيئاً إلا أن تكون لوقتها، إلا أن يكون نسياناً؛ فإنه معذور، يأتي بها إذا ذكرها، فيجمع بين الصلاتين إن شاء.

وقد نص الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: على أن المصلي لغير الوقت كالتارك للصلاة في استتابته وقتله، فكيف يؤمر بفعل صلاة حكمها حكم ترك الصلاة.

وروي عن طائفة من السلف، منهم: الحسن.

وحكى الخلاف في ذلك: إسحاق بن راهويه ومحمد بن نصر المروزي.

قال محمد بن نصر في (كتاب الصلاة) : إذا ترك الرجل صلاة

ص: 135

مكتوبة متعمداً حتى ذهب وقتها فعليه قضاؤها، لا نعلم في ذلك خلافاً، إلا ما روي عن الحسن، فمن أكفره بتركها استتابه، وجعل توبته وقضاءها رجوعاً منه إلى الإسلام، ومن لم يكفر تاركها ألزمه المعصية، وأوجب عليه قضاءها.

وكان إسحاق يكفر بترك الصلاة، ويرى عليه القضاء إذا تاب، وقال: أخبرني عبد العزيز بن أبي رزمة، عن ابن المبارك، أنه سأله رجل عن رجل ترك صلاة أياماً، ثم ندم؟ قال: ليقض ما ترك من الصلاة. قال: ثم أقبل ابن المبارك علي، فقال: هذا لا يستقيم على الحديث.

قال إسحاق: يقول: القياس على الأصل أن لا يقضي، وريما بنى على الأصل، ثم يوجد في ذلك الشيء بعينه خلاف البناء، فمن هاهنا خاف ابن المبارك أن يقيس تارك الصلاة في الإعادة على ما جاء أنه قد كفر، فيجعله كالمشرك، ورأى أحكام المرتدين على غير أحكام الكفار، رأى قوم أن يورثوا المسلمين من ميرات المرتد، فأخذنا بالاحتياط، فرأى القضاء على تارك الصلاة عمداً، وكان يكفره إذا تركها عمداً حتى يذهب وقتها.

قال إسحاق: وأكثر اهل العلم على إعادة الصلاة إذا تاب من تركها، والاحتياط في ذلك، فأمامن مال إلى ما قال الحسن: إذا ترك

ص: 136

صلاة متعمداً لا يقضيها، فهو كما قال ابن المبارك: الإعادة لا تستقيم على الحديث، ثم ترك القياس في ذلك، فاحتاط في القضاء.

قال إسحاق: ولقد قال بعض أهل العلم: إذا ارتد عن الإسلام، ثم أسلم أعاد كل صلاة تركها في ردته، وحجته: أن ارتداده معصية، ومن كان في معصية لم يجعل له من الرخصة شيء كالباغي وقاطع الطريق.

قلت: قد اعترف ابن المبارك وإسحاق بأن القياس أن تارك الصلاة إذا حكمنا بكفره أنه يكون مرتداً، ولا قضاء عليه، وإنما أوجبنا القضاء على المرتد احتياطاً.

وفي وجوب القضاء على المرتد لما فاته في مدة الردة قولان مشهوران للعلماء، هما روايتان عن أحمد.

ومذهب الشافعي وغيره: الوجوب.

وهذا الكلام من ابن المبارك وإسحاق يدل على أن من كفر تارك الصلاة عمداً كفره بذلك بمجرد خروج وقت الصلاة عليه، ولم يعتبر أن يستتاب، ولا أن يدعى إليها، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد وغيره من الأئمة - أيضا -، وعليه يدل كلام المتقدمين من أصحابنا كالخرقي، وأبي بكر، وابن أبي موسى.

ثم قال محمد بن نصر: فأماالمروي عن الحسن، فإن إسحاق ثنا، قال: ثنا النضر، عن الاشعث، عن الحسن، قال: إذا ترك الرجل صلاة

ص: 137

واحدة متعمداً، فإنه لا يقضيها.

قال محمد بن نصر: قول الحسن هذا يحتمل معنيين:

أحدهما: أنه كان يكفره بترك الصلاة متعمداً، فلذلك لم ير عليه القضاء؛ لأن الكافر لا يؤمر بقضاء ما ترك من الفرائض في كفره.

والمعنى الثاني: أنه إن لم يكن يكفره بتركها، فإنه ذهب إلى أن الله عز وجل إنما افترض عليه أن يأتي بالصلاة في وقت معلوم، فإذا تركها حتى يذهب وقتها فقد لزمته المعصية؛ لتركه الفرض في الوقت المأمور بإتيانه به فيه، فإذا أتى به بعد ذلك، فقد أتى به في وقت لم يؤمر بإتيانه به فيه، فلا ينفعه أن يأتي بغير المأمور به، عن المأمور به.

قال: وهذا قول غير مستنكر في النظر، لولا أن العلماء قد اجتمعت على خلافه.

قال: ومن ذهب إلى هذا، قال في الناسي للصلاة حتى يذهب وقتها، وفي النائم - أيضا -: إنه لو لم يأتي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:(من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) ، لما وجب عليه في النظر قضاؤها - أيضا.

انتهى ما ذكره ملخصاً.

وقد اعترف بأن القياس يقتضي أنه لا يجب القضاء على من تركها متعمداً، فإنه إن كان كافراً بالترك متعمداً، فالقياس أن لا قضاء على الكافر، وإن كان مرتداً.

وإن لم يكن كافراً بالترك، فالقياس أنه لا قضاء بعد الوقت؛ لأن القضاء يحتاج إلى أمر جديد، وليس فيه أمر جديد، وإنما

ص: 138

أمر بالقضاء من يكون القضاء كفارة له، وهو المعذور، والعامد لم يأت نص بأن القضاء كفارة له، بل ولا يدل عليه النظر؛ لأنه عاص آثم يحتاج إلى توبة، كقاتل العمد، وحالف اليمني الغموس.

وكيف ينعقد الإجماع مع مخالفة الحسن، مع عظمته وجلالته، وفضله وسعة علمه، وزهده وورعه؟

ولا يعرف عن أحد من الصحابة في وجوب القضاء على العامد شيء، بل ولم أجد صريحاً عن التابعين - أيضا - فيه شيئاً، إلا عن النخعي.

وقد وردت آثار كثيرة عن السلف في تارك الصلاة عمداً، أنه لا تقبل منه صلاة، كما روي عن الصديق رضي الله عنه، أنه قال لعمر في وصيته له: إن لله حقاً بالليل لا يقبله بالنهار، وحقاً بالنهار لا يقبله بالليل.

يشير إلى صلوات الليل والنهار.

وفي حديث مرفوع: (ثلاثة لا يقبل لهم صلاة)، ذكر منهم:(الذي لا يأتي الصلاة إلا دباراً) - يعني: [بعد] فوات الوقت.

خرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو - مرفوعاً.

وفي إسناده ضعف.

ولكن مجرد نفي القبول لا يستلزم عدم وجوب الفعل، كصلاة

ص: 139

السكران في مدة الأربعين، وصلاة الآبق والمرأة التي زوجها عليها ساخط.

فإن قيل: فقد قال تعالى: {فويل للمصلين

. ساهون} [الماعون: 4، 5] ، وفسره الصحابة بإضاعة مواقيتها.

وكذا قال ابن مسعود في المحافظة على الصلاة: أي المحافظة على مواقيتها، وأن تركها كفر.

ففرقوا بين تركها وبين صلاتها بعد وقتها.

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلف من أخبر أنه يضيع الصلاة ويصليها لغير وقتها، وهذا يدل على أن صلاتهم صحيحة.

وقد سئل عن الأمراء وقتالهم؟ قال: (لا، ما صلوا، وكانت على هذا الوجه) ، فدل على إجزائها.

قيل: السهو عن مواقيت الصلاة لا يستلزم تعمد التأخير عن الوقت الحاضر؛ فإنه قد يقع على وجه التهاون بتأخير الصلاة حتى يفوت الوقت - أحياناً - عن غير تعمد لذلك، وقد يكون تأخيرها إلى وقت الكراهة، أو إلى الوقت المشترك الذي يجمع فيه أهل الأعذار عند جمهور العلماء، وغيرهم على رأي طائفة من المدنيين.

وهذه الصلاة كلها مجزئة، ولا يكون المصلي لها كالتارك بالإتفاق.

وقد سئل سعيد بن جبير، عن قوله: {فويل للمصلين

. ساهون} ؟ فدخل المسجد، فرأى قوماً قد أخروا الصلاة، لا يتمون ركوعاً ولا سجوداً، فقال: الذي سألتني عنهم هم هؤلاء.

وهذه الصلاة مثل الصلاة التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة المنافقين) .

ص: 140

وهكذا كانت صلاة الأمراء الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلفهم نافلة، فإنهم كانوا يؤخرون العصر إلى اصفرار الشمس، وربما أخروا الصلاتين إلى ذلك الوقت، وهو تأخير إلى الوقت المشترك لأهل الأعذار، وكغيرهم عند طائفة من العلماء.

فليس حكمهم حكم من ترك الصلاة؛ فإن التارك هو المؤخر عمداً إلى وقت مجمع على أنه غير جائز، كتأخير صلاة الليل إلى النهار، وصلاة النهار إلى الليل عمداً، وتأخير الصبح إلى بعد طلوع الشمس عمداً.

وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على أن نقص الفرائض يجبر من النوافل يوم القيامة.

فروى أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وإن انتقص من فريضته شيئاً قال الرب تبارك وتعالى: انظروا، هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة؟ ثم يكون سائر عمله على ذلك) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي - وهذا لفظه، وقال: حسن غريب - وابن ماجه.

وله طرق عن أبي هريرة، أشهرها: رواية الحسن، وقد اختلفوا عليه في إسناده إلى أبي هريرة:

فقيل: عن الحسن، عن

ص: 141

أنس بن حكيم، عن أبي هريرة.

وقيل: عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة.

وقيل غير ذلك.

ورواه حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن يحيى بن يعمر، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

خرجه النسائي.

وقيل - بهذا الإسناد -: عن يحيى بن يعمر، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

خرجه الإمام أحمد.

وهذا إسناد جيد.

وروي عن أبي هريرة من وجه آخر.

وروى حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن زرارة بن أوفى، عن تميم الداري، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى حديث أبي هريرة.

خرجه أبو داود وابن ماجه.

وزرارة، قال الإمام أحمد: ما أحسبه لقي تميماً.

ص: 142

وقد روي حديث أبي هريرة وتميم موقوفاً عليهما.

وقد خرج الإمام أحمد هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق الأشعث بن سليم، عن أبيه، عن رجل من بني يربوع، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.

وخرج - أيضا - من طريق ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج: سمعت رجلاً من كندة يقول: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:(لا ينتقص أحدكم من صلاته شيئاً إلا أتمها الله من سبحته) .

وخرجه أبو القاسم البغوي بنحو هذا اللفظ من حديث عائذ بن قرط، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد روي هذا المعنى - أيضا -، عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وابن عباس، وفي إسنادهما ضعف.

ص: 143

واختلف الناس في معنى تكميل الفرائض من النوافل يوم القيامة:

فقالت طائفة: معنى ذلك أن من سها في صلاته عن شيء من فرائضها أو مندوباتها كمل ذلك من نوافله يوم القيامة، وأمامن ترك شيئاً من فرائضها أو سننها عمداً، فإنه لا يكمل له من النوافل؛ لأن نية النفل لا تنوب عن نية الفرض.

هذا قول عبد الملك بن حبيب المالكي وغيره.

وقالت طائفة: بل الحديث على ظاهره في ترك الفرائض والسنن عمداً وغير عمد.

واليه ذهب الحارث المحاسبي وغيره.

وهو قول طائفة من أصحابنا وابن عبد البر، إلا أنهم خصوه بغير العامد.

وحمله آخرون على العامد وغيره، وهو الأظهر - إن شاء الله تعالى.

وقولهم: (نية الفرض لا ينوب عنها نية النفل) إنما هو بالنسبة إلى أحكام تكليف العباد في الدنيا، فأمابالنسبة إلى فضل الله في الآخرة فلا؛ لأن فضله واسع لا حجر عليه، بل هو تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.

مع أن في تأدية الفرائض بنية التطوع اختلافاً مشهوراً بين العلماء في الحج والصيام والزكاة، وكذا في الصلاة.

وأيضا؛ فقد حكينا فيما سبق في (كتاب الإيمان) عن سفيان، أن من نسي صلاة فدخل مع قوم يصلونها، وهو ينوي أنها تطوع، أنها تقع عن الفرض الذي عليه.

وقال أحمد بن أبي الحواري: قال لي الفريأبي: صل ركعتي الفجر في البيت، فإن مت قبل الفريضة أجزأتك من الفريضة.

ص: 144

وروي عن بعض الصحابة، أنه دخل المسجد ولم يكن صلى الظهر، وإن الإمام يصلي العصر، فصلى معه وهو يظن أنها الظهر، فاعتد بها عن العصر، ثم صلى الظهر.

خرجه الجوزجاني.

واستدل الأولون بالأحاديث التي فيها: أن من ضيع بعض حدود الصلاة، أنه لا عهد له عند الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له.

ولا حجة في ذلك؛ لأن الله إذا شاء أن يغفر لعبد أكمل فرائضه من نوافله، وذلك فضل من عنده يفعله مع من يشاء أن يرحمه ولا يعذبه.

واستدلوا - أيضا - بما روى موسى بن عبيدة، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(مثل المصلي مثل التاجر، لا يخلص له ربحه حتى يأخذ رأس ماله، فكذلك المصلي لا يقبل له صلاة نافلة حتى يؤدي الفريضة) .

خرجه البزار والهيثم بن كليب في (مسنديهما) والإسماعيلي.

وموسى بن عبيدة، ضعيف جداً من قبل حفظه، وقد تفرد بهذا.

وخرج أبو الشيخ الأصبهاني من طريق أبي أمية، عن الحسن، عن

ص: 145

أبي هريرة - مرفوعاً -: (من صلى المتكوبة فلم يتم ركوعها ولا سجودها، ثم يكثر من التطوع، فمثله كمثل من لا شف له حتى يؤدي رأس ماله) .

وأبو أمية، هو: عبد الكريم، متروك الحديث.

و (الشف) : من أسماء الأضداد، يكون بمعنى الزيادة، وبمعنى النقص.

وخرجه إسحاق بن راهويه في (مسنده) ، عن كلثوم بن محمد بن أبي سدرة، عن عطاء الخراساني، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(إذا صلى الرجل الصلاة المكتوبة، فلم يتم ركوعها ولا سجودها وتكبيرها والتضرع فيها، كان كمثل التاجر لا شف له، حتى يفي رأس ماله) .

وكلثوم، ضعفه ابن عدي وغيره. وعطاء، لم يسمع من أبي هريرة.

ومعنى هذه الأحاديث - إن صح منها شيء -: أن النوافل يكمل بها نقص الفرائض، فلا يسلم له شيء من النوافل حتى يكمل نقص الفرائض؛ ولهذا شبهه بالتاجر الذي [لا] يخلص له ربح حتى يستوفي رأس ماله، ويظهر هذا في المضارب بمال غيره، ولهذا يقول الفقهاء: إن ربحه وقاية لرأس المال.

ومن هنا؛ قال طائفة من السلف - منهم: ابن عباس وأبو أمامة -: إنما النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة.

يعنون: أن غيره تكمل فرائضه بنوافله، فلا يخلص له نافلة، فنوافله جبرانات لفرائضه.

وروى إسحاق بن راهويه في (مسنده) : ثنا عبد الل بن واقد: ثنا حيوة بن شريح، عن أبي الأسود، عن ابن رافع، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(من كان عليه من رمضان شيء، فأدركه رمضان ولم يقضه لم يتقبل منه، ومن صلى تطوعاً وعليه مكتوبة، لم يتقبل منه) .

عبد الله بن واقد، هو: أبو قتادة الحراني، تكلموا فيه.

وهذا غريب من حديث حيوة، وإنما هو مشهور من حديث أبن لهيعة.

وقد خرجه الإمام أحمد عن حسن الأشيب، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة،

ص: 146

عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(من صام تطوعاً وعليه من رمضان شيء لم يقضه، فإنه لا يتقبل منه) .

ولم يذكر في حديثه: (الصلاة) .

وقد روي مرفوعاً.

وقال أبو زرعة: الصحيح المرفوع.

ونفي القبول لا يستلزم [نفي] الصحة بالكلية، وقد سبق ذكر ذلك غير مرة.

ويدل على ذلك: أن في تمام الحديث الذي خرجه الإمام أحمد: (من أدرك رمضان، وعليه من رمضان شيء لم يقضه لم يتقبل منه) ، ومعلوم أنه يلزمه قضاؤه بعد رمضان مع الإطعام.

ولا يعلم في لزوم القضاء خلاف، إلا عن ابن عمر من وجه فيه ضعف، والخلاف مشهور في وجوب الإطعام مع القضاء.

وقد نقل إبراهيم الحربي، عن أحمد، انه سئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم:(لا صلاة لمن عليه صلاة) ؟ قال: لا أعرف هذا اللفظ.

قال الحربي: ولا سمعت بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا يدل على أن الحديث الذي خرجه إسحاق لا أصل له.

ص: 147

وقد اختلف العلماء فيمن عليه قضاء رمضان: هل يجوز له أن يتنفل بالصيام قبل القضاء، أم لا؟ فيه قولان معروفان، هما روايتان عن أحمد.

وأكثر العلماء على جوازه، وروي عن طائفة من السلف المنع منه.

وقال هشام بن عروة، عن أبيه: مثل الذي يتطوع بالصوم وعليه قضاء رمضان، كمثل الذي يسبح وهو يخاف أن تفوته المكتوبة.

وكذلك لو كان عليه صلاة فائتة، فتطوع قبل قضائها، فإن كان التطوع بسنتها الراتبة، فهو جائز، بل يستحب عند جمهور العلماء، خلافاً لمالك، وقد سبق ذلك، وإن كان تطوعاً مطلقاً، فقال أصحابنا: لا يجوز؛ لأن القضاء عندهم على الفور، بخلاف قضاء رمضان؛ فإنه على التراخي حتى يتضايق وقته في شعبان.

وفي انعقاده - لو فعل - وجهان، وحكي روايتان.

ورجح بعضهم عدم الانعقاد، وحمل حديث تكميل الفرائض بالنوافل على السنن الرواتب، أو على من تطوع ونسي أن عليه فائتة.

والذين لا يرون على العامد القضاء بالكلية، لا يتصور هذه المسألة عندهم، لأنهم يقولون: ليس يلزمه قضاء بالكلية.

ص: 148

‌38 - باب

قضاء الصلوات الأولى فالأولى

ص: 149

598 -

حدثنا مسدد: ثنا يحيى: ثنا هشام: ثنا يحيى - هو: ابن أبي كثير -، عن أبي سلمة، عن جابر، قال: جعل عمر [يوم الخندق] يسب كفارهم، فقال: ما كدت أصلي العصر حتى غربت الشمس. قال: فنزلنا بطحان، فصلى بعدما غربت الشمس، ثم صلى المغرب.

إنما في هذا الحديث ترتيب الفائتة مع الحاضرة، وأنه يقدم الفائتة على الحاضرة، ثم يصلي الحاضرة، وقد سبق هذا الحديث والكلام عليه.

وفي الباب: أحاديث في قضاء الفوائت وترتيبها، ليست على شرط البخاري، وكأنه أشار بالتبويب إليها، ولكنه اقتصر على حديث جابر؛ لما لم يكن في الباب على شرطه غيره.

وقد روي عن جابر من وجه ضعيف، أنه صلى الله عليه وسلم صلى فوائت ورتبها.

فروى حماد بن سلمة، عن عبد الكريم أبي أمية، عن مجاهد، عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم شغل يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأمر بلالاً فأذن وأقام وصلى الظهر، ثم أمره فأذن وأقام وصلى العصر، ثم أمره فأذن وأقام فصلى المغرب، ثم أمره [فإذن] وأقام وصلى العشاء، وقال:

ص: 149

(ما [على] وجه الأرض قوم يذكرون الله في هذه الساعة غيركم) .

خرجه البزار في (مسنده) .

وقال: لا نعلم رواه بهذا الإسناد، إلا مؤمل – يعني: عن حماد -، وقد رواه بعضهم، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عن أبي عبيدة، عن عبد الله.

انتهى.

وعبد الكريم أبو أمية، متروك الحديث، مع أن البخاري حسن الرأي فيه.

وقد روى أبو الزبير، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، قال: قال عبد الله: إن المشركين شغلوا رسول الل صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالاً، فأذن وأقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء.

خرجه الإمام أحمد من طريق هشيم، عن أبي الزبير.

وقال الترمذي: ليس بإسناده بأس، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله.

وخرجه النسائي من طريق هشام الدستوائي، عن أبي الزبير – ولم

ص: 150

يذكر فيه: الأذان، وإنما ذكر الإقامة لكل صلاة، وزاد في آخره: قال: ثم طاف علينا، فقال:(ما على الأرض عصابة يذكرون الله غيركم) .

وكذا رواه الأوزاعي عن أبي الزبير، وفي حديث: حتى إذا كان قريباً من نصف الليل فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبدأ بالظهر فصلاها، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء بإقامة إقامة.

وخرجه أبو يعلي الموصلي من طريق يحيى بن أبي أنيسة – وهو ضعيف جداً -، عن زبيد الأيامي، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر في حديثه: الأذان والإقامة لكل صلاة.

وروى سعيد المقبري، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، قال: حبسنا يوم الخندق عن الصلاة، حتى كان بعد المغرب بهوي من الليل، حتى كفينا، وذلك قول الله عز وجل: {وكفى الله

. عزيزاً} [الأحزاب: 25] . قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً، فاقام صلاة الظهر، فصلاها وأحسن صلاتها، كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام العصر، فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام المغرب، فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء، فصلاها كذلك. قال: وذلك قبل أن ينزل الله في صلاة الخوف: {فرجالاً أو ركباناً} [البقرة: 239] .

خرجه الإمام أحمد – وهذا لفظه – والنسائي وابن خزيمة وابن

ص: 151

حبان في (صحيحهما) .

وقد دلت هذه الأحاديث على أن من فاتته صلوات، فإنه يبدأ بالأولى فالأولى، هذا هو المشروع في قضائها بالاتفاق.

واختلف في الأذان والإقامة، ففي بعضها: أنه صلى كل صلاة بإقامة إقامة، من غير ذكر أذان. وفي بعضها: أنه أذن للأولى، وأقام لكل صلاة. وفي بعضها: أنه أذن وأقام لكل صلاة.

واختلف العلماء في ذلك، وقد سبق ذكر الاختلاف في الأذان للفائتة إذا كانت واحدة.

وأمامع تعدد الفوائت:

فمنهم من قال: يقيم لكل صلاة، ولا يؤذن، وهو قول الحسن والأوزاعي ومالك والشافعي في قول، وحكي رواية عن أحمد.

ومنهم من قال: يؤذن للأولى، ويقيم لكل صلاة، وهو قول أحمد وأبي ثور وداود وأحد أقوال الشافعي.

وله قول ثالث: إن أمل اجتماع الناس بالأذان أذن، وإلا اقتصر على الإقامة لكل صلاة.

وقال الثوري: ليس عليه في الفوائت أذان ولا إقامة.

وأماالترتيب، فقد ذكرنا أنه مستحب بالاتفاق.

واختلفوا: هل هو شرط لصحة الصلاة، أم لا؟

ص: 152

فمذهب أحمد: أنه شرط، قلت الفوائت أو كثرت، وهو قول زفر.

ومذهب مالك وأبي حنيفة: يجب الترتيب فيها إن كانت خمساً فما دون، ولا يجب فيما زاد.

ومذهب الشافعي: أنه لا يجب الترتيب بحالٍ، وهو قول أبي ثور وداود، ورواية عن الأوزاعي.

وروي عن سمرة بن جندب ما يدل عليه.

وهؤلاء جعلوا ترتيب الصلوات في الأداء من ضرورة الوقت، فإذا فاتت فلا يجب فيها الترتيب، كمن عليه ديون منجمة، إذا أخرت إلى آخرها نجماً فلا يبالي بما قضى منها قبل الآخر، حتى لو قضى آخرها نجماً قبل الكل لجاز، وكصوم رمضان إذا فات، فإنه لا يشترط لقضائه ترتيب ولا موالاة، بل يجوز تفريقه وتتابعه.

واستدل بعض من أوجب الترتيب بما روى ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن يزيد، أن عبد الله بن عوف حدثه، عن أبي جمعة حبيب بن سباع – وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم عام الأحزاب صلى المغرب، فلما فرغ قال:(هل علم أحد منكم أني صليت العصر؟) فقالوا: يا رسول الله، ما صليتها، فأمر المؤذن فأقام، وصلى العصر، ثم أعاد المغرب.

خرجه الإمام أحمد.

واستدل به بعض من يقول: لا يسقط الترتيب بالنسيان.

وحمله بعض من خالفه على أنه كان تذكر العصر في صلاة المغرب قبل أن يفرغ منها.

ص: 153

وهذا حديث ضعيف الإسناد، وابن لهيعة لا يحتج بما ينفرد به.

قال ابن عبد البر: هذا حديث لا يعرف إلا عن ابن لهيعة، عن مجهولين، لا تقوم به حجة.

قلت: أماعبد الله بن عوف، فإنه الكناني، عامل عمر بن عبد العزيز على فلسطين، مشهور، روى عنه الزهري وجماعة.

وأمامحمد بن يزيد، فالظاهر أنه ابن أبي زياد الفلسطيني، صاحب حديث الصور الطويل، وقد ضعفوه.

وروى مالك في (الموطأ) ، عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يقول: من نسي [صلاة] فلم يذكرها إلا وراء الإمام، فإذا سلم الإمام فليصل الصلاة التي نسي، ثم يصلي بعدها الأخرى.

وقد روى عثمان بن سعيد الحمصي، عن مالك مرفوعاً.

ورفعه باطل -: ذكره ابن عدي.

ص: 154

كذا روي عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر – مرفوعاً.

خرجه أبو يعلي الموصلي والطبراني والدارقطني.

وذكر عن موسى بن هارون الحافظ، أن رفعه وهم، وإنما هو موقوف.

وكذا قال أبو زرعة الرازي.

وأنكر يحيى بن معين المرفوع إنكاراً شديداً -: ذكره ابن أبي حاتم.

وقد اختلف من اشترط الترتيب للقضاء فيمن ذكر فائتة وهو يصلي حاضرة.

فقيل: يسقط عنه الترتيب في هذه الحال؛ لأن الحاضرة قد تعين إتمامها بالشروع فيها؛ لتضايق وقت الحاضرة.

وحكي عن الحسن وطاوس، وهو قول أبي يوسف، واختاره بعض أصحابنا؛ لأن الجماعة عندنا فرض.

وقيل: لا يسقط، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد.

وعلى هذا؛ فهل يبطل الحاضرة، أم يقطعها؟ على قولين.

أحدهما: أنه يقطعها – وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد -، إلا أن يكون مأموماً فيتمها كما قاله ابن عمر.

والثاني: يتمها نفلاً، وهو قول الليث والثوري وأحمد في رواية.

ص: 155

فعلى هذا؛ إن قلنا: يصح ائتمام المفترض بالمتنفل صح ائتمام المأمومين به، وإلا فلا.

وذكر ابن عبد البر: أن مذهب مالك: أن المأموم يتم صلاته، ثم يصلي الفائتة، ثم يعيد الحاضرة، كما قاله ابن عمر.

قال: وعند مالك وأصحابه: لا يجب الترتيب في الفوائت بعد صلاة الوقت، إلا بالذكر، وجوب استحسان، بدليل إجماعهم على أن من ذكر فائتة في وقت حاضرة، أو صلوات يسيرة، أنه إن قدم العصر على الفائتة، أنه لا إعادة عليه للعصر التي صلاها، وهو ذاكر فيها للفائتة، إلا أن يبقى من وقتها ما يعيدها فيها قبل غروب الشمس.

قال: وهذا يدل على أن قولهم: من ذكر صلاة في صلاة فإنها تنهدم أو تفسد عليه، ليس على ظاهره، ولو كان على ظاهره لوجبت الإعادة عليه للعصر بعد غروب الشمس؛ لأن ما يفسد ويهدم حقيقة يعاد أبداً، وما يعاد في الوقت فإنه استحباب، فقضت على هذا الأصل.

قال: وقال أبو حنيفة: من ذكر فائتة، وهو في صلاة أخرى من الصلوات الخمس، فإن كان بينهما أكثر من خمس صلوات مضى فيما هو فيه، ثم صلى التي عليه، وإن كان أقل من ذلك، قطع ما هو فيه، وصلى التي ذكر، إلا أن يضيق وقتها، فيتمها، ثم يصلي الفائتة. انتهى.

ص: 156

‌39 - باب

ما يكره من السمر بعد العشاء

(السامر) : من السمر، والجمع: السمار، والسامر هاهنا في موضع الجمع.

(السمر) : هو التحدث بالليل، وقوله تعالى:{مستكبرين به سامراً} [المؤمنون: 67] هو من السمر، ومعناه هنا: الجمع - أي: سماراً.

فسمار جمع، وسامر يكون مفرداً، وقد يراد به الجمع كما في الآية.

ص: 157

599 -

حدثنا مسدد: ثنا يحيى: ثنا عوف: ثنا أبو المنهال، قال: انطلقت مع أبي إلى أبي برزة الأسلمي، فقال له: حدثنا، كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة؟ قال: كان يصلي الهجير – وهي التي تدعونها الأولى – حين تدحض الشمس، ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى أهله في أقصى المدينة والشمس حية، ونسيت ما قال في المغرب. قال: وكان يستحب أن يؤخر العشاء. قال: وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف أحدنا جليسه، ويقرأ من الستين إلى المائة.

قد سبق هذا في مواضع، وشرح ما فيه من مواقيت الصلاة، وذكر النوم قبل العشاء، ولم يبق من أحكامه غير ذكر الحديث بعد العشاء، وهو السمر.

وفي هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكرهه، وقد ذكرنا فيما سبق حديث عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم ما نام قبل

ص: 157

العشاء ولا سمر بعدها.

وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث عطاء بن السائب، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: جدب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم السمر بعد العشاء.

ومعنى (جدبه) : عابه وذمه -: قاله أبو عبيد وغيره.

ووهم من قال: أباحه لهم، كالطحاوي، وهو مخالف لما قاله أهل اللغة.

وهذا الحديث وهم عطاء بن السائب في إسناده؛ فقد رواه الأعمش ومنصور وابو حصين، عن أبي وائل، عن سلمان بن ربيعة، قال: جدب لنا عمر السمر.

وخالفهم عطاء بن السائب وعاصم، فقالا: عن أبي وائل، عن ابن مسعود، ثم اختلفا، فرفعه عطاء، ووقفه عاصم، ووهما في ذلك.

والصحيح: قول منصور والأعمش -: قاله أبو بكر الأثرم.

وذكر مسلم نحوه في (كتاب التمييز)، وزاد: أن المغيرة رواه عن أبي وائل، عن حذيفة – من قوله.

قال: ولم يرفعه إلا عطاء بن السائب.

وأشار إلى أن رواية الأعمش وحبيب بن أبي ثابت وأبي حصين، عن أبي وائل، عن سلمان، عن عمر هي الصحيحة؛ لأنهم أحفظ وأولى بحسن الضبط للحديث.

وقد رويت كراهة السمر بعد العشاء عن عمر وحذيفة وعائشة وغيرهم.

ثم منهم من علل بخشية الامتناع من قيام الليل، روي ذلك عن

ص: 158

عمر.

ومنهم من علل بأن الصلاة ينبغي أن تكون خاتمة الأعمال، فيستحب النوم عقيبها، حتى ينام على ذكر، ولا ينام على لغو.

وروي عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يسمر ما لم يوتر، فجعل الختم بالوتر يقوم مقام الختم بالصلاة المكتوبة.

وكانت عائشة تقول لمن يسمر: أريحوا كتابكم.

تعني: الملائكة الكاتبين.

ومتى كان السمر بلغو ورفث وهجاء فإنه مكروه بغير شك.

وفي (مسند الإمام أحمد) من حديث شداد بن أوس – مرفوعاً -: (من قرض بيت شعر بعد عشاء الآخرة لم يقبل له صلاة تلك الليلة) .

ص: 159

‌40 - باب

السمر في الفقه والخير بعد العشاء

فيه حديثان:

الأول:

قال:

ص: 160

600 -

نا عبد الله بن صباح: نا أبو علي الحنفي: نا قرة بن خالد: أنتظرنا الحسن وراث علينا حتى قربنا من وقت قيامه، فجاء، قال: دعانا جيراننا هؤلاء، ثم قال: قال أنس: نظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، حتى كان شطر الليل يبلغه، فجاء فصلى لنا، ثم خطبنا، فقال:(ألا إن الناس قد صلوا، ثم رقدوا، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة) .

قال الحسن: وإن القوم لن يزالوا في خير ما انتظروا الخير.

قال قرة: وهو من حديث أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

معنى (راث) : أبطأ.

الثاني:

ص: 160

601 -

ثنا أبو اليمان: أبنا شعيب، عن الزهري، قال: حدثني سالم بن عبد الله بن عمر وأبو بكر بن أبي حثمة، أن عبد الله بن عمر قال: صلى

ص: 160

النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:(أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على وجه الأرض أحد) .

فوهل الناس في مقالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض) – يريد بذلك: أنها تخرم ذلك القرن.

(وهل) - بفتح الهاء -، قال الخطأبي: معناه: غلطوا وتوهموا، والوهل: الوهم، يقال: وهل إذا ذهب وهله إلى الشيء. انتهى.

وضبطه بعضهم (وهل) بكسر الهاء، وقال: معناه فزع ونسي، والوهل – بالفتح -: الفزع.

وقيل: معناه: وقع في وهله.

والأول أصوب: والله اعلم.

ومراد ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن من كان موجوداً في وقت قوله ذلك لا يبقى منهم أحد على رأس مائة سنة، فينخرم ذلك القرن، فظن بعضهم: أن مراده: أن الساعة تقوم بدون مائة سنة، وهو وهم ممن ظن ذلك، ولذلك أنكره علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – على من توهمه.

ومقصود البخاري بهذين الحديثين: الاستدلال على جواز الموعظة وذكر العلم بعد العشاء، وانه ليس من السمر المنهي عنه.

وقد كان ابن شبرمة وغيره من فقهاء الكوفة يسمرون في الفقه إلى أذان [الفجر] .

ونص الإمام أحمد على أنه لا يكره السمر في العلم.

ص: 161

وروى قتادة، عن أبي حسان، عن عبد الله بن عمرو، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن بني إسرائيل حتى يصبح، ما يقوم إلا إلى عظم صلاة.

خرجه أبو داود.

وكذا رواه هشام الدستوائي وعمرو بن الحارث وسعيد بن بشير.

وخالفهم: أبو هلال، فرواه عن قتادة، عن أبي حسان، عن عمران بن حصين.

والقول: قول هشام ومن تابعه -: قاله الإمام أحمد وأبو حاتم وأبو بكر الأثرم.

وخرج الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن خزيمة في (صحيحه) من حديث علقمة، عن عمر بن الخطاب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمر مع أبي بكر في الأمر من أمر المسلمين، وأنا معهم.

قال الترمذي: حسن.

وقد قيل: إن علقمة لم يسمعه من عمر، وبينهما رجل -: قاله البخاري والأثرم.

ورجح الدارقطني: أنه ليس بينهما أحد.

ص: 162

وفيه دليل على جواز السمر في مصالح المسلمين، وما يعود بنفعهم.

وقد روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أنه كان يسمر مع علي بن أبي طالب حتى يذهب ليل طويل.

ص: 163

وكان ابن عباس يسمر عند معاوية.

وخرج ابن مسعود وأبو موسى من عند الوليد، وقد تحدثوا ليلاً طويلاً، فجاءوا إلى سدة المسجد، فتحدثوا حتى طلع الفجر.

وقد ذكر البخاري في أواخر (كتاب العلم) : (باب: السمر بالعلم) ، وقد سبق في موضعه، وذكرنا فيه زيادة هاهنا. والله أعلم.

ص: 164

‌41 - باب

السمر مع الأهل والضيف

ص: 165

602 -

ثنا أبو النعمان: ثنا المعتمر بن سليمان: ثنا أبي: ثنا أبو عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: إن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، وإن أربعة فخامس أو سادس) وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة. قال: فهو أنا وأبي وأمي – ولا أدري هل قال: وامرأتي – وخادم بين بيتنا وبيت أبي بكر، وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لبث حتى صليت العشاء، ثم رجع فلبث حتى تعشى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء الله. قالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك – أو قال: ضيفك -؟ قال: أو ما عشيتيهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء، قد عرضوا فأبوا. قال: فذهبت أنا فاختبأت، قال: يا غنثر، فجدع وسب، وقال: كلوا لا هنيئاً. فقال: والله، لا أطعمه أبداً، وايم الله، ما كنا ناخذ من لقمة

ص: 165

إلا ربا من أسفلها أكثر منها، حتى شبعوا، وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك، فنظر إليها أبو بكر فإذا هي كما هي أو أكثر. قال لامرأته: يا أخت بني فراس، ما هذا؟ قالت: لا وقرة عيني، لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات، فأكل منها أبو بكر، وقال: إنما كان ذلك من الشيطان – يعني: يمينه -، ثم أكل منها لقمة، ثم حملها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبحت عنده، وكان بيننا وبين قوم عقد، فمضى الأجل، فعرفنا اثني عشر رجلاً، مع كل رجل منهم أناس، الله أعلم كم مع كل رجل، فأكلوا منها أجمعون – أو كما قال.

في هذا الحديث فوائد كثيرة:

منها: استحباب إيثار الفقراء بالشبع من الطعام ومواساتهم فيه، فلهذا أمر من كان عنده طعام اثنين أن يذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة أن يذهب بخامس – أو سادس -، وهذا شك من الراوي.

ولفظ مسلم في هذا الحديث: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس – بسادس) - أو كما قال.

وهذا يدل على أن الراوي شك.

وفي (الصحيحين) ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة) .

ص: 166

وفي (صحيح مسلم) ، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:(طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية) .

وفي هذا إشارة إلى أن البركة تتضاعف مع الكثرة والاجتماع على الطعام.

وفي (سنن ابن ماجه) بإسناد ضعيف، عن عمر – مرفوعاً -:(كلوا جميعاً ولا تفرقوا؛ فإن البركة مع الجماعة) .

وخرج أبو داود وابن ماجه من حديث وحشي، أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، إنا نأكل ولا نشبع؟ قال:(فلعلكم تتفرقون؟) قالوا: نعم. قال: (فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه) .

ومعنى: (يكفي) : أنه يكتفي به، وإن لم يشبعه.

وكان عمر في عام الرمادة يدخل على أهل البيت من المسلمين مثلهم، ويقول: لن يهلك امرؤ وعنده نصف قوته.

فهذا مأخوذ من هذا الحديث. والله أعلم.

ومجئ أبي بكر بثلاثة، إن كان هو وامرأته وابنه فقط، فقد أتى بنظير

ص: 167

عدتهم، وإن كانوا خمسة – على رواية الشك -، فقد صاروا ثمانية، وطعام الأربعة يكفي الثمانية.

وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم عشرة على قدر قوته على الإيثار، وما خصه الله به من الجود والكرم في اليسر والإعسار.

ومنها: أنه إذ أتى الأنسان بضيوف إلى منزله، فإنه يجوز له أن يكلهم إلى أهله وولده، ولا يحضر معهم في الأكل؛ فإن في ذلك كفاية إذا وثق من اهله وولده بالقيام بحقهم.

ومنها: اختصاص أبي بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في عشائه عنده، واحتباسه إلى أن يمضي ما شاء الله من الليل.

وقد سبق حديث عمر في سمر أبي بكر وعمر عند النبي صلى الله عليه وسلم في الباب الماضي.

وأماسب أبي بكر ولده؛ فظنه أنه قصر في حق ضيفه، ولم يقم به كما ينبغي.

ومعنى (جدع) – أي: قطعه بالقول الغليظ.

وأماقوله: (يا غنثر)، فروي بوجهين – ذكرهما الخطأبي -:

أحدهما: (عنتر) بالعين المهملة، والتاء المثناة من فوق، وهما مفتوحتان.

قال الخطأبي: إن كانت هذه محفوظة، فالعنتر: الذباب -: قاله ثعلب.

سمي به لصوته؛ وكأنه حين حقره وصغره شبهه بالذباب.

والثاني: (غنثر) بالغين المعجمة المضمومة وبالثاء المثلثة -، فهو مأخوذ من الغثارة، وهي: الجهل، يقال: رجل أغثر وغنثر. والنون زائدة.

ص: 168

ومنها: إثبات كرامات الأولياء وخرق العوائد لهم.

وهو قول عامة أهل السنة، ووافق على ذلك المعتزلة في زمن الأنبياء خاصة، كما جرى لأبي بكر في هذه القضية، وجعلوها من جملة معجزاتهم حينئذ.

والتحقيق: أنها من جملة معجزات الأنبياء على كل حال، وفي كل زمان؛ لأن ما يكرم الله بذلك أولياءه، فإنما هو من بركة اتباعهم للأنبياء، وحسن اقتدائهم بهم، فدوام ذلك لأتباعهم وخواصهم من جملة معجزاتهم وآياتهم.

ومنها: جواز الإهداء إلى الأخوان الطعام بالليل، مع العلم بأنهم قد تعشوا واكتفوا، وإن أدى ذلك إلى أن يبيت الطعام عندهم.

واستمرت هذه الآية في ذلك الطعام حتى أكل منه الجمع الكثير من الغد.

ومعنى: (عرفنا اثني عشر رجلاً) – أي: جعلناهم عرفاً.

وروي: (ففرقنا) .

ومنها: من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها، فإنه يأتي الذي هو خير، ولا تحرم عليه يمينه فعل ما حلف على الامتناع منه، وهذا قول جمهور العلماء.

وقد ثبت، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يأتي الذي هو خير ويكفر، وكان في نفسه يفعل ذلك.

وقد قيل: إن اليمين تحرم المحلوف عليه تحريماً ترفعه الكفارة.

والصحيح: خلافه؛ لأنه يجوز الإقدام على فعل المحلوف قبل التكفير بالاتفاق، ولو كان محرماً لوجب تحليله بالكفارة قبله، كالظهار.

وفي (سنن أبي داود) هذا الحديث، قال:(ولم يبلغني كفارة) وهذا

ص: 169

من قول بعض الرواة.

وهذا بمجرده لا ينفي أن يكون أبو بكر كفر عن يمينه، بل الظاهر – أو المجزوم به – انه كفرها.

وقد ثبت من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان أبو بكر إذا حلف على يمين لا يحنث، حتى نزلت آية الكفارة، فقال: لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير، وكفرت يميني.

كذا رواه يحيى القطان والليث والثوري وابن المبارك وغيرهم، عن هشام.

وخرجه البخاري في (صحيحه هذا) من رواية النضر بن شميل، عن هشام.

وخالفهم الطفاوي، فرواه عن هشام، عن أبيه، عن عائشة.

ورفعه وهم منه،

ص: 170

والصحيح: كان أبو بكر -: كذا قاله البخاري والدارقطني.

وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة، قال: أعتم رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى أهله، فوجد الصبية قد ناموا، فاتاه أهله بطعام، فحلف لا يأكل؛ من أجل صبيته، ثم بدا له فأكل، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم[فذكر] ذلك [له]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأتها، وليكفر [عن] يمينه) .

ولعل هذا الرجل هو أبو بكر الصديق، وتكون الإشارة إلى هذا القصة، إلا أن حديث عبد الرحمن يدل على أنه لم يكن لأبي بكر صبية.

وقد ذهب قوم إلى أن من حلف على شيء فرأى غيره خيراً منه أنه يأتي الذي هو خير، ويكون ذلك كفارة يمينه، ولا يحتاج إلى كفارة بمال أو صوم.

وهذا معروف عن ابن المسيب والشعبي وسعيد بن جبير وسالم وعكرمة، وزاد عليه، فجعل من حلف بطلاق على معصية، أنه لا يفعل ما حلف عليه، ولا طلاق عليه.

وهذا شذوذ.

وروي أصل هذا عن ابن عباس.

وروي عنه مرفوعاً.

ص: 171

خرجه ابن حبان في (صحيحه) .

ولا يصح رفعه.

وروى مالك بن يحيى بن عمرو بن مالك النكري، عن أبيه، عن جده، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:(من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها، فليأتها؛ فإنها كفارتها، إلا طلاقاً أو عتاقاً) .

خرجه ابن عدي.

وقال: هو غير محفوظ؛ تفرد به يحيى، عن أبيه.

ويحيى هذا، ضعفه ابن معين وغيره.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، أنها كفارتها أن يأتي الذي هو خير، وفي أسانيدها كلها مقال.

والأحاديث الصحاح كلها تدل على أنه يكفر يمينه، قال ذلك أبو داود ومسلم في (كتاب التمييز) وغيرهما.

وكانت يمين أبي بكر ألا يأكل هذا الطعام في غضب، ولهذا قال: إنما ذلك من الشيطان –يعني: يمينه.

وفيه: دليل على انعقاد يمين الغضبان، كما حلف النبي صلى الله عليه وسلم في غضبه ألا يحمل النفر من الأشعريين، ثم حملهم، وقال:(لا احلف على يمين، فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير) .

ص: 172

وفي الحديث: جواز الحلف بقرة العين؛ فإن امرأة أبي بكر حلفت بذلك، ولم ينكره عليها.

وقرة عين المؤمن: هو ربه وكلامه وذكره وطاعته.

ومقصود البخاري من هذا الحديث: جواز السمر عند الأهل والضيف؛ فإن أبا بكر سمر عند أهله وضيفه لما رجع من عند النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن ذهب من الليل ما ذهب منه. والظاهر – أيضا -: أنه سمر عند النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي السمر عند الأهل: حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العشاء، ثم دخل بيته، فتحدث مع أهله ساعة.

وقد خرجه [البخاري] في موضع آخر.

وقد روي عن عائشة، أنها رأت قوماً يسمرون، فقالت: انصرفوا إلى أهليكم، فإن لهم فيكم نصيباً.

وهذا يلد على انها استحبت السمر عند الأهل لما فيه من المؤأنسة لهم، وهو من حسن العشرة.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يسمر مع بعض الوفود الذين يفدون عليه المدينة، وهو من نوع السمر مع الضيف.

فخرج أبو داود وابن ماجه من رواية عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلي الطائفي، عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن جده أوس بن حذيفة، قال: كنت في وفد

ص: 173

ثقيف، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتينا كل ليلة بعد العشاء، فيحدثنا قائماً على رجليه، حتى يتراوح بين رجليه، وأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه من قريش – وذكر الحديث.

وسئل أبو حاتم عن هذا الحديث، فقال: حديث أبي برزة أصح منه.

يعني: حديثه: كان يكره الحديث بعدها.

وروي الرخصة في السمر للمصلي والمسافر [..] خاصة.

خرجه الإمام أحمد من رواية خيثمة، عن رجل من قومه من قريش، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا سمر بعد الصلاة) – يعني: العشاء الآخرة - (إلا لمصل أو مسافر) .

قال ابن المديني: في إسناده انقطاع؛ لأن الرجل الذي لم يسمه خيثمة لا أدري هو من أصحاب عبد الله، أو لا؟ وقد روى خيثمة عن غير واحد من أصحاب عبد الله، منهم: سويد بن غفلة، وأرجو أن يكون هذا الرجل منهم.

ص: 174

وقال الأثرم: هو حديث غير قوي؛ لأن في إسناده رجلاً لم يسم.

وقد أخذ به الإمام أحمد، فكره السمر في حديث الدنيا، ورخص فيه للمسافر.

وروي من وجه آخر بزيادة، من رواية ابن وهب، عن معاوية، عن أبي عبد الله الأنصاري، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا سمر إلا لثلاثة: مصل، أو مسافر، أو عروس) .

خرجه سمويه الأصبهاني الحافظ: نا عبد الله بن الزبير: نا ابن وهب – فذكره.

وخرجه بقي بن مخلد في (مسنده) : ثنا ابن مقلاص: ثنا ابن وهب: أخبرني معاوية، عن أبي حمزة، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً قبل العشاء، ولا لاغياً بعدها، أماذاكراً فيغنم، أو نائماً فيسلم.

قال معاوية: وحدثني أبو عبد الله الأنصاري، عن زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: السمر لثلاثة: لعروس، أو لمسافر، أو لمتهجد بالليل.

ص: 175

وهذا موقوف على عائشة.

وأبو عبد الله وأبو حمزة، مجهولان.

وروى الحسين بن إسحاق التستري، عن أحمد، أنه سئل عن السمر بعد العشاء الآخر؟ قل: لا، إلا لمسافر أو مصل، فأماالفقه فأرجو أن لا يكون به بأس.

ونقل عبد الله بن أحمد، عن أبيه، أنه سئل عن الحديث [الذي] نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النوم قبل العشاء، والحديث بعدها، والرجل يقعد مع عياله بعدما يصلي يتحدث ثم ينام: هل يحرج؟ قال: ينبغي أن يجتنب الحديث والسمر بعدها.

وهذا يدل على كراهة السمر مع الأهل - أيضا.

وقال سفيان الثوري: كان يقال: لا سمر بعد العشاء، إلا لمصل، أو مسافر. قال: ولا بأس أن يكتب الشيء، أو يعمل بعد العشاء.

وهذا يدل على أن سهر الأنسان في عمل يعمله وحده، من غير مسامرة لغيره، أنه لا كراهة فيه، بخلاف المسامرة والمحادثة. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 176

10 -

‌ كتاب الآذان

بسم الله الرحمن الرحيم

‌1 - باب

بدء الأذان

وقول الله عز وجل: {وَإذا نَادَيْتُمْ إلى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 58] . وقول تعالى: {إذا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] .

يشير إلى أن الأذان مذكور في القرآن في هاتين الآيتين:

الأولى منهما: تشتمل النداء إلى جميع الصلوات؛ فإن الأفعال نكرات، والنكرة في سياق الشرط تعم كل صلاة.

والثانية منهما: تختص بالنداء إلى صلاة الجمعة.

وقد روى عبد العزيز بن عمران، عن إبراهيم بن أبي حبيبة، عن

ص: 177

داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الأذان نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع فرض الصلاة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ} .

هذا إسناد ساقط لا يصح.

وهذه الآية مدنية، والصلاة فرضت بمكة، ولم يصح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بمكة جمعة. وقوله:{وَإذا نَادَيْتُمْ إلى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا} [المائدة: 58] مدنية - أيضا -، ولم يؤذن للصلاة بمكة.

والحديث الذي روي أن جبريل لما أم النبي صلى الله عليه وسلم أول ما فرضت الصلاة أمره أن يؤذن بالصلاة، قد جاء مفسراً في رواية أخرى، أنه يؤذن: الصلاة جامعة.

وقد سبق ذكره في أول " كتاب الصلاة".

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري خرج ملك من وراء الحجاب فأذن، فحدثه ربه عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ذلك، ثم أخذ الملك بيد محمد فقدمه فأم أهل السماء، منهم آدم ونوح.

قال أبو جعفر محمد بن علي: فيومئذ أكمل الله لمحمد صلى الله عليه وسلم الشرف على أهل السماء وأهل الأرض.

وقد خرجه البزار والهيثم بن كليب في " مسنديهما" بسياق مطول من طريق زياد بن المنذر أبي الجارود، عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، عن علي.

ص: 178

وهو حديث لا يصح.

وزياد بن المنذر أبو الجارود الكوفي، قال فيه الإمام أحمد: متروك. وقال ابن معين: كذاب عدو الله، لا يساوي فلساً. وقال ابن حبان: كان رافضياً يضع الحديث.

وروى طلحة بن زيد الرقي، عن يونس، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به إلى السماء أوحى الله إليه الأذان، فنزل به، فعلمه جبريل.

خرجه الطبراني.

وهو موضوع بهذا الإسناد بغير شك.

وطلحة هذا، كذاب مشهور.

ونبهنا على ذلك لئلا يغتر بشيء منه.

وإنما شرع الأذان بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، والأحاديث الصحيحة كلها تدل على ذلك.

والأذان له فوائد:

منها: أنه إعلام بوقت الصلاة أو فعلها.

ومن هذا الوجه هو إخبار بالوقت أو الفعل. ولهذا كان المؤذن مؤتمنا.

ومنها: أنه إعلام للغائبين عن المسجد؛ فلهذا شرع فيه رفع الصوت، وسمي نداءً؛ فإن النداء هو الصوت الرفيع.

ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد: " قم فألقه على بلال؛ فإنه أندي صوتاً منك".

ص: 179

ومنها: أنه دعاء إلى الصلاة؛ فإنه معنى قوله: " حي على الصلاة، حي على الفلاح".

وقد قيل: إن قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: 33] الآية: نزلت في المؤذنين، روي عن طائفة من الصحابة.

وقيل في قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43] : إنها الصلوات الخمس حين ينادي بها.

ومنها: أنه إعلان بشرائع الإسلام من التوحيد والتكبير والتهليل والشهادة بالوحدانية والرسالة.

خرج البخاري في هذا الباب حديثين:

الحديث [الأول] :

قال:

ص: 180

603 -

ثنا عمران بن ميسرة: ثنا عبد الوارث: ثنا خالد، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: ذكروا النار والناقوس، فذكروا اليهود والنصارى، فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة.

وخرجه البخاري في الباب الآتي، بلفظ آخر، وهو: " قال: لما كثر

ص: 180

الناس وانتشروا في المدينة. قال: ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه، فذكروا أن يوروا ناراً أو يضربوا ناقوساً، فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة".

وخرجه مسلم - أيضا.

وهذا يدل على أن الأذان تأخر عن أول قدوم النبي ? صلى الله عليه وسلم المدينة حتى كثر الناس وانتشروا في المدينة ومن حولها، واحتاجوا حينئذ إلى تعليم وقت الصلاة بشيء يعرفونه معرفة تامة.

وقوله في هذه الرواية: " فذكروا اليهود والنصارى" - يعني: أنهم كرهوا النار والناقوس؛ لمشابهة اليهود والنصارى في أفعالهم.

ولا يعرف ذكر " النار" إلا في هذه الرواية، وإنما في أكثر الأحاديث ذكر الناقوس والبوق، وفي بعضها ذكر راية تنصب ليراها الناس.

وقد روي من حديث خالد، عن أبي قلابة ذكر الناقوس والبوق - أيضا.

خرجها ابن خزيمة في " صحيحه" والطبراني من رواية روح بن عطاء بن أبي ميمونة، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: كانت الصلاة إذا حضرت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم سعى رجل إلى

ص: 181

الطريق، فنادى: الصلاة الصلاة، فاشتد ذلك على الناس، فقالوا: لو اتخذنا ناقوساً يا رسول الله؟ قال: " ذلك للنصارى". قالوا: فلو اتخذنا بوقاً؟ قال: " ذلك لليهود". فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة.

وقال الطبراني: لم يروه - بهذا التمام - عن خالد إلا روح. انتهى.

وروح، متكلم فيه.

وفي حديث عبد الله بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة.

خرجه أبو داود وغيره.

ويعضده: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء.

وفي رواية إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق لحديث عبد الله بن زيد، قال: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب بالناقوس لجمع الناس للصلاة، وهو كاره لموافقة النصارى.

وهذا يدل على أن الناس قد اجتمعوا على ذلك، ووافقهم صلى الله عليه وسلم مع كراهته له.

ص: 182

وقوله: " فأمر بلال" لا يشك أن الآمر له هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما صرح به ابن عمر في حديثه الآتي.

قال الخطأبي: الأذان شريعة من الشرائع، والأمر المضاف إلى الشريعة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم لا يضاف إلى غيره. قال: ومن زعم ان الآمر لبلال به أبو بكر فقد غلط؛ لأن بلالاً لم يقم بالمدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما لحق بالشام أيام أبي بكر. أنتهى.

ولقد أبطل من زعم أن أمر بلال بالأذان تأخر إلى زمن أبي بكر، وأن مدة النبي صلى الله عليه وسلم خلت عن أذان، وهذا لا يقوله من يعقل ما يقول.

ولعل هذا الزاعم إنما زعم أن أبا بكر أمر بابتار الإقامة بعد أن كانت على غير ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا في غاية البطلان - أيضا -، وإنما يحمل عليه الهوى والتعصب، وكيف يغير أبو بكر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم شريعته في إقامة الصلاة ويقره الناس على ذلك؟

والحديث صريح في أن أمر بلال بذلك كان في أول أمر الأذان، حيث كانوا يترددون فيما يحصل به إعلام الناس بوقت الصلاة، فيحنئذ أمر بلال بأن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، لا يحتمل الكلام غير هذا المعنى. والله اعلم.

ص: 183

وقد خرج النسائي هذا الحديث من رواية عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة.

ونقل عباس الدوري، عن ابن معين، قال: لم يرفعه إلا الثقفي.

وقد خرجه الدارقطني من طرق أخرى مصرحاً برفعه - أيضا - كما رواه الثقفي.

ص: 184

الحديث الثاني:

ص: 185

604 -

ثنا محمود بن غيلان: ثنا عبد الرزاق: ثنا ابن جريج: أخبرني نافع أن ابن عمر كان يقول: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة، ليس ينادى لها، فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى. وقال بعضهم: بل بوقاً مثل قرن اليهود. فقال عمر: أولا تبعثون رجلاً منكم ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا بلال، قم فناد بالصلاة".

وخرجه مسلم من طريق عبد الرزاق وحجاج، كلاهما عن ابن جريج به، بنحوه.

والحديث صريح في أن المسلمين اول ما قدموا المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم لم يكونوا ينادون للصلاة، وإنما كانوا أولاً يتحينون الصلاة - يعني: يقدرون احيانها لياتوا إليها - والحين: الوقت والزمان -، ثم إنهم تشاوروا في ذلك وتكلموا فيه لما شق عليهم التحين، فربما كان منهم من يتقدم قبل الوقت، فيفوته ما كان يعمل، ومنهم من كان يتأخر فتفوته الصلاة.

وقد روى فليح، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى، عن معاذ، أن الناس كانوا يتحينون وقت الصلاة، فيصلون

ص: 185

بغير أذان، فإذا حضرت الصلاة فمنهم من يدرك، وأكثرهم لا يدرك، فهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك - وذكر حديث عبد الله بن زيد بطوله -، فلما أهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ذلك اجتمعوا فتشاوروا في امر يعلمون به وقت الصلاة ويجتمعون عليه في المسجد.

وفي هذا: دليل على استحباب التشاور في مصالح الدين والاهتمام بها، فلما تشاوروا أشار بعضهم بالناقوس كفعل النصارى، وأشار بعضهم بالبوق كفعل اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة.

وهذا من إلهام عمر للحق ونطقه به، وقد كان كثيراً ما ينطق بالشيء فينزل الوحي بموافقته، وهذا مما نزل القرآن بتصويب قوله.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " يا بلال، قم فناد بالصلاة" يدل على ان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ما أشار به عمر دون غيره.

وأمره صلى الله عليه وسلم بالنداء بالصلاة، يحتمل انه أمره أن ينادي في الطرقات:" الصلاة، الصلاة" كما تقدم في الحديث الذي خرجه ابن خزيمة، ويكون

ص: 186

ذلك قبل ان يشرع الأذان. ويحتمل أنه أمره بالأذان، وهو اظهر.

ويحتمل أن عمر إنما أشار بذلك بعد أن رآه في منامه، ويدل عليه ما روي عن عمر، وعن ابن عمر –أيضا -:

أماالمروي عن عمر، فمن طريق سفيان بن وكيع: ابنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عمر، قال: ائتمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قدموا المدينة: كيف يجعلون الأذان بالصلاة يجتمعون لها؟ فائتمروا بالناقوس. قال عمر: فرايت في المنام: لم تجعلون الناقوس بل أذنوا. فذهب عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بالذي رأى، وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"سبقك الوحي بذلك يا عمر". قال: فذهبت إلى الصلاة، فإذا بلال يهتف بالأذان.

خرجه الإسماعيلي في " مسند عمر".

وسفيان بن وكيع، فيه ضعف.

وهو مرسل.

وخرجه ابو داود في " المراسيل": ثنا أحمد بن إبراهيم: ثنا حجاج، عن ابن جريج: أخبرني عطاء، أنه سمع عبيد بن عمير يقول: ائتمر النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه، كيف يجعلون شيئاً إذا أرادوا جمع الصلاة اجتمعوا لها [به] ، فائتمروا بالناقوس، فبينما عمر يريد أن يبتاع خشبتين لناقوس إذ رأى عمر في المنام أن لا تجعلوا الناقوس، بل أذنوا بالصلاة، فذهب عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بالذي رأى، وقد جاء الوحي بذلك، فما راع عمر إلا بلال يؤذن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" سبقك بذلك الوحي"، حين

ص: 187

أخبره عمر بذلك.

وقد روى مالك في " الموطا" عن يحيى بن سعيد، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أراد أن يتخذ خشبتين يضربهما ليجمع الناس للصلاة، فأري عبد الله بن زيد خشبتين في النوم، فقال: إن هاتين الخشبتين لنحو مما يريده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: ألا تؤذنون للصلاة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استيقظ، فذكر ذلك له، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم[بالآذان] .

وأماالمروي عن ابن عمر، فمن طريق عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم استشار الناس لما يهمهم للصلاة، فذكروا البوق، فكرهه من أجل اليهود. ثم ذكروا الناقوس، فكرهه من أجل النصارى، فأري النداء تلك الليلة رجل من الأنصار - يقال له: عبد الله ابن زيد - وعمر بن الخطاب، فطرق الانصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم[ليلاً، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم] بلالاً فاذن به.

قال الزهري: وزاد بلال في نداء الغداة: " الصلاة خير من النوم" - مرتين -، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال عمر: يا رسول الله؛ قد رأيت مثل الذي رأى، ولكنه سبقني.

خرجه ابن ماجه.

ص: 188

وخرجه ابن سعد من طريق مسلم بن خالد: حدثني عبد الرحيم بن عمر، عن ابن شهاب - بإسناده، ومعناه.

وفي كون هذا الحديث محفوظاً عن الزهري بهذا الإسناد نظر؛ فإن المعروف: رواية الزهري، عن ابن المسيب - مرسلاً.

وروي عن الزهري، عن ابن المسيب، عن عبد الله بن زيد.

وحديث عبد الله بن زيد، قد روي من وجوه:

أحدها: رواية ابن إسحاق: حدثني محمد بن إبراهيم التيمي، عن محمد بن عبد الله بن زيد، عن أبيه - بسياق مطول -، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما امر بعمل الناقوس طاف بعبد الله وهو نائم رجل يحمل ناقوساً، فقال له: يا عبد الله، أتبيع الناقوس؟ قال: فما تصنع به؟ قال: ندعوا به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قال: بلى، قال: تقول:

" الله أكبر"، فعلمه الأذان مثنى مثنى، والإقامة مرة مرة. فما اصبح اتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال له:" الرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت؛ فإنه أندى صوتاً منك". قال: فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه، وبلال يؤذن به. قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج يجر رداءه، ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله، لقد رأيت مثل ما رأى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فلله الحمد".

خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي، وصححه، وابن خريمة وابن حبان في " صحيحهما".

وحكى البيهقي أن الترمذي حكى في " علله" عن البخاري، أنه قال: هو عندي صحيح.

ص: 189

وبه استدل الإمام أحمد، وعليه اعتمد.

وقال الخطأبي: قد روي هذا الحديث والقصة باسانيد مختلفة، وهذا الإسناد أصحها.

وحكى ابن خزيمة عن محمد بن يحيى الذهلي، أنه قال: ليس في أخبار عبد الله بن زيد في قصة الأذان خبر اصح من هذا؛ لأن محمد بن عبد الله سمعه من أبيه.

قال ابن خزيمة: خبر ابن إسحاق ثابت صحيح؛ لأن محمد بن عبد الله بن زيد سمعه من أبيه، وابن إسحاق سمعه من التيمي.

ص: 190

كذا قال؛ وقد توقف البخاري في " تاريخه" في سماع محمد بن عبد الله ابن زيد من أبيه، فقال: عبد الله بن محمد بن عبد الله بن زيد، عن أبيه، عن جده، لم يذكر سماع بعضهم من بعض.

قال الحاكم: إنما ترك الشيخان حديث عبد الله بن زيد بهذا الإسناد؛ لتقدم موت عبد الله بن زيد، فقد قيل: إنه [استشهد بأحد] . وقيل: بعد ذلك بيسير. انتهى.

وعلى هذا؛ فجميع الروايات عنه مرسلة.

وخرج أبو داود من حديث أبي عمير بن أنس، عن عمومة له من الأنصار، قالوا: اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع لها الناس؟ فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رأوها أخبر بعضهم بعضاً، فلم يعجبه - وذكر الحديث بطوله، ورؤيا عبد الله بن زيد الأذان في منامه - قال: وكان عمر ابن الخطاب قد رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يوماً - وذكر بقية الحديث.

وخرج – أيضا - من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت

ص: 191

ابن أبي ليلى يقول: ثنا أصحابنا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقد أعجبني ان تكون صلاة المسلمين واحدة، حتى لقد هممت أن أبث رجالاً في الدور، ينادون الناس بحين الصلاة، وحتى هممت أن آمر رجالاً يقومون على الآكام، ينادون المسلمين بحين الصلاة. قال: فجاء رجل من الانصار، فقال: يا رسول الله، إني لما رجعت لما رأيت من اهتمامك رأيت رجلا كان عليه ثوبان أخضران، فقام على المسجد فأذن، ثم قعد قعدةً، ثم قام فقال مثلها، إلا أنه يقول:" قد قامت الصلاة"، ولولا أن يقولوا لقلت إني كنت يقظاناً غير نائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لقد أراد الله خيراً، فمر بلالاً فيؤذن". قال: فقال عمر: إني قد رأيت مثل ما رأى، ولكني لما سبقت استحييت.

وخرجه - أيضا - من طريق المسعودي، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى، عن معاذ - فذكره.

ورواه حصين وغيره، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله ابن زيد.

وابن أبي ليلى، لم يسمع من معاذ، ولا من عبد الله بن زيد، فروايته عنهما منقطعة.

ورواية شعبة أصح.

وتابعه الأعمش، فرواه عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: ثنا أصحاب محمد، أن عبد الله بن زيد رأى الأذان في المنام - فذكره.

وهذا إسناد جيد متصل، وعدم تسمية الصحابة لا

ص: 192

يضر؛ فإنهم كلهم عدول رضي الله عنهم.

لكن اختلف على الأعمش، وروي عنه، عن عمرو، عن ابن أبي ليلى - مرسلاً.

وقال العقيلي: الرواية في هذا الباب فيها لين، وبعضها أفضل من بعض.

يشير إلى حديث عبد الله بن زيد ورؤية الأذان في منامه.

وعبد الله بن زيد هذا، هو: ابن عبد ربه الأنصاري، من الخزوج.

قال الترمذي: لا يصح له غير حديث الأذان.

وزعم ابن عيينة أنه صاحب " حديث الوضوء" عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، أنصاري من بني النجار، وهو عم عباد بن تميم.

وله أحاديث متعددة مرسلة، منها: عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، قالوا:

ص: 193

كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر بالأذان ينادي منادي النبي صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فيجتمع الناس، فلما صرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالأذان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهمه أمر الأذان، وأنهم ذكروا أشياء يجمعون بها الناس للصلاة - وذكر بقية الحديث، ورؤيا عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب -، ثم قال: قالوا: [وأذن بالأذان وبقي مناد في الناس: " الصلاة جامعة"، للأمر بحديث] ، وإن كان في غير وقت صلاة.

ففي هذه الرواية: أن الأذان كان بعد صرف القبلة إلى الكعبة، وكان صرف القبلة إلى الكعبة في السنة الثانية.

وقد روي ما يستدل به على أن الأذان إنما شرع بعد غزوة بدر بعد صرف القبلة بيسير.

ففي " المسند" وغيره عن حارثة بن مضرب، عن علي، قال: لما كان ليلة بدر وطلع الفجر نادى: " الصلاة عباد الله "، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد روى وكيع في " كتابه" عن هشام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: كان بدء الأذان إذا حضرت الصلاة نودي: " الصلاة الجامعة"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لو اتخذتم ناقوساً أو كبراً" - الكبر - بفتحتين -: الطبل ذو الرأسين. وقيل: الطبل الذي له وجه واحد - فرأى ابن زيد في المنام رجلاً في يده عود، قال: ما تصنع به؟ قال: نتخذه ناقوساً،

ص: 194

قال: أولا أدلك على ما هو خير من ذلك، إذا حضرت الصلاة قام أحدكم فيشهد أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

وقد روي أنه زيد في الأذان كلمات، كما سبق عن الزهري، ان بلالاً زاد في أذان الفجر:"الصلاة خير من النوم" - مرتين -، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد خرجه الإمام أحمد من طريق ابن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد ابن المسيب، عن عبد الله بن زيد - في سياق حديثه الطويل -، وقال في آخره: قال سعيد بن المسيب: فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر.

وخرجه ابن أبي شيبة، عن عبدة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن ابن المسيب، ولم يذكر فيه:" عبد الله بن زيد"، وجعله كله من رواية ابن المسيب.

والأشبه: أن ذكر زيادة بلال في آخر الحديث مدرجة من قول الزهري؛ كما سبق. ورواها معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن بلال.

خرجه من طريقه ابن ماجه.

وابن المسيب، لم يسمع من بلال - أيضا.

ورواها النعمان بن المنذر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.

ورواها صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.

ص: 195

خرجه الطبراني من الطريقين.

ورواها يونس، عن الزهري، عن حفص بن عمر بن سعد المؤذن، قال: حدثني اهلي، أن بلالاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.

ورواها شعيب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب - مرسلاً.

خرجه من الطريقين البيهقي.

والمرسل أشبه.

وخرج أبو داود في " مراسيله" من طريق يونس، عن ابن شهاب: أخبرني حفص بن عمر بن سعد المؤذن، أن بلالاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.

وفي رواية له: عن حفص بن عمر بن سعد: حدثني اهلي، عن بلال.

وروى الحديث بطوله، بدون هذه الزيادة: أبو صالح، عن الليث، عن يونس، عن ابن شهاب: أخبرني سعيد بن المسيب - فذكره كله مرسلاً.

وكذا رواه معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب - مرسلاً.

وروي: أن عمر أمر بلالاً بزيادة الشهادة بالرسالة في الأذان.

خرجه ابن خزيمة في " صحيحه" والإسماعيلي، من رواية عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، أن بلالاً كان يقول إذا أذن:" أشهد ان لا إله الله، حي على الصلاة"، فقال عمر: قل في إثرها: " أشهد أن محمداً رسول الله"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قل ما أمرك عمر".

عبد الله بن نافع، ضعيف جداً.

ص: 196

‌2 - باب

الأذان مثنى مثنى

ص: 197

605 -

ثنا سليمان بن حرب: ثنا حماد بن زيد، عن سماك بن عطية، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: أمر بلال ان يشفع الأذان، ويوتر الإقامة، إلا الإقامة.

ص: 197

606 -

حدثني محمد - هو: ابن سلام -، قال: حدثني عبد الوهاب الثقفي: ثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك، قال: لما كثر الناس، قال: ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه، فذكروا أن يوروا ناراً، أو يضربوا ناقوساً، فأمر بلال ان يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة.

سماك بن عطية، قال: حماد: كان من جلساء أيوب، ومات قبل أيوب.

وقد تقدم أن عبد الوهاب الثقفي روى عنه هذا الحديث بالتصريح برفعه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذا روي، عن ابن إسحاق، عن أيوب.

وكذا رواه خارجة بن مصعب، عن أيوب.

وروي مثله، عن الثوري، عن أيوب. وعن الثوري عن خالد الحذاء.

ص: 197

والصحيح عن الثوري - كقول الجماعة -: " أمر بلال".

وقد تقدم أنه لا يشك في أن الآمر له هو النبي صلى الله عليه وسلم.

ومعنى قوله: " يشفع الأذان" أن يجعله شفعاً: مثنى مثنى.

ومعنى: "يوتر الإقامة" أن يجعلها وتراً، أي: فرداً فرداً.

والشفع ضد الوتر: فالوتر: الفرد، والشفع الزوج.

ولهذا فسر " الشفع" في الآية بالخلق؛ لأن الخلق كله زوج؛ قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات:49]، وقال:{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس: 36] .

وفسر" الوتر" بالله عز وجل؛ لأنه وتر يحب الوتر.

والمقصود بهذا الباب: أن كلمات الأذان شفع.

لكن اختلف في التكبير في اوله: هل هو تكبيرتان، أو أربع؟

وقد اختلفت في ذلك روايات عبد الله بن زيد في قصة المنام، وحديث أبي محذورة حيث علمه النبي صلى الله عليه وسلم الأذان مرجعه من حنين، وأمره أن يؤذن لأهل مكة.

وقد خرج مسلم في " صحيحه" حديث أبي محذورة، وفي اوله: التكبير مرتين.

وخرج أبو داود وغيره حديث عبد الله بن زيد بالوجهين.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث أبي

ص: 198

محذورة: ان النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة.

وإنما يكون الأذان تسع عشرة كلمة إلا إذا كان التكبير في أوله اربعاً.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود حديث عبد الله بن زيد، وفي أوله: أربع تكبيرات.

وأشار أبو داود إلى الاختلاف في ذلك، وخرج من حديث ابن أبي ليلى، عن معاذ التكبير في أوله مرتين.

وكذلك الشهادتان، ففي حديث عبد الله بن زيد: ان الشهادتين في الأذان أربع، وفي حديث أبي محذورة: أن الشهادتين ثمان مرات، يعيدها مرتين، وسمي الترجيع، وقد خرجه مسلم كذلك.

ولا اختلاف فيما بقي من الأذان بين أذان أبي محذورة وعبد الله بن زيد الذي ألقاه على بلال في الروايات المشهورة في " السنن" و" المسانيد"، وليس في الأذان كلمة إلا شفع غير كلمة التهليل في آخر [الأذان] .

وقد روي أن أبا محذورة كان يقدم التهليل على التكبير في آخر أذانه من وجه منقطع.

قال أبو نعيم في " كتاب الصلاة": ثنا عيسى بن المسيب، عن إبراهيم، قال: كان أبو محذورة يقول: " لا إله إلا الله، والله وأكبر"، وكان بلال يقول:" الله أكبر، الله اكبر، لا إله إلا الله"، بلال في السفر وأبو محذورة في الحضر.

ص: 199

وهذا غريب، وعيسى فيه ضعف.

وقد ثبت عن أبي محذورة من وجهة عكس هذا، وأنه كان يختم أذانه بقوله:" الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله ".

وقد خرجه مسلم في " صحيحه".

وروي - أيضا - تأخير التكبير عن بلال من وجه فيه ضعف.

قال أبو نعيم في " كتاب الصلاة": ثنا زهير، عن عمران بن مسلم، قال: أرسلني سويد بن غفلة إلى مؤذنا، فقال: قل له يختم أذانه بـ " لا إله إلا الله والله أكبر"؛ فإنه أذان بلال.

وروى أبو نعيم بإسناد ضعيف مثل ذلك عن ابن عمر، وعن مؤذن علي بن أبي طالب، وعن أبي جعفر محمد بن علي.

وروي عن أبي يوسف، أن الأذان على أذان بلال المعروف، وأنه يزاد في آخره

: " والله أكبر"، يختم بذلك.

والأحاديث الصحيحة تدل على أن آخر الأذان: " الله أكبر، لا إله إلا الله"، وبه يقول جمهور العلماء من المتقدمين والمتأخرين.

وخرج النسائي من رواية الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن بلال، قال: آخر الأذان: " الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".

وفي رواية: " كان آخر أذان بلال" –مثل ذلك.

وكذا رواه منصور وغيره، عن إبراهيم.

ص: 200

ورواه حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، أن بلالاً كان يبدأ بالتكبير ويختم بالتكبير.

وهذا وهم.

وروى محارب بن دثار، قال: حدثني الأسود بن يزيد، عن أبي محذورة، حدثه أن آخر الأذان:" لا إله إلا الله".

خرجه النسائي.

واختلفوا في عدد التكبير في أوله:

فقالت طائفة: أربع، وهو قول أبي حنيفة والثوري والحسن بن صالح وعبيد الله بن الحسن والشافعي وأحمد وإسحاق.

وقالت طائفة: التكبير في أوله تكبيرتان، وهو قول مالك والليث من سعد، ورواية عن أبي يوسف. وقيل: إنه رجع عنها.

واختلفوا في الترجيع - وهو تكرير الشهاداتين -:

فذهب إليه مالك والشافعي وأصحابهما.

واختلف أصحاب الشافعي: هل هو ركن في الأذان فلا يصح بدونه،

ص: 201

أو سنة فيصح؟ والصحيح عندهم انه سنة. ونقل عن نص الشافعي خلافه.

وذهب الكوفيون إلى ترك الترجيع، وهو قول الأوزاعي.

وقال أحمد وإسحاق وأبو بكر بن أبي شيبة وداود وابن خزيمة وغيرهم: يجوز الأمران؛ لصحة الأحاديث بهما.

والأفضل عندهم ترك الترجيع؛ لأنه أذان بلال.

قيل لأحمد: أليس أذان أبي محذورة بعده؟ قال: بلى، ولكن لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أقر بلالاً على أذانه.

ووافقه إسحاق على ذلك.

وقال الجوزجاني: الترجيع افضل؛ لأنه آخر الأمرين:

وروي عن أهل البصرة في صفة الأذان غير ما تقدم.

روى حجاج بن منهال: ثنا يزيد بن إبراهيم، أنه سمع الحسن وابن سيرين يصفان الأذان:" الله اكبر الله اكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد ان لا إلا إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح"، يسمع بذلك من حوله، ثم يرجع فيمد صوته، ويجعل إصبعيه في أذنيه، فيقول:" اشهد أن لا إله إلا الله - مرتين - أشهد أن محمداً رسول الله – مرتين - حي على الصلاة - مرتين - حي على الفلاح - مرتين - الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".

خرجه ابن عبد البر.

روي عنهما على وجه آخر:

خرجه ابن أبي شيبة في " كتابه"، فقال:

ص: 202

ثنا إبن عليه، عن يونس، قال: كان الحسن يقول: " الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح" ثم يرجع فيقول: " الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الفلاح - مرتين - الله اكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".

قال: وحدثنا ابن عليه، عن ابن عون، عن محمد - يعني: ابن سيرين -، قال: كان الأذان أن يقول: الله أكبر الله أكبر، اشهد ان لا إله إلا الله، أشهد أن لا اله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، اشهد ان محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر".

قال: وحدثنا ابن عليه: ثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان أذان ابن عمر: " الله أكبر الله أكبر، شهدت أن لا إله إلا الله، شهدت أن لا إله إلا الله

– ثلاثاً - شهدت أن محمداً رسول الله، شهدت أن محمداً رسول الله، شهدت أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة - ثلاثاً -، حي على الفلاح - ثلاثاً - الله اكبر - أحسبه قال: لا إله إلا الله.

قال: وثنا عبدة: ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يجعل آخر أذانه:" الله اكبر الله اكبر، لا إله إلا الله ".

ص: 203

قال: وثنا يزيد بن هارون: أبنا سليمان التيمي، عن حبيب بن قيس، عن ابن أبي محذورة، عن أبيه، أنه كان يؤذن فيخفض صوته بالأذان - مرة مرة -، حتى إذا انتهى إلى قوله:" أشهد أن محمداً رسول الله " رجع إلى قوله: " أشهد أن لا إله إلا الله "، فرفع بها صوته - مرتين مرتين - حتى إذا انتهى إلى:" حي على الصلاة"قال: " الصلاة خير من النوم"، في الأذان الأول من الفجر.

وهذه الصفة تخالف [ما رواه] الحجازيون من أذان أبي محذورة، ورواياتهم عنه أولى.

وعلى هذا – والذي قبله -؛ فيكون الأذان وتراً لا شفعاً.

وروى وكيع في " كتابه" عن أبي المعتمر، عن ابن سيرين، عن ابن عمر، أنه مر على مؤذن، فقال له: أوتر أذانك.

وعن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: لا بأس إذا بلغ " حي على الصلاة، حي على الفلاح" أن يقولها مرة.

ولعل هذا في الاقامة. وكذلك خرجها وكيع في " باب: من افرد الإقامة".

قال ابن أبي شيبة: وثنا أبو أسامة: ثنا عبيد الله، عن نافع، قال: كان ابن عمر ربما زاد في اذانه: " حي على خير العمل".

ص: 204

وثنا أبو خالد، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، انه كان يقول في أذانه:" الصلاة خير من النوم". وربما قال: " حي على خير العمل".

ثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه ومسلم بن أبي مريم، أن علي ابن حسين كان يؤذن، فإذا بلغ " حي على الفلاح" قال:" حي على خير العمل"، ويقول: هو الأذان الأول.

وقال البيهقي: روي ذلك عن أبي أمامة.

ثم خرج بإسناده من حديث أولاد سعد القرظ، عن آبائهم، عن بلال، أنه كان ينادي بالصبح، فيقول:" حي على خير العمل"، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل مكانها:" الصلاة خير من النوم"، ويترك" حي على خير العمل".

ثم قال: هذه اللفظة لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيا علم بلالا وابا محذورة، ونحن نكره الزيادة فيه. وبالله التوفيق.

ص: 205

‌3 - باب

الإقامة واحدة، إلا قوله: " قد قامت الصلاة

"

ص: 206

607 -

ثنا علي بن عبد الله: ثنا إسماعيل بن إبراهيم: ثنا خالد، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: أمر بلال أن يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة.

قال إسماعيل: فذكرت لأيوب فقال: إلا الإقامة.

قد تقدم هذا الحديث من حديث خالد وأيوب، عن أبي قلابة.

وقول أيوب: " إلا الإقامة"، مراده: أن الحديث فيه هذه اللفظة، ولكن لم يذكر سندها، وقد ذكر سندها عنه سماك بن عطية - على ما تقدم في الباب الذي قبله -، وأن أيوب رواها عن أبي قلابة، عن أنس.

وقد تابعه - أيضا - معمر، عن أيوب.

خرج حديثه الإسماعيلي في " صحيحه" من حديث عبد الرزاق: أبنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: كان بلال يثني الأذان ويوتر الإقامة، ويقول:" قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة" - مرتين.

وفي رواية له - أيضا قوله: " قد قامت الصلاة".

وفي الباب: عن ابن عمر من رواية شعبة، عن أبي جعفر مؤذن مسجد العريان، قال: سمعت أبا المثنى مؤذن مسجد الأكبر يقول: سمعت ابن عمر قال: إنما كان الأذان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين، والإقامة

ص: 206

مرة مرة، غير أنه يقول:"قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة" فإذا سمعنا الإقامة توضأنا، ثم خرجنا إلى الصلاة.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في " صحيحهما" والحاكم، وصححه.

وقال: أبو جعفر، هو: عمير بن يزيد الخطمي.

ووهم في ذلك، إنما هو: أبو جعفر محمد بن إبراهيم مسلم بن أبي المثنى، وقد ينسب إلى جده مسلم أبي المثنى، وثقه ابن معين وابن حبان. وقال: ابن معين - مرة -: لا بأس به.

كذا ذكره ابن حبان وأبو أحمد الحاكم وابن عقدة والدارقطني وغيرهم.

وفرق بينهما غير واحد، منهم: مسلم في " كتاب الكنى"، وذكر أبا جعفر هذا ممن لا يعرف اسمه. وأن محمد بن إبراهيم يكنى أبا إبراهيم.

وكذا ذكر ابن أبي حاتم أن أبا جعفر هذا ليس هو محمد بن إبراهيم بن مسلم، بل قال في ذلك:" يكنى أبا إبراهيم"، وقال في أبي

ص: 207

جعفر هذا: " سئل أبو زرعة عنه فقال: هو كوفي لا أعرفه إلا في هذا الحديث".

قال: " وقلت لأبي: روى عيس بن يونس عن شعبة، فقال: عن أبي جعفر القاري؟ فقال: أخطأ عيس بن يونس، ليس هذا أبو جعفر القاري، هذا كوفي، والقاري مديني". انتهى.

ورواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن أبي جعفر - وليس بالفراء.

وكذا قال أبو حاتم الرازي: ليس بالفراء.

وخرجه البيهقي من طريق أبي النضر، عن شعبة، عن أبي جعفر - يعني: الفراء.

كذا قال، وهو من ظن بعض الرواة، وليس هذا بالفراء، الفراء اسمه: كيسان أو سلمان، وهو غير هذا.

قال البيهقي: ورواه غندر وعثمان بن جبلة، عن شعبة، عن أبي جعفر المديني.

قلت: هذا يوافق قول الحاكم: أنه أبو جعفر الخطمي الأنصاري.

وقال الحافظ أبو نعيم: أبو جعفر، اسمه: مسلم.

كذا رأيته ذكره في " الحلية"، وليس بشيء، إنما مسلم هو شيخه أبو المثنى.

وخرجه الإمام أحمد، عن حجاج: حدثنا شعبة، قال: سمعت أبا جعفر مؤذن مسجد بني العريان في مسجد بني بلال يحدث، عن مسلم أبي المثني مؤذن مسجد الجامع - فذكر هذا الحديث.

وأماأبو المثنى فاسمه: " مسلم"، ويقال:" مهران" -: ذكره مسلم بن الحجاج

ص: 208

في "كتاب الكنى"، وفي تسميته اختلاف وهو مؤذن مسجد الكوفة.

وهو عند ابن معين وابن عقدة: والد أبي جعفر -: نقله عنه عباس الدوري.

وهو عند الدارقطني وابن حبان: ابن ابنه.

وعند أبي زرعة ومسلم وابن أبي حاتم: أنه ليس بينهما نسب.

وثقه أبو رزعة وابن حبان. وقال الدارقطني: لا بأس به.

وقد روى هذا الحديث إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي المثنى، فخالف شعبة في رفعه ووقفه.

ذكره البخاري في " تاريخه"، وقال: قال وكيع، عن ابن أبي خالد، عن المثنى - أو أبي المثنى -، عن ابن عمر، قال: إذا قمت فاجعلها واحدة.

وقال عارم: ثنا عبد العزيز بن مسلم، عن إسماعيل، عن المثنى، عن أبيه، عن ابن عمر - مثله. انتهى ما ذكره.

وفي رواية عبد العزيز، عن إسماعيل: زيادة رجل، وهو المثنى.

وقال ابن معين: إسماعيل بن أبي خالد يروي عن أبي المثنى الكوفي، وهو هذا – يعني: الذي روى عنه شعبة.

وخرج ابن أبي شيبة في " كتابه": ثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن أبي المثنى، عن ابن عمر، قال: كان بلال يشفع الأذان ويوتر الإقامة.

وهذا في معنى رفع الحديث، كما رواه شعبة.

ص: 209

قال: وثنا عبدة، عن إسماعيل، عن أبي المثنى، أن ابن عمر كان يأمر المؤذن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، ليعلم المار الأذان من الإقامة.

وقد رواه الإمام أحمد - فيما رواه عنه ابنه عبد الله في " كتاب العلل" -، عن وكيع كما ذكره البخاري.

ورواه أحمد - أيضا -، عن محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن المثنى، عن ابن عمر - مثله.

وعن محمد بن يزيد، عن حجاج، عن أبي المثنى، عن ابن عمر - نحوه.

وذكر - أيضا – حديث شعبة، عن أبي جعفر المتقدم.

وروى أحمد - أيضا -، عن وكيع، [عن الثوري] ، عن أبي جعفر المؤذن، عن [أبي] سلمان، عن أبي محذورة.

ص: 210

وعن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان - أيضا.

قال عبد الرحمن: ليس هو الفراء - يعني: أبا جعفر.

وهذا إشارة إلى اختلاف آخر على أبي جعفر، عن أبي محذورة، أنه كان إذا بلغ:" حي على الفلاح" في الفجر، قال:" الصلاة خير من النوم" - مرتين.

وخرجه أبو نعيم في " كتاب الصلاة" عن سفيان، عن أبي جعفر الفراء - فذكره بمعناه.

وقد تقدم ان أبا جعفر ليس بالفراء، بل هو المؤذن.

وخرجه النسائي من طرق عن سفيان، ولفظ حديثه: عن أبي محذورة، قال: كنت أؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أقول في أذنان الفجر الأول:" حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".

وقال: أبو جعفر ليس بالفراء.

وقد روي عن أبي محذورة: الأذان مثنى مثنى، والإقامة مرة مرة من طرق غير قوية.

وروي عنه، ان النبي صلى الله عليه وسلم علمه الإقامة مثنى مثنى.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث

ص: 211

همام، عن عامر الأحول، عن مكحول، عن ابن محيريز، عن أبي محذورة، أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة.

وصححه الترمذي.

وخرجه مسلم من رواية هشام الدستوائي، عن عامر، ولم يذكر فيه الإقامة، ولا عدد كلمات الأذان، بل ذكره مفصلاً، والتكبير في أوله مرتين.

وفي رواية: تمام التكبير في أوله أربعاً.

واختلف العلماء في صفة الإقامة على أقوال:

أحدها: انها فرادى سوى التكبير فإنه مرتين في أولها وآخرها، وهذا قول مالك والليث والشافعي في القديم.

وممن روي عنه الأمر بإفراد الإقامة: ابن عمر وسلمة بن الأكوع وعطاء والحسن وعمر بن عبد العزيز وعروة، ومكحول والزهري، وقالا: مضت السنة بذلك.

وقال بكير بن الأشج: أدركت أهل المدينة على ذلك.

والقول الثاني: أنه تفرد الإقامة سوى التكبير، وكلمة الإقامة فإنها تثنى، وهو المشهور من مذهب الشافعي وقول أحمد وإسحاق. وروي عن الحسن ومكحول والزهري والأوزاعي.

وللشافعية وجه - ومنهم من حكاه قولاً -: أنه يفرد التكبير - أيضا - في أول الإقامة وآخرها، مع إفراد لفظ الإقامة.

ولهم قول آخر: انه يفرد التكبير في آخرها خاصة، مع لفظ الإقامة.

والثالث: أن الإقامة كالأذان مثنى مثنى؛ لحديث أبي محذورة.

ص: 212

وروي - أيضا - من حديث ابن أبي ليلى، عن معاذ وعن بلال وعن أصحاب محمد، كما سبق ذكر الاختلاف عنه.

وهو قول الكوفيين: النخعي والثوري والحسن بن صالح وأبي حنيفة وأصحابه وأبي بكر بن أبي شيبة، وهو قول مجاهد وابن المبارك.

وروي عن علي، وذكره حجاج بن أرطاة، عن أبي إسحاق، عن أصحاب علي وابن مسعود.

وروي - أيضا - عن سلمة بن الأكوع.

وقال النخعي: لا بأس إذا بلغ " حي على الصلاة"، حي على الفلاح" أن يقولها مرة مرة.

ولو أن الأذان يؤذن فأقام، فقال النخعي والشعبي: يعيد الأذان.

وقال الثوري: يجعل إقامته إذا قام [000] .

ومذهب مالك: أنه يعيد الأذان؛ لكنه يرى الإقامة فرادى.

والرابع: أنه يجوز تثنية الإقامة وإفرادها، والإفراد أفضل، وهو قول أحمد وإسحاق وداود الظاهري وجماعة من فقهاء أهل الحديث؛ لورود الحديث بذلك كله.

وكذا قال ابن خزيمة؛ لكنه قال: يجوز الترجيع في الأذان مع تثنية الإقامة، وتثنية الأذان بغير ترجيع مع إفراد الإقامة.

فأماتثنية الأذان من غير ترجيع وتثنية الإقامة، فلم يصح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والخامس: إن أذان وأقام أفرد الإقامة، وإن صلى وحده، وإن اقتصر على الإقامة ثناها لتكون له تأذينا، روي ذلك عن أبي العالية وسليمان بن موسى، ونقله حرب عن إسحاق.

ص: 213

‌4 - باب

فضل التاذين

ص: 214

608 -

حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى".

النداء بالصلاة، المراد به: الأذان للصلاة.

والتثويب، المراد به: الإقامة؛ فإنه رجوع إلى النداء، يقال: ثاب الرجل، إذا رجع.

ومنه: قوله تعالى:: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} [البقرة:125]، أي: يترددون ويرجعون إليه.

ومنه: حديث أبي هريرة: " إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون" - الحديث.

وقيل: سميت الإقامة تثويباً؛ لترديد قوله: " قد قامت الصلاة" مرتين.

ص: 214

وهو بعيد حكاه الخطأبي، ورجح أنها تسمى " تثويباً" لرفع الصوت بها.

قال: والتثويب: الاستغاثة، واصله أن يلوح الرجل بثوبه عند الفزع، يعلم أصحابه.

وهذا الذي قاله ضعيف، ولو كان صحيحاً لكان تسمية الأذان تثويباً أحق من الإقامة.

وفي الحديث: دليل على فضل الأذان، وانه يطرد الشيطان حتى يدبر عنده وله ضراط، بحيث لا يسمع التأذين.

والأذان والإقامة في هذا سواء.

وضراط الشيطان، محمول على ظاهره عند كثير من العلماء، ومنهم من تأوله، ولا حاجة إلى ذلك.

وفي " صحيح مسلم" عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة ذهب حتى يكون مكان الروحاء".

قال الأعمش: سألته عن الروحاء، فقال: هو من المدينة ستة وثلاثون ميلاً.

ص: 215

وروى النيسابوري، عن بشير بن عمرو، عن عمر بن الخطاب، قال: إذا رأيتم الغيلان فأذنوا بالصلاة.

وروى الحسن، عن سعد بن أبي وقاص، قال: أمرنا إذا رأينا الغول أن ينادي بالصلاة.

خرجهما ابن أبي الدنيا.

وقال مالك: استعمل زيد بن أسلم على معدن بني سليم، وكان معدنا لا يزال الناس يصابون فيه من قبل الجن، فذكروا ذلك لزيد بن أسلم، فأمرهم بالأذان، وأن يرفعوا أصواتهم به، ففعلوا فارتفع ذلك عنهم، وهم عليه حتى اليوم.

قال مالك: وأعجبني ذلك من رأي زيد بن أسلم.

وفي " صحيح مسلم"، عن سهيل بن أبي صالح، قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة، قال: ومعي غلام لنا - أو صاحب لنا -، فناداه مناد من حائط باسمه. قال: وأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئاً، فذكرت ذلك لأبي، فقال: لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك؛ ولكن إذا سمعت صوتاً فنادي بالصلاة؛ فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:" إن الشيطان إذا نودي بالصلاة ولى وله حصاص".

وقد قيل في سر ذلك: إن المؤذن لا يسمعه جن ولا أنس إلا شهد له يوم القيامة، كما سيأتي في الحديث بعد هذا، فيهرب الشيطان من سماع الأذان ويضرط؛ حتى يمنعه ضراطه من استماعه، حتى لا يكلف الشهادة به يوم القيامة.

ص: 216

وقيل: إن إعلان التكبير له سر في إذابة الشيطان، وقد جاء في حديث ضعيف:" إذا رأيتم الحريق فكبروا؛ فإنه يطفئه"، والشيطان خلق من النار، فهو يذوب من سماع التكبير وإعلانه.

وكذلك الإعلان بالتهليل:

قال ابو الجوزاء: ما للشيطان طرد عن القلب غير " لا إلا إلا الله"، ثم تلا:{وَإذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 46] .

ويكره لمن كان جالس أن يبادر إلى القيام، ولو إلى الصلاة؛ لأن فيه مشابهة بالشيطان في إدباره عند سماع الأذان.

قال الإمام أحمد في رواية الأثرم، وسئل عن الرجل يقوم حين يسمع المؤذن، يبادر يركع؟ قال: يستحب ركوعه بعدما يفرغ المؤذن أو يقرب من الفراغ؛ لأنه يقال: إن الشيطان ينفر حين يسمع الأذان.

ص: 217

‌5 - باب

رفع الصوت بالنداء

وقال عمر بن عبد العزيز: أذن أذانا سمحاً، وإلا فاعتزلنا.

قال وكيع: ثنا سفيان، عن عمر بن سعيد بن أبي حسين المكي، أن مؤذنا أذن فطرب في أذانه، فقال له عمر بن عبد العزيز: أذن أذاناً سمحاً، وإلا فاعتزلنا.

وخرج الدارقطني هذا مرفوعاً من حديث ابن عباس، وإسناده لا يصح.

وروي عن ابن عمر، أنه قال لمؤذن: إني أبغضك في الله؛ إنك تبغي في أذانك.

يشير إلى أنه يتجاوز الحد المشروع بتمطيطه والتطريب فيه.

وفي رواية: أنه قال: إنك تختال في أذانك.

كأنه يشير إلى التفخيم في صوته والتشادق والتكبر.

ص: 218

وقال أحمد في التطريب في الأذان: هو محدث.

يعني: انه لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

والقول في الأذان بالتطريب كالقول في قراءة القرآن بالتلحين. وكرهه مالك والشافعي - أيضا.

وقال إسحاق: هو بدعة -: نقله عنه إسحاق بن منصور.

ونقل عنه حرب، قال: التسميح احب إلي، فإن كان يؤذن باجر فإني أكرهه - يعني: التطريب -، وإن من كان بغير أجر، وكان أنشط للعامة فلا بأس.

وقد يستدل لذلك بقول ابن عمر: إني أبغضك في الله؛ إنك تحسن صوتك - يعني: في الأذان -؛ لأجل الدارهم.

وسنذكره فيما بعد – إن شاء الله.

قال البخاري رحمه الله:

ص: 219

609 -

ثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة الأنصاري ثم المازني، عن أبيه، أنه أخبره، أن أبا سعيد الخدري قال له: إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك وباديتك فإذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه " لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا أنس [ولا شيء] إلا شهد له يوم القيامة".

قال ابو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كذا روى مالك هذا الحديث.

ورواه ابن عيينة، عن شيخه، فقال: عن

ص: 219

عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة.

قال الشافعي: أصاب مالك في اسم الرجل، وأخطأ ابن عيينة فيما أرى.

وذكر الإمام أحمد هذا المعنى - أيضا.

وقد تقدم بهذا الإسناد في أوائل " كتاب الإيمان" حديث: " يوشك [أن يكون] خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال" - الحديث، وذكرنا الاختلاف في إسناده على مالك، وأنه سماه بعضهم عنه كما سماه ابن عيينة، والصحيح خلافه.

وروى هذا الحديث عبد العزيز بن الماجشون، عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، كما رواه مالك، إلا أنه لم يرفعه.

وما تضمنه حديث أبي سعيد من سكنى البادية بالغنم فقد سبق القول فيه مستوفى في " كتاب الإيمان" عند الكلام على حديثه المشار اليه.

وما تضمنه من الأذان للصلاة بالبادية، فيأتي بسط القول فيه عند تبويب البخاري على " الأذان في السفر" - إن شاء الله.

أماالأمر برفع الصوت في الأذان، فإنما هو من قول أبي سعيد، واستدل له بقول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا يسمع صوت المؤذن" –الحديث.

كذا رواه ابن عيينة صريحاً، وكذا ما قبله كله من قول أبي سعيد.

وقد روي نحوه عن أبي هريرة.

روى وكيع وأبو نعيم في " كتأبيهما": ثنا أبو العنيس سعيد بن كثير، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: ارفع

ص: 220

صوتك بالأذان؛ فإنه يشهد لك كل شيء سمعك.

لفظ وكيع، وخرجه عنه ابن شيبة.

ولفظ أبي نعيم، قال: من أذن فليسمع؛ فإنه يشهد له يوم القيامة ما انتهى إليه صوته من سمعه.

وخرجه ابن أبي شيبة بإسناده، عن الزبير بن عدي، عن رجل، عن ابن عمر، انه قال لرجل: ما عملك؟ قال: الأذان. قال: نعم العمل عملك؛ يشهد لك كل شيء سمعك.

ورى وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد، قال: المؤذن يشهد له كل رطب ويابس سمعه.

ورواه غيره عن الأعمش، عن مجاهد - مرسلاً0، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الدارقطني: هو أشبه.

قال: ورواه عمار بن رزيق، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر - مرفوعاً.

قال: ورواه محمد بن عبيد الطنافسي وعمرو بن عبد الغفار، عن الأعمش، عن مجاهد، عن أبي هريرة – مرفوعاً.

وقد خرجه الإمام أحمد من رواية عمار بن رزيق كما تقدم، ومن رواية زائدة عن الأعمش، عن رجل، عن ابن عمر - مرفوعاً.

ورواه عبد الله بن بشر، عن الأعمش كرواية عمار بن رزيق.

ص: 221

وروي عن إسماعيل بن زكريا، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس - مرفوعاً.

قال الدارقطني في موضع من " علله": الصحيح: الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر - مرفوعاً.

وهذا يخالف قوله في مسند أبي هريرة: إن إرساله أصح.

ورواه إبراهيم بن طهمان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر - موقوفاً.

ورواه حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - مرفوعاً.

وروي مرفوعاً من وجه آخر: من رواية شعبة، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبي يحيى، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" المؤذن يغفر له مد صوته، ويشهد له كل رطب ويابس".

خرجه أبو داود والنسائي.

وخرجه ابن ماجه، وعنده:" ويسغفر له كل رطب ويابس".

وخرجه ابن خزيمة وابن حبان في " صحيحيهما".

وقال ابن حبان: ابو يحيى هو

ص: 222

سمعان مولى أسلم، [حدثني] أبي يحيى.

وموسى بن أبي عثمان كوفي، أثنى عليه سفيان، ووصفه بالخير. وقال أبو حاتم: شيخ.

وله طريق آخر: من رواية منصور بن المعتمر؛ واختلف عليه:

فرواه وهيب، عن منصور، عن يحيى بن عباد أبي هبيرة، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وسأل وهيب منصوراً، عن عطاء هذا، فقال: هو رجل. قال: وليس ابن أبي رباح ولا ابن يسار.

وكذا رواه زائدة وفضيل بن عياض، عن منصور، عن ابن عباد،

ص: 223

عن عطاء - رجل من أهل المدينة -، عن أبي هريرة - موقوفاً غير موفوعٍ.

وكذا رواه جرير، عن منصور، عن يحيى بن عباد، عن رجل من أهل المدينة، عن أبي هريرة - موقوفاً.

ورواه بعد الرزاق، عن معمر، عن منصور، عن عباد بن أنس، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 224

وخرجه عنه الإمامان: أحمد وإسحاق في " مسنديهما".

قال أبو زرعة الرازي والدارقطني: حديث معمر وهم، والصحيح: حديث منصور.

قلت: ويشهد لقول منصور: أن أبا أسامة رواه عن الحسن بن الحكم، عن أبي هبيرة يحيى بن عباد، عن شيخ من الأنصار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وخرجه عنه ابن أبي شيبة في " كتابه".

قال الدارقطني: الصحيح: قول زائدة وفضيل بن عياض وجرير، عن منصور.

يعين: الموقوف. والله اعلم.

وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث قتادة، عن أبي إسحاق الكوفي، عن البراء بن عازب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" المؤذن يغفر له مد صوته، ويصدقه من سمعه من رطب ويابس، وله مثل أجر من صلى معه".

ص: 225

وأبو إسحاق هذا، قال أحمد: ما أظنه السبيعي.

وذكر الترمذي في " العلل" أنه لا يعرف لقتادة سماعاً من أبي إسحاق الكوفي.

وقوله: " لا يسمع مدى صوت المؤذن": المدى: الغاية حيث ينتهي الصوت.

ص: 226

وقوله: " كل رطب ويابس" يدل على أن الجمادات سواء كانت رطبة أو يابسة فإن لها سماعاً في الدنيا وشهادة في الآخرة.

فدل ذلك على صحة أشياء مختلف في بعضها:

منها: إدراك الجمادات ونطقها.

وقد أثبت ذلك جمهور السلف، سواء كانت رطبة أو يابسة، كما دل عليه قوله:{يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10]، وقوله:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} ? [الإسراء: 44] .

وخص الحسن التسبيح بما كان رطباً قبل ان ييبس.

والجمهور على خلافه.

وأمامن قال: تسبيحها: دلالاتها على صانعها بلسان الحال، فقول ضعيف جداً، والأدلة الكثيرة تبطله.

ومنها: أن الجمادات [000] يوم القيامة.

وقد دل على ذلك حديث عبد الله بن أنيس في سؤال الحجر والعود.

والحديث الصحيح: أن الغال يأتي بما غل من بقر وغنم وصامت ورقاع تخفق. وأن مانع الزكاة يجعل له ماله صفائح يكوى به.

كما دل عليه قوله: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 35] .

وأماقوله في الحديث الآخر: " يغفر له مدى صوته".

ص: 227

فقيل: معناه: لو كانت ذنوبه أجسأمالغفر له منها قدر ما يملأ المسافة التي بينه وبين منتهى صوته.

وقيل: معناه: تمد له الرحمة بقدر مد الأذان.

وقال الخطأبي: معناه أنه يستكمل مغفرة الله تعالى إذا استوفى وسعه في رفع الصوت، فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت.

ورفع الصوت بالأذان مستحب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد لما رأى الأذان في منامه: " ألقه على بلال؛ فإنه اندى صوتاً منك".

خرجه أبو داود وغيره.

والمؤذن، أماأن يؤذن لنفسه، أو يؤذن للجماعة؛ فإن أذن للجماعة فلا يحصل الإتيان بالأذان المشروع في حقهم حتى يسمعهم.

قال الإمام أحمد في رواية حنبل، في رجل ضعيف الصوت، لا يرفع صوته ولا يخرج من المسجد، فإذا كان يسمع اهل المسجد والجيران فلا بأس.

قال القاضي أبو يعلى: ظاهر هذا، أنه إذا لم يسمع الجيران لم يصب سنة الأذان؛ لأن القصد ومن الأذان الإعلام، فإذا لم يسمع الجيران لم

ص: 228

يوجد المقصود.

فأماكمال السنة فهو: أن يرفع صوته نهاية جهده، ولا يزيد على ذلك حتى يخشى على نفسه ضرراً.

قال أحمد في رواية حنبل: يرفع صوته ما استطاع.

وقال الميموني: رأيت أحمد وهو يؤذن، صوتا بين الصوتين، وكان إلى خفض الصوت أقرب.

قال القاضي: ظاهر هذا، أنه لا يرفع صوته رفعاً يخرجه عن طبعه.

ومن الأصحاب من جعل هذه رواية ثانية؛ بأن التوسط في رفع الصوت أفضل.

وفي " المراسيل" لأبي داود، عن ابن سيرين، أن بلالاً جعل اصبعيه في أذنيه في بعض أذانه، أو في إقامته، بصوت ليس بالرفيع ولا بالوضيع.

ومتى خافت ببعضه فهو كمخافتته بكله عند أصحابنا.

وإن كان يؤذن لنفسه فله أن يسر به؛ لأنه لا يعلم غيره.

وقال أصحاب الشافعي: يستحب له أن يرفع صوته ما أمكنه، بحيث لا يلحقه ضرر، فإن أسر به لم يصح على الصحيح عندهم.

ولهم وجه: أنه يصح، كما لو أسر بالقراءة في صلاة الجهر.

ص: 229

ووجه ثالث: يصح إن سر بعضه خاصة، ونص عليه الشافعي في [مكان] .

قال الماوردي منهم: لو سمع واحداً من الجماعة أجزأه؛ لأن الجماعة تحصل بهما.

وأمامن يؤذن لنفسه، فيجزئه أن يسمع نفسه على الصحيح عندهم. وقيل: يشترط إسماع من عنده. والمذهب: الأول.

ومتى رفع صوته رفعاً يخشى على نفسه الضرر منه كره.

وقد قال عمر لأبي محذورة لما سمعه يؤذن بمكة: أماخشيت أن ينشق مريطاؤك؟

ذكره أبو عبيد وغيره.

والمريطاء: بالمد والقصر.

قال أبو عبيد: والمحفوظ: المد. قال: وهو قول الأصمعي. قال: وقال الأحمر: هي مقصورة. قال: وقال أبو عمرو: تمد وتقصر.

وهي ما بين السرة والعانة -: قاله أبو عبيد والأكثرون.

وقيل: ما بين الصدر والعانة.

ص: 230

‌6 - باب

ما يحقن بالأذان من الدماء

ص: 231

610 -

حدثني قتيبة: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا غزا بنا قوماً لم يغز بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم. قال: فخرجنا إلى خيبر، فانتهينا إليهم ليلاً، فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب، وركبت خلف أبي طلحة، وإن قدمي لتمس قدم النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: محمد والله، محمد والخميس. قال: فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الله أكبر، الله أكبر. خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".

في هذا الحديث فوائد كثيرة:

منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يغير على العدو.

والإغارة: تبيت العدو ليلاً.

وقد جاءت نصوص أخر بإباحة

ص: 231

الإغارة، وموضع ذكر ذلك " كتاب الجهاد" - إن شاء الله.

ومنها: التفاؤل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رآهم خرجوا بالمكاتل - وهي: الزبيل والقفاف -، والمساحي - وهي: المجرفة -، وهذه آلات الحراث، ووقع الأمر كذلك.

ومنها: التكبير على العدو عند مشاهدته.

ويحتمل أن يكون سر ذلك أن التكبير طارد لشيطان الجن تقارنهم، فإذا انهزمت شياطينهم المقترنة بهم انهزموا، كما جرى للمشركين يوم بدر، فإن إبليس كان معهم يعدهم ويمنيهم، فلما انهزم انهزموا.

وقولهم: " محمد والخميس"، فيه روايتان: الخميس، والجيش، وهما بمعنى واحد.

وسمي الجيش خميساً؛ لأنه ينقسم خمس أجزاء: مقدمة، وساقة، وميمنة، وميسرة، وقلب.

ومنها - وهو المقصود بهذا الباب -: أنه صلى الله عليه وسلم كان يجعل [الأذان] فرق ما بين دار الكفر ودار الإسلام، فإن سمع مؤذناً [للدار] كحكم ديار الإسلام، فيكف عن دمائهم وأموالهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم بعد ما يصبح.

وفي هذا: دليل على أن إقامة الصلاة توجب الحكم بالإسلام؛ فإن الأذان إنما هو دعاء إلى الصلاة، فإذا كان موجباً للحكم

ص: 232

بالإسلام، فالصلاة التي هو المقصود الأعظم أولى.

ولا يقال: إنما حكم بإسلامهم بالأذان لما فيه من ذكر الشهادتين؛ لأن الصلاة تتضمن ذلك - أيضا -، فإذا رأينا من ظاهره يصلي - ولا سيما في دار الحرب أو دار لم يعلم أنها دار إسلام - حكمنا بإسلامه لذلك. وهو قول كثير من العلماء، وهو ظاهر مذهب أحمد.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يأمر بالكف عن دار يسمع فيها الأذان، أو يرى فيها مسجد، من رواية ابن عصام المزني، عن أبيه - وكانت له صحبة -، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشاً أو سرية يقول لهم: " إذا رأيتم مسجداً، أو سمعتم مؤذناً فلا تقتلوا [أحداً] ".

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي.

وقال: حسن غريب.

وقال ابن المديني: إسناد مجهول، وابن عصام لا يعرف، ولا ينسب أبوه.

ص: 233

وروى الهرماس بن حبيب العنبري، عن أبيه، عن جده، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن حين أسلم الناس ودجا الإسلام على الناس، فهجم على بني عدي بن جندب فوق النباح بذات الشقوق، فلم يسمعوا أذانا عند الصبح، فأغاروا عليهم، فأخذوا أموالهم حتى أحضروها المدينة عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت وفود بني العنبر: أخذنا يا رسول الله مسلمين غير مشركين. فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذراريهم وعقار بيوتهم، وعمل الجيش أنصاف الأموال.

خرجه إبراهيم الحربي في " كتاب غريب الحديث" وأبو القاسم البغوي في " معجم الصحابة".

ص: 234

وقال الحربي: إنما رد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذراريهم؛ لأنه لم ير أن يسبيهم إلا على أمر صحيح لا شك فيه، وهؤلاء مقرون بالإسلام، وليس حجة من سباهم، إلا أنهم قالوا: لم نسمع أذاناً. وكذلك فعل في عقار بيوتهم - يريد: أرضهم -، وعمل الجيش جعالة عمالة لهم أنصاف الأموال؛ وذلك لأن أصحاب الجيش ادعوا أن ذلك فيئاً لهم؛ لأنهم لم يسمعوا أذاناً، والمأخوذ منهم ادعوا أنه لهم؛ أسلموا عليه.

ثم روى الحربي من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أناس من خثعم، فاستعصموا

ص: 235

بالسجود، فقتل منهم رجل، فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم نصف الدية.

قال الحربي: لا، لم يقروا بالإسلام، وإنما سجدوا، وقد يسجد ولم يسلم، فلذلك أعطاهم نصف الدية.

قلت: هذا حديث مرسل.

والذين يقولون: إن الكافر يصير مسلماً بالصلاة، فصلاته عندهم كإقراره بالإسلام.

وذكر - أيضا - حديث الزبيب العنبري، وقد خرجه أبو داود في " سننه"، وفيه: أنهم سبوا، ثم شهد لهم شاهد بالإسلام، وحلف الزبيب، فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الذراري ونصف الأموال.

قال الحربي: لأنه لم تكمل البينة.

قلت: في سياق حديث أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: " لولا أن الله لا يحب ضلالة العمل ما رزيناكم عقالاً".

ص: 236

وهذا تعليل بغير ما ذكره الحربي.

وحاصل الأمر: أن الدار إن سمع فيها أذان لم يجز الإقدام على قتلهم ابتداءً، بل يصيرون في عصمة دمائهم وأموالهم كالمسلمين؛ فإن الأذان وإن كان لم يسمع من بعضهم، إلا أن ظهوره في دار قوم دليل على إقرارهم بذلك ورضاهم. فأماالمؤذن نفسه فإنه يصير مسلماً بذلك، ولا سيما إذا كان في دار كفر وموضع لا يخاف فيه من المسلمين ولا يتقيهم.

وعند أصحابنا: أنه يصير الكافر بالأذان مسلماً.

وبه قال الليث بن سعد، وسعيد بن عبد العزيز. وقالا: لو ادعى أنه فعله تقية وخيفة على نفسه أنه لا يقبل منه، ويصير مرتداً.

وحكى الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي ومالك، أنه يقبل منه ذلك ولا يقتل.

ذكره محمد بن نصر المروزي في " كتاب الصلاة".

وينبغي أن يقبل هذا بموضع يحتمل فيه ذلك كدار الإسلام، أو دار يخشى أن يغار عليها المسلمون؛ فإن الكافر إذا أتى بالشهادتين على وجه الإسلام كالذي يجيء ليسلم، فتعرض عليه الشهادتان فيقولهما، فإنه يصير مسلماً بغير خلاف.

وإن قالهما على غير هذا الوجه، ثم ادعى أنه لم يرد بهما الإسلام، فالمشهور عن أحمد، أنه لا يقبل منه ويصير مرتداً.

وعنه رواية، أنه يقبل منه ولا يقتل. وهو قول إسحاق.

وضعف هذه الرواية أبو بكر الخلال.

ص: 237

وعن أحمد، أنه يجبر على الإسلام، ولا يقتل إن أباه.

وللشافعية - أيضا - وجهان فيما [إذا] أتى بالشهادتين على غير وجه الاستدعاء ولا الحكاية: هل يصير مسلماً، أم لا؟ وأصحهما: أنه يصير مسلماً -: حكاهما صاحب " شرح المهذب".

وإن لم يسمع في الدار أذان:

فإن كانت معروفة قبل ذلك بأنها دار حرب جاز ابتداؤهم بالقتل والسبي والنهب، هذا هو الذي دل عليه حديث أنس المخرج في هذا الباب.

وإن كانت معروفة بأنها دار إسلام، ولم يسمع فيها أذان، فهذا مسألة قتال أهل البلدة المسلمين إذا اتفقوا على ترك الأذان.

وهي مبنية على أن الأذان على أهل الأمصار والقرى: هل هو فرض كفاية، أو سنة مؤكدة؟

وفيه قولان:

أحدهما: أنه فرض كفاية، وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد، وقول داود، ووافقهم جماعات من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي.

وكذا قال عطاء ومجاهد وابن أبي ليلى والأوزاعي وأهل الظاهر: إن الأذان فرض.

وحكي عن هؤلاء كلهم أن الإقامة شرط لصحة الصلاة، فمن ترك الإقامة وصلى أعاد الصلاة.

وعن الأوزاعي: أنه يعيد في الوقت.

وقال عثمان بن كنانة من المالكية: يعيد إذا تركها عمداً.

وذهب الجمهور إلى أنه لا إعادة على من صلى بغير أذان ولا

ص: 238

إقامة.

واستدلوا لوجوب الأذان بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم".

وقد خرجه البخاري من حديث مالك بن الحويرث وعمرو بن سلمة الجرمي، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى ابن جرير الطبري، عن يونس بن عبد الأعلى، عن أشهب، عن مالك، قال: إذا ترك الأذان مسافر عمداً أعاد الصلاة.

وهذا غريب جداً.

وحكى ابن عبد البر نحوه عن داود.

ونقل ابن منصور، عن إسحاق، قال: إذا نسي الأذان والإقامة وصلى أجزأه، وإن كان في السفر فلا بد له من الإقامة.

والقول الثاني: أن الأذان سنة مؤكدة، وهو ظاهر مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي، ورواية عن أحمد.

فمن قال: الأذان فرض كفاية، قال: إذا اجتمع أهل بلد على تركه قوتلوا عليه حتى يفعلوه.

ومن قال: هو سنة، اختلفوا على قولين:

أحدهما: أنهم يقاتلون عليه - أيضا -، لأنه من أعلام الدين وشرائعه الظاهرة،

ص: 239

وهو قول محمد بن الحسن وطائفة من الشافعية.

والثاني: لا يقاتلون عليه كسائر النوافل، وهو قول أبي حنيفة وطائفة من الشافعية.

وقال أبو يوسف: آمرهم وأضربهم، ولا أقاتلهم؛ لأنه دون الفرائض وفوق النوافل.

واستدل بعض من قال: يقاتلون على تركه بحديث أنس هذا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الأذان مانعاً من القتال، وتركه مبيحاً له، فدل على استباحة القتال بمجرد تركه، وإن جاز ان يكونوا قد أسلموا.

ص: 240

‌7 - باب

ما يقول إذا سمع المنادي

فيه حديثان:

الحديث الأول:

ص: 241

611 -

حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن".

هكذا روى هذا الحديث مالك في " الموطإ"، وكذا رواه الثقات من أصحابه عنه.

ورواه المغيرة بن سقلاب، عن مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد.

وزيادة: " سعيد بن المسيب" لا تصح.

والمغيرة متروك.

ص: 241

وروي عن عمرو بن مرزوق، عن مالك، عن الزهري، عن أنس.

وهو وهم. وقيل: إنه ممن رواه عن عمرو، وهو محمد بن عبد الرحيم الشماخي.

ورواه عبد المنعم بن بشير - وهو ضعيف جداً -، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر. ولا يصح.

وتابع مالكا على روايته، عن الزهري، عن عطاء، عن أبي سعيد: معمر ويونس.

وقيل: وسفيان وإبراهيم بن سعد.

ص: 242

وخالفهم عبد الرحمن بن إسحاق، فرواه عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة.

وخرجه ابن ماجة من طريقه.

وقيل: عنه، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة.

والصحيح: قول مالك ومن تابعه -: قاله أبو حاتم الرازي والترمذي وابن عدي والدارقطني.

ص: 243

ورواه حجاج بن نصير، عن عباد بن كثير، عن عقيل، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن [أبي] أيوب الأنصاري.

وهو وهم من حجاج أو عباد -: قاله الدارقطني.

الحديث الثاني:

قال:

ص: 244

612 -

ثنا معاذ بن فضالة: ثنا هشام، عن يحيى، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، قال: حدثني عيسى بن طلحة، أنه سمع معاوية يوماً،

ص: 244

فقال مثله، إلى قوله:(وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) .

ص: 245

613 -

ثنا إسحاق: ثنا وهب بن جرير: ثنا هشام، عن يحيى - مثله.

قال يحيى: وحدثني بعض إخواننا، أنه لما قال:(حي على الصلاة)، قال:(لا حول ولا قوة إلا بالله)، وقال: هكذا سمعنا نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول.

هكذا خرجه مختصراً.

وخرجه الإمام أحمد بتمامه، عن إسماعيل بن ابراهيم - هو: ابن علية - وأبي عامر العقدي، قالا: ثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة - قال أبو عامر في حديثه: ثنا عيسى بن طلحة -، قال: دخلنا على معاوية، فنادى المنادي بالصلاة، فقال:(الله أكبر، الله اكبر) . فقال معاوية: (الله أكبر، الله أكبر)، فقال:(أشهد أن لا إله إلا الله)، فقال معاوية:(وأنا أشهد) - قال أبو عامر في حديثه: (أن لا إله إلا الله) -، فقال:(أشهد أن محمداً رسول الله)، فقال معاوية:(وأنا اشهد) - قال أبو عامر: (أن محمداً رسول الله) .

قال يحيى: ثنا رجل، أنه لما قال:(حي على الصلاة) قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، قال معاوية: هكذا سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول.

ص: 245

وخرجه الإسماعيلي بنحوه من طريق ابن علية.

وله طريق آخر عن معاوية:

خرجه البخاري في "الجمعة" في " كتابه" هذا من طريق ابن المبارك: أبنا أبو بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف، [عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف]، قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان وهو جالس على المنبر أذن المؤذن، فقال:(الله أكبر، الله أكبر)، فقال معاوية:(الله أكبر، الله أكبر) . فقال: (أشهد ان لا إله إلا الله)، فقال معاوية:(وأنا)، فقال:(أشهد أن محمداً رسول الله)، فقال معاوية:(وأنا) ، فلما قضى التاذين، قال: يأيها الناس، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه المجلس حين أذن المؤذن يقول كما سمعتم مقالتي.

وقد روي عن معاوية من طريق أخرى، وفي بعضها: انه قال عند: (حي على الصلاة)، (وحي على الفلاح) :(لا حول ولا قوة إلا بالله) موافقة للرواية التي أرسلها يحيى بن أبي كثير.

فخرج الإمام أحمد والنسائي من رواية ابن جريج: أخبرني عمرو بن يحيى، أن عيسى بن عمر أخبره، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص، عن علقمة بن وقاص، قال: إني عند معاوية إذ أذن مؤذنه، فقال معاوية كما قال المؤذن، حتى إذا قال:(حي على الصلاة) قال: (لا حول ولا قوة إلا

ص: 246

بالله) ، فلما قال:(حي على الفلاح) قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله) . وقال بعد ذلك ما قال المؤذن، ثم قال: سمعت رسول لاله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.

وخرجه الإمام أحمد بمعناه من رواية محمد عمرو بن علقمة، عن أبيه، عن جده، قال: كنا عند معاوية – فذكره بمعناه.

وروى عبد الوهاب بن الضحاك: ثنا إسماعيل بن عياش، عن مجمع بن جارية، عن أبي امامة بن سهل، قال: سمعت معاوية يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - إذا أذن المؤذن - مثل قوله، وإذا قال:(حي على الصلاة) قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله) .

عبد الوهاب، متروك الحديث. وإسماعيل، لا يحفظ حديث الحجازيين.

وقد رواه الإمام أحمد عن يعلى بن عبيد ويزيد بن هارون،

ص: 247

كلاهما عن مجمع - بنحو سياق حديث أبي بكر بن عثمان الذي خرجه البخاري.

وخرجه - أيضا - عن وكيع، عن مجمع - مختصراً.

ورواه أبو نعيم في " كتاب الصلاة" عن مجمع – بنحو رواية يعلى ويزيد.

وليس في حديث أحد منهم: ذكر الحيعلة.

وفي رواية يعلى ويزيد وأبي نعيم: انه لما كبر المؤذن - اثنين - كبر - اثنين - ولما شهد انه لا اله الا الله – اثنين - شهد - اثنين -، ولما شهد ان محمد رسول الله - اثنين - شهد - اثنين.

وهذا يشعر بأن التكبير في اول الاذان مرتان.

وروي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير حديث معاوية:

فخرج مسلم في "صحيحه" من حديث عمارة بن غزية، عن خبيب بن عبد الرحمن بن يساف، عن حفص بن عاصم بن عمر، عن أبيه، عن جده عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا قال المؤذن: الله اكبر، الله اكبر، فقال احدكم، الله اكبر. ثم قال: اشهد ان لا اله الا الله، فقال اشهد ان لا اله الا الله. ثم قال: اشهد ان محمد رسول الله، قال: اشهد

ص: 248

ان محمد رسول الله - ثم قال: حي الصلاة، قال: لاحول ولا قوة الا بالله. ثم قال: حي عل الفلاح، قال: لا حول ولا قوة الا بالله. ثم قال: الله اكبر الله اكبر، قال: الله اكبر الله اكبر. ثم قال: لا الله الا الله، قال: لا اله الا الله من قلبه؛ دخل الجنة)) .

وعمارة بن غزية، ثقة ولم يخرج له البخاري.

ص: 249

وقد روي نحوه من حديث عاصم بن عبيد الله العمري، عن علي بن حسين، عن أبي رافع، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا سمع [المؤذن] قال مثل ما يقول حتى إذا بلغ:((حي على الصلاة، حي على الفلاح)) قال: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) .

خرجه الإمام أحمد والنسائي في "اليوم والليلة".

وعاصم هذا، ضعفوه، وقد اختلف عليه في إسناده.

وروي نحوه من حديث أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

خرجه ابن عدي، وقال: هو منكر، وإسناده لا يصح.

واجابه المؤذن مستحبة عند الجمهور العلماء، وليست واجبة.

وكان الحسن كثيراً يسمع المؤذن وهو يتحدث فلا يقطع حديثه ولا يجيبه،

ص: 250

وكذلك إسحاق بن راهويه.

ونص أحمد على ان الاجابة غير واجبة.

وحكى الطحاوي عن وقم انهم واجبوا اجابته. والظاهر: انه قول بعض الظاهرية. وحكي عن بعض الحنفية - أيضا.

وروي عن ابن مسعود، انه قال: من الجفاء ان لا يقول مثل ما يقول المؤذن.

وقد روي مرفوعاً من وجوه ضعيفة.

واختلف العلماء: هل يجيب المؤذن، فيقول كقوله في جميع ما يقول، ام لا؟

فقالت طائفة: يقول مثل ما يقول سواء في جميع اذانه؛ لظاهر حديث أبي سعيد.

وفي "صحيح مسلم" من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول)) .

وقد روي عن طائفة من السلف، انهم قالوا: يقول مثل قول المؤذن، ولم يستثنوا، منهم: النخعي:

وروي عن أبي عمر، انه كان يقول مثل ما

ص: 251

يقول المؤذن.

وهو ظاهر قول الخرقي من أصحابنا.

وقالت طائفة: يقول كقوله، الا في قوله:(حي على الصلاة، حي على الفلاح)، فانه يقول:(لا حول ولا قوة الا بالله) .

وهذا مروي عن الحسن، وهو منصوص عن أحمد، والشافعي، وهو قول طائفة من الحنفية والمالكية.

وهؤلاء؛ جعلوا حديث أبي سعيد وما في معناه عاماً، وحديث عمر ومعاوية وما في معناهما خاصة، فتقضي على النصوص العامة.

ومن الحنفية من قال: يقول عند قوله: (حي على الصلاة) : (لا حول ولا قوة الا بالله) . وعند: (حي على الفلاح) : (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن) .

وقالت طائفة: هو مخير بين ان يقول مثل قول المؤذن في الحيعلة، وبين ان يقول:"لا حول ولا قوة الا بالله"، وجمعوا بين الاحاديث بذلك، وهذا قول أبي بكر الاثرم ومحمد بن جرير الطبري.

وقالت طائفة: بل يجمع بين ان يقول مثل قول المؤذن، وبين قوله:"لا حول ولا قوة الا بالله".

وهذا قول بعض أصحابنا، وهو ضعيف؛ لان الجمع لم يرد.

وكان بعض شيوخنا يقول: يجمع بين الاحاديث في هذا بأن من سمع المؤذن وهو في المسجد قال مثل قوله، فإن سمعه خارج المسجد قال:"لا حول ولا قوة بالا بالله"؛ لانه يحتاج إلى سعي

ص: 252

فيستعين بالله عليه.

وقالت طائفة: يجيب المؤذن إلى اخر الشهادتين، ولا يجيبه فيما زاد على ذلك، وهو رواية عن مالك.

وفي "تهذيب المدونة": انه يجيبه إلى قوله: "اشهد ان محمداً رسول الله"، وان اتم الاذان معه فلا بأس.

وظاهره: انه يتمه معه بلفظ الاذان.

وهؤلاء؛ قد يحتجون ببعض روايات حديث معاوية التي فيها الاجابة إلى الشهادتين، ولكن قد روي عنه عن وجوه: اجابته في تمام الاذان.

وروي من حديث الحكم بن ظهير، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، ان النبي صلى الله عليه وسلم اجاب المؤذن إلى الشهادتين، ثم سكت.

ذكره ابو بكر الاثرم، وقال: هو حديث واه.

يشير إلى ان الحكم بن ظهير ضعيف جداً.

وروى ابو نعيم في "كتاب الصلاة": ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن أبي جعفر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع المنادي يقول (اشهد ان لا اله الا الله) قال: (وانا) . وإذا قال: (اشهد ان محمد رسول الله) قال: (وانا) ، ثم سكت.

وهذا مرسل.

ص: 253

وحكى ابن عبد البر عن قوم، انهم راوا اجابة المؤذن الحيعلتين خاصة.

وعن قوم. انهم راوا اجابته في الشهادتين خاصة، دون ما قبلهما وبعدهما.

وروى ابن أبي شيبة بإسناده، عن قتادة، ان عثمان كان إذا سمع المؤذن يؤذن يقول كما يقول، في الشتهد والتكبير كله، فإذا قال:"حي على الصلاة" قال: ما شاء الله، لا حول ولا قوة الا بالله. فإذا قال:((قد قامت الصلاة)) قال: مرحبا بالقائلين عدلاً، وبالصلاة مرحباً واهلاً. ثم ينهض إلى الصلاة.

وبإسناده عن مجاهد، انه كان إذا قال المؤذن:(حي على الصلاة) قال: المستعان الله. [فاذا] قال: (حي على الفلاح) قال: لا حول ولا قوة الا بالله.

وفي "مسند الامام أحمد" عن علي بن أبي طالب، انه كان إذا سمع المؤذن يؤذن قال كما يقول، فإذا قال:"اشهد ان لا الله الا الله، واشهد ان محمداً رسول الله" قال علي: اشهد ان لا اله الا الله، واشهد ان محمداً رسول الله.

وخرج ابن السني بإسناد لايصح، عن معاوية، قال: كان

ص: 254

رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع المؤذن قال: (حي على الفلاح) قال: (اللهم اجعلنا مفلحين) .

وذكر ابن جرير بإسناده، عن سعيد بن جبير، انه كان إذا سمع المؤذن يقول:"حي على الصلاة" يقول: سمعنا واطعنا.

ولا فرق في استحباب اجابة المؤذن بين النساء والرجال، هذا ظاهر اطلاق العلماء، وظواهر الاحاديث؛ فان خطاب الذكور يدخل في الاناث تبعاً في كثير من العمومات، وهو قول أصحاب الامام أحمد وغيرهم ممن تكلم في اصول الفقه.

وقد روي التصريح باجابة النساء المؤذن من حديث عائشة وميمونة، وإسنادهما لا يصح.

وقد خرج ابن جرير الطبري حديث ميمونة، وفيه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال:" وللرجال الضعفان من الاجر" – يعني: في الاجابة.

وذكر ابن جرير، عن بعض اهل الحديث، انه قال: لا يحتاج بهذا الحديث ذو علم بالاثار ومعرفة الرجال.

والامر كما قال؛ فإن إسناده ضعيف جداً.

وقد خرج ابو الشيخ الاصبهاني في "كتاب ثواب الاعمال" معناه – أيضا - من حديث ابن المنكدر - مرسلاً.

وهذا قد يشعر بأن النساء في ثواب الاعمال نصف اجر الرجال.

ص: 255

ويشهد له: ما خرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" من حديث الاشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن أبي عباس، في قوله:{وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32] الاية، قال: اتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا نبي الله، للذكر مثل حظ الانثيين، وشهادة امراتين بشهادة الرجل، أفنحن في العمل هكذا، ان عملت امراة حسنة كتب لها نصف حسنة، فانزل الله هذه الاية {وَلا تَتَمَنَّوْا} ، فانه عدل مني، وانا صنعته.

وبإسناده عن السدي في هذه الاية، قال: قال الرجال: نريد ان يكون لنا من الاجر الضعف على اجر النساء كما لنا في السهام سهمان ونريد ان يكون من الأجر اجران. وقالت النساء: نريد ان يكون لنا اجر مثل اجر الرجال الشهداء، فانا لا نستطيع ان نقاتل، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا. فأبي الله ذلك، ولكن قال لهن:"سلوا الله من فضله يرزقكم الاعمال، وهو خير لكم".

وروي قتادة هذا المعنى - أيضا.

وهذا كله يشعر بان النساء لهن نصف اجر الرجال في الاعمال كلها.

وقد يخص ذلك بما لا يشرع مشاركة النساء للرجال في الاعمال، او ما

ص: 256

يجوز لهن مشاركتهم فيها، [والاوصى] ترك المشاركة، كصلاة الجماعة.

واجاب المؤذن؛ فانه داع إلى الصلاة في الجماعة.

وقد روي في حديث غريب، خرجه ابو نعيم في "تاريخ اصبهان": ان صلاة المرأة وحدها تضاعف على صلاتها في الجماعة ببضع وعشرون درجة.

وفي إسناده مقال.

وربما يأتي ذكره بلفظه في موضع اخر - ان شاء الله.

وهل يشرع للمؤذن نفسه ان يجيب نفسه بين كلمات الاذان؟

ذكر أصحابنا ان يشرع له ذلك.

وروي عن الامام أحمد انه كان إذا اذن يفعل ذلك.

واستدلوا بعموم قوله: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا كما يقول". والمؤذن يسمع نفسه، فيكون مأمور بالاجابة.

وقاسوه على تأمين الامام على قراءة الفاتحة مع المأمومين.

وفي هذا نظر؛ فان تامين الامام وردت به نصوص.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم المؤذن)) ، ظاهره: يدل على التفريق بين السامع والمؤذن، فلا يدخل المؤذن، كما قال أصحابنا في النهي عن الكلام لمن يسمع الامام وهو يخطب، انه لا يشمل الامام، بل له

ص: 257

الكلام.

وكذا قال في الايمان ونحوها، لو قال: من دخل داري. او خاطب غيره، فقال: من دخل دارك، وعلق على ذلك طلاقاً او غيره: لم يدخل هو في عموم اليمين في الصورة [الاولى] ، ولا المخاطب في الصورة الثانية.

وللمسألة نظائر كثيرة، في بعضها اختلاف، قد ذكرناها في كتاب "القواعد في الفقه".

واستحب أحمد للمؤذن ان يبسط يديه ويدعو عنه قوله: "حي على الصلاة". قال: اريت يزيد بن هارون يفعله، وهو حسن.

يعني: لما ورد من استحبابه للدعاء عن الاذان، وفيه احاديث كثيرة مرفوعة، وموقوفة.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن" يدخل فيه الاذان والاقامة؛ لان كلا منهما نداء إلى الصلاة، صدر من المؤذن.

وقد اختلف العلماء: هل يشرع الاجابة في الاقامة؟ على قولين:

احدهما: انه يشرع ذلك، وهو قول القاضي أبي يعلى واكثر أصحابنا، وهو ظاهر مذهب الشافعي.

وفي "سنن أبي داود" من رواية محمد بن ثابت العبدي: ثنا رجل من اهل الشام، عن شهر بن حوشب، عن أبي امامة - او عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ان بلالا اخذ في الاقامة، فلما ان قال:"قد قامت الصلاة" قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اقامها الله وادامها"، وقال في سائر الاقامة كنحو حديث عمر في الاذان.

ص: 258

وفي هذا [الإسناد] ضعف.

والقول الثاني: انه لايسرع الاجابة فيها، الا في كلمة الاقامة خاصة، وهو وجه للشافعية.

وقد نقل المروذي عن الامام أحمد، انه كان إذا اخذ المؤذن في الاقامة رفع يديه ودعا.

وروي عنه، انه كان يدعو، فإذا قال المؤذن:"لا اله الا الله" قال: لا اله الا الله الحق المبين.

وظاهر هذا: ان الدعاء حينئذ افضل من الاجابة.

وتأوله القاضي على انه انما كان يدعو إذا فرغ من الاقامة.

وهذا مخالف لقوله: ((إذا اخذ المؤذن في الاقامة)) .

ولو سمع المؤذن وهو يصلي، فهل يجيبه، ام لا؟

هذا قد ينبني على اصل، وهو: ان العام في الاشخاص: هل هو عام في الاحوال، ام لا؟ وفيه اختلاف، قد اشرنا اليه في غير موضع.

ويدل على عمومه في الاحوال: انكار النبي صلى الله عليه وسلم على من دعاه فلم يجبه حتى حتى سلم، وقوله لم:((الم يقل الله)) : {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُمْ} )) [الانفال:24] ".

وقد اختلف العلماء في اجابة المؤذن في الصلاة على ثلاثة اقوال:

احدها: انه لا يستحب اجابته في الصلاة بحال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ان في الصلاة لشغلا)) .

وهذا ظاهر مذهب الشافعي.

وهو قول

ص: 259

أصحابنا، قالوا: وقد نص أحمد على ان من دخل المسجد فأذن المؤذن، فانه لا يصلي تحية المسجد حتى يجيب المؤذن.

وهذا يدل على انه لا يجيبه في الصلاة.

وهو - أيضا - قول الحنفية وسحنون من المالكية.

الثاني: أنه يستحب انه يجيبه في الفريضة والنافلة، وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك.

والثالث: يستحب ان يجيبه في النفل دون الفرض، وهو المنصوص عن مالك.

نقله عنه ابن القاسم، وقال: يقع في نفسي انه اريد بالحديث: وقال: "يقول مثل ما يقول": التكبير والتشهد.

وكذا قال الليث، الا انه قال: ويقول: "لا حول ولا قوة الا بالله" إذا قال "حي على الصلاة، حي على الفلاح".

وفي "تهذيب المدونة" للبرداعي المالكي: ومن سمع المؤذن فليقل كقوله، وان كان في نافلة، إلى قوله:"اشهد ان لا اله الا الله، واشهد ان محمداً رسول الله"، وان اتم الاذان معه فلا باس.

ولعل اتمامه مختص بغير المصلي، او بما إذا اجابه في الحيعلة بالحوقلة، كما قال الليث. انه إذا اجابه بذلك لم تبطل صلاته. فريضة كانت او نافلة عند جمهور العلماء.

وهو قول مالك والشافعي وأصحابنا.

ويخرج من قول أحمد في العاطس في الصلاة: يحمد الله في

ص: 260

نفسه -: نقله عنه جماعة.

ونقل صالح بن أحمد، عن أبيه، قال: إذا رفع صوته به يعيد الصلاة؛ لانه ليس من شأن الصلاة، الا ان لا يجهر به، وان قال في نفسه فلا شيء عليه.

وهذا يحتمل انه اراد إذا تلفظ به بطلت صلاته.

وحكى الطحاوي عن أبي يوسف، انه لاتبطل صلاته إذا اجاب المؤذن في الصلاة بالتكبير والتشهد عنه أبي يوسف، وتبطل عند أبي حنيفة ومحمد إذا اراد به الاذان، كما لو خاطب أنسانا في صلاته بلا اله الا الله، فان صلاته عنده تفسد.

وهو احدى الروايتين عن أحمد.

وقد فرق بينهما أصحابنا، بأن هذا قصد خطاب ادمي، بخلاف المجيب للاذان، فانه انما قصد ذكر الله عز وجل.

وقد نقل مهنا، عن أحمد [فيمن] ذكر في صلاته كيسا ذهب له، فقال: انا لله وانا اليه راجعون، فقال أحمد: يعيد صلاته.

وهذا يدل على انه إذا اتى في صلاته بذكر غير مشروع فيها انها تبطل.

وكذلك روي جعفر بن محمد، عن أحمد، في الرجل يقول قبل ان يتم الصلاة: اللهم انت السلام ومنك السلام؛ فليس هذا من شأن الصلاة [

] الصلاة.

وروي عنه ابو طالب، انه قال: لا باس بذلك قبل السلام وبعده.

وان اجاب المؤذن في قوله "حي على الصلاة، حي على الفلاح"، بمثل

ص: 261

قوله بطلت صلاته عند جمهور العلماء.

وقالت طائفة: لا تبطل صلاته بذلك – أيضا.

وحكاه ابن خويز منداد، عن مالك، وانه يكون بذلك مسيئاً، وصلاته تامة. وكره ان يقول في الفريضة - مثل ما يقول المؤذن، فان قال ذلك في الفريضة لم تبطل – أيضا -، ولكن الكراهة في الفريضة اشد.

وكلام صاحب "تهذيب المدونة" ظاهرة موافقة ذلك، الا انه قال: لاباس وهذا يدل على انه يكره، الا ان يختص ذلك بغير المصلي.

وقد ورد حديث يستدل به على ان الاذان والاقامة لا [يبطلان] الصلاة.

فروي الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، ان سويد بن قيس اخبره، عن معاوية بن حديج، انه رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوماً، فسلم وقد بقيت من الصلاة ركعة، فأدركه رجل، فقال: نسيت من الصلاة ركعة، فرجع فدخل المسجد، وامر بلالا فأقام، فصلى للناس ركعة، فأخبرت بذلك الناس، فقالوا لي: تعرف الرجل؟ فقلت: لا، الا ان اراه. فمر بي، فقلت: هو هذا.

فقالوا: هذا طلحة بن عبيد الله.

ص: 262

خرجه الامام أحمد وابو داود والنسائي.

وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحهما"، وعندهما: انه سلم في ركعتين من صلاة المغرب.

والحاكم، وقال: صحيح الإسناد.

وسويد هذا، وثقة النسائي وابن حبان. ومعاوية بن حديج، اثبت البخاري وغيره له صحبة، وانكر هـ الامام أحمد في رواية الاثرم، فيكون حديثه هذا مرسلاً عنده.

فهذا يدل على [أنَّ] اقامة الصلاة لا يبطلها، وفيها الحيعلتان، ويزيد على الاذان بقوله:"قد قامت الصلاة" – أيضا -؛ ولهذا بني على ما مضى من صلاته هو ومن صلى معه.

وهذا قد يبنى على اصول مالك وأحمد – في رواية عنه - على قوليهما: ان كلام العامد في الصلاة لمصلحة الصلاة لا يبطل الصلاة. ويأتي ذكر هذا في موضع اخر - ان شاء الله.

وإذا قلنا: لا يجيب المؤذن في الصلاة: فهل يتابع إذا فرغ منها؟

قال طائفة من الشافعية: يجيبه إذا سلم، فان طال الفصل، فهو كترك سجود السهو.

وكذلك قال طائفة منهم في المتخلي والمجامع إذا سمع الاذان: انه إذا

ص: 263

فرغ تابعه.

وقال بعضهم: وإذا لم يتابعه حتى فرغ عمداً، فالظاهر انه يتدارك على القرب، ولا يتدارك بعد طول الفصل.

والافضل ان يتابعه على كل جملة عقب فراغ المؤذن منها من غير تأخير، كما دل عليه حديث معاوية.

ومن زعم من المتاخرين: انه يجوز الاجابة حتى يفرغ ثم يجيبه، وزعم انه لا يسمى مؤذناً حتى يفرغ من اذانه -: فقد ابطل، وقال ما خالف به الاولين والاخرين. وفي تسميته مؤذناً بعد فراغ اذانه - حقيقة اختلاف – أيضا - فأنه ينقضي الفعل الذي اشتق منه الاسم، ولو سابق المؤذن في بعض الكلمات.

ففي "تهذيب المدونة" للمالكية: إذا عجل قبل المؤذن بالقول فلا بأس والله اعلم.

ص: 264

‌8 - باب

الدعاء عند النداء

ص: 265

614 -

حدثني ابن عياش: ثنا شعيب بي أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من قال حين يسمع النداء: اللهم، رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، ات محمد الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقأمامحموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة)) .

هذا مما وتفرد [به] البخاري دون مسلم.

وخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب من حديث ابن المنكدر، لا نعلم احد رواه غير شعيب بن أبي حمزة.

وذكر ابن أبي حاتم، عن أبيه، قال: قد طعن في هذا الحديث، وكان

ص: 265

عرض شعيب بن أبي حمزة على ابن المنكدر كتاباً، فامر بقراءته عليه، فعرف بعضاً وانكر بعضاً، وقال لابنه - او لابن اخيه -: اكتب هذه الاحاديث، فدون شعيب ذلك الكتاب ولم تثبت رواية شعيب تلك الاحاديث على الناس، وعرض علي بعض تلك الكتب [فرأيتها مشابهة] لحديث إسحاق بن أبي فروة، وهذا الحديث من تلك الاحاديث. انتهى.

ص: 266

وقد روى الاثرم، عن أحمد، قال: نظرت في كتب شعيب، اخرجها الي ابنه، فإذا فيها من الصحة والحسن والمشكل نحو هذا.

وقد روي، عن جابر من وجه اخر بلفظ فيه بعض مخالفة، وهو يدل على ان لحديث جابر اصلاً.

خرجه الامام أحمد من رواية ابن لهيعة: ثنا ابو الزبير، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من قال حين ينادي المنادي: اللهم، رب هذه الدعوة التامة والصلاة النافعة، صل على محمد وارض عنه رضا لا

ص: 267

سخط بعده؛ استجاب الله دعوته".

وقد روي في هذا المعنى وسؤال الوسيلة عند سماع الاذان من حديث أبي الدرداء، وابن مسعود – مرفوعا -، وفي إسنادهما ضعف.

ومما يشهد له – أيضا -: حديث خرجه مسلم من طريق كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، انه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:(إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي؛ فانه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فانها منزلة في الجنة لا تنبغي الا لعبد من عباد الله، وارجو ان اكون انا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة) .

وعبد الرحمن بن جبير هذا: مولى نافع بن عمرو القرشي المصري، وظن بعضهم، انه: ابن جبير بن نفير، فوهم، وقد فرق بينهما البخاري والترمذي وابو حاتم الرازي وابنه.

ص: 268

وقد روي عن الحسن، ان هذا الدعاء يشرع عند سماع اخر الاقامة.

روي ابن أبي شيبة: ثنا ابو الاحوص، عن أبي حمزة، عن الحسن، قال: إذا قال المؤذن: (قد قامت الصلاة)، فقل: اللهم، رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، اعط محمداً سؤله يوم القيامة. فلا يقولها رجل حين يقيم المؤذن الا ادخله الله في شفاعة محمد يوم القيامة.

وروي ابن السني في كتاب "عمل اليوم والليلة" من رواية عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن عطاء بن قرة، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة، انه كان يقول إذا سمع المؤذن يقيم: اللهم، رب هذه الدعوة التامة وهذه الصلاة القائمة، صل على محمد واته سؤله يوم القيامة.

وهذه الاثار تشهد للمنصوص عند أحمد، انه يدعو عند الاقامة، كما سبق عنه.

وقوله: (من قال حين يسمع النداء) : ظاهره انه يقول ذلك في حال سماع النداء، قبل فراغه. ويحتمل انه يريد به حين يفرغ من سماعه.

وحديث عبد الله بن عمرو صريح في انه يسأل الوسيلة بعد اجابة المؤذن والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا هو الاظهر؛ فانه يشرع قبل جميع

ص: 269

الدعاء تقديم الثناء على الله والصلاة على رسوله، ثم يدعو بعد ذلك.

وقوله: (اللهم رب هذه الدعوة التامة) .

والمراد بالدعوة التامة: دعوة الاذان؛ فانها دعاء إلى اشرف العبادات، والقيام في مقام القرب والمناجاة؛ فلذلك كانت دعوة تامة - أي: كاملة لا نقص فيها، بخلاف ما كانت دعوات اهل الجاهلية: أمافي استنصار على عدو، او إلى نعي ميت، او إلى طعام، ونحو ذلك مما هو ظاهره النقص والعيب.

وروى ابو عيسى الاسواري، قال: كان ابن عمر إذا سمع الاذان قال: اللهم رب هذه الدعوة المستجابة المستجاب لها، دعوة الحق وكلمة التقوى، فتوفني عليها، واحيني عليها، واجعلني من صالح اهلها عملاً يوم القيامة.

وقد روي عن ابن عمر - موقوفا - من وجوه اخر.

وروي عنه مرفوعا من وجه ضعيف.

قال الدارقطني: الصحيح: موقوف.

وخرج بقي بن مخلد والحاكم من حديث عفير بن معدان، عن [سليم بن عامر، عن] أبي امامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا نادى المنادي فتحت ابواب السماء واستجيب الدعاء، فمن نزل به كرب او شدة فليتحين المنادي إذا نادى، فليقل مثل مقاله، ثم ليقل: اللهم، رب هذه الدعوة التامة الصادقة الحق المستجابة،

ص: 270

والمستجاب لها، دعوة الحق وكلمة التقوى، أحينا عليها، وامتنا عليها، وابعثنا عليها، واجعلنا من خيار اهلها محياُ ومماتاً. ثم يسأل حاجته) .

وعفير، ضعيف جداً.

وقوله: (والصلاة القائمة) – أي: التي ستقوم وتحضر.

وقد خرج البيهقي حديث جابر، ولفظه:(اللهم اني اسالك بحق هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة) .

وهذا اللفظ لا اشكال فيه؛ فان الله سبحانه جعل لهذه الدعوة وللصلاة حقا كتبه على نفسه، لا يخلفه لمن قام بهما من عباده، فرجع الامر إلى السؤال بصفات الله وكلماته.

ولهذا استدل الامام أحمد على ان القران ليس بمخلوق باستعاذة النبي صلى الله عليه وسلم بكلمات الله التامة، وقال: انما يستعاذ بالخالق لا بالمخلوق.

وأمارواية من روي: (اللهم، رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة) ، كما هي رواية البخاري والترمذي وغيرهما، فيقال: كيف جعل هذه الدعوة مربوبة، مع ان فيها كلمة التوحيد، وهي من القرآن، والقرآن غير مربوب ولا مخلوق؟

وبهذا فرق من فرق من اهل السنة بين افعال الايمان واقواله، فقال: اقواله غير مخلوقة، وافعاله مخلوقة؛ لان اقواله كلها ترجع إلى القران؟

ص: 271

واجيب عن هذا بوجوه:

منها: ان المربوب هو الدعوة إلى الصلاة خاصة، وهو قوله:(حي على الصلاة، حي على الفلاح) ، وليس ذلك في القرآن، ولم يرد به التكبير والتهليل. وفيه بعد.

ومنها: ان المربوب هو ثوابها. وفيه ضعف.

ومنها: ان هذه الكلمات من التهليل والتكبير هي من القرآن بوجه، وليست منه بوجهه، كما قال صلى الله عليه وسلم:((افضل الكلام من القران اربع، وهن من القرآن: سبحانه الله، والحمد الله، ولا اله الا الله، والله اكبر)) .

فهي من القرآن إذا وقعت في اثناء القرآن، وليست منه إذا وقعت من كلام خارج عنه، فيصح ان تكون الكلمات الواقعة من ذلك في ضمن ذلك مربوبة.

وقد كره الامام أحمد ان يؤذن الجنب، وعلل بأن في الاذان كلمات من القرآن.

والظاهر: ان هذا على كراهة التنزيه دون التحريم.

ومن الأصحاب من حملة على التحريم، وفيه نظر؛ فان الجنب لا يمنع من قول:"سبحان الله، والحمد الله، ولا قوة الا بالله، والله اكبر" على وجه الذكر، دون التلاوة.

وسئل إسحاق عن الجنب يجيب المؤذن؟ قال: نعم؛ لانه ليس

ص: 272

بقران.

ومنها: ان الرب ما يضاف اليه الشيء، وان لم يكن خلقا لم، كرب الدار ونحوه، فالكلام يضاف إلى الله؛ لانه هو المتكلم به، ومنه بدأ، واليه يعود، فهذا بمعنى اضافته إلى [ربوبية] الله.

وقد صرح بهذا المعنى الاوزاعي، وقال فيمن قال:(برب القران) : ان لم يرد ما يريد الجهمية فلا بأس.

يعني: إذا لم يرد بربوبيته خلقه كما يريده الجهمية، بل اراد اضافة الكلام إلى المتكلم به.

وقوله: (ات محمداً الوسيلة) ، قد تقدم حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، انه قال:((ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فانها منزلة في الجنة لا تنبغي الا لعبد من عباد الله، وارجو ان اكون انا هو)) .

وخرج الامام أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ((سلوا الله لي الوسيلة)) . قالوا: يارسول الله، وما الوسيلة؟ قال:((اعلى درجة من الجنة، لاينالها الا رجل واحد ارجو ان اكون انا)) .

ولفظ الامام أحمد: ((إذا صليتم علي فسلوا الله لي الوسيلة)) - وذكر باقيه.

وخرج الامام أحمد من حديث أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((الوسيلة درجة عند الله عز وجل ليس فوقها درجة، فسلوا الله ان يؤتيني الوسيلة)) .

ص: 273

وأما ((الفضيلة)) ، فالمراد – والله اعلم -: اظهار فضيلته على الخلق اجمعين يوم القيامة وبعده، واشهاد تفضيله عليهم في ذلك الموقف، كما قال:((انا سيد ولد ادم يوم القيامة)) ، ثم ذكر حديث الشفاعة.

وقوله: ((وابعثه مقأمامحمودا)) ، هكذا في رواية البخاري وأبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم.

وعزا بعضهم إلى النسائي، انه رواه بلفظ:((المقام المحمود)) بالتعريف، وليس كذلك.

[وكذلك] وقعت هذه اللفظة بالالف واللام في بعض طرق روايات الاسماعيلي في ((صحيحه)) .

ووجه الرواية المشهورة: ان ذلك متابعة للفظ القرآن، فهو اولى، وعلى هذا فلا يكون ((الذي وعدته)) صفة؛ لانه النكرة لا توصف بالمعرفة وان تخصصت، وانما تكون بدلاً، لان البدل لا يشترط ان يطابق في التعريف والتنكير، او يكون منصوباً بعفل محذوف تقديره:((اعني: الذي وعدته)) ، او يكون مرفوعاً – خبر مبتدأ محذوف - أي ((هو الذي وعدته)) .

ص: 274

و ((المقام المحمود)) :

فسر بالشفاعة.

وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وغيرهم.

وفسر: بأنه يدعى يوم القيامة ليكسى حلة خضراء، فيقوم عن يمين العرش مقأمالا يقدمه احد، فيغبطه به الاولون والاخرون.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود، ونحوه من حديث كعب بن مالك – أيضا - وكذا روي عن حذيفة - موقوفاً، ومرفوعاً.

وهذا يكون قبل الشفاعة.

وفسره مجاهد وغيره بغير ذلك.

وقوله: ((حلت له شفاعتي)) .

قيل: معناه نالته وحصلت له ووجبت.

وليس المراد بهذ الشفاعة الشفاعة في فصل القضاء؛ فان تلك عامة لكل احد. ولا الشفاعة في الخروج من النار، ولا بد؛ فانه قد يقول ذلك من لا يدخل النار.

وانما المراد – ولله اعلم -: انه يصير في عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحيث تتحتم له شفاعته؛ فان كان ممن يدخل النار بذنوبه شفع له [في] اخراجه منها، او في منعه من دخولها. وان لم يكن من اهل النار فيشفع له في دخوله الجنة بغير حساب، او في رفع درجته في الجنة.

وقد سبقت الاشارة إلى انواع شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في ((كتاب التيمم)) .

ص: 275

‌9 - باب

الاستهام في الاذان

ويذكر ان قوما اختلفوا في الاذان، فأقرع بينهم سعد.

قال عبد الله ابن الامام أحمد: ثنا أبي: ثنا هشيم، قال: ابن شبرمة اخبرنا، قال: تشاح الناس بالقادسية على الاذان، فارتفعوا إلى سعد، فأقرع بينهم.

وهذا إسناد منقطع.

قال عبد الله ابن الامام أحمد: سألت أبي عن مسجد فيه رجلان يدعيان انهما احق بالمسجد، هذا يؤذن فيه وهذا يؤذن فيه؟ فقال: إذا استووا في الصلاح والورع اقرع بينهما. وكذلك فعل سعد، فان كان احدهما اصلح [في دينه] فينبغي لهم الا يختصموا.

فقلت: وان كان احدهما اسن واقدم في هذا المسجد، ينفق عليه ويحوطه ويتعاهده؟ قال: هذا احق به.

ومعنى هذا: انه إذا تشاح في الاذان اثنان، فان امتاز احدهما بمزيد فضل في نفسه فانه يقدم، وهو مراد أحمد بقوله:((ان كان احدهما اصلح [في دينه] فينبغي لهم الا يختصموا)) - يعني: أن الأصلح أحق

ص: 276

فلا ينازع -، فإن استووا في الفضل في أنفسهم وامتاز أحدهم بخدمة المسجد وعمارته قدم بذلك وقال أصحابنا: إنه يقدم أحد المتنازعين باختصاصه بصفات الأذان المستحبة فيه، مثل أن يكون أحدهما اندى صوتا وأعلم بالمواقيت ونحو ذلك؛ فإن استووا في الفضائل كلها أقرع بينهم حينئذ، كما فعل سعد.

والظاهر: أن مراد أحمد: التنازع في [طلب] الأذان ابتداء، فأمامن ثبت له حق في المسجد، وهو مؤذن راتب فيه، فليس لأحد منازعته، ويقدم على كل من نازعه.

وقد نقل الشالنجي عن أحمد ما يبين هذا المعنى:

قال اسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد عن القوم إذا اختلفوا في الأذان فطلبوه جميعاً؟ فقال: القرعة في ذلك حسن.

وقال: ثنا هشيم، عن ابن شبرمة، أن الناس تشاحوا يوم القادسية في الأذان، فأقرع بينهم سعد في ذلك.

قال الشالنجي: قال ابو أيوب - يعني: سليمان بن داود الهاشمي -: إن مات المؤذن وله ولد صالح فهو أحق بالأذان، وإن لم يطلبه، وإن لم يكن بأهل لذلك، وطلبه صلحاء المسجد يقرع بينهم في ذلك.

وبه

ص: 277

قال أبو خيثمة - يعني: زهير بن حرب.

وقال ابن أبي شيبة في الأذان: على ما جاء: ((يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله)) ، وكذلك الأذان.

قال الجوزجاني بعد أن ذكر هذا عن الشالجني - ما معناه -: إن اختلاف الناس يرد إلى السنة.

ثم روى حديث النبي صلى الله عليه وسلم ((المؤذن مؤتمن)) من طرق.

وروى حديث حسين بن عيسى، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((ليؤذن لكم خياركم)) .

وقد خرجه ابو داود وابن ماجه.

وتكلم فيه من جهة الحسين، والحكم – أيضا.

وفي مراسيل صفوان بن سليم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبني خطمة من الانصار:((يابني خطمة، اجعلوا مؤذنكم أفضلكم في انفسكم)) .

ثم قال الجوزجاني: لا بد ان يكون المؤذن خياراً، وبأن يكون مؤتمناً متبعاً للسنة، فالمبتدع غير مؤتمن. فإن اجتمع هذه الخلال في عدة من اهل المسجد، فإن أحقهم بالأذان أنداهم صوتا.

ثم ذكر حديث عبد الله بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:((القه على بلال؛ فإنه أندى صوتا منك)) . قال: وإنما أظنهما كانا متقاربين في الفضل والامانة، وفضله بلال

ص: 278

بالصوت، فلذلك رآه أحق.

فإذا اجتمع رجال في المسجد وعلاهم رجل ببعض هذه الخصال كان أحق بالاذان، وإذا استوت فيها حالاتهم فالقرعة عند ذلك حسن.

واشار إلى فعل سعد وعضده بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم الناس ما في النداء، ثم لم يجدوا الا ان يستهموا عليه لا ستهموا)) .

ثم قال: فأماالاباء والابناء والعصبة في الاذان والامامة، فانا لا نعلم فيه سنة ماضية. والله اعلم. انتهى ما ذكره ملخصاً.

وخرج ابو داود من رواية غالب القطان، عن رجل، عن أبيه، عن جده، ان رجلا منهم اتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ان أبي شيخ كبير، وهو عريف الماء، وانه سألك ان تجعل الي العرافة بعده؟ فقال:((ان العرافة حق، ولابد للناس من العرفاء، والعرفاء في النار)) .

وهذا إسناد مجهول.

ولم يذكر انه جعل العرافة له بمجرد كون أبيه عريفاً، والامامة العظمى لا تستحق بالنسب، ولهذا انكر الصحابة على من بايع لولده.

وقال عبد الرحمن بن أبي بكر. جئتم بها هرقلية، تبايعون لابنائكم!

وسمع ذلك عائشة والصحابة، ولم ينكروه عليه، فدل على ان البيعة للابناء سنة الروم وفارس، وأماسنة المسلمين فهي البيعة لمن هو افضل واصلح للامة.

وما تزعمة الرافضة في ذلك فهو نزعة من نزعات

ص: 279

المشركين في تقديم الاولاد والعصبات.

وسائر الولايات الدينية سبيلها سبيل الامامة العظمى في ذلك. والله اعلم.

وقد روي ما يستدل به من جعل الاذان للابناء بعد ابائهم.

قال الامام أحمد: ثنا خلف بن الوليد: ثنا الهذيل بن بلال، عن ابن أبي محذورة، عن أبيه - او جده -، قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الاذان لنا ولموالينا، والسقاية لبني هاشم، والحجابة لبني عبد الدار.

الهذيل بن بلال، ضعفه ابن معين. وقواه الامام أحمد، وابو حاتم.

وإسناده مشكوك فيه، ولم يسم ابن أبي محذورة هذا.

وخرج الامام أحمد والترمذي من رواية أبي مريم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((الملك في قريش، والقضاء في الانصار، والاذان في الحبشة)) .

وخرجه الترمذي موقوفاً على أبي هريرة، وقال: هو اصح.

وابو مريم هذا، ليس بالمشهور.

والمراد بهذا: ان سيد المؤذنين كان من الحبشة، لا انه يتوارثونه بعد بلال، فانه لا يعرف بعده من الحبشة مؤذن.

ص: 280

وقد يستدل – أيضا - بان ولد أبي محذورة كانوا يتوارثون الاذان بمكة مدة طويلة، وكذلك اولاد سعد القرظ بالمدينة.

وروى الدارقطني بإسناده عن سعد القرظ، ان عمر دعاه، فقال له: الاذان اليك وإلى عقبك من بعدك.

وفي الإسناد ضعف.

قال الشافعي – رحمه الله وأصحابه: يستحب ان يكون المؤذن مولد بعض من جعل بعض الصحابة الاذان فيهم، ثم الاقرب اليهم فالاقرب.

وقال الشافعي - أيضا -: إذا تنازع جماعة في الاذان، ولم يكن للمسجد مؤذن راتب اقرع بينهم، وكذا إذا كان له مؤذنون، وتنازعوا في الابتداء، او كان المسجد صغيراً، وادى اختلاف اصواتهم إلى تهويش، فيقرع، ويؤذن من خرجت له القرعة، أماإذا كان هناك راتب، ونازعه غيره، قدم الراتب، وان كان جماعة مرتبون، وامكن اذان كل واحد في موضع من المسجد؛ ولكبره، اذن كل واحد وحده، وان كان صغيراً، ولم يؤد اختلاف اصواتهم إلى تهويش اذنوا جملة واحدة.

وهذا كله إذا كان التشاح رغبة في فضله وثوابه، فان كان رغبة في الرياسة والتقدم فينبغي ان يؤخر من قصد ذلك ولا يمكن منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((انا لا نولي عملنا هذا من طلبه او حرص عليه)) .

قال سيفان الثوري: إذا رايت الرجل حريصاً على الامامة فأخره.

ص: 281

وكذلك إذا كان غرضه اخذ العوض الذي يعطاه اهل الاذان في هذه الازمان، أماممن بيت المال - وقد عدم ذلك -، او من الوقف.

فان تشاح اثنان: احدهما غرضه ثواب الاذان، والاخر غرضه غرض الدنيا، فلا شك في ان الاول احق.

وقد قال عثمان بن أبي العاص: ان من اخر ما عهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ان اتخذ مؤذناً لا يأخذ على اذانه اجراً.

اخرجه الامام أحمد وابو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي.

وقال: حسن، والعمل عليه عند اهل العلم، كرهوا ان يأخذوا على الاذان اجراً، واستحبوا للمؤذن ان يحتسب في اذانه.

وروى ابو نعيم: ثنا عمارة بن زاذان، عن يحيى البكاء، قال: كنت اطوف مع سعيد بن جبير، فمر ابن عمر، فاستقبله رجل من مؤذني الكعبة، فقال ابن عمر: والله، اني لابغضك في الله؛ لاخذ الدارهم.

قال: وثنا المسعودي، عن القاسم - هو: ابن عبد الرحمن -، قال: كان يقال: اربع لا يؤخذ عليهن رزق: قراءة القرآن، والاذان، والقضاء، والمقاسم.

ص: 282

وروى وكيع في ((كتابه)) عن عمارة بن زاذان، عن يحيى البكاء، ان ابن عمر قال له رجل في الطواف من مؤذني الكعبة: اني لاحبك في الله. قال: واني لابغضك في الله؛ لتحسينك صوتك لاجل الدراهم.

قال: معاوية بن قرة: لا يؤذن الا محتسب.

وروى ابن أبي شيبة: ثنا ابن نمير، عن حلام بن صالح، عن فائد بن بكير، قال: خرجت مع حذيفة إلى المسجد صلاة الفجر، وابن النباح مؤذن الوليد بن عقبة يؤذن، وهو يقول: الله اكبر الله اكبر، اشهد ان لا اله الا الله، اشهد ان لا اله الا الله، يهوي بأذانه يمينا وشمالاً. فقال حذيفة: من يرد الله ان يجعل رزقه في صوته فعل.

وهذا انما قاله حذيفة على وجه الذم له؛ لانه راه يتمايل في اذانه، كأنه يعجب بحسن صوته، فجعل حذيفة يناكل ذلك، وهذا مثل قول ابن عمر.

ونص الشافعي - في الحديث -: ان الامام ليس له أن يرزق المؤذنين وهو يجد من يؤذن له طوعا ممن له امانة.

وكذلك قال أصحابنا.

ص: 283

وقال الشافعي - في القديم -: قد رزقهم امام هدى: عثمان بن عفان.

وسئل الضحاك عن مؤذن يؤذن بغي اجر فيعطى: هل يأخذ؟ قال: ان عطى من غير مسألة، وكان فقيراً، فلا باس ان يأخذ.

وظاهر مذهب الامام أحمد: انه لايأخذ على شيء من الاذان اجراً، ونص عليه في الاذان بخصوصه.

وروي عنه: ان الامام يرزقهم من الفيء، وهو محمول على انه لم يجد من يتطوع بذلك.

ونقل عنه ابن منصور في الذي يقوم للناس في رمضان: أيعطى؟ قال: ما يعجبي ان يأخذ على شيء من الخير اجراً.

قال: وقال إسحاق بن راهويه: لايسعه ان يؤم على نية اخذ، وان ام ولم ينو شيئا من ذلك، فأعطي او اكرم جاز.

ونقل حرب وغيره عن أحمد: انه يقدم عند [النسا] من رضيه اهل المسجد.

فحكى القاضي وأصحابه هذه الرواية ثانية عن أحمد؛ لان الحق لهم في ذلك؛ لانهم اعرف بمن يبلغهم صوته، ومن هو اعف عن النظر عند علوة عليهم للاذان.

وجعل صاحب ((المغني)) رضا الجيران مقدما على القرعة، وانه انما يقرع بعد ذلك.

ص: 284

والصحيح: طريقة الاكثرين؛ لان ابا داود نقل عن أحمد: انه لا يعتبر رضا الجيران بالكلية، وانما يعتبر القرعة، فعلم ان رواية ومن وافقه تخالف ذلك.

ولا يعتبر رضا من بني المسجد واختياره -: نص عليه أحمد؛ معللا بأن المسجد لله، ليس للذي بناه.

يشير إلى انه خرج من ملكه، وصار لله عز وجل.

وهذا يدل على انه لا [تصرف] له على المسجد الذي بناه.

وهو المشهور – أيضا - عن الشافعية: ان باني المسجد ليس احق بامامته واذانه من غيره.

وقال ابو حنيفة وطائفة من الشافعية – كالروياني -: ان من بني المسجد فهو احق بأذانه وامامته، كما ان من اعتق عبداً فله ولاؤه.

وهذا التشبيه لا يصح؛ لان ثبوت الولاء على العبد المعتق لا يستفيد به الولاية عليه في حياته، والحجر عليه، والانتفاع بماله، وانما يستفيد به رجوع ماله اليه بعد موته؛ لانه لا بد من انتقال مال عنه حينئذ، فالمولى المعتق احق به من غيره من المسلمين؛ لاختصاصه بإنعامه عليه.

وأماالمسجد، فالمقصود من بنائه انتفاع المسلمين به في صلواتهم واعتكافهم وعباداتهم، والباني له [كبقية] المسلمين في ذلك من غير زيادة.

فإن شرط باني المسجد عند وقفه له قبل مصيره مسجداً بالفعل انه وولده احق بإمامته واذانه صح شرطه واتبع، وان كان غيرهم اقرأ منهم واندى صوتاً، إذا كان فيهم من يصلح لذلك، وان كان غيره اولى منه -: نص على ذلك: عبيد الله بن الحسن العنبري.

وهو قياس قول أحمد في صحة الواقف

ص: 285

لنفسه ما شاء من غلة الوقف ومنافعه.

قال البخاري –رحمه الله:

ص: 286

615 -

ثنا عبد الله بن يوسف: ابنا مالك، عن سمي مولى أبي بكر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الاول، ثم لا يجدون الا ان يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا اليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لاتوهما ولو حبوا)) .

فقوله: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الاول)) – يعني: لو يعلمون ما فيهما من الفضل والثواب، ثم لم يجدوا الوصول اليهما الا بالاستهام عليهما - ومعناه: الاقراع - لاستهموا عليهما تنافساً فيهما ومشاحة في تحصيل فضلهما واجرهما.

وهذا مما استدل به من يرى الترجيح عند التنافس في الاذان بالقرعة، كما سبق.

وقد قيل: ان الضمير في قوله: ((لا ستهموا عليه)) يعود إلى الصف الاول؛ لانه اقرب المذكورين، ولم يقل:((عليهما)) .

والاظهر: انه يعود إلى

ص: 286

النداء والصف الاول، كقوله تعالى:{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة:62] .

وقد دل الحديث على القرعة في التنافس في الصف الاول إذا استبق اليه اثنان وضاق عنهما وتشاحا فيه، فانه يقرع بينهما.

وهذا مع تساويهما في الصفات، فإن كان احدهما افضل من الاخر توجه ان يقدم الافضل بغير قرعة، عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:((ليليني منكم اولوا الاحلام والنهي، ثم الذين يلونهم)) .

خرجه مسلم من حديث ابن مسعود، ومن حديث أبي مسعود الانصاري، كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد ذكر أصحابنا: انه لو قدم بميتين إلى مكان مسبل من مقبرة

ص: 287

مسبلة في ان واحد، فإن كان لاحدهما هناك ميزة من اهل مدفونين عنده او نحو ذلك قدم، وان استويا اقرع بينهما، ولو دفن اثنان في قبر، واستويا في الصفات اقرع بينهما، فقدم إلى القبلة من خرجت له القرعة.

وفعله معاذ بن جبل رضي الله عنه بامرأتين له، دفنهما في قبر.

وأماان كان ثبت لاحدهما حق التقدم في الصف، فليس لاحد ان يدفعه عنه، ولو كان افضل منه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((لا يقيم الرجل [الرجل] من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تفسحوا توسعوا)) .

فأن كان السابق إلى الصف غلأمالم يبلغ الحلم جاز تأخيره.

فعله أبي بن كعب بقيس بن عبادة، وصرح به أصحابنا، وهو ظاهر كلام الامام أحمد، وقول سفيان.

وكذلك ان قدم رجل عبداً له إلى الصف ثم جاء، فله ان يؤخره ويجلس مكانه.

وأماان تأخر السابق باختياره، فهل يكره، ام لا؟ فيه قولان، مبنيان على جواز الايثار بالقرب.

وظاهر كلام الامام أحمد كراهته، حتى في حق الابن مع أبيه، وحكى عنه جوازه - أيضا.

وعلى القول بالجواز، فلو قام من مكانه ايثاراً لرجل، فسبق اليه غير المؤثر، فهل يستحقه؟ فيه وجهان:

احدهما: يستحقه؛ لان المؤثر سقط حقه بزواله عنه.

والثاني: لا – وهو اصح -؛ لان من كان احق بمكانه، فله ان يجلس به بنفسه، ويؤثر به غيره.

وبهذا فسره الامام أحمد، واستحسن ابو عبيد

ص: 288

ذلك منه.

وانما يسقط حقه إذا قام معرضاً عنه؛ ولهذا لو قام لحاجة ثم عاد فهو احق بمجلسه، فكذا إذا قام لايثار غيره.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلمون ما في النداء والصف الاول، ولم يجدوا الا ان يستهموا عليه لاستهموا عليه)) : دليل على ان الاذان لا يشرع اعادته مرة بعد مرة، الا في اذان الفجر، كما جاءت السنة به، والا فلو شرعت اعادته لما استهموا، ولاذن واحد بعد واحد.

وقد صرح بمثل ذلك بعض أصحابنا، وقال: مع التزاحم يؤذن واحد بعد واحد. وهو مخالف للسنة.

وروي عن عمر، انه اختصم اليه ثلاثة في الاذان، فقضى لاحدهم بالفجر، للثاني بالظهر والعصر، وللثالث بالمغرب والعشاء.

وقد قيل: ان ابا بكر الخلال خرجه بإسناده، ولم اقف إلى الان عليه.

ولو قيل: انه يؤذن المتشاحون جملة لم يبعد.

وقد نص أحمد على انه لو اذن على المنارة عدة فلا بأس.

وقال القاضي ابو يعلى وأصحابه – متابعة للشافعي وأصحابه -: يستحب ان يقتصر على مؤذنين، ولا يستحب ان يزيد على اربعة.

ثم قالوا: ان كان المسجد صغيرا اذن واحد منهم بعد واحد، وان كان كبيراً اذنوا جملة؛ لانه ابلغ في التبليغ والاعلام.

وقال أصحاب

ص: 289

الشافعي: إذا ضاق الوقت والمسجد كبير اذنوا في اقطاره، وان كان صغيرا اذنوا معاً، الا ان تختلف اصواتهم فيؤذن واحد.

واستدلوا بإذان بلال وابن ام مكتوم، وذاك انما كان في الفجر خاصة، ولا يعرف في غير الفجر، الا في الجمعة من حين زاد عثمان النداء الثالث على الزوراء.

وحمل ابن حبيب المالكي الاستهام على الاذان على الوقت المضيق كالجمعة والمغرب.

يشير إلى انه في الاوقات المتسعة ان يؤذن واحد بعد واحد.

وقال حرب: قلت لأحمد: فالأذان يوم الجمعة؟ [قال] : إذا اذن على المنارة عدة فلا باس بذلك؛ قد كان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم بلال وابن ام مكتوم، وجاء ابو محذورة وقد اذن رجل قبله فأذن ابو محذورة - أيضا.

وهذا النص يشعر بأنه يجوز ان يؤذن واحد بعد واحد في غير الفجر، وهذا محمول على جوازه إذا وقع احيانا، لا انه يستحب المداومة عليه، وأمااذان بلال وابن [ام] مكتوم فكان في الفجر، ولم يؤذنا جملة، فلا يدل على الاجتماع على الاذان بحال.

وقد علل النبي صلى الله عليه وسلم اذان بلال، فقال:((ليرجع قائمكم، ويوقظ نائمكم)) .

وهذا المعنى لا يوجد في غير صلاة الصبح، ولا روي في غير الصبح انه اذن علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين.

ص: 290

وفي ((الصحيحين)) عن ابن عمر: كان للنبي صلى الله عليه وسلم في مسجد واحد مؤذنان: بلال وابن ام مكتوم.

وهذا يستدل به على انه يستحب نصب مؤذنين للمسجد خشية ان يغيب احدهما فيؤذن الاخر؛ لئلا يتعطل الاذان مع غيبته.

والذي ذكر الامام أحمد، خرجه ابن أبي شيبة: ثنا حفص، عن الشيباني، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: رأيت ابا محذورة جاء وقد اذن أنسان، فأذن هو واقام.

وهذا فعله ابو محذورة مرة؛ لافتئات غيره عليه بأذانه قبله، ولم يكن مع أبي محذورة مؤذن راتب غيره بمكة.

قال ابن أبي شيبة: ثنا يزيد من هارون، عن حجاج، عن شيخ من المدينة، عن بعض بني مؤذني النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كان ابن ام مكتوم يؤذن ويقيم بلال، وربما اذن بلال واقام ابن ام مكتوم.

إسناد ضعيف.

ولو صح لكان دليلاً على انهما لم يكونا يجتمعان في اذان واحد في غير صلاة الفجر.

ص: 291

وروى وكيع في ((كتابه)) ، عن اسرائيل، عن جابر، عن عامر: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة مؤذنين: بلال وابو محذورة وابن ام مكتوم، فإذا غاب واحد اذن الاخر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لقد هممت ان اجعل المؤذنين ستة)) . قال: فإذا اقيمت الصلاة اشتدوا في الطرق، فاذنوا الناس بالصلاة.

هذا مرسل ضعيف؛ فان جابراً هو الجعفي.

وابو محذورة لم يكن يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة.

وقد خرجه البيهقي، عن الحاكم، عن أبي بكر ابن إسحاق، عن العباس ابن الفضل الاسفاطي، عن أبي بكر بن أبي شيبة: ثنا يحيى، عن اسرائيل عن أبي إسحاق، عن الاسود، عن عائشة، قالت: كان للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة مؤذنين: بلال، وابو محذورة، وابن ام مكتوم.

وقال: قال ابو بكر - يعني: ابن إسحاق -: هو صحيح.

وليس كما قال ابن إسحاق.

هذا في كتاب ابن أبي شيبة ((المصنف)) .

ص: 292

والصحيح: حديث وكيع، عن اسرائيل، عن جابر الجعفي، عن الشعبي - مرسلاً.

وروى الامام أحمد: ثنا اسماعيل: ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن الاسود، عن عائشة، قالت: كان للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذنان: بلال وعمرو بن ام مكتوم.

وهذه الرواية اصح.

وخرج الدارقطني من رواية اولاد سعد القرظ، عن ابائهم، عن جدهم سعد، ان النبي صلى الله عليه وسلم قال له:((يا سعد، إذا لم تر بلالا معي فأذن)) .

وفي إسناده ضعف.

وفي الحديث: دليل على شرف الاذان وفضله، واستحباب المنافسة فيه لاكابر الناس واعيانهم، وانه لا يوكل إلى اسقاط الناس وسفلتهم، وقد كان الاكابر ينافسون فيه.

قال: قيس بن أبي حازم: قال عمر: لو كنت اطيق الاذان مع الخليفى لاذنت.

وقال عبد الله بن الحسن: قال ابن أبي طالب: ما اسى على شيء، الا اني كنت وددت اني كنت سألت للحسن والحسين الاذان.

وعن سعد بن أبي وقاص، قال: لان اقوى على الاذان احب الي من

ص: 293

ان احج واعتمر واجاهد.

وعن عمر وابن مسعود - معناه.

وعن ابن الزبير، قال: وددت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اعطانا النداء.

وقال النخعي: كانوا يستحبون ان يكون مؤذنيهم فقهاؤهم؛ لانهم ولوا امر دينهم.

وقال الحسن: قال عمر: لا يستحي رجل ان يكون مؤذنا.

وقال زاذان: لو يعلم الناس ما في فضل الاذان لاضطربوا عليه بالسيوف.

وقال شبيل بن عوف، قال عمر: من مؤذنوكم؟ قلنا: عبيدنا وموالينا. قال: ان ذلك لنقص بكم كبير.

وروى قيس بن أبي حازم، عن عمر - مثله -، قال: وقال: لو اطقت الاذان مع الخليفى لاذنت.

وقال يحيى ابن أبي كثير: حدثت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لو علم الناس ما في الاذان لتحاوره)) . قال: وكان يقال: ابتدروا الاذان، ولاتبدروا الامامة.

ص: 294

وقال حماد بن سلمة: ابنا ابو غالب، قال: سمعت ابا امامة يقول: المؤذنون امناء للمسلمين، والائمة ضمناء. قال: والاذان احب الي من الامامة.

خرجه البيهقي.

وممن راى الاذان افضل من الامامة: الشافعي في اصح قوليه، نص عليه في ((الام)) ، وعلى كراهة الامامة؛ لما فيها من الضمان.

وهو – أيضا - اصح الروايتين عن أحمد.

وروى ابو حمزة السكري، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((الامام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم ارشد الائمة واغفر للمؤذنيين)) . قالوا: يا رسول الله، تركتنا نتنافس في الاذان، فقال:((ان من بعدكم زمانا سفلتهم مؤذنوهم)) .

خرجه البراز.

وقال: لم يتابع عليه ابو حمزة.

يعني: على الزيادة التي آخره؛ فإن أول الحديث معروف بهذا الإسناد، خرجه أبو داود والترمذي وغيرهما.

وقال

ص: 295

الدارقطني: هذه الالفاظ ليست محظوظة.

قلت: وقد رويت بإسناد ضعيف، عن يحيى بن عيسى الرملي، عن الأعمش – أيضا.

ذكره ابن عدي.

وفي إسناد الحديث اختلاف كثير، وقد روي موقوفا على أبي هريرة.

قال الشافعي في ((الام)) : احب الاذان؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم اغفر للمؤذنين)) ، واكره الامامة للضمان، وما على الامام فيها.

واستدل من رجح الامامة - وهو احد قولي الشافعي، وحكي رواية عن أحمد -: بأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يتولون الامامة دون الاذان.

واجيب عن ذلك بانهم كانوا مشتغلين عن الاذان بمصالح المسلمين التي لا يقوم غيرها فيها مقامهم، فلم يتفرغوا للاذان ومراعاة اوقاته؛ ولهذا قال عمر: لو كنت اطيق الاذان مع الخليفي لاذنت.

والخليفي: الخلافة.

ص: 296

وأماالامامة، فلم يكن لهم بد من صلاة وهم ائمة الناس في امور دينهم وديناهم، فلذلك تقلدوا الامامة، ومن قدر على الجمع بين المرتبتين لم يكره له ذلك، بل هو افضل، وكلام عمر يدل عليه، وكان ابن عمر يفعل ذلك.

وقال مصعب بن سعد: هو من السنة.

وللشافعية وجه بكراهة الجمع.

وفي النهي عن الجمع حديث مرفوع: خرجه البيهقي وغيره، وهو غير صحيح.

وقال الماوردي منهم: للأنسان في الاذان والامامة اربعة احوال: حال يمكنه القيام بهما والفراغ لهما، فالاصل ان يجمع بينهما. وحال يعجز عن الامامة لقلة علمه وضعف قراءته، ويقدر على الاذان لعلو صوته ومعرفته بالاوقات، فالأنفراد له بالاذان افضل. وحال يعجز فيه عن الاذان لضعف صوته وقلة ابلاغه، ويكون قيما بالامامة لمعرفته بأحكام الصلاة وحسن قراءته، فالإمامة له افضل. وحال يقدر على كل واحد منهما ويصلح له، ولا يمكنه الجمع بينهما، فأيهما افضل؟ فيه وجهان.

ص: 297

‌10 - باب

الكلام في الاذان

وتكلم سليمان بن صرد في اذانه.

وقال الحسن: لا بأس ان يضحك وهو يؤذن ويقيم.

روى وكيع في ((كتابه)) عن محمد بن طلحة، عن جامع بن شداد، عن موسى بن عبد الله بن يزيد الخطمي، عن سليمان بن صرد - وكانت له صحبة -، انه كان يؤذن في العسكر، وكان يأمر غلامه في أذانه بالحاجة.

وعن الربيع بن صبيح، عن الحسن، قال: لا بأس أن يتكلم في أذانه بالحاجة.

وروى ابن أبي شيبة من طرق [عن] الحسن، أنه لا بأس أن يتكلم في أذانه

ص: 298

بالحاجة، وإقامته.

وأختلف العلماء في الكلام في الأذان والاقامة على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه لا بأس به فيهما، وهو قول الحسن والاوزاعي.

والثاني: يكره فيهما، وهو قول ابن سيرين والشعبي والنخعي وأبي حنيفة ومالك والثوري والشافعي، ورواية عن أحمد.

وكلهم جعل كراهة الكلام في الاقامة اشد.

وعلى هذا، فلو تكلم لمصلحة، كرد السلام وتشميت العاطس، فقال الثوري وبعض أصحابنا: لا يكره.

والمنصوص عن أحمد في رواية على بن سعد أنه يكره، وهو قول مالك وأبي حنيفة.

وقال أصحاب الشافعي: لا يكره، وتركه أولى.

وكذلك الكلام لمصلحة، فإن كان لغير مصلحة كره.

وقال إسحاق: إن كان لمصلحة غير دنيوية كرد السلام والامر بالمعروف فلا يكره، والا كره، وعليه حمل ما فعله سليمان بن صرد.

ووافق ابن بطة من أصحابنا قول إسحاق، إن كان لمصلحة.

ورخص في الكلام في الأذان عطاء وعروة.

ص: 299

والقول الثالث: يكره في الاقامة دون الاذان، وهو المشهور عن أحمد، والذي نقله عنه عامة أصحابه، واستدل بفعل سليمان بن صرد.

وقال الاوزاعي: يرد السلام في الاذان، ولم يرده في الاقامة.

وقال الزهري: إذا تكلم في اقامته يعيد.

الفرق بينهما: ان مبنى الاقامة على الحدر والاسراع، فالكلام ينافي ذلك. ومتى كان الكلام يسيرا بنى عليه ما مضى من الاذان والاقامة عند جمهور العلماء، الا ماسبق عن الزهري في الاقامة. وروي عنه مثله في الاذان - أيضا.

ووافقه بعض أصحابنا في الكلام المحرم خاصة، الاذان والاقامة.

وان طال الكلام بطل ما مضى، ووجب عليه الاستئناف عند الاكثرين؛ لانه يخل بالمولاة في الاذان، ولا يحصل به الاعلام؛ لانه يظن متلاعباً.

وللشافعي قولان في ذلك.

وحاصل الامر: ان الكلام في الاذان شبيه بكلام الخاطب في خطبته.

والمشهور عن الامام أحمد، انه لا يكره الكلام للخاطب، وانما الكراهة للسامع.

وذهب كثير من العلماء إلى التسوية بينهما.

وأماما حكاه البخاري عن الحسن من الضحك في الاذان والاقامة، فمراره: ان الضحك في الاذان والاقامة لا يبطلهما، كما يبطل الصلاة، ولا

ص: 300

باس بالاذان والاقامة وان وقع في اثنائها ضحك، غلب عليه صاحبه، ولم يرد انه لاباس ان يتعمد المؤذن الضحك في اذانه واقامته؛ فان ذلك غفلة عظيمة منه عن تدبر ما هو فيه من ذكر الله، وقد كان حال الحسن على غير ذلك من شدة تعظيم ذكر الله في الاذان وغيره والخشوع عند سماعه.

وقد روى ابن أبي الدنيا في "كتاب الرقة والبكاء" بإسناده، عن يحيى البكاء، عن الحسن، قال: إذا اذن المؤذن لم تبق دابة بر ولا بحر الا اصغت واستعمت. قال: ثم بكى الحسن بكاء شديداً.

وبإسناده، عن أبي عمران الجوني، انه كان إذا سمع الاذان تغير لونه، وفاضت عيناه.

وعن أبي بكر النهشلي نحو – أيضا -، وانه سئل عن ذلك، فقال: اشبهه بالصريخ يوم العرض، ثم غشى عليه.

وحكى مثل ذلك من غيره من الصالحين - أيضا.

وعن الفضيل بن عياض، أنه كان في المسجد، فأذن المؤذن، فبكى حتى بل الحصى، ثم قال: شبهته بالنداء، ثم بكى.

ولكن إذا غلب الضحك على المؤذن في اذانه بسبب عرض له لم يلم على ذلك، ولم يبطل اذانه.

وقد روى عن علي، انه كان يوماً على المنبر، فضحك ضحكاً ما رئي ضحك اكثر منه، حتى بدت نواجذه، ثم قال: ذكرت قول أبي طالب لما ظهر علينا، وانا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصلي

ص: 301

معه ببطن نخلة، فقال: مإذا تصنعان يا بن اخي؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاسلام، فقال: ما بالذي تصنعان بأس، ولكن والله لا تعلوني استي ابداً، فضحك تعجباً لقول أبيه.

خرجه الامام أحمد بإسناد فيه ضعيف.

قال البخاري – رحمه الله:

ص: 302

616 -

حدثنا مسدد: ثنا حماد، عن ايوب وعبد الحميد صاحب الزيادي وعاصم الاحول، عن عبد الله بن الحارث، قال: خطبنا ابن عباس في يوم رزغ، فلما بلغ المؤذن:((حي على الصلاة)) فأمره ان ينادي ((الصلاة في الرحال)) ، فنظر القوم بعضهم إلى بعض، فقال: فعل هذا من هو خير منه، وانها عزمة.

((الرزغ)) : بالزاي والغين المعجمة، هو: الرحل. يقال: ارزغت السما إذا بلت الارض. ويقال له – أيضا -: ((الردغ)) بالدال المهملة.

وقيل: ان الرزغ - بالزاي - اشد من الردغ. وقيل: هما سواء.

قال الخطأبي: الرزغة: وحل شديد، وكذلك الردغة. ورزغ الرجل [إذا ارتكم] في الوحل، فهو رزغ.

وقد خرجه البخاري – أيضا - في ((باب: هي يصلي الامام بمن

ص: 302

حضر، وهل يخطب يوم الجمعة في المطر؟)) عن عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي، عن حماد، عن عبد الحميد وعاصم خاصة، وفصل حديث احدهما من حديث الاخر.

وفي حديث عبد الحميد عنده: قال: كأنكم انكرتم هذا، ان هذا فعله من هو خير مني - يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.

وخرجه - أيضا - في ((كتاب الجمعة)) من طريق ابن علية، عن عبد الحميد، قال: انا عبد الله بن الحارث ابن عم محمد بن سيرين: قال ابن عباس كمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت: ((اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله)) ، فلا تقل:((حي على الصلاة)) . قل: ((صلوا في بيوتكم)) ، فكأن الناس استنكروا، فقال: قد فعله من هو خير مني.

وفي هذه الرواية: زيادة على ما قبلها من وجهين:

احدهما: انه نسب فيها عبد الله بن الحارث هذا: هو الانصاري البصري نسيب ابن سيرين وختنه على اخته.

وكذا وقع في ((سنن أبي داود)) – أيضا.

وفي ((سنن ابن ماجه)) من رواية عباد المهلبي، عن عاصم الاحول، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل.

وابن نوفل هذا، هو: الهاشمي، ويلقب ((ببه)) ، وكلاهما ثقة، مخرج له في ((الصحيحين)) . فالله اعلم.

والثاني: ان في هذه الرواية: ان ابن عباس نهى المؤذن ان يقول: ((حي على الصلاة)) ، وامره ان يبدلها في قوله:((صلوا في بيوتكم)) .

وقد خرجهما

ص: 303

مسلم – أيضا - كذلك.

وعلى هذه الرواية، فلا يدخل هذا الحديث في هذا الباب، بل هو دليل على ان المؤذن يوم المطر مخير بين ان يقول:((حي على الصلاة حي على الفلاح)) ، وبين ان يبدل ذلك بقوله:((صلوا في رحالكم او بيوتكم)) ، ويكون ذلك من جملة كلمات الاذان الاصلية في وقت المطر.

وهذا غريب جداً، اللهم الا ان يحمل على انه امره بتقديم هذه الكلمات على الحيعلتين، وهو بعيد مخالف لقوله: لا تقل: ((حي على الصلاة)) ، بل ((صلوا في بيوتكم)) .

والذي فهمه البخاري: ان هذه الكلمة قالها بعد الحيعلتين او قبلهما، فتكون زيادة كلام في الاذان لمصلحة، وذلك غير مكروه كما سبق ذكره؛ فإن من كره الكلام في اثناء الاذان انما كره ما هو اجنبي منه، ولا مصلحة للاذان فيه.

وكذا فهمه الشافعي؛ فإنه قال في كتابه: إذا كانت ليلة مطيرة، او ذات ريح وظلمة يستحب ان يقول المؤذن إذا فرغ من اذانه:((الا صلوا في رحالكم)) فإن قاله في اثناء الاذان بعد الحيعلة فلا بأس.

وكذ قال عامة أصحابه، سوى أبي المعالي؛ فإنه استبعد ذلك اثناء الاذان.

وأماابدال الحيعلتين بقوله: ((الا صلوا في الرحال)) ، فانه اغرب واغرب.

ص: 304

وفي الباب – أيضا - عن نعيم بن النهام.

خرجه الامام أحمد: ثنا عبد الرزاق: أبنا معمر، عن عبيد الله بن عمر، عن شيخ قد سماه، عن نعيم بن النحام، قال: سمعت مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة باردة، وانا في لحافي، فتمنيت ان يقول:((صلوا في رحالكم) ، فلما بلغ حي على الفلاح، قال:((صلوا في رحالكم)) ، ثم سألت عنها، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم امره بذلك.

في إسناده مجهول.

وله طريق اخر: خرجه الامام أحمد – أيضا -: ثنا علي بن عياش: ثنا اسماعيل بن عياش: ثنا يحيى بن سعيد: اخبرني محمد بن يحيى بن حبان، عن نعيم بن النحام، قال: نودي بالصبح في يوم بارد، وانا في مرط امراتي، فقلت: ليت المنادي قال: ((ومن قعد فلا حرج عليه)) ، فإذا منادي النبي صلى الله عليه وسلم في اخر اذانه قال:((ومن قعد فلا حرج عليه)) .

وخرجه ابو القاسم البغوي في ((معجم الصحابة)) من رواية سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن نعيم، به - بنحوه، ولم يقل:((في اخر اذانه)) .

وقال: هو مرسل.

ص: 305

يشير إلى ان محمد بن ابراهيم التيمي لم يسمع من نعيم.

ورواية سليمان بن بلال عن يحيى اصح من رواية اسماعيل بن عياش؛ فان اسماعيل لا يضبط حديث الحجازيين، فحديثه عنهم فيه ضعف.

وخرجه البيهقي من رواية عبد الحميد بن أبي العشرين، عن الاوزاعي عن يحيى بن سعيد، ان محمد بن ابراهيم بن الحارث التيمي حدثه، عن نعيم ابن النحام - فذكر الحديث بنحوه، وقال فيه: فلما بلغ: ((الصلاة خير من النوم)) ، قال:((ومن قعد فلا حرج)) .

وروى سفيان بن عيينة، [عن عمرو بن دينار]، عن عمرو بن أوس: انبأنا رجل من ثقيف، انه سمع منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول – في ليلة مطيرة في السفر -، يقول:((حي على الصلاة، حي على الفلاح، صلوا في رحالكم)) .

خرجه النسائي.

وقد روى عبيد الله والليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر، انه كان ربما زاد في اذانه:((حي على خير العمل)) .

ص: 306

‌11 - باب

اذان الاعمى إذا كان له من يخبره

ص: 307

617 -

حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ان بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن ام مكتوم)) ، وكان رجلاً اعمى، لاينادي حتى يقال له: اصبحت، اصبحت.

كذا روى القعنبي هذا الحديث عن مالك، ووافقه ابن أبي اويس وابن مهدي وعبد الرزاق وجماعة.

وهو في ((الموطا)) عن ابن شهاب، عن سالم - مرسلاً، وكذا رواه الشافعي والاكثرون عن مالك.

ورواه سائر أصحاب الزهري، عنه، عن سالم، عن أبيه - مسنداً.

ص: 307

وقد خرجه مسلم من رواية الليث ويونس، عن ابن شهاب كذلك، ولم يخرجه من طريق مالك.

ورواه معمر وابن إسحاق، عن الزهري، عن ابن المسيب مرسلاً - أيضا.

وقوله في اخر الحديث: ((وكان رجلا اعمى)) قد ادرجه القعنبي في روايته عن مالك في حديثه الذي خرجه عنه البخاري، وكذا رواه ابو مسلم الكجي عن القعنبي.

وكذا رواه عبد العزيز بن [أبي] سلمة بن الماجشون، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، وادرجه في الحديث.

وخرج الباري حديثه في موضع اخر.

والحديث في ((الموطا)) ، كله، عن ابن شهاب، عن سالم - مرسلاً، فالذي في اخره يكون من قول سالم حينئذ.

وقد بين جماعة من رواة ((الموطا)) انه من قول ابن شهاب، منهم: يحيى ابن يحيى الاندلسي.

وقد رواه الجماعةمن القعنبي، عن مالك، فأسندوا الحديث، وجعلوا قوله:((وكان رجلا اعمى)) - إلى اخره من قول الزهري، منهم: عثمان بن سعيد الدارمي والقاضي اسماعيل وابو خليفة الفضل بن الحباب وإسحاق بن الحسن.

وروى هذا الحديث ابن وهب، عن الليث ويونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه - فذكر الحديث، وزاد: قال يونس في

ص: 308

الحديث: وكان ابن ام مكتوم هو الاعمى الذي انزل الله فيه

{عبس وتولى} [عبس:1]، كان يؤذن مع بلال. قال سالم: وكان رجلاً ضرير البصر، ولم يكن يؤذن حتى يقول له الناس حين ينظرون إلى بزوغ الفجر: اذن.

خرجه البيهقي وغيره.

وخرج مسلم في ((صحيحه)) من حديث عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان: بلال وابن ام مكتوم الاعمى.

وعن عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة – مثله.

ومن طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان ابن ام مكتوم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو اعمى.

كذا خرجه من رواية محمد بن جعفر، عن هشام.

ورواه وكيع وابو اسامة، عن هشام، عن أبيه – مرسلاً.

ومقصود البخاري: الاستدلال بحديث ابن عمر على ان اذان الاعمى غير مكروه، إذا كان له من يخبره بالوقت، وسواء كان البصير المخبر له مؤذنا معه، كما كان بلال وابن ام مكتوم، أو كان موكلا باخباره بالوقت من غير تأذين.

وهذا هو قول اكثر العلماء، منهم:

ص: 309

النخعي والثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وابو ثور.

وان لم يكن معه بصير يخبره بالوقت كره اذانه، ولو كان عارفا بالوقت بنفسهِ.

قال القاضي من أصحابنا: لان معرفته بنفسه يعمل بها في حق نفسه دون غيره.

وقال ابن أبي موسى من أصحابنا: لا يؤذن الاعمى الا في قرية فيها مؤذنون، فيؤذن بعدهم، وان كان في قرية واحدة لم يؤذن حتى يتحقق دخول الوقت.

وقالت طائفة: يكره اذان الاعمى، روى عن أبي مسعود وابن الزبير.

وعن ابن عباس، انه كره اقامته.

وحكى الامام أحمد عن الحسن، انه كره اذان الاعمى.

وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.

وحكاه القاضي ابو يعلى رواية عن أحمد، وتأولها على انه لم يكن معه ما يهتدي به.

قال ابن عبد البر: وفي الحديث دليل على جواز شهادة الاعمى على ما استيقنه من الاصوات، الا تري انه كان إذا قيل له - يعنى: ابن ام مكتوم -: اصبحت قبل ذلك، وشهد عليه، وعمل به. انتهى.

ص: 310

وقبول شهادة الاعمى على ما يتقينه من الاصوات مذهب مالك وأحمد، وروي عن شريح وكثير من السلف.

ومنع منها ابو حنيفة والشافعي.

ومن قال بقولهما، [فرق] بين الاذان والشهادة: بأن الاذان خبر ديني، يعم حكمه المخبر وغيره، فهو كراوية الاعمى للحديث الذي يسمعه وهو اعمى، بخلاف الشهادة، فانه حق لادمي معين فيحتاط لها.

ص: 311

‌12 - باب

الأذان بعد الفجر

فيه ثلاثة أحاديث:

الحديث الأول:

ص: 312

618 -

ثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: أخبرتني حفصة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف المؤذن للصبح، وبدا الصبح صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة.

كذا في هذه الرواية: ((إذا اعتكف المؤذن للصبح)) ، ولعل المراد باعتكافه للصبح جلوسه للصبح ينتظر طلوع الفجر، وحبسه نفسه لذلك.

ويدل على هذا المعنى: ماخرجه أبو داود من طريق ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن امرأة من بني النجار، قالت: كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، فكان بلال يؤذن عليه الفجر، فيأتي بسحر، فيجلس على البيت ينظر إلى الفجر، فإذا رآه تمطى، ثم قال: اللهم، إني أحمدك واستعينك على قريش ان يقيموا دينك، ثم يؤذن. قالت: ما علمته كان تركها ليلة واحدة -[تعني] : هذه الكلمات.

ص: 312

والمعروف في حديث حفصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح وبدا الصبح ركع ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة.

كذا خرجه مسلم، عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وكذا هو في ((الموطإ)) .

وليس في هذا الحديث دلالة صريحة على أنه كان لا يؤذن إلا بعد طلوع الفجر؛ فإنها قالت: ((كان إذا سكت المؤذن وبدا الفجر صلى)) ، فلم تذكر أنه [كان] يصلي إلا بعد فراغ الأذان بعد طلوع الفجر، وهذا يشعر بأنه كان الأذان قبل الفجر، وإلا لم تحتج إلى ذكر طلوع الفجر مع الأذان.

وقد خرج مسلم الحديث من رواية الليث بن سعد وأيوب وعبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، كما رواه مالك.

وخرجه النسائي من طرق أخرى، عن نافع كذلك.

ورواه عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أذن المؤذن للفجر صلى ركعتين،

ص: 313

وكان لا يؤذن إلا بعد الفجر.

ذكره أبو بكر الأثرم.

وقال: رواه الناس عن نافع، لم يذكروا ما ذكره عبد الكريم.

وخرجه ابن عبد البر بإسناده، ولفظ حديثه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع أذان الصبح صلى ركعتين، ثم خرج إلى المسجد، وحرم الطعام، وكان لا يؤذن حتى يصبح.

قلت: لعل هذه الزيادة مدرجة فيه.

وقد رواها عبيد الله بن عمر، عن نافع - من قوله.

خرجه ابن أبي شيبة.

ولو كان هذا محفوظاً حمل على أذان ابن أم مكتوم، كما في حديث ابن عمر في الباب الماضي.

الحديث الثاني:

ص: 314

619 -

ثنا أبو نعيم: ثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين خفيفتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح.

وخرجه مسلم من طريق هشام، عن يحيى - وهو: ابن أبي كثير -، [به] .

وليس صريحاً في أن الأذان كان بعد طلوع الفجر؛ فإنه إذا كان

ص: 314

يؤذن قبل طلوع الفجر، ثم يمهل حتى يطلع الفجر، ثم يصلي ركعتين، فقد صلى عليه أنه صلى بين النداء والإقامة.

وقد رواه جماعة عن يحيى بن أبي كثير بهذا اللفظ.

ورواه معاوية بن سلام، عن يحيى، ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الصبح قام فركع ركعتين خفيفتين.

خرجه النسائي.

ورواه عبد الرحمن بن إسحاق، عن سعيد المقبري، عن أبي سلمة، عن عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع النداء قام فصلى ركعتين حتى يأتيه، فيخرج إلى الصلاة.

وأصرح من هذا: ما خرجه البخاري في آواخر ((كتاب الصلاة)) من طريق مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين.

خرجه مسلم من طريق عبدة، عن هشام، ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر إذا سمع الأذان ويخففهما.

ورواه - أيضا - ابن نمير ومحمد بن جعفر بن الزبير، عن هشام كذلك.

ص: 315

وليس صريحاً - أيضا -؛ فقد وردت روايات أخر عن عائشة تدل على انه كان بعد النداء يؤخر الركعتين تارة حتى يتبين له الفجر، وتارة حتى يتوضأ.

فخرج مسلم من طريق عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر، وجاءه المؤذن أقام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة.

وخرجه - أيضا - من طريق يونس، عن ابن شهاب، غير أنه لم يذكر:((وتبين له الفجر وجاءه المؤذن)) ، ولم يذكر: الإقامة.

وخرج –أيضا - من طريق أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام أول الليل ويحيى آخره، ثم إن كان له حاجة إلى أهله قضى حاجته، ثم ينام، فإذا كان عند النداء الأول وثب فإفاض عليه الماء، وإن لم يكن جنبا توضأ وضوء الرجل للصلاة، ثم صلى الركعتين.

وهذا هو الحديث الذي فيه ((أنه ينام ولا يمس ماء)) ، وقد استنكره الأئمة كما سبق ذكره في ((أبواب: غسل الجنابة)) ، غير أن مسلماً أسقط منه هذه اللفظة.

وقد خرجه البخاري مختصراً، وعنده:((وإلا توضأ)) .

وخرج الأثرم: روى الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة،

ص: 316

قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سكت المؤذن بالأولى من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين.

قلت: هذا خرجه أبو داود هكذا.

ثم قال الأثرم: رواه الناس عن الزهري، فلم يذكروا فيه ما ذكر الأوزاعي، وسمعت أبا عبد الله – يعني: أحمد - يضعف رواية الأوزاعي عن الزهري.

قلت: لم يتفرد الأوزاعي بهذا عن الزهري، بل قد تابعه عليه يونس، وتابعه عمرو بن الحارث، وزاد في حديثه:((وتبين له الفجر)) ، كما خرجه مسلم من حديثهما.

ورواية عمرو بن الحارث تدل على أنه كان يؤخر صلاة الركعتين عن الآذان حتى يتبين له الفجر، ورواية يونس والأوزاعي إن كانت على ظاهرها فهي محمولة على أنه كان يصلي عقب أذان ابن أم مكتوم الثاني، وكان لا يؤذن حتى يقال: أصبحت، أصبحت.

ورواه عقيل وابن أبي ذئب - أيضا -، عن الزهري، كما رواه الأوزاعي.

ورواه ابن الهاد، عن الزهري كذلك، غير أنه زاد فيه:((بعد ان يستنير الفجر)) .

ورواه عمر بن عثمان، عن أبيه، عن الزهري، ولفظه: كان النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 317

إذا سكت المؤذن بالأولى من صلاة الفجر بعدما يتبين الفجر قام فصلى ركعتين من قبل صلاة الصبح.

ورواه شعيب، عن الزهري، ولفظه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سكت بالأولى من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر، بعد أن يتبين الفجر.

خرجه البخاري. وسيأتي قريباً - إن شاء الله.

ورواه المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع التثويب صلى ركعتين، ثم خرج.

الحديث الثالث:

ص: 318

620 -

ثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إن بلالاً ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم)) .

كذا خرج في ((الموطإ)) هذا الحديث. وخرجه الإسماعيلي في ((صحيحه)) من طريق عن مالك.

وخرجه من طريق عبد الله بن يوسف، وزاد فيه: وكان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى، لا ينادي حتى يقال له: أصبحت، أصبحت.

وزعم أن تخريج هذا الحديث في ((باب: أذان الأعمى)) كان أولى؛ لأنه زعم أن هذه الزيادة فيه من قول ابن عمر ومالك مدرجة.

ص: 318

وهذا الذي قاله ليس بشيء، وهذه الزيادة في حديث عبد الله بن دينار ما أراها محفوظة عن مالك بالكلية، والظاهر ان بعض الرواة اشتبه عليه حديث عبد الله بن دينار بحديث سالم المتقدم. والله اعلم.

وقد رواه - أيضا شعبة، عن عبد الله بن دينار، بدون هذه الزيادة - أيضا.

وقد روي عن مالك بهذه الزيادة من وجه آخر: رواه حرملة، عن ابن وهب والشافعي، كلاهما عن مالك، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم)) ، وكان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى، لا ينادي حتى يقال: أصبحت، اصبحت.

خرجه الطبراني، وذكر أنه تفرد به حرملة، ولا يرويه عن مالك غير الشافعي وابن وهب، وعنده: أن هذه الزيادة في آخره من رواية الشافعي وحده.

وذكر ابن أبي حاتم أن أباه حدثه عن حرملة، عن ابن وهب وحده بهذه الزيادة، وقال: قال أبي: هذا منكر بهذا الإسناد.

وبكل حال؛ فتحمل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عقب الأذان على أذان ابن ام

ص: 319

مكتوم الثاني، إلا أن في حديث عائشة ما يدل على [أنه] الأذان الأول في عدة روايات، فيحمل ذلك على أنه كان يصلي بين الأذانين إذا تبين له الفجر قبل أذان ابن أم مكتوم، بدليل رواية من روى أنه كان يصلي إذا سكت المؤذن وتبين له الفجر.

وقد روى جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن أبي سلمة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بني النداءين، لم يكن يدعهما ابداً.

خرجه البخاري.

والمراد: بين النداء والإقامة.

وقد رواه يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، وذكر في حديثه: أنه كان يصلي ركعتين الفجر بين الأذان والإقامة، كما سبق.

فتعين حمل ذلك على الأذان الثاني، ولا بد.

وقد روى بعضهم حديث عراك، وزاد فيه بعد قوله: يصلي ركعتين بين النداءين: ((جالساً)) .

خرجه ابو داود.

ولفظه: ((جالساً)) غير محفوظة.

وإنما كان يصلي ركعتين جالساً بعد وتره، كذلك رواه يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة.

ومما يدل على هذا - أيضا -: حديث ابن عمر المخرج في ((الصحيحين)) من طريق أنس بن سيرين، عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الركعتين قبل صلاة الغداة كأن الأذان بأذنيه.

زاد البخاري: قال حماد بن

ص: 320

زيد: أي: بسرعة.

وروي الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن أبن عباس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي [ركعتي] الفجر إذا سمع الأذان ويخففهما.

خرجه النسائي.

وقال: هذا حديث منكر.

قلت: نكارته من قبل إسناده، وروايات الأعمش عن حبيب فيها منكرات؛ فإن حبيب بن أبي ثابت إنما يروي هذا الحديث عن محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس، عن أبيه، عن جده.

[وخرج أبو داود] من حديث كريب، عن الفضل بن عباس -، أنه نام ليلة عند النبي صلى الله عليه وسلم لينظر كيف صلاته، [فذكر صلاته] ووتره، ثم قام فنادى المنادي عند ذلك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما سكت المؤذن، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم جلس حتى صلى الصبح.

فهذه الأحاديث المخرجة في هذا الباب كلها ليس فيها دلالة صريحة على ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يؤذن له إلا بعد طلوع الفجر، وغاية ما يدل بعضها على أنه كان يؤذن له بعد طلوع الفجر، وذلك لا ينفي أن يكون قد أذن قبل الفجر اذان أول.

والأحاديث التي فيها أن

ص: 321

بلالاً كان لا يؤذن إلا بعد طلوع الفجر أسانيدها غير قوية، ويمكن ان تحمل - على تقدير ثبوتها - على أنه كان يؤذن بعد طلوع الفجر الأول، وقبل طلوع الفجر الثاني.

ويدل على ذلك: ما روى ابن وهب، قال: حدثني سالم بن غيلان، أن سليمان بن أبي عثمان التجيبي حدثه، عن حاتم بن عدي الحمصي، عن أبي ذر، أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة - فذكر الحديث - قال: ثم أتاه بلال للصلاة، فقال:((أفعلت.)) فقال: نعم. قال: ((إنك يا بلال مؤذن إذا كان الصبح ساطعاً في السماء، وليس ذلك الصبح، إنما الصبح هكذا إذا كان معترضاً)) ، ثم دعا بسحوره فتسحر.

خرجه بقي بن مخلد في ((مسنده)) ويونس بن يعقوب القاضي في ((كتاب الصيام)) .

وخرجه الإمام أحمد – بمعناه من رواية رشدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن سالم بن غيلان. ومن طريق ابن لهيعة، عن سالم بن غيلان - أيضا.

وقد اختلف في هذا الإسناد:

فقال البخاري في ((تاريخه)) : هو إسناد مجهول.

وقال الدارقطني - فيما نقله عنه البرقاني - في هؤلاء الثلاثة: سالم وسليمان وحاتم: مصريون متروكون، وذكر أن رواية

ص: 322

حاتم، عن أبي ذر لا تثبت.

وخالفه في ذلك آخرون:

أماحاتم، فقال العجلي: تابعي حمصي شامي، ثقة.

وأماسليمان بن أبي عثمان التجيبي، فقال أبو حاتم الرازي: هو مجهول.

وأماسالم بن غيلان، فمشهور، روى عنه جماعة من أهل مصر. وقال أحمد وأبو داود والنسائي: لا بأس به. وقال ابن خراش: صدوق، وقال ابن حبان: ثقة.

فلم يبق من هؤلاء من لا يعرف حاله سوى سليمان بن أبي عثمان.

وقد عضد هذا الحديث: ما خرجه مسلم في ((صحيحه)) من حديث سمرة ابن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا هذا البياض - لعمود الصبح - حتى يستطير)) .

وحديث

ص: 323

ابن مسعود، وقد خرجه البخاري في الباب الآتي.

وفي النهي عن الأذان قبل الفجر أحاديث أخر، لا تصح:

فروى جعفر بن برقان، عن شداد مولى عياض بن عامر، عن بلال، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر هكذا)) ، ومد يديه عرضاً.

خرجه أبو داود.

وقال: شداد لم يلق بلالاً.

قال أبو بكر الأثرم: هو إسناد مجهول منقطع.

يشير إلى جهالة شداد، وأنه لم يلق بلالاً.

وقد خرجه أبو نعيم في ((كتاب الصلاة)) : ثنا جعفر بن برقان، عن شداد مولى عياض، قال: بلغني ان بلالاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.

وروى [أبو داود، عن] حماد بن سلمة، عن ايوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن بلالاً أذن بليل، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينادي، ألا إن العبد نام.

ص: 324

وقال: تفرد به حماد.

وذكر أن الدراوردي روى عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان لعمر مؤذن، يقال له: مسروح - فذكر نحوه.

وقال: هذا أصح من ذلك.

يعني: أنه موقوف على عمر، وأن حماد بن سلمة وهم في رفعه.

وحكى الترمذي عن علي بن المديني، أنه قال: هو غير محفوظ، وأخطأ فيه حماد بن سلمة.

وكذا قال الترمذي: هو غير محفوظ.

وكذلك انكره الإمام أحمد على حماد.

وقال أبو حاتم الرازي: حديث حماد خطأ. والصحيح: عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر أمر مسروحاً.

ص: 325

قال: ورواه ابن أبي محذورة، عن عبد العزيز أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً - أيضا -، وابن أبي محذورة شيخ.

وقال محمد [بن] يحيى الذهلي: هو حديث شاذ، وهو خلاف ما رواه الناس عن ابن عمر.

يعين: أنهم رووا عنه حديث: ((إن بلالاً يؤذن بليل)) .

وقال الشافعي: رأينا أهل الحديث من أهل العراق لا يثبتون هذا الحديث، ويزعمون أنها ضعيفة، لا يقوم بمثلها حجة على الانفراد.

وقال الأثرم: هذا الحديث [خطأ] معروف من خطإ حماد بن سلمة.

ص: 326

وقال الدارقطني: أخطأ فيه حماد بن سلمة. وتابعه سعيد بن زربي - وكان ضعيفاً -، روياه عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر. والمحفوظ: عن أيوب، عن ابن سيرين أو حميد بن هلال، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال هذا. قال: ولا يقوم بالمرسل حجة.

قلت: روايات حماد بن سلمة عن أيوب غير قوية.

قال أحمد: أسند عن ايوب [احاديث لا يسندها الناس عنه.

وقال مسلم: حماد يخطئ في حديث أيوب كثيراً.

وقد خولف في رواية هذا عن أيوب، فرواه معمر، عن أيوب] – مرسلاً.

خرجه عبد الرزاق، عنه.

وأماحديث عبد العزيز بن أبي رواد، فقد روي عنه متصلاً كما تقدم من رواية ابن أبي محذورة عنه.

وتابعه عامر بن مدرك.

ص: 327

قال الدارقطني: هو وهم، والصواب: رواية شعيب بن حرب، عن عبد العزيز، عن نافع، عن مؤذن لعمر، يقال له: مسروح، أن عمر أمره بذلك.

وذكر أبو داود ان حماد بن زيد رواه عن عبيد الله، عن نافع أو غيره، أن مؤذنا لعمر يقال له: مسروح - فذكره.

وذكر الترمذي، ان ابن أبي رواد رواه، عن نافع، ان عمر أمر بذلك.

قال: هذا لا يصح؛ لأنه منقطع.

وقال البيهقي في حديث ابن أبي رواد المتصل: إنه ضعيف لا يصح، والصواب: رواية شعيب بن حرب.

وقال ابن عبد البر: الصحيح: أن عمر هو الذي أمر مؤذنه بذلك.

وقد روي من حديث قتادة، عن أنس - نحو حديث حماد بن سلمة.

والصحيح: أنه عن قتادة مرسل -: قاله الدارقطني.

وروي من حديث الحسن، عن أنس - أيضا - بإسناد لا يصح.

والنهي عن الأذان قبل طلوع الفجر قد روى عن عمر، كما سبق،

ص: 328

وعن علي.

قال أبو نعيم: ثنا إسرائيل، عن فضل بن عمير، قال: كان لعلي مؤذن، فجعل علي معه مؤذناً آخر؛ لكيلا يؤذن حتى ينفجر الفجر.

وهذا منقطع.

وروى وكيع: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، قالت: ما كانوا يؤذنون حتى يصبحون.

وخرج الإمام أحمد من رواية يونس، عن أبي إسحاق، عن الأسود، قال: قلت لعائشة: متى توترين؟ قالت: ما أوتر حتى يؤذن، وما يؤذن حتى يطلع الفجر.

وعن شريك، عن علي بن علي، عن إبراهيم، قال: سمع علقمة مؤذناً يؤذن بليل، فقال: لقد خالف هذا سنة أصحاب محمد.

وإلى هذا القول ذهب الكوفيون، منهم: أبو الأحوص صاحب ابن مسعود، وقيس بن أبي حازم، والشعبي، والنخعي، والثوري، وأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، والحسن بن صالح.

ص: 329

وروى ابن أبي شيبة من طريق حجاج، عن طلحة، عن سويد - هو: ابن علقمة -، عن بلال، انه كان لا يؤذن حتى ينشق الفجر.

وعن حجاج، عن عطاء، عن أبي محذورة، انه أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر، فكان لا يؤذن حتى يطلع الفجر.

حجاج، هو: ابن أرطأة:

قال الاثرم: هذا ضعيف الإسناد.

وقال ابن أبي شيبة: ثنا ابن نمير، عن عبيد الله، قال: قلت لنافع: إنهم كانوا ينادون قبل الفجر؟ قال: ما كان النداء الا مع الفجر.

ص: 330

‌13 - باب

الاذان قبل الفجر

فيه حديثان:

الاول:

قال:

ص: 331

621 -

ثنا أحمد بن يونس: ثنا زهير: ثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((لا يمنعن [أحدكم – أو] أحدا منكم - أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن بليل - أو ينادي بليل - ليرجع قائمكم، ولينبه نائمكم، وليس أن يقول الفجر أو الصبح)) - وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل حتى يقول هكذا. وقال زهير: بسبابته إحدهما فوق الاخرى، ثم مدها عن يمينه وشماله.

قال علي بن المديني: إسناده جيد، ولم نجده عن ابن مسعود إلا من هذا الطريق.

ص: 331

وقوله: ((ليرجع قائمكم)) .

قال الحافظ ابو موسى المديني: لفظ لازم ومتعد، يقال: رجعته فرجع، وكان المحفوظ ((قائمكم)) بالرفع، ولو روي ((قائمكم)) بالنصب؛ ليلائم ((نائمكم)) لم نخطئ روايه، ويكون ((يرجع)) حينئذ متعديا كلفظ:((يوقظ)) .

وفسر رجوع القائم: بأن المصلي يترك صلاته، ويشرع في وتره، ويختم به صلاته، وهذا مما استدل به من يقول: ان وقت النهي عن الصلاة يدخل بطلوع الفجر كما سبق.

فذكر لأذانه قبل الفجر فائدتين:

احدهما: اعلام القائم المصلي بقرب الفجر.

وهذا يدل على انه كان يؤذن قريبا من الفجر، وقد ذكرنا في الباب الماضي، انه كان يؤذن إذا طلع الفجر الاول.

والثانية: ان يستيقظ النائم، فيتهيأ للصلاة بالطهارة؛ ليدرك صلاة الفجر مع الجماعة في أول وقتها؛ وليدرك الوتر ان لم يكن أوتر، أو يدرك بعض التهجد قبل طلوع الفجر، وربما تسحر المريد للصيام حينئذ، كما قال:((لا يمنعن احدا منكم أذان بلال عن سحوره)) .

وفي هذا تنبيه على استحباب إيقاظ النوام في آخر الليل بالاذان ونحوه من الذكر.

وخرج الترمذي من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل، عن

ص: 332

الطفيل بن أبي [بن] كعب، عن أبيه، ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب ثلثا الليل قام، فقال:((يأيها الناس، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه)) .

وقال: حديث حسن.

وفيه دلالة على ان الذكر والتسبيح جهرا في آخر الليل لا بأس به؛ لايقاظ النوام.

وقد انكره طائفة من العلماء، وقال: هو بدعة، منهم: ابو الفرج ابن الجوزي. وفيما ذكرناه دليل على انه ليس ببدعة.

وقد روي عن عمر، أنه قال: عجلوا الاذان بالفجر؛ يدلج المدلج، وتخرج العاهرة.

ورواه الشافعي، عن مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن قيس، عن عمر.

فذكر فيه فائدتين:

احدهما: ان المسافر يدلج في ذلك الوقت، وقد امر النبي صلى الله عليه وسلم المسافر بالدلجة. وقال:((ان الارض تطوى بالليل)) . والدلجة: سير آخر الليل.

ص: 333

والثاني: ان من كان معتكفا على فجور، فإنه يقلع بسماع الاذان عما هو فيه.

وأماتفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين الفجرين، فإنه فرق بينهما بأن الأول مستطيل، يأخذ في السماء طولاً؛ ولهذا مد أصابعه ورفعها إلى فرق وطأطأها أسفل. والثاني مستطير، يأخذ في السماء عرضاً، فينتشر عن اليمين والشمال.

وهكذا في حديث سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل حتى يستطير هكذا)) - وحكاه حماد بن زيد بيده - يعني: معترضاً.

خرجه مسلم بمعناه.

وفي حديث طلق بن علي الحنفي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((كلوا واشربوا، ولا يهيدنكم الساطع المصعد، وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم)) - يعني: الاحمر.

خرجه أبو داود والترمذي.

وقال: حديث حسن.

وخرجه الإمام أحمد، ولفظه:((ليس الفجر المستطيل، ولكنه المعترض الأحمر)) .

ص: 334

الحديث الثاني:

قال:

ص: 335

622 -

حدثني إسحاق: ابنا أبو أسامة، قال: عبيد الله ثنا، عن القاسم بن محمد، عن عائشة - وعن نافع، عن ابن عمر -، أن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 335

623 -

وحدثني يوسف بن عيسى: ثنا الفضل بن موسى: ثنا عبيد الله بن عمر، عن القاسم، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:((إن بلالاً يؤذن بليلٍ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم)) .

وقد خرجه البخاري في ((الصيام)) عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، بالإسنادين - أيضا -، وفي آخر الحديث:((فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر)) . قال القاسم: ولم يكن بين أذانهما إلا ان يرقى ذا وينزل ذا.

وقد روي عن عائشة من وجهٍ آخر: من رواية الدراوردي: ثنا هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن ابن ام مكتوم رجل أعمى، فإذا أذن المؤذن فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال)) . قالت عائشة: وكان بلال يبصر الفجر. قال هشام: وكانت عائشة تقول: غلط ابن عمر.

ص: 335

خرجه الحاكم والبيهقي.

قال البيهقي: حديث عبيد الله بن عمر، عن القاسم، عن عائشة أصح.

وخرجه الإمام أحمد - أيضا – وابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحهما)) .

وفي رواية: وكان بلال لا يؤذن حتى يرى الفجر.

وقد روي نحو هذا اللفظ - أيضا - من رواية أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

خرجه ابن خزيمة.

وقال: فيه نظر؛ فإني لا أقف على سماع أبي إسحاق لهذا الخبر من الأسود.

وقد حمل ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما هذا - على تقدير [أن يكون محفوظاً - على أن الأذان كان نوباً بين بلال وابن ام مكتوم، فكان يتقدم] بلال تارةً، ويتأخر ابن ام مكتوم، وتارةً بالعكس.

والأظهر - والله أعلم -: أن هذا اللفظ ليس بمحفوظ، وأنه مما انقلب على بعض رواته.

ونظير هذا: ما روى شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن عمته

ص: 336

أنيسة بنت خبيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم)) . ولم يكن بين أذانهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا.

كذا روى أبو داود الطيالسي وعمرو بن مرزوق وغيرهما عن شعبة.

ورواه غيرهما، عن شعبة بالعكس، وقالوا:((إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال)) .

ورواه سليمان بن حرب وغيره عن شعبة بالشك في ذلك.

وقد روى الواقدي بإسناد له، عن زيد بن ثابت، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال)) .

ص: 337

خرجه البيهقي.

والواقدي، لا يعتمد [عليه] .

والصحيح من ذلك: ما رواه القاسم، عن عائشة. وما رواه سالم ونافع وعبد الله بن دينار، عن ابن عمر، وما رواه أبو عثمان، عن ابن مسعود؛ فإن هذه الأحاديث كلها صحيحة، وقد دلت على أن بلالاً كان يؤذن بليل.

ودل ذلك على جواز الأذان قبل طلوع الفجر، وهو قول مالك، والأوزاعي، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي يوسف، وأبي ثور، وداود، وأبي خيثمة، وسليمان بن داود الهاشمس، وأبي بكر بن أبي شيبة وغيرهم من فقهاء أهل الحديث.

وعليه عمل أهل الحرمين، ينقلونه خلفاً عن سلف، حتى قال مالك في ((الموطإ)) : لم يزل الصبح ينادى لها قبل الفجر.

وذكر الشافعي، أنه فعل أهل الحرمين، وأنه من الأمور الظاهرة عندهم، ولم ينكره منكر.

وقال الإمام أحمد: أهل الحجاز يقولون: هو السنة - يعني: الأذان بليل.

وكذا قال إسحاق: هو سنة.

وكذا قال أحمد في رواية حنبل.

قال القاضي في ((جامعه الكبير)) والآمدي: وظاهر هذا، أنه أفضل من الأذان بعد الفجر، وهو قول الجوزجاني وغيره من فقهاء أهل الحديث؛ لأنه أبلغ في إيقاظ النوام للتاهب لهذه الصلاة، فيكون التقديم

ص: 338

سنة، كما: أن كان التثويب في هذا الأذان سنة - أيضا -؛ لهذا المعنى.

وقالت طائفة: هو رخصة، وهو قول ابن أبي شيبة، وأومأ إليه أحمد في روايات أخر.

فالأفضل عند هؤلاء: الأذان بعد طلوع الفجر، ويجوز تقديمه.

واختلف القائلون: بأن الفجر يؤذن لها بليلٍ في الوقت الذي يجوز الأذان فيه من الليل:

فالمشهور عند أصحاب الشافعي: أنه يجوز الأذان لها في نصف الليل الثاني؛ لأنه يخرج به وقت صلاة العشاء المختار.

ومنهم من قال: ينبني على الاختلاف في آخر وقت العشاء المختار، فإن قلنا: ثلث الليل اذن للفجر بعد الثلث.

ومنهم من قال: يؤذن للفجر في الشتاء لسبع ونصف بقي من الليل، وفي الصيف لنصف سبع.

وروى الشافعي في القديم بإسناد ضعيف، عن سعد القرظ، قال: أذنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بقباء، وفي زمن عمر بالمدينة، فكان أذاننا في الصبح في الشتاء لسبع ونصف بقي من الليل، وفي الصيف [لسبع] يبقى منه.

ص: 339

ومن الشافعية من قال: يؤذن لها قبيل طلوع في السحر.

وصححه جماعة، وهو ظاهر المنقول عن بلال وابن أم مكتوم.

وأماأصحابنا، فقالوا: يؤذن بعد نصف الليل، ولم يذكروا ذلك عن أحمد.

ولو قيل: إنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر الأول استدلالاً بحديث أبي ذر المتقدم لتوجه.

وقد مر بي أن أحمد أومأ إلى ذلك، أو نص عليه، ولم أتحققه إلى الآن.

وروى الشافعي بإسناده، عن عروة بن الزبير، قال: إن بعد النداء بالصبح لحزباً حسناً، إن الرجل ليقرأ سورة البقرة.

وهذا - أيضا - يدل على قرب الأذان من طلوع الفجر.

وأماأصحاب مالك، فحكى ابن عبد البر عن ابن وهب، انه قال: لا يؤذن لها [إلا في السحر. فقيل له: وما السحر؟ قال: السدس الآخر. قال: وقال ابن حبيب: يؤذن لها] من بعد خروج وقت العشاء، وذلك نصف الليل.

ومع جواز الأذان لصلاة الصبح قبل طلوع الفجر، فيستحب إعادة الأذان لها بعد الفجر مرة ثانية.

قال أحمد - في رواية حنبل -: الأذان الذي عليه أهل المدينة الأذان قبل طلوع الفجر، هو الأذان الأول، والأذان الثاني بعد طلوع الفجر.

وكره أحمد الأذان للفجر قبل طلوع الفجر في رمضان خاصة؛ لما فيه منع

ص: 340

الناس من السحور في وقت يباح فيه الأكل.

وقد يستدل له بحديث شداد مولى عياض، عن بلال المتقدم ذكره، في نهي النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يؤذن حتى يطلع الفجر؛ فإن في تمام الحديث: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر.

ومن أصحابنا من حكى رواية أخرى: أنه لا يكره.

قال طائفة من أصحابنا: وكراهته إنما هو إذا اقتصر على هذا الأذان؛ فإن أذن معه أذان ثان بعد طلوع الفجر لم يكره.

وعليه يدل حديث ابن عمر وعائشة في هذا الباب.

وقالت طائفة من أهل الحديث: لا يؤذن لصلاة الصبح قبل الفجر، إلا أن يعاد الأذان بعد الفجر في جميع الأوقات، وهو اختيار ابن خزيمة وغيره، وإليه ميل ابن المنذر، وحكاه القاضي أبو الحسن من أصحابنا رواية عن أحمد.

ويمكن أن تكون مأخوذة من رواية حنبل التي ذكرنا آنفاً.

واستدل هؤلاء بحديث عائشة وابن عمر وأنيسة، وما في معناه من أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أذانان: احدهما بليلٍ، والأخر بعد الفجر.

ويمكن الجمع بين هذه الأحاديث والأحاديث التي

ص: 341

رواها العراقيون في امر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً بإعادة الأذان بعد الفجر، بأن الأذان كان في اول الأمر بعد طلوع الفجر، ثم لما أذن بلال بليل وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة أذانه بعد الفجر رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أذانه قبل الفجر مصلحة، فأقره على ذلك [واتخذ] مؤذناً آخر يؤذن بعد الفجر؛ ليجمع بين المصالح كلها: إيقاظ النوام، وكف القوام، والمبادرة بالسحور للصوام، وبين الإعلام بالوقت بعد دخوله.

وهذا كما روي، ان بلالاً هو الذي زاد في أذانه:((الصلاة خير من النوم)) مرتين في آذان الفجر، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان لما رأى فيه من زيادة إيقاظ النائمين في هذا الوقت.

واستدل الأولون بما خرجه أبو داود من رواية عبد الرحمن بن زياد، عن زياد بن نعيم الحضرمي، عن زياد بن الحارث الصدائي، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فلما كان أول أذان الصبح أمرني فأذنت، فجعلت اقول أقيم [يا] رسول الله؟، فجعل ينظر في ناحية المشرق إلى الفجر، فيقول:((لا)) ، حتى إذا طلع الفجر نزل فتبرز ثم انصرف إلي وقد تلاحق أصحابه - يعني: فتوضأ -، فأراد بلال ان يقيم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:((إن أخا صداء هو أذن، ومن أذن فهو يقيم)) . قال: فأقمت – وذكر حديثاً فيه طول.

فهذا يدل على انه اذن قبل طلوع الفجر واجتزأ بذلك الأذان، ولم يعده بعد طلوعه.

ص: 342

ولمن رجح قول من أوجب الإعادة بعد طلوع الفجر، أنه يقول: هذا الحديث إسناده غير قوي.

وقد خرجه ابن ماجه والترمذي مختصراً.

قال الترمذي: إنما نعرفه من حديث الأفريقي، والأفريقي هو ضعيف عند أهل الحديث.

وقال سعيد البرذعي: سئل أبو زرعة عن حديث الصدائي في الأذان.

فقال: الأفريقي، وحرك رأسه.

قلت: وقد اختلف عليه في لفظ الحديث:

فخرجه الإمام أحمد عن محمد بن يزيد الواسطي، عن الإفريقي بهذا الإسناد، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أذن يا أخا صداء)) قال: فأذنت، وذلك حين أضاء الفجر - وذكر الحديث مختصراً.

فهذه الرواية فيها التصريح بانه إنما أذن بعد إضاءة الفجر وطلوعه.

وقد رواه ابن لهيعة، فخالف الأفريقي في إسناده، فرواه عن بكر

ص: 343

بن سوادة، عن زياد بن نعيم، عن حبان بن بح الصدائي صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أتبعت النبي صلى الله عليه وسلم يعني: في مسير له – ليلة إلى الصباح، فأذنت بالصلاة لما اصبحت، وأعطاني إناء وتوضأت منه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه في الإناء، فانفجر عيوناً، فقال:((من أراد منكم أن يتوضأ فليتوضأ)) – فذكر حديثاً، ولم يذكر فيه: الإقامة.

وفي هذه الرواية إنما لما أصبح - أيضا.

وقصة الوضوء وتفجر الماء مذكورة - أيضا - في حديث الإفريقي.

ص: 344

‌14 - باب

كم بين الأذان والإقامة

فيه حديثان:

الأول:

قال:

ص: 345

624 -

حدثنا إسحاق الواسطي: ثنا خالد، عن الجريري، عن [ابن] بريدة، عن عبد الله بن مغفل المزني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((بين كل أذانين صلاة)) - ثلاثاً - ((لمن شاء)) .

((إسحاق)) هذا، يروي عنه في غير موضع عن خالد، وهو: ابن عبد الله الطحان، ولا ينسب إسحاق. وقد قيل: إنه ابن شاهين الواسطي.

الثاني:

قال:

ص: 345

625 -

ثنا محمد بن بشار: ثنا غندر: ثنا شعبة، قال: سمعت عمرو بن عامر الأنصاري، عن أنس بن مالك، قال: كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري، حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهم كذلك، يصلون الركعتين قبل المغرب، ولم يكن بين الأذان

ص: 345

[والإقامة] شيء.

قال عثمان بن جبلة وأبو داود، عن شعبة: ولم يكن بينهما إلا قليل.

وحديث ابن مغفل يدل على أن بين كل أذان صلاة وإقامتها صلاة لمن شاء، فدخل في ذلك المغرب وغيرها، فدل على أن بين أذان المغرب وإقامتها ما يتسع لصلاة ركعتين.

وقد ذكرنا قدر الفصل بين أذان المغرب وإقامتها في ((باب: وقت المغرب)) .

وقد روى حيان بن عبيد [الله العدوي هذا الحديث عن عبد الله] بن بريدة، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( [إن] عند كل أذانين ركعتين قبل الإقامة، ما خلا أذان المغرب)) .

خرجه الطبراني والبزار والدارقطني.

وقال: حيان بن عبيد الله هذا

ص: 346

ليس بقوي، وخالفه حسين المعلم وسعيد الجريري وكهمس بن الحسن، وكلهم ثقات.

يعني: انهم رووه عن ابن بريدة، عن [ابن] مغفل، بدون هذه الزيادة.

وقال الأثرم: ليس هذا بشيء؛ قد رواه عن [ابن] بريدة ثلاثة ثقات على خلاف ما رواه هذا الشيخ الذي لا يعرف، في الإسناد والكلام جميعاً.

وكذلك ذكر ابن خزيمة نحوه، واستدل على خطئه في استثنائه صلاة المغرب بان ابن المبارك روى الحديث عن كهمس، عن [ابن] بريدة، عن ابن مغفل، وزاد في آخره: فكان ابن بريدة يصلي قبل المغرب ركعتين.

وحديث أنس يدل على أن بين أذان المغرب وإقامتها ما يتسع لصلاة ركعتين.

فأماقوله في آخر الحديث: ((ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء)) ، فمراده - والله اعلم - لم يكن شيء كثير؛ بدليل رواية عثمان بن جبلة وأبي داود الطيالسي التي ذكرها البخاري تعليقاً:((ولم يكن بينهما إلا قليل)) .

وقد خرجه النسائي من رواية أبي عامر العقدي، عن شعبة، وفي حديثه:((ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء)) - كرواية غندر.

وقد زعم بعضهم: أن قيام الصحابة للصلاة كان إذا ابتدأ المؤذن في

ص: 347

الأذان، ولم يكن بين الأذان والإقامة، واستدل برواية من روى:((ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء)) .

وفي ((صحيح مسلم)) عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، قال: كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري، فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت، من كثرة من يصليهما.

في ((مسند الإمام أحمد)) من حديث معلى بن جابر، عن موسى بن أنس، عن أبيه، قال: كان إذا قام المؤذن فأذن لصلاة المغرب قام من يشاء، فصلى حتى تقام الصلاة، ومن شاء ركع ركعتين، ثم قعد، وذلك بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومعلى بن جابر، مشهور، روى عنه جماعة، وذكره ابن حبان في ((ثقاته)) .

وهذا ظاهر في انهم كانوا يقومون إذا شرع المؤذن في الأذان، وأن منهم من كان يزيد على ركعتين.

وفيه: رد على إسحاق بن راهوية، قال: لا يزاد على ركعتين قبل المغرب، وقد سبق ذكره.

ص: 348

وقد خرج الإسماعيلي في ((صحيحه)) من حديث عثمان بن عمر: ثنا شعبة، عن عمرو بن عامر، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: كان المؤذن إذا أخذ في أذان المغرب قام لباب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدروا السواري، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إليهم وهم يصلون، وكان بين الأذان والإقامة قريب.

وهذه الرواية صريحة في صلاتهم في حال الأذان، واشتغالهم حين إجابة المؤذن بهذه الصلاة.

وقد كان الإمام أحمد يوم الجمعة إذا أخذ المؤذن في الأذان الأول للجمعة قام فصلى ركعتين - أو أربعاً - على قدر طول الأذان وقصره.

ويأتي الكلام على حكم الصلاة قبل المغرب في موضع آخر - إن شاء الله وإنما المقصود هنا: ذكر قدر الفصل بني الأذان والإقامة للمغرب وغيرها.

وقد سبق حكم الفصل بين أذان المغرب وإقامتها في ((باب: وقت المغرب)) .

وذكرنا أحاديث في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً ان يفصل بين أذانه وإقامته في ((باب: الإبراد بالظهر)) .

ص: 349

‌15 - باب

من انتظر الإقامة

ص: 350

626 -

حدثنا ابو اليمان: أبنا شعيب، عن الزهري: أبنا عروة بن الزبير، أن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سكت المؤذن بالأولى من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر بعد أن يستبين الفجر، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة.

قول عائشة: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سكت المؤذن)) - أي: فرغ من أذانه.

قولها: ((بالأولى [من] صلاة الفجر)) - تعني: بالمرة الأولى.

وهذا يحتمل ان تكون ارادت به أنه كان يصلي الركعتين قبل فراغ المؤذن من أذانه قبل الإقامة، فإن الأذان والإقامة يسميان أذانين، كما في حديث عبد الله ابن مغفل المتقدم، ويحتمل أن تكون أرادت أن الأذان نفسه كان يكرر مرتين، فيؤذن بلال وبعده ابن أم مكتوم، فكانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعد بلال قبل أذان ابن أم مكتوم، إذا تبين الفجر للنبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتي الفجر، ولم يتوقف على أذان ابن أم مكتوم، فإن ابن ام مكتوم كان يسفر بأذان الفجر، ولا يؤذن حتى يقال له: أصبحت.

ص: 350

فإن قيل: فكيف أذن النبي صلى الله عليه وسلم في الأكل في الصيام إلى أذان ابن ام مكتوم، والأكل يحرم بمجرد طلوع الفجر؟ وقد روي في حديث انيسة، انهم كانوا يامرونه أن يؤخر الأذان حتى يكملوا السحور.

قيل: هذا مما أشكل فهمه على كثير من الناس، وقد تأول بعضهم قولهم لابن أم مكتوم:" أصبحت، أصبحت" على أن المراد قاربت الصباح [بعد تبين طلوع الفجر لا تحرم في وقت طلوعه سواء] .

والأحاديث والآثار المروية عن الصحابة في هذا المعنى كثيرة جداً.

وليس هذا قول الكوفيين الذين كانوا يستحبون الأكل والشرب إلى انتشار الضوء على وجه الأرض؛ فإن ذلك قول شاذ منكر عند جمهور العلماء، وستأتي المسألة في موضعها مبسوطة - إن شاء الله تعالى.

وسيأتي الكلام على الاضطجاع بعد صلاة ركعتي الفجر في موضع آخر - إن شاء الله تعالى.

وإنما المقصود هنا: قولها: ((حتى يأتيه المؤذن للإقامة)) ؛ فإن هذا يدل على أنه يجوز انتظار المصلي للإقامة، وأن يؤخر دخول المسجد خارجاً منه حتى تقام الصلاة، فيدخل حينئذ.

وهذا هو مقصود البخاري في هذا الباب، وأراد بذلك مخالفة من كره انتظار الإقامة، فإن طائفة من السلف كرهوه وغلظوا.

حتى روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه قال: هو هرب من دين محمد والإسلام.

ص: 351

وقد كرهه من المتاخرين من أصحابنا، وقالوا: يكره للقادر على الدخول إلى المسجد قبل الإقامة ان يجلس خارج المسجد ينتظر الإقامة، ذلك تفوت به فضيلة السبق إلى المسجد وانتظار الصلاة فيه، ولحقوق الصف الأول.

وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى التهجير إلى الصلاة، وهو القصد إلى المساجد في الهجير، أماقبل الأذان أو بعده، كما ندب إلى التهجير إلى الجمعة: انتظار الصلاة بعد الصلاة، وقال للذين انتظروه إلى قريب من شطر الليل لصلاة العشاء:((إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتموها)) .

وقد كان كثير من السلف يأتي المسجد قبل الأذان، منهم: سعيد بن المسيب، وكان الإمام أحمد يفعله في صلاة الفجر.

وقال ابن عيينة: لا تكن مثل أجير السوء، لا يأتي حتى يدعى.

يشير إلى انه يستحب إتيان المسجد قبل أن ينادي المؤذن.

وقال بعض السلف في قول الله تعالى: {السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10] : إنهم أول الناس خروجاً إلى المسجد وإلى الجهاد.

وفي قوله: {سَابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد: 21] قال مكحول: التكبيرة الأولى مع الإمام. وقال غيره: التكبيرة الأولى والصف الأول.

قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافاً بيني العلماء أن من بكر وانتظر الصلاة، وإن لم يصل في الصف الأول أفضل ممن تأخر، وإن صلى في الصف الأول.

ص: 352

وروى المعافى، عن سفيان الثوري، قال: مجيئك إلى الصلاة قبل الإقامة توقير للصلاة.

فمن كان فارغاً لا شغل له، وجلس إلى الصلاة قبل الإقامة على باب المسجد، أو قريباً منه ينتظر أن تقام الصلاة فيدخل المسجد، وخصوصاً إن كان على غير طهارةٍ، وإنما ينتظر في المسجد إذا دخل المسجد بعد الإقامة، فهو مقصر راغب عن الفضائل المندوب إليها.

ولكن هذا كله في حق المأموم، وقد تقدم من حديث أبي المثنى، عن ابن عمر، قال: كان أحدنا إذا سمع الإقامة توضأ وخرج من وقته.

وفيه دليل على أن الصحابة كانوا ينتظرون الإقامة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

فأما الإمام، فإنه إذا انتظر إتيان المؤذن له في بيته حتى يؤذنه بالصلاة

ويخرج معه فيقيم الصلاة حينئذ بالمسجد فيصلي بالناس، فهذا غير مكروه بالإجماع، وهذه كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتي الفجر، واضطجع حتى يأتيه المؤذن بالإقامة؛ فإن الإقامة إنما تكون بإذن الإمام، أو عند خروجه إلى الناس، بخلاف الأذان.

وفي " صحيح مسلم " عن جابر بن سمرة، قال: كان بلال يؤذن إذا

ص: 353

دحضت الشمس، فلا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا خرج أقام الصلاة حين يراه.

وقال علي: المؤذن أملك بالأذان، والإمام أملك بالإقامة.

خرجه البيهقي.

وقال: روي من حديث أبي هريرة - مرفوعا، وليس بمحفوظ.

ص: 354

‌16 - باب بين كل أذانين صلاة لمن شاء

ص: 355

627 -

حدثنا عبد الله بن يزيد: ثنا كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة، عن عبد الله بن مغفل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، ثم قال في الثالثة: " لمن شاء ".

لا اختلاف أن المراد بالأذانين في الحديث: " الأذان والإقامة، وليس المراد الأذانين المتواليين، وإن كانا مشروعين كأذان الفجر إذا تكرر مرتين.

وقد توقف بعضهم في دخول الصلاة بين الأذان الأول والثاني يوم الجمعة في هذا الحديث؛ لأنهما أذانان مشروعان، وعلى ما قررناه: لا يدخل في الحديث، وكما لا تدخل الصلاة بين الأذان الأول والثاني للفجر، وإن كانت الصلاة يوم الجمعة بعد الزوال حسنة مندوبا إليها؛ لأدلة أخرى، تذكر في " الجمعة " - إن شاء الله.

وحديث ابن مغفل يدخل فيه: الصلاة بين الأذان والإقامة في جميع الصلوات الخمس، فأما أذان الصبح فيشرع بعده ركعتا الفجر، ولا يزاد عليهما عند جمهور العلماء.

حتى قال كثير منهم: إن من صلى ركعتي الفجر في بيته، ثم دخل المسجد.

يعني أن الأظهر عنه أنه لا يصلي في

ص: 355

أوقات النهي شيء من ذوات الأسباب ولا غيرها.

وعنه رواية أخرى، أنه يصلي ذوات الأسباب، كقول الشافعي، فيصلي الداخل حينئذ تحية المسجد ثم يجلس.

وقد تقدمت هذه المسألة في الكلام على احاديث النهي مستوفاة.

وأماالظهر، فأنه يستحب التطوع قبلها بركعتين أو اربع ركعات، وهي من الرواتب عند الاكثرين.

وقد روي في الصلاة عقب زوال الشمس أحاديث، في أسانيد أكثرها مقال.

وبكل حال؛ فما بين الاذانين للظهر هو وقت صلاة، فمن شاء استقل ومن شاء استكثر.

وأمابين الاذانين لصلاة العصر، فهذا الحديث يدل على انه يشرع بينهما صلاة، وقد ورد في الاربع قبل العصر أحاديث متعددة، وفي الركعتين - أيضا.

واختلفوا: هل يلتحق بالسنن الرواتب؟ والجمهور على انها لا تلتحق بها.

ص: 356

وأمابين الاذانين قبل المغرب، فهذا الحديث يدل على مشروعية الصلاة فيه.

وقد اختلف العلماء في ذلك:

فمنهم من كرهه، وقال: لا يزول وقت النهي حتى يصلي المغرب، وهو قول الكوفيين وغيرهم.

ومنهم من قال: باسحبابها، وهو رواية عن أحمد، وقول طائفة من السلف؛ لهذا الحديث؛ ولحديث أنس في الباب الماضي.

ومنهم من قال: هي مباحة، غير مكروهة ولا مستحبة، والامر بها إطلاق من محظور، فلا يفيد أكثر من الاباحة، وهو رواية عن أحمد، وسيأتي القول فيها بأبسط من هذا في موضع آخر – إن شاء الله تعالى.

وأماالصلاة بين الاذانين للعشاء، فهي كالصلاة بين الاذانين للعصر ودونها؛ فإنا لا نعلم قائلا يقول بأنها تلتحق بالسنن الرواتب.

ص: 357

‌17 - باب

من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد

ص: 358

628 -

ثنا معلى بن أسد: ثنا وهيب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث، قال: اتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رحيما رقيقا، فلما رأى شوقنا إلى اهلنا، قال:((ارجعوا، فكونوا فيهم، وعلموهم، وصلوا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم)) .

مراده: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر مالك بن الحويرث وأصحابه بالرجوع إلى اهلهم، وأمرهم إذا حضرت الصلاة ان يؤذن احدهم، كان دليلاً على ان المسافرين لا يشرع لهم تكرير الاذان وإعادته مرتين في الفجر ولا في غيره.

ويعضد هذا: أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان له في السفر مؤذنان، يؤذن أحدهما بعد الاخر.

وحديث زياد بن الحارث الصدائي المتقدم يدل على ذلك.

ولكن اللفظ الذي ساقه البخاري في هذا الباب انما يدل على انه امرهم بذلك إذا رجعوا إلى اهليهم، لا انه أمرهم به في سفرهم قبل وصولهم، وقد نبه على ذلك الاسماعيلي، وترجم عليه النسائي:

ص: 358

((اجتزاء المرء بأذان غيره في الحضر)) .

وقد خرجه البخاري في الباب الذي يلي هذا بلفظ صريح، بأنه أمرهم بذلك في حال رجوعهم إلى أهلهم وسفرهم، فكان تخريجه بذلك اللفظ في هذا الباب أولى من تخرجه بهذا اللفظ الذي يدل على انه لم يأمرهم بذلك في السفر.

فإن قيل: بل قوله: ((إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم احدكم)) عام في السفر والحضر، ولا يمنع من عمومه تخصيص أول الكلام بالحضر.

قيل: إن سلم ذلك لم يكن فيه دليل على انه لا تستحب الزيادة على مؤذن واحد في السفر خاصة، لان الكلام إذا كان شاملا للحضر والسفر فلا خلاف أنه في الحضر لا يكره اتخاذ مؤذنين، فكيف خص كراهة ذلك بالسفر وقد شملها عموم واحد؟

وفي حديث عمرو بن سلمة الجرمي، عن أبيه، أنه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم:((إذا حضرت صلاة فليؤذن لكم احدكم)) - وذكر الحديث.

وقد خرجه البخاري في موضع آخر.

وامره هذا لا يختص بحال سفرهم، بل يشمل سفرهم وإقامتهم في حيهم.

ص: 359

‌18 - باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والاقامة وكذلك بعرفة وجمع

وقول المؤذن: ((الصلاة في الرحال)) ، في الليلة الباردة أو المطيرة الاذان بعرفة وجمع، لم [يخرج] فيه هاهنا شيئا، إنما خرج أحاديث في ((ابواب: الجمع بين الصلاتين)) ، وفي ((كتاب الحج)) ، والكلام فيه يأتي في موضوعه - إن شاء الله تعالى.

واشار اليه هاهنا اشارة؛ لان فيه ذكر الاذان في السفر، وإنما خرج هاهنا أربعة أحاديث مما يدخل في بقية ترجمة الباب.

الحديث الاول:

ص: 360

629 -

ثنا مسلم بن ابراهيم: ثنا شعبة، عن المهاجر أبي الحسن، عن زيد ين وهب، عن أبي ذر، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن، فقال له:((أبرد)) . ثم اراد أن يؤذن، فقال له:((ابرد)) . ثم

ص: 360

اراد ان يؤذن، فقال له:((ابرد)) ، حتى ساوى الظل التلول، فقال النبي:((إن شدة الحر من فيح جهنم)) .

هذا الحديث قد خرجه البخاري فيما سبق في ((ابواب: وقت صلاة الظهر)) .

ومقصوده منه هاهنا: ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذن له في السفر.

وقد تقدم الكلام على الابراد، وهل كان بالاذان أو بالاقامة.

وقوله في هذه الرواية: ((حتى ساوى الظل التلول)) ظاهره انه اخر صلاة الظهر يومئذ إلى ان صار ظل كل شيء مثله، وهو آخر وقتها.

وهذا يحتمل أمرين:

أحدهما: أنه صلاها في آخر وقتها قبل دخول وقت العصر.

والثاني: أنه أخرها إلى دخول وقت العصر وجمع بينهما في وقت العصر.

فإن كان قد اخرها إلى وقت العصر استدل بالحديث حينئذ على أن تاخير الصلاة الاولى من المجموعتين إلى وقت الثانية للجمع في السفر لا يحتاج إلى نية الجمع؛ لانهم كانوا يؤذنونه بالصلاة في وقتها، وهو يأمر بالتأخبر، وهم لا يعلمون أنه يريد جمعها مع الثانية في وقتها، ولا اعلمهم بذلك.

ولكن الاظهر هو الاول، ولا يلزم من مصير ظل التلول مثلها أن يكون قد خرج وقت الظهر؛ فإن وقت الظهر إنما يخرج إذا صار ظل الشيء مثله بعد الزوال.

ص: 361

وقد خرجه البخاري فيما تقدم من وجهين عن شعبة، وفيهما:((حتى رأينا فيء التلول)) .

ويدل على هذا: انه إنما أمره بالابراد، لا بالجمع.

الحديث الثاني:

ص: 362

630 -

ثنا محمد بن يوسف: ثنا سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن مالك بن الحوبرث، قال: اتى رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريدان السفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((إذا انتما خرجتما فأذنان ثم أقيما، ثم ليؤمكما اكبركما)) .

في هذه الرواية: التصريح بأنه أمرهما بذلك من حين خروجهما من المدينة مسافرين.

وخرجه النسائي، ولفظه: قال: ((إذا سافرتما، فأذنا واقيما)) .

ولكنه أمرهما معا بالاذان والاقامة، فهذا أماان يحمل على أذانهما مجتمعين أو منفردين.

وبكل حال؛ فيدل على انه يستحب في السفر الزيادة على مؤذن واحد. فهذه رواية خالد الحذاء عن أبي قلابة تخالف رواية ايوب عن أبي قلابة في ألفاظ عديدة من هذا الحديث.

قال الامام أحمد: لا اعلم أحدا جاء به إلا خالد - يعني: في الاذان والاقامة في السفر -، وقال: هذا شديد على الناس: انتهى.

وقد روي بلفظ آخر عن خالد الحذاء، وهو:((إذا حضرت الصلاة)) - من غير ذكر سفر ولا حضر.

وقد حرجه البخاري في موضع آخر.

ص: 362

الحديث الثالث:

قال:

ص: 364

632 -

[ثنا] مسدد: ثنا يحيى، عن عبيد الله بن عمر، قال: حدثني نافع، قال: أذن ابن عمر في ليلة باردة بضجنان، ثم قال: صلوا في رحالكم، وأخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر مؤذنا يؤذن، ثم يقول على اثره:((الا صلوا في الرحال في الليلة الباردة او المطيرة في السفر)) .

((ضجنان)) : بالضاد المعجمة والجيم، كذا محركتان، كذا قيده صاحب ((معجم البلدان)) ، وقال: هو جبل بتهامة، وقيل: هو على بريد من مكة وقيل: بينه وبين مكة خمسة وعشرون ميلاً.

والمتداول بين أهل الحديث: انه بسكون الجيم.

وقد روى هذا الحديث، عن نافع: مالك - وقد خرج البخاري حديثه في موضع - ويحيى الانصاري، وايوب السجستاني.

وفي رواية ابن علية، عنه: أن الذي نادى بضجنان هو منادي النبي صلى الله عليه وسلم.

والظاهر: انه وهم.

ورواه ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 364

بذاك بالمدينة في الليلة المطيرة، والغداة القرة.

خرجه ابو داود.

فخالف الناس في ((ذكر المدينة)) ، وفي انه انما كان يأمر المنادي ان يقوله بعد تمام اذانه.

وقد روي معنى حديث ابن عمر من حديث أبي المليح بن اسامة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

خرجه الامام أحمد وابو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحهما)) والحاكم وصححه.

وفي حديث ابن عمر: دليل على ان الاذان في السفر مشروع في غير صلاة الفجر ليلا [كان ينادي بذلك ليلاً] .

الحديث الرابع:

قال:

ص: 364

633 -

ثنا إسحاق: ابنا جعفر بن عون: ثنا ابو العميس، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالابطح، فجاءه بلال فاذنه بالصلاة، ثم خرج بلال بالعنزة حتى ركزها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالابطح، واقام الصلاة.

ص: 364

في هذه الرواية: التصريح بالاقامة دون الاذان، وكان ذلك بالابطح في حجة الوداع.

وقد خرج البخاري فيه ذكر الاذان في الباب الاتي، ولكن اختصره، وسنذكره بتمامه فيه - إن شاء الله تعالى.

وفي هذا الحديث: أن بلالا آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة، وخرج بين يديه بالعنزة، وأقام الصلاة، وهذا موافق لحديث عائشة المتقدم الذي خرجه البخاري في ((باب: انتظار الاقامة)) .

وقد دلت هذه الاحاديث على مشروعية الاذان في السفر لجميع الصلوات، فإن منها ما فيه الاذان في السفر ليلاً كحديث ابن عمر، ومنها ما فيه الاذان في السفر نهاراً كحديث أبي جحيفة، فإن فيه الاذان للظهر والعصر بالابطح، وحديث أبي ذر، فإن فيه الاذان للظهر، وحديث مالك بن الحويرث يعم سائر الصلوات، وأحاديث الاذان بعرفة تدل على الاذان للجمع بين الظهر والعصر، واحاديث الاذان بالمزدلفة تدل على الاذان للجمع بين المغرب والعشاء، وقد اختلفت الروايات في ذلك، وتذكر في موضعها – إن شاء الله.

وقد تقدم حديث الاذان للصلاة في السفر بعد فوات وقتها. وفي حديث أبي محذورة، انهم سمعوا الاذان مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قفل من حنين راجعاً

ص: 365

وقد اختلف العلماء في الاذان في السفر:

فذهب كثير منهم إلى انه مشروع للصلوات كلها.

قال ابن سيرين: كانوا يؤمرون ان يؤذنوا ويقيموا ويؤمهم أقرؤهم.

خرجه الاثرم.

وهو قول أبي حنيفة والشافعي.

ونقل ابن منصور، عن أحمد وإسحاق، انه يؤذن ويقام في السفر لكل صلاة، واحتجا بحديث مالك بن الحويرث.

ولكن اكثر أصحابنا على ان الاذان والاقامة سنة في السفر، ليس بفرض كفاية، بل سنة بخلاف الحضر.

ومن متأخريهم من سوى في الوجوب بين السفر والحضر، والواحد والجماعة، وهو قول داود.

وقال ابن المنذر: هو فرض في حق الجماعة في الحضر والسفر.

وظاهر تبويب البخاري يدل على انه يرى الاذان انما يشرع في السفر للجماعة، دون المنفرد.

قال مجاهد: إن نسي الاقامة في السفر أعاد.

وهذا يدل على انه رآها شرطاً في حق المسافر وغيره.

وقالت طائفة: لا يؤذن الا للفجر خاصة، بل يقيم لكل صلاة.

روي هذا عن ابن عمر.

وروي عنه مرفوعاً.

ص: 366

خرجه الحاكم.

وفي إسناده ضعف واضطراب.

قال البيهقي: رفعه وهم فاحش، ولا يصح رفعه.

وروي عن ابن سيرين مثل قول ابن عمر.

ونقله حرب، عن إسحاق.

ونقل الميموني، عن أحمد، قال في المسافر في الفجر خاصة يؤذن ويقيم، وفي غير الفجر يقيم - إن شاء الله.

ونقل ابن منصور، عن إسحاق: لا بد للمسافر أن يقيم بخلاف الحاضر؛ لآن الحاضر يكتفي بأذان غيره وإقامته.

وأختلفت الرواية عن مالك:

فنقل عنه ابن القاسم: الاذان إنما هو في المصر للجماعة في المساجد.

وروى أشهب، عن مالك: ان ترك المسافر الاذان عمداً فعليه إعادة الصلاة.

ذكره ابن جرير، عن يونس بن عبد الاعلى، عنه.

وقال الحسن والقاسم بن محمد: تجزئه إقامة في السفر.

وقالت طائفة: هو بالخيار، إن شاء أذن، وإن شاء أقام في السفر.

روى عن علي وعروة بن الزبير، وبه قال سفيان.

ص: 367

وكان ابن عمر يقول: إنما الاذان للامام الذي يجتمع اليه الناس.

رواه مالك عن نافع، عن ابن عمر، انه كان لا يزيد على الاقامة في السفر في الصلاة الا في الصبح؛ فإنه كان يؤذن فيها ويقيم، ويقول: إنما الاذان للامام الذي يجتمع اليه الناس.

وقال ابو الزبير، سألت ابن عمر: اؤذن في السفر؟ قال: لمن يؤذن للفأر؟!

وأماالذين رأوا الأذان في السفر، فقالوا: الأذان للإعلام بالوقت، وهذا مشروع في الحضر والسفر.

وأماإن كان المصلي منفرداً وحده في قرية، فقد ورد في فضل أذانه وإقامته غير حديث:

روى سليمان التميمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان، قال: لا يكون رجل بأرض [قي] ، فتوضأ إن وجد ماء وإلا تيمم، فينادي بالصلاة ثم يقيمها إلا ام من جنود الله ما لا يرى طرفاه - أو قال: طرفه.

ورواه القاسم بن غصن - وفيه ضعف -، عن داود بن أبي هند، عن أبي عثمان، عن سلمان - مرفوعاً.

ولا يصح، والصحيح موقوف -: قاله البيهقي.

ص: 368

وروى مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنه كان يقول: من صلى بأرض فلاة صلى عن يمينه ملك، وعن شماله ملك، فإن أذن وأقام صلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على استحباب الأذان للمنفرد في السفر:

فخرج مسلم من رواية حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذاناً أمسك، وإلا أغار، فسمع رجلاً يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفطرة "، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خرجت من النار "، فنظروا فإذا هو راعي معزى.

وخرج الإمام أحمد من حديث ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، وفيه: فابتدرناه، فإذا هو صاحب ماشية، فأدركته الصلاة، فنادى بها.

وخرج - أيضا - بمعناه من حديث معاذ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " يعجب ربك من راعي غنم، في شظية

ص: 369

بجبل يؤذن للصلاة ويصلي، فيقول عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا، يؤذن ويقيم ويصلي، يخاف مني، قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة ".

واستدل النسائي للإقامة في حق المنفرد بحديث خرجه من رواية رفاعة بن رافع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسي في صلاته:" إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد، ثم كبر " - وذكر له صفة بقية الصلاة، وقال في آخر ذلك:" فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن أنقصت منه شيئا انتقص من صلاتك، ولم تذهب كلها ".

وإن صلى وحده في مصر، فإن شاء أذن وأقام، وإن شاء أجزأه أذان أهل المصر، واكتفى بالإقامة -: نص عليه أحمد.

وممن قال: يكفيه الإقامة: سعيد، وميمون بن مهران، والزهري، ومالك، والأوزاعي.

وقد تقدم عن إسحاق: أن الحاضر إن شاء صلى بغير أذان ولا إقامة،

والمسافر لا بد له أن يقيم.

وأما الشافعي، فنص على أن المنفرد يؤذن ويقيم.

وخرج له أصحابه قولا آخر: أنه لا يؤذن ويكتفي بالإقامة.

ومن أصحابه من قال: إن بلغه أذان غيره لم يؤذن، [وإلا أذن] .

ص: 370

وحكى ابن المنذر، عن الكوفيين، أن له أن يصلي في المصر وحده بغير أذان ولا إقامة، منهم: الشعبي والأسود وأبو مجلز والنخعي.

وحكى مثله عن مجاهد وعكرمة.

وعن أبي حنيفة وأصحابه وأبي ثور: يجزئه أذان أهل المصر.

وعن ابن سيرين والنخعي: تجزئة الإقامة، إلا في الفجر؛ فإنه يؤذن ويقيم.

وحكى ابن عبد البر، عن أبي حنيفة وأصحابه: أن المسافر يكره له أن يصلي بغير أذان وإقامة، وأما الحاضر إذا صلى وحده فيستحب أن يؤذن ويقيم، وإن اكتفى بأذان أهل المصر وإقامتهم أجزأه.

قلت: وقال سفيان: إن سمع إقامة أهل المصر فاكتفى بها أجزأه، فلم يكتف بالإقامة حتى يسمعها.

وروي عن علقمة، قال: صلى ابن مسعود بي وبالأسود بغير أذان ولا إقامة، وربما قال: يجزئنا أذان الحي وأقامتهم.

خرجه البيهقي.

وخرج - أيضا - بإسناد ضعيف جدا، عن ابن عمر، أنه كان يقول: من صلى في مسجد قد أقيمت فيه الصلاة أجزأته إقامتهم.

ثم قال: وبه قال الحسن والشعبي والنخعي.

قال: وقال الشافعي: لم أعلم مخالفاً أنه إذا جاء المسجد وقد خرج الإمام من الصلاة كان له أن يصلي بلا أذان ولا إقامة.

ص: 371

قال البيهقي: وكان عطاء يقول: يقيم لنفسه.

ثم روى بإسناد صحيح، عن أبي عثمان، قال: جاءنا أنس بن مالك وقد صلينا الفجر، فأذن وأقام، ثم صلى الفجر لأصحابه.

قال ورويناه عن سلمة بن الأكوع في الأذان والإقامة، ثم عن ابن المسيب والزهري.

وروى من طريق الشافعي: حدثنا إبراهيم بن محمد: أخبرني عمارة بن غزية، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يؤذن للمغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما قال، فأنتهى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال: قد قامت الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((انزلوا فصلوا المغرب بإقامة هذا العبد الأسود)) .

وهذا ضعيف، إبراهيم، هو: ابن أبي يحيى، تركوا حديثه.

وروى وكيع في ((كتابه)) عن دلهم بن صالح، عن عون بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر، فسمع إقامة مؤذن، فصلى بأصحابه بإقامته.

وهو مرسل - أيضا.

وقال أكثر أصحابنا: من صلى في مسجد قد صلي فيه بغير أذان ولا إقامة فلا بأس.

ومن متأخريهم من قال: لا يسقط وجوب الأذان إلا عمن صلى مع المؤذن، ولا يسقط عمن لم يصل معه وإن سمعه، سواء

ص: 372

كان واحداً أو جماعة في المسجد الذي صلي فيه بأذان أو غيره.

وهذا شذوذ لا يعول عليه.

وهو خلاف نص أحمد: أن المصلي وحده في مصر يجزئه اذان المصر.

ونص الإمام أحمد في رواية جعفر بن محمد على أنه لا يترك الأذان في المسجد.

وظاهره: يدل على أن الأذان واجب في مساجد الجماعات.

وقال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر: الواجب في المصر أذان واحد، وما زاد عليه في المساجد فهو سنة.

ولم يفرق بين أن يكون أهل المصر يبلغهم ذلك الأذان، أو لا.

وقال المتأخرون من أصحابنا: الواجب من الأذان في المصر ما حصل به الإعلام في أقطاره ونواحيه غالباً، فلا يجرئ فيه أذان واحد إذا كان لا يبلغ اقطاره.

وأماما بوب عليه البخاري من قول المؤذن في الأذان في الليلة المطيرة أو الباردة: ((الصلاة في الرحال)) ، فحديث ابن عمر يدل على أنه يقول بعد فراغ أذانه.

وقد تقدم في ((باب: الكلام في الأذان)) : حديث ابن عباس في قولها في الحضر في أثناء الأذان قبل فراغه، وسبق الكلام عليه.

ص: 373

‌19 - باب

هل يتتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا؟ وهل يلتفت في الأذان

؟

ويذكر عن بلال، أنه جعل إصبعيه في أذنيه.

وكان ابن عمر لا يجعل إصبعيه في أذنيه.

وقال إبراهيم: لا بأس أن يؤذن على غير وضوء.

وقال عطاء: الوضوء حق وسنة.

وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه.

ص: 374

634 -

ثنا محمد بن يوسف: ثنا سفيان، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، أنه رأى بلالاً يؤذن، فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا بالأذان.

هكذا خرجه البخاري هاهنا عن الفريأبي، عن سفيان الثوري - مختصراً.

ورواه وكيع عن سفيان بأتم من هذا السياق.

خرجه مسلم من طريقه، ولفظ حديثه: قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم، قال: فخرج بلال بوضوئه، فمن نائل وناضح. قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء، كأني انظر إلى بياض ساقيه. قال: فتوضأ، وأذن بلال، فجعلت أتتبع فاه هاهنا

ص: 374

وهاهنا - يقول: يميناً وشمالاً -، يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح. قال: ثم ركزت له عنزة، فتقدم فصلى الظهر ركعتين، يمر بين يديه الحمار والكلب، لا يمنع، ثم صلى العصر ركعتين، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة.

ورواه عبد الرزاق، عن سفيان، ولفظ حديثه: عن أبي جحيفة، قال: رأيت بلالاً يؤذن ويدور ويتتبع فاه هاهنا وهاهنا، وإصبعاه في اذنيه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة له حمراء - وذكر بقية الحديث.

خرجه الإمام أحمد عن عبد الرزاق.

وخرجه من طريقه الترمذي، وقال: حسن صحيح.

وخرجه البيهقي، وصححه - أيضا.

وهذا هو الذي علقه البخاري هاهنا بقوله: ((ويذكر عن بلال، أنه جعل إصبعيه في أذنيه)) .

وقال البيهقي: لفظة الاستدارة في حديث سفيان مدرجة، وسفيان إنما روى هذه اللفظة، في ((الجامع)) – رواية العدني، عنه - عن رجل لم يسمه، عن عون.

قال: وروي عن حماد بن سلمة، عن عون بن أبي جحيفة - مرسلاً، لم يقل:((عن أبيه)) . والله أعلم.

قلت: وكذا روى وكيع في ((كتابه)) ، عن سفيان، عن عون، عن أبيه، قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فقام بلال فأذن، فجعل يقول في أذانه، يحرف رأسه

ص: 375

يميناً وشمالاً.

وروى وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن أبي جحيفة، أن بلالاً كان يجعل إصبعيه في أذنية.

فرواية وكيع، عن سفيان تعلل بها رواية عبد الرزاق عنه.

ولهذا لم يخرجها البخاري مسندة، ولم يخرجها مسلم - أيضا -، وعلقها البخاري بصيغة التمريض، وهذا من دقة نظره ومبالغته في البحث عن العلل والتنقيب عنها رضي الله عنه.

وقد خرج الحاكم من حديث إبراهيم بن بشار الرمادي، عن ابن عيينة، عن الثوري ومالك بن مغول، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بالأبطح - فذكر الحديث بنحو رواية عبد الرزاق، وذكر فيه الاستداره، وإدخال الإصبعين في الأذنين.

وقال: هو صحيح على شرطهما جميعاً.

وليس كما قال؛ وإبراهيم بن بشار لا يقبل ما تفرد به عن ابن عيينة، وقد ذمه الإمام أحمد ذماً شديداً، وضعفه النسائي وغيره.

وخرج أبو داود من رواية قيس بن ربيع، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: رأيت بلالاً خرج إلى الأبطح فإذن، فلما بلغ ((حي

ص: 376

على الصلاة، حي على الفلاح)) لوى عنقه يميناً وشمالاً، ولم يستدر.

وخرج ابن ماجه من رواية حجاج بن ارطاة، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح، وهو في قبة حمراء، فخرج بلال فأذن، فاستدار في أذانه، فجعل إصبعيه في أذنيه.

وحجاج مدلس.

قال ابن خزيمة: لا ندري هل سمعه من عون، أم لا؟

وقال البيهقي: يحتمل ان يكون أراد الحجاج باستدارته التفاته يمينا وشمالاً، فيكون موافقاً لسائر الرواة. قال: وحجاج ليس بحجة.

وخرجه من طريق آخر عن حجاج، ولفظ حديثه: رأيت بلالاً يؤذن، وقد جعل إصبعيه في أذنيه، وهو يلتوي في أذانه يميناً وشمالاً.

وقد رويت هذه الاستدارة من وجه آخر: من رواية محمد بن خليد الحنفي - وهو ضعيف جداً -، عن عبد الواحد بن زياد، عنه، عن مسعر، عن علي بن الأقمر، عن عون، عن أبيه.

ولا يصح - أيضا.

وخرج ابن ماجه من حديث اولاد سعد القرظ، عن آبائهم، عن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً ان يجعل إصبعيه في أذنيه، وقال:((أنه أرفع لصوتك)) .

ص: 377

وهو إسناد ضعيف؛ ضعفه ابن معين وغيره.

وروي من وجوه أخر مرسلة.

وقد ذكر البخاري في هذا الباب ثلاث مسائل:

الأولى:

الالتفات في الأذان يميناً وشمالاً.

والسنة عند جمهور العلماء أن يؤذن مستقبل القبلة، ويدير وجهه في قول:((حي على الصلاة، حي على الفلاح)) يميناً وشمالاً.

وأنكر ابن سيرين الالتفات، حكاه ابن المنذر وابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن سيرين، أنه إذا اذن المؤذن استقبل القبلة، وكان يكره أن يستدير في المنارة.

وروى وكيع، عن الربيع، عن ابن سيرين، قال: المؤذن لا يزيل قدميه.

وكأن الروايتين لا تصرحان بكراهة لوي العنق.

وكذلك مالك.

وفي ((تهذيب المدونة)) : ولا يدور في أذانه، ولا يلتفت، وليس هذا من الأذان، إلا أن يريد بالتفاته أن يسمع الناس فيؤذن كيف تيسر عليه. قال: ورأيت المؤذنين بالمدينة يتوجهون القبلة في أذانهم ويقيمون عرضاً، وذلك واسع يصنع كيف شاء. انتهى.

وفي حديث عبد الله بن زيد الذي رأى الأذان في منامه انه رأى الذي

ص: 378

علمه النداء في نومه قام فاستقبل القبلة فأذن.

خرجه أبو داود من حديث معاذ.

والذين رأوا الالتفات. قال أكثرهم: يلتفت بوجهه، ولا يلوي عنقه، ولا يزيل قدميه، وهو قول الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، وأبي ثور، وحكاه ابن المنذر عن أبي حنيفة وأصحابه.

وحكي - أيضا - عن الحسن والنخعي والليث بن سعد.

وروى الحسن بن عمارة، عن طلحة بن مصرف، عن سويد بن غفلة، عن بلال، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أذنا او أقمنا أن لا نزيل أقدامنا عن مواضعها.

خرجه الدارقطني في ((أفراده)) .

والحسن بن عمارة، متروك.

وقالت طائفة: إن كان في منارة ونحوها دار في جوانبها؛ لأنه أبلغ في الاعلام والاسماع، وهو رواية عن أحمد وإسحاق، وظاهر فيه مالك إذا أراد

ص: 379

الاعلام.

وروي عن الحسن أنه يدور.

وظاهر كلام أصحابنا اختصاص الالتفات بالاذان.

وللشافعية في الالتفات في الاقامة وجهان.

والفرق بينهما: أن الاذان إعلام للغائبين، فلذلك يلتفت ليحصل القصد بتبلغيهم، بخلاف الاقامة؛ فإنها اعلام للحاضرين، فلا حاجة إلى التلفت فيها، ولذلك لم يشرع في الموعظة في خطب الجمع وغيرها الالتفات؛ لانها خطاب لمن حضر، فلا معنى للالتفات فيها.

وقال النخعي: يستقبل المؤذن بالاذان والشهادة والاقامة القبلة.

خرجه ابن أبي شيبة.

وروى بإسناده عن حذيفة، انه مر على ابن النباح وهو يؤذن، يقول: الله اكبر [الله] أكبر، أشهد أن لا اله الا الله، يهوي بأذانه يمينا وشمالا، فقال حذيفة: من يرد الله ان يجعل رزقه في صوته فعل.

وهذا يدل على انه كره التلفت في غير الحيعلة، وجعله مناكلاً بأذانه.

ص: 380

المسألة الثانية:

جعل الاصبعين في الاذنين.

وقد حكى عن ابن عمر، انه كان لا يفعل ذلك.

وظاهر كلام البخاري: يدل على انه غير مستحب؛ لانه حكى تركه عن ابن عمر، وأماالحديث المرفوع فيه فعلقه بغير صيغة الجزم، فكأنه لم يثبت عنده.

وذكر في ((تاريخه الكبير)) من رواية الربيع بن صبيح، عن ابن سيرين، قال: اول من جعل أصبعيه في أذنيه في الاذان عبد الرحمن بن الأصم مؤذن الحجاج.

وهذا الكلام من ابن سيرين يقتضي انه عنده بدعة.

وروي عن ابن سيرين بلفظ آخر.

قال وكيع في ((كتابه)) : عن يزيد بن إبراهيم والربيع بين صبيح، عن ابن سيرين، قال: أول من جعل اصبعا واحدة في أذانه ابن الأصم مؤذن الحجاج.

وقال ابن أبي شيبة: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، قال: كان الأذان أن يقول: الله أكبر، الله أكبر، ثم يجعل اصبعيه، واول من ترك إحدى أصبعيه في أذنيه ابن الاصم.

قال: وثنا أبو أسامة، عن هشام، عن ابن سيرين، انه كان إذا اذن استقبل القبلة، فأرسل يديه، فإذا بلغ:((حي على الصلاة، حي على الفلاح))

ص: 381

أدخل إصبعيه في أذانه.

وهذا يقتضي انه إنما يجعلهما في أذنيه في أثناء الاذان.

وروى وكيع، عن سفيان، عن نسير بن ذعلوق، قال: رأيت ابن عمر يؤذن على بعير.

قال سفيان: قلت له: رأيته جعل إصبعيه في أذنيه؟ قال: لا.

وهذا هو المروي عن ابن عمر، الذي ذكره البخاري تعليقا.

وأكثر العلماء على ان ذلك مستحب.

قال الترمذي في ((جامعه)) : العمل عند اهل العلم على ذلك، يستحب ان يدخل المؤذن إصبعيه في أذنيه في الاذان. وقال بعض اهل العلم: وفي الاقامة – أيضا، وهو قول الاوزاعي. انتهى.

وقال إسحاق كقول الاوزاعي.

ومذهب مالك: ان شاء جعل اصبعيه في اذانه واقامته، وان شاء ترك - ذكره في ((التهذيب)) .

وظاهر هذا: يقتضي انه ليس بسنة.

ص: 382

وقد سهل أحمد في تركه، وفي جعل الاصبعين في احدى الاذنين.

وسئل الشعبي: هل يضع أصبعيه على أذنيه إذا أذن؟ قال: يعم عليهما، واحدهما يجزئك.

خرجه ابو نعيم في ((كتاب الصلاة)) .

واختلفت الرواية عن أحمد في صفة ذلك:

فروي عنه، أنه يجعل أصبعيه في أذنيه، كقول الجمهور.

وروي عنه، أنه يضم أصابعه، ويجعلها على اذنيه في الأذان والإقامة.

واختلف أصحابنا في تفسير ذلك:

فمنهم من قال: يضم أصابعه، ويقبضهما على راحتيه، ويجعلهما على أذنيه، وهو قول الخرقي وغيره.

ومنهم من قال: يضم الأصابع، ويبسطها، ويجعلها على اذنه.

قال القاضي: هو ظاهر كلام أحمد.

قال أبو طالب: قلت لأحمد: يدخل إصبعيه في الأذن؟ قال: ليس هذا في الحديث.

وهذا يدل على ان رواية عبد الرزاق، عن سفيان التي خرجها في ((مسنده)) والترمذي في ((جامهه)) غير محفوظة، مع ان أحمد استدل بحديث أبي جحيفة في هذا في رواية محمد بن الحكم. وقال في رواية أبي طالب - أيضا -: أحب إليّ أن يجعل أصابع يديه على أذنيه،

ص: 383

على حديث أبي محذورة، وضم أصابعه الأربع، ووضعهما على أذنيه.

قال القاضي أبو يعلى: لم يقع لفظ حديث أبي محذورة.

قال: وروى أبو حفص العكبري بإسناده، عن [أبي] المثنى، قال: كان ابن عمر إذا بعث مؤذناً يقول له: اضمم أصابعك مع كفيك، واجعلها مضمومة على أذنيك.

واستحب الشافعية إدخال الإصبعين في الأذنين في الأذان، دون الإقامة.

المسألة الثالثة:

الأذان على غير وضوء.

حكى البخاري عن عطاء، أنه قال: الوضوء حق وسنة - يعني في الأذان -، وعن النخعي، انه قال: لا بأس أن يؤذن على غير وضوء.

ورجح قوله بقول عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه.

وقد خرجه مسلم من حديث البهي، [عن عروة] ، عن عائشة.

ص: 384

وممن قال بالكراهة: مجاهد والأوزاعي والشافعي وإسحاق.

وممن ذهب إلى الرخصة: الحسن والنخعي وقتادة وحماد ومالك وسفيان وابن المبارك.

ورخص أحمد في الأذان على غير وضوء، دون الإقامة.

وكذا قال الحسن وقتادة ومالك.

وقال الأوزاعي: إن أحدث في أذانه أتمه، وإن أحدث في إقامته - وكان وحده - قطعها.

واستحب الشافعي لمن أحدث في أذانه أن يتطهر، ويبنى على ما مضى منه.

قال إسحاق: لم يختلفوا في الإقامة أنها أشد.

وقال الزهري: قال أبو هريرة: لا ينادي بالصلاة إلا متوضئ.

ورواه معاوية بن يحيى، عن الزهري، عن أبي هريرة - مرفوعاً.

خرجه الترمذي من الطريقين، وذكر أن الموقوف أصح.

قال: والزهري لم يسمع من أبي هريرة.

وروى عمير بن عمران الحنفي: ثنا الحارث بن عيينة، عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه، قال: حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن إلا وهو طاهر.

ص: 385

خرجه الدارقطني في ((الأفراد)) ، وزاد: ولا يؤذن إلا وهو قائم.

وقال: عبد الجبار، عن أبيه مرسل.

قلت: والحارث وعمير، غير مشهورين.

وما ذكره البخاري عن عطاء، هو من رواية ابن جريج، عنه، قال: حق وسنه إلا يؤذن المؤذن إلا متوضئاً. قال: [هو] من الصلاة، هي فاتحة الصلاة، فلا يؤذن إلا متوضئاً.

وهذا مبني على قوله: إن من نسي الإقامة أعاد الصلاة، وقد سبق ذلك عنه.

وسبق الكلام في ذكر الله تعالى للمحدث، وان منهم من فرق بين الذكر الواجب كالأذان والخطبة، وبين ما ليس بواجب.

وأماأذان الجنب، فأشد كراهة من أذان المحدث.

واختلفوا: هل يعتد به، ام لا؟

فقال الأكثرون: يعتد به، منهم: سفيان وأبو حنيفة ومالك والأوزاعي وابن المبارك والشافعي وأحمد.

وقال: إسحاق والخرقي من أصحابنا: لا يعتد به، ويعيده.

ص: 386

‌20 - باب

قول الرجل: ((فاتتنا الصلاة))

وكره ابن سيرين أن يقول: فاتتنا الصلاة، وليقل: لم ندرك.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم اصح.

ص: 387

635 -

حدثنا ابو نعيم: حدثنا شيبان، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذ سمع جلبة الرجال، فلما صلى قال:((ما شأنكم؟)) قالوا: استعجلنا إلى الصلاة. قال: ((فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) .

مقصود البخاري بهذا الباب: أن يرد ما حكاه عن ابن سيرين، أنه كره أن يقول:((فاتتنا الصلاة)) ، ويقول:((م ندركها)) ، من ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم:((وما فاتكم)) فسمى القدر المسبوق به مع الإمام فائتاً، مع قوله صلى الله عليه وسلم: ((من ادرك ركعة من الصلاة فقد

ص: 387

ادركها)) ، فكيف بما لم يدرك مع الإمام من صلاته شيئاً، فإنه أولى أن يسمى فائتاً.

والظاهر: أن ابن سيرين إنما يكره أن يقول: ((فاتتنا الصلاة)) ؛ فإنها فاتته حقيقة.

وقد يفرق بين أن تفوته بعذر كنوم ونسيان، أو بغير عذر، فإن كان بعذر لم تفت - أيضا -؛ لإمكان التدارك بالقضاء.

وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الذي تفوته صلاة [العصر] كانما وتر أهله وماله" والكلام عليه مستوفى، وهل المراد به: من تفوته بعذر او بغير عذر، وذكرنا هناك من حديث أبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((إنما تفوت النائم، ولا تفوت اليقظان)) .

خرجه الإمام أحمد.

وكان ابن سيرين لشدة ورعه يتورع في منطقه، ويتحفظ فيه، ويكره أن يتكلم بما فيه نوع توسع أو تجوز، وإن كان سائغاً في لغة العرب.

وقد وجد في بعض نسخ ((صحيح البخاري)) في حديث أبي قتادة هذا: ((وما فاتكم فاقضوا)) .

وقد خرجه الطبراني من طريق أبي نعيم الذي خرجه عنه البخاري،

ص: 388

وقال في حديثه: " ليصل أحدكم ما أدرك، وليقض ما فاته".

وخرجه بقي بن مخلد في ((مسنده)) عن ابن أبي شيبة، عن معاوية بن هشام، عن شيبان، وقال في حديثه:((وما سبقتم فاقضوا)) .

وخرجه الإسماعيلي، ولفظه:((وما فاتكم فاقضوا)) .

ص: 389

‌21 - باب

لا يسعى إلى الصلاة، ولياتها بالسكينة والوقار

وقال: ((ما ادركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) -: وقاله أبو قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

حديث أبي قتادة، تقدم في الباب الماضي.

قال:

ص: 390

636 -

حدثنا آدم: حدثنا ابن أبي ذئب: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذاسمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاتموا)) .

كان الزهري يروي هذا الحديث، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة ويرويه - أيضا -، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

وقد رواه جماعه من أصحابه عنه، عن سعيد وحده. ورواه آخرون منهم، عنه، عن أبي سلمة وحده. وجمع بعضهم بينهما، منهم: عبيد الله بن عمر.

وروي –أيضا -

ص: 390

كذلك، عن ابن أبي ذئب وإبراهيم بن سعد ويونس بن يزيد.

قال الدارقطني: هو محفوظ، كان الزهري ربما أفرده عن أحدهما، وربما جمعه.

قلت: وقد خرجه البخاري في ((كتاب الجمعة)) من ((صحيحه)) هذا، عن آدم، عن ابن أبي ذئب بالجمع بينهما، ومن طريق شعيب، عن الزهري، عن أبي سلمة وحده.

وخرجه مسلم من رواية إبراهيم بن سعيد، عن الزهري، عنهما.

وخرجه أبو داود من طريق يونس كذلك.

وكلام الترمذي في ((جامعه)) يدل على أن الصحيح رواية من رواه عن الزهري عن سعيد وحده.

والصحيح: أنه صحيح عن الزهري، عنهما، وتصرف الشيخين في ((صحيحهما)) يشهد لذلك.

قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذاسمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، ولا تسعوا)) أمر بالمشي ونهي عن الإسراع إلى الصلاة لمن سمع الإقامة، وليس سماع الإقامة شرطاً للنهي، وإنما خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب أن الاستعجال إنما يقع عند سماع الإقامة خوف فوت إدراك التكبيرة أو الركعة، فهو كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ

ص: 391

مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، والرهن جائز في السفر وغيره.

وكذلك قوله: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] ، وقد ذكرنا أن التيمم يجوز عند عدم الماء في السفر والحضر.

وكذلك قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الاحزاب:5]، ويجوز أن يدعوا أخوانا وموالي وإن علم أباؤهم؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد:((انت اخونا ومولانا)) مع علمه بأبيه.

وقد سبق حديث أبي قتادة ((إذاأتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة)) ، من غير اشتراط سماع الإقامة.

وقد أجمع العلماء على استحباب المشي بالسكينة إلى الصلاة، وترك الاسراع والهرولة في المشي، ولما في ذلك من كثرة الخطا إلى المساجد. وسيأتي أحاديث فضل المشي فيما بعد – إن شاء الله تعالى.

وهذا ما لم يخش فوات التكبيرة الاولى والركعة، فإن خشي فواتها، ورجا بالاسراع إدراكها، فاختلفوا: هل يسرع حينئذ، أم لا؟ وفيه قولان.

أحدهما: انه يسعى لإدراكهما.

وروي عن ابن مسعود، أنه سعى لإدراك التكبيرة.

ونحوه عن ابن عمر، والأسود، وعبد الرحمن بن يزيد، وسعيد بن جبير.

ص: 392

وعن أبي مجلز: الإسراع إذاخاف من فوت الركعة.

وقال إسحاق: لاباس بالإسراع لإدراك التكبيرة.

ورخص فيه مالك.

وقال أحمد – في رواية مهنأ -: ولا بأس - إذاطمع أن يدرك التكبيرة الأولى - أن يسرع شيئا، ما لم يكن عجلة تقبح؛ جاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يعجلون شيئا إذاتخوفوا فوت التكبيرة الأولى، وطمعوا في ادراكها.

وبوب النسائي في ((سننه)) على ((الإسراع إلى الصلاة من غير سعي)) ، وخرج فيه حديث أبي رافع، قال: كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم إذاصلى العصر ذهب إلى بني عبد الأشهل، يتحدث عندهم حتى ينحدر المغرب. قال أبو رافع: فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يسرع إلى المغرب مررنا بالبقيع - وذكر الحديث.

وهذا إنما يدل على إسراع الإمامإذاخاف الابطاء على الجماعة، وقد قرب الوقت.

والقول الثاني: أنه لايسرع بكل حالٍ.

وروي عن أبي ذر، ويزيد بن ثابت، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وعطاء،

ص: 393

وحكاه ابن عبد البر عن جمهور العلماء، وهو قول الثوري.

ونقله أن منصور وغيره عن أحمد، وقال: العمل على حديث أبي هريرة.

وحديث أبي هريرة: دليل ظاهر على أنه لإيسرع لخوف فوت التكبيرة الأولى، ولا الركعة؛ فانه قال:((فإذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، ولا تسرعوا)) ، فدل على أنه ينهى عن الإسراع مع خوف فوات التكبيرة أو الركعة.

وفي ((مسند الإمام أحمد)) من حديث أبي بكرة، أنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلم راكع، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت نعلي أبي بكرة وهو يحفز، يريد أن يدرك الركعة، فلما انصرف قال:((من الساعي؟)) قال أبو بكرة: أنا، قال:((زادك الله حرصا، ولا تعد)) .

وفي إسناده من يجهل حاله.

وخرجه البخاري في ((كتاب القراءة خلف الامام)) بإسناده آخر فيه ضعف - أيضا - عن أبي بكرة – بمعناه، وفي حديث: قال: إن أبا بكرة قال: يا رسول الله، خشيت ان تفوتني ركعة معك، فأسرعت المشي، فقال له:((زادك الله حرصاً، ولاتعد، صل ما ادركت، واقض ما سبقت)) .

ولو سمع الإقامة وهو مشتغل ببعض أسباب الصلاة كالوضوء والغسل أو غيرهما، فقال عطاء: لا يعجل عن ذلك – يعنى: أنه يتمه من غير استعجال.

وسيأتي حديث: ((لا تعجل عن عشائك)) في موضعه من الكتاب - إن شاء الله تعالى.

ص: 394

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم السكينة والوقار)) ، وهو بالرفع على أن الجملة مبتدأ وخبر، ويروى بالنصب على الإغراء -: ذكره أبو موسى المديني.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) ، هذه الرواية المشهورة عن الزهري، التي راوها عنه عامة أصحابه الحفاظ.

ورواه ابن عيينة، عن الزهري، وقال في روايته:((وما فاتكم فاقضوا)) .

خرج حديثه الإمام أحمد والنسائي.

وذكر أبو داود أن ابن عيينة تفرد بهذه اللفظة - يعني: عن الزهري.

وذكر البيهقي بإسناده، عن مسلم، أنه قال: أخطأ ابن عيينة في هذه اللفظة.

قلت: قد توبع عليها.

وخرجه الإمام أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، وقال في حديثه:((قاضوا)) . قال معمر: ولم يذكر سجوداً.

وكذا رواها بحر السقاء، عن الزهري، وقال في حديثه ((وليقض ما سبقه)) وبحر، فيه ضعف.

ورواها – أيضا - بنحو رواية بحر: سليمان بن كثير، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

ص: 395

خرجه البخاري في ((كتاب القراء خلف الإمام)) .

ورويت لفظة ((القضاء)) من غير رواية الزهري:

وروى شعبة، عن سعد بن ابراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((ائتوا [الصلاة] وعليكم السكينة، فصلوا ما ادركتم، واقضوا ما سبقكم)) .

خرجه أبو داود.

وخرجه الإمام أحمد من رواية عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه.

ورويت عن أبي هريرة من وجود أُخر:

فخرج مسلم طريق ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا ثوب بالصلاة فلا يسعى إليها أحدكم، ولكن ليمش؛ وعليه بالسكينة والوقار، صل ما أدركت، واقض ما سبقك)) .

قال أبو داود: وكذا قال أبو رافع، عن أبي هريرة.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث حميد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا جاء أحدكم فليمش نحواً مما كان يمشي، فليصل ما أدركه، وليقض ما سبقه)) .

ص: 396

وخرج البزار من حديث سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة كلها، إلا أنه يقضي ما فاته)) .

وهذا الحديث آخر غير الذي قبله.

وبالجملة، فرواية من روى ((فأتموا)) أكثر.

وقد استدل الإمام أحمد برواية من روى ((فاقضوا)) ، ورحجها.

قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله – يعني: أحمد - أرأيت قول من قال: يجعل من أدرك مع الإمام أول صلاته، وقد قال: يجعله آخر صلاته، أي شيء الفرق بينهما؟ قال: من أجل القراءة فيما يقضي. قلت له: فحديث النبي صلى الله عليه وسلم: على أي القولين يدل عندك؟ قال: على أنه يقضي ما فاته؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صلوا ما ادركتم واقضوا ما سبقكم)) .

وقال في رواية ابنه صالح: يروى عن أنس وأبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((صلَّ ما أدركت واقض ما سبقك)) . قال: ويروي غيره أنه قال: يقرأ فيما أدرك. وقال غيره: يقرأ فيما يقضي. قال ابن مسعود: ما أدركت من الصلاة فهو آخر صلاتك. انتهى.

ص: 397

وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) ، عن معمر، عن قتادة، أن علياً قال: ما أدركت من الإمام فهو أول صلاتك، واقض فيما سبقك به من القراءة. وأن ابن مسعود قال: اقرأ فيما فاتك.

وعن مالك، عن نافع، أن ابن عمر كان إذا فاته شيء من الصلاة مع الإمام التي يعلن فيها بالقراءة، فإذا سلم الإمام قام عبد الله فقرأ لنفسه.

وروى الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد: حدثنا عبيد الله، عن نافع، أن ابن عمر كان إذا سبق بالأولتين قرأ في الآخرتين بفاتحة الكتاب وسورة.

قلت: أماالقراءة فيما يقضي فمتفق عليها؛ لأن حكم متابعة الإمام قد انقطعت عنه بسلام إمامه قبل فراغ صلاته، فهو فيما بقي من الصلاة منفرد، يقرأ كما يقرأ المنفرد بصلاته، لا يقول أحد من العلماء: أنه لا يقرأ فيها لاستمرار حكم ائتمامه بالإمام.

ولكن من يقول من السلف: أن المصلي يقرأ في ركعتين ويسبح في ركعتين، كما يقول الكوفيون وغيرهم، يقول: إذا أدرك الإمام في ركعتين من الرباعية أنه لايقرأ معهم؛ لأنهم لا يرون قراءة الماموم وراء إمامه بحال، ويقولون: إذا قام يقضي ما فاته من الركعتين، فإنه يقرأ، ولا يجزئه أن يسبح، فإنه قد صار منفرداً في بقية

ص: 398

صلاته، فلا بد [له] من القراءة، سواء فاته ركعة أو ركعتان، فإن فاته ثلاث ركعات قرأ في ركعتين، وله أن يسبح في الثالثة.

وهذا كله قول سفيان الثوري.

وحكى سفيان وأصحابه وابن عمر، أنه إذا أدرك ركعتين مع الإمام لم يقرأ فيما أدركه معه، وقرأ في الركعتين إذا قضاهما.

وعن علي، أن ما أدركه فهو أول صلاته، فيقرأ فيه ما سبقه به الإمام من القراءة.

ظاهر هذا: أن علياً لم ير القراءة فيما يقضيه، وأنهم أرادوا أنه لا يقرأ فيه ما زاد على الفاتحة.

وممن قال: يقرأ فيما يقضي: عبيدة السلماني، وابن سيرين، وأبو قلابة، والنخعي.

وروى عبد الرزاق، عن الثوري، عن جابر، عن الشعبي، ان جندباً ومسروقاً أدركا ركعة من المغرب، فقرأ جندب ولم يقرأ مسروق خلف الإمام، فلما سلم الإمام قأمايقضيان، فجلس مسروق في الثانية والثالثة، وقام جندب إلى الثالثة ولم يجلس، فلما انصرفا أتيا ابن مسعود، فقال: كل قد أصاب، ونفعل كما فعل مسروق.

وعن معمر، عن جعفر الجزري، عن الحكم، ان جندباً ومسروقاً أدركا

ص: 399

ركعة من المغرب، فقرأ أحدهما في الركعتين الآخرتين ما فاته من القراءة، ولم يقرأ الآخر في ركعة، فسئل ابن مسعود، فقالا كلاهما محسن، وأنا أصنع كما صنع هذا الذي قرأ في الركعتين.

وأكثر العلماء على أنه يقرأ في ركعات الصلاة كلها، يقرأ في الركعتين الأولتين بالحمد وسورة وفي الآخرتين بالحمد وحدها.

وعلى هذا؛ إذا أدرك المسبوقٌ من الرباعية أو المغرب ركعتين، يقرأ فيما يقضي من الركعتين وبالحمد وحدها، أو بالحمد وسورةٍ؟ على قولين، اشهرهما أنه يقضي بالحمد وسورةٍ.

وهذا هو المنصوص عن مالك، والشافعي، وأحمد.

ونص الشافعي على أن ما أدركه مع الإمام فهو أول صلاته.

وعن مالك في ذلك روايتان منصوصتان: أحدهما: هو أول صلاته. والثانية: هو آخرها.

وكذلك عن أحمد، ولكن أكثر الروايات عنه، أنه آخر صلاته.

وأمامذهب أبي حنيفة وأصحابه، فهو أن ما أدركه مع الإمام آخر صلاته، وما يقضيه أولها.

وهو قول الحسن بن حي وسفيان الثوري.

وعلى قول هؤلاء لا إشكال في أنه يقرأ فيما يقضي [بالحمد] وسورة.

ص: 400

قال ابن المنذر: واختلفوا في الذي يدركه المأموم من صلاة الإمام.

فقالت طائفة: يجعله أول صلاته، روي هذا القول عن عمر وعلي وأبي الدرداء، ولا يثبت ذلك عنهم، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وعمر بن عبد العزيز ومكحول وعطاء والزهري والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وإسحاق والمزني.

وقالت طائفة: يجعل ما أدرك مع الإمام آخر صلاته، كذلك قال ابن عمر. وبه قال مجاهد وابن سيرين ومالك والثوري والشافعي وأحمد.

قال ابن المنذر: وبالأول نقول. انتهى.

وأنكر ابن عبد البر نقل ابن المنذر ذلك عن مالك والشافعي والثوري وأحمد، وقال: إنما أخذه من قولهم في القراءة [في القضاء] .

قال: وثبت عن ابن المسيب والحسن وعمر بن عبد العزيز ومكحول وعطاء والزهري والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز: ما أدركت فاجعله أول صلاتك.

قال: والذي يجيء على أصولهم - إن لم يثبت عنهم نص في ذلك - ما

ص: 401

قاله المزني وإسحاق وداود وعبد العزيز بن الماجشون.

يعني: أنه يقرأ فيما يقضي بالحمد وحدها؛ لأنه آخر صلاته.

قال: وهذا أطرد في القياس.

قال: فأمامن يقول: ما أدركه فهو أول صلاته، وما يقضيه آخرها، ثم يقول: يقرأ فيه بالحمد وسورة، فكيف يصح هذا على قوله؟ !

وروى حرب الكرماني بإسناده عن مكحول، قال: ما أدركت فاجعله أول صلاتك، تقرأ في أولها بأم القرآن وسورة بينك وبين نفسك.

قلت: وهذا ظاهر في أنه لا يقرأ فيما يقضي بسورة مع الحمد.

وروى بإسناده - أيضا - عن بقية، عن الزبيدي، قال: يقرأ فيما يقضي بأم القرآن وسورة بقدر الذي فاته مع الإمام. قال: وأماالأوزاعي فكان يقول: يقرأ بأم القرآن. قال بقية: وبه نأخذ.

وروى –أيضا - بإسناده عن ثابت بن عجلان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك، واقرأ فيه بفاتحة الكتاب وسورة.

وهذا يدل – أيضا - على أنه لا يقرأ فيما يقضي زيادة على الحمد.

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة - مثل قول ابن عباس.

وقد اتفقت النصوص عن أحمد على أنه يقرأ فيما يقضي بالحمد

ص: 402

وسورة.

واختلف قوله في مأخذ ذلك:

فنقل عنه هارون الحمال، أن مأخذ ذلك أن ما أدركه آخر صلاته وما يقضيه أولها. قال: فقيل له: قد حكي عنك أنك قلت: يقرأ بفاتحة الكتاب ويجعل ما أدرك أول صلاته. فأنكر ذلك.

وهذا يحتمل أن يكون إنكاره للقول بأنه يقتصر على الحمد فيما يقضي تفريعاً على ذلك؛ فإن القول بأن ما أدركه أول صلاته مشهور عنه، قد نقله عنه غير واحد، فإن كان مراده الأول كان قوله بأن القراءة فيما يقضي بالحمد وسورة لا يختلف قوله فيه مع قوله: إن ما يقضيه أول صلاته أو آخرها، وهذا هو المذهب عند أبي موسى وغيره من متقدمي الأصحاب.

وقد نقل عبد الله والأثرم وغيرهما انه يقرأ فيما يقضي بالحمد وسورة، مع قوله: آخر صلاته.

وإن كان مراده الثاني كان القول: يقرأ الحمد وسورة فيما يقضيه، مبنيا على الاختلاف فيما يقضيه: هل هو أول صلاته، أو آخرها.

وهذا هو قول القاضي أبي يعلى ومن بعده من أصحابنا.

ص: 403

وأنكر بعض المتاخرين منهم أن يصح القول بقراءة الحمد وسورة فيما يقضيه على كلا القولين، إلا على قول من يرى استحباب القراءة بالحمد وسورة في كل ركعة من الصلاة كلها، أو على أن من نسي قراءة السورة في الأوليين قرأها في الأخريين.

وهذا المأخذ الثاني لا يصح؛ فإنه لا نسيان هاهنا.

وللمسألة مأخذان لم يذكرهما هذا القائل:

أحدهما: الاحتياط، ونص عليه أحمد في رواية صالح وعبد الله وغيرهما، قال: يكون جلوسه على أول صلاته وفي القراءة يحتاط فيقرأ فيما يقضي.

يعني: أنه إن أدرك ركعة من الرباعية تشهد عقيب قضاء ركعة، فيجعل ما أدرك أول صلاته في الجلوس للتشهد؛ ويقرأ في ركعتين فيما يقضي بالحمد وسورة احتياطاً لقراءة السورة؛ فإنها سنة مؤكدة، فيحتاط لها، ويأتي بها في الركعات كلها؛ للاختلاف في أول صلاته وآخرها.

والمأخذ الثاني: أنه إذا أدرك مع الإمام ركعتين من الرباعية، فإنه لا يتمكن من قراءة السورة مع الحمد معه غالباً، فإذا صلى معه ركعتين قرأ فيهما بالحمد وحدها، ثم قضى ركعتين؛ فإنه ينبغي أن يقرأ فيهما سورة مع الفاتحة؛ لئلا تخلوا هذه الصلاة من قراءة سورة مع الفاتحة، مع حصول

ص: 404

الاختلاف في استحباب قراءة السورة فيما يقضيه، فالاحتياط أن يقرأ فيما يقضي بالحمد وسورة.

أمالو كان قد قرأ فيما أدرك مع الإمام سورة مع الفاتحة؛ فإنه لا يعيد السورة فيما يقضيه، لا سيما عند من يقول: إن ما أدركه هو أول صلاته.

ولهذا قال قتادة: إذا أمكنك الإمام فاقرأ في الركعتين اللتين بقيتا سورة، تجعلهما أول صلاتك.

ذكره عبد الرزاق، عن معمر، عنه.

ولم أجد لأحمد ولا لغيره من الأئمة نصاً صريحاً أنه يقرأ بالحمد وسورة فيما أدركه خلف الإمام، ثم يعيد ذلك فيما يقضيه، بل نص على أن من أدرك ركعة من الوتر وقضى ما فاته أنه لا يعيد القنوت.

وعلله أبو حفص البرمكي بأنه قد قنت مع الإمام فلا يعيد كما لو سجد معه للسهو. قال: ويحتمل أنه لم يعده لأنه أدرك آخر الصلاة.

ونص الشافعي على أن المسبوق بركعتين من الرباعية يقرأ فيما يقضي بالفاتحة وسورتين.

فاختلف أصحابه على طريقين:

أحدهما: أن في استحباب السورة له القولان في استحباب قراءة السورة في الركعتين الأخريين، وأن الشافعي إنما فرع نصه هذا على قوله باستحباب قراءة السورة في كل الركعات، وهذا قاله أبو علي

ص: 405

الطبري.

والطريق الثاني: قاله أبو إسحاق، أنه يستحب للمسبوق قراءة السورة قولاً واحداً، وإن قيل: لا يستحب لغيره قراءة في الأخريين؛ لأن المسبوق لم يقرأ السورة في الأوليين، ولا أدرك قراءة الإمام السورة، فاستحب له؛ لئلا تخلو صلاته من سورتين.

وهذا الطريق هو الصحيح عندهم، وعليه أكثر أصحابهم.

وأماالجهر بالقراءة في العشاء وثالثة المغرب، فأكثرهم على أنه لا يجهر.

وحكوا في جهره قولين للشافعي.

ومنهم من قال: نص في ((الإملاء)) على أنه يجهر؛ لأن الجهر فاته فيتدارك، ونص في غيره على أنه لا يجهر؛ لأن سنة آخر الصلاة الإسرار بالقراءة، فلا تفوته. وبهذا يفرق بينه وبين السورة.

وصرح بعضهم بأنه لو كان الإمام بطيء القراءة فأمكن المسبوق أن يقرأ معه السورة فيما أدرك فقرأها، لم يعدها في الأخريين، إلا على قولهم: يقرأ بالسورة في الركعات كلها، وهو حسن موافق لما ذكره.

وهاهنا مأخذ ثالث؛ وقد صرح به غير واحد من السلف، وقد روي عن علي ما يدل عليه، وصرح به الترمذي وغيره، وهو: أن من أدرك

ص: 406

مع الإمام ركعتين فقد فاته معه ركعتان بسورتيهما، فيشرع له قضاء ما فاته على وجهه.

لكن؛ هل يقضيه فيما أدرك مع الإمام، أو فيما يقضيه بعد قراءته.

فالمروي عن علي أنه يقضيه فيما أدركه مع الإمام، وقال: هو اول صلاته.

وقال ابن مسعود وغيره: فيما يقضي لنفسه وحده منفرداً.

فأماأن يكون مأخذهم انه أول صلاته، وأماأن يكون مأخذهم ان القضاء إنما يكون بعد مفارقة الإمام ما أدرك، ويقضي ما سبق، ولا يكون في حال متابعته، وإن كان آخر صلاته.

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين وأبي قلابة، قالا: يصلي مع الإمامما أدرك، ويقضي ما سبق به مع الإماممن القراءة. مثل قول ابن مسعود.

وقال عمرو بن دينار: ما فاتك فاقضه كما فاتك.

وروى ابن لهيعة، عن عبيد الله بن المغيرة، عن جهم بن الاسود، عن أبي سعيد الخدري، قال: اقرأ فيما تقضي بما قرأ به الإمام.

خرجه عبد الله ابن الإمام أحمد.

وروى الأعمش، عن إبراهيم، قال: إنما القراءة في القضاء. قال: وقال لي سعيد بن جبير: تقرأ فيما تدرك.

ص: 407

والمروي عن أبي سعيد يدل على أنه يستحب أن يقرأ فيما يقضيه بالسورتين اللتين قرأ بهما الإمام؛ لتكون قراءته لهما قضاء بما فاته مع الإمام حقيقة.

وأيضا؛ فإن [عامة] الكوفيين لا يرون القراءة خلف الإمام، وقد اختلفوا في القراءة هاهنا خلفه فيما أدركه؛ لأنه قضاء للقراءة الثانية، فرأى القراءة علي وسعيد بن جبير، ولم يره ابن مسعود وعلقمة والنخعي والاكثرون منهم.

وأماإذا أدرك ركعة من الرباعية أو المغرب، فإنه يجلس للتشهد عقب قضاء ركعة، كما قاله ابن مسعود وعلقمة، وقاله سعيد بن المسيب. وهو المشهور عن أحمد.

وأخذ أحمد في هذه المسألة بما روي عن ابن مسعود، وفي الأولى بما روي عن ابن عمر، وقاله ابن مسعود - أيضا.

ومن أصحابنا من بنى هذا على قول أحمد: إن ما يقضيه آخر صلاته. قال: فإن قلنا: هو أول صلاته، تشهد عقب قضاء ركعتين.

وقال الاكثرون: بل في المسألة روايتان غير مبنيتين على هذا الاصل.

وهذا هو الذي يدل عليه كلام الإمام أحمد صريحاً؛ فإنه أخذ في القراءة بقول ابن عمر، وفي الجلوس بقول ابن مسعود، وجمع بينهما. وابن مسعود مع قوله بهذا، فإنه قد قال: ما أدركه فهو آخر صلاته،

ص: 408

كما سبق عنه.

وزعم صاحب ((المغني)) من أصحابنا ان ذلك كله جائز.

ويشكل عليه: أن أحمد نص في رواية مهنا على انه إذا تشهد عقب ركعتين سجد للسهو.

وكلام ابن مسعود يدل على جواز الأمرين كما سبق عنه.

وقد تبين بهذا: أن اكثر العلماء ليس لهم في هذه المسألة قول مطرد.

ولا خلاف أن التشهد الأخر في حق المسبوق هو الذي في آخر صلاته، الذي يسلم عقيبه، فأماالتشهد الأول، فإن وقع عقيب ركعتين من صلاة المسبوق، فإنه يتشهد فيه معه.

واختلفوا: هل يتم التشهد مع الإمام بالدعاء ام ينتهي إلى قوله: ((واشهد ان محمداً عبده ورسوله)) ، ثم يردده؟ على قولين.

والثاني: قول الحسن وأحمد، والأول: ظاهر كلام عطاء.

فإن كان تشهد الإمام في موضع وتر من صلاة المأموم، فإنه يتابعه في جلوسه بغير خلاف.

وهل يتشهد معه فيه، أم لا؟ على قولين:

أحدهما: يتشهد معه، وهو قول الحسن وابن المسيب وعطاء ونافع والزهري والثوري.

وأحمد، قال: أحب إلي أن يتشهد.

ص: 409

والثاني: لا يتشهد، وهو قول النخعي ومكحول وعمرو بن دينار، وحكاه ابن المنذر عن الحسن - أيضا.

وقال النخعي: يسبح - يعني: بدل التشهد.

وقال الأوزاعي: يكتفي بالتسبيح.

وأكثر العلماء على أنه لا سجود عليه للسهو لزيادة هذا الجلوس متابعة للإمام، وحكي عن ابن عمر أنه كان يسجد كذلك للسهو. وعن أبي سعيد الخدري وعن عطاء وطاوس ومجاهد، وهو قول الحسن.

وروي عن عطاء، عن أبي سعيد وابن عمر وأبي هريرة وابن عباس وابن الزبير، أنهم كانوا يسجدون سجدتي السهو إذا أدرك الإمام في وتر.

قال الإمام أحمد: لم يسمعه عطاء منهم، بينه وبينهم رجل.

يعني: أن في الإسناد مجهول.

والصحيح: قول الجمهور.

وفي ((صحيح مسلم)) عن المغيرة، أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم تبوكاً، فتبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوضأ، وصب عليه المغيرة، ثم أقبل. قال المغيرة: وأقبلت حتى نجد الناس قدموا عبد الرحمن بن عوف، فصلى بهم، فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين فصلى مع الناس الركعة الآخرة، فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم صلاته، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته أقبل عليهم، ثم قال:((أحسنتم)) –

ص: 410

او ((اصبتم)) -، يغبطهم ان صلوا الصلاة لوقتها.

ولم يذكر المغيرة ان النبي صلى الله عليه وسلم سجد للسهو.

وخرجه أبو داود من وجه آخر عن المغيرة، وفيه: فلما سلم قام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الركعة التي سبق بها، ولم يزد عليها شيئاً.

وخرجه البخاري في ((القراءة خلف الإمام)) والطبراني والبيهقي من وجه آخر عن المغيرة، وفيه: فصلينا ما أدركنا، وقضينا ما سبقنا.

وقد روى معمر: ليصل ما أدرك، وليقض ما سبق. قال معمر: ولم يذكر سجوداً.

يعني: انه لو كان عليه سجود في بعض الاحوال لما أخر بيانه؛ لأنه وقت حاجة. وكذلك استدل به كثير من الأئمة بعده، منهم الإمام أحمد والشافعي.

وفي حديث المغيرة: ان المسبوق إنما يقوم إذا سلم الإمام، ولا يقوم حتى يسلم إمامه التسليمتين معاً، نص عليه سفيان والشافعي وأحمد؛ لأن التسليمة الثانية مختلف في وجوبها، [فإذا] لم يأت بها الإمام لم يخرج من صلاته بيقين.

قالت طائفة: ويستحب ان لا يقوم حتى ينحرف الإمام، لعله أن يذكر

ص: 411

سجود سهو، إلا ان يطول ذلك فيقوم ويدعه، وهذا قول عطاء والشعبي وأحمد.

وكان ابن عمر إذا سلم الإمام يقضي ما سبق به، وإن لم يقم الإمام.

وقال أصحاب الشافعي: إن مكث المسبوق بعد سلام إمامه جالساً، وطال جلوسه، فإن كان موضع تشهده الأول جاز، ولم تبطل صلاته؛ لأنه محسوب من صلاته، لكنه يكره له تطويله، وإن لم يكن في موضع تشهده لم يجز أن يجلس بعد تسليم إمامه؛ لأن جلوسه كان للمتابعة وقد زالت، فإن فعل عالما بطلت صلاته، وان كان ساهياً لم تبطل، ويسجد للسهو.

ولو سبق جماعة ببعض الصلاة، ثم قاموا بعد سلام الإمام، فهل لهم ان يقلوا جماعة يؤمهم أحدهم؟ فيه قولان:

أحدهما: نعم، وهو قول عطاء وابن سابط.

والثاني: لا، وهو قول الحسن.

وعن أحمد فيه روايتان، وللشافعية وجهان.

ومأخذهما: هل يجوز الانتقال من الائتمام إلى نية الإمام؟

وأمامأخذ الحسن، فالظاهر أنه كراهة إعادة الجماعة في مسجد مرتين.

قال القاضي من أصحابنا والشافعية: ولو كان ذلك في الجمعة لم يجز؛ لأن الجمعة لا تقام في مسجد واحد مرتين في يوم.

وقال أبو [علي] الحسن بن البناء: في هذا نظر؛ لأن الجمعة تقام عندنا في مواضع للحاجة، وان سبق بعضها بعضاً.

ص: 412

‌22 - باب

متى يقوم للناس إذا رأوا الإمام عند الإقامة

ص: 413

637 -

حدثنا مسلم بن إبراهيم: حدثنا هشام، قال: كتب إلي يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني)) .

هذا رواه هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير مكاتبة، وقد رواه عن يحيى غير واحد: شيبان، وحجاج الصواف، وايوب، وأبان العطار، ومعمر، وغيرهم.

وخرجه البخاري من رواية شيبان، وخرجه مسلم من رواية حجاج ومعمر.

وفي رواية له من رواية شيبان ومعمر: ((حتى تروني قد خرجت)) .

وقال أبو داود: لم يذكر: ((قد خرجت)) إلا معمر.

وذكر البيهقي: أنها قد رويت عن حجاج – أيضا.

وخرجها ابن حبان في ((صحيحه)) من رواية معمر، ولفظه:((حتى تروني قد خرجت إليكم)) .

ص: 413

وهذه اللفظة: يستدل بها على مراده صلى الله عليه وسلم برؤيته: أن يخرج من بيته، فيراه من كان عند باب المسجد، ليس المراد: يراه كل من كان في المسجد.

وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال)) ، ومعلوم أنه لو رآه واحد أو اثنان لاكتفي برؤيتهما، وصام الناس كلهم.

ويدل على هذا: ما خرجه مسلم من حديث الزهري، قال: اخبرني أبو سلمة، سمع ابا هريرة يقول: أقيمت الصلاة، فقمنا فعدلنا الصفوف قبل ان يخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا قام في مصلاه قبل ان يكبر ذكر فانصرف - وذكر تمام الحديث.

ويحمل ذلك على قيامهم قبل ان يطلع على اهل المسجد من المسجد، لما علموا خروجه من بيته وتحققوه.

وخرج - أيضا - بهذا الإسناد، عن أبي هريرة، قال: إن كانت الصلاة تقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأخذ الناس مصافهم قبل ان يقوم النبي صلى الله عليه وسلم مقامه.

فهذه الرواية تصرح بأن الصفوف كانت تعدل قبل ان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه، ولكن كان قد خرج من بيته، ورآه من كان بقرب بيته.

وقد ذكر الدارقطني وغير واحد من الحفاظ أن هذا الحديث اختصره الوليد ابن مسلم من الحديث الذي قبله، فأتي به بهذا اللفظ.

ص: 414

فإن قيل: فقد خرج مسلم من حديث جابر بن سمرة، قال: كان بلال يؤذن إذا دحضت، فلا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا خرج اقام الصلاة حين يراه.

فلو اكتفي برؤية واحد للنبي صلى الله عليه وسلم لاكتفي برؤية بلال له، واكتفي بإقامة بلال في قيام الناس، فإنه كان لا يقيم حتى يرى النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج.

قيل: هذا إنما ورد في صلاة الظهر بالمدينة خاصة، وأمافي غيرها من الصلوات، فقد كان بلال يجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته، فيؤذنه بالصلاة، فكان يفعل ذلك في صلاة الفجر، كما في حديث عائشة وابن عباس، وكان احياناً يفعله في السفر في غير الفجر، كما روى أبو جحيفة، أنه رأى بلالا أذن النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الظهر.

فالظاهر: ان بلالاً كان إذا اذن النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة رجع، فأقام قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته، واكتفى بتأهبه للخروج [بإيذائه] له، فوقع النهي في قيام الناس إلى الصلاة قبل خروجه في مثل هذه الحالة. والله اعلم.

وقد اختلف العلماء في الوقت الذي يقوم فيه الناس للصلاة.

فقال طائفة: يقومون إذا فرغ المؤذن من الاقامة، سواء خرج الإمام او لم يخرج.

وحكى ذلك بعض الشافعية عن أبي حنيفة والشافعي.

ورجع بعض

ص: 415

متأخري الشافعية أنهم لا يقومون حتى يروه؛ لحديث أبي قتادة.

وحكى ابن المنذر، عن أبي حنيفة، انه إذالم يكن الإماممعهم كره ان يقوموا في الصف والإمام غائب عنهم.

وممن روي عنه، انهم لا يقومون حتى يروا الامام: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب.

خرجه وكيع، عنهما.

واختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة:

فروى عن جماعة من أصحابه، أنهم لا يقومون حتى يروه؛ لحديث أبي قتادة، ولو علموا به، مثل ان يكون الإمام هو المؤذن، وقد اقام الصلاة في المنارة وهو نازل.

وروى عنه الاثرم وغيره: انهم يقومون قبل ان يروه إذا اقيمت الصلاة؛ لحديث أبي هريرة الذي خرجه مسلم.

وروى عنه المروذي وغيره: انه وسع العمل بالحديثين جميعاً، فإن شاءوا قاموا قبل ان يروه، وأن شاءوا لم يقوموا حتى يروه.

ورجح بعض أصحابنا الرواية الأولى؛ لحديث أبي قتادة، وادعى انه ناسخ لحديث أبي هريرة؛ فإنه يدل على ان فعلهم لذلك كان سابقا، ثم نهي عنه.

وكذا ذكر البيهقي، لكن قال: إنما نهي عنه تخفيفاً عليهم، ورفقاً

ص: 416

بهم، وهذا لا يمنع العمل به كالصائم في السفر ونحوه.

وروي عن أبي خالد الوالبي، قال: خرج الينا علي بن أبي طالب ونحن قيام، فقال: مالي أراكم سامدين – يعني: قياماً.

وسئل النخعي: أينتظرون الإمام قيأماأو قعوداً؟ قال: قعوداً.

وقال ابن بريدة في انتظارهم قياماً: هو السمود.

وكذا روي عن النخعي، انه كرهه، وقال: هو السمود.

وحكي مثله عن أبي حنيفة وإسحاق.

قال بعض أصحابنا: وروي عن أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي، وداود، انه ان كان الإمام خارجاً من المسجد فلا تقوموا حتى تروه، وإن كان في المسجد فهو كالمشاهد؛ حملا للرؤية في الحديث على العمل، وكذا قال ابن بطة من أصحابنا.

وإن كان الإمام في المسجد، فهو مرئي للمصلين أو بعضهم، لكن هل يكتفي برؤيته قاعداً، أو لا بد من رؤيته قائماً متهيأ للصلاة؟ هذا محل نظر.

ص: 417

والمنصوص عن أحمد، انه إذا كان في المسجد فإن المأمومين يقومون إذا قال المؤذن:((قد قامت الصلاة)) ، وإن لم يقم الإمام.

والقيام للصلاة عند الإقامة متفق على استحبابه للإمام، إذا كان حاضراً في المسجد، وللمأمومين معه.

واختلفوا في موضع القيام من الاقامة على اقوال:

أحدها: انهم يقومون في ابتداء الاقامة، روي عن كثير من التابعين، منهم: عمر بن عبد العزيز، وحكاه ابن المنذر عن أحمد وإسحاق، وهو غريب عن أحمد.

والثاني: إذا قال: ((قد قامت الصلاة)) ، روي عن أنس بن مالك، والحسن بن علي، وعطاء، والحسن، وابن سيرين، والنخعي، وهو قول ابن المبارك، وزفر، وأحمد، وإسحاق.

والثالث: إذا قال: ((حي على الفلاح)) ، وحكي عن أبي حنيفة، ومحمد.

والرابع: إذافرغت الاقامة، وحكي عن مالك، والشافعي.

وحكى ابن المنذر عن مالك، انه لم يوقت في ذلك شيئاً.

وقال الماوردي - من الشافعية -: إن كان شيخاً بطيء النهضة قام عند قوله: ((قد قامت الصلاة)) ، وإن كان سريع النهضة قام بعد الفراغ؛ ليستووا قيأمافي وقت واحد.

فإن تأخر قيام الإمام عن فراغ الإقامة لعذر كما

ص: 418

كان النبي صلى الله عليه وسلم احيانا يناجي بعض أصحابه طويلا، فهل يتأخر قيام المأمومين إلى حين؟ الاظهر: نعم.

ويدل عليه ما خرجه البخاري - وسيأتي قريباً عن شاء الله -، عن أنس، قال: اقيمت الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يناجي رجلا في جانب المسجد، فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم.

ونومهم يدل على انهم كانوا جلوسا؛ إذ لو كانوا قيأماينتظرون الصلاة كان ابعد لنومهم.

وروى حجاج بن فروخ، عن العوام بن حوشب، عن ابن أبي أوفى، قال: كان بلال إذا قال: قد قامت الصلاة، نهض النبي صلى الله عليه وسلم.

حجاج، واسطي، قال أحمد يحيى: لا نعرفه. وقال يحيى - أيضا -: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: مجهول وضعفَهٌ النسائي، وقال الدارقطني: متروك.

وذكر هذا الحديث لأحمد فأنكره، وقال: العوام لم يلق ابن أبي اوفى. هذا في القيام المبتدأ للصلاة ممن كان جالساً، فأمامن دخل المسجد امأماكان او مأموماً، والمؤذن يقيم الصلاة، فهل يجلس ليبتدئ القيام أمابعد الفراغ أو عند قوله:((قد قامت الصلاة)) ، أم

ص: 419

يستمر قائماً؟ فيه قولان:

أحدهما: انه يجلس ليقوم إلى الصلاة في موضع القيام المشروع، وكذلك كان الإمامأحمد يفعل -: نقله عنه ابن منصور، وقاله طائفة من الشافعية، منهم: أبو عاصم العبادي.

وفيه حديث مرسل، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء وبلال في الإقامة، فقعد

خرجه الخلال.

والقول الثاني: انه يستمر قائما ولا يجلس -: قاله طائفة من الشافعية، منهم: البغوي وغيره؛ لئلا يدخل في النهي عن القيام للصلاة قبل رؤية الإمام؛ لان النهي إنما يتناول القيام المبتدأ، وهذا لم يبتدئ القيام، بل استمر عليه.

ويتخرج لأحمد مثل هذا؛ انه فرق بين القيام المبتدأ والمستمر في القيام للجنازة، فحمل النهي عن القيام المبتدأ لمن كان جالساً، فأمامن تبعها فإنه يستمر قائماً، ولا يجلس حتى توضع بالارض، ولم ير هذا القيام المستمر داخلاً في القيام للجنازة المنهي عنه، وجمع بذلك بين الحديثين.

وقد يفرق بينهما: بأن في الجنازة حديثين مختلفين، فجمع بينهما بالتفريق بين القيام المبتدأ والمستمر، وأمافي النهي عن القيام قبل رؤية الإمام فليس فيه حديث

ص: 420

يعارضه، بل مرسل ابن أبي ليلى يوافقه، فلذلك سوى فيه بين القيام المبتدأ والمستمر. والله أعلم.

وأماإن خرج الإمام إلى المسجد، ورآه المأمومون قبل إقامة الصلاة، فلا خلاف انهم لا يقومون للصلاة برؤيته.

وخرج البيهقي من رواية عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن ابن جريج: اخبرني موسى بن عقبة، عن سالم أبي النضر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج بعد النداء إلى المسجد، فإذا رأى أهل المجلس قليلا جلس حتى يرى منهم جماعة، ثم يصلي، وكان إذا خرج فرأى جماعة أقام الصلاة.

وقال: وحدثني موسى بن عقبة - أيضا -، عن نافع بن جبير، عن مسعود بن الحكم الزرقي، عن علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم –مثل هذا الحديث.

وخرجه أبو داود من رواية أبي عاصم، عن ابن جريج بالإسنادين - أيضا -، لكن لفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تقام الصلاة في المسجد إذا رآهم قليلاً جلس، ثم صلى، وإذارآهم جماعة صلى.

وخرجه الإسماعيلي في ((مسند علي)) من طريق أبي عاصم، عن ابن جريج بالإسنادين – أيضا -، ولفظ حديثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد فرأى جماعة أقام الصلاة، وإن رآهم قليلاً جلس.

وخرجه من طريق عبد المجيد - أيضا - بنحو رواية البيهقي، وفي

ص: 421

آخره: يعني: أمر المؤذن، فأقام.

وأشار إلى أنه إنما يعرف بهذا الإسناد عن علي القيام للجنازة ثم الجلوس قال: ولعل هذا أن يكون [خبراً] آخر. والله أعلم.

ص: 422

‌23 - باب

لا يسعى إلى الصلاة، ولا يقوم إليها مستعجلاً

وليقم بالسكينة والوقار

ص: 423

638 -

حدثنا أبو نعيم: ثنا شيبان، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني، وعليكم السكينة)) .

تابعه: علي بن المبارك.

قد سبق هذا الحديث بدون هذه الزيادة، وهي:((وعليكم السكينة)) ، وقد ذكر أنه تابع شيبان عليها علي بن المبارك.

وقد خرجه في كتاب ((الجمعة)) عن أبي قتيبة - وهو: سلم بن قتيبة -، عن ابن المبارك، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة - قال أبو عبد الله: لا أعلم إلا عن أبيه -، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((لا تقوموا حتى تروني، وعليكم السكينة)) ، فشك في وصله.

وقال أبو داود: رواه معاوية بن سلام، وعلي بن المبارك، وقالا فيه:((حتى تروني، وعليكم السكينة)) .

ص: 423

وخرجه الإسماعيلي في ((صحيحه)) من رواية معاوية، كما ذكر أبو داود.

وقد سبق القول في النهي عن السعي إلى الصلاة، والأمر بالمشي إليها بالسكينة والوقار.

وإنما المراد بهذا الباب: النهي عن القيام إلى الصلاة عند رؤية الإمام باستعجال في القيام، والأمر بالقيام برفق وتؤدة، وعليكم السكينة والوقار.

ص: 424

‌24 - باب

هل يخرج من المسجد لعلةٍ

؟

ص: 425

639 -

حدثنا عبد العزيز بن عبد الله: ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وقد أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف، حتى إذاقام في مصلاه انتظرنا أن يكبر، انصرف. قال:((على مكانكم)) ، فمكثنا على هيئتنا حتى خرج إلينا ينطف رأسه ماء، وقد اغتسل.

مقصود البخاري بهذا الباب: أنه يجوز لمن كان في المسجد بعد الأذان أو بعد الإقامة أن يخرج منه لعذر.

والعذر نوعان:

أحدهما: ما يحتاج إلى الخروج معه من المسجد، ثم يعود لإدراك الصلاة فيه، مثل أن يذكر أنه على غير طهارة، أو ينتقض وضوؤه حينئذ، أو يدافعه الأخبثان، فيخرج للطهارة، ثم يعود فيلحق الصلاة في المسجد.

وعلى هذا: دل حديث أبي هريرة المخرج في هذا الباب.

والثاني: أن يكون العذر مانعاً من الصلاة في المسجد كبدعة إمامه ونحوه، فيجوز الخروج منه – أيضا - للصلاة في غيره، كما فعل ابن عمر رضي الله عنه.

ص: 425

روى أبو داود من حديث أبي يحيى القتات، عن مجاهد، قال: كنت مع ابن عمر، فثوب رجل في الظهر او العصر، فقال: اخرج بنا؛ فإن هذه بدعة.

وأبو يحيى هذا، مختلف فيه.

وقد استدل طائفة من أصحابنا بهذا الحديث، وأخذوا به.

وأماالخروج بعد الأذان لغير عذر، فمنهي عنه عند أكثر العلماء.

قال سعد بن أبي وقاص وسعيد بن المسيب: إذا أذن المؤذن وأنت في المسجد، فلا تخرج حتى تصلي.

قال ابن المسيب: يقال: لا يفعله إلا منافق.

قال: وبلغنا ان من خرج بين الأذان والإقامة لغير الوضوء أنه سيصاب.

ذكره مالك في ((الموطإ)) عنه.

قال أصحابنا: لا يجوز ذلك.

وقال أصحاب الشافعي: هو مكروه.

قال الترمذي في ((جامعه)) : العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 426

ومن بعدهم أن لا يخرج أحد من المسجد بعد الأذان، إلا من عذرٍ: أن يكون على غير وضوء، أو أمر لا بد منه.

ويروى عن إبراهيم النخعي، أنه قال: يخرج ما لم يأخذ المؤذن في الإقامة.

قال أبو عيسى الترمذي: وهذا عندنا لمن له عذر في الخروج منه.

والمروي عن إبراهيم في هذا: ما رواه مغيرة، عن إبراهيم، قال: إذا سمعت الإقامة وأنت في المسجد فلا تخرج.

فمفهومه: جواز الخروج قبل الإقامة.

وقد حمله الترمذي على العذر، ويشهد لذلك: ما رواه وكيع، عن عقبة أبي المغيرة، قال: دخلنا مسجد إبراهيم وقد صلينا العصر، وأذن المؤذن، فأردنا أن نخرج، فقال أبراهيم: صلوا.

وقد دل على النهي عن ذلك ما روى أبو الشعثاء سليم بن الأسود، قال: كنا قعوداً في المسجد مع أبي هريرة، فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي، فأتبعه أبو هريرة بصره، حتى خرج من المسجد، فقال

ص: 427

أبو هريرة: أماهذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.

وخرجه الإمام أحمد، وزاد: ثم قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا كنتم في المسجد، فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي)) .

وهذا كله إذا أذن المؤذن في وقت الصلاة، فإذا أذن قبل الوقت، فإن كان لغير الفجر فلا عبرة بهذا الأذان؛ لأنه غير مشروع، وإن كان للفجر فيجوز الخروج من المسجد بعد الأذان قبل طلوع الفجر للمؤذن -: نص عليه الإمام أحمد.

وغير المؤذن في معناه؛ فإن حكم المؤذن في الخروج بعد الأذان من المسجد كحكم غيره في النهي عند أكثر العلماء، ونص عليه أحمد، وإسحاق، وقال: لا نعلم أحداً من السلف فعل خلاف ذلك.

ورخص فقهاء اهل الكوفة، منهم: سفيان وغيره في أن يخرج المؤذن من المسجد بعد أذانه للأكل في بيته.

ص: 428

‌25 - باب إذا قال الإمام: ((مكانكم حتى أرجع)) انتظروه

ص: 429

640 -

حدثنا إسحاق: ثنا محمد بن يوسف: ثنا الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: أقيمت الصلاة، فسوى الناس صفوفهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم وهو جنب، فقال:((على مكانكم)) ، فرجع فاغتسل، ثم خرج ورأسه يقطر ماء، فصلى بهم.

قد تقدم الكلام في القيام قبل خروج الإمام، وانتظار المأمومين له قيأماقبل خروجه، فأماإذا ذكر حاجة فانصرف من المسجد وقال لهم:((مكانكم حتى أرجع)) ، فإنهم ينتظرونه قيأماحتى يرجع إليهم، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث.

وفي الرواية المذكورة في الباب الماضي، قال:((فمكثنا على هيئتنا حتى خرج الينا)) ، وهذا يدل على انهم انتظروه قياماً.

ورواه بعضهم: ((على هينتنا)) من الهينة، وهي الرفق، وكأنها تصحيف. والله اعلم.

وفي رواية لمسلم في هذا الحديث: ((فلم نزل قيأماننتظره حتى خرج الينا، وقد اغتسل)) .

ص: 429

وفي رواية لمسلم - أيضا - في هذا الحديث: ((فأومأ إليهم بيده أن مكانكم)) .

وفيه: دليل على أن إيماء القادر على النطق يكتفى به في العلم، والأمر، والنهي، وقد سبق ذلك مستوفى في ((كتاب العلم)) .

وفي رواية لمسلم –أيضا - في هذا الحديث: ((فإتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذاقام في مصلاه قبل ان يكبر، ذكر فانصرف وقال لنا: ((مكانكم)) .

وهذه الرواية صريحة في أنه انصرف قبل التكبير، وهو – أيضا - ظاهر رواية البخاري.

قال الحسن بن ثواب: قيل لأبي عبد الله – يعين: أحمد بن حنبل - وأنا أسمع: النبي صلى الله عليه وسلم حين أومأ إليهم ان امكثوا، فدخل فتوضأ ثم خرج، أكان كبر؟ فقال: يروى أنه كبر، وحديث أبي سلمة لما أخذ القوم أماكنهم من الصف، قال لهم:((امكثوا)) ، ثم خرج فكبر.

فبين أحمد ان حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة يدل على انه لم يكن كبر، وأماقوله:((يروى أنه كبر)) ، فيدل على أن ذلك قد روي، وأنه مخالف لحديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، وأن حديث أبي سلمة

ص: 430

أصح، وعليه العمل.

وقد خرج أبو داود من حديث زياد الأعلم، عن الحسن، عن أبي بكرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل في صلاة الفجر، فأومأ بيده أن مكانكم، ثم جاء ورأسه يقطر، فصلى.

وفي رواية له - أيضا -: ((فكبر)) وقال فيه: فلما قضى الصلاة قال: ((إنما أنا بشر، وإني كنت جنباً)) .

وخرجه الإمام أحمد بمعناه - أيضا.

قال أبو داود: ورواه أيوب وهشام وابن عون، عن محمد، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، قال: فكبر، ثم اومأ إلى القوم أن اجلسوا، فذهب واغتسل، وكذلك رواه مالك، عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن عطاء بن يسار: أن وسول الله صلى الله عليه وسلم كبر في صلاة.

قال أبو داود: وكذلك حدثنا مسلم بن إبراهيم: ثنا أبان، عن يحيى يعني: ابن أبي كثير -، عن الربيع بن محمد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كبر. انتهى.

وهذه كلها مرسلات.

ص: 431

وحديث الحسن، عن أبي بكرة في معنى المرسل؛ لأن الحسن لم يسمع من أبي بكرة عند الإمام أحمد والأكثرين من المتقدمين.

وقد روي حديث ابن سيرين مسنداً، رواه الحسن بن عبد الرحمن الحارثي، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة - مسنداً.

قال البيهقي: والمرسل أصح.

وقد روي موصولاً من وجه آخر:

خرجه الإمام أحمد، وابن ماجه من رواية اسامة بن زيد، عن عبد الله ابن يزيد مولى الاسود بن سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، وكبر، ثم أشار اليهم فمكثوا، ثم انطلق فاغتسل، وكان رأسه يقطر ماءً، فصلى بهم، فلما انصرف قال:((إني خرجت إليكم جنباً، وإني أنسيت حتى قمت في الصلاة)) .

واسامة بن زيد، هو الليثي، وليس بذلك الحافظ.

وروى معاذ بن معاذ: حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، فكبر فكبرنا معه، ثم اشار إلى الناس أن كما أنتم، فلم نزل قيأماحتى أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد اغتسل ورأسه يقطر.

ص: 432

قال البيهقي: خالفه عبد الوهاب بن عطاء، فرواه عن سعيد، عن قتادة، عن بكر المزني.

وقد بنى الشافعي على رواية من روى: أنه صلى الله عليه وسلم كان كبر ثم ذكر، ووافقه الإمام أحمد في رواية الأثرم وغيره.

وهؤلاء استدلوا بهذا الحديث على أن من صلى خلف محدث ناسٍ لحدثه ان صلاته مجزئه عنه، ويعيد الإمام وحده إذا ذكر بعد تمام صلاته، كما روي عن عمر وعثمان.

وقيل: إنه لا مخالف لهما من الصحابة، بل قد روي مثله عن علي، وابن عمر - أيضا -، وهو قول جمهور العلماء، منهم: النخعي، وسفيان، ومالك، والشافعي، وأحمد.

قال ابن مهدي: قلت لسفيان الثوري: تعلم ان أحداً قال: يعيد ويعيدون عن حماد؟ قال: لا.

وهذا إذا استمر نسيان الإمام حتى فرغ من صلاته، فأماإن ذكر في اثناء صلاته فخرج، فتطهر ثم عاد، فإن الإمام لا يبني على ما مضى من صلاته بغير طهارة بغير خلاف، فإن من صلى بغير طهارة ناسياً فإن عليه الإعادة بالإجماع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) ، وقوله:((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) .

ص: 433

وحكى ابن عبد البر عن قوم أنهم جوزوا البناء على ما مضى من صلاته محدثا ناسياً، وأشار إلى انه قول مخالف للإجماع، فلا يعتد به.

وليس في الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم بنى على ما مضى من تكبيرة الإحرام وهو ناس لجنابته، فإن قدر أن ذلك وقع فهو منسوخ؛ لإجماع الأمة على خلافه، كما ذكره ابن عبد البر وغيره، فلم يبق إلا أحد وجهين:

أحدهما: أن يكون صلى الله عليه وسلم لما رجع كبر للإحرام، وكبر الناس معه.

وعلى هذا التقدير، فلا يبقى في الحديث دلالة على صحة الصلاة خلف إمام صلى بالناس محدثاً ناسياً لحدثه.

والثاني: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استأنف تكبيرة الإحرام، وبنى الناس خلفه على تكبيرهم الماضي.

وهذا هو الذي اشار اليه الشافعي، وجعله عمدة على صحة صلاة المتطهر خلف إمام صلى محدثاً ناسياً لحدثه.

قال ابن عبد البر: وقد وافق الشافعي على ذلك بعض أصحاب مالك. قال: ولا يصح عندي ذلك على أصول مالك؛ لأن مالكاً لا يجيز للمأموم ان يكبر قبل إمامه، وإنما يجيزه الشافعي.

يشير إلى أنه على هذا التقدير يصير المأموم قد كبر منفرداً، ثم انتقل إلى ائتمامه بالإمام، وهذا يجيزه الشافعي دون مالك.

وفيما قاله ابن عبد البر نظر؛ فإن المأموم إنما كبر مقتدياً بإمام يصح

ص: 434

الاقتداء به، ثم بطلت صلاته بذكره، فاستأنف صلاته، فلم يخرج المأموم عن كونه مقتدياً بإمام يصح الاقتداء به، فهو كمن صلى خلف إمام، ثم سبقه الحدث في اثناء صلاته في المعنى.

وعن الإمام أحمد في ابتداء المأمومين وإتمامهم الصلاة إذا اقتدوا بمن نسي حدثه، ثم علم به في اثناء صلاته - روايتان.

وروي عن الحسن، أنهم يتمون صلاتهم.

ومذهب الشافعي: لا فرق بين ان يكون الإمام ناسياً لحدثه أو ذاكراً له، إذالم يعلم الماموم، أنه لا إعادة على المأموم.

وهو قول ابن نافع من المالكية، وحكاه ابن عبد البر عن جمهور فقهاء الأمصار وأهل الحديث.

وعن مالك وأحمد: على الماموم الإعادة.

وقال حماد وأبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري - في اشهر الروايتين عنه -: يعيد المأموم، وإن كان الإمام ناسياً ولم يذكر حتى فرغ من صلاته.

وهو رواية ضعيفة عن أحمد.

وحكي عنه رواية ثالثة: أن قرأ المأموم لنفسه فلا إعادة عليه، وإلا فعليه الإعادة.

وهذا قد يرجع إلى القول بأنه تصير صلاة المأموم في هذه الحال منفرداً.

والجمهور على ان صلاته في جماعة، وهو اصح الوجهين للشافعية، بل قد قيل: إنه نص الشافعي.

وروي عن علي: أن الإمام والمأمومين يعيدون، ولا يصح عنه؛ فإنه

ص: 435

من رواية عمرو بن خالد الواسطي، وهو كذاب.

وفيه حديث مرسل: رواه أبو جابر البياضي - وهو متروك - عن ابن المسيب - مرسلاً.

ص: 436

‌26 - باب

قول الرجل: ((ما صلينا))

ص: 437

641 -

حدثنا أبو نعيم: حدثنا شيبان، عن يحيى، قال: سمعت أبا سلمة، قال: أنا جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه عمر بن الخطاب يوم الخندق، فقال: يا رسول الله، ماكدت اصلي حتى كادت الشمس تغرب، وذلك بعد ما أفطر الصائم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(( [والله] ، ما صليتها)) ، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بطحان وأنا معه، فتوضأ ثم صلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب.

قد تقدم هذا الحديث في أواخر ((كتاب المواقيت)) .

ومقصود البخاري بتخريجه هاهنا: أن من لم يصل الصلاة حتى ذهب وقتها وهو ناسٍ لها، أو مشتغل عنها بعذر يبيح تأخيرها، إذا سئل:((هل صلى؟)) فله أن يقول: ((ما صليتها)) ، وله أن يحلف على ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((والله، ما صليتها)) .

وكذلك إذاسئل من أخر الصلاة الحاضرة إلى أثناء وقتها: هل صلاها؟ فله أن يقول: ((ما صليتها بعد)) ، ولا حرج في ذلك؛ لأنه صدق، وتأخر الصلاة في هذه الصورة كلها مباح، فلا يضر الإخبار فيها بأنه

ص: 437

لم يصل.

وقد نص على جواز ذلك أحمد، وإسحاق -: نقله عنهما ابن منصور.

ويوجد من الناس من يتحرج من قوله: ((لم أصل)) ، ويقول:((نصلي إن شاء الله)) ، والسنة وردت بخلاف ذلك.

وأماإن عرض عليه أن يصلي في وقتها، وهو يريد تأخيرها، فإنه لا يقول:((لا أصلي)) ، ولكن يخبر بما قصده من التأخير المباح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد ليلة المزدلفة: لما قال له: الصلاة يا رسول الله. فقال له صلى الله عليه وسلم: ((الصلاة امامك)) .

ولما خطب ابن عباس بالبصرة، وأخر المغرب، فقيل له: الصلاة، وألح عليه القائل، قال له: أتعلمنا بالسنة؟ ثم أخبره بجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين.

خرجه مسلم.

ولما أخر ابن عمر المغرب في السفر، وكان قد استصرخ على زوجته صفية، قال له ابنه سالم: الصلاة. فقال [له] : سر، ثم قال له: الصلاة. فقال له: سر، حتى سار ميلين أو ثلاثة، ثم نزل فصلى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إذا أعجله السير.

خرجه البخاري، وسيأتي في موضعه - إن شاء الله سبحانه وتعالى.

ص: 438

‌37 - باب

الإمام تعرض له الحاجة بعد الإقامة

ص: 439

642 -

حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو: حدثنا عبد الوارث: حدثنا

عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، قال: أقيمت الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يناجي رجلاً في جانب المسجد، فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم.

هذا الحديث: فيه دليل على أن الإمام له أن يؤخر الدخول في الصلاة بعد

إقامة الصلاة، إذا كانت له حاجة، وقد كان ابن عمر إذا أقيمت الصلاة وقام مقامه

لا يكبر حتى يأتيه الرجل الذي كان وكله بإقامة الصفوف، فيخبره بإقامتها، وأما

إذا لم يكن له حاجة فالأولى المسارعة إلى الدخول في الصلاة عقب الإقامة.

وفي ((تهذيب المدونة)) للبرادعي المالكي: وينتظر الإمام بعد الإقامة قليلاً قدر ما تستوي الصفوف، وليس في سرعة القيام للصلاة بعد الإقامة وقت، وذلك على قدر طاقة الناس.

ومتى طال الفصل بين الإقامة والصلاة، فقال بعض أصحابنا، وأصحاب الشافعي: يعتد بتلك الإقامة، ويكون كمن صلى بغير إقامة.

ص: 439

وسيأتي من حديث ثابت، عن أنس ما يدل على خلاف ذلك.

وظاهر حديث أنس يدل على ان الإقامة لم تعد كذلك.

وقد خرج مسلم حديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس هذا، ولفظه: أقيمت الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يناجي رجلاً، فلم يزل يناجيه حتى نام أصحابه، ثم جاء فصلى بهم.

وظاهر هذه الرواية يدل على انه صلى بالإقامة السابقة، واكتفى بها.

فإن زعم زاعم ان النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ليبين للناس جواز الصلاة بدون اقامة.

قيل: ليس في هذا بيان لذلك؛ فإنه إنما يتبادر إلى الأفهام انه اكتفى بالإقامة المتقدمة، فلو كان حكمها قد بطل لأمر بإقامة ثانية، أو بين بقوله ان تلك الاقامة لم تبق معتبرة، وإنما يصلي بغير إقامة بالكلية لئلا يظن انه صلى بتلك الإقامة الماضية، فإن هذا هو المتبادر إلى الأفهام. والله اعلم.

وقد روي عن طائفة من السلف ما يدل على أن الإقامة وإن تقدمت على الصلاة بزمن طويل فإنها كافية.

فروي عن الحسن، والشعبي، والنخعي، ومجاهد، وعكرمة، وعروة، ومحمد بن علي بن حسين، وغيرهم: أن من دخل مسجداً قد صلي فيه فإنه لا يؤذن، ولا يقيم.

وحكي مثله عن أبي حنيفة وأصحابه، وإسحاق، وحكاه ابن المنذر قولاً للشافعي.

ص: 440

ومنهم من علل بأنه يجزئه إقامة أهل المسجد التي صلوا بها، روي ذلك صريحاً عن عروة.

وسئل أحمد عن ذلك، فقال: ان شاءوا أقاموا، والأمر عنده واسع -: نقله عنه حرب.

وهذا يشعر بأن لهم الاكتفاء بالإقامة الأولى.

ونقل حرب عن إسحاق فيمن فاتته الصلاة يوم الجمعة مع الإمام - صلاة الجمعة -، قال: لا بد أن يقيم الصلاة للظهر؛ لأن الأذان والإقامة يومئذ لم تكن للظهر، إنما كانت للجمعة.

وهذا يدل على أنه يكتفي بالإقامة الأولى لمن صلى تلك الصلاة التي اقيمت لأجلها.

وقد ذكرنا هذه المسائل مستوفاة في ((أبواب الأذان)) ، وإنما المقصود: ان الإقامة وإن طال الفصل بينها وبين الدخول في الصلاة يكتفي بها عند كثير من العلماء.

وروى وكيع في ((كتابه)) حدثنا عمران بن حدير، عن أبي مجلز، قال: أقيمت الصلاة، وصفت الصفوف، فانتدب رجل لعمر فكلمه، فأطال القيام حتى القيا إلى الارض، والقوم صفوف.

ص: 441

‌28 - باب

الكلام إذا أقيمت الصلاة

ص: 442

643 -

حدثنا عياش بن الوليد: حدثنا عبد الأعلى: حدثنا حميد، قال: سألت ثابتاً البناني عن الرجل يتكلم بعدما تقام الصلاة، فحدثني عن أنس بن مالك، قال: أقيمت الصلاة، فعرض للنبي صلى الله عليه وسلم رجل، فحبسه بعدما أقيمت الصلاة.

خرجه مسلم في ((صحيحه)) من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: أقيمت صلاة العشاء، فقال رجل: لي حاجة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يناجيه حتى نام القوم - أو بعض القوم -، ثم صلوا.

وخرجه الترمذي من حديث معمر، عن ثابت، عن أنس، قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما تقام الصلاة يكلمه الرجل، يقوم بينه وبين القبلة، فما يزال يكلمه، ولقد رايت بعضهم ينعس من طول قيام النبي صلى الله عليه وسلم.

فهذا الحديث: دليل على جواز ابتداء الكلام للإمام وغيره بعد إقامة

ص: 442

الصلاة، بخلاف حديث عبد العزيز بن صهيب المخرج في الباب الماضي؛ فإنه إنما يدل على جواز استدامة الكلام إذا شرع فيه قبل الإقامة.

ورواية معمر، عن ثابت، عن أنس صريحة بأن مدة الكلام طالت، ورواية حماد بن سلمة تشعر بذلك؛ لقوله:((حتى نام القوم أو بعض القوم)) ، وليس فيه ذكر إعادة إقامة الصلاة.

وظاهر الحال: يدل على أنه لم يعد الإقامة، ولو وقع ذلك لنقل، ولم يهمل؛ فإنه مما يهتم به.

وقد روى حديث ثابت جرير بن حازم، فخالف أصحاب ثابت في لفظه، رواه عن ثابت، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بالحاجة إذا نزل عن المنبر.

خرجه من طريقه كذلك الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي.

وقال: لا نعرفه إلا من حديث جرير بن حازم، وسمعت محمداً –يعني: البخاري - يقول: وهم جرير بن حازم في هذا الحديث، والصحيح ما روي عن ثابت، عن أنس، قال: أقيمت الصلاة فأخذ رجل بيد النبي صلى الله عليه وسلم، فما زال يكلمه حتى نعس بعض القوم. قال محمد: والحديث هو هذا، وجرير بن حازم ربما يهم في بعض الشيء، وهو صدوق.

ص: 443

وقال ابن أبي خيثمة في ((تاريخه)) : سئل يحيى بن معين عن حديث جرير بن حازم هذا، فقال: خطأ.

وروى وكيع، عن جرير بن حازم، عن ثابت، عن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل من المنبر يوم الجمعة، فيكلمه الرجل في الحاجة فيكلمه، ثم يتقدم إلى المصلى فيصلي.

وروى وكيع عن سفيان، عن معمر، عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث جرير، عن ثابت - مرسلاً.

وقد اختلف في كراهية الكلام بين الخطبة والصلاة، فكرهه طاوس - في رواية – والحكم وأبو حنيفة، ورخص فيه الأكثرون.

قال ابن المنذر: كان طاوس وعطاء والزهري وبكر بن عبد الله والنخعي وحماد ومالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور ويعقوب ومحمد يرخصون فيه، وروينا ذلك عن ابن عمر، وحكي كراهته عن الحكم.

وأماالكلام بين إقامة الصلاة والصلاة في غير الجمعة فلا أعلم أحداً كرهه، وإنما كره من كره ذلك يوم الجمعة تبعاً لكراهة الكلام في وقت الخطبة، فاستصحبوا الكراهة إلى انقضاء الصلاة، وهذا المعنى غير موجود في سائر الصلوات.

ص: 444

وحكى ابن عبد البر عن العراقيين كراهته بني الإقامة والصلاة مطالقاً.

فإن كان الكلام بينهما لمصلحة كتسوية الصفوف ونحوها كان مستحباً، وقد دلت الأحاديث الكثيرة على ذلك، ووردت احاديث وآثار في الدعاء قبل الدخول في الصلاة.

* * *

ص: 445

‌29 - بَابُ

وُجُوبِ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ

وَقَالَ الحَسَنُ: إِنْ مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنِ العِشَاءِ فِي جَمَاعَةٍ شَفَقَةً لَمْ يُطِعْهَا.

مقصود البخاري بهذا الباب: أن الجماعة واجبةٌ للصلاة، ومن تركها لغير عذرٍ، وصلى منفرداً فَقَدْ ترك واجباً، وهذا قَوْلِ كثير من السلف، منهم: الْحَسَن، وما حكاه البخاري عَنْهُ يدل عَلَى ذَلِكَ.

وقد روي عَن الْحَسَن التصريح بتعليل ذَلِكَ بأن الجماعة فريضةٌ، فروى إِبْرَاهِيْم الحربي فِي ((كِتَاب البر)) : نا عُبَيْدِ الله بْن عُمَر - هُوَ: القواريري -: نا معتمر: نا هِشَام، قَالَ: سئل الْحَسَن عَن الرَّجُلُ تأمره أمه أن يفطر تطوعاً؟ قَالَ: يفطر، ولا قضاء عَلِيهِ. قُلتُ: تنهاهُ أن يصلي العشاء فِي جماعة؟ قَالَ: لَيْسَ لها ذَلِكَ؛ هَذِهِ فريضة.

وروى بإسناده عَن عَطَاء فِي الرَّجُلُ تحسبه أمه فِي الليلة المطيرة المظلمة عَن الصلاة فِي جماعة، قَالَ: أطعها.

وهذا لا يخالف فِيهِ الْحَسَن؛ فإن الْحَسَن أفتى بعدم طاعة الأم فِي ترك الجماعة فِي غير حال العذر، وعطاء أفتى بطاعتها فِي ترك الجماعة فِي حال العذر المبيح لترك الجماعة، وعطاء موافق للحسن فِي القول بوجوب الجماعة.

قَالَ ابن المنذر: وممن كَانَ يرى أن حضور الجماعات فرض: عَطَاء

ص: 446

بْن أَبِي رباح، وأحمد بْن حَنْبل، وأبو ثور.

قَالَ: وَقَالَ الشَّافِعِيّ: لا أرخص لمن قدر عَلَى صلاة الجماعة فِي ترك إتيانها، إلا من عذرٍ.

وَقَالَ ابن مَسْعُود: لَقَدْ رأيتنا وما يتخلف عَنْهَا إلا منافقٌ معلومٌ نفاقه.

وروينا عَن غير واحد من أصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم قالوا: من سَمِعَ النداء ثُمَّ لَمْ يجب فلا صلاة لَهُ، منهم: ابن مَسْعُود، وأبو موسى. وقد روي عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وَقَالَ إِسْحَاق بْن راهويه: صلاة الجماعة فريضة.

وَقَالَ الإمام أحمد فِي صلاة الجماعة: هِيَ فريضة.

وَقَالَ فِي رِوَايَة عَنْهُ: أخشى أن تكون فريضة، ولو ذهب النَّاس يجلسون عَنْهَا لتعطلت المساجد: يروى عَن عَلِيّ، وابن عَبَّاس، وابن مَسْعُود: من سَمِعَ النداء فَلَمْ يجب فلا صلاة لَهُ.

وَقَالَ - أيضاً -: أشد مَا فيها قَوْلِ ابن مَسْعُود: لَوْ تركتم سَنَة نبيكم صلى الله عليه وسلم لكفرتم.

وقول ابن مَسْعُود قَدْ خرجه مُسْلِم فِي ((صحيحه)) من رِوَايَة أَبِي الأحوص، عَن عَبْد الله بْن مَسْعُود، قَالَ: لقد رأيتنا وما يتخلف عَن الصلاة إلا منافق قَدْ علم

نفاقه، أو مريض، إن كَانَ المريض ليمشي بَيْن الرجلين حَتَّى يأتي الصلاة، وَقَالَ: إن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة فِي المسجد الَّذِي يؤذن

فِيهِ.

ص: 447

وفي رِوَايَة لمسلم - أيضا - عَن ابن مَسْعُود، قَالَ: من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ عَلَى هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم فِي بيوتكم كما يصلي هَذَا المتخلف فِي بيته لتركتم سَنَة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم.

وخرجه أبو داود بنحوه، وعنده:((ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم)) .

وخرج الترمذي من حَدِيْث مُجَاهِد، عَن ابن عَبَّاس، أنه سئل عَن رَجُل يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يشهد جمعة ولا جماعة؟ قَالَ: هُوَ فِي النار.

وروي عَن أَبِي سنان، عَن سَعِيد بْن جبير، عَن ابن

ص: 448

عَبَّاس فِي قوله تعالى:

{وقدكَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43] قَالَ: نَزَلَتْ فِي صلاة الرَّجُلُ يسمع الأذان فلا يجيب.

وروي عَن سَعِيد بْن جبير من قوله.

وروى أبو حيان التيمي، عَن أبيه، عَن عَلِيّ، قَالَ: لا صلاة لجار المسجد إلا فِي المسجد. قيل: يَا أمير المُؤْمِنيِن، ومن جار المسجد؟ قَالَ: من سَمِعَ الأذان.

وروى شعبة عَن عدي بْن ثابت، عَن سَعِيد بْن جبير، عَن ابن عَبَّاس، قَالَ: من سَمِعَ النداء فَلَمْ يجب فلا صلاة لَهُ إلا من عذرٍ.

وقد رفعه طائفة من أصْحَاب شعبة بهذا الإسناد، وبعضهم قَالَ: عَن شعبة، عَن حبيب بْن أَبِي ثابت، عَن سَعِيد، عَن ابن عَبَّاس مرفوعاً.

وقد خرجه بالإسناد الأول مرفوعاً ابن ماجه وابن حبان فِي ((صحيحه)) والحاكم وصححه.

ولكن وقفه هُوَ الصحيح عِنْدَ الإمام أحمد وغيره.

وخرجه أبو داود مرفوعاً - أيضاً - من رِوَايَة أَبِي جناب الكلبي، عَن مغراء، عَن عدي بْن ثابت، بِهِ.

وأبو جناب، ليس بالقوي، وقد اختلف عَلِيهِ - أيضاً - فِي رفعه ووقفه.

وروي أبو بَكْر بْن عياش، عَن أَبِي حصين، عَن أَبِي بردة، عَن أَبِي موسى، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((من سَمِعَ النداء فارغاً صحيحاً فَلَمْ يجب فلا صلاة لَهُ)) .

خرجه الحَاكِم، وصححه.

وقد اختلف عَلَى أبي بَكْر بْن عياش فِي رفعه ووقفه.

ورواه قيس بْن الربيع، عَن أَبِي حصين - مرفوعاً.

ص: 449

ورواه مِسْعَر وغيره عَن أَبِي حصين موقوفاً.

والموقوف أصح -: قَالَه البيهقي وغيره.

وممن ذهب الى أن الجماعة للصلاة مَعَ عدم العذر واجبة: الأوزاعي والثوري والفضيل بن عياض وإسحاق وداود، وعامة فقهاء الحَدِيْث، منهم: ابن خزيمة وابن المنذر.

وأكثرهم عَلَى أَنَّهُ لَوْ ترك الجماعة لغير عذرٍ وصلى منفرداً أَنَّهُ لا يجب عَلِيهِ الإعادة، ونص عَلِيهِ الإمام أحمد.

وحكي عَن داود أَنَّهُ يجب عليهِ الإعادة، ووافقه طائفة من أصحابنا، منهم: أبو الْحَسَن التميمي، وابن عقيل وغيرهما.

وَقَالَ حرب الكرماني سئل إِسْحَاق عَن قوله: لا صلاة لجار المسجد إلا فِي المسجد؟ فَقَالَ: الصحيح أَنَّهُ لا فضل ولا أجر ولا أمن عَلِيهِ.

يعني: أَنَّهُ لا صلاة لَهُ.

وقد ذكرنا حَدِيْث ابن أم مكتوم فِي استئذانه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:((لا أجدُ لَكَ رخصةً)) فيما سبق.

وهذا مِمَّا يستدل بِهِ عَلَى وجوب حضور الجماعة.

وقد روي عَن حذيفة وزيد بْن ثابت مَا يدل عَلَى الرخصة فِي الصلاة منفرداً مَعَ القدرة عَلَى الجماعة.

وحكي عَن أَبِي حنيفة ومالك ان حضور الجماعة سَنَة مؤكدة، لا

ص: 450

يأثم بتركها.

ولأصحاب الشَّافِعِيّ وجهان، أحدهما كذلك، ومنهم من حكى عَنْهُ رِوَايَة كقول مَالِك وأبي حنيفة، وفي صحتها عَنْهُ نظر. والله أعلم.

ولهذا أنكر بعض محققي أصحابنا أن يكون عَن أحمد رِوَايَة بأن حضور المساجد للجماعة سَنَة، وأنه يجوز لكل أحد أن يتخلف عَن المسجد ويصلي فِي بيته؛ لما فِي ذَلِكَ من تعطيل المساجد عَن الجماعات، وهي من أعظم شعائر الإسلام.

ويلزم من هَذَا؛ أن لا يصح عَن أحمد رِوَايَة بأن الجماعة للصلاة من أصلها سَنَة غير واجبة بطريق الأولى، فإنه يلزم من القول بوجوب حضور المسجد لإقامة الجماعة القول بوجوب أصل الجماعة، من غير عكسٍ. والله أعلم.

وحكى ابن عَبْد البر الإجماع عَلَى أنه لا يجوز أن يجتمع عَلَى تعطيل المساجد كلها من الجماعات، وبذلك رجح قَوْلِ من قَالَ: إن الجماعة فرض كفايةٍ.

قَالَ البخاري:

ص: 451

644 -

حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف: أنا مَالِك، عَن أَبِي الزناد، عَن الأعرج، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، أن رَسُول الله رضي الله عنه قَالَ: ((والذي نفسي بيده، لَقَدْ هممت بحطب

[يجمع] ليحتطب، ثُمَّ آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثُمَّ آمر

ص: 451

رجلاً فيؤم النَّاس، ثُمَّ أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، فوالذي نفسي بيده، لَوْ يعلم أحدهم أَنَّهُ يجد عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء)) .

قَالَ ابن عَبْد البر: قوله: ((لَقَدْ هممت أن آمر بخطب ليحطب)) أي: يجمع.

والعرق، المراد بِهِ: بضعة اللحم السمين عَلَى عظمة.

والمرماتان، قيل: هما السهمان. وقيل: هما حديدتان من حدائد كانوا يلعبون بهما، وهي ملس كالأسنة، كانوا يثبتونها فِي الأكوام والأغراض، ويقال لها - فيها زعم بعضهم -: المداحي.

قَالَ أبو عُبَيْدِ: يقال: إن المرماتين ظلفا الشاة. قَالَ: وهذا حرف لا أدري مَا وجهه، إلا أن هَذَا تفسيره.

ويروى المرماتين - بكسر الميم وفتحها -: ذكره الأخفش.

وذكر العرق والمرماتين عَلَى وجه ضرب المثال بالأشياء التافهة الحقيرة من الدنيا، وَهُوَ توبيخ لمن رغب عَن فضل شهود الجماعة للصلاة، مَعَ أَنَّهُ لَوْ طمع فِي إدراك يسير من عرض الدنيا لبادر إليه، ولو نودي إلى ذَلِكَ لأسرع الإجابة إليه، وَهُوَ يسمع منادي الله فلا يجيبه.

قَالَ الخطابي: وقوله: ((حسنتين)) لا أدري عَلَى أي شيء يتأول معنى الْحَسَن فيهما، إلا عَلَى تأويل من فسر المرماة بظلف الشاة.

ثُمَّ ذكر عَن

ص: 452

المبرد، أَنَّهُ قَالَ: الْحَسَن والحسن العظيم الَّذِي فِي المرفق مِمَّا يلي البطن. والقبح والقبيح العظم الَّذِي فِي المرفق مِمَّا يلي المرفق.

قَالَ: فلعله شبه أحد العظمين بالآخر - أعني المرماة - والعظم الَّذِي فِي المرفق مِمَّا يلي البطن.

قَالَ: وَهُوَ شيء لا أحق ولا اثق بِهِ. انتهى.

قُلتُ: وقد قَالَ بعضهم: ان الرواية ((خشبتين)) بالخاء والشين المعجمتين والباء الموحدة، وَهُوَ غلط وتصحيف.

والذي يظهر - والله أعلم - ان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أخرج هَذَا الكلام مخرج تعظيم شهور العشاء فِي جماعة، والتنويه بفضله وشرفه ونفاسته، والنفوس مجبولة عَلَى محبة الأشياء الحسنة الشريفة النفيسة، والميل إليها، فوبخ من لَوْ طمع فِي وجود قطعة من لحم سمينة أو مرماتين حسنتين، وهما من ادنى الأشياء الدنيوية لبادر الى الخروج إليها، وشهد العشاء لذلك، وَهُوَ يتخلف عَن شهود العشاء فِي الجماعة مَعَ فضل الجماعة عِنْدَ الله، وعظم فضل الجماعة مَا يدخره لمن شهدها عنده من جميل الجزاء وجزيل العطاء، فيكون مَا يعجل لَهُ وإن كَانَ يسيراً من أمور الدنيا المستحسنة عنده مِمَّا يأكله أو يلهو بِهِ أهم عنده من ثواب الله الموعود بِهِ.

ويشبه هَذَا: قَوْلِ الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] ، فإنه توبيخ لمن ترك الجمعة أو اشتغل عَنْهَا بالتجارة أو باللهو.

وهذا الحَدِيْث: ظاهر فِي وجوب شهود الجماعة فِي المساجد، وإجابة

ص: 453

المنادي بالصلاة؛ فإن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أخبر أَنَّهُ هم بتحريق بيوت المتخلفين عَن الجماعة، ومثل هذه العقوبة الشديدة لا تكون إلا عَلَى ترك واجبٍ.

وقد اعترض المخالفون فِي وجوب الجماعة عَلَى هَذَا الاستدلال، وأجابوا عَنْهُ بوجوهٍ.

مِنْهَا: حمل هَذَا الوعيد عَلَى الجمعة خاصة.

واستدلوا عَلِيهِ بما فِي ((صحيح مُسْلِم)) عَن ابن مَسْعُود، ان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لقوم يتخلفون عَن الجمعة:((لَقَدْ هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثُمَّ أحرق عَلَى رجال يتخلفون عَن الجمعة)) .

ومنها: أَنَّهُ أراد تحريق بيوت المنافقين لنفاقهم؛ ولهذا قَالَ ابن مَسْعُود: ولقد رأيتنا وما يتخلف عَنْهَا إلا منافق معلوم نفاقه، وقد سبق ذكره.

والمنافق إذا تخلف عَن الصلاة مَعَ المُسْلِمِين لا يصلي فِي بيته بالكلية، كما أخبر الله عنهم، أنهم {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النِّسَاء: 142] .

وهذا التأويل عَن الشَّافِعِيّ وغيره.

ومنها: أَنَّهُ لَمْ يفعل التحريق، وإنما توعد بِهِ.

وقد ذهب قوم من العلماء الى جواز أن يهدد الحَاكِم رعيته بما لا يفعله بهم، واستدل بعضهم لذلك بما أخبر بِهِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَن سُلَيْمَان، أَنَّهُ قَالَ حِينَ اختصمت إليه المراتان في الولد:((ايتوني بالسكين حَتَّى أشقه)) ، ولم يرد فعل ذَلِكَ، إنما قصد بِهِ التوصل الى معرفة أمه منهما بظهور شفقتها ورقتها عَلَى ولدها.

والجواب: أَنَّهُ لا يصح حمل الحَدِيْث عَلَى شيء من ذَلِكَ.

ص: 454

أما حمله عَلَى الجمعة وحدها فغير صحيح.

وفي ذكر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم شهود العشاء فِي تمام الحَدِيْث مَا يدل عَلَى ان صلاة العشاء الموبخ عَلَى ترك شهودها هِيَ المراد.

وقد روي ذَلِكَ عَن سَعِيد بْن المُسَيِّب، وأنها داخلة فِي عموم الصلاة؛ فإن الاسم المفرد المحلي بالألف واللام يعم، كما فِي قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، وهذا قَوْلِ جماعة من العلماء.

وقد جَاءَ التصريح بالتحريق عَلَى من تخلف عَن صلاة العشاء.

فروى الحميدي عَن سُفْيَان: ثنا أبو الزناد، عَن الأعرج، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((لَقَدْ هممت أن أقيم الصلاة صلاة العشاء، ثُمَّ آمر فتياني فيخالفوا الى بيوت أقوام يتخلفون عَن صلاة العشاء، فيحرقون عليهم بحزم الحطب)) - وذكر بقية الحَدِيْث.

وروى ابن أَبِي ذئب، عَن عجلان مَوْلَى المشمعل، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((لينتهين رجال ممن حول المسجد، لا يشهدون العشاء الآخرة فِي الجمع، أو لأحرقن حول بيوتهم بحزم الحطب)) .

خرجه الإمام أحمد.

وخرج - أيضاً - من حَدِيْث أَبِي معشر، عَن سَعِيد المقبري، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((لولا مَا فِي البيوت من النِّسَاء والذرية أقمت صلاة العشاء، وأمرت فتياني يحرقون مَا فِي البيوت بالنار)) .

ص: 455

وروى عاصم، عَن أَبِي صالح، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أخر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء حَتَّى تهور الليل وذهب ثلثه أو قريباً مِنْهُ، ثُمَّ خرج الى المسجد، فإذا النَّاس عزون، وإذا هم قليل، فغضب غضباً مَا أعلم اني رأيته غضب غضباً قط أشد مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ:((لَوْ ان رجلاً نادى النَّاس الى عرق أو مرماتين أتوه لذلك [ولم يتخلفوا] ، وهم يتخلفون عَن هذه الصلاة، لَقَدْ هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثُمَّ اتتبع هذه الدور الَّتِيْ تخلف أهلوها عَن هذه الصلاة، فأحرقها عليهم بالنيران)) .

وورد التصريح بأن العقوبة عَلَى ترك الجماعة دون الجمعة.

خرجه الطبراني فِي ((أوسطه)) : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْم - هُوَ ابن هاشم البغوي -: ثنا حوثرة بْن أشرس: ثنا حماد بْن سَلَمَة، عَن ثابت، عَن أنس، ان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ((لَوْ ان رجلاً دعا النَّاس الى عرق أو مرماتين لأجابوه، وهم يدعون الى هذه الصلاة فِي جماعة فلا يأتونها، لَقَدْ هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس فِي جماعة، ثُمَّ أنصرف إلى قوم سمعوا النداء، فَلَمْ يجيبوا فأضرمها عليهم ناراً؛ فإنه لا يتخلف عَنْهَا إلا منافق)) .

حوثرة، ضَعِيف -: قَالَ ابن نقطة فِي ((تكملة الإكمال)) .

وأما ذكر الجمعة فِي حَدِيْث ابن مَسْعُود، فلا يدل عَلَى اختصاها بذاك؛ فإنه كما هم أن يحرق عَلَى المتخلف عَن الجمعة فَقَدْ هم أن يحرق عَلَى المتخلف عَن العشاء.

ص: 456

وقد قيل إنه عبر بالجمعة عَن الجماعة للاجتماع لها.

قَالَ البيهقي: هَذَا هُوَ الَّذِي عَلِيهِ سائر الرواة.

واستدل بما خرجه من ((سنن أَبِي داود)) عَن يزيد بْن يزيد، عَن يزيد بْن الأصم، قَالَ:[سَمِعْت أبا هُرَيْرَةَ يَقُول] : سَمِعْت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول: ((لَقَدْ هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا حزماً من حطبٍ، ثُمَّ آتي قوماً يصلون فِي بيوتهم، ليس بهم علة فأحرقها عليهم)) .

قيل ليزيد بْن الأصم: الجمعة عنى أو غيرها؟ فَقَالَ: صمتا أذناي إن لَمْ أكن سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يأثره عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، مَا ذكر جمعة ولا غيرها.

وخرجه - أيضاً - من طريق معمر، عَن جَعْفَر بْن برقان، عَن يزيد بْن الأصم مختصراً، وفي حديثه:((لا يشهدون الجمعة)) .

وهذه الرواية، أو أَنَّهُ اراد بالجمعة الجماعة، كما قَالَ البيهقي؛ فإن مسلماً خرجه من طريق وكيع، عَن جَعْفَر بْن برقان، وَقَالَ فِي حديثه:((لا يشهدو الصلاة)) .

ورواية أَبِي داود صريحة فِي أن التحريق عقوبة عَلَى المتخلف عَن الجماعة.

وإن صلى المتخلف فِي بيته.

وأما دعوى أن التحريق كَانَ للنفاق فهو غير صحيح؛ فإن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم -

ص: 457

صرح بالتعليل بالتخلف عَن الجماعة، ولكنه جعل ذَلِكَ من خصال النفاق، وكل مَا كَانَ علماً عَلَى النفاق فهو محرم.

وفي حَدِيْث أَبِي زرارة الأنصاري، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:((من سَمِعَ النداء ثلاثاً فَلَمْ يجب كتب من المنافقين)) . وإسناده صحيح؛ لكن أبو زرارة، قَالَ أبو الْقَاسِم البغوي: لا أدري أله صحبة أم لا؟

وخرج الإمام أحمد من رِوَايَة ابن لهيعة، عَن زبان بْن فائد، عَن سَهْل بْن معاذ بْن أنس، عَن أبيه، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((الجفاء كل الجفاء، والكفر والنفاق من سَمِعَ منادي الله ينادي بالصلاة ويدعو بالفلاح فلا يجيبه)) .

ورواه رشدين بْن سعد، عَن زبان.

قَالَ الحافظ أبو موسى: رواه جماعة عَن زبان، وتابعه عَلِيهِ يزيد بْن أَبِي حبيب.

وَقَالَ النخعي: كفى علماً عَلَى النفاق أن يكون الرَّجُلُ جار المسجد، لا يرى فِيهِ.

وقد كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يعلم نفاق خلق من المنافقين ولا يعاقبهم عَلَى نفاقهم، بل يكل سرائرهم إلى الله، ويعاملهم معاملة المُسْلِمِين فِي

ص: 458

الظاهر، ولا يعاقبهم إلا عَلَى ذنوب تظهر منهم، فَلَمْ تكن العقوبة بالتحريق إلا عَلَى الذنب الظاهر، وَهُوَ التخلف عَن شهود الصلاة فِي المسجد، لا عَلَى النفاق الباطن.

وأما دعوى أن ذَلِكَ كَانَ تخويفاً وإرهابا مِمَّا لا يجوز فعله، فَقَدْ اختلف فِي جواز ذَلِكَ.

فروي جوازه عَن طائفة من السلف، منهم: عَبْد الحميد بْن عَبْد الرحمن عامل عُمَر بْن عَبْد العزيز عَلَى الكوفة، وميمون بْن مهران، وروي - أيضاً - عن عُمَر بْن الخَطَّاب من وجه منقطع ضَعِيف، وعن عَلِيّ بْن أَبِي طالب.

وأنكر ذَلِكَ عُمَر بْن عَبْد العزيز وتغيظ عَلَى عَبْد الحميد لما فعله، وَقَالَ: إن خصلتين خيرهما الكذب لخصلتا سوءٍ.

وقد ذكر هذه الآثار عُمَر بْن شبة البصري فِي ((كِتَاب أدب السلطان)) .

وبكل حال؛ فليس مَا ذكره النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من التحريق من هَذَا فِي شيء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه هم، وأنما يهم بما يجوز لَهُ فعله، والتخويف يكون عِنْدَ من أجازه بما لا يجوز فعله ولا الهم بفعله، فتبين أَنَّهُ ليس من التخويف فِي شيء، وإنما امتنع من التحريق لما فِي البيوت من النِّسَاء والذرية وهم الأطفال، كما فِي الرواية الَّتِيْ خرجها الإمام أحمد، وهم لا يلزمون شهود الجماعة؛ فإنها لا تجب عَلَى امرأة ولا طفل، والعقوبة إذا خشي أن تتعدى إلى من لا ذنب لَهُ امتنعت، كما يؤخر

ص: 459

الحد عَن الحامل إذا وجب عَلَيْهَا حَتَّى تضع حملها.

فإن زعم زاعم أن التحريق منسوخ؛ لأنه من العقوبات المالية، وقد نسخت، وربما عضل ذَلِكَ بنهي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَن التحريق بالنار.

قيل لَهُ: دعوى نسخ العقوبات المالية بإتلاف الأموال لا تصح، والشريعة طافحة بجواز ذَلِكَ، كأمره صلى الله عليه وسلم بتحريق الثوب المعصفر بالنار، وأمره بتحريق متاع الغال، وأمره بكسر القدور الَّتِيْ طبخ فيها لحوم الحمر الأهلية، وحرق عُمَر بيت خمار.

ونص عَلَى جواز تحريق بيت الخمار أحمد وإسحاق -: نقله عنهما ابن منصور فِي ((مسائله)) ، وَهُوَ قَوْلِ يَحْيَى بْن يَحْيَى الأندلسي، وذكر أن بعض أصحابه نقله عَن مَالِك، واختاره ابن بطة من أصحابنا.

وروي عَن عَلِيّ - أيضاً - وروي عَنْهُ أَنَّهُ أنهب ماله.

وعن عُمَر، قَالَ فِي الَّذِي يبيع الخمر: كسورا كل آنية لَهُ، وسيروا كل ماشية

لَهُ.

خرجه وكيع فِي ((كتابه)) .

وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عَن التحريق بالنار، فإنما أراد بِهِ تحريق النفوس وذوات الأرواح.

فإن قيل: فتحريق بيت العاصي يؤدي إلى تحريق نفسه، وَهُوَ ممنوع.

قيل: إنما يقصد بالتحريق دارهُ ومتاعهُ، فإن أتى عَلَى نفسه لَمْ يكن بالقصد، بل تبعاً، كما يجوز تبييتُ المشركين وقتلهم ليلاً، وقد أتى القتل

ص: 460

عَلَى ذراريهم ونسائهم.

وقد سئل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَن ذَلِكَ، فَقَالَ:((هم منهم)) .

وهذا مِمَّا يحسن الاستدلال بِهِ عَلَى قتل تارك الصلاة؛ فإنه إذا جازت عقوبة تارك الجماعة فِي ماله وإن تعدت إلى نفسه بالهلاك، فقتل من ترك الصلاة بالكلية أولى بالجواز، فلا جرم كَانَ قتله واجباً عِنْدَ جمهور العلماء.

وفي الحَدِيْث: دليل عَلَى أَنَّهُ إنما يعاقب تارك الصلاة أو بعض واجباتها فِي حال إخلاله بِهَا، لا بعد ذَلِكَ؛ فإن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إنما أراد عقوبتهم فِي حال التخلف، وقد كَانَ يمكنه أن يؤخر العقوبة حَتَّى يصلي وتنقضي صلاته.

وهذا يعضد قَوْلِ من قَالَ من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: إن تارك الصلاة لا يقتل حَتَّى يدعى إلى الصلاة، ويصر عَلَى تركها حَتَّى يضيق وقت الأخرى، ليكون قتله عَلَى الترك المتلبس بِهِ فِي الحال.

وفي الحَدِيْث - أيضاً - أن الإمام لَهُ أن يؤخر الصلاة عَن أول الوقت لمصلحة دينية، ولكنه يستخلف من يصلي بالناس فِي أول الوقت؛ لئلا تفوتهم فضيلة أول الوقت.

وفيه - أيضاً -: أن إنكار المنكر فرض كفاية، وأنه إذا قام اكتفى بذلك، ولا يلزم جميع النَّاس الاجتماع عَلِيهِ؛ فإنه لَوْ كَانَ كذلك لأخذ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ جميع النَّاس.

ص: 461