المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌30 - بَابُ فَضْلِ صَلاةِ الجَمَاعَةِ وكان الأسود إذا فاتته الجماعة ذهب - فتح الباري لابن رجب - جـ ٦

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

‌30 - بَابُ

فَضْلِ صَلاةِ الجَمَاعَةِ

وكان الأسود إذا فاتته الجماعة ذهب إلى مسجد آخر.

وجاء أنس إلى مسجد قَدْ صلي فِيهِ، فأذن وأقام، وصلى جماعة.

هاهنا مسألتان:

إحداهما:

أن من فاتته الجماعة فِي مسجد لَمْ يجد فِيهِ جماعةً، فإنه يذهب إلى مسجد آخر لتحصيل الجماعة، كما فعله الأسود.

وَقَالَ حماد بْن زيد: كَانَ ليث بْن أبي سليم إذا فاتته الصلاة فِي مسجد حيه اكترى حماراً، فطاف عَلِيهِ المساجد حَتَّى يدرك جماعةً.

ونص الإمام أحمد عَلَى أن من فاتته الجماعة فِي مسجد حيه أَنَّهُ يذهب إلى مسجد آخر ليدرك الجماعة. قَالَ: وإن فاتته تكبيرة الإحرام مَعَ الإمام فِي مسجد حية صلى معهم، ولم يذهب إلى مسجد آخر لإدراك تكبيرة الإحرام مَعَ إمامه.

وحكى عَن هشيم، أَنَّهُ كَانَ يذهب إلى مسجد آخر لإدراك تكبيرة الإحرام مَعَ الإمام.

ومذهب مَالِك: أن من وجد مسجداً قَدْ جمع أهله، فإن طمع بإدراك جماعة فِي مسجد غيره خرج إليها، وإن كانوا جماعةً فلا بأس أن

ص: 5

يخرجوا فيجمعوا كراهة إعادة الجماعة عندهم فِي المسجد، كما سيأتي.

واستثنوا من ذَلِكَ المسجد الحرام ومسجد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ومسجد بيت المقدس، فقالوا: يصلوا فيها أفذاذاً، هُوَ أعظم لأجورهم من الجماعة خارج المسجد -: ذكره فِي ((تهذيب المدونة)) .

المسألة الثانية:

أن من دَخَلَ مسجداً قَدْ صلي فِيهِ جماعة، فإنه يصلى فِيهِ جماعة مرة ثانية، صح ذَلِكَ عَن أنس بْن مَالِك، كما علقه عَنْهُ البخاري، واحتج بِهِ الإمام أحمد.

وَهُوَ من رِوَايَة الجعد أَبِي عُثْمَان، أَنَّهُ رأى أَنَس بْن مَالِك دَخَلَ مسجداً قَدْ صلي فِيهِ، فأذن وأقام وصلى بأصحابه.

وقد رواه غير واحد من الثقات، عَن الجعد، وخرجه عَبْد الرزاق والأثرام وابن أَبِي شيبة والبيهقي وغيرهم فِي ((تصانيفهم)) من طرق متعددة عَن الجعد.

وقد روي عَن أَنَس من وجه آخر؛ وأنه رَوَى فِي ذَلِكَ حديثاً مرفوعاً.

خرجه ابن عدي من طريق عباد بْن منصور، قَالَ: رأيت أَنَس بْن مَالِك دَخَلَ مسجداً بعد العصر، وقد صلى القوم، ومعه نفر من أصحابه، فأمهم، فلما انفتل قيل لَهُ: أليس يكره هَذَا؟ فَقَالَ: دَخَلَ رَجُل المسجد، وقد صلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، فقام قائماً ينظر، فَقَالَ:((مَالِك؟)) قَالَ: أريد أن أصلي، فَقَالَ:((أما رَجُل يصلي مَعَ هَذَا؟)) فدخل رَجُل، فأمرهم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن يصلو جميعاً.

ص: 6

وعباد بْن منصور، تكلموا فِيهِ.

وقد اختلف النَّاس فِي هَذَا المسألة فِي موضعين:

أحدهما: أن من دَخَلَ مسجداً قَدْ صلي فِيهِ فصلى وحده أو جماعة: هَلْ يؤذن ويقيم، أم يكفيه أذان الجماعة الأولى وإقامتهم؟ فِيهِ قولان مشهوران للعلماء، قَدْ سبق ذكرهما فِي مواضع من الكتاب.

ومذهب أَبِي حنيفة وأصحابه وسفيان وإسحاق؛ أَنَّهُ يجزئهم الأذن والإقامة الأولى، وَهُوَ نَصَّ أحمد، وقد جعله صاحب ((المغني)) المذهب، وَهُوَ كما قَالَ؛ لكن أحمد لا يكره إعادة الأذان والإقامة.

وروي عَن طائفة من السلف كراهة إعادتهما، منهم: عَبْد الرحمن بْن أَبِي ليلي وغيره، وحكي - أيضاً - عن أَبِي يوسف ومحمد.

وعن الشَّعْبِيّ، قَالَ: إذا صلى فِي المسجد جماعة فإن إقامتهم تجزىء عمن صلى صلاة إلى الصلاة الأخرى.

وَقَالَ الزُّهْرِيّ: يقيم، ولم يذكر الأذان.

وعن قتادة، قَالَ: إن لَمْ يسمع الإقامة أقام، ثُمَّ صلى.

والموضع الثاني: إعادة الجماعة فِي مسجد قَدْ صلى فِيهِ إمامه الراتب.

واختلف العلماء فِي ذَلِكَ:

فمنهم: من كرهه، وَقَالَ يصلون فِيهِ وحداناً، روي ذَلِكَ عَن سَالِم وأبي قلابة، وحكاه بعض العلماء عَن سَعِيد بْن المُسَيِّب والحسن والنخعي والضحاك والقاسم بْن مُحَمَّد والزهري وغيرهم، وَهُوَ قَوْلِ الليث والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة ومالك، وحكاه الترمذي فِي ((كتابه)) عَن ابن المبارك والشافعي،

ص: 7

وقد رواه الربيع عَن الشَّافِعِيّ، وأنه لَمْ يفعله السلف، بل قَدْ عابه بعضهم.

وكان هَذَا القول هُوَ المعمول بِهِ فِي زمن بني أمية؛ حذراً من أن يظن بمن صلى جماعة بعد جماعة المسجد الأولى أَنَّهُ مخالف للسلطان مفتئت عَلِيهِ، لا يرى الصلاة مَعَهُ، ولا مَعَ من أقامه فِي إمامه المساجد.

وقد استدل بعضهم لهذا بما رَوَى معاوية بْن يَحْيَى، عَن خَالِد الحذاء، عَن عَبْد الرحمن بْن أَبِي بكرة، عَن أَبِيه، أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أقبل من نواحي المدينة يريد الصلاة، فوجد النَّاس قَدْ صلوا، فمال إلى منزله، فجمع أهله، فصلى بهم.

خرجه الطبراني.

ومعاوية بْن يَحْيَى، لا يحتج بِهِ.

وذهب أكثر العلماء إلى جواز إعادة الجماعة فِي المساجد فِي الجملة كما فعله أَنَس بْن مَالِك، منهم: عَطَاء وقتادة ومكحول، وَهُوَ قَوْلِ إِسْحَاق وأبي يوسف ومحمد وداود.

واختلف فِيهِ عَن الْحَسَن والنخعي، فروي عنهما كالقولين.

والمشهور: أَنَّهُ يكره ذَلِكَ فِي مسجدي مكة والمدينة خاصة، ويجوز فيما سواهما.

ومن تأخري أصحابه من ألحق بمسجدي مكة والمدينة المسجد الأقصى فِي الكراهة.

وعن أحمد رِوَايَة أخرى: لا يكره بحال.

ومن أصحابنا من كرهه فِي المساجد العظام الَّتِيْ يتولى السلطان عادة ترتيب أئمتها كالجوامع ونحوها؛ لئلا يتطرق بذلك إلى الافتئات عَلِيهِ، ولم يكرهه فِي المساجد الَّتِيْ يرتب

ص: 8

أئمتها جيرانها.

وحكي عَن الشَّافِعِيّ، أَنَّهُ يكره إعادة الجماعة فِي مساجد الدروب ونحوها دون مساجد الأسواق الَّتِيْ يكثر فيها تكرار الجماعات، لكثرة استطراق النَّاس إليها؛ دفعاً للحاجة.

ومتى لَمْ يكن للمسجد إمام راتب لَمْ يكره إعادة الجماعة فِيهِ عِنْدَ أحد من العلماء، مَا خلا الليث بْن سعد، فإنه كره الإعادة فِيهِ - أيضاً.

واستدل من لَمْ يكره الإعادة بحديث أَبِي سَعِيد الْخُدرِيَّ، قَالَ: جَاءَ رجلٌ وقد صلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:((أيكم يتجر عَلَى هَذَا؟)) فقام رَجُل، فصلى مَعَهُ.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي - وهذا لفظه، وَقَالَ: هَذَا حَدِيْث حسن - وابن خزيمة وابن حبان فِي ((صحيحهما)) والحاكم، وَقَالَ: صحيح الإسناد.

وقد قواه الإمام أحمد وأخذ بِهِ، وَهُوَ مشكل عَلَى أصله؛ فإنه يكره إعادة الجماعة فِي مسجد المدينة.

وقد اعتذر الإمام أحمد عَنْهُ من وجهين:

أحدهما: أن رغبة الصَّحَابَة فِي الصلاة مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ متوفرة، وإنما كَانَ يتخلف من لَهُ عذر، وأما بعده فليس كذلك، فكره تفريق الجماعات فِي المسجدين الفاضلين توقيراً للجماعة فيهما.

والثاني: أن هَذَا يغتفر فِي الجماعة القليلة دون الكثيرة، ولهذا لَمْ

ص: 9

يأمر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أكثر من واحد بالصلاة مَعَهُ.

وكذلك قَالَ أحمد فِي الجماعة تفوتهم الجمعة: إنهم إن كانوا ثَلَاثَة صلوا جماعةً، فإن كثروا فتوقف فِي صلاتهم جماعةً، وَقَالَ: لا أعرفه.

ومأخذه فِي ذَلِكَ: أن فِي إظهار صلاة الظهر يوم الجمعة فِي المساجد افتئاتاً عَلَى الأئمة، ويتستر بِهِ أهل البدع إلى ترك الجمعة، وصلاة الظهر فِي المساجد كسائر الأيام.

وقد كره طائفة من السلف لمن فاتته الجمعة أن يصلوا جماعة، منهم: الْحَسَن وأبو قلابة، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة.

ورويت الرخصة فِيهِ عَن ابن مَسْعُود وإياس بْن معاوية، وَهُوَ قَوْلِ الشَّافِعِيّ وأحمد وإسحاق.

وعن أحمد رِوَايَة: أَنَّهُ يكره صلاة الظهر جماعة إذ كثروا، ولا يكره إذا قلوا. وقد ذكرناها آنفاً.

ومن أصحابنا من كره الجماعة فِي مكان الجمعة خاصة.

واختلف فِيهِ عَن الثوري ومالك.

وروي عَن حذيفة وزيد بْن ثابت، أن من فاتته الجمعة لا يصلي الظهر فِي المسجد بالكلية حياء من النَّاس.

قَالَ حذيفة: لا خير فيمن لا حياء فِيهِ.

وَقَالَ زيد: من لا يستحي من النَّاس لا يستحي من الله.

ص: 10

وقد روي فِي حَدِيْث أَنَس الموقوف الَّذِي علقه البخاري زيادة: أَنَّهُ أمر بعض أصحابه فأذن وصلى ركعتين، ثُمَّ أمره فأقام ثُمَّ تقدم أَنَس فصلى بهم.

خرجه عَبْد الرزاق عَن جَعْفَر بْن سُلَيْمَان، عَن الجعد، عَن أَنَس.

وخرجه الجوزجاني من رِوَايَة ابن علية، عَن الجعد، قَالَ: كنا فِي مسجد بني رِفَاعَة، فجاء أَنَس بْن مَالِك ومعه نفر، وقد صلينا صلاة الصبح، فَقَالَ: أصليتم؟ قَالَ: نَعَمْ، فإذن رَجُل من القوم، ثُمَّ صلوا ركعتين، ثُمَّ أقام، ثُمَّ تقدم أَنَس فصلى بهم.

وهذا يدل عَلَى أن من دَخَلَ مسجداً قَدْ صلي فِيهِ والوقت باقٍ، فإنه يجوز لَهُ أن يتطوع قَبْلَ صلاة المكتوبة، ويصلي السنن الرواتب قَبْلَ الفرائض، وَهُوَ قَوْلِ الأكثرين، منهم:[.. .. ..] وأبو حنيفة ومالك والشافعي.

وقالت طائفة: يبدأ بالمكتوبة، منهم: ابن عُمَر -: رواه مَالِك وأيوب وابن جُرَيْج، عَن نافعٍ، عَنْهُ.

وكذا روي عَن عَبْد الرحمن بْن أَبِي ليلى والشعبي والنخعي وعطاء، وَهُوَ قَوْلِ الثوري والحسن بْن حي والليث بْن سعد.

وعن الْحَسَن، قَالَ: ابدأ بالمكتوبة إلا ركعتي

ص: 11

الفجر.

وكذا قَوْلِ الثوري.

واختلفت الرواية عَن أحمد فِي ذَلِكَ:

فنقل عَنْهُ ابن منصور وصالح وحنبل: يبدأ بالمكتوبة، واستدل فِي رِوَايَة ابن منصور وصالح بما روي عَن ابن عُمَر.

ونقل عَنْهُ أبو الْقَاسِم البغوي، فِي الرَّجُلُ يخرج إلى المسجد فيجدهم قَدْ صلوا، ووجد رجلاً يتطوع: أيتطوع حَتَّى يجيء الرَّجُلُ؟ قَالَ: إن شاء تطوع.

ومن كره ذَلِكَ جعل الدخول إلى المسجد لإرادة الصلاة المكتوبة كإقامة الصلاة، فلا يبدأ قبلها بشيء وإنما يشرع التطوع لمن ينتظر الإمام؛ لأنه إذا لَمْ يخرج إلى النَّاس لَمْ يمنعوا من التطوع.

ولو كَانَتْ الصلاة فِي غير مسجد فله أن يتطوع قَبْلَ المكتوبة -: قاله عَطَاء وغيره.

وقياس هَذَا: أن الإمام إذا حضر المسجد، فإنه يكره لَهُ أن يتطوع قَبْلَ المكتوبة - أيضاً.

وقد ذكرنا فيها تقدم فِي ((بَاب: متى يقوم النَّاس إذا رأوا الإمام)) الحَدِيْث الَّذِي خرجه أبو داود، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ حِينَ تقام الصلاة فِي المسجد إذا رآهم قليلاً جلس ثُمَّ صلى، وإذا رآهم جماعة صلى.

وخرجه البيهقي، ولفظه: كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم يخرج بعد النداء إلى المسجد، فإذا رأى أهل المسجد قليلاً جلس حَتَّى يرى منهم جماعة ثُمَّ

ص: 12

يصلي.

وقد تقدم فِي ((بَاب: القيام للصلاة)) الحَدِيْث المرسل، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ وبلال فِي الإقامة فجلس.

خرج البخاري رحمه الله في هَذَا الباب ثَلَاثَة أحاديث:

الحَدِيْث الأول:

ص: 13

645 -

حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف: أنا مَالِك، عَن نافعٍ، عَن عَبْد الله بْن عُمَر، أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((صلاةُ الجماعة تفضل عَلَى صلاة الفذ بسبعٍ وعشرين

درجةً)) .

الحَدِيْث الثاني:

قَالَ:

ص: 13

646 -

حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف: حَدَّثَنِي الليث: حَدَّثَنِي ابن الهاد، عَن

عَبْد الله بْن خباب، عَن أَبِي سَعِيد الْخُدرِيَّ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُول:((صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمسٍ وعشرين درجةً)) .

الحَدِيْث الثالث:

ص: 13

647 -

حَدَّثَنَا موسى بْن إسماعيل: نا عَبْد الواحد، قَالَ: ثنا الأعمش، قَالَ: سَمِعْت أبا صالح يَقُول: سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الرَّجُلُ فِي الجماعة تضعيف عَلَى صلاته فِي بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفاً، وذلك أَنَّهُ إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثُمَّ خرج إلى

ص: 13

المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لَمْ يخط خطوة إلا رفعت لَهُ بِهَا درجة وحط عَنْهُ بِهَا خطيئة، فإذا صلى لَمْ تزل الملائكة تصلي عَلِيهِ مَا دام فِي مصلاة: اللهم صل عَلِيهِ، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم فِي صلاةٍ مَا انتظر الصلاة)) .

فِي حَدِيْث ابن عُمَر: أن صلاة الجماعة تفضل عَلَى صلاة الفذ بسبعٍ وعشرين درجةً، وفي حَدِيْث أَبِي سَعِيد: أنها عَلَيْهَا بخمس وعشرين.

وقد جمع بعض النَّاس بينهما، فَقَالَ: أريد فِي حَدِيْث ابن عُمَر ذكر صلاة الفذ وصلاة الجماعة، وما بَيْنَهُمَا من الفضل، وَهُوَ خمس وعشرون، فصار ذَلِكَ سبعاً وعشرين، وفي حَدِيْث أَبِي سَعِيد ذكر قدر الفضل بَيْنَهُمَا فَقَطْ، وَهُوَ خمس وعشرون.

وهذا بعيد، فإن حَدِيْث ابن عُمَر ذكر فِيهِ قدر التفاضل بَيْن الصلاتين - أيضاً -، كما ذكر فِي حَدِيْث أَبِي سَعِيد.

وقد خرجه مُسْلِم من رِوَايَة عُبَيْدِ الله بْن عُمَر، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((صلاة الرَّجُلُ فِي الجماعة تزيد عَلَى صلاته وحده سبعاً وعشرين درجة)) .

ص: 14

وأما حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ ففيه تضعّف صلاة الجماعة عَلَى الصلاة فِي البيت والسوق خمسة وعشرين ضعفاً، والمراد بِهِ - أيضاً -: قدر التفاضل بَيْنَهُمَا.

وسيأتي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ بلفظ آخر، خرجه البخاري فِي الباب الَّذِي يأتي بعد هَذَا، وَهُوَ:((تفضل صلاة الجميع صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءاً)) .

والمراد بهذه الأجزاء والأضعاف والدرج معنى واحد - واللهُ أعلم -، وَهُوَ: أن صلاة الفذ لها ثواب مقدر معلوم عِنْدَ الله، تزيد صلاة الجماعة عَلَى ثواب صلاة الفذ خمسة وعشرين أو سبعة وعشرين.

وقد جَاءَ التصريح بهذا فِي حَدِيْث خرجه مُسْلِم من رِوَايَة سلمان الأغر، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الجماعة تعدل خمساً وعشرين من صلاة الفذ)) .

وخرج - أيضاً - من وجه آخر، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:

((صلاة مَعَ الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده)) .

وفي ((المسند)) عَن ابن عُمَر - موفوعاً -: ((كلها مثل صلاته)) .

وقد اختلف النَّاس فِي الجمع بَيْن حَدِيْث ابن عُمَر فِي ذكر السبع وعشرين وبين حَدِيْث أَبِي سَعِيد وأبي هُرَيْرَةَ فِي ذكر خمس وعشرين.

فَقَالَتْ طائفةٌ: ذكر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي كل وقت مَا أعلمه الله وأوحاه إليه

ص: 15

من الفضل، فبلغه كما أوحي إليه، وكان قَدْ أوحى إِلَيْهِ أن صلاة الجماعة تفضل عَلَى صلاة الفذ بخمس وعشرين، والعدد لا مفهوم لَهُ عِنْدَ كثير من العلماء، ثُمَّ أوحى إِلَيْهِ زيادة عَلَى ذَلِكَ، كما أخبر:((أن من مات لَهُ ثَلَاثَة من الولد لَمْ تمسه النار)) . ثُمَّ سئل عَن الاثنين، فَقَالَ:((واثنان)) ثُمَّ سئل عَن الواحد، فَقَالَ:((والواحد)) ، وكما أخبر ((أن صيام ثَلَاثَة أيام من كل شهر يعدل صيام الدهر)) ، ثُمَّ أخبر عَبْد الله ابن عَمْرِو بْن العاص أَنَّهُ إن صام يوماً من الشهر أو يومين مِنْهُ فله أجر مَا بقي مِنْهُ، ونطق الكتاب بأن الحسنة بعشر أمثالها، ثُمَّ جاءت السنة بأن الحسنة تضاعف إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ودل القرآن عَلِيهِ - أيضاً.

وقالت طائفة: صلاة الجماعة يتفاوت ثوابها في نفسها، ثم اختلفوا: فمنهم من قالَ: يتفاوت ثوابها بإكمال الصلاة فِي نفسها، وإقامة حقوقها وخشوعها، ورجحه أبو موسى المديني.

ولكن صلاة الفذ يتفاوت ثوابها - أيضاً - على حسب ذَلِكَ.

ومنهم من قَالَ: يتفاوت ثوابها بذلك، وربما يقترن بصلاة الجماعة من المشي إلى المسجد وبعده وكثرة الجماعة فِيهِ، وكونه عتيقاً، وكون المشي عَلَى طهارةٍ، والتبكير إلى المساجد، والمسابقة إلى الصف الأول عَن يمين الإمام أو وراءه، وإدراك تكبيرة الإحرام مَعَ الإمام، والتأمين مَعَهُ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وغير ذَلِكَ.

وهذا قَوْلِ أَبِي بَكْر الأثرم

ص: 16

وغيره، وَهُوَ الأظهر.

ويدل عَلِيهِ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ذكر فِي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ تعليل المضاعفة، فَقَالَ:

((وذلك أَنَّهُ إذ توضأ فأحسن الوضوء، ثُمَّ خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لَمْ يخط خطوةً إلا رفعت لَهُ بِهَا درجة، وحط عَنْهُ بِهَا خطيئة، فإذا صلى لَمْ تزَلَ الملائكة تصلي عَلِيهِ مَا دام فِي مصلاة: اللهم صل عَلِيهِ، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم فِي صلاة مَا انتظر الصلاة)) .

وعلى هَذَا؛ فَقَدْ تضاعف الصلاة فِي جماعة أكثر من ذَلِكَ.

إما بحسب شرف الزمان، كشهر رمضان وعشر ذي الحجة ويوم الجمعة.

وقد قَالَ ابن عُمَر: افضل الصلوات عِنْدَ الله صلاة الصبح يوم الجمعة.

وروي عَنْهُ مرفوعاً، والموقوف هُوَ الصحيح -: قاله الدارقطني.

وخرجه البزار بإسناد ضَعِيف، عَن أَبِي عبيدة بْن الجراح مرفوعاً، وزاد فِيهِ:

((ولا أحسب من شهدها منكم إلا مغفوراً لَهُ)) .

أو شرف المكان، كالمسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى، كما صح عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:((صلاة فِي مسجدي هَذَا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام)) .

ص: 17

وخرج ابن ماجه من رِوَايَة أَبِي الخَطَّاب الدمشقي، عَن رزيق الألهاني، عَن أَنَس، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((صلاة الرَّجُلُ فِي بيته بصلاة، وصلاته فِي مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته فِي المسجد الَّذِي يجمع فِيهِ بخمسمائة صلاة، وصلاته فِي المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته فِي مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاته فِي المسجد الحرام بمائة ألف صلاة)) .

وقد سبق الكلام عَلَى إسناده فِي ((بَاب: الصلاة فِي مسجد السوق)) . والله أعلم.

وقد روي عَن ابن عَبَّاس من طريقين فيهما ضعف، أن مضاعفة الخمس وعشرين درجة لأقل الجماعة - وهي اثنان، وفي رِوَايَة عَنْهُ: ثَلَاثَة -، وما زاد عَلَى ذَلِكَ إلى عشرة آلاف كَانَ لكل واحد من الدرجات بعدد من صلى معهم.

وروي بإسناد فِيهِ نظر، عَن كعب، أَنَّهُ قَالَ لعمر بْن الخَطَّاب: إنه إذا صلى اثنان كَانَتْ صلاتهما بخمس وعشرين، وإذا كانوا ثلاثة فصلاتهم بخمسة وسبعين، وكانت ثلاثمائة، فإذا كانوا خمسة خمسة الثلاثمئة، فكانت ألفاً وخمسمائة، فإذا كانوا ستة سدست ألفاً وخمسمائة، فكانت تسعة آلاف، فإذا كانوا مائة فلو اجتمع الكتاب والحساب مَا أحصوا ماله من التضعيف.

ص: 18

ثُمَّ قَالَ لعمر: لَوْ لَمْ يكن مِمَّا أنزل الله عَلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] ثَلَاثَة وثمانين سَنَة لكنت مصدقاً. فَقَالَ عُمَر: صدقت.

خرجه أبو موسى المديني فِي ((كِتَاب الوظائف)) بإسناده.

وخرج فِيهِ أحاديث أخر مرفوعة وموقوفة فِي هَذَا المعنى.

وروى - أيضاً - بإسناد جيد، عَن كعب، قَالَ: أجد فِي التوراة أن صلاة الجماعة تضاعف بعدد الرجال درجة، إن كانوا مائة فمائة، وإن كانوا ألفاً فألف درجة.

وخرج الطبراني وغيره من رِوَايَة عَبْد الرحمن بْن زياد، عَن قباث بْن أشيم، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((صلاة الرجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عِنْدَ الله من صلاة أربعة تترى، وصلاة أربعة يؤمهم أحدهم أزكى عِنْدَ الله من صلاة ثمانية تترى، وصلاة ثمانية يؤم أحدهم أزكى عِنْدَ الله من صلاة مائة تترى)) .

وخرجه البزار - أيضاً - بمعناه.

وفي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي خرجه البخاري: ((صلاة الرَّجُلِ فِي الجماعة تضعيف)) ، وَهُوَ يدل عَلَى أن صلاة المرأة لا تضعف فِي الجماعة؛ فإن صلاتها فِي بيتها خير لها وأفضل.

ص: 19

وروى بقية، عَن أَبِي عَبْد السلام، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر - مرفوعاً -:

((صلاة المرأة وحدها تفضل عَلَى صلاتها فِي الجمع خمساً وعشرين درجة)) .

خرجه أبو نعيم فِي ((تاريخ أصبهان)) .

وَهُوَ غريب جداً، وروايات بقية عَن مشايخه المجهولين لا يعبأ بِهَا.

وقد احتج كثير من الفقهاء بأن صلاة الجماعة غير واجبة بهذه الأحاديث الَّتِيْ فيها ذكر تفضيل صلاة الجماعة عَلَى صلاة الفذ، وقالوا: هِيَ تدل عَلَى أن صلاة الفذ صحيحة مثاب عَلَيْهَا. قالوا: وليس المراد بذلك صلاة الفذ إذا كَانَ لَهُ عذر فِي ترك الجماعة؛ لأن المعذور يكتب لَهُ ثواب عمله كله، فعلم أن المراد بِهِ غير المعذور.

وهذا استدلال لا يصح، وإنما استطالوا بِهِ عَلَى داود وأصحابه القائلين بأن صلاة الفذ لغير عذر باطلة، فأما من قَالَ: إنها صحيحه، وأنه آثم بترك حضور الجماعة، فإنه لا يبطل قوله بهذا، بل هُوَ قائل بالأحاديث كلها، جامع بينها، غير راد لشيء مِنْهَا.

ثُمَّ قولهم: الحَدِيْث محمول عَلَى غير المعذور، قَدْ يمنع.

وقولهم: إن المعذور يكتب لَهُ مَا كَانَ يعمل.

جوابه: أن كتابة مَا كَانَ يعمل لسبب آخر، وَهُوَ عمله المتقدم الَّذِي قطعه عَنْهُ عذره، فأما صلاة الفذ فِي نفسها فلا يزيد تضعيفها عَلَى ضعف واحد من صلاة الجماعة، سواء كَانَ معذوراً أو غير معذور، ولهذا لَوْ كَانَ المصلي فذاً لَهُ عذر، ولم يكن لَهُ عادة بالصلاة فِي حال عدم العذر

ص: 20

جماعة، لَمْ يكتب لَهُ سوى صلاةٍ واحدةٍ.

فإن قيل: يلزم من القول بوجوب الجماعة أن تكون شرطاً للصلاة، وأنْ لا تصح بدونها، كما قلتم فِي واجبات الصلاة كالتسبيح فِي الركوع والسجود، وأنه تبطل بتركه عمداً؛ لكونه واجباً، ولأن القاعدة: أن ارتكاب النهي فِي العبادة إذا كَانَ لمعنى مختص بِهَا أَنَّهُ يبطلها، مثل الإخلال بالطهارة والاستقبال، فكذلك الجماعة.

قيل: قَدْ اعترف طائفة من أصحابنا بأن القياس يقتضي كون الجماعة شرطاً، لما ذكر، لكن الإمام أحمد أخذ بالنصوص كلها، وهي دالة عَلَى وجوب الجمع، وعلى أنها ليست شرطاً، فعلم بذلك أَنَّهُ لا يرى أن كل ارتكاب نهي فِي العبادة يكون مبطلاً لها، وسواء كَانَ لمعنى مختص بِهَا كالجماعة، أو لمعنى غير مختص.

ولهذا؛ تبطل الصلاة بكشف العورة، وَهُوَ لمعنى غير مختص بالصلاة، وفي بطلانها فِي المكان المغضوب والثوب المغضوب والحرير عَنْهُ روايتان، وقد يجب فِي العبادات مَا لا تبطل بتركه، كواجبات الحج.

وما دلت عَلِيهِ الأحاديث من القول بوجوب الجماعة فِي الصلوات المكتوبات، وأنها تصحّ بدونها دليل واضح عَلَى بطلان قَوْلِ عَن قَالَ: إن النهي يقتضي الفساد بكل حال، أو أن ذَلِكَ يختص بالعبادات، أو أَنَّهُ يختص بما إذا كَانَ النهي لمعنى يختص

بالعبادة؛ فإن هَذَا كله غير مطرد. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 21

‌31 - بَابُ

فَضْلِ صَلاةِ الفَجْرِ فِي جَمَاعَةِ

فِيهِ ثَلَاثَة أحاديث:

الأول:

ص: 22

648 -

حَدَّثَنَا أبو ايمان: أنا شعيب، عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: أخبرني سَعِيد بْن المُسَيِّب وأبو سَلَمَة بْن عَبْد الرحمان، أن أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول:

((تفضل صلاة الجميع صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءاً، وتجمتع ملائكة النهار فِي صلاة الفجر)) . ثُمَّ يَقُول أبو هُرَيْرَةَ: فاقرءوا إن شئتم: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 78] .

ص: 22

649 -

قَالَ شعيب: وحدثني نَافِع عَن عَبْد الله بْن عُمَر، قَالَ: تفضلها بسبعٍ وعشرين درجةً.

قَدْ سبق فِي الباب الماضي أول حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا، بلفظ آخر، وبقية الحَدِيْث قَدْ ذكرناه فيما تقدم فِي ((بَاب: فضل صلاة العصر)) ، وذكرنا قول من قَالَ: إن هَذَا الفضل - وَهُوَ اجتماع الملائكة فِي صلاة الفجر، وفي الحَدِيْث الآخر: وفي صلاة العصر - يختص

ص: 22

بالجماعات، كما أشار إِلَيْهِ البخاري هاهنا، وَهُوَ الَّذِي رجحه ابن عَبْد البر وغيره.

ويشهد لَهُ: مَا رواه أبو نعيم فِي ((كِتَاب الصلاة)) لَهُ: حَدَّثَنَا هِشَام بْن سعد: ثنا صالح بْن جبير الأزدي، عَن رَجُل من أهل الشام، قَالَ: صليت وراء معاذ ابن جبل الصبح، فلما انصرف قَالَ: إن هذه الصلاة مقبولة مشهودةٌ، يحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار، ويطلع الله فيها عَلَى عباده فيغفر لهم، فارغبوا فيها، واشهدوها، واحضروها.

وحديث ابن عُمَر تقدم فِي الباب الماضي، عَنْهُ مرفوعاً، مَعَ الكلام عَلِيهِ.

الحَدِيْث الثاني:

قَالَ:

ص: 23

650 -

حَدَّثَنَا عُمَر بْن حفص: ثنا أَبِي، قَالَ: ثنا الأعمش، قَالَ: سَمِعْت سالماً، قَالَ: سَمِعْت أم الدرداء تَقُول: دَخَلَ عَلِيّ أبو الدرداء وَهُوَ مغضب، فَقُلْت: مَا أغضبك؟ فَقَالَ: والله مَا أعرف من أمر مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم شيئاً، إلا أنهم يصلون جميعاً.

وليس فِي هَذَا الحَدِيْث ذكر للجماعة فِي صلاة الفجر بخصوصها، وإنما فِيهِ أن الصلاة فِي الجماعة من أمر مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ودينه وسرعه، فهو كقول ابن مسعودٍ: إن الله شرع لنبيه سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى. وقد تقدم ذكره.

وفي رِوَايَة للأمام أحمد فِي هَذَا الحَدِيْث: ((إلا الصلاة)) .

ص: 23

وهذا بخلاف قَوْلِ أَنَس: مَا أعرف شيئاً مِمَّا كَانَ عَلَى عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.

قيل الصلاة؟ قَالَ: أليس قَدْ صنعتم ما صنعتم فيها؟

وقد خرجه البخاري فِي موضع آخر.

وخرجه - أيضاً - بلفظ آخر، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ - وَهُوَ يبكي -: لا أعرف شيئاً مِمَّا أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قَدْ ضيعت.

وأشار أَنَس إلى مَا أحدثه بنو أمية من تضييع مواقيت الصلاة، وكان أبو الدرداء قَدْ توفى قَبْلَ ذَلِكَ فِي زمن معاوية.

يبين هَذَا: مَا خرجه الإمام أحمد من رِوَايَة ثابت، عَن أَنَس، قَالَ: مَا أعرف فيكم اليوم شيئاً كُنْتُ أعهده عَلَى عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ليس قولكم: لا إله إلا الله. قُلتُ: يَا أَبَا حَمْزَة الصلاة؟ قَالَ: قَدْ صليتم حِينَ تغرب الشمس، أفكانت تلك صلاة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟

وفي رِوَايَة للأمام أحمد من حَدِيْث عُثْمَان بْن سعد، عَن أَنَس، قَالَ: أو ليس قَدْ علمت مَا قَدْ صنع الحجاج فِي الصلاة؟!

وكان هَذَا الإنكار عَلَى الأمراء، كما رَوَى أبو إِسْحَاق، عَن معاوية بْن قرة، قَالَ: دخلت أنا ونفر معي عَلَى أنس بْن مَالِك، فَقَالَ: مَا أمراؤكم هؤلاء عَلَى شيء مِمَّا كَانَ عَلِيهِ مُحَمَّد وأصحابه، إلا أنهم يزعمون أنهم يصلون ويصومون رمضان.

ص: 24

الحَدِيْث الثالث:

ص: 25

651 -

ثنا مُحَمَّد بْن العلاء: ثنا أبو أسامة، عَن بريد بْن عَبْد الله، عَن أَبِي بردة، عَن أَبِي موسى، قَالَ: قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ((أعظم النَّاس أجراً فِي الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى، والذي ينتظر الصلاة حَتَّى يصليها مَعَ الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثُمَّ ينام)) .

وهذا الحَدِيْث - أيضاً - إنما يدل عَلَى فضل المشي إلى المسجد من المكان البعيد، وأن الأجر يكثر ويعظم بحسب بعد المكان عَن المسجد، وعلى فضل السبق إلى المسجد فِي أول الوقت، وانتظار الصلاة فِيهِ مَعَ الإمام.

وقد ذكرنا فيما سبق: أن هَذَا كله مِمَّا تضاعف بِهِ الصلاة فِي الجماعة، وتزداد بِهِ عَلَى صلاة الفذ فضلاً وأجراً عِنْدَ الله عز وجل، وليس يختص ذَلِكَ بصلاة الفجر دون غيرها من الصلوات.

ص: 25

‌32 - بَابُ

فَضْلِ التَّهْجِيرِ إلى الظُّهْرِ

ص: 26

652 -

حَدَّثَنِي قتيبة، عَن مالك، عَن سمي مَوْلَى أَبِي بَكْر، عَن أَبِي صالح السمان، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:((بينما رَجُل يمشي بطريق وجد غصن شوكٍ عَلَى الطريق فأخره، فشكر الله لَهُ، فغفر لَهُ)) .

ص: 26

653 -

ثُمَّ قَالَ: ((الشهداء خمس: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم والشهيد فِي سبيل الله)) . وقَالَ: ((لَوْ يعلم النَّاس مَا فِي النداء والصف الأول، ثُمَّ لَمْ يجدوا إلأا أن يستهموا عَلِيهِ لاستهموا عَلِيهِ)) .

ص: 26

654 -

((ولو يعلمون مَا فِي التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون مَا فِي العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً)) .

إنما ساق الحَدِيْث بتمامه؛ لأنه أولى من اختصاره وتقطيعه، وإن كَانَ ذَلِكَ جائزاً كما سبق ذكره، واقتدى بمالك رحمه الله؛ فإنه ساقه بتمامه فِي ((كِتَاب الصلاة)) من ((الموطأ)) هكذا.

والكلام عَلَى إزاله الشوك من الطريق، وعلى عدد الشهداء يأتي فِي

ص: 26

موضعهما - إن شاء الله تعالى.

وأما مَا يتعلق بالصلاة من الحَدِيْث، فثلاثة أشياء:

أحدها: ذكر الاستهام عَلَى النداء والصف الأول، وقد سبق الكلام عَلَى ذَلِكَ فِي ((الأذان)) .

الثاني: الاستباق إلى التهجير.

والتهجير: التكبير إلى المساجد لصلاة الظهر، والهجير والهاجرة: نصف النهار.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حَدِيْث زيد بْن ثابت، قَالَ: كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يصلى الظهر بالهاجرة، ولم يكن يصلى صلاة أشد عَلَى أصْحَاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا. قَالَ: فَنَزَلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} البقرة: 238] .

وخرجه الإمام أحمد - أيضاً - والنسائي من حَدِيْث أسامة بْن زيد، قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهجير، ولا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس فِي قائلتهم وفي تجارتهم، فأنزل الله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} .

وفيه: دليل عَلَى تعجيل الظهر.

والثالث: المبادرة إلى شهود العتمة والصبح، وسيأتي القول فِيهِ فيما بعد - إن شاء الله تعالى.

وفيه: دليل عَلَى جواز تسمية العشاء العتمة، وقد تقدم ذكره.

ص: 27

‌33 - بَابُ

احْتِسَابِ الآثَارِ

ص: 28

655 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الله بْن حوشب: ثنا عَبْد الوهاب، قَالَ: حَدَّثَنِي حميد، عَن أَنَس، قَالَ: قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ((يَا بني سَلَمَة، ألا تحتسبون آثاركم؟)) .

ص: 28

656 -

وَقَالَ ابن أَبِي مريم: أنا يَحْيَى بْن أيوب: حَدَّثَنِي حميد: حَدَّثَنِي أَنَس، أن نبي سَلَمَة أرادوا أن يتحولوا عَن منازلهم فينزلوا قريباً من النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فكره النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن يعروا منازلهم، فَقَالَ:((ألا تحتسبون آثاركم؟)) .

قَالَ مُجَاهِد: خطاهم: آثار المشي فِي الأرض بأرجلهم.

ساقه أولا من حَدِيْث عَبْد الوهاب الثَّقَفِيّ، عَن حميد مختصراً ثُمَّ ذكر من رِوَايَة يَحْيَى بْن أيوب المصري - وَهُوَ ثقة، لكنه كثير الوهم - مطولاً، وزاد فِيهِ تصريح حميد بالسماع لَهُ من أَنَس، فإن حميداً قَدْ قيل: إنه لَمْ يسمع من أَنَس إلا قليلاً، وأكثر رواياته عَنْهُ مرسلة، وقد سبق ذكر ذَلِكَ، وما قاله الإسماعيلي فِي تسامح المصريين والشامين فِي لفظه ((حَدَّثَنَا)) وأنهم لا يضبطون ذَلِكَ.

وقد خرجه فِي ((كِتَاب الحج)) من طريق الفزاري، عَن حميد، عَن أَنَس،

ص: 28

قَالَ: أراد بنو سَلَمَة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، فكره رَسُول الله رضي الله عنه أن تعرى المدينة، فَقَالَ:((يَا بني، ألا تحتسبون آثاركم؟)) .

وبنو سَلَمَة: قوم من الأنصار، كَانَتْ دورهم بعيدة من المسجد، فأرادوا أن يتحولوا إلى قرب المسجد، فأمرهم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بملازمة دورهم، وأخبرهم أن خطاهم يكتب لهم أجرها فِي المشي إلى المسجد.

وخرج مُسْلِم فِي ((صحيحه)) من حَدِيْث أَبِي الزُّبَيْر، عَن جابر، قَالَ: كَانَتْ دارنا نائيةً من المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقترب من المسجد، فنهانا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:((إن لكم بكل خطوةٍ درجة)) .

ومن حَدِيْث أَبِي نضرة، عَن جابر، قَالَ: أراد بنو سَلَمَة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، والبقاع خالية. قَالَ: فبلغ ذَلِكَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:((يَا بني سَلَمَة، دياركم تكتب آثاركم)) . فقالوا: مَا يسرنا أنا كنا تحولنا.

وقوله: ((دياركم)) بفتح الراء عَلَى الإغراء، أي: الزموا دياركم.

وخرجه الترمذي من حَدِيْث أَبِي سُفْيَان السعدي، عَن أَبِي نضرة، عَن أَبِي سَعِيد، قَالَ: كَانَتْ بنو سَلَمَة فِي ناحية المدينة، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد، فَنَزَلت هذه الآية:{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12]، فقام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم:((إن آثاركم تكتب)) ، فَلَمْ ينتقلوا.

وأبو سُفْيَان، فِيهِ ضعف.

والصحيح: رِوَايَة مسلمٍ، عَن أَبِي نضرة، عَن جابر، وكذا قاله

ص: 29

الدارقطني وغيره.

وخرج ابن ماجه من رِوَايَة سماك، عَن عَكْرِمَة، عَن ابن عَبَّاس، قَالَ: كَانَتْ الأنصار بعيدةً منازلهم من المسجد، فأرادوا أن يقربوا، فَنَزَلت:{نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} . قَالَ: فثبتوا.

وقد ذكر البخاري عَن مُجَاهِد، أَنَّهُ فسر الآثار - يعني: فِي هذه الآية - بالخُطا، وزاد - أيضاً - بقوله: آثار المشي فِي الأرض بأرجلهم.

وفي حَدِيْث أَنَس: فكره رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أن يعروا المدينة أو منازلهم.

يعني: يخلوها فتصير عراةً من الأرض.

والعراء: الفضاء الخالي من الأرض، ومنه: قوله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ}

[الصافات: 145] .

وروى يَحْيَى بْن سَعِيد الأنصاري هَذَا الحَدِيْث، عَن حميد، عَن أَنَس، وَقَالَ: فكره أن يعروا المسجد.

قَالَ الإمام أحمد وهم فِيهِ. إنما هُوَ: كره أن يعروا المدينة.

وقد دلت هذه الأحاديث عَلَى أن المشي إلى المساجد يكتب لصاحبه أجرهُ، وهذا مِمَّا تواترت السنن بِهِ.

وقد سبق حَدِيْث أَبِي موسى:

ص: 30

((أعظم النَّاس أجراً فِي الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى)) .

وفي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم،:((وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة)) .

وقد خرجه البخاري فِي موضع آخر.

وسبق - أيضاً - حَدِيْث أَبِي صالح، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ.

وفي ((المسند)) و ((سنن أَبِي داود)) وابن ماجه، عَن عَبْد الرحمن بْن سعد، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجراً)) .

وفي ((صحيح مُسْلِم)) عَن أَبِي بْن كعب، قَالَ: كَانَ رَجُل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد مِنْهُ، وكان لا تخطئه صلاة. قَالَ: فَقِيلَ لَهُ - أو قُلتُ لَهُ -: لَوْ اشتريت حماراً تركبه فِي الظلماء أو الرمضاء؟ قَالَ: مَا يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لِي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم:((قَدْ جمع الله لَكَ ذَلِكَ كله)) .

وفي رِوَايَة لَهُ - أيضاً -: فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ((إن لَكَ مَا احتسبت)) .

وهذا يدل عَلَى أَنَّهُ ثياب عَلَى المشي فِي رجوعه من المسجد إلى منزله.

وفي ((المسند)) و ((صحيح ابن حبان)) عَن عَبْد الله بْن عَمْرِو، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ((من راح إلى المسجد جماعة فخطوتاه: خطوة تمحو سيئة،

ص: 31

وخطوة تكتب حسنة، ذاهباً وراجعاً)) .

وهذا المطلق قَدْ ورد مقيداً فِي حَدِيْث أَبِي صالح، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي خرجه البخري فيما مضى.

وسيأتي بقيدين:

أحدهما: أن يخرج من بيته عَلَى طهرٍ قَدْ أحسنه وأكمله.

والثاني: أن لا يخرج إلا إلى الصلاة فِي المسجد، فلو خرج لحاجة لَهُ وكان المسجد فِي طريقه فدخل المسجد فصلى ولم يكن خروجه لذلك لَمْ يحصل لَهُ هَذَا الأجر الخاص.

وكذلك لَوْ خرج من بيته غير متطهر، لكنه يكتب لَهُ بذلك أجر، غير أن هَذَا الأجر الخاص - وهو رفع الدرجات وتكفير السيئات - لا يحصل بذلك.

وأعلم أن الدار القريبة من المسجد أفضل من الدار البعيدة، لكن المشي من الدار البعيدة أفضل.

وفي ((المسند)) بإسناد منقطع، عَن حذيفة، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((فضل الدار القريبة من المسجد عَلَى الدار الشاسعة كفضل الغازي على القاعد)) .

ص: 32

‌34 - بَابُ

فَضْلِ صلاةِ العشاءِ فِي الجَماعةِ

ص: 33

657 -

حَدَّثَنَا عُمَر بْن حفص، قَالَ: ثنا أَبِي، ثنا الأعمش: حَدَّثَنِي أبو

صالح، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس صلاة أثقل عَلَى المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون مَا فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم، ثُمَّ آمر رجلاً يؤم النَّاس، ثُمَّ آخذ شعلاً من نارٍ فأحرق عَلَى من لا يخرج إلى الصلاة وَهُوَ يقدر)) .

قَدْ صرح الأعمش بسماع هَذَا الحَدِيْث من أَبِي صالح، وفي الغالب إنما يخرج البخاري من حَدِيْث الأعمش عَن أَبِي صالح ما صرح فِيهِ بالسماع، كهذا الحَدِيْث، والحديث الَّذِي خرجه قبله فِي فضل الجماعة.

والمراد بثقل هاتين الصلاتين عَلَى المنافقين: ثقل شهودهما فِي المساجد، وباقي الحَدِيْث يدل عَلَى ذَلِكَ.

ويدل عَلِيهِ - أيضا -: حَدِيْث أَبِي بْن كعب، قَالَ: صلى بنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الصبح، فَقَالَ:((أشاهد فلان؟)) قالوا: لا. قَالَ: ((أشاهد فلان؟)) قالوا: لا. قَالَ: ((إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات عَلَى المنافقين، ولو تعلمون مَا فيهما لأتيتهموهما ولو حبواً عَلَى الركب)) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان

ص: 33

فِي

((صحيحهما)) والحاكم.

وروى أبو داود الطيالسي: ثنا مُحَمَّد بْن أَبِي حميد، عَن أَبِي عَبْد الله القراظ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((لا يحافظ المنافق أربعين ليلةً عَلَى صلاة العشاء الآخرة فِي جماعة)) .

مُحَمَّد بْن أَبِي حميد، فِيهِ ضَعِيف.

وفي ((المسند)) عَن أَبِي بشر، عَن أَبِي عمير بْن أنس، عَن عمومة لَهُ من أصْحَاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((لا يشهدهما منافق)) - يعني: صلاة الصبح والعشاء.

قَالَ أبو بشر: يعني لا يواظب عَلَيْهِمَا.

وروى مَالِك من ((الموطإ)) عَن عَبْد الرحمان بْن حرملة، عَن سَعِيد بْن

المُسَيِّب، أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:((بيننا وبين المنافقين شهود صلاة العشاء والصبح، لا يستطيعونهما)) - أو نحو هَذَا.

وخرج ابن خزيمة والحاكم بإسناد صحيح، عَن ابن عُمَر، قَالَ: كنا إذا فقدنا الإنسان فِي صلاة العشاء الآخرة والصبح أسأنا بِهِ الظن.

وإنما ثقلت هاتان الصلاتان فِي المساجد عَلَى المنافقين أكثر من غيرهما من الصلوات لأن المنافين كما وصفهم الله فِي القرآن {إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النِّسَاء: 142]

ص: 34

والمرائي إنما ينشط للعمل إذا رآه النَّاس، فإذا لَمْ يشاهدوه ثقل عَلِيهِ العمل.

وقد كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يصلي هاتين الصلاتين فِي الظلام، فإنه كَانَ يغلس بالفجر غالباً ويؤخر العشاء الآخرة، ولم يكن فِي مسجده حينئذ مصباح، فَلَمْ يكن يحضر مَعَهُ هاتين الصلاتين إلا مؤمن يحتسب الأجر فِي شهودهما، فكان المنافقون يتخلفون عنهما ويظنون أن ذَلِكَ يخفى عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

وأيضاً؛ فالمشي إلى المساجد فِي هذين الوقتين أشق؛ لما فِيهِ من المشي فِي الظلم؛ ولهذا ورد التبشير عَلَى ذَلِكَ، بالنور التام يوم القيامة من وجوه متعددة.

من أجودها: مَا خرجه أبو داود والترمذي من حَدِيْث بريدة، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((بشر المشائين فِي الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) .

وَقَالَ إبراهيم النخعي: كانوا يرون أن المشي إلى الصلاة فِي الليلة الظلماء موجبة - يعني: توجب لصاحبها الجنة.

وفي ((صحيح مُسْلِم)) عَن عُثْمَان، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((من صلى العشاء فِي جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح فِي جماعة فكأنما صلى الليل كله)) .

وخرجه أبو داود والترمذي، وعندهما: ((ومن صلى العشاء والفجر

ص: 35

فِي جماعة، كَانَ لَهُ كقيام ليلة)) .

وهذا يبين أن الرواية الَّتِيْ قبلها إنما أريد بِهَا صلاة الصبح مَعَ العشاء فِي الجماعة.

قَالَ الإمام أحمد فِي رِوَايَة المروذي: الأخبار فِي الفجر والعشاء - يعني فِي الجماعة - أوكد وأشد.

وروى وكيع فِي ((كتابه)) بإسناده، عَن عُمَر، قَالَ: لأن أشهد الفجر والعشاء فِي جماعة أحب إلي من أن أحيي مَا بَيْنَهُمَا.

وعن أَبِي الدرداء، قَالَ: اسمعوا وبلغوا من خلفكم، حافظوا عَلَى العشاء والفجر، ولو تعلون مَا فيهما لأتيتموهما ولو حبواً.

وخرجه أبو نعيم الفضل بْن دكين - أيضاً.

وخرج بإسناده، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَوْ يعلم القاعدون مَا للمشائين إلى هاتين الصلاتين: صلاة العشاء الفجر لأتوهما ولو حبواً.

وروى مَالِك فِي ((الموطإ)) بإسناده، عَن عُمَر، قَالَ: لأن أشهد صلاة الصبح - يعني: فِي جماعة - أحب إلي من أن أقوم ليلة.

وروى الحافظ أبو موسى بإسناده عَن عقبة بْن عَبْد الغافر، قَالَ: صلاة العشاء فِي جماعة تعدل حجة، وصلاة الفجر فِي جماعة تعدل عمرة.

ويروى بإسناده منقطع، عَن شداد بْن أوس، قَالَ: من أحب أن يجعله الله من الذين يدفع الله بهم العذاب عَن أهل الأرض فليحافظ عَلَى هاتين الصلاتين فِي جماعة: العشاء الآخرة والصبح.

ص: 36

‌35 - بَابُ

اثْنَانِ فَما فوقهما جماعة

ص: 37

658 -

حدثنا مسدد: ثنا يزيد بْن زريع: ثنا خَالِد، عَن أَبِي قلابة، عَن مَالِك ابن الحويرث، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما)) .

وقد تقدم هَذَا الحَدِيْث فِي ((أبواب الأذان)) ، خرجه البخاري هناك من حَدِيْث الثوري، عَن خَالِد الحذاء، ولفظ حديثه: أتى رجلان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يريدان السفر، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:((إذا أنتما خرجتما فأذنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما)) .

وخرجه هناك - أيضاً - من حَدِيْث أيوب، عَن أَبِي قلابة، عَن مَالِك بْن الحويرث، قَالَ: أتيت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي نفر من قومي، فأقمنا عنده - فذكر الحَدِيْث -، وفي أخره:((فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكبركم)) .

فرواية أيوب تدل عَلَى أنهم كانوا جماعة، فلا يحتج بِهَا عَلَى أن الاثنين جماعة، وإنما يحتج لذلك برواية خَالِد الحذاء؛ فإنه ذكر فِي روايته أنهما كانا اثنين، وأن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أمرهما أن يؤمهما أكبرهما، فدل عَلَى أن الجماعة تنعقد باثنين.

ص: 37

وفي هَذَا المعنى أحاديث أخر:

مِنْهَا: حَدِيْث أَبِي بْن كعب، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((صلاة الرَّجُلُ مَعَ الرَّجُلُ أزكى من صلاته وحده، وصلاته مَعَ الرجلين أزكى من صلاته مَعَ الرَّجُلُ، وما كثر فهو أحب إلى الله)) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان فِي ((صحيحهما)) والحاكم.

ومنها: حَدِيْث أَبِي سَعِيد، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً يصلي وحده، فَقَالَ:((ألا رَجُل يتصدق عَلَى هَذَا فيصلي مَعَهُ؟)) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود، وهذا لفظه، وخرجه الترمذي بمعناه وحسنه، وقد سبق ذكره.

وخرج أبو داود فِي كِتَاب ((المراسيل)) معناه من حَدِيْث مكحول والقاسم ابن عَبْد الرحمن - مرسلاً -، وفي حديثهما زيادة: فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ((وهذه من صلاة الجماعة)) .

وخرجه الإمام أحمد من رِوَايَة الْقَاسِم، عَن أَبِي أمامة، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ولفظه:((هذان جماعة)) .

وفي إسناده ضعف، والمرسل أشبه.

وخرج ابن ماجه بإسناد ضَعِيف، عَن أَبِي موسى، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم،

ص: 38

قَالَ:

((الاثنان فما فوقهما جماعة)) .

وخرج البيهقي معناه من حَدِيْث أنس بإسناد ضَعِيف - أيضاً.

ولا نعلم خلافاً أن الجماعة تنعقد باثنين إذا كانا من أهل التكليف، ولو كَانَ المأموم امرأةً.

فإن كَانَ المأموم صبياً، فهل تنعقد بِهِ الجماعة؟

فِيهِ روايتان عَن أحمد فِي الصلاة المكتوبة، فأما النافلة فتنعقد كما صلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بالليل بابن عَبَّاس وحده.

وأكثر العلماء عَلَى أنه لا فرق بَيْن الفرض والنفل فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة والشافعي.

ص: 39

‌36 - بَابُ

من جلس فِي المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد

قَدْ تقدم فِي فضل انتظار الصلاة فِي المسجد من حَدِيْث أَبِي صالح، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، ومن حَدِيْث أَبِي بردة، عَن أَبِي موسى.

وخرج فِي هَذَا الباب ثَلَاثَة أحاديث:

الحَدِيْث الأول:

ص: 40

659 -

حدثنا عَبْد الله بْن مسلمة، عَن مَالِك، عَن أَبِي الزناد، عَن الأعرج، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:((الملائكة تصلي عَلَى أحدكم مَا دام فِي مصلاه، مَا لَمْ يحدث: اللهم اغفر لَهُ، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم فِي صلاة مادامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة)) .

دل هَذَا الحَدِيْث عَلَى فضل أمرين:

أحدهما: الجلوس فِي المصلى، وَهُوَ موضع الصلاة الَّتِيْ صلاها: والمراد بِهِ فِي المجلس دون البيت، وآخر الحَدِيْث يدل عَلِيهِ.

قَالَ ابن عَبْد البر: ولو صلت المرأة فِي مسجد بيتها وجلست فِيهِ

ص: 40

تنتظر الصلاة فَهِيَّ داخلة فِي هَذَا المعنى إذا كَانَ يحبسها عَن قيامها لأشغالها انتظار الصلاة.

((وإن الملائكة تصلي عَلِيهِ مَا لَمْ يحدث)) وقد فسر صلاة الملائكة عَلِيهِ بالدعاء لَهُ بالمغفرة والرحمة، والصلاة قَدْ فسرت بالدعاء، وفسرت بالثناء والتنويه بالذكر، ودعاء الملائكة بينهم لعبد هُوَ تنويه منهم بذكره وثناء عَلِيهِ بحسن عمله.

وقد قيل: صلاتهم عَلِيهِ مقبولة مَا لَمْ يحدث.

وقد اختلف فِي تفسير الحدث: هَلْ هُوَ الحدث الناقض للوضوء، أو الحدث باللسان من الكلام الفاحش ونحوه، ومثله الحدث بالأفعال الَّتِيْ لا تجوز؟ وقد أشرنا إلى هَذَا الاختلاف فِي ((كِتَاب الطهارة)) .

وذهب مَالِك وغيره إلى أَنَّهُ الحدث الناقض للوضوء، ورجحه ابن عَبْد البر؛ لأن المحدث وإن جلس فِي المسجد فهو غير منتظر للصلاة؛ لأنه غير قادر عَلَيْهَا.

والثاني: أن منتظر الصلاة لا يزال فِي صلاة مَا دامت الصلاة تحبسه.

وقد فسر ذَلِكَ بأنه ((لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة)) ، وهذا يشمل من دَخَلَ المسجد للصلاة فِيهِ جماعة قَبْلَ إقامة الصلاة فجلس ينتظر الصلاة، ومن صلى مَعَ الإمام ثُمَّ جلس ينتظر الصلاة الثانية.

وهذا من نوع الرباط فِي سبيل الله، كما قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:((ألا أدلكم عَلَى مَا يمحو الله بِهِ الخطايا ويرفع بِهِ الدرجات؟)) قالوا: بلى يَا رَسُول الله. قَالَ: ((إسباغ الوضوء عَلَى المكاره، وثرة الخطأ إلى المساجد، وانتظار الصلاة

ص: 41

بعد الصلاة؛ فذالكم الرباط، فذالكم الرباط)) .

خرجه مُسْلِم من حَدِيْث العلاء بْن عَبْد الرحمن، عَن أبيه، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ.

وقد ورد تقييد ذَلِكَ - أيضاً - بما لَمْ يحدث.

خرجه البخاري فِي ((أبواب نواقض الوضوء)) من رِوَايَة ابن أَبِي ذئب، عَن المقبري، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((لا يزال العبد فِي صلاة مَا كَانَ فِي المسجد ينتظر الصلاة، مَا لَمْ يحدث)) . فَقَالَ رَجُل أعجمي: مَا الحدث يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: الصوت - يعني: الضرطة.

وقد سبق الكلام عَلِيهِ فِي موضعه، وذكرنا اخْتِلَاف النَّاس فِي تفسير الحدث والمراد بِهِ.

وقد فسره أبو سَعِيد الْخُدرِيَّ كما فسره أبو هُرَيْرَةَ - أيضاً.

خرجه الإمام أحمد.

ومعنى كونه فِي الصلاة - والله أعلم -: أن لَهُ أجر المصلي وثوابه بحبس نفسه فِي المسجد للصلاة.

وليس فِي هَذَا الحَدِيْث، ولا فِي غيره من أحاديث الباب الاشتراط للجالس فِي مصلاه أن يكون مشتغلاً بالذكر، ولكنه أفضل وأكمل، ولهذا ورد فِي فضل من جلس فِي مصلاه بعد الصبح حَتَّى تطلع الشمس، وبعد العصر حَتَّى تغرب أحاديث متعددة.

ص: 42

وهل المراد بمصلاه نفس الموضع الَّذِي صلى فِيهِ أو المسجد الَّذِي صلى فِيهِ كله مصلى لَهُ؟ هَذَا فِيهِ تردد.

وفي ((صحيح مُسْلِم)) عَن جابر بر سمرة، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا صلى الفجر جلس فِي مصلاه حَتَّى تطلع الشمس حسناء.

وفي رِوَايَة لَهُ: كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مصلاه الَّذِي يصلي فِيهِ الصبح أو الغداة حَتَّى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام.

ومعلوم؛ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يكن جلوسه فِي الموضع الَّذِي صلى فِيهِ؛ لأنه كَانَ ينفتل إلى أصحابه عقب الصلاة ويقبل عليهم بوجهه.

وخرجه الطبراني، وعنده: كَانَ إذا صلى الصبح جلس يذكر الله حَتَّى تطلع الشمس.

ولفظة: ((الذكر)) غريبة.

وفي تمام حَدِيْث جابر بْن سمرة الَّذِي خرجه مُسْلِم وكانوا يتحدثون فيأخذون فِي أمر الجَاهِلِيَّة، فيضحكون ويتبسم.

وهذا يدل عَلَى أَنَّهُ لَمْ ينكر عَلَى من تحدث وضحك فِي ذَلِكَ الوقت، فهذا الحَدِيْث يدل عَلَى أن المراد بمصلاه الَّذِي يجلس فِيهِ المسجد كله.

وإلى هَذَا ذهب طائفة من العلماء، منهم: ابن بطة من أصحابنا وغيره.

وقد روي عَن أَبِي هُرَيْرَةَ مَا يخالف هَذَا.

رَوَى مَالِك فِي ((الموطإ)) عَن نعيم المجمر، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُول: إذا صلى أحدكم ثُمَّ جلس فِي مصلاه لَمْ تزل الملائكة تصلى عَلِيهِ، تَقُول: اللهم اغفر لَهُ، اللهم ارحمه، فإن قام من مصلاه فجلس فِي المسجد ينتظر الصلاة لَمْ تزل الملائكة تصلي عَلِيهِ فِي مصلاه حَتَّى يصلي.

فهذا يدل عَلَى أَنَّهُ إذا تحول من موضع صلاته من المسجد إلى غيره من المسجد انقطع حكم جلوسه فِي مصلاه، فإن جلس ينتظر الصلاة كَانَ حكمه حكم من ينتظرها، وصلت عَلِيهِ الملائكة - أيضاً -، فإن لَمْ يجلس منتظراً للصلاة فلا شيء لَهُ؛ لأنه لَمْ يجلس فِي مصلاه ولا هُوَ منتظر للصلاة.

قَالَ ابن عَبْد البر: إلا أنه لا يقال: إنه تصلي عَلِيهِ الملائكة.

يعني: عَلَى المتحول من مكانه وَهُوَ ينتظر الصلاة كما تصلي عَلَى الَّذِي فِي مصلاه ينتظر الصلاة.

يشير إلى أن الحَدِيْث المرفوع إنما فِيهِ صلاة الملائكة عَلَى من يجلس فِي مصلاه لا عَلَى المنتظر للصلاة.

ولكن قَدْ روي فِي حَدِيْث مرفوع، فروى عَطَاء بْن السائب، عَن أَبِي عَبْد الرحمان السلمي، عَن عَلِيّ، قَالَ: سَمِعْت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول: ((من صلى الفجر ثُمَّ جلس فِي

ص: 43

مصلاه صلت عَلِيهِ الملائكة، وصلاتهم عَلِيهِ: اللهم اغفر لَهُ، اللهم ارحمه، ومن ينتظر الصلاة صلت عَلِيهِ الملائكة، وصلاتهم عَلِيهِ: اللهم اغفر لَهُ، اللهم ارحمه)) .

خرجه الإمام أحمد.

وَقَالَ عَلِيّ بْن المديني: هُوَ حَدِيْث كوفي، وإسناده حسن.

ص: 44

وذكر ابن عَبْد البر - أيضاً - أنه يحتمل أن يكون بقاؤه فِي مصلاه شرطاً فِي انتظار الصلاة - أيضاً -، كما كَانَ شرطاً فِي الجلوس فِي مصلاه.

وهذا الَّذِي قاله بعيد، وإنما يمكن أن يقال فيمن صلى صلاة ثُمَّ جلس ينتظر صلاة أخرى، فأما من دَخَلَ المسجد ليصلي صلاة واحدة وجلس ينتظرها قَبْلَ أن تقام فأي مصلى لَهُ حَتَّى يشترط أن لا يفارقه؟

قَالَ: وقيامه من مجلسه، المراد بِهِ: قيامه لعرض الدنيا، فأما إذا قام إلى مَا يعينه عَلَى مَا كَانَ يصنعه فِي مجلسه من الذكر.

يعني: أَنَّهُ غير مراد، ولا قاطع للصلاة عَلِيهِ. والله سبحانه وتعالى أعلم.

الحَدِيْث الثاني:

ص: 45

660 -

حدثنا مُحَمَّد بْن بشار: ثنا يَحْيَى، عَن عُبَيْدِ الله، قَالَ: حَدَّثَنِي خبيب ابن عَبْد الرحمان، عَن حفص بْن عاصم، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((سبعة يظلهم الله فِي ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ فِي عُبَادَة ربه عز وجل، ورجل قلبه متعلق فِي المساجد، ورجلان تحابا فِي الله اجتمعا عَلَى ذَلِكَ وتفرقا عَلِيهِ، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال، فَقَالَ: إني أخاف الله، ورجل تصدق، أخفى حَتَّى لا تعلم شماله مَا تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) .

ص: 45

هذه السبعة اختلفت أعمالهم فِي الصورة، وجمعها معنى واحد، وَهُوَ مجاهدتهم لأنفسهم، ومخالفتهم لأهوائها، وذلك يحتاج أولاً إلى رياضة شديدة وصبر عَلَى الامتناع مِمَّا يدعو إليه داعي الشهوة أو الغضب أو الطمع، وفي تجشم ذَلِكَ مشقة شديدة عَلَى النفس، ويحصل لها بِهِ تألم عظيم، فإن القلب يكاد يحترق من حر نار الشهوة أو الغضب عِنْدَ هيجانها إذا لَمْ يطفء ببلوغ الغرض من ذَلِكَ، فلا جرم كَانَ ثواب الصبر عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إذا اشتد الحر فِي الموقف، ولم يكن للناس ظل يظلهم ويقيهم حر الشمس يومئذ، وكان هؤلاء السبعة فِي ظل الله عز وجل، فَلَمْ يجدوا لحر الموقف ألماً جزاءً لصبرهم عَلَى حر نار الشهوة أو الغضب فِي الدنيا.

وأول هذه السبعة: الإمام العادل.

وَهُوَ أقرب النَّاس من الله يوم القيامة، وَهُوَ عَلَى منبر من نور عَلَى يمين الرحمن عز وجل، وذلك جزاء لمخالفته الهوى، وصبره عَن تنفيذ مَا تدعوه إليه شهواته وطمعه وغضبه، مَعَ قدرته عَلَى بلوغ غرضه من ذَلِكَ؛ فإن الإمام العادل دعته الدنيا كلها إلى نفسها، فقالَ: إني أخاف الله رب العالمين. وهذا أنفع الخلق لعباد الله، فإنه إذا صلح صلحت الرعية كلها.

وقد روي أَنَّهُ ظل الله فِي الأرض؛ لأن الخلق كلهم يستظلون بظله، فإذا عدل فيهم أظله الله فِي ظله.

والثاني: الشاب الَّذِي نشأ فِي عُبَادَة الله عز وجل.

فإن الشباب شعبة

ص: 46

من الجنون، وَهُوَ داع للنفس إلى استيفاء الغرض من شهوات الدنيا ولذاتها المحظورة، فمن سلم مِنْهُ فَقَدْ سلم.

وفي الحَدِيْث: ((عجب ربك من شاب ليست لَهُ صبوة)) .

وفي بعض الآثار: يَقُول الله: ((أيها الشاب التارك شهوته، المتبذل شبابه من أجلي، أنت عندي كبعض ملائكتي)) .

والثالث: الرَّجُلُ المعلق قلبه بالمساجد.

وفي رِوَايَة: ((إذا خرج مِنْهُ حَتَّى يعود إِلَيْهِ)) ، فهو يحب المسجد ويألفه لعبادة الله فِيهِ، فإذا خرج مِنْهُ تعلق قلبه بِهِ حَتَّى يرجع إِلَيْهِ، وهذا إنما يحصل لمن ملك نفسه وقادها إلى طاعة الله فانقادت لَهُ؛ فإن الهوى إنما يدعو إلى محبة مواضع الهوى واللعب، إما المباح أو المحظور، ومواضع التجارة واكتساب الأموال، فلا يقصر نفسه عَلَى محبة بقاع العبادة إلا من خالف هواه، وقدم عَلِيهِ محبة مولاه.

وقد مدح عمار المساجد فِي قوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ - رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ - لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 36 - 38] .

وفي ((المسند)) و ((سنن ابن ماجه)) من حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((لا توطن رَجُل المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله بِهِ كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم)) .

ص: 47

وروى ابن لهيعة، عَن دراج، عَن أَبِي الهيثم، عَن أَبِي سَعِيد، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((من ألف المسجد ألفه الله)) .

ويروى عَن سَعِيد بْن المُسَيِّب، قَالَ: من جلس فِي المسجد فإنما يجالس ربه عز وجل.

الرابع: المتحابان فِي الله عز وجل.

فإن الهوى داع إلى التحاب فِي غير الله؛ لما فِي ذَلِكَ من طوع النفس أغراضها من الدنيا، فالمتحابان فِي الله جاهدا أنفسهما فِي مخالفة الهوى حَتَّى صار تحابهما وتوادهما فِي الله من غير غرض دنيوي يشوبه، وهذا عزيز جداً.

ولن يتحابا فِي الله حَتَّى يجتمعا فِي الدنيا فِي ظل الله المعنوي، وَهُوَ تأليف قلوبهما عَلَى طاعة الله، وإيثار مرضاته وطلب مَا عنده، فلهذا اجتمعا يوم القيامة فِي ظل الله الحسي.

وقوله: ((اجتمعا عَلَى ذَلِكَ وتفرقا عَلِيهِ)) يحتمل أَنَّهُ يريد: أنهما اجتمعا عَلَى التحاب فِي الله حَتَّى فرق بَيْنَهُمَا الموت فِي الدنيا أو غيبة أحدههما عَن الآخر، ويحتمل أَنَّهُ أراد أنهما اجتمعا عَلَى التحاب فِي الله، فإن تغير أحدهما عما كَانَ عَلِيهِ مِمَّا توجب محبته فِي الله فارقه الآخر بسبب ذَلِكَ، فيدور تحاببهما عَلَى طاعة الله وجوداً وعدماً.

قَالَ بعض السلف: إذا كَانَ لَكَ أخ تحبه فِي الله، فأحدث حدثاً فَلَمْ تبغضه فِي الله لَمْ تكن محبتك لله - أو هَذَا المعنى.

الخامس: رَجُل دعته أمرأة ذات منصب وجمال.

ويعني بالمنصب:

ص: 48

النسب والشرف والرفعة فِي الدنيا، فإذا اجتمع ذَلِكَ مَعَ الجمال فَقَدْ كمل الأمر وقويت الرغبة، فإن كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ هِيَ الطالبة الداعية إلي نفسها، كَانَ أعظم وأعظم، فإن الامتناع بعد ذَلِكَ كله دليل عَلَى تقديم خوف الله عَلَى هوى النفس، وصاحبه داخل فِي قوله تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] ، وهذا كما جرى ليوسف عليه السلام.

قَالَ عُبَيْدِ بْن عمير: من صدق الإيمان وبره إسباغ الوضوء فِي المكاره، ومن صدق الإيمان وبره أن يخلو الرَّجُلُ بالمرأة الجميلة فيدعها، لا يدعها إلا لله عز وجل.

ومثل هَذَا؛ إذا قَالَ: ((إني أخاف الله)) فهو صادق فِي قوله؛ لأن علمه مصدق لقوله، وقوله لها:((إني أخاف الله)) موعظة لها، فربما تنْزجر عَن طلبها، وترجع عَن غيها.

وقد وقع ذَلِكَ لغير واحدٍ، وفيه حكايات مذكروة فِي كِتَاب ((ذم الهوى)) وغيره.

السادس: رَجُل تصدق بصدقة فاجتهد فِي إخفائها غاية الاجتهاد حَتَّى لَمْ يعلم بِهِ إلا الله.

وضرب المثال لذلك عَلَى طريق المبالغة: ((حَتَّى لا تعلم شماله مَا تنفق يمينه)) .

وهذا دليل عَلَى قوة الإيمان والاكتفاء باطلاع الله عَلَى العبد وعلمه بِهِ، وفيه مخالفة للهوى ومجاهدة للنفس؛ فإنها تحب إظهار الصدقة، والتمدح بِهَا عِنْدَ الخلق، فيحتاج فِي إخفاء الصدقة إلى قوة شديدةٍ تخالف هوى النفس.

ص: 49

وخرج الإمام أحمد والترمذي من حَدِيْث أَنَس، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((لما خلق الله الأرض جعلت تميد، فخلق الجبال فألقاها عَلَيْهَا فاستقرت، فعجبت الملائكة من خلق الجبال، فقالوا: يَا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الجبال؟ قَالَ: نَعَمْ، الحديد. قالوا: يَا رب، فهل شيء من خلقك أشد من الحديد؟ قَالَ: نَعَمْ، النار، قالوا: يارب، فهل من خلقك شيء أشد من النار؟ قَالَ: نَعَمْ، الماء. قالوا: يارب، فهل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قَالَ: نَعَمْ، الريح. قالوا: يارب، فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قَالَ: نَعَمْ، ابن آدم؛ يتصدق بيمينه يخفيها من شماله)) .

السابع: رَجُل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.

فهذا رَجُل يخشى الله فِي سره، ويراقبه فِي خلوته، وافضلُ الأعمال خشية الله فِي السر والعلانية، وخشية الله فِي السر إنما تصدر عَن قوة إيمان ومجاهدةٍ للنفس والهوى، فإن الهوى يدعو فِي الخلوة إلى المعاصي، ولهذا قيل: إن من أعز الأشياء الورع فِي الخلوة.

وذكر الله يشمل ذكر عظمته وبطشه وانتقامه وعقابه؛ والبكاء الناشيء عَن هَذَا هُوَ بكاء الخوف، ويشمل ذكر جماله وكماله وبره ولطفه وكرامته لأوليائه بأنواع البر والألطاف، لا سيما برؤيته فِي الجنة، والبكاء الناشيء عَن هَذَا هُوَ بكاء الشوق.

ويدخل فِي - أيضاً -: رَجُل ذكر أن الله مَعَهُ حيثما كَانَ، فتذكر معيته وقربه واطلاعه عَلِيهِ حيث كَانَ يبكي حياء مِنْهُ، وَهُوَ من نوع الخوف - أيضاً.

ص: 50

وخرج الطبراني بإسناد فِيهِ ضعف، عَن أَبِي أمامة مرفوعاً:((ثَلَاثَة فِي ظل الله يوم لا ظل إلا ظله: رَجُل حيث توجه علم أن الله مَعَهُ)) .

وهذا الحَدِيْث يدل عَلَى أن هؤلاء السبعة يظلهم الله فِي ظله، ولا يدل عَلَى الحصر، ولا عَلَى أن غيرهم لا يحصل لَهُ ذَلِكَ؛ فإنه صح عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:((أن من أنظر معسراً أو وضع عَنْهُ أظله الله فِي ظله يوم لا ظل إلا ظله)) .

خرجه مُسْلِم من من حَدِيْث أَبِي اليسر الأنصاري، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

وخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه - من حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((من نفس عَن غريمه، أو محا عَنْهُ كَانَ فِي ظل العرش يوم القيامة)) .

وهذا يدل عَلَى أن المراد بظل الله: ظل عرشه.

الحَدِيْث الثالث:

ص: 51

661 -

حدثنا قتيبة: ثنا إسماعيل بْن جَعْفَر، عَن حميد، قَالَ: سئل أَنَس: هَلْ اتخذ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أخر ليلة صلاة العشاء إلى شطر الليل، ثمَّ أقبل علينا بوجهه بعدما صلى، فَقَالَ:((صلى النَّاس ورقدوا، ولم تزالوا فِي صلاة مَا انتظرتموها)) . قَالَ: فكأني أنظر إلى وبيص

ص: 51

خاتمه.

قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث فِي مواضع من ((الكتاب)) ، وَهُوَ بمعنى حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ المخرج فِي أول الباب.

ص: 52

‌37 - باب

فَضْلِ مَنْ غَدَا إلى المَسْجِدِ أَوْ رَاحَ

ص: 53

662 -

حدثنا عَلِيّ بْن عَبْد الله: ثنا يزيد بْن هارون: أنا مُحَمَّد بْن مطرف، عَن زيد بْن أسلم، عَن عَطَاء بْن يسار، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله لَهُ نزلاً من الجنة كُلَّمَا غدا أو راح)) .

الغدو: يكون من أول النهار، والرواح: يكون من آخره بعد الزوال، وقد يعبر بأحدهما عَن الخروج والمشي، سواء كَانَ قَبْلَ الزوال أو بعده، كما فِي قوله صلى الله عليه وسلم فِي الجمعة:((من راح فِي الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة)) عَلَى مَا حمله عَلِيهِ جمهور العلماء.

ومعنى الحَدِيْث: أن من خرج إلى المسجد للصلاة فإنه زائر الله تعالى، والله يعد لَهُ نزلاً من المسجد، كُلَّمَا انطلق إلى المسجد، سواء كَانَ فِي أول النهار أو فِي آخره.

والنزل: هُوَ مَا يعد للضيف عِنْدَ نزوله من الكرامة والتحفة.

قَالَ الحافظ أبو موسى المديني: وزيد فِيهِ فِي غيره هذه الرواية: ((كما لَوْ أن أحدكم زاره من يحب زيارته لاجتهد فِي إكرامه)) .

وخرج من طريق الطبراني بإسناده، عَن سَعِيد بْن زربي، عَن ثابت،

ص: 53

عَن أَبِي عُثْمَان، عَن سلمان، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((من توضأ فأحسن الوضوء ثُمَّ أتى المسجد فهو زائر الله، وحق عَلَى المزور أن يكرم الزائر)) .

قَالَ أبو موسى: ورواه سُلَيْمَان التيمي وداود بْن أَبِي هند وعوف، عَن أَبِي عُثْمَان، عَن سلمان - موقوفاً، لا مرفوعاً.

وسعيد بن زربي، فِيهِ ضعف.

وخرج - أيضاً - من طريق الطبراني بإسناده، عَن يَحْيَى بْن الحارث، عَن الْقَاسِم، عَن أَبِي أمامة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: ((الغدو والرواح إلى المساجد من الجهاد فِي سبيل الله)) .

وذكر مَالِك فِي ((الموطأ)) عَن سمي مَوْلَى أَبِي بَكْر، أن أبا بَكْر بْن عَبْد الرحمن كَانَ يَقُول: من غدا أو راح إلى المسجد لا يديد غيره؛ ليعلم خيراً أو يتعلمه، ثُمَّ رجع إلى بيته؛ كَانَ كالمجاهد فِي سبيل الله.

ومما يستدل بِهِ عَلَى أن قصد المساجد للصلاة فيها زيارة لله عز وجل: مَا خرجه ابن ماجه بإسناده فِيهِ ضعف، من حَدِيْث أَبِي الدرداء، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((إن أحسن مَا زرتم بِهِ الله فِي قبوركم ومساجدكم البياض)) .

ص: 54

‌38 - باب

إذا أُقيمَتِ الصَّلاةُ فَلَا صَلاةَ إِلاَّ المَكْتُوبَةُ

بوب عَلَى هذه الترجمة، ولم يخرج الحَدِيْث الَّذِي بلفظها، وقد خرجه مُسْلِم من حَدِيْث عَمْرِو بْن دينار، عَن عَطَاء بْن يسار، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)) .

وخرجه أبو داود موقوفاً.

وقد اختلف فِي رفعه ووقفه، واختلف الأئمة فِي الترجيح، فرجح الترمذي رفعه، وكذلك خرجه مُسْلِم فِي ((صحيحه)) ، وإليه ميل الإمام أحمد، ورجح أبو زُرْعَة وقفه، وتوقف فِيهِ يَحْيَى بْن معين، وإنما لَمْ يخرجه البخاري لتوقفه، أو لترجيحه وقفه. والله أعلم.

ص: 55

وقد خرجه الطبراني من رِوَايَة زياد بْن عَبْد الله، عَن مُحَمَّد بْن جحادة، عَن عَمْرِو، عَن عَطَاء، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((إذا أخذ المؤذن فِي الإقامة فلا صلاة إلا المكتوبة)) .

وهذا لفظ غريبٌ.

وقد روي من وجوه أخر عَن أَبِي هُرَيْرَةَ.

وخرجه الإمام أحمد من رِوَايَة ابن لهيعة: ثنا عياش بْن عباسٍ، عَن أَبِي تميم الزُّهْرِيّ، عن أبي هريرة، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا الَّتِيْ أقيمت)) .

وخرجه الطبراني بهذا اللفظ - أيضا - من رِوَايَة أَبِي صالح: ثنا الليث، عن

عَبْد الله بْن عياش بْن عَبَّاس القتباني، عَن أبيه، عَن أَبِي تميم، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ البخاري:

ص: 56

663 -

حدثنا عَبْد العزيز بْن عَبْد الله: ثنا إِبْرَاهِيْم بْن سعد، عَن أبيه، عَن حفص بْن عاصم، عَن عَبْد الله بْن مَالِك ابن بحينة، قَالَ: مر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم برجل.

وحدثني عَبْد الرحمان - هو: ابن بشر -: ثنا بهز بْن أسد: ثنا شعبة: أخبرني سعد بْن إِبْرَاهِيْم، قَالَ: سَمِعْت [حفص بْن عاصم، قَالَ: سَمِعْت] رجلاً من الأزد، يقال لَهُ: مَالِك ابن بحينة، أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رأى

ص: 56

رجلاً وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين، فلما انصرف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لاث بِهِ النَّاس، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم:((آلصبح أربعاً، آلصبح أربعاً؟)) .

تابعه: غندر ومعاذ، عَن شعبة، عَن مَالِك.

وَقَالَ ابن إِسْحَاق: عَن سعد، عَن حفصٍ، عَن عَبْد الله ابن بحينة.

وَقَالَ حماد: أنا سعد، عَن حفص، عَن مَالِك.

((لاث بِهِ النَّاس)) - اي: أحدقوا بِهِ، وأحاطوا حوله.

وقوله: ((آالصبح أربعاً)) - مرتين -: إنكار لصلاته وقد أقيمت صلاة الفجر، فكأنه صلى الصبح بعد الإقامة أربعاً.

وخرجه مُسْلِم، ولفظه: مر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم برجل يصلي وقد أقيمت الصلاة، فكلمه بشيء، لا ندري مَا هُوَ، فلما انصرفنا أحطنا بِهِ، نقول: ماذا قَالَ لَكَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: قَالَ لِي: ((يوشك أن يصلي احدكم الصبح أربعاً)) .

وفي رِوَايَة لَهُ - أيضاً -: أقيمت صلاة الصبح، فرأى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي والمؤذن يقيم، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:((أتصلي الصبح أربعاً؟)) .

فعلى هذه الرواية ورواية البخاري: الحَدِيْث من رِوَايَة ابن بحينة، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، سمعه مِنْهُ، وعلى الرواية الأول لمسلم: الحَدِيْث من رِوَايَة ابن

ص: 57

بحينة، عَن رَجُل غير مسمى من الصَّحَابَة، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

لكن؛ قَدْ روي أن الرَّجُلُ المصلي هُوَ ابن القشب، وَهُوَ ابن بحينة راوي الحَدِيْث.

كذلك رواه جَعْفَر بْن مُحَمَّد، عَن أبيه - مرسلاً.

وروي، عَن جَعْفَر، عَن أَبِيه، عَن عَبْد الله بْن مَالِك بْن بحينة.

والصحيح: المرسل -: قاله أبو حاتم الرَّازِي.

وقد أشار البخاري إلى الاختلاف فِي اسم ((ابن بحينة)) ، فخرجه من طريق إبراهيم بْن سعد، عَن أبيه، وسمى الصحابي:((عَبْد الله بْن مَالِك ابن بحينة)) ، وذكر أن ابن إسحاق قالَ: عن سعد ((عن عبد الله بن بحينة)) ، وخرجه من طريق شعبة، وسماه:((مَالِك ابن بحينة)) ، وذكر أن حماداً رواه عَن سعد كذلك، وحماد هُوَ: ابن سَلَمَة.

وكذا رواه أبو عوانة، عَن سعد - أيضاً.

وقيل عَنْهُ: ((عَن ابن بحينة)) غير مسمى.

والصحيح من ذَلِكَ: عَبْد الله بْن مَالِك ابن بحينة -: قاله أبو زُرْعَة والنسائي والترمذي والبيهقي وغيرهم.

وَهُوَ عَبْد الله بْن مَالِك

ص: 58

ابن القشب من أزد شنوءة، حليف لبني عَبْد المطلب، وبحينة أمه، وهي بحينة بِنْت الحارث بْن عَبْد المطلب -: قاله ابن المديني وابن سعد والترمذي والبيهقي وغيرهم.

وقد رَوَى هَذَا الحَدِيْث القعنبي، عَن إِبْرَاهِيْم بْن سعد، فَقَالَ فِيهِ: عَن عَبْد الله بْن مَالِك ابن بحينة، عَن أَبِيه، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

وقوله: ((عَن أَبِيه)) وهم -: قاله الإمام أحمد وابن معين وسليمان بْن داود الهاشمي ومسلم - ذكره فِي ((صحيحه)) - وغيرهم.

وقد روي مثل هَذَا الحَدِيْث عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من وجوهٍ متعددةٍ.

وخرجه مُسْلِم فِي ((صحيحه)) من حَدِيْث عاصم الأحوال، عَن عَبْد الله بْن سرجس، قَالَ: دَخَلَ رَجُل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم فِي صلاة الغداة، فصلى ركعتين فِي جانب المسجد، ثُمَّ دَخَلَ مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سلم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:((يَا فلان، بأي الصلاتين اعتددت، أبصلاتك وحدك، أم بصلاتك مَعَنَا؟)) .

ولا نعلم خلافاً أن إقامة الصلاة تقطع التطوع فيما عدا ركعتي الفجر، واختلفوا فِي ركعتي الفجر: هَلْ تقطعهما الإقامة.

فَقَالَتْ طائفة: تقطعهما الإقامة، لهذه الأحاديث الصحيحة،

ص: 59

روي عَن ابن عُمَر وأبي هُرَيْرَةَ.

وروي عَن عُمَر، أنه كَانَ يضرب عَلَى الصلاة بعد الإقامة.

وممن كره ذَلِكَ ونهى عَنْهُ: سَعِيد بْن جبير وميمون بْن مهران وعروة والنخعي.

وَقَالَ ابن سيرين: كانوا يكرهون أن يصلوهما إذا أقيمت الصلاة. وَقَالَ مَا يفوته من المكتوبة أحب إلي منهما.

وروى أبو حَمْزَة، قَالَ: قُلتُ لإبراهيم: لأي شيءٍ كرهت الصلاة عِنْدَ الإقامة؟ قَالَ: مخافة التكبيرة الأولى.

قَالَ وكيع: وتدرك فضيلة التكبيرة الأولى بإدراك التأمين مَعَ الإمام، واستدل بحديث بلال، أَنَّهُ قَالَ للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تسبقني بقول آمين.

وروي نحوه عَن أَبِي هُرَيْرَةَ.

ونص أحمد فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيْم بْن الحارث عَلَى أَنَّهُ إذا لَمْ يدرك التكبيرة مَعَ الإمام لَمْ يدرك التكبيرة الأولى.

وممن كره الصلاة بعد الإقامة: الشَّافِعِيّ وابن المبارك وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو خيثمة وسليمان بْن داود الهاشمي.

ولو خالف وصلى بعد الإقامة صلاةً، فهل تنعقد، أم تقع باطلة؟ فِيهِ لأصحابنا وجهان.

واختلفوا: هَلْ يصليهما وَهُوَ فِي البيت إذا سَمِعَ الإقامة؟

فَقَالَتْ طائفة: يصليهما فِي البيت.

وروى عَن ابن عُمَر، أنَّهُ دَخَلَ

ص: 60

المسجد والناس يصلون، فدخل بيت حَفْصَةَ فصلى ركعتين، ثُمَّ خرج إلى المسجد.

وروي عَنْهُ مرفوعاً، خرجه ابن عدي.

ورفعه لا يصح.

وروى أبو إِسْحَاق، عَن الحارث، عَن عَلِيّ، ان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يصلي الركعتين عِنْدَ الإقامة.

خرجه الإمام أحمد وابن ماجه.

والحارث، فِيهِ ضعف. وأبو إِسْحَاق، لَمْ يسمعه مِنْهُ.

وخرجه يعقوب بْن شيبة، ولفظه:((مَعَ الإقامة)) .

ورواه الْحَسَن بْن عمارة - وهو متروك -، عَن أَبِي إِسْحَاق، وزاد فِيهِ: أَنَّهُ صلى فِي ناحية المسجد والمؤذن يقيم.

ولم يتابع عَلَى ذَلِكَ.

ورخص مَالِك فِي الصلاة بعد الإقامة خارج المسجد إذا لَمْ يخش أن تفوته الركعة الأولى.

ونقل ابن منصور، عَن أحمد وإسحاق، أنهما رخصا فيهما فِي البيت.

قَالَ أحمد: وقد كرهه قوم، وتركه أحب إلي.

ونقل الشالنجي عَن أحمد: لا يصليهما فِي المسجد، ولا فِي البيت.

وَهُوَ قَوْلِ الشَّافِعِيّ، [.. ..] الهاشمي.

وقالت طائفة: يصليهما فِي المسجد - أيضاً -، وروي ذَلِكَ عَن ابن مَسْعُود، وأنه فعله بمحضرٍ من حذيفة

ص: 61

وأبي موسى الأشعري.

وعن أَبِي الدرداء، قَالَ: إني لأوتر وراء عمودٍ والإمام فِي الصلاة.

وعن الْحَسَن ومسروق ومجاهد ومكحول، وَهُوَ قَوْلِ حمادٍ والحسن بْن حي والأوزاعي وسعيد بْن عَبْد العزيز والثوري وأبي حنيفة وأصحابه.

لكن الأوزاعي وسعيد وأبو حنيفة قالوا: إنما يصليهما إذا رجا إدراك الركعة الأخيرة مَعَ الإمام، وإلا فلا يصليهما.

وروى وكيع، عَن سُفْيَان، أَنَّهُ يعتبر أن يرجو إدراك الركعة الأولى.

وروي ذَلِكَ عَن المقدام بْن معدي كرب الصحابي.

خرجه حرب، عَنْهُ بإسناده.

ونقل حرب، عَن إِسْحَاق، قَالَ: إذا دَخَلَ المسجد وقد أخذ المؤذن فِي الإقامة، فإن كَانَ الإمام افتتح الصلاة دخل معه وأن لم يكن افتتح الصلاة فلا بأس.

هَذَا كله حكم ابتداء التطوع بعد إقامة الصلاة، فإن كَانَ قَدْ ابتدأ بالتطوع قَبْلَ الإقامة، ثُمَّ أقيمت الصلاة، ففيه قولان:

أحدهما: أَنَّهُ يتم، وَهُوَ قَوْلِ الأكثرين، منهم: النخعي والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، حملاً للنهي عَلَى الابتداء دون الاستدامة.

والثاني: يقطعها، وَهُوَ قَوْلِ سَعِيد بْن جبير.

وحكي رِوَايَة عَن أحمد، حكاها أبو حفص، وهي غريبة، وحكاها غيره مقيدةً بما إذا خشي فوات الجماعة بإتمام صلاته، وحكي عَن أحمد

ص: 62

فِي إتمامها وقطعها روايتان.

وحكي عَن النخعي وأبي حنيفة وإسحاق الإتمام، وعن الشَّافِعِيّ القطع.

وَقَالَ مَالِك: إن أقيمت وَهُوَ راكع [.. ..] ولم يركع لكنه ممن يخف الركعتين قَبْلَ أن يركع الإمام صلاهما، وإلا قطع وصلى مَعَ لإمام؛ لأنه تحصل لَهُ الجماعة فِي جميع الركعات، ولا يبطل عَلِيهِ من التطوع كبير عملٍ.

وَقَالَ الثوري: إذا كَانَ يتطوع فِي المسجد، ثُمَّ أقيمت الصلاة فليسرع الصلاة حَتَّى يلحق الإمام. قَالَ: وإن دَخَلَ المسجد والمؤذن يقيم، فظن أَنَّهُ يؤذن، فافتتح تطوعاً، فإن تهيأ لَهُ أن يركع ركعتين خفيفتين فعل، وإلا قطع ودخل فِي الصلاة؛ فإن هذه صلاة ابتدأها بعد الإقامة.

هَذَا كله فِي صلاة التطوع حال إقامة الصلاة.

فأما إن كَانَ يصلي فرضاً وحده، ثُمَّ أقيمت تلك الصلاة، ففيه أربعة أقوال:

أحدها: أَنَّهُ يجوز لَهُ أن يتمه نفلاً، ثُمَّ يصلي مَعَ الجماعة، وهذا ظاهر مذهب أحمد، وأحد قولي الشَّافِعِيّ، ليحصل فضيلة الجماعة.

وعن أحمد رِوَايَة: أَنَّهُ يقطع صلاته ويصلي مَعَ الجماعة.

والثاني: يتمه فرضاً، وَهُوَ قَوْلِ الْحَسَن، والقول الثاني للشافعي، وَهُوَ رِوَايَة عَن أحمد، نقلها عَنْهُ أبو الحارث، وَقَالَ: إذا أتمها فهو مخير، إن شاء صلى مَعَ القوم، وإن شاء لَمْ يدخل معهم.

ص: 63

قَالَ أبو حفص: وعنه رِوَايَة أخرى: أَنَّهُ يجب أن يصلي معهم إذا حضر فِي مسجد أهله يصلون. قَالَ: وَهُوَ الأكثر فِي مذهبه. قَالَ: وبه وردت السنة.

قُلتُ: يشير إلى الإعادة مَعَ الجماعة.

وفي وجوب الإعادة واستحبابها عَنْهُ روايتان، وأكثر الأصحاب عَلَى أن الإعادة مستحبة غير واجبة. قالوا: وسواء كَانَ صلى منفرداً أو فِي جماعة.

قالوا: وإنما تجب الصلاة فِي جماعة لمن لَمْ يصل، فأما من صلى منفرداً فَقَدْ سقط عَنْهُ الفرض، فلا يجب عَلِيهِ إعادته؛ ولهذا إذا أعاده فِي جماعة كَانَتْ المعادةُ نفلاً، وفرضه الأولى -: نَصَّ عَلِيهِ أحمد.

والثالث: إن كَانَ صلى أكثر الفرض أتمه فرضاً، وإلا أتمه نفلاً، ثُمَّ صلى مَعَ الجماعة فرضه، تنزيلاً للأكثر منزلة الكل، وَهُوَ قَوْلِ النخعي ومالك وأبي حنيفة

والثوري.

وقالوا: إنَّه يصلي بعد ذَلِكَ مَعَ الجماعة مَا يلحق معهم تطوعاً.

والرابع: أَنَّهُ يحتسب بما صلى فريضة، ثُمَّ يتم باقي صلاته مَعَ الجماعة، ويفارقهم إذا تمت صلاته، وَهُوَ قَوْلِ طائفة من السلف، حكاه عنهم الثوري، ونقله حرب عَن إِسْحَاق، وحكاه إِسْحَاق عَن النخعي.

وهذا مبني عَلَى القول بجواز الانتقال من الإفراد إلى الائتمام، فأما إن أقيمت الصلاة وعليه فائتة، فمن قَالَ: لا يجب الترتيب بَيْن الفائته والحاضرة، فإنه يرى أن يصلي مَعَ الإمام فريضة الوقت الَّتِيْ يصليها الإمام، ثُمَّ يقضي الفائتة بعدها.

ص: 64

وأما من أوجب الترتيب، فاختلفوا:

فمنهم من أسقط الترتيب فِي هَذَا الحال لخشية فوات الجماعة؛ فإنها واجبة عندنا، والنصوص بإيجاب الجماعة آكد من النصوص فِي الترتيب، وحكي هَذَا رِوَايَة عَن أحمد، ورجحها بعض المتأخرين من أصحابنا.

والمنصوص عَن أحمد: أَنَّهُ يصلي مَعَ الإمام الحاضرة، ثُمَّ يقضي الفائتة، ثُمَّ يعيد الحاضرة؛ فإنه يحصل لَهُ بعد ذَلِكَ الترتيب، ولا يكون مصلياً بعد إقامة الصلاة غير الصلاة الَّتِيْ أقيمت.

ومن النَّاس من قَالَ: يفعل كذلك إذا خشي أن تفوته الجماعة بالكلية، فإن رجا أن يدرك مَعَ الإمام شيئاً من الصلاة فالأولى أن يشتغل بقضاء الفائتة، ثُمَّ يصلي الحاضرة مَعَ الإمام، ويقضي مَا سبقه بِهِ.

وهذا ضَعِيف؛ فإن الَّتِيْ صلاها فِي جماعة لَمْ يعتد بِهَا، بل قضاها، فَهِيَّ فِي معنى النافلة.

ومن أصحابنا من قَالَ: الأولى أن يشتغل بالقضاء وحده، ثُمَّ إن أدرك مَعَ الإمام الحاضرة، وإلا صلاها وحده.

وفي هَذَا مخالفة لقوله: ((فإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا الَّتِيْ أقيمت)) .

ومن أجاز أن يقتدي من يصلي فرضاً خلف من يصلي فرضاً آخر، أجاز أن يقتدي بالإمام فِي الفائتة، ثُمَّ يصلي الحاضرة بعدها، وأمر بذلك عَطَاء بْن أَبِي رباح.

وخرج البيهقي من رِوَايَة يَحْيَى بْن حَمْزَة: ثنا الوضين بْن عَطَاء، عَن محفوظ بْن علقمة، عَن ابن عائذ، قَالَ: دَخَلَ ثَلَاثَة من أصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم والناس فِي صلاة العصر، قَدْ فرغوا من صلاة الظهر، فصلوا مَعَ النَّاس، فلما فرغوا قَالَ بعضهم لبعض: كَيْفَ صنعتم؟ قَالَ أحدهم: جعلتها الظهر، ثُمَّ صليت العصر. وَقَالَ الآخر: جعلتها العصر، ثُمَّ صليت الظهر. وَقَالَ الآخر: جعلتها للمسجد، ثُمَّ جعلتها للظهر والعصر، فَلَمْ يعب بعضهم عَلَى بعضٍ.

وخرجه الجوزجاني: حَدَّثَنَا نعيم بْن حماد: ثنا بقية، عَن الوضين بْن عَطَاء، عَن يزيد بْن مرثد، قَالَ: دَخَلَ مسجد حمص ثَلَاثَة نفر من أصْحَاب

ص: 65

رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: شداد بْن أوس وعبادة بْن الصَّامِت وواثلة بْن الأسقع، والإمام فِي صلاة العصر، وهم يرون أنها الظهر، فَقَالَ أحدهم: هِيَ العصر، وأصلي الظهر. وَقَالَ الآخر: هذه لِي الظهر، وأصلي العصر. وَقَالَ الثالث: أصلي الظهر، ثُمَّ العصر، فَلَمْ يعب واحد منهم عَلَى صاحبيه.

ص: 66

‌39 - بَاب

حَدِّ المَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الجَمَاعَةَ

قوله: ((حد المريض)) ضبطه جماعة بالجيم المكسورة، والمعنى: اجتهاد المريض أن يشهد الجماعة، ومنهم من ضبطه بالحاء المهملة المفتوحة، وفسره بالعزم والحرص.

ابتدأ البخاري رحمه الله فِي ذكر الأعذار الَّتِيْ يباح معها التخلف عَن شهود الجماعة، فمنها: المرض، وَهُوَ عذر مبيح لترك الجماعة، ولهذا أمر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أبا بَكْر أن يصلي بالناس، وإنما خرج إلى الصلاة لما وجد من نفسه خفة.

وخروج المريض إلى المسجد ومحاملته أفضل، كما خرج النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يهادى بَيْن رجلين.

وقد قَالَ ابن مَسْعُود: ولقد كَانَ الرَّجُلُ يهادي بَيْن رجلين حَتَّى يقام فِي الصف.

ومتى كَانَ المريض لا يقدر عَلَى المشي إلى المسجد، وإنما يقدر أن يخرج محمولاً لَمْ يلزمه الخروج إلى الجماعة.

ولو وجد الزمن من يتطوع بحمله لَمْ تلزمه الجماعة، وفي لزوم الجمعة لَهُ بذلك وجهان لأصحابنا.

قَالَ ابن المنذر: ولا أعلم اختلافاً بَيْن أهل العلم أن للمريض أن يتخلف عَن الجماعات من أجل المرض.

ص: 67

خرج البخاري فِي هَذَا الباب حَدِيْث عَائِشَة فِي مرض النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من طريقين:

الأول:

قَالَ:

ص: 68

664 – حَدَّثَنَا عُمَر بْن حفص بْن غياث: ثنا أَبِي: ثنا الأعمش، عَن إِبْرَاهِيْم، عَن الأسود، قَالَ: كنا عِنْدَ عَائِشَة، فذكرنا المواظبة عَلَى الصلاة، والتعظيم لها. قَالَتْ: لما مرض النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مرضه الَّذِي مات فِيهِ، فحضرت الصلاة، فأوذن، فَقَالَ:((مروا أبا بَكْر فليصل بالناس)) . فَقِيلَ لَهُ: إن أبا بَكْر رَجُل أسيف، إذا قام مقامك لَمْ يستطع أن يصلي بالناس، وأعاد، فأعادوا لَهُ، فأعاد الثالثة، فَقَالَ:((إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بَكْر فليصل بالناس)) . فخرج أبو بَكْر فصلى، فوجد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة، فخرج يهادى بَيْن رجلين، حَتَّى كأني أنظر إلى رجليه تخطان الأرض من الوجع، فأراد أبو بَكْر أن يتأخر، فأوما إليه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن مكانك.

ثُمَّ أتي بِهِ حَتَّى جلس إلى جنبه.

فَقِيلَ للأعمش: وكان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يصلي وأبو بَكْر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أَبِي بَكْر؟ فَقَالَ برأسه: نَعَمْ.

روى أبو داود، عَن شعبة، عَن الأعمش بعضه.

ص: 68

وزاد أبو معاوية: جلس عَن يسار أَبِي بَكْر، فكان أبو بَكْر يصلي قائماً.

قَالَ الخطابي: الأسيف: الرقيق القلب، الَّذِي يسرع إليه الأسف والحزن.

قَالَ: ويهادى: يحمل، يعتمد عَلَى هَذَا مرة وعلى هَذَا مرة.

قَالَ: وقوله: ((صواحبات يوسف)) يريد النسوة اللاتي فتنه وتعنتنه.

انتهى.

وكانت عَائِشَة هِيَ الَّتِيْ أشارت بصرف الإمامة عَن أَبِي بَكْر؛ لمخافتها أن يتشاءم النَّاس بأول من خلف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي الإمامة، فكان إظهارها لرقة أَبِي بَكْر خشية أن لا يسمع النَّاس توصلاً إلى مَا تريده من صرف التشاؤم عَن أبيها. ففيه نوع مشابهة لما أظهره النسوة مَعَ يوسف عليه السلام مِمَّا لا حقيقة لَهُ توصلاً إلى مرادهن.

وكان قصد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم تقديم أَبِي بَكْر عَلَى النَّاس فِي أهم أمور الدين حَتَّى تكون الدنيا تبعاً للدين فِي ذَلِكَ.

وفي الحَدِيْث: دليل عَلَى أن تخلف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَن الخروج اولاً لشدة الوجع عَلِيهِ، فأنه لَمْ يمكنه الخروج بالكلية، فلما وجد من نفسه خفة فِي الألم خرج محمولاً بَيْن

رجلين، يعتمد عَلَيْهِمَا ويتوكأ، ورجلاه تخطان الأرض، فَلَمْ يستطع أن يمشي برجليه عَلَى الأرض لقوة وجعه، بل كَانَ يحمل حملاً.

ولما رأى أبو بَكْر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَدْ خرج أراد أن يتأخر تأدباً مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فأومأ إليه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن مكانك، أي: اثبت مكانك،

ص: 69

ثُمَّ أتي بالنبي صلى الله عليه وسلم حَتَّى أجلس إلى جانب أَبِي بَكْر.

وليس فِي هذه الرواية تعيين الجانب الَّذِي أجلس النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ من أَبِي بكرٍ: هَلْ هُوَ جانبه الأيمن أو الأيسر؟ وقد ذكر البخري أن أبا معاوية زاد فِي حديثه عَن الأعمش: ((فجلس عَن يسار أَبِي بَكْر)) .

وقد خرج البخاري فيما بعد عَن قتيبة، عَن أَبِي معاوية كذلك.

وخرجه – أَيْضاً – من رِوَايَة عَبْد الله بْن داود الخريبي، عَن الأعمش، ولفظه: فتأخر أبو بَكْر، وقعد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، وأبو بَكْر يسمع النَّاس التكبير.

[وذكر] أن محاضر بْن المورع رواه الأعمش كذلك.

وخرجه مُسْلِم من رِوَايَة زكيع وأبي معاوية، كلاهما عَن الأعمش، وفي حَدِيْث أَبِي معاوية عنده: فجاء رَسُول الله حَتَّى جلس عَن يسار أَبِي بَكْر.

وخرجه – أَيْضاً – من طريق عَلِيّ بْن مسهر وعيسى بْن يونس، كلاهما عَن الأعمش، وفي حديثهما: فأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى أجلس إلى جنبه.

وخرج إِسْحَاق بْن راهويه فِي ((مسنده)) ، عَن وكيع، عَن الأعمش

ص: 70

هَذَا الحَدِيْث، وَقَالَ فِيهِ: فجاء النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جلس عَن يمين أَبِي بَكْر، يقتدي بِهِ، والناس يقتدون بأبي بَكْر.

وهذه زيادة غريبةُ.

وقد خرج الحَدِيْث الإمام أحمد فِي ((مسنده)) ، عَن وكيع، ولم يذكر فِيهِ ذَلِكَ، بل قَالَ فِي حديثه: فجاء النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جلس إلى جنب أَبِي بَكْر، فكان أبو بَكْر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم، والناس يأتمون بأبي بَكْر.

وأما ذكر جلوسه عَن يسار أَبِي بَكْر، فتفرد بذلك أبو معاوية عَن الأعمش، وأبو معاوية وإن كَانَ حافظاً لحديث الأعمش خصوصاً، إلا أن ترك أصْحَاب الأعمش لهذه اللفظة عَنْهُ توقع الريبة فيها، حَتَّى قَالَ الحافظ أبو بَكْر بْن مفوز المعافري: إنها غير محفوظة، وحكاه عَن غيره من العلماء.

وأما رِوَايَة أَبِي داود الطيالسي، عَن شعبة، عَن الأعمش لبعض هَذَا الحَدِيْث، كما أشار إليه البخاري فإنه رَوَى بهذا الإسناد عَن عَائِشَة، قَالَتْ: من النَّاس من يَقُول: كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي الصف، ومنهم من يَقُول: كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم المقدم.

قَالَ البيهقي: هكذا رواه الطيالسي، عَن شعبة، عَن الأعمش، وراية الجماعة عَن الأعمش كما تقدم [عَلَى الإثبات والصحة] .

ص: 71

قُلتُ: قَدْ رَوَى غير واحد عَن شعبة، عَن الأعمش، عَن إِبْرَاهِيْم، عَن الأسود، عَن عَائِشَة، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم صلى خلف أَبِي بَكْر قاعداً.

وأما مَا ذكره حفص بْن غياث فِي روايته عَن الأعمش، أَنَّهُ قيل للأعمش: فكان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يصلي وأبو بَكْر يصلي بصلاته والناس يصلون بصلاة أَبِي بَكْر، فأشار برأسه: نَعَمْ، فإنه يشعر بأن هذه الكلمات ليست من الحَدِيْث الَّذِي أسنده الأعمش، عَن إِبْرَاهِيْم، عَن الأسود، عَن عَائِشَة، بل هِيَ مدرجة، وقد أدرجها أبو معاوية ووكيع فِي حديثهما عَن الأعمش.

ورواه [عَن همام] ، عَن الأعمش، فَلَمْ يذكر فِيهِ هَذَا الكلمات بالكلية، وهذا – أَيْضاً – يشعر بإدراجها.

وقد رَوَى عُرْوَةَ، عَن عَائِشَة، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أمر أَبَا بَكْر أن يصلي بالناس فِي مرضه، فكان يصلي بهم. قَالَ عُرْوَةَ: فوجد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة فخرج – فذكر معنى ذَلِكَ – أَيْضاً.

وهذا مدرج مصرح بإدراجه، وقد خرجه البخاري فيما بعد كذلك.

وروى الإمام أحمد: حَدَّثَنَا شبابة: ثنا شعبة، عَن سعد بْن إِبْرَاهِيْم، عَن عُرْوَةَ، عَن عَائِشَة، قَالَتْ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي مرضه: ((مروا أَبَا بَكْر أن يصلي بالناس)) – وذكر الحَدِيْث، وفي آخره: فصلى أبو بَكْر، وصلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خلفه قاعداً.

ص: 72

ولو كَانَتْ هذه الكلمات الَّتِيْ ذكرها الأعمش فِي حديثه فِي هَذَا الحَدِيْث عَن عَائِشَة، فكيف كَانَتْ تَقُول: من النَّاس من يَقُول: كَانَ أبو بَكْر المقدم بَيْن يدي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي الصف، ومنهم من يَقُول: كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم المقدم.

وكذلك قَالَ ابن أخيها الْقَاسِم بْن مُحَمَّد فقيه المدينة.

قَالَ عُمَر بْن شبة فِي ((كِتَاب أخبار المدينة)) : حَدَّثَنَا زيد بْن يَحْيَى أبو الحسين: ثنا صخر بْن جويرية، عَن عَبْد الرحمان بْن الْقَاسِم، أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح فِي اليوم الَّذِي مات فِيهِ فِي المسجد، جَاءَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بَكْر يصلي فجلس عِنْدَ رجليه، فمن النَّاس من يَقُول: كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم هُوَ المتقدم، وعظم الناس يقولون كَانَ أبو بَكْر هُوَ المتقدم.

قَالَ عُمَر بْن شبة: اختلف النَّاس فِي هَذَا، فَقَالَ بعضهم: صلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم خلف أَبِي بَكْر. وَقَالَ أخرون: بل كَانَ أبو بَكْر يأتم بتكبير النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ويأتم النَّاس بتكبير أَبِي بَكْر.

وَقَالَ أبو بَكْر بْن المنذر: اختلفت الأخبار فِي صلاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ خلف أبي بَكْر، ففي بعض الأخبار: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم صلى بالناس.

وفي بعضها: أن أَبَا بَكْر كَانَ المقدم. وقالت عَائِشَة: صلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبي بَكْر فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ. انتهى.

وهذا المروي عَن عَائِشَة، ان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم صلى خلف أَبِي بَكْر فِي مرضه مِمَّا يدل عَلَى أن هذه الألفاظ فِي آخر حَدِيْث الأعمش مدرجة، ليست من حَدِيْث عَائِشَة.

وقد رَوَى شبابة، عَن شعبة، عَن نعيم بْن أَبِي هند، عَن أَبِي وائل،

ص: 73

عَن مسروق، عَن عائشة، قَالَتْ: صلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم خلف أَبِي بَكْر فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ.

خرجه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان فِي ((صحيحه)) .

وَقَالَ الترمذي: حسن صحيح.

وخرجه الإمام أحمد والنسائي من رِوَايَة بَكْر بْن عيسى، عَن شعبة بهذا الإسناد، عَن عَائِشَة، أن أَبَا بَكْر صلى بالناس والنبي صلى الله عليه وسلم فِي الصف.

وقد رجح الإمام أحمد رِوَايَة بَكْر بْن عيسى عَلَى رِوَايَة شبابة، وذكر أنها مخالفة لها.

وقد يقال: ليست مخالفة لها؛ فإن المراد بالصف صف المأمومين، فهما إذن بمعنى واحد.

وروى هَذَا الحَدِيْث معتمر بْن سُلَيْمَان، عَن أبيه، عَن نعيم بْن أَبِي هند، عَن أَبِي وائل، أحسبه عَن مسروق، عَن عَائِشَة – فذكرت حَدِيْث مرض النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وصلاة أَبِي بَكْر. قَالَتْ: ثُمَّ أفاق رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت نوبة وبريرة فاحتملاه، فلما أحس أبو بَكْر بمجيئه أراد أن يتأخر، فأومأَ إليه أن اثبت. قَالَ: وجيء بنبي الله صلى الله عليه وسلم، فوضع بحذاء أَبِي بَكْر فِي الصف.

خرجه ابن حبان فِي ((صحيحه)) .

ومنعه من التأخر يدل عَلَى أَنَّهُ أراد أن يستمر عَلَى إمامته.

ص: 74

وخرجه ابن حبان – أَيْضاً – من طريق عاصم، عَن أَبِي وائل، عَن مسروق، عَن عَائِشَة، وزاد فِيهِ: فكان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وَهُوَ جالس، وأبو بَكْر قائم يصلي بصلاة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يصلون بصلاة أَبِي بَكْر.

ولكن عاصم، هُوَ ابن أَبِي النجود، ليس بذاك الحافظ.

وروى شعبة، عَن موسى بْن أَبِي عَائِشَة، عَن عُبَيْدِ الله بْن عَبْد الله بْن عُتْبَة، عَن عَائِشَة، أن أَبَا بَكْر صلى بالناس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الصف خلفه.

خرجه ابن حبان فِي ((صحيحه)) من طريق بدل بْن المحبر، عَن شعبة.

وبدل، وثقة غير واحد، وخرج لَهُ البخاري فِي ((صحيحه)) ، وإن تكلم فِيهِ الدراقطني.

خالفه فِيهِ أبو داود الطيالسي:

خرجه الإمام أحمد: حَدَّثَنَا أبو داود الطيالسي: ثنا شعبة بهذا الإسناد، عَن عَائِشَة، أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أمر أَبَا بَكْر أن يصلي بالناس فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ، فكان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بَيْن يدي أَبِي بَكْر يصلي بالناس قاعداً، وأبو بَكْر يصلي بالناس، والناس خلفه.

وكذا رواه زائدة، عَن موسى بْن أَبِي عَائِشَة.

وقد خرج حديثه البخاري فيما بعد بسياق مطول، وفيه: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم -

ص: 75

خرج بَيْن رجلين – أحدهما العباس – لصلاة الظهر – وذكر بقية الحَدِيْث بمعنى مَا رواه أبو معاوية ووكيع وغيرهما عَن الأعمش.

وقد ذكر ابن أَبِي حاتم فِي كِتَاب ((الجرح والتعديل)) لَهُ عَن أَبِيه، قَالَ: يريبني حَدِيْث موسى بْن أَبِي عَائِشَة فِي صلاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي مرضه. قُلتُ: كَيْفَ هُوَ؟ قَالَ: صالح الحَدِيْث. قُلتُ: يحتج بِهِ؟ قَالَ: يكتب حديثه.

قُلتُ: وقد اختلف عَلِيهِ فِي لفظه، فرواه شعبة، عَنْهُ، كما تقدم، أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم صلى فِي الصف خلف أَبِي بَكْر.

ورواه زائدة، واختلف عَنْهُ: فَقَالَ الأكثرون، عَنْهُ: إن أَبَا بَكْر كَانَ يصلي وَهُوَ قائم بصلاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قاعد، والناس يأتمون بصلاة أَبِي بَكْر.

ورواه عَبْد الرحمان بْن مهدي، عَن زائدة، وَقَالَ فِي حديثه: فصلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم خلف أَبِي بَكْر قاعداً، وأبو بَكْر يصلي بالناس وَهُوَ قائم يصلي.

وقد رجح الإمام أحمد رِوَايَة الأكثرين عَن زائدة عَلَى رِوَايَة ابن مهدي.

وليس ائتمام أَبِي بَكْر بالنبي صلى الله عليه وسلم صريحاً فِي أنه كَانَ مأموماً، بل يحتمل أَنَّهُ كَانَ يراعي فِي تلك الصلاة حال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وضعفه، وما هُوَ أهون عَلِيهِ، كما قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لعثمان بْن أَبِي العاص لما جعل إمام

ص: 76

قومه: ((اقتد بأضعفهم)) .

أي: راع حال الأضعف، وصل صلاةً لا تشق عليهم.

وقد اختلف العلماء: هَلْ كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إماماً لأبي بَكْر فِي هذه الصلاة، أو كَانَ مؤتماً بِهِ؟

وقد تقدم عَن عَائِشَة والقاسم بْن مُحَمَّد، أنهما ذكرا هَذَا الاختلاف، وأن الْقَاسِم قَالَ: عظم النَّاس يَقُول: أبو بَكْر كَانَ هُوَ المقدم – يعني: فِي الإمامة -، وعلماء أهل المدينة عَلَى هَذَا القول، وهم أعلم النَّاس بهذه القصة.

وذكر ابن عَبْد البر فِي ((استذكاره)) أن ابن الْقَاسِم رَوَى عَن مَالِك، عَن رَبِيعَة بْن أَبِي عَبْد الرحمان، أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خرج وَهُوَ مريض، وأبو بَكْر يصلي بالناس، فجلس إلى أَبِي بَكْر، فكان أبو بَكْر هُوَ الإمام، وكان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بصلاة أَبِي بَكْر، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:((مَا مات نبي حتى يؤمه رَجُل من أمته)) .

قَالَ ابن الْقَاسِم: قَالَ مَالِك: العمل عندنا عَلَى حَدِيْث رَبِيعَة هَذَا، وَهُوَ أحب إلي.

قَالَ سحنون: بهذا الحَدِيْث يأخذ ابن الْقَاسِم.

أما مذهب الشَّافِعِيّ وأحمد، فهو أن هذه الصلاة الَّتِيْ حكتها عَائِشَة كَانَ

رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هُوَ الإمام فيها لأبي بَكْر، ثُمَّ اختلفا:

فَقَالَ أحمد: كَانَ أبو بَكْر إماماً للناس – أَيْضاً -، فكانت تلك الصلاة بإمامين.

وَقَالَ الشَّافِعِيّ: بل كَانَ مأموماً، وَهُوَ الَّذِي ذهب إليه البخاري والنسائي.

ص: 77

وفرع عَلَى هَذَا الاختلاف مسألة الصلاة بإمامين، ومسألة الصلاة قاعداً أو قائماً خلف الإمام القاعد، وسيأتي ذَلِكَ مبسوطاً فِي مواضعه – إن شاء الله تعالى.

ولم ينف الشَّافِعِيّ ولا أكثر أصْحَاب الإمام أحمد أن يكون النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ائتم بأبي بَكْر فِي غير هذه الصلاة، بل قَالَ الشَّافِعِيّ: لَوْ صلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم خلف أَبِي بَكْر مرة لَمْ يمنع ذَلِكَ أن يكون صلى خلفه مرة أخرى.

وكذلك ذكر أبو بَكْر عَبْد العزيز بْن جَعْفَر من أصحابنا فِي كتابه ((الشَّافي)) ، وكذلك ذكره ابن حبان ومحمد بْن يَحْيَى الهمداني فِي ((صحيحيهما)) ، والبيهقي وغيرهم.

وكذلك صنف أبو عبي البرداني وعبد العزيز بْن زهير الحربي من أصحابنا فِي إثبات صلاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم خلف أَبِي بَكْر.

ورد ذَلِكَ أبو الفرج ابن الجوزي، وصنف فِيهِ مصنفاً، وَهُوَ يشتمل عَلَى أوهام كثيرة.

وقد ذكر كثير من أهل المغازي والسير أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم صلى خلف أَبِي بَكْر فِي مرضه، منهم: موسى بْن عقبة، وَهُوَ أجل أهل المغازي، وذكر أن صلاته خلفه كَانَتْ صلاة الصبح يوم الإثنين، وَهُوَ آخر صلاة

ص: 78

صلاها، وذكره عَن ابن شِهَاب الزُّهْرِيّ.

وروى ابن لهيعة، عَن أَبِي الأسود، عَن عُرْوَةَ - مثله.

وقد تقدم عَن الْقَاسِم بْن مُحَمَّد نحوه.

وروي عَن الْحَسَن – أَيْضاً.

ولذلك رجحه ابن حبان والبيهقي وغيرهما.

وجمع البيهقي فِي ((كِتَاب المعرفة)) بَيْن هَذَا وبين حَدِيْث الزُّهْرِيّ عَن أنس:

أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كشف الستر فِي أول الصلاة، ثُمَّ وجد خفة فِي الركعة الثانية فخرج فصلاها خلف أَبِي بَكْر، وقضى الركعة الَّتِيْ فاتته.

وخرج ابن سعد فِي ((طبقاته)) هَذَا المعنى من تمام حَدِيْث عَائِشَة وأم سَلَمَة وأبي سَعِيد بأسانيد فيها مقال. والله أعلم.

وبإسناد صحيح، عَن عُبَيْدِ بْن عمير – مرسلاً.

وروى ابن إِسْحَاق: حَدَّثَنِي يعقوب بْن عُتْبَة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَةَ، عَن عَائِشَة، قَالَتْ: رجع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ اليوم حِينَ دَخَلَ المسجد، غاضطجع فِي حجري – ثُمَّ ذكرت قصة السواك الأخضر -، وقبض رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ.

خرجه الإمام أحمد.

وَهُوَ دليل عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَدْ خرج إلى المسجد ذَلِكَ اليوم.

ص: 79

وفي ((مسند الإمام أحمد)) أن المغيرة بْن شعبة سئل: هَلْ أم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رَجُل من هذه الأمة غير أَبِي بَكْر الصديق؟ فَقَالَ: نَعَمْ، كنا فِي سفر – ثُمَّ ذكر قصة صلاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وراء عَبْد الرحمان بْن عوف.

وذكر ابن سعد فِي ((طبقاته)) عَن الواقدي، أَنَّهُ قَالَ: هَذَا الَّذِي ثبت عندنا: أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم صلى خلف أَبِي بَكْر.

وفي صلاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم خلف أَبِي بَكْر أحاديث كثيرة يطول ذكرها هاهنا.

وقد خرج الترمذي من حَدِيْث حميد، عَن ثابت، عَن أنس، قَالَ: صلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي مرضه خلف أَبِي بَكْر قاعداً، فِي ثوب متوشحاً بِهِ.

وَقَالَ: حسن صحيح.

وخرجه –أَيْضاً– ابن حبان فِي ((صحيحه)) ، وصححه العقيلي وغير واحد.

وقد رواه جماعة عَن حميد، عَن أنس – من غير واسطة.

واختلف الحفاظ فِي الترجيح؛ فرجحت طائفة قَوْلِ من أدخل بَيْنَهُمَا ((ثابتاً)) ، منهم: الترمذي وأبو حاتم الرَّازِي. ومنهم من رجح إسقاطه، ومنهم: أبو زُرْعَة الرَّازِي. والله تعالى أعلم.

ص: 80

الطريق الثاني:

قَالَ:

ص: 81

665 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْم بم موسى: ثنا هِشَام بْن يوسف، عَن معمر، عَن

الزُّهْرِيّ، قَالَ: أخبرني عُبَيْدِ الله بْن عَبْد الله، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَة: لما ثقل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم واشتد وجعه استأذن أزواجه أن يمرض فِي بيتي، فأذن لَهُ، فخرج بَيْن رجلين، تخط رجلاه الأرض، وكان بَيْن عَبَّاس ورجل آخر.

قَالَ عُبَيْدِ الله: فذكرت ذَلِكَ لابن عَبَّاس مَا قَالَتْ عَائِشَة، فَقَالَ لِي: وهل تدري من الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ تسم عَائِشَة؟ قُلتُ: لا. قَالَ: هُوَ عَلِيّ بْن أَبِي طالب.

وقد رواه عَبْد الرزاق، عَن معمر، وذكر فِي حديثه: الفضل بْن عَبَّاس.

خرجه مُسْلِم من طريقه كذلك.

وخرجه من طريق عقيل، عَن الزُّهْرِيّ، وذكر فِي حديثه: العباس، كما قَالَ هِشَام، عَن معمر.

وخرجه البخاري فِي ((وفاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم)) من حَدِيْث عقيل مطولاً.

وقد فهم البخاري من خروجه بَيْن عَبَّاس وغيره خروجه إلي المسجد للصلاة.

وكذلك خرجه مُسْلِم فِي ((كِتَاب الصلاة)) – أَيْضاً.

ص: 81

وفي هَذَا نظر؛ وظاهر السياق يقتضي أنها أرادت خروجه إلى بيت عَائِشَة ليمرض فِيهِ.

يدل عَلِيهِ: أن فِي رِوَايَة عَبْد الرزاق، عن معمر الَّتِيْ خرجها مُسْلِم: أول مَا اشتكى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة، فاستأذن أزواجه أن يمرض فِي بيتها، فأذن لَهُ. قَالَتْ: فخرج ويد لَهُ عَلَى الفضل - الحَدِيْث.

رواه ابن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ بلفظ صريح بذلك: أن عَائِشَة قَالَتْ: كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يدور عَلَى نسائه، فلما ثقل استأذنهن أن يقيم فِي بيتي، ويدرن عَلِيهِ.

قَالَتْ: فذهب ينوء فَلَمْ يستطع، فدخل عَلِيّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بَيْن رجلين، ورجلاه تخطان فِي الأرض؛ أحدهما العباس.

ورواه عَبْد الرحمان بْن إِسْحَاق، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَةَ والقاسم وأبي بَكْر ابن عَبْد الرحمان وعبيد الله بْن عَبْد االله، كلهم يحدثونه عَن عَائِشَة، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: جاءه مرضه الَّذِي مات فِيهِ في بيت ميمونة، فخرج عاصباً رأسه، فدخل عَلِيّ بَيْن رجلين، تخط رجلاه الأرض، وعن يمينه العباس - وذكر الحَدِيْث.

وكذا رواه صالح بْن كيسان، عَن ابن شِهَاب - مرسلاً: أَنَّهُ خرج بَيْن الرجلين تخط رجلاه الأرض، حَتَّى دَخَلَ بيت عَائِشَة.

وحينئذ؛ فلا ينبغي تخريج هَذَا الحَدِيْث فِي هَذَا الباب، ولا هُوَ داخل فِي معناه بالكلية. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 82

‌40 - بَاب

الرُّخْصَةِ فِي المَطَرِ وَالعِلَّةِ أنْ يُصَلِّي فِي رَحْلِهِ

فِيهِ حديثان:

الأول:

ص: 83

666 – حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف: أنا مَالِك، عَن نَافِع، أن ابن عُمَر أذن بالصلاة فِي ليلة ذات برد وريح، ثُمَّ قَالَ: ألا صلوا فِي الرحال، ثُمَّ قَالَ: إن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يأمر المؤذن إذا كَانَتْ ليلة برد ومطر يَقُول: ((ألا صلوا فِي الرحال)) .

قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث فِي ((بَاب: الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة)) ، خرجه البخاري هناك من رِوَايَة عُبَيْدِ الله بْن عُمَر، عَن نَافِع، قَالَ: أذن ابن عُمَر فِي ليلة باردةٍ بضجنان، ثُمَّ قَالَ صلوا فِي رحالكم، وأخبرنا أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يأمر مؤذناً يؤذن، ثُمَّ يَقُول عَلَى أثره:((ألا صلوا فِي الرحال فِي الليلة الباردة أو المطيرة فِي السفر)) .

ففي هذه الرواية: أن ذَلِكَ كَانَ فِي السفر، وأنه كَانَ فِي الليلة الباردة أو المطيرة.

وليس ذكر السفر فِي رِوَايَة مَالِك، وفي روايته: إذا كَانَتْ ليلة ذات برد ومطر.

وظاهرة: الجمع بَيْن البرد والمطر فِي ليلة

ص: 83

واحدة.

وروى ابن إسحاق هَذَا الحَدِيْث، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، قَالَ: نادى منادي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بذاك فِي المدينة فِي الليلة المطيرة، أو الغداة القرة.

خرجه أبو داود.

ولا نعلم ذكر المدينة فِي حَدِيْث ابن عُمَر فِي هذه الرواية، ورواية عُبَيْدِ الله أصح.

وأكثر أهل العلم عَلَى أن المطر والطين عذر يباح مَعَهُ التخلف عَن حضور الجمعة والجماعات، ليلاً ونهاراً.

قَالَ الترمذي: قَدْ رخص أهل العلم فِي القعود عَن الجماعة والجمعة فِي المطر والطين. وسمى منهم: أحمد وإسحاق.

وحكاه بعض أصحابنا عَن جمهور العلماء.

وحكي عَن مَالِك: أن المطر ليس بعذر فِي ترك الجمعة خاصة.

وروي نحوه عَن نَافِع مَوْلَى ابن عُمَر.

وَقَالَ سُفْيَان الثوري: لا يرخص لأحد فِي ترك الجمعة إذا كَانَ فِي مصر يجمع فِي، إلا لمرض مضن، أو خوف مقطع.

وحكي عَن أحمد رِوَايَة أخرى: أن المطر والوحل ليس بعذر فِي الحضر، إنما هُوَ عذر فِي السفر؛ لأن الأحاديث الصحيحة إنما جاءت بذلك فِي السفر، كحديث ابن عُمَر، وفي ((صحيح مُسْلِم)) من حَدِيْث جابر – نحوه،

ص: 84

وليس فِي الحضر إلا حَدِيْث ابن إِسْحَاق المتقدم، وحديث يروى عَن نعيم النحام، وقد ذكرناه فِي ((أبواب: الأذان)) ، وفي إسناده مقال.

ومقتضى هَذَا القول: أن الجمعة لا يباح تركها بذلك؛ لأنها لا تكون إلافي الحضر، ولكن قَدْ روي عَن جماعة من الصَّحَابَة أَنَّهُ يعذر فِي ترك الجمعة بالمطر والطين. منهم: ابن عَبَّاس وعبد الرحمان بْن سمرة وأسامة بن عمير والد أَبِي المليح، ولا يعرف عَن صحابي خلافهم، وقولهم أحق أن يتبع.

وروى هِشَام، عَن قتدة، قَالَ: قَالَ مُحَمَّد بْن سيرين: مَا كَانَ يختلف إذا كَانَ يوم الجمعة فِي يوم مطر فِي الرخصة للرجل أن يجلس عَن الجمعة فِي بيته.

خرجه الفريابي فِي ((كِتَاب الصلاة)) .

وذكر ابن المنذر: أن المطر عذر فِي الليلة المطيرة.

وهذا يفهم مِنْهُ أَنَّهُ لا يكون عذراً فِي النهار؟ لأن حَدِيْث ابن عُمَر إنما فِيهِ ذكر الليل.

ولكن رَوَى قتادة، عَن أَبِي المليح بْن أسامة، عَن أَبِيه، أن يوم حنين كَانَ يوم مطر، فأمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مناديه: أن الصلاة فِي الرحال.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان

ص: 85

فِي

((صحيحيهما)) ، والحاكم.

وخرجه أبو داود – أَيْضاً – من طريق أَبِي قلابة، عَن أَبِي المليح، عَن أَبِيه، أَنَّهُ شهد مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم زمان الحديبية فِي يوم جمعة، وأصابهم مطر لَمْ يبل أسفل نعالهم، فأمرهم أن يصلوا فِي رحالهم.

وخرجه الإمام أحمد من حَدِيْث شعبة، عَن عَمْرِو بْن أوس، عَن رَجُل، حدثه مؤذن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: نادى منادي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي يوم مطر: صلوا فِي الرحال.

وروي من حَدِيْث نعيم النحام، أن ذَلِكَ كَانَ فِي أذان الصبح، وقد سبق ذكره.

ولأن الصَّحَابَة جعلوا المطر والطين عذراً فِي ترك الجمعة، والجمعة إنما تقام نهاراً، فعلم أن ذَلِكَ عندهم عذر فِي الليل والنهار.

وقد روي فِي حَدِيْث مرسل، خرجه وكيع عَن المغيرة بْن زياد، عَن عَطَاء، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي سفر، فأصابهم مطر، فصلى بالناس فِي

ص: 86

رحالهم، وبلال يسمع النَّاس التكبير.

وَهُوَ مرسل.

وَهُوَ يدل عَلَى أنهم صلوا جماعة، لكن كل إنسان صلى فِي رحله، وهذا غريب جداً.

وأما الريح الشديدة الباردة، فَقَالَ أصحابنا: هِيَ عذر فِي ترك الجماعة فِي الليلة المظلمة خاصة.

الحَدِيْث الثاني:

ص: 87

667 – حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِك، عَن أَيْنَ شِهَاب، عَن محمود بْن الربيع الأنصاري، أن عتبان بْن مَالِك كَانَ يؤم قومه أعمى، وأنه قَالَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُول الله، إنها تكون الظلمة السيل، وأنا رَجُل ضرير البصر، فصل يَا رَسُول الله فِي بيتي مكاناً أتخذه مصلى. فجاءه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:((أين تحب أن أصلي؟)) فأشار إلى مكان من البيت، فصلى فِيهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.

قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث فِي ((بَاب: المساجد فِي البيوت)) ، من ((أبواب: المساجد)) .

وخرجه البخاري هناك بسياق مطول، من حَدِيْث عقيل، عَن الزُّهْرِيّ، وتكلمنا هناك عَلَى فوائد الحَدِيْث بما فِيهِ كفاية – إن شاء الله – وذكر الكلام عَلَى التخلف عَن حضور المسجد للعمى وللسيول والظلمة.

ولا ريب أن من كَانَ بصره ضعيفاً، وفي طريقه سيول، فإنه معذور فِي

ص: 87

الخروج إلى المسجد ليلاً؛ فإنه ربما خشي عَلَى نفسه التلف، والجماعة يسقط حضورها بدون ذَلِكَ.

وذكرنا هناك حَدِيْث ابن أم مكتوم، وأن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يرخص لَهُ فِي التخلف عَن المسجد، مَعَ كونه ضريراً ولا يجد قائداً يلائمه، ويخشى فِي طريقه الهوام، ووجه الجمع بَيْن الحديثين بما فِيهِ كفاية.

ص: 88

‌41 - بَاب

هَلْ يُصَلِّي الإمَامُ بمَنْ حَضَرَ

وهَلْ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ فِي المَطَرِ

؟

يعني بهذا الباب: أن المطر والطين، وإن كَانَ عذراً فِي التخلف عَن الجماعة فِي المسجد، إلا أَنَّهُ عذر لآحاد النَّاس، وأما الإمام فلا يترك الصلاة لذلك فِي المسجد، ويصلي جماعة فِي المسجد بمن حضر، وكذلك يوم الجمعة لا يترك الخطبة وصلاة الجمعة فِي المسجد بمن حضر فِيهِ، إذا كانوا عدداً تنعقد بهم الجمعة، وإنما يباح لآحاد النَّاس التخلف عَن الجمعة والجماعات فِي المطر ونحوه، إذا أقيم شعارهما فِي المساجد.

وعلى هَذَا، فلا يبعد أن يكون إقامة الجماعات والجمع فِي المساجد فِي حال الأعذار كالمطر فرض كفاية لا فرض عين، وأن الإمام لا يدعهما.

وَهُوَ قريب من قَوْلِ الإمام أحمد فِي الجمعة إذا كَانَتْ يوم عيد، أَنَّهُ يسقط حضور الجمعة عمن حضر العيد، إلا الإمام ومن تنعقد بِهِ الجمعة؛ فتكون الجمعة حينئذ فرض كفاية. والله أعلم.

ولا شك أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لا يترك إقامة الجمع فِي المطر، ويدل عَلِيهِ: أَنَّهُ لما استسقى للناس عَلَى المنبر يوم الجمعة، ومطروا من ذَلِكَ الوقت إلى الجمعة الأخرى، أقام الجمعة الثانية فِي ذَلِكَ المطر حَتَّى شكي إليه كثرة المطر فِي خطبته يومئذ، فدعا الله بإمساك المطر عَن المدينة، وسيأتي الحَدِيْث

ص: 89

فِي ((الجمعة)) و ((الاستسقاء)) – إن شاء الله سبحانه وتعالى.

خرج فِي هَذَا الباب ثَلَاثَة أحاديث:

الحَدِيْث الأول:

قَالَ:

ص: 90

668 – حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن عَبْد الوهاب: ثنا حماد بْن زيد: ثنا عَبْد الحميد - صاحب الزيادي -، قَالَ: سَمِعْت عَبْد الله بْن الحارث، قَالَ: خطبنا ابن عَبَّاس فِي يوم ذي رذع، فأمر المؤذن لما بلغ ((حي عَلَى الصلاة)) ، قَالَ: قل: ((الصلاة فِي

الرحال)) . فنظر بعضهم إلى بعض، كأنهم أنكروا. فَقَالَ: كأنكم أنكرتم هَذَا، إن هَذَا فعله من هُوَ خير مني – - يعني: رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، انها عزمة، وإني كرهت أن أحرجكم.

وعن حماد، عَن عاصم، عَن عَبْد الله بْن الحارث، عَن ابن عَبَّاس – نحوه، غير أَنَّهُ قَالَ: كرهت أن أؤثمكم فتجيئون تدوسون الطين إلى ركبكم.

قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث فِي ((بَاب: الكلام فِي الأذان)) ، وفسرنا هنالك معنى

((الروغ)) .

وقوله: ((إنها عزمة)) – يعني: الجمعة – والمراد: أَنَّهُ إذا دعا النَّاس إليها بقول المؤذن: ((حي عَلَى الصلاة)) ، فَقَدْ عزم عَلَى النَّاس كلهم أن يأتوه، فليزمهم ذَلِكَ؛ فلذلك أبدله بقوله:((صلوا فِي رحالكم)) .

ص: 90

وقوله: ((كرهت أن أحرجكم)) : أي أشدد عليكم، وأضيق بإخراجكم إلى المساجد فِي الطين. والحرج: الشدة والضيق.

وفي الرواية الأخرى: ((كرهت أن أؤثمكم)) ، كأنه يريد إذا دعاهم إلى هذه الصلاة فِي هَذَا اليوم خشي عليهم الإثم إذا تخلفوا عَن الصلاة مَعَ دعائهم إليها، فإذا خرجوا حرجوا بخوضهم فِي الطين إلى ركبهم، وإن قعدوا أثموا.

وظاهر هَذَا: يدل عَلَى أن ابن عَبَّاس يرى أن الإمام إذا دعا النَّاس إلى الجمعة فِي الطين والمطر لزمتهم الإجابة، وإنما يباح لأحدهم التخلف إذا نادى:((الصلاة فِي الرحال)) . والله أعلم.

وقد نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الإمام أحمد، فيما رواه البيهقي فِي ((مناقب أحمد)) بإسناده، عَن مُحَمَّد بْن رافع، قَالَ: سَمِعْت أحمد بْن حنبل يَقُول: إن قَالَ المؤذن فِي أذانه: (الصلاة فِي الرحال)) ، فلك أن تتخلف، وإن لَمْ يقل فَقَدْ وجب عَلَيْك، إذا قَالَ:((حي عَلَى الصلاة، حي عَلَى الفلاح)) .

الحَدِيْث الثاني:

قَالَ:

ص: 91

669 – حَدَّثَنَا مُسْلِم، قَالَ: ثنا هِشَام، عَن يَحْيَى، عَن أَبِي سَلَمَة، قَالَ: سألأت أَبَا سَعِيد الْخُدرِيَّ، قَالَ: جاءت سحابة بمطر حَتَّى سَأَلَ السقف، وكان من جريد النخل، فأقيمت الصلاة، فرأيت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سجد فِي الماء والطين، حَتَّى رأيت أثر الطين فِي جبهته.

هَذَا الحَدِيْث قطعة مختصرة من حَدِيْث سؤال أَبِي سَلَمَة لأبي سَعِيد

ص: 91

عَن ليلة القدر، وقد خرجه بتمامه فِي ((الصيام)) و ((الاعتكاف)) .

والمقصود مِنْهُ هاهنا: أن النَّاس مطروا من الليل فِي رمضان، فسال السقف، وكان من جريد النخل، حَتَّى صار الطين فِي أرض المسجد، ومع هَذَا فَقَدْ أقيمت الصلاة، وصلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بالناس فِيهِ، ولما انصرف من صلاة الصبح رئي أثر الطين فِي جبهته، ولم يتخلف عَن الصلاة فِي المسجد ولا عَن الأذان والإقامة فِيهِ، فدل عَلَى أن المطر يعذر فِي التخلف عَن الجماعة فِيهِ آحاد النَّاس، أو من منزلة بعيد عَن المسجد بحيث يشق عَلِيهِ قصد المسجد، فأما الإمام ومن قرب المسجد فلا يخلون بإقامة الجماعة فِيهِ. والله أعلم.

الحَدِيْث الثالث:

ص: 92

670 – حَدَّثَنَا آدم، قَالَ: ثنا شعبة: ثنا أنس بْن سيرين، قَالَ: سَمِعْت أنساً يَقُول: قَالَ رَجُل من الأنصار: إني لا أستطيع الصلاة معك، وكان رجلاً ضخماً، فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً، فدعاه إلى منزله، فبسط لَهُ حصيراً ونضح طرف الحصير، فصلى عَلِيهِ ركعتين.

فَقَالَ رَجُل من آل الجارود لأنس: أكان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قَالَ: مَا رأيته صلاها إلا يومئذ.

فِي هَذَا الحَدِيْث: أن من كَانَ ثقيل البدن يشق عَلِيهِ المشي إلى المسجد، فإنه يعذر لترك الجماعة لذلك.

وليس فِي الحَدِيْث ذكر عذر لترك الجماعة سوى كونه ضخماً، وأنه لا يستطيع الصلاة مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي مسجده، ولعل منزله كَانَ بعيداً من المسجد.

ص: 92

والظاهر: أن هَذَا الرَّجُلُ غير عتبان بْن مَالِك؛ فإن ذاك كَانَ عذره العمى، مَعَ بعد المنزل، وحيلولة السيول بينه وبين المسجد.

ص: 93

‌42 - بَاب

إذا حَضَرَ الطَّعَامُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ

وكان ابن عُمَر يبدأ بالعشاء.

وَقَالَ أبو الدرداء: من فقه الرَّجُلُ إقباله عَلَى حاجته حَتَّى يقبل عَلَى صلاته وقلبه فارغ.

أما المروي عَن ابن عُمَر، فَقَدْ أسنده البخاري فِي هَذَا الباب، وسيأتي - إن شاء الله.

وأما المروي عَن أَبِي الدرداء [..................................] .

وقد روي نحوه عَن ابن عَبَّاس، قَالَ: لا نقوم إلى الصلاة وفي أنفسنا شيء.

ذكره الترمذي فِي ((جامعه)) تعليقاً، وخرجه وكيع فِي ((كتابه)) عَن شريك، عَن عُثْمَان الثَّقَفِيّ، عَن زياد مَوْلَى ابن عياش، أن ابن عَبَّاس كَانَ ينتظر الطعام.

فحضرت الصلاة، فَقَالَ: انتظروا، لا يعرض لنا فِي صلاتنا.

ص: 94

وهذا يدل عَلَى أَنَّهُ كَانَ يؤخر الصلاة إذا كَانَ في انتظار الطعام وإن لَمْ يكن حاضراً، وعلله بخشية أن يعرض لَهُ فِي صلاته – يعني: ذكره، وتحديث النفس بِهِ.

وروى وكيع – أَيْضاً – عَن شريك، عَن أَبِي إِسْحَاق، قَالَ: قَالَ الْحَسَن: أذهب للنفس اللوامة أن يبدأ بالطعام.

خرج البخاري من هَذَا الباب ثَلَاثَة أحاديث.

الحَدِيْث الأول:

ص: 95

671 – حَدَّثَنَا مسدد: ثنا يَحْيَى، عَن هِشَام: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: سَمِعْت عَائِشَة، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:((إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء)) .

الحَدِيْث الثاني:

ص: 95

672 – حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن بكير، ثنا الليث، عَن عقيل، عَن ابن شِهَاب، عَن أنس ابن مَالِك، أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:((إذا قدم العشاء فابدءوا بِهِ قَبْلَ أن تصلوا المغرب، ولا تعجلوا عَن عشائكم)) .

الحَدِيْث الثالث:

ص: 95

673 – حَدَّثَنَا عُبَيْدِ بْن إِسْمَاعِيل، عَن أَبِي أسامة، عَن عُبَيْدِ الله، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وضع عشاء أحدكم

ص: 95

وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء، ولا يعجل حَتَّى يفرغ مِنْهُ)) .

وكان ابن عُمَر يوضع لَهُ الطعام، وتقام الصلاة، فلا يأتيها حَتَّى يفرغ، وإنه يسمع قراءة الإمام.

ص: 96

674 – وَقَالَ زهير ووهب بْن عُثْمَان، عَن موسى بْن عقبة، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كَانَ أحدكم عَلَى الطعام فلا يعجل حَتَّى يقضي حاجته مِنْهُ، وإن أقيمت الصلاة)) .

قَالَ أبو عَبْد الله: رواه إِبْرَاهِيْم بْن المنذر، عَن وهب بْن عُثْمَان.

ووهب مديني.

حَدِيْث عَائِشَة، قَدْ خرجه – أَيْضاً – فِي ((الأطعمة)) من رِوَايَة وهيب.

وسفيان الثوري، عَن هِشَام بْن عُرْوَةَ، بِهِ.

وحديث أنس، قَدْ خرجه فِي ((الأطعمة)) من طريق أيوب، عَن أَبِي قلابة، عَن أنس، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ: عَن أيوب، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم نحوه.

وعن أيوب، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، أَنَّهُ تعشى وَهُوَ يسمع قراءة الإمام.

ص: 96

وحديث موسى بْن عقبة الَّذِي علقه البخاري، قَدْ خرجه مُسْلِم من رِوَايَة أَبِي ضمرة، عَن موسى، ولم يذكر لفظه، لكنه قَالَ: بنحو رِوَايَة عُبَيْدِ الله بْن عُمَر.

وخرجه البيهقي من طريق سويد بْن سَعِيد، عَن حفص بْن ميسرة، عَن موسى بْن عقبة، ولفظه: إن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إذا كَانَ أحدكم عَلَى الطعام فلا يعجلن حَتَّى يقضي حاجته مِنْهُ، وإن أقيمت الصلاة)) .

ثُمَّ قَالَ: وبهذا اللفظ رواه زهير بْن معاوية ووهب بْن عُثْمَان، عَن موسى ابن عقبة، وأشار البخاري إلى روايتهما.

قُلتُ: وإنما أشار البخاري إليه؛ لأن لفظه صريح فِي أن من شرع فِي عشائه ثُمَّ أقيمت الصلاة فلا يقم إلى الصلاة حَتَّى يقضي حاجته مِنْهُ، بخلاف سائر ألفاظ الحَدِيْث الَّتِيْ خرجها؛ لأنه يحتمل أن يكون الخَطَّاب بِهَا لمن لَمْ يتناول من عشائه شيئاً.

ووهب بْن عُثْمَان، ذكر البخاري أَنَّهُ مديني، وأن هَذَا الحَدِيْث رواه عَنْهُ إِبْرَاهِيْم بْن المنذر الحزامي، ولم يذكره فِي غير هَذَا الموضع من ((كتابه)) ، ولا خرج لَهُ فِي بقية ((الكتب الستة)) ، وذكره ابن حبان فِي ((ثقاته)) .

وقد خرج ابن حبان فِي ((صحيحه)) من طريق ابن جُرَيْج: أخبرني نَافِع، قَالَ: كَانَ ابن عُمَر إذا غربت الشمس وتبين لَهُ الليل، فكان أحياناً يقدم عشاءه وَهُوَ صائم، والمؤذن يؤذن، ثُمَّ يقيم [وَهُوَ يسمع] فلا يترك عشاءه ولا يجعل

ص: 97

حَتَّى يقضي عشاءه، ثُمَّ يخرج فيصلي، يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تعجلوا عَن عشائكم إذا قدم إليكم)) .

وقد روي ذكر الصيام مرفوعاً.

خرجه ابن حبان – أَيْضاً – من طريق موسى بْن أعين، عَن عَمْرِو بْن الحارث، عَن ابن شِهَاب، عَن أنس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقيمت الصلاة وأحدكم صائم فليبدأ بالعشاء قَبْلَ صلاة المغرب، ولا تعجلوا عَن عشائكم)) .

وخرجه الدارقطني فِي كِتَاب ((الإلزامات)) وصححه.

وخرجه الطبراني، وَقَالَ: لَمْ يقل فِي هَذَا الحَدِيْث: ((وأحدكم صائم فليبدأ بالعشاء قَبْلَ صلاة المغرب)) إلا عَمْرِو بْن الحارث، تفرد بِهِ موسى بْن أعين.

قُلتُ: وإنما تفرد موسى بذكر: ((وأحدكم صائم)) ، وأما قوله:((فليبدأ بالعشاء قَبْلَ صلاة المغرب)) فَقَدْ خرجه مُسْلِم من طريق ابن وهب، عَن عَمْرِو ابن الحارث بهذا الإسناد، ولفظ حديثه:((إذا قرب العشاء وحضرت الصلاة فابدءوا بِهِ قَبْلَ أن تصلوا صلاة المغرب، ولا تعجلوا عَن عشائكم)) .

فهذه الأحاديث كلها تدل عَلَى أَنَّهُ إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فإنه يبدأ بالعشاء، سواء كَانَ قَدْ أكل مِنْهُ شيئاً أو لا، وأنه لا يقوم حَتَّى يقضي حاجته من عشائه، ويفرغ مِنْهُ.

ص: 98

وممن روي عَنْهُ تقديم العشاء عَلَى الصلاة: أبو بَكْر وعمر وابن عُمَر وابن عَبَّاس وأنس وغيرهم.

وروى معمر، عَن ثابت، عَن أنس، قَالَ: إني لمع أَبِي بْن كعب وأبي طلحة وغيرهما من أصْحَاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى طعام، إذ نودي بالصلاة، فذهبت أقوم فأقعدوني، وأعابوا عَلِيّ حِينَ أردت أن أقوم وأدع الطعام.

خرجه عَبْد الله ابن الإمام أحمد فِي ((مسائله)) .

وإلى هَذَا القوم ذهب الثوري وأحمد – فِي المشهور عَنْهُ – وإسحاق وابن المنذر.

وَقَالَ أحمد: لا يقوم حَتَّى يفرغ من جميع عشائه، وإن خاف أن تفوته الصلاة مَا دام فِي وقت. قَالَ: لأنه إذا تناول مِنْهُ شيئاً ثُمَّ تركه كَانَ فِي نفسه شغل من تركه الطعام إذا لَمْ ينل مِنْهُ حاجته.

وحاصل الأمر؛ أَنَّهُ إذا حضر الطعام كَانَ عذراً فِي ترك صلاة الجماعة، فيقدم تناول الطعام، وإن خشي فوات الجماعة، ولكن لا بد أن يكون لَهُ ميل إلى الطعام، ولو كَانَ ميلاً يسيراً، صرح بذلك أصحابنا وغيرهم.

وعلى ذَلِكَ دل تعليل ابن عَبَّاس والحسن وغيرهما، وكذلك مَا ذكره البخاري عَن أَبِي الدرداء.

فأما إذا لَمْ يكن لَهُ ميل بالكلية إلى الطعام، فلا معنى لتقديم الأكل عَلَى الصلاة.

وقالت طائفة أخرى: يبدأ بالصلاة قَبْلَ الأكل، إلا أن يكون نفسه شديدة التوقان إلى الطعام، وهذا مذهب الشَّافِعِيّ: وقول ابن حبيب المالكي.

واستدل لَهُ ابن حبان بالحديث الَّذِي فِيهِ التقييد بالصائم، وألحق بِهِ

ص: 99

كل من كَانَ شديد التوقان إلى الطعام فِي الصلاة، يمنع من كمال الخشوع، بخلاف الميل اليسير.

وقالت طائفة أخرى: يبدأ بالصلاة إلا أن يكون الطعام خفيفاً -: حكاه ابن المنذر، عَن مَالِك.

وهذا يحتمل أَنَّهُ أراد أن الخفيف من الطعام يطمع مَعَهُ فِي إدراك الجماعة، بخلاف الطعام الكثير فيختص هَذَا بالعشاء.

وهذا بناء عَلَى أن وقت المغرب وقت واحد، كما هُوَ قَوْلِ مَالِك والشافعي فِي أحد قوليه.

ونقل حرب، عَن إِسْحَاق، أَنَّهُ يبدأ بالصلاة، إلا فِي حالين: أحدهما: أن يكون الطعام خفيفاً. والثاني: أن يكون أكله مَعَ الجماعة، فيشق عليهم قيامه إلى الصلاة.

وهؤلاء قالوا: إن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أمر بتقديم العشاء عَلَى الصلاة حيث كَانَ عشاؤهم خفيفاً، كما كَانَتْ عادة الصَّحَابَة فِي عهد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يتناول أمره غير مَا هُوَ معهود فِي زمنه.

وروى أبو داود بإسناده، عَن عَبْد الله بْن عُبَيْدِ بْن عمير، قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي فِي زمان ابن الزُّبَيْر إلى جنب عَبْد الله بْن عُمَر، فَقَالَ عباد بْن عَبْد الله بْن الزُّبَيْر: إنا سمعنا أَنَّهُ يبدأ بالعشاء قَبْلَ الصلاة، فَقَالَ عَبْد الله بْن عُمَر: ويحك، مَا كَانَ عشاؤهم، أتراه كَانَ مثل عشاء أبيك؟!

وخرج البيهقي من حَدِيْث حميد، قَالَ: كنا عِنْدَ أنس بْن مَالِك، فأذن

ص: 100

المؤذن بالمغرب وقد حضر العشاء، فَقَالَ أنس: ابدءوا بالعشاء، فتعشينا مَعَهُ، ثُمَّ صلينا، فكان عشاؤه خفيفاً.

وقالت طائفة: يبدأ بالصلاة، إلا أن يكون الطعام يخاف فساده لما فِي تأخيره من إفساد الطعام، وهذا قَوْلِ وكيع، رواه الترمذي فِي ((جامعة)) عَنْهُ.

وفي هَذَا القول بعد، وَهُوَ مخالف ظاهر الأحاديث الكثيرة.

وللأمام أحمد فِي المسألة ثَلَاثَة أقوال:

أحدها: أَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَة أَبِي الحارث، وسئل عَن العشاء إذا وضع وأقيمت الصلاة، فَقَالَ: قد جاءت أحاديث، وكان القوم فِي مجاعة، فأما اليوم فلو قام

رجوت.

وهذه الرواية تدل عَلَى أن تقديم الأكل عَلَى الصلاة مختص بحال مجاعة النَّاس عموماً، وشدة توقانهم بأجمعهم إلى الطعام، وفي هَذَا نظر.

وقد يستدل لَهُ بما رَوَى مُحَمَّد بْن ميمون الزعفراني، عَن جَعْفَر بْن مُحَمَّد، عَن أبيه، عَن جابر، قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤخر الصلاة لطعام ولا غيره.

وخرجه الطبراني، ولفظه: لَمْ يكن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يؤخر صلاة المغرب لعشاء ولا غيره.

ص: 101

وهذا حَدِيْث ضَعِيف لا يثبت.

ومحمد بْن ميمون هَذَا، وثقة ابن معين وغيره. وَقَالَ البخاري والنسائي: منكر الحَدِيْث.

وروى سلام بْن سُلَيْمَان المدائنى: ثنا ورقاء بْن عُمَر، عَن ليث بْن أَبِي سليم، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حضر العشاء والصلاة فابدءوا بالصلاة)) .

خرجه تمام الرَّازِي فِي ((فوائده)) ، وَقَالَ: هكذا وقع فِي كتابي، وَهُوَ خط.

وليث بْن أَبِي سليم ليس بالحافظ، فلا تقبل مخالفته لثقات أصْحَاب نَافِع؛ فإنهم رووا:((فابدءوا بالعشاء)) كما تقدم. وسلام المدائني ضَعِيف جداً.

والقول الثاني: نقل حَنْبل، عَن أحمد، قَالَ: إن كَانَ أخذ من طعامه لقمةً أو نحو ذَلِكَ فلا يقوم إلى الصلاة فليصلي، ثُمَّ يرجع إلى العشاء؛ لأن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يحتز من كتف الشاة، فألقى السكين وقام.

وكذا نقل عَنْهُ ابنه عَبْد الله والأثرم.

وحاصل هَذَا القول: إن كَانَ أكل شيئاً من الطعام، ثُمَّ أقيمت الصلاة قام إليها، وترك الأكل، وإن لَمْ يكن أكل شيئاً أكل مَا تسكن بِهِ نفسه ثُمَّ قام إلى الصلاة، ثُمَّ عاد إلى تتمة طعامه.

وصرح بذلك الأثرم فِي ((كِتَاب الناسخ والمنسوخ)) ، واستدل بحديث عَمْرِو ابن أمية الضمري، وقد خرجه البخاري فِي الباب الذي يلي هَذَا.

ص: 102

وروي نحوه من حَدِيْث المغيرة بْن شعبة وجابر بْن عَبْد الله.

وفي هذه الأحاديث: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يحتز من كتف شاة، فأتاه بلال يؤذنه بالصلاة، فألقى السكين ثُمَّ قام إلى الصلاة.

وقد ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أَنَّهُ إذا سَمِعَ الإقامة م يشبع من طعامه، بل يأكل مَا يكسر بِهِ سورة جوعه.

وحديث ابن عُمَر صريح فِي رد ذَلِكَ، وأنه لا يعجل حَتَّى يفرغ من عشائه.

والقول الثالث: عكس الثاني، نقله حرب عَن أحمد، قَالَ: إن كَانَ قَدْ أكل بعض طعامه، فأقيمت الصلاة، فإنه يتم أكله، وإن كَانَ لَمْ يأكل شيئاً فأجب أن يصلي.

وقد يعلل هَذَا بأنه إذا تناول شيئاً من طعامه فإن نفسه تتوق إلى تمامه، بخلاف من لَمْ يذق مِنْهُ شيئاً؛ فإن توقان نفسه إليه أيسر.

وفي المسألة قَوْلِ آخر، وَهُوَ الجمع بَيْن أحاديث هَذَا الباب، وبين حَدِيْث عَمْرِو بْن أمية، وما فِي معناه من طرح النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم السكين من يده، وقيامة إلى الصلاة بالفرق بَيْن الإمام والمأمومين، فإذا دعي الإمام إلى الصلاة قام وترك بقية طعامه؛ لأنه ينتظر، ويشق عَلَى النَّاس عِنْدَ اجتماعهم تأخره عنهم، بخلاف آحاد المأمومين، وهذا مسلك البخاري، كما سيأتي ذَلِكَ فِي الباب الَّذِي يلي هَذَا.

وبكل حال؛ فلا يرخص مَعَ حضور الطعام فِي غير ترك الجماعة، فأما الوقت فلا يرخص بذلك فِي تفويته عِنْدَ جمهور العلماء، ونص عَلِيهِ

ص: 103

أحمد وغيره.

وشذت طائفة، فرخصت فِي تأخير الصلاة عَن الوقت بحضور الطعام – أَيْضاً -، وَهُوَ قَوْلِ بعض الظاهرية، ووجه ضَعِيف للشافعية، حكاه المتولى وغيره.

وقد رَوَى المروزي أن أحمد احتجم بالعسكر، فما فرغ إلا والنجوم قَدْ بدت، فبدأ بالعشاء قَبْلَ الصلاة، فما فرغ دخل حَتَّى وقت العشاء، فتوضأ وصلى المغرب والعشاء.

قَالَ القاضي فِي ((خِلافَه)) : يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون مسافراً؛ لأن المراد بالعسكر سامراء، وكان قَدْ طلبه المتوكل إليها.

والثاني: أَنَّهُ خاف عَلَى نفسه من تأخير العشاء المرض؛ لضعفه بالحجامة.

وَقَالَ ابن عقيل: يحتمل أَنَّهُ كَانَ مريضاً أو ناسباً. قَالَ: ومع هذه الاحتمالات لا يؤخذ من ذَلِكَ مذهب يخالف مذهب النَّاس.

ومتى خالف، وصلى بحضرة طعام تتوق نفسه إليه فصلاته مجزئه عند جميع العلماء المعتبرين، وقد حكى الإجماع عَلَى ذَلِكَ ابن عَبْد البر وغيره،

ص: 104

وإنما خالف فِيهِ شذوذ من متأخري الظاهرية، لا يعبأ بخلافهم الإجماع القديم.

وفي أحاديث هَذَا الباب: دليل عَلَى أن وقت المغرب متسع، وأنه لا يفوت بتأخير الصلاة فِيهِ عَن أول الوقت، ولولا ذَلِكَ لَمْ يأمر بتقديم العشاء عَلَى صلاة المغرب من غير بيان لحد التأخير؛ فإن هَذَا وقت حاجة إلى البيان، فلا يجوز تأخيره عَنْهُ. والله أعلم.

ص: 105

‌43 - بَاب

إذا دُعيَ الإمَامُ إلى الصَّلاةِ وبَيَدِهِ مَا يَأكُلُ

ص: 106

675 – حَدَّثَنَا عَبْد العزيز بْن عَبْد الله: ثنا إِبْرَاهِيْم، عَن صالح، عن ابن

شِهَاب، قَالَ: أخبرني جَعْفَر بْن عَمْرِو بْن أمية الضمري، أن أباه قَالَ: رأيت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يأكل ذراعاً يحتز مِنْهَا، فدعى إلى الصلاة، فَقَام فطرح السكين فصلى ولم يتوضأ.

وقد سبق فِي ((كِتَاب الوضوء)) من حَدِيْث عقيل، عَن ابن شِهَاب - بمعناه.

وقد حمل البخاري هَذَا عَلَى أن الإمام خاصة إذا دعي إلى الصلاة وَهُوَ يأكل فإنه يقوم إلى الصلاة ولا يتم أكله؛ لما فِي تأخيره من المشقة عَلَى المأمومين بابانتظاره، فيكون دعاء الإمام إلى الصلاة بمنزلة إقامة الصلاة فِي حق المأمومين.

وقد حمله غيره – كما تقدم – عَلَى أَنَّهُ إذا أقيمت الصلاة وقد أكل بعض طعامه أَنَّهُ يقوم ولا يتمه.

والبخاري قَدْ بَيْن فِي الباب السابق أن بعض ألفاظ حَدِيْث ابن عمر صريح فِي خلاف هذا، فلذلك حمله عَلَى الإمام خاصة، ولو أَنَّهُ حمل عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَدْ أتم أكله لكان محتملاً مَعَ بعده؛ فإن ظاهر اللفظ

ص: 106

يقتضي أَنَّهُ لَمْ يكن أتم أكله.

وقد حمله بعضهم عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ أخذ من طعامه مَا يحتاج إليه بحيث لا تتوق نفسه بعده إلى شيء مِنْهُ، فاكتفي بذلك.

وخرج أبو داود من حَدِيْث المغيرة بْن شعبة، قَالَ: ضفت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فأمر بجنب فشوى، وأخذ الشفرة فجعل يحتز لِي بِهَا مِنْهُ. قَالَ: فجاء بلال فآذنه بالصلاة قالَ: فألقى الشفرة، وقَالَ:((ماله؟ تربت يداه)) ، وقام.

ويروى من حَدِيْث جابر، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم دعي إلى الصلاة وَهُوَ يأكل، فقام ثُمَّ رجع، فأتى ببقية الطعام.

ذكره الأثرم تعليقاً.

وخرجه [....................................................] .

ص: 107

‌44 - بَاب

مَن كَانَ فِي حَاجَةِ أَهْلِهِ فَأُقِيمتِ الصَّلاةُ فَخَرَجَ

ص: 108

676 – حَدَّثَنَا آدم: ثنا شعبة: ثنا الحكم، عَن إِبْرَاهِيْم، عَن الأسود، قَالَ: سألت عَائِشَة: مَا كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يصنع فِي بيته؟ قَالَتْ: كَانَ يكون فِي مهنة أهله – تعني: خدمة أهله -، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.

((المهنة)) – بكسر الميم وفتحها – الخدمة.

ومنهم من أنكر الكسر، قَالَ الأصمعي: هُوَ خطأ.

قَالَ الزمخشري: هُوَ عِنْدَ الأثبات خطأ. قَالَ: وكان القياس لَوْ قيل مثل جلسة وخدمة.

وقد فسرت عَائِشَة هذه الخدمة فِي رِوَايَة عَنْهَا، فروى المقدام بْن شريح، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة، أَنَّهُ سألها: كَيْفَ كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يصنع إذا كَانَ فِي بيته؟ قَالَتْ: مثل أحدكم فِي مهنة أهله، يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويضع الشيء.

وروى معاوية بْن صالح، عَن يَحْيَى بْن سَعِيد، عَن عمرة، قَالَتْ: سئلت عَائِشَة: مَا كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يصنع فِي بيته؟ قَالَتْ: بشر من البشر، يخدم نفسه، ويحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله.

وروى هِشَام بْن عُرْوَةَ، عَن أَبِيه، قَالَ: قيل لعائشة: مَا كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يصنع فِي بيته؟ قَالَتْ: يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل مَا يعمله

ص: 108

الرجال فِي بيوتهم.

خرجه ابن حبان فِي ((صحيحه)) .

ومقصود البخاري بهذا الباب: أن الصلاة إذا قيمت والإنسان فِي شغل بعمل شيء من مصالح دنياه، فإنه يدعه ويقوم إلى الصلاة، إماماً كَانَ أو مأموماً.

وقد روي حَدِيْث الأسود، عَن عَائِشَة، الَّذِي خرجه البخاري بزيادة فِي آخره.

خرجه الحافظ أبو الحسين ابن المظفر فِي ((غرائب شعبة)) من طريق الْحَسَن ابن مدرك: ثنا يَحْيَى بْن حماد: ثنا شعبة، عَن الحكم، عَن إِبْرَاهِيْم، عَن الأسود، عَن عَائِشَة، قَالَتْ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إذا كَانَ عندي كَانَ فِي مهنة أهله، فإذا نودي بالصلاة كأنه لَمْ يعرفنا.

وقد روي من وجه آخر معنى هذه الزيادة.

رَوَى أبو زُرْعَة الدمشقي فِي ((تاريخه)) : حَدَّثَنَا محمد بْن أَبِي أسامة: ثنا مبشر بْن إِسْمَاعِيل: ثنا عَبْد الله بْن الزبرقان: حَدَّثَنِي أسامة بْن أَبِي عَطَاء، أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ النُّعْمَان بْن بشير، فَقَالَ لَهُ سويد بْن غفلة: ألم يبلغني أنك صليت مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: ومرة، لا بل مراراً، كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إذا سَمِعَ النداء كأنه لا يعرف أحداً من النَّاس.

ص: 109

‌45 - بَاب

مَنْ صَلَّى بالنَّاسِ وََهُوَ لَا يُريدُ إلاَّ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ

صَلَاةَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّتَهُ

ص: 110

677 – حَدَّثَنَا موسى بْن إِسْمَاعِيل: أنا وهيب، [نا أيوب] ، عَن أَبِي قلابة، قَالَ: جاءنا مَالِك بْن الحويرث فِي مسجدنا هَذَا، فَقَالَ: إني لأصلي بكم، وما أريد الصلاة، أصلي كَيْفَ رأيت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يصلي. فَقِيلَ لأبي قلابة: كَيْفَ كَانَ

يصلي؟ قَالَ: مثل شيخنا هَذَا. وكان الشَّيْخ يجلس إذا رفع رأسه من السجود قَبْلَ أن ينهض فِي الركعة الأولى.

وقد خرجه البخاري فيما بعد عَن معلى بْن أسد، عَن وهيب، ولفظ حديثه: جاءنا مَالِك بْن الحويرث فصلى بنا فِي مسجدنا هَذَا، فَقَالَ: إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة. لكني أريد أن أريكم كَيْفَ رأيت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يصلي – وذكر بقية الحَدِيْث.

قول مَالِك بْن الحويرث: ((إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة)) يحتمل أَنَّهُ أراد: أني لا أريد الصلاة إماماًُ وأنه لا غرض لِي فِي إمامتكم سوى تعليمكم صلاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، والإمام إذا نوى الصلاة بالناس وتعليمهم

ص: 110

الصلاة صحت صلاته، كما حج النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ لهم:((خذوا عني مناسككم)) . وَقَالَ – أَيْضاً – فِي الصلاة: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) .

وإن حمل عَلَى أن مراد ابن الحويرث: أني لا أريد أن أصلي هذه الصلاة لأني قَدْ صليتها، وإنما أعيدها لتعليمكم الصلاة دل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يرى جواز اقتداء المفترضين بالمتنفل، إن كَانَ أمهم فِي وقت صلاة مفروضة، فإن كَانَ أمهم فِي تطوعٍ فلا دلالة فِيهِ عَلَى ذَلِكَ.

وقد ورد ذَلِكَ مصرحاً بِهِ رِوَايَة خرجها البخاري فِي ((بَاب: الطمأنينة)) من رِوَايَة حماد بْن زيد، عَن أيوب، عَن أَبِي قلابة، قَالَ: قام مَالِك بْن الحويرث يرينا كَيْفَ كَانَ صلاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك فِي غير وقت الصلاة – وذكر صفة صلاته.

فعلم بهذا أنهم كانوا متنفلين بهذه الصلاة كلهم.

ولا يصح حمل كلامه عَلَى ظاهره، وأنه لَمْ ينو الصلاة بالكلية، بل كَانَ يقوم ويقعد ويركع ويسجد، وَهُوَ لا يريد الصلاة، فإن هَذَا لا يجوز، وإنما يجوز مثل ذَلِكَ فِي الحج، يجوز أن يكون الَّذِي يقف بالماس ويدفع بهم غير محرم، ولا مريداً للحج بالكلية، لكنه يكره.

قَالَ أصحابنا وغيرهم من الفقهاء فِي الأحكام السلطانية: لأن الوقوف والدفع يجوز للمحرم وغيره، بخلاف القيام والركوع والسجود، فإنه لا يجوز إلا فِي الصلاة بشروطها.

وبقية فوائد الحَدِيْث يأتي الكلامم عَلِيهِ فِي مواضعه – إن شاء الله –؛ فإن البخاري خرجه فِي مواضع متعددة.

ص: 111

‌46 - بَاب

أَهْلِ العِلْمِ والفَضْلِ أَحَقُّ بِالإِمَامَةِ

فِيهِ خمسة أحاديث:

الحَدِيْث الأول:

ص: 112

678 – حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن نصر: حَدَّثَنَا حسين، عَن زائدة، عَن عَبْد الملك ابن عمير، قَالَ: حَدَّثَنِي أبو بردة، عَن أَبِي موسى، قَالَ: مرض النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه، فَقَالَ:((مروا أَبَا بَكْر فليصل بالناس)) . قَالَتْ عَائِشَة: إنه رَجُل رقيق، إذا قام مقامك لَمْ يستطع أن يصلي بالناس. قَالَ:((مري أَبَا بَكْر فليصل بالناس)) ، فعادت، فَقَالَ:((مري أَبَا بَكْر فليصل بالناس؛ فإنكن صواحب يوسف)) ، فأتاه الرسول، فصلى بالناس فِي حَيَاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

استدل البخاري بهذا الحَدِيْث عَلَى أن أهل الفضل والعلم أحق بالإمامة من غيرهم؛ فإن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أمر أَبَا بَكْر من بين الصَّحَابَة كلهم بالصلاة بالناس، وروجع فِي ذَلِكَ مراراً وَهُوَ يأبى إلا تقديمه فِي الصلاة عَلَى غيره من الصَّحَابَة، وإنما قدمه لعلمه وفضله؛ فأما فضله عَلَى سائر الصَّحَابَة فهو مِمَّا اجتمع عَلِيهِ أهل السنة والجماعة، وأما علمه فكذلك.

وقد حكى أبو بَكْر ابن السمعاني وغيره إجماع أهل السنة عَلِيهِ – أَيْضاً.

ص: 112

وهذا مِمَّا يستدل بِهِ من قَالَ: إن الأفقه والأعلم مقدم عَلَى مقدم عَلَى الأقرإ؛ فإن أَبِي بْن كعب كَانَ أقرأ الصَّحَابَة، كما قَالَ عُمَر:((أَبِي أقرؤنا)) .

وروي عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من وجوه، أَنَّهُ قَالَ:((أقرأ أمتي لكتاب الله أَبِي بْن كعب)) .

خرجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه – وصححه الترمذي – من حَدِيْث أَبِي قلابة، عَن أنس.

وقد روي عَن أَبِي قلابة مرسلاً من غير ذكر ((أَنَس)) ، وَهُوَ أصح عِنْدَ كثير من الحفاظ.

فلما قدم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْر عَلَى أَبِي بْن كعب فِي الصلاة بالناس دل عَلَى أن الأعلم والأفقه والأفضل مقدم عَلَى الأقرإ.

وقد اختلف العلماء: هَلْ يقدم الأقرأ عَلَى الأفقه، أم الأفقه عَلَى الأقرإ؟

فَقَالَتْ طائفة: يقدم الأفقه، وَهُوَ قَوْلِ عَطَاء والثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وأبي ثور.

وَقَالَ الليث: يؤمهم أفضلهم وخيرهم، ثُمَّ أقرؤهم، ثُمَّ أسنهم.

وقالت طائفة: يقدم الأقرأ عَلَى الأفقه، وحكي عَن الأشعث بْن قيس وابن سيرين والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، حكاه عنهم ابن المنذر واختاره.

وما حكيناه عَن الثوري، حكاه أصحابه

ص: 113

عَنْهُ فِي كتبهم المصنفة عَلَى مذهبه.

ونص أحمد عَلَى أَنَّهُ يقدم الأقرأ إذا كَانَ يعرف مَا يحتاج إليه الصلاة من الفقه، وكذلك قَالَ كثير من المحققين من أصحابه، وحكموا مذهبه عَلَى هَذَا الوجه.

واستدل من قدم الأقرأ بما خرجه مُسْلِم فِي ((صحيحه)) من حَدِيْث أوس بْن ضمعج، عَن أَبِي مَسْعُود الأنصاري، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا فِي القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا فِي السنة سواء فأقدمهم هجرة)) .

وفي رِوَايَة لمسلم: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة)) .

وخرجه الحَاكِم، وعنده ((يؤم القوم أكثرهم قرآناً)) – وذكر الحَدِيْث.

وخرج مُسْلِم – أَيْضاً – من حَدِيْث أَبِي نضرة، عَن أَبِي سَعِيد الْخُدرِيَّ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كانوا ثَلَاثَة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم)) .

وخرج البخاري فِي ((كتابه)) هَذَا من حَدِيْث عَمْرِو بْن سَلَمَة الجرمي، عَن أَبِيه، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً)) .

وخرج – أَيْضاً – فِيهِ من حَدِيْث ابن عُمَر، قَالَ: لما قدم المهاجرون الأولون قَبْلَ مقدم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يؤمهم سَالِم مَوْلَى أَبِي حذيفة، وكان أكثرهم قرآناً.

ص: 114

وخرج الإمام أحمد من حَدِيْث أَبِي موسى الأشعري، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((يؤمكم أقرؤكم)) .

وخرجه أبو داود وابن ماجه من حَدِيْث ابن عَبَّاس، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((ليؤمكم قراؤكم)) .

وفي الباب أحاديث أخر.

وقد تأول الشَّافِعِيّ وغيره هذه الأحاديث عَلَى أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إنما خاطب أصحابه، وكان أكثرهم قرآناً أكثرهم فقهاً؛ فإن قراءتهم كَانَتْ علماً وعملاً بخلاف من بعدهم.

وأجيب عَن هَذَا بوجهين:

أحدهما: أن هَذَا خطاب عام للأمة كلهم، فلا يختص بالصحابة.

والثاني: أَنَّهُ فرق بَيْن الأقرإ والأعلم بالسنة، وقدم الأقرإ عَلِيهِ.

وأجاب الإمام أحمد عَن تقديم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْر عَلَى أَبِي بْن كعب وغيره، بأنه أراد بذلك التنبيه عَلَى خلافته، فلهذا المعنى قدمه فِي الصلاة عَلَى النَّاس كلهم.

وقد منع بعضهم أن يكون أَبِي بْن كعب أقرأ من أَبِي بَكْر، لأن المراد بالأقرإ فِي الإمامة الأكثر قرآناً. وَقَالَ: كَانَ أبو بَكْر يقرأ القران كله، فلا مزية لأبي بْن كعب عَلِيهِ فِي ذَلِكَ، وامتاز أبو بَكْر بالعلم والفضل.

وهذه المسألة لأصحابنا فيها وجهان: إذا اجتمع قارئان، أحدهما أكثر

ص: 115

قرآناً، والآخر أجود قراءةً، فهل يقدم الأكثر قرآناً عَلَى الأجود قراءة، أم بالعكس؟

وأكثر الأحاديث تدل ى اعتبار كثرة القرآن.

وإن اجتمع فقيهان قارئان، أحدهما أفقه، والآخر أجود قراءة، ففي أيهما يقدم وجهان – أَيْضاً.

وقيل: إن المنصوص عَن أحمد، أَنَّهُ يقدم الأقرأ.

الحَدِيْث الثاني:

ص: 116

679 – حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف، أنا مَالِك، عَن هِشَام بْن عُرْوَةَ، [عَن أَبِيه] ، عَن عَائِشَة، أنها قَالَتْ: إن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي مرضه: ((مروا أَبَا بَكْر فليصل بالناس)) . قَالَتْ عَائِشَة: قُلتُ: إن أَبَا بَكْر إذا قام فِي مقامك لَمْ يسمع النَّاس من البكاء، فمر عُمَر فليصل بالناس، قَالَتْ عَائِشَة: فَقُلْت لحفصة: قولي: إن أَبَا بَكْر إذا قام مقامك لَمْ يسمع النَّاس من البكاء، فمر عُمَر فليصل بالناس، ففعلت حَفْصَةَ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ((مه، إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أَبَا بَكْر فليصل بالناس)) . فَقَالَتْ حفصة لعائشة: مَا كُنْتُ لأصيب منك خيراً.

والمراد من هَذَا الحَدِيْث فِي هَذَا الباب: امر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْر بالصلاة بالناس فِي مرضه، وأنه روجع فِي ذَلِكَ فزجر من راجعه، وكرر الأمر بذلك.

ص: 116

الحَدِيْث الثالث:

ص: 117

680 – حَدَّثَنَا أبو اليمان، أنا شعيب، عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: أخبرني أنس بْن مَالِك الأنصاري – وكان تبع النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وخدمه وصحبه -، أن أَبَا بَكْر كَانَ يصلي بهم فِي وجع النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي توفى فِيهِ، حَتَّى إذا كَانَ يوم الأثنين وهم صفوف فِي الصلاة، فكشف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة، ينظر إلينا وَهُوَ قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثُمَّ تبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فنكص أبو بَكْر عَلَى عقبيه ليصل الصف، وظن أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: أن ((أتموا صلاتكم)) ، وأرخى الستر، فتوفي من يومه صلى الله عليه وسلم.

فِي هَذَا الحَدِيْث أن أَبَا بَكْر استمر عَلَى إقامته فِي الصلاة إلى أن توفي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وأن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كشف الستر، ونظر إليه وَهُوَ يؤم النَّاس فِي صلاة الصبح يوم الأثنين، وهي آخر صلاة أدركها النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي حياته، فظن أبو بَكْر أَنَّهُ خارج إلى الصلاة، فأخذ فِي التأخر إلى صف المأمومين؛ ليتقدم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فيؤم النَّاس، فأشار إليهم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، أن أتموا صلاتكم، وأرخى الستر.

وهذا فِيهِ أمر لأبي بَكْر بأن يستمر عَلَى إمامته فِي آخر صلاة أدركها وَهُوَ حي.

وظاهر هَذَا الحَدِيْث، يدل عَلَى أَنَّهُ لَمْ يخرج إلى المسجد ولم يصل مَعَ الجماعة تلك الصلاة، لا إماماً ولا مأموماً.

وقد قَالَ كثير من السلف، إنه خرج وصلى خلف أَبِي بَكْر فِي الصف

ص: 117

تلك الصلاة.

وقد سبق حَدِيْث أَنَس، أن آخر صلاة صلاها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب متوشحاً خلف أَبِي بَكْر.

وقد جمع البيهقي وغيره بَيْن تلك وبين حَدِيْث أَنَس هَذَا، بأنه أرخى الستر ودخل، ثُمَّ وجد خفة فخرج فصلى خلف أَبِي بَكْر الركعة الثانية، وقضى الركعة الَّتِيْ فاتته.

وقد صح هَذَا المعنى عَن عُبَيْدِ بْن عمير – أَيْضاً.

وروي صريحاً – أَيْضاً – من حَدِيْث عَائِشَة وأم سَلَمَة وأبي سَعِيد.

خرجه ابن سعد فِي ((طبقاته)) عَن الواقدي.

الحَدِيْث الرابع:

ص: 118

681: حَدَّثَنَا أبو معمر، قَالَ: ثنا عَبْد الوارث: ثنا عَبْد العزيز، عَن أَنَس، قَالَ: لَمْ يخرج النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، فأقيمت الصلاة، فذهب أبو بَكْر فتقدم، فَقَالَ نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب، فرفعه، فلما وضح وجه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مَا رأينا منظراً كَانَ أعجب إلينا من وجه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حِينَ وضح لنا، فأوما النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بيده إلى أَبِي بَكْر أن يتقدم، وأرخى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الحجاب، فَلَمْ يقدر عَلِيهِ حَتَّى مات.

وهذا الحَدِيْث قريب من حَدِيْث الزُّهْرِيّ عَن أَنَس الَّذِي قبله، وفيه: التصريح بإيماء النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إلى أَبِي بَكْر أن يتقدم ويؤم النَّاس، ولكنه يوهم أن أَبَا بَكْر لَمْ يكن قَدْ دَخَلَ فِي الصلاة، وحديث الزُّهْرِيّ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ دَخَلَ فِي الصلاة.

ص: 118

الحَدِيْث الخامس:

ص: 119

682 – حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن سُلَيْمَان، قَالَ: حَدَّثَنِي ابن وهب: حَدَّثَنِي يونس، عَن ابن شِهَاب، عَن حَمْزَة بْن عَبْد الله، أَنَّهُ أخبره عَن أَبِيه، قَالَ: لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه قيل لَهُ فِي الصلاة. قَالَ: ((مروا أَبَا بَكْر فليصل بالناس)) . قَالَتْ عَائِشَة: أن أَبَا بَكْر رَجُل رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء. قَالَ:((مروه فليصل)) ، فعاودته، فَقَالَ:((مروه فليصل، فإنكن صواحب يوسف)) .

تابعه: الزبيدي وابن أخي الزُّهْرِيّ وإسحاق بْن يَحْيَى الكلبي، عَن الزُّهْرِيّ.

وقال عقيل ومعمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حَمْزَة، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مرسلاً.

قَدْ ذكر البخاري الاختلاف عَلَى الزُّهْرِيّ فِي إسناده، وأنه روي عَنْهُ متصلاً ومرسلاً.

فخرجه من طريق ابن وهب، عَن يونس، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حَمْزَة بْن عَبْد الله بْن عُمَر، عَنْهُ أَبِيه – متصلاً -، وذكر أَنَّهُ تابعه عَلَى وصله الزبيدي وابن أخي الزُّهْرِيّ وإسحاق الكلبي، وأرسله عَن الزُّهْرِيّ، عَن حَمْزَة – من غير ذكر ابن عُمَر -: عقيل ومعمر.

ص: 119

وقد اختلف عَن معمر:

وخرجه مُسْلِم من حَدِيْث معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حَمْزَة، عَن عَائِشَة.

واختلف فِيهِ عَلَى عقيل – أَيْضاً -:

فروي عَنْهُ، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حَمْزَة – مرسلاً.

وروي عَنْهُ، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حَمْزَة، عَن عَائِشَة.

وكذا قَالَ يونس بْن أَبِي إِسْحَاق، عَن الزُّهْرِيّ.

وكلاهما محفوظ عَنْهُ -: ذكر ذَلِكَ الدارقطني فِي موضع من ((علله)) .

وذكر فِي موضع آخر مِنْهَا: أَنَّهُ رواه عقيل، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حَمْزَة، عَن أَبِيه.

قَالَ: وَهُوَ الصواب.

قُلتُ: ورواه ابن المبارك، عَن يونس ومعمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حَمْزَة – مرسلاً.

ص: 120

‌47 - بَاب

مَنْ قَامَ إلى جَنْبِ الإمَامِ لِعِلَّةٍ

ص: 121

683 – حَدَّثَنَا زكريا بْن يَحْيَى: ثنا ابن نمير: ثنا هِشَام بْن عُرْوَةَ، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة، قَالَتْ: أمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْر أن يصلي بالناس فِي مرضه، فكان يصلي بهم.

قَالَ عُرْوَةَ: فوجد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة، فخرج، فإذا أبو بَكْر يؤم النَّاس، فلما رآه أبو بَكْر استأخر، فأشار إليه أن كما أنت، فجلس رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حذاء أَبِي بَكْر إلى جنبه، فكان أبو بَكْر يصلي بصلاة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يصلون بصلاة أَبِي بَكْر.

المُتَّصِل من هَذَا الحَدِيْث: هُوَ أمر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْر أن يصلي بالناس فِي مرضه، فكان يصلي بهم، وما بعده مدرج من قَوْلِ عُرْوَةَ، كما خرجه البخاري هاهنا.

وكذا خرجه مُسْلِم عَن جماعة، كلهم عَن ابن نمير، بِهِ.

وكذا رَوَى هَذَا الكلام الآخر مَالِك فِي ((موطئه)) عَن هِشَام، عَن أَبِيه – مرسلاً.

وقد وصله بعض الرواة بحديث عَائِشَة، فمن وصله بحديث عَائِشَة فَقَدْ أدرجه.

ص: 121

ولكن قَدْ روي هَذَا المعنى متصلاً من وجوه أخر، كلها لا تخلو عَن علة، وقد سبق ذكرها والإشارة تعليلها.

ومراد البخاري بهذا الباب: أن أَبَا بَكْر صلى مؤتما بالنبي صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ قائم إلى جانبه بإشارة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إليه فِي ذَلِكَ، ولم يتركه يتأخر إلى الصف، وكان ذَلِكَ لعلة، وهي أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يصلي بالناس جالساً، والناس قيام وراءه، فكان قيام أَبِي بَكْر إلى جانبه، لإسماع النَّاس تكبير النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ورؤية النَّاس لَهُ؛ ليتمكنوا من كمال الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث لَمْ يمكنه القيام، ولولا هذه العلة لكانت السنة لأبي بَكْر أن يقوم فِي الصف وراء النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

وقد ذكر هَذَا المعنى طائفة من الشافعية.

ونقله الوليد بْن مُسْلِم عَن مَالِك، أَنَّهُ أجاز للمريض أن يصلي بالناس جالساً وهم قيام. قَالَ: وأحب إلي أن يقوم إلى جنبه من يعلم النَّاس بصلاته.

وهي رِوَايَة غريبة عَن مَالِك، ومذهبه عِنْدَ أصحابه: أَنَّهُ لا يجوز ائتمام القائم بالجالس.

وهذا كله عَلَى قَوْلِ من قَالَ: إن أَبَا بَكْر كَانَ مأموماً، فأما من قَالَ هُوَ الإمام فلا إشكال عنده فِي قيام أَبِي بَكْر إلى جانب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما أشكل عنده جلوس النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إلى جنب أَبِي بَكْر، وقد يجاب عَنْهُ بأنه يحتمل أن يكون ذَلِكَ لضيق الصف. والله أعلم.

ص: 122

‌48 - بَاب

مَنْ دَخَلَ ليَؤُمَّ النَّاسَ فَجَاءَ الإمَامُ الأَوَّلُ فَتَأَخَّرَ الآخَرُ

أَوْ لَمْ يَتَأَخَّرْ جَازَتْ صَلَاتُهُ

فِيهِ: عَائِشَة، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

حَدِيْث عَائِشَة، سبقت الإشارة إليه فيما مضى، وقد خرجه البخاري بتمامه فيما بعد من حَدِيْث عُبَيْدِ الله بْن عَبْد الله، عَن عَائِشَة.

ص: 123

684 – حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف: أنا مَالِك، عَن أَبِي حَازِم بْن دينار، عَن سَهْل بْن سعد الساعدي، أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عَمْرِو بْن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أَبِي بَكْر، فَقَالَ: أتصلي للناس فأقيم. قَالَ: نَعَمْ، فصلى أبو بَكْر، فجاء النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم والناس فِي الصلاة، فتخلص حَتَّى وقف فِي الصف، فصفق النَّاس، وكان أبو بَكْر لا يلتفت فِي صلاته، فلما أكثر النَّاس التصفيق التفت، فرأى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك، فرفع أبو بَكْر يديه، فحمد الله عَلَى مَا أمره بِهِ رَسُول الله من ذَلِكَ، ثُمَّ استأخر أبو بَكْر حَتَّى استوى فِي الصف، وتقدم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فصلى، فلما انصرف قَالَ:((يَا أَبَا بَكْر، مَا منعك أن تثبت إذ أمرتك؟)) فَقَالَ أبو بَكْر: مَا كَانَ لابن أَبِي قحافة أن يصلي بَيْن يدي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم:

ص: 123

((مَا لِي أراكم أكثرتم التصفيق؟ من نابه شيء فِي صلاته فليسبح؛ فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء)) .

فِي هَذَا الحَدِيْث فوائد كثيرة:

مِنْهَا: أن الإمام يستحب لَهُ الإصلاح بَيْن طائفتين من المُسْلِمِين إذا وقع بينهم تشاجر، وله أن يذهب إليهم إلى منازلهم لذلك.

ومنها: أن الإمام الراتب للمسجد إذا تأخر وعلم أَنَّهُ غائب عَن منزله فِي مكان فِيهِ بعد، ولم يغلب عَلَى الظن حضوره، أو غلب ولكنه لا ينكر ذَلِكَ ولا يكرهه، فلأهل المسجد أن يصلوا قَبْلَ حضوره فِي أول الوقت، وكذا إذا ضاق الوقت.

وأما إن كَانَ حاضراً أو قريباً، وكان الوقت متسعاً، فإنه ينتظر، كما انتظروا النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لما أخر صلاة العشاء حَتَّى نام النِّسَاء والصبيان، وقد سبق ذكره.

ومنها: أَنَّهُ إنما يؤم النَّاس مَعَ غيبة الإمام أفضل من يوجد من الحاضرين، ولذلك دعي أبو بَكْر إلى الصلاة دون غيره من الصَّحَابَة.

وهذا مِمَّا يستدل بِهِ عَلَى أن الصَّحَابَة كلهم كانوا معترفين بفضل أَبِي بَكْر وتقدمه عليهم، وعلمهم أَنَّهُ لا يقوم مقام النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مَعَ غيبته غيره.

وقد روي أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنر فِي هَذَا اليوم أَبَا بَكْر أن يؤم النَّاس إذا لَمْ يحضر.

فخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي هَذَا الحَدِيْث من طريق

ص: 124

حماد بْن زيد، عَن أَبِي حَازِم، عَن سَهْل بْن سعد، وفيه: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((يَا بلال، إن حضرت الصلاة ولم آت فمر أَبَا بَكْر يصلي بالناس)) .

وخرجه الحَاكِم من طريق عُمَر المقدمي، عَن أَبِي حَازِم، وفي حديثه: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((يَا أَبَا بَكْر، إن أقيمت الصلاة فتقدم فصل بالناس)) . قَالَ: نَعَمْ.

وعلى هذه الرواية، فإنما تقدم أبو بَكْر بإذن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَهُ فِي ذَلِكَ.

وفيه: دليل عَلَى أن أَبَا بَكْر كَانَ أحق النَّاس بالإمامة فِي حَيَاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ تخلفه عَن الصلاة بالناس فِي صحته ومرضه.

وهذا يشكل عَلَى قَوْلِ الإمام أحمد: إنه إنما أمره فِي مرضه بالصلاة؛ لأنه أراد استخلافه عَلَى الأمة، فإن أمره بالصلاة فِي غيبته يدل عَلَى أَنَّهُ أحق النَّاس بالإمامة، وأنه أقرأ الصَّحَابَة؛ فإنه يقرأ مَا يقرءون، ويزيد عليهم باختصاصه بمزيد الفهم والفضل، وما اختص بِهِ من الخشوع فِي الصلاة وعدم الالتفات فيها، وكثرة البكاء عِنْدَ قراءة القرآن.

ومنها: أن شق الداخل فِي الصلاةالداخل فِي الصلاة الصفوف طولاً حَتَّى يقوم فِي الصف الأول ليس بمكروه، ولعله كَانَ فِي الصف الأول فرجة، وقد سبق ذكر هذه المسألأة فِي ((أبواب: المرور بَيْن يدي المصلي)) .

وقد قيل: إنَّ ذَلِكَ يختص جوازه بمن تليق به الصلاة بالصف الأول

ص: 125

لفضله وعلمه، وَهُوَ الَّذِي ذكره ابن عَبْد البر.

والمنصوص عَن أحمد: كراهته.

قَالَ ألأثرم: قُلتُ لأبي عَبْد الله: يشق الصفوف إذا قاموا إلى الصلاة عَلَى نحو حَدِيْث المسور بْن مخرمة؟ كأنه لَمْ يعجبه، ثُمَّ قَالَ: اللهم إلا أن يضيق الموضع بالناس، وتؤذيهم الشمس، فإذا أقيمت شق الصفوف ودخل، ليس بِهِ التخطي، إنما بِهِ مَا أذاه الشمس.

ومنها: أن الالتفات فِي الصلاة لحاجة عرضت غير مكروه، وإنما يكره لغير حاجةٍ.

ومنها: أن الالتفات وكثرة التصفيق لحاجة غير مبطل للصلاة، وكذلك التأخر والمشي من صف إلى صف.

ومنها: أن رفع اليدين فِي الصلاة، وحمد الله تعالى عِنْدَ نعمه تجددت غير مبطل للصلاة.

وقد اختلف فِي ذَلِكَ:

فَقَالَ عُبَيْدِ الله بْن الْحَسَن العنبري: هُوَ حسن.

وَقَالَ الأوزاعي: يمضي فِي صلاته.

وَقَالَ عَطَاء: مَا جرى عَلَى لسان الرَّجُلُ فِي الصلاة مَا لَهُ أصل فِي القرآن فليس بكلام.

وَقَالَ إِسْحَاق: إن تعمده فهو كلام، يعيد الصلاة، وإن سبق مِنْهُ من غير تعمد فليس عَلِيهِ إعادة.

وَقَالَ – مرة -: إن تعمد فأحب إلى أن يعيد، فلا يتبين لِي -: نقله عَنْهُ حرب.

وعن أحمد، أَنَّهُ يعيد الصلاة بذلك. وروي عَنْهُ مَا يدل عَلَى أَنَّهُ لا تعاد الصلاة مِنْهُ، وقد

ص: 126

سبق ذَلِكَ مستوفى فِي ((بَاب: مَا يَقُول إذا سَمِعَ المؤذن)) .

ومنها: أن أمر الإكرام لاتكون مخالفته معصية، ولهذا قَالَ أبو بَكْر:((مَا كَانَ لابن أَبِي قحافة أن يصلي بَيْن يدي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم)) ، ولم يكن ذَلِكَ عَلِيهِ.

وهذا مِمَّا استدل بِهِ من قَالَ: إن أَبَا بَكْر لَمْ يؤم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قط، لا فِي صحته ولا فِي مرضه.

ومنها – وَهُوَ الَّذِي قصده البخاري بتبويبه هاهنا -: أن من أحرم بالصلاة إماماً فِي مسجد لَهُ إمام راتب، ثُمَّ حضر إمامه الراتب، فهل لَهُ أن يؤخر الَّذِي أحرم بالناس إماماً ويصير مأموماً، ويصير الإمام الإمام الراتب، أم لا بل ذَلِكَ من خصائص النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إمام النَّاس عَلَى كل حال، وقد نهى الله عَن التقدم بَيْن يديه، ولهذا قَالَ أبو بَكْر:((مَا كَانَ لابن أَبِي قحافة أن يصلي بَيْن يدي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم)) ؟ فِي ذَلِكَ قولان:

أحدهما: أَنَّهُ لا يجوز ذَلِكَ، بل هُوَ من خصائص النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم. وحكاه ابن عَبْد البر إجماعاً من العلماء، وحكاه بعض أصحابنا عَن أكثر العلماء.

والثاني: أَنَّهُ يجوز ذَلِكَ، وتبويب البخاري يدل عَلِيهِ، وَهُوَ قَوْلِ الشَّافِعِيّ، وأحد الوجهين لأصحابنا، وقول ابن الْقَاسِم من المالكية.

واستدل بهذا الحَدِيْث عَلَى أن الإمام إذا سبقه الحدث جاز لَهُ أن يستخلف بعض المأمومين؛ لأنه إذا جازت الصلاة بإمامين مَعَ إمكان إتمامها بالإمام الأول فمع عدم إمكان ذَلِكَ لبطلان صلاة

ص: 127

الأول أولى.

وفي الحَدِيْث – أَيْضاً -: أن الرَّجُلُ إذا نابه شيء فِي صلاته، فإنه يسبح، ولو صفق لَمْ تبطل صلاته، ولكنه يكون مكروهاً.

وأما قوله: ((إنما التصفيح للنساء)) ، فاختلفوا فِي معناه:

فحمله مَالِك وأصحابه عَلَى أن المراد: أن التصفيح من أفعال النِّسَاء، فيكون إخباراً عَن عيبه وذمة، وأنه لا ينبغي أن يفعله أحد فِي الصلاة، رجلاً كَانَ أو أمرأةً.

وحملوا قوله: ((من نابه شيء فِي صلاته فليسبح)) عَلَى أَنَّهُ عام، يدخل فِي عمومه الرجال والنساء، إخبار مِنْهُ بمشروعيته للنساء فِي الصلاة.

وقد رَوَى هَذَا الحَدِيْث حماد بْن زيد، عَن أَبِي حَازِم، عَن سَهْل، وَقَالَ فِي حديثه:((إذا نابكم شيء فِي الصلاة فليسبح الرجال، وليصفح النِّسَاء)) .

خرجه النسائي وغيره.

وهذا صريح فِي ذَلِكَ، سيأتي الكلام عَلَى ذَلِكَ مستوفى فِي موضعه من الكتاب – إن شاء الله تعالى –؛ فإن البخاري خرج التسبيح للرجال والتصفيق للنساء من حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ وسهل بْن سعد، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

وقد روي معنى حَدِيْث سَهْل من حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ بسياق غريب.

ص: 128

خرجه الترمذي فِي كِتَاب ((العلل)) : حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن الصباح: ثنا شبابة، عَن المغيرة بْن مُسْلِم، عَن مُحَمَّد بْن عَمْرِو، عَن أَبِي سَلَمَة، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: ذهب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي حاجة، فأقام بلال الصلاة، فتقدم أبو بَكْر، فجاء النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بَكْر فِي الصلاة، فأرادوا أن يردوا وصفقوا، فمنعهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، فلما انفتل قَالَ:((التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء)) .

وَقَالَ: سألت عَنْهُ مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل - يعني: البخاري – فَلَمْ يعرفه، وجعل يستحسنه، وَقَالَ: المشهور: عَن أَبِي حَازِم، عَن سَهْل. انتهى.

وهذا يخالف مَا فِي حَدِيْث سَهْل، من أن أَبَا بَكْر تأخر وتقدم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فصلى بالناس، والصحيح: حَدِيْث سَهْل. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 129

‌49 - بَاب

إذا اسْتَوَوْا فِي الْقراَءةِ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ

ص: 130

685 – حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن حرب: ثنا حماد بْن زيد، عَن أيوب، عَن أبي قلابة، عَن مَالِك بْن الحويرث، قَالَ: قدمنا عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ونحن شببة، فلبثنا عنده نحواً من عشرين ليلة، وكان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رحيماً، فَقَالَ:((لَوْ رجعتم إلى بلادكم، فعلمتموهم، مروهم فليصلوا صلاة كذا فِي حِينَ كذا، وصلاة كذا فِي حِينَ كذا، فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم)) .

هَذَا الحديث خرجه مُسْلِم – بمعناه – من حَدِيْث خَالِد الحذاء، عَن أَبِي قلابة، وزاد فِيهِ: قَالَ الحذاء: وكانا متقاربين فِي القراءة.

وخرجه أبو داود، وزاد فِيهِ: وكنا يومئذ متقاربين فِي العلم.

ورواه حماد بْن سَلَمَة، عَن أيوب، عَن أَبِي قلابة، عَن مَالِك بْن الحويرث، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((يؤم القوم أكبرهم سناً)) .

ذكره أبو بَكْر الأثرم، وَقَالَ: غلط حماد فِي لفظة، وإنما رواه بالمعنى.

وفي ((صحيح مُسْلِم)) من حَدِيْث أوس بْن ضمعج، عَن أَبِي مَسْعُود،

ص: 130

عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله، وأقدمهم قراءةً، فإن كَانَتْ قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا فِي الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سناً)) .

وفي ألفاظ هَذَا الحَدِيْث اخْتِلَاف، وقد توقف فِيهِ أبو حاتم الرَّازِي، وحكى عَن شعبة، أَنَّهُ كَانَ يهابه؛ لتفرد إِسْمَاعِيل بْن رجاء بِهِ عَن أوس، فَقَالَ: إنما رواه الْحَسَن بْن يزيد الأصم، عَن السدي، وَهُوَ شيخ، وأخاف أن لا يكون محفوظاً – يعني: حَدِيْث السدي.

وهذه الأحاديث كلها تدل عَلَى التقديم بالسن عِنْدَ التساوي فِي القرءاة وغيرهم من الفضائل، وقد أخذ بذلك أكثر العلماء.

قَالَ عَطَاء والثوري وأبو حنيفة: إذا استووا فِي القراءة والفقة فأسنهم.

وَقَالَ مَالِك: للسن حق.

ولكن اختلفوا: هَلْ تقدم الهجرة والنسب عَلَى السن، أم لا؟

وفيه اخْتِلَاف بَيْن أصحابنا وغيرهم من الفقهاء.

وقول إِسْحَاق: إنه يقدم بالهجرة، وبعدها بالسن. وقيل: إنه ظاهر كلام أحمد – أَيْضاً.

ومما يفرع عَلَى التقديم بالسن، أَنَّهُ: هَلْ يكره أن يؤم الرَّجُلُ أباه إذا كَانَ أقرأ مِنْهُ وأفقه؟

فمن العلماء من كرهه، منهم: عَطَاء، وحكي عَن أَبِي حنيفة، ورواية عَن

أحمد، والمشهور الَّذِي نقله عَنْهُ أكثر أصحابه: أَنَّهُ لا يكره إذا

ص: 131

كَانَ أقرأ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلِ الثوري.

وروي عَن أَبِي أسيد الأنصاري – وَهُوَ من الصَّحَابَة -، أَنَّهُ كَانَ يأتم بابنه، وكذلك عَمْرِو بْن سَلَمَة الجرمي كَانَ يؤم الحي وفيهم أبوه، وقد قدم أبو بَكْر الصديق مكة فِي خلافته فأمهم وفيهم أبو قحافة.

ص: 132

‌50 - بَاب

إذا زَارَ [الإمَامُ] قَوْماً فَأَمَّهُمْ

ص: 133

686 – حَدَّثَنَا معاذ بن أسد: ثنا عَبْد الله: أنا معمر، عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: أخبرني محمود بْن الربيع، قَالَ: سَمِعْت عتبان بْن مَالِك الأنصاري قَالَ: استأذن عَلِيّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فأذنت لَهُ، فَقَالَ:((أين تحب أن أصلي من بيتك؟)) فأشرت لَهُ إلى المكان الَّذِي أحب، فقام وصففنا خلفه، ثُمَّ سلم فسلمنا.

قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث مطولاً ومختصراً فِي ((أبواب المساجد)) .

وإنما مقصوده مِنْهُ هاهنا: أَنَّهُ يجوز للزائر أن يؤم فِي منزل من زاره بإذنه.

وقد اختلف فِي كراهة ذَلِكَ:

فكرهه طائفة: منهم: إِسْحَاق، واستدل بما رَوَى بديل بْن ميسرة، عَن أَبِي عطية مَوْلَى لهم، عَن مَالِك بْن الحويرث، قَالَ: سَمِعْت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقوم: ((من زار قوماً فلا يؤمهم، وليؤمهم رَجُل منهم)) .

خرجه أبو داود والترمذي. وخرجه النسائي بمعناه، وحسنه الترمذي.

وقد عمل بهذا الحَدِيْث مَالِك بْن الحويرث، ولم يتقدم فِي منزل غيره مَعَ أمرهم لَهُ بالتقدم، واستدل بما رواه.

ص: 133

وأبو عطية هَذَا، قَالَ ابن المديني: لا نعرفه.

رَوَى إِسْحَاق بْن يَحْيَى بْن طلحة، عَن المُسَيِّب بْن رافع ومعبد بْن خَالِد، عَن عَبْد الله بْن يزيد الخطمي – وكان أميراً عَلَى الكوفة -، فَقَالَ: أتينا قيس بْن سعد بْن عُبَادَة فِي ببيته، فأذن بالصلاة، فقلنا لقيس: قم فصل لنا، فَقَالَ: لَمْ أكن لأصلي بقوم لست عليهم بأمير، فَقَالَ رَجُل ليس بدونه – يقال لَهُ: عَبْد الله ابن حنظلة الغسيل -: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرَّجُلُ أحق أن يؤم فِي رحله)) .

خرجه الجوزجاني.

وخرجه الطبراني والبزار، وعنده:((فِي بيته)) ، وزاد:((فأمر مَوْلَى لَهُ فتقدم فصلى)) .

وخرجه البيهقي – أَيْضاً – بمعناه.

وإسحاق هَذَا، ضَعِيف جداً.

وقد روي هَذَا المعنى من وجوه متعددة فيها ضعف.

وروى أبو نضرة، عَن أَبِي سَعِيد مَوْلَى أَبِي أسيد، قَالَ: بنيت عَلَى أهلي وأنا مملوك، فدعوت أناساً من أصْحَاب رَسُول الله عود وأبو ذر وحذيفة، فحضرت الصلاة، فَقُلْت: بتقدم بعضكم. فقالوا: لا، تقدم أنت أحق فقدموني.

خرجه وكيع وابن أَبِي شيبة وغيرهما.

واستدل بِهِ بِهِ أحمد وغيره

ص: 134

عَلَى إمامة العبد.

وروى أبو إِسْحَاق، عَن علقمة – قَالَ: ولم أسمعه مِنْهُ – أن ابن مَسْعُود أتى أَبَا موسى فِي منزله، فحضرت الصلاة، فَقَالَ أبو موسى تقدم يَا أَبَا عَبْد الرحمن؛ فإنك أقدمنا سنا وأعلم. قَالَ: بل تقدم أنت؛ فإنما أتيناك فِي منزلك ومسجدك، فأنت أحق فتقدم أبو موسى.

وَقَالَ أشعث، عَن الْحَسَن: صاحب البيت أحق بالإمامة.

ورخص آخرون فِي إقامة الزائر بإذن رب البيت، وَهُوَ قَوْلِ مَالِك وأحمد.

وهذا القول هُوَ الَّذِي بوب عَلِيهِ البخاري هاهنا، ولكنه لَمْ يشترط الإذن.

وقد وافقه ابن عقيل من أصحابنا، وَقَالَ: إنما يكون رب البيت وإمام المسجد أولى ممن سواه لا ممن هُوَ أقرأ مِنْهُ أو أفقه.

وظاهر هَذَا: أَنَّهُ يقدم الأقرأ والأفقه مطلقاً، عَلَى إمام المسجد ورب البيت، بإذنه وغيره.

وقد روي عَن حميد بْن عَبْد الرحمن مَا يدل عَلَى ذَلِكَ – أَيْضاً -، وسيأتي فيما بعد – إن شاء الله تعالى.

وأكثر العلماء عَلَى أَنَّهُ إنما يقدم عَلَى رب البيت وإمام المسجد بإذنه، وإنما يعتبرر الإذن فِي حق غير النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

وقد ذكر أبو بَكْر الأثرم فِي كتابه ((الناسخ والمنسوخ)) أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يصلي بالقوم إذا زارهم من غير استئذان؛ لأنه كَانَ إمام النَّاس كلهم

ص: 135

حيث مَا كَانَ، وليس هَذَا لغيره. قَالَ: والنهي عَن إمامة الزائر يحمل فِي حق أمته عَلَى إمامتهم بغير إذنهم.

وفي ((صحيح مُسْلِم)) عَن أَبِي مَسْعُود، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((لا يؤمن الرَّجُلُ الرَّجُلُ فِي سلطانه، ولا بقعد فِي بيته عَلَى تكرمته إلا بإذنه)) .

قَالَ الإمام أحمد: أرجو أن يكون الاستثناء عَلَى كله، وأما التكرمة فلا بأس بِهِ إذا أذن.

يعني: أن الاستثناء يعود إلى الجلوس عَلَى التكرمة قطعاً من غير شك، ويرجى عوده إلى الإمامة فِي سلطانه – أَيْضاً -، فيكون مرخصاً فيها بإذنه.

وفسر سُفْيَان وأحمد السلطان فِي هَذَا الحَدِيْث بداره.

ونقل حرب عَن أحمد، قَالَ: إذا كَانَ الرَّجُلُ فِي قريته وداره فهو فِي سلطانه، لا ينبغي لأحد أن يتقدمه إلا بإذنه.

وفي رِوَايَة لمسلم فِي حَدِيْث أَبِي مَسْعُود، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:((ولا يؤمن الرَّجُلُ فِي أهله ولا فِي سلطانه)) .

وعلى هذه الرواية، فالمراد بأهله: بيته، وبسلطانه: مَا يتصرف فِيهِ بأمره ونهيه، كأمير البلد.

وخرجه أبو داود، ولفظه:((ولا يؤمن الرَّجُلُ فِي بيته، ولا فِي سلطانه)) .

ولو اجتمع السلطان العام والسلطان الخاص، مثل أن يجتمع فِي بيت رَجُل رب البيت وسلطان المصر، أو فِي مسجد إمام المسجد والسلطان، فهل يقدم السلطان عَلَيْهِمَا، أم يقدمان عَلِيهِ، أم يقدم عَلَى إمام

ص: 136

المسجد دون صاحب البيت؛ لأن إمام المسجد إنما يقدم بتقديم السلطان لَهُ غالباً؟ فِيهِ ثَلَاثَة أوجه لأصحابنا.

وظاهر مَا تقدم عَن قيس بْن سعد يقتضي أن رب البيت أولى من السلطان وإمام المسجد، كرب البيت فيما ذكرنا.

وروى الشَّافِعِيّ: أنا عَبْد المجيد، عَن ابن جُرَيْج، قَالَ: أخبرني نَافِع، قَالَ: أقيمت الصلاة فِي مسجد بطائفة المدينة، ولابن عُمَر قريب من ذَلِكَ المسجد أرض يعملها، وإمام ذَلِكَ المسجد مولى لَهُ، ومسكن ذَلِكَ المَوْلَى وأصحابه ثُمَّ، فلما سمعهم عَبْد الله جَاءَ ليشهد معهم الصلاة، فَقَالَ لَهُ المولى صاحب المسجد: تقدم فصل. فَقَالَ عَبْد الله: أنت أحق أن تصلي فِي مسجدك مني، فصلى المولى.

قُلتُ: لعل هَذَا المولى كَانَ عتيقاً لابن عُمَر، وأما لَوْ كَانَ رقيقاً لَهُ ففي كونه أولى بالإمامة نظر.

وقد قَالَ أصحابنا: السيد فِي منْزل عبده أولى مِنْهُ بالإمامة؛ لأنه يملكه ويملك منْزله.

وهذا قَدْ يبنى عَلَى أن العبد: هَلْ يملك ماله، أم هُوَ ملك للسيد؟ وفيه خلاف مشهور. والله أعلم.

وروى أبو قيس، عَن هزيل بْن شرحبيل، قَالَ: جَاءَ ابن مَسْعُود إلى مسجدنا، فأقيمت الصلاة، فقلنا لَهُ: تقدم. فَقَالَ: يتقدم إمامكم. فقلنا: إن إمامه ليس هاهنا. قَالَ: يتقدم رَجُل منكم.

خرجه البيهقي.

ص: 137

وهذا مِمَّا يشهد لَهُ مَا تقدم عَن أحمد، أن الرَّجُلُ إذا كَانَ فِي قريته فهو فِي سلطانه، فلا يتقدم عَلِيهِ.

وروى حرب بإسناده، عَن الْحَسَن، أَنَّهُ دَخَلَ مسجداً، فَقَالَ لَهُ إمامه: تقدم يَا أَبَا سَعِيد، قَالَ: الإمام أحق بالإمامة.

وروي عَن حميد بْن عَبْد الرحمن، أَنَّهُ تقدم فِي بعض البوادي عَلَى إمامهم بغير إذن، وكره إمامه الأعرابي، وسيأتي فيما بعد – إن شاء الله تعالى.

ص: 138

‌51 - بَابُ

إنَّماَ جُعلَ الإمَامُ ليُوْتَمَّ بِهِ

وصلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي مرضه الَّذِي توفى فِيه بالناس وَهُوَ جالس.

وَقَالَ ابن مَسْعُود: إذا رفع قَبْلَ الإمام يعود فيمكث بقدر مَا رفع، ثُمَّ يتبع الإمام.

وَقَالَ الْحَسَن - فيمن يركع مَعَ الإمام ركعتين ولا يقدر عَلَى السجود -: يسجد للركعة الأخيرة سجدتين، ثُمَّ يقضي الركعة الأولى بسجودها. وفيمن نسي سجدة حَتَّى قام: يسجد.

المقصود بهذا الباب: أن الإمام يتبع فِي جميع أفعاله، وإن فات من متابعته شيء، فإنه يقضيه المأموم ثُمَّ يتبعه، وإنما يتم هَذَا بأن يصلوا وراءه جلوساً إذا صلى جالساً.

وهذا المعنى هُوَ الَّذِي قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لأجله: ((إنما جعل الإمام ليؤتم بِهِ)) ، والبخاري يدعي نسخه، كما ذكره فِي آخر الباب، فعلى قوله يفوت كمال المتابعة والائتمام بِهِ.

وما علقه من صلاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم جالساً فِي مرضه قَدْ خرجه فِي الباب بإسناده.

وأما مَا حكاه عَن ابن مَسْعُود، فمضمونه: أن من رفع رأسه قَبْلَ الإمام فإنه يعود إلى الركوع والسجود الَّذِي رفع مِنْهُ، فيمكث بقدر مَا رفع قبله ليتم متابعته، ويكون ركوعه وسجوده بقدر ركوع الإمام وسجوده.

ص: 139

وهكذا قَالَ عُمَر بْن الخَطَّاب، قَالَ: إذا رفع أحدكم رأسه من ركعته أو سجدته قَبْلَ الإمام، فليعد حَتَّى يرى قَدْ أدرك مَا فاته.

خرجه حرب الكرماني والإسماعيلي فِي ((مسند عُمَر)) من طريق أَيْنَ إِسْحَاق، عَن يعقوب بْن عَبْد الله بْن الأشج، عَن بسر بْن سَعِيد، عَن الحارث بْن مخلد، عَن أَبِيه مخلد، قَالَ: سَمِعْت عُمَر – فذكره.

وخرجه الحافظ أبو موسى المديني من طريق حماد بْن مسعدة، عَن ابن أَبِي ذئب، عَن يعقوب بْن الأشج، بِهِ، إلا أَنَّهُ رفعه إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

ورفعه فِيهِ نكارة.

وقد اعتبر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم هَذَا القدر من المتابعة للأمام، كما خرجه مُسْلِم من حَدِيْث أَبِي موسى الأشعري، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ((إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، وليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قَالَ:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}

[الفاتجة: 7] فقولوا: آمين، يجبكم الله، فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم)) . فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:((فتلك بتلك، وإذا قَالَ: سَمِعَ الله لمن حمده، فقالوا: اللهم ربنا لَكَ الحمد، يسمع الله لكم؛ فإن الله تعالى قَالَ عَلَى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: سَمِعَ الله لمن حمده، فإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا؛ فإن الإمام يسجد قبلكم ويرفع)) ؛ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: ((فتلك بتلك)) – وذكر بقية الحَدِيْث.

ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((فتلك بتلك)) : أن مَا سبقكم من ركوعه قبلكم

ص: 140

وسجوده قبلكم تدركونه بتأخركم بالرفع بعده من الركوع والسجود، فتساوونه فِي قدر ركوعه وسجوده بذلك.

وروى أبو داود وابن ماجه من حَدِيْث ابن مَسْعُود، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((لا تبادروني بالركوع ولا بالسجود، فمهما أسبقكم بِهِ إذا ركعت تدركوني إذا رفعت، ومهما أسبقكم بِهِ إذا سجدت تدركوني بِهِ إذا رفعت؛ إني قَدْ بدنت)) .

وخرج الإمام أحمد من حَدِيْث ابن مسعدة صاحب الجيوش، قَالَ: سَمِعْت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول: ((إني قَدْ بدنت، فمن فاته ركوعي أدركه فِي بطء قيامي)) .

فلهذا المعنى قَالَ ابن مَسْعُود: فمن رفع قَبْلَ الإمام يعود فيمكث بقدر مَا رفع ثُمَّ يتبع الإمام.

وفيه معنى آخر، وَهُوَ: أَنَّهُ إذا فعل ذَلِكَ فَقَدْ تخلص من محذور رفعه قَبْلَ الإمام، وَهُوَ منهي عَنْهُ.

وقد روي مثل قَوْلِ ابن مَسْعُود عَن عُمَر وابنه، وعن كثير من التابعين ومن بعدهم من العلماء، وَهُوَ قَوْلِ الفقهاء المشهورين كأبي حنيفة ومالك والثوري والشافعي وأحمد.

وأوجب أصحابنا عَلَى السابق أن يرفع ليتبع الإمام، مَا دام الإمام لَمْ يرفع بعد.

فإن رفع الإمام، فقالوا: يسحب لَهُ أن يعوض عَن ذَلِكَ

ص: 141

بالتطويل فِي السجدة الثانية، وحملوا عَلِيهِ مَا روي عَن ابن عُمَر، قَالَ: من رفع رأسه فِي السجدة الأولى قَبْلَ الإمام فليطول فِي الثانية.

وعن ابن مَسْعُود، قَالَ: ليصنع فِي الثانية بعد الإمام بقدر مَا كَانَ رفع فِي الأولى.

خرجهما سَعِيد بْن منصور فِي ((سننه)) .

ولم يفرق أكثرهم بَيْن أن يرفع قبله عمداً أو سهواً، وهذا عَلَى أصل الحنفية ظاهر؛ لأنهم يرون أن لا تبطل الصلاة بزيادة ركوع أو سجود عمداً، وأما أصْحَاب الشَّافِعِيّ وأحمد فعندهم تبطل الصلاة بذلك عمداً.

وَقَالَ بعض متأخريهم: إنه إن رفع قَبْلَ الإمام عمداً لَمْ يعد إلى متابعته فيما رفع عَنْهُ من ركوع أو سجود؛ لأنه يكون قَدْ تعمد زيادة ركن عمداً فتبطل صلاته بذلك.

والصحيح: مَا أطلقه الأئمة وأكثر أصحابهم؛ فإن عوده إلى المتابعة قطع لما فعله من القيام والقعود الَّذِي سبق بِهِ الإمام، وعود إلى متابعة الإمام، وليس عوده إتماماً للركوع ولا للسجود الَّذِي سبق بِهِ، بل هُوَ إبطال لَهُ، فلا يصير بذلك متعمداً لزيادة ركن تام.

وبكل حال؛ فإذا تعمد المأموم سبق إمامه ففي بطلان صلاته بذلك وجهان لأصحابنا.

وقيل: إن البطلان ظاهر كلام أحمد، وروي عَن ابن عُمَر، وأكثر العلماء عَلَى أنها لا تبطل، ويعتد لَهُ بِهَا إذا اجتمع مَعَ إمامه فيما بعد.

ولو كَانَ سبق الإمام سهواً حَتَّى أدركه

ص: 142

إمامه اعتد لَهُ بذلك عِنْدَ أصحابنا وغيرهم، خلافاً لزفر.

وقد بسطت القول عَلَى ذَلِكَ فِي ((كِتَاب القواعد فِي الفقه)) . والله أعلم.

وأما مَا حكاه البخاري عَن الْحَسَن، فإنه يتضمن مسألتين:

إحداهما:

إذا صلى مَعَ الإمام ركعتين، وقدر عَلَى الركوع فيهما مَعَهُ دون السجود فإنه عجز عَنْهُ، فإنه إذا قعد الإمام للتشهد سجد سجدتين، فكملت لَهُ الركعة الثانية، وأعاد الركعة الأولى الَّتِيْ عجز عَن سجدتيها.

وهذا يدل عَلَى أن المأموم إذا تخلف عَن متابعة الإمام فِي سجدتين من ركعة، فَقَدْ فات المأموم تلك الركعة؛ فلهذا لَمْ يعتد بالركعة الأولى، وإنما يعتد بالثانية؛ لأنه قدر عَلَى قضاء السجدتين، وإدراك الإمام قَبْلَ سلامه، فهو كما لَوْ أدركهما مَعَهُ.

وفي هَذَا نظر؛ فإنه كَانَ ينبغي أن يأتي بالسجدتين فِي قيام الإمام إلى الثانية، ثُمَّ يلحقه كما يأتي بهما فِي حال تشهده فِي الثانية، ولا فرق بَيْنَهُمَا.

وقد يحمل عَلَى أَنَّهُ لَمْ يتمكن من السجدتين إلا فِي التشهد، ولم يتمكن فِي حال قيام الإمام فِي الثانية.

وعن أحمد فيما إذا تخلف عَن الإمام حَتَّى فاته مَعَهُ سجدتان – روايتان:

إحداهما: أَنَّهُ تلغى ركعته، كما قَالَ الْحَسَن، ولكن لا فرق عنده بَيْن الركعة الأولى والثانية.

والرواية الثانية: إن خاف فوات الركعة الثانية بتشاغله بقضاء

ص: 143

السجدتين فكذلك، وإن لَمْ يخف قضى السجدتين إذا قام الإمام فِي الثانية ثُمَّ لحقه فيها.

واختلف الأصحاب فِي ذَلِكَ: فمنهم من قَالَ: هاتان الروايتان جاريتان فِي جميع صور التخلف عَن متابعة الإمام بركنين، سواء كَانَ لسهو أو نوم أو زحام.

ومنهم من قَالَ: إنما نَصَّ أحمد فِي الساهي والنائم عَلَى أن ركعته تلغى، ونص فِي المزحوم عَلَى أَنَّهُ يقضي ثُمَّ يلحق الإمام، فيقر النصان عَلَى مَا نَصَّ عَلِيهِ من غير نقل ولا تخريج، ويفرق بَيْن المزحوم وغيره، بأن غير المزحوم مفرط ومقصر فتلغى ركعته، بخلاف المزحوم فإنه معذور فيأتي بما فاته ويلحق إمامه.

وروى حرب بإسناده، عن الأوزاعي فِي رَجُل صلى مَعَ الإمام ركعة، فلما كَانَ فِي الثانية ركع الإمام وسجد سجدتيه، ثُمَّ قام فِي الثالثة والرجل قائم؟ قَالَ: إن أدركه فِي سجدتيه ركع وسجد معهم، وإن كَانَ قَدْ نهض فِي الثالثة اتبعه فيما بقي من صلاته، ثُمَّ يقضي تلك الركعة الَّتِيْ نام عَنْهَا أو غفل.

وعن الزُّهْرِيّ، فِي الرَّجُلُ يصلي مَعَ الإمام، فينام حَتَّى يفرغ الإمام من الركعة والسجدتين؟ قَالَ: يصلي مَا تركه بهد أن يسلم، ويسجد سجدتي السهو.

وبإسناده، عَن هِشَام، عَن الْحَسَن، فِي رَجُل كَانَ مَعَ القوم، فنام أو

ص: 144

سها، فركعوا أو سجدوا؟ قَالَ: يتبعهم بالركوع والسجود، وليس عَلِيهِ غيره.

وهذا يدل عَلَى أن كلام الْحَسَن الَّذِي حكاه البخاري إنما أراد بِهِ أَنَّهُ عجز عَن قضاء السجدتين قَبْلَ تشهد الإمام. والله أعلم.

ويدل عَلِيهِ - أَيْضاً -: مَا خرجه عَبْد الرزاق فِي ((كتابه)) ، عَن معمر، عَن رَجُل، عَن الْحَسَن، فِي رَجُل دَخَلَ مَعَ قوم فِي صلاتهم، فنعس حَتَّى ركع الإمام وسجد؟ قَالَ: يتبع الإمام.

وعن ابن جُرَيْج، عَن عَطَاء، قَالَ: قُلتُ لَهُ: لَوْ كبرت مَعَ الإمام لاستفتاح الصلاة، ثُمَّ ركع فسهوت، فَلَمْ أركع حَتَّى رفع؟ قَالَ: قَدْ أدركتها فاعتد بِهَا.

قُلتُ لعطاء: فنعست، فَلَمْ أزل قائماً حَتَّى رفع النَّاس وسجدوا، فجبذني إنسان، فجلست كما أنا؟ قَالَ: فأوف تلك الركعة – يعني: تقضيها.

وَقَالَ عَبْد الرزاق: عَن الثوري، فِي رَجُل كبر مَعَ الإمام فِي أول الصلاة، ثُمَّ نعس حتة صلى الإمام ركعة أو ركعتين؟ قَالَ: إذا استيقظ ركع وسجد مَا سبقه، ثُمَّ يتبع الإمام بما بقي، فهو يركع ويسجد بغير قراءة.

وهذا قَوْلِ غريب.

وقد تقدم عَن الأوزاعي، أَنَّهُ يتبعه، ويأتي بما فاته مَا لَمْ ينهض الإمام إلى الركعة الَّتِيْ بعدها.

وَقَالَ مَالِك: إن أدركهم فِي أول سجودهم سجد معهم واعتد بِهَا،

ص: 145

وإن علم أَنَّهُ لا يقدر عَلَى الركوع وأن يدركهم فِي السجود حَتَّى يقوموا فِي الثانية تبعهم فيما بقي، وقضى الركعة بعد السلام، وسجد للسهو.

ومذهب الشَّافِعِيّ: أَنَّهُ يسجد ويتبعه مَا لَمْ يركع الإمام الركعة الثانية؛ فإن ركع لغت ركعته، ثُمَّ قضاها بعد سلام الإمام.

ومذهب الإمام أحمد: إذا فاته مَعَ الإمام أكثر من ركنين لغت ركعته، ويقضيها بعد سلام الإمام كالمسبوق.

وعن الإمام أحمد رِوَايَة: أَنَّهُ إذا نام حَتَّى فاته ركعتان بطلت صلاته.

وهذا محمول عَلَى أَنَّهُ كَانَ نوماً طويلاً، فانتقضت طهارته، فيعيد الوضوء والصلاة.

وحكي عَنْهُ رِوَايَة أخرى: إذا نام حَتَّى رفع الإمام من الركوع تبطل صلاته.

وهي محمولة – أَيْضاً – عَلَى أَنَّهُ نام مدة قيام الأول وركوعه ورفعه، فهو نوم طويل ناقض للطهارة. والله أعلم.

المسألة الثانية:

أن من نسي سجدة حَتَّى قام الإمام سجد، ثُمَّ تابعه.

وهذا قَوْلِ جمهور العلماء.

ومن أصحابنا من قَالَ: لا نعلم فِيهِ خلافاً؛ لأنه تخلف يسير لعذر، وتعم بِهِ البلوى كثيراً فِي حق من صلى خلف من لا يطيل المكث فِي ركوعه وسجوده.

وهذا مطرد فِي كل من فاته مَعَ الإمام ركن واحد لعذر من زحام أو نوم أو نسيان.

ولا فرق بَيْن ركن وركن فِي ذَلِكَ عِنْدَ كثير من العلماء من أصحابنا وغيرهم.

ومن أصحابنا من فرق بَيْن الركوع وغيره، فَقَالَ: إن فاته الركوع وحده حَتَّى رفع الإمام فحكمه حكم التخلف عَن الإمام بركنين، كما

ص: 146

سبق، فإما أن تفوته الركعة ويقضيها، أو أن يركع ثُمَّ يتابع إمامه، عَلَى مَا سبق.

وحكي رِوَايَة عَن أحمد، أَنَّهُ تبطل صلاته، قَدْ سبق ذكرها وتأويلها.

وفرق هؤلاء بَيْن الركوع وغيره بأن الركوع عماد الركعة، وبه تلحق تفوت بفوته، فألحق بالركنين فِي التخلف بِهِ عَن الإمام، وهذه طريقة ابن أَبِي موسى وغيره.

ومن سوى بَيْن الركوع وغيره فرق بَيْن هَذَا وبين المسبوق، بأن المسبوق قَدْ فاته مَعَ الإمام معظم الركعة، وَهُوَ القيام والقراءة والركوع، وليس هَذَا كذلك.

وقد سبق عَن عَطَاء مَا يدل عَلَى أَنَّهُ يركع بعد إمامه ويعتد لَهُ بتلك الركعة.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

خرج البخاري فِي هَذَا الباب ثَلَاثَة أحاديث:

الحَدِيْث الأول:

ص: 147

687 – حَدَّثَنَا أحمد بْن يونس: ثنا زائدة، عَن موسى بْن أَبِي عَائِشَة، عَن

عُبَيْدِ الله بْن عَبْد الله، قَالَ: دخلت عَلَى عَائِشَة، فَقُلْت: ألا تحدثني عَن مرض

رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: بلى؛ ثقل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:((أصلى النَّاس؟)) . فقلنا: لا، يَا رَسُول الله، وهم ينتظرونك، فَقَالَ:((ضعوا لِي ماء فِي المخضب)) . قَالَتْ: ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عَلِيهِ ثُمَّ أفاق،

ص: 147

فَقَالَ: ((أصلى النَّاس؟)) قلنا: لا، وهم ينتظرونك يَا رَسُول الله عكوف فِي المسجد ينتظرون رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة لعشاء الآخرة، فأرسل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إلى أَبِي بَكْر بأن يصلي بالناس، فأتاه الرسول، فَقَالَ: إن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس فَقَالَ أبو بَكْر – وكان رجلاً رقيقاً – يَا عُمَر، صل بالناس. فقالَ لهُ عُمَر: أنت أحق بذلك، فصلى أبو بَكْر تلك الأيام، ثُمَّ إن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة، فخرج بَيْن رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس فلما رأه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأوما إليه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بأن لا يتأخر. قَالَ:((أجلساني إلى جنبه)) ، فاجلساه إلى جنب أَبِي بَكْر. قَالَ: فجعل أبو بَكْر يصلي وَهُوَ يأتم بصلاة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أَبِي بَكْر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد.

ص: 148

قَالَ عُبَيْدِ الله: فدخلت عَلَى عَبْد الله بْن عَبَّاس، فَقُلْت: ألا أعرض عَلَيْك مَا حَدَّثَتني عَائِشَة عَن مرض رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: هات، فعرضت عَلِيهِ حديثها، فما أنكر مِنْهُ شيئاً، غير أَنَّهُ قَالَ: أسمت لَكَ الرَّجُلُ الآخر الَّذِي كَانَ مَعَ العباس؟ قُلتُ: لا، قَالَ: هُوَ عَلِيّ.

هَذَا السياق من أتم مَا روي عَن عَائِشَة فِي هَذَا الباب، وقد تفرد بِهِ موسى ابن أَبِي عَائِشَة عَن عُبَيْدِ الله، وقد سبق مَا قاله أبو حاتم الرَّازِي فِي حديثه هَذَا، وانه مِمَّا يرتاب بِهِ، ولعل فِيهِ ألفاظاً مدرجة.

والظاهر: أن مَا ذكره فِي آخره: ((فجعل أبو بَكْر يصلي)) مدرج من قَوْلِ بعض الرواة، فلهذا قَالَ فِيهِ:: ((قَالَ)) ، ولم يقل:((قَالَتْ)) ، فالظاهر أن عَائِشَة لَمْ تقل ذَلِكَ، إنما قاله عُبَيْدِ الله أو غيره كما تقدم ذَلِكَ من قَوْلِ عُرْوَةَ، زاده فِي حديثه عَن عائشة.

وقوله: ((ذهب لينوء)) – أي: ينهض بثقل، من قولهم: نؤت بالحمل أنوء بِهِ إذا نهضت بِهِ.

وفي هَذَا الحَدِيْث من العلم مسائل كثيرة:

مِنْهَا: أن الإمام إذا كَانَ قريباً من المسجد وعرف عذره المانع لَهُ من الخروج إلى الصلاة، فإنه ينتظر خروجه.

ومنها: أن المغمى عَلِيهِ إذا أفاق فإنه يستحب لَهُ أن يغتسل، وقد سبقت المسألة فِي ((الطهارة)) .

ص: 149

ومنها: أن المأمور بالصلاة بالناس لَهُ أن يأذن لغيره فِي الصلاة بهم؛ فإن أبا بَكْر أذن لعمر.

ويؤخذ من هَذَا: أن الوكيل لَهُ أن يوكل فيما وكل فِيهِ من غير إذن لَهُ فِي التوكيل، كما هُوَ أحد قولي العلماء، وإحدى الروايتين عَن أحمد.

ومنها: جواز وقوف المأموم إلى جانب الإمام، وإن كَانَ وراءه صفوف، وقد سبق الكلام عَلَى ذَلِكَ.

ومنها – وَهُوَ مقصود البخاري هاهنا -: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ هُوَ الإمام فِي هذه الصلاة، وكان أبو بَكْر مؤتماً بِهِ، وكان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم جالساً فِي هذه الصلاة، وكان أبو بَكْر إلى جانبه قائماً، والناس وراءه قياماً، ولم يأمره بالجلوس، وهذه الصلاة كَانَتْ فِي آخر حَيَاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فدل ذَلِكَ عَلَى نسخ أمره بالجلوس وراء الإمام إذا صلى جالساً؛ لأن ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ هَذَا بغير شك.

وقد ذكره البخاري فِي آخر الباب عَن أَبِي بَكْر الحميدي، والحميدي أخذه عَن الشَّافِعِيّ، وسيأتي الكلام عَلَى ذَلِكَ بعد ذكر باقي أحاديث الباب – إن شاء الله تعالى.

الحَدِيْث الثاني:

ص: 150

688 – حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف: أنا مَالِك، عَن هِشَام بْن عُرْوَةَ، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة أم المُؤْمِنيِن، أنها قَالَتْ: صلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي بيته وَهُوَ شاك، فصلى جالساً وصلى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم أن جلسوا، فلما انصرف قَالَ:((إنما جعل الإمام ليؤتم بِهِ، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً)) .

ص: 150

الحَدِيْث الثالث:

ص: 151

689 – حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف: أنا مَالِك، عَن ابن شِهَاب، عَن أنس بْن مَالِك، أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرساً فصرع عَنْهُ، فجحش شقة الأيمن، فصلى صلاة من الصلوات وَهُوَ قاعد، فصلينا وراءه قعوداً، فلما انصرف قَالَ:((إنما جعل الإمام ليؤتم بِهِ، فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذاي ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قَالَ: سَمِعَ الله لمنحمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون)) .

قَالَ الحميدي: هَذَا منسوخ، قوله:((إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً)) ، هَذَا هُوَ فِي مرضه القديم، ثُمَّ صلى بعد ذَلِكَ جالساً والناس خلفه قياماً.

قَالَ أبو عَبْد الله: ولم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم صلى فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ جالساً والناس خلفه قيام.

ص: 151

وقد خرج البخاري فيما تقدم من حَدِيْث أَبِي الزناد، عَن الأعرج، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((إنما الإمام ليؤتم بِهِ، فإذا كبر فكبروا)) – فذكر مثل حَدِيْث أنس إلى قوله: ((أجمعون)) .

وخرجه فيما بعد من حَدِيْث همام بْن منبه، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

وقد اختلف العلماء فِي صلاة القادر عَلَى القيام خلف الجالس:

فَقَالَتْ طائفة: لا يجوز ذَلِكَ بالكلية، هَذَا قَوْلِ مُحَمَّد بن الْحَسَن والحسن ابن حي ومالك – فِي ظاهر مذهبه – والثوري – فِي رواية عَنْهُ.

وتعلق بعضهم بحديث مرسل، رواه جابر الجعفي، عَن الشَّعْبِيّ، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((لا يؤمن أحد بعدي جالساً)) .

وجابر، لا يحتج بما يسنده، فكيف بما يرسله؟! وقد طعن فِي حدثيه هَذَا الشَّافِعِيّ وابن أَبِي شيبة والجوزجاني وابن حبان وغيرهم.

وروى سيف بن عُمَر الضبي: ثنا سَعِيد بن عَبْد الله الجمحي، عَن أَبِيه، عَن مُحَمَّد بن مسَلَمَة، قَالَ: دخلت عَلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي شكوى اشتكاه، وحضرت الصلاة، فصلى بنا جالساً ونحن قيام، فلما انصرف قَالَ:((إذا صلى إمامكم جالساً فصلوا جلوساً)) ، وكنا نفعل ذَلِكَ حَتَّى حج حجته، فنهى فيها أن يؤم أحد قوماً وَهُوَ جالس.

خرجه القاضي مُحَمَّد بن بدر فِي ((كِتَاب المناهي)) .

وَهُوَ حَدِيْث

ص: 152

باطل، وسيف هَذَا مشهور بالكذب.

وقالت طائفة: يجوز أن يصلي القادر عَلَى القيام خلف الإمام الجالس العاجز عَن القيام بكل حال، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة وأبي يوسف وزفر وابن المبارك والثوري ومالك

– وفي رِوَايَة عنهما – والأوزاعي والشافعي وغيرهما.

واختلف الرواية عَن الإمام أحمد فِي ذَلِكَ، فالمشهور عَنْهُ: أَنَّهُ لا يجوز أن يأتم القادر عَلَى القيام بالعاجز عَنْهُ، إلا أن يكون العاجز إمام الحي، ويكون جلوسه لمرض يرجى برؤه، ويأتمون بِهِ جلوساً، كما سيأتي – إن شاء الله.

ونقل عَنْهُ الميموني، أَنَّهُ لا يجوز ذَلِكَ إلا خلف الإمام الأعظم خاصة، إذا كَانَ مرضه يرجى برؤه.

وروي عَنْهُ مَا يدل عَلَى جواز الائتمام بالجالس مطلقاً، لكن إن كَانَ إمام الحي ورجي زوال علته صلّوا وراءه جلوساً، وإن كَانَ غير ذَلِكَ صلوا وراءه قياماً.

واختلف القائلون بجواز اقتداء القادر عَلَى القيام بالجالس: هَلْ يصلي وراءه جالساً، أو قائماً؟

فَقَالَتْ طائفة: يصلي وراءه قائماً، هَذَا قَوْلِ المغيرة وحماد وأبي حنيفة والثوري وابن المبارك ومالك والشافعي وأبي ثور.

واعتمدوا عَلَى أقيسة أو عمومات، مثل قوله:((صل قائماً، فإن لَمْ تستطع فقاعداً)) .

وتبعهم عَلَى ذَلِكَ طائفة من المحديثن كالحميدي والبخاري، وادعوا نسخ أحاديث الأمر بالجلوس لصلاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي مرض موته قاعداً والناس خلفه قياماً، ولم يأمرهم بالجلوس كما قرره

ص: 153

البخاري، وحكاه عَن الحميدي.

وَقَالَ آخرون: بل يصلي القادر عَلَى القيام خلف الإمام الجالس جالساً، هَذَا هُوَ المروي عَن الصَّحَابَة، ولا يعرف عنهم اختلاف فِي ذَلِكَ.

وممن روي عَنْهُ ذَلِكَ من الصَّحَابَة: أسيد بن حضير وقيس بن فهد وجابر بن

عَبْد الله وأبو هُرَيْرَةَ ومحمود بن لبيد.

ولا يعرف عَن صحابي خلاف ذَلِكَ، بل كانوا يفعلون ذَلِكَ فِي مساجدهم ظاهراً، ولم ينكر عليهم عملهم صحابي ولا تابعي.

رَوَى سُلَيْمَان بن بلال، عَن يَحْيَى بن سَعِيد، عَن بشير بن يسار، أن أسيد ابن الحضير كَانَ يؤم قومه بني عَبْد الأشهل فِي مسجدهم، ثُمَّ اشتكى، فخرج إليهم بعد شكوه، فأمروه أن يتقدم فيصلي بهم، فَقَالَ: إني لا استطيع أن أقوم. قالوا: لا يصلي لنا أحد غيرك مَا كُنْتُ فينا. فَقَالَ: إني لا أستطيع أن أصلي قائماً فاقعدوا، فصلى قاعداً وصلوا وراءه قعوداً.

خرجه الأثرم وغيره.

وهذا إسناد صحيح.

وروى هِشَام بن عُرْوَةَ، عَن كثير بن السائب، عَن محمود بن لبيد، قَالَ: كَانَ أسيد بن حضير قَدْ اشتكى عرق النسا، وكان لنا إماماً، فكان يخرج إلينا فيشير إلينا بيده أن اجلسوا، فنجلس فيصلي بنا جالساً ونحن جلوس.

خرجه الدارقطني.

ص: 154

وروى قيس بن أَبِي حَازِم، عَن قيس بن فهد، أن إماماً لهم اشتكى أياماً.

قَالَ: فصلينا بصلاته جلوساً.

خرجه أبو الْقَاسِم البغوي وذكره البخاري فِي ((تاريخه)) .

وروى يَحْيَى بن سَعِيد، عَن أَبِي الزُّبَيْر، عَن جابر، أَنَّهُ فعل ذَلِكَ مَعَ أصحابه.

وروى وكيع، عَن إِسْمَاعِيل بن أَبِي خَالِد، عَن قيس بن أَبِي حَازِم، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: الإمام أمير، فإن صلى قائماً فصلوا قياماً، وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً.

قَالَ الإمام أحمد: فعله أربعة من الصَّحَابَة: أسيد بن حضير وقيس بن قهد، وجابر، وأبو هُرَيْرَةَ. قَالَ: ويروى عَن خمسة، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:((إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً)) ، ولا أعلم شيئاً يدفعه.

وهذا من علمه وورعه رضي الله عنه، فإنه إنما دفع ذَلِكَ بالنسخ وهي دعوى مردودة، كما سيأتي بيانه – إن شاء الله تعالى.

وكان الإمام أحمد يتورع عَن إطلاق النسخ؛ لأن إبطال الأحكام الثابتة بمجرد الاحتمالات مَعَ إمكان الجمع بينها وبين مَا يدعى معرضها غير جائز، وإذا أمكن الجمع بينها والعمل بِهَا كلها وجب ذَلِكَ، ولم يجز دعوى النسخ مَعَهُ،

ص: 155

وهذه قاعدة مطردة.

وهي: أنا إذا وجدنا حديثاً صحيحاً صريحاً فِي حكم من الأحكام، فإنه لا يرد باستنباط من نَصَّ آخر لَمْ يسق لذلك المعنى بالكلية، فلا ترد أحاديث تحريم صيد المدينة بما يستنبط من حَدِيْث النغير، ولا أحاديث توقيت صلاة العصر الصريحة بحديث:

((مثلكم فيما خلا قبلكم من الأمم كمثل رَجُل استأجر أجراء)) – الحَدِيْث، ولا أحاديث:((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)) بقوله: ((فيما سقت السماء العشر)) .

وقد ذكر الشَّافِعِيّ أن هَذَا لَمْ يسق لبيان قدر مَا يجب مِنْهُ الزَّكَاةِ، بل لبيان قدر الزَّكَاةِ، وما أشبه هَذَا.

وممن ذهب إلى أن المأموم يصلي جالساً خلف الإمام الجالس بكل حال من العلماء: الأوزاعي وحماد بن زيد وأحمد وأسحاق وأبو خيثمة زهير بن حرب وسليمان بن داود الهاشمي وأبو بَكْر بن أَبِي شيبة وأبو إسحاق الجوزجاني وابن المنذر وابن خزيمة وابن حبان، ونقله إجماعاً قديماً من السلف، حَتَّى قَالَ فِي ((صحيحه)) : أول من أبطل فِي هذه الأمة صلاة المأموم قاعداً إذا صلى إمامه جالساً: المغيرة بن مقسم، وعنه أخذ أبو حنيفة.

وأما دعوى النسخ فِي هَذَا فَقَدْ بينا أَنَّهُ لا يجوز دعوى بطلان الحكم مَعَ إمكان العمل بِهِ ولو بوجه، وسنبين وجه العمل بِهِ، والجمع بَيْن مَا أدعى عَلِيهِ التعارض – إن شاء الله تعالى.

ويدل عَلَى أن الأمر بالقعود خلف الإمام القاعد غير منسوخ: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم علله بعلل لَمْ تنسخ ولم تبطل منذ شرعت.

ص: 156

ومنها: أَنَّهُ علله بأن الإمام إنما جعل إماماً ليؤتم بِهِ ويقتدى بِهِ فِي أفعاله، وَقَالَ:((إذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قَالَ: سَمِعَ الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون)) ،

وما قَبْلَ الصلاة جلوساً لَمْ ينسخ مِنْهُ شيء، فكذلك القعود؛ لأن الجميع مرتب عَلَى أن الإمام يؤتم بِهِ ويقتدى بِهِ.

وفي ((صحيح مُسْلِم)) عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((إنما الإمام جنة، فإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً، وإذا قَالَ: سَمِعَ الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لَكَ الحمد، فإذا وافق قول أهل الأرض [قَوْلِ] أهل السماء غفر لَهُ مَا تقدم من ذنبه)) .

ومعنى كونه جنة: أَنَّهُ يتقى بِهِ ويستتر، ولهذا إذا سلمت سترته لَمْ يضر مَا مر بَيْن يديه، كما سبق تقريره.

ومنها: أَنَّهُ جعل القعود خلفه من طاعة الأمراء، وطاعة الأمراء من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وطاعته من طاعة الله، ومعلوم: أَنَّهُ لَمْ ينسخ من هذه شيء، بل كلها باقية محكمة إلى يوم القيامة.

فخرج الإمام أحمد وابن حبان فِي ((صحيحه)) من حَدِيْث ابن عُمَر، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي نفر من أصحابه، فَقَالَ:((ألستم تعلمون أني رَسُول الله إليكم؟)) . قالوا: بلى، نشهد أنه رَسُول الله، قَالَ:((ألستم تعلمون أَنَّهُ من أطاعني أطاع الله، ومن طاعة الله طاعتي؟)) . قالوا: بلى، نشهد أَنَّهُ من أطاعك فَقَدْ أطاع الله، ومن طاعة الله طاعتك، قَالَ: ((فإن من طاعة الله

ص: 157

أن تطيعوني، ومن طاعتي أن تطيعوا أمراءكم، وإن صلوا قعوداً فصلوا قعوداً)) .

وفي رِوَايَة لهما – أَيْضاً – ((ومن طاعتي أن تطيعوا أئمتكم)) .

وهذا يصلح أن يكون متمسكاً للأمام أحمد فِي تخصيصه ذَلِكَ بإمام الحي؛ فإن أئمة الحي إنما ينصبهم الأئمة غالباً، وخصة – فِي رِوَايَة عَنْهُ - بالأمام الأعظم الَّذِي تجب طاعته.

ومنها: أَنَّهُ جعل القيام خلف الإمام الجالس من جنس فعل فارس والروم بعظمائها، حيث يقومون وملوكهم جلوس، وشريعتنا جاءت بخلاف ذَلِكَ، كما قَالَ صلى الله عليه وسلم:((من احب أن يتمثل لَهُ الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)) .

وَقَالَ عُمَر بن عَبْد العزيز للناس: أيها النَّاس، إن تقوموا نقم، وإن تجلسوا نجلس، فإنما يقوم النَّاس لرب العالمين.

وهذا حكم مستقر فِي الشريعة، لَمْ ينسخ ولم يبدل.

وقد دل عَلَى مَا ذكرناه: مَا خرجه مُسْلِم من حَدِيْث أَبِي الزُّبَيْر، عَن جابر، قَالَ: اشتكى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فصلينا وراءه وَهُوَ قاعد، وأبو بَكْر يسمع النَّاس تكبيره، فالتفت إلينا، فرآنا قياماً، فأشار إلينا، فقعدنا فصلينا بصلاته قعوداً، فلما سلم قَالَ: ((إن كدتم – آنفاً – تفعلون فعل فارس والروم، يقومون عَلَى ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم، إن صلوا

ص: 158

قياماً فصلوا قياماً، وإن صلوا قعوداً فصلوا قعوداً)) .

وخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان فِي ((صحيحه)) من حَدِيْث الأعمش، عَن أَبِي سُفْيَان، عَن جابر – فِي هذه القصة – أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لهم:((إنما جعل الإمام ليؤتم بِهِ، فإن صلى قائماً فصلوا قياماً، وإن صلى جالساً فصلوا جلوساً، ولا تقوموا وَهُوَ جالس كما يفعل أهل فارس بعظامها)) .

وأما الكلام عَلَى دعوى النسخ، عَلَى قَوْلِ من قَالَ: إن أَبَا بَكْر كَانَ مأموماً، فأما عَلَى قَوْلِ من قَالَ: إنه كَانَ إماماً، وكان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يأتم بِهِ، كما تقدم عَن مَالِك وغيره، فلا دلالة فِي الحَدِيْث حينئذ عَلَى أن الائتمام بالقاعد بالكلية.

وأما من قَالَ: إن الإمام كَانَ هُوَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، كما قاله الشَّافِعِيّ والإمام أحمد والبخاري والأكثرون، فالجمع بَيْن هَذَا الحَدِيْث وبين الأحاديث المتقدمة الَّتِيْ فيها الأمر بالجلوس فِي الصلاة من وجهين:

أحدهما – وَهُوَ الَّذِي ذكره الإمام أحمد -: أن المؤتمين بأبي بَكْر ائتموا بإمام ابتدأ بهم الصلاة وَهُوَ قائم، ثُمَّ لما انتقلت مِنْهُ الإمامة إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم انتقلوا إلى الائتمام بقاعد، فاتموا خلفه قياماً لابتدائهم الصلاة خلف إمام قائم.

فعلى هَذَا التقرير نقول: إن ابتدأ بهم الإمام الصلاة جالساً صلوا وراءه جلوساً، وإن ابتدأ بهم قائماً ثُمَّ اعتل فجلس أتموا خلفه قياماً.

ص: 159

هكذا قرره الإمام أحمد وأصحابه.

ومنهم من قَالَ: إنه تصح هنا صلاة المأمومين خلفه قياماً إذا جلس فِي أثناء صلاته لعلة، وسواء كَانَ إمام حي أو لَمْ يكن، بخلاف ابتداء صلاة القائم خلف الجالس، فإنها عِنْدَ الإمام أحمد إلا إذا كَانَ إمام الحي، وجلس لمرض يرجى برؤه خاصة، فإنه يغتفر فِي الاستدامة مَا لا يغتفر فِي الابتداء.

وممن قَالَ ذَلِكَ من أصحابنا: أبو الفتح الحلواني.

والثاني: أن تحمل أحاديث الأمر بالقعود عَلَى الاستحباب، وحديث صلاته فِي مرضه من غير أمر لهم بالجلوس عَلَى جواز أن يأتموا بالقاعد قياماً، فيكون المأمومون مخيرين بَيْن الأمرين، وإن كَانَ الجلوس أفضل.

وهذا يتخرج عَلَى قَوْلِ من قَالَ: إنهم إذا ائتموا بالجلوس قياماً صحت صلاتهم، وقد اختلف أصحابنا فِي ذَلِكَ عَلَى وجهين.

وظهر لِي وجه ثالث فِي الجمع بَيْن هذه الأحاديث، وَهُوَ متجه عَلَى قَوْلِ الإمام أحمد: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إماماً لأبي بَكْر، وكان أبو بَكْر إماماً للناس، فكانت تلك الصلاة بإمامين.

وحينئذ فيقال: لما اجتمع فِي هذه الصلاة إمامان، أحدهما جالس والآخر قائم صلى المأمومون خلفهما قياماً اتباعاً لإمامهم القائم؛ فإن الأصل القيام، وقد اجتمع موجب للقيام عليهم، وموجب للقعود أو مبيح لَهُ، فغلب جانب القيام؛ لأنه الأصل، كما إذا اجتمع فِي حل الصيد أو الأكل مبيح وحاظر، فإنه يغلب الحظر.

ص: 160

وأما أبو بَكْر فإنه إنما صلى قائماً؛ لأنه وإن ائتم بقاعد إلا أَنَّهُ أم قادرين عَلَى القيام، وَهُوَ قادر عَلِيهِ، فاجتمع فِي حقه – أَيْضاً – سببان: موجب للقيام، ومسقط لَهُ، فغلب إيجاب القيام. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 161

‌52 - بَاب

مَتَى يَسْجُدُ مَنْ خَلْفَ الإمَامِ

؟

وَقَالَ أَنَس، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:((وإذا سجد فاسجدوا)) .

حَدِيْث أَنَس هَذَا، قَدْ خرجه البخاري فيما بعد من رِوَايَة الزُّهْرِيّ، عَنْهُ، ويأتي فِي موضعه - إن شاء الله.

وفيه: دليل عَلَى أن سجود المأموم يكون عقيب سجود الإمام، ولا يكون مَعَهُ ولا قبله.

ص: 162

690 – حَدَّثَنَا مسدد، ثنا يَحْيَى بن سَعِيد، عَن سُفْيَان، قَالَ: حَدَّثَنِي أبو إِسْحَاق، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد الله بن يزيد، قَالَ: حَدَّثَنِي البراء – وَهُوَ غير كذوب -، قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إذا قَالَ: ((سَمِعَ الله لمن حمده)) لَمْ يحن أحد منا ظهره حَتَّى يقع النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ساجداً، ثُمَّ نقع سجوداً بعده.

قَالَ أبو عَبْد الله: أخبرنا أبو نعيم، عَن سُفْيَان بهذا، وإنما أدخلت حَدِيْث مسدد لحال الإخبار.

هكذا وقع فِي بعض النسخ دون بعض.

ومعناه: أن هَذَا الحَدِيْث سمعه البخاري من أَبِي نعيم، عَن سُفْيَان – هُوَ: الثوري – بهذا الإسناد، ولكن معنعناً، وإنما خرجه عَن مسدد، عَن يَحْيَى بن سَعِيد، عَن سُفْيَان

ص: 162

نازلاً؛ لأنه ذكر فِي حديثه سماع سُفْيَان لَهُ من أَبِي إِسْحَاق، وسماع أَبِي إِسْحَاق من عَبْد الله بن يزيد، وسماعه من البراء.

وقوله: ((حَدَّثَنِي البراء وَهُوَ غير كذوب)) ظاهر السياق يقتضي أَنَّهُ من قَوْلِ عَبْد الله بن يزيد في حق البراء، ورجح ذَلِكَ الخطابي وغيره.

وَقَالَ ابن معين وغيره: إنما هُوَ من قَوْلِ أَبِي إِسْحَاق فِي حق عَبْد الله بن يزيد، وقالوا: إن الصَّحَابَة أجل من أن يوصفوا بنفي الكذب.

وهذا ليس بشيء، ونفي الكذب صفة مدح لا ذم، وكذلك نفي سائر النقائص؟ وقد كَانَ عَلِيّ بن أَبِي طالب يَقُول: والله مَا كذبت ولا كذبت، فنفى الكذب عَن نفسه، وأشار إلى نفيه عمن أخبره، وَهُوَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.

وقالت عَائِشَة فِي حق عُمَر وابن عُمَر: إنكم لتحدثون عَن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطيء.

وأبلغ من هَذَا، أن الله تعالى نفى عَن نفسه النقائص والعيوب، كالظلم وإرادته، والغفلة والنسيان، وكذلك نفيه للشريك والصاحبة والولد، وليس فِي شيء من ذَلِكَ نقص بوجه مَا.

وأيضاً؛ فعبد الله بن يزيد هُوَ الخطمي، وَهُوَ معدود من الصَّحَابَة، وله رِوَايَة عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فكيف حسن نفي الكذب عَنْهُ دون البراء، وكلاهما صحابي؟ وإن كَانَ البراء أشهر مِنْهُ، وأكثر رِوَايَة. والله أعلم.

وفي الحَدِيْث: دليل عَلَى أن المأموم يتابع الإمام، وتكون أفعاله بعد أفعال الإمام؛ فإن البراء أخبر أنهم كانوا إذا رفعوا من الركوع لَمْ يحن أحد منهم ظهره حَتَّى يقع النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ساجداً، ثُمَّ يسجدون بعده.

ص: 163

وفي رِوَايَة لمسلم فِي هَذَا الحَدِيْث: أنهم كانوا يصلون مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رفع رأسه من الركوع لَمْ نر أحداً يحني ظهره حَتَّى يضع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم جبهته عَلَى الأرض، ثُمَّ نخر من ورائه سجداً.

وهذه صريحة فِي أنهم كانوا لا يشرعون فِي السجود حَتَّى ينهيه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

وقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ((إذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا)) يدل عَلَى أن تكبير المأمومين من ركوعهم وسجودهم يكون عقيب تكبير الإمام وركوعه وسجوده، ولا مَعَهُ ولا قبله.

وفي حَدِيْث أَبِي موسى، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:((فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم، فتلك بتلك)) .

خرجه مُسْلِم، وقد سبق ذكره.

وأكثر العلماء عَلَى أن الأفضل للمأموم أن يتابع الإمام، فيركع ويرفع ويسجد ويجلس بعد الإمام فِي ذَلِكَ، وكذلك كَانَ يفعل أبو قلابة وغيره من السلف.

وروى وكيع بإسناده، عَن ابن مَسْعُود، قَالَ: لا تبادروا أئمتكم، فإنما جعل الإمام ليؤتم بِهِ، فيكون أول من يركع وأول من يسجد وأول من يرفع.

وَهُوَ مذهب الشَّافِعِيّ وأحمد، ورواية عَن مَالِك.

وإن وافقه فِي فعله مَعَهُ كره، وصحت صلاته عِنْدَ أكثر أصحابنا والشافعية، ومن أصحابنا من أبطل الصلاة بذلك.

ويستثنى من ذَلِكَ صورتان:

ص: 164

إحداهما: تكبيرة الإحرام فِي ابتداء الصلاة، فإذا كبر مَعَهُ لَمْ تنعقد صلاة المأموم عِنْدَ ابن المبارك والشافعي وأحمد، وَهُوَ قَوْلِ مَالِك وأبي يوسف.

وَقَالَ أبو حنيفة والثوري والعنبري ومحمد بن الْحَسَن وزفر: تنعقد صلاته بذلك.

وزاد الثوري عليهم، فَقَالَ: لَوْ كبر مَعَ إمامه وفرغ من تكبيره قَبْلَ فراغ إمامه جاز.

ومن الحنفية من جعل تكبيرة الإحرام شرطاً للصلاة كالطهارة والستارة، ولم يجعلها مِنْهَا.

والصورة الثانية: إذا سلم مَعَ إمامه، فإنه يجوز مَعَ الكراهة عِنْدَ أكثر أصحابنا والشافعية.

ولهم وجه أخر: أَنَّهُ لا يجوز، وحكي عَن مَالِك.

قَالَ بعض أصحابنا: وهذا قَوْلِ قوي عَلَى قَوْلِ من يعتبر النية للخروج.

وعن مَالِك فِي أصل متابعة المأموم لإمامة ثَلَاثَة روايات:

إحداهن: أنه يستحب أن يكون عمله بعد عمل إمامه، معاقباً لَهُ، كقول الشَّافِعِيّ وأحمد.

والثانية: أن عمل المأموم كله مَعَ عمل الإمام: ركوعه وسجوده وخفضه ورفعه، مَا خلا الإحرام والتسليم، فإنه لا يأتي المأموم بهما إلا بعد تكبير الإمام وسلامه.

وقيل: إنها أصح الروايات عَنْهُ.

والثالثة: أَنَّهُ يكون عمله مَعَ الإمام؛ مَا خلا ثَلَاثَة أشياء: التحريم والتسليم والقيام من اثنتين، فإنه يكون بعده.

ص: 165

‌53 - بَاب

إِثْم مَنْ رَفَعَ رَأَسَهَ قَبْلَ الإمَامِ

ص: 166

691 -

حَدَّثَنَا حجاج بن منهال: ثنا شعبة، عَن مُحَمَّد بن زياد، قَالَ: سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((أما يخشى أحدكم)) – أو ((ألا يخشى أحدكم – إذا رفع رأسه قَبْلَ الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار)) – أو ((يجعل صورته صورة حمار؟)) .

قَالَ الحافظ أبو موسى المديني: اتفق الأئمة عَلَى ثبوت هَذَا الحَدِيْث من هَذَا الطريق؛ رواه عَن مُحَمَّد بن زياد قريب من خمسين نفساً، وبعضهم يَقُول:((صورته)) ، وبعضهم يَقُول:((وجهه)) ، ومنهم من قَالَ:((رأس كلب أو خنزير)) ، وتابع مُحَمَّد بن زياد جماعة، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ. انتهى.

وفيه: دليل صريح عَلَى تحريم تعمد رفع المأموم رأسه قَبْلَ الإمام فِي ركوعه وسجوده؛ فإنه توعد عَلِيهِ بالمسخ، وَهُوَ من أشد العقوبات.

وإنما اختص الحمار بالذكر دون سائر الحيوانات عَلَى الرواية الصحيحة المشهورة – والله أعلم -؛ لإن الحمار من أبلد الحيوانات وأجهلها، وبه يضرب المثل فِي الجهل؛ ولهذا مثل الله بِهِ عالم السوء الذي يحمل العلم ولا ينتفع بِهِ فِي قوله:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] .

فكذلك المتعبد بالجهل يشبه الحمار، فإن الحمار يحرك رأسه ويرفعه ويخفضه لغير معنى، فشبه من يرفع رأسه

ص: 166

قَبْلَ إمامه بالحمار، وكذلك شبه من يتكلم وإمامه يخطب بالحمار يحمل أسفاراً؛ لأنه لَمْ ينتفع بسماع الذكر، فصار كالحمار فِي المعنى. والله أعلم.

وقد اختلف العلماء فيمن تعمد رفع رأسه قَبْلَ إمامه فِي ركوعه أو سجوده: هَلْ تبطل بذلك صلاته، أم لا؟

وفيه وجهان لأصحابنا، وأكثرهم عَلَى البطلان، وروي عَن ابن عُمَر.

وَقَالَ القاضي أبو يعلى: لا تبطل بذلك، وَهُوَ قَوْلِ أكثر الفقهاء.

فعلى هَذَا، فهل يؤمر أن يعود إلى ركوعه وسجوده ليرفع بعد إمامه، أم لا؟

قَالَ بعض المتأخرين [من] أصحابنا وبعض أصْحَاب الشَّافِعِيّ: لا يؤمر بذلك، ومتى عاد بطلت صلاته لأنه يصير قَدْ زاد فِي صلاته ركناً عمداً.

وقد رَوَى مَالِك فِي ((الموطإ)) أن السنة فِي الساهي إذا رفع رأسه قَبْلَ إمامه أن يعود، ولا يقف ينتظره، فذلك خطأ ممن فعله.

ومفهومه: أن العامد ليس كذلك.

وأكثر العلماء من أصحابنا وغيرهم يقتضي أَنَّهُ يلزمه أن يعود لرفع بعد إمامه.

وقد بسطنا القول عَلَى هَذَا فِي الباب الماضي، فلا حاجة إلى إعادته.

ص: 167

‌54 - بَاب

إمَامَةِ العَبْدِ والمَوْلَى

وكانت عَائِشَة يؤمها عبدها ذكوان من المصحف.

وَوَلدَ البَغيِّ والأعرابي والغلام الَّذِي لَمْ يحتلم

لقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ((يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله)) .

ولا يمنع العبد من الجماعة بغير علةٍ

أشار البخاري رحمه الله بهذا التبويب إلى مسائل:

إحداها:

إمامه العبد والمولى.

ومراده بالعبد: الرقيق القن. وبالمولى: العتيق، الَّذِي عَلِيهِ ولاء لمعتقه.

وما ذكره من إمامه ذكوان لعائشة:

فروى وكيع، عَن هِشَام بن عُرْوَةَ، عَن أَبِي بَكْر بن أَبِي مليكة، أن عَائِشَة أعتقت غلاماً لها عَن دبرٍ، فكان يؤمها فِي المصحف فِي رمضان.

ففي هذه الرواية: أَنَّهُ كَانَ مدبراً.

وقد روي من غير وجه، عَن عَائِشَة، أنها صلت خلف مملوك.

وروى أيوب، عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد، عَن عَائِشَة، أَنَّهُ كَانَ يؤمها عَبْد لها فِي المصحف.

خرجه الأثرم.

ص: 168

ورواه عَبْد الرحمن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه – أَيْضاً.

وذكر الإمام أحمد، أَنَّهُ أصح من حَدِيْث ابن أَبِي مليكة؛ لأن هِشَام بن عُرْوَةَ لَمْ يسمعه من ابن أَبِي مليكة، إنما بلغه عَنْهُ.

قَالَ أحمد: أبو معاوية، عَن هِشَام، قَالَ: نبئت عَن ابن أَبِي مليكة – فذكره.

قُلتُ: رواه شعيب بن أَبِي حَمْزَة، عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة – لَمْ يذكر ابن أَبِي مليكة.

خرجه البيهقي.

وكذا رواه مَالِك فِي ((الموطإ)) عَن هِشَام، عَن أَبِيه.

وروى أبو نعيم فِي ((كِتَاب الصلاة)) : حَدَّثَنَا حماد بن سَلَمَة، عَن ابن أَبِي مليكة، أن عَائِشَة كَانَ يدخل عَلَيْهَا أشراف قريش، فيؤمهم غلامها ذكوان.

والظاهر: أن حماد بن سلمة إنما رواه عَن هِشَام، عَن ابن أَبِي مليكة.

ورواه الشَّافِعِيّ عَن عَبْد المجيد بن أَبِي رواد، عَن ابن جُرَيْج: أخبرني ابن أَبِي مليكة، أنهم كانوا يأتون عَائِشَة، أم المُؤْمِنيِن بأعلى الوادي – هُوَ وعبيد بن عمير والمسور بن مخرمة وناس كثير -، فيؤمهم أبو عَمْرِو مَوْلَى عَائِشَة – وأبو عَمْرِو غلامها حينئذ لَمْ يعتق، وكان إمام بني مُحَمَّد بن أَبِي بَكْر وعروة.

قَالَ أبو نعيم: وحدثنا زهير، عَن داود بن أَبِي هند: حَدَّثَنِي أبو نضرة،

ص: 169

عَن أَبِي سَعِيد مَوْلَى أَبِي أسيد الأنصاري، قَالَ: أتاني نفر من أصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم: أبو ذر وحذيفة وابن مَسْعُود، فحضرت الصلاة، فقدموني وأنا مملوك، فصليت بهم.

قَالَ: وحدثنا حسن الحسنائي: ثنا زياد النميري، قَالَ: سألت أَنَس بن مَالِك، فَقُلْت: العبد ليس بدينه بأس، يؤم القوم؟ قَالَ: وما بأس بذلك.

وفي ((صحيح مُسْلِم)) أن عُمَر بن الخَطَّاب قَالَ لنافع بن عَبْد الحارث – وكان عُمَر استخلفه عَلَى مكة -: من استخلفت عَلَى أهل الوادي؟ قَالَ: ابن ابزى مَوْلَى لنا. فَقَالَ عُمَر: استخلفت عليهم مَوْلَى؟ قَالَ: يَا أمير المُؤْمِنيِن، إنه قارىء لكتاب الله، عالم بالفرائض. فَقَالَ عُمَر: أما إن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع بِهِ آخرين)) .

وممن رخص فِي إمامه العبد: الشعبي والنخعي والحسن والحكم والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق.

وكره إمامه العبد جماعة، منهم: أبو مجلز.

وَقَالَ الضحاك: لا يؤم العبد القوم وفيهم حر.

وَقَالَ مَالِك: لا يؤمهم، إلا أن يكون العبد قارئاً ومن خلفه أعراب لا يقرءون.

وفي ((تهذيب المدونة)) : لا يؤم العبد فِي الحضر فِي مساجد القبائل، وجائز أن يؤم فِي قيام رمضان وفي الفرائض فِي السفر، إن كَانَ أقرأهم، من غير أن يتخذ إماماً راتباً.

وَقَالَ أصحابنا: لا تكره إمامه العبد، والحر أولى مِنْهُ.

ص: 170

المسألة الثانية:

إمامه ولد البغي – وَهُوَ ولد الزنا.

وقد اختلف فِي إمامته:

فرخص فيها طائفة، منهم: عَطَاء والحسن والشعبي والنخعي والزهري وسليمان بن موسى وعمرو بن دينار والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق.

ومنهم من شرط سلامة دينه، وَهُوَ قَوْلِ أحمد.

وكره ذَلِكَ آخرون، منهم: مُجَاهِد.

وروي عَن عُمَر بن عَبْد العزيز، أَنَّهُ نهى رجلاً كَانَ يؤم بالعقيق لا يعرف لَهُ أب.

وَقَالَ مَالِك: أكره أن يتخذ إماماً راتباً.

وَقَالَ أبو حنيفة: غيره أحب إلينا مِنْهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيّ: أكره أن ينصب إماماً من لا يعرف أبوه، ومن صلى خلفه أجزأه.

وهؤلاء جعلوا النسب معتبراً فِي إمامه الصلاة، فيكره أن يرتب للأمامة من لا نسب لَهُ، كما يعتبر فِي الإمامة العظمى، فلا يصح أن ينصب إماماً من لا نسب لَهُ.

وفي هَذَا انظر؛ فإن أكثرهم رخصوا فِي إمامه العبد والمولى، مَعَ أَنَّهُ لا نسب لهما فِي العرب.

المسأله الثالثة:

إمامه الأعرابي وَهُوَ من لَمْ يهاجر إلى الأمصار من أهل البوادي.

وقد اختلف فِي إمامه الأعرابي:

فَقَالَتْ طائفة: لا بأس بِهَا إذا أقام الصلاة.

وعنه، قَالَ: العبد إذا

ص: 171

فقه أحب إلي مِنْهُ.

ورخص فِيهِ الثوري والشافعي وأحمد – فِي المشهور عَنْهُ – وإسحاق.

وروى وكيع فِي ((كتابه)) عَن شريك، عَن أَبِي إِسْحَاق، عَن رَجُل من طيىء، أن ابن مَسْعُود [حج، فصلى خلف] أعرابي.

وكره الائتمام بالأعرابي طائفة، منهم: أبو مجلز والشعبي والحسن وعطاء ومالك، وَهُوَ رِوَايَة عَن أحمد.

وروى وكيع، عَن الربيع بن صبيح، عَن ابن سيرين، قَالَ: خرجنا مَعَ عُبَيْدِ الله بن معمر، ومعنا حميد بن عَبْد الرحمن وأناس من وجوه الفقهاء، فمررنا بماء فحضرت الصلاة، فأذن أعرابي وأقام. قَالَ: فتقدم حميد بن عَبْد الرحمن. قَالَ: من كَانَ من أهل البلد فليتم الصلاة، وكره أن يؤم الأعرابي.

وهذا يدل عَلَى أنهم رأوا أن من كَانَ أولى بالإمامة فإنه يقدم عَلَى الإمام الراتب بغير إذنه، وقد سبق الكلام عَلِيهِ.

وَقَالَ مَالِك: الأعرابي لا يؤمهم وإن كَانَ أقرأهم.

وَقَالَ أحمد: لا يؤم الحضري، ولا فِي المصر، إلا أن يكون قَدْ علم وعرفه.

وَقَالَ – أَيْضاً -: إذا كَانَ قَدْ تعلم القرآن ودخل القرآن، ولم يكن جافياً.

وروى أشعث، عَن الْحَسَن فِي مهاجري صلى خلف أعرابي؟ قَالَ: إذا صلى أعاد تلك الصلاة.

وقد خرج ابن ماجه من حَدِيْث جابر مرفوعاً: ((لا يؤم أعرابي

ص: 172

مهاجراً)) – فِي حَدِيْث طويل، وسيأتي فيما بعد – إن شاء الله سبحانه وتعالى.

المسألة الرابعة:

إمامه الغلام الَّذِي لَمْ يحتلم.

وفيها أقوال:

أحدها: أنها جائزة فِي الفرض وغيره، وَهُوَ قَوْلِ الشَّافِعِيّ وإسحاق وأبي ثور.

وخرجه طائفة من أصحابنا رِوَايَة عَن الإمام أحمد من صحة اقتداء المفترض بالمتنفل، عَلَى رِوَايَة عَنْهُ، وفيه نظر؛ فإن المتنفل أهل للأمامة فِي الجملة بخلاف الصبي.

وحكاه ابن المنذر عَن الْحَسَن.

وروى حرب بإسناده، عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: لَمْ يزل الغلمان يصلون بالناس إذا عقلوا الصلاة وقرءوا فِي رمضان، وإن لَمْ يحتلموا.

وروى أبو نعيم فِي ((كِتَاب الصلاة)) : حَدَّثَنَا سُفْيَان عَن ابن جريج، عَن عَطَاء، قَالَ: لا بأس أن يؤم الغلام قَبْلَ أن يحتلم.

وروى وكيع بإسناده، عَن الأشعث بن قيس، أَنَّهُ قدم غلاماً، فَقِيلَ لَهُ.

فَقَالَ: إني لَمْ أقدمه، إنما قدمت القرآن.

ولعل الغلام هاهنا أريد بِهِ العبد، لا الصبي.

والقول الثاني: أَنَّهُ لا يؤم الصبي حَتَّى يحتلم، روي ذَلِكَ عَن ابن عَبَّاس، خرجه عَنْهُ بإسناد فِيهِ مقال.

وخرجه الأثرم – أَيْضاً – بإسناد منقطع عَن ابن مَسْعُود، قَالَ: لا

ص: 173

يصلي خلف الغلام حَتَّى تجب عَلِيهِ الحدود.

وَقَالَ النخعي: كانوا يكرهون أن يؤم الغلام قَبْلَ أن يحتلم.

قَالَ ابن المنذر: كره إمامة من لَمْ يبلغ: عَطَاء والشعبي ومجاهد ومالك والثوري وأصحاب الرأي.

وقد روينا عَن ابن عَبَّاس، قَالَ: لا يؤم الغلام حَتَّى يحتلم.

وكرهه – أَيْضاً - الضحاك.

والقول الثالث: يؤمهم فِي النفل دون الفرض، روي ذَلِكَ عَن الْحَسَن، ذكره وكيع، عَن الربيع بن صبيح، عَنْهُ، قَالَ: لا بأس أن يؤمهم فِي رمضان إذا أحسن الصلاة قَبْلَ أن يحتلم، وَهُوَ رِوَايَة عَن أحمد.

والقول الرابع: حكاه ابن المنذر عَن الأوزاعي، قَالَ: لا يؤم الغلام فِي الصلاة المكتوبة حَتَّى يحتلم، إلا أن يكون ليس معهم من القرآن شيء، فإنه يؤمهم المراهق.

وعن الزُّهْرِيّ، قَالَ: إن اضطروا إليه أمهم.

وقد أوما أحمد إلى هَذَا القول؛ فإنه قَالَ - فِي رِوَايَة أَبِي طالب -: لا يصلي بهم حَتَّى يحتلم، لا فِي المكتوبة ولا فِي التطوع. قيل لَهُ: فحديث عَمْرِو بن سَلَمَة، أليس أم بهم وَهُوَ غلام؟ فَقَالَ: لعله لَمْ يكن يحسن يقرأ غيره.

ونقل عَنْهُ جَعْفَر بن مُحَمَّد فِي حَدِيْث عَمْرِو بن سَلَمَة، قَالَ: كَانَ هَذَا فِي أول الإسلام من ضرورة، فأما اليوم فلا.

وكذلك نقل عَنْهُ أبو داود، قَالَ: لعله كَانَ فِي بدء الإسلام.

وهذا يشير إلى نسخ حكمه بالكلية.

ومن أصحابنا من أجاز إمامته فِي قيام رمضان، إذا لَمْ

ص: 174

يوجد قارىء غيره؛ فإن أحمد أجاز إمامة المرأة فِي ذَلِكَ، والغلام أولى، وفيه نظر - أَيْضاً -؛ فإن المرأة من أهل التكليف ووجوب الصلاة، بخلاف الصبي.

ولهذا اختلف أصحابنا فِي إمامة الغلام إذا بلغ عَشَرَ سنين، وقلنا: تجب الصلاة عَلِيهِ، كما هُوَ رِوَايَة عَن أحمد، اختارها طائفة من أصحابه، منهم: أبو بَكْر عَبْد العزيز وأبو الحسن التميمي وأبو الْحَسَن الجزري وأبو حفص البرمكي، وحكي عَن ابن حامد - أَيْضاً.

فاختلفوا: هَلْ يصح أن يؤم فِي الصلاة المفروضة حينئذٍ، أم لا؟ عَلَى وجهين:

أحدهما: أَنَّهُ لا يؤم فيها - أَيْضاً -، قاله أبو حفص البرمكي والقاضي أبو يعلى والأكثرون. والثاني: يصح، قاله أبو الخَطَّاب.

قَالَ القاضي وأصحابه: إذا قلنا: لا يصح أن يؤم فِي فرض فلا فرق بَيْن فروض الأعيان وفروض الكفايات كالجنائز.

وقد استدل البخاري لصحة إمامة العبد والمولى وولد الزنا والأعرابي والصبي بعموم قَوْلِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ((يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله)) .

وقد خرجه فِي موضع آخر مسنداً من حَدِيْث عَمْرِو بن سَلَمَة، عَن أَبِيه، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

وخرجه مُسْلِم من حَدِيْث أَبِي مَسْعُود الأنصاري، وقد سبق.

وقد

ص: 175

استدل بِهِ بنو جرم فِي عهد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى إمامه الصبي، حَتَّى قدموا عَمْرِو بن سَلَمَة أخذاً بعمومه.

وقد أجاب بعضهم بأنه لَمْ ينقل أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بلغه ذَلِكَ وأقر عَلِيهِ.

وهذا يرجع إلى أن مَا عمل فِي زمن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أَنَّهُ بلغة، فهل يكون حجة، أم لا؟ وفيه اخْتِلَاف مشهور.

والمخالف فِي ذَلِكَ يَقُول: عموم هَذَا الحَدِيْث لا بد من تخصيصه؛ فإن المرأة لَوْ كَانَتْ أقرأ القوم لَمْ تؤمهم مَعَ وجود قارىء غيرها إجماعاً، وعند عدمه - أَيْضاً - عِنْدَ الأكثرين، فلذلك نخص مِنْهُ الصبي؛ لأنه ليس من أهل التكليف، والكلام إنما توجه إلى من يدخل تَحْت التكليف، فيتوجه إليه الخَطَّاب. والله سبحانه وتعالى أعلم.

المسألة الخامسة:

قَالَ: لا يمنع العبد من الجماعة بغير علة.

هَذَا يدل عَلَى أن البخاري يرى وجوب الصلاة فِي الجماعة عَلَى المملوك، وأن سيده لا يجوز لَهُ منعه مِنْهَا.

وَهُوَ - أَيْضاً - ظاهر كلام أحمد.

قَالَ إِسْحَاق بن هانىء: سألت أَبَا عَبْد الله عَن العبد يرسله مولاه فِي حاجته، فتحضر الصلاة: فيصلي، ثُمَّ يقضي حاجة مولاه، أو يقضي حاجة مولاه ثُمَّ يصلي؟ ولعله إن قضى حاجة مولاه لا يجد مسجداً يصلي فِيهِ؟ فَقَالَ أبو عَبْد الله: إذا علم أَنَّهُ انقضى حاجة مولاه أصاب مسجداً يصلي فِيهِ قضى حاجة مولاه، وإن علم أَنَّهُ لا يجد مسجداً

ص: 176

يصلي فِيهِ صلى، ثُمَّ قضى حاجة مولاه.

وَقَالَ صالح بن الإمام أحمد: سألت أَبِي عَن العبد يأمره مواليه بالحاجة، وتحضر الصلاة؟ قَالَ: إن وجد مسجداً يصلي فِيهِ قضى حاجة مواليه، وإن صلى فلا بأس.

ومن المتأخرين من أصحابنا من قَالَ: يتخرج وجوب الجماعة عَلَى العبد عَلَى وجوب الجمعة عَلِيهِ، وفيه روايتان عَن أحمد، فلذلك يخرج فِي وجوب الجماعة.

ومنهم من قَالَ: لا تجب الجماعة عَلَى العبد بحال، لتكررها كل يوم وليلة بخلاف الجمعة.

وممن قَالَ: لا تجب الجماعة عَلَى العبد من أصحابنا: القاضي أبو يعلى فِي ((خلافه)) وأبو الفتح الحلواني.

وروي عَن الْحَسَن مَا يدل عَلَى مثله، فروى أبو بَكْر الخلال بإسناده، عَن مهدي بن ميمون، قَالَ: سألت الْحَسَن عَن عَبْد مملوك تحضره الصلاة، فيحب أن يصليها فيرسله مولاه فِي بعض الحاجة، فبأي ذَلِكَ يبدأ؟ قَالَ: يبدأ بحاجة مولاه.

خرج البخاري فِي هَذَا الباب حديثين:

الحَدِيْث الأول:

ص: 177

692 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْم بن المنذر: ثنا أَنَس بن عياض، عَن عُبَيْدِ الله، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، قَالَ: لما قدم المهاجرون الأولون العصبة - موضع بقباء - قَبْلَ مقدم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يؤمهم سَالِم مَوْلَى أَبِي حذيفة، وكان

ص: 177

أكثرهم قرآنا.

وخرجه أبو داود من طريق ابن نمير، عَن عُبَيْدِ الله، وزاد: فيهم عُمَر ابن الخَطَّاب وأبو سَلَمَة بن عَبْد الأسد.

وخرجه البخاري فِي ((الأحكام)) من ((صحيحه)) هَذَا من طريق ابن جُرَيْج، عَن نَافِع، أخبره أن ابن عُمَر أخبره، قَالَ: كَانَ سَالِم مَوْلَى أَبِي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي مسجد قباء، فيهم: أبو بَكْر وعمر وأبو سَلَمَة وزيد وعامر بن رَبِيعَة.

والمراد بهذا: أَنَّهُ كَانَ يؤمهم بعد مقدم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قَالَ: ((فِي مسجد قباء)) ، ومسجد قباء إنما أسسه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة، فلذلك ذكر منهم: أَبَا بَكْر، وأبو بَكْر إنما هاجر مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وليس فِي هذه الرواية:((قَبْلَ مقدم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم)) كما فِي الرواية الَّتِيْ خرجها البخاري هاهنا فِي هَذَا الباب، فليس فِي هَذَا الحَدِيْث إشكال كما توهمه بعضهم.

وإمامة سَالِم للمهاجرين بعد مقدم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي مسجد فِي حكم المرفوع؛ لأن مثل هَذَا لا يخفى بل يشتهر ويبلغ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

والظاهر: أن سالماً لَمْ يعتق إلا بقدومه المدينة؛ فإنه عتيق لامرأة من الأنصار، أعتقته سائبة وأذنت لَهُ أن يوالي من شاء، فوالى أَبَا حذيفة وتبناه.

والعصبة: قَالَ صاحب ((معجم البلدان)) : هُوَ بتحريك الصاد عَلَى

ص: 178

وزن همزة، وَهُوَ حصن، قَالَ: ويروى المعصب.

الحَدِيْث الثاني:

قَالَ:

ص: 179

693 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن بشار: ثنا يَحْيَى: ثنا شعبة: حَدَّثَنِي أبو التياح، عَن أَنَس بن مَالِك، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل حبشي، كأن رأسه زبيبة)) .

الأمر بطاعة الحبشي يدخل فِيهِ الصلاة خلفه إذا استعمل عَلَى النَّاس، وقد استدل بذلك الإمام أحمد - أَيْضاً.

وقد قيل: إن هَذَا بَاب ضرب المثل لطاعة الأمراء عَلَى كل حال، كقوله:((من بنى مسجداً، ولو كمفحص قطاة)) ، مَعَ أَنَّهُ لا يكون المسجد كذلك، فكذلك العبد الحبشي لا يكون إماماً؛ فإن الأئمة من قريش.

وقيل: بل المراد أن الأئمة من قريش إذا ولت عبداً حبشياًً أطيع، وقد روي ذَلِكَ من حَدِيْث عَلِيّ مرفوعاً وموقوفاً:((إن أمرت عليكم قريش عبداً حبشياً فاسمعوا لَهُ وأطيعوا)) .

وهذا أشبه:

وقد استدل أبو ذر بهذا الحَدِيْث عَلَى الصلاة خلف العبيد إذا استعملهم الأئمة، فروى عَبْد الله بن الصَّامِت، عَن أَبِي ذر، أَنَّهُ انتهى إلى الربذة وقد أقيمت الصلاة، فإذا عَبْد يؤمهم. قَالَ: فَقِيلَ: هَذَا أبو ذر،

ص: 179

فذهب يتأخر فَقَالَ أبو ذر: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم: أسمع وأطيع، ولو كَانَ عبداً حبشياً مجدع الأطراف.

وفي رِوَايَة: فإذا عَبْد يصلي بهم، فقالوا لأبي ذر: تقدم، فأبى، فتقدم العبد فصلى بهم - ثُمَّ ذكر الحَدِيْث.

وقد خرج مُسْلِم مِنْهُ المرفوع.

ص: 180

‌55 - بَاب

إذا لَمْ يُتمَّ الإمَامُ وََأَتَمَّ مَنْ خَلْفََهُ

ص: 181

694 -

حَدَّثَنَا الفضل بن سَهْل: ثنا الْحَسَن بن موسى الأشيب: ثنا عَبْد الرحمن بن عَبْد الله بن دينار، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطَاء بن يسار، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:((يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم)) .

تفرد البخاري بتخريج هَذَا الحَدِيْث عَن مُسْلِم، وبتخريج حَدِيْث عَبْد الرحمن ابن عَبْد الله بن دينار، مَعَ أَنَّهُ قَدْ ضعفه ابن معين وغيره. وَقَالَ عَلِيّ بن المديني: فِي بعض مَا يرويه منكرات لا يتابع عَلَيْهَا، ويكتب حديثه فِي جملة الضعفاء.

وقد خرجه ابن حبان فِي ((صحيحه)) من وجه آخر عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، من رِوَايَة أَبِي أيوب الأفريقي، عَن صفوان بن سليم، عَن ابن المُسَيِّب، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((سيأتي - أو يكون - أقوام يصلون الصلاة، فإن أتموا فلكم ولهم، وإن نقصوا فعليهم ولكم)) .

ص: 181

وقد روي –أَيْضاً - من رِوَايَة أَبِي صالح السمان والحسن، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، ولكن إسنادهما لا يصح.

وخرج ابن ماجه والحاكم فِي ((المستدرك)) من حَدِيْث عَبْد الحميد بن سُلَيْمَان: ثنا أبو حازم، قَالَ: كَانَ سَهْل بن سعد الساعدي يقدم قتيان قومه يصلون بهم، فَقِيلَ لَهُ: تفعل هَذَا ولك من القدم مَالِك؟ فَقَالَ: إني سَمِعْت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول: ((الإمام ضامن، فإن أحسن فله ولهم، وإن أساء يعني: فعليه ولا عليهم)) .

وقد ذكر هَذَا الحديث الإمام أحمد، فَقَالَ: مَا سَمِعْت بهذا قط.

وهذا يشعر باستنكاره لَهُ.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حَدِيْث عقبة بن عامر، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((من أم النَّاس فأصاب الوقت وأتم الصلاة فله ولهم، ومن انتقض من ذَلِكَ شيئاً فعليه ولا عليهم)) .

وفي إسناده اخْتِلَاف، وقد روي مرسلاً.

وفي المعنى أحاديث أخر متعددة فِي أسانيدها مقال.

وقد استدل البخاري بهذا الحَدِيْث عَلَى أن من صلى خلف من لا يتم صلاته فأتم صلاته، فإن صلاته صحيحة، ودخل فِي هَذَا: من صلى خلف محدث، يعلم حدث نفسه أو لا يعمله.

ص: 182

وقد سبق الكلام عَلَى ذَلِكَ. ومن صلى خلف إمام يؤخر الصلاة عَن مواقيتها، وقد سبق الكلام عَلِيهِ - أَيْضاً - ومن صلى خلف من ترك ركناً أو شرطاً فِي صلاته متأولاً، والمأموم يخالف تأويله.

وفي صحة صلاته وراءه قولان، هما روايتان عَن أحمد، كمن صلى خلف من مس ذكره أو احتجم ولم يتوضأ، ومن صلى خلف من لا يتم ركوعه وسجوده، وأتمه المأموم أجزأته صلاته، كذا قَالَ علقمة، والأوزاعي.

وسئل أحمد عمن قام إمامه قَبْلَ أن يتم تشهده الأول، فذكر قَوْلِ علقمة - يعني: أَنَّهُ يتمه ثُمَّ يقوم.

وسئل سُفْيَان الثوري عمن صلى خلف من يسرع الركوع والسجود؟ قَالَ: تمم أنت والحق بِهِ.

وَقَالَ يَحْيَى بن آدم: صليت خلف رَجُل فأعدت صلاتي من سوء صلاته.

وَقَالَ أحمد فِي إمام لا يتم ركوعه ولا سجوده: لا صلاة لَهُ، ولا لمن خلفه -: نقله عَنْهُ أبو طالب.

ونقل عَنْهُ ابن الْقَاسِم مَا يدل عَلَى أن من خلفه إذا أتم فلا إعادة عَلِيهِ.

وهذا يرجع إلى مَا ذكرنا؛ فإن من صور هَذَا الاختلاف: من ترك الطمأنينة متأولاً، وصلى خلفه من يرى وجوب ذَلِكَ واطمأن.

وأكثر كلام أحمد يدل عَلَى أَنَّهُ يفرق بَيْن التأويلات الضعيفة المخالفة للسنن الصحيحة فلا يمنع من الصلاة خلف متأولها، كما نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لا يصلى خلف من يَقُول: الماء من الماء، ولا من ترك قراءة الفاتحة فِي بعض الركعات عَلَى التأويل، وأنه يصلى خلف من لا

ص: 183

يتوضأ من خروج الدم، ولا من أكل لحم الإبل، ولا من مس الذكر، أو يصلي فِي جلود الثعالب عَلَى التأويل.

وسوى أبو بَكْر عَبْد العزيز بن جَعْفَر وأكثر أصحابنا بَيْن الجميع، والصحيح التفرقة.

ولهذا نَصَّ الشَّافِعِيّ وأحمد عَلَى أَنَّهُ لا يحد الناكح بلا ولي، ويحد من شرب النبيد متأولاً، ونص أحمد عَلَى أن الفرق هُوَ: ضعف التأويل فِي شرب النبيد خاصة.

وَقَالَ سُفْيَان الثوري: لا يصلى خلف من مسح عَلَى رجليه، ومن صلى خلفه أعاد الصلاة.

وَقَالَ شريك: لا يصلى خلفه، ولا تعاد الصلاة.

وقد استدل بالأحاديث المذكورة فِي هَذَا الباب من كره الإمامة، وقد كره أن يؤم النَّاس جماعة من الصَّحَابَة، منهم: حذيفة وعقبة بن عامر.

وَقَالَ حذيفة: لتبتغن إماماً غيري، أو لنصلين وحداناً.

وسئل أحمد عَن الرَّجُلُ يؤم النَّاس: هَلْ لَهُ فِي ذَلِكَ ثواب؟ قَالَ: إن كَانَ فِي قرية هُوَ أقرأ القوم، أو فِي موضع هُوَ أقرؤهم فليتقدمهم. وسئل عَن الرَّجُلُ يكون أقرأ القوم، فَقَالَ لَهُ: تقدم فيأبى؟ قَالَ: ينبغي لَهُ أن يتقدم، يؤم القوم أقرؤهم. قيل لَهُ: يجب عَلِيهِ؟ فَقَالَ: ينبغي لَهُ أن يتقدم يؤم القوم، ولم يقل: يجب عَلِيهِ.

وسئل عَن معنى قَوْلِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ((الإمام ضامن)) ؟ فَقَالَ: هَذَا عَلَى التأكيد عَلَى الإمام.

وهذا الحَدِيْث، خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

ص: 184

وفي إسناده اخْتِلَاف كثير أشار الترمذي إلى بعضه، وقد بسطت القول فِيهِ فِي

((شرح الترمذي)) بحمد الله ومنه.

رَوَى وكيع فِي ((كتابه)) عَن عَلِيّ بن المبارك، عَن يَحْيَى بن أَبِي كثير، قَالَ: حَدَّثَنِي من لا أتهم، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: تبادروا الأذان، ولا تبادروا الإمامة)) .

وعن ابن عون، قَالَ: ذكر عِنْدَ الشَّعْبِيّ أن الإمام ضامن لصلاة القوم، فَقَالَ: والله إني لأرجو إن أحسن أن يتقبل الله مِنْهُ، وإن أساء أن يغفر لَهُ.

ص: 185

‌56 - بَاب

إمَامَةِ المَفْتُونِ والمبُتْدَعِ

وَقَالَ الْحَسَن: تصلي وعليه بدعته.

ص: 186

695 -

وَقَالَ لنا مُحَمَّد بن يوسف: حَدَّثَنَا الأوزاعي: ثنا الزُّهْرِيّ، عَن حميد ابن عَبْد الرحمن، عَن عُبَيْدِ الله بن عدي بن خيار، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَان بن عَفَّانَ، وَهُوَ محصور، فَقَالَ: إنك إمام عامة، ونزل بك مَا ترى، ويصلي لنا إمام فتنة، ونتحرج؟ فَقَالَ: الصلاة أحسن مَا يعمل النَّاس، فإذا أحسن النَّاس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم.

وَقَالَ الزبيدي: قَالَ الزُّهْرِيّ: لا نرى أن يصلى خلف المخنث إلا من ضرورة لا بد مِنْهَا.

ص: 186

696 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن أبان: ثنا غندر، قَالَ: ثنا شعبة، عَن أَبِي التياح، سَمِعَ أَنَس بن مَالِك يَقُول: قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: ((اسمع وأطع، ولو لحبشي، كأن رأسه زبيبة)) .

مَا ذكره عَن الْحَسَن: رواه سَعِيد بن منصور، ثنا ابن المبارك، عَن

ص: 186

هِشَام ابن حسان، عَن الْحَسَن، أَنَّهُ سئل عَن صاحب البدعة: الصلاة خلفه؟ قَالَ: صل خلفه، وعليه بدعته.

وخرجه حرب، عَن سَعِيد بن منصور، بِهِ.

وخرج - أَيْضاً - بإسناده، عَن جَعْفَر بن برقان ن قَالَ: سألت ميمون بن مهران عَن الصلاة خلف من يذكر أَنَّهُ من الخوارج؟ فَقَالَ: إنك لا تصلي لَهُ، إنما تصلي لله، قَدْ كنا نصلي خلف الحجاج وَهُوَ حروري أزرقي. فنظرت إليه، فَقَالَ: أتدري مَا الحروري الأزرقي، هُوَ الَّذِي إذا خالفت آيةً سماك كافراً، واستحل دمك، وكان الحجاج كذلك.

وروى أبو نعيم فِي ((كِتَاب الصلاة)) : ثنا سُفْيَان، عَن هِشَام، عَن ابن سيرين، قَالَ: كَانَ يكون أمراء عَلَى المدينة، فسئل ابن عُمَر عَن الصلاة معهم، فَقَالَ: الصلاة لا أبالي من شاركني فيها.

وروى أبو شِهَاب: ثنا يونس بن عُبَيْدِ، عَن نَافِع، قَالَ: كَانَ ابن عُمَر يسلم عَلَى الخشبية والخوارج وهم يقتتلون. فَقَالَ: من قَالَ: ((حي عَلَى الصلاة)) أجبته، من قَالَ:((حي عَلَى الفلاح)) أجبته، ومن قَالَ:((حي عَلَى قتل أخيك الْمُسْلِم وأخذ ماله)) ، قُلتُ: لا.

خرجه البيهقي.

وروى عَن ابن عُمَر من وجوه، أَنَّهُ كَانَ يصلي خلف الحجاج.

ص: 187

وذكر البخاري فِي ((تاريخه)) : قَالَ لنا عَبْد الله، عَن معاوية بن صالح، عَن عَبْد الكريم البكاء، قَالَ: أدركت عشرة من أصْحَاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم[كلهم] يصلي خلف أئمة الجور.

وخرج أبو داود من حَدِيْث مكحول، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((الجهاد واجب عليكم مَعَ كل أمير، براً كَانَ أو فاجراً. والصلاة واجبة عليكم خلف كل مُسْلِم، براً كَانَ أو فاجراً)) .

وهذا منقطع؛ مكحول لَمْ يسمع من أَبِي هُرَيْرَةَ.

وقد أنكر أحمد هَذَا، ولم يره صحيحاً.

قَالَ مهِنأ: سألت أحمد عَن الصلاة خلف كل بر وفاجر؟ قَالَ: مَا أدري مَا هَذَا، ولا أعرف هَذَا، مَا ينبغي لنا أن نصلي خلف فاجر، وأنكر هَذَا الكلام.

وَقَالَ يعقوب بن بختان: سئل أحمد عَن الصلاة خلف كل بر وفاجر؟ قَالَ: مَا سمعنا بهذا.

وأما الأثر الَّذِي ذكره البخاري عَن عُثْمَان: فرواه عَبْد الرزاق، عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عروة، عَن عُبَيْدِ الله بن عدي بن الخيار، عَن عُثْمَان، فخالف معمر الأوزاعي فِي إسناده.

وذكر الدارقطني أن الزبيدي والنعمان بن راشد وأبا أيوب الإفريقي،

ص: 188

رووه، عن الزهري كما رواه عنه الأوزاعي.

وخالفهم شعيب بن أَبِي حَمْزَة وأسحاق بن راشد وعبيد الله بن أَبِي زياد، فرووه عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَةَ، عَن عُبَيْدِ الله بن عدي.

وكذلك عبد الو احد بن زياد وغندر، عَن معمر.

وَقَالَ مُحَمَّد بن ثور: عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُبَيْدِ الله بن عدي، لَمْ يذكر بَيْنَهُمَا أحداً.

وأرسله حماد بن زيد عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ. وتابعه جَعْفَر بن برقان، عَن الزُّهْرِيّ.

قَالَ: وحديث حميد بن عَبْد الرحمن هُوَ المحفوظ. قَالَ: ولا يدفع حَدِيْث عُرْوَةَ، أن يكون الزُّهْرِيّ حفظ عنهما جميعاً.

ورواه سعد بن إِبْرَاهِيْم بن عَبْد الرحمن بن عوف، عَن أَبِيه، عَن عُبَيْدِ الله ابن عدي، حدث بِهِ مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَنْهُ. انتهى.

وأما مَا ذكره عَن الزبيدي، عَن الزُّهْرِيّ، أَنَّهُ لا يصلى خلف المخنث إلا أن لا يجد مِنْهُ بداً.

فالمخنث: هُوَ الَّذِي يتشبه بالنساء فِي هيئته وكلامه.

وكلام الزُّهْرِيّ هَذَا يدل عَلَى أَنَّهُ إذا اضطر إلى الصلاة خلف من يكره صلى وراءه.

وَقَالَ مسرور بن مُحَمَّد: قَالَ الأوزاعي: لا تصل خلف قدري؛ إلا

ص: 189

أن تضطر.

وَقَالَ بقية بن الوليد: سألت الزبيدي: هَلْ يصلى خلف صاحب بدعة أو مكذب بالقدر؟ فَقَالَ: إن كَانَ والياً فليس من الأمر فِي شيء، وأنت فِي عذر، وإن لَمْ يكن والياً فلا تصل خلفه.

وكره آخرون الصلاة خلف أهل الأهواء والفجور:

رَوَى بقية بن الوليد: ثنا حبيب بن عُمَر الأنصاري، عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعْت واثلة بن الأسقع يَقُول: لَوْ صليت خلف قدري لأعدت صلاتي.

خرجه حرب الكرماني.

وخرج - أَيْضاً - من طريق نوح بن جعونة: ثنا عَبْد الكريم، قَالَ: قَالَ ابن عَبَّاس: لأن أصلي خلف جيفة حمار أحب إلي من أن أصلي خلف قدري.

وفي كلا الإسنادين ضعف.

وروى عَن أَبِي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَلِيّ، أَنَّهُ أمر بإعادة الصلاة خلف القدري.

وكذلك سُفْيَان.

وفرقت طائفة بَيْن البدع المغلظة وغيرها:

فَقَالَ أبو عُبَيْدِ فيمن صلى خلف الجهمي أو الرافضي: يعيد. ومن صلى خلف قدري أو مرجىء أو خارجي: لا آمره بالإعادة.

ص: 190

وكذلك الإمام أحمد، قَالَ فِي الصلاة خلف الجهمية: إنها تعاد.

والجهمي عنده من يَقُول: القرآن مخلوق؛ فإنه كافر. أو يقف ولا يَقُول مخلوق ولا غير مخلوق، ونص أَنَّهُ تعاد الصلاة خلفه - أَيْضاً -، وقال: لا يصلي خلف من قَالَ: لفظي بالقرآن مخلوق، وَهُوَ جهمي.

وقال: لا يصلي خلف القدري إذا قَالَ: لا يعلم الشيء حَتَّى يكون، فهذا كافر، فإن صلى يعيد.

وَقَالَ - أَيْضاً - فِي القدري: إذا كَانَ داعياً مخاصماً تعاد الصلاة خلفه.

وهذا محمول عَلَى من لا ينكر منهم العلم القديم.

وَقَالَ فِي الخوارج: إذا تغلبوا عَلَى بلد: صلي خلفهم.

وَقَالَ - مرة -: يصلى خلفهم الجمعة؛ صلى ابن عُمَر خلف نجدة الحروري.

وَقَالَ فِي الرافضي الَّذِي يتناول الصَّحَابَة: لا يصلى خلفه.

وَقَالَ فيمن يقدم علياً عَلَى أَبِي بَكْر وعمر: إن كَانَ جاهلاً لا علم لَهُ فصلى خلفه فأرجو أن لا يكون بِهِ بأس، وإن كَانَ يتخذه ديناً فلا تصل خلفه.

وَقَالَ فِي المرجىء - وَهُوَ: من لا يدخل الأعمال فِي الإيمان -: إن كَانَ داعياً فلا يصلى خلفه. وَقَالَ فِي الصلاة خلف أهل الأهواء: إذا كَانَ داعيةً ويخاصم فِي بدعته فلا يصلى خلفه، وإلا فلا بأس.

وهذا محمول عَلَى البدع الَّتِيْ لا يكفر صاحبها، فأما مَا يكفر صاحبه فتعاد الصلاة خلفه، كما تقدم عَنْهُ.

ص: 191

قَالَ حرب: قُلتُ لأحمد: فتكره الصلاة خلف أهل البدع كلهم؟ فَقَالَ: إنهم لا يستوون.

وأما الصلاة خلف الفساق، فَقَالَ أحمد - فيمن يسكر -: لا يصلى خلفه، وفيمن ترك شيئاً من فرائض الإسلام أو تعامل بالربا: لا يصلي خلفه، ولا خلف من كل بيعه عينة - يعني: نسأة، ولا خلف من يكثر كذبه.

وسئل عَن الصلاة خلف من يغتاب النَّاس؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ كل من عصى الله لا يصلى خلفه، متى كَانَ يقوم النَّاس عَلَى هَذَا؟

وفرق - مرة - بَيْن المستتر والمعلن.

قَالَ أحمد بن الْقَاسِم: سئل أحمد عَن الصلاة خلف من لا يرضى؟ قَالَ: قَدْ اختلف فِيهِ؛ فإن كَانَ لا يظهر أمره فِي منكر أو فاحشة بينة أو مَا أشبه ذَلِكَ فليصل.

وفرق - مرة - بَيْن الصلاة خلف الأمراء وغيرهم.

قَالَ الميموني: سَمِعْت أحمد قَالَ: إذا كَانَ الإمام من أئمة الأحياء يسكر فلا أحب أن أصلي خلفه البتة؛ لأن لِي اختيار الأئمة، وليس هُوَ والي المُسْلِمِين؛ لأن ابن عُمَر سئل عَن الصلاة خلف الأمراء؟ فَقَالَ: إنما هِيَ حسنة، لا أبالي من شركني فيها.

ولهذا المعنى لَمْ يختلف فِي حضور الجمعة والعيدين خلف كل بر وفاجر.

والمشهور عَنْهُ: إعادتها خلف الفاجر، فإن كَانَ يكفر ببدعته ففي حضورها مَعَهُ روايتان، ومع حضورها يعيدها ظهراً.

وحكي عَنْهُ: لا يعيد.

واختلف أصحابنا فِي حكاية المذهب فِي الإعادة خلف الفاسق:

ص: 192

فمنهم من قَالَ: فِي الإعادة روايتان مطلقاً.

ومنهم من قالَ: إن لم يعلم فسقه فلا إعادة، وإن علم ففي الإعادة روايتان.

ومنهم من قَالَ: إن كَانَ مستتراً لَمْ يعد، وإن كَانَ متظاهراً ففي الإعادة روايتان.

فأما من يكفر ببدعته فحكمه حكم الكفار.

ولذلك فرق إِسْحَاق بن راهوية بَيْن القدري والمرجىء، فَقَالَ فِي القدري: لا يصلى خلفه. وَقَالَ فِي المرجىء: إن كَانَ داعية لَمْ يصل خلفه.

وَقَالَ حرب: ثنا ابن أَبِي حزم القطعي: ثنا معاذ بن معاذ: ثنا أشعث، عَن الْحَسَن، فِي السكران يؤم القوم؟ قَالَ: إذا أتم الركوع والسجود فَقَدْ أجزأ عنهم.

وَقَالَ مُحَمَّد بن سيرين: يعيدون جميعاً، والإمام.

وحكى ابن المنذر، عَن مَالِك، أَنَّهُ قَالَ: لا يصلى خلف أهل البدع من القدرية وغيرهم، ويصلى خلف أئمة الجور.

وعن الشَّافِعِيّ: أَنَّهُ يجيز الصلاة خلف من أقام الصلاة، وإن كَانَ غير محمود فِي دينه.

اختار ابن المنذر هَذَا القول، مَا لَمْ تخرجه بدعته إلى الكفر.

وفي ((تهذيب المدونة)) : تجزىء الجمعة وغيرها خلف من ليس بمبتدع من الولاة، وإذا كَانَ الإمام من أهل الأهواء فلا يصلى خلفه ولا الجمعة، إلا أن يتقيه، فليصلها مَعَهُ، وليعد ظهراً. ووقف مَالِك فِي إعادة من صلى

ص: 193

خلف مبتدع. وَقَالَ ابن الْقَاسِم: يعيد فِي الوقت. انتهى.

وفي مصنف عَلَى مذهب سُفْيَان الثوري: تكره إمامة أهل البدع والأهواء الداعية إلى ذَلِكَ؛ سئل سُفْيَان عَن الصلاة خلف الأمراء الذين يقولون: طاعتنا لله طاعة، ومعصيتنا لله معصية؟ قَالَ: كَانَ الحجاج يَقُول ذَلِكَ، وهم يصلون خلف رافضي أو قدري فليعد الصلاة، ولا يصلى خلف من يَقُول: الإيمان قَوْلِ بلا عمل.

وحديث أَنَس الَّذِي خرجه البخاري فِي هَذَا الباب يستدل بِهِ عَلَى الصلاة خلف أئمة الجور وأعوانهم؛ وقد جعله البخاري دليلاً عَلَى إمامة المبتدع - أَيْضاً - كما يطاع فِي غير معصية، إذا كَانَ لَهُ ولاية عَلَى النَّاس، فإنه أمر بطاعتهم مطلقاً، مَعَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه يكون من بعده ولاة يغيرون ويبدلون، ونهى عَن قتالهم مَا أقاموا الصلاة، ولم ينه عَن الصلاة وراءهم، وإنما أمر بالصلاة فِي الوقت إذا أخر الأمراء الصلاة عَن الوقت، وأمر بالصلاة معهم نافلة، وقد سبق هَذَا الحَدِيْث فِي ((المواقيت)) .

ويستدل بِهِ عَلَى صحة الصلاة النافلة خلف الفاجر.

ومن أصحابنا من قَالَ: تصح النافلة خلفهم بغير خلاف فِي المذهب.

وقد روي عَن أحمد رِوَايَة أخرى أَنَّهُ لا يصلى التروايح خلف من يسكر.

وقد روي حَدِيْث مرفوع فِي كراهة الصلاة خلف الفاجر فِي غير الجمعة.

خرجه ابن ماجه من رِوَايَة عَبْد الله بن مُحَمَّد العدوي، عَن عَلِيّ

ص: 194

بن زيد، عَن سَعِيد بن المُسَيِّب، عَن جابر، قَالَ: خطبنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ((إن الله قَدْ افترض عليكم الجمعة فِي مقامي هَذَا إلى يوم القيامة، فمن تركها فِي حياتي أو بعدي وله إمام عادل أو جائر استخفافاً بِهَا، وجحوداً لها؛ فلا جمع الله لَهُ شمله، ولا بارك لَهُ فِي أمره، ألا ولا صلاة لَهُ، ولا زكاة لَهُ، ولا حج لَهُ، ولا بركة حَتَّى يتوب، ألا لا تؤمن امرأة رجلاً، ولا يؤم أعرابي مهاجراً، ألا ولا يؤم فاجر مؤمناً إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه وشرطه)) .

والعدوي هَذَا، قَالَ البخاري وأبو حاتم: منكر الحَدِيْث. وَقَالَ أبو حاتم: مجهول. وَقَالَ الدارقطني: متروك.

قَالَ العقيلي: وقد روي هَذَا من وجه آخر يشبه هَذَا فِي الضعف.

وذكر الدارقطني فِي ((العلل)) أَنَّهُ رواه أبو فَاطِمَة مسكين بن عَبْد الله الطفاوي وحمزة بن حسان، عَن عَلِيّ بن زيد - أَيْضاً -، ورواه الثوري عَن عَلِيّ بن زيد أَيْضاً.

ثُمَّ خرجه من طريق مهنأ بن يَحْيَى الشامي - صاحب الإمام أحمد -: حَدَّثَنَا زيد بن أَبِي الزرقاء، عَن سُفْيَان، عَن عَلِيّ بن زيد - فذكره مختصراً.

وهذا إسناد قوي؛ إلا أن الحَدِيْث منكر -: قاله أبو حاتم الرَّازِي.

ص: 195

وَقَالَ الدارقطني: هُوَ غير ثابت.

وَقَالَ ابن عَبْد البر: أسانيده واهية.

قُلتُ: وقد روي أوله من طرق متعددة، كلها واهية.

ص: 196

‌57 - بَاب

يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الإمَامِ بحذائهِ سواءً إذا كَاناَ اثْنَيْنِ

مراده بهذا التبويب: أَنَّهُ إذا اجتمع فِي الصلاة إمام ومأموم فإن المأموم يقوم عَن يمين الإمام بحذائه سواء - أي: مساوياً لَهُ فِي الموقف، من غير تقدم ولا تأخر.

ص: 197

697 – حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بن حرب: ثنا شعبة، عَن الحكم، قَالَ ك سَمِعْت سَعِيد ابن جبير، عَن ابن عَبَّاس، قَالَ: بت فِي بيت خالتي ميمونة، فصلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم العشاء، ثُمَّ جَاءَ فصلى أربع ركعات، ثُمَّ نام، ثُمَّ قام، فجئت فقمت عَن يساره، فجعلني عَن يمينه، فصلى خمس ركعات، ثُمَّ صلى ركعتين، ثُمَّ نام حَتَّى سَمِعْت غطيطه – أو قَالَ: خطيطه – ثُمَّ خرج إلى الصلاة.

((الغطيط)) : صوت تردد النفس، ومنه: غطيط البكر. و ((الخطيط)) : نحوه: والغين والخاء متقاربا المخرج.

والمقصود من هَذَا الحَدِيْث فِي هَذَا الباب: أن الإمام إذا لَمْ يأتم بِهِ غير واحد، فإنه يقيمه عَن يمينه بحذائه، ولو كَانَ صبياً لَمْ يبلغ الحلم.

وهذا كالإجماع من أهل العلم.

وقد حكاه الترمذي فِي ((جامعه)) عَن

ص: 197

أهل العلم من أصْحَاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فمن بعدهم، قالوا: إذا كَانَ الرَّجُلُ مَعَ الرَّجُلُ يقوم عَن يمين الإمام.

وحكاه ابن المنذر عَن أكثر أهل العلم، وسمى منهم: عُمَر بن الخَطَّاب وابن عُمَر وجابر بن زيد وعروة ومالك وسفيان والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي. قَالَ: وبه نقول.

قُلتُ: وَهُوَ – أَيْضاً – قَوْلِ الشَّعْبِيّ وأحمد وأسحاق.

قَالَ ابن المنذر: وفيه قولان آخران:

أحدهما عَن سَعِيد بن المُسَيِّب، أَنَّهُ قَالَ: يقيمه عَن يساره.

قُلتُ: وروي – أَيْضاً – عَن النخعي، أَنَّهُ يقوم من خلفه مَا بينه وبين أن يركع، فإن جَاءَ أحد وإلا قام عَن يمينه. انتهى.

وروى أبو نعيم: ثنا سُفْيَان، عَن الْحَسَن بن عُبَيْدِ الله، عَن إِبْرَاهِيْم، قَالَ: كُنْتُ أقوم خلف علقمة حَتَّى ينزل المؤذن قائماً، كَانَ يقوم خلفه إذا

ص: 198

علم أَنَّهُ يلحق غيره قريباً.

وروى وكيع فِي ((كتابه)) عَن الْحَسَن، قَالَ: إذا صلى الرَّجُلُ ومعه رَجُل واحد ونساء؛ أقام الرَّجُلُ خلفه وأقام النِّسَاء خلف الرَّجُلُ.

وقد روي فِي حَدِيْث ابن عَبَّاس، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أقامه عَن يساره، وروي أَنَّهُ قام خلفه، وكلاهما لا يصح.

أما الأول: فمن رِوَايَة كثير بن زيد، عَن يزيد بن أَبِي زياد، عَن كريب، عَن ابن عَبَّاس – فذكر الحَدِيْث، وفيه: قَالَ: فقمت عَن يمينه، فأخذني فجعلني عَن يساره.

قَالَ مُسْلِم فِي كِتَاب ((التمييز)) : هَذَا غلط غير محفوظ؛ لتتابع الأخبار الصحاح برواية الثقات عَلَى خلاف ذَلِكَ، أن ابن عَبَّاس إنما قام عَلَى يسار النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فحوله حَتَّى أقامه عَن يمينه.

ثُمَّ خرجه من طرق متعددة، عَن كريب، عَن ابن عَبَّاس كذلك. ومن طريق سَعِيد بن جبير وعطاء وأبي نضرة والشعبي وطاوس وعكرمة، كلهم عَن ابن عَبَّاس كذلك.

وأما الثاني: فخرجه أبو نعيم فِي ((الحلية)) من رِوَايَة أَبِي يزيد الخراز: ثنا النضر بن شميل: ثنا يونس، عَن أَبِي إِسْحَاق: حَدَّثَنِي عَبْد المؤمن

ص: 199

الأنصاري، قَالَ: قَالَ ابن عَبَّاس، كُنْتُ عِنْدَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إلى سقاء فتوضأ وشرب قائماً، فقمت فتوضأت وشربت قائماً، ثُمَّ صففت خلفه، فأشار إلي لأوازي بِهِ أقوم عَن يمينه، فأبيت، فلما قضى صلاته قَالَ:((مَا منعك [أن لا تكون] وازيت بي؟)) قُلتُ: يَا رَسُول الله، أنت أجل فِي عيني وأعز من أن أوازي بك. فَقَالَ:((اللهم، آته الحكمة)) .

إسنادمجهول؛ فلا تعارض بِهِ الروايات الصحيحة الثابتة.

وقد روي من وجه أصح ممن هَذَا، أَنَّهُ وقف خلفه فقدمه إلى يمينه.

خرجه أبو نعيم فِي ((كِتَاب الصلاة)) : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن شريك: ثنا عَكْرِمَة بن خَالِد، قَالَ: قَالَ ابن عَبَّاس: بت عِنْدَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي بيت ميمونة – وهي خالته -، فلما قام النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من الليل يصلي قمت خلفه، فأهوى بيده فأخذ برأسي، فأقامني عَن يمينه إلى جنبه.

مُحَمَّد بن شريك هَذَا، مكي، وثقه الإمام أحمد.

وقد دل حَدِيْث ابن عَبَّاس هَذَا عَلَى انعقاد الجماعة بالصبي فِي النفل، وهذا متنف عَلِيهِ، فأما فِي الفرض ففيه روايتان عَن أحمد، والأكثرون عَلَى انعقاده بالصبي – أَيْضاً -، وَهُوَ قَوْلِ أبي حنيفة والشافعي؛ لأن

ص: 200

الصبي يصح نفله، والجماعة تنعقد بالمتنفل، وإن كَانَ الإمام مفترضأ؛ بدليل قَوْلِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:((من يتصدق عَلَى هَذَا فيصلي مَعَهُ؟)) .

ص: 201

‌58 - بَاب

إذا قَامَ عَنْ يَسَار الإمَامِ فَحوَّلهُ الإمَامُ إلى يَمِيِنهِ

لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ

ص: 202

698 – حَدَّثَنَا أحمد: ثنا ابن وهب: ثنا عَمْرِو، عَن عَبْد ربه بن سَعِيد، عَن مخرمه بن سُلَيْمَان، عَن كريب، عَن ابن عَبَّاس، قَالَ: نمت عِنْدَ ميمونة والنبي صلى الله عليه وسلم عندها تلك الليلة، فتوضأ، ثُمَّ قام يصلي، فقمت عَن يساره، فأخذني فجعلني عَن يمينه، فصلى ثلاث عشرة ركعة، ثُمَّ نام حَتَّى نفخ – وكان إذا نام نفخ – حَتَّى أتاه المؤذن، فخرج فصلى ولم يتوضأ.

قَالَ عَمْرِو: فحدثت بِهِ بكيراً، فَقَالَ: حَدَّثَنِي كريب بذلك.

((أحمد)) هَذَا غير منسوب، قَدْ رَوَى عَنْهُ البخاري فِي مواضع عَن عَبْد الله بن وهب، وقد اختلف فِيهِ:

فَقِيلَ: هُوَ أحمد بن عَبْد الرحمن بن وهب ابن أخي عَبْد الله بن وهب -: قاله أبو أحمد الحَاكِم وغيره.

وأنكر آخرون أن

ص: 202

يكون البخاري رَوَى عَن ابن أخي ابن وهب فِي

((صحيحه)) ؛ لما اشتهر من الطعن عَلِيهِ، لا سيما فِي آخر عمره.

وقالوا: إنه أحمد بن صالح، أو أحمد بن عيسى التستري؛ فإنهما يرويان عَن ابن وهب، وقد رَوَى البخاري عنهما فِي ((كتابه)) من غير شك.

ومن قَالَ: إن أحمد هَذَا، هُوَ: ابن حَنْبل، فَقَدْ أخطأ؛ فإن الإمام أحمد لا يروي عَن ابن وهب، بل عَن أصحابه.

والأظهر: أَنَّهُ أحمد بن صالح؛ وبذلك جزم أبو عَبْد الله بن منده، قَالَ: لَمْ يخرج البخاري عَن أحمد بن عَبْد الرحمن فِي ((صحيحه)) شيئاً، وكلما قَالَ فِي ((الصحيح)) :((حَدَّثَنَا أحمد: ثنا ابن وهب)) فهو ابن صالح المصري، وإذا رَوَى عَن أحمد بن عيسى نسبه. والله أعلم.

وقد استدل البخاري بهذا الحَدِيْث عَلَى أن من قام عَن يسار الإمام، فحوله إلى يمينه لَمْ تفسد صلاته – وفي بعض النسخ: صلاتهما -، أما صلاة الإمام فلا تفسد بمده لَهُ بيده وتحويله من جانب إلى جانب.

وقد خرج البخاري هَذَا الحَدِيْث فيما بعد، وفيه: أَنَّهُ أخذ برأسه من ورائه، فجعله عَلَى يمينه.

وإنما حوله النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من وراء ظهره لئلا يكون ماراً فِي قبلته.

وقد خرجه مُسْلِم من حَدِيْث عَطَاء، عَن ابن عَبَّاس، وفي حديثه: قَالَ: فقمت إلى شقه الأيسر، فأخذني من وراء ظهره، فعدلني كذلك

ص: 203

من وراء ظهره إلى الشق الأيمن.

وفي رِوَايَة لَهُ – أَيْضاً – فتناولني من خلف ظهره، فجعلني عَلَى يمينه.

وقيل فِيهِ معنى آخر، وَهُوَ: أَنَّهُ لَوْ أداره من بَيْن يديه لتقدم المأموم عَلَى إمامه فِي الموقف، وأما صلاة المأموم فلا تفسد بمشية من أحد جانبي الإمام إلى جانبه الآخر؛ لأن هَذَا عمل يسير فِي الصلاة فلا تفسد بِهِ الصلاة.

وقد اختلف النَّاس فِي حد العمل اليسير الَّذِي يعفى عَنْهُ فِي الصلاة فلا يبطلها.

فالصحيح عِنْدَ أصحابنا أَنَّهُ يرجع فِيهِ إلى عرف النَّاس من غير تقدير لَهُ بمرة أو مرتين.

ومنهم من قدره بالمرة والمرتين، وجعل الثلاث فِي حد الكثرة، وكلام أحمد مخالف لهذا مَعَ مخالفته للسنن والآثار الكثيرة.

وللشافعية فِي الخطوتين والضربتين وجهان.

ومن الحنفية من قَالَ: الكثير، مَا لَمْ يمكن إقامته إلا باليدين كالإرضاع، واليسير: مَا يمكن بإحداهما.

ومنهم من قَالَ: الكثير: مَا لَوْ رآه الناظر لا ستيقن أَنَّهُ ليس فِي صلاة.

واليسير: بخلافه.

ومنهم من قدر المشي المبطل بما جاوز محل السجود.

والرجوع فِيهِ إلى العرف أظهر؛ لأنه ليس لَهُ حد فِي الشرع.

وقد وردت السنة بالعفو عما لا يعد كثثيراً عرفاً، كتأخيره وتأخير الصفوف خلفه

ص: 204

فِي صلاة الكسوف. ومشيه حَتَّى فتح الباب لعائشة. وقد تأخر أبو بَكْر بحضوته من مقام الإمام حَتَّى قام فِي صف المأمومين، ورفع يديه وحمد الله.

وأذن فِي قتل الحية والعقوب فِي الصلاة، وكل هذه الأفعال تزيد عَلَى المرتين والثلاث.

وقد سبق القول فِي حمله صلى الله عليه وسلم أمامه فِي الصلاة، وأنه كَانَ يحملها إذا قام ويضعها إذا ركع.

واستدل بحديث ابن عَبَّاس المخرج فِي هَذَا الباب الشَّافِعِيّ ومن وافقه عَلَى أن من أساء الموقف وصلى عَن يسار الإمام، فإن صلاته صحيحة مَعَ الكراهة، وألحقوا بِهِ من صلى خلف الصف وحده.

ووجه استدلالهم بِهِ: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يبطل تحريمته وأقره عَلَى البناء عَلَيْهَا.

وأما الإمام أحمد، فعنده لا تصح صلاة من وقف عَلَى يسار الإمام إذا لَمْ يكن عَن يمينه أحد.

وإنما يبطل عنده إذا استمر فِي موقفه حَتَّى ركع الإمام ورفع، فأما إن كبر عَلَى يسار الإمام، ثُمَّ تحول إلى يمينه، أو وقف عَن يمين الإمام آخر قَبْلَ الركوع، فإن الصلاة عنده صحيحة.

وكذا لَوْ جَاءَ آخر إلى خلف الإمام، فتأخر القائم عَن يساره إلى القائم خلفه، فاصطفا جميعاً قَبْلَ الركوع.

وحكى القاضي فِي ((شرح المذهب)) عَن ابن حامد، أَنَّهُ حكى رِوَايَة عَن

أحمد، أَنَّهُ يصح الوقوف عَن يسار الإمام فِي النافلة خاصة، كما كبر ابن عَبَّاس عَن يسار النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي النافلة.

والصحيح عَن أحمد: الأول.

ص: 205

فإن قيلَ: فَقَدْ صلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بجابر عَن يمينه، ثُمَّ جَاءَ آخر فقام عَن يساره، فأخرهما النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

خرجه مُسْلِم فِي ((صحيحه)) .

ولم يدل ذَلِكَ عَلَى أن صلاة الاثنين عَن جانبي الإمام لا تصح.

قيل: إنما صح قيام الاثنين عَن جانبي الإمام؛ لأن ابن مَسْعُود فعله، ورواه عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وليس فِي القيام عَن يسار الإمام نَصَّ يدل عَلَى صحة صلاة من أتم صلاته عَن يساره. والله أعلم.

وأيضاً؛ فالوقوف عَن جانبي الإمام مشروع فِي حق العراة وحق النِّسَاء، وأما القيام عَن يساره خاصة، فليس بمشروع بحال.

* * *

ص: 206

‌59 - بَاب

إذا لَمْ ينوِ الإمامُ أنْ يؤمٌ، ثُمَّ جَاءَ قوْمٌ فَأَمَّهُمْ

ص: 207

699 – حَدَّثَنَا مسدد، قَالَ: ثنا إسماعيل بن إِبْرَاهِيْم، عَن أيوب، عَن عَبْد الله ابن سَعِيد بن جبير، عَن أَبِيه، عَن ابن عَبَّاس، قَالَ: بت عِنْدَ خالتي ميمونة، فقام النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، فقمت أصلي مَعَهُ، فقمت عَن يساره، فأخذ برأسي وأقامني عَن يمينه.

استدل البخاري بهذا عَلَى أن من أحرم بالصلاة منفرداً، ثُمَّ حضر فِي أثناء الصلاة من ائتم بِهِ، فإنه ينوي الإمامة، وتصح صلاته وصلاة من ائتم بِهِ عَلَى هذه الحال.

فتضمن ذَلِكَ مسألتين مختلفاً فيهما:

إحداهما:

أن من لَمْ ينو الإمامة فِي ابتداء صلاته: هَلْ يصح أن يأتم بِهِ غيره، أم لا؟ وفي المسألة أقوال:

أحدها: يجوز ذَلِكَ، فلا يشترط أن ينوي الإمام الإمامة، بل لَوْ نوى المأموم الاقتداء بمنفرد جاز، هَذَا قَوْلِ مَالِك والشافعي والثوري – فِي رِوَايَة – وزفر، وحكي رِوَايَة عَن أحمد.

والقول الثاني: لا يجوز بحال، وَهُوَ ظاهر مذهب أحمد، وقول الثوري – فِي رِوَايَة إِسْحَاق.

واستدل لهم بأن الجماعة قربة وعبادة، فلا

ص: 207

تنعقد إلا بإمام ومأموم، وفضلها مشترك بَيْنَهُمَا، فلا يحصل لهما ذَلِكَ بدون النية، عملاً بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لأمرىء مَا نوى)) .

وأجاب بعض أصحابنا عَن حَدِيْث ابن عَبَّاس، بأن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إمام الخلق عَلَى كل حال، فلا يحتاج إلى نيةة الإمامة، فلا يلحق بِهِ غيره.

والقول الثالث: يصح ذَلِكَ فِي الفرض دون النفل، وَهُوَ رِوَايَة منصوصة عَن أحمد، استدلالاً بحديث ابن عَبَّاس هَذَا.

والقول الرابع: إن أم رَجُل رجلاً لَمْ يحتج أن ينوي الإمامة، وإن أم امرأة احتاج إلى نية الإمامة، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة وصاحبيه.

المسألة الثانية:

إذا أحرم منفرداً، ثُمَّ نوى الإمامة، وفي – أَيْضاً – أقوال:

أحدها: أَنَّهُ لا يجوز ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلِ أكثر أصحابنا، وبناء عَلَى أصلهم فِي أن الإمام يشترط أن ينوي الإمامة عَلَى مَا سبق، فيصير ذَلِكَ من ابتداء صلاته.

والثاني: يجوز ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة ومالك والشافعي، بناء عَلَى أصولهم فِي أن نية الإمام للأمامة ليس شرطاً، عَلَى مَا سبق.

ووافقهم بعض أصحابنا لمعنى آخر، وَهُوَ: أن طرفي الصلاة يجوز أن يكون فِي أولها إماماً وفي الآخر منفرداً، وَهُوَ المسبوق إذا استخلفه الإمام،

ص: 208

فكذا بالعكس.

والثالث: أَنَّهُ يجوز فِي الفرض دون النفل، وَهُوَ المنصوص عَن أحمد؛ لحديث ابن عَبَّاس هَذَا.

والظاهر: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم نوى إمامته حينئذ؛ لأنه أداره إلى يمينه، وأوقفه موقف المأموم.

وفي معناه: حَدِيْث: صلاة المنبي صلى الله عليه وسلم بالليل فِي رمضان فِي حجرته، واقتداء النَّاس بِهِ فِي المسجد، وسيذكره البخاري فيما بعد.

ص: 209

‌60 - بَاب

إذا طَوَّلَ الإمامُ وَكَانَ للرَّجُلِ حَاجَةٌ فَخَرجَ وَلمْ يُصَلِّ

ص: 210

700 -

حَدَّثَنَا مُسْلِم بن إِبْرَاهِيْم، قَالَ: ثنا شعبة، عَن عَمْرِو، عَن جابر بن عَبْد الله، أن معاذ بن جبل كَانَ يصلي مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يرجع فيؤم قومه.

ص: 210

701 – حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن بشار: ثنا غندر: ثنا شعبة، عَن عَمْرِو: سَمِعْت جابر بن عَبْد الله قَالَ: كَانَ معاذ بن جبل يصلي مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يرجع فيؤم قومه، فيصلي العشاء، فقرأ بالبقرة فانصرف رَجُل، فكأن معاذاً تناول مِنْهُ، فبلغ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:((فتان)) – ثلاث مرار -، أو قَالَ:((فاتن)) – ثلاث مرار -، وأمره بسورتين من أوسط المفضل.

قَالَ عَمْرِو: لا أحفظهما.

خرجه عالياً مختصراً، ثُمَّ خرجه بتمامه نازلاً، وفي سياقه موضع الاستدلال بِهِ عَلَى مَا بوب عَلِيهِ، وَهُوَ: انصراف الرَّجُلُ لما قرأ معاذ بسورة البقرة.

ص: 210

وفيه: دليل عَلَى أن الصَّحَابَة لَمْ يكن من عادتهم قراءة بعض سورة فِي الفرض؛ فإن معاذاً لما افتتح سورة البقرة علم الرَّجُلُ أَنَّهُ يكملها فِي صلاته، فلذلك انصرف.

وقد خرجه مُسْلِم من حَدِيْث سُفْيَان – هُوَ: ابن عُيَيْنَة -، عَن عَمْرِو، عَن جابر، وَقَالَ فِي حديثه: فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رَجُل فسلم، ثُمَّ صلى وحده وانصرف، فقالوا لَهُ: أنافقت يَا فلان؟ قَالَ: لا، والله، ولآتين رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه، فأتى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إنا أصْحَاب نواضح، نعمل بالنهار، وإن معاذاً صلى معك العشاء، ثُمَّ أتى فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى معاذ، فَقَالَ:((يَا معاذ، أفتان أنت؟)) – وذكر الحَدِيْث.

ففي هذه الرواية: أَنَّهُ انصرف بمجرد افتتاح معاذ للبقرة.

وفيها: أَنَّهُ سلم ثُمَّ صلى وحده وانصرف، ولم ينكر عَلِيهِ النببي صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ.

وذكر البيهقي فِي ((كِتَاب المعرفة)) : أن هذه الزيادة – يعني: سلام الرَّجُلُ – تفرد بِهَا مُحَمَّد بن عباد، عَن سُفْيَان. قَالَ: لا أدري هَلْ حفظها عَن سُفْيَان، أم لا؛ لكثرة من رواه عَن سُفْيَان بدونها؟

وقد خرجه النسائي من طريق سُفْيَان – أَيْضاً -، وزاد فِيهِ بعد قوله:((فاستفتح بسورة البقرة)) : ((فلما سَمِعْت ذَلِكَ تأخرت فصليت)) .

وخرجه – أَيْضاً – من طريق الأعمش، عَن محارب بن دثار وأبي

ص: 211

صالح، عَن جابر، وفي حديثه: أن معاذاً أمر الرَّجُلُ للنبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:((مَا حملك عَلَى الَّذِي صنعت؟)) فَقَالَ: يَا رَسُول الله، علمت عَلَى ناضح من النهار، فجئت وقد أقيمت الصلاة، فدخلت المسجد فدخلت مَعَهُ فِي الصلاة، وقرأ سورة كذا وكذا وطول، فانصرفت فصليت فِي ناحية المسجد. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم:((أفتان يَا معاذ؟)) .

فيستدل بهذا: عَلَى أن الإمام إذا طول عَلَى المأموم وشق عَلِيهِ إتمام الصلاة مَعَهُ؛ لتعبه أو غلبه النعاس عَلِيهِ أن لَهُ أن يقطع صلاته مَعَهُ، ويكون ذَلِكَ عذراً فِي قطع الصلاة المفروضة، وفي سقوط الجماعة فِي هذه الحال، وأنه يجوز أن يصلي لنفسه منفرداً فِي المسجد ثُمَّ يذهب، وإن كان الإمام يصلي فِيهِ بالناس.

قَالَ سُفْيَان: إذا خشي عَلَى غنمه الذئب، أو عَلَى دابته أن تؤخذ، أو عَلَى صبيه أن يأكله الذئب، فلا بأس أن يقطع صلاته ويذهب إليه.

وَقَالَ الْحَسَن وقتادة، فِي رَجُل كَانَ يصلي فأشفق أن تذهب دابته، أو أغار عَلَيْهَا السبع؟ قَالا: ينصرف. قيلَ لقتادة: يرى سارقاً يريد أن يأخذ نعليه؟ قَالَ: ينصرف.

ولو طول الإمام تطويلاً فاحشاً، أو حدث للمأموم عذر، مثل حدوث مرض، أو سماع حريق وقع فِي داره، أو خاف فساد طعام لَهُ عَلَى النار، أو ذهاب دابة لَهُ عَلَى بَاب المسجد ونحو ذَلِكَ، فنوى مفارقة إمامه، وأتم صلاته منفرداً، وانصرف جاز ذَلِكَ عِنْدَ أصحابنا – أَيْضاً – وحكوه عَن

ص: 212

الشَّافِعِيّ وأبي يوسف ومحمد.

وعن مَالِك وأبي حنيفة: تبطل صلاته بذلك.

واستدل أصحابنا بما رَوَى الإمام أحمد فِي ((مسنده)) : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل - هُوَ: ابن علية -: ثنا عَبْد العزيز بن صهيب، عَن أَنَس، قَالَ: كَانَ معاذ بن جبل يؤم قومه، فدخل حرام وَهُوَ يريد أن يسقي نخله، فدخل المسجد مَعَ القوم، فلما رأى معاذاً طول تجوز فِي صلاته ولحق بنخلة يسقيه، فلما قضى معاذ الصلاة قيلَ لَهُ: إن حراماً دَخَلَ المسجد، فلما رآك طويت تجوز فِي صلاته ولحق نخلة يسقيه. قَالَ: إنه لمنافق، أيعجل عَن الصلاة من أجل سقي نخلة؟! قَالَ: فجاء حرام إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ومعاذ عنده، فَقَالَ: يَا بني الله؛ إني أردت أن أسقي نخلاً لِي، فدخلت المسجد لأصلي مَعَ القوم، فلما طول تجوزت فِي صلاتي ولحقت بنخلي أسقيه، فزعم أنى منافق، فأقبل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى معاذ، فَقَالَ:((أفتان أنت؟ ! لا تطول بهم؛ أقرأ ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] ونحوهما)) .

وخرج – أَيْضاً – من طريق حسين بن واقد، عَن عَبْد الله بن بريدة، عَن أَبِيه، أن معاذ بن جبل صلى بأصحابه العشاء، فقرأ فيها {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] فقام رَجُل من قَبْلَ أن يفرغ، فصلى وذهب، فَقَالَ لَهُ معاذ قولاً شديداً، فأتى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم واعتذر إليه، وَقَالَ: إني كُنْتُ أعمل فِي نخل، وخفت عَلَى الماء، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يعني لمعاذ -:((صل بالشمس وضحاها ونحوها من السور)) .

ص: 213

وروى مُحَمَّد بن عجلان، عَن عُبَيْدِ الله بن مقسم، عَن جابر هذه القصة بطولها، وفيها: فصلى خلفه فتى من قومه، فلما طال عَلَى الفتى صلى وخرج. وفي هَذَا الحَدِيْث: أن معاذاً أخبر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بما صنع الفتى، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، يطيل المكث عندك، ثُمَّ يرجع فيطول علينا. فَقَالَ:((أفتان أنت يَا معاذ؟)) – وذكر الحَدِيْث.

خرجه أبو داود، مختصراً لَمْ يتمه.

وَقَالَ أصحابنا: هذه قصة أخرى غير قصة الَّذِي سلم من صلاته وصلى لنفسه وانصرف.

وقد روي أن الرَّجُلُ صلى قَبْلَ أن يجيء معاذ، وانصرف لما أبطأ معاذ، وأن اسمه: سليم.

وهذا يدل عَلَى أن هذه قصة أخرى غير قصة حرام.

فروى أسامة بن زيد: سَمِعْت معاذ بن عَبْد الله بن خبيب، قَالَ: سَمِعْت جابر بن عَبْد الله، قَالَ: كَانَ معاذ يتخلف عِنْدَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا جَاءَ أم بقومه، وكان رَجُل من بني سَلَمَة – يقال لَهُ: سليم – يصلي مَعَ معاذ، فاحتبس معاذ عنهم ليلة، فصلى سليم ثُمَّ انصرف – وذكر الحَدِيْث، وفيه: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم سأل سليماً: كَيْفَ صلى؟ فَقَالَ: قرأت بفاتحة الكتاب سورة، ثُمَّ قعدت وتشهدت، وسألت الجن وتعوذت من النار، وصليت عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم،

ص: 214

ثُمَّ انصرفت، وليس أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ. فضحك النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ:((هَلْ أدندن أنا أو معاذ إلا لندخل الجنة ونعاذ من النار؟)) ثُمَّ أرسل إلى معاذ: ((لا تكن فتاناً تفتن النَّاس، ارجع إليهم فصل بهم قَبْلَ أن يناموا)) .

خرجه البزار.

وقد روي أن اسم الرَّجُلُ حزم بن [أَبِي] كعب.

وقد خرج أبو داود حديثه مختصراً.

وهذا يستدل بِهِ عَلَى أنها وقائع متعددة.

ولم نقف فِي شيء من الروايات عَلَى أن الرجل قطع صلاته وخرج من المسجد ولم يصل، كما بوب عَلِيهِ البخاري. وفي بعض النسخ:((فخرج فصلى)) ، وَهُوَ أصح.

ولو فارق المأموم لغير عذر، لَمْ يجز فِي أصح الروايتين عَن أحمد، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة ومالك. والثانية: يجوز، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي يوسف ومحمد.

وللشافعي قولان.

ص: 215

واستدلوا عَلَى أَنَّهُ لا يجوز، وأن الصلاة تبطل بِهِ بقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:((إنما الإمام ليؤتم بِهِ، فلا تختلفوا عَلِيهِ)) ، ومفارقته من غير عذر من الاختلاف عَلِيهِ.

وأيضاً؛ فَقَدْ سبق الاستدلال عَلَى وجوب الجماعة، والواجب إذا مَا شرع فِيهِ لَمْ يجز إبطاله وقطعه لغير عذر، كأصل الصلاة. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 216

‌61 - بَاب

تَخْفيفِ الإمامِ فِي القيَامِ وإتْمامِ الرُّكُوعََ والسُّجُوِد

ص: 217

702 – حَدَّثَنَا أحمد بن يونس: ثنا زهير: ثنا إِسْمَاعِيل: سَمِعْت قيساً قَالَ: أخبرني أبو مَسْعُود، أن رجلاً قَالَ: والله يَا رَسُول الله، إني لأتأخر عَن صلاة الغداة من أجل فلان مِمَّا يطيل بنا. فما رأيت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي موعظة أشد غضباً مِنْهُ يومئذ، ثُمَّ قَالَ:((إن منكم منفرين، فأيكم مَا صلى بالناس فليتجوز؛ فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة)) .

فِي هَذَا الحَدِيْث: أن الإمام مأمور بالتخفيف خشية الإطالة عَلَى من خلفه؛ فإنه لا يخلو بعضهم من عذر كالضعيف والكبير وذي الحاجة.

وهذا يدل عَلَى أن الأمر بالتخفيف إنما يتوجه إلى إمام يصلي فِي مسجد يغشاه النَّاس.

قَالَ حَنْبل بن إِسْحَاق: قالو أبو عَبْد الله – يعني: أحمد -: إذا كَانَ المسجد عَلَى قارعة الطريق أو طريق يسلك فالتخفيف أعجب إلي، فإن كَانَ مسجداً يعتزل أهله ويرضون بذلك فلابأس، وأرجو – إن شاء الله.

وقالت طائفة: عَلَى الإمام أن يخفف بكل حال.

ورجحه ابن عَبْد البر، قَالَ: لأنه وإن علم قوة من خلفه، فإنه لا يدري مَا يحدث بهم

ص: 217

من آفات بني آدم. وذكر أن تطويل الإمام غير جائز، وأنه يلزمه النخفيف.

وَقَالَ عَبْد الله بن أحمد: سألت أَبِي عَن الحَدِيْث الَّذِي جَاءَ عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي صلاته، قَالَ:((وكان قيامه وركوعه وسجوده وقعوده بَيْن السجدتين قريباً من السواء)) : مَا تفسير ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أحب إلي أن يخفف، ولا يشق عَلَى من خلفه، وقد روي عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي التخفيف أحاديث.

قَالَ أبو بَكْر عَبْد العزيز بن جَعْفَر من أصحابنا: قَدْ يجوز أن يكون رَسُول الله صلى الله عليه وسلم استعمل ذَلِكَ فِي نفسه إذا كَانَ مصلياً، وقد أمر أئمته بالتخفيف، فيتوجه الحديثان عَلَى معنيين.

كذا قَالَ: وفيه نظر؛ فإن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يخفف ويوجز ويتم الصلاة، فَلَمْ يكن يفعل خلاف مَا أمر بِهِ الأئمة.

وليس فِي حَدِيْث أَبِي مَسْعُود الَّذِي خرجه هاهنا مَا يدل عَلَى مَا بوب عَلِيهِ من تخفيف القيام وإتمام الركوع والسجود، وقد خرج فيما بعد حَدِيْث أَنَس، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يوجز ويتم.

وقد رويت أحاديث فِي التخفيف مَعَ إتمام الركوع والسجود، وهي مطابقة لترجمة هَذَا الباب، لكن ليست عَلَى شرط هَذَا ((الكتاب)) .

فخرج الإمام أحمد من حَدِيْث مَالِك بن عَبْد الله الخثعمي، قَالَ: غزوت مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ أصل خلف إمام كَانَ أوجز مِنْهُ صلاة فِي تمام الركوع والسجود.

ص: 218

ومن حَدِيْث عدي بن حاتم، قَالَ: من أمنا فليتم الركوع والسجود؛ فإن

فينا الضعيف والكبير والمريض والعابر السبيل وذا الحاجة، هكذا كنا نصلي مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.

وخرجه الطبراني، ولفظه: أن عدي بن حاتم خرج إلى مجلسهم، فأقيمت الصلاة فتقدم إمامهم، فأطال الصلاة والجلوس ، فلما انصرف قَالَ: من أَمنا منكم فليتم الركوع والسجود؛ فإن خلفه الصغير والكبير والمريض وابن السبيل وذا الحاجة ، فلما حضرت الصلاة تقدم عدي فأتم الركوع والسجود، وتجوز فِي الصلاة، فلما انصرف قَالَ: هكذا كنا نصلي خلف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

وخرج الطبراني وغيره من حَدِيْث نَافِع بن خَالِد الخزاعي: حَدَّثَنِي أَبِي – وكان من أصْحَاب الشجرة – أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا صلى والناس ينظرون صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود.

فَقَدْ ثبت أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا صلى بالناس فإنه يخفف عنهم، وإذا صلى لنفسه يطول.

وفي ((مسند الإمام أحمد)) عَن أَبِي واقد الليثي، قَالَ: كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أخف النَّاس صلاة بالناس، وأطول النَّاس صلاة لنفسه.

فالصلاة الَّتِيْ كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يصليها بالناس هِيَ النخفيف الَّذِي أمر بِهِ غيره، وإنما أنكر عَلَى من طول تطويلاً زائداً عَلَى ذَلِكَ، فإن معاذ بن جبل كَانَ يصلي مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة صلاة العشاء، وكان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم -

ص: 219

يؤخرها كثيراً، كما سبق ذكره فِي (المواقيت)) ، ثُمَّ ينطلق إلى قومه فِي بني سَلَمَة فيصلي بهم، وقد استفتح حينئذ بسورة البقرة، فهذا هُوَ الَّذِي أنكره عَلَى معاذ.

ويشهد لهذا: حَدِيْث ابن عُمَر، قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ليأمرنا بالتخفيف، وإن كَانَ ليؤمنا بالصافات.

خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن خزيمة فِي ((صحيحه)) .

والمراد: أن التخفيف المأمور بِهِ هُوَ مَا كَانَ يفعله، ومن كَانَ يفهم أَنَّهُ كَانَ يفعل خلاف مَا أمر بِهِ – كما أشعر بِهِ تبويب النسائي – فَقَدْ وهم.

وفي ((صحيح مُسْلِم)) عَن سماك، قَالَ: سألت جابر بن سمرة عَن صلاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: كَانَ يخفف الصلاة ولا يصلي صلاة هؤلاء. قَالَ: وأنبأني أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يقرأ فِي الفجر بـ ((قاف والقرآن المجيد)) ، ونحوها من السور.

وخرجه الحَاكِم، ولفظه: كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يصلي نحواً من صلاتكم، ولكنه يخفف الصلاة، كَانَ يقرأ فِي الفجر بالواقعة ونحوها من السور.

فصرح بأن تخفيفه هُوَ قرءاته بهذه السورة.

وروى عَبْد الجبار بن العباس، عَن عمار الدهني، عَن الأعمش، عَن إبراهيم التيمي، قَالَ: كَانَ أَبِي ترك الصلاة مَعَنَا، قَالَ: إنكم تخففون.

ص: 220

قُلتُ: فأين قَوْلِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ((إن فيكم الكبير والضعيف وذا الحاجة؟)) فَقَالَ: قَدْ سَمِعْت عَبْد الله بن مَسْعُود يَقُول ذَلِكَ، ثُمَّ صلى ثَلَاثَة اضعاف مَا تصلون.

خرجه ابن خزيمة فِي ((صحيحه)) والطبراني.

وروى مَالِك بن مغول، عَن الحكم، عَن إِبْرَاهِيْم التيمي، عَن أَبِيه، أَنَّهُ كَانَ يتخلف عَن الصلاة، فَقِيلَ لَهُ. فَقَالَ: إنكم تخففون. فَقِيلَ: أليس قَدْ كَانَ يؤمر بذلك؟ قَالَ: إن الَّذِي كَانَ عليهم خفيفاً عليكم ثقيل.

واعلم؛ أن التخفيف أمر نسبي، فَقَدْ تكون الصلاة خفيفة بالنسبة إلى مَا هُوَ أخف مِنْهَا، فالتخفيف المأمور بِهِ الأئمة هُوَ الَّذِي كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يفعله إذا أم، فالنقص مِنْهُ ليس بتخفيف مشروع، والزيادة عَلِيهِ إن كَانَ مِمَّا فعله الخُلَفَاء الراشدون كتطويل القرءة فِي صلاة الصبح، عَلَى مَا كَانَ يفعله – أحيانا – أبو بَكْر وعمر فليس بمكروه، نَصَّ عَلِيهِ الإمام أحمد غيره. وسيأتي ذَلِكَ فِي موضعه – إن شاء الله تعالى.

وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي ((الأم)) : أحب أن يبدأ الراكع فيقول: سبحان ربي العظيم – ثلاثاً -، ويقول كل مَا حكيت عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يقوله – يعني: حَدِيْث عَلِيّ – قَالَ: وكل مَا قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي ركوع أو سجود أحببت

ص: 221

أن لا يقصر عَنْهُ، إماماً كَانَ أو منفرداً، وَهُوَ تخفيف لا تثقيل. انتهى كلامه.

فَقَدْ كَانَ حدث بعد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من تخفيف الصلاة من الأئمة تخفيفاً، وقد حكي ذَلِكَ عَن أهل الكوفة، وحدث من يطيل الصلاة عَلَى صلاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إطالة زائدة، وكان ذَلِكَ فِي أهل الشام وأهل المدينة – أَيْضاً -، وكان السلف ينكرون عَلَى الطائفتين، وقد ذكرنا إنكار يزيد التيمي – وكان من أعيان التابعين – عَلَى من خفف الصلاة من أئمة الكوفة، وكان ابن عُمَر وغيره ينكرون عَلَى من أطال الصلاة إطالة زائدةً عَلَى صلاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

ففي ((مسنده الإمام أحمد)) عَن عطية، عَن ابن عُمَر، قَالَ: سجدة من سجود هؤلاء مثل ثلاث سجدات من سجود النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

وعن حيان البارقي، قَالَ: قيل لابن عُمَر: إن إماما يطيل الصلاة.

فَقَالَ: ركعتين من صلاة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أخف – أو مثل ركعة – من صلاة هَذَا.

ص: 222

وروى ابن أَبِي عاصم فِي ((كِتَاب السنة)) من رِوَايَة سَالِم بن حذلم؛ قَالَ: رآني ابن عمر أصلي، فلما انصرفت قَالَ لِي: ممن أنت؟ قُلتُ: من أهل الشام. قَالَ: إنكم أهل الشام تصلون الصلاة وتكثرون من الدعاء، وإني لَمْ أصل خلف أحد أخف صلاة فِي تمام من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي ((المسند)) عَن إِسْمَاعِيل بن أَبِي خَالِد، عَن أَبِيه، قَالَ: رأيت أَبَا هُرَيْرَةَ صلى صلاة تجوز فيها، فَقُلْت لَهُ: هكذا كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يصلي؟ قَالَ: نَعَمْ، وأوجز.

وفي رِوَايَة: ((أو أوجز)) .

وفي رِوَايَة – أَيْضاً -: قَالَ: وكان قيامه قدر مَا ينزل المؤذن من المنارة ويصل إلى الصف.

وفي بعض الروايات لهذا الحَدِيْث: أن أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يؤم النَّاس بالمدينة فيخفف.

وفي ((المسند)) – أَيْضاً -: عَن أَنَس بن مَالِك، قَالَ: لَقَدْ كنا نصلي مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم صلاة، لَوْ صلاها أحدكم اليوم لعبتموها عَلِيهِ. فَقَالَ لَهُ رَجُل: ألا تذكر ذَلِكَ لأميرنا – والأمير عُمَر بن عَبْد العزيز –؟ فَقَالَ: قَدْ فعلت.

وفي رِوَايَة فِي غير ((المسند)) بعد قوله: ((لعبتموها عَلِيهِ)) : ((يعني: فِي

ص: 223

التخفيف)) .

وروي عَن عُمَر بن الخَطَّاب، قَالَ: أيها النَّاس، لا تبغضوا الله إلى عباده. فَقَالَ قائل منهم: وكيف ذَلِكَ؟ قَالَ: يكون الرَّجُلُ إماماً للناس، يصلي بهم، فلا يزال يطول عليهم حَتَّى يبغض إليهم مَا هم فِيهِ.

خرجه ابن عَبْد البر.

ص: 224

‌62 - بَاب

إذا صَلَّى لنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ

ص: 225

703 – حَدَّثَنَا عَبْد الله بن يوسف: أنا مَالِك، عَن أَبِي الزناد، عَن الأعرج، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:((إذا صلى أحدكم للناس فليخفف؛ فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول مَا شاء)) .

معنى قوله: ((إذا صلى أحدكم لنفسه)) – أي: منفرداً، بحيث لا يأتم بِهِ أحد.

وقد خرجه مُسْلِم من رِوَايَة المغيرة الحزامي، عَن أَبِي الزناد، وَقَالَ فِيهِ:((وإذا صلى وحده فليصل كَيْفَ شاء)) .

وخرجه – أَيْضاً – من رِوَايَة همام بن منبه، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((إذا مَا قام أحدكم للناس فليخفف فِي الصلاة؛ فإن فيهم الكبير والضعيف، وإذا قام وحده فليطل صلاته مَا شاء)) .

وخرج – أَيْضاً – من حَدِيْث عُثْمَان بن أَبِي العاص، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: ((أم قومك، فمن أم قوماً فليخفف؛ فإن فيهم الكبير، وإن فيهم المريض، وإن فيهم الضعيف، وإن فيهم ذا الحاجة، وإذا صلى أحدكم وحده فليصل كَيْفَ شاء)) .

ص: 225

ويدخل فِي ذَلِكَ: صلاة الفرائض والنوافل – إذا صلاها وحده – فإنه لا يكره لَهُ إطالتها.

وقد اختلف النَّاس فِي النفل: هَلْ الأفضل إطالة القيام، أم كثرة الركوع والسجود، أم يفرق بَيْن صلاة الليل والنهار؟ وربما يأتي ذَلِكَ فِي موضع آخر – إن شاء الله تعالى.

قَالَ بعض أصحابنا: هَذَا فيما لَمْ ينقل عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إطالته أو تخفيفه، فأما مَا نقل عَنْهُ إطالته أو تخفيفه فاتباعه فِيهِ أفضل، فالأفضل فِي ركعتي الفجر والركعتين المفتتح بهما صلاة الليل تخفيفهما، وكذلك الركعتان للداخل – والإمام يخطب – يوم الجمعة.

وقد سبق ذكر الاختلاف فيمن فاته قراءة حزبه من الليل: هَلْ يقرأ بِهِ فِي ركعتي الفجر، أم لا؟

وروى وكيع فِي ((كتابه)) عَن موسى بن عبيدة، عَن نَافِع، قَالَ: كَانَ ابن عُمَر إذا صلى لنفسه طول فِي أربعتين – يعني: فِي الركعات الأربع فِي الفريضة.

وموسى بن عبيدة، ضَعِيف جداً من قَبْلَ حفظه، وكان شيخاً صالحاً – رحمه الله.

وكان من الصَّحَابَة من يخفف الصلاة، ويعلل بخشية وسوسة الشيطان.

قَالَ وكيع: ثنا ابن أَبِي عروبة، عَن أَبِي رجاء العطاردي، قَالَ: قُلتُ للزبير بن العَوَّامِ: مَا لكم أصْحَاب مُحَمَّد من أخف النَّاس صلاة؟ قَالَ:

ص: 226

إنما نبادر الوسواس.

حَدَّثَنَا سُفْيَان، عَن نسير بن ذعلوق، عَن خليد الثوري، قَالَ: سَمِعْت عمار بن ياسر يَقُول: احذفوا هذه الصلاة قَبْلَ وسوسة الشيطان.

ص: 227

‌63 - بَاب

مَنْ شَكَا إمَامَهُ إذا طَوَّلَ

وَقَالَ أبو أسيد: طولت بنا يَا بني!

قَالَ أبو نعيم الفضل بن دكين فِي ((كِتَاب الصلاة)) : حَدَّثَنَا ابن الغسيل، عَن حَمْزَة بن أَبِي أسيد: كَانَ يؤمنا، فإذا طول عليهم قَالَ لَهُ أبو أسيد - وَهُوَ خلفه -: يرحمك الله، طولت علينا.

وحدثنا ابن الغسيل، عَن الزُّبَيْر بن المنذر بن أَبِي أسيد، عَن أَبِي أسيد - مثله.

خرج فِي هَذَا الباب ثَلَاثَة أحاديث:

الأول:

ص: 228

704 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يوسف: ثنا سُفْيَان، عَن إِسْمَاعِيل بن أَبِي خَالِد، عَن قيس بن أبي حازم، عن أَبِي مَسْعُود، قَالَ: قَالَ رَجُل: يَا رَسُول الله، إني لأتأخر عَن الصلاة فِي الفجر مِمَّا يطيل بنا فلان فيها. فغضب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، مَا رأيته فِي موعظة كَانَ أشد غضباً مِنْهُ يومئذ. ثُمَّ قَالَ: ((يأيها النَّاس، إن منكم منفرين، فمن أم النَّاس فليخفف؟ فإن

ص: 228

خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة)) .

قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث - قريباً - من رِوَايَة زهير، عَن إِسْمَاعِيل بن أَبِي خَالِد.

ومقصوده بتخريجه هاهنا: جواز شكوى من يطيل الصلاة إطالة زائدةً عَلَى الحد المشروع؛ فإن هَذَا الإمام لولا أَنَّهُ زاد عَلَى صلاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم زيادة كثيرة لما شكي، ولا تخلف من تخلف عَن الصلاة خلفه، فلما شكي ذَلِكَ إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم غضب غضباً شديداً، ووعظ النَّاس موعظة عامة، وأمر الأئمة بالتخفيف، وحذر من تنفير النَّاس عَن شهود صلاة الجماعات بالتطويل.

وروى وكيع: ثنا هِشَام الدستوائي، عَن قتادة، عَن عَبَّاس الجشمي، قَالَ: قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ((إن من الأئمة طرادين)) .

وهذا مرسل.

الحَدِيْث الثاني:

ص: 229

705 -

حَدَّثَنَا آدم: ثنا شعبة: ثنا محارب بن دثار، قَالَ: سَمِعْت جابر بن عَبْد الله الأنصاري قَالَ: أقبل رَجُل بناضحين، وقد جنح الليل، فوافق معاذاً يصلي، فترك ناضحيه وأقبل إلى معاذ، فقرأ بسورة البقرة - أو النِّسَاء -، فانطلق الرَّجُلُ - وبلغه أن معاذاً نال مِنْهُ - فأتى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فشكا إليه معاذاً، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ((يَا معاذ، أفتان أنت)) - أو ((فاتن؟)) ثلاث مرات -))

ص: 229

فلولا صليت بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1]{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] ؛ فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة؟)) - أحسب هَذَا فِي الحَدِيْث.

وتابعه: سَعِيد بن مسروق ومسعر والشيباني.

قَالَ عَمْرِو وعبيد الله بن مقسم وأبو الزُّبَيْر، عَن جابر بن عَبْد الله: قرأ معاذ فِي العشاء بالبقرة.

وتابعه: الأعمش، عَن محارب.

قَالَ الخطابي: جنح الليل: أقبل بظلمته، وقد جنح جنوحاً، ومنه جنح الليل: إقبال ظلمته.

والناضح: البعير يسقى عَلِيهِ.

والفتنة عَلَى وجوه، ومعناها هاهنا: صرف النَّاس عَن الدين، وحملهم عَلَى الضلال. قَالَ تعالى {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:162] أي: مضلين.

وقوله: ((فلولا صليت بسبح)) يريد: هلا قرأت، كقوله:{فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:86]، {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ} [هود: 116] معناه: فهلاً.

وفيه: أَنَّهُ جعل الحاجة عذراً فِي تخفيفها. انتهى.

ص: 230

وتفسيره الفتنة - هاهنا - بالإضلال بعيد، والأظهر: أن المراد بالفتنة هاهنا: الشغل عَن الصلاة؛ فإن من طول عَلَى من شق عَلِيهِ التطويل فِي صلاته، فإنه يشغله عَن الخشوع فِي صلاته، ويلهيه عَنْهَا، كما أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى أعلام الخميصة الَّتِيْ كَانَتْ عَلِيهِ فِي الصلاة نزعها، وَقَالَ:((كادت تفتنني)) وأمر عَائِشَة أن تميط قرامها الَّذِي فِيهِ تصاوير، وَقَالَ:((لا يزال تصاويره تعرض لِي فِي صلاتي)) .

ومنه: تخفيفه صلى الله عليه وسلم الصلاة لما سَمِعَ بكاء الصبي مخافة أن تفتتن أمه.

ومنه: قَوْلِ أَبِي طلحة، لما نظر إلى الطائر فِي صلاته وَهُوَ يصلي فِي حائطه حَتَّى اشتغل بِهِ عَن صلاته: لَقَدْ أصابني فِي مالي هَذَا فتنة.

وقد سبق ذكر ذَلِكَ كله، سوى حَدِيْث بكاء الصبي؛ فإنه سيأتي قريباً - إن شاء الله تعالى.

وسبق حَدِيْث آخر فِي الصلاة عَلَى الخمرة فِي هَذَا المعنى.

والفتنة فِي هذه المواضع كلها، هُوَ: الاشتغال عَن الصلاة، والالتهاء عَنْهَا.

ويجوز أن يكون مِنْهُ قَوْلِ الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]، وأن يكون المراد: أنها تشغل عَن عُبَادَة الله وذكره.

ويدل عَلِيهِ: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لما كَانَ يخطب ورأى الْحَسَن والحسين قَدْ أقبلا، نَزَلَ فحملهما، ثُمَّ قَالَ:((صدق الله {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] ، إني رأيت هذين الغلامين يمشيان ويعثران، فَلَمْ أصبر)) .

ص: 231

وأما مَا ذكره البخاري من المتابعات والرواية المعلقة، فمضمونة: أن جماعة رووا هَذَا الحَدِيْث عَن محارب بن دثار كما رواه عَنْهُ شعبة، وقالوا فِي قراءة معاذ:((البقرة أو النِّسَاء)) بالشك، منهم: سَعِيد بن مسروق الثوري - والد سُفْيَان -، ومنهم: مِسْعَر وأبو إِسْحَاق الشيباني.

والشك فِي هَذَا من محارب، كذا فِي رِوَايَة غندر عَن شعبة.

خرجه الإسماعيلي.

وفيه - أَيْضاً -: قَالَ: أحسب محارباً الَّذِي شك فِي ((الضعيف)) - يعني: شك: هَلْ قَالَ: ((الضعيف)) أو ((ذا الحاجة)) ؟

وفي حَدِيْث معاذ بن معاذ، عَن شعبة: أن معاذاً كَانَ يصلي بالناس المغرب.

ورواه عَلِيّ بن الجعد، عَن شعبة، وَقَالَ فِيهِ: قُلتُ لمحارب: أي صلاة كَانَتْ؟ قَالَ: المغرب.

فهذه الرواية تبين أن ذكر المغرب إنما هُوَ ظن من محارب.

وخرج أبو داود الحَدِيْث بذكر المغرب من وجه آخر فِيهِ انقطاع.

وذكر البخاري: أَنَّهُ رواه الأعمش، عَن محارب، فَقَالَ فِيهِ:((قرأ بالبقرة)) من غير شك.

وكذا رواه عَمْرِو بن دينار وعبيد الله بن مقسم وأبو الزُّبَيْر، عَن جابر، وقالوا فِي حديثهم:((قرأ البقرة)) من غير شك.

ص: 232

وقد خرج البخاري حَدِيْث عَمْرِو بن دينار فيما تقدم بهذا اللفظ.

وقد تقدم أن النسائي خرجه من حَدِيْث الأعمش، عَن محارب، ولم يسم السورة، بل قَالَ:((سورة كذا وكذا)) .

الحَدِيْث الثالث:

ص: 233

706 -

حَدَّثَنَا أبو معمر: ثنا عَبْد الوارث: ثنا عَبْد العزيز، عَن أَنَس بن مَالِك، قَالَ: كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يوجز الصلاة ويكملها.

الإيجاز: هُوَ التخفيف والاختصار.

والإكمال: هُوَ إتمام أركانها من الركوع والسجود والانتصاب بَيْنَهُمَا.

وإدخال هَذَا الحَدِيْث فِي هَذَا الباب، فائدته: أَنَّهُ بَيْن بِهِ قدر التخفيف المأمور بِهِ، وأنه إنما يشكى الإمام إذا زاد عَلِيهِ زيادة فاحشة، فأما إكمال الصلاة وإتمام أركانها، فليس بتطويل منهي عَنْهُ.

ص: 233

‌65 - بَاب

مَنْ أَخَفَّ الصَّلَاةَ عندَ بُكاءِ الصَّبيِّ

فِيهِ ثَلَاثَة أحاديث:

الحَدِيْث الأول:

ص: 234

707 – حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْم بن موسى – هُوَ الفراء -: ثنا الوليد: ثنا الأوزعي، عَن يَحْيَى بن أَبِي كثير، عَن عَبْد الله بن أَبِي قتادة، عَن أَبِيه، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((إني لأقوم فِي الصلاة أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز فِي صلاتي، كراهية أن أشق عَلَى أمة)) .

تابعه: بشر بن بَكْر وبقية وابن المبارك، عَن الأوزاعي.

قَدْ خرجه البخاري فيما بعد من طريق بشر.

وخرجه أبو داود وابن ماجه من رِوَايَة بشر بن بَكْر وعمر بن عَبْد الواحد.

وخرجه النسائي من رِوَايَة ابن المبارك، كلهم عَن الأوزاعي، بِهِ.

وخرجه الإسماعيلي فِي ((صحيحه)) من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن عَبْد الله

ص: 234

بن سماعة، عَن الأوزاعي.

وكذا رواه عَن الأوزاعي: عقبة بن علقمة وأيوب بن سويد.

ورواه أبو المغيرة، عَن الأوزاعي، عَن يَحْيَى، عَن عَبْد الله بن أَبِي قتادة مرسلاً.

خرجه ابن جوصا فِي ((مسند الأوزاعي من جمعه)) من هذه الطرق.

وإنما ذكر البخاري متابعة الوليد بن مُسْلِم عَلَى وصله، ليبين أن الصحيح وصله؛ لكثرة من وصله عَن الأوزاعي، ولا يضر إرسال من أرسله.

ولعل مسلماً ترك تخريجه للاختلاف فِي وصله وإرساله. والله أعلم.

وفي الحَدِيْث: دليل عَلَى أن من دَخَلَ الصلاة بنية إطالتها فله تخفيفها لمصلحة، وأنه لا تلزم الإطالة بمجرد النية.

واستدل بِهِ بعضهم عَلَى أن من دَخَلَ فِي تطوع ينوي أن يصلي أربعاً، فله أن يقتصر عَلَى ركعتين، قَالَ ذَلِكَ سُفْيَان الثوري، مَعَ قوله بلزوم النوافل بالشروع، فلا إشكال عنده فِي جواز ذَلِكَ.

وكذلك لأصحاب مَالِك قولان فيمن افتتح الصلاة النافلة قائماً، فهل يجلس فِي أثنائها، أم لا؟

فاستدل بعض من قَالَ: لَهُ أن يجلس بهذا الحَدِيْث.

ص: 235

وقد يستدل بِهِ عَلَى أن من نذر أن يصلي صلاة، ونوى فِي نفسه أكثر من ركعتين، فهل يلزمه مَا نوى، أم لا؟

وقد نَصَّ أحمد عَلَى أَنَّهُ يلزمه مَا نوى، ورجحه طائفة من أصحابنا، وبناء عَلَى أن من أصل أحمد الرجوع فِي الأيمان والنذور إلى المقاصد والنيات.

وقد نَصَّ أحمد فيمن نذر الصدقة بمال، ونوى فِي نفسه ألفاً، أَنَّهُ يخرج مَا شاء مِمَّا يسمى مالاً، ولا يلزمه الألف -: نقله عَنْهُ أبو داود.

وهذا يخالف نصه فِي الصوم والصلاة، أَنَّهُ يلزمه مَا نواه.

فتخرج المسألتان عَلَى روايتين.

ووجه شبه هذه المسائل بنية الإطالة للصلاة المكتوبة عِنْدَ الدخول فيها: أن الصلاة المكتوبة إنما يلزم فيها قدرالإجزاء، والزائد عَلَى ذَلِكَ إذا فعل، فهل يوصف بالوجوب، أو بالنفل؟ فِيهِ قولان معروفان لأصحابنا وغيرهم من الفقهاء.

وقد تبين بهذا الحَدِيْث: أن ذَلِكَ لا يلزم بمجرد النية، سواء وصف بالوجوب، أو لا.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم ((أريد أن أطول فيها)) ، فالمعنى: أَنَّهُ يريد إتمامها وإكمالها عَلَى الوجه المعتاد، وليس المراد: الإطالة الَّتِيْ نهى عَنْهَا الأئمة.

واستدل الخطابي وغيره بهذا الحَدِيْث عَلَى جواز انتظار الإمام للداخل فِي الركوع قدراً لا يشق عَلَى بقية المأمومين؛ لأنه مراعاة لحال أحد المأمومين.

وفيه نظر؛ فإن الداخل لَمْ يدخل بعد فِي الائتمام بالإمام، وفي الانتظار تطويل عَلَى المأمومين لمراعاة من ليس بمؤتم، فهذا لا يشبه

ص: 236

تخفيف الصلاة لأجل أم الصبي، بل هُوَ عكسه فِي المعنى.

الحَدِيْث الثاني:

ص: 237

708 – حَدَّثَنَا خَالِد بن مخلد: ثنا سُلَيْمَان بن بلال: ثنا شريك بن عَبْد الله، قَالَ: سَمِعْت أَنَس بن مَالِك يَقُول: مَا صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وإن كَانَ ليسمع بكاء الصبي فيخفف، مخافة أن تفتن أمه.

((شريك)) هَذَا، هُوَ: ابن أَبِي نمر المدني.

وقد رَوَى هَذَا الحَدِيْث عَنْهُ أبو ضمره أَنَس بن عياض – أَيْضاً.

ورواه جماعة عَنْهُ، ولم يذكروا آخره.

وكذلك خرجه مُسْلِم بدون آخره من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر، عَن شريك.

وقد ذكرنا 0 فيما تقدم – معنى الافتتان هاهنا.

الحَدِيْث الثالث:

ص: 237

709 – حَدَّثَنَا عَلِيّ بن عَبْد الله: ثنا يزيد بن زريع: ثنا سَعِيد، قَالَ: ثنا قتادة، أن أَنَس بن مَالِك حدث، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((إني لأدخل فِي الصلاة، وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز فِي صلاتي، مِمَّا أعلم من شدة وجد أمه من بكائه)) .

ص: 237

710 – حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن بشار: ثنا ابن أَبِي عدي، عَن سَعِيد، عَن قتادة، عَن أَنَس بن مَالِك، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((إني لأدخل فِي الصلاة، فأريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز لما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه)) .

وَقَالَ موسى: ثنا أبان: ثنا قتادة: ثنا أَنَس، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

وهذا بمعنى حَدِيْث أَبِي قتادة المتقدم.

وقد ساقه عَن سَعِيد بن أَبِي عروبة، عَن قتادة، عَن أَنَس من طريقين، ليس فيهما تصريح قتادة بالسماع لَهُ من أَنَس، وكان قتادة مدلساً، فلذلك ذكر أن موسى – وَهُوَ: ابن إِسْمَاعِيل – رواه عَن أبان - وَهُوَ: العطار -، عَن قتادة، فصرح بسماعة من أَنَس.

وخرجه الإسماعيلي فِي ((صحيحه)) من طرق، عَن سَعِيد، عَن

ص: 237

قتادة، وفي سياق حدثيه: أن أَنَس بن مَالِك حدثه، ولم يبين لفظ من هُوَ من الرواة، ويبعد أن يكون لفظ جميعهم.

والتخفيف الَّذِي كَانَ يفعله، تارة كَانَ يأتي بِهِ فِي الصلاة كلها، وتارة فِي بعض ركعاتها، بحسب مَا يسمع بكاء الصبي.

فالأول، دل عَلِيهِ مَا خرجه أبو بَكْر بن أَبِي داود فِي ((كِتَاب الصلاة)) : حَدَّثَنَا أحمد بن يَحْيَى بن مَالِك: ثنا عَبْد الوهاب، عَن شعبة، عَن عدي بن ثابت، عَن البراء بن عازب، قَالَ: صلى بنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فقرأ بأقصر سورتين فِي القرآن، فلما فرغ أقبل علينا بوجهه، وَقَالَ:((إنما عجلت لتفرغ أم الصبي إلى صبيها)) .

ص: 238

وهذا إسناد غريب جداً.

وقد روي معناه من حَدِيْث أنس وأبي سَعِيد بأسانيد ضعيفة.

وأما الثاني، فروى أبو نعيم فِي ((كِتَاب الصلاة)) ، عَن سُفْيَان، عَن أَبِي السوداء النهدي، عَن ابن سابط، قَالَ: قرأ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي الفجر فِي أول ركعة بستين

آية، فلما قام فِي الثانية سَمِعَ صوت صبي، فقرأ ثلاث آيات.

وهذا مرسل.

ص: 239

66 – بَاب

إذا صَلَّى ثُمَّ أَمَّ قَوْماً

ص: 240

711 – حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بن حرب وأبو النُّعْمَان، قالا: حَدَّثَنَا حماد بن زيد،

عَن أيوب، عَن عَمْرِو بن دينار، عَن جابر بن عَبْد الله، قَالَ: كَانَ معاذ يصلي مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يأتي قومه فيصلي بهم.

مراده بهذا: أن اقتداء المفترض بالمتنفل صحيح، استدلالا بهذا الحَدِيْث.

وقد ذهب إلى هَذَا طائفة من العلماء، منهم: طاووس وعطاء، وَقَالَ: لَمْ نَزَلَ نسمع بذلك.

وَهُوَ قَوْلِ الأوزاعي والشافعي وأحمد – فِي رِوَايَة – وإسحاق وأبي خثيمة وأبي بَكْر بن أَبِي شيبة وسليمان بن حرب وسليمان بن داود الهاشمي وأبي ثور وداود والجوزجاني وابن المنذر.

وقد روي عَن أَبِي الدرداء والحكم بن عَمْرِو الغفاري وغيرهما ممن الصَّحَابَة مَا يشهد لَهُ.

وذكر الشَّافِعِيّ أَنَّهُ روي عَن عُمَر ورجل من الأنصار وابن عَبَّاس قريب مِنْهُ، وعن أَبِي رجاء العطاردي والحسن ووهب بن منبه.

ص: 240

كذا قَالَ: والمعروف عنهما خلاف ذَلِكَ، كما سنذكر ذَلِكَ.

وحكاه – أَيْضاً – عَن مُسْلِم بن خَالِد وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سَعِيد القطان.

وَقَالَ إِسْحَاق: هُوَ سَنَة مسنونة، وَهُوَ عَلَى مَا سن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من صلاة الخوف.

ونقل إِسْمَاعِيل بن سَعِيد، عَن أحمد، قَالَ: لا بأس بِهِ.

قَالَ: ومما يقوي حَدِيْث معاذ: حَدِيْث النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صلى صلاة الخوف بطائفتين، بكا طائفة ركعتين، ولا أعلم شيئاً يدفع هَذَا.

وحديث صلاة الخوف قَدْ خرجه البخاري من حَدِيْث جابر، وسيأتي فِي موضعه – إن شاء الله تعالى.

وذهب آخرون إلى المنع من ذَلِكَ، وأن المفترض إذا اقتدى بمتنفل لَمْ تصح صلاته، حكاه ابن المنذر عَن الزُّهْرِيّ وربيعة ويحيى الأنصاري ومالك وأبي حنيفة.

قَالَ: وروي معناه عَن الْحَسَن وأبي قلابة.

قُلتُ: وقد روي – أَيْضاً – معناه عَن سَعِيد بن المُسَيِّب ووهب بن منبه وابن سرين والنخعي -: ذكره عَبْد الرزاق فِي ((كتابه)) عنهم.

وَهُوَ قَوْلِ الثوري والحسن بن حي ولليث بن سعد.

وَهُوَ المشهور عَن أحمد، ونقل عَنْهُ أَنَّهُ رجع عَن القول بخلافة، وعلى هَذَا أبو بَكْر عَبْد العزيز وغيره من أصحابنا، وأن أحمد رجع عَن القول بجواز ذَلِكَ.

ص: 241

قَالَ – فِي رِوَايَة المروذي -: كُنْتُ أذهب إليه – يعني: حَدِيْث معاذ -، ثُمَّ ضعف عندي.

واعتل الإمام أحمد عَلَى حَدِيْث معاذ بأشياء:

أحدها: أن حَدِيْث معاذ رواه جماعة لَمْ يذكروا فِيهِ أن معاذاً كَانَ يصلي خلف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، بل ذكروا أَنَّهُ كَانَ يصلي بقومه ويطيل بهم، منهم: عَبْد العزيز ابن صهيب، عَن أَنَس. وأبو الزُّبَيْر، عَن جابر. ومنهم: محارب بن دثار وأبو صالح، عَن جابر.

الثاني: أن الذين ذكروا: أَنَّهُ كَانَ يصلي خلف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يرجع فيؤم قومه، لَمْ يذكر احد منهم: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم علم بذلك، إلا ابن عُيَيْنَة، عَن عَمْرِو بن دينار، عَن جابر.

فَقَالَ أحمد: مَا أرى ذَلِكَ محفوظاً. وَقَالَ – مرة -: ليس عندي ثبتاً؛ رواه منصور بن زاذان وشعبة وأيوب، عَن عَمْرِو بن دينار، ولم يقولوا مَا قَالَ ابن عُيَيْنَة.

كذا قَالَ، وقد رواه – أَيْضاً – ابن عجلان، عَن عُبَيْدِ الله بن مقسم، عَن جابر، مثل رِوَايَة ابن عُيَيْنَة عَن عَمْرِو.

وهذا أقوى الوجوه، وَهُوَ: أن من رَوَى صلاة معاذ خلف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ورجوعه إلى قومه لَمْ يذكر أحد

ص: 242

منهم قصة التطويل والشكوى إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم غير ابن عُيَيْنَة، وقد تابعه ابن عجلان عَن ابن مقسم، وليس ابن عجلان بذاك القوي.

ومن ذكر شكوى معاذ إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من الثقات الحفاظ لَمْ يذكروا فِيهِ أن معاذاً كَانَ يصلي مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يرجع إلى قومه فيومهم.

ولم يفهم كثير من أصحابنا هَذَا الَّذِي أراده الإمام أحمد عَلَى وجهه.

الثالث: قَالَ فِي رِوَايَة حَنْبل: هَذَا عَلِيّ جهة التعليم من معاذ لقومه.

يعني: لَمْ يكن يصلي بهم إلا ليعلمهم صلاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، كما علم مَالِك بن الحويرث قومه صلاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ولم يرد الصلاة، وقد سبق حديثه.

ولكن الفرق بينه وبين حَدِيْث معاذ: أن مَالِك بن الحويرث علم قومه الصلاة فِي غير وقت صلاة، فكانوا كلهم متنفلين بالصلاة، ومعاذ كَانَ يصلي المكتوبة، ثُمَّ يرجع إلى قومه، وهم ينتظرونه حَتَّى يؤمهم فيها، فكانوا مفترضين.

الرابع: قَالَ فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيْم الحربي: إن صح، فله معنى دقيق لا يجوز مثله اليوم.

وقد قيل: إن هَذَا المعنى الَّذِي أشار إليه الإمام أحمد، هُوَ أَنَّهُ كَانَ فِي أول الإسلام، وكان من يقرأ القرآن قليلاً، فكان يرخص لهم فِي ذَلِكَ

ص: 243

توسعة عليهم، فلما كثر القراء انتسخ ذَلِكَ. وقد سبق نحو ذَلِكَ فِي إمامة الصبي – أَيْضاً.

وكذا رَوَى عَبَّاس الدوري، عَن يَحْيَى بن معين، أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيْث معاذ، أَنَّهُ كَانَ يصلي بأصحابه، وقد صلى قَبْلَ ذَلِكَ مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ يَحْيَى: لا أرى هَذَا.

قَالَ عَبَّاس: معنى هَذَا – عندنا -: أن يَحْيَى كَانَ يَقُول: هَذَا فِي بدو الإسلام، ومن يقرأ القران قليل، فلا أرى هَذَا. هَذَا قَوْلِ يَحْيَى عندنا.

وقد ذكر ابن شاهين، عَن أَبِي بَكْر النجاد، أَنَّهُ سَمِعَ إِبْرَاهِيْم الحربي وسئل عمن صلى فريضة خلف متطوع؟ فَقَالَ: لا يجوز. فَقِيلَ لَهُ: فحديث معاذ؟ قَالَ: حَدِيْث معاذ أعيا القرون الأولى.

وأجابت طائفة عَن حَدِيْث معاذ بجواب آخر، وَهُوَ: أَنَّهُ يجوز أن يكون معاذ يصلي خلف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم تطوعاً، ثُمَّ يصلي الفريضة بقومه.

ورد ذَلِكَ الشَّافِعِيّ وأحمد.

وَقَالَ الشَّافِعِيّ: لَمْ يكن معاذ يفوت نفسه فضل الصلاة خلف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي مسجده.

وخرج الدارقطني والبيهقي من رِوَايَة أَبِي عاصم، عَن ابن جُرَيْج، عَن عَمْرِو بن دينار، عَن جابر، أن معاذاً كَانَ يصلي مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم،

ص: 244

ثُمَّ ينصرف إلى قومه فيصلي بهم، هِيَ لَهُ تطوع ولهم فريضة.

ومن طريق عَبْد الرزاق، عَن ابن جُرَيْج نحوه، إلا امنه قَالَ: فيصلي بهم تلك الصلاة، هِيَ نافلة ولهم فريضة.

ولعل هَذَا مدرج من قَوْلِ ابن جُرَيْج. والله أعلم.

وقد ظن بعض فقهاء أصحابنا هذه الزيادة هِيَ الَّتِيْ أنكرنا أحمد عَلَى سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وهذا وهم فاحش، فإن هذه الزيادة تفرد بِهَا ابن جُرَيْج لا ابن عُيَيْنَة.

وأجاب الإمام أحمد عَن حَدِيْث جابر فِي صلاة الخوف بأن هَذَا جائز فِي صلاة الخوف دون غيرها، لأنه يغتفر فِي صلاة الخوف مَا لا يغتفر فِي غيرها من الأعمال، وكذلك النيات.

واستدلوا عَلَى منع ذَلِكَ بقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ((إنما الإمام ليؤتم بِهِ، فلا تختلفوا عَلِيهِ)) . وقالوا: مخالفته فِي النية اخْتِلَاف عَلِيهِ.

لكن جمهورهم يجيزون اقتداء المتنفل بالمفترض، ولم يجعلوه اختلافاً عَلِيهِ.

وأعلم؛ أن جمهور العلماء فِي هذه المسألة عَلَى المنع، منهم: مَالِك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق والليث وأهل مصر، وَهُوَ قَوْلِ جمهور التابعين من أهل المدينة والعراق.

ولكن؛ قَدْ قَالَ بالجواز خلق كثير من العلماء.

ص: 245

وحديث معاذ، قَدْ صح أالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عم بِهِ وأقر عَلِيهِ، وقد توبع سُفْيَان ابن عُيَيْنَة عَلَى ذَلِكَ، كما أشرنا إليه، ولم يظهر عَنْهُ جواب قوي.

فالأقوى: جواز المفترض بالمتنفل، وقد رجح ذَلِكَ صاحب ((المغني)) وغيره من أصحابنا. والله أعلم.

وقد عارض بعضهم حديث معاذ بما روى معاذ بن رفاعة الأنصاري، عن سليم الأنصاري –من بني سلمة -، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله، إن معاذ بن جبل يأتينا بعدما ننام، ونكون في أعمالنا في النهار، فينادى بالصلاة، فنخرج إليه فيطول علينا. فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:((يا معاذ، لا تكن فتانا، إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك)) .

خرجه الإمام أحمد.

وهو مرسل؛ فإن سليما هذا قتل في يوم أحد، وقد ذكر ذَلِكَ في تمام هذا الحديث.

وقال ابن عبد البر: هوَ منكر لا يصح.

قلت: لو صح فيحتمل أن يكون المراد: إما أن تقتصر على صلاتك معي فتقيم لقومك من يصلي بهم غيرك، وإما أن تذهب إليهم فتصلي بهم، وإن صليت معي، لكن تخفف عليهم ولا تطيل بهم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 246

‌67 - بَابُ

مَنْ أسْمَعَ النَّاسَ تَكْبِيرَ الإِمامِ

ص: 247

712 – حدثنا مسدد: ثنا عبد الله بن داود: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيهِ أتاه بلال يؤذنه بالصلاة، قالَ:((مروا أبا بكر فليصل بالناس)) . قلت: إن أبا بكر رجل أسيف، إن يقم مقامك يبك، فلا يقدر على القراءة. فقالَ:((مروا أبا بكر فليصل)) . فقلت مثله. فقالَ في الثالثة – أو الرابعة -: ((إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل)) ، فصلى. وخرج النبي صلى الله عليه وسلم يهادي بين رجلين، كأني أنظر إليه يخط برجليه الأرض، فلما رآه أبو بكر ذهب يتأخر، فأشار إليه أن صل، فتأخر أبو بكر وقعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، وأبو بكر يسمع الناس التكبير.

تابعه: محاضر، عن الأعمش.

قد سبق ذكر حديث عائشة بألفاظه وطرقه.

وما ذكر فيهِ في هذه الرواية من تأخر أبي بكر فمنكر مخالف لسائر الرويات.

وإنما المقصود منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يصلي بالناس جالسا وأبو بكر قائم يسمع الناس تكبير النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 247

وهذا يدل على شيئين:

أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم في صحته لم يكن من عادته أن يبلغ أحد وراءه التكبير، بل كانَ هوَ يسمع أهل المسجد تكبيره، فلا يحتاج إلى من يبلغ عنه.

وقد خرج البخاري – فيما بعد – حديث سعيد بن الحارث، قالَ: صلى لنا أبو سعيد فجهر بالتكبير حين رفع قامته من السجود، وحين سجد، وحين قام من الركعتين، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وخرجه الإمام أحمد، ولفظه: فجهر بالتكبير حين افتتح الصلاة، وحين ركع، وحين قالَ: سمع الله لمن حمده، وحين رفع رأسه من السجود، وحين سجد، وحين قام من الركعتين حتى قضى صلاته على ذَلِكَ، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي.

وخرجه البيهقي، وعنده: وبعد أن قالَ: سمع الله لمن حمده.

وهذا إشارة إلى تكبير السجود، بدليل: أنه قالَ بعده: وحين رفع رأسه من السجود، وحين سجد.

وزاد البيهقي في روايته: وحين رفع.

والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرض ضعف صوته عن إسماع أهل المسجد، وكان أبو بكر حينئذ يسمع الناس تكبيره، ويبلغ عنه.

وقد روي عنه، أنه فعل ذَلِكَ – أيضا – في مرض آخر عرض لهُ في حياته:

ففي ((صحيح مسلم)) من حديث أبي الزبير، عن جابر، قالَ: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره –

ص: 248

وذكر في الحديث: أنه أشار إليهم أن اجلسوا. وقد سبق بتمامه.

وفي رواية لمسلم - أيضا -: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر وأبو بكر خلفه، فإذا كبر كبر أبو بكر يسمعنا.

فمتى كانَ الإمام صوته ضعيفا لمرض أو غيره، ولم يبلغ المأمومين صوته، وكان المسجد كبيرا لا يبلغه صوت الإمام، شرع لبعض المأمومين أن يبلغ الباقين التكبير جهرا، ويكون الجهر على قدر الحاجة إليه، من غير زيادة على ذَلِكَ.

وروى وكيع: ثنا المغيرة بن زياد، قالَ: رأيت عطاء بن أبي رباح صلى في السقيفة التي في المسجد لحرام في نفر، وهم متفرقون عن الصفوف، فقلت لهُ: فقالَ: إني شيخ كبير ومكة دونه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصابهم مطر، فصلى بالناس في رحالهم، وبلال يسمع الناس التكبير.

وروى بكر بن محمد، عن الحكم، عن أبيه، أنه سأل أحمد عن الرجل يكبر يوم الجمعة يسمع الناس؟ قالَ: صلاته تامة، هذا منفعة للناس؛ قد كانَ عمر يسمع صوته بالبلاط. قيل لهُ: فيأخذ على هذا أجرا في تكبيره يسمع الناس؟ قالَ: لا أدري.

قالَ أبو بكر عبد العزيز بن جعفر، قوله:((لا أدري)) كأنه – والله أعلم – يكرهه.

قالَ: وإن أخذ من بيت المال جاز؛ لأن حقه فيهِ – يعني: أن حق

ص: 249

المؤذنين في بيت المال -، وإن أخذ من غيره فهوَ مكروه. انتهى.

والأخذ من الوقف كالأخذ من بيت المال في هذا.

ومنى بلغ المأموم زيادة على قدر الحاجة، أو بلغ من غير حاجة إليه كانَ مكروها.

وظاهر الحديث: يدل على أن المأموم إذا اقتدى بالإمام بسماع التكبير من غيره صح اقتداؤه به، وعلى هذا أكثر الفقهاء.

واختلف فيهِ أصحاب مالك، فمنهم من أجازه. ومنهم من منعه، وعلل بأنه اقتدى بغير الإمام. ومنهم من قالَ: إن كانَ الإمام إذن للمبلغ في التبليغ صح الاقتداء به.

واختلفوا – أيضا – فيمن سمع التكبير، ولم ير الإمام، ولا من خلفه: هل يصح اقتداؤه بالإمام في هذه الحالة، أم لا يصح؟

يفرق بين أن يكون في المسجد فيصح، وبين أن يكون خارج المسجد فلا يصح.

وقد حكي في ذَلِكَ روايات متعددة عن الإمام أحمد، وربما نذكر المسألة في موضع آخر – إن شاء الله تعالى.

وقال أحمد – في رواية منهأ – فيمن صلى الجمعة، فلم يسمع تكبير الإمام، ولا غير الإمام: ليس عليهِ إعادة. وقال: كل الناس يسمعون التكبير؟ إنما ينظر بعضهم إلى بعض.

وقال سفيان الثوري في القوم لا يرون الإمام عندَ الركوع والسجود: أجزأهم أن يتبعوا من قدامهم من الصفوف؛ الناس أئمة بعضهم لبعض.

ص: 250

‌68 - بَابُ

الرَّجُلِ يَأتَمُّ بِالإِمَامِ، وَيأتَمُّ النَّاسُ بالْمَأمُومِ

ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قالَ:((ائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم)) .

هذا الحديث، خرجه مسلم من حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قالَ: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخرا، فقالَ:((تقدموا، فائتموا بي وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله)) .

والبخاري لا يخرج لأبي نضرة، فذلك علق حديثه هذا على هذا الوجه.

قالَ البخاري:

ص: 251

713 – حدثنا قتيبة بن سعيد: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقالَ:((مروا أبا بكر يصلي بالناس)) . فقلت: يا رسول الله، أبو بكر رجل أسيف، وأنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر؟ فقالَ: ((مروا أبا بكر يصلي

بالناس)) . فقلت

ص: 251

لحفصة: قولي لهُ: إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر. قالَ:((إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر أن يصلي بالناس)) . فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فقام يهادى بين رجلين، ورجلاه تخطان في الأرض حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب أبو بكر يتأخر، فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبو بكر، فكان أبو بكر يصلي قائما، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدا، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر.

قد تقدم ذكر هذا الحديث والإشارة إلى ما قيل في هذه اللفظة، وهي:((عن يسار أبي بكر)) ؛ فأن أبا معاوية تفرد بها، وما قيل فيما بعدها، وأنه مدرج، واختلاف الناس: هل كانَ أبو بكر إماما أو مأموما.

فإن قوله: ((يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم)) قد قيل أن المراد به:

أنه كانَ يراعي في صلاته التخفيف على النبي صلى الله عليه وسلم، ويفعل ما كانَ أسهل عليهِ وأخف وأيسر، فكان ذَلِكَ اقتداؤه به، من غير أن يكن مؤتما به، كما قالَ النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص لما استعمله على الطائف، وأمره بتخفيف الصلاة بالناس، وقال لهُ:((اقتد بأضعفهم)) – أي: راع حال الضعفاء ممن يصلي وراءك، فص صلاة لا تشق عليهم.

والأكثرون فسروا اقتداء أبي بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم، بأنه كانَ مؤتما بالنبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 252

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إماما لأبي بكر.

وأما قوله: ((والناس يقتدون بصلاة أبي بكر)) فاختلف الناس في تأوياه – أيضا.

فقالت طائفة: المعنى أن أبا بكر كانَ يسمعهم التكبير لضعف صوت النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، فكان اقتداؤهم بصوت أبي بكر، وكان مبلغا عن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن إماما

للناس، فاقتداء أبي بكر والناس كلهم إنما كانَ بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كانَ أبو بكر يبلغ عن النبي صلى الله عليه وسلم التكبير؛ ليتمكنوا من الاقتداء.

ومما يتفرع على ذَلِكَ: أن الشعبي قالَ: إذا انتهيت إلى الصف الآخر، ولم يرفعوا رؤسهم، وقد رفع الإمام، فاركع؛ فإن بعضكم أئمة بعض.

وهذا قول غريب، والجمهور على خلافه، وأن الاعتبار بالإمام وحده في إدراك الركعة بإدراك ركوعه.

وهذا هوَ المعنى الذي بوب عليهِ البخاري هاهنا، وكذلك عليهِ النسائي وغيره.

وهو قول أصحاب الشافعي، على قولهم: إن أبا بكر كانَ مؤتما بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم اختلفوا: هل كانَ النبي صلى الله عليه وسلم إماما لأبي بكر، أو مأموما به؟ على وجهين.

وقال الإمام أحمد: بل كانَ النبي صلى الله عليه وسلم إماما لأبي بكر، وكان أبو بكر إماما للناس الذين وراءه، فكانت تلك الصلاة بإمامين.

واختلفت الرواية عن الإمام أحمد في الصلاة بإمامين: هل هي من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، أو هوَ حكم عام يستوي فيهِ جميع الأمة؟ على ثلاث روايات عنه.

ص: 253

وأختار أبو بكر ابن جعفر وغيره من أصحابنا رواية اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

وروى حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ وجعا، فأمر أبا بكر أن يصلي بالناس، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة، فقعد إلى جنب أبي بكر، فأم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وهو قاعد وأم الناس أبو بكر وهو قائم.

خرجه الدارقطني وغيره.

والصحيح: أن قوله: ((فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة)) إلى آخر الحديث مدرج من قول عروة، كما رواه مالك وابن نمير وغيرهما، عن هشام بغير هذا اللفظ، وقد سبق ذَلِكَ.

ص: 254

‌69 - بَابُ

هَلْ يَأخُذُ الإِمَامُ - إذا شَكَّ - بِقوْلِ النَّاسِ

؟

ص: 255

714 – حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن أيوب بن أبي تميمة السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين، فقالَ لهُ ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى اثنتين آخريين، ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول.

ص: 255

715 – حدثنا أبو الوليد، قالَ: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قالَ: صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين، فقيل لهُ: صليت ركعتين، فصلى ركعتين، ثم سلم، ثم سجد سجدتين.

إنما سلم النبي صلى الله عليه وسلم من اثنتين في هذه الصلاة؛ لأنه كانَ يعتقد أن صلاته قد تمت، وكان جازما بذلك، لم يدخله فيهِ شك، ومثل هذا الاعتقاد يسمى يقينا، ووقع ذَلِكَ في كلام مالك وأحمد وغيرهما من الأئمة، فلما قالَ لهُ ذو اليدين ما قالَ حصل لهُ شك حينئذ، ولما لم يوافق

ص: 255

أحد من المصلين ذا اليدين على مقالته مع كثرتهم حصل في قوله ريبة بانفراده بما أخبر به، فلما وافقه الباقون على قوله رجع حينئذ إلى قولهم، وعمل به، وصلى ما تركه، وسجد للسهو.

يؤخذ من ذَلِكَ: أن المنفرد في مجلس بخبر تتوافر الهمم على نقله يوجب التوقف فيهِ حتى يوافق عليهِ.

وليس هذا كالمنفرد بشهادة الهلال؛ لأن الأبصار تختلف في الحدة، بخلاف الخبر الذي يستوي أهل المجلس في علمه.

ويؤخذ منه – أيضا -: أن المفرد بزيادة على الثقات يتوقف في قبول زيادته حتى يتابع عليها، لا سيما إن كانَ مجلس سماعهم واحدا.

وقد اختلف العلماء فيما إذا أخبر المأمومون الإمام، فهل يرجع إلى قولهم أم لا؟

وهذا على قسمين:

أحدهما: أن يتيقن صواب نفسه، فلا يرجع إلى قول من خالفه ولو كثروا.

وحكي لأصحابنا وجه آخر بالرجوع. وقيل: إنه لا يصح.

والثاني: أن يشك، ثم يخبره المأمومون بسهوه بقول أو إشارة أو تسبيح أو غير ذَلِكَ، ففيه أقوال:

أحدهما: أنه يلزمه الرجوع إلى قول واحد فما زاد؛ لأنه خبر ديني فيقبل فيهِ خبر واحد ثقة، كوقت الصلاة وطهارة الماء ونجاسته، وهو قول أبي حنيفة.

ولأصحابنا وجه مثله في الزيادة.

والثاني: إن أخبره اثنان فصاعدا لزمه الرجوع إلى قولهما، وإن

ص: 256

أخبره واحد لم يرجع إليه، وهذا رواية عن مالك، والمشهور عن أحمد.

وأحتج: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بخبر ذي اليدين حتى وافقه غيره.

والثالث: أنه يستحب لهُ الرجوع إلى قول الأثنين، ولا يجب، بل لهُ أن يبني على يقين نفسه، أو يتحرى، وله أن يرجع إلى قولهما، وهو أفضل، وهو رواية عن أحمد.

والرابع: أنا إن قلنا: أن الشاك يبني على اليقين، فلا يرجع إلى قول واحد. وإن قلنا: يتحرى ويعمل بما يغلب على ظنه رجع إلى قول المأمومين، هذا قول ابن عقيل من أصحابنا.

وجمهورهم قالوا: يرجع على كلا القولين؛ لأن الرجوع إلى خبر الاثنين رجوع إلى شهادة شرعية، فيعمل بها على كل حال، بخلاف التحري والرجوع إلى الأمارات المحضة.

ويشهد لهُ: أن أحمد نص على أنه يرجع إلى تسبيح الاثنين، وإن غلب على ظنه خطؤهما.

والخامس: أنه لا يرجع إلى قول أحد، بل يبني على يقين نفسه، كالمفرد، وهو قول الثوري والشافعي ومالك – في رواية.

وقال أهل هذا القول: إنما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذكره، لا إلى قول المأمومين، كما قالَ: ((إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني.

فدل على أنه إنما يرجع إلى ذكره، لا إلى قولهم، فإنه لم يقل: فإذا نسيت فردوني.

والسادس: أنه لا يرجع إلى قول الواحد والاثنين، ويرجع إليهم إذا كثروا؛ لأنه يبعد اتفاقهم على الخطأ مع كثرتهم، وهو قول طائفة من المالكية والشافعية.

ص: 257

وإن كانَ المخبر للمصلي، ليس معه في صلاته، فهل يرجع إليه كما يرجع إلى قول المأمومين؟ فيهِ وجهان لأصحابنا.

أصحهما: أنه يرجع إليهم، وهو قول أشهب المالكي، وظاهر كلام أحمد؛ فإنه نص على أن الطائفين بالبيت يرجع بعضهم إلى قول بعض إذا أخبره اثنان عن عدد

طوافه، مع أن كل واحد منهم غير مشارك للآخر في طوافه، فكذلك هاهنا.

وأما المأموم إذا شك في عدد الركعات، ففيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه يرجع إلى فعل الإمام والمأمومين، ويصنع ما صنعوا، وهو مذهب أصحابنا.

والثاني: أنه يبني على اليقين كالمنفرد، وهو قول طائفة من المالكية والشافعية.

والثالث: إن كثروا رجع إلى متابعتهم، وإلا فلا، هوَ وجه لأصحاب مالك والشافعي.

ولو كانَ مع الإمام مأموم واحد، فشك المأموم، فهل يرجع إلى قول إمامه؟

قالَ بعض أصحابنا: قياس المذهب: لا يرجع إليه، كما لا يرجع الإمام إلى قول مأموم واحد.

وفيه نظر؛ فإن الإمام ضامن، وقد ورد الأمر بأن يصنع المأموم ما صنع إمامه.

خرجه الدارقطني من حديث جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:((الإمام ضامن، فما صنع فاصنعوا)) .

ص: 258

وفي إسناده مقال.

وبقية فوائد حديث أبي هريرة تذكر في مواضعه من ((أبواب: سجود السهو)) – أن شاء الله تعالى.

ص: 259

‌70 - بَابُ

إذا بَكَى الإِمَامُ في الصَّلَاةِ

وقال عبد الله بن شداد: سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف، يقرأ:

{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} [يوسف: من الآية86] .

روى سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن محمد بن سعد: سمع عبد الله بن شداد بن الهاد يقول: سمعت عمر يقرأ في الصلاة الصبح سورة يوسف، فسمعت نشيجه، وإني لفي آخر الصفوف، وهو يقرأ:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّه} [يوسف: من الآية86] .

وروي من وجوه أخر:

روى ابن جريج: أخبرني ابن مليكة، قالَ: أخبرني علقمة بن وقاص، قالَ: كانَ عمر يقرأ في العشاء الآخرة بسورة يوسف، وأنا في مؤخر الصف، حتى إذا ذكر يوسف سمعت نشيجه.

وروى جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أبي رافع، قالَ: إني يوما مع عمر في صلاة الصبح، وهو يقرأ السورة التي فيها يوسف، وأنا في آخر الصفوف الرجال مما يلي النساء، وكان جهير القراءة، فلما مر بهذه الآية:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} [يوسف: من الآية86] فبكى حتى انقطعت قراءته، وسمعت نشيجه.

ص: 260

وروى عبد الرحمن بن إسحاق، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر، قالَ: صليت خلف عمر، فستمعت خنينه من وراء ثلاثة صفوف.

وفي رواية: قالَ: غلب: عمر البكاء وهو يصلي بالناس الصبح، فسمعت خنينه من وراء ثلاثة صفوف.

والنشيج: هوَ رفع الصوت بالبكاء -: قاله أبو عبيد وغيره.

والخنين – بالخاء المعجمة -: نحوه.

قالَ: البخاري

ص: 261

716 – حدثنا إسماعيل، قالَ حدثني مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه قالَ:((مروا أبا بكر فليصل بالناس)) . قالت عائشة: قلت: أن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل. فقالَ:((مروا أبا بكر فليصل للناس)) . قالت عائشة:

فقلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من

البكاء، فمر عمر فليصل للناس. ففعلت حفصة. فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس)) . فقالت حفصة: ما كنت لأصيب منك خيرا.

ص: 261

مقصود من إيراد هذا الحديث في هذا الباب: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يصلي بالناس مع تكرار القول لهُ أنه إذا قام مقامه لا يسمع الناس من البكاء، فدل على أن البكاء من خشية الله في الصلاة لا يضر الصلاة، بل يزينها؛ فإن الخشوع زينة الصلاة.

وقد خرج البخاري في ((كتابه)) هذا حديث عائشة في ذكر الهجرة بطوله،

وفيه: ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، فكان يصلي فيهِ ويقرأ القرآن فيتقصف عليهِ نساء المشركين وأبناؤهم، يتعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن.

وروى حماد بن سلمة، عن ثابت، عن مطرف بن عبد الله، عن أبيه، قالَ: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل.

خرجه الإمام أحمد، والنسائي، وزاد: يعني: يبكي.

وفي رواية للإمام أحمد: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء.

وخرجه أبو داود كذلك.

وهذا الإسناد على شرط مسلم.

ص: 262

وقد دل القرآن على مدح الباكين من خشية الله في سجودهم، فقالَ تعالى:

{وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُون} [الإسراء: من الآية109] . وقال: {ِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: من الآية58] .

وقد اختلف العلماء في البكاء في الصلاة على الثلاثة أقوال:

أحدها: إنه إن كانَ لخوف الله تعالى لم يبطل الصلاة، وإن كانَ لحزن الدنيا ونحوه فهوَ كالكلام، وهو قول أبي حنيفة وأحمد.

ولأصحابنا وجه ضعيف: أنه إن كانَ عن غير غلبة أبطل.

والمنصوص عن أحمد: إن كانَ عن غلبة لا بأس به.

قالَ القاضي أبو يعلى: إن كانَ عن غلبة لم يكره، وإن استدعاه كره. قالَ: وإن كانَ معه نحيب أبطل.

وهذا ليس في كلام الإمام أحمد، ولو قيده بما إذا استدعاه لكان أجود.

وقد قالَ ابن بطة من أصحابنا: إن التأوه في الصلاة من خشية الله لا يبطل.

فالنحيب أولى.

والقول الثاني: إنه لا يبطل بكل حال، وليس هوَ كالكلام؛ لأنه لا يسمى به متكلما، وهو قول أبي يوسف.

وكذا قالَ مالك في الأنين: لا يقطع صلاة المريض، وأكرهه للصحيح.

وقال أبو الثور: لا بأس بالأنين، إلا أن يكون كلام مفهوم.

وتوقف الإمام أحمد في رواية المروذي

ص: 263

والتباكي من مصيبة، ولم يجزم بالبطلان.

وقال في رواية أبي الحارث في الصلاة: إن كانَ غالبا عليهِ أكرهه.

ومعنى قوله: ((غالبا)) – أي: كانَ مختارا لهُ، قادر على رده، بحيث لم يغلبه الأنين، ولم يقهره. وظاهر كلامه أنه لا يبطل صلاته.

وقال القاضي أبو يعلى: إنما أراد إذا كانَ أنينه ((عاليا)) من العلو أو رفع الصوت؛ لما يخشى من الرياء به، أو إظهار الضجر بالمرض ونحوه.

وهذا الذي فسره تصحيف منه. والله أعلم.

والثالث: إنه كلام بكل حال، حكي عن الشعبي والنخعي ومغيرة والثوري.

وإنما المنقول عنهم في الأنين، ونقل عن الشعبي في التأوه.

وهذا محمول على لم يكن من خشية الله، فقد كانَ الثوري إذا قرأ في صلاته لم تفهم قراءته من شدة بكائه.

وهو مذهب الشافعي، وعنده: إن أبان به حرفان أبطل الصلاة، وإلا كره ولم تبطل.

وكذا قالَ أصحابنا في البكاء لحزنه ونحوه: إذا لم يغلب عليهِ، فأن غلب عليهِ صاحبه ففي البطلان به وجهان.

ولا يعرف الإمام أحمد اعتبار حرفين في ذَلِكَ -: قاله القاضي أبو يعلى ومن اتبعه.

وما تقدم عن أبي بكر وعمر رضي الله عنه يدل على أن البكاء في الصلاة من خشية الله حسن جميل، ويقبح أن يقال: لا يبطلها؛ فإن ما كانَ زينة الصلاة وزهرتها وجمالها كيف يقنع بأن يقال فيهِ: غير مبطل؟ ولم يزل السلف الصالح

ص: 264

الخاشعون لله على ذَلِكَ.

روى الإمام أحمد في ((كتاب الزهد)) بإسناده، عن نافع، قالَ: كانَ ابن عمر يقرأ في صلاته، فيمر بالآية فيها ذكر الجنة، فيقف عندها فيدعوا ويسأل الله الجنة.

قالَ: ويدعوا ويبكي. قالَ: ويمر بالآية فيها ذكر النار، فيدعوا ويستجير بالله منها.

وبإسناده، عن أبن أبي ملكية، قالَ صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة. قالَ: وكان إذا نزل قام ينتظر الليل، فسأله أيوب: كيف كانت قراءته؟

قالَ: قرأ {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19]

فجعل يرتل، ويكثر في ذَلِكَ النشيج.

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده، عن القاسم بن محمد، قالَ: كنت غدوت يوما فإذا عائشة قائمة تسبح – يعني: تصلي - وتبكي، وتقرأ {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] . وتدعوا وتبكي، وترددها. فقمت حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي، تصلي وتبكي.

والروايات في هذا عن التابعين ومن بعدهم كثيرة جدا، وإنما ينكر ذَلِكَ من غلبت عليهِ الشقوة، أو سبقت لهُ الشقوة.

ص: 265

‌71 - بَابُ

تَسْوِيَةِ الصفُّوفِ عِنْدَ الإِقَامَةِ وَبَعَدْهَاَ

ص: 266

717 – حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك: ثنا شعبة، قالَ: أخبرني عمرو ابن مرة، قالَ: سمعت سالم بن أبي الجعد، قالَ: سمعت النعمان بن بشير، قالَ: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم)) .

ص: 266

718 – حدثنا أبو معمر: ثنا عبد الوارث، عن عبد العزيز، عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ ((أتموا الصفوف؛ فأني أراكم خلف ظهري)) .

حديث النعمان، خرجه مسلم من رواية سماك بن حرب، عنه بزيادة، وهي في أوله، وهي: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي القداح، حتى رأى أنا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوما فقام حتى كاد يكبر، فرأى رجلا باديا صدره من الصف، فقالَ:((عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)) .

ومعناه: أنه كانَ يقوم الصفوف ويعدلها قبل الصلاة كما يقوم السهم.

ص: 266

وقد توعد على ترك تسوية الصفوف بالمخالفة بين الوجوه، وظاهره:

يقتضي مسخ الوجوه وتحويلها إلى صدور الحيوانات أو غيرها، كما قالَ:((أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه [رأس] حمار – أو صورته صورة حمار)) .

وظاهر هذا الوعيد: يدل على تحريم ما توعد عليهِ.

وفي ((مسند الإمام أحمد)) بإسناد فيهِ ضعف، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:

((لتسون الصفوف، أو لتطمسن وجوهكم، ولتغضن أبصاركم، أو لتخطفن

أبصاركم)) .

وقد خرج البيهقي حديث سماك، عن النعمان الذي خرجه مسلم بزيادة في

آخره، وهي:((أو ليخالفن الله بين وجوهكم يوم القيامة)) .

وهذه الزيادة تدل على الوعيد على ذَلِكَ في الآخرة، لا في الدنيا.

وقد روي الوعيد على ذلك بإختلاف القلوب، والمراد: تنافرها وتبيانها.

فخرج مسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري، قالَ: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول:((استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم)) .

وسيأتي من حديث النعمان بن بشير –أيضا _ نحوه.

وخرج أبو داود والنسائي نحوه من حديث البراء بن عازب.

ص: 267

وأما أمره في حديث أنس بإقامة الصفوف، فالمراد به: تقويمها.

وقوله: ((فإني أراكم من وراء ظهري)) إعلام لهم بأنه صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليهِ حالهم في الصلاة؛ فإنه يرى من وراء ظهره كما يرى من بين يديه، ففي هذا حث لهم على إقامة الصفوف إذا صلوا خلفه.

وقد سبق القول في رؤيته وراء ظهره، وأنه صلى الله عليه وسلم وإن كانَ الله قد توفاه ونقله من هنه الدار، فإن المصلي يناجي ربه وهو قائم بين يدي من لا يخفى عليهِ سره وعلانيته، فليحسن وقوفه وصلاته؛ فإنه بمرء من الله ومسمع.

وقد روي أن تسوية الصفوف وإقامتها توجب تآلف القلوب:

فروى الطبراني من طريق سريج بن يونس، عن أبي خالد الأحمر، عن مجالد، عن الشعبي، عن الحارث، عن علي، قالَ: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استووا تستوي قلوبكم ولا تختلفوا، وتماسوا تراحموا)) .

قالَ: سريج: ((تماسوا)) – يعني: ازدحموا في الصلاة.

وقال غيره: ((تماسوا)) : تواصلوا.

وأعلم؛ أن الصفوف في الصلاة مما خص الله به هذه الأمة وشرفها به؛ فإنهم أشبهوا بذلك صفوف الملائكة في السماء، كما أخبر الله عنهم أنهم قالوا:

{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات:165] ، وأقسم بالصافات صفا، وهم الملائكة.

ص: 268

وفي ((صحيح مسلم)) عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:((فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة)) – الحديث.

وفيه – أيضا – عن جابر بن سمرة، قالَ: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: ((ألا تصفون كما تصف الملائكة عندَ ربها؟)) فقلنا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قالَ:((يتمون الصفوف الأولى، ويتراصون في الصف)) .

وروى ابن أبي حاتم من رواية أبي نضرة، قالَ: كانَ ابن عمر إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه، ثم قالَ: أقيموا صفوفكم، استووا قياما، يريد الله بكم هدي الملائكة. ثم يقول:{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات:165] ، تأخر فلان، تقدم فلان، ثم يتقدم فيكبر.

وروى ابن جريح، عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث، قالَ: كانوا لا يصفون في الصلاة، حتى نزلت:{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات:165] .

وقد روي أن من صفة هذه الأمة في الكتب السالفة: صفهم في الصلاة، كصفهم في القتال.

ص: 269

‌72 - باب

إِقْبالِ الأمَام عَلَى النَّاسِ عِنْدَ تَسْوِيَةِ الصٌّفٌوفِ

ص: 270

719 -

حدثنا أحمد بن أبي رجاء: ثنا معاوية بن عمرو: ثنا زائدة بن قدامة: ثنا حميد الطويل: ثنا أنس بن مالك، قالَ: أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه، فقالَ:((أقيموا صفوفكم، وتراصوا؛ فإني أراكم من وراء ظهري)) .

التراص: هوَ التضام والتداني والتلاصق. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] .

وفي هذا: دليل على أن الإمام يستحب لهُ أن يقبل على المأمومين بعد إقامة الصلاة، ويأمرهم بتسوية صفوفهم.

وقد تقدم حديث النعمان بن بشير في هذا.

وخرج النسائي من حديث ثابت، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يقول:

((استووا، استووا، استووا؛ فوالذي نفسي بيده إني لأراكم من خلفي كما أراكم بين يدي)) .

وبوب عليهِ: ((كم مرة يقول: استووا)) .

يشير إلى أنه يكررها ثلاثا؛ فأن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا.

وخرج أبو داود وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث محمد بن مسلم - صاحب المقصورة -، قالَ: صليت إلى جنب أنس يوماً، فقالَ:

ص: 270

هل تدري لم صنع هذا العود؟ قلت: لا والله. قالَ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ إذا قام إلى الصلاة أخذه بيمينه، ثم التفت، فقالَ:((اعتدلوا، سووا صفوفكم)) .

وخرج الدارقطني والحاكم من حديث حميد، عن انس، قالَ: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة قالَ هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله، ثم يقول:((استووا وتعادلوا)) . وروى مالك في ((الموطأ)) عن نافع، أن عمر كانَ يأمر بتسوية الصفوف، فإذا أخبروه أن قد استوت كبر.

وعن عمه أبي سهيل، عن أبيه، عن عثمان بن عفان - أيضاً.

وروى عمرو بن ميمون، قالَ: كانَ عمر إذا أقيمت الصلاة أقام الصف، حتى إذا لم ير فيهِ خللاً كبّر.

وروى وكيع بإسناده، عن كعب بن مرة، قالَ: إن كنت لأدع الصف المقدم من شدة قول عمر: استووا.

وبإسناده، عن ابن عمر، أن عمر كانَ يبعث رجالاً يقيمون الصفوف في الصلاة.

وروى أبو نعيمٍ بإسناده، عن الحارث، عن علي، قالَ: كانَ يسوي صفوفنا، ويقول: سووا تراحموا، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم.

ص: 271

‌73 - باب

الصَّف الأَولِ

ص: 272

720 -

حدثنا أبو عاصم، عن مالك، عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:((الشهداء: الغرق، والمطعون، والمبطون، والهدم)) .

ص: 272

721 -

وقال: ((لو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً، ولو يعلمون ما في الصف المقدم لاستهموا)) .

قد سبق هذا الحديث في ((باب: الاستهام في الأذان)) وفي ((باب: فضل التهجير إلى الظهر)) ، وذكرنا معنى الاستهام على الصف.

وقد روي للصف الأول فضائل عديدة:

فمنها: أنه على مثل صف الملائكة.

خرج الأمام أحمد وأبوا داود والنسائي من حديث أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ - في حديث ذكره -:((والصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه)) .

ص: 272

ومنها: أنه خير صفوف الرجال.

ففي ((صحيح مسلم)) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:((خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها ، وشرها أولها)) .

ومنها: أن الله وملائكته يصلون عليهِ.

فخرج الأمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث البراء بن عازب، عن النبي

صلى الله عليه وسلم، قالَ:((إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول)) .

وخرجه ابن ماجه، وعنده:((على الصف الأول)) .

وخرجه - أيضاً - بهذا اللفظ من حديث عبد الرحمن بن عوف، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والصواب: إرسال إسناده -: قاله أبو حاتم والدارقطني.

وخرجه الأمام أحمد بهذا اللفظ من حديث النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن حديث أبي أمامة، وفي حديثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها ثلاثاً. فقيل لهُ:

يارسول الله، والثاني؟ فقالَ - في الثالثة -:((وعلى الثاني)) .

ص: 273

ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر لهُ ثلاثاً دون ما بعده.

فخرج ابن ماجه من حديث العرباض بن سارية، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يستغفر للصف المقدم ثلاثاً، وللثاني مرة.

وخرجه النسائي، وعنده:((يصلي)) مكان: ((يستغفر)) .

ومنها: أنه أحصن الصفوف من الشيطان.

فروى قتادة، عن أبي قلابة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ لأصحابه:((أي شجرة أبعد من الخارف والخاذف؟)) قالوا: فرعها. قالَ: ((فكذلك الصف المقدم، هوَ أحصنها من الشيطان)) .

ورواه جماعة، فقالوا: عن قتادة، عن أنس.

والصواب: عن أبي قلابة -: قاله الدارقطني وغيره. وأنكر أبو زرعة وصله.

وروي نحوه من حديث أبي هريرة مرفوعاً بإسناد ضعيف.

ومنها: أن الصلاة فيهِ تقتضي التقدم إلى الله، فإن التأخر عنه يقتضي التأخر.

ففي ((صحيح مسلم)) عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه رأى في أصحابه

تأخرا، فقالَ: ((تقدموا، فائتموا بي، وليأتم من بعدكم، لايزال

ص: 274

قوم يتأخرون حتى يأخرهم الله عز وجل)) .

وخرج أبو داود وابن خزيمة في ((صحيحه)) من حديث عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:((لا يزال أقوام يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار)) .

واختلف الناس في الصف الأول: هل هوَ الذي يلي الأمام بكل حال، أم الذي لا يقطعه شيء؟ وفيه قولان للعلماء.

والمنصوص عن أحمد: أن الصف الأول هوَ الذي يلي المقصورة، وأن ما تقطعه المقصورة فليس هوَ الأول -: نقله عنه المروذي وأبو طالب وأحمد بن القاسم وغيرهم.

وقال أبو طالب: سئل أحمد عن الصلاة في المقصورة؟ قالَ: لا يصلي فيها، هوَ الذي يلي المقصورة، فيخرج من المقصورة فيصلي في الصف الأول.

وروى وكيع عن عيسى الحناط، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ إذا حضرت الصلاة وهو في المقصورة خرج إلى المسجد.

وعن شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، قالَ: كانَ أصحاب عبد الله

- يعني: ابن مسعود - يقولون: الصف الأول الذي يلي المقصورة.

وروي ذَلِكَ عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود.

وقال الشعبي: المقصورة ليست من المسجد.

ص: 275

ذكر ذلك كله وكيع في ((كتابه)) .

فأما الصف الذي يقطعه المنبر، فهل هوَ الصف الأول، أم لا؟

قالَ أحمد - في رواية أبي طالب والمروذي وغيرهما -: إن المنبر لا يقطع الصف، فيكون الصف الأول الذي يلي الإمام وإن قطعه المنبر، بخلاف المقصورة.

وتوقف في ذَلِكَ في رواية الأثرم وغيره.

وقالت طائفة: الصف الأول هوَ الذي يلي الإمام بكل حال، ورجحه كثير من أصحابنا، ولم أقف على نص لأحمد به.

وقال آخرون: الصف الأول المراد به أول من يدخل المسجد للصلاة فيهِ.

قالَ ابن عبد البر: لا أعلم خلافا بين العلماء أن من بكر وانتظر الصلاة، وإن لم يصل في الصف الأول، أفضل ممن تأخر ثم تخطى الصفوف إلى الصف الأول.

قالَ: وفي هذا ما يوضح أن معنى فضل الصف الأول: أنه ورد من اجل البكور إليه، والتقدم. والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى.

وحمل أحاديث فضل الصف الأول على البكور إلى المسجد خاصة لا يصح، ومن تأمل الأحاديث علم أن المراد بالصف الأول الصف المقدم في المسجد، لا تحتمل غير ذَلِكَ.

وخرج الأمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة في

ص: 276

((صحيحه)) من حديث أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ:((أتموا الصف المقدم، ثم الذي يليه، فما كانَ من نقص فليكن في الصف المؤخر)) .

ص: 277

‌74 - بَابُ

إقَامَةِ الصَّف مِن تَمَامِ الصَّلاةِ

ص: 278

722 -

حدثنا عبد الله بن محمد: ثنا عبد الرزاق: أنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليهِ، فإذا ركع فأركعوا، وإذا قالَ: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون، وأقيموا الصف في الصلاة؛ فإن إقامة الصف من حسن الصلاة)) .

ص: 278

723 -

حدثنا أبو الوليد: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:((سووا صفوفكم؛ فأن تسوية الصف من إقامة الصلاة)) .

في حديث أبي هريرة: أن إقامة الصف من حسن الصلاة، والمراد: أن الصف إذا أقيم في الصلاة كانَ ذَلِكَ من حسنها، فإذا لم يقم نقص من حسنها بحسب ما نقص من إقامة الصف.

وفي حديث أنس: أن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة، والمراد بإقامتها: الإتيان بها على وجه الكمال.

ولم يذكر في القرأن سوى إقامة الصلاة، والمراد: الإتيان بها قائمة على وجهها الكامل.

ص: 278

وقد صرح في هذا الحديث بأن تسوية الصفوف من جملة إقامتها، فإذا لم تسو الصفوف في الصلاة نقص من إقامتها بحسب ذَلِكَ - أيضا - والله أعلم.

ص: 279

‌75 - بَابُ

إثْمِ مَنْ لَمْ يُتِمَّ الصَّفَّ

ص: 280

724 -

حدثنا معاذ بن أسد: ثنا الفضل بن موسى: أنا سعيد بن عبيد الطائي، عن بشير بن يسار الأنصاري، عن أنس بن مالك، أنه قدم المدينة، فقيل لهُ: ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: ما أنكرت شيئاً، إلا أنكم لا تقيمون الصفوف.

وقال عقبة بن عبيد، عن بشير بن يسار: قدم علينا أنس المدينة - بهذا.

عقبة بن عبيد الطائي، هوَ: أخو سعيد بن عبيد الذي روى هذا الحديث عن

أنس، ويكنى أبى الرحال.

لم يخرج لهُ في الكتب الستة سوى هذا الحديث الذي علقه البخاري هاهنا.

وقد خرج حديثه الإمام أحمد، عن أبي معاوية، عن عقبة بن عبيد، عن بشير بن يسار، قالَ: قلت لأنس بن مالك: ما أنكرت من حالنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: أنكرت أنكم لا تقيمون الصفوف.

وفي هذا الحديث: دليل على أن تسوية الصفوف كانَ معروفا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الناس غيروا ذَلِكَ بعده.

والظاهر: أن أنس بن مالك إنما قالَ هذا في أوائل الأمر، قبل أن يؤخر بنو أمية الصلوات عن مواقيتها، فلما غير بنو أمية مواقيت الصلاة قالَ

ص: 280

أنس: ما أعرف شيئا مما كانَ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

قيل لهُ: ولا الصلاة؟ قالَ: أو ليس قد صنعتم فيها ما صنعتم. وقد سبق هذا الحديث في أوائل ((المواقيت)) .

وأما استدلال البخاري به على إثم من لم يتم الصف ففيه نظر؛ فإن هذا إنما يدل على أن هذا مما ينكر، وقد ينكر المحرم والمكروه.

وكان الاستدلال بحديث: ((لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)) على الإثم أظهر، كما سبق التنبيه عليهِ.

ص: 281

‌76 - بَابُ

إلْزَاقِ الْمَنْكِبِ بالْمَنْكِبِ وَالْقَدَمِ بالْقَدَمِ في الصَّفَّ

وقال النعمان بن بشير: رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه.

ص: 282

725 -

حدثنا عمرو بن خالد: ثنا زهير، عن حميد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:((أقيموا صفوفكم؛ فإني أراكم من وراء ظهري)) . وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه.

حديث أنس هذا: يدل على أن تسوية الصفوف: محاذاة المناكب والأقدام.

وحديث النعمان للذي علقه البخاري، خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن خزيمة في ((صحيحه)) من رواية أبي القاسم الجدلي، قالَ: سمعت النعمان ابن بشير يقول: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس بوجهه، فقالَ:((أقيموا صفوفكم)) - ثلاثا - ((والله لتقيمن صفوفكم، أو ليخالفن الله بين قلوبكم)) . قالَ: فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه.

أبو القاسم الجدلي، أسمه: الحسين بن الحارث الكوفي. قالَ ابن المديني. معروف. ووثقه ابن حبان.

وفي هذا الحديث: دلالة على أن الكعب هوَ العظم الناتيء في أسفل

ص: 282

الساق، ليس هوَ في ظهر القدم، كما قاله قوم.

وقد تقدم من حديث النعمان بن بشير، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً ناتئاُ صدره في الصف غضب، وأمرهم بتسوية الصفوف.

وفيه: دليل على أن استواء صدور القائمين في الصف - أيضا.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في

((صحيحيهما)) من حديث أبان، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:

((رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق)) .

وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي الزاهرية، عن كثير بن مرة، عن إبن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:((أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم)) .

وخرجه أبو داود - أيضا - من وجه آخر، عن أبي الزاهرية، عن كثير بن مرة - مرسلاً.

وقيل: عن كثير بن مرة، عن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يصح.

وخرج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ: ((سووا صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم، ولينوا في أيدي إخوانكم،

ص: 283

وسدوا الخلل)) .

وخرج الأمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث البراء بن عازب، قالَ: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلل الصفوف من ناحية إلى ناحية، يمسح مناكبنا وصدورنا، يقول:((لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)) .

وروى أبو نعيم في ((كتاب الصلاة)) بإسناده، عن عمر، أنه كانَ يسوي الصفوف في الصلاة، يقول: سووا مناكبكم في الصلاة.

وعن عثمان، أنه قام خطيبا في الناس، فقالَ: سووا صفوفكم والأقدام، وحاذوا بالمناكب.

ص: 284

‌77 - بَابُ

إذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ يَسَارِ الإِمَامِ وَحَوَّلَهُ

الإِمَامُ خَلْفَهِ إِلَى يَمِيِنِهِ تَمَّتْ صَلَاتُهُ

ص: 285

762 -

حدثنا قتيبة بن سعيد: ثنا داود، عن عمرو بن دينار، عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قالَ: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقمت عن يساره، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسي من ورائي، فجعلني عن يمينه فصلى ورقد، فجاءه المؤذن، فقام يصلي، ولم يتوضأ.

مقصود البخاري بهذا الحديث في هذا الباب: أن ابن عباس كانَ قد صف مع النبي صلى الله عليه وسلم عن يساره، لكنه لما كان موقفه مكروها حوله النبي صلى الله عليه وسلم منه، فأداره من ورائه إلى يمينه، فدل على أن إزالة بعض من في الصف عن مقامه وتحويله من الصف في الصلاة لمصلحة جائز، وصلاته تامة، وإن كانَ قد خرج من الصف وتأخر عنه.

ولا يدخل هذا في ترك تسوية الصفوف المنهي عنه، وإن كانَ فيهِ تأخر عن الصف، إلا أن المقصود منه: أن يعود إلى الصف على وجه أكمل من مقامه، فهوَ شبيه بإبطال الصلاة المكتوبة إذا دخل فيها منفردا، ثم أقيمت الصلاة ليؤديها في جماعة.

وقريب منه: تخريب بناء المسجد لأعادته على وجه أكمل منه.

ص: 285

وفي الحديث - أيضا -: دليل على أن مصير المأموم فذا خلف الإمام - أو خلف الصف - وقتا يسيرا لا تبطل به الصلاة، إذا زالت فذوذيته قبل الركوع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج ابن عباس من جهة يساره إلى ورائه، فصار فذا في تلك الحالة، ثم أعاده إلى يمينه في الحال، فزالت فذوذيته سريعا، ووقف في موقف هوَ أكمل من مقامه الأول قبل الركوع.

وسيأتي القول في ذَلِكَ في ((باب: الركوع دون الصف)) - إن شاء الله تعالى.

ص: 286

‌78 - باب

المَرأَةِ تكونُ وَحْدَهَا صَفاً

ص: 287

727 -

حدثنا عبد الله بنِ محمد: ثنا سفيان، عَن إسحاق، عَن أنس بنِ مالك، قالَ: صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وأمي خلفنا: أم سليمٍ.

دل هَذا الحديث على أن المرأة إذا صلت معَ الرجال، ولم تجد امرأةً تقف معها قامت وحدها صفاً خلف الرجالِ.

وهذا لا اختلاف فيهِ بين العلماء؛ فإنها منهيةٌ أن تصف معَ الرجال، وقد كانت صفوفُ النساء خلف الرجال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ولهذا قالَ ابن مسعود: أخروهنَّ مِن حيث أخرهنَّ الله.

خرجه وكيعٌ وغيرهُ.

ولا يعلم في هَذا خلاف بين العلماء، إلا أنَّهُ روي عَن أبي الدرداء، أن الجارية التي لَم تحضِ تقف معَ الرجال في الصف.

فأما إن وجدت امرأةً تقفُ معها، ثُمَّ وقفت وحدها، فهل تصح صلاتها

حينئذٍ؟ فيهِ لأصحابنا وجهان.

أحدهما: لا تصحُّ، وَهوَ ظاهر كلام أبي بكرٍ الأثرم، وقول القاضي

ص: 287

أبي يعلى في ((تعليقه)) وصاحب ((المحرر)) ، إلحاقاً للمرأة بالرجل، معَ القدرة على المصافّةِ.

والثاني: تصحُّ، وَهوَ قول صاحب ((الكافي)) أبي محمد المقدسي، وَهوَ ظاهر تبويب البخاري؛ لأن المرأةَ تكون وحدها صفاً، ولا تحتاج إلى مِن يصافّها، وكذا قالَ الإمام أحمد في رواية حربٍ: المرأة وحدها صفٌ.

وقد استدل طائفة مِن العلماء بصلاة المرأة وحدها على صحة صلاة الرجل

النفل، وهذا جمعُ بين ما فرقت السنة بينهُ؛ فإن السنة دلت على صحة صلاة المرأة وحدها خلف الصفوف، ونهت الرجل عَن ذَلِكَ، فأمرتهُ بالإعادة، على ما يأتي ذكرهُ في موضعه - إن شاء الله تعالى.

وأقرب مِن هَذا: قولُ مِن قالَ: إن صلاةَ الرجلِ خلف الصفوف وحده إذا تعذَرَ عليهِ مِن يصافه تصحُّ إلحاقاً لها بصلاة المرأة وحدها، إذا لَم تجد مِن يصافها، كَما قالَه بعض المتأخرين مِن أصحابنا، ولكن المذهب خلافهُ.

واستدل - أيضاً - بحديث أنسٍ هَذا على أن الإمام إذا كانَ خلفهُ رجلانِ أو صبيان قاما خلفه، وهذا قول جمهور العلماء.

وكان ابن مسعود يرى ان الاثنين يقومان معَ الإمام عَن يمينه وشماله.

خرجه مسلم بإسناده عَنهُ.

ص: 288

وخرجه أبو داود والنسائي، عنه - مرفوعاً.

وقال ابن عبد البر: لا يصح رفعهُ.

فَمِن العلماء مِن قالَ: نُسخ ذَلِكَ؛ لأن ابن مسعودٍ قرنه بالتطبيق في حديث واحد، والتطبيق منسوخٌ، فكذلك القيام.

ومنهم مِن تأوَّله على أنَّهُ فعله لضيقِ المكان، رويَ ذَلِكَ عَن ابن سيرين.

وفيه نظرٌ.

ومنهم من تأوَّلهُ على ابن مسعودٍ فعل ذَلِكَ بعلقمة والأسود حيث فاتتهم الجمعةُ، وقصد إخفاء الجماعة للظهر يومَ الجمعةِ، وعلى ذَلِكَ حملهُ الإمام أحمد في رواية إسحاق بنِ هانئ، وفعله - أيضاً - معَ صاحبين لَهُ في مسجدٍ مِن المساجد.

ومنهم مِن تأوله على أن علقمة كانَ غلاماً، فلم يرَ ابن مسعودٍ للأسود أن يصافه في الفريضة، وعلى ذَلِكَ حمله الإمام أحمد في رواية أخرى عَنهُ، نقلها عَنهُ ابنه

عبد الله والميموني وغيرهما.

وحمل أحمد حديث أنسٍ هَذا في مصافته لليتيم على أن الصلاةَ كانت نفلاً، والرجلُ يجوز لَهُ أن يصافف الصبيَّ في النفل خاصة.

ص: 289

وقد خرج هَذا الحديث أبو داود مِن حديث ثابتٍ، عَن أنسٍ، وفيه: فصلى بنا ركعتين تطوعاً.

وقد سبق الكلامُ عليهِ مستوفىً في ((باب: الصلاة على الحصير)) .

وقال الإمام أحمد - مرة أخرى -: قلبي لا يجسر على حديث إسحاق، عَن أنسٍ؛ لأن حديث موسى خلافهُ، ليسَ فيهِ ذكر اليتيمِ.

قالَ أبو حفصٍ البرمكيُّ مِن أصحابنا: حديث إسحاق الذِي فيهِ ذكر اليتيمِ.

وحديث موسى خرجه مسلمٌ مِن طريق شعبةَ، عَن عبد الله بنِ المختار: سمع موسى بنِ أنس يحدث، عَن أنس بنِ مالكٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى به وبأمه - أو خالته - قالَ: فأقامني عن يمينه، وأقام المرأةَ خلفَنا.

وخرج مسلم - أيضاً - مِن طريق سليمانِ بنِ المغيرةِ، عَن ثابت، عَن أنسٍ، قالَ: دخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا، وما هوَ إلا أنا وأمِّي وأُمُّ حَرامٍ خالتي، فقالَ:((قوموا فلأُصلِّي بكم)) في غير وقت صلاةٍ، فصلى بنا، فقالَ رجل لثابت: أين جعل أنساً

منهُ؟ قالَ: جعله عَن يمينه.

وخرجه أبو داود مِن طريق حماد بنِ سلمة، عَن ثابتٍ، وقال فيهِ: فأقامني عَن يمينه وأمَّ حرامٍ خلفنا.

وفي رواية لَهُ: قالَ ثابت: لا أعلمه إلا قالَ: أقامني عَن يمينه.

ص: 290

وقد رجَّح الدارقطنيُّ وغيرهُ وقفَ الحديثِ على أنسٍ، وأنه هوَ الذِي أقام ثابتاً عَن يمينه.

وفي الجملة؛ فللعلماء في هَذهِ الأحاديث، عَن أنسٍ مسلكان:

أحدهم: تعارُضُهُما، وترجيح رواية موسى بنِ أنسٍ عَنهُ؛ لموافقتِهِ لحديث ابن عباسٍ وغيرهِ.

والثاني: أنهما قضيَّتان متغايرتانِ، وَهوَ مسلكُ ابن حبان وغيره.

وأجاز أحمد مصافة الرجل للصبيِّ في النفل دونَ الفرض، كَما قال ذَلِكَ في إمامته بالرجال في إحدى الروايتين عَنهُ.

ومن أصحابنا مِن قالَ: يصحّ مصافته في الفرض والنفلِ.

ومنهم مِن قالَ: لا يصحُّ فيهما وحمل كلام أحمد على أن النفل يصحُّ فيهِ صلاةُ الفذِّ خلف الصفوفِ. وهذا بعيدٌ.

واستدل بعضُ مِن يرى صحةَ صلاةِ الفذِّ بمصافةِ أنسٍ لليتيم، ذكره الترمذي في ((جامعه)) ، ثُمَّ ردَّهُ. بأنهُ لو كانَ الصبيُّ لا صلاةَ لَهُ لأقام أنساً عَن يمينه.

ويحتمل - أيضاً - أن يكون أنسٌ حينئذٍ كانَ صبياً لم يبلغِ الحلمَ، أو أن الذِي صلى معه كانَ بالغاً، وسمى يتيماً تعريفاً لَهُ بما كانَ عليهِ، كَما يُقال: أبو الأسودِ يتيمٌ عروةَ.

وأكثر العلماء على أن الرجل يصحُّ أن يصافَّ

ص: 291

الصبيَّ، وَهوَ قولُ الثوريِّ.

وقالَ الأوزاعي: إن كانَ الصبِّيان ممن نَبتَ صفَ الرجلُ والصبيان خلف الإمام، وإن كانَ ممن لا نبت قامَ الرجلُ عَن يمين إمامهِ.

وقال حرب: سألت إسحاق عَن رجلٍ صلَّى وحضره رجلٌ وغلامٌ ابنُ ستِّ سنينَ، كيف يقيمهما؟ قالَ: يقيمهما خلفه: قلت يُقيمهما جميعاً عَن يمينه؟ فلم يرخص فيهِ، وذكر حديث أنسٍ: صليت أنا ويتيمٌ لنا خلفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وقد تقدم عَن الحسن، أن مِن صلَّى معه رجلٌ وامرأةٌ قام الرجل خلفه والمرأةُ خلفهما.

وَهوَ مخالفٌ لرواية موسى بنِ أنسٍ وثابتٍ، عَن أنسٍ.

وجمهورُ أهلِ العلم على أنَّ الرجل يقوم عَن يمين الإمام، والمرأة خلفه، فعلى قول الحسن إذا كانَ معَ الرجل صبيٌّ، فلا إشكال عنده في مصافة الرجل.

واستدل - أيضاً - بحديث أنسٍ هَذا على أنَّ الصبي يقوم في صفِّ الرجال مِن غير كراهةٍ، قَد رُويت كراهته عن عمر بنِ الخطاب وأُبي بنِ كعبٍ، وكانا يُخرجان الصبيان مِن صفوف الرجال، وَهوَ قولُ الثوري وأحمد.

وأجاب أحمد عَن حديث أنسٍ هَذا في إقامةِ اليتيم معَ أنسٍ، بأنَّهُ كانَ في التطوع.

ص: 292

ويُجاب عَنهُ - أيضاً - بأنَّ الكراهة إنما هي حيث كانَ هناك رجالٌ يملئون

الصفَّ، فيمنع الصبيُّ، ويخرج منهُ ليقوم مقامه رجلٌ، فَهوَ أولى بالصفِّ منهُ، فأما في حديث أنسٍ، فإنما هوَ ويتيمٌ واحدٌ في بيت، فلم يكن مقام اليتيم مانعاً للرجالِ مِن الصلاةِ في الصفِّ مكانه.

وعلى تقدير أن يكون أنسٌ صبياً إذ ذاكَ لَم يبلغِ الحلمَ، فَقد كانا جميعاُ صبيين. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 293

‌79 - باب

مَيْمَنَةَ المَسْجِدِ واَلإِمامِ

ص: 294

728 -

حدثنا موسى: ثنا ثابتُ بنِ يزيدَ: ثنا عَاصِمٌ، عَن الشعبي، عَن ابن عبَّاسٍ، قالَ قُمتُ ليلةً أُصلِّي عَن يَسارِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأخذَِ بيدي - أو بعضُدي - حَتَّى أقامَني عَن يمينهِ، وقَالَ بيدهِ مِن ورائِي.

مرادُ البخاري بهذا الحديث في هَذا الباب: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حوَّل ابن عباس مِن عَن يساره إلى يمينه دلَّ على أن موقف المأمومِ عَن يمين الإمام، وأن جهةَ اليمين أشرفُ وأفضل فلذلك يكون موقفُ المأمومِ الواحدِ منها، فيُستدلُ بذلك على أن جهةَ يمين الإمام للمأمومين الذين يقومون خلف الإمام أشرف وأفضلُ مِن جهة يساره.

وقد ورد في هَذا أحاديثٌ مصرحةٌ بذلك:

فخرج ابن ماجه مِن رواية أسامةَ بنِ زيدٍ، عَن عثمان بنِ عروةَ، عَن عروةَ، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:((إنَّ الله وملائكتَه يصلُّون على ميامنِ الصفُوفِ)) .

خرجه مِن رواية معاوية بنِ هشام، عَن سفيان، عَن اسامة، بهِ.

وذكر البيهقي: أنه تفرد به معاوية، عن سفيان. قالَ: ولا أراه محفوظاً، وإنما المحفوظ بهذا الإسناد: ((إن الله وملائكته يصلُّون على

ص: 294

الذين يصلون الصفوف)) .

وخرج النسائيُّ وابن ماجه مِن حديث ثابت بنِ عبيدٍ، عَن ابن البراء بنِ عازب، عَن البراء، قالَ: كنَّا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم مما نحب - أو أحبُّ - أن نقوم عَن

يمينه.

وخرج ابن ماجه مِن رواية ليث بنِ أبي سُليمٍ، عَن نافعٍ، عَن ابن عمرَ قالَ: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن ميسرةَ المسجد تعطلت. فقالت النبي صلى الله عليه وسلم: ((مِن عمَّر ميسرة المسجد كتب لَهُ كفلان مِن الأجر)) .

وخرج البيهقي بإسناد فيهِ جهالةٌ، عَن أبي برزة، قالَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن استطعت أن تكون خلف الإمام، وإلا فعن يمينه)) . وقال: هكذا كانَ أبو بكر وعمرُ خلف النبي صلى الله عليه وسلم.

وخرجه الطبراني - أيضاً - وخرج الطبراني والعقيلي وابن عدي مِن حديث ابن عباس مرفوعاً في فضل الوقوف بإزاء الإمام.

وخرجه أبو بكر بن أبي داود - أيضاً - من حديث أنس مرفوعاً.

وكلا الإسسنادين لا يصح.

ص: 295

وروي مرسلاً؛ رواه هشيمٌ، عَن داود بنِ أبي هندٍ أرسله إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى وكيع في ((كتابه)) عَن إسرائيل، عَن الحجاج بنِ دينار، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:((فضل أهل ميمنة المسجد على أهل المسجد بضعٌ وعشرون درجةً)) .

وعن سفيان، عَن ابن جريجٍ، عَن عطاء، عَن عبد الله بنِ عمرو، قالَ: أفضلُ المسجد ناحية المقام، ثُمَّ ميامنُه.

وعن الربيع، عَن الحسن، قالَ: أفضل الصفوف الصف المقدمُ، وأفضلهُ مما يلي الإمام.

وكأنه يريد: مقامَ الإمام. والله أعلم وأكثر العلماء على تفضيل ميمنة الصفوف وخلف الإمام.

وأنكره مالكٌ.

ففي ((تهذيب المدونَّةِ)) : ومن دخل المسجد وقد قامت الصفوفُ قامَ حيث شاءَ، إن شاء خلف الإمام، وإن شاء عَن يمينه أو عَن يساره. وتعجب مالك ممن قالَ: يمشي حتى يقف حذوَ الإمام.

ص: 296

‌80 - باب

إذا كانَ بينَ الإِمَامِ وَبَيْنَ القَوْمِ حَائِطٌ اَوْ سُتْرَةٌ

وقال الحسنُ: لا بأس أن تصلِّي وبينكَ وبينهُ نهر.

وقال أبو مجلزٍ: يأتمُّ بالإمامِ - وإنْ كانَ بينهما طَريقٌ أو جدارٌ - إذا سمعَ تكبيرَ الإمامِ.

مرادُ البخاري بهذا الباب: أنَّهُ يجوز اقتداء المأمومِ بالإمام، وإن كانَ بينهما طريق أو نهر، أو كانَ بينهما جدار يمنع المأموم مِن رؤية إمامه إذا سمع تكبيره.

فهاهنا مسألتان:

إحداهما:

إذا كانَ بين الإمام والمأموم طريق أو نهر، وقد حكى جوازه في صورة النهر عَن الحسن، وفي صورة الطريق عَن أبي مجلز.

وقال الأوزاعي في السفينتين، يأتم مِن في أحداهما بإمام الأخرى: الصلاة

جائزةٌ، وإن كانَ بينهما فرجةٌ، إذا كانَ أمام الأخرى - وبه قالَ الثوري: نقله ابن المنذر.

وروى الأثرم بإسناده، عَن هشام بن عروة، قالَ: رأيت أبي وحميد بنِ

عبد الرحمن يصليان الجمعة بصلاة الإمام في دار حميدٍ، وبينهما وبين المسجد جدارٌ.

وكره آخرون ذَلِكَ:

روى ليثُ بنُ أبي سليمٍ، عَن نعيم بنِ أبي هندٍ، قالَ: قالَ عمر بنِ الخطاب: مِن صلى وبينه وبين الإمام نهرٌ أو جدار أو

ص: 297

طريق لَم يصل معَ الإمام.

خرجه أبو بكر عبد العزيز بنِ جعفر في كِتابِ ((الشافي)) .

وكره أبو حنيفة وأحمد أن يصلي المأموم وبينه وبين إمامه طريقٌ لا تتصل فيهِ الصفوف، فإن فعل، فقالَ أبو حنيفة: لا تجرئه صلاته. وفيه عَن أحمد روايتان.

والنهر بصلاة الذِي تجري فيهِ السفن كالطريق عند أحمد. وعن أحمد جوازه.

واحتج بصلاة أنسٍ في غرفة يوم الجمعة.

فَمِن أصحابه مِن خصه بالجمعة عند الزحام. والأكثرون لَم يخصُّوه بالجمعة.

وكذلك مذهب إسحاق:

قالَ حربٌ: قلت لإسحاق: الرجل يصلي في داره، وبينه وبين المسجد طريقٌ يمرُّ فيهِ الناس؟ قالَ: لا يعجبني، ولم يرخِّص فيهِ. قلت: صلاتهُ جائزةٌ؟ قالَ: لو كانت جائزةً كنت لا أقول: لا يعجبني. قالَ: إلا أن يكون طريق يقوم فيهِ الناس، ويصفون فيهِ للصلاة. قلت: فإنَّا حين صلينا لَم يمرَّ فيهِ أحدٌ، فذهب إلى أن الصلاة جائزةٌ.

قلت لإسحاق: فرجل صلى وبين يديه نهرٌ يجري فيهِ الماء؟ قالَ: إن كانَ نهراً تجري فيهِ السفن فلا يصلِّ، وإن لَم يكن تجري فيهِ السفن فَهوَ أسهل.

وكره آخرون الصلاة خلف الإمام خارجَ المسجد:

روي عَن أبي هريرة وقيس بنِ عبادةَ، قالا: لا جمعة لمن لَم يصلِّ في المسجد.

ص: 298

ورخصت طائفةٌ في الصلاة في الرحاب المتصلة بالمسجد، منهم: النخعيُّ والشافعيُّ.

وكذلك قالَ مالك، وزاد: أنَّهُ يصلي فيما اتصل بالمسجد مِن غيره.

ذكر في ((الموطأِ)) عَن الثقة عنده، أن الناس كانوا يدخلون حُجَرَ أزواجِ النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، يصلُّون فيها الجمعة. قالَ: وكان المسجد يضيقُ على أهله.

وحجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليست مِن المسجد، ولكن أبوابها شارعةٌ في المسجد.

قالَ مالك: فَمِن صلى في شيء مِن المسجد أو في رحابه التي تليه، فإن ذَلِكَ مجزئٌ عَنهُ، ولم يزلْ ذَلِكَ مِن أمر الناس، لَم يعبه أحدٌ مِن أهل الفقه.

قالَ مالك: فأما دارٌ مغلقةٌ لا تدخل إلا بإذن، فإنه لا ينبغي لأحد أن يصلي فيها بصلاةِ الإمام يوم الجمعة، وإن قربُت، فإنها ليست مِن المسجد.

وفي ((تهذب المدونة)) . أن ضابطَ ذَلِكَ: أن ما يُستطرَقُ بغير إذن مِن الدور والحوانيت تجوز الصلاة فيهِ، وما لا يدخل إليهِ إلا بإذن لا يجوز، وأن سائر الصلوات في ذَلِكَ كالجمعة.

وروى الأثرمُ بإسناده، عَن محمد بن عمرو بنِ عطاءٍ، قالَ: صليت معَ ابن عباسٍ في حجرة ميمونةَ زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الإمام يوم الجمعة.

وبإسناده، عَن عطاء بنِ أبي ميمونة، قالَ كنت معَ أنسِ بنِ مالك يوم جمعة، فلم يستطع أن يزاحم على أبواب المسجد، فقالَ: اذهب إلى عبد ربِّه ابن مخارقٍ، فقل لَهُ: إن أبا حمزة يقول لك: أتأذن لنا أن نصلي

ص: 299

في دارك؟ فقالَ: نعم. فدخل فصلَّى بصلاة الإمام، والدار عَن يمين الإمام.

فهذا أنسٌ قَد صلى في دار لا تُدخل بغير إذن، وحجر أزواجِ النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدمها وإدخالها في المسجد لَم تكن تُدخل بغير إذنٍ - أيضاً.

وقد استدل أحمد بالمروي عَن أنس في هَذا في رواية حرب، ورخص في الصلاة في الدار خارج المسجد، وإن كانَ بينها وبين المسجد طريقٌ، ولم يشترط الإمام أحمد لذلك رؤية الإمام، ولا مِن خلفه، والظاهر: أنه اكتفى بسماعِ التكبير.

واشترط طائفة مِن أصحابه الرؤية. واشترط كثيرٌ مِن متقدميهم اتصال الصفوف في الطريق.

وشرطه الشَافِعي - أيضاً - قالَ في رواية الربيع فيمن كانَ في دار قرب المسجد، أو بعيداً منهُ: لَم يجز لَهُ أن يصلي فيها، إلا أن تتصل الصفوف بهِ، وَهوَ في أسفل

الدار، لا حائل بينه وبين الصفوف.

واستدلَّ بقول عائشة - مِن غير إسناد -، وتوقف في صحته عنها.

وذكره بإسناده في رواية الزعفراني، فقالَ: حدثنا إبراهيم بنِ محمد، عَن ليثٍ، عَن عطاء، عَن عائشة، أن نسوةً صلْين في حجرتها، فقالت: لا تصلِّين بصلاة الإمام؛ فإنكنَّ في حجابٍ.

وهذا إسناد ضعيفٌ، ولذلك توقف الشَافِعي في صحته.

المسألة الثانية:

إذا كانَ بين المأموم والإمام حائلٌ يمنع الرؤية، فَقد حكى البخاري عَن أبي مجلَزٍ أنه يجوز الاقتداء بهِ إذا سمع تكبير الإمام.

ص: 300

وأجازه أبو حنيفة وإسحاق. قالَ إسحاق: إذا سمع قراءته واقتدى بهِ.

وقد تقدم كلام الشافعي في منعه، واستدلاله بحديث عائشة. قالَ الشَافِعي: هَذا مخالف للمقصورة، المقصورة شيء مِن المسجد، فَهوَ وإن كانَ حائلاً بينه وبين ما وراءَها، فإنما هو كحول الأصطوانِ أو أقلَّ، وكحول صندوق المصاحف وما أشبهَهَ.

وحاصلُه: إن صلَّى في المسجد وراء الإمام لَم يشترط أن يرى فيهِ الإمام بخلاف مِن صلَّى خارج المسجد.

وحكى أصحابنا روايتين عَن أحمد فيمن صلَّى في المسجد بسماعِ التكبير، ولم يرَ الإمام ولا مَنْ خلفهُ: هل يصح اقتداؤهُ بهِ، أو لا؟

وحكوا روايةً ثالثةً: أنَّهُ يصحُّ اقتداؤه بهِ، سواء صلى معه في المسجد، أو صلى خارجاً مِن المسجد.

قالَ أحمد في رواية حنبلٍ: إذا صلَّى الرجلُ وَهوَ يسمع قراءة الإمام في دار أو في سطح بيته كانَ ذَلِكَ مجزئاً عَنهُ، وفي الرحبة.

قالَ أبو بكر عبد العزيز بنِ جعفر في كِتابِ ((الشافي)) : ذَلِكَ جائزٌ إذا اتصلت الصفوف، وعلم التكبير والركوع والسجود، وأن لا يكون الدار والسطح مقدم القبلة، ولا فوق الإمام؛ فإنهم لا يمكنهم الاقتداء بهِ ولا اتباعه، ولا يعرفون ركوعه ولا

سجوده، وكذلك في الرحاب والطرق تجوز الصلاة في ذَلِكَ إذا اتصلت الصفوف، ورأى بعضهم بعضاً، ولو أغلقت دونهم الأبواب، وارتفعت الشبابيك بينهم، أو كانَ عليها أبواب تُغلقُ، فلا يلحظون الصفوف، ولا يرى بعضُهم بعضاً - يعني: أنَّهُ لا يصح اقتداؤهم بالإمام - قالَ: وَهوَ مذهب أبي عبد الله. انتهى ما ذكره.

وَهوَ مبني على اشتراط الرؤية خارجَ المسجد، وفيه خلافٌ سبق

ص: 301

ذكره.

وحُكي عن أحمد رواية: أن الحائل المانع للرؤية، والطريق الذِي لا تتصل فيهِ الصفوف يمنع الاقتداء في الفرض دونَ النفل.

وحُكي عَنهُ: أنه لا يمنع في الجمعة في حال الحاجة إليهِ خاصةً.

وحُكي عَنهُ: إن كانَ الحائل حائِطَ المسجد لَم يمنع، وإلا منع.

وإن كانَ الحائل يمنع الاستطراق دونَ الرؤية لَم يمنع.

وفيه وجهٌ: يمنع، وحكاه بعضهم روايةً.

خرج البخاري في هَذا الباب ثلاثة أحاديث:

الحديث الأول:

ص: 302

729 -

حدثنا محمد: ثنا عبدةُ، عَن يحيى بنِ سعيد الأنصاريِّ، عَن عَمرةَ، عَن عائشة، قالت: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي مِن الليل في حجرته، وجدار الحجرة قَصير، فرأى الناس شَخْص النبي صلى الله عليه وسلم، فقام أُناسٌ يُصلونَ بصلاته، فأصبحوا فتحدثوا بذلك، فقام ليلته الثَّانية، فقام معه أُناسٌ يصلون بصلاته، صنعوا ذَلِكَ ليلتين - أو ثلاثاً -، حتى إذا كانَ بعد ذَلِكَ جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخرج، فلما أصبح ذكر ذَلِكَ الناس، فقالَ:

((إنِّي خَشيت أن تكتبُ عليكم صلاةُ الليلِ)) .

ص: 302

ليسَ في هَذهِ الرواية: دليل على جواز الائتمام مِن وراء جدارٍ يحول بين المأموم وبين رؤية إمامه؛ فإنَّ في هَذا التصريح بأن جدار الحجرة كانَ قصيراً، وأنهم كانوا يرونَ منهُ شخص النبي صلى الله عليه وسلم، ومثلُ هَذا الجدار لا يمنع الاقتداء.

لكن؛ روى هَذا الحديث هُشيمٌ، عَن يحيى بنِ سعيد، فاختصر الحديث، وقال فيهِ: صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم في حجرته، والناس يأتمون به مِن وراء الحجرة.

وهذا مختصر.

وقد أتم الحديث عبدة بنِ سليمان وعيسى بن يونس وغيرهما، عَن يحيى بنِ

سعيد، وذكروا فيهِ: أن جدار الحجرة قصير، وأن الناس كانوا يرون شخص النبي صلى الله عليه وسلم.

الحديث الثاني:

ص: 303

730 -

حدثنا إبراهيم بنِ المنذر: ثنا ابن أبي فديك: ثنا ابن أبي ذئبٍ، عَن المقبري، عَن أبي سلمة بنِ عبد الرحمن، عَن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ لَهُ حصيرٌ يبسطهُ بالنهار، ويحتجرهُ بالليلِ، فثاب إليهِ ناسٌ فصفوا وراءهُ.

معنى ((يحتجره)) - أي: يتخذه كالحجرة، فيقيمه ويصلي وراءه.

وهذا هوَ المراد بالحجرة المذكورة في الحديث الذي قبله، ليسَ المراد حجرة عائشة التي كانَ يسكن فيها هوَ وأهلهُ؛ فإنَّ حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كانت لها

ص: 303

جدرات تحجب مِن كانَ خارجاً منها أن يرى مِن في داخلها.

وقولها: ((فثاب عليهِ ناسٌ)) - أي: رجعوا، فكأنهم كانوا قد صلوا العشاء وانصرفوا من المسجد، فرجعوا إليه للصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم.

ورُوي: ((فآب)) وبذلك فسَّرهُ الخطابي، قالَ: معناه: جاءوا من كل أَوب، آب أوباً وإياباً. ومنه: آب المسافر، وهو: الرجوع.

الحديث الثالث:

قالَ:

ص: 304

731 -

حدثنا عبد الأعلى بن حماد: ثنا وهيبٌ، قالَ: ثنا موسى بن عقبة، عن سالم أبي

ص: 304

النضر، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن ثابت، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة - قالَ: حسبت أنه قالَ: من حصير - في رمضان، فصلى فيها ليالي، فصلى بصلاته ناس من أصحابه، فلما علم بهم جعل يقعد، فخرج إليهم، فقالَ:((قد عرفت الذي رأيتُ من صنيعكم، فصلوا أيها الناس في بيوتكم؛ فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة)) .

وخرَّجهُ - أيضاً - في ((الاعتصام)) من كتابه هذا من طريق عفان، عن وهيبٍ، به، وقال فيهِ: اتخذ حجرةً في المسجد من حصير - ولم يذكر فيهِ شكاً.

وخرجه - أيضاً - من رواية عبد الله بن سعيدٍ، عن سالم مولى ابي النضر، ولفظُ حديثه: احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة مخصفة - أو حصيراً -، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيها - وذكر الحديث.

وهذه الحجرة هي المذكورة في حديث عائشة المتقدم، وقد تبين أنها لم تكنْ تمنع رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لمن صلى وراءها خلفه.

وقد روى ابن لهيعة حديث زيد بن ثابت هذا، عن موسى بن عقبة، بهذا الإسناد، وذكر: أن موسى كتب به إليه، واختصر الحديث وصحفهُ، فقالَ: ((احتجم

رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد)) . فقيل لابن لهيعة: مسجد بيتهِ؟ قالَ: لا، مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد خرج حديثه هذا الإمام احمد.

وقوله: ((احتجم)) غلطٌ فاحش؛ وإنما هوَ: ((احتجر)) - أي: اتخذ حجرةً.

وهذا آخرُ ((أبواب: الإمامةِ)) ، وبعدها ((أبواب: صفة الصلاة)) .

ص: 305

‌82 - باب

إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة

فيهِ ثلاثةُ أحاديث:

ص: 306

732 -

حدثنا أبو اليمان: أنا شعيب، عن الزهري، قالَ: أخبرني أنس بن

مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرساً فجحشَ شقهُ الأيمن. قالَ أنس: فصلى لنا يومئذ صلاةً من الصلوات وهو قاعدٌ، فصلينا وراءه قعوداً، ثم قالَ لما سلمَ:((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفعَ فارفعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا قالَ: سمع الله لمن حمدهُ، فقولوا: ربنا ولك الحمدُ)) .

ص: 306

733 – حدثنا قُتيبةُ: ثنا الليث، عن ابن شهابٍ، عن أنس بن مالك، قالَ: خرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرس فجحشَ، فصلى لنا قاعداً، فصلينا معه قعوداً، ثم انصرف، فقالَ:((إنما الإمام)) – أو ((إنما جعلَ الإمام – ليؤتم به، فإذا كبَّر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قالَ: سمع الله لمن حمدهْ، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا)) .

ص: 306

734 – حدثنا أبو اليمان: أنا شعيب: حدثني أبو الزناد، عن الأعرج،

ص: 306

عن أبي هريرة، قالَ: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قالَ: سمع الله لمن حمدهْ، فقولوا: ربنا ولك الحمدُ، وإذا سجد

فاسجدوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعونَ)) .

حديث أنسٍ، ساقه من طريقين:

من طريق شعيب، عن الزهري، وفيه: التصريح بسماع الزهري لهُ من أنسٍ.

ومن طريق الليث، عن الزهري، وليس فيهِ ذَلِكَ.

وقد تقدم من حديث مالكٍ، عن الزهري كذلك.

وليس في حديث مالك ولا شعيب ذكر التكبير، وهو في حديث الليث وحده.

وقد خرجه مسلم بهذه الزيادة من طريق ابن عيينة وغيرهِ، عن الزهري.

وخرجه البخاري بها – أيضاً – فيما تقدم من طريق حميدٍ، عن أنس.

وخرجه هاهنا من حديث أبي هريرة - أيضاً.

وهذه اللفظة، هي مقصودهُ من هذه الأحاديث في هذا الباب؛ فإن

ص: 307

النبي صلى الله عليه وسلم أمر من يصلي خلف الإمام أن يكبر إذا كبر الإمام، فدل على أن التكبير واجب على المأموم، فدخل في ذَلِكَ تكبيرة الإحرام وغيرها – أيضاً – من التكبير.

ويأتي الكلام في التكبير غير تكبيره الإحرام في غير هذا الموضع – إن شاء الله

تعالى -، وإنما المقصود هنا: تكبيرة الإحرام.

وقوله: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به)) قد فسرهُ بمتابعة الإمام في أقواله وأفعاله.

وقد أدخل طائفةٌ من العلماء متابعته في نيته، وقد سبق القول في ذَلِكَ.

وأدخل بعضهم – أيضاً – متابعته في ترك بعض أفعال الصلاة المسنونة، كرفع اليدين، فقالَ: لا يرفع المأموم يديه إلا إذا رفع الإمام، وهو قول أبي بكر بن أبي شيبة.

والجمهور على خلاف ذَلِكَ، وأن المأموم يتابع إمامه فيما يفعلهُ، ويفعل ما تركه من السنن عمداً أو سهواً، كرفع اليدين والاستفتاح والتعوذ والتسمية وغير ذلك، فيما لا يفعله بعض الأئمة معتقداً لهُ، فكل هذا يفعله المأموم، ولا يقتدي بإمامه في تركه.

ومما يدخل في ائتمام المأموم بإمامه: أنه لا يتخلف عنه تخلفاً كثيراً، بل تكون أفعال المأموم عقب أفعال إمامه، حتى السلام.

وقد نص أحمد على أن الإمام إذا سلم وقد بقي على المأموم شيء من الدعاء، فإنه يسلم معه، إلا أن يكون بقي عليه شيء يسير، فيأتي به ويسلم واستدل بقولِهِ:((إنما الإمام ليؤتم به)) .

وقوله: ((فإذا كبر فكبروا)) يدل على أن المأموم لا يكبر إلا بعد تكبير

ص: 308

الإمام عقيبه، وقد سبق الكلام على هذه المسألة مستوفىً.

وكان ذكرَ حديث أبي هريرة في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم المسيء في صلاته – وقوله: ((إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة وكبر)) . وذكر الحديث – وقد خرجه البخاري في موضع آخر – أولى من ذكر: ((إذا كبر فكبروا)) ؛ فإن هذا الحديث إنما فيهِ أمر المأموم بالتكبير، وأما تكبير الإمام فليس فيهِ الأمر به، بل فيهِ ما يشعر بأنه لا بد من فعله كركرعه وسجوده.

وحينئذٍ؛ فيستدل بحديث أنس على أنه لا بدَّ للإمام من التسميع، وأن المأموم مأمور بالتحميد عقيب تسميعه.

وأما حديث تعليم المسيء، ففيه تصريح بالأمر لكل قائم إلى الصلاة أن يكبر، وسواء كانَ إماماً أو مأموماً أو منفرداً.

وأما حديث: ((مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)) فليس هوَ من شرط البخاري، مع تعدد طرقه.

وكذلك حديث عائشة: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير.

خرجه مسلم من طريق حسين المعلم، عن بديل بن ميسرة، عن أبي الجوزاء، عن عائشة.

ص: 309

وخالفه حماد بن زيد، فرواه عن بديل، عن عبد الله بم شقيق، عن عائشة.

ومقصود البخاري: أن الصلاة لا تفتتح إلا بالتكبير، ولا تنعقد بدونه.

وقد روي عن ابن مسعودٍ وابن عباسٍ والشعبي، قالوا: تحريم الصلاة التكبير.

وروي عن ابن المسيب وبكير بن الأشج والنخعي فيمن نسي تكبيرة الاستفتاح: يستأنف الصلاة.

وهو قول الثوري وابن المبارك ومالك والشافعي واحمد وإسحاق وغيرهم.

ص: 310

وقال الحكم وأبو حنيفة وعامةُ أصحابه: تنعقد الصلاة بكل لفظ من ألفاظ الذكر، كالتهليل والتسبيح.

وعن النخعي، قالَ: يجزئه، ويسجد للسهو.

وعن الشعبي، قالَ: بأي أسماء الله تعالى افتتحت الصلاة أجزأكَ.

وفي الإسناد إليه مجهولٌ.

خرجه ابن أبي شيبة في ((كتابه)) .

وهو رواية عن الثوري، رواها عنه النعمان بن عبد السلام.

وحكى ابن المنذر، عن الزهري، أن الصلاة تنعقد بمجرد النية، ولا تحتاج إلى لفظ بالكلية.

قلت: وروي نحوه – أيضاً – عن عطاء:

قالَ عبد الرزاق: عن ابن جريجٍ، قلت لعطاء: أقيمت الصلاة وأنا مع الناس، فكبر الإمام ورفع من الركعة، ولم أكبر في ذَلِكَ؟ قالَ: إن كنت قد اعتدلت في الصف فاعتدَّ بها، وإن كنت لم تزل تتحدث حتى ركعَ ورفع رأسه من الركعة فكبر ثم اركعْ واعتدَّ بها وإن كنت لم تعتدل في الصف فلا.

وعن ابن جريج، عن عطاء، في رجل دخل المسجد والإمام ساجد، أو حين رفع رأسه من الركعة أو السجدة، أو جالساً يتشهد: يكبر تكبيرة استفتاح الصلاة؟ قالَ: إن شاء فليكبر، وإن شاء فلا يكبر، ولكن إذا قام وقد قام الإمام فليكبر ويستفتح.

ص: 311

وروى – أيضاً – عن معمر، عن قتادة، في رجل انتهى إلى قوم وهم جلوس في آخر صلاتهم؟ قالَ: يجلس معهم، ولا يكبر.

ولعله أراد: أنه يكتفي بتكبيره إذا قام إلى القضاء، فلا يكونُ قبل ذَلِكَ قد دخل في الصلاة

وقريبٌ من هذا: أنه قد روي عن طائفة من السلف، أن من نسى تكبيرة الافتتاح في الصلاة، فإنه تجزئه تكبيرة الركوع، روي هذا عن سعيد بن المسيب والحسن والزهري وقتادة والحكم والأوزاعي، وهو رواية عن حماد بن أبي سليمان، حكاه ابن المنذر وغيره.

وروي عن الزهري، أنه قالَ: يسجد للسهو إذا سها.

وهذا يحتاج إلى تحقيق ونظر في مأخذ ذَلِكَ.

وظاهر ما حكاه ابن المنذر عن هؤلاء: أنهم رأوا تكبيرة الركوع تقوم مقام تكبيرة الافتتاح في انعقاد الصلاة بها، وهو ظاهر كلامهم – أيضاً -، حيث قالوا تجزئة تكبيرة الركوع، وتنعقد بها الصلاة. وقال بكر المزني: يكبر إذا ذكر.

وظاهر كلامهم: أنه عامٌ في حق الإمام والمأموم والمنفرد، وقد روي عن الحكم صريحاً في الإمام، فأما في حق الإمام والمنفرد، فيحتمل وجهين:

أحدهما: أن تكون الصلاة انعقدت بمجرد النية، كما روي عن

ص: 312

الزهري.

والثاني: أن تكون الصلاة إنما انعقدت بتكبيرة الركوع، وتكون القراءةُ ساقطةً عنهما في هذه الركعة، بناء على أن القراءة لا تجب في جميع الركعات وهذا هوَ الذي يتبادر فهمهُ من كلامهم.

وهو قول سفيان الثوري، ذكره أصحابه في كتبهم، لكنه يشترط: أن ينوي بتكبيرته عندَ الركوع تكبيرة الإحرام، كما سيأتي قوله في ذَلِكَ.

وأما قول بكر المزني: ((يكبر إذا ذكر)) ، فإن أراد ما يركع، فهوَ يرجع إلى ما ذكرنا، وإن كانَ مراده أعمَّ من ذَلِكَ، فلا يرجع إلا إلى أنَّ الصلاة يدخل فيهِا بمجرد النيةِ – أيضاً – إلا أن يكون أراد أنه يكبر متى ذكر، ويستأنف الصلاة من حينئذ.

وأما في حق المأموم، فقد وافق من تقدم ذكرهُ على قولهم يجزئه تكبيرة الركوع، مالك وأحمد – في رواية عنهما.

فذكر مالك في ((الموطأ)) في الإمام والمنفرد أنهما إذا نسيا تكبيرة الإحرام يبتدئان الصلاة. وفي المأموم نسي تكبيرة الإحرام وكبر للركوع: رأيت ذَلِكَ مجزئاً عنه.

قالَ ابن عبد البر: قالَ الزهري والأوزاعي وطائفةٌ: تكبيرة الإحرام يبتدئان الصلاة. وفي المأموم إذا نسي تكبيرة الإحرام وكبر للركوع: رأيت ذَلِكَ مجزئاً عنه.

قالَ ابن عبد البر: قالَ الزهري والأوزاعي وطائفة: تكبيرة الإحرام ليست بواجبة.

وقد روي عن مالك في المأموم ما يدل على هذا القول، ولم يختلف قوله في الإمام والمنفرد: أن تكبيرة الإحرام واجبة على كل واحدٍ منهما.

ص: 313

والصحيح من مذهبه: إيجاب تكبيرة الإحرام، وأنها فرضٌ ركنٌ من أركان الصلاة.

قلت: يمكن أن يحمل ما نقل عن السلف، أو عن بعضهم في المأموم خاصةً، وكذلك حكاه عنهم ابن عبد البر في المأموم خاصةً، وهذا أشبه وأظهر.

ويدل عليهِ: ما خرجه حربٌ بإسناده، عن خليد، عن الحسن وقتادة قالا: إن نسيت تكبيرة الاستفتاح وكبرت للركوع وأنت مع الإمام فقد مضت صلاتك.

وبإسناده، عن الوليد بن مسلم: قالَ أبو عمرو – يعني: الأوزاعي – فيمن نسي تكبيرة الاستفتاح: إن كانَ وحده استأنف الصلاة، وأن كانَ مع الإمام أجزأته تكبيرة الركوع، وكان كمن أدرك ركعة الإمام فكبر تكبيرة، وأمكن كفيه من ركبتيه، ورفع الإمام رأسه فقد أجزأتهُ تلك الركعة.

قالَ الوليد: فقلت لأبي عمرو: فإن نسي تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع؟ فأخبرني، أن ابن شهاب قالَ: يضيف إلى صلاته ركعةً، ولا يعتدُّ بتلك الركعة التي لم يكبِّر لها.

وقال أبو عمرٍو: وإذا كانَ وحده، فنسي الأولى والآخرة أعاد الصلاة وإذا كانَ مع الإمام أضاف إلى صلاته ركعةً أخرى.

فقد فرق الأوزاعي بين المنفرد والمأموم، وأما الزهري فلم يفرق.

والتفريق بينهما لهُ مأخذان:

ص: 314

أحدهما: أن الإمام يتحمل عن المأموم التكبير، كما يتحمل عنه القراءة، وقد صرح بهذا المأخذ الإمام أحمد.

قالَ حنبل: سألت أبا عبد الله عن قول: إذا سها المأموم عن تكبيرة الافتتاح وكبر للركوع رأيت ذَلِكَ مجزئاً عنه؟ فقالَ أبو عبد الله: يجزئه إن كانَ ساهياً؛ لأن صلاة الإمام لهُ صلاةٌ.

فصرح بالمأخذ، وهو تحملُ الإمام عنه تكبيرة الإحرام في حال السهو.

ذكر هذه الرواية أبو بكر عبد العزيز في ((كتاب الشافي)) ، وهذه رواية غريبة عن أحمد، لم يذكرها الأصحاب.

والمذهب عندهم: أنه لا يجزئه، كما لا يجزئ الإمام والمنفرد، وقد نقله غير واحد عن أحمد.

ونقل إسماعيل بن سعيد، عن أحمد فيمن ترك تكبيرة الافتتاح في الصلاة؟ قالَ: إن تركها عمداً لم تجزئه صلاته.

ومفهومه: أنه إن تركها سهواً أجزأته صلاته.

وينبغي حمل ذَلِكَ على المأموم خاصةً، كما نقله حنبل.

وهذا المأخذ هوَ مأخذ من فرق بين الإمام والمأموم والمنفرد، كالأوزاعي؛ ولهذا طرد قوله في المأموم ينسى تكبيرة الافتتاح مع تكبيرة الركوع، وقال: إن صلاته جائزة، ويقضي ركعةً.

ولو كانَ مأخذه: أن

ص: 315

صلاته انعقدت بالتكبيرة في الركعة الثانية، لم يكن بين الإمام والمأموم فرقٌ.

وهو – أيضاً – مأخذ مالك وأصحابه:

وفي ((تهذيب المدونة)) : وإن ذكر مأموم أنه نسي تكبيرة الإحرام، فإن كانَ كبر للركوع ونوى بها تكبيرة الإحرام أجزأه، فإن كبرها ولم ينو بها ذَلِكَ تمادى مع الإمام، وأعاد صلاته احتياطاً؛ لأنه لا يجزئه عندَ ربيعة، ويجزئه عندَ ابن المسيب، وإن لَم يكبر للركوع ولا للافتتاح حتى ركع الإمام ركعةً ركعها معه، وابتدأ التكبير، وكان الآن داخلاً في الصلاة، ويقضي ركعةً بعد سلام الإمام، ولو كانَ وحده ابتدأ متى ذكر، قبل ركعةً أو بعد ركعةٍ، نوى بتكبيره الركوع الإحرام أم لا، وكذلك الإمام لا يجزئه إن نوى بتكبيرة الإحرام الركوع، فأن فعل أعاد هوَ ومن خلفه. انتهى.

وهذا التفريق، إنما هوَ لتحمل الإمام القراءة.

وما ذكر مِن أن المسبوق إن لَم ينو بتكبيرته عند الركوع الإحرام يتمادى معَ

الإمام، ويعيد صلاته احتياطاً، مخالف لما نص عليهِ مالك في ((الموطأ)) : أنَّهُ تجزئه صلاته إذا سها عَن تكبيرة الافتتاح.

ولكن في بعض رواية ((الموطأ)) عَن مالك، أنه اشترط في هَذا الموضع: نية الافتتاح - أيضاً.

وذكر ابن عبد البر: أن أصحاب مالك اضطربوا في هَذهِ المسألة اضطراباً عظيماً، ونقضوا أصلهم في وجوب تكبيرة الإحرام في حق المأموم؛ لأجل الاختلاف فيهِ.

وقد قالَ مالك في ((الموطأ)) : إن المأموم إذا نسي تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع وكبرَّ في الثانية، أنَّهُ يبتدئ صلاته أحبُّ إليَّ.

ص: 316

فظاهر هَذا: أنه لَم يوجب عليهِ الإعادة للاختلاف في تحمل الإمام عَنهُ التكبير، وهذا يدل على أنه رأى الاختلاف في حق المأموم خاصةً؛ فإنه قالَ في المنفرد: يعيد صلاته جزماً.

والمأخذ الثاني: وقد بنى ما روى عَن السلف عليهِ طائفة مِن العلماء، مِنهُم: عباس العنبري، وَهوَ: أن المأموم إذا أدرك الإمام في الركوع فكبر تكبيرة واحدةً، فإنه تجزئهُ وتنعقد صلاته عند جمهور العلماء، وفيه خلاف عَن ابن سيرين وحماد بنِ أبي سليمان.

وحكاه بعض أصحابنا روايةً عَن أحمد أنه لا يصح حتى يكبر تكبيرتين، ولا يصح هَذا عَن أحمد.

فعلى قول الجمهور: إذا كبر تكبيرةً واحدةً، فله أربعةُ أحوال:

إحداها: أن ينوي بها تكبيرة الافتتاح، فتجزئه صلاته بغير توقف.

الحالة الثانية: أن ينوي تكبيرة الركوع خاصةً، فلا تجزئه عند الأكثرين -: قاله الثوري ومالك.

ونص عليهِ أحمد في رواية أبي الحارث، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ: ((تحريمها

التكبير)) . وهذا لَم يحرم بالصلاة.

فإن كانَ ساهياً عَن تكبيرة الإحرام، فقالَ مالك في ((الموطأ)) : تجزئه.

وَهوَ رواية حنبل عَن أحمد.

ولا تجزئه عند الثوري، وَهوَ المشهور عَن أحمد ومذهب الأكثرين.

ص: 317

الحالة الثالثة: أن ينويهما معاً، ففيه قولان:

أحدهما: تجزئه، حكي عَن أبي حنيفة ومالك وأبي ثور، وحكي رواية عَن أحمد، اختارها ابن شاقلا.

والثاني: لا تجزئه، وَهوَ المشهور عند أصحابنا، وقول الشَافِعي وإسحاق.

الحالة الرابعة: أن لا ينوي شيئاً، بل يطلق النية، فهل تجزئه، أم لا؟ في قولان.

أحدهما: لا تجزئه حتى ينوي بها الافتتاح؛ فإنه قَد اجتمع في هَذا المحل تكبيرتان؛ إحداهما فرض، فاحتاج الفرض إلى تمييزه بالنية، بخلاف تكبير الإمام أو المنفرد أو المأموم إذا أدرك الإمام قبل الركوع، فإنه لَم يجتمع في حقه تكبيرتان في وقت واحدٍ.

وهذا القول حكي عَن أبي حنيفة، وَهوَ قول الثوري ومالك وإسحاق، ونقله ابن منصور وغير واحدٍ عَن أحمد.

وقاله أبو بكر عبد العزيز بنِ جعفر مِن أصحابنا في ((كتب الشافي)) والقاضي أبو يعلى في ((جامعه الكبير)) ، وجعله المذهب روايةً واحدةً، وتأول ما خالف ذَلِكَ عَن أحمد.

والثاني: تجزئه وإن أطلق النية -: نقله ابن منصور - أيضاً - عَن أحمد، ونقله

- أيضاً - صالح ومهنا وأبو طالب عَن أحمد.

وقال: ما علمنا أحداً قالَ: ينوي بها الافتتاح.

يشير إلى الصحابة والتابعين.

وعلل: بأنَّهُ خرج مِن بيته وَهوَ يريد الصلاة.

يشير إلى أن نية الصلاة موجودة معه؛ بخروجه إلى الصلاة، فلا يكبر للصلاة إلا بتلك النية، ولا يكبر للركوع إلا مِن دخل في الصلاة ن فأما مِن لَم يكن دخل فيها فإنما يكبر لدخوله في

ص: 318

الصلاة أولاً، ولا يضره عدم استحضاره لهذه النية عند التكبيرة؛ لأن تقديم النية على التكبير بالزمن اليسير جائزٌ عنده.

وللشافعي قولان في هَذهِ المسألة.

وقد يجاب عَن قول مِن قالَ: إنه قَد اجتمع في حقه تكبيرتان بأنهما لَم تجتمعا عليهِ؛ فإن تكبيرة الافتتاح محلها القيام، وتكبيرة الركوع محلها الانحناء للركوع، فلم تجتمعا في محل واحد.

وهذا بناءً على أنه لا تنعقد صلاة مدرك الركوع، إلا بالتكبير قائماً، وَهوَ قول الشَافِعي وإسحاق وأصحابنا.

وحكى صاحب ((شرحِ المهذب)) أنه رواية عَن مالك. قالَ: والمشهور عَنهُ: أنه تنعقد صلاته إذا كبر وَهوَ مسبوق في حال الركوع. قالَ: وَهوَ نصه في ((المدونة)) و ((الموطأ)) .

قلت: هَذا مقتضى الرواية عَن مالك في المأموم إذا نسي تكبيرة الافتتاح وكبر للركوع: أنه تجزئه، كذا رواه القعنبي وغيره عَن مالك.

ورواه يحيى بنِ يحيى، عَن مالك بشرط أن ينوي بها الافتتاح.

فينبغي على هَذا: أن لا يأتي بها إلا قائماً.

أو مقتضى قول مِن قالَ: تجزئه تكبيرة الركوع عَن تكبيرة الإحرام: أنه تنعقد الصلا بالتكبير في حال الركوع؛ لأن تكبيرة الركوع إنما تكون في حال الانحناء

للركوع.

وقد روى عبد الرزاق في ((كتابه)) عَن ابن جريج، قالَ: أخبرت عَن ابن مسعود، أنه كانَ يقول: إذا وجدت الإمام والناس جلوساً في آخر الصلاة فكبر قائماً، ثم اجلس وكبر حين تجلس، فتلك تكبيرتان: الأولى وأنت قائم

ص: 319

لاستفتاح الصلاة، الأخرى حين تجلس؛ كأنها للسجدة.

وهذا منقطع.

وهذا التفسير كأنه مِن قول ابن جريج.

وروى وكيع، عَن إبراهيم بن إسماعيل بنِ مجمع، عَن الزهري، عن عروة وزيد بنِ ثابت، أنهما كانا يجيئان والامام راكع، فيكبران تكبيرة الافتتاح، لافتتاح الصلاة وللركعة.

إبراهيم هَذا، فيهِ مقال.

وقد رواه معمر وإبراهيم بنِ سعد وابن أبي ذئب، عَن الزهري، عَن ابن عمر وزيد بنِ ثابت، قالا: تجزئه تكبيرة واحدةٌ.

وروي عَن معمر، عَز الزهري، سالم، عَن ابن عمر وزيد.

فيصير إسناده متصلاً.

وليس في رواية أحدٍ مِنهُم يكبر للافتتاح،، وهذا أصح - إن شاء الله تعالى.

ص: 320

‌83 - باب

رَفعِ اليدَينِ في التَّكبيرَةِ الأُولَى معَ الاِفْتِتَاحِ سَواءً

ص: 321

735 -

حدثنا عبد الله بنِ مسلمة، عَن مالك، عَن ابن شهاب، عَن سالم بنِ

عبد الله، عَن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ يرفع حَذو منكبيه إذا افتتحَ الصلاة وإذا كبر للركوع، واذا رفعَ رأسه مِن الركوع رفعهما كذلك أيضاً، وقالَ:((سمع الله لمن حمدهُ، ربنا ولك الحمد)) ، وكان لا يفعل ذَلِكَ في السجود.

مقصود بهذا الحديث في هَذا الباب مسألتان

إحداهما:

أن رفع اليدين عند افتتاح الصلاة مشروع، وهذا كالمجمع عليهِ.

قالَ ابن المنذر: لَم يختلف أهلُ العلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ يرفع يديه إذا افتتح الصلاة.

وحكى بعضهم رواية عَن مالك، أنه لا يرفع يديه في الصلاة بحالٍ -: ذكره ابن عبد البر وغيره.

ولعل ذَلِكَ لا يصح عَن مالك، وحديثه هَذا مجمع على صحته لا مطعن لأحد فيهِ.

والرفع في افتتاح الصلاة سنةٌ مسنونة، وليس بركنٍ ولا فرض عند

ص: 321

جمهور العلماء، ولا تبطل الصلاة بتركهِ عند أحد مِنهُم.

وحكي عَن الحميدي وداود وأحمد بنِ يسار مِن الشافعية: أنه تبطل الصلاة بتركه.

وروي عن علي بنِ المديني ما يشبهه، وأن الرفع واجب، لا يحل تركه.

ونقل حرب، عَن إسحاق ما يدل على بطلان الصلاة بترك الرفع عند تكبيرة الإحرام، وأنه واجب.

وَهوَ قول أبي بكر بنِ أبي شيبة والجوزجاني.

وقال ابن خزيمة: هوَ ركن مِن أركان الصلاة، حكاه الحاكم في ((تاريخ

نيسابور)) عَن خاله أبي علي المؤذن - وأثنى عليهِ -، أنَّهُ سمع ابن خزيمة يقوله.

وحكاه ابن بد البر روايةً عَن الأوزاعي؛ لقوله فيمن ترك الرفع: نقصت صلاته.

وهذا لا يدل؛ فإن مراده: لَم يتم سننها، كَما قالَ ابن سيرين: الرفع مِن تمام الصلاة.

ونص أحمد على أن مِن ترك الرفع نقصت صلاته.

وفي تسميته: ((مِن تمام الصلاة)) ، عَنهُ روايتان.

ولا خلاف أنَّهُ لا يبطل تركه عمداً ولا سهواً.

وتوقف إسحاق بنِ راهوية في تسميته: ((ناقص الصلاة)) ، وقال: لا أقول سفيان الثوري ناقص الصلاة.

واستدل الأكثرون على أنَّهُ غير واجب، بأن النبي صلى الله عليه وسلم لَم يعلمه المسيء

ص: 322

في صلاته، كَما علمه التكبير لافتتاح الصلاة، ولو كانَ حكم الرفع حكم التكبير لعلمه إياه معه.

وقد روى الوليد بنِ مسلم، عَن الأوزاعي: حدثني إسحاق بنِ عبد الله بنِ أبي طلحة، قالَ: بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلٍ يسيء في صلاته، فقالَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((أحسن صلاتك)) ، وأمره برفع يديه عند تكبيرة الاستفتاح للصلاة، وبالقراءة، وبرفع يديه إذا كبر للركوع، وبرفع يديه عند تكبيرة السجدة التي بعد الركوع.

خرجه ابن جوصا في ((مسند الأوزاعي)) .

وَهوَ مرسل.

ورواه جماعةٌ عَن الوليد، عَن الأوزاعي، عَن إسحاق، عَن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يفعل ذلك في صلاته.

وَهوَ أصح.

وفي رواية: أن الوليد لَم يسمعه مِن الأوزاعي.

والوليد مدلس عَن غير الثقات، وقد استنكر الإمام أحمد حديثه هَذا.

المسألة الثانية:

أن الرفع يكون معَ التكبير سواءً؛ ولهذا بوبَ عليهِ: ((رفع اليدين في التكبيرة الأولى معَ الافتتاح سواءً)) .

ومراده بالافتتاح: التكبيرة نفسها؛ فإن هَذهِ التكبيرة هي افتتاح الصلاة، كَما في حديث عائشة: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير.

ص: 323

فالصلاة لها مفتاح، وَهوَ الطهور، كَما في حديث علي وأبي سعيد مرفوعاً:

((مفتاح الصلاة الطهور)) . ولها افتتاح، وَهوَ التكبير ، ولها استفتاح، وَهوَ ما يقوله بين التكبير والقراءة مِن الذكر والدعاء.

وممن ذهب إلى أن رفع اليدين معَ تكبيرة الإحرام سواء، فيبدأُ بهِ معَ ابتدائها، وينتهي معَ انتهائها: الإمام أحمد وعلي بنِ المديني، ونص عليهِ الشَافِعي في ((الأم)) ، قالَ: يرفع يديه معَ افتتاح التكبيرة، ويرد يديه عَن الرفع معَ انقضائه، ويثبت يديه

مرفوعتين حتى يفرغ مِن التكبير كله. وقال: إن أثبت يديه بعد انقضاء التكبير قليلاً لَم يضره، ولا آمره بهِ.

ومن أصحابه مِن قالَ: يرفع يديه ابتداء التكبير، ولا استحباب في انتهائه.

ومنهم مِن قالَ: يرفعهما قبل التكبير، ثُمَّ يرسلهما بعد فراغه مِن التكبير.

وقال إسحاق: إن رفع يديه معَ التكبير أجزأهُ، وأحب إلينا أن يرفع يديه، ثُمَّ يكبر.

وحكاه بعض أصحابنا روايةً عَن أحمد.

ومن أصحابنا مِن قالَ: يخير بين الرفع معَ التكبير وقبله، وهما سواء في الفضيلة وقد استدل البخاري لقوله بحديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يرفع يديه إذا افتتح الصلاة.

يعني: إذا كبر للافتتاح.

وقد خرجه فيما بعد، ولفظهُ: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم افتتح التكبير في

ص: 324

الصلاة، فرفع يديه حين يكبر - وذكر الحديث.

وفي رواية لمسلم مِن طريق ابن جريج ويونس وعقيل، كلهم عَن الزهري بهذا الإسناد، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ إذا قام للصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه، ثُمَّ كبر.

وروى الإمام أحمد، عن سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، قالَ: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع التكبير معا.

قالَ الدارقطني في ((العلل)) : رواه يونس وعقيل وابن أخي الزهري والنعمان ابن راشد والزبيدي، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يرفع يديه، ثم يكبر.

رواه شعيب بن أبي حمزة وإبراهيم ابن أبي عبلة وابن جريج وفليح وهشيم وإسماعيل بن علية وابن عيينة، عن الزهري، وقالوا: يرفع يديه حين يكبر.

وخرج أبو داود من حديث وائل بن حجر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه رفع يديه ثم كبر.

وخرج - أيضا - من حديث وائل بن حجر، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع التكبيرة.

وروى حرب الكرماني: ثنا محمد بن الوزير: ثنا الوليد بن مسلم، قالَ: قالَ أبو عمرو: أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن

ص: 325

أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم يرفعهما مع التكبير.

وقد تقدم ذكر علة هذا الحديث، وأنه روي مر سلا، وأن الوليد لم يسمعه من الأوزاعي، بل دلسه عنه.

وروى - أيضا - من طريق ابن إسحاق، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة، قالَ: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام إلى الصلاة قط إلا شهر بيديه إلى السماء قبل أن يكبر، ثم يكبر.

وقد حمل بعضهم هذا على أن هذا الرفع كانَ للدعاء قبل الصلاة.

وخرجه البيهقي، ولفظه: ما رأيت رسول صلى الله عليه وسلم قام في صلاة فريضة ولا تطوع إلا شهر يديه إلى السماء يدعوا، ثم يكبر.

وقد روي عن ابن عمر وغيره استحباب رفع رأسه ووجهه إلى السماء _ أيضا _ مع التكبير.

خرجه حرب بإسناده صحيح، عن ابن جريج، قالَ: سألت نافعا، فقلت: أكان ابن عمر إذا كبر بالصلاة يرفع رأسه ووجهه إلى السماء؟ فقالَ: نعم قليلا.

ومن طريق ابن جريج - أيضا -، قالَ: أخبرني ابن سابط، أن وجه التكبير: أن يكبر الرجل بيديه ووجهه وفيه، ويرفع رأسه وفاه شيئا حين يبدىء وحين يرفع رأسه.

ص: 326

وأعلم؛ أن حديث مالك الذي خرجه البخاري في هذا الباب، عن القعنبي، عنه ليس فيهِ ذكر الرفع إذا ركع، إنما فيهِ الرفع افتتح الصلاة، وإذا رفع رأسه من الركوع، وكذا هوَ في ((موطأ القعنبي)) عن مالك، وكذا رواه عامة رواة ((الموطأ)) عن مالك.

ورواه جماعة عن مالك، فذكروا فيهِ الرفع إذا كبر للركوع - أيضاً - منهم: الشافعي وابن وهب ويحيى القطان وابن مهدي وجويرية بن أسماء وإبراهيم بن طهمان ومعن وخالد بن مخلد وبشر بن عمر وغيرهم.

وكذلك رواه عامة أصحاب الزهري، عنه، منهم: يونس وشعيب وعقيل وابن جريج وغيرهم.

وكذلك رواه سليمان الشيباني والعلاء بن عبد الرحمن وغيرهما، عن سالم ابن عبد الله.

ذكر البيهقي وغيره.

وممن رواه عن مالك بذكر الرفع عندَ الركوع: عبد الله بن يوسف التنيسي وابن المبارك وعبد الرحمن بن القاسم وعبد الله بن نافع وإسماعيل بن أبي أويس ويحيى بن يحيى النيسابوري.

ص: 327

‌84 - بَابُ

رَفعُ الْيَدَيَنِ إذَا كَبَّر، وَإِذَا ركَعَ، وإِذَا رَفّعَ

فيهِ حديثان:

أحدهما:

قالَ:

ص: 328

736 -

حدثنا محمد بن مقاتل: ثنا عبد الله: أنا يونس، عن الزهري: أخبرني سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر، قالَ: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه، وكان يفعل ذَلِكَ حين يكبر للركوع، ويفعل ذَلِكَ إذا رفع رأسه من الركوع، ويقول:((سمع الله لمن حمده)) ، ولا يفعل ذَلِكَ في السجود.

الثاني:

قالَ:

ص: 328

737 -

حدثنا إسحاق الواسطي: ثنا خالد بن عبد الله، عن خالد، عن أبي قلابة، أنه رأى مالك بن الحويرث إذا صلى كبر ورفع يديه، وإذا أراد أن يركع رفع يديه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه، وحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع هكذا.

لم يخرج البخاري في ((صحيحه)) في رفع اليدين غير حديث ابن عمر وحديث مالك بن الحويرث، وقد أفرد للرفع كتابا، خرج فيهِ

ص: 328

الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة، وكذلك صنف في الرفع غير واحد من أئمة أهل الحديث، منهم: النسائي ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما.

وسبب اعتنائهم بذلك: أن جميع أمصار المسلمين، كالحجاز واليمين ومصر والعراق كانَ عامة أهلها يرون رفع الأيدي في الصلاة عندَ الركوع والرفع منه، سوى أهل الكوفة، فكانوا لا يرفعون أيديهم في الصلاة، إلا في افتتاح الصلاة خاصة، فاعتنى علماء الأمصار بهذه المسألة، والاحتجاج لها، والرد على من خالفها.

قل الأوزاعي: ما اجتمع عليهِ علماء أهل الحجاز والشام والبصرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ يرفع يديه حذو منكبيه حين يكبر لافتتاح الصلاة، وحين يكبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع، إلا أهل الكوفة، فإنهم خالفوا في ذَلِكَ أئمتهم.

خرجه ابن جرير وغيره.

وقال البخاري في ((كتابه رفع اليدين)) بعد أن روى الآثار في المسألة:

فهؤلاء أهل مكة والمدينة واليمن والعراق قد اتفقوا على رفع الأيدي.

وقال محمد بن نصر المروزي: لا نعلم مصرا من الأمصار تركوا الرفع بأجمعهم في الخفض والرفع منه، إلا أهل الكوفة.

وروى البيهقي بإسناده عن الأوزاعي، أنه تناظر هوَ والثوري في هذه المسألة بمكة، وغضب واشتد غضبه، وقال للثوري: قم بنا إلى المقام نلتعن

ص: 329

أينا على الحق، فتبسم الثوري لما رأى الأوزاعي قد احتد رضي الله عنهما.

وحديث الزهري، عن سالم، عن ابن عمر مما اتفق العلماء كلهم على صحته وتلقيه بالقبول، وعليه اعتمد أئمة الإسلام في هذه المسألة، منهم: الأوزاعي وابن

المبارك، وقال: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

كذلك قالَ الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم.

وأما مالك، فإنه خرجه في ((كتاب الموطإ)) في ((باب: افتتاح الصلاة)) ، وذكر عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ يعمل به.

وقد روى عامة أصحاب مالك، أنه كانَ يعمل به، منهم: ابن وهب وأبو مصعب وأشهب والوليد بن مسلم وسعيد بن أبي مريم.

وإنما روى عنه الرفع عندَ افتتاح الصلاة خاصة: ابن القاسم، قالَ: وكان مالك يرى رفع اليدين في الصلاة ضعيفا. وقال: إن كانَ ففي الإحرام.

قالَ محمد بن الحكم: لم يرو أحد عن مالك مثل رواية ابن القاسم.

وذكر ابن عبد البر، عن أحمد بن خالد _ وهو: ابن الجباب، وكان أعلم أهل الأندلس بالفقه والحديث في وقته -، قالَ: كانَ جماعة من أصحابنا يرفعون أيديهم في الصلاة على حديث ابن عمر، ورواية من روى ذَلِكَ عن مالك وجماعة لا يرفعون، على رواية ابن القاسم، ولا

ص: 330

يعيب هؤلاء على هؤلاء، ولا هؤلاء على هؤلاء.

قلت: افترق الناس في هذه المسألة فرقا ثلاثة.

ففرفة منهم: تنكر على من يرفع أو تبدعه، وهؤلاء عامة فقهاء أهل الكوفة، حتى غالى بعصهم فجعله مبطلا للصلاة، وادعى بعضهم أن الرفع نسخ.

وقد وافقهم بعض المتقدمين من أهل الشام، حتى ضرب من رفع يديه في صلاته في زمن عمر بن عبد العزيز وغضب عمر من ذَلِكَ وأنكره على من فعله وحجبه عنه.

وفرقة: لا ينكرون على واحد من الفريقين، ويعدون ذَلِكَ من مسائل الخلاف السائغ، ثم منهم من يميل إلى الرفع، ومنهم من يميل إلى تركه، ومنهم: سفيان الثوري.

وقد روى ابن أبي شيبة في ((كتابه)) عن طائفة كثيرة من الصحابة والتابعين، أنهم لم يرفعوا أيديهم إلا عندَ الافتتاح، منهم عمر وابن عمر.

وهي رواية مجاهد عنه، وقد ضعفها الإمام أحمد والبخاري والدارقطني وغيرهم.

ومنهم: علي وابن مسعود وأصحابهما.

وقد روى ذَلِكَ عن علي وابن مسعود مرفوعا، وضعف المرفوع عامة أئمة الحديث قديما وحديثا.

ص: 331

وأكثر الصحابة والتابعين على الرفع عندَ الركوع، والرفع منه - أيضا -، حتى قالَ قتادة، عن الحسن: كانَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاتهم كأن أيديهم أيديهم المراوح، إذا ركعوا وإذا رفعوا رؤسهم.

وقال عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير أنه سئل عن رفع اليدين في الصلاة، فقالَ: هوَ شيء يزين به الرجل صلاته؛ كانَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أيديهم في الافتتاح، وعند الركوع، وإذا رفعوا رؤسوهم.

وهو قول عامة التابعين.

وقال عمر بن عبد العزيز: إن كنا لنؤدب عليها بالمدينة إذا لم نرفع أيدينا.

وقول عامة فقهاء الأمصار.

وكان الإمام أحمد لا بيالغ في الإنكار على المخالفة في هذه المسألة:

روى عنه المروذي وغيره، أنه سئل عمن ترك الرفع يقال: إنه تارك للسنة؟

قالَ: لا تقل هكذا، ولكن قل: راغب عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

ونقل عنه الميموني، قالَ: الرفع عندنا أكثر وأثبت، فإن تأول رجل، فما

أصنع؟ !

وسئل الإمام أحمد، فقيل لهُ: إن عندنا قوما يأمروننا برفع اليدين في الصلاة، وقوما ينهوننا عنه؟ فقالَ: لا ينهاك إلا مبتدع، فعل ذَلِكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ابن عمر يحصب من لا يرفع.

فلم يبدع إلا من نهى عن الرفع وجعله مكروها، فأما المتأول في

ص: 332

تركه من غير نهي عنه فلم يبدعه.

وقد حمل القاضي أبو يعلى قول أحمد: أنه مبتدع، على من ترك الرفع عندَ تكبيرة الإحرام. وهو بعيد.

ونقل جماعة عن أحمد في تارك الرفع، أنه يقال: إنه تارك السنة.

قالَ القاضي أبو يعلى: إنما توقف في ذَلِكَ في رواية المروذي متابعة للفظ المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قالَ:((من رغب عن سنتي فليس مني)) ، وإلا ففي الحقيقة: الراغب عن الرفع هوَ التارك لهُ.

ونقل حرب، عن أحمد، قالَ: أنا أصلي خلف من لا يرفع يديه، والرفع أحب إلي وأصح.

وكلام البخاري في ((كتاب رفع اليدين)) لهُ إنما يدل على الإنكار على من أنكر الرفع، وقال: هوَ بدعة - أيضاً.

وخرج مسلم في ((صحيحه)) في الرفع عندَ الركوع والرفع منه حديث ابن عمر ومالك بن الحويرث - أيضاً.

وخرجه - أيضاً - من حديث وائل بن حجر.

وخرجه أبو داود والترمذي من حديث علي بن أبي طالب، ومن حديث أبي حميد في عشرة من الصحابة، منهم: أبو قتادة.

وخرجه ابن ماجه - أيضا.

ص: 333

وخرجه أبو داود - أيضا - من حديث أبي هريرة.

وخرجه ابن ماجه من حديث أنس وجابر وابن عباس.

وقد روي من وجوه أخر، حتى قالَ بعضهم: رواه قريب من ثلاثين نفسا من الصحابة.

وقال غيره: رواه نيف وثلاثون من الصحابة.

وقال الحاكم: رواه العشرة المشهود لهم بالجنة.

وفي هذه العبارات تسامح شديد، وقد ذكرت هذه الأحاديث وطرقها وعللها في ((كتاب شرح الترمذي)) بحمد الله ومنه.

وأحسن من ذَلِكَ: قول الشافعي: رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم اثنا عشر غير ابن عمر.

وهذه عبارة صحيحة حسنة مليحة.

وكذا قالَ ابن عبد البر وغيره من الحفاظ.

وذكر الترمذي في ((جامعه)) لهُ أربعة عشر روايا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ولم يوجب الرفع عندَ الركوع والرفع منه، ويبطل الصلاة بتركه، إلا شذوذ من الناس من أصحاب داود ونحوهم.

وسئل حماد بن زيد، عن معنى رفع اليدين في الصلاة؟ فقالَ: هوَ من إجلال الله.

خرجه أبو موسى المديني.

وقال الشافعي: فعلته إعظاما لجلال الله، واتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم،

ص: 334

ورجاء لثواب الله.

خرجه البيهقي في ((مناقبه)) .

ص: 335

‌85 - بَابُ

إلَى أيْنَ يرفَعُ يَدَيْه

؟

قالَ أبو حميد - في أصحابه -: رفع النبي صلى الله عليه وسلم حذو منكبيه.

حديث أبي حميد هذا، قد خرجه البخاري فيما بعد من رواية محمد بن عمرو بن عطاء، أنه كانَ جالسا في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرنا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالَ أبو حميد الساعدي: أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه _ وذكر بقية الحديث، ولم يذكر فيهِ رفع اليدين في غير هذا الموضع.

وخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من وجه آخر، عن محمد ابن عمرو بن عطاء، عن أبي حميد، قالَ: سمعته في عشرة من الصحابة، منهم: أبو قتادة، ويقول: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: فاعرض قالَ: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائما، ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، فإذا أراد أن يركع رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم قالَ:((الله أكبر)) ، وركع، ثم قالَ:((سمع الله لمن حمده)) ، ورفع يديه.

ص: 336

وعند أبي داود: ثم يرفع رأسه، فيقول:((سمع الله لمن حمده)) ، ثم يرفع يديه حتى تحاذي منكبيه معتدلا.

وفي حديثه - أيضا -: رفع اليدين إذا قام من الركعتين.

وفي رواية للترمذي: قالوا: صدقت؛ هكذا كانَ يصلي النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواه _ أيضا _: عباس بن سهل بن سعد، قالَ: اجتمع أبو حميد وأبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة، فذكروا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالَ أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فكبر.

ورفع يديه، ثم رفع حين كبر للركوع، ثم قام فرفع يديه فاستوى حتى رجع كل عظم إلى موضعه.

خرجه أبن ماجه.

وخرجه أبو داود مختصرا.

وخرجه من وجه آخر، عن عباس مختصرا - أيضا -، وذكر أنه كانَ في المجلس: سهل بن سعد وأبو هريرة وأبو حميد وأبو أسيد.

وقد صحح الترمذي هذا الحديث.

وذكر الخلال، عن إسماعيل بن إسحاق الثقفي، قالَ: سئل أحمد بن حنبل عن حديث أبي حميد الساعدي، عن النبي صلى الله عليه وسلم في رفع الأيدي؟ فقالَ: صحيح.

ص: 337

قالَ البخاري:

ص: 338

738 -

حدثنا أبو اليمان: أنا شعيب، عن الزهري: أخبرني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قالَ: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح التكبير في الصلاة، فرفع يديه حين يكبر حتى يجعلهما حذو منكبيه، وإذا كبر للركوع فعل [مثل ذَلِكَ]، وإذا قالَ:

((سمع الله لمن حمده)) فعل مثله، وقال:((ربنا ولك الحمد)) ولا يفعل ذَلِكَ حين يسجد، ولا حين يرفع من السجود.

ومراد البخاري: أن حديث ابن عمر فيهِ رفع اليدين إلى المنكبين، وكذلك حديث أبي حميد ومن معه من الصحابة.

وكذلك روي من حديث علي بن أبي طالب وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

خرج حديثهما أبو داود.

وخرج مسلم من حديث مالك بن الحويرث، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يرفع يديه إلى فروع أذنيه.

وقد روى عنه - أيضا -: ((إلى حذو منكبيه)) .

خرجه الدارقطني.

واختلفت ألفاظ الروايات في حديث وائل بن حجر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: فروي عنه الرفع إلى حيال أذنيه. وروي عنه: الرفع إلى المنكبين. وروي

ص: 338

عنه: أنه جاء بعد ذَلِكَ في الشتاء، فرآهم يرفعون أيديهم في الأكسية والبرانس إلى صدورهم.

وقد خرجه أبو داود وغيره بهذه الألفاظ.

وقد اختلف العلماء في الترجيح:

فمنهم: من رجح رواية من روى: الرفع إلى المنكبين؛ لصحة الروايات بذلك، واختلاف ألفاظ روايات الرفع إلى الأذنين.

وهذه طريقة البخاري، وهي _ أيضا _ ظاهر مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، عملا بحديث ابن عمر، فإنه أصح أحاديث الباب، وهو _ أيضا _ قول:

أكثر السلف، وروي عن عمر بن الخطاب.

قالَ ابن عبد البر: عليهِ جمهور التابعين، وفقهاء الأمصار، وأهل الحديث.

ومنهم: من أخذ بحديث مالك بن الحويرث في الرفع إلى فروع الأذنين، وهو قول أهل الكوفة، منهم: النخعي وأبو حنيفة والثوري، وقول أحمد - في رواية عنه -، رجحها أبو بكر الخلال.

ومنهم: من قالَ: هما سواء لصحة الأحاديث بهما، وهو رواية أخرى عن

أحمد، اختارها الخرقي وأبو حفص العكبري وغيرهما.

وقال ابن المنذر: هوَ قول بعض أهل الحديث، وهو حسن.

وروى مالك في ((الموطأ)) عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ إذا ابتدأ الصلاة يرفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع من الركوع رفعهما دون ذَلِكَ.

ص: 339

وخرجه أبوداود، وذكر أنه انفرد به مالك.

قالَ: وذكر الليث: قالَ ابن جريج: قلت لنافع: أكان ابن عمر يجعل الأولى أرفعهن؟ قالَ: لا سواء. قلت: أشر لي. فأشار إلى الثديين أو أسفل من ذَلِكَ.

وقال حرب الكرماني: ربما رأيت أحمد يرفع يديه إلى فروع أذنيه، وربما رفعهما إلى منكبيه، وربما رفعهما إلى صدره، ورأيت الأمر عنده واسعا.

وقال طائفة من الشافعية: جمع الشافعي بين الروايات في هذا، بأنه يرفعهما حتى تحاذي أطراف أصابعه أعلى أذنيه، وإبهاماه شحمتي أذنيه، وراحتاه منكبيه.

قالوا: ومن حكى للشافعي ثلاثة أقوال في ذَلِكَ فقد وهم.

واختلفوا في المرأة: كيف ترفع يديها في الصلاة؟

فقالت طائفة: ترفع كما يرفع الرجل إلى المنكبين.

روي عن أم الدرداء، أنها كانت تفعله، وهو قول الأوزاعي والشافعي.

وقالت طائفة: ترفع إلى ثدييها، ولا تزيد على ذَلِكَ، وهو قول حماد وإسحاق.

وروي نحوه عن حفصة بنت سيرين، أنها كانت تفعله.

وقال أحمد - في رواية عنه - ترفع يديها في الصلاة، ولا ترفع كما يرفع الرجل، دون ذَلِكَ.

ونقل عنه جماعة، أنه قالَ: ما سمعنا في المرأة، فإن فعلت فلا بأس.

قالَ القاضي أبو يعلى: ظاهر هذا: أنه رآه فعلا جائزا، ولم يره مسنونا.

وقال عطاء: ترفع دون رفع الرجل، وإن تركته فلا بأس.

ص: 340

‌86 - بابُ

رَفْعِ الَيدَيْنِ إذا قَامَ منَ الرَّكْعَتَيْنِ

ص: 341

739 -

حدثنا عياش: ثنا عبد الأعلى، قالَ: ثنا عبيد الله، عن نافع، أن ابن عمر كانَ إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قالَ:((سمع الله لمن حمده)) رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه، ورفع ذَلِكَ ابن عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواه حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواه إبراهيم بن طهمان، عن أيوب وموسى بن عقبة - مختصرا.

عياش، هوَ: ابن الوليد الرقام البصري.

وعبد الأعلى، هوَ: ابن عبد الأعلى الشامي البصري.

وقد روى هذا الحديث، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعا.

وأنما رواه الناس عن عبيد الله - موقوفا - منهم: عبد الوهاب الثقفي ومحمد بن بشر، إلا أن محمدا لم يذكر فيهِ: الرفع إذا قام من الركعتين.

وكذلك رواه أصحاب نافع عنه موقوفا.

فلهذا المعنى احتاج البخاري

ص: 341

إلى ذكر من تابعه عبد الأعلى على رفعه؛ ليدفع ما قيل من تفرده به.

فقد قالَ الإمام أحمد في رواية المروذي وغيره: رواه عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، وبلغني أن عبد الأعلى رفعه.

وقد روي عن أحمد، أنه صحح رفعه، وسنذكره _ إن شاء الله سبحانه وتعالى.

وقال الدارقطني في ((العلل)) : أشبهها بالصواب عن عبيد الله: ما قاله عبد الأعلى. ثم قالَ: والموقوف عن نافع أصح.

وخرجه أبو داود في ((السنن)) ، عن نصر بن علي، عن عبد الأعلى، كما خرجه البخاري مرفوعا.

ثم قالَ: الصحيح: قول ابن عمر، وليس بمرفوع. قالَ: روى بقية أوله عن عبيد الله وأسنده. قالَ: ورواه الثقفي، عن عبيد الله، أوقفه على ابن عمر، وقال فيهِ: إذا قام من الركعتين يرفعهما إلى ثدييه وهذا هوَ الصحيح.

ورواه الليث بن سعد ومالك وأيوب وابن جريج _ موقوفا. وأسنده حماد بن سلمة وحده، عن أيوب، ولم يذكر أيوب ومالك: الرفع إذا قام من السجدتين، وذكره الليث في حديثه - انتهى.

وقد رفعه بعضهم عن مالك، ولا يصح،

ص: 342

قد رواه رزق الله بن موسى، عن يحيى القطان، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كانَ إذا دخل في الصلاة رفع يديه نحو صدره، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، ولا يرفع بعد ذَلِكَ.

قالَ العقيلي والدارقطني: لا يتابع رزق الله على رفعه.

وذكر الدارقطني: أن عبد الله بن نافع الصائغ وخالد بن مخلد وإسحاق الجندي رووه، عن مالك - مرفوعا.

قالَ: ولا يصح ذَلِكَ في حديث مالك، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يرفع في كل رفع ووضع. وقال: وهذا وهم على مالك في رفعه ولفظه.

قالَ: ورواه إسماعيل بن عياش، عن صالح بن كيسان، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعا - أيضا.

وإسماعيل، سيء الحفظ لحديث الحجازيين.

ورواه إساعيل - أيضا - عن موسى بن عقبة وعبيد الله كلاهما، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعا - في التكبير في هذه المواضع الأربعة، دون الرفع.

وأما رواية إبراهيم بن طهمان التي استشهد بها البخاري، فخرجها البيهقي من رواية إبراهيم بن طهمان، عن أيوب بن أبي تميمة وموسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ يرفع يديه حين يفتتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا استوى قائما من ركوعه حذو منكبيه، ويقول: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذَلِكَ.

ولم يذكر في حديثه: الرفع إذا قام من

ص: 343

الركعتين.

وهذا هوَ الرفع الذي أشار إليه البخاري.

قالَ الدارقطني: وتابع إبراهيم بن طهمان: حماد بن سلمة، عن أيوب _ وقيل: عن هدبة، عن حماد بن زيد، عن أيوب، وإنما أراد: حماد بن سلمة: والله أعلم.

والصحيح: عن حماد بن زيد، عن أيوب _ موقوفا.

وكذا قالَ أبو ضمرة، عن موسى بن عقبة.

قالَ: وروي عن عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعا -: قاله محمد بن شعيب بن شابور.

وروي عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا.

ورواه إسماعيل بن أمية والليث، عن نافع، عن ابن عمر موقوفا.

قالَ: والموقوف عن نافع أصح. انتهى.

قالَ: وروي عن يحيى بن أبي كثير، عن نافع وسالم، عن ابن عمر _ مرفوعا.

قلت: هوَ غير محفوظ عن يحيى. وهذا هوَ المعروف عن الإمام أحمد وقول أبي داود والدارقطني.

فرواية نافع، عن ابن عمر، الأكثرون على أن وقفها أصح من رفعها، وكل هؤلاء لم يذكروا في رواياتهم القيام من الثنتين، وصحح رفعها

ص: 344

البخاري والبيهقي.

قالَ ابن عبد البر: هذا أحد الأحاديث الأربعة التي اختلف فيها سالم ونافع، فرفعها سالم ووقفها نافع، والقول فيها قول سالم، ولم يلتفت الناس إلى نافع، هذا أحدهما. والثاني: حديث: ((فيما سقت السماء العشر)) .

والثالث: حديث ((من باع عبدا وله مال)) . والرابع: حديث: ((تخرج نار من قبل اليمن)) . انتهى.

وقال النسائي والدارقطني: أحاديث نافع الثلاثة الموقوفة أولى بالصواب.

ورجح أحمد وقف: ((فيما سقت السماء)) وتوقف في حديث: ((من باع عبدا لهُ مال)) . وقال إذا اختلف سالم ونافع فلا يقضى لأحدهما.

يشير إلى أنه لا بد من الترجيح بدليل.

وقد روي الرفع إذا قام من الركعتين من رواية سالم، عن ابن عمر.

خرجه النسائي من طريق معتمر، عن عبيد الله بن عمر، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يرفع يديه إذا دخل في الصلاة ، وإذا أراد أن يركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا قام من الركعتين.

يرفع يديه كذلك حذاء المنكبين.

ص: 345

وروي - أيضا - عن الثقفي، عن عبيد الله، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أنه كانَ إذا نهض رفع يديه.

فتبسم، وقال: كم روي هذا عن الزهري، ليس فيهِ هذا، وضعفه.

ورواه - أيضا - أبو سعيد ابن الأعربي، عن الدبري، عن عبد الرزاق، عن عاصم، عن عبيد الله بن عمر كذلك.

وذكر الدارقطني في ((العلل)) : أن معتمر بن سليمان والثقفي روياه عن

عبيد الله بن عمر - مرفوعا، وذكرا فيهِ: الرفع إذا قام من الثنتين.

ورواه ابن المبارك، عن عبيد الله، فلم يذكر: الرفع إذا قام من الثنتين من

الثنتين.

ورواه - أيضا - إبراهيم بن عبد الحميد بن ذي حماية، عن أيوب، عن سالم، عن ابن عمر.

خرجه الطبراني.

وهذا غير محفوظ عن أيوب.

وقد روي عن ابن عمر _ مرفوعا _ من وجه آخر.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود من طريق محمد بن فضيل، عن

ص: 346

عاصم بن كليب، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر، قالَ: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في الركعتين كبر ورفع يديه.

وخالفه عبد الواحد بن زياد، فرواه عن محارب بن دثار، عن ابن عمر

- موقوفا - في الرفع عندَ الإحرام والركوع والرفع منه خاصة.

قالَ الدارقطني: وكذلك رواه أبو إسحاق الشيباني والنضر بن محارب بن دثار، عن محارب، عن ابن عمر - موقوفا.

وقد روي الرفع إذا قام من الركعتين في حديث أبي حميد وأصحابه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبق ذكره.

وفي حديث علي بن أبي طالب وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ?.

خرجهما أبو داود وغيره.

وقد تكلم في حديث أبي هريرة أبو حاتم الرازي والدارقطني.

وأما حديث علي، فصححه الإمام أحمد والترمذي.

وقد اختلف العلماء في الرفع إذا قام من التشهد الأول:

فأكثرهم على أنه غير مستحب، حتى ادعى أبو حامد الإسفراييني من أعبان الشافعية الإجماع على ذَلِكَ، وجعله دليلا على نسخ الأحاديث الواردة فيهِ.

وليس الأمر كما قالَ.

ص: 347

واستحبه طائفة من العلماء، كما ذكره البخاري والنسائي في ((كتابيهما)) .

وقال حرب الكرماني: حدثنا أحمد بن حنبل: ثنا هاشم بن القاسم:

حدثنا الربيع بن صبيح، قالَ: رأيت الحسن وابن سيرين وعطاء وطاوسا ومجاهدا ونافعا وقتادة وابن أبي نجيح والحسن بن مسلم إذا دخلوا في الصلاة كبروا ورفعوا أيديهم وإذا كبروا للركوع رفعوا أيديهم.

غير أن أهل الحجاز كانوا يرفعون أيديهم إذا قاموا من الركعتين من الفريضة وكانوا يقعون على أعقابهم.

والمشهور عن الشافعي وأحمد، أنه لا يرفع إذا قام من الركعتين.

قالَ أحمد: أنا لا أستعمله ولا أذهب إليه، واستدل بحديث ابن عمر، وقال فيهِ: وكان لا يرفع بعد ذَلِكَ - أي: بعد المواضع الثلاثة.

وهذا الحديث بهذا اللفظ قد سبق من رواية رزق الله بن موسى، عن يحيى القطان، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعا -، وأنه لا يصح رفعه.

ورواه - أيضا - بشير الكوسج، عن نافع، عن ابن عمر، قالَ: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في أول التكبير، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، ثم يكبر بعد ذَلِكَ ولا يرفع يديه.

قالَ بشير: وحدثني الحسن بن عثمان المديني، عن سالم، عن أبيه،

ص: 348

عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذَلِكَ.

وبشير هذا، غير مشهور، وقد ذكره الحاكم في ((تاريخ نيسابور)) ، وذكر أنه روى عنه جماعة.

وقال إسحاق بن إبراهيم: سئل أحمد: إذا نهض الرجل من الركعتين يرفع

يديه؟ قالَ: إن فعله فما أقربه؛ فيهِ عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي حميد أحاديث صحاح، ولكن قالَ الزهري في حديثه: ولم يفعل في شيء من صلاته، وأنا لا أفعله.

وهذا اللفظ لا يعرف في حديث الزهري.

وذكر القاضي أبو يعلى: أن هذه الرواية عن أحمد تدل على جوازه، من غير استحباب.

وحكي عن أحمد رواية باستحبابه.

قالَ البيهقي في كتاب ((مناقب الإمام أحمد)) : أنبأني أبو عبد الله الحافظ - يعني: الحاكم -: ثنا أبو بكر ابن إسحاق الفقيه: أنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قالَ: سألت أبي عن حديث عبد الأعلى، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - في رفع اليدين، وكان إذا قام من الثنتين رفع يديه -؟ فقالَ: سنة صحيحة مستعملة، وقد روى مثلها علي بن أبي طالب وأبو حميد في عشرة من الصحابة، وأنا أستعملها.

قالَ الحاكم أبو عبد الله: سئل الشيخ أبو بكر - يعني: ابن إسحاق - عن ذَلِكَ؟ فقالَ: أنا أستعملها، ولم أر من أئمة الحديث أحدا يرجع إلى معرفة الحديث إلا وهو يستعملها.

ص: 349

وهذه الرواية غريبة عن أحمد جدا، لا يعرفها أصحابنا، ورجال إسنادها كلهم حفاظ مشهورون، إلا أن البيهقي ذكر أن الحاكم ذكرها في كتاب ((رفع اليدين)) وفي كتاب ((مزكي الأخبار)) ، وأنه ذكرها في ((كتاب التاريخ)) بخلاف ذَلِكَ، عندَ القيام من الركعتين، فوجب التوقف. والله أعلم.

وحكي ذَلِكَ - أيضا - قولا للشافعي؛ لأنه ذكر حديث أبي حميد الساعدي بطوله، قالَ: وبهذا نقول.

قالَ البيهقي في ((كتاب المعرفة)) : ومذهب الشافعي متابعة السنة إذا ثبتت، وقد قالَ في حديث أبي حميد: وبهذا أقول.

وقال البغوي: لم يذكر الشافعي رفع اليدين إذا قام من الثنتين، ومذهبه اتباع السنة، وقد ثبت ذَلِكَ.

وذهب إلى هذا طائفة من أهل الحديث، منهم: ابن لمنذر، ومن أصحاب الشافعي، منهم: أبو علي الطبري والبيهقي والبغوي وغيرهم من المتأخرين، ورجحه - أيضا - طائفة من المتأخرين من أصحابنا، قالوا: وهو دون الرفع في الإحرام والركوع والرفع منه في الاستحباب.

فأما الرفع للسجود وللرفع منه، فلم يخرج في ((الصحيحين)) منه شيء، وقد خرج البخاري في حديث ابن عمر: وكان لا يفعل ذَلِكَ في السجود.

وفي رواية لهُ - أيضا -: وكان لا يفعل ذَلِكَ حين يسجد، ولا حين يرفع من السجود. وقد سبقت الروايتان.

ص: 350

وهذا قول جمهور العلماء، وقد نص عليهِ الشافعي وأحمد.

وسئل أحمد: أليس يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه فعله؟ فقالَ: هذه الأحاديث أقوى وأكثر.

وروى هذا الحديث بقية، عن الزبيدي، عن الزهري - وابن أخي الزهري، عن عمه -، وزاد في روايته بعد قوله: ولا يرفعهما في السجود: ويرفعهما في كل تكبيره يكبرها قبل الركوع حتى تنقضي صلاته.

خرجه أبو داود من طريق بقية.

والإمام أحمد من الطريق الأخرى، وعنده:((في كل ركعة وتكبيرة)) إلى آخره.

وذهب طائفة إلى استحباب رفع اليدين إذا قام من السجود، منهم: ابن المنذر وأبو علي الطبري من الشافعية.

واستدلوا: بما روى محمد بن جحادة، عن عبد الجبار بن وائل، عن علقمة بن وائل، عن أبيه، أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا كبر رفع يديه.

قالَ: ثم التحف، ثم أخذ شماله بيمينه، فأدخل يديه في ثوبه، فإذا أراد أن يركع أخرج يديه ثم رفعهما، وإذا أراد أن يرفع رأسه من الركوع رفع يديه ثم سجد ووضع وجهه بين كفيه، فإذا رفع رأسه - أيضا - من السجود رفع يديه حتى فرغ من صلاته.

ص: 351

خرجه أبو داود.

وخرجه مسلم إلى قوله: ((فلما سجد سجد بين كفيه)) ، ولم يذكر ما بعده.

وقالت طائفة: يرفع يديه مع كل تكبيرة، وكلما خفض ورفع، وهو قول بعض أهل الظاهر.

وقال أحمد بن أصرم المزني: رأيت أحمد يرفع يديه في كل خفض ورفع، وسئل عن رفع اليدين إذا قام من الركعتين؟ فقالَ: قد فعل.

وحمل القاضي أبو يعلى هذه الرواية على الجواز دون الاستحباب.

ونقل المروذي، عن أحمد، قالَ: لا يرفع يديه بين السجدتين، فإن فعل فهوَ جائز. ونقل جعفر بن محمد، عن أحمد، قالَ: يرفع يديه في كل موضع، إلا بين السجدتين.

وروى محارب بن دثار، أنه رأى ابن عمر يرفع يديه إذا ركع وسجد.

وروى أبو أسامة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ يرفع يديه إذا رفع رأسه من السجدة الأولى.

وروى حماد بن سلمة، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن أنس، أنه كانَ

ص: 352

يرفع يديه من السجدتين.

وروي ذَلِكَ - أيضا - عن الحسن وابن سيرين وطاوس ونافع وأيوب.

ذكره ابن أبي شيبة في ((كتابه)) .

وروى شعبة، عن قتادة، عن نصر بن عاصم، عن مالك بن الحويرث، أنه رأى نبي الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الصلاة إذا ركع، وإذا رفع رأسه من ركوعه، وإذا

سجد، وإذا رفع رأسه من سجوده حتى يحاذي بهما فروع أذنيه.

خرجه النسائي.

وخرجه - أيضا - من طريق هشام، عن قتادة - بنحوه، إلا أنه [لم] يذكر فيهِ: الرفع إذا سجد.

وخرجه مسلم من رواية سعيد بن أبي عروبة وأبي عوانة، عن قتادة.

ولم يذكر فيهِ سوى الرفع في المواضع الثلاثة الأول خاصة.

وروى شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن عبد الرحمن

اليحصبي، عن وائل بن حجر، أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يكبر إذا خفض وإذا رفع، ويرفع يديه عندَ التكبير، ويسلم عن

ص: 353

يمينه وعن يساره.

قالَ الإمام أحمد: أنا لا أذهب إلى حديث وائل بن حجر، وهو مختلف في ألفاظه.

ويجاب عن هذه الرويات كلها على تقدير أن يكون ذكر الرفع فيها محفوظا، ولم يكن قد اشتبه [بذكر] التكبير بالرفع - بأن مالك بن الحويرث ووائل بن حجر لم يكونا من أهل المدينة، وإنما كانا قد قدما إليها مرة أو مرتين، فلعلهما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذَلِكَ مرة، وقد عارض ذَلِكَ نفي ابن عمر، مع شدة وملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم وشدة حرصه على حفظ أفعاله واقتدائه به فيها، فهذا يدل على أن أكثر أمر النبي صلى الله عليه وسلم كانَ ترك الرفع فيما عدا المواضع الثلاثة والقيام من الركعتين.

وقد روي في الرفع عندَ السجود وغيره أحاديث معلولة:

فروى الثقفي: حدثنا حميد، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يرفع يديه إذا دخل في الصلاة، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا سجد.

خرجه الدارقطني.

وخرجه ابن ماجه إلى قوله: ((وإذا ركع)) .

وخرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) إلى قوله: ((وإذا رفع رأسه)) .

وقد أعل هذا بأنه قد رواه غير واحد من أصحاب حميد، عن

ص: 354

حميد، عن أنس - من فعله غير مرفوع.

كذا قاله البخاري -: نقله عنه الترمذي في ((علله)) .

وقال الدارقطني: الصواب من فعل أنس.

وروى إسماعيل بن عياش، عن صالح بن كيسان، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، قالَ: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الصلاة حذو منكبيه، حين يفتتح

الصلاة، وحين يركع، وحين يسجد.

خرجه الإمام أحمد وابن ماجه.

زاد الإمام أحمد: وعن صالح: عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذَلِكَ.

وإسماعيل بن عياش، سيء الحفظ لحديث الحجازيين.

وقد خالفه ابن إسحاق، فرواه عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة - موقوفا -: قاله الإمام أحمد وغيره.

وقال الدارقطني في ((علله)) : اختلف على إسماعيل بن عياش في لفظه، فذكرت عنه طائفة الرفع عندَ الافتتاح والركوع والسجود. وذكرت طائفة عنه الرفع عندَ الافتتاح والركوع والرفع منه.

قالَ: وهو أشبه بالصواب.

وروى عمرو بن علي، عن ابن أبي عدي، عن محمد بن عمرو، عن أبي

سلمة، عن أبي هريرة، أنه كانَ يرفع يديه في كل خفض ورفع،

ص: 355

ويقول: أنا أشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم.

خرجه الدارقطني في كتاب ((العلل)) ، وقال: لا يتابع عليهِ عمرو بن علي وغيره يرويه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يكبر في كل خفض ورفع، وهو الصحيح.

وروى الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن إسحاق بن عبد الله، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يرفع يديه في الصلاة في كل خفض ورفع.

وفي رواية: كانَ يرفع يديه حين يهوي للسجود.

قالَ الوليد: وبهذا كانَ يأخذ الأوزاعي.

خرجه ابن جوصا في ((مسند الأوزاعي)) .

وقد اختلف على الوليد في إرساله ووصله، ولم يسمعه من الأوزاعي، بل دليه عنه، وهو يدلس عن [غيره] الثقات.

وروى الإمام أحمد: ثنا نصر بن باب، عن حجاج، عن الذيال بن حرملة، عن جابر، قالَ: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في كل تكبيرة في الصلاة.

نصر بن باب، وحجاج بن أرطأة، لا يحتج بهما.

وروى رفدة بن قضاعة، عن الأوزاعي، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه، عن جده عمير بن حبيب، قالَ: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع كل تكبيرة في الصلاة المكتوبة.

خرجه ابن ماجه.

وقال منها: سألت أحمد ويحيى عن هذا الحديث، فقالا جميعا: ليس بصحيح: قالَ أحمد: لا يعرف رفدة بن قضاعة، وقال يحيى: هوَ شيخ ضعيف.

وخرج ابن ماجه - أيضا - من رواية عمر بن رياح، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ

ص: 356

يرفع يديه عندَ كل تكبيرة.

وعمر بن رياح، ساقط الرواية.

لكن؛ تابعه النضر بن كثير أبو سهل الأزدي، قالَ: صلى جنبي عبد الله بن طاوس بمنى في مسجد الخيف، فكان إذا سجد سجدة الأولى فرفع رأسه منها رفع يديه تلقاء وجهه، فأنكرت أنا ذَلِكَ، فقالَ عبد الله بن طاوس:

رأيت أبي يصنعه، وقال أبي: رأيت ابن عباس يصنعه، وقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم

يصنعه.

ص: 357

خرجه النسائي.

وخرجه أبو داود، وعنده: ولا أعلم إلا أنه قالَ: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه.

والنضر بن كثير، قالَ البخاري: فيهِ نظر. وقال - مرة -: عنده مناكير.

قالَ أبو أحمد الحاكم: هذا حديث منكر من حديث طاوس.

وقال العقيلي: لا يتابع النضر عليهِ.

وقال ابن عدي: هوَ ممن يكتب حديثه.

وخرج لهُ هذا الحديث، وعنده: أنه كانَ يرفع يديه كلما ركع وسجد [ويرفع] بين السجدتين.

وضعف الإمام أحمد النضر هذا.

وقال أبو حاتم والدارقطني: فيهِ نظر.

وقال النسائي: صالح.

وخرج أبو داود من حديث ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن ميمون المكي، أنه رأى عبد الله بن الزبير يصلي بهم يشير بكفيه حين يقوم، وحين يركع، وحين يسجد، وحين ينهض للقيام، فيقوم فيشير بيديه. قالَ:

فانطلقت إلى ابن عباس، فقلت: إني رأيت ابن الزبير صلى صلاة لم أر أحدا صلاها، ووصفت لهُ هذه الإشارة، فقالَ: إن أحببت أن تنظر إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقتد بصلاة عبد الله بن الزبير. إسناده ضعيف.

ص: 358

‌87 - بَابُ

وَضْعِ الْيُمْنى عَلَى الْيُسْرَى في الصَّلاةِ

ص: 359

740 -

حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قالَ: كانَ الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة.

قالَ أبو حازم: لا أعلمه إلا ينمي ذَلِكَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

قالَ: إسماعيل: ينمي ذَلِكَ، ولم يقل: ينمي.

هذا الحديث في ((الموطأ)) ليس فيهِ ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما فيهِ: قالَ أبو حازم: لا أعلمه إلا ينمي ذَلِكَ، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذا رأيناه في ((موطإ القعنبي)) ، وهو الذي خرج عنه البخاري هذا الحديث، ومراد البخاري: أن إسماعيل - وهو: ابن أبي أويس - رواه بالبناء للمفعول: ينمى.

ومعنى ((ينمى)) يرفع ويسند، والمراد: إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواه عمار بن مطر، عن مالك، فقالَ فيهِ: أمرنا أن نضع.

وعمار، ليس بحجة.

وليس في ((صحيح البخاري)) في هذا الباب غير هذا الحديث، ولا في

((صحيح مسلم)) فيه غير حديث محمد بن جحادة: حدثني عبد الجبار

ص: 359

بن وائل، عن علقمة بن وائل ومولى لهم، حدثاه عن أبيه وائل بن حجر، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين داخل في الصلاة، كبر ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من ثوبه، ثم رفعهما وكبر فركع، فلما قالَ:((سمع الله لمن حمده)) رفع يديه، فلما سجد سجد بين كفيه.

وله طرق أخرى عن وائل.

وفي رواية للأمام أحمد: وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد.

وفي الحديث: دليل على أن المصلي إذا التحف في صلاته بثوبه، ثم أخرج يديه منه لمصلحة الصلاة لم يضره ذَلِكَ.

وفي الباب أحاديث كثيرة، لا تخلو أسانيدها من مقال.

وقد خرج ابن حبان في ((صحيحه)) من طريق حرملة بن يحيى، عن أبن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث، أنه سمع عطاء بن رباح يحدث، عن ابن عباس، أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم قالَ: ((إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نؤخر سحورنا، ونعجل إفطارنا، وأن نمسك بأيماننا على شمائلنا في الصلاة)) .

وهذا إسناد في الظاهر على شرط مسلم، وزعم ابن حبان أن ابن وهب سمع هذا الحديث من عمرو بن الحارث وطلحة بن عمرو، كلاهما عن عطاء، وفي هذا إشارة إلى أن غير حرملة رواه عن ابن وهب، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، وهذا هوَ الأشبه، ولا يعرف

ص: 360

هذا الحديث من رواية عمرو بن الحارث.

قالَ البيهقي: إنما يعرف هذا بطلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس

- ومرة: عن أبي هريرة - وطلحة ليس بالقوي.

قلت: وقد روي، عن طلحة، عن عطاء - مرسلا.

خرجه وكيع عنه كذلك.

قالَ الترمذي في ((جامعه)) : العمل عندَ أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم على هذا، يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة. انتهى.

وقد روي ذَلِكَ عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب.

وروي عن ابن الزبير، أنه قالَ: هوَ من السنة.

خرجه أبو داود.

وعن عائشة، قالت: هوَ من النبوة.

خرجه الدارقطني.

وروي عن أبي الدرداء، أنه قالَ: هوَ من أخلاق النبيين.

ص: 361

وروي عن علي وابن عباس، أنهما فسرا ((النحر)) المذكور في قوله تعالى:

{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] بهذا.

وهو قول عامة فقهاء الأمصار، منهم: الثوري وأبو حنيفة والحسن بن صالح والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وغيرهم.

وحكى ابن المنذر إرسال اليدين في الصلاة عن ابن الزبير والحسن والنخعي، وحكى عن مالك كقول الأولين.

وذكر ابن عبد البر: أنه روي عن مالك، أنه قالَ: لا بأس بذلك في الفريضة والنافلة. قالَ: وهو قول المدنيين من أصحابه.

ونقل ابن القاسم، عنه، قالَ: إنما يفعل في النوافل من طول القيام وتركه أحب إلي.

قالَ: وقال الليث: سدل اليدين في الصلاة أحب إلي، أن يطول القيام فلا بأس أن يضع اليمنى على اليسرى.

وقال الأوزاعي: من شاء فعل، ومن شاء ترك.

وهو قول عطاء.

قلت: وحكي رواية عن أحمد، وحكي عنه: أنه يرسل يديه في النوافل خاصة.

وهذا عكس ما نقله ابن القاسم عن مالك.

وروى ابن المبارك في ((كتاب الزهد)) عن صفوان بن عمرو، عن مهاجر النبال، أنه ذكر عنده قبض الرجل يمينه على شماله، فقالَ: ما أحسنه، ذل بين يدي عز

ص: 362

وحكي مثل ذَلِكَ عن الإمام أحمد.

قالَ بعضهم: ما سمعت في العلم أحسن من هذا.

وروينا عن بشر بن الحارث، أنه قالَ: منذ اربعين سنة أشتهى أن أضع يدا على يد في الصلاة، مايمنعني من ذَلِكَ إلا أن أكون قد أظهرت من الخشوع ما ليس في قلبي مثله.

وروى محمد بن نصر المروزي في ((كتاب الصلاة)) بإسناده، عن أبي هريرة، قالَ: يحشر الناس يوم القيامة على قدر صنيعهم في الصلاة - وقبض بعض رواة الحديث شماله بيمينه، وانحنى هكذا.

وبإسناده عن الأعمش، عن أبي صالح، قالَ: يبعث الناس يوم القيامة هكذا - ووضع إحدى يديه على الأخرى.

واختلف القائلون بالوضع: هل يضعهما على صدره، أو تحت سرته، أو يخير بين الأمرين؟ على ثلاثة أقوال، هي ثلاث روايات عن أحمد.

ص: 363

وممن روي عنه، أنه يضعهما تحت سرته: علي وأبو هريرة والنخعي وأبو مجلز، وهو قول الثوري وأبي حنيفة ومالك وإسحاق.

وروي عن علي - أيضا - وعن سعيد بن جبير، أنه يضعهما على صدره، وهو قول الشافعي.

وقال أبو إسحاق المروزي من أصحابه: يضعهما تحت سرته.

وحكى ابن المنذر التخيير بينهما.

قالَ الترمذي في ((جامعه)) : رأى بعضهم أن يضعهما فوق سرته، ورأى بعضهم أن يضعهما تحت سرته، كل ذَلِكَ واسع عندهم.

ص: 364

‌88 - بَابُ

الْخُشُوعِ في الصَّلاةِ

ص: 365

741 -

حدثنا إسماعيل، قالَ: حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالَ:((هل ترون قبلتي هاهنا، والله ما يخفى علي ركوعكم ولا خشوعكم، وإني لأراكم من وراء ظهري)) .

ص: 365

742 -

حدثنا محمد بن بشار: حدثنا غندر: ثنا شعبة: سمعت قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:((أقيموا الركوع والسجود، فوالله إني لأراكم من بعدي)) - وربما قالَ: ((من بعد ظهري - إذا ركعتم وإذا سجدتم)) .

قد خرج البخاري حديث أبي هريرة وحديث أنس في ((باب: عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة وذكر القبلة)) ، وقد سبق الكلام عليهما هناك بما فيهِ كفاية.

وإنما خرجهما هاهنا؛ لدلاتهما على الخشوع في الصلاة.

وفي ((صحيح مسلم)) عن عثمان بن عفان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:((ما من امريء مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، مالم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله)) .

ص: 365

وقد مدح الله الخاشعين في صلاتهم، فقالَ:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1و2] وقال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: من الآية45] .

روي عن علي بن أبي طالب، قالَ: هوَ الخشوع في القلب، وأن تلين كنفك للمسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك.

وعنه، قالَ: الخشوع: خشوع القلب، وأن لا تلتفت يمينا ولا شمالا.

وعن ابن عباس، قالَ: خاشعون: خائفون ساكنون.

وعن الحسن، قالَ: كانَ الخشوع في قلوبهم، فغضوا لهُ البصر، وخفضوا لهُ الجناح.

وعن مجاهد، قالَ: هوَ الخشوع في القلب، والسكون في الصلاة.

وعنه، قالَ: هوَ خفض الجناح وغض البصر، وكان المسلمون إذا قام أحدهم في الصلاة خاف ربه أن يلتفت عن يمينه وشماله.

وعنه، قالَ: العلماء إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن عز وجل أن يشذ

نظره، أو يلتفت، أو يقلب الحصى، أو يبعث بشيء، أو يحدث نفسه بشيء من

الدنيا، إلا ناسيا، مادم في صلاته.

ص: 366

وعن الزهري، قالَ: هوَ سكون العبد في صلاته.

وعن سعيد بن جبير، قالَ: يعني: متواضعين، لا يعرف من عن يمينه، ولا من عن شماله، ولا يلتفت من الخشوع لله عز وجل.

وروي عن حذيفة، أنه رأى رجلا يعبث في صلاته، فقالَ: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.

وروي عن ابن المسيب.

وروي مرسلا.

فأصل الخشوع: هوَ خشوع القلب، وهو انكساره لله، وخضوعه وسكونه عن التفاته إلى غير من هوَ بين يديه، فإذا خشع القلب خشعت الجوارح كلها تبعا لخشوعه؛ ولهذا كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه:((خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظامي، وما استقل به قدمي)) .

ومن جملة خشوع الجوارح خشوع البصر أن يلتفت عن يمينه أو يساره، وسيأتي حديث الإلتفات في الصلاة، وأنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد، فيما بعد - إن شاء الله تعالى.

وقال ابن سيرين: كانَ رسول صلى الله عليه وسلم يلتفت في الصلاة عن يمينه وعن يساره، فأنزل الله تعالى:{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2] .

فخشع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يلتفت يمنة ولا يسرة.

ص: 367

وخرجه الطبراني من رواية ابن سيرين، عن أبي هريرة.

والمرسل أصح.

والظاهر: أن البخاري إنما ذكر الخشوع في هذا الموضع؛ لأن كثيرا من الفقهاء والعلماء يذكرون في أوائل الصلاة: أن المصلي لا يجاوز بصره موضع سجوده، وذلك من جملة الخشوع في الصلاة.

وخرج ابن ماجه من حديث أم سلمة أم المؤمنين، قالت: كانَ الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام أحد هم يصلي لم يعد بصره موضع قدمه، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصره موضع جبينه، فتوفي أبو بكر فكان عمر فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة، وكان عثمان بن عفان فكانت الفتنة، فالتفت الناس يمينا وشمالا.

وقال ابن سيرين: كانوا يستحبون للرجل أن لا يجاوز بصره مصلاه.

خرجه سعيد بن منصور.

وقال النخعي: كانَ يستحب أن يقع الرجل بصره في موضع سجوده.

ص: 368

وفسر قتادة الخشوع في الصلاة بذلك. وقال مسلم بن يسار: هوَ حسن.

وفيه حديثان مرفوعان، من حديث أنس وابن عباس، ولا يصح إسنادهما.

وأكثر العلماء على أنه يستحب للمصلي أن ينظر إلى موضع سجوده، منهم:

سليمان بن يسار وأبو حنيفة والثوري والحسن بن حي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور.

وقال مالك: يستحب أن يكون بصره أمام قبلته. قالَ: واكره ما يصنع الناس من النظر إلى موضع سجودهم وهم قيام.

وحكي عن شريك بن عبد الله، قالَ: ينظر في قيامه إلى موضع قيامه، وإذا ركع إلى قدميه، وإذا سجد إلى أنفه، وإذا قعد إلى حجره.

واستحب ذَلِكَ بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي.

قالَ أصحابنا: ويستحب إذا جلس للتشهد أن لا يجاوز بصره أصبعه؛ لما روى ابن الزبير، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا جلس في التشهد أشار بالسبابة، ولم يجاوز بصره

إشارته.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.

وحكى أصحاب الثوري في كتبهم، عن سفيان، أنه قالَ: إذا قام في

ص: 369

الصلاة فليكن بصره حيث يسجد إن استطاع، قالَ: وينظر في ركوعه إلى حيث يسجد - ومنهم من قالَ: إلى ركبتيه -، ويكون نظره في سجوده إلى طرف أنفه.

وبكل حال؛ فهذا مستحب، ولا تبطل الصلاة بالإخلال به، ولا باستغراق القلب في الفكر في أمور الدنيا، وقد حكى ابن حزم وغيره الإجماع على ذَلِكَ، وقد خالف فيهِ بعض المتأخرين من أصحابنا والشافعية.

وحكى ابن المنذر عن الحكم، قالَ: من تأمل من عن يمينه أو عن شماله حتى يعرفه فليس لهُ صلاة.

وهذا يرجع إلى الالتفات، ويأتى ذكره في موضعه - إن شاء الله سبحانه وتعالى.

وحكي عن ابن حامد من أصحابنا: أن عمل القلب في الصلاة إذا طال أبطل الصلاة كعمل البدن.

وهذا يرده حديث تذكير الشيطان المرء في صلاته حتى يظل لا يدري كم صلى وأمره أن يسجد سجدتين، ولم يأمره بالإعادة.

وخرج الإمام أحمد والنسائي والترمذي من حديث الفضل بن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ: ((الصلاة مثنى مثنى، تشهد في كل ركعتين، وتخشع وتضرع، وتمسكن، وتقنع يديك - يَقُول: ترفعهما إلى ربك - مستقبلاً ببطونهما وجهك، وتقول: يَا رب يَا رب، وإن لَمْ تفعل ذَلِكَ فهو

ص: 370

كذا وكذا)) .

وهذا لفظ الترمذي.

وللإمام أحمد: ((وتقول: يارب ثلاثاً، فمن لَمْ يفعل ذَلِكَ فَهِيَّ خداج)) .

وفي إسناده اخْتِلَاف.

وخرجه أبو داود وابن ماجه، وعندهما: عَن المطلب، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

وقد قَالَ أبو حاتم الرَّازِي: هُوَ إسناد حسن.

وضعفه البخاري، وَقَالَ: لا يصح.

وَقَالَ العقيلي: فِيهِ نظر.

وأما قَوْلِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ((إني أراكم من وراء ظهري)) ، فليس المراد مِنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يلتفت ببصره فِي صلاته إلى من خلفه حَتَّى يرى صلاتهم، كما ظنه بعضهم، وقد رد الإمام أحمد عَلَى من زعم ذَلِكَ، وأثبت ذَلِكَ من خصائص النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وآياته

ومعجزاته، وقد سبق ذكر كلامه فِي ذَلِكَ.

ص: 371

‌89 - بَاب

مَا يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ

ص: 372

743 -

حَدَّثَنَا حفص بْن عُمَر: نا شعبة، عَن قتادة، عَن أَنَس بْن مَالِك، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بَكْر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

ص: 372

744 -

حَدَّثَنَا موسى بن إِسْمَاعِيل: ثنا عَبْد الواحد بن زياد: ثنا عمارة بن القعقاع: ثنا أبو زُرْعَة: ثنا أبو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يسكت بَيْن التكبير وبين القراءة إسكاتة - قَالَ: أحسبه قَالَ: هنية -، فَقُلْت: بأبي وأمي يَا رَسُول الله، إسكاتك بَيْن التكبير وبين القراءة، مَا تَقُول:((أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بَيْن المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد)) .

قَالَ الخطابي: قوله: ((إسكاتة)) وزن إفعالة، من السكوت، ومعناه: سكوت يقتضي بعده كلاماً، أو قراءة مَعَ قصر المدة فِيهِ، وإنما أراد ترك رفع الصوت، ألا تراه يَقُول: مَا تَقُول فِي إسكاتك.

ص: 372

قَالَ: وقوله: ((اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد)) ، فإنها أمثال، ولم يرد أعيان هذه المسميات، وإنما أراد التوكيد فِي التطهير، والثلج والبرد ماءان، لَمْ تمسهما الأيدي، ولم يمرس ولم يمتهن.

قَالَ: وفيه مستدل لمن منع من الماء المستعمل؛ لأنه يَقُول: إن منزلة الخطايا المغسولة بالماء بمنزلة الأوضار الحالة فِي الماء والغسولات المانعة من التطهير.

قَالَ: وعندي فِي قوله: ((اغسل خطاياي)) عجائب. انتهى مَا ذكره.

وكأنه يشير إلى مسألة العصمة، ولا حاجة إلى ذكرها.

ولما كَانَتْ الذنوب تؤثر فِي القلب دنساً، وَهُوَ المذكور فِي قوله تعالى:{كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] وتوجب للقلب احترافاً؛ طلب فِي هَذَا الدعاء المباعدة بينه وبينها عَلَى أقصى وجوه المباعدة، والمراد: المباعدة من تأثيراتها وعقوباتها الدنيوية والأخروية.

وربما دَخَلَ فِيهِ المباعدة بَيْن مَا قدر مِنْهَا ولم يعلمه بعد، فطلب مباعدته مِنْهُ، عَلَى نحو قوله:((أعوذ بك من شر مَا عملت وما لَمْ أعمل)) .

وطلب - أَيْضاً - أن ينقي قلبه من دنسها كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.

وطلب - أَيْضاً - إطفاء حرارتها وحريقها للقلب بأعظم مَا يوجد فِي الدنيا إنقاء وتبريداً، وَهُوَ الماء والثلج والبرد.

وفي حَدِيْث عَائِشَة، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُول فِي دعائه: ((اللهم اغسل

ص: 373

خطاياي بالثلج والبرد، وأنق قلبي من الخطايا كما أنقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بَيْن المشرق والمغرب)) .

وقد خرجه البخاري فِي موضع آخر، وخرجه مُسْلِم - أَيْضاً.

وإنما كَانَ يدعو فِي افتتاح الصلاة المكتوبة بهذا - والله أعلم -؛ لأن الصلوات الخمس تكفر الذنوب والخطايا، كما قَالَ تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] ، فإقامة الصلوات المفروضات عَلَى وجهها يوجب مباعدة الذنوب، ويوجب - أَيْضاً - إنقاءها وتطهيرها؛ فإن

((مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار، يغتسل فِيهِ كل يوم خمس مرات)) وقد تقدم الحَدِيْث فِي ذَلِكَ، ويوجب - أَيْضاً - تبريد الحريق الَّذِي تكسبه الذنوب وإطفاءه.

وخرج الطبراني من حَدِيْث ابن مَسْعُود - مرفوعاً -: ((تحترقون [تحترقون] حَتَّى إذا صليتم الفجر غسلتها، ثُمَّ تحترقون تحترقون حَتَّى إذا صليتم الظهر غسلتها، ثُمَّ تحترقون تحترقون حَتَّى إذا صليتم العصر غسلتها، ثُمَّ تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثُمَّ تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها)) .

ص: 374

وقد روي موقوفاً، وَهُوَ أشبه.

وخرج - أَيْضاً - من حَدِيْث أَنَس - مرفوعاً -: ((إن الله ملكاً ينادي عِنْدَ كل صلاة ك يَا بني آدم، قوموا إلى نيرانكم الَّتِيْ أوقدتموها عَلَى أنفسكم فأطفئوها)) .

وخرج الإسماعيلي من حَدِيْث عُمَر بْن الخَطَّاب - مرفوعاً -: ((يجرقون، فإذا صلوا الصبح غسلت الصلاة مَا كَانَ قبلها)) حَتَّى ذكر الصلوات الخمس.

ولما كَانَتْ الصلاة صلة بَيْن العبد وربه، وكان المصلي يناجي ربه، وربه يقربه مِنْهُ، لَمْ يصلح للدخول فِي الصلاة إلا من كَانَ طاهراً فِي ظاهره وباطنه؛ ولذلك شرع للمصلي أن يتطهر بالماء، فيكفر ذنوبه بالوضوء، ثُمَّ يمشي إلى المساجد فيكفر ذنوبه بالمشي، فإن بقي من ذنوبه شيء كفرته الصلاة.

قَالَ سُلَيْمَان الفارسي: الوضوء يكفر الجراحات الصغار، والمشي إلى المسجد يكفر أكثر من ذَلِكَ، والصلاة تكفر أكثر من ذَلِكَ.

خرجه مُحَمَّد بْن نصر المروزي وغيره.

فإذا قام المصلي بَيْن يدي ربه فِي الصلاة وشرع فِي مناجاته، شرع لَهُ أول مَا يناجي ربه أن يسأل ربه أن يباعد بينه وبين مَا يوجب لَهُ البعد من ربه، وَهُوَ الذنوب، وأن يطهره مِنْهَا؛ ليصلح حينئذ للتقريب والمناجاة،

ص: 375

فيستكمل فوائد الصلاة وثمراتها من المعرفة والأنس والمحبة والخشية، فتصير صلاته ناهية لَهُ عَن الفحشاء والمنكر، وهي الصلاة النافعة.

وقد روي، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يستعيذ من صلاة لا تنفع.

خرجه أبو داود.

وخرجه البزار فِي ((مسنده)) بإسناد فِيهِ ضعف، عَن سمرة بْن جندب، أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُول لنا:((إذا صلى أحدكم فليقل: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بيني وبين المشرق والمغرب، اللهم إني أعوذ بك أن تصد عني وجهك يوم القيامة، اللهم نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم أحيني مسلماً وتوفني مسلماً)) .

وهذا حَدِيْث غريب.

والاستعاذة من الإعراض مناسبة لهذا المقام؛ فإن المصلي قائم بَيْن يدي الله

لمناجاته، فيحسن أن يستعيذ بِهِ من أن يعرض بوجهه عَنْهُ.

وفي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ جواز التفدية بالأبوين، وفيه كلام يذكر فِي موضع آخر ذو القعدة إن شاء الله تعالى.

وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ استدل بِهِ من يَقُول: إنه يستحب استفتاح [الصلاة] بذكر قَبْلَ الشروع فِي القراءة، وَهُوَ قَوْلِ أكثر العلماء، ثُمَّ اختلفوا:

فَقَالَ كثير منهم: يستحب استفتاح الصلاة بقول:

ص: 376

((سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)) .

صح هَذَا عَن عُمَر بْن الخَطَّاب، روي عَنْهُ من وجوه كثيرة، وعن ابن مَسْعُود، وروي عَن أَبِي بَكْر الصديق وعثمان بْن عَفَّانَ، وعن الْحَسَن وقتادة والنخعي، وَهُوَ قَوْلِ الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة وابن المبارك وأحمد وإسحاق - فِي رِوَايَة.

وقد روي فِي ذَلِكَ أحاديث مرفوعة من وجوه متعددة، أجودها: من حَدِيْث أَبِي سَعِيد وعائشة.

ص: 377

وَقَالَ الإمام أحمد: نذهب فِيهِ إلى حَدِيْث [عُمَر] ، وقد روي فِيهِ من وجوه ليست بذاك - فذكر حَدِيْث عَائِشَة وأبي هُرَيْرَةَ.

فصرح بأن الأحاديث المرفوعة

ص: 384

ليست قوية، وأن الاعتماد عَلَى الموقوف عَن الصَّحَابَة؛ لصحة مَا روي عَن عُمَر.

وروي عَن أَبِي إِسْحَاق، عَن عَبْد الله بْن أَبِي الخليل، قالَ: سَمِعْت علياً حِينَ افتتح الصلاة قَالَ: لا إله إلا أنت سبحانك إني قَدْ ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، فاغفر ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

وروي عَن ابن عُمَر، أَنَّهُ افتتح الصلاة، فَقَالَ: الله أكبر كبيراً، وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلاً، اللهم اجعلك أحب شيء إلي، واخشى شيء عندي. وذهب طائفة إلى الاستفتاح بقول:((وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً)) - الآيات، وما بعده من الدعاء.

وقد خرجه مُسْلِم من حَدِيْث عَلِيّ بْن أَبِي طالب، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يستفتح بذلك، خرجه فِي ((أبواب: صلاة الليل)) .

وخرجه الترمذي، وعنده: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يستفتح بِهِ فِي الصلاة المكتوبة.

وفي إسناده مقال.

وخرجه الطبراني من وجه آخر كذلك.

وخرجه النسائي من رِوَايَة مُحَمَّد بْن مسلمة، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا قام يصلي تطوعاً يَقُول ذَلِكَ.

ص: 385

وممن ذهب إلى الاستفتاح بهذا: الشَّافِعِيّ وأصحابه وإسحاق - فِي رِوَايَة.

وروي عَن عَلِيّ، أَنَّهُ كَانَ يستفتح بِهِ من وجه منقطع.

وظاهر كلام الشَّافِعِيّ وبعض أصحابه: أَنَّهُ يستفتح بِهِ كله الإمام وغيره.

وَقَالَ كثير من أصحابه: يقتصر الإمام عَلَى قوله: ((وأنا من المُسْلِمِين)) .

وقالت طائفة: يجمع بَيْن قوله: ((سبحانك اللهم وبحمدك)) وقوله: ((وجهت وجهي)) .

وَهُوَ قَوْلِ أَبِي يوسف وإسحاق - فِي رِوَايَة - وطائفة من الشافعية، ومنهم: أبو إِسْحَاق المروزي، وطائفة قليلة من أصحابنا.

وقد ورد فِي الجمع بَيْنَهُمَا أحاديث غير قوية الأسانيد.

وكل هَذَا عَلَى وجه الاستحباب، فلو لَمْ يستفتح الصلاة بذكر، بل بدأ بالقراءة صحت صلاته، ولو استفتح بشيء مِمَّا ورد حصلت بِهِ سَنَة الاستفتاح عِنْدَ الإمام أحمد وغيره من العلماء، ولو كَانَ الأفضل عِنْدَ بعضهم غيره.

وَقَالَ أحمد فِي رِوَايَة الميموني: مَا أحسن حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الاستفتاح - يعني: الحَدِيْث الَّذِي خرجه البخاري هاهنا - فَقِيلَ لَهُ: فإن بعض النَّاس يَقُول: هَذَا كلام؟ فَقَالَ - متعجباً -: وهل الدعاء إلا كلام فِي الصلاة ويجوز.

والمنكر لهذا هُوَ من يَقُول من الكوفيين: إنه لا يجوز الدعاء فِي الصلاة إلا بلفظ القرآن، فأما الثناء عَلَى الله فمتفق عَلَى جوازه فِي الصلاة.

وهذا مِمَّا يرجح

ص: 386

بِهِ الاستفتاح بـ ((سبحانك اللهم وبحمدك)) ؛ لاشتماله عَلَى أفضل الكلام، فإنه إذا جمع مَعَ التكبير صار متضمناً لقول:((سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)) ، وقد قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فيهن:((إنهن أفضل الكلام بعد القرآن)) .

وذهبت طائفة قليلة: إلى أن من ترك الاستفتاح عمداً أعاد صلاته، منهم: ابن بطة وغيره من أصحابنا، وربما حكي رِوَايَة عَن أحمد.

وَقَالَ الحكم: إذا قَالَ: سبحان الله حِينَ يفتتح الصلاة والحمد لله أجزأه.

وهذا يشعر بوجوبه.

وَقَالَ إِسْحَاق: إن تركه عمداً فهو مسيء، ولا يتبين لِي إيجاب الإعادة؛ لما ذكر فِي غير حَدِيْث، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا كبر قرأ فاتحة الكتاب.

وحكي الترمذي عَن بعض أهل الكوفة: أن حَدِيْث عَلِيّ بْن أَبِي طالب يعمل بِهِ فِي التطوع دون الفريضة.

وكذلك خرجه مُسْلِم فِي ((أبواب قيام الليل)) .

وَقَالَ أحمد - فِي رِوَايَة ابن منصور -: أنا أذهب إلى قَوْلِ ابن عُمَر، وإن قَالَ كما روي عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فلا بأس، وعامة مَا قَالَ فِي صلاة الليل.

وَقَالَ الوليد بْن مُسْلِم: ذكرت ذَلِكَ لسعيد بْن عَبْد العزيز، فأخبرني

ص: 387

عَن المشيخة، أنهم كانوا يقولون: هؤلاء الكلمات حِينَ يقبلون بوجوههم إلى القبلة، قَبْلَ تكبيرة الاستفتاح - يعني:((وجهت وجهي)) - قَالَ: ثُمَّ يتبعون تكبيرة الاستفتاح بـ ((سبحانك وبحمدك)) إلى آخره.

وذهب مَالِك إلى أَنَّهُ لا يشرع الاستفتاح فِي الصلاة، بل يتبع التكبير بقراءة الفاتحة.

وحكاه الإمام أحمد - فِي رِوَايَة حَنْبل - عَن ابن مَسْعُود وأصحابه.

وهذا غريب.

واستدل لمن ذهب إلى هَذَا القول بظاهر حَدِيْث أَنَس الَّذِي خرجه البخاري هاهنا فِي أول الباب.

وقد تقدم عَن إِسْحَاق، أَنَّهُ استدل بِهِ عَلَى أن الاستفتاح غير واجب.

وحمله آخرون عَلَى أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يتركه أحياناً؛ ليبين أَنَّهُ غير واجب.

وحمله آخرون عَلَى أن المراد بِهِ: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يبدأ بقراءة الفاتحة قَبْلَ السورة، ولم يرد بِهِ نفي الاستفتاح والتعوذ، فالمراد بِهِ - حينئذ - استفتاح قراءة الصلاة بالفاتحة.

وعلى هَذَا حمله الشَّافِعِيّ وأصحابه.

ويدل عَلِيهِ: أن الترمذي خرج هَذَا الحَدِيْث من رِوَايَة أَبِي عوانة، عَن قتادة، عَن أَنَس، قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بَكْر وعمر وعثمان يفتتحون القراءة بـ

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ولو كَانَتْ رِوَايَة شعبة الَّتِيْ خرجها البخاري عَلَى ظاهرها فِي افتتاح الصلاة لذلت عَلَى أن الصلاة

ص: 388

تفتتح بكلمة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} دون التكبير، ولم يقل أحد: إن هَذَا هُوَ المراد من هَذَا الحَدِيْث.

وَقَالَ آخرون: المراد من حَدِيْث أَنَس: أن القراءة فِي الصلاة الجهرية تفتتح بكلمة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} دون البسملة.

واستدلوا لذلك بما خرجه مُسْلِم فِي ((صحيحه)) من طريق غندر، عَن شعبة، قَالَ: سَمِعْت قتادة يحدث، عَن أَنَس، قَالَ: صليت مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بَكْر وعمر وعثمان فَلَمْ أسمع أحداً منهم يقرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .

وخرجه - أَيْضاً - من طريق أَبِي داود، عَن شعبة، وزاد: قَالَ شعبة: فَقُلْت لقتادة: أسمعته من أنس؟ قَالَ: نَعَمْ، نحن سألناه عَنْهُ.

ففي هذه الرواية: تصريح قتادة بسماعه لَهُ من أَنَس، فبطل بذلك [تخيل] من أعل الحَدِيْث بتدليس قتادة.

وخرجه مُسْلِم - أَيْضاً - من طريق الأوزاعي، عَن عبدة، أن عُمَر بْن الخَطَّاب كَانَ يجهر بهؤلاء الكلمات، يَقُول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك.

وعن قتادة، أَنَّهُ كتب إليه يخبره عَن أَنَس بْن مَالِك، أَنَّهُ حدثه، قَالَ: صليت خلف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بَكْر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لا يذكرون ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ، لا فِي أول قراءة ولا آخرها.

ص: 389

وعن الأوزاعي، قَالَ: أخبرني إِسْحَاق بْن عَبْد الله بْن أَبِي طلحة، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَس بْن مَالِك يذكر ذَلِكَ.

فهذه الرواية صحيحة، متصلة الإسناد بالسماع المُتَّصِل عَن قتادة، وإسحاق عَن أَنَس.

وقد روي حَدِيْث شعبة، عَن قتادة بالفاظ آخر.

فرواه وكيع، عَن شعبة، عَن قتادة، عَن أَنَس، قَالَ: صليت خلف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وخلف أَبِي بَكْر وعمر وعثمان، فكانوا لا يجهرون بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .

خرجه الإمام أحمد، عَن وكيع.

وخرجه الدارقطني من طرق، عَن شعبة - بنحوه.

ومن طريق شيبان وهمام عَن قتادة - أَيْضاً - بنحوه.

ومن طريق زيد بْن الحباب، عَن شعبة، وَقَالَ فِي حديثه: فَلَمْ أسمع ـحد منهم يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .

وكذا رواه سَعِيد بْن أَبِي عروبة وحجاج، عَن قتادة، عَن أَنَس.

وخرجه النسائي من رِوَايَة سَعِيد بْن أَبِي عروبة وشعبة، كلاهما عَن قتادة، ولفظه: فَلَمْ أسمع أحداً منهم يجهر بِهَا.

وخرجه أبو يعلى الموصلي من طريق غندر، عَن شعبة، ولفظه: لَمْ يكونوا يستفتحون الصلاة بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) . قُلتُ لقتادة:

ص: 390

أسمعته من أَنَس؟ قَالَ: نَعَمْ، ونحن سألناه عَنْهُ.

ورواه الأعمش، عَن شعبة، فَقَالَ: عَن ثابت، عَن أَنَس - بنحو هَذَا اللفظ.

وأخطأ فر قوله: ((ثابت)) ، إنما هُوَ:((عَن قتادة)) -: قاله أبو حاتم الرَّازِي والترمذي فِي ((كِتَاب العلل)) .

وقيل: إن الخطأ من عمار بْن رزيق، رِوَايَة عَن الأعمش.

وقد روي عَن شعبة، عَن قتادة وحميد وثابت، عَن أنس من وجه آخر فِيهِ نظر.

ورواه يزيد بْن هارون، عَن حماد، عَن قتادة وثابت، عَن أَنَس.

وخرجه الإمام أحمد عَن أَبِي كامل، عَن حماد بْن سَلَمَة، عَن ثابت وقتادة وحميد، عَن أَنَس، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بَكْر وعمر كانوا يفتتحون القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

ورواه حماد بْن سَلَمَة فِي ((كتابه)) كذلك، [إلا] أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يذكر حميد فِي روايته: النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

يعني: أن حميداً وحده وقفه، ولم يرفعه.

وقد رواه مَالِك فِي ((الموطإ)) عَن حميد، عَن أَنَس، قَالَ: قمت وراء أَبِي بَكْر وعمر وعثمان، فكلهم لا يقرأ:((بسم الله الرحمن الرحيم))

ص: 391

إذا افتتح الصلاة.

وقد رفعه عَن مَالِك الوليد بْن مُسْلِم وأبو قرة الزبيدي وإسماعيل بْن موسى السدي وابن وهب - من رِوَايَة ابن أخيه عَنْهُ.

والصحيح عَن مَالِك: ليس فِيهِ ذكر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وكذا الصحيح عَن حميد.

قَالَ أحمد: حميد لَمْ يرفعه.

وذكر الدارقطني جماعة رووه عَن حميد ورفعوه، منهم: معمر وابن عُيَيْنَة والثقفي وأبو بَكْر بْن عياش ومروان بْن معاوية وغيرهم.

ثُمَّ قَالَ: والمحفوظ: أن حميداً رواه عَن أَنَس، وشك فِي رفعه، وأخذه عَن قتادة، عَن أنس مرفوعاً.

وخرج النسائي من رِوَايَة أَبِي حَمْزَة، عَن منصور بْن زاذان، عَن أَنَس، قَالَ: صلى بنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يسمعنا قراءة ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ، وصلى بنا أبو بَكْر وعمر فَلَمْ نسمعها منهما.

وروى مُحَمَّد بْن أَبِي السري، عَن معتمر بْن سُلَيْمَان، عَن أَبِيه، عَن الْحَسَن، عَن أَنَس، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يسر ((بسم الله الرحمن الرحيم)) وأبو بَكْر وعمر.

خرجه الطبراني.

وروي من وجه آخر، عَن الْحَسَن، عَن أَنَس.

وروي عَن أَنَس من وجوه أخر، مِنْهَا: عَن أَبِي قلابة وثمامة وعائذ بْن شريح وغيرهم.

ص: 392

وقد اعترض طائفة من العلماء عَلَى هَذَا، بأن حَدِيْث أَنَس اختلفت ألفاظه، والمحفوظ من ذَلِكَ رِوَايَة من قَالَ: كَانَ يفتتح الصلاة - أو القراءة - بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، كما هِيَ الرواية الَّتِيْ خرجها البخاري، وهذه الرواية تحتمل أن المراد: افتتاح القراءة بقراءة سورة الفاتحة دون غيرها من السور.

وزعم الدارقطني: أن عامة أصْحَاب قتادة رووه عَنْهُ كذلك، منهم: أيوب وحميد، وأنه المحفوظ عَن قتادة وغيره، عَن أَنَس.

وكذلك رواه جماعة عَن شعبة كما خرجه البخاري، عَن أَبِي عُمَر الحوضي، عَنْهُ، كذا رواه يَحْيَى القطان ويزيد بْن هارون، عَن شعبة.

وكذلك ذكر الشَّافِعِيّ: أن أصْحَاب حميد خالفوا مالكاً فِي لفظ حديثه الَّذِي خرجه فِي ((الموطإ)) ، وقالوا: كانوا يفتتحون قراءتهم بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ

الْعَالَمِينَ} وذكر منهم سبعة أو ثمانية، منهم: ابن عُيَيْنَة والفزاري والثقفي.

والجواب عَن ذَلِكَ: أن مَا ذكروه من اخْتِلَاف ألفاظ الرواية يدل عَلَى أنهم كانوا يروون الحَدِيْث بالمعنى، ولا يراعون اللفظ، فإذا كَانَ أحد الألفاظ محتملاً، والآخر صريحاً لا احتمال فِيهِ، علم أنهم أرادوا باللفظ المحتمل هُوَ مَا دل عَلَيْهَا اللفظ الصريح الَّذِي لا احتمال فِيهِ، وأن معناهما عندهم واحد، وإلا لكان الرواة قَدْ رووا الحَدِيْث الواحد بألفاظ مختلفة متناقضة، ولا يظن ذَلِكَ بهم مَعَ علمهم وفقههم وعدالتهم وورعهم.

لا سيما وبعضهم قَدْ زاد فِي الحَدِيْث زيادة تنفي كل احتمال وشك، وهي

ص: 393

عدم ذكر قراءة البسملة فِي القراءة، وهذه زيادة من ثقات عدول حفاظ، تقضي عَلَى كل لفظ محتمل، فكيف لا تقبل؟ لا سيما وممن زاد هذه الزيادة الأوزاعي فقيه أهل الشام وإمامهم وعالمهم، مَعَ مَا اشتهر من بلاغته وفصاحته وبلوغه الذروة العليا من ذَلِكَ.

والذي رَوَى نفي قراءة البسملة من أصْحَاب حميد هُوَ مَالِك، ومالك مَالِك فِي فقهه وعلمه وورعه وتحريه فِي الرواية، فكيف ترد روايته المصرحة بهذا المعنى برواية شيوخ ليسوا فقهاء لحديث حميد بلفظ محتمل؟

فالواجب فِي هَذَا ونحوه: أن تجعل الرواية الصريحة مفسرة للرواية المحتملة؛ فإن هَذَا من بَاب عرض المتشابه عَلَى المحكم، فأما رد الروايات الصريحة للرواية المحتملة فغير جائز، كما لا يجوز رد المحكم للمتشابه.

ومن زعم: أن ألفاظ الحَدِيْث متناقضة فلا يجوز الاحتجاج بِهِ فَقَدْ أبطل، وخالف مَا عَلِيهِ أئمة الإسلام قديماً وحديثاً فِي الاحتجاج بهذا الحَدِيْث والعمل بِهِ.

وأيضاً؛ فأي فائدة فِي رِوَايَة أَنَس أو غيره: أن القراءة تفتتح بفاتحة الكتاب، فتقرأ الفاتحة قَبْلَ السورة، وهذا أمر معلوم من عمل الأمة، لَمْ يخالف فِيهِ منهم أحد، ولا اختلف فِيهِ اثنان، لا يحتاج إلى الإخبار بِهِ، كما أن أحداً من الصَّحَابَة لَمْ يرو فِي أمور الصلاة مَا كَانَ مقرراً عِنْدَ الأمة، لا يحتاج إلى الإخبار بِهِ، مثل عدد الركعات بعد استقرارها أربعاً، ومثل الجهر فيما يجهر بِهِ والإسرار فيما يسر، ونحو ذَلِكَ مِمَّا لا فائدة فِي الإخبار بِهِ.

فكذلك ابتداء القراءة بالفاتحة، لا يحتاج إلى الإخبار بِهِ، ولا إلى السؤال عَنْهُ، وقد كَانَ أَنَس يسأل عَن هَذَا - كما قَالَ قتادة: نحن سألناه عَنْهُ، وقد تقدم - وكان يَقُول - أحياناً -: مَا سألني عَن هَذَا أحد.

ص: 394

وروي عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: مَا أحفظه.

وهذا يدل عَلَى أَنَّهُ مِمَّا يخفى عَلَى السائل والمسئول، ولو كَانَ السؤال عَن الابتداء بقراءة الفاتحة لَمْ يخف عَلَى سائل ولا مسئول عَنْهُ.

فخرج الإمام أحمد من طريق شعبة: قَالَ قتادة: سألت أَنَس بْن مَالِك: بأي شيء كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح القراءة؟ قَالَ: إنك لتسألني عَن شيء مَا سألني عَنْهُ أحد.

ومن طريق سَعِيد، عَن قتادة، قَالَ: قُلتُ لأنس - فذكره.

قَالَ: وحدثنا إِسْمَاعِيل - يعني: ابن علية -: ثنا سَعِيد بْن يزيد: أنا قتادة - أبو مسلمة -، قَالَ: قُلتُ لأنس.

قَالَ أحمد: وحدثنا غسان بْن مضر، عَن أَبِي مسلمة سَعِيد بْن يزيد، قَالَ: سألت أَنَس بْن مَالِك: أكان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) أو

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ؟ فَقَالَ: إنك تسألني عَن شيء مَا أحفظه، أو مَا سألني عَنْهُ أحد قبلك.

وخرجه من هَذَا الوجه ابن خزيمة والدارقطني، وصحح إسناده.

ص: 395

وقد ذكرنا أَنَّهُ مختلف فِيهِ، وعلى تقدير أن يكون محفوظاً، فالمراد: هَلْ كَانَ يقرأ البسملة فِي نفسه، أم لا؟ فَلَمْ يكن عنده مِنْهُ علم؛ لأنه لَمْ يسمع قراءتها، فلا يدري: هَلْ كَانَ يسرها، أم لا؟

وأيضاً؛ فَقَدْ شك الرَّاوي: هَلْ قَالَ: ((لا أحفظه)) ، أو ((مَا سألني عَنْهُ أحد قبلك)) ، فالظاهر: أَنَّهُ إنما قَالَ: ((مَا سألني عَنْهُ أحد قبلك)) ، كما رواه شعبة وغيره عَن قتادة، كما تقدم.

وعلى تقدير: أن يكون قَالَ: ((مَا أحفظه)) ، فيجوز أن يكون نسي مَا أخبر بِهِ قتادة وغيره من قَبْلَ ذَلِكَ، ويكون قَالَ ذَلِكَ عِنْدَ كبره وبعد عهده بما سئل عَنْهُ.

قَالَ ابن عَبْد البر: من حفظ عَنْهُ حجة عَلَى من سأله فِي حال نسيانه. والله

أعلم.

فإن قيل: فَقَدْ رَوَى الأوزاعي، عَن إِسْحَاق بْن عَبْد الله بْن أَبِي طلحة، عَن أَنَس، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بَكْر وعمر وعثمان كانوا يستفتحون بأم القرآن، فيما يجهر فِيهِ.

خرجه ابن جوصة والدارقطني.

وهذا صريح فِي أن المراد ابتداء القراءة بفاتحة الكتاب.

قيل: ليس المراد الإخبار بأنهم كانوا يقرءون أم القرآن قَبْلَ سور سواها؛ فإن هذه لا فائدة فِيهِ إنما المراد: أنهم كانوا لا يقرءون قَبْلَ أم القرآن شيئاً يجهرون بِهِ فِي الصلاة، فتدخل فِي ذَلِكَ البسملة؛ فإنها ليست من أم القرآن.

ويدل على هَذَا شيئان:

ص: 396

أحدهما: أن رِوَايَة الأوزاعي الَّتِيْ فِي ((صحيح مُسْلِم)) : لا يذكرون ((بسم الله الرحمن الرحيم)) فِي أول قراءة ولا آخرها.

والأوزاعي إمام فقيه عندما يروي، فرواياته كلها متفقة.

والثاني: أن الأوزاعي كَانَ يأخذ بهذا الحَدِيْث الَّذِي رواه، ولا يرى قراءة البسملة قَبْلَ الفاتحة من أولا جهراً، وسنذكر قوله فِي ذَلِكَ فيما بعد - إن شاء الله سبحانه وتعالى.

وقد عارض بعضهم حَدِيْث أَنَس هَذَا بما خرجه البخاري فِي ((فضل القرآن)) من ((صحيحه)) هَذَا: حَدَّثَنَا عَمْرِو بْن عاصم: ثنا همام، عَن قتادة، قَالَ: سئل أَنَس: كَيْفَ كَانَتْ قراءة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: كَانَتْ مداً، ثُمَّ قرأ:((بسم الله الرحمن الرحيم)) ، يمد بـ ((بسم الله)) ، ويمد بـ ((الرحمن)) ويمد بـ ((الرحيم)) .

وخرجه - أَيْضاً - من طريق جرير بْن حَازِم، عَن قتادة - إلى قوله:((مداً)) ، ولم يذكر:((ثُمَّ قرأ)) وما بعده.

وقد ذكر ابن أَبِي خيثمة فِي ((كتابه)) : أن يَحْيَى بْن معين سئل عَن حَدِيْث جرير هَذَا، فَقَالَ: ليس بشيء.

قُلتُ: وروايات جرير بْن حَازِم عَنْ قتادة فيها مناكير -: قاله الإمام أحمد ويحيى وغير واحد.

وقد تابعه عَلَى هَذَا: همام.

قَالَ: وروي عَن قتادة مرسلاً، وَهُوَ أشبه -: ذكره فِي ((العلل)) .

ص: 397

قُلتُ: وقد روي بإسناد فِيهِ لين، عَن حرب بْن شداد، عَن قتادة، قَالَ: سألت أَنَس بْن مَالِك: كَيْفَ كَانَتْ قراءة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: كَانَ إذا قرأ مد صوته مداً.

خرجه الطبراني.

وفي الجملة؛ فتفرد عَمْرِو بْن عاصم عَن همام بذكر البسملة فِي هَذَا الحَدِيْث.

وقد روي عَن شعبة، عَن همام بدون هذه الزيادة.

خرجه أبو الحسين بن المظفر فِي ((غرائب شعبة)) .

وعلى تقدير أن تكون محفوظة، فليس فِي الحَدِيْث التصريح بقراءته فِي الصلاة، فَقَدْ يكون وصف قراءته فِي غير الصلاة، ويحتمل - وَهُوَ أشبه -: أن يكون أَنَس أو قتادة قرأ: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) عَلَى هَذَا الوجه، وأراد تمثيل قراءته بالمد، ولم يرد بِهِ حكاية عين قراءته للبسملة.

ويشهد بهذا: مَا خرجه أبو داود من حَدِيْث ابن جُرَيْج، عَن ابن أَبِي مليكة، عَن أم سَلَمَة، ذكرت قراءة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم:((بسم الله الرحمن الرحيم)) . {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، يقطع قراءته آية آية.

وخرجه الترمذي ولم يذكر فِي أوله البسملة، وزاد: وكان يقرأها {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .

وقراءة هذه الآيات عَلَى هَذَا الوجه إنما هُوَ من حكاية ابن جُرَيْج

ص: 398

لحديث أم سَلَمَة، وقولها: كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته آية آية، كذلك قاله النسائي وأبو داود السجستاني، حكاه عنهما أبو بَكْر بْن أَبِي داود فِي كتابه ((المصاحف)) .

وكذا قَالَ الإمام أحمد فِي رِوَايَة ابن الْقَاسِم، وقالوا: ابن جُرَيْج هُوَ الَّذِي قرأ

{ملِكِ} ، وليس ذَلِكَ فِي حَدِيْث أم سَلَمَة.

يدل على صحة هَذَا: مَا خرجه الإمام أحمد من طريق نَافِع، عَن ابن أَبِي مليكة، عَن بعض أزواج النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ نَافِع: أراها حَفْصَةَ -، أنها سئلت عَن قراءة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: إنكم لا تستطيعونها، فَقِيلَ: أخبرينا بِهَا، فقرأت قراءة ترسلت فيها. قَالَ نَافِع: فحكى لنا ابن أَبِي مليكة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ثُمَّ قطع {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ثُمَّ قطع {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .

ففي هذه الرواية: تصريح ابن جُرَيْج بأن هذه القراءة إنما هِيَ حكاية مَا قرأ لهم ابن أَبِي مليكة.

وفي لفظ الحَدِيْث اختلاف فِي ذكر البسملة وإسقاطها.

وفي إسناده - أَيْضاً - اخْتِلَاف؛ فَقَدْ أدخل الليث بْن سعد فِي روايته عَن ابن أَبِي مليكة بينه وبين أم سليمة: يعلى بْن مملك، وصحح روايته الترمذي وغيره.

وَقَالَ النسائي فِي يعلى هَذَا: ليس بمشهور.

وَقَالَ بعضهم: عَن يعلى، عَن عَائِشَة.

وقد ذكر الاختلاف فِيهِ الدارقطني فِي ((علله)) ، وذكر أن عُمَر بْن

ص: 399

هارون زاد فِيهِ: عَن ابن جُرَيْج، وعد:((بسم الله الرحمن الرحيم)) آية.

وعمر بْن هارون، لا يلتفت إلى تفرد بِهِ.

وقد يكون ابن جُرَيْج عدها آية - أو ابن أَبِي مليكة.

ومن زعم: أَنَّهُ صحيح؛ لتخريج ابن خزيمة لَهُ، فَقَدْ وهم.

ومن زعم من متقدمي الفقهاء أن حفص بْن غياث رواه عَن ابن جُرَيْج كذلك وأنه أخبره بِهِ عَنْهُ غير واحد، فَقَدْ وهم، ورواه بالمعنى الَّذِي فهمه هُوَ، وَهُوَ وأمثاله من الفقهاء يروون بالمعنى الَّذِي يفهمونه، فيغيرون معنى الحَدِيْث.

وحديث حفص مشهور، مخرج فِي المسانيد والسنن باللفظ المشهور.

وقد ادعى طائفة: أن حَدِيْث قتادة وإسحاق بْن أَبِي طلحة ومن تابعهما عَن أَنَس كما تقدم معارض بروايات أخر عَن أَنَس، تدل عَلَى الجهر بالبسملة، فإما أن تتعارض الروايات وتسقط، أو ترجح رِوَايَة الجهر؛ لأن الإثبات مقدم عَلَى النفي.

فروى الشَّافِعِيّ: نا عَبْد المجيد بْن عَبْد العزيز، عَن ابن جُرَيْج، قَالَ: أخبرني عَبْد الله بْن عُثْمَان بْن خثيم، أن أَبَا بَكْر بْن حفص بْن عُمَر أخبره، أن أنس بْن مَالِك قَالَ: صلى معاوية بالمدينة صلاة، فجهر فيها بالقراءة، فقرأ:((بسم الله الرحمن الرحيم)) لأم القرآن، ولم يقرأ بِهَا للسورة الَّتِيْ بعدها حَتَّى قضى تلك القراءة، ولم يكبر حَتَّى قضى تلك، فلما سلم ناداه من شهد ذَلِكَ من المهاجرين من كل مكان: يَا معاوية: أسرقت

ص: 400

الصلاة، أم نسيت؟ فلما صلى بعد ذَلِكَ قرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) للسورة الَّتِيْ بعد أم القرآن، وكبر حِينَ يهوي ساجداً.

ورواه عَبْد الرزاق عَن ابن جُرَيْج بهذا الإسناد، وَقَالَ فِيهِ: فَلَمْ يقرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) لأم القرآن، ولم يقرأ بِهَا للسورة التي بعدها.

وخرجه الشافعي - أيضا - عن إبراهيم بن محمد - هو: ابن أبي يحيى -: حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم، ولم يقرأ:((بسم الله الرحمن الرحيم)) ، ولم يكبر إذا رفع.

ورواه - أَيْضاً - عَن يَحْيَى بْن سليم، عَن عَبْد الله بْن عُثْمَان بْن خثيم، عَن إِسْمَاعِيل بْن عُبَيْدِ بن رِفَاعَة، عَن أَبِيه - فذكر بنحوه.

قَالَ الشَّافِعِيّ: وأحسب هَذَا الإسناد أحفظ من الإسناد الأول.

قَالَ البيهقي: ورواه إِسْمَاعِيل بْن عياش، عَن ابن خثيم، عَن

ص: 401

إِسْمَاعِيل ابن عُبَيْدِ بْن رِفَاعَة، عن أبيه، عَن جده، أن معاوية قدم المدينة.

قَالَ: ويحتمل أن يكون ابن خثيم سمعه منهما، والله أعلم. انتهى.

فعلى طريقة الشَّافِعِيّ فِي ترجيح الإسناد الثاني عَلَى الحَدِيْث، ليس هَذَا الحَدِيْث من رِوَايَة أَنَس بْن مَالِك بالكلية، فلا يكون معارضاً لروايات أَنَس الصحيحة الثابته.

وعلى التقدير الآخر، فليس هَذَا الحَدِيْث مرفوعاً، وإنما فِيهِ إنكار من كَانَ حاضراً تلك الصلاة من المهاجرين، وإنما حضر ذَلِكَ قليل منهم؛ فإن أكابرهم توفوا قَبْلَ ذَلِكَ، فغاية هَذَا: أن يكون موقوفاً عَلَى جماعة من الصَّحَابَة، فكيف ترد بِهِ الرواية المرفوعة، وليس فِيهِ تصريح بإنكار ترك الجهر بالبسملة، بل يحتمل أنهم إنما أنكروا قراءتها فِي الجملة، وذلك محتمل بأن يكون معاوية وصل تكبيرة الإحرام بقراءة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} من غير سكوت بَيْنَهُمَا يتسع للبسملة، ثُمَّ وصل الفاتحة بقراءة سورة من غير سكوت يتسع للبسملة.

ورواية ابن جُرَيْج صريحة فِي أن معاوية لَمْ يقرأ البسملة مَعَ الفاتحة - ?? أَيْضاً -، فيدل هَذَا عَلَى اتفاقهم عَلَى أن البسملة ليست من الفاتحة، وإلا لأمروه بإعادة الصلاة، أو لأعادوا هم صلاتهم خلفه.

وبكل حال؛ المضطرب إسناده وألفاظه لا يجوز أن يكون معارضاً لأحاديث أَنَس الصحيحة الصريحة.

وقد تفرد بهذا الحَدِيْث عَبْد الله بْن عُثْمَان بْن خثيم، وليس بالقوي؛ ترك حديثه يَحْيَى القطان وابن مهدي.

ومن العجب، قَوْلِ بعضهم: يكفي أن مسلماً خرج لَهُ، مَعَ طعنه

ص: 402

فِي حَدِيْث الأوزاعي الَّذِي خرجه مُسْلِم فِي ((صحيحه)) من حَدِيْث أنس المصرح بنفي قراءة البسملة.

وقوله: إنه معلول غير ثابت، بغير حجة ولا برهان، نعوذ بالله من اتباع الهوى.

فإن قيل: فَقَدْ روي عَن أَنَس أحاديث صريحة فِي الجهر بالبسملة:

فروى حاتم بْن إِسْمَاعِيل، عَن شريك بن عَبْد الله بن أَبِي نمر، عَن أَنَس، قَالَ: سَمِعْت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .

خرجه الحَاكِم فِي ((المستدرك)) من طريق أصبع بْن الفرج، عَن حاتم، بِهِ.

وَقَالَ: رواته ثقات.

قُلتُ: هَذَا لا يثبت؛ فَقَدْ خرجه الدارقطني من طريق آخر عَن حاتم بْن

إِسْمَاعِيل، عَن شريك بْن عَبْد الله، عَن إِسْمَاعِيل المكي، عَن قتادة، عَن أَنَس - فذكره.

فتبين بهذه الرواية أَنَّهُ سقط من رِوَايَة الحَاكِم من إسناده رجلان: أحدهما إِسْمَاعِيل المكي، وَهُوَ: ابن مُسْلِم، متروك الحَدِيْث، لا يجوز الاحتجاج بِهِ.

وخرج الدارقطني - أَيْضاً - من طريق معتمر بْن سُلَيْمَان، عَن أَبِيه، عَن أَنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .

وفي إسناده مجاهيل لا يعرفون.

وخرج - أَيْضاً - بإسناد منقطع وجادة وجدها فِي كِتَاب عَن مُحَمَّد بْن المتوكل بْن أَبِي السري العسقلاني، أَنَّهُ صلى خلف المعتمر بْن

ص: 403

سُلَيْمَان، فكان يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ، وَقَالَ: إني مَا آلو أن اقتدي بصلاة المعتمر، وَقَالَ أَنَس: مَا آلو أن اقتدي بصلاة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا لا يثبت؛ لوجوه:

مِنْهَا: انقطاع أول إسناده.

ومنها: أَنَّهُ ليس فِيهِ تصريح برواية معتمر للجهر بالبسملة بهذا الإسناد، وإنما فِيهِ اقتداء كلي فِي الصلاة، ومثل هَذَا لا يثبت به نقل تفاصيل أحكام الصلاة الخاصة.

ومنها: أن المعتمر بْن سُلَيْمَان إنما كَانَ يروي حَدِيْث البسملة بإسناد آخر عَن إِسْمَاعِيل بْن حماد، عَن أَبِي خَالِد، عَن ابن عَبَّاس، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يفتتح صلاته بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .

خرجه من طريقه كذلك أبو داود، وَقَالَ: هَذَا حَدِيْث ضَعِيف.

والترمذي، وَقَالَ: إسناده ليس بذاك. وقال: إِسْمَاعِيل بْن حماد، هُوَ: ابن أَبِي سُلَيْمَان، وأبو خالد، هُوَ: الوالبي، كذا قَالَ.

وَقَالَ الإمام أحمد - فِي رِوَايَة حَنْبل -: إِسْمَاعِيل بْن حماد: ليس بِهِ بأس، ولا أعرف أبا خَالِد - يعني: أَنَّهُ غير الوالبي.

ص: 404

كذا قَالَ العقيلي، قَالَ: إِسْمَاعِيل بْن حماد بْن أَبِي سليمان حديثه غير محفوظ

- يعني: هَذَا الحَدِيْث -، ويحكيه عَن مجهول كوفي.

وخرجه ابن عدي فِي ((كتابه)) من طريق معتمر، كما خرجه أبو داود وغيره.

وخرج - أَيْضاً - من طريق آخر عَن معتمر، قَالَ: سَمِعْت ابن حماد، عَن عمران بْن خَالِد، عَن ابن عَبَّاس.

ثُمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيْث لا يرويه غير معتمر، وَهُوَ غير محفوظ، سواء قَالَ: عَن أَبِي خَالِد، أو عمران بْن خَالِد؛ جميعاً مجهولان.

وَقَالَ ابن عَبْد البر: هَذَا الحَدِيْث - والله أعلم - إنه روي عَن ابن عَبَّاس من فعله لا مرفوعاً إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

ومنها: أن مُحَمَّد بْن المتوكل لَمْ يخرج لَهُ فِي ((الصحيح)) ، وقد تكلم فِيهِ أبو حاتم الرَّازِي وغيره ولينوه، وَهُوَ كثير الوهم.

وقد روي عَنْهُ هَذَا الحَدِيْث عَلَى وجه آخر:

خرجه الطبراني عَن عَبْد الله بْن وهيب الغزي، عَن مُحَمَّد بْن أَبِي السري، عَن معتمر بْن سُلَيْمَان، عَن أَبِيه، عَن الْحَسَن، عَن أَنَس، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يسر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) وأبو بَكْر وعمر.

فهذه الرواية المتصلة الإسناد أولى من تلك المنقطعة.

وأعجب من هَذَا: مَا خرجه الحَاكِم من طريق سيف بْن عَمْرِو أَبِي

ص: 405

جابر، عَن مُحَمَّد بْن أَبِي السري، عَن إِسْمَاعِيل بْن أَبِي أويس، عَن مَالِك، عَن حميد، عَن أَنَس، قَالَ: صليت خلف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وخلف أَبِي بَكْر وخلف عُمَر وخلف عُثْمَان وخلف عَلِيّ، فكلهم كانوا يجهرون بقراءة ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .

وتخريج هَذَا فِي ((المستدرك)) من المصائب، ومن يخفى عَلِيهِ أن هَذَا كذب عَلَى مَالِك، وأنه لَمْ يحدث بِهِ عَلَى هَذَا الوجه قط؛ إنما رَوَى عَن حميد، عَن أَنَس، أن أَبَا بَكْر وعمر وعثمان كانوا لا يقرأون:((بسم الله الرحمن الرحيم)) .

هكذا خرجه فِي ((الموطإ)) ، ورواه عَنْهُ جماعة، وذكروا فِيهِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَيْضاً - وقد سبق ذكر ذَلِكَ.

فمن اتقى وأنصف علم أن حَدِيْث أنس الصحيح الثابت لا يدفع بمثل هذه المناكير والغرائب والشواذ الَّتِيْ لَمْ يرض بتخريجها أصْحَاب الصحاح، ولا أهل السنن مَعَ تساهل بعضهم فيما يخرجه، ولا أهل المسانيد المشهورة مَعَ تساهلهم فيما يخرجونه.

وإنما جمعت هذه الطرق الكثيرة الغريبة والمنكرة لما اعتنى بهذه المسألة من اعتنى بِهَا، ودخل فِي ذَلِكَ نوع من الهوى والتعصب، فإن أئمة الإسلام المجتمع عليهم إنما قصدوا اتباع مَا ظهر لهم من الحق وسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، لَمْ يكن لهم قصد فِي غير ذَلِكَ رضي الله عنهم، ثُمَّ حدث بعدهم من كَانَ قصده أن تكون كلمة فلان وفلان هِيَ العليا، ولم يكن ذَلِكَ قصد أولئك المتقدمين، فجمعوا وكثروا الطرق والروايات

ص: 406

الضعيفة والشاذة والمنكرة والغريبة، وعامتها موقوفات رفعها من ليس بحافظ، أو من هُوَ ضَعِيف لا يحتج بِهِ، أو مرسلات وصلها من لا يحتج بِهِ، مثلما وصل بعضهم مرسل الزُّهْرِيّ فِي هَذَا، فجعله عَنْهُ، عَن ابن المُسَيِّب، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، ووصله باطل قطعاً.

والعجب ممن يعلل الأحاديث الصحيحة المخرجة فِي ((الصحيح)) بعلل لا تساوي شيئاً، إنما هِيَ تعنت محض، ثُمَّ يحتج بمثل هذه الغرائب الشاذة المنكرة، ويزعم أنها صحيحة لا علة لها.

وقد اعتنى بهذه المسألة وأفرادها بالتصنيف كثير من المُحَدِّثِين، منهم: مُحَمَّد بْن نصر وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني وأبو بَكْر الخَطِيْب والبيهقي وابن عَبْد البر وغيرهم من المتأخرين.

ولولا خشية الإطالة لذكرنا كل حَدِيْث احتجوا بِهِ، وبيان أَنَّهُ لا حجة فِيهِ عَلَى الجهر؛ فإنها دائرة بَيْن أمرين: إما حَدِيْث صحيح غير صريح، أو حَدِيْث صريح غير صحيح.

ومن أقوى مَا احتجوا بِهِ: حَدِيْث خَالِد بْن يزيد، عَن سَعِيد بْن أَبِي هلال، عَن نعيم المجمر، أَنَّهُ صلى وراء أَبِي هُرَيْرَةَ، فقرأ:((بسم الله الرحمن الرحيم)) ، ثُمَّ قرأ بأم القرآن، ثُمَّ قَالَ لما سلم: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 407

خرجه النسائي وابن خزيمة والحاكم وغيرهم.

وسعيد وخالد، وإن كانا ثقتين، لكن قَالَ أبو عُثْمَان البرذعي فِي ((علله عَن أَبِي زُرْعَة الرَّازِي)) ، أَنَّهُ قَالَ فيهما: ربما وقع فِي قلبي من حسن حديثهما.

قَالَ: وَقَالَ أبو حاتم: أخاف أن يكون بعضها مراسيل، عَن ابن أبي فروة وابن سمعان.

يعني: مدلسة عنهما.

ثُمَّ هَذَا الحَدِيْث ليس بصريح فِي الجهر، إنما فِيهِ أَنَّهُ قرأ البسملة، وهذا يصدق بقراءتها سراً.

وقد خرجه النسائي فِي ((باب: ترك الجهر بالبسملة)) .

وعلى تقدير أن يكون جهر بِهَا، فيحتمل أن يكون جهر بِهَا ليعلم النَّاس استحباب قراءتها فِي الصلاة، كما جهر عُمَر بالتعوذ

ص: 408

لذلك.

وأيضاً؛ فإنه قَالَ: قرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ثُمَّ قرأ بأم القرآن، وهذا دليل عَلَى أنها ليست من أم القرآن، وإنما تقرأ قَبْلَ أم القرآن تبركاً بقراءتها.

وأيضاً؛ فليس فِي الحَدِيْث تصريح بأن جميع مَا فعله أبو هُرَيْرَةَ فِي هذه الصلاة نقله صريحاً عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما فِيهِ أن صلاته أشبه بصلاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من غيره.

وخرج الدارقطني من حَدِيْث أَبِي أويس، عَن العلاء، عَن أَبِيه، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إذا أم النَّاس قرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .

وهذا مِمَّا تفرد بِهِ أبو أويس، وقد تكلم فِيهِ، وإن خرج لَهُ مُسْلِم، ووثقه غير واحد.

وليس - أَيْضاً - بصريح فِي الجهر، بل يحتمل أَنَّهُ كَانَ يقرأها سراً.

وقد روي بهذا الإسناد بعينة، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لا يجهر بِهَا، وسنذكره.

وخرج ابن عَبْد البر بهذا الإسناد: التصريح بالجهر بِهَا، بإسناد فِيهِ

ص: 409

النضر ابن سَلَمَة شاذان، وَهُوَ متهم بالكذب.

وخرج الدارقطني - أَيْضاً - من رِوَايَة أَبِي بَكْر الحنفي، عَن عَبْد الحميد بْن جَعْفَر، عَن نوح بْن أَبِي بلال، عَن سَعِيد المقبري، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((إذا قرأتم {الْحَمْدُ} فاقرءوا: بسم الله الرحمن الرحيم؛ إنها أحد آياتها)) ، وذكر فِيهِ فضل الفاتحة. قَالَ الحنفي: لقيت نوحاً، فحدثني عَن سَعِيد، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ - بمثله، ولم يرفعه.

وذكر الدارقطني فِي ((علله)) : أن وقفه أشبه بالصواب.

قُلتُ: ويدل عَلَى صحة قوله: أن ابن أَبِي ذئب رَوَى الحَدِيْث فِي فضل الفاتحة، عَن المقبري، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعاً، ولم يذكر فِيهِ: البسملة.

وروى إِبْرَاهِيْم بْن إِسْحَاق السراج، عَن عقبة بْن مكرم، عَن يونس بْن بكير: ثنا مِسْعَر، عَن مُحَمَّد بْن قيس، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يجهر

بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .

خرجه الدارقطني والحاكم.

وظن بعضهم أَنَّهُ إسناد صحيح، وليس كذلك؛ فإن السراج وهم فِي قوله فِي إسناده:((حَدَّثَنَا مِسْعَر)) ، إنما هُوَ ((أبو معشر)) ، كذا قَالَ الدارقطني والخطيب، وقبلهما أبو بَكْر الإسماعيلي فِي ((مسند مِسْعَر)) ، وحكاه عَن أَبِي بَكْر ابن عمير الحافظ.

وَقَالَ البيهقي: الصواب أبو معشر.

ص: 410

وأبو معشر، وَهُوَ نجيح السندي، ضَعِيف جداً.

وخرج الدارقطني وغيره من حَدِيْث حميد، عَن الْحَسَن، عَن سمرة، قَالَ: كَانَتْ لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم سكتتان: سكتة إذا قرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ، وسكتة إذا فرغ من القراءة، فأنكر ذَلِكَ عمران بْن حصين، فكتبوا إلى أَبِي بْن كعب، فكتب: أن صدق سمرة.

ورواة هَذَا الحَدِيْث كلهم ثقات، كما ذكره غير واحد، لكن سماع الْحَسَن من سمرة مختلف فِيهِ.

وإن ثبت فهو دليل عَلَى الإسرار بالبسملة، لا عَلَى الجهر؛ لأنه صرح بأن سكتته الأولى كَانَتْ إذا قرأ البسملة، ومراده: إذا أراد قراءتها، فدل عَلَى أَنَّهُ كَانَ يقرأها فِي السكتة الأولى، وإلا فلا يَقُول أحد: إن السنة أن يقرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) جهزاً، ثُمَّ يسكت بعد ذَلِكَ سكتة، ثُمَّ يقرأ الفاتحة، ولا نقل هَذَا أحد عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ولا عَن أحد من أصحابه، ولا قَالَ بِهِ قائل.

وقد رَوَى هَذَا الحَدِيْث قتادة، عَن الْحَسَن، عَن سمرة، وفسر قتادة السكتتين: إذا دَخَلَ فِي الصلاة، وإذا فرغ من القراءة.

وفي رِوَايَة قَالَ: سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ.

خرجه أبو داود وغيره.

وخرج - أَيْضاً - من حَدِيْث يونس، عَن الْحَسَن، عَن سمرة، قَالَ: حفظت سكتتين فِي الصلاة: سكتة إذا كبر الإمام حَتَّى يقرأ، وسكتة إذا فرغ.

ص: 411

ففي هذه الروايات كلها: تصريح بأن السكتة كَانَتْ بَيْن التكبير والقرءاة، كما فِي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ.

وخرج الحَاكِم من طريق عَبْد الله بْن عَمْرِو بْن حسان، عَن شريك، عَن سَالِم الأفطس، عَن سَعِيد بْن جبير، عَن ابن عَبَّاس، قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يجهر

بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .

وَقَالَ: صحيح، ليس لَهُ علة.

وهذه زلة عظيمة؛ فإن عَبْد الله بْن عَمْرِو بْن حسان هَذَا هُوَ الواقعي، نسبه ابن المديني إلى الوضع. وَقَالَ الدارقطني: كَانَ يكذب. وَقَالَ أبو حاتم الرَّازِي: كَانَ لا يصدق.

وخرج الدارقطني هَذَا الحَدِيْث من طريق أَبِي الصلت الهروي، عَن عباد ابن العَوَّامِ، عَن شريك، وَقَالَ فِيهِ: يجهر فِي الصلاة.

وأبو الصلت هَذَا، متروك.

وخرجه الطبراني فِي ((أوسطه)) من طريق يَحْيَى بْن طلحة اليربوعي، عَن عباد بْن العَوَّامِ بهذا الإسناد، ولفظ حديثه: كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) هزأ مِنْهُ المشركون، وقالوا: مُحَمَّد يذكر إله اليمامة، وكان مسيلمة يتسمى الرحمن، فلما نزلت هذه الآية أمر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن لا يجهر بِهَا.

ص: 412

وهذا لَوْ صح لدل عَلَى نسخ الجهر بِهَا، ولكن الصحيح أَنَّهُ مرسل، وكذلك رواه يَحْيَى بْن معين، عَن عباد بْن العَوَّامِ: ثنا شريك بْن عَبْد الله بْن سنان، عَن سَالِم الأفطس، عَن سَعِيد بْن جبير، فِي قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ

بِهَا} [الاسراء:110] قَالَ: نَزَلَتْ فِي ((بسم الله الرحمن الرحيم)) - وذكر الحَدِيْث بمعناه مرسلاً.

كذا خرجه عَنْهُ المفضل الغلابي فِي ((تاريخه)) .

وكذا خرجه أبو داود فِي ((المراسيل)) عَن عباد بْن موسى، عَن عباد بْن العَوَّامِ، وعنده: فأمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بإخفائها، فما جهر بِهَا حَتَّى مات.

وكذا رواه يَحْيَى بْن آدم، عَن شريك، عَن سَالِم، عَن سَعِيد - مرسلاً.

وَهُوَ أصح.

وقد روي عَن إِسْحَاق بْن راهويه، [عَن إِسْحَاق]- موصولاً، ولا يصح.

ذكره البيهقي فِي ((المعرفة)) .

وروى عُبَيْدِ الله بْن عَمْرِو الرقي، عَن عَبْد الكريم الجزري، عَن أَبِي الزُّبَيْر، عَن ابن عُمَر، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ كَانَ إذا قام إلى الصلاة، فأراد أن يقرأ قَالَ:((بسم الله الرحمن الرحيم)) .

قَالَ ابن عَبْد البر: قَدْ رفعه غيره - أَيْضاً -، عَن ابن عُمَر، ولا يصح؛

ص: 413

لأنه موقوف عَلَى ابن عُمَر من فعله، كذلك رواه سَالِم ونافع ويزيد الفقير، عَن ابن عُمَر.

وَقَالَ البيهقي: الصواب موقوف.

وقد قَالَ العقيلي فِي ((كتابه)) : لا يصح فِي الجهر بالبسملة حَدِيْث مسند.

يعني: مرفوعاً إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

وحكي مثله عَن الدارقطني.

وما ينقل عَنْهُ فِي ((سننه)) من تصحيح احاديث فِي هَذَا الباب، فلا توجد فِي جميع النسخ، بل فِي بعضها، ولعله من زيادة بعض الرواة.

وفي ترك الجهر بِهَا: حَدِيْث عَبْد الله بْن مغفل، وَهُوَ شاهد لحديث أَنَس الَّذِي خرجه مُسْلِم، وَهُوَ من رِوَايَة أَبِي نعامة الحنفي، عَن ابن عَبْد الله بْن مغفل، قَالَ: سمعني أَبِي وأنا فِي الصلاة أقول: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .

فَقَالَ: أي بني، محدث، إياك والحدث. قَالَ: ولم أرأحداً من أصْحَاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أبغض إليهى الحدث فِي الإسلام - يعني: مِنْهُ -

ص: 414

قَالَ: وقد صليت مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ومع أَبِي بَكْر ومع عُمَر ومع عُثْمَان، فَلَمْ أسمع أحداً منهم يقولها، إذا أنت صليت فقل:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

خرجه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي، وَقَالَ: حَدِيْث حسن.

وخرجه النسائي مختصراً.

وأبو نعامة هَذَا، بصري، قَالَ ابن معين: ثقة.

قَالَ ابن عَبْد البر: هُوَ ثقة عِنْدَ جميعهم.

وله رِوَايَة عَن عَبْد الله بْن مغفل فِي الاعتداء فِي الدعاء والطهور.

وأما هَذَا الحديث، فَقَدْ رواه عَن ابن عَبْد الله بْن مغفل، عَن أَبِيه.

وابن عَبْد الله بْن مغفل، يقال: اسمه: يزيد.

وقد رَوَى هَذَا الحَدِيْث أبو حنيفة، عَن أَبِي سُفْيَان، عَن يزيد بْن عبد الله ابن مغفل، عَن أَبِيه.

وكذلك خرجه أبو بَكْر عَبْد العزيز بن جَعْفَر فِي ((كِتَاب الشافي)) لَهُ من طريق حَمْزَة الزيات، عَن أَبِي سُفْيَان، عَن يزيد بْن عَبْد الله بْن مغفل، قَالَ: صلى بنا إمام فجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: تأخر عَن مصلانا، تجنب عنا هَذَا الحرف الَّذِي أراك تجهر بِهِ؛ فإني صليت خلف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بَكْر وعمر فَلَمْ يجهروا بِهَا. قَالَ لَهُ رَجُل: وعثمان؟ فسكت.

ويزيد هَذَا، لَمْ نعلم فِيهِ جرحاً، وقد حسن حديثه الترمذي.

وما قاله

ص: 415

طائفة من المتأخرين: إنه مجهول، كابن خزيمة وابن عَبْد البر، فَقَدْ علله ابن عَبْد البر، بأنه لَمْ يرو عَنْهُ إلاّ واحد فيكون مجهولاً؛ يجاب عَنْهُ: بأنه قَدْ رَوَى عَنْهُ اثنان، فخرج بذلك عَن الجهالة عِنْدَ كثير من أهل الحَدِيْث.

وقد رَوَى سُفْيَان الثوري، عَن خَالِد الحذاء، عَن أَبِي نعامة، عَن أَنَس، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يكن ولا أبو بَكْر ولا عُمَر يجهرون بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .

كذا رواه غير واحد عَن سُفْيَان.

وخالفهم يَحْيَى بْن آدم، فرواه عَن سُفْيَان، عَن خَالِد، عَن أَبِي قلابة، عَن أنس.

ووهم فِيهِ، إنما هُوَ أبو نعامة -: قاله الإمام أحمد.

ثُمَّ اختلف الحفاظ:

فمنهم من قَالَ: الأشبه بالصواب رِوَايَة من رواه عَن أَبِي نعامة، عَن ابنَ مغفل، عَن أَبِيه، ومنهم: الدارقطني، وكلام أحمد يدل عَلِيهِ - أَيْضاً -، قالوا: لأنه رواه ثَلَاثَة عَن أَبِي نعامة بهذا الإسناد، وهم: الجريري وعثمان بْن غياث وراشد الحراني، فقولهم أولى من قَوْلِ خَالِد الحذاء وحده.

ومنهم من قَالَ: يجوز أن يكون القولان عَن أَبِي نعامة صحيحين.

ص: 416

ومن العجائب تأويل بعضهم لحديث ابن مغفل عَلَى مثل تأويله لحديث أَنَس، وأن المراد افتتاحهم بالفاتحة.

وهذا إسقاط لفائدة أول الحَدِيْث وآخره، والسبب الَّذِي لأجله رواه ابن مغفل، وإنما الصواب عكس هَذَا، وَهُوَ حمل حَدِيْث أَنَس عَلَى مثل مَا رواه ابن مغفل.

وروى عُبَيْدِ الله بْن عَمْرِو الرقي، عَن زيد بْن أَبِي أنيسة، عَن عَمْرِو بْن مرة، عَن نَافِع بْن جبير بْن مطعم، عَن أَبِيه، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يجهر فِي صلاته بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .

ذكره الدارقطني، فِي ((علله)) .

وهذا الإسناد، رجاله كلهم ثقات مشهورون، ولكن لَهُ علة، وهي: أن هَذَا الحَدِيْث قطعة من حَدِيْث جبير بْن مطعم فِي صفة تكبير النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وتعوذه فِي الصلاة، وقد رواه الثقات عَن عَمْرِو بْن مرة، عَن عاصم العنزي، عَنْ نَافِع بْن جبير، عَن أَبِيه بدون هذه الزيادة؛ فإنه تفرد بِهَا الرقي عَن زيد.

وروى الحافظ أبو أحمد العسال: ثنا عَبْد الله بن العباس الطيالسي: ثنا

عَبْد الرحيم بْن زياد السكري: ثنا عَبْد الله بْن إدريس، عَن عُبَيْدِ الله بْن عُمَر، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، قَالَ: صليت خلف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بَكْر وعمر وعثمان، فَلَمْ يقنتوا ولم يجهروا.

وهذا الإسناد - أَيْضاً - كلهم ثقات مشهورون.

ص: 417

وهذا والذي قلبه خير من كثير من أحاديث الجهر الَّتِيْ يصححها الحَاكِم وأمثاله، ويحتجون بِهَا، ولكن لا نستحل كتمان مَا ذكر فِي تعليله.

فذكر الدارقطني فِي ((العلل)) أَنَّهُ تفرد بِهِ السكري، عَن ابن إدريس مرفوعاً.

قَالَ: ورواه زائدة والقطان ومحمد بْن بشر وابن نمير، عَن عُبَيْدِ الله، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر - موقوفاً.

قَالَ: وكذلك رواه مَالِك فِي ((الموطإ)) عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر - موقوفاً.

قَالَ: وَهُوَ الصواب.

وفي ((صحيح مُسْلِم)) عَن عَائِشَة، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

وفيه: عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا نهض فِي الثانية استفتح بـ

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ولم يسكت.

وروى منصور بْن مزاحم - وَهُوَ صدوق -: ثنا أبو أويس، عَن العلاء بن

عَبْد الرحمن، عَن أَبِيه، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لا يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .

ذكره ابن عَبْد البر وغيره.

وهذا إسناد جيد.

وقد عضده: أن مسلماً خرج بهذا الإسناد بعينة حَدِيْث: ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين)) ، وذكر سورة الفاتحة بكمالها، فَلَمْ يذكر فيها البسملة.

ص: 418

وروى عمار بْن زربي، عَن المعتمر بْن سُلَيْمَان، عَن أَبِيه، عَن أَبِي عُثْمَان النهدي، عَن عُمَر بْن الخَطَّاب، قَالَ: كَانَ قراءة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مداً {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حَتَّى يختم السورة.

عمار هَذَا، تكلم فِيهِ.

وليست هذه الأحاديث بدون الأحاديث الَّتِيْ يستدل بِهَا الحَاكِم وأمثاله عَلَى الجهر، بل إما أن تكون مساوية لها، أو أقوى مَعَ اعتضادها بالأحاديث الصحيحة والحسنة المخرجة فِي الصحاح والسنن، وتلك لا تعتضد بشيء من ذَلِكَ.

وفي الباب: أحاديث أخر، تركناها اختصاراً، وبعضها مخرج فِي بعض السنن - أَيْضاً.

وأما الآثار الموقوفة فِي المسألة فكثيرة جداً.

وإلى ذَلِكَ ذهب أكثر أهل العلم من أصْحَاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، منهم: أبو بَكْر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، ومن بعدهم من التابعين، وبه يَقُول سُفْيَان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق، لا يرون أن يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) . قالوا: ويقولها فِي نفسه. انتهى.

وحكى ابن المنذر هَذَا القول عَن سُفْيَان وأهل الرأي وأحمد وأبي عُبَيْدِ، قَالَ: ورويناه عَن عُمَر وعلي وابن مَسْعُود وعمار بْن ياسر

ص: 419

وابن الزُّبَيْر والحكم وحماد.

قَالَ: وَقَالَ الأوزاعي: الإمام يخفيها.

وحكاه ابن شاهين عَن عامة أهل السنة، قَالَ: وهم السواد الأعظم.

وروى شعبة، عَن حصين، عَن أَبِي وائل، قَالَ: كانوا لا يجهرون بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .

وروى الأثرم بإسناده، عَن عُرْوَةَ بْن الزُّبَيْر، قَالَ: أدركت الأئمة وما يستفتحون القراءة إلاّ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

وعن الأعرج - مثله.

وعن النخعي، قَالَ: مَا أدركت أحداً يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .

وعنه، قَالَ: الجهر بِهَا بدعة.

وعن عَكْرِمَة، قَالَ: أنا أعرابي إن جهرت بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .

وروى وكيع فِي ((كتابه)) عَن همام، عَن قتادة، قَالَ: الجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) أعرابية.

وعن سُفْيَان، عَن عَبْد الملك بْن أَبِي بشير، عَن عَكْرِمَة، عَن ابن عَبَّاس، قَالَ: الجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) قراءة الأعراب.

وعن إسرائيل، عَن جابر، عَن أَبِي جَعْفَر مُحَمَّد بْن عَلِيّ، قَالَ: لا يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .

وهذه الرواية تدل عَلَى أَنَّهُ لا يصح مَا حكي عَن أَبِي جَعْفَر وأهل البيت من الجهر بِهَا، ولعل الشيعة تفتري ذَلِكَ عليهم.

ص: 420

وممن روي عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لا يجهر بِهَا: بَكْر المزني والحسن وابن سيرين والشعبي وأبو إِسْحَاق السبيعي وعمر بْن عَبْد العزيز - فِي رِوَايَة عَنْهُ، رواها الوليد ابن مُسْلِم، عَن عَبْد الله بْن العلاء، عَنْهُ -، وقتادة وابن أَبِي ليلى وابن شبرمة والحسن بْن حي.

وَقَالَ الْحَسَن: الجهر بِهَا أعرابية.

خرجه حرب الكرماني.

وروي عَنْهُ من وجه آخر، قَالَ: الجهر بِهَا قراءة الأعراب.

وأكثر هؤلاء يكرهون الجهر، كما أنكره عَبْد الله بْن مغفل، وكما أنكره من قَالَ: ذَلِكَ قراءة الأعراب، ومن قَالَ: هُوَ بدعة، ونص أحمد عَلَى كراهته.

وروي عَن طائفة، أَنَّهُ يخير بَيْن الجهر والإسرار، ولا يكره الجهر وإن كَانَ الإسرار أفضل، وحكي هَذَا عَن ابن أَبِي ليلى وإسحاق، ورجحه طائفة من أهل الحَدِيْث.

ومنهم من قَالَ: الجهر أفضل.

وقالت طائفة: يجهر بِهَا وَهُوَ السنة، وَهُوَ قَوْلِ الشَّافِعِيّ وأصحابه وأبي ثور، وروي عَن الليث بْن سعد.

قَالَ ابن المنذر: وروينا عَن عُمَر وابن عَبَّاس أنهما كانا يستفتحان بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) . انتهى.

وليس عَن ابن عُمَر تصريح بالجهر، بل بقراءة البسملة.

وأما المروي عَن عُمَر، فَقَدْ ثبت عَنْهُ فِي ((صحيح مُسْلِم)) من حَدِيْث أَنَس، أَنَّهُ لَمْ

ص: 421

يكن يجهر بِهَا، فلعله جهر بِهَا مرة ليبين جواز ذَلِكَ.

وخرج ابن أَبِي شيبة بإسناد جيد، عَن الأسود، قَالَ: صليت خلف عُمَر سبعين صلاة، فَلَمْ يجهر فيها بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .

قَالَ ابن عَبْد البر: روي عَن عُمَر وعلي وعمار بْن ياسر، أنهم كانوا يجهرون بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ، والطرق ليست بالقوية، وقد قدمنا الاختلاف عنهم فِي ذَلِكَ.

قَالَ: وروي عَن عُمَر فيها ثلاث روايات: أحدها: أَنَّهُ كَانَ لا يَقْرَؤُهَا.

والثانية: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا سراً. والثالثة: أَنَّهُ جهر بِهَا.

وكذلك اختلف عَن أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الجهر والإسرار، وعن ابن عَبَّاس - أَيْضاً -، والأكثر عَنْهُ الجهر بِهَا، وعليه جماعة أصحابه.

وذكر ابن عَبْد البر جماعة ممن كَانَ يرى الجهر بِهَا، منهم: مكحول وعمر ابن عَبْد العزيز ومحمد بْن كعب القرظي، قَالَ: وَهُوَ أحد قولي ابن وهب، إلا أَنَّهُ رجع عَنْهُ إلى الإسرار بِهَا.

وعن عَطَاء الخراساني، قَالَ: الجهر بِهَا حسن.

وَقَالَ الزُّهْرِيّ: من سَنَة الصلاة أن يقرأ: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ثُمَّ فاتحة الكتاب، ثُمَّ يقرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ثُمَّ يقرأ بسورة. وكان يَقُول: أول من قرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم) سراً بالمدينة عَمْرِو بْن سَعِيد بْن العاص.

ص: 422

خرجه البيهقي.

ومراسيل الزُّهْرِيّ من أردإ المراسيل.

وإنما عنى أول من أسر بِهَا ممن أدركه، فَقَدْ ثبت عَن أَبِي بَكْر وعمر وعثمان الإسرار بِهَا، فلا عبرة بمن حدث بعدهم وبعد انتقال عَلِيّ بْن أَبِي طالب من المدينة؛ فإن هؤلاء هم الخُلَفَاء الراشدون الذين أمرنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنتهم، وهم كانوا لا يجهرون بِهَا.

قَالَ البيهقي: وروينا الجهر بِهَا عَن فقهاء مكة: عَطَاء وطاوس ومجاهد وسعيد بْن جبير.

وَقَالَ الإمام أحمد - فِي رِوَايَة مهنا -: عامة أهل المدينة يجهر بِهَا: الزُّهْرِيّ

وربيعة، وذكر ابن عَبَّاس وابن الزُّبَيْر.

وأما مَا ذكره الخَطِيْب فِي كتابه فِي الجهر بالبسملة من الآثار الكثيرة فِي المسألة حَتَّى اعتقد بعض من وقف عَلِيهِ أَنَّهُ قَوْلِ الجمهور، فغالب آثاره أو كثير مِنْهَا معلول لا يصح عِنْدَ التحقيق.

وكثير منهم يروي الجهر والإسرار، وقد حكي عَن الدارقطني، أَنَّهُ قَالَ فِي المنقول عَن الصَّحَابَة [

] منهم: عَمْرِو بْن دينار وابن جُرَيْج ومسلم بْن خَالِد، وعن بعض أهل المدينة دون سائر الأمصار، ولقلة من كَانَ يجهر بِهَا اعتقد بعضهم أن الجهر بِهَا بدعة، وأنه من شعار أهل الأهواء كالشيعة، حَتَّى تركه بعض أئمة الشافعية، منهم: ابن أَبِي هُرَيْرَةَ لهذا المعنى.

ص: 423

وكان سُفْيَان الثوري وغيره من أئمة الأمصار يعدون الإسرار بالبسملة من جملة مسائل أصول الدين الَّتِيْ يتميز بِهَا أهل السنة عَن غيرهم، كالمسح عَلَى الخفين ونحوه، حَتَّى قَالَ سُفْيَان لشعيب بْن حرب: لا ينفعك مَا كتبت حَتَّى ترى أن إخفاء: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) أفضل من الجهر بِهَا.

وَقَالَ وكيع: لا يصلى خلف من يجهر بِهَا.

وَقَالَ أحمد فِي الصلاة خلف من يجهر بِهَا: إن كَانَ يتأول فلا بأس بِهِ، وإن كَانَ غير ذَلِكَ فلا يصلى خلفه.

يشير إلى أَنَّهُ يصلي خلف من جهر بِهَا من أهل العلم والحديث، دون من يجهر بِهَا من أهل الأهواء، فإنهم المعروفون بالجهر بِهَا.

ونقل أبو طالب، عَن أحمد، وسأله: يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ؟ قَالَ: بالمدينة نَعَمْ، وهاهنا من كَانَ يرى أنها آية من كِتَاب الله مثلما قَالَ ابن عَبَّاس وأبو هُرَيْرَةَ وابن الزُّبَيْر كانوا يجهرون بِهَا، ويتأولونها من كِتَاب الله.

قَالَ القاضي أبو يعلى: ظاهر هَذَا أَنَّهُ أجاز الجهر لمن كَانَ بالمدينة دون غيرها من البلاد. قَالَ: ولعله ذهب فِي هَذَا إلى أن أهل المدينة يرون الجهر بِهِا، فإذا خافت استنكروا فعله، وامتنعوا من الصلاة خلفه.

قُلتُ: إنما مراد أحمد الإخبار عَن الجهر بِهَا أَنَّهُ سائغ لمثل أهل المدينة ومن يتأول من غيرهم من أهل الحَدِيْث والعلم، وليس مراده أَنَّهُ يرى الجهر بِهَا بالمدينة.

وقد حكى أبو حفص العكبري رِوَايَة أَبِي طالب عَن أحمد، بلفظ صريح فِي هَذَا المعنى، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: سئل أحمد: هَلْ

ص: 424

يصلي الرَّجُلُ خلف من يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ؟ قَالَ: بالمدينة نَعَمْ، وهاهنا من كَانَ يتأول - وذكر بقية الرواية.

وهذا تصريح بالمعنى الَّذِي ذكرناه، وَهُوَ أَنَّهُ إنما يسوغ الخلاف فِي هذه المسألة من مثل هؤلاء العلماءالمجتهدين، دون أهل الأهواء الذين كَانَتْ هذه المسألأة مشهورة عنهم.

ولذلك نقل مهنا عَن أحمد، أن عامة أهل المدينة يرون الجهر بالبسملة.

ونقل صالح بْن أحمد، عَن أَبِيه، قَالَ: نحن لا نرى الجهر ولا نقنت؛ فإن جهر رَجُل - وليس بصاحب بدعة، يتبع مَا روي عَن ابن عَبَّاس وابن عُمَر - فلا بأس بالصلاة خلفه والقنوت هكذا.

ونقل عَنْهُ يعقوب بْن بختان، قَالَ: يصلى خلف من يجهر من الكوفيين، إلا أن يكون رافضياً.

واختلفت الرواية عَن أحمد فِي قراءة البسملة بَيْن السورتين فِي قيام رمضان: فروي عَنْهُ، أَنَّهُ يسر بِهَا ولا يجهر.

وروي عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: أرجو.

وظاهر هذه الرواية: يدل عَلَى أَنَّهُ لا يكره الجهر بِهَا فِي هَذَا الموطن خاصة؛ فإن النفل يسامح فِيهِ وخصوصاً قيام الليل؛ فإنه لا يكره الجهر بالقراءة فِيهِ للمنفرد.

وإلى هَذَا القول ذهب أبو عُبَيْدِ وعلي بْن المديني -: حكاه عنهما الأثرم.

وذهبت طائفة إلى أَنَّهُ لا يقرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) فِي الصلاة سراً ولا جهراً، هَذَا قَوْلِ مَالِك وأصحابه، ورخص فِيهِ فِي السور بعد الفاتحة فِي قيام رمضان خاصة.

وحكي عَنْهُ إجازته فِي اول الفاتحة وغيرها للمتهجدين، وفي النوافل.

وروي عَنْهُ، أَنَّهُ لا بأس بقراءتها فِي الفرائض والنوافل -: ذكره القاضي إِسْمَاعِيل فِي

ص: 425

((مبسوطه)) من طريق ابن نَافِع، عَن مَالِك.

قَالَ ابن عَبْد البر: لا يصح هَذَا عندنا عَن مَالِك، إنما هُوَ عَن صاحبه عَبْد الله بْن نَافِع.

وكذلك روي عَن عُمَر بْن عَبْد العزيز، أَنَّهُ لا يَقْرَؤُهَا سراً ولا جهراً من وجه فِيهِ نظر -: ذكره ابن سعد فِي ((طبقاته)) .

وكذلك قَالَ الأوزاعي: لا يقرأ بِهَا سراً ولا جهراً -: نقله عَنْهُ الوليد بْن مُسْلِم.

قَالَ الوليد: فذكرت ذَلِكَ لخليد، فأخبرني أن الْحَسَن كَانَ لا يَقْرَؤُهَا. فَقَالَ الَّذِي سأله: أكان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يسرها؟ فَقَالَ الْحَسَن: لَوْ أسر قراءتها فيما يسر بِهَا لجهر بِهَا فيما يجهر، ولكنها أعرابية.

قَالَ الوليد: وأقول أنا: إن قرأتها فحسن، وذلك لما أخبرنا بِهِ عَبْد الله بْن عُمَر بْن حفص، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، أَنَّهُ كَانَ لا يدع قراءة ((بسم الله الرحمن الرحيم)) حِينَ يستفتح الحمد والسورة الَّتِيْ بعدها.

خرجه حرب الكرماني.

واختاره ابن جرير الطبري، وَهُوَ مذهب مَالِك والأوزاعي.

وبهذا المروي عَن ابن عُمَر استدل أحمد عَلَى قراءتها ـ وبالمروي عَن ابن عَبَّاس وابن الزُّبَيْر وأبي هُرَيْرَةَ.

ومالك ومن وافقه تأولوا ظاهر حَدِيْث أَنَس، وعند التحقيق فِي التأمل إنما يدل عَلَى نفي الجهر لا عَلَى قراءتها

ص: 426

سراً، وبذلك تجتمع ألفاظ الحَدِيْث وعامة الأدلة فِي هذه المسألة. والله أعلم.

وأكثر من يرى قراءتها فِي الصلاة يرى قراءتها فِي الفاتحة والسورة الَّتِيْ بعدها.

وقالت طائفة قليلة منهم: إنما يقرأ بِهَا فِي ابتداء الفاتحة دون السورة الَّتِيْ بعدها، روي عَن طاوس، وَهُوَ قَوْلِ سُفْيَان الثوري وسليمان بْن داود الهاشمي، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَبِي حنيفة.

وروى يوسف بْن أسباط، عَن الثوري، قَالَ: من قرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) فِي أول القرآن أجزأه لكل القرآن.

وأعلم: أن الجهر بقراءة البسملة مَعَ الفاتحة ليس مبنياً عَلَى القول بأن البسملة آية من سورة الفاتحة وغيرها، كما ظنه طائفة من النَّاس من أصحابنا وغيرهم، وإنما الصحيح عِنْدَ المحققين من أصحابنا وأصحاب الشَّافِعِيّ وغيرهم أَنَّهُ غير مبني عَلَى ذَلِكَ.

ولهذا اختلفت الرواية عَن أحمد: هَلْ البسملة آية من الفاتحة، أو لا؟ وأكثر الروايات عَنْهُ عَلَى أنها ليست من الفاتحة، وَهُوَ قَوْلِ أكثر أصحابه.

ولم تختلف عَنْهُ فِي أَنَّهُ لا يجهر بِهَا، وكذا قَالَ الجوزجاني وغيره من فقهاء الحَدِيْث.

واختلف قَوْلِ الشَّافِعِيّ: هَلْ البسملة آية من كل سورة سوى الفاتحة، وَهُوَ يرى الجهر بِهَا فِي السور - أَيْضاً.

ص: 427

وحينئذ؛ فلا يصح أن يؤخذ الجهر بِهَا من القول بأنها آية من الفاتحة، كما يفعله كثير من النَّاس؛ فإنهم يحكون عمن قَالَ: هِيَ آية من الفاتحة: الجهر بِهَا، وليس ذَلِكَ بلازم.

ومما يستحب الإتيان بِهِ قَبْلَ القراءة فِي الصلاة: التعوذ، عِنْدَ جمهور العلماء.

واستدلوا بقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] والمعنى: إذا أردت القراءة، هكذا فسر الآية الجمهور، وحكي عَن بعض المتقدمين، منهم: أبو هُرَيْرَةَ وابن سيرين وعطاء: التعوذ بعد القراءة.

والمروي عَن ابن سيرين: قَبْلَ قراءة أم القرآن وبعدها، فلعله كَانَ يستعيذ لقراءة السورة، كما يقرأ البسملة لها - أَيْضاً.

وقد جاءت الأحاديث بأن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يتعوذ قَبْلَ القراءة فِي الصلاة:

فروى عَمْرِو بْن مرة، عَن عاصم العنزي، عَن [ابن] جبير بْن مطعم، عَن أَبِيه، أَنَّهُ رأى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة، قَالَ:((الله أكبر كبيراً، والله أكبر كبيراً، والله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، سبحان الله بكرة وأصيلاً)) - ثلاثاً - ((أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من نفخه ونفثه وهمزه)) . قَالَ: نفثه الشعر، ونفخه الكبر، وهمزه الموتة.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان فِي

ص: 428

((صحيحه)) والحاكم، وصححه.

وابن جبير، هُوَ: نَافِع، وقع مسمى فِي رِوَايَة كذلك. وعاصم العنزي، قَالَ أحمد: لا يعرف. وَقَالَ غيره: رَوَى عَنْهُ غير واحد. ذكره ابن حبان فِي ((ثقاته)) .

وروى عَطَاء بْن السائب، عَن أَبِي عَبْد الرحمن السلمي، عَن ابن مَسْعُود، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ كَانَ إذا دَخَلَ فِي الصلاة يَقُول:((اللهم إني أعوذ بك من الشيطان وهمزه ونفخه ونفثه)) .

خرجه ابن ماجه والحاكم، وهذا لفظه.

وَقَالَ: صحيح الإسناد؛ فَقَدْ استشهد البخاري بعطاء بْن السائب.

وروى عَلِيّ بْن عَلِيّ الرفاعي، عَن أَبِي المتوكل، عَن أَبِي سَعِيد الْخُدرِيَّ، قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة بالليل كبر، ثُمَّ يَقُول:((أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه)) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي.

وَقَالَ: كَانَ يَحْيَى بْن سَعِيد يتكلم فِي عَلِيّ بْن عَلِيّ. وَقَالَ أحمد: لا يصح هَذَا الحَدِيْث.

ص: 429

كذا قَالَ، وإنما تكلم فِيهِ يَحْيَى بْن سَعِيد من جهة أَنَّهُ رماه بالقدر، وقد وثقه وكيع ويحيى بْن معين وأبو زُرْعَة.

وَقَالَ أحمد: لا بأس بِهِ، إلا أَنَّهُ رفع أحاديث.

وَقَالَ أبو حاتم: ليس بِهِ بأس، ولا يحتج بحديثه.

وإنما تكلم أحمد فِي هَذَا الحَدِيْث؛ لأنه روي عَن عَلِيّ بْن عَلِيّ، عَن الْحَسَن - مرسلاً -، وبذلك أعله أبو داود، وخرج فِي ((مراسيله)) من طريق عمران بْن مُسْلِم، عَن الْحَسَن، أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا قام من الليل يريد أن يتهجد، يَقُول - قَبْلَ أن يكبر:((لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، والله أكبر كبيراً الله أكبر كبيراً، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه)) ، ثُمَّ يَقُول:((الله أكبر)) .

وفي الباب أحاديث أخر مرفوعة، فيها ضعف.

واعتماد الإمام أحمد عَلَى المروي عَن الصَّحَابَة فِي ذَلِكَ؛ فإنه روي التعوذ قَبْلَ القراءة فِي الصلاة عَن عُمَر بْن الخَطَّاب وابن مَسْعُود وابن عُمَر وأبي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ قَوْلِ جمهور العلماء كما تقدم.

والجمهور عَلَى أَنَّهُ غير واجب، وحكي وجوبه عَن عَطَاء والثوري وبعض الظاهرية، وَهُوَ قَوْلِ ابن بطة من أصحابنا.

والجمهور عَلَى أَنَّهُ يسره فِي الصلاة الجهرية، وَهُوَ قَوْلِ ابن عُمَر وابن مَسْعُود والأكثرين.

وروي عَن أَبِي هُرَيْرَةَ الجهر بِهِ.

وللشافعي قولان.

وعن ابن أَبِي ليلى: الإسرار والجهر سواء.

ص: 430

واختلفوا: هَلْ يختص التعوذ بالركعة الأولى، أم يستحب فِي كل ركعة؟ عَلَى قولين:

أحدهما: يستحب فِي كل ركعة، وَهُوَ قَوْلِ ابن سيرين والحسن والشافعي وأحمد - فِي رِوَايَة.

والثاني: أَنَّهُ يختص بالركعة الأولى، وَهُوَ قَوْلِ عَطَاء والحسن والنخعي والثوري وأبي حنيفة وأحمد - فِي رِوَايَة عَنْهُ.

وَقَالَ هِشَام بْن حسان: كَانَ الْحَسَن يتعوذ فِي كل ركعة، وكان ابن سيرين يتعوذ فِي كل ركعتين.

وذهب مَالِك وأصحابه إلى أَنَّهُ لا يتعوذ فِي الصلاة المكتوبة، بل يفتتح بعد التكبير بقراءة الفاتحة من غير استعاذة ولا بسملة، واستدلوا بظاهر حَدِيْث أَنَس: كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وَهُوَ الحَدِيْث الَّذِي خرجه البخاري فِي أول هَذَا الباب.

ويجاب عَنْهُ؛ بأنه إنما أراد أَنَّهُ يفتتح قراءة الصَّلاة بالتكبير والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وافتتاح القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إما أن يراد بِهِ افتتاحها بقراءة الفاتحة كما يَقُول الشَّافِعِيّ، أو افتتاح قراءة الصلاة الجهرية بكلمة {الْحَمْدُ} من غير بسملة كما يقوله الآخرون.

ودل عَلِيهِ: حَدِيْث أَنَس الَّذِي خرجه مُسْلِم صريحاً.

وعلى التقديرين، فلا ينفي ذَلِكَ أن يكون يَقُول قَبْلَ القراءة ذكراً، أو دعاء، أو استفتاحاً، أو تعوذاً، أو بسملةً؛ فإنه لا يخرج بذلك عَن أن يكون افتتح القراءة بالفاتحة، أو افتتح الجهر بالقراءة بكلمة {الْحَمْدُ} .

ولا

ص: 431

يمكن حمل الحَدِيْث عَلَى أَنَّهُ كَانَ أول مَا يفتتح بِهِ الصلاة قراءة كلمة

{الْحَمْدُ} ؛ فإنه لَوْ كَانَ كذلك لكان لا يفتتح الصلاة بالتكبير، وهذا باطل غير مراد قطعاً. والله أعلم.

ص: 432

90 -

بَاب

ص: 433

745 -

حَدَّثَنَا ابن أَبِي مريم: أنا نَافِع بْن عُمَر: حَدَّثَنِي ابن أَبِي مليكة، عَن أسماء بنة أَبِي بَكْر، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف، فقام فأطال القيام، ثُمَّ ركع فأطال الركوع، ثُمَّ قام فأطال القيام، ثُمَّ ركع فأطال الركوع، ثُمَّ رفع، ثُمَّ سجد فأطال السجود، ثُمَّ رفع، ثُمَّ سجد فأطال السجود، ثُمَّ قام فأطال القيام، ثُمَّ ركع فأطال الركوع، ثُمَّ رفع فأطال القيام، ثُمَّ ركع فأطال الركوع، ثُمَّ رفع فسجد فأطال السجود، ثُمَّ رفع، ثُمَّ سجد فأطال السجود، ثُمَّ انصرف، فَقَالَ:((قَدْ دنت مني الجنة حَتَّى لَوْ اجترأت عَلَيْهَا لجئتكم بقطاف من قطافها، ودنت مني النار حَتَّى قُلتُ: أي رب، وأنا معهم؟ فإذا امرأة)) - حسبت أَنَّهُ قَالَ: تخدشها هرة - ((قُلتُ: مَا شأن هذه؟ قالوا: حبستها حَتَّى ماتت جوعاً لا هِيَ أطعمتها ولا هِيَ أرسلتها تأكل)) .

قَالَ نَافِع: حسبته من خشيش الأرض - أو خشاش.

قَالَ الخطابي: خشيش ليس بشيء، إنما هُوَ خشاش - مفتوحة الخاء -، وَهُوَ حشرات الأرض وهوامها، فأما الخشاش - بكسر الخاء -، فهو العود الَّذِي يجعل فِي أنف البعير.

ص: 433

وفي ((الفائق)) : خشاش الأرض: هوامها. الواحدة: خشاشة، سميت بذلك لاندساسها فِي التراب من خش فِي الشيء إذا دَخَلَ فِيهِ، يخش وخشه غيره فخشه، ومنه الخشاش؛ لأنه يخش فِي أنف البعير، انتهى.

وفي هَذَا الحَدِيْث فوائد كثيرة:

مِنْهَا: مَا يتعلق بصفة صلاة الكسوف، ويأتي الكلام عَلِيهِ فِي موضعه - إن شاء الله سبحانه وتعالى.

ومنها: أَنَّهُ يدل عَلَى وجود الجنة والنار، كما هُوَ مذهب أهل السنة والجماعة.

ومنها: مَا يدل عَلَى تحريم قتل الحيوان غير المؤذي، لغير مأكله.

ومنها: مَا هُوَ مقصوده بإيراد الحَدِيْث فِي هذا الباب: أن المصلي لَهُ النظر فِي صلاته إلى مَا بَيْن يديه، وما كَانَ قريباً، ولا يقدح ذَلِكَ فِي صلاته.

ولكن المنظور إليه نوعان:

أحدهما: مَا هُوَ من الدنيا الملهية، فهذا يكره النظر إليه فِي الصلاة؛ فإنه يلهي.

وقد دل عَلِيهِ حَدِيْث الإنبجانية، وقد سبق.

والثاني: مَا ينظر إليه مِمَّا يكشف من أمور الغيب، فالنظر إليه غير قادح فِي الصلاة؛ لأنه كالفكر فِيهِ بالقلب، ولو فكر فِي الجنة والنار بقلبه فِي صلاته كَانَ حسناً.

وقد كَانَ ذَلِكَ حال كثير من السلف، ومنهم من كَانَ يكشف لقلبه عَن بعض ذَلِكَ حَتَّى ينظر إليه بقلبه

ص: 434

بنور إيمانه، وَهُوَ من كمال مقام الإحسان.

وأما النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فإنه كشف ذَلِكَ لَهُ فرآه عياناً بعين رأسه، هَذَا هُوَ الظاهر، ويحتمل أن يكون جلي ذَلِكَ لقلبه.

وقوله: ((أي رب، وأنا معهم)) يشير إلى قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] ، فخشي أن يكون إدناؤها مِنْهُ عذاباً أرسل عَلَى الأمة، فاستفهم عَن ذَلِكَ، وَقَالَ:((أتعذبهم وأنا معهم؟)) بحذف همزة الاستفهام.

وهذا القول، الظاهر: أَنَّهُ كَانَ بقلبه دون لسانه، وكذلك سؤاله عَن المرأة؛ فإن عالم الغيب فِي هذه الدار إنما تدركه الأرواح دون الأجساد - غالباً -، وقد تدرك بالحواس الظاهرة لمن كشف الله لَهُ ذَلِكَ من أنبيائه ورسله، ويحتمل أن يكون قوله:

((وأنا فيهم)) بلسانه؛ لأن هَذَا من بَاب الدعاء؛ فإنه إشارة مِنْهُ إلى أَنَّهُ موعود بأنه لا تعذب أمته وَهُوَ فيهم.

يدل عَلَى ذَلِكَ: مَا رَوَى عَطَاء بْن السائب، عَن أَبِيه، عَن عَبْد الله بْن عَمْرِو بْن العاص، قَالَ: كسفت الشمس عَلَى عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحَدِيْث بطوله، وفيه: فجعل ينفخ فِي آخر سجوده فِي الركعة الثانية، ويبكي، ويقول:((لَمْ تعدني هَذَا وأنا فيهم، لَمْ تعدني هَذَا ونحن نستغفرك)) - وذكر بقية الحَدِيْث.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.

ص: 435

وأما سؤاله عَن المرأة فلا يحتمل أن يكون بلسانه. والله أعلم.

وفي الجملة؛ فإن كَانَ البخاري ذكر هَذَا الباب للاستدلال بهذا الحَدِيْث عَلَى أن نظر المصلي إلى مَا بَيْن يديه غير قادح فِي صلاته، فَقَدْ ذكرنا أن الحَدِيْث لا دليل فِيهِ عَلَى النظر إلى الدنيا ومتعلقاتها، وإن كَانَ مقصوده الاستدلال بِهِ عَلَى استحباب الفكر للمصلي فِي الآخرة ومتعلقاتها، وجعل نظر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ إلى الجنة بقلبه كَانَ حسناً؛ لأن المصلي مأمور بأن يعبد الله كأنه يراه، فينبغي لَهُ أن يسغرق فكره فِي قربه من الله، وفيما وعد الله أولياءه، وتوعد بِهِ أعداءه، وفي الفكر فِي معاني مَا يتلوه من القرآن.

وقد كَانَ السلف الصالح ينجلي الغيب لقلوبهم فِي الصلاة، حَتَّى كأنهم ينظرون إليها رأى عين، فمن كَانَ يغلب عَلِيهِ الخوف والخشية ظهر لقلبه فِي الصلاة صفات الجلال من القهر والبطش والعقاب والانتقام ونحو ذَلِكَ، فيشهد النار ومتعلقاتها وموقف القيامة، كما كَانَ سَعِيد بْن عَبْد العزيز - صاحب الأوزاعي - يَقُول: مَا دخلت فِي الصلاة قط إلا مثلت لِي جهنم.

ومن كَانَ يغلب عَلِيهِ المحبة والرجاء، فإنه مستغرق فِي مطالعة صفات الجلال والكمال والرأفة والرحمة والود واللطف ونحو ذَلِكَ، فيشهد الجنة ومتعلقاتها، وربما شهد يوم المزيد وتقريب المحبين فِيهِ.

وقد روي عَن أَبِي ريحانة - وَهُوَ من الصَّحَابَة -، أَنَّهُ صلى ليلة، فما انصرف حَتَّى أصبح، وَقَالَ: مَا زال قلبي يهوى فِي الجنة وما أعد الله فيها

ص: 436

لأهلها حَتَّى أصبحت.

وعن ابن ثوبان - وكان من عباد أهل الشام -، أَنَّهُ صلى ليلة ركعة الوتر، فما انصرف إلى الصبح، وَقَالَ: عرضت لِي روضة من رياض الجنة، فجعلت أنظر إليها حَتَّى أصبحت.

يعني: ينظرها بعين قلبه.

ص: 437

‌91 - بَاب

رفعِ البصرِ إلى الإمَامِ فِي الصَّلَاةِ

وقالت عَائِشَة: قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ((رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً حِينَ رأيتموني تأخرت)) .

حَدِيْث عَائِشَة، يأتي فِي ((أبواب: الكسوف)) - إن شاء الله تعالى -، وليس فِيهِ رفع البصر إلى الإمام فِي الصلاة، إنما فِيهِ مد البصر إلى مَا بَيْن يدي المصلي، وقد سبق القول فِي هَذَا في الباب الماضي، وأن النظر إلى الآخرة ومتعلقاتها فِي الصلاة حسن، سواء كَانَ نظر عين أو قلب.

وقد خرج فِي هَذَا الباب أربعة أحاديث:

الأول:

ص: 438

746 -

حَدَّثَنَا موسى: ثنا عَبْد الواحد: ثنا الأعمش، عَن عمارة بْن عمير، عَن أَبِي معمر، قَالَ: قلنا لخباب: أكان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فِي الظهر والعصر؟ قَالَ نَعَمْ. قلنا: بم كنتم تعرفون ذَلِكَ؟ قَالَ: باضطراب لحيته.

فهذا فِيهِ دليل عَلَى أن المأموم ينظر إلى إمامه، ويراعي أقواله فِي قيامه؛ لأنهم إنما شاهدوا اضطراب لحية النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي صلاته بمدهم بصرهم إليه فِي قيامه.

وهذا قَدْ يقال: إنه يختص بالصلاة خلف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم،

ص: 438

لما يترتب عَلَى ذَلِكَ من معرفة أفعاله فِي صلاته فيقتدي بِهِ، فأما غيره من الأئمة فلا يحتاج إلى النظر إلى لحيته، فالأولى بالمصلى وراءه أن ينظر إلى محل سجوده، كما سبق.

الحَدِيْث الثاني:

ص: 439

747 -

حَدَّثَنَا حجاج: ثنا شعبة، أنبأنا أبو إِسْحَاق، قَالَ: سَمِعْت عَبْد الله بْن يزيد يخطب: حَدَّثَنَا البراء - وكان غير كذوب -، أنهم كانوا إذا صلوا مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فرفع رأسه من الركوع، قاموا قياماً حَتَّى يروه قَدْ سجد.

قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث فِي ((بَاب: متى يسجد من وراء الإمام)) من حَدِيْث سُفْيَان، عَن أَبِي إِسْحَاق، وهاهنا خرجه من رِوَايَة شعبة: أنبأنا أبو إِسْحَاق.

ومراد شعبة بقوله: ((أنبأنا)) كقوله: ((أخبرنا)) أو ((حَدَّثَنَا)) ، وليس مراده - كما يقوله المتأخرون -: الإجازة.

وفي الحَدِيْث: دليل عَلَى أن المأموم يراقب حال إمامه فِي ركوعه وسجوده؛ ليسجد بعد سجوده، وتقع أفعاله بعد أفعال إمامه، وهذا حكم عام فِي جميع النَّاس، فإن اقتداء المأموم بأفعال إمامه الَّتِيْ يشاهدها أولى من الاكتفاء بمجرد سماع تكبيره؛ فإنه قَدْ ينهي تكبيره قَبْلَ أن ينهي فعله، فلذلك كانوا يراعون تمام سجود النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم واستقراره عَلَى الأرض، حَتَّى يسجدوا بعده.

قَالَ أصحابنا وغيرهم: ولهذا المعنى كره أن يكون موقف الإمام أعلى

ص: 439

من المأموم؛ لأن المأموم يحتاج إلى رفع بصره إلى إمامه، فإذا كَانَ عالياً عَلِيهِ احتاج إلى كثرة رفع بصره، وَهُوَ مكروه فِي الصلاة.

الحَدِيْث الثالث:

ص: 440

748 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل: حَدَّثَنِي مَالِك، عَن زيد بْن أسلم، عَن عَطَاء بْن يسار، عَن عَبْد الله بْن عَبَّاس، قَالَ: خسفت الشمس عَلَى عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى، قالوا: يَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، رأيناك تناولت شيئاً فِي مقامك، ثُمَّ رأيناك تكعكعت؟ قَالَ:((إني رأيت الجنة فتناولت مِنْهَا عنقوداً، ولو أخذته لأكلتم مِنْهُ مَا بقيت الدنيا)) .

قَالَ الخطابي: التكعكع التأخر، واصله فِي الجبن. كع الرَّجُلُ عَن الأمر إذا جبن وتأخر. وأصله: تكعع، فأدخل الكاف لئلا: يجمع بَيْن حرفين.

ويقال: كاع يكيع: مثله. انتهى.

وفي الحَدِيْث: دليل عَلَى أن رفع بصر المصلي إلى مَا بَيْن يديه، ومد يده لتناول شيء قريب مِنْهُ لا يقدح فِي صلاته.

وليس فِيهِ نظر المأموم إلى إمامه، إنما فِيهِ نظر الإمام إلى مَا بَيْن يديه، وقد تقدمت الإشارة إلى أن هَذَا النظر والتناول ليس هُوَ مَا يكره فِي الصلاة؛ لأنه نظر إلى الآخرة لا إلى الدنيا، ومد يده إلى العنقود كَانَ فِيهِ مصلحة دينية، ليري أصحابه بعض مَا وعدوا به عياناً فِي الجنة، لكنه أوحي إليه أن لا يفعل؛ فإنه كَانَ يصير الغيب شهادة، فتزول فائدة التكليف بالإيمان بالغيب.

وقوله: ((فتناولت مِنْهُ عنقوداً)) . يعني: أَنَّهُ مد يده يريد تناول العنقود،

ص: 440

ولكنه لَمْ يتناوله، ولهذا قَالَ:((لَوْ أخذته لأكلتم مِنْهُ)) .

وقوله: ((لأكلتم مِنْهُ مَا بقيت الدنيا)) إشارة إلى أن مَا فِي الجنة لا ينفد؛ فإنه كُلَّمَا أكل مِنْهُ استخلف فِي الحال مثلاه.

وفي رِوَايَة أخرى: ((لأكل مِنْهُ من بَيْن السماء والأرض، لا ينقصونه شيئاً)) .

ولهذا يروى أن الطير يمر بأهل الجنة، فيشتهونه، فيخر بَيْن أيديهم، فيأكلون مِنْهُ مَا يشاءون ثُمَّ يطير، والكأس يشربون مَا فِيهِ ثُمَّ يعود ممتلئاً فِي الحال، لا حرمنا الله خير مَا عنده بشر مَا عندنا بمنه ورحمته.

الحَدِيْث الرابع:

ص: 441

749 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سنان: ثنا فليح: ثنا هلال، عَن أَنَس بْن مَالِك، قَالَ: صلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رقى المنبر، فأشار بيده قَبْلَ قبلة المسجد، ثُمَّ قَالَ:((لَقَدْ رأيت الآن منذ صليت لكم الصلاة الجنة والنار ممثلتين فِي قبلة هَذَا الجدار، فَلَمْ أر كاليوم فِي الخير والشر)) - ثلاثا.

الظاهر: أن هذه الصلاة كَانَتْ غير صلاة الكسوف وأن الجنة والنار مثلتا لهُ في هذه الصلاة في جدار القبلة تمثيلاً، وأما إدناء الجنة والنار في صلاة الكسوف، فكان حقيقة. والله أعلم.

وفيه: أن رفع بصر المصلي إلى مَا مثل لَهُ من أمور الآخرة إذا ظهرت لَهُ غير قادح فِي الصلاة.

وليس فِيهِ - أَيْضاً -: نظر المأموم إلى إمامه، كما بوب عَلِيهِ. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 441

‌92 - بَاب

رَفْعِ الْبَصَرِ إلى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ

ص: 442

750 -

حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن عَبْد الله: أنا يَحْيَى بْن سَعِيد: أنا ابن أَبِي عروبة: نا قتادة، أن أنس بْن مَالِك حدثهم، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَا بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء فِي صلاتهم)) ، فاشتد قوله قي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ:((لينتهين عَن ذَلِكَ أو ليخطفن الله أبصارهم)) .

هَذَا الإسناد كله مصرح بسماع رواته بعضهم من بعض، وقد أمن بذلك تدليس قتادة فِيهِ.

وفي الحَدِيْث: دليل عَلَى كراهة رفع بصره إلى السماء فِي صلاته.

وقد روي هَذَا الحَدِيْث عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من رِوَايَة عدة من الصَّحَابَة.

وروي النهي عَن حذيفة وابن مَسْعُود.

وَقَالَ سُفْيَان: بلغنا أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يرفع بصره إلى السماء فِي الصلاة، حَتَّى نَزَلَتْ {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2] فرمى ببصره نحو مسجده.

والمعنى فِي كراهة ذَلِكَ: خشوع المصلي وخفض بصره، ونظره إلى محل سجوده؛ فإنه واقف بَيْن يدي الله عز وجل يناجيه، فينبغي أن

ص: 442

يكون خاشعاً منكساً رأسه، مطرقاً إلى الأرض.

وقد تقدم فِي تفسير الخشوع أن خشوع البصر: غضه.

وإنما يكره رفع البصر إلى السماء عبثاً، فأما لحاجة فيجوز.

وقد أشارت عَائِشَة لأختها أسماء إلى السماء فِي صلاة الكسوف.

وقد نَصَّ أحمد عَلَى أن من تجشأ فِي صلاته فإنه يرفع رأسه إلى السماء؛ لئلا يتأذى من إلى جانبه برائحة جشائه.

ولكن؛ قَدْ يقال - مَعَ رفع رأسه -: إنه يغض بصره.

وقد سبق عَن عُمَر وابن سابط: رفع الوجه إلى السماء عِنْدَ تكبيره الإحرام.

وزاد ابن سابط: وإذا رفع رأسه.

وأما تغميض البصر فِي الصلاة، فاختلفوا فِيهِ:

فكرهه الأكثرون، منهم: أبو حنيفة والثوري والليث وأحمد.

قَالَ مُجَاهِد: هُوَ من فعل اليهود.

وفي النهي عَنْهُ حَدِيْث مرفوع، خرجه ابن عدي، وإسناده ضَعِيف.

ورخص فِيهِ مَالِك.

وَقَالَ ابن سيرين: كَانَ يؤمر إذا كَانَ يكثر الالتفات فِي الصلاة أن يغمض عينيه.

خرجه عَبْد الرزاق.

ص: 443

‌93 - بَاب

الالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ

فِيهِ حديثان:

الأول:

ص: 444

751 -

حَدَّثَنَا مسدد: ثنا أبو الأحوص: ثنا أشعث بْن سليم - هُوَ: أبو الشعثاء -، عَن أَبِيه، عَن مسروق، عَن عَائِشَة، قَالَتْ: سألت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن الالتفات فِي الصلاة: فَقَالَ: ((هُوَ اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)) .

الثاني:

ص: 444

752 -

حَدَّثَنَا قتيبة: ثنا سُفْيَان، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَةَ، عَن عَائِشَة، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم صلى فِي خميصة لها أعلام، فَقَالَ:((شغلتني أعلام هذه، اذهبوا بِهَا إلى أَبِي جهم، وأتوني بأنبجانية)) .

حَدِيْث عَائِشَة فِي خميصة، قَدْ سبق فِي ((أبواب: الصلاة فِي الثيات)) فِي

((بَاب: إذا صلى فِي ثوب وله أعلام ونظر إلى علمها)) ، وسبق الكلام

ص: 444

عَلِيهِ مستوفى.

وبعده حَدِيْث أنس، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لعائشة:((أميطي عنا قرامك؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض فِي صلاتي)) .

وذكرنا أن الحديثين دليلاً عَلَى كراهة أن يصلي إلى مَا يلهي النظر إليه أأو لبسه فِي الصلاة.

وأما حَدِيْث عَائِشَة الَّذِي خرجه هاهنا فِي الالتفات، فتفرد بِهِ دون مُسْلِم، وفي إسناده اخْتِلَاف عَلَى أشعث بْن أَبِي الشعثاء.

فالأكثرون رووه عَنْهُ، كما رواه عَنْهُ أبو الأحوص، كما أسنده البخاري من طريقه.

قَالَ الدارقطني: وَهُوَ الصحيح عَنْهُ، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة، لَمْ يذكر:

((مسروقاً)) فِي إسناده.

ورواه إسرائيل، عَن أشعث، عَن أَبِي عطية الهمداني، عَن مسروق، عَن عَائِشَة.

ورواه مِسْعَر، عَن أشعث، عَن أَبِي وائل، عَن مسروق، عَن عَائِشَة وكلهم رفعوه.

ورواه الأعمش موقوفاً، واختلف عَلِيهِ:

فرواه الأكثرون، عَنْهُ، عَن عمارة، عَن أَبِي عطية، عَن عَائِشَة موقوفاً.

وَقَالَ شعبة، عَن الأعمش، عَن خيثمة، عَن أَبِي عطية، عَن عَائِشَة موقوفاً.

ولهذا الاختلاف - والله أعلم - تركه مُسْلِم فَلَمْ يخرجه.

وفي الالتفات أحاديث أخر متعددة، لا تخلو أسانيدها من مقال.

ومن أجودها: مَا رَوَى الزُّهْرِيّ، عَن أَبِي الأحوص، عَن أي ذر، قَالَ: قَالَ

ص: 445

رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الله مقبلاً عَلَى العبد وَهُوَ فِي صلاته مَا لَمْ يلتفت، فإذا التفت انصرف عَنْهُ)) .

رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة فِي ((صحيحه)) .

وأبو الأحوص، قَدْ قيل: إنه غير معروف.

وخرج الإمام أحمد والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حَدِيْث الحارث، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيْث طويل ذكره -:((إن الله ينصب وجهه لوجه عبده مَا لَمْ يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا)) .

وصححه الترمذي.

وروى عَبْد الرزاق، عَن ابن جُرَيْج، عَن عَطَاء: سَمِعْت أبا هُرَيْرَةَ يَقُول: إذا صلى أحدكم فلا يلتفت؛ فإنه يناجي [ربه] إن ربه أمامه، وإنه يناجيه، فلا يلتفت.

قَالَ عَطَاء: وبلغنا أن الرب عز وجل يَقُول: ((يابن آدم، إلى أين تلتفت، أنا خير ممن تلتفت إليه)) .

ورواه إِبْرَاهِيْم بْن يزيد الخوزي وعمر بْن قيس المكي سندل - وهما ضعيفان -، عَن عَطَاء، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ - مرفوعاً كله.

والموقوف أصح -:

ص: 446

قاله العقيلي وغيره.

وكذا رواه طلحة بْن عَمْرِو، عَن عَطَاء، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: مَا التفت عَبْد فِي صلاته قط إلا قَالَ الله: ((أنا خير لَكَ مِمَّا تلتفت إليه)) .

والأشبه: أن هَذَا قَوْلِ عَطَاء، كما سبق.

وقوله: ((هُوَ اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)) يعني: أن الشيطان يسترق من العبد فِي صلاته التفاته فيها ويختطفه مِنْهُ اختطافاً حَتَّى يدخل عَلِيهِ بذلك نقص في صلاته وخلل ولم يأمره بالإعادة لذلك، فدل على أنه نقص لا يوجب الإعادة والالتفات نوعان:

أحدهما: التفات القلب إلى غير الصلاة ومتعلقاتها، وهذا يخل بالخشوع فيها، وقد سبق ذكر الخشوع في الصلاة وحكمه.

والثاني: التفات الوجه بالنظر إلى غير ما فيه مصلحة الصلاة، والكلام هاهنا في ذلك.

وروي عن ابن مسعود، قال: لا يقطع الصلاة إلا الالتفات.

خرجه وكيع بإسناد فيه ضعف.

وروى بإسناد جيد، عن ابن عمر، قال: يدعى الناس يوم القيامة المنقوصين. قيل: وما المنقوصون؟ قالَ: الذي أحدهم صلاته في وضوئه والتفاته.

ص: 447

قالَ ابن المنذر -: فيما يجب على الملتفت في الصلاة -:

فقالت طائفة: تنقص صلاته، ولا إعادة.

روي عن عائشة، أنها قالت: الالتفات في الصلاة نقص.

وبه قال سعيد بن جبير.

وقال عطاء: لا يقطع الالتفات الصلاة.

وبه قال مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي.

وقال الحكم: من تأمل من عن يمينه في الصلاة أو عن شماله حتى يعرفه فليس له صلاة.

وقال أبو ثور: إذا التفت ببدنه كله تفسد صلاته.

وروينا عن الحسن، أنه قال: إذا استدبر القبلة استقبل، وإن التفت عن يمينه وعن شماله مضى في صلاته.

والذي قاله الحسن حسن. انتهى.

قال ابن المنصور: قلت لأحمد: إذا التفت في الصلاة يعيد الصلاة؟ قالَ: ولا أعلم أني سمعت فيهِ حديثاً أنه يعيد.

قال إسحاق: كما قال.

وقال أصحابنا: الالتفات الذي لا يبطل أن يلوي عنقه، فأما إن استدار بصدره بطلت صلاته، لأنه ترك استقبال القبلة بمعظم بدنه، بخلاف ما إذا استدار بوجهه، فإن معظم بدنه مستقبل للقبلة.

وحكوا عن المالكلية، أنه لا يبطل بالتفاته بصدره حتى يستدبر، إلحاقاً للصدر على الوجه.

فأما الالتفات لمصلحة الصلاة، كالتفات أبي بكر لما صفق الناس خلفه وأكثروا التصفيق – وقد سبق حديثه – فلا ينقص الصلاة.

ويدل عليه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من نابه شيء في صلاته فليسبح؛ فإنه إذا سبح التفت إليه)) .

ص: 448

وكذلك التفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى من صلى خلفه، لما صلى بهم جالساً وصلوا وراءه قياماً، وقد سبق - أيضاً.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يلتفت في صلاته لمصلحة غير مصلحة الصلاة:

فروى سهل بن الحنظلية، قال: ثوب بالصلاة – يعني: صلاة الصبح -، فجعل رسول الله يصلي، وهو يلتفت إلى الشعب.

خرجه أبو داود.

وقال: كان أرسل فارساً إلى الشعب من الليل يحرس.

وخرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) والحاكم وصححه.

وهذا فيه جمع بين الصلاة والجهاد.

ومن هذا المعنى: قول عمر: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يلحظ في صلاته.

فروى الفضل بن موسى، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلحظ يميناً وشمالاً، ولا يلوي عنقه خلف ظهرة.

خرجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي.

وقال: غريب ثم خرجه من طريق وكيع، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن بعض أصحاب عكرمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلحظ في الصلاة – فذكر نحوه.

ص: 449

وخرجه أبو داود في بعض نسخ ((سننه)) .

ثم خرجه من طريق رجلٍ، عن عكرمة.

وقال: هو أصح.

وأنكر الدارقطني وصل الحديث إنكاراً شديداً، وقال: هو مرسل.

ص: 450

وقد رواه – أيضاً – مندل، عن الشيباني عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى يلاحظ يميناً وشمالاً.

خرجه ابن عدي.

ومندل، ضعيف.

وروى الزهري، عن سعيد بن المسيب، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلمح في الصلاة، ولا يلتفت.

خرجه ابن أبي شيبة بإسناد فيه جهالة، وهو مرسل.

وقد وصله بعضهم، وأنكر ذلك الإمام أحمد، وضعف إسناده، وقال: إنما هو: عن رجل، عن سعيد.

وقد يحمل هذا – إن صح – على الالتفات لمصلحة.

وقد روى عن علي بن شيبان الحنفي، قال: قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم وصلينا معه، فلمح بمؤخر عينه رجلا لا يقيم صلبه في الركوع ولا في السجود فقال:((لا صلاة لمن لا يقيم صلبه)) .

خرجه الإمام أحمد وابن حبان وابن ماجه.

وقد روي الالتفات في الصلاة يميناً وشمالاً عن طائفة من السلف، منهم أنس والنخعي وعبد الله بن معقل بن مقرن.

وروى مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان لا يلتفت في صلاته

ص: 452

حتى يقضيها.

وعن أبي جعفر القارئ، قال كنت أصلي وابن عمر ورائي، ولا أعلم فالتفت، فغمزني.

وروى حميد، عن معاوية بن قرة، قال: قيل لابن عمر: إن الزبير إذا صلى لم يقل هكذا ولا هكذا؟ قال: لكنا نقول كذا وكذا.

وفي رواية: ونكون مثل الناس.

وقد رويت الرخصة في الالتفات في النافلة.

فخرج الترمذي في حديث علي بن زيد، عن ابن المسيب، عن أنس، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يابني، إياك والالتفات في الصلاة؛ فإن الالتفات في الصَّلاة

هلكة، فإن كان لا بد ففي التطوع، لا في الفريضة)) .

وقال: حديث حسن.

وذكر في ((كتاب العلل)) : أنه ذاكر به البخاري، فلم يعرفه، ولم يعرف لابن المسيب عن أنس شيئا.

وقد روي عن أنس من وجوه أخر، وقد ضعفت كلها.

وخرج الطبراني نحوه بإسناد ضعيف، عن أبي الدرداء مرفوعاً.

ولا

ص: 453

يصح إسناده – أيضاً.

قال الدارقطني: إسناده مضطرب، لا يثبت.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 454

‌94 - باب

هل يلتفت لأمر ينْزل به

أو يَرَى شيئاً أو بصاَقاً في القِبلْةِ؟

وقال سهل: التفت أبو بكر، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم.

حديث سهل، قد سبق بتمامه في التفات أبي بكر لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر الناس التصفيق خلف أبي بكر.

خرج فيه حديثين:

أحدهما:

قال:

ص: 455

753 -

حدثنا قتيبة: ثناليث، عن نافع، عن ابن عمر، أنه قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم نخامة قبلة المسجد، وهو يصلى بين يدي الناس فحتها، ثم قال حين أنصرف: ((إن أحدكم إذا كان في الصلاة، فإن الله قبل وجهه، فلا يتنخمن أحد قبل وجهه في

الصلاة)) .

رواه موسى بن عقبة وابن أبي رواد، عن نافع.

هذا الحديث، قد خرجه البخاري في مواضع أخر من طريق مالك وجويرية ابن أسماء، عن نافع.

ومراده بتخريجه هاهنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم رآها في حال صلاته، كما في رواية الليث التي خرجها هاهنا، وذكر أنه تابعه على ذلك موسى بن عقبة

ص: 455

وابن أبي رواد.

وقد خرج مسلم حديث موسى، إلا أنه لم يتم لفظه.

وقد رواه أيوب، عن نافع، وذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى النخامة وهو يخطبُ.

خرجه أبو داود.

وظاهر رواية الليث يدل على أنه حتها وهو في الصلاة.

وقد روى: أنه حتها حين فرغ من الصلاة.

خرجه الإمام أحمد من رواية عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى نخامة، فلما قضى صلاته قال:((إن أحدكم إذا صلى في المسجد فإنه يناجي ربه، وإن الله تبارك وتعالى يستقبله بوجهه، فلا يتنخمن أحدكم في القبلة، ولا عن يمينه)) ثم دعا بعود فحكه، ثم دعا بخلوق فخضبه.

فهذه رواية ابن أبي رواد التي أشار إليها البخاري.

وأما رواية موسى بن عقبة [. . . . .]

وبكل حال؛ فليس في الحديث دليل على الالتفات في الصلاة، إنما فيه دليل على جواز نظر المصلي إلى قبلته، ورؤيته ما فيها، وأن ذلك لا ينافي الخشوع كما يحكى عن بعضهم، وأنه لا يكره للمصلي أن ينظر

ص: 456

في قيامه إلى ما بين يديه، ويزيد رفع بصره عن محل سجوده.

وأما حديث سهل المتقدم، ففيه جواز التفات المصلي في صلاته لأمر يعرض له في صلاته، ولا سيما إذا نبهه المأمومون بالتسبيح ونحوه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:((فإنه إذا سبح به التفت)) .

وقد سبق في ((أبواب: المساجد)) قول النبي صلى الله عليه وسلم في المصلي: ((إنه يبزق عن يساره، أو تحت قدمه)) .

وبصاقه يساره إنما يكون بنوع من الالتفات يسير، ولكنه لمصلحة الصلاة؛ فلذلك أمر به.

الحديث الثاني:

ص: 457

754 – حدثنا يحيى بن بكير ثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك، قال: بينما المسلمون في صلاة الفجر، لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم صفوف، فتبسم يضحك، ونكص أبو بكر على عقبيه، ليصل الصف، فظن أنه يريد الخروج، وهم المسلمون أن يفتتنوا في

صلاتهم، فأشار إليهم أن أتموا صلاتكم، وأرخى الستر، وتوفي في آخر ذلك اليوم صلى الله عليه وسلم.

قد تقدم هذا الحديث – أيضاً.

والمقصود منه في هذا الباب: أن أبا بكر ومن كان خلفه في صلاة الفجر رأوا النبي صلى الله عليه وسلم حين كشف ستر

ص: 457

حجرة عائشة، وظنوا أنه خارج للصلاة، حتى نكص أبو بكر على عقبيه، ليصل إلى الصف؛ لأجل النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يجيء فيقوم مقامه في الإمامة.

وإنما يكون نظرهم إليه في الصلاة بنوع من الالتفات، فإن حجرة عن يسار المسجد، ليست في قبلته، على ما لا يخفى، وقد أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ولم ينههم عن نظرهم إليه فدل على جواز التفات المصلى التفاتاً يسيراً يتعلق بالصلاة، فإنه غير منهي عنه.

ص: 458

‌95 - باب

وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها

في الحضر والسفر، وما يجهر فيها وما يخافت

قد ذكرنا هذا الباب بكماله عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف:204] في آخر سورة الأعراف، فأغنى عن إعادته هنا.

ولله الحمد.

ص: 459