المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌96 - باب القراءة في الظهر فيه ثلاثة أحاديث: الأول: - فتح الباري لابن رجب - جـ ٧

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

‌96 - باب

القراءة في الظهر

فيه ثلاثة أحاديث:

الأول:

ص: 5

758 -

حدثنا أبو النعمان: ثنا أبو عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر ابن سمرة، قال: قال سعد: قد كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلاة العشي، لا أخرم عنها، أركد في الأوليين، وأحذف في الأخريين. قال عمر: ذلك الظن بك.

صلاة العشي: هي صلاة الظهر والعصر، لأن العشي هو ما بعد الزوال.

وركودهُ في الأوليين وتطويله، إنما هو لطول القراءة، وقد خالف ابن عباس في ذلك.

وقد خرج البخاري فيما بعد من حديث أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر، وسكت فيما أمر {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] و {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} [الأحزاب: 21] .

ص: 5

فهذا يدل على أن ابن عباس كان يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ في صلاة الظهر والعصر شيئاً.

وقد تأوله الإسماعيلي وغيره على أنه لم يكن يجهر بالقراءة، بل يقرأ سراً وهذا لا يصح؛ فإن قراءة السر لا تسمى سكوتا.

وقد روي عن ابن عباس التصريح بخلاف بذلك.

وخرج الإمام أحمد حديث أيوب، عن عكرمة بزيادة في أوله، وهي لم يكن ابن عباس يقرأ في الظهر والعصر – وذكر الحديث.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث موسى بن سالم: ثنا عبد الله بن

عبيد الله، قال: دخلت على ابن عباس في شباب من بني هاشم، فقلنا لشباب منا: سل ابن عباس: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: لا. قيل له: فلعله كان يقرأ في نفسه فقال: خمشاً، هذه شر من الأولى، وكان عبداً مأموراً بلغ ما أرسل به – وذكر الحديث.

وخرج الإمام أحمد من رواية أبي يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس نحو حديث أيوب، وزاد: قيل له: فلعله كان يقرأ في نفسه، فغضب منهم وقال: أيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

ص: 6

وروى ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، أنه سئل أفي الظهر والعصر قراءة؟ قال: لا قيل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا؟ قال: لا، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قرأ علم ذلك الناس.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود - أيضاً - من طريق حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر

والعصر، أم لا؟

وهذه الرواية تقتضي أنه شك في ذلك، ولم يجزم فيه بشيء.

وخرج الإمام أحمد من رواية الحسن العرني، عن ابن عباس، قال: ما أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر، أم لا، ولكنا نقرأ.

الحسن العرني، لم يسمع من ابن عباس.

وروى موسى بن عبد العزيز القنباري، عن الحكم - هو ابن أبان - عن

عكرمة، عن ابن عباس، قال: لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الظهر والعصر، ولم يأمرنا به، وقد بلغ صلى الله عليه وسلم.

قد روي عن ابن عباس من وجه آخر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ، ولكن في إسناده ضعف.

خرجه أبو داود في ((كتاب الصلاة)) من طريق سفيان، عن زيد العمي، عن أبي العالية، عن ابن عباس، قال رمق أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فحزروا قراءته في الظهر والعصر، بقدر (تَنْزِيلُ) [السجدة: 2] ،

وقال: لم يسنده عن سفيان إلاّ يزيد بن هارون، ولم نسمعه من أحد إلاّ من الحسن بن منصور، وذكرته لأبي: فأعجب به، وقال: حديث غريب.

وزيد العمي، متكلم فيهِ.

الحديث الثاني:

ص: 7

759 -

ثنا أبو نعيم: ثنا شيبان، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قالَ: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى ويقصر في الثانية، ويسمع الآية أحياناً، وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين، وكان يطول [في الأولى، وكان يطول] في الركعة الأولى من صلاة الصبح، ويقصر في الثانية.

في هذا الحديث: دليل على استحباب القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر والعصر بسورة سورة مع الفاتحة، وهذا متفق على استحبابه بين العلماء، وفي وجوبه خلاف سبق ذكره.

وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت القراءة بسورة تامة، وهذا هوَ

ص: 7

الأفضل بالاتفاق؛ فأن قرأ السورة في ركعتين لم يكره - أيضاً - وقد فعله أبو بكر الصديق. قالَ: الزهري: أخبرني أنس، أن أبا بكر صلى بهم صلاة الفجر، فافتتح بهم سورة البقرة، فقرأها في ركعتين، فلما سلم قام إليه عمر، فقالَ: ما كنت تفرغ حتَّى تطلع الشمس. قالَ: لو طلعت لألفتنا غير غافلين.

ورخص فيهِ سعيد بن جبير وقتادة وأحمد، ولا نعلم فيهِ خلافاً إلاّ رواية عن

مالك. وسيأتي حديث قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالأعراف في ركعتين من المغرب. وفي ((صحيح مسلم)) عن عبد الله بن السائب، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الفجر فافتتح بسورة المؤمنين، حتى أتى عليهِ ذكر موسى وهارون فأخذته سعلة فركع.

وكذلك لو قرأ في ركعة بسورة وفي أخرى ببعض سورة، وقد روي عن عمر وابن مسعود.

وإن قرأ في الركعتين ببعض سورة: إما في أوائلها، أو أواسطها، أو أواخرها ففي كراهته خلاف عن أحمد، وسنذكره فيما بعد - إن شاء الله سبحانه وتعالى؛ فإن البخاري أشار إلى هذه المسائل.

وليس في حديث أبي قتادة تعيين السورتين المقروء بهما في الظهر والعصر، وقد ورد تعيين السور، وتقدير قراءته في أحاديث أخر.

ص: 9

فخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدري، قالَ: كنا نحزر قيام رسول الله، في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة {ألم

تَنْزِيلُ} السجدة، وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذَلِكَ، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر قدر قيامه من الأخريين في الظهر، وفي الأخريين من العصر على النصف من ذَلِكَ.

وفي رواية لهُ أيضاً: كانَ يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية - أو قالَ: نصف ذَلِكَ - وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة، وفي الأخريين قدر نصف ذَلِكَ.

وخرجه الإمام أحمد وابن ماجه عن أبي سعيد، قالَ: اجتمع ثلاثون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: تعالوا حتى نقيس قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم يجهر به من الصلاة، فما اختلف منهم رجلان، فقاسوا قراءته في الركعة الأولى من الظهر بقدر ثلاثين آية، وفي الركعة الأخرى بقدر النصف من ذَلِكَ، وقاسوا ذَلِكَ في صلاة العصر على قدر النصف من الركعتين الأخريين من الظهر.

وفي إسناده: زيد العمي، وفيه مقال.

ص: 10

وخرج مسلم - أيضاً - من حديث جابر بن سمرة، قالَ: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى، وفي العصر نحو ذَلِكَ، وفي الصبح أطول من ذَلِكَ.

وفي رواية: كانَ يقرأ في الظهر {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} .

وخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وعندهم: كانَ يقرأ في الظهر والعصر بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق، وشبهها.

وقد سبق حديث عمران بن حصين، أن النبي، صلى بهم الظهر والعصر، ثم قالَ:((أيكم قرأ خلفي بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ؟)) قالَ رجل: أنا.

قالَ: ((قد علمت أن بعضكم خالجنيها)) .

خرجه مسلم - أيضاً.

وخرج النسائي وابن ماجه من حديث البراء بن عازب، قالَ: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا الظهر، فنسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات.

وخرج النسائي من حديث أنس، أنه صلى بهم الظهر، قالَ: إني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر فقرأ لنا بهاتيين السوررتين في الظهر: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ

ص: 11

الْغَاشِيَةِ} .

وذكر الترمذي - تعليقاً - أن عمر كتب إلى أبي موسى، يأمره أن يقرأ بأوساط المفصل.

وهو قول طائفة من أصحابنا.

وقال إسحاق: الظهر تعدل في القراءة بالعشاء. لكنه يقول: إن الظهر يقرأ فيها بنحو الثلاثين آية.

وحديث جابر بن سمرة الذي خرجه مسلم كما تقدم: يدل على أن قراءة الظهر أقصر من قراءة الصبح.

وقال طائفة: يقرأ في الظهر بطوال المفصل كالصبح، وهو قول الثوري والشافعي وطائفة من أصحابنا كالقاضي أبي يعلي في ((جامعه الكبير)) ، لكنه خصه بالركعة الأولى من الظهر.

وروى وكيع بإسناده، عن عمر، أنه قرأ في الظهر بـ {ق} {والذاريات} .

وعن عبد الله بن عمرو، أنه قرأ في الظهر بـ {كهيعص} .

وروى حرب بإسناده، عن ابن عمر، أنه كانَ يقرأ في الظهر بـ {ق}

{والذاريات} .

وخرجه ابن جرير، وعنده: بـ {ق} {والنازعات} .

قالَ: وكان عمر يقرأ بـ {ق} .

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ يقرأ في الظهر بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد: 1] و {إِنَّا فَتَحْنَا لَك} [الفتح: 1] .

ص: 12

وممن رأي استحباب القراءة في الظهر بقدر ثلاثين آية: إبراهيم النخعي والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق.

وقال الثوري وإسحاق: كانوا يستحبون أن يقرأوا في الظهر قدر ثلاثين في الركعة الأولى، وفي الثانية بنصفها - زاد إسحاق: أو أكثر.

وظاهر كلام أحمد وفعله يدل على أن المستحب أن يقرأ في الصبح والظهر في الركعة الأولى من طوال المفصل، وفي الثانية من وسطه.

وروي عن خباب بن الأرت، أنه قرأ في الظهر بـ {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة:1] .

قالَ أبو بكر الأثرم: الوجه في اختلاف الأحاديث في القراءة في الظهر أنه كله جائز، وأحسنه استعمال طول القراءة في الصيف، وطول الأيام، واستعمال التقصير في القراءة في الشتاء وقصر الأيام، وفي الأسفار، وذلك كله معمول به. انتهى.

ومن الناس من حمل اختلاف الأحاديث في قدر القراءة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يراعي أحوال المأمومين، فإذا علم أنهم يؤثرون التطويل طول، أو التخفيف خفف، وكذلك إذا عرض لهُ في صلاته ما يقتضي التخفيف، مثل أن يسمع بكاء صبي مع أمه، ونحو ذَلِكَ.

وفي حديث أبي قتادة: يطول الركعة الأولى على الثانية.

وقد ذهب إلى القول بظاهره في استحباب تطويل الركعة الأولى على ما بعدها من جميع الصوات طائفة من العلماء، منهم: الثوري

ص: 13

وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن، وطائفة من أصحاب الشافعي، وروى عن عمر رضي الله عنه.

وقد خرج الإمام أحمد وأبو داود حديث أبي قتادة، وزاد فيهِ: فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى.

وخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدري، قالَ: لقد كانت صلاة الظهر

تقام، فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يتوضأ، ثم يأتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى؛ مما يطولها.

وقد سبق حديث أبي سعيد الذي خرجه مسلم، أن قراءته في الثانية كانت على النصف من قراءته في الأولى.

وخرج الإمام أحمد من حديث شهر بن حوشب، عن أبي مالك الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يسوي بين الأربع ركعات في القراءة والقيام ويجعل الركعة الأولى هي أطولهن، لكي يثوب الناس.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يطيل سوى الركعة من الفجر؛ لأنه وقت غفلة ونوم، ويسوي بين الركعات في سائر الصلوات.

وقال مالك والشافعي: يسوى بين الركعتين الأولتين في جميع الصلوات واستدل لذلك بقول (سعد) : ((أركد في الأوليين)) ، وليس بصريح ولا ظاهر في التسوية بينهما.

ص: 14

واستدل أيضاً - بحديث أبي سعيد، أنهم حزروا قيام النبي صلى الله عليه وسلم في الظهر في الركعتين الأوليين قدر قراءة ثلاثين آية، وقد سبق.

ولكن في رواية أحمد وابن ماجه: أن قيامه في الثانية كانَ على النصف من ذَلِكَ، وهذه الرواية توافق أكثر الأحاديث الصحيحة، فهي أولى.

واستدل لهم بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم: ((سبح)) و ((الغاشية)) و ((الجمعة))

و ((المنافقين)) و ((تَنزِيُلُ السجدة)) و ((هلُ أَتَى)) و ((ق)) و ((اقتْرَبَتْ)) ، هي سور متقاربة.

وأما تطويل الركعة الثالثة على الرابعة، فالأكثرون على أنه لا يستحب، ومن الشافعية من نقل الاتفاق عليهِ، ومنهم من حكى لأصحابهم فيهِ وجهين.

وهذا إنما يتفرع على أحد قولي الشافعي باستحباب القراءة في الأخريين بسور مع الفاتحة.

وقد خرج البزار والبيهقي من حديث عبد الله بن أبي أوفي، قالَ: كانَ

رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل الركعة الأولى من الظهر، فلا يزال يقرأ قائماً ما دام يسمع خفق نعال القوم، ويجعل الركعة الثانية أقصر من الأولى، والثالثة أقصر من الثانية، والرابعة أقصر من الثالثة وذكر مثل ذَلِكَ في صلاة العصر والمغرب وفي إسناده: أبو إسحاق الحميسي، ضعفوه.

ص: 15

وقد خرجه بقي بن مخلد في ((مسنده)) بإسناد أجود من هذا، لكن ذكر أبو حاتم الرازي أن فيهِ انقطاعاً، ولفظه في الظهر: ويجعل الثانية أقصر من الأولى، والثالثة أقصر من الثانية، والرابعة كذلك، وقال في العصر: يطيل في الأولى، ويقصر الثانية والثالثة والرابعة كذلك. وقال في المغرب: يطيل في الأولى، ويقصر في الثانية والثالثة.

وهذا اللفظ لا يدل على تقصير الرابعة عن الثالثة.

وقوله: ((ويسمعنا الآية أحياناً)) مما يحقق أنه صلى الله عليه وسلم كانَ يقرأ في الظهر والعصر، ويأتي بقية الكلام على ذَلِكَ فيما بعد - إن شاء الله تعالى.

الحديث الثالث:

ص: 16

760 -

حدثنا عمر - هوَ: ابن حفص بن غياث -: ثنا أبي: ثنا الأعمش: حدثني عمارة، عن أبي معمر، قالَ: سألنا خبابا: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهرِ

والعصر؟ ، قالَ: نعم قلنا: بأي شيء كنتم تعرفون ذَلِكَ؟ قالَ: باضطراب لحيته.

يعني: بحركة شعر لحيته.

هكذا رواه جماعة عن الأعمش.

ورواه بعضهم عنه، قالَ: بتحريك لحيته.

ورواه أبو معاوية، عن الأعمش، فقالَ: باضطراب لحييه - بيائين تثنية لحي، وهو عظم الفك.

وقد كانَ غير واحد من الصحابة يستدل بمثل هذا على قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة النهار.

ص: 16

وروى سفيان، عن أبي الزعراء، عن أبي الأحوص، عن بعض أصحاب النبي

صلى الله عليه وسلم، قالَ: كانت تعرف قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الظهر بتحريك لحيته.

خرجه الإمام أحمد.

وخرج - أيضاً - من رواية كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله، قالَ: تماروا في القراءة في الظهر والعصر، فأرسلوا إلى خارجه بن زيد،

فقالَ: قالَ أبي: قام - أو كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يطيل القيام، ويحرك شفتيه، فقد أعلم ذَلِكَ لم يكن إلا بقراءة، فأنا أفعله.

وفي هذه الأحاديث: دليل على أن قراءة السر تكون بتحريك اللسان والشفتين وبذلك يتحرك شعر اللحية، وهذا القدر لابد منه في القراءة والذكر وغيرهما من الكلام.

فأما إسماع نفسه فاشترطه الشافعي وبعض الحنفية وكثير من

ص: 17

أصحابنا.

وقال الثوري: لا يشترط، بل يكفي تصوير الحروف، وهو قول الحرقي من الحنفية، وظاهر كلام أحمد.

قالَ أبو داود: قيل لأحمد: كم يرفع صوته بالقراءة؟ فقالَ: قالَ ابن مسعود: من أسمع أذنية فلم يخافت.

فهذا يدل على أن إسماع الأذنين جهر، فيكون السر دونه.

وكذا قالَ ابن أبي موسى من أصحابنا: القراءة التي يسرها في الصلاة يتحرك اللسان والشفتان بالتكلم بالقرآن، فأما الجهر فيسمع نفسه ومن يليه.

ص: 18

‌97 - باب

القراءة في العصر

ص: 19

761 -

حدثنا محمد بن يوسف: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن عمارة ابن عمير، عن أبي معمر، قالَ: قلنا لخباب بن الأرت: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قالَ: نعم. قلت: بأي شيء كنتم تعلمون قراءته؟ قالَ: باضطراب لحيته.

ص: 19

762 -

حدثنا مكي بن إبراهيم، عن هشام، عن يحيى بن كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قالَ: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين (الأوليين) من الظهر والعصر بفاتحه الكتاب وسورة (سورةٍ) ، ويسمعنا الآية أحيانا.

هذان الحديثان سبقا في الباب الماضي.

والمقصود منهما هاهنا: القراءة في صلاة العصر.

وقد ذكرنا حديث أبي سعيد الخدري الذي خرجه مسلم، وفيه: أن قيامه في الركعتين الأوليين من صلاة العصر كانَ على قدر قيامه في الأخريين من الظهر.

وفي رواية: أنه قدر خمس عشرة آية.

ص: 19

وفي رواية ابن ماجه: أن قيامه في صلاة العصر على قدر النصف من الركعتين الأخريين من الظهر.

واختلف العلماء في القراءة في العصر:

فقالَ النخعي: العصر مثل المغرب في القراءة:

يعني: أن قراءتها تخفف.

وعنه قالَ: تضاعف الظهر على العصر أربعة أضعاف.

وكذا قالَ الثوري في قراءة العصر: إنها كقراءة المغرب بقصار المفصل.

وقال إسحاق: الظهر يعدل في القراءة بالعشاء، والعصر تعدل المغرب.

يعني: أنه يقرأ فيها بقصار المفصل.

وسياتي في الباب الذي بعده في تقصير العصر حديث مرفوع.

وقالت طائفة: قراءة العصر على نصف قراءة الظهر، وقراءة الظهر نحو ثلاثين آية، ونص على ذَلِكَ الإمام أحمد، واحتج بحديث أبي سعيد الخدري.

وقال أصحاب الشافعي: يقرأ في الصبح بطوال المفصل كالحجرات والواقعة، وفي الظهر بقريب من ذَلِكَ، وفي العصر والعشاء بأوساط المفصل، وفي المغرب بقصاره ولإن خالف وقرأ بالطول أو القصر جاز.

وقالت طائفة: يسوى بين قراءة الظهر والعصر، روي ذَلِكَ عن أنس بن مالك، وروي عن ابن عمر من وجه ضيعف.

وحديث جابر بن سمرة الذي خرجه مسلم يشهد لذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى، وفي العصر نحو ذَلِكَ.

ص: 20

‌98 - باب

القراءة في المغرب

فيهِ حديثان:

الأول:

ص: 21

763 -

حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، أنه قالَ: إن أم الفضل سمعته وهو يقرأ:

{وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} ، فقالَت: يابني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب.

وخرجه مسلم من طريق مالك وسفيان ومعمر وصالح بن كيسان، كلهم عن الزهري بنحوه.

وزاد صالح في حديثه: ثم ما صلى بعد حتى قبضه الله.

والمراد - والله أعلم - ما صلى بعدها إماماً بالناس.

وخرجه الترمذي من حديث ابن إسحاق، عن الزهري، ولفظه: قالَ: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب رأسه في مرضه، فصلى المغرب، ثم قراً بالمرسلات، فما صلى بها بعد حتى لقي الله.

ص: 21

وخرجه الطبراني من رواية أسامة بن زيد، عن الزهري، عن أبي رشدين - وهو: كريب -، عن أم الفضل، أنها كانت إذا سمعت أحداً يقرأ بالمرسلات قالت: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قرأ في المغرب بالمرسلات، ثم يصل لنا عشاء حتى قبضه الله.

وهذا يبين أن المعنى أنه لم يصل لهم بعدها صلاة المغرب إماماً ولكن قوله: ((عن كريب)) في هذا الإسناد وهم، إنما هوَ: عبد الله ابن عباس.

وخرج النسائي من حديث موسى بن داود، عن عبد العزيز الماجشون، عن حميد، عن أنس، عن أم الفضل، قالت: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته المغرب، فقرأ بالمرسلات، ما صلى بعدها صلاة حتى قبض الله روحه صلى الله عليه وسلم.

وهذا الإسناد كلهم ثقات، إلا أنه معلول، فإن الماجشون روى، عن حميد، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب واحد، ثم قالَ الماجشون عقب ذَلِكَ: وذكر لي عن أم الفضل - فذكر هذا الحديث، فوهم فيهِ موسى بن دواد، فساقه كله عن حميد، عن أنس -: ذكر ذَلِكَ أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان.

الحديث الثاني.

ص: 22

764 -

حدثنا أبو عصام، عن ابن جريح، عن ابن أبي مليكة، عن

ص: 22

عروة بن الزبير، عن مروان بن الحكم، قالَ: قالَ لي زيد بن ثابت: مَا لكَ تقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولي الطوليين؟!

طولى: وزنه فعلى، والطوليين: تثنية الطولى.

ويقال: إنه هاهنا أراد الأعراف: فإنها أطول من صاحبتها الأنعام _: ذكره الخطابي.

وخرج أبو داود هدا الحديث من طريق ابن جريح - أيضاً -، وعنده ((بقصار المفصل)) ، وزاد فيهِ: قالَ: قلت: وما طولى الطوليين؟ قالَ: الأعراف قالَ: فسألت ابن أبي ملكية، فقالَ لي من قبل نفسه المائدة والأعراف.

وخرجه النسائي - أيضاً -، وعنده: بقصار السور، وعنده: بأطول الطوليين، قلت: يا أبا عبد الله، ما أطول الطوليين؟ قالَ: الأعراف.

وهذا يدل على أن المسئول والمخبر هوَ عروة.

ثم خرجه من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة المغرب الأعراف، فرقها في ركعتين.

وخرجه - أيضاً - من طريق أبي الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدث، عن زيد بن ثابت، قالَ لمروان: أتقرأ في المغرب بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ

ص: 23

أَحَدٌ} و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ

الْكَوْثَرَ} ؟ قالَ: نعم. قالَ: فمحلوفة، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بأطول الطوليين {الَمَصَ} .

فهذا ثلاثة أنواع من الاختلاف في إسناده:

أحدها: عروة، عن مروان، وهي رواية ابن أبي مليكة عنه.

وهذا أصح الروايات عندَ البخاري، وكذلك خرجه في ((صحيحه)) ونقل عنه ذَلِكَ الترمذي في ((علله)) صريحاً، ووافقه الدارقطني في ((العلل)) .

والثاني: عروة، عن عائشة، وهي رواية شعيب بن أبي حمزة، عن هشام، عن أبيه.

وقد قال أبو حاتم الرازي: إنه خطأ.

والثالث: عروة، عن زيد - من غير واسطة، وهي رواية أبي الأسود، عن عروة.

وكذلك رواه جماعة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زيد، منهم: يحيى القطان والليث بن سعد وحماد بن سلمة وغيرهم.

وصحح ذلك ابن حبان، ورجحه الدارقطني في جزء له مفرد علقه على أحاديث عللها من " صحيح البخاري ".

وقد اختلف في إسناده عن هشام بن عروة.

فقيل: عنه، عن أبيه، عن عائشة.

وقيل: عنه، عن أبيه، عن زيد بن ثابت.

ص: 24

وقيل: عنه، عن أبيه، عن أبي أيوب وزيد معا.

وقيل: عنه، عن أبيه، عن أبي أيوب - أو زيد - بالشك في ذلك

وهو الصحيح عن هشام -: قاله البخاري، حكاه الترمذي عنه في ((علله)) ، وقاله - أيضاً - الدارقطني في ((علله)) وقالا: كانَ هشام يشك في إسناده.

وقال ابن أبي الزناد: عن هشام، عن أبيه، عن مروان، عن زيد.

خرجه الإمام أحمد من طريقه.

وهذا موافق لقول ابن أبي مليكة، عن عروة.

وروي عن هشام، عن أبيه - مرسلاً.

وفي رواية: عن هشام: سورة الأنفال، بدل: الأعراف.

ولعل مسلماً أعرض عن تخريج هذا الحديث لاضطراب إسناده؛ ولأن الصحيح عنده إدخال ((مروان)) في إسناده، وهو لا يخرج لهُ استقلالاً، ولا يحتج بروايته. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وسيأتي حديث جبير بن مطعم في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب بالطور، في الباب الذي يلي هذا - إن شاء الله سبحانه وتعالى.

وقد اختلف في القراءة في المغرب:

فذهبت طائفة من السلف إلى تطويلها، وقد سبق عن زيد بن ثابت

ص: 25

أنه أنكر على مروان القراءة فيها بقصار المفصل.

وروي عن ابن عمر، أنه كانَ يقرأ فيها بـ {يسَ} .

وروى عنه مرفوعاً.

والموقوف أصح -: ذكره الدارقطني في ((علله)) .

وخرج العقيلي المرفوع، وقال: هوَ غير محفوظ.

وخرج الدارقطني في ((علله)) - أيضاً - من رواية عامر بن مدرك: ثنا

سفيان، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن عائشة، قالت: كانت صلاة

رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين، إلا المغرب؛ فإنها كانت وتراً، فلما رجع إلى المدينة صلى مع كل ركعتين ركعتين، إلا المغرب والفجر؛ لأنه كانَ يطيل فيهما القراءة.

وهذا لفظ غريب.

وقد سبق في أول ((المواقيت)) بلفظ آخر: إلا المغرب؛ لأنها وتر، والفجر؛ لأنه كانَ يطيل فيها القراءة.

وهذا اللفظ أصح.

وذهب أكثر العلماء إلى استحباب تقصير الصلاة في المغرب. روى مالك في

((الموطإ)) بإسناده عن الصنابحي، أنه قدم المدينة في خلافة أبي بكر الصديق، فصلى وراء أبي بكر الصديق المغرب، فقرأ أبو بكر في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة من قصار المفصل، ثم قام في الركعة الثالثة، فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد أن تمس ثيابه،

ص: 26

فسمعته قرأ بأم القرآن، وبهذه الآية {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:

ص: 27

8] الآية.

وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري، أن يقرأ في صلاة المغرب بقصار المفصل.

ذكره الترمذي - تعليقاً - وخرجه وكيع.

وروى وكيع في ((كتابه)) عن سيفان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن

ميمون، قالَ: سمعت عمر يقرأ في المغرب في الركعة الأولى بالتين والزيتون، وفي الثانية {أَلَمْ تَرَ} و {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} .

وعن الربيع، [عن الحسن] ، أنه كانَ يقرأ في المغرب {إِذَا زُلْزِلَتِ}

{وَالْعَادِيَاتِ} لا يدعهما، قالَ الربيع: وحدثني الثقة عن ابن عمر، أنه كانَ لا يدعهما في المغرب.

وخرج أبو داود في ((سننه)) عن ابن مسعود، أنه قرأ في المغرب:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .

وعن هشام بن عروة، أن أباه كانَ يقرأ في المغرب بنحو ما تقرءون

{وَالْعَادِيَاتِ} ونحوها من السور.

وهذا مما يعلل به حديثه عن مروان، عن زيد بن ثابت، كما تقدم

ص: 27

وكان النخعي يقرأ في المغرب {أَلَمْ تَر} أو {لإيلافِ قُرَيْشٍ} .

وذكر الترمذي: أن العمل عندَ أهل العلم على القراءة في المغرب بقصار المفصل. وهذا يشعر بحكاية الإجماع عليهِ.

وممن استحب ذَلِكَ ابن مبارك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال: كانوا يستحبون ذَلِكَ.

وقد دل على استحباب ذَلِكَ: ماروى الضحاك بن عثمان، عن بكير بن

الأشج، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة، قالَ: ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان.

قالَ سليمان: يطيل الركعتين الأوليين من الظهر، ويخفف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بوسط المفصل، ويقرأ في الصبح بطوال المفصل.

خرجه الإمام أحمد والنسائي.

وخرج ابن ماجه بعضه.

وفي رواية للنسائي: ويقرأ في العشاء بالشمس وضحاها، وأشباهها، ويقرأ في الصبح سورتين طويلتين.

وفي رواية للإمام أحمد: قالَ الضحاك: وحدثني من سمع أنس بن مالك يقول: ما رأيت أحداً أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى.

ص: 28

قالَ الضحاك: فصليت خلف عمر بن عبد العزيز، فكان يصنع مثلما قالَ سليمان بن يسار.

وخرج ابن سعد وغيره حديث أنس، عن ابن أبي فديك، عن الضحاك، قالَ: حدثني يحيى بن سعيد - أو شريك بن أبي نمر، لا ندري أيهما حدثه - عن أنس - فذكر الحديث.

والفتى: هوَ عمر بن عبد العزيز، كذا قالَ ابن أبي فديك، عن الضحاك بالشك.

ورواه الواقدي، عن الضحاك، عن شريك - من غير شك.

فهذا حديث صحيح عن أبي هريرة وأنس، ويدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يقرأ في المغرب بقصار المفصل.

ويشهد لهُ - أيضاً -: ما خرجه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب، عن

أبيه، عن جده، قالَ: ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم بها الناس في الصلاة المكتوبة.

فهذا يدل على إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من قراءة سور المفصل في الصلوات الجهريات الثلاث. قصارها، وطوالها، ومتوسطها، فإن كانَ يقرأ في الصبح بطول المفصل وفي المغرب بقصاره وفي العشاء بأوساطه؛ فهوَ موافق لحديث أبي هريرة وأنس، وهذا هوَ الظاهر، وإن يقرأ بقصار سور المفصل في العشاء أو في الصبح، فقراءتها في المغرب أولى.

ص: 29

وخرج النسائي من رواية سيفان، عن محارب بن دثار، عن جابر، قالَ: مر رجل من الأنصار بناضحين على معاذ، وهو يصلى المغرب، فافتتح سورة البقرة، فصلى الرجل، ثم ذهب، فبلغ ذَلِكَ النبي صلى الله عليه وسلم، فقالَ:((أفتان يا معاذ؟ أفتان يا معاذ؟ ألا قرأت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ونحوهما)) .

ورواه مسعر، عن محارب بن دثار، قالَ في حديثه:((إنما يكفيك أن تقرأ في المغرب بالشمس وضحاها وذواتها)) .

وروه أبو الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن محارب، وقال في حديثه:

((ألا يقرأ أحدكم في المغرب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} )) .

وخرج ابن ماجه: حدثنا أحمد بن بديل: ثنا حفص بن غياث، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قالَ: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .

ابن بديل، قالَ النسائي ليس به بأس، وقال ابن أبي حاتم: محله الصدق، وقال ابن عدي: حدث بأحاديث أنكرت عليهِ، ويكتب حديثه

ص: 30

مع ضعفه.

وقد أنكر عليهِ هذا الحديث بخصوصه أبو زرعة الرازي وغيره. قالَ الدارقطني: لم يتابع عليهِ.

قلت: وقد تابعه عبد الله بن كرز على إسناده، فرواه عن نافع، عن ابن عمر، وخالفه في متنه، فقالَ: إن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يقرأ في المغرب بالمعوذتين.

ولم يتابع عليهِ، قالَ الدار القطني: ليس بمحفوظ، وابن كرز ضعيف.

وروى سعيد بن سماك بن حرب: ثنا أبي، ولا أعلمه إلا عن جابر ابن سمرة، قالَ: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}

و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وكان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة: سورة الجمعة والمنافقين.

خرجه الحاكم والبيهقي.

وروي عن أبي عثمان الصابوني أنه صححه، وكان يعمل به حضراً وسفراً، وعن ابن حبان أنه ذكر في ((ثقاته)) : أن المحفوظ عن سماك

ص: 31

مرسلا.

وسعيد بن سماك بن حرب، قالَ أبو حاتم الرازي: متروك الحديث.

قالَ علي بن سعيد: قلت لأحمد: ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة المغرب بالطور والأعراف والمرسلات؟ قالَ: قد روي عنه ذَلِكَ، حديث معاذ.

وأشار أبو داود إلى نسخ القراءة بالأعراف، واستدل لهُ بعمل عروة بن الزبير بخلافه، وهو روايه.

وقد قالَ طائفة من السلف: إذا اختلفت الأحاديث فانظروا ما كانَ عليهِ أبو بكر وعمر.

يعني: أن ما عملا به فهوَ الذي استقر عليهِ أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم عنهما القراءة في المغرب بقصار المفصل، وعضد ذَلِكَ - أيضاً - حديث عثمان بن أبي العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم عهد إليه أن يخفف، ووقت لهُ أن يقرأ بـ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وأشباهها من السور.

وعثمان بن أبي العاص قدم مع وفد ثقيف بعد فتح مكة، وذلك في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

فإن قرأ في المغرب بهذه السور الطوال ففي كراهته قولان:

ص: 32

أحدهما: يكره، وهو قول مالك.

والثاني: لا يكره، بل يستحب، وهو قول الشافعي؛ لصحة الحديث بذلك، حكى ذَلِكَ الترمذي في ((جامعه)) ، وكذلك نص أحمد على أنه لا بأس به ولكن أن كانَ ذَلِكَ يشق على المأمومين، فإنه يكره أن يشق عليهم، كما سبق ذكره.

وهذا على قول من يقول بامتداد وقت المغرب إلى مغيب الشفق ظاهر، فأما على قول من يقول: إن وقتها وقت واحد مضيق فمشكل.

وكذلك كرهه مالك.

وأما أصحاب الشافعي، فاختلوا فيمن دخل فيها في أول وقتها: هل لهُ أن يطيلها ويمدها إلى مغيب الشفق، أم لا؟ على وجهين.

ورجح كثير منهم جوازه؛ لحديث زيد بن ثابت، فأجازوا ذَلِكَ في الاستدامة دون الابتداء، والله أعلم.

ص: 33

‌99 - باب

الجهر في المغرب

ص: 34

756 -

حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن ابن شهاب، عن محمد ابن جبير بن مطعم، عن أبيه، قالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور.

وخرجه في ((المغازي)) من طريق معمر، عن الزهري، وزاد فيهِ: وذلك أول ما دخل الإيمان في قلبي.

وهذا كانَ قبل أن يسلم جبير بن مطعم، وكان قدم المدينة لفداء أسارى بدر.

وخرج الإمام أحمد من طريق سعد بن إبراهيم: سمعت بعض إخوتي يحدث، عن أبي، عن جبير بن مطعم، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم في فداء المشركين _ وفي رواية: في فداء أهل بدراً _ وما أسلم يومئذ، قالَ: فانتهيت إليه وهو يصلي المغرب، وهو يقرأ فيها بالطور، قالَ: فكانما صدع قلبي حين سمعت القرآن.

وفي هذا: دليل على قبول رواية المسلم لما تحمله من العلم قبل إسلامه.

وقد روي أنه سمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد.

ص: 34

وفيه: دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يرفع صوته بالقراءة في صلاة الليل.

والأحاديث المذكورة في الباب الماضي تدل على الجهر بالقراءة في المغرب؛ فإن عامة من روى عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم القراءة في [المغرب] بسورة ذكر أنه سمعه يقرأ بها، وفي ذَلِكَ دليل الجهر.

والجهر بالقراءة في المغرب إجماع [المسلمين] رأياً وعملا به لم يزل المسلمون يتداولونه بينهم، من عهد نيبهم صلى الله عليه وسلم حتى الآن.

[وأدنى] الجهر: أن يسمع من يليه، هذا قول أصحابنا والشافعية وغيرهم.

وقد سبق عن ابن مسعود، قالَ: من أسمع أذنيه فلم يخافت، وهو يدل على أدنى الجهر: أن يسمع نفسه.

روى وكيع، عن سفيان، عن أشعت بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن هلال، عن ابن مسعود، قالَ: لم يخافت من أسمع أذنيه.

ومنتهى الجهر: أن يسمع من خلفه إن أمكن ذَلِكَ من غير مشقة، وقد كانَ عمر بن الخطاب يسمع قراءته في المسجد من خارجه.

وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء:110] قالَ: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار بمكة، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، سمع ذَلِكَ المشركون سبوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، فقالَ الله لنبيه:

ص: 35

{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} فيسمع المشركون قراءتك {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك، أسمعهم القرآن لا تجهر ذَلِكَ الجهر {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} ، يقول: بين الجهر والمخافتة.

خرجاه في ((الصحيحين)) ولفظه لمسلم.

والجهر فيما يجهر فيهِ سنة، لا تبطل الصلاة بتركه عندَ جمهور العلماء.

وحكى عن ابن أبي ليلى أنه تبطل الصلاة بتركه. وهو وجه ضعيف لأصحابنا إذا تعمد ذَلِكَ.

وإنما يجهر الإمام إذا صلى من يأتم به، فأما المنفرد، فاختلفوا: هل يسن لهُ

الجهر، أم لا؟

فقالَ الشافعي وأصحابه: يسن لهُ الجهر. وحكاه بعضهم عن الجمهور.

ومذهب أبي حنيفة وأحمد: إنما يسن الجهر لإسماع من خلفه؛ ولهذا أمر من خلفه بالإنصات لهُ، كما قالَ تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] ، وقد سبق أنها نزلت في الصلاة وأما المنفرد فيجوز لهُ الجهر ولا يسن.

قالَ أحمد: إن شاء جهر، وإن شاء لم يجهر؛ إنما الجهر للجماعة.

وكذا قالَ طاوس: إن شاء جهر، وإن شاء لم يجهر.

ص: 36

ومن أصحابنا من كرهه للمنفرد.

ونص أحمد على أن المنفرد إذا صلى الكسوف جهر فيها بالقراءة، فخرج القاضي أبو يعلى من ذَلِكَ رواية باستحباب الجهر للمنفرد في الفرائض.

وبينهما فرق؛ فإن صلاة الكسوف تطول فيها القراءة، فيحتاج المنفرد إلى الجهر فيها؛ كقيام الليل، بخلاف الفرائض.

ص: 37

‌100 - باب

الجهر في العشاء

ص: 38

766 -

حدثنا أبو النعمان: ثنا معتمر، عن أبيه، عن بكر، عن أبي رافع، قالَ: صليت مع أبي هريرة العتمه، فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد، فقلت لهُ. فقالَ: سجدت خلف أبي القاسم، فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه.

ص: 38

767 -

حدثنا أبو الوليد: ثنا شعبة، عن عدي، قالَ: سمعت البراء، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ في سفر، فقرأ في العشاء بالتين والزيتون.

لم يذكر في هذا الباب حدثنا مرفوعاً إلا على الجهر في العشاء.

أما حديث أبي هريرة: فغايته أن يدل على أن أبا هريرة جهر في قراءة صلاة العشاء، وسجد، وأخبر أنه سجد بهذه السجدة خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: في صلاة العشاء، فيحتمل أنه سجد بها خلفه في صلاة جهر فيها بالقراءة غير صلاة العشاء، ويحتمل أنه سجد بها في غير صلاة؛ فإن القارئ إذا قرأ وسجد سجد من سمعه، ويكون مؤتماً به عندَ كثير من العلماء، وهو مذهب أحمد وغيره، ويأتي ذكر ذَلِكَ في مواضع أخر - إن شاء الله سبحانه وتعالى.

ص: 38

وأما حديث البراء: فليس في هذه الرواية التي خرجها هاهنا تصريح بالجهر، ولكنه خرجه فيما بعد، وزاد فيهِ:((قالَ: فما سمعت أحسن صوتاً منه)) وهذا يدل على الجهر.

وبكل حال؛ فالجهر بالقراءة في الركعتين الأوليين من العشاء متفق عليهِ بين المسلمين، وقد تداولته الأمة عملاً به قرنا بعد قرن، من عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم وإلى الآن.

وحكم الجهر في العشاء حكم الجهر في المغرب، وقد سبق ذكره.

ص: 39

‌101 - باب

القراءة في العشاء بالسجدة

ص: 40

768 -

حدثنا مسدد: ثنا يزيد بن زريع: ثنا التيمي، عن بكر، عن أبي رافع، قالَ: صليت مع أبي هريرة العتمة، فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد. فقلت:

ما هذه؟ قالَ: سجدت بها خلف أبي القاسم، فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه.

قد ذكرنا أن هذا الحديث إنما فيهِ التصريح بالسجود في صلاة العشاء عن أبي هريرة، وليس فيهِ تصريح برفع ذَلِكَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي في موضع آخر - إن شاء الله تعالى - قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في فجر يوم الجمعة بـ {الم تَنْزِيل} (السجدة) .

والظاهر: أنه كانَ يسجد فيها، ولو لم يكن يسجد فيها لنقل إخلاله بالسجود فيها، فإنه يكون مخالفا لسنته المعروفة في السجود فيها، ولم يكن يهمل نقل ذَلِكَ، فإن هذه السورة تسمى سورة السجدة، وهذا يدل على أن السجود فيها مما استقر عليهِ العمل به عندَ الأمة.

وجمهور العلماء على أن الإمام لا يكره لهُ قراءة سجدة في صلاة الجهر، ولا السجود لها فيها، وروى ذَلِكَ عن ابن عمر وأبي هريرة، وهو قول الشافعي وأحمد

ص: 40

وغيرهما.

واختلف فيهِ عن مالك، فروي عنه كراهته، وروي عنه أنه قالَ: لا بأس به إذا لم يخف أن يغلط على من خلفه صلاته.

وكأنه يشير إلى أنه إذا كثر الجمع وأدى السجود إلى تغليط من بعد عن الإمام؛ لضنّه أنه يكبر للركوع فركع.

وأما قراءة الإمام في صلاة السر سورة فيها سجدة، فاختلفوا في ذَلِكَ:

فكرهه كثير من العلماء، منهم: مالك والثوري وأبو حنيفة وأحمد.

وعللوا الكراهة بتغليط المأمومين، وأنه ربما اعتقدوا أنه سها في صلاته فيتخلف بعضهم عن متابعته وتختبط صلاتهم.

ثم اختلفوا فيما إذا قرأها: هل يسجد، أم لا؟

فقالَ: أكثرهم: يسجد، وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة.

والسجود عندَ مالك مستحب، وعندهما واجب؛ بناء على أصلهما في وجوب سجود التلاوة.

وقالوا: متى سجد لزم المأمومين متابعته في السجود.

وقال أحمد وأصحابه: يكره أن يسجد، فإن فعل لم يلزم المأموم متابعته، بل يخير في ذَلِكَ؛ لأن إمامه فعل مكروها لا يبطل صلاته، فخير في متابعته وترك متابعته.

وكذا قالَ الثوري في إمامٍ سجد، يظن أنه قرأ سجدة فسجد فيها: لا يتبعه من خلفه.

وقالت طائفة: لا يكره قراءة السجدة في صلاة السر ولا السجود

ص: 41

لها، وعلى المأموم متابعته، وهو قول الشافعي وإسحاق.

ومن الشافعية من قالَ: يستحب تأخير السجود لها حتى يفرغ من الصلاة، فيسجد حينئذ للتلاوة.

واستدلوا بما روى سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في الركعة الأولى من صلاة الظهر، فرأى أصحابه أنه قرأ {تَنْزِيلُ} [السجدة] .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود.

ولم يسمعه التيمي عن أبي مجلز.

قالَ الدارقطني: وقيل: عنه، عن أبي أمية، عن أبي مجلز. قالَ: ويشبه أن يكون: عبد الكريم أبو أمية. وكذا قاله إبراهيم بن عرعرة.

ص: 42

وقال في موضع آخر: أمية مجهول.

وذكر البيهقي أنه قيل فيهِ: ((مية)) - أيضاً - بغير ألف.

وروى بهذا الإسناد عن أبي مجلز مرسلا.

قالَ الإمام أحمد في هذا الحديث: ليس لهُ إسناد. وقال - أيضاً -: لم يسمعه سليمان من أبي مجلز، وبعضهم لا يقول فيهِ: عن ابن عمر - يعني: جعله مرسلا.

وخرج أبو يعلى الموصلي في ((مسنده)) من طريق يحيى بن عقبة بن أبي العيزار، عن أبي إسحاق، عن البراء، قالَ: سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر، فظننا أنه قرأ

{تَنْزِيلُ} [السجدة] .

ويحيى هذا ضعيف جداً.

ص: 43

‌102 - باب

القراءة في العشاء

ص: 44

769 -

حدثنا خلاد بن يحيى: ثنا مسعر: ثنا عدي بن ثابت: سمع البراء، قالَ: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء بالتين والزيتون، وما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه - أو قراءة.

هذا الحديث، رواه عن عدي بن ثابت: مسعر، ومن طريقه خرجه البخاري هاهنا.

وشعبة، وقد خرجه من حديثه فيما سبق.

ويحيى بن سعيد الأنصاري، وقد خرجه من طريقه الترمذي وابن ماجه.

وفي أحاديثهم: أن ذَلِكَ كانَ في العشاء.

وخرجه الإمام أحمد، عن أبي خالد الأحمر، عن يحيى بن سعيد، وقال في حديثه:((المغرب)) ، بدل:((العشاء)) .

رواه كذلك عبد الوهاب، عن شعبة.

خرجه من طريقه ابن أبي داود في ((كتاب الصلاة)) .

وروى ذَلِكَ عن مسعر - أيضاً.

خرجه الإسماعيلي في ((جمعه حديث مسعر)) .

وفي رواية خرجها الإسماعيلي - أيضاً -، عن البراء، قالَ: مشيت إلى

ص: 44

مسجد النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء - فذكر الحديث. وزاد في آخره: وكان في قراءته ترسيل، أو ترتيل.

وذكر المشي إلى المسجد غريب لا يثبت، وهو يوهم أنه كانَ بالمدينة، وترده رواية شعبة المتفق عليها في ((الصحيحين)) : أن ذَلِكَ كانَ في سفر.

وهذا الحديث: يدل على القراءة في صلاة العشاء بقصار المفصل.

وقد بوب عليهِ أكثر من صنف في العلم، كالبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه:((القراءة في العشاء)) . وظاهر كلامهم: يدل على أنه يستحب القراءة في العشاء بقصار المفصل، ولا يعلم قائل من الفقهاء يقول باستحباب ذَلِكَ مطلقاً.

وبوب عليهِ أبو داود: ((قصر القراءة في السفر)) ، فحمله على الصلاة في السفر خاصة.

وروى عمرو بن ميمون، أنه سمع عمر يقرأ بمكة في العشاء بالتين والزيتون،

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} وهذا - أيضاً - كانَ في سفر.

وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على تقصير القراءة في السفر.

وقال أصحابنا: لا يكره تخفيف القراءة في الصبح وغيرها في السفر دون الحضر.

وقال إبراهيم النخعي: كانَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرءون في السفر بالسور القصار.

ص: 45

خرجه ابن أبي شيبة. وخرج - أيضاً - بإسناده، عن عمرو بن ميمون، قالَ: صلى بنا عمر الفجر بذي الحليفة فقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون} ، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .

وبإسناده، عن ابن مسعود، أنه صلى بأصحابه الفجر في سفر، فقرأ بآخر بني إسرائيل:{الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} ، ثم ركع.

وروى حرب بإسناده، عن المعرور بن سويد، قالَ: حججت مع عمر، فقرأ بنا في صلاة الصبح بمكة {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} و {لإِيلافِ قُرَيْشٍ} .

ويروى عن أنس أنه كانَ يقرأ في السفر في الفجر بالعاديات وأشباهها.

وروي عن عقبة بن عامر، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى به الفجر في سفر، فقرأ بالمعوذتين.

خرجه وكيع في ((كتابه)) بإسناد منقطع.

وخرجه الإمام أحمد بإسناد متصل، ولم يذكر السفر، لكن ذكر أنه كانَ يقود بالنبي صلى الله عليه وسلم راحلته، ثم ذكر صلاته عقب ذَلِكَ، وهو دليل على السفر.

وخرجه أبو داود والنسائي مختصراً.

ص: 46

وكان الأولى أن يخرج في هذا الباب حديث جابر في أمر النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ أن يقرأ في صلاة العشاء بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {وَاللَّيْلِ

إِذَا} وقد خرجه البخاري فيما تقدم في ((أبواب: الإمامة)) .

وفي رواية لهُ - أيضاً - أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره يقرأ سورتين من وسط المفصل. وعلى هذا جمهور العلماء: أن المستحب أن يقرأ في صلاة العشاء سورتين من أواسط المفصل، وهو قول الشافعي وأحمد.

وقد سبق من حديث أبي هريرة وأنس ما يدل على ذَلِكَ - أيضاً.

وروى ابن لهعية، عن ابن أبي جعفر، عن خلاد بن السائب، عن أبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:((لا يقرأ في الصبح دون عشرين آية، ولا في العشاء دون عشر آيات)) .

خرجه أبو الشيخ الأصبهاني.

وهو غريب.

وقد روي عن عمر، أنه كتب إلى أبي موسى أن يقرأ في الفجر بوسط المفصل.

ذكره الترمذي - تعليقاً.

وذكر عن عثمان أنه كانَ يقرأ في العشاء بأوساط المفصل؛ مثل سورة

ص: 47

المنافقين ونحوها.

وقد تقدم عن أبي هريرة، أنه قرأ فيها بـ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وروى مثله عن عمر، وعن ابن مسعود، أنه قرأ في الركعة الأولى من العشاء من أول الأنفال إلى رأس الأربعين {وَنِعْمَ النَّصِيرُ} ثم ركع، ثم قام فقرأ بسورة من المفصل.

وقال النخعي وإسحاق: كانوا يعدلون الظهر في القراءة بالعشاء.

ومن قولهما: إن الظهر يقرأ فيها بنحو ثلاثين آية.

وقد سبق حديث في قراءة سورة الجمعة والمنافقين في صلاة العشاء، وأن من أهل الحديث من كانَ يعمل به حضراً وسفراً.

وروى حرب بإسناده، عن حبيب بن أبي ثابت، قالَ: كانوا يستحبون أن يقرءوا ليلة الجمعة سورة الجمعة، كي يعلم الناس أن الليلة ليلة الجمعة.

قالَ حرب: قلت لأحمد: فنقرأ ليلة الجمعة في العتمة بسورة الجمعة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} -؟ قالَ: لا؛ لم يبلغني في هذا شيء. وكأنه كره ذَلِكَ.

وروى الخلال من طريق الحسن بن حسان، قالَ: قلت لأحمد: فنقرأ في ليلة الجمعة بسورة الجمعة؟ قالَ: لا بأس، ما سمعنا بهذا شيئاً أعلمه، ولكن لا يدمن، ولا يجعله حتماً.

ص: 48

‌103 - باب

يطول في الأوليين ويحذف في الأخريين

ص: 49

770 -

حديثاً سليمان: ثنا شعبة، عن أبي عون، قالَ: سمعت جابر بن سمرة، قالَ: قالَ عمر لسعد: قد شكوك في كل شيء حتى الصلاة؟ قالَ: أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف في الأخريين، ولا آلو ما اقتديت به من [صلاة] رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: صدقت، ذَلِكَ الظن بك - أو ظني بك.

معنى: ((لا آلو)) : لا أقصر ولا أدع جهداً في الاقتداء بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد روي حديث سعد هذا بثلاثة ألفاظ:

أحدها: هذا، وهو ذكر الصلاة مطلقاً.

والثاني: ذكر صلاة العشي، والمراد: صلاة الظهر والعصر.

والثالث: ذكر صلاة العشاء، فإن كانَ محفوظاً كانَ الأنسب ذكره في هذا الباب.

وإنما خرجه البخاري في صلاة الظهر والعصر، وخرج هاهنا الرواية

ص: 49

المطلقة التي تدخل فيها كل صلاة رباعية، لقوله: أمد في الأوليين وأحذف في الأخريين.

ومراد البخاري: الاستدال بحديث سعد هاهنا على تطويل الأوليين من صلاة العشاء، فيكون ذَلِكَ مخالفاً لحديث البراء بن عازب الذي خرجه في الباب الماضي.

وقد ذكرنا عن النخعي وإسحاق ما يدل على أنه يشرع تطويل القراءة في العشاء، وأن الجمهور على أنه يقرأ فيها من أوساط المفصل، كما دل عليهِ حديث جابر في قصة معاذ بن جبل. والله صلى الله عليه وسلم أعلم.

ص: 50

‌104 - باب

القراءة في الفجر

وقالت أم سلمة: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالطور.

حديث أم سلمة هذا، قد خرجه البخاري فيما سبق في ((أبواب: المسجد)) في ((باب: إدخال البعير المسجد لعلة)) وخرجه - أيضاً - في ((كتاب: الحج)) ولفظه: عن أم سلمة، قالت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي، فقالَ:((طوفي من وراء الناس وأنت راكبة)) فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت، وهو يقرأ بالطور وكتاب مسطور.

وخرجه مسلم - أيضاً -، وفي رواية لهُ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ لها: ((إذا أقيمت الصلاة للصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون)) قالت: ففعلت.

وهذا يرد ما قاله ابن عبد البر: أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم هذه كانت تطوعاً، ثم تردد: هل كانت ليلاً، أو نهار؟ وقال: فيهِ دليل على الجهر في تطوع النهار.

وهذا كله ليس بشيء.

فيهِ حديثان:

ص: 51

أحدهما:

قالَ:

ص: 52

771 -

حدثنا آدم: ثنا شعبة: ثنا سيار بن سلامة - هوَ: أبو المنهال -، قالَ: دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي، فسألناه عن وقت الصلاة. فقالَ: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر حين تزول الشمس، والعصر ويرجع الرجل إلى أقصى المدينة، والشمس حية، ونسيت ما قالَ في المغرب، ولا يبالى بتأخير العشاء إلى ثلث الليل، ولا يحب النوم قبلها، ولا الحديث بعدها، ويصلي الصبح، (فينصرف) فيعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ في الركعتين - أو إحداهما - ما بين الستين إلى المائة.

قد سبق هذا الحديث في ((أبواب: المواقيت)) في مواضع متعددة، وفيها: أنه كانَ يقرأ فيها - يعني: صلاة الصبح - ما بين الستين إلى المائة.

وكذا خرجه مسلم.

وأما هذه الرواية التي فيها التردد بين القراءة في الركعتين، أو أحداهما ما بين الستين إلى المئة، فتفرد بها البخاري، وهذا الشك من سيار.

وخرجه الإمام أحمد، عن حجاج، عن شعبة، وفي حديثه: وكان يقرأ فيها ما بين الستين إلى المئة. قالَ سيار: لا أدري أفي إحدى الركعتين

ص: 52

أو كلتيهما.

والظاهر - والله أعلم -: أنه كانَ يقرأ بالستين إلى المائة في الركعتين كلتيهما؛ فإنه كانَ ينصرف حين يعرف الرجل جليسه، ولو كانَ يقرأ في كل ركعة بمائة آية لم ينصرف حتى يقارب طلوع الشمس.

يدل على ذَلِكَ: ما رواه الزهري وقتادة، عن أنس، أن أبا بكر صلى بالناس الصبح، فقرأ سورة البقرة، فقالَ لهُ عمر: كادت الشمس أن تطلع. فقالَ: لو طلعت لم تجدنا غافلين.

وروي، عن قتادة في هذا الحديث: أنه قرأ بال عمران.

ورواه مالك، عن هشام، عن أبيه، أن أبا بكر صلى الصبح، فقرأ فيها سورة البقرة في الركعتين كلتيهما.

وروى مالك - أيضاً -، عن هشام، عن أبيه، أنه سمع عبد الله بن عامر قالَ: صلينا وراء عمر بن الخطاب الصبح، فقرأ فيها سورة يوسف وسورة الحج قراءة بطيئة. قالَ هشام: فقلت لهُ: إذا، لقد كانَ يقوم حين يطلع الفجر. قالَ: أجل.

وقد رواه وكيع وأبو أسامة، عن هشام، أنه سمع عبد الله بن عامر.

وزعم مسلم: أن قولهم أصح، وأن مالكاً وهم في زيادته في إسناده:

ص: 53

((عن

أبيه)) .

قالَ ابن عبد البر: والقول عندي قول مالك؛ لأنه أقعد بهشام.

وقد كانَ عمر هوَ الذي مد في صلاة الفجر، كما روى ثابت، عن أنس قالَ: ما صليت خلف أحد أوجز من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمام، كانت صلاته متقاربة، وكانت صلاة أبي بكر متقاربة، فلما كانَ عمر بن الخطاب مد في صلاة الفجر.

خرجه مسلم.

ورواه حميد عن أنس، قالَ: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم متقاربة، وصلاة أبي بكر وعمر، حتى مد عمر في صلاة الفجر.

خرجه الإمام أحمد.

فهذا يدل على أن زيادة النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة صلاة الفجر على سائر الصلوات لم يكن كثيراً جداً، وأن صلواته كلها لم يكن بينها تفاوت كثير في القراءة، وأن هذا هوَ الغالب على صلاته، وقد يطيل أحياناً ويقصر أحياناً؛ لعارض يعرض لهُ، فيحمل حديث أبي برزة على أنه كانَ يقرأ في الفجر ما بين الستين إلى المائة، أحيانا، لا غالباً.

وقد سبق حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يطيل القراءة في الفجر.

ص: 54

والمراد: أنه يقرأ في الفجر أطول مما يقرأ في غيرها من الصلوات، وإنما كانت قراءة أبي بكر بالبقرة مرة واحدة، وكان عمر يقرأ في الفجر ببني إسرائيل والكهف ويونس وهود ونحو ذَلِكَ من السور.

وكان عثمان يكرر قراءة سورة يوسف في صلاة الفجر كثيراً. وكذلك كانَ ابن مسعود يقرأ فيها ببني إسرائيل في ركعة و {طسم} في ركعة.

وكان ابن الزبير يقرأ في الصبح بيوسف وذواتها.

وكان عليّ يخفف، فكان يقرأ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} ونحو ذَلِكَ من السور.

والظاهر: أنه كانَ يسفر بالفجر، وكان من قبله يغلس بها.

وقد روي، أن عمر لما قتل أسفر بها عثمان.

خرجه ابن ماجه.

وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم التخفيف في الفجر - أيضاً -، وقد تقدم أنه قرأ بالطور.

وفي ((صحيح مسلم)) عن قطبة بن مالك، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر

{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:10] .

وفي رواية لهُ: أنه قرأ في أول ركعة {ق} .

ص: 55

وفيه - أيضاً -: عن عمرو بن حريث، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير:17] .

وفيه - أيضاً -: عن جابر بن سمرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يقرأ في الفجر بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ونحوها.

وفي رواية: وكانت صلاته بعد تخفيفاً.

والظاهر: أنه أراد أن صلاته بعد الفجر كانت أخف من صلاة الفجر.

وروى أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر بسورة الروم، وبسورة {يّس} و {حم}

و {الم} السجدة، و {هَلْ أَتَى} .

وفي ((سنن أبي داود)) أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الصبح {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} في الركعتين كلتيهما.

يعني: أنه أعادها في الركعة الثانية، ولعل ذَلِكَ كانَ سفراً.

وروى عقبة بن عامر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر في السفر بالمعوذتين وقد سبق ذكره.

وأكثر العلماء على أن المستحب أن يقرأ في الفجر بطول المفصل، كما كتب به عمر إلى موسى الأشعري، ودل عليهِ حديث أبي هريرة وأنس، وقد سبق.

وهو قول مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق.

وروي عن أحمد ما يدل على أن الركعة الأولى يقرأ فيها بطول

ص: 56

المفصل، والثانية يقرأ فيها متوسطة.

وروي عن الزهري، أنه كانَ يقرأ في الأولى من طوال المفصل، وفي الثانية من قصاره.

وهذا مبني على القول باستحباب تطويل الأولى على الثانية كما سبق.

وروى مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ يقرأ في الصبح في السفر بالعشر السور الأول من المفصل، في كل ركعة بسورة.

وظاهر هذا: يدل على أنه كانَ يرى القراءة في الصبح بطوال المفصل مختصاً بالسفر.

وقد نص أحمد على أنه يكره قراءة السورة القصيرة في صلاة الفجر؛ مثل {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {أَرأَيْتَ} إلا في السفر، وأنه لا تكره القراءة فيها بمريم و {طه} وأشباهما من السور.

وقال: قد قرأ أبو بكر بالبقرة، وكأنه استحب موافقة من خلفه.

يعني: مراعاة أحوالهم من ضعفهم وقوتهم وما يؤثرونه من التخفيف والإطالة.

الحديث الثاني:

قالَ:

ص: 57

772 -

حدثنا مسدد: ثنا إسماعيل بن إبراهيم: ثنا ابن جريح: أخبرني عطاء، أنه سمع أبا هريرة يقول: في كل صلاة يقرأ، فما أسمعنا

ص: 57

رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم، وما أخفى علينا أخفينا عنكم، وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت، وأن زدت فهوَ خير.

هذا الحديث: يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يقرأ في جميع الصلوات ما جهر فيهِ وما خافت، فيجهر في الجهريات فيسمعه من خلفه، ويخفي في غيرها.

وهذا شبيه بحديث خباب المتقدم، وكان الأولى تخريجه في ((أبواب: القراءة في الظهر والعصر)) ؛ فإن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة السر خفيت على ابن عباس وغيره، وأما قراءته في صلوات الجهر فلم تخف على أحد.

فأكثر ما يستفاد من هذا الحديث في هذا الباب: أنه صلى الله عليه وسلم كانَ يقرأ في صلاة الصبح ويجهر بالقراءة، وليس فيهِ ذكر ما كانَ يقرأ به، ولا تقديره، فأول الحديث وآخره موقوف على أبي هريرة.

وقد وقع أوله مرفوعاً:

خرجه مسلم من رواية حبيب بن الشهيد: سمعت عطاء يحدث، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالَ:((لا صلاة إلا بقراءة)) . قالَ أبو هريرة: فما أعلن لنا

رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلنا لكم، وما أخفاه أخفيناه لكم.

وذكر الدارقطني وأبو مسعود الدمشقي وغيرهما: أن رفعه وهم، وإنما هوَ موقوف.

ص: 58

وقد رفعه - أيضاً - ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن أبي هريرة، قالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا صلاة إلا بقراءة)) قالَ أبو هريرة: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا فيجهر ويخافت، فجهرنا فيما جهر، وخافتنا فيما خافت.

خرجه الحارث بن أبي أسامة.

وابن أبي ليلى، سيء الحفظ جداً، ورفعه وهم. والله أعلم.

ص: 59

‌105 - باب

الجهر بقراءة الفجر

وقالت أم سلمة: طفت وراء الناس والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي يقرأ بالطور.

حديث أم سلمة، قد ذكرنا في الباب الماضي.

فيهِ حديثان:

الأول:

ص: 60

773 -

حدثنا مسدد: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر - هوَ: جعفر بن أبي

وحشية -، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قالَ: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فانصرف الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة - عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القران [استمعوا لهُ، فـ] قالوا: هذا - والله - الذي حال بينكم

ص: 60

وبين خبر السماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا إنا سمعنا قرانا عجبا، يهدي إلى الرشد فامنا به، ولن نشرك بربنا أحداً، فأنزل الله على نبيه:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيّ} ، وإنما أوحي إليه قول الجن.

هذه القصة كانت في أول البعثة.

وهذا الحديث مما أرسله ابن عباس، ولم يسم من حدثه به من الصحابة، ويحتمل أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم يحكي عن نفسه. والله أعلم.

وسوق عكاظ نحو نخلة، كانَ يجتمع فيهِ العرب، ولهم فيهِ سوق، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إليهم، فيدعوهم إلى الله عز وجل، وقد كانت الشهب يرمى بها في الجاهلية، وإنما كثرت عندما بعث النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد قالَ السدي وغيره: إن السماء لم تحرس إلا حيث كانَ في الأرض نبي أو دين لله ظاهر.

والمقصود من هذا الحديث هاهنا: أن الشياطين لما مروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بأصحابه صلاة الصبح، وقفوا واستمعوا القرآن. وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كانَ يجهر بالقراءة في صلاة الصبح، فلما سمعوا عرفوا أنه هوَ الذي حال بينهم وبين خبر السماء.

وظاهر هذا السياق: يقتضي أن الشياطين آمنوا بالقرآن، وكذا قالَ

ص: 61

السدي وغيره.

وقد اختلف في الجن والشياطين: هل هم جنس واحد، أو لا؟

فقالت طائفة: الجن كلهم ولد إبليس، كما أن الإنس كلهم ولد آدم.

روي هذا عن ابن عباس من وجه فيهِ نظر. وأنهم لا يدخلون الجنة.

وروي - أيضاً - عن الحسن، وأنه قالَ: مؤمنهم ولي لله لهُ الثواب، ومشركهم شيطان لهُ العقاب.

وقالت طائفة: بل الشياطين ولد إبليس، وهم كفار ولا يموتون إلا مع إبليس، والجن [ولد] الجان وليسوا الشياطين، وهم يموتون، وفيهم المؤمن والكافر.

روي هذا عن ابن عباس بإسناد فيهِ نظر - أيضاً.

وقوله: ((وإنما أوحي إليه قول الجن)) . يشير ابن عباس إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير الجن، ولا قرأ عليهم، وإنما أوحي إليه استماعهم القرآن منه وإيمانهم به.

وقد روي ذَلِكَ صريحاً عنه، أنه قالَ في أول هذا الحديث: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم - ثم ذكر هذا الحديث.

الحديث الثاني:

ص: 62

774 -

حدثنا مسدد: ثنا إسماعيل: ثنا [أيوب، عن] عكرمة، عن

ص: 62

ابن عباس، قالَ: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر، وسكت فيما أمر، وما كانَ ربك نسيا، ولقد كانَ لكم في رسول الله أسوة حسنة.

وخرجه الإمام أحمد، عن عبد الصمد بن الوراث، عن أبيه، عن أيوب، عن عكرمة، قالَ: لم يكن ابن عباس يقرأ في الظهر والعصر، قالَ: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر أن يقرأ فيهِ، وسكت فيما أمر أن يسكت فيهِ، وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، وما كان ربك نسيا.

وهذا يرد قول من تأول كلام ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسر القراءة في بعض صلاته، ويجهر في بعضها، كما نقله الإسماعيلي والخطابي وغيرهما.

وقد روي ذلك صريحاً عن ابن عباس من وجوه أخر، قد ذكرنا بعضها فيها سبق في ((باب: القراءة في الظهر)) ، وذكرنا اختلاف الروايات عن ابن عباس في ذلك.

والمراد من تخريج هذا الحديث في هذا الباب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر، ويجهر بالقراءة فيها؛ فإن ابن عباس أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيما يجهر فيه.

ولا خلاف بين أحد من المسلمين كان يجهر بالقراءة في صلاة الفجر كلها.

فيستفاد من حديث ابن عباس هذا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر جهراً وهو المقصود في هذا الباب. والله أعلم.

ص: 63

‌106 - باب

الجمع بين السورتين في الركعة، والقراءة بالخواتيم

وسورة قبل سورة، بأول سورة

ويذكر، عن عبد الله بن السائب: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين في الصبح، حتى إذا جاء ذكر موسى [وهارون]- أو ذكر عيسى - أخذته سعلة فركع.

هذا الحديث خرجه مسلم من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريح سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول: أخبرني أبو سلمة بن سفيان، وعبد الله ابن عمرو، وعبد الله بن المسيب العابدي، عن عبد الله بن

ص: 64

السائب، قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة، فاستفتح بسورة المؤمنين، حتى جاء ذكر موسى وهارون – أو ذكر عيسى – محمد بن عباد يشك، أو اختلفوا عليه – أخذت النبي صلى الله عليه وسلم سعلة فركع. وعبد الله بن السائب حاضر ذلك.

وخرجه – أيضاً – من طريق حجاج، عن ابن جريح، وقال فيه: وعبد الله بن عمرو بن العاص – في أحد الرواة الثلاثة عن ابن السائب.

وقيل: إنه وهم؛ فإن عبد الله بن عمرو هذا ليس بابن العاص.

وكذا رواه أبو عاصم، عن ابن جريح، كما رواه عنه عبد الرزاق وحجاج.

ورواه يحيى بن سعيد عن ابن جريح، فقال: - مرة -: عن أبي سفيان، عن عبد الله بن السائب.

ورواه ابن عيينة، عن جريح، عن ابن أبي ملكية، عن ابن السائب.

وقال أبو حاتم الرازي: هو خطأ من ابن عيينة.

و ((السعلة)) : من السعال، قيد كثير من الناس بفتح السين. وقيل: إنه، وهم، وإن الصواب بضمها. والله أعلم.

وهذا الحديث: قد يستدل به على قراءة السورة في الركعتين، وقد سبق ذكر ذلك، إلا أنه ليس فيه تصريح بأنه أتمها في الركعة الثانية، فإنما يستدل به على جواز قراءة أول السور في ركعة.

وأكثر العلماء على أنه لا يكره قراءة أوائل السور وأوساطها وخواتمها في الصلاة.

وقد روي عن ابن مسعود، أنه كان يقرأ في المفروضة بخواتيم السور وعن أحمد، يكره القراءة من أوساط السور دون خواتيمها.

وعنه، أنه يكره قراءة أواخر السور.

كذا حكاها طائفة من أصحابنا عن أحمد، ومنهم من حملها على كراهة المدوامة على ذلك دون فعله أحياناً؛ لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان الغالب عليهم قراءة السورة التامة، فيكره مخالفتهم في أفعالهم.

ثم قال البخاري:

وقرأ عمر في الركعة الأولى بمئة وعشرين [آية] من البقرة، وفي الثانية بسورة من المثاني.

ص: 65

هذا يدل على قراءة سورة وبعض أخرى في ركعتين. وقد سبق ذكر حكم

ذلك، وأنه غير مكروه.

والقرآن: ينقسم إلى ((السبع الطوال)) ، وهي: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس، كذا قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما. وإلى ((المئين)) ، وهي ما كان من السور وعدد آياته مائة آية، أو يزيد، أو ينقص شيئا. وإلى ((المفصل)) ، وأوله الحجرات – على الأشهر و ((المثاني)) ، وهو ما عدا ذلك.

وقد سأل ابن عباس عثمان، فقال: ما حملكم على أن عمدتم إلى ((براءة)) – وهي من المئين – وإلى الأنفال – وهي من المثاني – فجعلتموها في السبع الطوال – وذكر الحديث.

خرجه أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه.

وفي ((المسند)) عن واثلة بن الأسقع مرفوعا: ((أعطيت مكان التوراة السبع الطول، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني وفصلت

بالمفصل)) .

وروى الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن أدريس: أبنا يزيد بن أبي زياد، عن

عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن أبزى، قال: صليت خلف

ص: 67

عمر، فقرأ بسورة يوسف حتى إذا بلغ {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} [يوسف: 84] وقع عليه البكاء فركع، ثم قرأ سورة النجم، فسجد فيها، ثم قام، فقرأ {إذا زلزلت الأرض} .

وهذا فيه – أيضاً – جمع قراءة سورتين في ركعة وبعض سورة في آخرى.

قال البخاري:

وقرأ الأحنف الكهف في الأولى، وفي الثانية بيوسف أو يونس، وذكر أنه صلى مع عمر الصبح بهما.

هذا يدل على أنه لا يكره قراءة القرآن على غير ترتيب المصحف، فيقرأ في الركعة الأولى سورة، وفي الثانية بسورة قبلها في ترتيب المصحف.

وقد روي هذا عن عمر من وجه آخر، وعن أنس:

وروى وكيع بإسناده، عن عمرو بن ميمون، قال: أمنا عمر في المغرب فقرأ بالتين في الركعة الأولى، ثم قرأ {وَطُورِ سِينِينَ} ، ثم قرأ في الثانية {ألم تر}

و {لإيلاف} .

وفي هذا جمع بين سورتين في الركعة – أيضاً.

ص: 68

وروى عن أنس، أنه قرأ في صلاة المغرب في أول الركعة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .

وقد روي مثل هذا من حديث ابن عمر مرفوعاً.

خرجه حرب الكرماني.

ولا يصح إسناده.

والأكثرون على أن ذلك غير مكروه. وعن أحمد رواية أنه يكره تعمد ذلك؛ لمخالفته ترتيب المصحف.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في قيامه من الليل سورة البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران.

وترتيب سور المصحف على هذا الترتيب ليس توقيفاً على الصحيح، بل هو أمر اجتهد فيه عثمان مع الصحابة، وحديث سؤال ابن عباس لعثمان المشار إليه فيما سبق يدل عليه.

قال البخاري:

وقرأ مسعود بأربعين آية من الأنفال وفي الثانية بسورة من المفصل.

هذا الأثر رواه وكيع في ((كتابه)) ، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن

عبد الرحمن بن يزيد، قال: أمنا عبد الله في العشاء، فقرأ الأنفال، فلما بلغ رأس الأربعين {ونعم النصير} ركع، ثم قام، فقرأ في

ص: 69

الثانية بسورة من المفصل.

وهذا فيه قراءة سورة وبعض أخرى في ركعتين كما تقدم عن عمر.

قال البخاري:

[و] قال قتادة فيمن يقرأ سورة واحدة في الركعتين، أو يردد سورة واحدة في ركعتين: كل كتاب الله عز وجل.

أما قراءة سورة يقسمها في ركعتين فغير مكروه، وقد فعله أبو بكر وعمر وغيرهما، وقد سبق ذكره. وكذلك ترداد السورة في الركعتين كلتيهما، قد سبق حديث الرجل الجهيني أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في الصبح {إذا زلزلت الأرض} في الركعتين كلتيهما، قال: فلا أدري أنسي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم قرأ ذلك عمداً؟

خرجه أبو داود.

ونص أحمد على أنه جائز في الفرض من غير كراهة.

قال البخاري:

ص: 70

774م - وقال عبيد الله بن عمر، عن ثابت عن أنس بن مالك:

ص: 70

كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما استفتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الاخلاص:1] حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى

معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمة أصحابه، فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بالأخرى، فإما أن تقرأ بها أما أن، تدعها وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركتكم. وكان يرون أنه من أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر. فقال ((يا فلان، ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟ وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟)) قال: إني أحبها قال: ((حبك إياها أدخلك الجنة)) .

هذا الحديث خرجه الترمذي في ((جامعه)) عن البخاري: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس: حدثني عبد العزيز بن محمد، عن عبيد الله بن عمر – فذكره وقال: حسن غريب من هذا الوجه.

وإنما لم يخرجه البخاري – هاهنا – مسنداً؛ لأن حماد بن سلمة رواه عن

ص: 71

ثابت، عن حبيب بن سبيعة، عن الحارث، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الدارقطني: هو أشبه بالصواب.

ص: 72

وحماد بن سلمة ذكر كثير من الحفاظ أنه أثبت الناس في حديث ثابت، وأعرفهم به.

والحارث هذا اختلف: هل هو صحابي، أو لا؟ فقال أبو حاتم الرازي: له صحبة. وقال الدارقطني: حديثه مرسل.

وخرجا في ((الصحيحين)) معنى هذا الحديث من رواية أبي الرجال، عن

عمرة، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((سلوه لأى شيء يصنع ذلك)) ؟ فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أخبروه أن الله يحبه)) .

وقد دل حديث أنس وعائشة على جواز جمع سورتين مع الفاتحة في ركعة واحدة من صلاة الفرض؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهه عن ذلك.

ويدل على أنه ليس هو الأفضل؛ لأن أصحابه استنكروا فعله وإنما استنكروه لأنه مخالف لما عهدوه من عمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في صلاتهم؛ ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟)) .

فدل على أن موافقتهم فيما أمروه به كان حسناً، وإنما اغتفر ذلك لمحبته لهذه السورة.

ص: 73

وأكثر العلماء على أنه لا يكره الجمع بين السور في الصلاة المفروضة، وروي فعله عن عمر وابن عمر وعمر بن عبد العزيز وعلقمة، وهو قول قتادة والنخعي ومالك، وعن أحمد في كراهته روايتان. وكرهه أصحاب أبي حنيفة.

قال البخاري:

ص: 74

775 -

حدثنا آدم: ثنا شعبة: ثنا عمرو بن مرة، قال: سمعت أبا وائل قال: جاء رجل إلى ابن مسعود، فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة. قال: هذا كهذ

الشعر، لقد عرفت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من المفصل، سورتين في كل ركعة.

((الهذ)) : متابعة القراءة في سرعة، وكرهه ابن مسعود لما فيه من قلة التدبر لما يقرءوه.

و ((النظائر)) : قيل: إنها سميت بذلك؛ لأنها متشابهة في الطول، فتكون جمع نظيرة. وقيل لفظ لما [. . .] فيكون جمع نظورة، وهي الخيار، يقال: نظائر الجيش بمعنى أفاضلهم وأماثلهم.

وسمى المفصل مفصلاً لكثرة الفصول بين، وأول المفصل سورة {ق} وروي ذلك في حديث مرفوع. وقيل: أوله [سورة] القتال. وكان ابن

ص: 74

مسعود أول مفصله

((الرحمن)) ، لكن ترتيب سوره على غير هذا الترتيب.

وقد روي تفسير هذه السور التي ذكرها ابن مسعود في روايات أخر عنه.

وفي رواية لمسلم في هذا الحديث: ثمان عشرة من المفصل، وسورتين من آل

حم.

وفي رواية لأبي داود من طريق أبي إسحاق، عن الأسود وعلقمة، عن عبد الله: تفسير ذلك فقال: {الرحمن} {والنجم} في ركعة، و {اقتريب} و {الحاقة} في ركعة، {والطور} و {والذاريات} في ركعة، و {إذا وقعت الواقعة}

و {نَ} في ركعة، و {سأل سائل} {والنازعات} في ركعة، و {ويل للمطففين} و {عبس} في ركعة، و {المدثر} و {المزمل} في ركعة، و {هل أتى} و {لا أقسم بيوم القيامة} في ركعة و {عم يتساءلون} {والمرسلات} في ركعة،

و {الدخان} و {إذا الشمس كورت} في ركعة.

قال أبو داود: هذا تأليف من ابن مسعود.

وليس في هذه الرواية من آل حم سوى سورة الدخان، وهذا يخالف رواية مسلم المتقدمة: وسورتين من آل حم.

وخرج الإمام أحمد من رواية إبراهيم، عن نهيك بن سنان السلمي، أنه أتى ابن مسعود فقال: إني قرأت المفصل الليلة في ركعة. فقال: هذا مثل هذ الشعر، أو نثرا كنثر الدقل، إنما فصل لتفصلوا، لقد

ص: 75

علمت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن: عشرين سورة: {الرحمن} {والنجم} ، على تأليف ابن مسعود، كل سورتين في ركعة، وذكر {الدخان} و {عم يتساءلون} في ركعة.

وخرجه يعقوب بن شيبة في ((مسنده)) ، وقال: هو حسن الإسناد.

وفي هذه الرواية اقتران الدخان بـ {عم يتساءلون} ، وهي تخالف رواية أبي داود السابقة في اقتران الدخان بـ {إذا الشمس كورت} .

وخرج الطبراني من رواية محمد بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن أبي وائل، قالَ: قالَ عبد الله: لقد علمت النظائر التي كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بهن:

{الذاريات} ، {والطور} ، {والنجم} ، و {اقتربت} ، و {الرحمن}

و {الواقعة} ، و {نَ} و {الحاقة} ، و {سأل سائل} و {المزمل} و {لا أقسم بيوم القيامة} و {هل أتي على الانسان} ، {والمرسلات} ، و {عم يتساءلون} ، {والنازعات} ، و {عبس} و {ويل للمطففين} ، و {إذا الشمس كورت} .

وهذه الرواية تخالف ما تقدم، وتلك الرواية أصح، ومحمد بن سلمة بن كهيل تكلم فيه، وتابعة عليه أخوه يحيى، وهو أضعف منه.

وخرج أبو داود من رواية عبد الله بن شقيق، قال: سألت عائشة: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بين السور؟ قالت: من المفصل.

ص: 76

والظاهر: أن حديث ابن مسعود وعائشة إنما هو في صلاة الليل.

وخرج مسلم من حديث حذيفة، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة [فمضى]، فقلت: يركع بها، ثم افتتح سورة النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها – وذكر الحديث.

وهذا كله يدل على جواز الجمع بين السور في صلاة التطوع.

وروى أبو العالية، قال: أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لكل سورة حظها من الركوع والسجود)) .

وخرجه الإمام أحمد.

وقد حمل هذا – تقدير صحته – على الصلاة المفروضة.

وروى وكيع، عن عيسى الخياط، عن الشعبي، عن زيد بن خالد الجهني، قال: ما أحب أني قرنت سورتين في ركعة، وأن لي حمر النعم.

عيسى هذا، فيه ضعف.

ص: 77

‌107 - باب

يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب

ص: 78

776 -

حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا همام، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي

قتادة، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر [في الأوليين] بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب، ويسمعنا الآية، ويطول في الركعة الأولى ما لا يطول في [الركعة] الثانية، وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح.

قد خرج البخاري هذا الحديث فيما سبق من رواية شيبان وهشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، وليس في حديثهما: ويقرأ في الركعتين الأخريين بأم الكتاب.

وخرجه هاهنا من طريق همام، عن يحيى بهذه الزيادة.

وخرجه مسلم في ((صحيحه)) من راوية همام وأبان العطار، كلاهما عن يحيى بن أبي كثير.

وقد سأل الأثرم الإمام أحمد عن هذه الزيادة: أثبت هي؟ قال: روها عدة، ورواها بعضهم عن الأوزاعي، فقال له الأثرم: هشام لا

ص: 78

يقولها؟ قال نعم، هشام لا يقولها.

وقد ذهب أكثر العلماء إلى القول بذلك، وأنه لا يزيد في الركعتين الأخريين والثالثة من المغرب على فاتحة الكتاب.

وروي نحو ذلك عن علي وابن مسعود وعائشة وأبي هريرة وجابر وأبي الدرادء.

وعن ابن سيرين، قال: لا أعلمهم يختلفون أنه يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب.

وقد دل على ذلك – أيضاً –: حديث سعد في الحذف في الأخريين. وقد تقدم في مواضع من الكتاب.

وروى مالك عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان إذا صلى وحده يقرأ في الأربع جميعا، في كل ركعة بأم القرآن وسورة.

وذهب الشافعي – في أحد قوليه – أنه يستحب أن يقرأ سورة مع أم القرآن في الركعات كلها.

ومن أصحابنا من حكاه رواية عن أحمد، وأكثر أصحابنا قالوا: لا يستحب -: رواية واحدة.

وفي كراهيته عنه روايتان.

ص: 79

وقد تقدم عن أبي بكر الصديق، أنه قرأ في الثالثة من المغرب بعد الفاتحة:

{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] .

وقد استحب أحمد ذلك في رواية.

قال القاضي أبو يعلى: يحتمل أنه استحبه؛ لأنه دعاء، فإنه قال في رواية الأثرم: إن شاء قاله. قال: ولا تدري أكان ذلك من أبي بكر قراءة أو دعاء.

وقد تقدم من حديث أبي سعيد الخدري ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأخريين على قدر نصف قراءته في الأوليين.

وحمله طائفة من أصحابنا وغيرهم على أن هذا كان يفعله أحياناً لبيان الجواز، فيدل على أنه غير مكروه، خلافا لمن كرهه. والله أعلم

ص: 80

‌108 - باب

من خافت القراءة في الظهر والعصر

ص: 81

777 -

حدثنا قتيبة: ثنا جرير، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي معمر، قال: قلنا لخباب: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قال نعم. قلنا: من أين علمت؟ قال: باضطراب لحيته.

قد تقدم هذا الحديث من طريق عن الأعمش.

ومقصود بهذا الباب: أن قراءة الظهر والعصر تكون سراً، وهذا مما لا اختلاف فيه بين المسلمين علماً وعملاً، متداولا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإلى الآن.

والمخافته سنة كالجهر. وأوجب ذلك ابن أبي ليلى وقليل من الناس، وهو وجه للمالكية.

ولأصحابنا: أنه تبطل الصلاة بتركه عمداً.

وخرج الطبراني وابن عدي من طريق أبي الرحال البصري، عن

ص: 81

النضر ابن أنس، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر بالهاجرة، فرفع صوته، فقرأ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} فقال أبي بن كعب: يارسول الله، أمرت في هذه الصلاة بشيء؟ قال:((لا، ولكني أردت أن أوقت لكم صلاتكم)) .

أبو الرحال، اسمه: خالد بن محمد، قال البخاري: منكر الحديث وأخرجه العقيلي من طريقه.

وقال: لا يتابع عليه. قال: والصحيح من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لم يكن يجهر في صلاة النهار بالقراءة إلا في الجمعة.

وخرجه النسائي من رواية عبد الله بن عبيد، قال: سمعت أبا بكر بن النضر يقول: كنا عند أنس، فصلى بهم الظهر، فلما فرغ قال: إني صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر، فقرأ لنا بهاتين السورتين في الركعتين بـ {) سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . وخرجه أبو بكر بن أبي داود في ((كتاب الصلاة)) ، وعنده: أن أنسا أسمعهم قراءته في الركعتين الأوليين، فلما قضى صلاته أقبل عليهم، وقال: عمداً أسمعتكم قراءة هاتين السورتين، أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر فقرأ بهاتين السورتين.

وخرج الطبراني من حديث قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك الأشعري، أنه صلى بهم صلاة رسول

ص: 82

الله صلى الله عليه وسلم؛ فصلى الظهر فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، يسمع من يليه – وذكر الحديث.

وشهر بن حوشب، مختلف فيه.

وقد رواه عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، وذكر في حديثه: أنه أسر القراءة.

خرجه الإمام أحمد من طريقه.

وهو أصح، وعبد الحميد أحفظ لحديث شهر بن حوشب بخصوصه من غيره.

ولو صح شيء من ذلك لحمل على أنه جهر لإرادة تعليم القراءة وقدرها وروي هذا المعنى عن أنس وخباب بن الأرت.

ولهذا المعنى روي عن عمر الجهر بالاستفتاح، عن ابن عباس الجهر بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة.

وأما الجهر بالتطوع في النهار؛ فإن كانَ في صلاة جماعة ويطول فيهِ القراءة كصلاة الكسوف، فإنه يجهر فيهِ بالقراءة، وستأتي المسألة في مواضع آخر – إن شاء الله تعالى -.

وكذا لو صلى الكسوف وحده جهر فيها -: نص عليه أحمد.

وأما غير ذلك من التطوع فالأكثرون على أنه لا يجهر فيها بالقراءة.

قالَ أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: قراءة النهار عجماء.

ص: 83

وقال الحسن: صلاة النهار عجماء.

أي: لا تسمع فيها قراءة.

وكثير من العلماء جعله حديثاً مرفوعاً، منهم: ابن عبد البر وابن الجوزي، ولا أصل لذلك.

وحكى عن أبي حامد الإسفراييني، سأل الدارقطني عنه فقال: لا أعرف صحيحاً ولا فاسداً.

وروى أبو عبيد في كتابه ((غريب الحديث)) حدثنا إبراهيم بن سعد، عن

أبيه، عن أبي سلمة، قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة يقرأ في المسجد، يجهر يالقراءة في صلاة النهار، فقال:((يابن حذافة سمع الله ولا تسمعنا)) .

وقد رواه بعضهم، فجعله: عن أبي سلمة، عن أبي هريرة – موصولا وإرساله أصح -: قاله الدارقطني وغيره.

وروى وكيع، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: قالوا: يارسول الله، إن هاهنا قوم يجهرون بالقرآن بالنهار؟ فقال:((ارموهم بالبعر)) .

مراسل يحيى بن أبي كثير ضعيفة.

ص: 84

وقد رواه يوسف بن يزيد الدمشقي، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فوصله.

وهو خطأ لا أصل له -: قاله صالح بن محمد الحافظ وغيره.

ويوسف هذا، ضعيف.

وروي موصولا من وجوه أخر، لا تصح.

وروي ابن أبي شيبة بإسناده، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، أنه سمع رجلا يجهر بالقراءة نهاراً، فدعاه فقال: إن صلاة النهار لا يجهر فيها فأسر قراءتك.

ورخصت طائفة في الجهر في التطوع بالنهار إذا لم يؤذ أحداً، وهو قول النخعي والثوري وإسحاق، وروي – أيضاً – عن خالد بن معدان وسعيد بن جبير.

وقال بشر بن حرب: رأيت ابن عمر يصلي بالنهار، فكان يسمعنا قراءته وبشر بن حرب، تكلموا فيه.

ولأصحابنا وجه: أنه لابأس به.

ص: 85

‌109 - باب

إذا أسمع الإمام الآية

ص: 86

778 -

حدثنا محمد بن يوسف: ثنا الأوزاعي: حدثني يحيى بن أبي كثير: حدثني عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بأم الكتاب وسورة معها، في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر و [صلاة] العصر ويسمعنا الآية أحياناً، وكان يطيل في الركعة الأولى.

قوله: ((كان يسمعنا الآية أحياناً)) ظاهرة: أنه كان يقصد ذلك، وقد يكون فعله ليعلمهم أنه يقرأ في الظهر والعصر، فإنه حصل لبعضهم شك في ذلك كما تقدم.

وقد يكون فعله ليعلمهم هذه السورة المعينة، كما روي ذلك عن أنس وغيره؛ أو ليبين جواز الجهر في قراءة النهار، وأن الصلاة لا تبطل به.

وقالت طائفة من العلماء: لم يكن إسماعهم الآية أحياناً عن قصد، إنما كا يقع اتفاقاً عن غير قصد؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ لنفسه سراً، فربما استغرق في تدبر ما يقرأه، أو لعله كان يقصد تحقيق القراءة، فيقع سماع قراءته للآية أحياناً لذلك من غير أن يتعمد إسماعهم، أو أن يكون وقع الإسماع منه على وجه السهو وفي هذا نظر.

قال الشافعي: لا نرى بأسا أن يتعمد الرجل الجهر بالشيء من القرآن

ص: 86

ليعلم من خلفه أنه يقرأ. قال: وهم يكرهون هذا، ويوجبون السهو على من فعله.

يشير إلى أهل الكوفة.

واختلف كلام الإمام أحمد في ذلك:

فنقل عنه حنبل في قراءة النهار: ترى للرجل أن يسمع من يليه؟ قال: الحرف ونحو ذلك، ولا يغلط صاحبه؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمعهم الآية أحياناً وقال: صلاة النهار عجماء لا يجهر فيما.

ونقل عنه إسماعيل بن سعيد الشالنجي في الإمام يسمع من يليه، فكره ذلك في صلاة النهار، وقال: لا أرى عليه سهوا في ذلك – أي: سجود سهو.

وروى الشافعي بإسناده، عن ابن مسعود، أنه سمع قراءة في الظهر والعصر.

قال الشافعي: وهذا عندنا لا يوجب سهواً – يعني: سجوداً.

وروى وكيع في ((كتابه)) عن سيف المكي، عن مجاهد، أنه سمع عبد الله بن عمرو يقرأ في الظهر بـ {كهيعص} .

وروى الجوزجاني بإسناده، عن أبي عثمان النهدي، قالَ: سمعت من

ص: 87

ابن عمر نغمة من {ق} في صلاة الظهر.

وروى حماد بن سلمة، عن حميد وثابت وقتادة والتيمي، أن أنساً صلى بهم الظهر والعصر، وكان يسمعهم النغمة أحياناً.

وروى عنه مرفوعاً.

ووقفه أصح -: قاله أبو حاتم والدارقطني وغيرهما.

وروي عن خباب بن الأرت، أنه قرأ بهم في الظهر بـ {إذا زلزلت} ، فسمع قراءته حتى تعلمها من خلفه.

وعنه: قرأ بهم في العصر {إذا زلزلت} فجهر بها.

وقال علقمة: صليت إلى جنب عبد الله بن مسعود بالنهار، فلم أدر أي شيء قرأ، حتى سمعته يقول:{رب زدني علماً} (طه: 114) ، فظننته يقرأ {طه} .

وقال النخعي: كان بعضهم يسمعهم الآية في الظهر والعصر.

وخرج النسائي وابن ماجه من حديث البراء بن عازب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا الظهر، فنسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات.

ص: 88

واختلفوا فيمن جهر فيما يخافت فيه: هل يسجد للسهو، أم لا؟

فقالت طائفة: لا يسجد، وروي عن أنس وعلقمة والأسود، أنهم فعلوه ولم يسجدوا.

وهو قول الأوزاعي والشافعي.

وقال النخعي والثوري وأبوحنيفة: يسجد لذلك.

وعن أحمد فيه روايتان.

وقال مالك: إن تطاول ذلك سجد للسهو، ولا أرى عليه في السر سهوا.

واستدل أحمد بأنه لا يجب السجود لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع منه نغمة في صلاة الظهر، وبأن أنساً جهر فلم يسجد.

قلت: المروي عن الصحابة قد تقدم أنه كان عمداً منهم فعلوه؛ لتعليم من وراءهم سنة القراءة، والعمد لا يسجد له.

وفيه رد على من قال: تبطل صلاته بتعمد الجهر فيما يسر فيه، كما تقدم.

فقد حكي عن ابن أبي ليلى، أنه تبطل الصلاة بتركه عمداً ونسياناً وهو بعيد جداً.

ص: 89

‌110 - باب

يطول في الركعة الأولى

ص: 90

779 -

حدثنا أبو نعيم: ثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطول في الركعة الأولى من صلاة الظهر، ويقصر في الثانية، ويفعل ذلك في صلاة الصبح.

في هذه الرواية: التطويل في الركعة الأولى من صلاة الظهر والصبح.

وقد سبق من حديث همام، عن يحيى بن أبي كثير ذكر التطويل في الأولى من العصر – أيضاً.

وكذا في بعض النسخ من رواية شيبان، عن يحيى.

وقد خرجها في ((باب: القراءة في الظهر)) .

وقد سبق الكلام على التطويل في الأولى من الصلوات في ((باب: القراءة في الظهر)) فلا حاجة إلى إعادته هاهنا.

ص: 90

‌111 - باب

جهر الإمام بالتأمين

وقال عطاء: أمين دعاء، أمن ابن الزبير ومن وراءه حتى إن للمسجد للجة، وكان أبو هريرة ينادي الإمام: لا تسبقني بآمين.

وقال نافع: كان ابن عمر لا يدعه، ويحضهم، وسمعت منه في ذلك خبراً.

قال عبد الرزاق: أنا ابن جريج: قلت لعطاء: كان ابن الزبير يؤمن على إثر أم القرآن؟ قال: نعم، حتى إن للمسجد للجة. قال: إنما آمين دعاء قال: وكان أبو هريرة يدخل المسجد، وقد قام الإمام فيه، فيقول: لا تسبقني بآمين.

وروى يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أنه كان مؤذنا للعلاء بن الحضرمي بالبحرين، فاشترط عليه أن لا يسبقه بآمين.

ص: 91

وروى عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، قالَ: قالَ بلال: يارسول الله، لا تسبقني بآمين.

وهذا مرسل.

وخرجه أبو داود، وعنده عن أبي عثمان، عن بلال.

وهو خطأ -: قاله أبو حاتم الرازي. قال: وهو مرسل.

وقيل: إن أبا عثمان لم يسمع من بلال بالكلية؛ لأنه قدم المدينة في خلافة

عمر، وقد كان بلال انتقل إلى الشام قبل ذلك.

وقد رواه هشام بن لاحق، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن سلمان، عن

بلال، فوصله.

وهشام، تركه الإمام أحمد وغيره.

وقول عطاء في آمين: إنها دعاء، يريد به – والله أعلم – أن معنى آمين اللهم استجب، ونحو هذا من الدعاء.

وفي ((سنن أبي داود)) عن أبي زهير النميري – وكان من الصحابة – أنه كان يقول: إذا دعا أحدكم بدعاء فليختمه بآمين؛ فإن آمين مثل الطابع على الصحيفة. وذكر أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، قال: فأتينا

ص: 92

على رجل قد ألح في المسألة، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم يسمع منه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:((أوجب إن ختم بآمين)) .

وخرج ابن عدي بإسناد ضعيف، عن أبي هريرة – مرفوعاً -:((آمين قوة الدعاء)) .

وفي ((آمين)) لغتان: المد، والقصر، والميم مخففة، وحكي عن بعضهم تشديدها، وقالوا: معناها قاصدين نحوك. وزعم بعضهم أن آمين اسم من أسماء الله. وفيه أقوال أخر لا تكاد تصلح.

و ((اللجة)) – بفتح اللام وتشديد الجيم -: اختلاط الأصوات والضجات

و ((الرجة)) – بالراء – مثلها.

وقول أبي هريرة: ((لا تسبقني بآمين)) يدل على فضل شهود المأموم مع إمامه آمين.

وروي عن أبي الدرداء، أنه سمع إقامة الصلاة، فقالَ: أسرعوا بنا ندرك آمين.

وقد قال وكيع: من أدرك آمين مع إمامه فقد أدرك معه فضلية تكبيرة الإحرام.

وأنكر الإمام أحمد ذلك، وقال: لا تدرك فضلية تكبيرة الإحرام إلا بإدراكها مع الإمام.

قال البخاري:

ص: 93

780 -

حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن، أنهما أخبراه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

((إذا أمن الإمام فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر لهُ ما تقدم من ذنبه)) .

وقال ابن شهاب: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((آمين)) . قول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:

((آمين)) هوَ مما أرسله الزهري في آخر الحديث. وقد روي عن الزبيدي، عن الزهري بهذا الإسناد، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته، فقالَ:

((آمين)) .

خرجه الدارقطني.

وقال: إسناده حسن.

كذا قال، ووصله وهم، إنما هو مدرج من قول الزهري، كما رواه مالك.

وروي ابن وهب هذا الحديث، عن مالك ويونس، عن الزهري، وزاد فيه بعد قوله:((إذا أمن الإمام فأمنوا)) : ((فإن الملائكة تؤمن)) – وذكر باقي الحديث.

خرجه البيهقي.

وخرجه ابن ماجه بهذه الزيادة –

ص: 94

أيضاً – من رواية سفيان، عن الزهري.

دل هذا الحديث على أن الإمام والمأمومين يؤمنون جميعاً، وهذا قول جمهور أهل العلم.

روي عن أبي بكر وعمر وابن عمر وأبي هريرة.

وقال عطاء: لقد كنت أسمع الآئمة يقولون على إثر أم القرآن: أمين، هم أنفسهم ومن وراءهم، حتى إن للمسجد للجة.

وبهذا قال الثوري وأبو حنيفة والأوزاعي وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد.

وهو رواية المدنيين عن مالك واختيارهم.

وروى ابن القاسم، عن مالك، أن الإمام لا يؤمن، إنما يؤمن من خلفه، وهو اختيار المصريين من أصحابه.

وحملوا قوله: ((إذا أمن الإمام فأمنوا)) على أن المراد بتأمين الإمام دعاؤه بقراءة آخر الفاتحة، بدليل رواية أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا قال الإمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين)) وسيأتي فيما بعد – إن شاء الله.

وليس فيه ما يدل على أن الإمام لا يؤمن، بل فيه دليل على اقتران تأمين المأمومين بتأمين الإمام.

وقد خرج الإمام أحمد والنسائي من حديث معمر، عن الزهري،

ص: 95

عن ابن

المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا قال الإمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)) .

واختلفوا في الجهر بها على ثلاثة أقوال:

أحدها: يجهر بها الإمام ومن خلفه، وهو قول عطاء والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وابن أبي شيبة، وعامة أهل الحديث.

واستدل بعضهم بقوله: ((إذا أمن الإمام فأمنوا)) فدل على سماعهم لتأمينه وروي عن عطاء، قال: أدركت مائتين من أصحاب محمد، إذا قال الإمام:{وَلا الضَّالِّينَ} سمعت لهم ضجة بـ ((آمين)) .

خرجه حرب.

والثاني: يخفيها الإمام ومن خلفه، وهو قول الحسن والنخعي والثوري ومالك وأبي حنيفة وأصحابة.

والثالث: يخفيها المأموم كما يخفي سائر الأذكار، ويجهر بها الإمام، وهو قول للشافعي.

ومن أصحابه من حمله على حال على قلة المأمومين أو صغر المسجد بحيث يبلغهم تأمين الإمام، فإن لم يكن كذلك جهر المأمومون قولا واحداً.

وفي الجهر بالتأمين للإمام أحاديث مرفوعة يطول ذكرها.

وقال الإمام أحمد – في رواية أبي داود -: يجهر الإمام حتى يسمع

ص: 96

كل من في المسجد. قال أبو داود: وكان مسجده صغيراً.

وقال حرب: سمعت أحمد يجهر بآمين جهراً خفيفاً رقيقاً، وربما لم أسمعه يجهر بها. قال: وسمعت إسحاق قال: يجهر بها حتى يسمع الصف الذي يليه. قال: ويجهر بها كل صف حتى يسمع الصف الذي يليهم، حتى يؤمن أهل المسجد كلهم.

ويكون تأمين المأمومين مع تأمين الإمام، لا قبله ولا بعده عند أصحابنا وأصحاب الشافعي، وقالوا: لا يستحب للمأموم مقارنة إمامه في شيء غير هذا، فإن الكل يؤمنون على دعاء الفاتحة، والملائكة يؤمنون – أيضاً – على هذا الدعاء، فيشرع المقارنة بالتأمين للإمام والمأموم، ليقارن ذلك تأمين الملائكة في السماء؛ بدليل قوله في رواية معمر:

((فإن الملائكة تقول: آمين، والإمام يقول: آمين)) ، فعلل باقتران تأمين الإمام والملائكة، ويكون معنى قوله ((إذا أمن الإمام فأمنوا)) – أي: إذا شرع في التأمين، أو أراده.

وورد أثر يدل على تأخير تأمين المأموم عن تأمين الإمام، من رواية ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن عتاب العدوي، قال: صليت مع أبي بكر وعمر والأئمة بعدهما، فكان إذا فرغ الإمام من قراءة فاتحة الكتاب فقال:{وَلا الضَّالِّينَ} قال: آمين، ورفع بها صوته، ثم أنصت، وقال من خلفه: آمين، حتى يرجع الناس

بها، ثم يستفتح القراءة.

إسناده ضعيف.

وتأمين الملائكة هو على دعاء القارئ، هذا هو الصحيح الذي يفهم

ص: 97

من

الحديث.

وقد ذكر ابن عبد البر وغيره فيهِ أقوالاً أخر، مرغوباً عن ذكرها؛ لبعدها وتعسفها من غير دليل.

وقد قال عكرمة: إذا أقيمت الصلاة فصف أهل الأرض صف أهل السماء، فإذا قال أهل الأرض:{وَلا الضَّالِّينَ} قالت الملائكة: آمين، فوافق آمين أهل الأرض آمين لأهل السماء؛ غفر لأهل الأرض ما تقدم من ذنوبهم.

وروى العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: إذا قرأ الإمام بأم القرآن فاقرأ بها واسبقه؛ فإنه إذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} قالت الملائكة: آمين. فمن وافق ذلك قمن أن يستجاب لهم.

ولا يستجب أن يصل آمين بذكر آخر، مثل أن يقول: آمين رب العالمين؛ لأنه لم تأت به السنة، هذا قول أصحابنا.

وقال الشافعي: هو حسن:

ولا يسحتب أن يقدم على التأمين دعاء؛ لأن التأمين على دعاء الفاتحة، وهو هداية الصراط المستقيم، وهو أهم الأدعية وأجلها.

ومن السلف من استحب ذلك للمأموم، منهم: الربيع بن خثيم والثوري.

وروى أبو نعيم في ((كتاب الصلاة)) حدثنا أبو مالك النخعي، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إذا قال

ص: 98

الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فسل موجبة، ثم قل: آمين.

أبو مالك هذا، ضعيف.

وروى أبو بكر النهشلي، عن أبي إسحاق عن أبي عبد الله اليحصبي، عن وائل بن حجر، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم حين قال:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال:

((رب اغفر لي، آمين)) .

خرجه البيهقي وغيره.

وهذا الإسناد لا يحتج به.

وروى أبو حمزة، عن إبراهيم النخعي، قال: كانوا يستحبون ذلك.

وأبو حمزة، هو ميمون الأعور، ضعيف.

وظاهر الأحاديث: يدل على أن يوصل التأمين بالفاتحة من غير سكوت.

وروى ابن المبارك: ثنا عاصم الأحوال، عن حفصة بنت سيرين، عن عبد الله بن مسعود، قال: إذا قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} ووصل بآمين، فوافق تأمينه تأمين الملائكة استجيبت الدعوة.

حفصة، لم تسمع من ابن مسعود.

واستحب الشافعية أن يسكت بين الفاتحة والتأمين سكتة لطيفة؛ ليفصل القرآن عما ليس منه.

ص: 99

والتأمين سنة في الصلاة، وليس بواجب عند جمهور العلماء.

وروى إسحاق بن إبراهيم بن هانئ، عن أحمد، قال: آمين أمر من النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أمن القارئ فأمنوا)) فهذا أمر منه، والأمر أوكد من الفعل.

ص: 100

‌112 - باب

فضل التأمين

ص: 101

781 -

حدثنا عبد الله بن يوسف: ثنا مالك عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إذا قال أحدكم آمين [و] قالت الملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحدهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه)) .

وخرج مسلم من رواية يونس، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إذا قال أحدكم في الصلاة: آمين، والملائكة في السماء: آمين، فوافق إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه)) .

ومن رواية سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إذا قال القارئ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقال من خلفه: آمين، فوافق قوله قول أهل السماء، غفر له ما تقدم من ذنبه)) .

وروى إسحاق بن راهوية: حدثنا جرير: ثنا ليث، عن كعب، عن أبي

هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قال الإمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقال: آمين، فوافق آمين أهل الأرض آمين أهل

ص: 101

السماء، غفر الله للعبد ما تقدم من ذنبه. ومثل من لا يقول: آمين كمثل رجل غزا مع قوم فاقترعوا، فخرجت سهامهم ولم يخرج سهمه، فقال: لم لم يخرج سهمي؟ فقيل: إنك لم تقل آمين)) .

قال أبو هريرة: وكان الإمام إذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} جهر بآمين.

كعب هذا، قال أحمد: لا أدري من هو. وقال أبو حاتم: مجهول لا يعرف.

وقد ذكرنا – فيما تقدم – أن الحديث على ظاهره، وأن الملائكة في السماء تؤمن على قراءة المصلين في الأرض للفاتحة.

وفي ((صحيح مسلم)) من رواية العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما

سأل، فإذا قال العبد:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله: أثنى على عبدي، فإذا قال {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: مجدني عبدي – وقال مرة: فوض إلي عبدي - وقال مرة: فوّض إلي عبدي - {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قالَ: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل فإذا قال:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل)) .

فهذا الحديث يدل على أن الله يستمع لقراءة المصلي حيث

ص: 102

كان مناجيا له، ويرد عليه جواب ما يناجيه به كلمة كلمة، فأول الفاتحة حمد، ثم ثناء، وهو تثنية الحمد وتكريره، ثم تمجيد، والثناء على الله بأوصاف المجد والكبرياء والعظمة، ثم ينتقل العبد من الحمد والثناء والتمجيد إلى خطاب الحضور، كأنه صلح حينئذ للتقريب من الحضرة فخاطب خطاب الحاضرين، فقال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .

وهذه الكلمة قد قيل: أنها تجمع سر الكتب المنزلة من السماء كلها؛ لأن الخلق إنما خلقوا ليؤمروا بالعبادة، كما قالَ:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}

[الذاريات: 56] ، وأنما أرسلت الرسل وأنزلت الكتب لذلك، فالعبادة حق الله على عباده، ولا قدرة للعباد عليها بدون إعانة الله لهم، فلذلك كانت هذه الكلمة بين الله وبين عبده؛ لأن العبادة حق الله على عبده، والإعانة من الله فضل من الله على عبده.

وبعد ذلك الدعاء بهداية الصراط المستقيم؛ صراط المنعم عليهم، وهم الأنبياء وأتباعهم من الصديقين والشهداء والصالحين، كما ذكر ذلك في سورة النساء.

فمن استقام على هذا الصراط حصل له سعادة الدنيا والآخرة، واستقام سيره على الصراط يوم القيامة، ومن خرج عنه فهو إما مغضوب عليه، وهو من يعرف طريق الهدى ولا يتبعه كاليهود، أو ضال عن طريق الهدى كالنصارى ونحوهم من المشركين.

فإذا ختم القارئ في الصلاة قراءة الفاتحة، أجاب الله دعاءه فقال:((هذا لعبدي ولعبدي ماسأل)) . وحينئذ تؤمن الملائكة على دعاء المصلى، فيشرع للمصلين موافقتهم في التأمين معهم، فالتأمين مما يستجاب به الدعاء.

ص: 103

وفي ((صحيح مسلم)) عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين، يجبكم الله)) .

ولما كان المأموم مأموراً بالإنصات لقراءة الإمام، مأموراً بالتأمين على دعائه عند فراغ الفاتحة؛ لم يكن عليهِ قراءة؛ لأنه قد أنصت للقراءة، وأمن على الدعاء، فكأنه دعا؛ كما قال كثير من السلف في قول الله تعالى لموسى وهارون:{قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:89] . قالوا: كان موسى يدعو وهارون يؤمن، فسماهما داعيين.

ص: 104

‌113 - باب

جهر المأموم بالتأمين

ص: 105

782 -

حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن سمي مولى أبي بكر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا آمين؛ فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)) .

تابعة: محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ونعيم المجمر، عن أبي هريرة.

حديث محمد بن عمرو الذي أشار إليه:

خرجه البيهقي، ولفظه:((إذا قال القارئ {وَلا الضَّالِّينَ} فقال من خلفه: آمين، فوافق ذلك قول أهل السماء آمين؛ غفر له ما تقدم من ذنبة)) .

وحديث نعيم المجمر، عن أبي هريرة.

خرجه النسائي ولفظه: عن نعيم، قال: صليت وراء أبي هريرة، فقرأ

((بسم الله الرحمن الرحيم)) ، ثم قرأ بأم القرآن، حتى بلغ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} ، فقال: آمين. فقال الناس: آمين، ويقول كلما سجد: الله أكبر، وإذا قام من الجلوس من الاثنتين: الله أكبر، وإذا سلم قال: والذي نفسي بيده، إني

ص: 105

لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحديث أبي صالح الذي خرجه البخاري وحديث محمد بن عمرو الذي أشار إليه: استدل بهما من يقول: إن الإمام لا يؤمن ولا يجهر بالتأمين؛ فإنه أمر المأموم أن يؤمن عقيب فراغ الإمام من قراءة: {وَلا الضَّالِّينَ} .

وأجاب عنه من قال: يؤمن جهراً، بأنه إشارة إلى أن تأمينه يكون مع تأمين الإمام لا بعده؛ فإنه قد سبق في رواية بأن الإمام يقول: آمين. والملائكة تقول: آمين.

وأجاب بعضهم – كالخطابي -، بأنه يحتمل أن يكون هذا محمولا على من بعد عن الإمام ولم يسمع تأمينه، وسمع قراءته؛ فإن جهر الإمام بالتأمين دون جهره بالقراءة فقد يسمع قراءته من لا يسمع تأمينه.

وأما حديث نعيم، عن أبي هريرة، فلا حجة فيه؛ فإن أبا هريرة أمن على قراءة نفسه حيث كان إماماً، وقال: إني أشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي استدلال البخاري بقوله: ((فقولوا: آمين)) على جهر المأموم بالتأمين نظر، إلا أن يقال: قد سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين قول الإمام: ((ولا الضالين)) وقول المأوم: آمين، وسماهما قولا، وجعل قول المأموم كالمجاوبة للإمام، وقول المأموم إنما يكون

جهراً؛ لأن هذا الخطاب مختص بالصلاة الجهرية بالاتفاق فيكون مجاوبته بالتأمين جهراً –

أيضا.

* * *

ص: 106

كتاب الأذان

(تابع)

ص: 107

باب

إذا ركع دون الصف

ص: 107

783 -

حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا همام، عن الأعلم - وهو: زياد -، عن الحسن، عن أبي بكرة، أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:((زادك الله حرصاً ولا تعد)) .

في إسناد هذا الحديث شيئأن:

أحدهما: أنه اختلف فيه على الحسن:

فرواه زياد الأعلم وهشام، عن الحسن، عن أبي بكرة.

وفي رواية: عن زياد، عن الحسن، أن أبا بكرة حدثه - فذكره.

خرَّجه أبو داود.

ورواه يونس وقتادة، واختلف عنهما:

فقيل: عنهما كذلك.

وقيل: عنهما، عن الحسن - مرسلاً -، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكرة.

ص: 107

وكذا روي، عن حماد بن سلمة، عن زياد الأعلم - أيضاً.

خرَّجه من طريقه أبو داود.

الثاني: أنه اختلف في سماع الحسن من أبي بكرة، فأثبته ابن المديني والبخاري وغيرهما، وكذلك خرج حديثه هذا، ونفاه يحيى بن معين -: نقله عنه ابن أبي خيثمة.

ويؤيده: أنه روي عن الحسن مرسلاً، وأن الحسن روى عن الأحنف، عن أبي بكرة حديث:((إذا التقى المسلمأن بسيفيهما)) .

وهذا مما يستدل به على عدم سماعه منه، حيث أَدخل بينه وبينه في حديث آخر واسطةً.

وقد روى هشام بن حسأن، عن الحسن، أنه دخل مع أنس بن مالك ٍعلى أبي بكرة وهو مريض.

ص: 108

وروى مبارك بن فضالة، عن الحسن، قال: أخبرني أبو بكرة - فذكر حديث صلاة الكسوف.

إلا أن مبارك بن فضاله ليس بالحافظ المتقن.

وقال الشافعي في حديث أبي بكرة هذا: إسناده حسن.

وقد استدل بهذا الحديث على مسألتين.

المسألة الأولى:

من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك الركعة، وإن فاته معه القيام وقراءة

الفاتحة.

وهذا قول جمهور العلماء، وقد حكاه إسحاق بن راهويه وغيره إجماعا من

العلماء. وذكر الإمام أحمد في رواية أبي طالب أنه لم يخالف في ذلك أحد من أهل الإسلام، هذا مع كثرة اطلاعه وشدة ورعه في العلم وتحريه.

وقد روي هذا عن عليٍ وابن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابتٍ وأبي هريرة - في رواية عنه رواها عبد الرحمن بن إسحاق المديني، عن المقبري، عنه.

وذكر مالك في ((الموطأ)) أنه بلغه عن أبي هريرة، أنه قال: من أدرك

ص: 109

الركعة فقد أدرك السجدة.

وهو قول عامة علماء الأمصار.

ثم من رأى أن القراءة لا تجب على المأموم استدل به على أن القراءة غير لازمة للمأموم بالكلية، ومن رأى لزوم القراءة له كالشافعي قال: إنها تسقط ها هنا للضرورة وعدم التمكين منها.

وجعله إسحاق دليلاً على أن القراءة لا تجب إلا في ثلاث ركعاتٍ من الصلاة.

ولازم هذا: أنه لو أدرك الركوع في ركعةٍ من الصبح أنه لا يعتد بها؛ لأنه فاتته القراءة في نصف الصلاة.

وهذا التفصيل محدث مخالف الإجماع.

وقد روي أن الصلاة التي ركع فيها أبو بكرة هي صلاة الصبح، وسيأتي - إن شاء الله.

وذهبت طائفة إلى أنه لا يدرك الركعة بإدراك الركوع مع الإمام، لأنه فاته مع الإمام القيام وقراءة الفاتحة، وإلى هذا المذهب ذهب البخاري في ((كتاب القراءة خلف الإمام)) ، وذكر فيه عن شيخه علي بن المديني أن الذين قالوا بإدراك الركعة بإدراك الركوع من الصحابة كانوا ممن لا يوجب القراءة خلف الإمام، فأما من رأى وجوب القراءة خلف الإمام، فأنه قال: لا يدرك الركعة

ص: 110

بذلك، كأبي هريرة، فأنه قال: للمأموم: أقرأ بها في نفسك. وقال: لا تدرك الركعة بإدراك الركوع.

وخرَّج البخاري في ((كتاب القراءة)) من طريق ابن إسحاق: أخبرني الأعرج، قال: سمعت أبا هريرة يقول: لا يجزئك إلا أن تدرك الإمام: قائماً قبل أن تركع.

ثم ذكر أنه رأى ابن المديني يحتج بحديث ابن إسحاق، ثم أخذ يضَّعف عبد الرحمن بن إسحاق المديني الذي روى عن المقبري، عن أبي هريرة خلاف رواية ابن إسحاق، ووهَّن أمره جداً.

وقد وافقه على قوله هذا، وأن من أدرك الركوع لا يدرك به الركعة، قليل من المتأخرين من أهل الحديث، منهم: ابن خزيمة وغيره من الظاهرية وغيرهم وصَّنف فيه أبو بكر الصبغي من أصحاب ابن خزيمة مُصنفاً.

ص: 111

وهذا شذوذٌ عن أهل العلم ومخالفةٌ لجماعتهم.

وقد روي عن زيد بن وهب، أنه أدرك الركوع وقضى تلك الركعة، وهذا يحتمل أنه شك في إدراكها إدراكاً يعتد به، فلا ينسب به إليه مذهب.

وقد روي عن ابن عمر، أنه إذا امترى: هل ركع قبل رفع إمامه أم لا، لم يعتد بتلك الركعة، وهو قول جمهور العلماء.

وأيضا؛ فقد قال زيد بن وهب: إنه كان وابن مسعودٍ، وإنهما ركعا دون الصف، قال: فلما فرغ الإمام قمت أقضي، وأنا أرى أني لم أدرك.

فقال ابن مسعودٍ: قد أدركته.

فتمام الرواية يدل على أن ما فعله قد أنكره عليه ابن مسعود، ولم يكن أحد من التابعين يصر على فعله مع إنكار الصحابة عليه.

والمروي عن أبي هريرة قد اختلف عنه فيه، وليس عبد الرحمن بن إسحاق المديني عند العلماء بدون ابن إسحاق، بل الأمر بالعكس؛ ولهذا ضَّعف ابن عبد البر وغيره رواية ابن إسحاق، ولم يثبتوها، وجعلوا رواية عبد الرحمن مقدمة على روايته.

قال ابن عبد البر في المروي عن أبي هريرة: في إسناده نظر. قال:

ص: 112

ولا نعلم أحداً من فقهاء الأمصار قال به. وقد روي معناه عن أشهب.

وعبد الرحمن بن إسحاق هذا يقال له: عباد. وثَّقه ابن معين. وقال أحمد: صالح الحديث.

وقال ابن المديني: هو عندنا صالح وسط -: نقله عنه أبو جعفر بن أبي شيبة، وأنه قال في محمد بن إسحاق كذلك: إنه صالح وسط.

وهذا تصريح منه بالتسوية بينهما.

ونقل الميموني، عن يحيى بن معين، أنه قال في محمد بن إسحاق:

ضعيف. وفي عبد الرحمن بن إسحاق الذي يري عن الزهري: ليس به بأس. فصرح بتقديمه على ابن إسحاق.

وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو داود: محمد بن إسحاق قدري معتزلي، وعبد الرحمن بن إسحاق قدري، إلا أنه ثقة.

وهذا تصريح من أبي داود بتقديمه على ابن إسحاق، فأنة وثقه دون ابن إسحاق، ونسبه إلى القدر فقط، ونسب ابن إسحاق إلى القدر مع الاعتزال.

وعامة ما أنكر عليه هو القدر، وابن إسحاق يشاركه في ذلك ويزيد عليه ببدع أخر كالتشيع والاعتزال؛ ولهذا خرَّج مسلم في ((صحيحه)) لعبد الرحمن بن إسحاق ولم

ص: 113

يخّرج لمحمد بن إسحاق إلا متابعة.

وأيضاً؛ فأبو هريرة لم يقل: إن من أدرك الركوع فاتته الركعة؛ لأنه لم يقرأ بفاتحة الكتاب كما يقوله هؤلاء، إنما قال: لا يجزئك إلا أن تدرك الإمام قائماً قبل أن يركع، فعلل بفوات لحوق القيام مع الإمام.

وهذا يقتضي أنه لوكبر قبل أن يركع الإمام، ولم يتمكن من القراءة فركع معه كان مدركاً للركعة، وهذا لا يقوله هؤلاء، فتبين أن قول هؤلاء محدث لا سلف لهم

به.

وقد روي عن أبي سعيد وعائشة: لا يركع أحدكم حتى يقرأ بام القرآن.

هذا - إن صح - محمول على من قدر على ذلك وتمكن منه.

وقد أجاب البخاري في ((كتاب القراءة)) عن حديث أبي بكرة بجوأبين:

أحدهما: أنه ليس فيه تصريح بأنه اعتد بتلك الركعة.

والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن العود إلى ما فعله.

فأما الأول، فظاهر البطلان، ولم يكن حرص أبي بكرة على الركوع

ص: 114

دون الصف إلا لإدراك الركعة، وكذلك كل من أمر بالركوع دون الصف من الصحابة ومن بعدهم أنما أمر به لإدراك الركعة، ولو لم تكن الركعة تدرك به لم يكن فيه فائدة بالكلية، ولذلك لم يقل منهم أحد: أن من ادركه ساجداً فأنه يسجد حيث أدركته السجدة، ثم يمشي بعد قيام الإمام حتى يدخل الصف، ولو كان الركوع دون الصف للمسارعة إلى متابعة الإمام فيما لا يعتد به من الصلاة، لم يكن فرق بين الركوع والسجود في ذلك.

وهذا أمر يفهمه كل أحد من هذه الأحاديث والآثار الواردة في الركوع خلف الصف، فقول القائل: لم يصرحوا بالاعتداد بتلك الركعة هو من التعنت والتشكيك في الواضحات، ومثل هذا إنما يحمل عليه الشذوذ عن جماعة العلماء، والأنفراد عنهم بالمقالات المنكرة عندهم.

فقد أنكر ابن مسعود على من خالف في ذلك، واتفق الصحابة على موافقته، ولم يخالف منهم أحدٌ، إلا ما روي عن أبي هريرة، وقد روي عنه من وجه أصح منه أنه يعتد بتلك الركعة.

واما الثاني، فإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكرة عن الإسراع إلى الصلاة، كما قال:((لا تأتوها وأنتم تسعون)) ، كذلك قاله الشافعي وغيره من الأئمة، وسيأتي الكلام على ذلك فيما بعد – إن شاء الله تعإلى.

وكان الحامل للبخاري على ما فعله شدة إنكاره على

ص: 115

فقهاء الكوفيين أن سورة الفاتحة تصح الصلاة بدونها في حق كل أحدٍ، فبالغ في الرد عليهم ومخالفتهم، حتى التزم ما التزمه مما شذ فيه عن العلماء، واتبع فيه شيخه ابن المديني، ولم يكن ابن المديني من فقهاء أهل الحديث، وأنما كان بارعا في العلل والأسانيد.

وقد روي عن النبي، أن ((من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة)) ، من حديث أبي هريرة، وله طرق متعددة عنه. ومن حديث معاذ وعبد الرحمن بن الأزهر وغيرهم. وقد ذكرناها مستوفاة في ((كتاب شرح الترمذي)) .

وأكثر العلماء على أنه لا يكون مدركا للركعة إلا إذا كبر وركع قبل أن يرفع إمامه، ولم يشترط أكثرهم أن يدرك الطمأنينة مع الإمام قبل رفعه.

ولأصحابنا وجه باشتراط ذلك.

ومن العلماء من قال: إذا كَّبر قبل أن يرفع إمامه فقد أدرك الركعة، وإن لم يركع قبل رفعه، منهم: ابن أبي ليلى والليث بن سعد وزفر، وجعلوه بمنزلة من تخَّلف عن إمامه بنومٍ ونحوه.

ولكن الجمهور إنما قالوا بالمتخلف بالنوم ونحوه أنه يركع ثم يلحقه؛ لأنه كان متابعاً له قبل الركوع فيغتفر في الاستدامة ما لا يغتفر في الابتداء.

وروي عن هؤلاء الثلاثة – أيضاً.

وعن الحسن بن زياد –أيضاً -: أنه إذا كبر بعد رفع رأسه من الركوع قبل أن يسجد اعتد له بالركعة.

وقد تقدم عن الشعبي، أنه قال: إذا أنتهيت إلى الصف المؤخر، ولم يرفعوا رءوسهم، وقد رفع الإمام رأسه، فركعت معهم، فقد أدركت، لأن

ص: 116

بعضهم أئمة لبعض.

المسألة الثانية:

أن من صلى خلف الصف وحده، فإنه يعتد بصلاته، ولا إعادة عليه، فإن أبا بكرة ركع خلف الصف وحده، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة صلاته.

وقد استدل بذلك الشافعي وغيره من الأئمة.

وممن روي عنه الركوع دون الصف والمشي راكعاً: ابن مسعودٍ وزيد بن ثابتٍ وابن الزبير، وكان يعلّم الناس ذلك على المنبر.

وروي عنه أنه قال: هو السنة.

وورد – أيضاً – أنه فعله، ولم يصححه الإمام أحمد عنه، وذكر أن الصحيح عنه النهي عنه.

وروي –أيضاً – فعله عن أبي بكر الصديق.

خرَّجه البيهقي بإسنادٍ منقطعٍ.

وهو قول سعيد بن جبير وعطاء، وقالا: يركع وإن لم يصل إلى صف النساء، ثم يمشي.

قال عطاء: ويرفع مع إمامه، ويسجد حين تدركه السجدة، فإن تشهد إمامه عقب ذلك تشهد معه، ثم قام إذا قام إلى الثالثة، فدخل في الصف حينئذٍ.

ص: 117

وممن رأي الركوع دون الصف والمشي راكعاً: زيد بن ثابت وعروة ومجاهد وأبو سلمة وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود وابن جريج ومعمر.

وقاله القاسم والحسن: بشرط أن يظن أنه يدرك الصف.

ووجه هذا: أن المشي في الصلاة عملٌ فيها، فيغتفر فيه اليسير دون الكثير؛ فأنه منافٍ الصَّلاة فيبطلها، وهذا مخالف لقول سعيد بن جبير وعطاء: أنه يركع من حين دخوله المسجد خلف صفوف النساء.

وحكى ابن عبد البر عن مالكٍ والليث: لا بأس أن يركع الرجل وحده دون الصف، ويمشي إلى الصف إذا كان قريباً قدر ما يلحق.

وذكر عن القاضي إسماعيل، أن ابن القاسم روى عن مالكٍ: أنه لا يركع دون الصف، إلا أن يطمع أن يصل إلى الصف قبل رفع الإمام رأسه.

قال: وقال غيره: له أن يركع خلف الصف، ويتم ركعته، كما له أن يصلي خلف الصف وحده. قال: وهو قول مالكٍ وأصل مذهبه قبل أن يرفعوا رءوسهم. وقال الزهري والأوزاعي: إن كان قريباً من الصفوف فعل، وإلا لم يفعل.

وكذلك قاله الإمام أحمد -: نقله عنه ابن منصور.

وقالت طائفة: لا يركع حتى يقوم في الصف.

رواه محمد بن عجلان، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: إذا

ص: 118

دخلت والإمام راكع فلا تركع حتى تأخذ مصافك من الصف.

وروي مرفوعاً، ووقفه أصح.

وروي - أيضاً - النهي عن ذلك عن الحسن والنخعي.

وهو رواية عن أحمد -: نقلها عنه أبو طالبٍ والحسن بن ثوابٍ والاثرم وغيرهم.

وقالت طائفة: أن كان منفرداً لم يركع حتى يدخل الصف، وإن كان مع غيره ركعوا دون الصف، وهو قول إسحاق وأبي بكر بن أبي شيبة، ونقله إسحاق بن هأنئ، عن أحمد، وحكاه ابن عبد البر عن أبي حنيفة.

ومن العجائب: أن البخاري ذكر في ((كتاب القراءة خلف الإمام)) أن المروي عن زيد بن ثابت لا يقول به من خالفه في هذه المسألة، فإنه قال: روى الأعرج، عن أبي أمامة بن سهلٍ، قال: رأيت زيد بن ثابت ركع وهو بالبلاط لغير القبلة، حتى دخل في الصف.

ثم قال: وقال هؤلاء: إذا ركع لغير القبلة لم يجزئه. أنتهى.

وهذه رواية منكرة لا تصح، وإنما ركع زيد للقبلة؛ كذلك رواه الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، قال: رأيت زيد بن ثابت دخل المسجد والإمام راكع، فاستقبل فكبر، ثم ركع، ثم دب راكعاً حتى وصل الصف.

خرَّجه عبد الرزاق، عن معمرٍ، عنه.

ص: 119

ورواه ابن وهب، عن يونس وابن أبي ذئب، عن ابن شهابٍ: أخبرني أبو أمامة بن سهل، أنه رأى زيد بن ثابت دخل المسجد والإمام راكعٌ. فمشى حتى إذا أمكنه أن يصل الصف وهو راكعٌ كبر، فركع، ثم دب وهو راكع حتى وصل الصف.

وهذه الرواية تدل –أيضاً - على أنه كبر مستقبل القبلة، ولا يمكن غير ذلك

البتة. فأما من قال: تصح صلاة المنفرد خلف الصف وحده و [

] حديث أبي بكرة على ذلك.

والقول بصحة الصلاة فذاً خلف الصف: قول مالك وأبي حنيفة والثوري – في أشهر الروايتين عنه – والشافعي وابن المبارك والليث بن سعد. وروي عن أبي جعفر محمد بن عليٍ.

وأما القائلون بأنه لا تصح صلاة الفذ خلف الصف: الحسن بن صالح والأوزعي – فيما حكاه ابن عبد البر، وخَّرجه حرب بإسناده، عنه – وقول أحمد وإسحاق ووكيع ويحيى بن معينٍ وابن المنذر، وأكثر أهل الظاهر، ورواية عن الثوري، رواها عصام،

عنه.

وروي –أيضاً - عن النخعي وحمادٍ والحكم وابن أبي ليلى.

ص: 120

وقيل: أنه لم يصح عن النخعي، وأنه إنما قال: يعتد بها، فصحفها من قرأها فقال: يعيدها.

وروي ذلك عن شريك، أنه قاله.

فهؤلاء لهم في الجواب عن حديث أبي بكرة طريقأن:

أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن ذلك، فلا تصح الصلاة بعد النهي عنه، وتصح إذا لم يعلم النهي.

قال أحمد، في رواية أبي طالب في الرجل يركع دون الصف، وهو جاهلٌ:

أجزأه. وقيل له: لا يعيد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكرة:((لا تعد)) فأجاز له صلاته لما لم يعلم، ونهاه أن يصلي بعد ذلك، فقال:((زادك الله حرصا ولا تعد)) . قيل له: فإن كان لا يعلم، يقول: صلى فلأن وصلى فلأن؟

قال: لا تجزئه صلاته، يعيد الصلاة، قال أبو هريرة: لا يركع أحدكم حتى يأخذ مقامه من الصف.

ففرق بين الجاهل والمتأول، فأمر بالاعادة دون الجاهل.

وهذه الرواية إختيار الخرقي وابن أبي موسى وجماعة من متقدمي الأصحاب.

وقال بعض الأصحاب: أن هذا مطرد فيمن لم يتم الركعة وهو فذ، منهم: القاضي في ((شرح المذهب)) .

ومنهم من قال: بل يطرد، ولو أتم الركعة فذاً.

ولم يذكر أكثرهم أنه مطرد فيما لو صلى –فذاً –الصلاة كلها جاهلاً بالنهي.

فظاهر كلام أحمد وتعليله يدل على أنه مطرد فيه – أيضاً -، وقد حكاه بعضهم رواية عن أحمد.

وقد حكى أبو حفص وغيره من أصحابنا فيمن فعل كفعل أبي بكرة –

ص: 121

مع العلم بالنهي – هل تبطل صلاته؟ روايتين عن أحمد.

فادخلوا في ذلك من كبرَّ ثم دخل في الصف قبل رفع الإمام.

وفي هذا الطريق نظر؛ فأن الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالاعادة في حديث وابصة ابن معبد الظاهر أنه لم يكن عالماً بالنهي، ولم يسأله: هل علم النهي أم لا.

والطريق الثاني: أن أبا بكرة دخل في الصف قبل رفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه.

وقد خرَّج حديثه أبو داود، وقال فيه: ثم مشى حتى دخل في الصف.

وخَّرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من وجه أخر، عن الحسن، عن أبي بكرة.

وحينئذٍ، فقد زالت فذوذيته قبل أن تفوته الركعة، فيعتد له بذلك.

وعلى هذا يحمل ما روي عن الصحابة في ذلك –أيضاً.

وقد اشار أحمد إلى هذا –أيضاً - في رواية أبي الحارث، وسأله عن رجل كَّبر قبل أن يدخل في الصف وركع دون الصف؟ فقال: قد كبر أبو بكرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:((زادك الله حرصاً، ولا تعد)) ولم يأمره أن يعيد –أيضاً.

وقد روي، عن ابن مسعودٍ وزيدٍ، أنهما ركعا دون الصف.

وهذه الرواية تخالف ما رواه الأثرم وغيره، أنه قال: لا يعجبني فعل

ص: 122

زيد وابن مسعود، ورده بحديث أبي بكرة.

ولكن هذه الرواية توافق رواية ابن منصور المتقدمة بجواز الركوع خلف الصف، إذا ظن أنه يصل إليه قبل رفع الإمام.

وقد استدل طائفة من أصحابنا، منهم: أبو حفص البرمكي لهذه الرواية بحديث أبي بكرة، وحملوا قوله:((ولا تعد)) على شدة السعي إلى الصلاة، كما قاله

الشافعي.

وذكر ابن عبد البر أن معنى قوله: ((ولا تعد)) عند العلماء: لا تعد إلى الإبطاء عن الصلاة حتى يفوتك منها شيء.

وهذا بعيد جداً، ولا يعرف هذا عن أحد من العلماء من المتقدمين.

وقد روى الإمام أحمد من طريق عبد العزيز بن أبي بكرة، عن أبي بكرة، أنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلم راكع، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت نعلي أبي بكرة وهو يحضر؛ يريد أن يدرك الركعة، فلما أنصرف قال:((من الساعي؟)) قال أبو بكرة: أنا. قال: ((زادك الله حرصا، ولا تعد)) .

وفي رواية عبد العزيز: بشار الخياط، وهو غير معروف.

ص: 123

وخَّرجه ابن عبد البر من بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، عن أبيه، عن جده، أنه دخل المسجد –ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، وهم ركوع -، فسعى إلى الصف، فلما أنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من الساعي؟)) قال أبو بكرة: أنا يا رسول الله. قال: ((زادك الله حرصاً، ولا تعد)) .

وبكار، فيه ضَّعف.

وخَّرجه البخاري في "كتاب القراءة خلف الإمام " بإسناد ضعيف، عن الحسن، عن أبي بكرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح، فسمع نفساً شديداً – أو بهراً – من خلفه، فلما قضى الصلاة قال لأبي بكرة:((أنت صاحب هذا النفس؟)) قال: نعم يا رسول الله، خشيت أن تفوتني ركعة معك، فاسرعت المشي. فقال له:((زادك الله حرصاً، ولا تعد، صل ما أدركت، وأقض ما سُبقت)) .

وفي إسناده: عبد الله بن عيسى الخزاز، ضعفوه.

وفي هاتين الروايتين: ما يدل على اعتداده بتلك الركعة، وهذا أمر غير مشكوكٍ فيه، وأنما يحتاج إليه لتعنت من يتعنت.

ومن أغرب ما روي في حديث أبي بكرة: ما خرَّجه عبد الرزاق

ص: 124

عن ابن جريج، عن رجل، عن الحسن، قال: التفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:((زادك الله حرصاً، ولا تعد)) قال: فثبت مكانه.

وهذا يوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذلك في الصلاة، وأنه لم يدخل الصف، فيستدل به على أن كلام الإمام لمصلحة الصلاة عمداً غير مبطل، ويستدل به –أيضاً - على صحة صلاة الفذ وحده، ولكنها مرسلة، في إسنادها مجهول، وابن جريج كان يدلس عن الضعفاء ومن لا يعتمد عليه كثيراً.

وعلى هذه الطريقة: فهل يختص جواز الركوع دون الصف بمن أدرك الركوع في الصف، أو لا يختص بذلك؟

ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور أنه يختص بمن أدرك الركوع في الصف؛ لأنه إنما أجاز الركوع خلفه لمن ظن أنه يدركه، فأنه إذا زالت فذوذيته في حال

الركوع، فلم يصل ركعة فذاً، والمنهي عنه أن يصلي فذاً ركعةً فأكثر، وأما إذا زالت فذوذيته قبل أن يرفع من الركوع فقد أدرك الركعة في الصف، فلا يكون بذلك فذاً؛ ولهذا لو قام خلف الإمام اثنأن فأحرم أحدهما قبل إحرام الآخر، لم يكن في تلك الحالة فذاً بالاتفاق.

وقد حكي عن جماعة من أصحابنا الاتفاق على تكبيرة الإحرام فذاً، لكن منهم من قال: كان القياس بطلأنها، وإنما ترك لحديث أبي بكرة.

وحكى ابن حامد –من أصحابنا – أنه تبطل تكبيرة الفذ خلف الإمام كالركوع.

ص: 125

وهذا إذا لم يكن لغرض إدراك الركعة، فأما أن كان لغرض إدراك الركعة، فهي المسألة التي سبق ذكرها.

وقد نص أحمد على التفريق بين أن يصل إلى الصف قبل رفع الإمام رأسه وبعده.

وفي رواية حرب، قال: لا بأس أن يركع دون الصف إذا أدرك الإمام راكعاً.

قلت: فأن رفع الإمام رأسه قبل أن يصل هو إلى الصف، فكانه أحب أن لا يعتد بهذه الركعة.

ومن الأصحاب من حكى فيما إذا زالت فذوذيته بعد الركوع وقبل السجود، فهل تصح صلاته؟ على روايتين.

كذلك حكى ابن أبي موسى في ((كتابه)) ، وحكاه –أيضاً - جماعة بعده.

وحكاها –أيضاً - من المتقدمين أبو حفص، وقال: روى أبو داود، عن أحمد – فيمن ركع دون الصف، ثم مشى حتى دخل الصف، وقد رفع الإمام قبل أن ينتهي إلى الصف -: تجزئه ركعة، فإن صلى خلف الصف وحده، أعاد الصلاة.

وظاهر هذه الرواية أنه يجزئه، ولو دخل في الصف بعد رفع إمامه، ما لم يصل ركعة كاملة وحده، وليس في حديث أبي بكرة أنه دخل في الصف قبل رفع النبي صلى الله عليه وسلم. ووجه ذلك: أنه أدرك معظم الركعة في الصف، وهو السجدتان، فاكتفى بذلك في المصافة.

وقد قال بعض التابعين: أنه يكتفي بذلك في ادراك الركعة – أيضاً.

ص: 126

وإنما أبطل أحمد ومن وافقه صلاة الفذ خلف الصف؛ لحديث وابصة، وله طرق، من أجودها: رواية شعبة، عن عمرو بن مرة، عن هلال بن يسافٍ، عن عمرو بن راشدٍ، عن وابصة بن معبدٍ، أن رجلاً صلى خلف الصف وحده، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الصلاة.

خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه.

وخَّرجه ابن حبان –أيضاً - من طريق زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة بهذا الإسناد.

وخَّرجه الترمذي وابن ماجه من حديث حصين، عن هلال بن يسافٍ، عن

زياد بن أبي الجعد، عن وابصة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وحسَّنه الترمذي.

ورواه –أيضاً – منصور، عن هلال بن يساف.

كذلك خرَّجه أبو القاسم البغوي في " معجمه ".

وأشار إلى ترجيح رواية حصين بمتابعة منصور له.

ص: 127

ورجح أحمد وأبو حاتم الرازي رواية عمرو بن مرة.

ورجح عبد الله الدارمي والترمذي رواية حصين؛ لأن الحديث معروف عن

زياد بن أبي الجعد، عن وابصة من غير طريق هلال بن يساف، فإنه رواه يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن عبيد بن أبي الجعد، عن وابصة.

وقد خرَّجه من هذه الطريق ابن حبان في ((صحيحه)) –أيضاً -، وذكر أن هلال بن يساف سمعه من زياد بن أبي الجعد، ومن عمرو بن

ص: 128

راشد، كلاهما عن وابصة من غير واسطة بينهما.

ورجح الترمذي صحة ذلك، وأن هلالاً سمعه من وابصة مع زياد بن أبي الجعد.

وقد روي من وجوه متعدده ما يدل لذلك.

وقد جعل بعضهم هذا الاختلاف اضطراباً في الحديث يوجب التوقف، وإلى ذلك يميل الشافعي في الجديد، وحكاه عن بعض أهل الحديث، بعد أن قال في القديم: لو صح قلت به. فتوقف في صحته.

وممن رجح ذلك: البزار وابن عبد البر.

ص: 129

وأنكر الإمام أحمد على من قال ذلك، وقال: إنما اختلف عمرو بن مرة

وحصين. وقال: عمرو بن راشد معروف.

وكذلك يحيى بن معين أخذ بهذا الحديث، وعمل به، حكاه عنه عباس الدوري، وهو دليل على ثبوته عنده.

وقد روي هذا الحديث عن وابصة من وجوه أخر.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر، من أجودها: رواية ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، عن عبد الرحمن بن علي بن شيبأن، عن أبيه علي بن شيبأن، قال: خرجنا حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعناه وصلينا خلفه. قال: ثم صلينا وراءه صلاة أخرى، فقضى الصلاة، فرأى رجلاً فرداً يصلي خلف الصف وحده، فوقف عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى أنصرف، قال:((استقبل صلاتك، لا صلاة للذي خلف الصف)) .

خرَّجه الإمام أحمد وابن ماجه، وهذا لفظه.

وفي رواية للامام أحمد: ((فلا صلاة لفرد خلف الصف)) .

وكذلك خرَّجه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحهما)) .

ص: 130

وقال الإمام أحمد: حديث ملازم في هذا –أيضاً - حسن.

ورواته كلهم ثقات من أهل اليمامة، فأن عبد الله بن بدر ثقة مشهور، وثقه يحيى بن معينٍ وأبو زرعة والعجلي وغيرهم.

وملازم، قال الإمام أحمد: كان يحيى القطان يختاره على عكرمة بن عمار، ويقول: هو أثبت حديثاً. وقال ابن معين: هو ثبت، وهو من أثبت أهل اليمامة.

وعبد الرحمن بن علي بن شيبأن، مشهور، وروى عنه جماعة من أهل اليمامة، وذكره ابن حبان في ((الثقات)) .

وقد قال الإمام أحمد: لا اعرف لحديث وابصة مخالفاً.

يعني: لا يعرف له حديثاً يخالفه، فإن حديث أبي بكرة يمكن الجمع بينه وبينه بما تقدم، والجمع بين الأحاديث والعمل بها أولى من معارضة بعضها ببعض، واطرادها واطراحها بعضها، إذا كان العمل بها كلها لا يؤدي إلى مخالفة ما عليه السلف الأول.

وقد تأول بعضهم قوله: ((لا صلاة لفذ خلف الصف)) على نفي الكمال دون الصحة: ويرد هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالإعادة.

واختلف أصحابنا: هل تقع صلاة الفذ باطلة غير منعقدة، أو تنقلب

ص: 131

نفلا؟ لهم فيه وجهان.

وأختار ابن حمادٍ وغيره أنها تنقلب نفلاً، وظاهر كلام الخرقي أنها تبطل بالكلية.

وتظهر فائدتها لو صلى ركعة فذاً خلف الصف، ثم جاء آخر فصف معه في الركعة الثانية، فإن قلنا: صلاته باطلة، فالثاني فذ – أيضاً – وإن قلنا: هو متنفل صحت مصافته.

ولأصحابنا وجه آخر: أن جماعته تبطل وتصح صلاته منفرداً.

وهو مروري عن النخعي، قال: صلاته تامةٌ وليس له تضعيفٌ.

خرَّجه البيهقي.

وعلى هذا، فيكون أمره بالإعادة في الجماعة ليحصل ثوابها ومضاعفتها، وليس ذلك في الحديث.

وقد يستدل به أن على من صلى منفرداً فعلية الإعادة، كما يقوله من يجعل الجماعة شرطاً لصحة الصلاة.

وهذا الوجه –أعني: بطلأن جماعته وصحة صلاته منفرداً – جزم به ابن عقيل من أصحابنا في موضع من كتابه ((الأصول)) .

وحكى في موضع آخر منه وجهين: أحدهما: كذلك، وعلله بأن البطلأن يختص بالجماعة، فيصح فرضه ويكون منفرداً. والثاني: يبطل فرضه وتصير صلاته نفلاً.

الوجهأن مطردأن في كل صلاة وجد فيها خلل يعود إلى الجماعة

ص: 132

خاصة؛ كمن صلى فذاً قدام الإمام، أو أنتقل من الجماعة إلى الإنفراد لغير عذر، أو عكسه، أو أئتم بمن لا يجوز الإئتمام به.

ومن أصحابنا من قال: أن لم يعلم امتناع ذلك أنقلبت الصلاة نفلاً، وإن علم ففي البطلأن وأنقلابها نفلاً وجهأن، والأظهر الأول.

وإن صلى الفذ خلف الصف لا يسقط فرضه، وعليه إعادتها كما نص عليه أحمد وأكثر أصحابه.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد أمر الصفوف وتعديلها وتسويتها، وهي من خصائص هذه الأمة كما سبق ذكره، فالمصلي في جماعة من غير مخل بما يلزم من القيام في الصف، فعليه الإعادة إذا تركه عمداً، وهو عالم بالنهي، قادر على الصلاة في الصف. فأما إن كان جاهلاً ففيه خلاف سبق ذكره. وإن كان عاجزاً ففيه خلاف يأتي ذكره – إن شاء الله تعإلى.

وقد عارض بعضهم حديث وابصة بحديث ابن عباس، لما صلى عن يسار النبي

صلى الله عليه وسلم، فأداره من ورائه إلى يمينه، قال: فهو في حال إدارته فذ.

وهذا ليس بشيء، فإن المصلي في صف إذا زال اصطفافه ثم عاد سريعا على وجه أكمل من الأول لم يضره ذلك، كما أن الإمام في صلاة الخوف تفارقه طائفة، ويبقى منتظراً لطائفة أخرى، ولا

ص: 133

يضره ذلك. والله أعلم.

ونقل حرب، عن إسحاق بن راهويه: أن صلى الصلاة كلها خلف الصف أعاد صلاته، فأن صلى ركعة فذاً، ثم جاء أخر فقام إلى جنبه، فإنه يعيد تلك الركعة، فلم تبطل سوى ركعته التي كان فيها فذاً، وأمره أن يبني على تكبيرة الإحرام ومذهب أحمد: أنه إذا صلى ركعةً تامةً في أول صلاته فذاً أنه يعيد صلاته كلها واختلفت الرواية عنه: إذا صلى ركعة في الصف ثم صار فذاً.

ونقل مهنا عن أحمد في رجل صلى يوم الجمعة ركعة وسجدتين في الصف، ثم زحموه، فصلى الركعة الأخرى خلف الصف وحده: يعيد تلك الركعة التي صلاها وحده.

ونقل عنه بعض أصحابه: أنه يعيد الصلاة كلها في هذه المسألة، منهم: ابناه صالح وعبد الله والأثرم وغيرهم.

وحمل القاضي أبو يعلى في ((خلافه الكبير)) رواية حنبلٍ على أحد وجهين:

أحدهما: ما أومأ إليه أبو بكر: أن الصلاة في هذه الحال أنعقدت في الصف، وإنما صار فذاً في أثنائها، ولا يمتنع أن ينافي الابتداء في

ص: 134

الاستدامة، كالعدة والردة والإحرام في عقد النكاح.

والثاني: أنه في هذه الحال صار فذاً بغير اختياره، فهي حال ضرورة.

هكذا حكى القاضي أبو يعلى وأصحابه مذهب أحمد.

وحكى أبو حفص الخلاف عن أحمد فيمن صلى ركعة فذاً: هل تبطل ركعته

فقط، أم صلاته كلها؟ وحكى في ذلك روايتين، وسوَّى بين الركعة الأولى وغيرها، ولم يفرق بين حال ضرورة وغيرها.

وذكر أن الحسن بن محمد روى عن أحمد، قال: إذا ركع ركعة سجد، ثم دخل في الصف، يعيد التي صلاها ولا يعيد الصلاة كلها.

قال أبو حفصٍ: والأصح عندي أنه يعيد ما صلى دون الصف حسب، فيعيد الركعة أو الركعتين، ولا يعيد ما صلى مع غيره، قال: لأن تكبيرة الإحرام لم تفسد لأنه لا يختلف قوله أنه إذا كبر وحده أنها صحيحة.

فصرح أبو حفص بأنه لو صلى ركعتين فذاً، ثم دخل في الصف، أو وقف مع غيره أنه يعيد ما صلى فذاً وحده.

ورد القاضي أبو يعلى قوله – فيما قرأته بخطه – بأن القياس يقتضي بطلان الصلاة فذاً في تكبيره والركوع، لأن ما أبطل جميع الصلاة يفسد بعضها، كالحدث. قال: إنما أجاز ذلك القدر لحديث أبي بكرة.

يعني: أن أحمد اجاز صلاة الفذ إذا لم يتم الركعة فذاً، لحديث أبي بكرة.

فإن دخل في الصف، أو قام معه آخر قبل رفع الإمام، فمن الأصحاب من قال: يصح له ركعة بغير خلافٍ، لإدراكه الركعة في

ص: 135

الصف، ومنهم من حكى فيه روايتين أيضاً.

وأن كان ذلك بعد أن رفع وقبل السجود ففيه روايتأن:

أصحهما: أنه لا يعتد بتلك الركعة، لأنه لم يدرك في الصف ما يدرك به

الركعة.

والثانية: لأنه أدرك في الصف السجدتين، وهما معظم الركعة.

وفي بطلأن صلاته من أصلها وبنائه على تكبيرته روايتأن – أيضاً -، على ما حكاه أبو حفص.

وأما القاضي أبو يعلى وأصحابه، فقالوا: تبطل صلاته روايةً واحدةً.

وأكثر النصوص عن أحمد تدل على البطلأن. والله أعلم.

* * *

115 -

ص: 136

باب

إتمام التكبير في الركوع

قاله ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وفيه: مالك بن الحويرث.

ص: 137

784 -

حدثنا إسحاق الواسطي: ثنا خالد، عن الجريري، عن أبي العلاء، عن مطرف، عن عمرأن بن حصين، قال: صلى مع عليٍ –رضي الله عنه – بالبصرة، فقال: ذكرنا هذا الرجل صلاة كنا نصليها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أنه كان يكَّبر كلما رفع وكلما وضع.

[

] .

مضطرب إسناده، والحسن بن عمرأن مجهول، وابن عبد الرحمن بن أبزى، قيل: أنه عبد الله، وقيل: أنه سعيد.

قال أحمد: هو أشبه.

وروي أنه محمد، ومحمد هذا غيرُ معروفٍ.

وفسر الإمام أحمد نقص التكبير بأنهم لا يكبرون في الأنحطاط للسجود، ولا في الانحطاط للسجدة الثانية: نقله عنه ابن منصور.

ص: 137

ونقل عن إسحاق، أنه قال: إنما نقصوا التكبير للسجدة الثانية خاصةً.

وقد روي عن أبي موسى الأشعري، قال: لما صلى خلف علي بالبصرة مثل قول عمران بن حصينٍ، لقد ذكرنا علي بن أبي طالب صلاة كنا نصليها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما نسيناها، وإما تركناها عمداً، يكَّبر كلما خفض، وكلما رفع، وكلما سجد.

خرَّجه الإمام أحمد.

وفي إسناده اختلاف؛ رواه أبو إسحاق السبيعي، واختلف عنه:

فقيل: عنه، عن الاسود بن يزيد، عن أبي موسى.

وقيل: عنه، عن بريد بن أبي مريم، عن أبي موسى.

وقيل: عنه، عن بريد بن أبي مريم، عن رجل من بني تمميم، عن أبي موسى.

ورجَّحه الدارقطني.

ولذلك لم يخّرج حديثه هذا في ((الصحيح)) .

وأكثر العلماء على التكبير في الصلاة في كل خفضٍ ورفعٍ، وقد كان ابن عمر وجابر وغيرهما من الصحابة يفعلونه ويامرون به.

وممن روي عنه إتمام التكبير: عمر بن الخطاب وابن مسعودٍ وعلي وأبو موسى

ص: 138

وأبو هريرة وابن عباس.

وروى عبد الرحمن بن الأصم، قال: سمعت أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يتمون التكبير.

خرَّجه الإمام أحمد.

وخَّرجه النسائي، وزاد فيه: وعثمان.

وقال سفيان عن منصور، عن إبراهيم: أول من نقص التكبير زياد.

وقال: ثوير بن أبي فاختة، عن أبيه، عن ابن مسعود: أن اول من نقص التكبير: الوليد بن عقبة، فقال ابن مسعود: نقّصوها نقَّصهم الله.

خرَّجه البزار وغيره.

ص: 139

وخرَّج الإمام أحمد والنسائي والترمذي من حديث ابن مسعود، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكَّبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود، وأبو بكر وعمر.

زاد النسائي: وعثمان.

وكان بنو أمية ينقصون التكبير، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز، والظن به أنه لم تبلغه السنة الصحيحة في ذلك، ولو بلغته لكان أتبع الناس لها.

وروي عن القاسم وسالم وسعيد بن جبيرٍ، أنهم كانوا لا يتمون التكبير.

ذكره ابن المنذر وغيره.

وقد سبق تفسير ترك إتمام التكبير، ومن فهم عنهم أنهم كانوا لا يكبرون في الصلاة غير تكبيرة الإحرام فقد وهم فيما فهم.

وأما ما حكاه ابن عبد البر، عن ابن عمر، أنه كان لا يكَّبر إذا صلى وحده، وذكر أن أحمد بن حنبل حكاه عنه في رواية ابن منصور. فهذا وهم منه –رحمه الله – على أحمد،

ص: 140

فأن مراد أحمد التكبير في أدبار الصلوات أيام التشريق.

ويدل عليه: أن أحمد في تمام هذه الرواية حكى – أيضاً -، عن قتادة، أنه كان يكَّبر إذا صلى وحده، ثم قال: واحب الي أن يكَّبر من صلى وحده في الفرض، وأما النافلة فلا.

ولم يرد أحمد أن صلاة النافلة لا يكَّبر فيها للركوع والسجود والجلوس، فإن هذا لم يقله أحمد قط، ولا فَّرق أحد بين الفرض والنفل في التكبير.

وأما حديث ابن أبزى، فقد تقدم الكلام على ضعفه، ولو صح حمل على أنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم اتمام التكبير، لا أنه لم يكن يكَّبر في سجوده ورفعه.

وهكذا المروي عن عثمان، فإنه لما كبر وضعف خفض صوته به أو أسره.

وأكثر الفقهاء على أن التكبير في الصلاة – غير تكبيرة الإحرام – سنة، لا تبطل الصلاة بتركه عمداً ولا سهواً.

وذهب أحمد واسحاتق إلى أن من ترك تكبيرة من تكبيرات الصلاة عمداً فعليه الإعادة، وأن كان سهواً فلا إعادة عليه في غير تكبيرة الإحرام.

وأنكر أحمد أن يسمي شيء من أفعال الصلاة واقوالها سنة، وجعل تقسيم الصلاة إلى سنة وفرض بدعة، وقال: كل ما في

ص: 141

الصلاة واجب، وإن كانت الصلاة لا تعاد بترك بعضها.

وكذلك أنكر مالك تقسيم الصلاة إلى فرض وسنة، وقال: هو كلام الزنادقة. وقد ذكرنا كلامه في موضع آخر.

وكذلك ذكر الأبري في ((مناقب الشافعي)) بإسناده عن الواسطي، قال: سمعت الشافعي يقول: كل أمور الصلاة عندنا فرض.

وقال –أيضاً -: قرأت عن الحسين بن علي، قال: سُئل الشافعي عن فريضة الحج؟ قال: الحج من أوله إلى آخره فرض، فمنه ما إن تركه بطل حجة، فمنه

الإحرام، ومنه الوقوف بعرفات، ومنه الافاضة.

وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: كل شيء في الصلاة مما ذكره الله فهو فرض.

وهذا قيد حسن.

وسمى أصحاب أحمد هذه التكبيرات التي في الصلاة بعد تكبيرة الإحرام واجبات، لأن الصلاة تبطل بتركها عمداً عندهم.

وحكي عن أحمد رواية أن هذه التكبيرات من فروض الصلاة، لا تسقط الصلاة بتركها عمداً ولا سهواً.

وحكي عنه رواية أخرى: إنها فرض في حق غير المأموم، وأما المأموم فتسقط عنه بالسهو.

وروي عن ابن سيرين وحماد، أنه من أدرك الإمام راكعاً وكبر تكبيرة واحدة للإحرام لم يجزئه حتى يكَّبر معها تكبيرة الركوع.

وقال ابن القاسم –صاحب مالك -: من أسقط من التكبير في الصلاة ثلاث تكبيرات فما فوقها سجد للسهو قبل السلام، فإن لم يسجد بطلت صلاته، وإن نسي تكبيرة واحدة أو اثنتين سجد للسو –أيضاً -، فإن لم يفعل فلا شيء عليه.

وروي عنه، أن التكبيرة الواحدة لا سجود على من سها عنها.

قال ابن عبد البر: هذا يدل على أن عظم التكبير وجملته عنده فرض، وأن اليسير منه متجاوز عنه.

وأكثر أصحاب مالك على أن هذه التكبيرات تسمى سنناً، كما يقوله أصحاب الشافعي وغيرهم، وأن الصلاة لا تبطل بتركها عمدا ولا سهواً،

ص: 142

وحكي رواية عن

أحمد.

وقال سعيد بن جبيرٍ في التكبير: كلما خفض ورفع، إنما هو شيء يزين به الرجل الصلاة.

وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال: من نسي شيئاً من

ص: 143

تكبيرات الصلاة، أو ((سمع الله لمن حمده)) فإنه يقضيه حين يذكره.

وهذا مذهب غريب، وجمهور العلماء على أنه يفوت بفوات محله، فلا يعاد في غير محله.

واستدل من أوجب ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: ((صلوا كما رأيتموني

أصلي)) . وكان يصلي بهذا التكبير، وقال في الإمام:((إذا كبر فكبروا)) .

وهذا يعم كل تكبير في الصلاة. وقال – في حديث أبي موسى -: ((فإذا كبر الإمام وركع فاركعوا)) . وكذا قال في السجود.

خرَّجه مسلم.

وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الصلاة: ((إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)) ، فدل على أن الصلاة لا تخلو من التكبير، كما لا تخلو من قراءة القرآن، وكذلك

التسبيح.

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم علم المسيء في صلاته التكبير للركوع والسجود، من حديث رفاعة بن رافع، وأخبره أنه لا تتم صلاته بدون ذلك.

خرَّجه أبو داود وغيره.

ص: 144

واستدل الإمام أحمد لسقوطه بالسهو بأن النبي صلى الله عليه وسلم نسي التشهد الأول، فأتم صلاته، وسجد للسهو. وقد ترك بتركه التشهد التكبيرة للجلوس له، فدل على أنها تسقط بالسهو، ويجبر بالسجود له.

واستدل –أيضاً –على سقوطه بالسهو بحديث: ((كان لا يتم التكبير)) ، فكأنه حمله على حالة السهو.

الحديث الثاني:

785 -

ص: 145

حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أنه كان يصلي بهم، فيكبر كلما خفض ورفع، فاذا أنصرف قال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد رواه عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، أن أبا هريرة كان يكَّبر في الصلاة كلما رفع ووضع، فقلنا: يا أبا هريرة، فما هذا التكبير؟ قال: إنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خرَّجه مسلم.

وقد روي هذا الحديث عن أبي هريرة من وجوه متعددة، وسيأتي بعضها فيما بعد – إن شاء الله.

وقد استدل به بعضهم على أن التكبير لغير الإحرام غير واجب في الصلاة، لأن هذا كان يستنكره الناس على أبي هريرة، كما استنكره عكرمة على من صلى خلفه

بمكة، وكما دل حديث عمرأن بن حصين

ص: 145

وأبي موسى على ترك الناس له.

وخَّرجه النسائي وابن حبان في ((صحيحه)) ، من حديث سعيد بن سمعان، قال: دخل علينا أبو هريرة المسجد، فقال: ثلاث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل بهن، تركهن الناس: كان إذا قام إلى الصلاة رفع يده مداً، وكان يقف قبل القراءة هنيهة يسأل الله من فضله، وكان يكَّبر في الصلاة كلما ركع وسجد.

ولو كان ذلك من واجبات الصلاة لما أقرت الصحابة على تركه.

وقد أجاب بعضهم بأنهم إنما تركوا الجهر به فقط، وقد سبق عن الإمام أحمد أن نقص التكبير الذي احدثوه إنما هو ترك التكبير للسجدة الأولى والثانية، وأن إسحاق قال: إنما تركوا التكبير للسجدة الثانية فقط.

فلعل بني أمية كانوا يرون أن المأمومين يشاهدون الإمام في سجوده فلا يحتاج إلى إسماعهم التكبير في هذه الحال، بخلاف رفعه فإنهم لا يشاهدونه، فيحتاج إلى إسماعهم التكبير فيه.

وفي هذا نظر. والله أعلم.

وقد سبق ما يدل على أنهم تركوا تكبيرتي الركوع والسجود خاصة، وأن علياً

– رضي الله عنه أحيا ما تركوه من ذلك وأماتوه.

ص: 146

وروى مسعر، عن يزيد الفقير، قال: كان ابن عمر ينقص التكبير في الصلاة. قال مسعر: إذا انحط بعد الركوع للسجود لم يكَّبر، فإذا أراد أن يسجد الثانية لم يكَّبر.

خرَّجه ابن أبي شيبة.

فتفسير مسعر لنقص التكبير يدل على أن نقصه هو ترك التكبير للسجدتين معاً، كما فسره الإمام أحمد.

وهذه الرواية عن ابن عمر تخالف رواية مالك، عن الزهري، عن سالمٍ، عن

أبيه، أنه كان يكَّبر كلما خفض ورفع.

كذا رواه مالك في ((الموطأ)) .

ورواه أشهب، عن مالك، فزاد فيه: يخفض بذلك صوته.

وهذه الرواية يجمع بها بين الروايتين بأن يكون سالم سمع أباه يكَّبر ويخفض صوته، ويزيد الفقير لم يسمعه لخفض صوته، أو لبعده عنه.

وروى – أيضاً – عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يتم التكبير.

ونافع وسالم أعرف بابن عمر من غيرهما.

ص: 147

‌116 - باب

اتمام التكبير في السجود

فيه حديثان:

الأول:

786 -

ص: 148

حدثنا أبو النعمان: حدثنا حماد، عن غيلان بن جرير، عن مطرف بن عبد الله، قال: صليت خلف علي ابن أبي طالب – رضي الله عنه – أنا وعمران بن حصين، فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه كبر، وإذا نهض من الركعتين كَّبر، فلما قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين، فقال: لقد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم أو قال: لقد صلى بنا صلاةَ محمدَ صلى الله عليه وسلم.

فيه ما يستدل به على أن نقص التكبير الذي كان معهوداً بينهم: هو تركه عند السجود، وعند القيام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة.

قد روي عن طائفة من التابعين التكبير للسجود وللنهوض من الركعتين.

وهذا يدل على أن هذا هو الذي كان تركه من نقص التكبير، فإما التكبير للرفع من السجود فإنما ذكر – والله أعلم – تبعاً للتكبير

ص: 148

للسجود، ويكون المراد: أنه كان يكَّبر للهوي إلى السجود، كما كان يكَّبر للرفع منه. والله أعلم.

الحديث الثاني:

787 -

ص: 149

ثنا عمرو بن عون: ثنا هشيم، عن أبي بشرٍ، عن عكرمة، قال: رأيت رجلاً عند المقام كبر في كل خفضٍ ورفع، وإذا قام وإذا وضع، فاخبرت ابن عباس، فقال: أو ليس تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أم لك؟!

مراده بالخفض: خفض الرأس للركوع والسجود.

وبالرفع: رفعه من السجود خاصة.

وبالقيام: قيامه من السجود ومن التشهد الأول إلى الركعة الأخرى.

وبالوضع: وضع الرأس للسجود.

ومقصود البخاري بهذا الباب: إثبات تكبير النبي صلى الله عليه وسلم للسجود، وهو الذي كان قد اشتهر تركه في زمن بني امية، كما سبق.

* * *

117 -

ص: 149

باب

التكبير إذا قام من السجود

فيه حديثان:

الأول:

ص: 150

788 -

ثنا موسى بن إسماعيل: نا همام، عن قتادة، عن عكرمة، قال: صليت خلف شيخ بمكة، فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة، فقلت لابن عباس: إنه أحمق، فقال: ثكلتك أمك، سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم.

وقال موسى: نا أبان: نا قتادة: نا عكرمة.

إنما ذكر رواية أبان العطار تعليقاً؛ لأن فيها تصريح قتادة بسماع هذا الحديث من عكرمة، فأمن بذلك تدليسه فيه.

وهذه الصلاة التي صلاها عكرمة خلف هذا الشيخ كانت رباعية، فإن الصلاة الرباعية تشتمل على أربع ركعات، في كل ركعة خمس تكبيرات تكبيرة للركوع؛ تكبيرتان للسجدتين، وتكبيرة للجلوس بينهما، وتكبيرة للرفع من السجدة الثانية، فهذه عشرون تكبيرة في الأربع. وتكبيرة الإحرام وتكبيرة القيام من التشهد الأول.

فأما صلاة المغرب، ففيها سبع عشرة تكبيرة؛ لأنه يسقط منها تكبيرات ركعة كاملة، وهي خمس تكبيرات.

وأما صلاة الفجر، ففيها إحدى عشرة

ص: 150

تكبيرة، لأن في الركعتين عشر تكبيرات وتكبيرة الإحرام.

وهذا كله في حق غير المأموم المسبوق ببعض الصلاة، فإن المسبوق قد يزيد تكبيرة على ذلك لأجل متابعة إمامه، كما أنه يزيد في صلاته أركانا لا يعتد بها متابعة لإمامه، ولا سجود عليه لذلك عند الأكثرين، وفيه خلاف سبق ذكره.

ومقصود البخاري بهذا الحديث في هذا الباب: أن القائم من السجود إلى الركعة الثانية أو الرابعة يكَّبر في قيامة.

الحديث الثاني:

789ـ

ص: 151

نا يحيى بن بكير: ناالليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، أنه سمع أبا هريرة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكَّبر حين يقوم، ثم يكَّبر حين يركع، ثم يقول: ((سمع الله لمن

حمده)) حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم:((ربنا لك الحمد)) ، ثم يكَّبر حين يرفع رأسه، ثم يكَّبر حين يسجد، ثم يكَّبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكَّبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس.

قال عبد الله، عن الليث ((ولك الحمد))

ص: 151

عبد الله، هو: أبو صالح كاتب الليث. ومراده: أنه رواه عن الليث. وقال في روايته ((ربنا ولك الحمد)) بالواو، بخلاف رواية يحيى بن بكير عن الليث، فإنها بإسقاط الواو. وخَّرجه مسلم من طريق حجين، عن الليث به، وقال فيه: بمثل حديث ابن جريح. وخَّرجه قبل ذلك من طريق ابن جريح، عن الزهري، وفي حديثه ((ولك الحمد)) بالواو. والمقصود من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكَّبر حين يرفع رأسه ويقوم من السجدة الثانية، كما كان يكبر حين يرفع رأسه من السجدة الأولى للجلوس بين السجدتين.

* * *

118 -

ص: 152

باب

وضع الأكف على الركب في الركوع

وقال أبو حميد في أصحابه: أمكن النبي صلى الله عليه وسلم يديه من ركبتيه.

حديث أبي حميد هذا، قد خرَّجه بإسناده، وسيأتي في موضعه – إن شاء الله

تعالى.

ص: 153

790 -

حدثنا أبو الوليد: نا شعبة، عن أبي يعفور، قال: سمعت مصعب بن سعد يقول: صليت إلى جنب أبي، فطبقت بين كفي، ثم وضعتهما بين فخذي، فنهاني أبي، وقال: كنا نفعله فنهينا عنه، وامرنا أن نضع أيدينا على الركب.

أبو يعفور، هو: العبدي الكوفي، اسمه: وقدان. وقيل: واقد، وهوأبو يعفور الأكبر.

وهذا الحديث قد ذكر ابن المديني وغيره أنه غير مرفوع، ومرادهم: أنه ليس فيه تصريح بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه في حكم المرفوع، فإن الصحابي إذا قال ((أمرنا - أو نهينا – بشيء)) ، وذكره في معرض الاحتجاج به قوي الظن برفعه؛ لأنه غالباً إنما يحتج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ونهيه.

وقد ورد التصريح برفعه من وجه فيه ضَّعف، من رواية عكرمة بن ابراهيم

الأزدي، عن عبد الملك بن عمير، عن مصعب

ص: 153

بن سعد، قالَ: قلت لأبي: رأيت أصحاب ابن مسعود يطبقون أيديهم، ويضعونها بين ركبهم إذا ركعوا، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل الشيء زماناً، ثم يدعه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يركع –أو قال -: أشهد أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ? إذا ركع يضع راحتيه على ركبتيه، ويفرج بين أصابعه.

خرَّجه يعقوب بن شيبة في ((مسنده)) .

وقال: عكرمة بن إبراهيم، منكر الحديث.

وذكر يحيى بن معين، أنه قالَ: ليس فيه شيء.

وروى عاصم بن كليب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، قال: قال عبد الله: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، فكبر ورفع يديه، فلما ركع طبق يديه بين

ركبتيه. قال: فبلغ ذلك سعداً، فقال: صدق أخي، كنا نفعل هذا، ثم أمرنا بهذا.

يعني: الامساك على الركبتين.

خرَّجه أبو داود والنسائي والدارقطني.

وقال: إسناد صحيح ثابت.

وهذه الرواية - أيضاً - تدل على رفع الأمر بالإمساك بالركبتين،

ص: 154

لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لا يترك بأمرغيره بما يخالفه.

وروى أبو عبد الرحمن السلمي قال: قال لنا عمر: إن الركب سنت لكم فخذوا بالركب.

خرَّجه الترمذي.

وقال حديث حسن صحيح.

وخَّرجه النسائي، ولفظه: قال: قال عمر: إنما السنة الأخذ بالركب. وفي رواية عن أبي عبد الرحمن، عن عمر، قالَ: سنت لكم الركب، فأمسكوا بالركب.

وسماع أبي عبد الرحمن من عمر، قد أنكره شعبة ويحيى بن معين.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة وضع اليدين على الركبتين في الركوع من فعله وأمره، وليس شيءُ منها على شرط البخاري.

وهذا هو السنة عند جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأجمع عليه أئمة الأمصار.

وكان ابن مسعود يطبق في ركوعه، فيجعل أحد كفيه على الأخر، ويجعلها بين ركبتيه، وقد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يأمر أصحابه بذلك.

وقد خرَّج حديثه

ص: 155

مسلم في ((صحيحه)) .

وبه أخذ أصحابه، منهم: علقمة والأسود وأبو عبيدة بن عبد الله.

وكان النخعي يذهب إليه ثم رجع إلى ما روي عن عمر -: ذكره الإمام أحمد وغيره.

وذكر أكثر العلماء: أن التطبيق كان شرع أولاً، ثم نسخ حكمه، واستدلوا بحديث سعد وما في معناه.

وروى حصين، عن عمرو بن مرة، عن خيثمة، عن أبي سبرة الجعفي، قال: قدمت المدينة فجعلت أطبق كما يطبق أصحاب عبد الله وأركع، فقال رجل: ما حملك على هذا؟ قلت: كانَ عبد الله يفعله، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ يفعله. قالَ: صدق عبد الله، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما صنع الأمر ثم أحدث الله له الأمر الأخر، فأنظر ما أجمع عليه المسلمون فاصنعه. فلما قام كان لا يطبق.

وذكره الأثرم – تعليقا – بمعناه، فقال لي رجل من المهاجرين - فذكره.

وأكثر العلماء على أن وضع اليدين على الركبتين في الركوع من سنن الصلاة، ولا تبطل الصلاة بتركه ولا بالتطبيق.

ص: 156

وروى عاصم بن ضمرة، عن علي، أن الراكع مخير بين أن يضع يدية على ركبتيه أو يطبق.

وذهب طائفة من أهل الحديث إلى المنع من التطبيق، وابطال الصلاة به؛ للنهي

عنه كما دل حديث سعد، منهم: أبو خيثمة زهير بن حرب وأبو إسحاق

الجوزجاني.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة - فيمن طبق ولم يضع يدية على ركبتيه -: أحب إلي أن يعيد.

ونقل إسحاق بن منصور، عن أحمد، أنه سئل عن قول سفيان: من صلى بالتطبيق يجزئه؟ فقالَ أحمد: أرجو أن يجزئه. فقالَ إسحاق بن راهويه كما قالَ: إذا كانَ به علة.

وحمل أبو حفص البرمكي –من أصحابنا - قول أحمد على ما إذا كان به علة، فإن لم يكن به علة فلا تجزئه صلاته، إلا أن لا يعلم بالنهي عنه.

وتوقف أحمد في إعادة الصلاة مع التطبيق في رواية أخرى.

فعلى قول هؤلاء: يكون وضع اليدين على الركبتين في الركوع من واجبات الصلاة.

وقد روي عن طائفة من السلف ما يدل على ذلك، فإنه روي عن جماعة، أنهم قالوا: إذا وضع يديه على ركبتيه أجزأه

ص: 157

في الركوع.

وممن روي ذلك عنه: سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وابن سيرين ومجاهد وعطاء، وقال: هو أدنى ما يجريء في الركوع.

* * *

119 -

ص: 158

باب

إذا لم يتم الركوع

ص: 159

791 -

حدثنا حفص بن عمر: نا شعبة، عن سليمان، قالَ: سمعت زيد بن وهب، قالَ: رأى حذيفة رجلاً لا يتم الركوع والسجود. قالَ: ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمداً صلى الله عليه وسلم عليها.

سليمان، هو: الاعمش.

وقد روي هذا الحديث من رواية عثمان بن الأسود، عن زيد بن وهب، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وإسناده لا يصح.

والصحيح: أنه من قول حذيفة، لكنه في حكم المرفوع؛ بذكره فطرة محمد صلى الله عليه وسلم.

والمراد بفطرة محمدٍ شرعه ودينه، ولذلك عاد الضمير في قوله:((عليه)) بلفظ التذكير، وفي بعض النسخ:((عليها)) ولا إشكال على ذلك.

ص: 159

وخرَّج الطبراني من روايه بيأن، عن قيس، عن بلال، أنه ابصر رجلاً يصلي لا يتم الركوع والسجود، فقال: لو مات هذا لمات على غير ملة عيسى صلى الله عليه وسلم.

وقد روي مرفوعاً من وجه آخر بمعناه:

خرَّجه الإمام أحمد من رواية ابن لهيعة: ثنا الحارث بن يزيد الحضرمي، عن البراء بن عثمان الأنصاري، أن هانيء بن معاوية الصدفي حدثه، قال: حججت في زمأن عثمان بن عفأن، فجلست في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا رجل يحدثهم، قال: كنا مع

رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فاقبل رجل إلى هذا العمود، فعجل قبل أن يتم صلاته، ثم خرج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن هذا لو مات لمات وليس هو من الدين على شيء، أن الرجل ليخفف ويتمها)) . فسألت عن الرجل: من هو؟ فقيل: لعله عثمان بن حنيف الأنصاري.

وهذا الإسناد فيه ضَّعف.

ص: 160

وروى الوليد بن مسلم: أنا شيبة بن الأحنف، أنة سمع أبا سلام الأسود يحدث عن أبي صالح الأشعري أنه حدثة عن أبي عبد الله الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى رجل يصلي، لايتم ركوعه ولاسجوده، ينقر صلاته كما ينقر الغراب، فقال ((إن مثل الذي يصلي ولايتم ركوعه ولاسجوده كمثل الذي يأكل التمرة والتمرتين لا يغنيان عنه شيئاً، فأتموا الركوع والسجود، وويل للأعقاب من النار)) .

قال أبو صالح: فقلت لأبي عبد الله الأشعري: من حدثك بهذا عن رسول الله

صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن

حسنة، كل هولاء سمعوه من النَّبيّ صلى الله عليه وسلم خرجة أبو القاسم البغوي في معجمه، وخرجه الطبرأني وزاد فيهِ: فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لو مات على حالته هذه مات على غير ملة محمد صلى الله عليه وسلم)) وخرَّج ابن ماجه من هذا الحديث: ((ويلٌ للأعقاب من النار)) فقط

ص: 161

وقد دلت هذه الأحاديث على أن إتمام الركوع والسجود في الصَّلاة واجب، وأن تركة محرم، ولولا ذَلِكَ لم يكن تاركه خارجاً من الدين، بل هوَ يدل على أن تاركه تارك للصلاة، فأنه لا يخرج من الدين بدون ترك الصَّلاة، كما في الحديث عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ ((بين العبد وبين الكفر ترك الصَّلاة)) وفي رواية ((فمن تركها فقد كفر)) وأما المثل المضروب في هذا الحديث لمن لا يتم ركوعه ولا سجوده ففي غاية الحسن، فإن الصلاة هي قوت قلوب المؤمنين وغذاؤها، بما اشتملت عليه من ذكر الله ومناجاته وقربه فمن أتم صلاته فقد استوفى غذاء قلبه وروحه، فما دام على ذلك كملت قوته، ودامت صحته وعافيته، ومن لم يتم صلاته فلم يستوف قلبه وروحه قوتها وغذاءها، فجاع قلبه وضعف، وربما مرض أو مات؛ لفقد غذائه، كما يمرض الجسد ويسقم إذا لم يكمل تناول غذائه وقوته الملائم له.

* * *

120 -

121

ص: 162

باب

استواء الظهر في الركوع

وقال أبو حميد – في أصحابه – ركع النبي صلى الله عليه وسلم ثم هصر ظهره. وحد إتمام الركوع والاعتدال فيه، والاطمأنينة. حديث أبي حميد واصحابه قد خرجه. البخاري بتمامه، ويأتي فيما بعد –إن شاء الله – ولفظ حديثه:((وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره)) .

ومعنى: ((هصر ظهره)) : ثناه وأماله. ويقال: الهصر عطف الشيء الرطب كالغصن إذا ثناه ولم يكسره، فشبه إمالة الظهر وإنحناءه في

ص: 163

الركوع بذلك ويظهر من تبويب البخاري تفسير الهصر بالاستواء والاعتدال، وكذا قال الخطابي قال: هصر ظهره: أي ثناه ثنياً شديداً في استواءٍ من رقبته ومتن ظهره لايقوسه، ولا يتحادب فيه والطمأنينة: مصدر. والاطمأنينة: المرة الواحدة منه.

وقيل: أن الاطمأنينة غلطٌ قال – رحمه الله:

792 –

ص: 164

نا بدل بن المحبر: نا شعبة: أخبرني الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن البراء، قال: كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم وسجوده وبين السجدتين وإذا رفع رأسه من الركوع – ماخلا القيام والقعود – قريباً من السواء.

معنى هذا: أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت متقاربةً في مقدارها، فكان ركوعه ورفعه من ركوعه وسجوده ورفعه من سجوده قريباً من الاستواء في مقداره، وأنما كان يطيل القيام للقراءة والقعود للتشهد.

ص: 164

ومقصوده بهذا الحديث في هذا الباب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث في ركوعه زمناً، فيحصل بذلك طمأنينته فيه واعتداله.

وقد تقدم في تفسير ((هصر ظهره)) أنه استواؤه.

وقد روي هذا المعنى صريحاً من حديث البراء، من رواية سنان بن هارون، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع فلو أن إنسانا وضع على ظهره قدحا من الماء ما اهراق.

وسنان، ضعيف.

وذكر عبد الله بن الإمام أحمد، أنه وجده في كتاب أبيه، قال: اخبرت عن سنان بن هارون: ثنا بيان، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي بن أبي طالب – فذكره.

ص: 165

وخَّرجه أبو داود في ((مراسيله)) من طريق شعبة، عن أبي فروة، عن ابن أبي ليلى – مرسلاً -.

وهو أصح.

وقد خّرج ابن ماجه معناه من حديث وابصة بن معبد.

وإسناده ضعيف جداً.

وخرَّج الطبراني معناه - أيضاً – من حديث أنسٍ.

وخَّرجه البزار من رواية وائل بن حجرٍ.

ص: 166

وإسناده ضعيفٌ – أيضاً.

ص: 167

‌122 - باب

أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يتم ركوعه بالإعادة

ص: 168

793 -

حدثنا مسدد: نا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله: حدثني سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:((ارجع فصل فإنك لم تصل)) ، فصلى ثم جاء، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:((ارجع فصل فأنك لم تصل)) – ثلاثاً -، فقال: والذي يعثك بالحق ما أحسن غيره، فعلمني. قال: ((إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم أقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن

ص: 168

ساجداً، ثم ارفع حتى تطئمن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)) .

استدل بعضهم بهذا الحديث على أن من دخل المسجد وفيه قوم جلوس، فإنه يبدأ فيصلي تحية المسجد، ثم يسلم على من فيه، فيبدأ بتحية المسجد قبل تحية الناس.

ص: 169

وفي هذا نظر، وهذه واقعة عين، فيحتمل أنه لما دخل المسجد صلى في مؤخره قريباً من الباب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في صدر المسجد، فلم يكن قد مر عليهم قبل صلاته، أو أنه لما دخل المسجد مشى إلى قريبٍ من قبلة المسجد، بالبعد من الجالسين في المسجد، فصلى فيه، ثم أنصرف إلى الناس.

يدل على ذلك: أنه روي في هذا الحديث: أن رجلاً دخل المسجد، فصلى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد، فجاء فسلم – وذكر الحديث -.

خرَّجه ابن ماجه.

فأما من دخل المسجد فمر على قوم فيه، فإنه يسلم عليهم ثم يصلى.

وفيه: دليل على أن من قام عن قوم لحاجته، ثم عاد إليهم، فأنه يسلم عليهم وإن لم يكن قد غاب عنهم.

وفيه: دليل على أن من أساء في الصلاة فإنه يؤمر بإحسان صلاته مجملاً، حتى يتبين أنه جاهلٌ، فيعلم ما جهله.

وفيه: دليل على أن من أساء في صلاة تطوعٍ فأنه يؤمرُ باعادتها.

وهذا مما يتعلق به من يقول بلزوم النوافل بالشروع، ووجوب إعادتها

ص: 170

إذا

أفسدها.

ومن خالف في ذلك حمل الامر بالاعادة على الاستحباب، وأن الأمر بالإعادة كان تغليظاً على هذا المسيء في صلاته؛ لأن ذلك أزجرُ له عن الإساءة، وأقرب إلى عدم عوده إليها.

وقد ذكرنا –فيما تقدم – الاستدلال بهذا الحديث على وجوب التكبير والقراءة.

والمقصود منه في هذا الباب: وجوب إتمام الركوع والطمأنينة فيه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يركع حتى يطمئن راكعاً.

وقد أشار البخاري إلى أنه أنما أمر بالإعادة؛ لأنه لم يتم الركوع، وليس في سياق هذا الحديث مايدل على ذلك.

ولكن؛ روي في حديث رفاعة بن رافع: أن الداخل إلى المسجد صلى وأخفُ صلاته.

خرَّجه الترمذي وغيره.

وخَّرجه النسائي، وعنده: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمق صلاته، ولا يدري ما يعيب منها.

وقد قيل: أن المذكور في حديث رفاعة غير المذكور في أبي هريرة؛ لأن في حديث رفاعة تعليم النبي صلى الله عليه وسلم بعض مستحبات الصلاة؛ كالاستفتاح وغيره، بخلاف حديث أبي هريرة؛ فإنه ليس فيه غير تعليم فرائض الصلاة.

ص: 171

وأكثر أهل العلم على أن إتمام الركوع بالطمأنينة فرض، لا تصح الصلاة بدون ذلك.

قال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن

بعدهم؛ يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود.

وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود)) .

وهذا الحديث الذي أشار إليه، خرَّجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث أبي مسعود الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

ولفظ أبي داود: ((لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع

والسجود)) .

وإقامة الظهر في الركوع والسجود: هو سكونه من حركته.

ص: 172

وقدر الطمأنينة المفروضه: أدنى سكونٍ بين حركتي الخفض والرفع عند أصحاب الشافعي، وأحد الوجهين لأصحابنا.

والثاني لأصحابنا: أنها مقدرة بقدر تسبيحة واحدة.

وذهب أبو حنيفة إلى أن الطمانينة ليست فرضاً في ركوع ولا غيره، لظاهر قوله:{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77] .

وللجمهور: أن الأمر بالركوع والسجود مطلقٌ، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم وبيَنه بفعله وأمره، فرجع إلى بيانه في ذلك كما رجع إلى بيانه في عدد السجود وعدد الركعات، ونحو ذلك.

***

123 -

ص: 173

باب

الدعاء في الركوع

ص: 174

794 -

حدثنا حفص بن عمر: ثنا شعبة، عن المنصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم أغفر لي)) .

في هذا حديث: دليل على الجمع بين التسبيح والتحميد والإستغفار في الركوع والسجود.

وخرَّج الإمام أحمد من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، قال: لمَّا نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] كان يكثر إذا قرأها وركع أن يقول: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم أغفر لي، إنك أنت التواب الرحيم)) –ثلاثا -.

وأبو عبيدة، لم يسمع من أبيه، لكن رواياته عنه صحيحة.

وخرَّج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث عون بن عبد الله، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا

ص: 174

ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات: سبحان ربي العظيم، وذلك ادناه، وإذا سجد فليقل: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً، وذلك

أدناه)) .

وهو مرسل، يعني: أن عون بن عبد الله لم يسمع من ابن مسعود -: قاله الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم.

وقد روي بهذا الإسناد موقوفاً.

وقد روي من وجوه أخر عن ابن مسعودٍ مرفوعاً –أيضاً -، ولا تخلو من مقالٍ.

وفي ((صحيح مسلم)) من حديث حذيفة، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات

ليلة، فافتتح البقرة – وذكر الحديث، إلى أن قال: ثم ركع فجعل يقول: ((سبحان ربي العظيم)) ، وكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال:((سمع الله لمن حمده)) ، ثم قام قياماً طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال:((سبحان ربي الأعلى)) ، فكان سجوده قريبا من قيامه.

ص: 175

وخرَّج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم من حديث موسى بن أيوب الغافقي: حدثني عمي إياس بن عامر، قال: سمعت عقبة بن عامر الجهني، قال: لما نزلت {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((اجعلوها في ركوعكم)) ، فلما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجعلوها في سجودكم)) .

موسى، وثقة ابن معين وأبو داود وغيرهما، لكن ضَّعف ابن معين رواياته عن عمه المرفوعة خاصة.

وفي ((صحيح مسلم)) عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده:((سبوح قدوس، رب الملائكة والروح)) .

وفيه – أيضاً -: عن علي، أنه وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: وإذا ركع قال: ((اللهم لك ركعت، وبك أمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي)) –وذكر بقية الحديث -.

وخَّرجه الترمذي بمعناه، وعنده: أن ذلك كان يقوله في المكتوبة.

ص: 176

وفي إسناد الترمذي لين.

ولكن خَّرج البيهقي هذه اللفظة بإسنادٍ جيدٍ.

وخرَّج النسائي نحو حديث علي من حديث جابرٍ ومحمد بن مسلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي حديث محمد بن مسلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في صلاة التطوع.

وخرَّج – أيضاً – هو وأبو داود من حديث عوف بن مالك، قال:

ص: 177

قمت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فلما ركع مكث قدر سورة البقرة، يقول في ركوعه:((سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة)) .

وفي الباب أحاديث أخر متعددة يطول ذكرها.

والكلام هاهنا في حكم التسبيح في الركوع، وفي الدعاء فيه.

فاما التسبيح في الركوع:

فمشروع عند جمهور العلماء.

قال جابر: كنا نسبح ركوعاً وسجوداً، وندعو قياماً وقعوداً.

خرَّجه البيهقي.

وقال أصحاب مالك: لا باس به -: هكذا في ((تهذيب المدونة)) ، قال: ولا حد له.

وأما الجمهور، فأدنى الكمال عندهم ثلاث تسبيحات، وتجزئ واحدة.

وروي عن الحسن وإبراهيم أن المجزئ ثلاث.

وقد يتأول على أنهما أرادا المجزئ من الكمال، كما تأول الشافعي وغيره حديث ابن

ص: 178

مسعود المرفوع الذي فيه: ((وذلك أدناه)) على أدنى الكمال.

وروي عن عمر، أنه كان يقول في ركوعه وسجوده قدر خمس تسبيحات.

وعن الحسن، قال: التام من ذلك قدر سبع تسبيحات.

وعنه، قال: سبع أفضل من ثلاث، وخمس وسط بين ذلك.

وكذا قال إسحاق: يسبح من ثلاث إلى سبع.

وقالت طائفة، يستحب للإمام أن يسبح خمساً ليدرك من خلفه ثلاثاً، هكذا قال ابن المبارك وسفيان الثوري وإسحاق وبعض أصحابنا.

ومنهم من قال: يسبح من خمس إلى عشر.

وقال بعض أصحابنا: يكره للإمام أن ينقص عن أدنى الكمال في الركوع والسجود، ولا يكره للمنفرد؛ ليتمكن المأموم من سنة المتابعة.

ولأصحابنا وجه: أنه لا يزيد على

ص: 179

ثلاث.

وذكر القاضي أبو يعلى في ((الأحكام السلطانية)) : أن الإمام المولى إقامة الحج بالناس ليس له أن ينفر في النفر الأول، بل عليه أن يلبث بمنى، وينفر في اليوم الثالث؛ ليستكمل الناس مناسكهم.

وقال أصحاب الشافعي: لا يزيد الإمام على ثلاث تسبيحات –ومنهم من قال: خمس -، إلا أن يرضى المأمون بالتطويل، ويكونون محصورين لا يزيدون.

وهذا خلاف نص الشافعي في الإمام، فإنه نص على أنه يسبح ثلاثاً، ويقول مع ذلك ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في حديث علي الذي سبق ذكره. قال: وكل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركوعٍ أو سجودٍ أحببت أن لا يقصر عنه، إماماً كان أو منفرداً، وهو تخفيف لا تثقيل.

واختلف أصحابنا في [

] الكمال في التسبيح: هل هو عشر تسبيحات، أو سبع؟

ولهم وجهان آخران في حق المنفرد:

ص: 180

أحدهما: يسبح بقدر قيامه.

والثاني: ما لم يخف سهواً.

وخرَّج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أنس، قال: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى – يعني: عمر بن عبد العزيز –قال: فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات.

ولو لم يسبح في ركوعه ولا سجوده، فقال أكثر الفقهاء: تجزئ صلاته، وهو قول مالك وأبي حنيفة والثوري والشافعي وغيرهم.

وقال أحمد – في ظاهر مذهبه – وإسحاق: إن تركه عمداً بطلت صلاته، وإن تركه سهواً وجب عليه أن يجبره بسجدتي السهو.

وقالت طائفة: هو فرض لا يسقط في عمدٍ ولا سهوٍ، وحكى رواية عن أحمد، وهو قول داود، ورجحه الخطابي، وقد روى الحسن والنخعي ما يدل عليه، وهو قول يحيى بن يحيى، علي بن دينارٍ من

ص: 181

أئمة المالكية.

قال القرطبي: وقد تأوله المتأخرون بتأويلات بعيدة.

ويستدل له بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة: ((إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة

القرآن)) .

وكذلك سمى الله الصلاة تسبيحاً، كما سماها قرآناً، فدل على أن الصلاة لا تخلو عن القرآن والتسبيح.

وعلى القول بالوجوب، فقال أصحابنا: الواجب في لركوع: ((سبحان ربي العظيم)) ، وفي السجود:((سبحان ربي الأعلى)) ، لا يجزئ غير ذلك، لحديث ابن مسعود وعقبة، وقد سبقا.

وقال إسحاق: يجزئ كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من تسبيح وذكر ودعاء وثناء.

ص: 182

وهو قياس مذهبنا في جواز جميع أنواع الاستفتاحات والتشهدات الواردة في الصلاة.

وفي ((المسند)) وغيره، عن أبي ذر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ذات ليلة بآية يرددها، بها يقوم، وبها يركع، وبها يسجد. والاية {إن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ?وإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (المائدة:118) .

قال أصحاب الشافعي: يستحب أن يأتي بالتسبيح، ثم يقول بعده:((اللهم، لك ركعت)) –إلى آخره. كما رواه علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قالوا: فإن أراد الإقتصار على أحدهما، فالتسبيح أفضل.

قال بعضهم: والجمع بين التسبيح ثلاثاً، وهذا الذكر أفضل من الاقتصار على التسبيح، وزيادته على الثلاث.

وأما الدعاء في لركوع، فقد دل حديث عائشة الذي خرَّجه البخاري هاهنا على استحبابه، وعلى ذلك بوب البخاري هاهنا، وهو قول أكثر العلماء.

وروي عن ابن مسعود.

وقال مالك: يكره الدعاء في الركوع دون السجود، واستدل

ص: 183

بحديث علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((أما الركوع، فعظموا فيه الرب، وأما السجود، فاجتهدوا فيه في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم)) .

خرَّجه مسلم.

وروي، عن أحمد رواية، أنه قال: لا يعجبني الدعاء في الركوع والسجود في الفريضة.

قال بعض أصحابنا: وهي محمولة على الإمام إذا طول بدعائه على المأمومين أو نقص بدعائه ألتسبيح عن أدنى الكمال، فأما في غير هاتين الحالتين فلا كراهة فيه.

وفي ((صحيح مسلم)) ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء)) .

وفيه – أيضاً -، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده:

((اللهم أغفر ذنبي كله، دقه وجله، أوله وآخره، وعلانيته وسره)) .

وخرَّج النسائي من حديث ابن عباس، أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات

ص: 184

ليلة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده:((اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً)) –وذكر الحديث بطوله.

وخَّرجه مسلم، وعنده: أنه قال: في صلاته، أو في سجوده –بالشك.

وفي ((المسند)) عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات ليلة في سجوده:((رب أغفر لي ما أسررت وما أعلنت)) .

وفيه: عنها –أيضاً -، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات ليلة في سجوده:((رب أعط نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)) .

* * *

ص: 185

باب

القراءة في الركوع والسجود

بوب البخاري على هذا، ولم يخرج فيه شيئاً، وفيه أحاديث ليست على شرطه:

أشهرها: حديث علي، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن في الركوع والسجود.

خرَّجه مسلم.

وفي بعض الروايات: الاقتصار على ذكر الركوع.

وكذا رواه مالك، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن علي.

وقد خرَّجه مسلم من طريقه كذلك.

ص: 186

وفي إسناده اختلاف كثير، قد ذكر مسلم منه في ((صحيحه)) ستة أنواع، وذكر الدارقطني فيه أكثر من ذلك، ولم يرجح منه شيئاً.

والظاهر: أن البخاري تركه، لأنه رأى الاختلاف مؤثراً فيه.

وله طرق أخرى، عن علي:

خرَّجه النسائي من رواية أشعث، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وخرَّج مسلم –أيضاً – من رواية إبراهيم بن عبد الله بن معبد، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر، فقال:

((أيها الناس، أنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أو ترى له، ألا وأني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم)) .

ص: 187

وقد قال الإمام أحمد فيه: ليس إسناده بذاك.

وإبراهيم هذا وأبوه، لم يخّرج لهما البخاري شيئاً.

وأكثر العلماء على كراهة القراءة في الركوع والسجود، ومنهم من حكاه

إجماعاً.

وهل الكراهة للتحريم، أو للتنزيه؟ فيه اختلاف.

وحكى ابن عبد البر الإجماع على أنه لا يجوز.

ومذهب الشافعي وأكثر أصحابنا: أنه مكروه.

وهل تبطل به الصلاة، أو لا؟ فيه وجهان لأصحابنا. والأكثرون على أنها لا تبطل بذلك.

وللشافعية وجه: إن قرأ بالفاتحة خاصة بطلت، لأنه نقل ركنا إلى غير موضعه.

ورخصت طائفة في القراءة في الركوع والسجود.

روي عن أبي الدرداء، أنه كان يقرأ البقرة في سجوده.

ص: 188

وعن سليمان بن ربيعة، وعبيد بن عمير، والمغيرة.

وعن النخعي فيمن نسي الآية أو تركها، فذكرها وهو راكع، قال: يقرؤها وهو راكع.

وعن المغيرة، قال: كانوا يفعلون ذلك.

وسئل عطاء، عن القراءة في الركوع والسجود؟ فقال: رأيت عبيد بن عمير يقرأ وهو راكع في المكتوبة.

ورخص بعضهم في ذلك في النفل دون الفرض:

روى سليمان بن موسى، عن نافع، عن علي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن القراءة في الركوع والسجود في الصلاة المكتوبة، فأما الصلاة في التطوع، فلا جناح.

خرَّجه الإسماعيلي.

وإسناده منقطع، فإن نافعاً إنما يرويه عن ابن حنين، عن أبيه، عن علي، كما سبق.

وآخر الحديث، لعله مدرج من قول بعض الرواة.

وسليمان بن موسى، مختلف فيه.

***

124 -

ص: 189

باب

ما يقول الإمام ومن خلفه

إذا رفع رأسه من الركوع

ص: 190

795 -

حدثنا آدم: نا ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: ((سمع الله لمن حمده)) قال: ((اللهم، ربنا ولك الحمد)) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع وإذا رفع رأسه يكَّبر، وإذا قام من السجدتين قال: ((الله

أكبر)) .

قد خَّرج البخاري فيما تقدم، في ((باب: التكبير إذا قام من السجود)) ، من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث. عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:

((سمع الله لمن حمده)) حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم:((ربنا لك الحمد)) .

فتبين بذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((سمع الله لمن حمده)) في حال رفعه، ثم إذا أنتصب واستوى قائماً يقول:((ربنا لك الحمد)) .

وفي رواية سعيد المقبري، عن أبي هريرة المخرجة في هذا الباب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قال: ((سمع الله لمن حمده)) قال: ((اللهم، ربنا ولك الحمد)) .

والمراد: أنه يصلها بها من غير فصل، وإن كانت الأولى في حال

ص: 190

الرفع، والثانية في حال القيام.

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المأمومين أن يقولوا: ((ربنا ولك الحمد)) إذا قال الإمام:

((سمع الله لمن حمده)) ، وسيأتي الحديث بذلك -، فدل هذا كله على أن الإمام والمأمومين يشتركون في قول:((ربنا ولك الحمد)) .

لكن من قال: أن المأموم يقول: ((سمع الله لمن حمده)) كالامام، يقول: أنه يقوله في حال رفعه، فإذا أنتصب قال:((ربنا ولك الحمد)) كالإمام.

ومن قال: يقتصر المأموم على التحميد، قال: يأتي به في حال رفعه.

وسيأتي ذكر الاختلاف في ذلك فيما بعد – إن شاء الله سبحانه وتعالى.

وقوله: ((وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع وإذا رفع رأسه يكَّبر)) يوهم أنه كان يكَّبر إذا رفع رأسه من الركوع، وليس المراد ذلك.

وقد حمله البيهقي على أن المراد: أنه كان إذا رفع رأسه من ركوعه، ثم اراد أن يسجد، كبر حينئذ للسجود.

ويحتمل أن المراد: أنه كان إذا رفع رأسه من السجود كبر؛ فإنه قد ذكر قبل ذلك ما كان يقوله إذا رفع رأسه من الركوع، وهو:((اللهم، ربنا ولك الحمد)) ثم ذكر بعد ذلك ما كان يقوله إذا رفع من السجود، وهو التكبير.

***

125 -

ص: 191

باب

فضل: ((اللهم ربنا ولك الحمد))

796 -

ص: 192

حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن سميًّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد، فإنه من وافق قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)) .

قد تقدم في الباب الماضي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في حال رفعه من الركوع: ((سمع الله لمن حمده)) ، ثم يقول بعد إنتصابه منه:((ربنا ولك الحمد)) ، فدل على أن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد، وهو قول الثوري والأوزعي والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد، وروي عن علي وأبي هريرة.

وأما مالك وأبو حنيفة، فعندهما: يقتصر الإمام على التسميع والمأموم

ص: 192

على التحميد؛ ظاهر حديث أبي هريرة هذا.

وحمل بعض أصحابهما حديث أبي هريرة السابق في الجمع بينهما على النافلة، وهو بعيد جداً.

وقد خرَّج مسلم في ((صحيحه)) : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بينهما إذا رفع رأسه من الركوع من حديث علي وابن أبي أوفى. ومن حديث حذيفة –أيضاً -، لكن في صلاة النافلة.

وفي هذا الحديث: الأمر للمأمومين أن يقولوا: ((اللهم ربنا ولك الحمد)) إذا قال: ((سمع الله لمن حمده)) ، فيجتمع الإمام والمأمومون في قول: ((ربنا ولك

الحمد)) .

واستدل بهذا من قال: أن المأموم لا يقول: ((سمع الله لمن حمده)) كالإمام، وهو قول مالك والثوري والأوزعي وأبي حنيفة وأحمد.

وروي عن أبي مسعود وأبي هريرة والشعبي.

وقالت طائفة: يجمع المأموم بين الأمرين - أيضاً -، فيسمع ويحمد.

وهو قول عطاء وأبي بردة وابن سيرين والشافعي وإسحاق؛ لعموم

ص: 193

قوله صلى الله عليه وسلم: ((صلوا كما رأيتموني اصلي)) .

وفيه حديثان صريحان في المأموم أنه يجمع بينهما، ولكنهما ضعيفان -: قاله البيهقي وغيره.

وروي – أيضاً – عن أبي موسى، وضعفه البيهقي – أيضاً -.

ومعنى قوله: ((سمع الله لمن حمده)) : استجاب الله لحامده كما استعاذ من دعاء لا يسمع، أي لا يستجاب؛ فكذلك يشرع عقب ذلك الاجتماع على حمد الإمام من الإمام ومن خلفه.

وظاهر هذا الحديث: يدل على أن الملائكة تحمد مع المصلين، فلهذا علل أمرهم بالتحميد بقوله:((من وافق قوله قول الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه)) .

وفي حديث أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((وإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، يسمع الله لكم، فإن الله تعإلى قال على لسان نبيه: سمع الله لمن حمده)) .

خرَّجه مسلم.

ص: 194

وفي حديث أبي هريرة المخَّرج في هذا الباب: ((اللهم، ربنا لك الحمد)) بغير واو.

وفي حديث أبي هريرة المخرج في الباب قبله: ((اللهم، ربنا ولك الحمد)) – بالواو.

وفي رواية أخرى عن أبي هريرة –سبق تخريجها -: ((ربنا لك الحمد)) بغير

واو.

وفي روايات آخر: ((ربنا ولك الحمد)) - بالواو.

وكله جائز، وأفضله عند مالك وأحمد:((ربنا ولك الحمد)) بالواو.

وقال أحمد: روى الزهري فيه ثلاثة أحاديث عن أنس بن مالك، وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وعن سالم عن أبيه.

يعني: كلها بالواو.

وقال في حديث علي الطويل: ((ولك الحمد)) .

وحديث علي، خرَّجه مسلم.

وقد ذكر الأصمعي أنه سال أبا عمرو عن الواو في قوله: ((ربنا ولك الحمد)) . فقال: هي زائدة.

وذكر غيره أنها عاطفة على محذوف، تقديره: ربنا أطعناك وحمدناك

ص: 195

ولك

الحمد.

قال أصحابنا: فإن قال: ((ربنا ولك الحمد)) فالأفضل أثبات الواو، وإن زاد في أولها:((اللهم)) فالأفضل إسقاطها، ونص عليه أحمد في رواية حرب؛ لأن أكثر أحاديثها كذلك، ويجوز إثباتها، لأنه ورد في حديث أبي هريرة، كما خرَّجه البخاري في الباب الماضي.

وذهب الثوري والكوفيون إلى أن الافضل: ((ربنا لك الحمد)) بغير واو.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

***

126 -

ص: 196

باب

القنوت

ص: 197

797 -

حدثنا معاذ بن فضالة: نا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: لأقربن لكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الظهر وصلاة العشاء، وصلاة الصبح، بعدما يقول:((سمع الله لمن حمده)) فيدعو للمؤمنين، ويلعن الكفار.

ص: 197

798 -

حدثنا عبد الله بن أبي الأسود: نا إسماعيل، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: كان القنوت في المغرب والفجر.

ليس مقصود البخاري بهذا الباب ذكر القنوت؛ فإن القنوت قد أفرد له باباً في اواخر ((أبواب الوتر)) ، ويأتي الكلام عليه في موضعه – إن شاء الله سبحانه وتعالى.

إنما مراده بتخريج هذين الحديثين في هذا الباب: أن المصلي يشرع له بعد أن يقول: ((سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد)) أن يدعو، ولا يقتصر

ص: 197

على التسميع والتحميد خاصة.

وقد وردت أحاديث صريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنه كان يزيد في الثناء على التسميع والتحميد، ولم يخرجها البخاري، فإنها ليست على شرطه، وخرَّج مسلم كثيراً منها.

فخَّرج من حديث عليٍ، أنه وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر فيها: قال: وإذا رفع من الركوع قال: ((اللهم، ربنا لك الحمد، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد)) .

وفي رواية أخرى له: ((سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد)) –إلى آخره.

وخرَّج –أيضاً – من رواية قيس بن سعد، عن عطاء، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال:((اللهم، ربنا ولك الحمد، ملء السموات وملء الارض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، لامأنع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولاينفع ذا الجد منك الجد)) .

وخرَّج –أيضاً - من حديث الاعمش، عن عبيد بن الحسن، عن ابن أبي أوفى، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع ظهره من الركوع قال: ((سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات وملء

ص: 198

الارض، وملء ما شئت من شيء بعد)) .

وخَّرجه من حديث شعبة، عن عبيد، عن ابن أبي اوفى، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء، ولم يذكر فيه: رفع رأسه من الركوع.

ورجح الإمام أحمد رواية شعبة، وقال: اظن الأعمش غلط فيه.

يعني: في ذكره: أنه كان يقوله بعد رفع رأسه من الركوع.

وقد بين ذلك أبو داود في ((سننه)) ، وبسط القول فيه.

وفي رواية لمسلم زيادة: ((اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد، اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الوسخ)) .

وليس في هذه الرواية: ذكر رفع رأسه من الركوع –أيضاً.

وخرَّج مسلم –أيضاً - من حديث قزعة، عن أبي سعيد الخدري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: ((ربنا لك الحمد، ملء السموات، وملء الارض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجدُ)) .

وفي إسناده بعض اختلاف، وروي مرسلاً.

وفي الباب أحاديث أخر، ليست أسانيدها بالقوية.

ص: 199

وقد أستحب الشافعي وإسحاق قول هذه الاذكار المروية بعد التسميع والتحميد في الصلاة المكتوبة وغيرها.

ولم يستحب الكوفيون الزيادة على التسميع والتحميد في الصلاة المكتوبة، وحملوا ما ورد في الزيادة عليها على صلاة النافلة.

وظاهر مذهب الإمام أحمد: أن الإمام والمنفرد يقول كل منهما بعد التحميد: ((ملء السموات والارض)) ، إلى قوله:((من شيء بعد)) في الصلاة المفروضة وغيرها.

وأما المأموم فيقتصر على قول: ((ربنا ولك الحمد)) .

قيل لأحمد: فيزيد –يعني الإمام والمنفرد – على هذا، فيقول: ((أهل الثناء

والمجد)) ؟ قال: قد روي ذلك، وأما أنا فاني أقول إلى ((ملء ما شئت من شيء بعد)) –يعني: لا يزيد عليه.

وحكي عن أحمد رواية أخرى: أنه يستحب قولها في المكتوبة – أيضاً -،

وهي إختيار أبي حفص العكبري.

ومن أصحابنا من قال: من أكتفى في ركوعه وسجوده بأدنى الكمال من التسبيح لم يستحب له الزيادة على ذلك، ومن زاد على ذلك

ص: 200

في التسبيح أستحب له قولها؛ لتقع أركان الصلاة متناسبةً في طولها وقصرها، وحمل فعل النبي صلى الله عليه وسلم لها وتركه على مثل ذلك.

وعن أحمد رواية: أن المأموم يستحب له أن يأتي بالتحميد وما بعده من الدعاء، كالإمام والمنفرد، غير أنه لا ياتي بالتسميع، ورجحها بعض أصحابنا المتأخرين.

قال البخاري –رحمه الله:

799 -

ص: 201

حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالكٍ، عن نعيم بن عبد الله المجمر، عن علي بن يحيى بن خلادٍ الزرقي، عن أبيه، عن رفاعة بن رافع الزرقي، قال: كنا يوماً نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة قال:((سمع الله لمن حمده)) فقال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. فلما أنصرف قال:((من المتكلم؟)) قال: أنا. قال: ((رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها، أيهم يكتبها أول)) .

قوله: ((أول)) روي على وجهين: بضم اللام وفتحها. فالضم على أنه صفة لأي.

وقد سبق نحوه في قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: ((لقد ظننت أن لا يسألني أحد أول منك)) .

و ((

ص: 201

البضع)) : ما بين الثلاث إلى التسع، في الأشهر.

وقال أبو عبيدة: ما بين الثلاث إلى الخمس. وقيل غير ذلك.

وقد قيل في مناسبة هذا العدد: أن هذه الكلمات المقولة تبلغ حروفها بضعاً وثلاثين حرفاً، فكان الملائكة ازدحموا على كتابتها ورضوا أن يكتب كل واحد منهم حرفاً منها.

وفي هذا نظر؛ فأنه ليس في الحديث ما يدل على أنهم توزعوا كتابتها.

وقد دل الحديث على فضل هذا الذكر في الصلاة، وأن المأوم يشرع له الزيادة على التحميد بالثناء على الله عز وجل، كما هو قول الشافعي وأحمد –في رواية -، وأن مثل هذا الذكر حسنٌ في الاعتدال من الركوع في الصلوات

ص: 202

المفروضات؛ لأن الصحابة –رضي الله عنهم – أنما كانوا يصلون وراء النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات المفروضة غالباً، وأنما كانوا يصلون وراءه التطوع قليلاً.

وفيه - أيضاً -: دليل على أن جهر المأموم أحيانا وراء الإمام بشيء من الذكر غير مكروه، كما أن جهر الإمام أحياناً ببعض القراءة في صلاة النهار غير مكروه.

وقد سبق ذكر الجهر مستوفى.

***

127 -

ص: 203

باب

الاطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع

وقال أبو حميد: رفع النبي صلى الله عليه وسلم واستوى حتى يعود كل فقار مكانه.

هكذا في كثير من النسخ: ((الاطمأنينة)) . وفي بعضها ((الاطمأنينة)) وقيل: أنه الصواب، والمراد بها السكون.

وحديث أبي حميد قد خرَّجه فيما بعد، وذكر أن بعضهم رواه ((كل قفار)) بتقديم القاف على الفاء.

والصواب الرواية الأولى بتقديم الفاء.

ومنه: سمي سيف العاص بن منبه السهمي الذي نفله النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر لعلي حين قتل صاحبه يومئذٍ.

و ((الفقار)) جمع فقارة، وهو خرزات الصلب، ويقال لها: الفقرة والفَقرة –بالكسر والفتح.

خَّرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث:

الحديث الأول:

800 -

ص: 204

ثنا أبو الوليد: ثنا شعبة، عن ثابت، قال: كان أنس ينعت لنا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان يصلي، وإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول: قد نسي.

وخَّرجه في موضع آخر من حديث حماد بن زيد، عن ثابت، قال:

ص: 204

قال لنا أنس: أني لا ألو أن اصلي بكم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا. قال حماد: قال ثابت: وكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع أنتصب قائماً، حتى يقول القائل: قد نسي.

ففي هذا الحديث: دليل على أن الرفع من الركوع ينتصب فيه حتى يعتدل قائماً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي علمه الصلاة:((ثم أرفع حتى تعتدل قائماً)) .

وأكثر العلماء على أن الرفع من الركوع ركن من اركان الصلاة، وهو قول الشافعي وأحمد.

وقال أبو حنيفة ومالك –في رواية عنه -: ليس بركن، فلو ركع ثم سجد

أجزأه.

وهذا يرده فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بالاعتدال.

والطمأنينة في هذا الاعتدال ركن –أيضاً - عند الشافعي وأحمد وأكثر أصحابهما.

ومن الشافعية من توقف في ذلك؛ لأن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إنما أمرنا بالاعتدال

ص: 205

دون

الطمأنينة.

والصحيح: أن الطمأنينة فيه ركن، وهو قول الأكثرين، منهم: الثوري والأوزعي وأبو يوسف وإسحاق.

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالطمأنينة في الجلوس بين السجدتين، فالطمأنينة في الرفع من الركوع مثلها.

وقد روي من حديث رفاعة بن رافع، أن النبي صلى الله عليه وسلم علم المسئ في صلاته، وأمره أن يرفع حتى يطمئن قائماً.

خرَّجه الإمام أحمد وغيره.

وقد سبق قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود)) .

وخرَّج الإمام أحمد من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده)) .

ومن حديث طلق بن علي الحنفي، عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه.

وحديث طلق أصح من حديث أبي هريرة.

وفيه: دليل على استحباب اطالة ركن الرفع من الركوع، ولا سيما مع

ص: 206

إطالة الركوع والسجود، حتى تتناسب أركان الصلاة في القدر.

وذهب بعض الشافعية إلى أن من اطال ذلك فسدت صلاته؛ لأنه غير مقصود لنفسه، بل للفصل بين الركوع والسجود.

وهذا قول مردود؛ لمخالفته السنة.

الحديث الثاني:

801 -

ص: 207

ثنا أبو الوليد: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن البراء، قال: كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم، وسجوده، وإذا رفع رأسه من الركوع، وبين السجدتين قريباً من السواء.

هذا الحديث صريح في إطالة النبي صلى الله عليه وسلم للرفع من الركوع والسجود، وأن رفعه منهما كان قريباً من ركوعه وسجوده، فدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يناسب بين أركان الصلاة وهي الركوع والسجود والرفع منهما، ويقارب بين ذلك كله، فإن أطال منها شيئا اطال الباقي، وإن أخف منها شيئاً أخف الباقي.

ويستدل بذلك على تطويل الرفع من الركوع والسجود في صلاة الكسوف، كما سيأتي ذكره في موضعه – إن شاء الله سبحانه وتعالى.

الحديث الثالث:

802 -

ص: 207

ثنا سليمان بن حرب: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن

ص: 207

أبي قلابة، قال: قام مالك بن الحويرث يرينا كيف كان صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في غير وقت الصلاة، فقام فأمكن القيام، ثم ركع فأمكن الركوع، ثم رفع رأسه فأنصت هنية. قال: فصلى بنا صلاة شيخنا هذا: أبي بريد، وكان أبو بريد إذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة أستوى قاعداً، ثم نهض.

قوله: ((فأنصت)) –يعني من الإنصات، والمعنى: أنه سكت هنية بعد رفع رأسه من الركوع، والمراد بإنصاته: أنه لم يجهر بذكر يسمع منه، لا أنه لم يقل شيئاً في نفسه.

ويروى: ((فأنتصب)) من الإنتصاب، وهو القيام.

وقوله: ((هنَّية)) ، هو بالياء المشددة بغير همز، ويروى

ص: 208

بالهمز، ويروى

((هنيهة)) بهاءين، والكل بمعنى، وهو تصغير ((هنَّة)) ، وهي كلمة يكنى بها عن

الشيء، أي: شيئاً قليلاً من الزمان.

وفي هذا الحديث: أن قيامه بعد الركوع كان قليلاً، بخلاف ما دل عليه حيديث أنس، لعل سائر أركان الصلاة كانت خفيفة، فناسب ذلك تقصير القيام من الركوع، ويكون حديث أنس في حالة يطيل فيه الركوع والسجود.

وحديث البراء بن عازب يدل على هذا الجمع؛ فأنه يدل على أن ركوعه واعتداله وسجوده وقعوده من سجوده كان متقاربا.

وقوله: ((صلاة شيخنا هذا أبي بريد)) ، يريد به: عمرو بن سلمة الجرمي، وسلمة بكسر الام.

ووقع في عامة الروايات: ((يزيد)) –بالياء المثناة والزاي المعجمة.

وقال مسلم: إنما هو: أبو بريد –بالباء الموحدة والراء المهملة.

قال عبد الغني بن سعيد: لم أسمع من أحد إلا بالزاي، لكن مسلم أعلم باسماء المحدثين.

وكذا ذكره الدارقطني وأبو ذر الهروي كما ذكره مسلم.

وكذا ضبطه أبو نصر الكلاباذي بخطه.

ص: 209

وذكر ابن ماكولا أنه أبو بريد – بالباء والراء -، ثم قال، وقيل: أبو يزيد.

***

128 -

ص: 210

باب

يهوي بالتكبير حين يسجد

وقال نافع: كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه.

بوب على أن التكبير للسجود يكون في حال الهوي إلى الأرض بالسجود.

وذكر فيه أحكاماً أخرى من أحكام السجود.

فأما التكبير في حال الهوي، فروي عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة.

وكان عبد الله بن يزيد الخطمي يهوي بالتكبير، فكانه في أرجوحة حتى يسجد.

وقال النخعي: كبر وأنت تهوي، وأنت تركع.

يشير إلى أن التكبير للركوع يكون –أيضاً - في حال الهوي إليه كالسجود.

والهوي: هو السقوط والأنخفاض، وهو بتشديد الياء، وأما الهاء فمضمومة. وقيل: بفتحها: ثم قيل: هما لغتان. وقيل: بل هو بالضم

ص: 211

الصعود، وبالفتح النزول.

وقال بعض أصحابنا: يكون تكبير الخفض والرفع والنهوض ابتداؤه مع ابتداء الأنتقال، وأنتهاؤه مع أنتهائه، فإن كمله في جزء من الانتقال، ولم يستوعبه به أجزأه، لأنه لم يخرج به عن محله، وأن شرع فيه قبله أو كمله بعده، فوقع بعضه خارجاً منه، فهو كتركه، لأنه لم يكمله في محله، فهو كمن تمم قراءته في الركوع.

قال: هذا هو قياس المذهب.

قال: ويحتمل أن يعفى عن ذلك؛ لأن التحرز منه يعسر، والسهو به يكثر، ففي ابطال الصلاة بعمده، وإيجاب السجود لسهوه مشقة.

وقال أصحاب الشافعي: يبتدئ تكبير الركوع قائماً، ويمده إلى أن يصل إلى حد الراكع.

قالوا: هذا هو الذي نص عليه الشافعي في ((الأم)) . وقطع به العراقيون.

وحكى الخراسانيون قولين: أحدهما: هذا. قالوا: وهو الجديد.

ص: 212

والثاني –وهو القديم -: لا يديم التكبير بل يسرع به.

قالوا: والقولان جاريان في جميع تكبيرات الأنتقالات: هل تحذف، أم تمد حتى يصل إلى الذكر الذي بعدها؟ والصحيح: المد.

وقالوا في تكبير السجود: أنه يشرع به من حين يشرع في الهوي، ولم يقولوا: أنه يبتدئه قائماً، كما قالوا في تكبير الركوع، وهو خلاف نص الشافعي؛ فإنه حكوا عنه أنه قال في ((الأم)) : أحب أن يبتدئ التكبير قائماً وينحط مكانه ساجداً. قال: وأن أخر التكبير عن ذلك - يعني: عن الإنحطاط -، أو كبر معتدلاً، أو ترك التبكير كرهت ذلك. أنتهى.

وهذا يدل على أن تأخير التكبير عن الأنحطاط وتقديمه عليه كتركه.

وممن رأى التكبير في الهوي للسجود وغيره. مالك والثوري وأحمد وغيرهم.

وأما ما ذكره البخاري، عن نافع –تعليقاً -، قال: كان ابن عمر يضع يديه

ص: 213

قبل ركبتيه.

فخَّرج ابن خزيمة في ((صحيحه)) والدارقطني من رواية أصبغ بن الفرج، عن الدراوردي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، إنه كان يضع يديه قبل ركبتيه، وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.

ص: 214

وخَّرجه الحاكم والبيهقي من رواية محرز بن سلمة، عن الدراوردي، به.

وقال البيهقي: ما أراه إلا وهماً – يعني: رفعه.

وقد رواه ابن أخي ابن وهب، عن عمه، عن الدراوردي كذلك.

وقيل: أن أشهب رواه عن الدراوردي كذلك.

ورواه أبو نعيم الحلبي، عن الدراوردي، فوقفه على ابن عمر.

قال الدارقطني: وهو الصواب.

وروى عن ابن عمر خلاف ذلك؛ روى ابن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يضع ركبتيه إذا سجد قبل يديه، ويرفع يديه إذا رفع قبل ركبتيه.

خرَّجه ابن أبي شيبة.

ص: 215

وروى شريك، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد يضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه.

خرَّجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن.

وخَّرجه الحاكم، وصححه.

وهو مما تفرد به شريك، وليس بالقوي.

وخَّرجه أبو داود من طريق همام، عن محمد بن جحادة، عن عبد الجبار بن

وائل، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال همام: ونا عاصم بن كليب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 216

بمثله.

فهذا الثاني مرسل، والأول منقطع، لأن عبد الجبار بن وائل لم يدرك أباه.

ص: 217

وفي الباب أحاديث أخر مرفوعة، لا تخلو من ضَّعف.

وروي في عكس هذا من حديث أبي هريرة، ولا يثبت –أيضاً -، وأجود طرقه: من رواية محمد بن عبد الله بن حسن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل

ركبتيه)) .

خرَّجه أبو داود والنسائي والترمذي مختصراً، وقال: غريب.

وقال حمزة الكناني: هو منكر.

ومحمد راويه، ذكره البخاري في ((الضعفاء)) ، وقال: يقال: ابن حسن، ولا يتابع عليه، ولا أدري سمع من أبي الزناد، أم لا؟

فكأنه توقف في كونه محمد بن عبد الله بن حسين بن حسن الذي خرج بالمدينة على المنصور، ثم قتله المنصور بها.

ص: 218

وزعم حمزة الكناني، أنه محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان الذي يقال له: الديباج، وهو بعيد.

واختلفت العلماء في الساجد: هل يضع ركبتيه قبل يديه، أم يديه قبل ركبتيه؟ فقال الأكثرون: يضع ركبتيه قبل يديه.

قال الترمذي:

ص: 219

وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله.

وهو قول مسلم بن يسار، وأبي قلابة، وابن سيرين، والنخعي والثوري، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

وقال حجاج، عن أبي إسحاق: كان أصحاب عبد الله إذا أنحطوا للسجود وقعت ركبهم قبل أيديهم.

وكره النخعي أن يضع يديه قبل ركبتيه، وقال: هل يفعله إلا مجنون؟!

وقالت طائفة: يبدأ بيديه قبل ركبتيه، وهو مروي عن الحسن، وقد روي عن ابن عمر كما تقدم، وحكي رواية عن أحمد.

ومن أصحابنا من خصها بالشيخ الكبير والضعيف خاصة، وهو أصح.

وقال الأوزاعي: أدركت الناس يصنعونه.

وهو قول مالك. وروي عنه، أنهما سواء.

ص: 220

وقال قتادة: فيضع أهون ذلك عليه.

خَّرج البخاري في هذا الباب حديثين:

الحديث الأول:

803 -

ص: 221

نا أبو اليمان: أنا شعيب، عن الزهري: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة كان يكَّبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها في رمضأن وغيره، فيكبر حين يقوم، ثم يكَّبر حين يركع، ثم يقول:((سمع الله لمن حمده)) ، ثم يقول:((ربنا ولك الحمد)) قبل أن يسجد، ثم يقول:

((الله اكبر)) حين يهوي ساجداً، ثم يكَّبر حين يرفع رأسه من السجود، ثم يكَّبر حين يسجد، ثم يكَّبر حين يرفع رأسه من السجود، ثم يكَّبر حين يقوم من الجلوس في الاثنين، ويفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ

ص: 221

من الصلاة، ثم يقول حين ينصرف: والذي نفسي بيده، أني لأقربكم شبهاً بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا.

ص: 222

804 -

قالا: وقال أبو هريرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يرفع رأسه يقول:

((سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد)) يدعو لرجال، فيسمهم باسمائهم، فيقول:

((اللهم، أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفون من المؤمنين، اللهم، اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف)) . وأهل المشرق يومئذ من مضر، مخالفون له.

مقصوده من هذا الحديث في هذا الباب: التكبير للسجود حين يهوي ساجداً، وقد فعله أبو هريرة، وذكر أن هذه الصلاة كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فارق

الدنيا.

وقد خرَّجه مختصراً فيما تقدم من رواية مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وحده.

ومن رواية عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن وحده.

ص: 222

وفي هذه الرواية زيادة القنوت بعد الركوع؛ للدعاء على المشركين، والدعاء للمستضعفين من المؤمنين.

فأما القنوت، فيأتي الكلام عليه في موضعه – إن شاء الله تعالى.

وأما تسمية الرجال المدعو لهم وعليهم في الصلاة، فجائز عند أكثر العلماء، منهم: عروة والأوزاعي والشافعي وأحمد وغيرهم، وروي عن أبي الدرداء.

وكرهه عطاء والنخعي وأحمد – في رواية.

وعند الثوري وأبي حنيفة: أن ذلك كلام يبطل الصلاة.

واستدل لهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم صرف أصحابه عن سلامهم في التشهد على جبريل وميكائيل، وأمرهم أن يسلموا على عباد الله الصالحين عموماً.

ولا حجة في ذلك؛ لأنه إنما قصد جوامع الكلم واختصاره.

وسيأتي ذلك في موضع أخر – إن شاء الله سبحانه وتعالى.

وقوله: ((وأهل المشرق من مضر مخالفون له)) ، يريد: قبائل من مضر، كانوا مشركين، وكانت اقامتهم بأرض نجد وما والاها؛ لأن ذلك

ص: 223

مشرق المدينة، ولهذا قال له عبد القيس – عند قدوم وفدهم عليه -: بيننا وبينك هذا الحي من مضر، ولن نصل إليك إلا في شهر حوام، وكان عبد القيس يسكنون بالبحرين.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال فيهم:((هم خير أهل المشرق)) .

الحديث الثاني:

ص: 224

805 -

نا علي بن عبد الله: نا سفيان –غير مرة -، عن الزهري، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرس – وربما قال سفيان: من فرس -، فجحش شقه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة، فصلى بنا قاعداً فقعدنا – وقال سفيان مرة: صلينا قعوداً -، فلما قضى الصلاة قال:((أنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كَّبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فأرفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فأسجدوا)) .

كذا جاء به معمر؟ قلت: نعم. قال:

ص: 224

لقد حفظ كذا قال الزهري: ((ولك الحمد)) ، حفظت منه ((شقه الأيمن)) ، فلما خرجنا من عند الزهري، قال ابن جريج – وأنا عنده -:((فجحش ساقة الأيمن)) .

هذا الحديث خرَّجه البخاري عن شيخه علي بن المديني، عن سفيان بن عيينة، وذكر أن سفيان لما حدثه به سأله: أهكذا جاء معمر؟ فقال ابن المديني: نعم، فقال سفيان: لقد حفظ، فاثتنى ابن عيينة على معمر بالحفظ حيث وافقه على رواية هذا الحديث عن الزهري.

وذكر ابن عيينة: أن الزهري قال في هذا الحديث: ((ولك الحمد)) –يعني: بالواو -، وأنه حفظ منه:((فجحش شقه الأيمن)) ، فلما خرجوا من عند الزهري قال لهم ابن جريج: إنما هو ((فجحش ساقه الأيمن)) .

والمقصود من إيراد هذا الحديث في هذا الباب: أن سجود المأموم يكون عقيب سجود الإمام، وكذلك سائر افعاله تكون عقيب أفعال الإمام.

وقد تقدم الكلام على ذلك مستوفى، وعلي بقية فوائد هذا الحديث، من الصلاة خلف الجالس، وهل يصلي من خلفه من قعود أو قيام؟ بما فيه كفاية – إن شاء الله سبحانه وتعالى.

***

129 -

ص: 225

باب

فضل السجود

ص: 226

806 -

حدثنا أبو اليمان: نا شعيب، عن الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي، أن أبا هريرة أخبرهما، أن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال:((هل تمارون في القمر ليلة البدر، ليس دونه سحاب؟)) قالوا: لا يا رسول الله. قال: ((هل تمارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟)) قالوا: لا، قال: ((فإنكم ترونه كذلك، يحشر الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر، ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فياتيهم الله، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فاذا جاء ربنا عرفناه، فياتيهم الله عز وجل فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيدعوهم، ويضرب

ص: 226

الصراط بين ظهرأني جهنم، فأكون أول من يجوز من الرسل بامته، ولا يتكلم يومئذٍ أحد إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رايتم شوك السعدان؟)) قالوا، نعم. قالَ: ((فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم من يخردل، ثُمَّ ينجو، حتَّى إذا أراد الله رحمة من اراد من أهل النار، أمر الله عز وجل الملائكة أن يخرجوا من النار من كانَ يعبد الله، فيخرجونهم، ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله عز وجل على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار، فكل ابن آدم تأكله النار إلا اثر السجود، فيخرجون من النار قد امنحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل

السيل)) .

وذكر بقية الحديث في آخر من يدخل الجنة، وقد خرَّجه بتمامه – أيضاً - في

((كتاب التوحيد)) ، ويأتي في موضعه - أن شاء الله سبحانه وتعالى، فإن هذا القدر من الحديث فيه

ص: 227

ها هنا كفاية.

فأما ما يتعلق برؤية الله عز وجل يوم القيامة من اول الحديث، فقد سبق الكلام على ألفاظه ومعانيه في ((مواقيت الصلاة)) في ((باب: فضل صلاة العصر)) ، وفي

((باب: فضل صلاة الفجر)) ، فلا حاجة إلى أعادتها هاهنا.

وفي الحديث: دليل على أن المشركين الذين كانوا يعبدون في الدنيا من دون الله ألهة يتبعون ألهتهم التي كانوا يعبدون يوم القيامة، فيردنهم النار، كما قال تعإلى في حق فرعون:{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ?} [هود:98] .

ويبقى من كان يعبد الله وحده ظاهراً، مؤمناً كان أو منافقاً، فهؤلاء ينظرون من كانوا يعبدونه في الدنيا، وهو الله وحده لا شريك له.

ففي هذا الحديث: أن الله يأتيهم أول مرة فلا يعرفونه، ثم يأتيهم في المرة الثانية فيعرفونه.

وفي الحديث السابق اختصار، وقد ساقه في مواضع أخر بتمامه.

وقد دل القرآن على ما دل عليه هذا الحديث في مواضع، كقوله:{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ?} [البقرة:210] . وقال: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:

158] ،

ص: 228

وقال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} [الفجر:22] .

ولم يتأول الصحابة ولا التابعون شيئاً من ذلك، ولا أخرجوه عن مدلوله، بل روي عنهم؛ يدل على تقريره والإيمان به وامراره كما جاء.؟

ص: 228

وقد روي عن الإمام أحمد، أنه قال في مجيئه: هو مجيء أمره.

وهذا مما تفرد به حنبل عنه.

فمن أصحابنا من قال: وهم حنبل فيما روى، وهو خلاف مذهبه المعروف المتواتر عنه.

وكان أبو بكر الخلال وصاحبه لا يثبتان بما تفرد به حنبل، عن أحمد رواية.

ومن متأخريهم من قال: هو رواية عنه، بتأويل كل ما كان من جنس المجيء والإتيان ونحوهما.

ومنهم من قال: إنما قال ذلك إلزاماً لمن ناظره في القرآن، فأنهم استدلوا على خلقه بمجيء القرآن، فقال: إنما يجيء ثوابه، كقوله:{وجاء ربك} ، أي: كما تقولون أنتم في مجيء الله، أنه مجيء أمره.

وهذا أصح المسالك في هذا المروي.

وأصحابنا في هذا على ثلاث فرق:

فمنهم من يثبت المجيء والإتيان، ويصرح بلوازم ذلك في المخلوقات، وربما ذكروه عن أحمد من وجوه لا تصح أسانيدها عنه.

ومنهم من يتأول ذلك على مجيء أمره.

ص: 229

ومنهم من يقر ذلك، ويمره كما جاء، ولا يفسره، ويقول: هومجيء وإتيان يليق بجلال الله وعظمته سبحانه.

وهذا هو الصحيح عن أحمد، ومن قبله من السلف، وهو قول إسحاق وغيره من الأئمة.

وكان السلف ينسبون تأويل هذه الآيات والأحاديث الصحيحة إلى الجهمية؛ لأن جهماً وأصحابه أول من أشتهر عنهم أن الله تعالى منزه عما دلت عليه هذه النصوص بأدلة العقول التي سموها أدلة قطعية هي المحكمات، وجعلوا ألفاظ الكتاب والسنة هي المتشابهات فعرضوا ما فيها على تلك الخيالات، فقبلوا ما دلت على ثبوته بزعمهم، وردوا مادلت على نفيه بزعمهم، ووافقهم على ذلك سائر طوائف أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم.

وزعموا أن ظاهر ما يدل عليه الكتاب والسنة تشبيه وتجسيم وضلال، واشتقوا من ذلك لمن آمن بما أنزل الله على رسوله اسماء ما أنزل الله بها من سلطان، بل هي افتراء على الله، ينفرون بها عن الإيمان بالله ورسوله.

وزعموا أن ما ورد في الكتاب والسنة من ذلك – مع كثرته وأنتشاره – من باب التوسع والتجوز، وأنه يحمل على مجازات اللغة المستبعدة، وهذا من أعظم أبواب القدح في الشريعة المحكمة المطهرة، وهو من جنس حمل الباطنية نصوص الإخبار عن الغيوب كالمعاد والجنةوالنار على التوسع والمجاز دون الحقيقة، وحملهم نصوص الامروالنهي على مثل ذلك،

ص: 230

وهذا كله مروق عن دين الإسلام.

ولم ينه علماء السلف الصالح وأئمة الإسلام كالشافعي وأحمد وغيرهما عن الكلام وحذروا عنه، إلا خوفاً من الوقوع في مثل ذلك، ولو علم هؤلاء الأئمة أن حمل النصوص على ظاهرها كفر لوجب عليهم تبيين ذلك وتحذير الأمة منه؛ فإن ذلك من تمام نصيحة المسلمين، فكيف كان ينصحون الأمة فيما يتعلق بالاحكام العملية ويدعون نصيحتمهم فيما يتعلق بأصول الاعتقادات، هذا من أبطل الباطل.

قال أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي: سمعت عبد الرحمن بن محمد بن جابر السلمي يقول: سمعت محمد بن عقيل بن الأزهر الفقيه يقول: جاء رجل إلى المزني يسأله عن شيء من الكلام، فقال: أني أكره هذا، بل أنهي عنه، كما نهى عنه الشافعي؛ فإني سمعت الشافعي يقول: سئل مالك عن الكلام والتوحيد، فقالَ مالك: محال أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه علم أمته الإستنجاء ولم يعلمهم التوحيد، فالتوحيد ما قاله النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:

((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:

ص: 231

لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم)) ، فما عصم الدم والمال فهو حقيقة التوحيد. أنتهى.

وقد استوفينا الكلام على ذلك في أوائل ((كتاب العلم)) في الكلام على أول الواجبات.

وقد صح عن ابن عباس أنه أنكر على من أستنكر شيئاً من هذه النصوص، وزعم أن الله منزه عما تدل عليه:

فروى عبد الرزاق في ((كتابه)) عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: سمعت رجلاً يحدث ابن عباس بحديث أبي هريرة: ((تحاجت الجنة والنار)) ، وفيه:

((فلا تمتلي حتى يضع رجله)) –أو قال: ((قدمه – فيها)) .

قال: فقام رجل فانتفض، فقال ابن عباس: ما فرق هؤلاء، يجدون رقة عند محكمة، ويهلكون عند متشابهه.

وخَّرجه إسحاق بن راهويه في ((مسنده)) عن عبد الرزاق.

ولو كان لذلك عنده تأويل لذكره للناس ولم يسعه كتمانه.

وقد قابل هؤلاء المتكلمين طوائف آخرون، فتكلموا في تقرير هذه النصوص بأدلة عقلية، وردوا على النفاة، ووسعوا القول في ذلك،

ص: 232

وبينوا أن لازم النفي التعطيل

المحض.

وأما طريقة أئمة أهل الحديث وسلف الامة: فهي الكف عن الكلام في ذلك من الطرفين، وإقرار النصوص وإمرارها كما جاءت، ونفي الكيفية عنها والتمثيل.

وقد قال الخطابي في ((الأعلام)) : مذهب السلف في أحاديث الصفات:

الإيمان، وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها.

ومن قال: الظاهر منها غير مراد، قيل له: الظاهر ظاهران: ظاهر يليق ببالمخلوقين ويختص بهم، فهو غير مراد، وظاهر يليق بذي الجلال والإكرام، فهو مراد، ونفيه تعطيل.

ولقد قال بعض أئمة الكلام والفلسفة من شيوخ الصوفية، الذي يحسن به الظن المتكلمون: إن المتكلمين بالغوا في تنزيه الله عن مشابهة الأجسام، فوقعوا في تشبيهه بالمعاني، والمعاني محدثة كالأجسام، فلم يخرجوا عن تشبيهه بالمخلوقات.

وهذا كله إنما أتى من ظن أن تفاصيل معرفة الجائز على الله والمستحيل عليه يؤخذ من أدلة العقول، ولا يؤخذ مما جاء به الرسول.

وأما أهل العلم والايمأن، فيعلمون أن ذلك كله متلقى مماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأن ما جاء به من ذلك عن ربه فهو الحق الذي لا مزيد عليه، ولا عدول عنه، وأنه لا سبيل لتلقي الهدى إلا منه، وأنه ليس في

ص: 233

كتاب الله ولا سنة رسوله الصحيحة ما ظاهرة كفر أو تشبيه، أو مستحيل، بل كل ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله، فإنه حق وصدقٍ، يجب اعتقاد ثبوته مع نفي التمثيل عنه، فكما أن الله ليس كمثله شيء في ذاته، فكذلك في صفاته.

وما أشكل فهمه من ذلك، فإنه يقال فيه ما مدح الله الراسخين من أهل العلم، أنهم يقولون عند المتشابهات:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا?} [آل عمران:7] .

وما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في متشابه الكتاب، أنه يرد إلى عالمه، والله يقول الحق ويهدي السبيل.

وكلمة السلف وأئمة أهل الحديث متفقة على أن آيات الصفات وأحاديثها الصحيحة كلها تمر كما جاءت، من غير تشبيه ولا تمثيل، ولا تحريف ولا تعطيل.

قال أبو هلال: سأل رجل الحسن عن شيء من صفة الرب عز وجل، فقال: أمروها بلا مثال.

وقال وكيع: أدركت إسماعيل بن أبي خالد وسفيان ومسعراً يحدثون بهذه الأحاديث، ولا يفسرون شيئاً.

وقال الأوزاعي: سُئل مكحول والزهري عن تفسير هذه الأحاديث، فقالا: أمرها على ما جاءت.

وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي ومالكاً وسفيان وليثاً

ص: 234

عن هذه الأحاديث التي فيها الصفة والقرآن، فقالوا: أمروها بلا كيف.

وقال ابن عيينة: ما وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره، ليس لأحد أن يفسره إلا الله عز وجل.

وكلام السلف في مثل هذا كثير جداً.

وقال أشهب: سمعت مالكاً يقول: إياكم وأهل البدع، فقيل: يا أبا عبد الله: وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان.

خرّجه أبو عبد الرحمن السُلمي الصوفي في كتاب ((ذم الكلام)) .

وروى – أيضاً - بأسانيده ذم الكلام وأهله عن مالك، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وابن مهدي، وأبي عبيد، والشافعي، والمزني، وابن خزيمة.

وذكر ابن خزيمة النهي عنه عن مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأبي حنيفة وصاحبيه وأحمد وإسحاق وابن المبارك ويحيى بن يحيى ومحمد بن يحيى الذهلي.

وروى –أيضاً – السلمي النهي عن الكلام وذمه عن الجنيد وإبراهيم الخواص.

فتبين بذلك أن النهي عن الكلام إجماع من جميع أئمة الدين من المتقدمين من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية، وأنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم من أئمة المسلمين.

ص: 235

ومن جملة صفات الله التي نؤمن بها، وتمر كما جاءت عندهم: قوله تعالى:

{وَجَاءَ رَبُّكَ?والْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} [الفجر:22] ونحو ذلك مما دل على إتيانه ومجيئه يوم القيامة.

وقد نص على ذلك أحمد وإسحاق وغيرهما.

وعندهما: أن ذلك من أفعال الله الاختيارية التي يفعلها بمشيئته واختياره.

وكذلك قاله الفضيل بن عياض وغيره من مشايخ الصوفية أهل المعرفة.

وقد ذكر حرب الكرماني أنه أدرك على هذا القول كل من أخذ عنه العلم في البلدان، سمى منهم: أحمد وإسحاق والحميدي وسعيد بن منصور.

وكذلك ذكره أبو الحسن الأشعري في كتابه المسمى بـ – الإبانة -، وهو من أجل كتبه، وعليه يعتمد العلماء وينقلون منه، كالبيهقي وأبي عثمان الصابوني وأبي القاسم ابن عساكر وغيرهم.

وقد شرحه القاضي أبو بكر ابن الباقلاني.

وقد ذكر الأشعري في بعض كتبه أن طريقة المتكلمين في الاستدلال على قدم الصانع وحدوث العالم بالجواهر والأجسام والأعراض محرمة عند علماء المسلمين.

وقد روي ذم ذلك وإنكاره ونسبته إلى الفلاسفة عن أبي حنيفة.

وقال ابن سريج: توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين: الشهادتان،

ص: 236

وتوحيد أهل الباطن من المسلمين: الخوض في الأعراض والأجسام، وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك.

خرّجه أبو عبد الرحمن السلمي.

وكذلك ذكره الخطابي في رسالته في - الغنية عن الكلام وأهله -.

وهذا يدل على أن ما يؤخذ من كلامه في كثير من كتبه مما يخالف ذلك ويوافق طريقة المتكلمين فقد رجع عنه، فإن نفي كثير من الصفات إنما هو مبني على ثبوت هذه الطريقة.

قال الخطابي في هذه الرسالة في هذه الطريقة في إثبات الصانع: إنما هو شيء أخذه المتكلمون عن الفلاسفة، وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة، فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء، فأما مثبتوا النبوات، فقد أغناهم الله عن ذلك، وكفاهم كلفة المؤنة في ركوب هذه الطريقة المتعرجة التي لا يؤمن العنت على من ركبها، والإبداع والانقطاع على سالكها.

ثم ذكر أن الطريق الصحيحة في ذلك: الاستدلال بالصنعة على صانعها، كما تضمنه القرآن، وندب إلى الاستدلال به في مواضع، وبه تشهد الفطر السليمة

المستقيمة.

ص: 237

ثم ذكر طريقتهم التي استدلوا بها، وما فيها من الاضطراب والفساد والتناقض والاختلاف.

ثم قال: فلا تشغل –رحمك الله - بكلامهم، ولا تغتر بكثرة مقالاتهم؛ فأنها سريعة التهافت، كثيرة التناقض، وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا ولخصومهم عليه كلام يوازيه ويفارقه، فكل بكل معارض، وبعضهم ببعض مقابل.

قال: وإنما يكون تقدم الواحد منهم وفلجه على خصمه بقدر حظه من الثبات والحذق في صنعة الجدل والكلام، وأكثر ما يظهر به بعضهم على بعض إنما هو إلزام من طريق الجدل على أصول مؤصلة لهم، ومناقضات على مقالات حفظوها عليهم [

] تقودها وطردها، فمن تقاعد عن شيء منها سموه من طريق [

] وه مبطلاً، وحكموا بالفلج لخصمه عليه، والجدل لا يقوم به حق [

] به حجة.

وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين، كلاهما باطل، ويكون الحق في ثالث غيرهما، فمناقضة أحدهما صاحبة غير مصحح مذهبه، وإن كان مفسداً به قول خصمه؛ لأنهما مجتمعان معاً في الخطأ، مشتركان فيهِ، كقول الشاعر:

حجج تهافتت كالزجاج تخالها

حقاً، وكلٌ واهن مكسور

ص: 238

ومتى كان الأمر كذلك، فإن أحد من الفريقين لا يعتمد في مقالته التي نصرها أصلاً صحيحاً، وإنما هو أوضاع وأراء تتكافأ وتتقابل، فيكثر المقال، ويدوم

الاختلاف، ويقل الصواب، كما قال تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ، فأخبر تعالى أن ما كثر فيه الاختلاف فليس من عنده، وهو من أدل الدليل على أن مذاهب المتكلمين مذاهب فاسدة؛ لكثرة ما يوجد فيها من الاختلاف المفضي بهم إلى التكفير والتضليل.

وذكر بقية الرسالة، وهي حسنة متضمنة لفوائد جليلة، وإنما ذكرنا هذا القدر منها ليتبين به أن القواعد العقلية التي يدعي أهلها أنها قطعيات لا تقبل الاحتمال، فترد لأجلها –بزعمهم –نصوص الكتاب والسنة، وتصرف عن مدلولاتها، إنما هي عند الراسخين شبهات جهليات، لا تساوي سماعها، ولا قراءتها، فضلا عن أن يرد لأجلها ما جاء عن الله ورسوله، أو يحرف شيء من ذلك عن مواضعه.

وإنما القطعيات ما جاء عن الله ورسوله من الآيات المحكمات البينات، والنصوص الواضحات، فترد إليها المتشبهات، وجميع كتب الله المنزلة متفقة على معنى واحد، وإن ما فيها محكمات ومتشابهات، فالراسخون في العلم يؤمنون بذلك كله، ويردون المتشابهة إلى المحكم،

ص: 239

ويكلون ما أشكل عليهم فهمه إلى عالمه، والذين في قلوبهم ريع يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فيضربون كتاب الله بعضه ببعض، ويردون

المحكم، ويتمسكون بالمتشابه ابتغاء الفتنة، ويحرفون المحكم عن مواضعه، ويعتمدون على شبهات وخيالات لا حقيقة لها، بل هي من وسواس الشيطان وخيالاته، يقذفها في القلوب.

فأهل العلم وإلايمان يمتثلون في هذه الشبهات ما أمروا به من الاستعاذة بالله، والانتهاء عما ألقاه الشيطان، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من علامات الأيمان، وغيرهم فيصغون إلى تلك الشبهات، ويعبرون عنها بألفاظ مشتبهات، لا حرمة لها في نفسها، وليس لها معنىً يصح، فيجعلون تلك الألفاظ محكمة لا تقبل التأويل، فيردون كلام الله ورسوله إليها، ويعرضونه عليها، ويحرفونه عن مواضعه لأجلها.

هذه طريقة طوائف أهل البدع المحضة من الجهمية والخوارج والروافض والمعتزلة ومن أشبههم، وقد وقع في شيء من ذلك كثير من المتأخرين المنتسبين إلى السنة من أهل الحديث والفقه والتصوف من أصحابنا وغيرهم في بعض الأشياء دون بعض.

وأما السلف وأئمة أهل الحديث، فعلى الطريقة الأولى، وهي الأيمان بجميع ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أثبته له، مع نفي التمثيل والكيفية عنه، كما قاله ربيعة ومالك وغيرهما من

ص: 240

أئمة الهدى في الاستواء، وروي عن أم سلمة أم المؤمنين، وقال مثل ذلك غيرهم من العلماء في النزول، وكذلك القول في سائر الصفات، والله سبحانه وتعالى الموفق.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فأكون أول من يجوز بأمته)) حتى يقطع الجسر بأمته، وروي:((يجيز)) ، وهما لغتان، يقال: جزت الوادي وأجزته، وهما بمعنى.

وعن الأصمعي، قال: أجزته: قطعته، وجزته: مشيت عليه.

وقوله: ((منهم الموبق بعمله)) –أي: الهالك.

وقوله: ((ومنهم المخردل)) ، هو بالدال المهملة والمعجمة -: لغتان مشهورتان، والمعنى: المقطع، والمراد –والله أعلم -: أن منهم من يهلك فيقع في النار، ومنهم من تقطعه الكلاليب التي على جسر جهنم، ثم لا ينجو ولا يقع في النار.

وقيل: معناه أنه ينقطع عن النجاة واللحاق بالناجين.

والمقصود من تخريج الحديث بطوله في هذا الباب: أن أهل التوحيد لا تأكل النار منهم مواضع سجودهم، وذلك دليل على فضل السجود عند الله وعظمته، حيث حرّم على النار أن تأكل مواضع سجود أهل التوحيد.

واستدل بذلك بعض من يقول: إن تارك الصلاة كافر؛ فإنه تأكله النار كله، فلا يبقى حاله حال عصاة الموحدين.

ص: 241

وهذا فيمن لم يصلِ لله صلاة قط ظاهر.

وقوله: ((امتحشوا)) أي: احترقوا، وضبطت هذه الكلمة بفتح التاء والحاء. وفي بعض النسخ بضم التاء وكسر الحاء.

و ((الحبة)) –بكسر الحاء – قال الأصمعي: كل نبت له حب فاسم جميع ذلك الحب: الحبة.

وقال الفراء: الحبة: بذور البقل.

وقال أبو عمرو: الحبة نبت ينبت في الحشيش صغار.

وقال الكسائي: الحبة بذر الرياحين، وأحدها حبة، وأما الحنطة فهو الحب لا غير –يعني: بالفتح.

و ((الحميل)) : ما حمله السيل من كل شيء، فهو حميل بمعنى محمول، كقتيل بمعنى مقتول.

ويأتي الكلام على باقي الحديث في موضع آخر – أن شاء الله تعالى.

***

30 -

ص: 242

باب

يبدي ضبعيه ويجافي في السجود

ص: 243

807 -

ثنا يحيى بن بكير: حدثني بكر بن مضر، عن جعفر، عن ابن هرمز، عن عبد الله بن مالك بن بحينة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه.

وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة – نحوه.

((الضبع)) - بسكون الباء -: العضد. ويقال: الإبط.

وعن الأصمعي، قال: الضبعان ما بين الإبط إلى نصف العضد من أعلاه.

وابن هرمز، هو: عبد الرحمن الأعرج.

ورواية الليث بن سعد التي ذكرها تعليقاً، أسندها مسلم في – صحيحه - من رواية ابن وهب: أنا عمرو بن الحارث والليث بن سعد، كلاهما عن جعفر بهذا

الإسناد.

وفي رواية عمرو: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد يجنح في سجوده

ص: 243

حتى يرى وضح إبطيه)) .

وفي رواية الليث: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد فرج يديه عن إبطيه حتى إني لأرى بياض إبطيه)) .

وفي استحباب التجافي في السجود أحاديث كثيرة، لم يخرج البخاري منها غير هذا.

والقول باستحبابه قول جمهور العلماء، وذكر الترمذي أن العمل عندهم عليه، وهذا يشعر بأنه إجماع منهم.

ولكن روى نافع، عن ابن عمر، أنه كان إذا سجد ضم يديه إلى جنبيه ولم يفرجهما.

وروى عنه ابنه واقد بن عبد الله، أن أباه كان يفرج بين يديه.

وروى عنه آدم بن علي، أنه أمر بذلك.

وقد حمل بعضهم ما رواه نافع على حالة التضايق والازدحام، وقد يحمل على حالة إطالة السجود، وعلى ذلك حمله إلاوزاعي وغيره.

ص: 244

وروي عن ابن عمر، قال: أسجد كيف تيسر عليك.

ورخص ابن سيرين في الاعتماد بمرفقيه على ركبتيه.

وقال قيس بن سكن: كل ذلك قد كانوا يفعلون، كان بعضهم يضم، وبعضهم يجافي.

فان أطال السجود ولحقته مشقة بالتفريج، فله أن يعتمد بمرفقيه على ركبتيه.

وقد روى ابن عجلان، عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: أشتكى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشقة السجود عليهم إذا تفرجوا، فقال: ((استعينوا

بالركب)) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي –وهذا لفظه - وابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم.

وزاد هو والإمام أحمد: قال ابن عجلان: وذلك أن يضع مرفقيه على ركبتيه إذا طال السجود وأعيا.

ورواه الثوري وابن عيينة وغيرهما، عن سمي، عن النعمان بن أبي عياش، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.

والمرسل أصح عند البخاري وأبي حاتم الرازي والترمذي

ص: 245

والدارقطني وغيرهم.

وقد روي – أيضاً - عن زيد بن أسلم –مرسلاً.

ورخص فيه عمر بن عبد العزيز وإلاوزاعي ومالك في النافلة.

وكذلك قال بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي.

والمنصوص عن أحمد في رواية حرب أنه لا يفعل، بل يجافي.

ومتى كان التجافي يضر بمن يليه في الصف للزحام فإنه يضم إليه من جناحه -: قاله إلاوزاعي.

وهذا في حق الرجل، فأما المرأة فلا تتجافى بل تتضام، وعلى هذا أهل العلم – أيضاً -، وفيه أحاديث ضعيفة.

وخرّج أبو داود في ذلك حديثاً مرسلاً في ((مراسيله)) .

***

131 -

ص: 246

باب

يستقبل بأطراف رجليه القبلة

قاله أبو حميد، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

حديث أبي حميد، قد خرّجه البخاري فيما بعد، ولفظه: فإذا سجد وضع يديه، غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف رجليه القبلة، وسيأتي بتمامه في موضعه –إن شاء الله سبحانه وتعالى.

وعلقه البخاري –أيضاً - فيما سبق في ((باب: فضل استقبال القبلة)) وذكرنا هناك الأحاديث وإلاثار في استقبال القبلة بأصابع اليدين والرجلين في السجود، وأن ابن عمر كان يفعله، وكذلك الإمام أحمد، ونص عليه الشافعي.

وخالف فيه بعض أصحابه، وقالوا: يضع أصابع رجليه من غير تحامل عليها.

ورده عليه صاحب ((شرح المهذب)) ، وقال: هذا شاذ مردود مخالف للأحاديث الصحيحة، ولنص الشافعي.

وخرّج البيهقي من حديث البراء بن عازب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد فوضع يديه بإلارض استقبل بكفيه وأصابعه القبلة.

وفي رواية له –أيضاً -: وإذا سجد وجه أصابعه قبل القبلة

ص: 247

فتفلج.

وفي إلاسنادين مقال.

***

132 -

ص: 248

باب

إذا لم يتم سجوده

ص: 249

808 -

ثنا الصلت بن محمد: ثنا مهدي، عن واصل، عن أبي وائل، عن

حذيفة، أنه رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما قضى صلاته، قال له حذيفة: ما صليت – وأحسبه قال -: لو مت على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم.

قد تقدم هذا الحديث في ((باب: إذا لم يتم الركوع)) من وجه آخر عن

حذيفة، وفيه: لو مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمد صلى الله عليه وسلم من غير شك.

ويستدل بهذه الرواية على أن المراد بالفطرة السنة.

ومعنى إتمام الركوع والسجود: التمكن فيهما والطمأنينة. وسبق الكلام على ذلك.

***

133 -

ص: 249

باب

السجود على سبعة أعظم

ص: 250

809 -

حدثنا قبيصة: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعضاء، ولا يكف شعراً، ولا ثوباً: الجبهة، واليدين، والركبتين، والرجلين.

ص: 250

810 -

حدثنا مسلم بن إبراهيم: ثنا شعبة، عن عمرو، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((أُمرنا أن نسجد على سبعة أعظم، ولا نكف ثوباً، ولا شعراً)) .

811 -

ص: 250

حدثنا آدم: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن يزيد: قال البراء بن عازب – وهو غير كذوب -: كنا نصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال:((سمع الله لمن حمده)) . لم يحن أحد منا ظهره حتى يضع النبي صلى الله عليه وسلم جبهته على الأرض.

ص: 250

حديث البراء هذا، قد سبق في مواضع، وإنما خرجه هاهنا؛ لما فيه من ذكر سجود النبي صلى الله عليه وسلم على جبهته.

فأما حديث ابن عباس، فقد خرجه هاهنا من طريق سفيان وشعبة، كلاهما عن عمرو بن دينار، وفي حديث سفيان: ذكر الأعضاء وعددها.

وللحديث طرق عن طاوس، يأتي بعضها – إن شاء الله.

وله طرق عن ابن عباس.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعدده، أصحها: حديث ابن عباس هذا.

وروى عامر بن سعد، عن العباس بن عبد المطلب، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

((إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب: وجهه، وكفاه، وركبتاه، وقدماه)) .

وقد عزاه غير واحد من الحفاظ إلى ((صحيح مسلم)) ، ولم نجده فيه.

وصححه الترمذي وأبو حاتم الرازي.

وقد روي هذا المعنى عن عمر وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة من قولهم.

قال أبو هريرة: يسجد من الإنسان سبعة:

ص: 251

وجهه، ويداه، وركبتاه، وأطراف أصابعة، كل ذلك بمنزلة الوجه، لا يرفع شيئا من ذلك.

خرّجه الجوز جاني.

وقال ابن سيرين: كانوا يستحبون السجود على هذه السبعة.

خرّجه ابن أبي شيبة.

وقال الترمذي: عليه العمل عند أهل العلم.

ولا خلاف في أن السجود على هذه الأعضاء هو السجود الكامل، واختلفوا في الواجب من ذلك:

فقالت طائفة: يجب السجود على جميعها، وهو أحد القولين للشافعي، ورجحه كثير من أصحابه، والصحيح المشهور عن أحمد، وعليه أصحابه، وأكثرهم لم يحك عنه فيه خلافا، وهو قول مالك وإسحاق وزفر، وحكى عن طاوس.

ويدل على هذا القول: هذه الأحاديث الصحيحة بالامر بالسجود على هذه الأعضاء كلها، والامر للوجوب.

وقالت طائفة: إنما يجب بالجبهة فقط، ولا يجب بغيرها، وهو القول الثاني للشافعي، وحكي رواية عن أحمد، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه.

والمنقول عن أحمد فيمن سجد ورفع أطراف أصابع قدميه من الأرض: أنه ناقص الصلاة، وتوقف في الإعادة على من صلى

ص: 252

وسجد وقد رفع إحدى رجليه، وقال: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أسجد على سبعة أعظم)) .

ورأى مسروق رجلاً ساجداً قد رفع رجليه أو إحداهما، فقال: أن هذا لم يتم صلاته.

وروي عن أحمد، أنه صلى وسجد ووضع ثلاث أصابع رجليه على الأرض.

قال القاضي أبو يعلي: ظاهر هذا: أنه يجزئه، يضع بعض أصابع رجليه.

ونقل إسماعيل بن سعيد، عن أحمد: إذا وضع من يديه على الأرض قدر الجبهة أجزأه.

قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر: وكذا من الرجلين.

وقال القاضي أبو يعلى: يجزئه أن يضع من يديه وجبهته على الأرض شيئاً، وإن قل.

ومن أصحابنا من حكى الإجماع على ذلك.

وهذا مخالف لرواية الشالنجي؛ فانها تدل على أنه لا يجزئ دون وضع الجبهة، وقدرها من الكفين.

وحكي عن ابن حامد من أصحابنا: أنه يجب استيعاب الكفين

ص: 253

بالسجود عليهما، وهو قول أبي خيثمة بن حرب.

وقال داود بن سلمان الهاشمي: إذا وضع أكثر كفيه أجزأه.

ومذهب الشافعي الذي عليه أكثر أصحابه، ونص عليه في ((إلام)) : أنه لو سجد على بعض جبهته كره، وأجزأه.

ولأصحابه وجه: لا يجزئه حتى يسجد على جميع الجبهة.

***

134 -

ص: 254

باب

السجود على الأنف

ص: 255

812 -

حدثنا معلى بن أسد: ثنا وهيب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة)) – وأشار بيده على أنفه – ((واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين، ولا نكفت الثياب والشعر)) .

معنى ((نكفت)) –أي: نضم ونجمع، ومنه قوله تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ إلَارْضَ كِفَاتاً - أَحْيَاءً وأَمْوَاتاً} [المرسلات:25، 26] أي: نكفتهم ونضمهم ونجمعهم وهم أحياء على ظهرها، وإذا ماتوا ففي بطنها.

وفي هذه الرواية: أنه لما ذكر الجبهة أشار بيده إلى أنفه، وقد خرّجه مسلم من حديث وهيب، وخرّجه – أيضاً - من طريق ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((أمرت أن أسجد على سبع، ولا أكفت الشعر ولا الثياب: الجبهة وإلانف واليدين، والركبتين، والقدمين)) .

ص: 255

واستدل بهذا من يقول: أنه يجب السجود على الأنف مع الجبهة، وهو قول مالك وأحمد –في رواية عنهما – وإسحاق، وأختار هذه الرواية عن أحمد أبو بكر عبد العزيز وغيره من أصحابنا –وأبي خيثمة وأبي بكر بن أبي شيبة.

وحكي قولاً للشافعي، رجحه بعض المتأخرين من أصحابه، إلا أنه خصه بحال الذكر.

وروي معناه عن طاوس والنخعي وسعيد بن جبير.

وروي عن ابن عمر، قال: السجود على الأنف تحقيق السجود.

وسئل طاوس: الأنف من الجبين؟ قال: هو خيره.

وروى عاصم، عن عكرمة، قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي لا يمس أنفه الأرض، قال:((لا تقبل صلاة لا يمس فيها الأنف ما يمس الجبين)) .

وخرّجه الدارقطني والحاكم –موصولاً -، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 256

وصحح الحاكم وصله، وصحح إلاكثرون إرساله، منهم: أبو داود في ((مراسيله)) والترمذي في ((علله)) والدارقطني وغيرهم.

وإلى ذلك يميل الإمام أحمد، وهو مرسل حسن.

ولو اقتصر على السجود على أنفه دون جبهته، لم يجزئه عند أحد من العلماء ممن أوجب السجود على الأنف، غير أبي حنيفة، وهي رواية عن الثوري، رواها عنه

حسان بن إبراهيم.

ص: 257

وقال كثير من العلماء: السجود على الأنف مستحب غير واجب، وروي عن الحسن والشعبي والقاسم وسالم، وهو قول الشافعي وسفيان وأحمد –في الرواية الثانية عنهما.

وحمل من قال بذلك حديث ابن عباس على الاستحباب دون الوجوب، قالوا: لأنه عد الأعضاء المأمور بالسجود عليها سبعاً، ولو كان الأنف معها لكانت ثمانياً.

وهذا مردود، فان الأنف من الجبهة، كما قال طاوس: هو خيرها.

وروي عنه، أنه كان يعد الأنف والجبهة واحداً.

فان قيل: فالجبهة لا يجب السجود على جميعها بإلاجماع، ولو وجب السجود على الأنف لوجب استيعابها بالسجود عليها.

قيل: هذا الإجماع غير صحيح، وقد سبق قول من قال بوجوب استيعابها بالسجود عليها.

ولكن؛ قد قيل: إن ذكر الأنف منها إنما هوَ من كلام طاوس -: قاله البيهقي وغيره.

ص: 258

وفي ((سنن ابن ماجه)) من رواية ابن عيينة، عن ابن طاوس هذا الحديث، وفيه: قال ابن طاوس: وكان أبي يقول: الركبتين واليدين والقدمين، وكان يعد الجبهة وإلانف واحداً.

كذا خرّجه عن هشام بن عمار، عن سفيان.

وخرّجه النسائي من طريق سفيان –أيضاً -، وعنده: قال سفيان: قال لنا ابن طاوس: وضع يديه على جبهته، وأمرها على أنفه، وقال: هذا واحد.

ورواه – أيضاً – الشافعي وابن المديني، عن ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه –بمعناه.

خرّجه البيهقي.

وقال: في حديث سفيان ما دل على أن ذكر الأنف في الحديث من تفسير

طاوس.

وخرّجه - أيضاً - من طريق إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد منه على سبع، قال ابن ميسرة: فقلت لطاوس: أرابت الأنف؟ قالَ: هوَ خيره.

وأيضاً؛ فقد قال: ((سبعة أعظم)) ، وطرف الأنف المسجود عليه ليس عظماً، فعلم أنه تابع لعظم الجبهة، وليس عضواً مستقلاً.

فلو تعذر السجود على الجبهة لعذر، وقدر على السجود على أنفه،

ص: 259

فهل يلزمه عند من لا يوجب السجود عليه؟ فيه قولان:

أحدهما: نعم، وينتقل الفرض إليه، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه والشافعي.

والثاني: لا ينتقل الفرض إليه، بل يومي بجبهته، ولا يلزمه السجود على أنفه، وهو قول مالك وأصحابنا، كما لا ينتقل فرض غسل اليدين والرجلين في الوضوء إلى موضع الحلية، إذا قدر على غسله، وعجز عن غسل اليدين والرجلين.

***

135 -

ص: 260

باب

السجود على الأنف في الطين

ص: 261

813 -

حدثنا موسى: ثنا همام، عن يحيى، عن أبي سلمة، قال: انطلقت إلى أبي سعيد الخدري، فقلت: إلا تخرج بنا إلى النخل نتحدث؟ فخرج، فقلت: حدثني ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر؟ فقال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر الأول من رمضان، واعتكفنا معه، فأتاه جبريل، فقال:((أن الذي تطلب أمامك)) ، فأعتكف العشر الأوسط، فاعتكفنا معه، فأتاه جبريل، فقال:((أن الذي تطلب أمامك)) ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً صبيحة عشرين من رمضان، فقال:((من كان أعتكف مع النبي صلى الله عليه وسلم فليرجع؛ فأني أريت ليلة القدر وإني نسيتها، وإنها في العشر الأواخر في وتر، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء)) ، وكان سقف المسجد عريش النخل، وما نرى

ص: 261

السماء شيئاً، فجاءت قزعة، فامطرنا، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرنبته، تصديق رؤياه)) .

قال أبو عبد الله: كان الحميدي يحتج بهذا الحديث، إلا يمسح الجبهة في الصلاة، بل يمسحها بعد الصلاة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رُئي الماء في أرنبته وجبهته بعد ما صلى.

قد خرّج البخاري هذا الحديث في أواخر ((الصيام)) من ((كتابه)) هذا من

طرق، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد، ليس في شيء منها ذكر اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأول، إنما فيها اعتكافه في العشر الأوسط، ثم العشر الأواخر، ولم يخرج اعتكافه في العشر الأول في غير هذه الرواية هاهنا.

وقد خرّج ذلك مسلم في ((صحيحه)) من رواية عمارة بن غزية، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد –أيضاً.

ومقصود البخاري بهذا الحديث هاهنا: ذكر سجود النبي صلى الله عليه وسلم على جبهته وأرنبة أنفه، وأنه سجد عليهما في الطين.

وأرنبة الأنف: طرفه.

ص: 262

وقد سبق ذكر السجود في الماء والطين، وما للعلماء في ذلك من الاختلاف والتفصيل، عند ذكر البخاري، عن ابن عمر، أنه صلى على الثلج في ((باب: الصلاة في المنبر والسطوح والخشب)) ، فلا حاجة إلى إعادته هاهنا.

وأما ما ذكره عن الحميدي، فقد بوّب عليه البخاري باباً منفرداً، وعاد فيه الحديث مختصرا، ويأتي في موضعه –إن شاء الله سبحانه وتعالى.

***

136 -

ص: 263

باب

عقد الثياب وشدها

ومن ضم إليه ثوبه إذا خاف أن تنكشف عورته

ص: 264

814 -

حدثنا محمد بن كثير: أنا سفيان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: كان الناس يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم عاقدي أزرهم من الصغر على رقابهم، فقيل للنساء: لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوساً.

قد خرّج البخاري هذا الحديث فيما سبق في ((باب: إذا كان الثوب ضيقاً)) .

ومقصودة بتخريجه في هذا الباب: أن عقد الثياب وشدها وضمها في الصلاة إذا كان لضيق الثوب أو تخرقه خشية انكشاف العورة منه، فإنه جائز غير مكروه، فإذا كان عليه إزار صغير، فعقده على منكبه ليستر به منكبه وعورته فهو حسن.

واختلفت الرواية عن أحمد في كراهة شد الوسط في الصلاة، فكرهه في رواية، وقال: هو تشبه بأهل الكتاب، ورخص فيه في رواية.

ص: 264

فمن الأصحاب من قال: عنه في كراهته روايتان.

ومنهم من قال: هما منزلان على حالين: فإن كان يشبه شد الزنار كره، وإلا لم يكره، بل يستحب، خصوصاً لمن ليس عليه إزار ولا سراويل؛ لأنه أستر لعورته.

وقد نص أحمد على التفريق بينهما، وقال إسحاق بن هاني في ((مسائله)) : سألت أحمد عن الرجل يصلي مشدود الوسط؟ فقال: هو عندي أسهل، إذا كان يريد بشد وسطه أن لا يتترب ثوبه، فلا يصلي مشدود الوسط إلا أن يكون لعمل.

ومعنى هذه الرواية: إن شد وسطه خشية أن يصيبه التراب في سجوده كره له ذلك؛ لمّا فيهِ من التكبر، فان ترتيب المصلى بدنه وثيابه من الخشوع والتواضع لله

عز وجل، وان كان شده لغير ذلك من عمل يعمله لم يكره.

وفهم طائفة من أصحابنا من كلام أحمد عكس هذا، ولا وجه لذلك.

وقال الشعبي: كان يقال: شد حقوك في الصلاة ولو بعقال.

وقال يزيد بن الأصم وإبراهيم النخعي شد حقوك ولو بعقال.

وروى شعبة، عن يزيد بن خمير، عن مولى لقريش، قال: سمعت أبا هريرة يحدث معاوية، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل حتى

ص: 265

يحتزم.

خرّجه الإمام أحمد.

وخرّجه أبو داود، ولفظه: نهى أن يصلي الرجل بغير حزام واستدل به أحمد على أنه لا يكره شد الوسط في الصلاة.

***

127 -

ص: 266

باب

لا يكف شعراً

ص: 267

815 -

حدثنا أبو اليمان: نا حماد –هو ابن زيد -، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعظم، ولا يكف

ثوبه، ولا شعره.

كف الشعر المنهي عنه، يكون تارة بعقصه، وتاره بإمساكه عن أن يقع على الأرض في سجوده، وكله منهي عنه.

أما الأول:

ففي ((صحيح مسلم)) عن كريب، أن ابن عباس رأى عبد الله بن الحارث يصلي ورأسه معقوص من ورائه، فجعل يحله، وأقر له الأخر، فلما انصرف أقبل إلى ابن عباس، فقال: مالك ورأسي؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف)) .

وخرّج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان في ((

ص: 267

صحيحه)) من حديث أبي رافع، أنه مر بالحسن بن علي وهو يصلي، وقد عقص ضفيرته في قفاه، فحلها، فالتفت أليه الحسن مغضبا، فقال: أقبل على صلاتك ولا تغضب، فإني سمعت

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ذلك كفل الشيطان)) .

وقال الترمذي: حديث حسن.

وخرّجه الإمام أحمد وابن ماجه من وجه آخر، عن أبي رافع، أنه رأى الحسن بن علي يصلي وقد عقص شعره، فاطلقه – أو نهى عنه -، وقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل وهو عاقص شعره.

وفي باب أحاديث أخر.

وممن نهى عن الصلاة مع عقص الشعر: علي وابن مسعود وأبو هريرة، وقالا: إن الشعر يستجد مع صاحبه.

زاد ابن مسعود: وله بكل شعرة حسنة.

وفي رواية: أن رجلاً قال لابن مسعود: إني أخاف أن يتترب، قال: تربه خير لك.

وعن عثمان بن عفان، قال: مثل الذي يصلي وقد عقص شعره مثل الذي يصلي وهو مكتوف.

وقطع حذيفة ضفيرة ابنه لما رآه يصلي وهو معقوص.

ص: 268

وأما الثاني:

فقال ابن سيرين: نبئت أن عمر بن الخطاب مر على رجل قد طوّل شعره، كلما سجد قال هكذا، فرفع شعره بظهور كفيه، فضربه، وقال: إذا طول أحدكم فليتركه يسجد معه.

وروى عبد الله بن محرر، عن قتادة، عن أنس، قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يسجد وهو يقول بشعره هكذا بكفه بكفه عن التراب، فقال:((اللهم، قبح شعره)) قال: فسقط.

خرّجه ابن عدي.

وابن محرر، ضعيف جداً من قبل حفظه، وكان شيخاً صالحاً.

قال الإمام أحمد: إذا صلى فلا يرفعن ثوبه ولا شعره ولا شيئاً من ذلك؛ لأنه يسجد.

وكف الشعر مكروه كراهة تنزيه عند أكثر الفقهاء، وحرمه طائفة من أهل الظاهر وغيرهم، وأختاره ابن جرير الطبري، وقال: لا إعادة على من فعله، لإجماع الحجة وراثة عن نبيها –عليه السلام أن لا إعادة عليه.

وحكى ابن المنذر الإعادة منه عن الحسن.

ورخص فيه مالك إذا كان ذلك قبل الصلاة، لمعنى غير الصلاة، وسنذكره –إن شاء الله سبحانه وتعالى.

* * *

138 -

ص: 269

باب

لا يكف ثوبه في الصلاة

ص: 270

816 -

حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا أبو عوانة، عن عمرو، عن طاوس عن أبن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، ولا أكف شعراً ولا ثوباً)) .

ظاهر تبويب البخاري: يدل على أن النهي عنده عن كف الثياب مختص بفعل ذلك في الصلاة نفسها، فلو كفها قبل الصلاة، ثم صلى على تلك الحال لم يكن منهياً عنه.

وهذا قول مالك، قال: إن كان يعمل عملاً قبل الصلاة فشّمر كمه أو ذيله، أو جمع شعره لذلك فلا بأس أن يصلي كذلك، كما لو كان ذلك هيئته ولباسه، وإن فعل ذلك للصلاة، وإن يصون ثوبه وشعره عن أن تصيبها الأرض كره؛ لأن فيه ضرباً من التكبر وترك الخشوع.

قال بعض أصحابنا: وقد أومأ إلى ذلك أحمد في رواية محمد بن الحكم، فقال: قلت لأحمد: الرجل يقبض ثوبه من التراب إذا ركع وسجد؛ لئلا يصيب ثوبه؟ قال: لا؛ هذا يشغله عن الصَّلاة.

ص: 270

قلت: ليس في هذه الرواية دليل على اختصاص الكراهة بهذه الصورة، إنما بها تعليل الكراهة في الصَّلاة بالشغل عنها، وقد تعلل كراهة استدامة ذلك في الصلاة بعلة أخرى، وهي سجود الشعر والثياب، كما صّرح به في رواية أخرى، وقد يعلل الحكم الواحد بعلتين، فكراهة الكف في الصلاة له علتان، وكراهة الكف قبل الصلاة واستدامته لها معلل بإحداهما.

وأكثر العلماء على الكراهة في الحالين، ومنهم: إلاوزاعي والليث وأبو حنيفة والشافعي، وقد سبق عن جماعة من الصحابة ما يدل عليه، منهم: عمر وعثمان وابن مسعود وحذيفة وابن عباس وأبو رافع وغيرهم.

وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى يحل شعره وينشره إذا أراد الصلاة، ويعقصه بعد ذلك.

وقال عطاء: لا يكف الشعر عن الأرض.

وظاهر تبويب البخاري: يدل على أن كف الشعر في الصلاة مكروه، سواء فعله في الصلاة أو قبلها ثم صلى كذلك، بخلاف كف الثوب، فإنه إنما يكره فعله في الصَّلاة خاصة؛ لما فيه من العبث.

والجمهور على التسوية بينهما.

وقد كره أحمد كف الخف في الصلاة، وجعلها من كف الثياب.

* * *

139 -

ص: 271

باب

التسبيح والدعاء في السجود

ص: 272

817 -

حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن سفيان، قال: حدثني منصور، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم أغفر لي)) يتأول القرآن.

- قد تقدم هذا الحديث في ((باب: الدعاء في الركوع)) من حديث شعبة، عن منصور –بنحوه.

وفي هذه الرواية: زيادة ذكر الإكثار.

وفيها –أيضاً - أنه يتأول القرآن، والمراد: أنه يمتثل ما أمره الله به بقوله:

{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] .

فتأويل القرآن، تارة يراد به تفسير معناه بالقول، وتارة يراد به امتثال أوامره بالفعل.

وبهذا يقال: من ارتكب شيئاً من الرخص لتأويل سائغ أو غيره: أنه فعله

متأولاً.

وقد سبق ذكر حكم التسبيح في السجود والدعاء فيه ((في باب: الدعاء في الركوع)) .

* * *

40 -

ص: 272

باب

المكث بين السجدتين

فيه ثلاثة أحاديث:

الأول:

818 -

ص: 273

حدثنا أبو النعمان: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، أن مالك بن الحويرث قال لأصحابه: إلا أنبئكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم؟ - قالَ: وذلك في غير حين صلاة -، فقام، ثُمَّ ركع فكبرّ، ثُمَّ رفع رأسه، فقام هنية، ثُمَّ سجد، ثُمَّ رفع رأسه

هنية، فصلى صلاة عمرو بن سلمة، شيخنا هذا.

قال أيوب: كان يفعل شيئاً لم أرهم يفعلونه، كان يقعد في الثالثة أو الرابعة.

ص: 273

819 -

قال: فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فاقمنا عنده، فقال:((لو رجعتم إلى أهاليكم، صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم)) .

قد سبق هذا الحديث في مواضع، تاماً ومختصراً.

والمراد منه في

ص: 273

هذا الباب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد رفع رأسه هنية، والمراد: أنه يجلس بين السجدتين هنية، ثم يسجد السجدة الثانية.

الحديث الثاني:

ص: 274

820 -

ثنا محمد بن عبد الرحيم: ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله الزبيري: ثنا مسعر، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء، قال: كان سجود النبي صلى الله عليه وسلم وركوعه وقعوده بين السجدتين قريباً من السواء.

الحديث الثالث:

821 -

ص: 274

ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: اني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا.

قال ثابت: كان أنس بن مالك يصنع شيئاً لم أركم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل: قد نسي، وبين السجدتين حتى يقول القائل: قد نسي.

وقد تقدمت هذه الأحاديث الثلاثة في ((باب: الرفع من الركوع)) .

وحكم الرفع من السجود والجلوس بين السجدتين حكم الرفع من الركوع، على ما سبق ذكره.

وذكرنا هنالك: أن تطويل النبي صلى الله عليه وسلم لذلك في حديث أنس إنما كان حين يطيل القيام والركوع والسجود،

ص: 274

وأن تخفيفه كما في حديث مالك بن الحويرث كان إذا لم يطل القيام والركوع والسجود، وأن حديث البراء بن عازب يفسر ذلك، حيث قال: كان سجوده وركوعه وقعوده بين السجدتين قريباً من السواء.

ولم يخرج البخاري في الدعاء والذكر بين السجدتين شيئاً؛ فإنه ليس في ذلك شيء على شرطه.

وفيه: عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين:((اللهم، أغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني)) .

خرّجه أبو داود.

والترمذي؛ وعنده: ((وأجبرني)) بدل: ((عافني)) .

وابن ماجه، وعنده:((وارفعني)) بدل: ((اهدني)) ، وعنده: أنه كان يقوله في صلاة الليل.

وفي إسناده كامل بن العلاء؛ وثقه ابن معين وغيره، وقال النسائي: ليس بالقوي، وتكلم فيه غير واحد.

وقد اختلف عليه في وصله وإرساله.

ص: 275

وقد روي هذا من حديث بريدة - مرفوعاً -، وإسناده ضعيف جداً.

وروي عن علي بن أبي طالب –موقوفاً عليه -، وعن المقدام بن معدي كرب.

وخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث حذيفة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين:((رب اغفر لي)) .

واستحب الإمام أحمد ما في حديث حذيفة، فإنه أصح عنده من حديث ابن عباس، وقال: يقول: ((رب اغفر لي)) ثلاث مرات، أو ما شاء.

ومن أصحابه من قال: يقولها مرتين فقط.

ومنهم من قال: يقولها ثلاثاً كتسبيح الركوع والسجود، وحمل حديث حذيفة أنه كان يكرر ذلك؛ فإن في حديثه: أن جلوسه بين السجدتين كان نحوا من سجوده.

وروي عن أكثر العلماء استحباب ما في حديث ابن عباس، منهم: مكحول والثوري وأصحاب الشافعي.

وقال إسحاق: كله جائز، وعنده: إن قال ما في حديث ابن عباس لم يكرره، وإن قال:((رب اغفر لي)) كرره ثلاثاً.

وحكم هذا الذكر بين السجدتين عند أكثر أصحاب أحمد حكم

ص: 276

التسبيح في الركوع والسجود، وأنه واجب تبطل الصلاة بتركه عمداً، ويسجد لسهوه.

وروي عن أحمد، أنه ليس بواجب:

قال حرب: مذهب أحمد: أنه إن قال جاز، وإن لم يقل جاز، والأمر عنده واسع.

وكذا ذكر أبو بكر الخلال، أن هذا مذهب أحمد.

وهذا قول جمهور العلماء.

وحكي عن أبي حنيفة، أنه ليس بين السجدتين ذكر مشروع بالكلية.

وعن بعض أصحابه، أنه يسبح فيه.

* * *

141 -

ص: 277

باب

لا يفترش ذراعيه في السجود

وقال أبو حمُيد: سجد النبي صلى الله عليه وسلم، ووضع يديه، غير مفترش، ولا قابضهما.

حديث أبي حميد، قد خرّجه البخاري، وسيأتي بتمامه قريباً – إن شاء الله تعالى.

ص: 278

822 -

حدثنا محمد بن بشار: ثنا محمد بن جعفر: ثنا شعبة، قال: سمعت قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب)) .

في هذا الإسناد: التصريح بالسماع من أوله إلى قتادة، وليس فيه تصريح بسماع قتادة له من أنس، وقتادة مدلس كما قد عرف.

وخرّجه الترمذي من طريق أبي داود الطيالسي، عن شعبة، عن قتادة: سمعت أنساً.

وكذلك خرّجه النسائي من طريق خالد الواسطي، عن شعبة.

ص: 278

فصح اتصاله كله. ولله الحمد.

وفي النهي عن افتراش الذراعين في السجود أحاديث أخر:

وقد خرج مسلم من حديث عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع.

ومن حديث البراء، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا سجدت فضع يديك، وارفع مرفقيك)) .

وقد ذكر الترمذي أن العمل على هذا عند أهل العلم، يختارون الاعتدال في السجود.

وهذا يشعر بحكاية الإجماع عليه، وهو قول جمهور العلماء، وروي ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر.

وفي ((المسند)) عن شعبة مولى ابن عباس، قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: أن مولاك إذا سجد وضع رأسه وذراعيه وصدره بالارض، فقال له ابن عباس: ما يحملك على ما تصنع؟ قال: التواضع. قال: هكذا ربضة الكلب، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد رئي بياض إبطيه.

ص: 279

ولكن؛ روي عن ابن مسعود، أنه كان يفرش ذراعيه.

قال الإمام أحمد – في رواية ابنه عبد الله -: كان ابن مسعود يذهب إلى ثلاثة أشياء: إلى التطبيق، وإلى افتراش الذراعين، وإذا كانوا يقوم في وسطهم، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجافي في السجود، ولم تبلغه هذه الآثار.

وروى ابن أبي شيبة منة غير وجه، عن ابن مسعود، أنه قال: اسجدوا حتى بالمرفق.

وبإسناده، عن الحكم بن الأعرج، قال: أخبرني من رأى أبا ذر مسوداً ما بين رصغه إلى مرفقه.

وقوله: ((اعتدلوا في السجود)) يريد به: اعتدال الظهر فيه، وذلك لا يكون مع افتراش الذراعين، إنما يكون مع التجافي.

وقول أبي حميد: ((ولا قابضهما)) ، يعني: أنه بسط كفيه، ولم يقبضهما.

* * *

142 -

ص: 280

باب

من استوى قاعداً في وتر من صلاته ثم نهض

ص: 281

832 -

ثنا محمد بن الصباح: ثنا هشيم: أنا خالد، عن أبي قلابة: انا مالك بن الحويرث الليثي، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً.

وقد خرّجه في الباب الأتي من طريق أيوب، عن أبي قلابة، عن مالك، وفي حديثه: أنه جلس واعتمد على الأرض، ثم قام.

وقد سبق من وجه آخر بهذا الإسناد، وفيه: كان يقعد في الثالثة أو الرابعة.

وهذا لا معنى له؛ لأن قعوده في الرابعة لابد منه للتشهد.

وروى هذا الحديث أنيس بن سوار الحنفي، قال: حدثني أبي، قال: كنت مع أبي قلابة، فجاءه رجل من بني ليث، يقال له: مالك بن الحويرث، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إلا أريكم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 281

يصلي؟ قلنا: بلى، فصلى لنا ركعتين، فأوجز فيهما.

قال أبي: فاختلفت أنا وأبو قلابة، قال أحدنا: لزق بالارض، وقال الأخر: تجافى.

خرّجه الخلال في ((كتاب العلل)) .

وقال الإمام أحمد في حديث مالك بن الحويرث في الاستواء إذا رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الأولى، قال: هو صحيح، إسناده صحيح.

وقال –أيضاً -: ليس لهذا الحديث ثان.

يعني: أنه لم ترو هذه الجلسة في غير الحديث.

وهذا يدل على أن ما روي فيه هذه الجلسة من الحديث غير حديث مالك بن الحويرث، فانه غير محفوظ، فإنها قد رويت في حديث أبي حميد وأصحابه في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.

خرّجه الإمام أحمد وابن ماجه.

وذكر بعضهم أنه خرّجه أبو داود والترمذي، وإنما خرّجا أصل الحديث، ولم نجد في ((كتابيهما)) هذه اللفظة.

ص: 282

والظاهر –والله أعلم -: إنها وهم من بعض الرواة، كرر فيه ذكر الجلوس بين السجدتين غلطاً.

وبعضهم ذكر سجوده، ثم جلوسه، ثم ذكر أنه نهض.

كذا في رواية الترمذي وغيره.

فظن بعضهم، أنه نهض عن جلوسٍ، وليس كذلك، إنما المراد بذلك الجلوس: جلوسه بين السجدتين، ولم يذكر صفة الجلسة الثانية لاستغنائه عنها بصفة الجلسة

الأولى.

وقد خرج أبو داود حديث أبي حميد وأصحابه من وجه آخر، وفيه: أنه

سجد، ثم جلس فتورك، ثم سجد، ثم كبر فقام ولم يتورك.

وهذه الرواية صريحة في أنه لم يجلس بعد السجدة الثانية.

ويدل عليه: أن طائفة من الحفاظ ذكروا أن حديث أبي حميد ليس فيه ذكر هذه الجلسة.

واستدل بعضهم –أيضاً - بالحديث الذي خرّجه البخاري في ((صحيحه)) هذا في ((كتاب الاستئذان)) و ((أبواب السلام)) في ((باب من رد فقال: عليك السلام)) ، خرج فيه حديث المسيء في صلاته، من رواية ابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد المقبري، عن أبي

ص: 283

هريرة، أن رجلاً دخل المسجد فصلى، ثم جاء فسلم - فذكر الحديث بطوله، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم أقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم أسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)) .

قال: وقال أبو أسامة في الأخير: ((حتى تستوي قائماً)) .

يعني: أنه ذكر بدل الجلوس: القيام.

ثم خرّج من حديث يحيى القطان، عن عبيد الله، عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ثم ارفع حتى تطمئن جالساً)) .

يعني: أنه وافق ابن نمير في ذكر الجلوس.

فهذه اللفظة قد اختلف فيها في حديث أبي هريرة هذا، فمن الرواة من ذكر أنه أمره بالجلوس بعد السجدتين، ومنهم من ذكر أنه أمره بالقيام بعدهما، وهذا هو ألاشه؛ فإن هذا الحديث لم يذكر أحد فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه شيئاً من سنن الصلاة المتفق عليها، فكيف يكون قد أمره بهذه الجلسة؟ هذا بعيد جداً.

ثم وجدت البيهقي قد ذكر هذا، وذكر أن أبا أسامة اختلف عليه في ذكر هذه الجلسة الثانية بعد السجدتين. قال: والصحيح

ص: 284

عنه: أنه قال بعد ذكر السجدتين: ((ثم ارفع حتى تستوي قائماً)) .

قال: وقد رواه البخاري في ((صحيحه)) عن إسحاق بن منصور، عن أبي أسامة – وذكر رواية ابن نمير، ولم يذكر تخريج البخاري لها، ولم يذكر يحيى بن سعيد في روايته السجود الثاني، ولا ما بعده من القعود أو القيام.

قال: والقيام أشبه بما سيق الخبر لأجله من عد الأركان دون السنن. والله أعلم.

قلت: وهذا يدل على أن ذكر الجلسة الثانية غير محفوظة عن يحيى.

وفي حديث يحيى بن خلاد الزرقي، عن أبيه، عن عمه رفاعة بن رافع، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه علم المسيء في صلاته، وقال له بعد أن أمره بالسجود، ثم بالقعود، ثم بالسجود، فقال له:((ثم قم)) .

وخرّجه الإمام أحمد بهذا اللفظ.

واستدل به على أنه لا يجلس قبل قيامه.

وخرّجه الترمذي –أيضاً -، وحسنه.

مع أن حديث رفاعة هذا فيه

ص: 285

تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المسيء أشياء من مسنونات الصلاة.

وقد روي في حديث رفاعة هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((ثم انهض قبل أن تستوي قاعداً)) .

خرّجه الحافظ أبو محمد الحسن بن علي الخلال.

ولكن إسناده ضعيف.

وخرج الإمام أحمد من حديث شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، أن أبا مالك الأشعري جمع قومه، فقال: اجتمعوا أعلمكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فذكر

الحديث، وفيه: أنه صلى بهم، وذكر صفة صلاته، وقال فيها: ثم كبرّ وخر ساجداً، ثم كبر فرفع رأسه، ثم كبر فسجد، ثم كبر فانتهض قائماً، فلما قضى صلاته قال: احفظوا؛ فإنها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وخرج أبو داود بعض الحديث، ولم يتمه.

وفي جلسة الاستراحة: حديث عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه، قال: إذا رفع أحدكم رأسه من السجد الثانية فليلزق اليتيه بالارض، ولا يفعل كما تفعل الإبل؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((ذَلِكَ توقير الصَّلاة)) .

خرّجه العقيلي من رواية أبي خالد القرشي، عن علي بن الحزور، عن ألاصبغ بن نباته، عن علي.

ص: 286

وهذا إسناد ساقط، والظاهر: أن الحديث موضوع، وأبو خالد، الظاهر: أنه عمرو بن خالد الواسطي، كذاب مشهور بالكذب، وعلي بن الحزور، قال ابن معين: لا يحل لأحد أن يروي عنه، وإلاصبغ بن نباته، ضعيف جداً.

وهذه الجلسة تسمى جلسة الاستراحة، وأكثر الأحاديث ليس فيها ذكر شيء من ذلك، كذا قاله الإمام أحمد وغيره.

وقد اختلف العلماء في استحبابها في الصلاة:

فقالت طائفة: هي مستحبة. وهو قول حماد بن زيد والشافعي –في أشهر قوليه - وأحمد –في رواية عنه، ذكر الخلال: أن قوله استقر عليها، واختارها الخلال وصاحبة أبو بكر بن جعفر.

وقال إلاكثرون: هي غير مستحبة، بل المستحب إذا رفع رأسه من السجدة الثانية أن ينهض قائماً، حكاه أحمد عن عمر وعلي وابن مسعود، وذكره ابن المنذر عن ابن عباس.

وذكر بإسناده، عن النعمان بن أبي عياش، قال: أدركت

ص: 287

غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة – أول ركعة والثالثة – قام كما هو ولم يجلس.

وروي - أيضاً - عن أبي ريحانة صاحب النبي صلى الله عليه وسلم.

وروي معناه عن ابن عمر – أيضاً.

خرجهما حرب الكرماني.

وقال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم.

وممن قال ذلك: عبادة بن نسي وأبو الزناد والنخعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي – في أحد قوليه – وأحمد – في المشهور من مذهبه عند عامة أصحابه.

ومن أصحابنا وأصحاب الشافعي من قال: هي مستحبة لمن كبر وثقل بدنه؛ لأنه يشق عليه النهوض معتمدا على ركبته من غير جلسة.

وحمل أبو إسحاق المروزي القولين للشافعي على اختلاف حالين، لا على اختلاف قولين، وحملوا حديث مالك بن الحويرث على مثل ذلك، وان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقعد أحيانا لمّا كبر وثقل بدنه؛ فإن وفود العرب إنما وفدت على النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في آخر

عمره.

ويشهد لذلك، أن أكابر الصحابة المختصين بالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يفعلون ذلك في صلاتهم، فدل على أنهم علموا أن ذلك ليس

ص: 288

من سنن الصلاة مطلقاً.

وروى حرب الكرماني، عن إسحاق بن راهويه روايتين:

أحداهما: تستحب جلسة الاستراحة لكل أحد.

والثانية: لا تستحب إلا لمن عجز عن النهوض عن صدر قدميه.

وهي رواية ابن منصور، عن إسحاق –أيضاً.

ومن لم يستحب هذا الجلوس بالكلية، قال: إنه من الأفعال المباحة التي تفعل في الصلاة للحاجة إليها، كالتروح لكرب شديد، ودفع المؤذي، ونحو ذلك مما ليس بمسنون، وإنما هو مباح.

* * *

143 -

ص: 289

باب

كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة

ص: 290

824 -

حدثنا معلى بن أسد: حدثنا وهيب، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: جاءنا مالك بن الحويرث، فصلى بنا في مسجدنا هذا، فقال: إني لأصلي بكم ولا أريد

الصلاة، لكني أريد أن أريكم كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي.

قال أيوب: فقلت لأبي قلابة: وكيف كانت صلاته؟ قال: مثل صلاة شيخنا هذا - يعني: عمرو بن سلمة.

قال أيوب: وكان ذلك الشيخ يتم التكبير، وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض، ثم قام.

هذه الرواية ليست صريحة في رفع الاعتماد على الأرض بخصوصه؛ لان فيها أن صلاة عمرو بن سلمة مثل صلاة مالك بن الحويرث، وصلاة مالك مثل صلاة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك تصريحاً برفع جميع حركات الصلاة، فان الممائلة تطلق كثيراً ولا يراد بها التماثل من كل وجه، بل يكتفي فيها بالممائلة من بعض الوجوه، أو أكثرها.

لكن رواية الثقفي، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة – بنحوه، وقال فيه: كان مالك إذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة في الركعة الأولى، فاستوى

ص: 290

قاعداً قام واعتمد على الأرض.

خرّجه النسائي وغيره.

وقد اختلف العلماء في القائم إلى الركعة الثانية من صلاة: كيف يقوم؟ فقالت طائفة: يعتمد بيديه على الأرض، كما في حديث مالك بن الحويرث هذا.

وروي عن عطاء، وقال: يتواضع لله عز وجل.

وهو من رواية ابن لهيعة، عنه.

وهو قول مالك والشافعي وإسحاق.

وروي عن أحمد، أنه كان يفعله، وتأوله القاضي أبو يعلى وغيره على أنه فعله لعجز وكبر.

وقد روي عن كثير من السلف، أنه يعتمد على يديه في القيام إلى الركعة

الثانية، منهم: عمر وعبادة بن نسي وعمر بن عبد العزيز ومكحول والزهري – وقال: هو سنة الصلاة -، وهو قول إلاوزاعي وغيره، ورخص فيه قتادة.

وقالت طائفة: ينهض على صدور قدميه، ولا يعتمد على يديه، بل يضعهما على ركبتيه، صح ذلك عن ابن مسعود، وروي عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، أنه قال: هو من سنة الصلاة، وعن ابن عمر –أيضاً - وابن عباس وأبي سعيد الخدري وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي

ص: 291

ليلى، وهو قول النخعي والثوري وأبي حنيفة وأحمد.

وحكى ابن المنذر عن أحمد الاعتماد على يديه، وهو خلاف مذهبه المعروف

عنه.

وإلاكثرون على أنه لا تلازم بين الجلسة والاعتماد، فقد كان من السلف من يعتمد ولا يجلس للاستراحة، منهم: عبادة بن نسي، وحكاه عن أبي ريحانة الصحابي.

وهذا مذهب أصحاب الشافعي وأحمد؛ فان أصحاب الشافعي قالوا: يعتمد، سواء قلنا: يجلس للاستراحة أو قلنا لا يجلس. وقال أصحاب أحمد: لا يعتمد، سواء قلنا: يجلس، أو قلنا: لا يجلس، وحملوا حديث مالك بن الحويرث على أنه فعل الاعتماد لحاجته أليه: لضعف أو كبر ونحو ذلك.

ولا يبعد إذا قلنا: إن جلسة الاستراحة فعلها تشريعاً للأمة، أن يكون الاعتماد فعله كذلك.

وكلام أحمد في رواية ابنه عبد الله وغيره من أصحابه يدل على تلازم الجلسة والاعتماد، فيحتمل أن يقال: أن قلنا: يجلس للاستراحة

ص: 292

اعتمد على الأرض، لا سيما إن فعل ذلك لعجز أو كبر، وإن نهض من غير جلوس نهض على صدور قدميه، معتمداً على ركبتيه.

ويدل على ذلك: أن أحمد استدل على النهوض على صدور القدمين بحديث رفاعة بن رافع وحديث أبي حميد المتقدمين، وفيهما: ذكر القيام بعد السجدتين، من غير ذكر النهوض على صدور القدمين، فدل على أنه يرى تلازم الأمرين، وأنه يلزم من ترك جلسة الاستراحة النهوض على صدور القدمين.

وقد روى الهيثم، عن عطية بن قيس بن ثعلبة، عن الازرق بن قيس، قال: رأيت ابن عمر وهو يعجن في الصلاة يعتمد على يديه إذا قام، فقلت: ما هذا؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجن في الصلاة –يعني: يعتمد.

خرّجه الطبراني في ((أوسطه)) .

والهيثم هذا، غير معروف.

وقال بعضهم: العاجن، هو الشيخ الكير الذي يعتمد إذا قام ببطن يديه، ليس هو عاجن العجين.

وفي النهوض على صدور القدمين أحاديث مرفوعة،

ص: 293

أسانيدها ليست قوية، أجودها: حديث مرسل، عن عاصم بن كليب، عن أبيه.

وقد خرّجه أبو داود بالشك في وصله وإرساله.

والصحيح: إرساله جزماً. والله سبحانه وتعالى أعلم.

* * *

144 -

ص: 294

باب

يكبر وهو ينهض من السجدتين

وكان ابن الزبير يكبر في نهضته.

وقد سبق في ((باب: يهوي بالتكبير حين يسجد)) حديث أبي هريرة، أنه كان يكبر حين يرفع رأسه من السجدة الأولى والثانية، ويقول حين ينصرف: إني لأقربكم شبهاً بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا.

وهو يدل على أنه كان يكبر في حال نهوضه وقيامه من السجود إلى الركعة التي بعده.

وخرّج هاهنا حديثين:

الحديث الأول:

825 -

ص: 295

حدثنا يحيى بن صالح: ثنا فليح بن سليمان، عن سعيد بن الحارث، قال: صلى لنا أبو سعيد، فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود، وحين سجد، وحين رفع، وحين قام من الركعتين، وقال:

ص: 295

هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الثاني:

826 -

ص: 296

حدثنا سليمان بن حرب: ثنا حماد بن زيد: ثنا غيلان بن جرير، عن مطرف، قالَ: صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب –رضي الله

عنه -، فكان إذا سجد كّبر، وإذا رفع كبر، وإذا نهض من الركعتين كّبر، فلما سلم أخذ عمران بيدي، فقال: لقد صلى بنا هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم أو قال: لقد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم.

ووجه استدلال البخاري بهذين الحديثين على ما بوب عليه: أن حديث أببي سعيد فيه التكبير حين يرفع من السجود، وهذا ظاهر في شروعه في التكبير مع شروعه في الرفع، وأما حديث عمران، ففيه:((إذا رفع كّبر)) ، ويحُمل –أيضاً – على أنه كّبر حين شرع في الرفع.

وحديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه أصرح من ذلك كله؛ فإن فيه: أنه كان يكّبر حين يرفع رأسه من السجدة الأولى والثانية، وهذا لا اختلاف فيه.

وفي حديث أبي سعيد: التكبير حين قام من الركعتين، وفي حديث عمران: إذا نهض من الركعتين كّبر.

ص: 296

وقد اختلف في تأويل ذلك، فحمله إلاكثرون على أنه كان يكّبر حين يشرع في القيام والنهوض.

وفي حديث أبي هريرة المشار إليه في أول الباب: ((ويكبر حين يقوم من الجلوس في الاثنتين)) .

وهذا قول أبي حنيفة والثوري والشافعي وأحمد.

وقال مالك - في أشهر الروايتين عنه -: لا يكبر إذا قام من الركعتين حتَّى يستوي قائماً؛ لأنه روي في بعض ألفاظ حديث أبي حميد وأصحابه: ((حتى إذا قام من الركعتين كّبر)) .

خرّجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان.

وروي نحوه من حديث أبي هريرة وأنس وغيرهما.

وهذه الأحاديث محمولة على أنه كان يكبر إذا أراد القيام من التشهد الأول؛ بدليل ما روي في رواية أخرى في حديث أبي حميد وأصحابه: ((ثم جلس بعد ركعتين حتى إذا هو أراد أن ينهض للقيام قام بتكبيرة)) .

ص: 297

خرّجه أبو داود.

فهذه الرواية تدل على أن معنى تلك الرواية: أنه كان إذا شرع في القيام من الركعتين كبر.

* * *

145 -

ص: 298

باب

سنة الجلوس في التشهد

وكانت أم الدرداء تجلس في صلاتها جلسة الرجل، وكانت فقيهة قال حرب الكرماني: نا عمرو بن عثمان: نا الوليد بن مسلم، عن ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، أن أم الدرداء كانت تجلس في الصلاة جلسة الرجل إلا إنها تميل على شقها الأيسر، وكانت فقيهةً.

وهذا قول مالك والاوزاعي والشافعي، وهو رواية عن النخعي وروى عن نافع، أن أبن عمر كان يأمر نساءه أن يتربعن في الصلاة وروي من وجه آخر عن صفية بنت أبي عبيد امرأة عمر، أنها كانت تتربع في الصلاة.

وقال زرعة بن إبراهيم، عن خالد بن اللجلاج، كن النساء يؤمرن بأن يتربعن إذا جلسن في الصلاة، ولا يجلسن جلوس الرجال

ص: 299

على أوراكهن، يتقى ذلك عن المرأة، مخافة أن يكون الشيء منها.

خرّجه ابن أبي شيبة.

وقال الإمام أحمد: تتربع في جلوسها أو تسدل رجليها عن يمينها، والسدل عنده أفضل.

وهو قول النخعي والثوري وإسحاق؛ لأنه أشبه بجلسة الرجل، وأبلغ في الاجتماع والضم. وحمل بعض أصحابنا فعل أم الدرداء على مثل ذلك، وأما الإمام أحمد فصرّح بأنه لا يذهب إلى فعل أم الدرداء.

وروى سعيد بن منصور بإسناده، عن عبد الرحمن بن القاسم، قال كانت عائشة تجلس في الصلاة عن عرقيها وتضم فخذيها، وربما جلست متربعة.

وقال الشعبي: تجلس كما تيسر عليها وقال قتادة: تجلس كما ترى أنه أستر.

وقال عطاء: لا يضرها أي ذلك جلست، إذا اجتمعت. قال: وجلوسها على شقها الأيسر أحب إلى من الأيمن وقال حماد: تفعل كيف شاءت

ص: 300

خرج فيه حديثين:

الحديث الأول:

827 -

ص: 301

ثنا عبد الله بم مسلمة، عن مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم عن

عبد الله بن عبد الله، أنه اخبره أنه كان يرى ابن عمر يتربع في الصلاة إذا جلس ففعلته وأنا يومئذ حديث السن، فنهاني عبد الله بن عمر، وقال: إنما سنة الصلاةُ أن تنصب رجلك اليمنى وتثني رجلك اليسرى فقلت: إنك تفعل ذلك؟ فقالَ أن رجلي لا

تحملاني.

وخرّجه النسائي من رواية يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن

عبد الله بن عمر عن أبيه قال: من سنة الصلاة أن تنصب القدم اليمنى واستقباله بأصابعها القبلة، والجلوس على اليسرى وفي رواية – أيضاً - بهذا إسناد: من سنة الصلاة أن تضجع رجلك اليسرى وتنصب اليمنى.

وهذا حكمه حكم المرفوع؛ لقوله: ((من سنة الصَّلاة)) وقد رواه مالك عن يحيى بن سعيد فجعله عن ابن عمر من فعله ولم يذكر: السنة

ص: 301

خرّجه أبو داود وذكر فيه الجلوس على وركه الأيسر وسيأتي لفظه فيما بعد إن شاء الله سبحانه وتعالى.

وظاهر الروايات التي قبل هذه: إنما تدل على الافتراش لا على التورك ورواية النسائي صريحة بذلك.

الحديث الثاني:

828 -

ص: 302

ثنا يحيى بن بكير: ثنا الليث عن خالد عن سعيد عن محمد بن عمرو بن حلحلة عن محمد بن عمرو بن عطاء -.

وثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب ويزيد بن محمد عن محمد بن عمرو بن حلحلة عن محمد بن عمرو بن عطاء أنه كان جالساً في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرنا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو حميد الساعدي: أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته إذا كّبر جعل يديه حذاء منكبيه وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما واستقبل بأطراف رجليه القبلة فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب

ص: 302

اليمنى فإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته.

وسمع الليث بن يزيد بن أبي حبيب ويزيد من محمد بن حلحلة وابن حلحلة من ابن عطاء وقال أبو صالح، عن الليث: كل فقار وقال ابن المبارك عن يحيى بن أيوب حدثني يزيد بن أبي حبيب أن محمد بن عمرو بن حلحلة حدثه: كل فقار مقصود البخاري بما ذكره:

اتصال إسناد هذا الحديث وأن الليث سمع من يزيد بن أبي حبيب وأن يزيد سمع من محمد بن عمرو بن حلحلة وأن ابن حلحلة سمع من محمد بن عمرو بن عطاء.

وفي رواية يحيى بن أيوب التي علقها: التصريح بسماع يزيد من محمد بن عمرو بن حلحلة وأما سماع محمد بن عطاء من أبي حميد والنفر من الصحابة الذين معه ففي هذا رواية أنه كان جالساً معهم وهذا تصريح بالسماع

ص: 303

من أبي حميد وقد صّرح البخاري في تأريخه بسماع محمد بن عمرو بن عطاء من أبي حميد كذلك. وقد روى هذا الحديث

عبد الحميد أبن جعفر: حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: أبو قتادة بن ربعي - فذكر الحديث وفي آخره: قالوا: صدقت هكذا صلى النبي صلى الله عليه وسلم خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

وسماع محمد بن عمرو بن عطاء من أبي قتادة قد أثبته البخاري والبيهقي ورد على الطحاوي في إنكاره له وبين ذلك بياناً شافياً. وأنكر آخرون محمد بن عمرو بن عطاء لهذا الحديث من أبي

ص: 304

حميد - أيضاً - وقالوا: بينهما رجل وممن قال ذلك: أبو حاتم الرازي والطحاوي وغيرهما. ولعل مسلماً لم يخّرج في صحيحه الحديث لذلك واستدلوا لذلك بأن عطاف بن خالد روى هذا الحديث عن محمد بن عمرو بن عطاء: حدثنا رجل أنه وجد عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلوساً - فذكر الحديث.

وروى الحسن بن الحر الحديث بطوله، عن عبد الله بن عيسى بن مالك عن محمد بن عمرو بن عطاء عن عباس - أو عياش - بن سهل الساعدي أنه كان في مجلس فيهم أبو هـ وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفي المجلس أبو هريرة وأبو أسيد وأبو حميد الساعدي - فذكر الحديث

خرّجه أبو داود مختصراً وخرّجه - أيضاً - مختصراً من رواية بقية بن الوليد: حدثني عتبة بن أبي حكيم: حدثني عبد الله بن عيسى، عن العباس بن سهل عن أبي حميد الساعدي - فذكره.. وكذلك رواه إسماعيل بن عياش عن عتبة أيضاً

ص: 305

خرّجه من طريقه بقي بن مخلد في مسنده. وقال إسماعيل: عن عتبة عن عيسى بن عبد الله وهو أصح ورواه ابن المبارك عن عتبة عن عباس بغير واسطة وخرّجه أبو داود - أيضاً - من رواية فليح بن سليمان: حدثني عباس بن سهل، قال أجتمع أبو حميد وأبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة فذكروا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو وحميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث.

وخّرج بعضه ابن ماجه والترمذي وصّححه. قال أبو داود: ورواه ابن المبارك: أخبرنا فليح، قال: سمعت عباس بن سهل يحدث فلم أحفظه فحدثنيه أراه عيسى بن

عبد الله أنه سمعه من عباس بن سهل قال: حضرت أبا حميد الساعدي - فذكره.

وخرّجه الإمام أحمد من طريق ابن إسحاق: حدثني عباس بن سهل بن سعد قال: جلست بسوق المدينة الضحى مع أبي أسيد وأبي حميد وأبي قتادة فذكر الحديث. قال أبو حاتم الرازي: هذا الحديث إنما يعرف من رواية عباس بن سهل وهو صحيح من حديثه؛ كذا رواه فليح وغيره. فيتوجه أن

ص: 306

يكون محمد بن عمرو إنما أخذه عن عباس فتصير رواية عبد الحميد بن جعفر مرسله، وكذا رواية ابن حلحلة التي خرّجها البخاري ها هنا. ويجاب عن ذلك:

بأن محمد بن عمرو بن حلحلة الديلي قد روى هذا الحديث عن محمد بن عمر بن عطاء أنه سمع أبا حميد يحدثه فكيف يعارض ذلك برواية عطاف بن خالد عن محمد بن عمرو بن عطاء وعطاف لا يقاوم ابن حلحلة ولا يقاربه.

وقد تابع ابن حلحلة على ذكر سماع ابن عمرو له من أبي حميد: عبد الحميد بن جعفر وهو ثقة جليل مقدم على عطاف وأمثاله. وأما رواية عيسى بن عبد الله عن محمد بن عمرو فعيسى ليس بذلك المشهور فلا يقضي بروايته على رواية الثقات الإثبات؛ فان رواية عيسى كثيرة الاضطراب وإلاكثرون رووه عن عيسى عن عباس بغير واسطة منهم: عتبة بن أبي حكيم وفليح بن سليمان.

واختلف فيه عن الحسن بن الحر: فروي عنه عن عيسى بن عبد الله عن محمد بن عمرو بن عطاء: أخبرني مالك عن عباس - أو عياش - بن سهل أنه كان في مجلس فيه أبوه ففي هذه الرواية بين محمد بن عمرو وبين أبي حميد رجلان.

وقد خرّجه البيهقي كذلك ثم قال روي - أيضاً - عن الحسن بن

ص: 307

الحر عن عيسى عن محمد بن عمرو بن عطاء: حدثني مالك عن عباس وقوله: عباس أو عياش يدل على عدم ضبطه لهذا الاسم وإنما هو عباس بغير شك.

وفي حديث الحسن بن الحر وهم في هذا الحديث وهو أنه ذكر أنه تورك في جلوسه بين السجدتين دون التشهد وهذا مما لا شك أنه خطأ فتبين أنه لم يحفظ متن هذا الحديث ولا إسناده.

والصحيح في اسم هذا الرجل أنه عيسى بن عبد الله بن مالك الدار وجده مولى عمر بن الخطاب ومن قال فيه: عبد الله بن عيسى - كما وقع في روايتين لأبي داود - فقد وهم.

وزعم الطبراني أنه: عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو وهم - أيضاً – وأما هو: عيسى بن عبد الله ابن مالك الدار -: قال البخاري في تأريخه وأبو حاتم الرازي وغيرهما من الحفاظ المتقدمين والمتأخرين. وقال ابن المديني فيه: هو مجهول

وحينئذ؛ فلا يعتمد على روايته مع كثرة اضطرابها وتعلل بها رويات الحفاظ الإثبات.

فظهر بهذا: أن أصح روايات هذا الحديث رواية لبن حلحلة عن

ص: 308

محمد بن عمرو التي أعتمد عليها البخاري ورواية عبد الحميد المتابعة لها ورواية فليح وغيره عن عباس بن سهل مع أن فليحاً ذكر أنه سمعه من عباس ولم يحفظه عنه إنما حفظه عن عيسى عنه.

وأما ما تضمنه حديث أبي حميد من الفقه في أحكام الصلاة فقد سبق ذكر عامة مافيه من الفوائد مفرقاً في مواضع متعددة وبقي ذكر صفة جلوسه للتشهد وهو مقصود البخاري في هذا الباب.

وقد دل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس في التشهد الأول مفترشاً، وفي التشهد الثاني متوركاً.

خرّجه أبو داود من رواية ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب بإسناده ولفظه: فإذا قعد في الركعتين قعد على بطن قدمه اليسرى ونصب اليمنى فإذا كان في الرابعة أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض وأخرج قدميه من ناحية واحدة.

ولم يذكر أحد من رواة حديث أبي حميد التشهدين في حديثه سوى ابن حلحلة عن محمد بن عمرو بن عطاء وقد ذكر غيره من الرواة التشهد الأول خاصة وبعضهم ذكر الأخير خاصة.

ففي رواية فليح عن عباس بن سهل عن أبي حميد - فذكر الحديث وفيه: ثم جلس فافترش رجله اليسرى وأقبل بصدر اليمنى على قبلته ووضع كفه اليمن على ركبته اليمنى وكفه اليسرى على ركبته اليسرى وأشار بإصبعه. خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصحّحه..

ورواه - أيضاً - عتبة بن أبي حكيم عن عيسى - أو ابن عيسى عن العباس - بمعناه - أيضاً.

ففي هذه الرواية: ذكر التشهد الأول خاصة.

وأما ذكر التشهد الأخيرة ففي رواية عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن عمرو عن أبي حميد - فذكر

ص: 309

الحديث وفيه: حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخرج رجله اليسرى وقعد متوركاً على شقه الأيسر.

خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وصحّحه الترمذي.

وقد خرّجه الجوزجاني في كتابه المترجم عن أبي عاصم عن [

..

ص: 310

أنه كانَ] في الثنتين يثني رجله اليسرى فيقعد عليها معتدلاً حتى يقر كل عظم منه موضعه ثم ذكر: توركه في تشهده الأخير وهذه زيادة غريبة.

وقد خرّج أبو داود وابن ماجه الحديث من رواية أبي عاصم وخرّجه الإمام أحمد عن أبي عاصم ولم يذكروا صفة جلوسه في الركعتين إنما ذكروا ذلك في جلوسه بين السجدتين.

وفي حديث عبد الحميد: زيادة ذكر رفع اليدين إذا قام من التشهد الأول وكذلك في حديث عتبة بن أبي حكيم - أيضاً.

وقد أخذ بهذا الحديث في التفريق بين الجلوس في التشهد الأول وإلاخر في الصلاة فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد وإسحاق. ثم اختلفوا:

فقال الشافعي: يتورك في التشهد الذي يعقبه السلام بكل حال سواء كانت الصلاة فيها تشهد واحد أو تشهدان؛ لأن التشهد الذي يسلم فيه يطول بالدعاء فيه فيتورك فيه؛ لأن التورك أهون من الافتراش. وقال أحمد وإسحاق: إن كان فيها تشهدان تورك في الأخير منهما

ص: 311

وإن كان فيها تشهد واحد لم يتورك فيه، بل يفترش.

فيكون التورك للفرق بين التشهدين ويكون فيه فائدتان: نفي السهو عن المصلي ومعرفة الداخل معه في التشهد: هل هو في الأول أو الثاني. واتفقوا – أعني: هؤلاء الثلاثة - على أنه يفرش في التشهد الأول الذي لا يسلم فيه.

وقد خرّج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث وائل بن حجر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فلما جلس أفترش. لكن اختلفت ألفاظ الروايات فيه:

ففي رواية الترمذي: ((يعني للتشهد)) وهذا التفسير من بعض الرواة وفي رواية للإمام أحمد: أن ذلك كان في جلوسه بين السجدتين. وفي رواية للنسائي: أنه كان يفعل ذلك إذا جلس في الركعتين وهذه الرواية، إنما تدل على افتراشه في جلوسه، بعد الركعتين وأحمد وإسحاق يقولان بذلك.

وفي ((صحيح مسلم)) عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في كل ركعتين التحية وكان يفرش رجله اليسرى وينصب

ص: 312

اليمنى. وهو محمول على صلاة الركعتين، بدلالة سياق أول الكلام.

وخّرج أبو داود من حديث رفاعة بن رافع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء في صلاته:((إذا قعدت فاقعد على فخذك اليسرى)) .

وفي رواية أخرى له -: ((فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن وأفترش فخذك اليسرى، ثم تشهد)) .

وهذه الرواية تدل على أنه إنما أمره بالافتراش في التشهد الأول خاصة. وفي

((المسند)) من طريق ابن إسحاق: حدثني عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه، عن ابن مسعود، قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها. فكنا نحفظ عن ابن مسعود، حين أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه إياه، فكان يقول: إذا جلس في وسط الصلاة وفي أخرها على وركه اليسرى: ((التحيات لله)) - إلى آخر التشهد.

والظاهرُ: أن قوله ((على وركه)) يعود إلى قوله: ((وفي آخرها خاصة)) .

وذهب طائفة من أهل العلم إلى أنه يفترش في جميع التشهدات،

ص: 313

وهو قول أبي حنيفة والثوري والحسن بن صالح وابن المبارك، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم. وقال طائفة: يتورك في جميعها، وهو قول مالك، وكذا قال في الجلوس بين السجدتين. وجميع ما سبق ذكره العلماء: أنه يفترش فيه. وفي ((صحيح مسلم)) عن ابن الزبير، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه، وفرش قدمه اليمنى وقد فسره بالتورك حرب الكرماني وغيره.

وقد روى التورك في الجلوس في الصلاة عن ابن عمر، ذكره مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد أنه أراهم الجلوس في التشهد منضب رجله اليمنى وثنى رجله اليسرى، وجلس على وركه الأيسر، ولم يجلس على قدمه، ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر، وأخبرني أن أباه كان يفعل ذلك. وخرّجه أبو داود من طريقه.

وقال ابن جرير الطبري: كل ذلك جائز؛ لأنه يروى على النبي صلى الله عليه وسلم، فيخير المصلي بينه، فيفعل منه ما شاء. ومال إلى قوله ابن عبد البر.

ص: 314

وقد نص أحمد في رواية إلاثرم عل الجواز التورك في التشهد الذي يسلم فيه من ركعتين، مع قوله: إن الافتراش فيه أفضل. وقد روي النهي عن التورك في الصلاة، ولا يثبت، وفيه حديثان: أحدهما: من رواية يحيى بن إسحاق، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التورك وإلاقعاء في الصلاة خرّجه أبو داود في كتاب التفرد)) . وقال: هذا الحديث ليس بالمعروف.

وخرّجه البزار في ((مسنده)) .

وقال: لا يروى عن أنس إلا من هذا الوجه، وأظن يحيى أخطأ فيه. وقال أبو بكر البرديجي في كتاب ((أصول الحديث)) له: هذا

ص: 315

حديث لا يثبت؛ لأن أصحاب حماد لم يجاوزوا به قتادة. كأنه يشير إلى أن يحيى أخطأ في وصله بذكر انس، وأنما هو مرسل.

وثانيهما: من رواية سعيد بن بشير، عن الحسن، عن سمرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن التورك وإلاقعاء، وأن لا نستوفز في صلاتنا. خرّجه البزار.

وقال: سعيد بن بشير، لا يحتج به. وخرّجه الإمام أحمد، ولفظه: أمرنا

رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعتدل في الجلوس، وأن لا نستوفز.

* * *

146 -

ص: 316

باب

من لم يرى التشهد الأول واجباً

لان النبي صلى الله عليه وسلم قام من الركعتين ولم يرجع

ص: 317

829 -

حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري: حدثني عبد الرحمن بن هرمز مولى بني عبد المطلب - وقال مرة: مولى ربيعة بن الحارث - أن عبد الله بن بحينه - وهو من أزد شنوءة، وهو حليف لبني عبد مناف، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين، لم يجلس، فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس، فسجد سجدتين قبل أن

يسلم، ثم سلم.

عبد الرحمن بن هرمز: هو الأعرج؛ وهو مولى ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب، فلذلك نسبه الزهري مرة إلى ولاء بني عبد المطلب، ومرة إلى مولاه.

وقد استدل بهذا الحديث كثير من العلماء - كما أشار إليه البخاري - على أن التشهد الأول ليس بواجب؛ لأن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم نسيه، ولم يرجع بعد قيامه إلى الركعة الثالثة. وممن ذهب إلى أن التشهد الأول والجلوس لهُ سنة لا تبطل الصَّلاة

ص: 317

بتركهما عمداً: النخعي وأبو حنيفة وإلاوزاعي ومالك والشافعي وحكي رواية عن أحمد. والمنصوص عن أحمد: إنكار تسميته سنة، وتوقف في تسميته فرضاً؛ وقال: هو أمر أمر به

رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال الثوري وأحمد – في ظاهر مذهبه – وإسحاق وأبو ثور وداود: أن ترك واحداً منها عمداً بطلت الصلاة، وإن تركه سهواً سجد لسهو. وحكى الطحاوي مثله عن مالك.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداوم عليه، وقال:((صلوا كما رأيتموني أصلي)) ، وإنما تركه نسياناً، وجبره بسجود السهو، وقد روى عنه الأمر به. كما خرّجه أبو دواد من حديث رفاعة بن رافع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء في صلاته:((فإذا جلست في وسط الصلاة فأطمئن وأفترش فخذك اليسرى ثم تشهد)) .

والعجب أن من المخالفين في ذلك من يقول في خطبتي الجمعة: إذا لم تجلس بينهما لم تصح الخطبة، وهو يقول: لو صلى الظهر أربعاً من غير جلوس في وسطها صحت صلاته.

وأما التشهد الأخر والجلوس به، فقال كثير من العلماء: إنهما

ص: 318

من فرائض

الصلاة، ومن تركهما لم تصح صلاته، وهو قول الحسن ومكحول ونافع مولى ابن عمر والشافعي وأحمد - في ظاهر مذهبه - وإسحاق وأبي ثور وداود.

وحكى ابن المنذر مثله عن مالك، إلا أنه قال: إذا نسيه خلف الإمام حمله

عنه، وروي عن إلاوزاعي نحوه. ونقل مهنا عن أحمد ما يدل على مثل ذلك. وقال أبو مصعب: من ترك التشهد بطلت صلاته، ونقله عن مالك وأهل المدينة. وقالت طائفة: هو سنة كالتشهد الأول، لا تبطل الصلاة بتركه، منهم: النخعي وقتادة وحماد وإلاوزاعي، وهو المشهور عن مالك.

ونقل محمد بن يحيى الكحال، عن أحمد، فيمن سلم ولم يتشهد: لا إعادة، واستدل بحديث ابن بحينه. ونقل ابن وهب، عن مالك، قال: كل أحد يحسن

التشهد؟ وإذا ذكر الله أجزاء عنه.

وقال أحمد - في رواية عنه، نقلها حرب -: إذا لم يقدر أن يتعلم التشهد يدعو بما أحب. وأوجب أبو حنيفة الجلوس له بقدر التشهد، دون التشهد، وهو رواية عن الثوري.

وروي عنه: أن أحدث قبل التشهد تمت صلاته. وحكي القول بأنه رواية عن أحمد - أيضاً - حكاه عنه الترمذي

ص: 319

في ((جامعه)) ، فأنه قال في رواية ابن منصور، وقد قيل: فأن لم يتشهد وسلم؟ قال: التشهد أهون؛ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثنتين ولم يتشهد فحمله هؤلاء على أن التشهد غير واجب.

ومنهم من حملة على التشهد الأول؛ لاستدلاله عليهِ الحديث، والحديث إنما ورد في الأول، وقالوا: قد فرق بين الأول والثاني في روايات آخر عنه. وقال طائفة: هوَ واجب، تبطل الصَّلاة بتركه عمداً، ويسجد لسهوه، وهو قول الزهيري والثوري، وحكي عن إلاوزاعي - أيضاً - ونقله إسماعيل بن سعيد وأبو طالب وغيرهما عن

أحمد.

وذكر أبو حفص البرمكي من أصحابنا: أن هذا هو مذهب أحمد، وأنه لا فرق عنده بين التشهد الأول والثاني، وإنهما واجبان تبطل الصلاة بتركهما عمداً، ويسجد لسهوهما.

وهو - أيضاً - قول أبي خيثمة وسليمان بن داود الهاشمي وابن أبي شيبة واستدل من قال:

أنه فرض، بما روي عن ابن مسعود، أنه قال: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: ((السلام على الله)) - الحديث، وذكر فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالتشهد وتعليمه لهم.

خرّجه الدارقطني، وقال: إسناده صحيح.

وخرّج البزار والطبراني من حديث ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم

ص: 320

التشهد، وقال لهم:((تعلموا؛ فإنه لا صلاة إلا بتشهد)) . وفي إسناده أبو حمزة، ضعيف جداً.

وخرّج الطبراني نحوه من حديث علي مرفوعاً، بإسناد لا يصح. وقد روى موقوفاً على ابن مسعود، وهو أشبه.

وروى شعبة، عن مسلم أبي النضر، قال: سمعت حملة بن عبد الرحمن، عن

عمر، أنه قالَ: لا تجزي صلاة إلا بتشهد. خرّجه الجوزجاني وغيره.

وفي رواية: قالَ: من لم يشهد فلا صلاة لهُ. وخرّجه البهقي، وعنده التصريح بسماع حملة لهُ من عمر.

* * *

147 -

ص: 321

باب

التشهد في الأولى

ص: 322

383 -

حدثنا قتيبة: ثنا بكر - هو ابن مضر -، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، عن عبد الله بن مالك بن بحينة، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، فقام وعليه جلوس، فلما كان في آخر صلاته سجد سجدتين وهو جالسٌ.

يعني البخاري: التشهد في الجلسة الأولى في الصلاة وحديث ابن بحينة قد سبق في الباب الماضي وفيه: دليل على أن من تركه نسياناً لم تبطل صلاته، وأنه يسجد للسهو لتركه، وقد سبق حكم تركه نسياناً وعمداً في الباب الماضي. ومذهب أحمد: إن تركه نسياناً لزمه ((بسجود به أن يجبره بسهوويه)) وإن تركه عمداً بطلت صلاته؛ كما سبق ذكره.

ص: 322

وفي ((صحيح مسلم)) عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في كل ركعتين التحية.

وخرّجه البهيقي، ولفظه: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين كل ركعتين تحية.

وخرّج أبو داود من حديث سمرة بن جندب، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في وسط الصلاة أو حين انقضائها فابدؤوا قبل التسليم: ((التحيات والطيبات والصلوات والملك لله)) ، ثم سلموا.

والتشهد بعد الركعتين - وإن لم يسلم منه - إشارة إلى أن كل صلاة ركعتين صلاة تامة، فيتشهد عقبها، وإن كان يقوم منها إلى صلاة؛ فان الصلاة التي يقوم إليها كالصلاة المستقبلة.

ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي أكثر من ركعتين بغير تشهد غير صلاة الليل؛ فإنه قد روي عنه أنه كان يصلي ثمانياً واربعاً ثم يتشهد.

* * *

148 -

ص: 323

باب

التشهد في الآخرة

يعني: في الجلسة الأخيرة في الصلاة

ص: 324

831 -

حدثنا أبو نعيم: ثنا الأعمش، عن شقيق بن سلمة، قال: قال عبد الله: كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام على جبريل ومكائيل، السلام على فلان السلام على فلان، فالتفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:((إن الله هو السلام)) فإذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله عز وجل صالح في السماء وإلا رض، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)) .

وإنما خص البخاري هذا الحديث بالتشهد الأخير. لأنه روي في آخره الأمر بالتخيير من الدعاء، كما سيأتي، والدعاء يختص بالأخير، ولكن المراد بالتشهد الأخير: كل تشهد

ص: 324

يسلم منه، سواء كان تشهد آخر أم لا.

وخرج الإمام أحمد والنسائي حديث ابن مسعود بلفظ آخر وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات لله)) - فذكره وقال في آخره:

((ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه، فليدع به ربه عز وجل) .

وهذا اللفظ صريح في أنه يتشهد بهذا التشهد في كل ركعتين يسلم منهما.

وخرّجه الترمذي والنسائي - أيضاً بلفظ آخر وهو: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعدنا في الركعتين أن نقول: ((التحيات لله)) - فذكره، ولم يذكر بعده الدعاء. وخرّجه الإمام أحمد بلفظ، وهو: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها - وذكر الحديث، وقد سبق ذكر إسناده، وقال في آخره: ثم إن كان في وسط الصلاة نهض حين يفرغ من تشهده، وإن كان في آخرها، دعا بعد تشهده بما شاء الله أن يدعو، ثم يسلم.

وهذه الرواية صريحة في أنه يتشهد به في التشهد الأول وإلاخر.

ص: 325

وخرّجه النسائي بلفظ آخر، وهو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: ((قولوا في كل جلسة: التحيات لله)) - فذكره.

وهذا يشمل الجلوس الأول والثاني. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أن الله هو السلام)) إنما قاله نهياً لهم على أن يقولوا: ((السلام على الله من عباده)) ، وكانوا يقولون ذلك، ثم يسلمون على جبريل وميكائيل وغيرهما.

وقد خرّج البخاري في رواية أخرى، يأتي ذكرهما - إن شاء الله تعالى ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلوات التي قالوا فيها ذلك، واستدل بذلك على أن كلام الجاهل لا يبطل الصلاة؛ فإن هذا الكلام منهيٌ عنه في الصلاة وغيرها؛ فإن الله تعالى هو السلام؛ لأنه القدوس بالمبدأ من الآفات والنقائص كلها، وذلك واجب له لذاته، ومنه يطلب السلامة لعباده؛ فإنهم محتاجون إلى السلامة من عقابه وسخطه وعذابه.

وفي قولهم هذا الكلام قبل أن يعلموا التحيات: دليل على أنهم رأوا أن المنصرف من صلاته لا ينصرف حتى يحيي الله تعالى وخواص عباده بعده، ثم ينصرف، ثم يسلم؛ لأن المصلي يناجي ربه ما دام يصلي، فلا ينصرف حتى يختم مناجاته بتحية تليق به، ثم يحيي خواص خلقه، ثم يدعو لنفسه، ثم يسلم على الحاضرين معه، ثم ينصرف.

ص: 326

وقد أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما قصدوه من ذلك، لكنه أمرهم أن يبدلوا قولهم:

((السلام على الله)) ، بقولهم:((التحيات لله)) . والتحيات: جمع تحية، وفسرت التحية بالملك، وفسرت بالبقاء والدوام وفسرت بالسلامة؛ والمعنى: أن السلامة من الآفات ثابت لله، واجب له لذاته.

وفسرت بالعظمة، وقيل: إنها تجمع ذلك كله، وما كان بمعناه، وهو أحسن.

قال ابن قتيبة: إنما قيل ((التحيات)) بالجمع؛ لأنه كان لكل واحد من ملوكهم تحية يحيا بها، فقيل لهم:((قولوا: التحيات لله)) أي: أن ذلك يستحقه الله وحده.

وقوله: ((والصلوات)) فسرت بالعبادات جميعها، وقد روي عن طائفة من المتقدمين: أن جميع الطاعات صلاة، وفسرت الصلوات هاهنا بالدعاء، وفسرت بالرحمة، وفسرت بالصلوات الشرعية، فيكون ختام الصلاة بهده الكلمة كاستفتاحها بقول:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] وقوله: ((والطيبات)) ، فسرت بالكلمات الطيبات، كما في قوله تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر 10] فالمعنى: إن ما كان من

ص: 327

كلام فإنه لله، يثنى به عليه ويمجد به.

وفسرت ((الطيبات)) بالاعمال الصالحة كلها؛ فإنها توصف بالطيب، فتكون كلها لله بمعنى: أنه يعبد بها ويتقرب بها إليه.

فهذا جعله النبي صلى الله عليه وسلم بدل قوله: ((السلام على الله)) وأما سلامهم على جبريل وميكائيل وفلان وفلان من خواص الخلق، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذكر السلام؛ لأن الخلق كلهم يطلب السلام من الله. وفي تفسير ((السلام على فلان)) قولان:

أحدهما: أن المراد بالسلام اسم الله - يعني: فكأنه يقول: اسم الله عليك.

والثاني: أن المراد: سلّم الله عليك تسليماً وسلاماً، ومن سلّم عليه الله فقد سلم من الآفات كلها ثم أقرهم أن يسلموا على النبي بخصوصه ابتداءً؛ فإنه أشرف المخلوقين وأفضلهم، وحقه على الأمة أوجب من سائر الخلق؛ لأن هدايتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة كان بتعليمه وإرشاده صلى الله عليه وسلم تسليماً، وجزاه عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته.

والسلام على النبي بلفظ: ((السلام عليك أيها النبي)) ، وهكذا في سائر

ص: 328

الروايات؛ ولذلك كان عمر يعلم الناس في التشهد على المنبر بمحضر من الصحابة.

وقد اختار بعضهم أن يقال بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم: ((السلام على النبي)) ، وقد ذكر البخاري في موضع آخر من ((كتابه)) أنهم كانوا يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته في التشهد كذلك، وهو رواية عن ابن عمر وعائشة.

ثم عطف على ذكر السلام على النبي: ((ورحمة الله وبركاته)) ، وهذا مطابق لقول الملائكة لإبراهيم عليه سلام:{رَحْمةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ} [هود: 73] ويستدل بذلك على جواز الدعاء بالرحمة للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه اختلاف بين العلماء.

ثم أمرهم بعد ذلك بأن يقولوا: ((السلام علينا)) والضمير عائد على المصلي نفسه، وعلى من حضره من الملائكة والمصلين وغيرهم.

وفي هذا مستند لمن أستجب لمن يدعوه لغيره أن يبدأ بالدعاء لنفسه قبله، وهو قول علماء الكوفة، وخالفهم آخرون، وقد أطال الاستدلال لذلك في ((كتاب

الدعاء)) من ((صحيحه)) هذا، ويأتي - أن شاء الله تعالى - في موضعه بتوفيق الله وعونه.

ص: 329

وقوله: ((وعلى عباد الله الصالحين)) هو كما قال صلى الله عليه وسلم: ((فإنكم إذا قلتم ذلك أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض)) . فيعني ذلك عن تعيين أسمائهم؛ فإن حصرهم لا يمكن، وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم وقد خرّج النسائي حديث ابن مسعود في التشهد، ولفظه: قال عبد الله: كنا لا ندري ما نقول إذا صلينا، فعلمنا نبي الله صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم:((التحيات لله)) – فذكره. وفي رواية أخرى له: كنا لا ندري ما نقول في كل ركعتين، غير أن نسبح ونكبر ونحمد ربنا، وأن محمد صلى الله عليه وسلم علم فواتح الكلم وخواتمه، فقال:((إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات الله)) - فذكره.

ثم أمرهم أن يختموه بالشهادتين، فيشهدون لله بتفرده بإلالهية، ويشهدون لمحمد بالعبودية والرسالة؛ فإن مقام العبودية أشرف مقامات الخلق؛ ولهذا سمى الله محمد صلى الله عليه وسلم في أشرف مقاماته وأعلاها بالعبودية، كما قال تعالى في صفة ليلة الإسراء:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]، وقال:{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:

10] .

ص: 330

المعنى لما سلّم على الصالحين في هذا التشهد سماهم: ((عبادا الله)) ، والصالحون هم القائمون بما لله عليهم من الحقوق له ولخلقه، وإنما سمي التشهد تشهداً لختمه بالشهادتين.

ولم يخرج البخاري في التشهد غير تشهد ابن مسعود، وقد أجمع العلماء على أنه أصح أحاديث التشهد، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم التشهد من روايات أخر فيها بعض المخالفة لحديث ابن مسعود بزيادة ونقص، وقد خرج مسلم منها حديث ابن عباس وأبي موسى الأشعري، وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد وإسحاق.

وحديث أبي موسى فيه: ((التحيات الطيبات الصلوات لله)) ، وباقيه كتشهد ابن مسعود. وحديث ابن عباس فيه:((التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله)) وباقيه كتشهد ابن مسعود، غير أن في آخره:((وأشهد أن محمداً رسول الله)) . وكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من التشهدات، فإنه يصح الصلاة به، حكى طائفة الإجماع على ذلك،

ص: 331

لكن اختلفوا في أفضل التشهدات:

فذهب إلاكثرون إلى ترجيح تشهد ابن مسعود، وتفضيله، والأخذ به وقد روى ابن عمر، أن أبا بكر الصديق كان يعلمهم على المنبر كما يُعلم الصبيان في الكتاب، ثم ذكره بمثل تشهد ابن مسعود. خرّجه ابن أبي شيبة.

وروى - أيضاً - نحوه عن أبي سعيد الخدري وغيره، وهو قول علماء العراق من أهل الكوفة والبصرة، من التابعين ومن بعدهم.

قال أبو إسحاق، عن الأسود: رأيت علقمة يتعلم التشهد من عبد الله، كما يتعلم السورة من القرآن. وقال إبراهيم، عن الأسود: كان عبد الله يعلمنا التشهد في الصلاة كما يعلمنا السورة من القران، يأخذ علينا الألف والواو.

وقال إبراهيم: كانوا يتحفظون هذا التشهد - تشهد عبد الله - ويتبعونه حرفاً حرفاً.

خرّجه ابن أبي شيبة وغيره وذكر الترمذي أن العمل على تشهد ابن مسعود عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، وأنه قول الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق.

ص: 332

وحكاه ابن المنذر عن أبي ثور وأهل الرأي وكثير من أهل المشرق وحكاه ابن البر عن أكثر أهل الحديث.

وروي عن خصيف قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله، اختلف علينا في التشهد: فقال: ((عليك بتشهد ابن مسعود)) . وقد نص أحمد على أنه لو تشهد بغيره بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجزئه.

وذكر القاضي أبو يعلى: أن كلام أحمد في التشهد بما روي عن الصحابة، كعمر أو غيره: هل يجزئ، أو لا؟ - محتمل، والأظهر: أنه يجزئ. وقد روي عن علي وابن عمر وعائشة تشهدت أخر.

وقد نص إسحاق على جواز التشهد بذلك كله -: نقله حرب ومن أصحابنا من قال: يجب التشهد بتشهد ابن مسعود، ولا يجزئ أن يسقط منه واواً ولا الفاً. وهذا خلاف أحمد.

والمحققون من أصحابنا على أنه يجوز التشهد بجميع أنواع التشهدات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم كما نص عليه أحمد.

وقال طائفة، منهم: القاضي أبو يعلى في كتابه ((الجامع الكبير)) : إذا أسقط من التشهد ما هو ساقط في بعض الروايات دون بعض صحت صلاته، وإن أسقط ما هو ساقط في جميعها لم تصح.

ص: 333

وقيل لأحمد: لو قال في تشهده: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله)) :

هل يجزئه؟ قالَ: أرجو.

وقد ورد مثل ذَلِكَ في بعض روايات حديث أبي موسى، وهو في بعض نسخ

((صحيح مسلم)) ، وهي رواية لأبي دواد والنسائي.

والأفضل عند الشافعي: التشهد بتشهد ابن عباس، الذي نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم وخرّجه مسلم، وهو قول الليث بن سعد.

والأفضل عن مالك تشهد عمر بن الخطاب، وقد ذكره في ((الموطأ)) موقوفاً على عمر، أنه كان يعلمه الناس على المنبر يقول: قولوا: ((التحيات لله، الزاكيات

لله، الصلوات لله)) وباقيه كتشهد ابن مسعود وإليه ذهب الزهري ومعمر.

وقد روى عن عمر مرفوعاً من وجوه لا تثبت، والله أعلم.

وطائفة مم علماء الأندلس اختاروا تشهد ابن مسعود، وكان يقال عنه: أنه لم يكن بالاندلس من اجتمع له علم الحديث والفقه أحد قبله مثله. وقد روي من حديث سلمان الفارسي، أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه التشهد

ص: 334

حرفاً حرفاً - فذكر مثل حديث تشهد ابن مسعود سواء، قال: ثم قال: ((قلها يا سلمان في صلاتك، ولا تزد فيها حرفاً، ولا تنتقص منها حرفاً)) .

خرّجه البزار في ((مسنده)) وفي إسناده ضعف. والله أعلم.

* * *

149 -

ص: 335

باب

الدعاء قبل السلام

فيه حديثان

الأول:

832 -

ص: 336

حدثنا أبو اليمان: أنا شعيب، عن الزهري: أنا عروة، عن عائشة أخبرته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة:((اللهم أني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)) ، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟ فقالَ:

((إن الرجل إذا غرم حدّث فكذب ووعد فاخلف)) .

833 -

ص: 336

وعن الزهري، قال: أخبرني عروة، أن عائشة قالت: سمعت النبي

صلى الله عليه وسلم يستعيذ في صلاته من فتنة الدجال.

ص: 336

إنما في هذا الحديث أنه كان يدعو بذلك في صلاته، وليس فيه أنه كان يدعو به في تشهده قبل السلام، كما بوب عليه. وقد روى مسروق، عن عائشة في ذكر عذاب القبر، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة بعد ذلك إلا تعوذ من عذاب القبر. وقد خرّجه البخاري في موضع آخر.

وخرّجه النسائي من رواية جسرة بنت دجاجة، عن عائشة، وفي حديثها: أنه كان يقول في ذلك دبر كل صلاة. وهذا يدل على أنه كان يقوله في تشهده.

ويستدل على ذلك - أيضاً - بحديث أخر، خرّجه مسلم من رواية إلاوزاعي، عن حسان ابن عطية، عن محمد بن أبي عائشة، عن أبي هريرة وعن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة -، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

((إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم أني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)) .

وفي رواية له بالطريق الأول خاصة: ((إذا فرع أحدكم من التشهد فليقل)) .

ص: 337

وفي رواية أخرى له أيضاً -: ((التشهد الأخير)) .

وخرّج - أيضاً - من رواية هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من ذلك - ولم يذكر: الصلاة.

وكذلك خرّجه البخاري في ((الجنائز)) من رواية هشام.

وهذا يدل على أن رواية إلاوزاعي حمل فيها حديث يحيى، عن أبي سلمة على لفظ حديث حسان، عن ابن أبي عائشة، ولعل البخاري لم يخرّجه لذلك؛ فإن المعروف ذكر الصلاة في رواية ابن أبي عائشة خاصة، ولم يخرج له البخاري.

وخرّج أبو داود من رواية عُمر بن يونس اليمامي: حدثني ابن عبد الله بن

طاوس، عن أبيه، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول بعد التشهد:((اللهم، إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة الدجال)) .

وروى مالك، عن أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن – فذكره، ولم يذكر: الصلاة.

وخرّجه من طريقه مسلمٌ.

وكذلك خرج - أيضاً - من طريق ابن عيية، عن ابن طاوس، عن

ص: 338

أبيه، عن أبي هريرة - ومن طريق عمرو بن دينار، عن طاوس، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأمر بهذا التعوذ، ولم يذكر: الصلاة - أيضاً.

وذكر مسلم، أنّ طاوساً كان يروي هذا الحديث عن ثلاثة، أو عن أربعة، وأنه أمر ابنه أن يعيد الصلاة حيث لم يتعوذ فيها من ذلك.

وخرّجه الحاكم من طريق ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن عائشة، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم.

وذكر الدارقطني أن ابن طاوس كانَ يرويه، عن أبيه مرسلاً.

وسماع عائشة دعاء النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في صلاته يدل على أنه كانَ أحياناً يسمع من يليه دعاءه، كما كانَ أحياناً يسمع من يليه الآية من القرآن.

الحديث الثاني:

834 -

ص: 339

حدثنا قتيبة: ثنا الليثُ، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو، عن أبي بكر الصديق، أنه قال

ص: 339

لرسول الله صلى الله عليه وسلم علمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال:

((قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فأغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم)) .

وهذا الحديث - أيضاً - إنما فيه: ذكرُ الدعاء في الصلاة من غير تخصيص بالتشهد، وقد سبق ذكرُ الدعاء في الركوع والسجود والاختلاف فيه. والكلام على الاختلاف في إسناد هذا الحديث، وفي بعض ألفاظه وفي معانيه يأتي في موضع آخر - أن شاء الله سبحانه وتعالى.

* * *

150 -

ص: 340

باب

ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب

ص: 341

835 -

حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن الأعمش: حدثني شقيق، عن عبد الله، قال: كُنا إذا كُنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ فإنكم إذا قلتم ذلك أصاب كل عبد صالح في السماء – أو بين السماء والأرض – أشهد إلا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسولهُ، ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فبدعوا)) .

وقد سبق في رواية للإمام أحمد التصريح بأن هذا الدعاء إنما هو في التشهد الأخير خاصةً، فأما التشهد الأول فلا يدعو بعده عند جمهور العلماء، ولا يزاد عليه عند أكثرهم، حتى قال الثوري - في رواية عنه - إن فعل ذلك عمداً بطلت صلاته.

إلا أن الشافعي - في الجديد - قال: يصلي فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وحده دون آله.

وقال مالك: يدعى فيه كالتشهد

ص: 341

الأخير.

وروي عن ابن عمر.

وخرّج النسائي من حديث سعد بن هشام، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل تسع ركعات، لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، فيحمد الله ويثني على نبيه صلى الله عليه وسلم، ويدعو بينهن، ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة ويقعد، ويحمد الله ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم، ويدعو، ثم يسلم تسليماً يسمعناً.

وحمل بعض أصحابنا هذا على أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعله أحيانا في صلاة النفل، لبيان الجواز دون الاستحباب.

وخرّج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الركعتين كأنه على الرضف حتى يقوم.

وحسّنه.

وأبو عبيدة، وإن لم يسمع من أبيه، إلا أن أحاديثه عنه صحيحة، تلقاها عن أهل بيته الثقات العارفين بحديث أبيه -: قاله ابن المدني وغيره.

وروي عن أبي بكر الصديق نحو ذلك.

ص: 342

فأما الدعاء قبل السلام في التشهد الأخير، فإنه مشروع بغير خلاف.

وحكى ابن المنذر، عن الحسن، أنه كَرِه الدعاء في المكتوبة، وأباحه في

التطوع.

ولعله أراد في غير التشهد. وقد دل عليه حديثُ ابن مسعود هذا، وليس هو بواجب كما ذكره البخاريّ، ومن العلماء من حكى الإجماع على ذلك.

قد يستدل بما روى الحسن الحر، عن القاسم بن مخيمرة، قال أخذ علقمة

بيدي، فحدثني أن ابن مسعود أخذ بيده، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده، فعلّمه التشهد في الصلاة - فذكر إلى آخره، ثم قال: إذا قلت هذا - أو قضيتُ هذا - فقد قضيت صلاتك، فإن شئت أن تقوم فقم، وان شئت أن تقعد فاقعد.

خرّجه الإمام أحمد وأبو داود.

وقال إسحاق بن راهويه: صح هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا ظاهر في أن ما بعد التشهد ليس بواجب، ولكن قد قيل: إن القائلَ:

((إذا قلت هذا)) إلى آخره، هو ابن مسعود، وليس مرفوعاً –؛ كذلك قاله الدارقطني وأبو علي النيسابوري والبيهقي وأبو بكر الخطيب وغيرهم من الحفاظ.

ص: 343

على هذا التقدير، فإذا قال ابن مسعود هذا، وهو راوي الحديث الذي فيه:

((ثم ليتخير من الدعاء)) دل على أنه فهم من ذلك الاستحباب دون الوجوب؛ ولهذا ردّه إلى اختياره ومشيئته وإعجابه، وراوي الحديث أعلم بمعنى ما روى، فيرجع إليه فهم ذلك.

وقد سبق عن طاوسٍ: ما حكاه عنه مسلم، أنه بلغه عنه، أنه أمر ابنه بالاعادة إذا لم يتعوذ في صلاته من تلك الأربع.

وحكي بعض أصحابنا وجهاً لهم بمثل ذلك.

وحكُي عن أبي طالب، عن أحمد، أنه قال: من ترك شيئاً من الدعاء في الصلاة عمداً يعيد.

وقوله: ((ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو)) يستدل به على أنه يجوز الدعاء في الصلاة بما لا يوافق لفظه لفظ القرآن، وعامة الأدعية المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته كذلك، وقد سبق في الباب الماضي بعض ذلك.

وهذا قول جمهور العلماء، خلافاً لأبي حنيفة والثوري في قولهما: لا يدعو في صلاته إلا بما يوافق لفظَ القرآن، فإن خالف بطلت صلاته.

وحكى أصحاب سفيان الثوري مذهبه كذلك.

والصحيح - المنصوص عن أحمد -: أنه يجوز الدعاء بما يعود بمصلحة الدين بكل حالٍ، وهو قول جمهور العلماء.

وفي ((سنن أبي داود)) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ((كيف تقول في الصلاة؟)) قالَ: أتشهد، ثُمَّ أقول: اللهمّ إني أسألك الجنة، وأعوذُ بك من النار، أما إني لا أحسنُ دندنتك

ص: 344

ولا دندنة معاذ، قالَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:((حولها ندندن)) . وهذا يشعر بأنه يجوز الدعاء بمصالح الآخرة بأي لفظٍ كان.

واختلفوا: هل يجوز الدعاء في الصلاة بالمصالح الدنيوية خاصة؟

فقالت طائفة: يجوز، منهم: عروة ومالك والشافعي، وحُكي روايةً عن أحمد، واستدلوا بعموم حديث ابن مسعود.

وقالت طائفة: لا يجوز ذلك، وهو المشهور عن أحمد، واختاره أبو محمد الجويني من الشافعية. وإنما هذا فيما لم يرد النص بمثله كالرزق والعافية والصحة ونحو ذلك مما ورد الدعاء به في الأخبار في الصلاة وغيرها، فإنه يجوز الدعاء به في الصلاة، وإنما الممنوع طلبُ تفاصيل حوائج الدنيا؛ كالطعام الطيب والجارية الوضيئة.

والثوب الحسن ونحو ذَلِكَ، فان هذا عندهم من جنس كلام الآدميين الذي قالَ فيهِ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:((أن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)) .

ولا فرق في استحباب الدعاء بين الإمام والمأموم والمنفرد عند جمهور العلماء. واستحب إسحاق للإمام أن يدعو في هذا الموضع بصيغة الجمع؛ ليشمل المأمومين معه، وكره أن يخص نفسه؛ للحديث المروي في النهي عن ذلك.

وللشافعية وجه ضعيف: أن الإمام لا يدعو، وهو خلاف نص

ص: 345

الشافعي؛ فإنه قال في كتاب ((الأم)) : أحبُّ لكلَُ مصلًّ أن يزيد على التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الله عز وجل وتحميده ودعاءً في الركعتين الأخيرتين، وأرى أن تكون زيادته ذلك إن كان إماماً أقل من قدر التشهد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها قليلا؛ للتخفيف عمن خلفه، وأرى أن يكون جلوسه إذا كان وحده أكثر من ذلك، ولا أكره ما طال ما لم يخرجه ذلك إلى سهو أو خاف فيه سهواً، وإن لم يزد على التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كرهت ذلك، ولا إعادة عليه، ولا سجود سهو. انتهى كلامه.

وقد تضمن: أنه بعد التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يشرع له ذكر الله وتحميده، وهو خلاف نص أحمد؛ فإنه نص على أنه يدعو بعد التشهد من غير ثناء وحمد.

وسئل أحمد - أيضاً -: هل يحمد الله الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا أعرفه.

وقال القاضي أبو يعلى: وظاهر هذا أنه لم يستحب ذلك.

ولا يستحب للأمام أن يدعو أكثر من قدر التشهد خشية الإطالة على المأمومين، فأما المنفرد فإنه يطيل ما لم يخف السهو فيكره له الزيادة.

وقد بوّب النسائيّ في ((سننه)) : ((باب: الذكر بعد التشهد)) ، وخرج

ص: 346

فيه حديث عكرمة بن عمار: ثنا إسحاق بن أبي طلحة، عن أنسٍ، قال: جاءت أم سليٍم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، علمني كلمات أدعو بهن في صلاتي، قال:((سبحي الله عشراً، واحمديه عشراً، وكبريه عشرا، ثم سليه حاجتك، يقول: نعم، نعم)) .

وخرّج –أيضاً – بعد ذلك من حديث جعفر بن محمدٍ، عن أبيه، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته بعد التشهد:((أحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمدٍ)) .

وهذا الحديث إنما يعرف فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله في تشهده في الخطبة، كما في ((صحيح مسلمٍ)) وغيره، فلعل ذكر الصلاة فيه مما توهمه بعض الرواة، حيث سمع أنه كان يقوله في تشهده، فظنّ أنه تشهد الصلاة.

وحديث أنسٍ المتقدم، خرّجه الترمذيّ والحاكمُ في ((باب: صلاة التسبيح)) .

وحسّنه الترمذي، وصححه الحاكم، وجعلاه من جملة أحاديث صلاة التسبيح.

وخرّجه الإمام أحمد، ولم يذكر فيه:((في صلاتي)) .

ص: 347

وقد روي الحديث بلفظٍ آخر بإسنادٍ آخر، وهو:((إذا صليت الصلاة المكتوبة فسبحي)) .

وهذا اللفظ يحمل على أنها تقول ذلك إذا فرغت من صلاتها، فيستدل به حينئذٍ على فضل الذكر والدعاء عقب الصلاة المكتوبة، وعلى ذلك حمله ابن حبان وغيره.

وقد روي عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح قيام الليل، يكبر عشراً، ويسبح عشراً، ويحمد عشراً، ويهلل عشراً، ويستغفر عشراً، ويقول:((اللهم، اغفر لي واهدني وارزقني)) –عشراً، ويقول:((اللهم، أني أعوذ بك من ضيق المقام يوم الحساب)) - عشراً.

خرّجه النسائي.

وخرّجه من وجوهٍ متعددةٍ بألفاظٍ متقاربةٍ، وفي بعضها: ثم يستفتح الصلاة.

وهذه الرواية تشهد لأنه كان يقول ذلك قبل دخوله في الصلاة. والله أعلم.

وروى جعفر الفريابي في ((كتاب الذكر)) بإسنادٍ صحيحٍ، عن ابن عمر، أنه رأى رجلاً دخل في الصلاة، فكبر، ثم قال: اللهم اغفر لي وأرحمني، فضرب ابن عمر منكبيه وقال: أبدأ بحمد الله عز وجل

ص: 348

والثناء عليه.

وهذا يدل على استحباب ذلك عند افتتاح الصلاة.

ومما يستدل به على استحباب الثناء على الله عز وجل في التشهد قبل الدعاء: ما روى أنس قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجل قائم يصلي، فلما ركع وسجد وتشهد دعا، فقال في دعائه: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، إني أسألك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:((هل تدرون بما دعا؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قالَ:

((والذي نفسي بيده، لقد دعا باسمه العظيم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى)) .

خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم وقال: صحيح على شرطهما.

وعن محجن بن الأدرع، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فإذا رجل قد قضى صلاته وهو يتشهد، فقال: اللهم، إني أسألك يا الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم، فقال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد غفر له)) –ثلاثاً.

خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم، وقال: على شرطهما.

ص: 349

وخرّج الترمذي من حديث ابن مسعود، قال كنت أصلي والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله تعالى، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعوت لنفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((سل تعطه. سل تعطه)) .

وقال: حسن صحيح.

وعن فضالة بن عبيدٍ، قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته، فلم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:((عجل هذا)) ، ثم دعاه، فقال له –أو لغيره -:((إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع بما شاء)) .

خرّجه الترمذي، وقال: حسن.

وخرّجه الإمام أحمد وأبو داود وعنده: ((فليبدأ بتمجيد ربه والثناء عليه)) .

وخرّجه النسائي، وزاد: فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي فمجد الله وحمده، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أدع تجب، وسل تعطه)) .

وخرّجه الترمذي بهذا المعنى –أيضاً -، وعنده: فقال: ((عجلت أيها

المصلي، إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله

ص: 350

وصلَّ عليَّ، ثم ادعه)) –وذكر باقيه بمعناه.

وفي هذا الحديث وحديث ابن مسعودٍ: استحباب تقديم الثناء على الله على الصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا قد يصدق بالدعاء بعد التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، لأن التشهد فيه ثناء على الله عز وجل، فلا يحتاج إلى إعادة الثناء.

وقال إسحاق: يحمد الله بعد التشهد وقبل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: نقله عنه حرب.

واستحب إسحاق وبعض الشافعية أن يبتدئ التشهد بـ ((بسم الله)) ، وفيه حديث مرفوع ضعفه غير واحدٍ.

وقد روي عن ابن عمر، أنه كان إذا تشهد التشهد الأخير دعا فيه، ثم أخر السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى نفسه وعباد الله الصالحين إلى بعد الدعاء، ثم يختم دعاءه بالسلام، ثم يسلم عن يمينه.

ولم يذكر البخاري الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، وقد دّل هذان

ص: 351

الحديثان – أعنى: حديث ابن مسعود وفضالة –عليها، ولكن ليسا على شرطه.

وقد روى ابن إسحاق: حدثنا محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن محمد بن

عبد الله بن زيدٍ، عن عقبة بن عمرو، قال: قالوا: يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ قالَ:((قولوا: اللهم، صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد)) .

خرّجه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحهما)) والدارقطني –وقال: إسناد حسن متصل –والحاكم – وقال: صحيح الإسناد.

ويشهد لذلك: قول الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: ((هذا السلام عليك قد عرفناه)) ، وإنما عرفوا السلام عليه في التشهد في الصلاة، وهو: ((السلام على النبي ورحمة الله

وبركاته)) ، فيكون سؤالهم عن الصلاة عليه في

ص: 352

الصلاة –أيضاً.

وقد خرّج ابن عدي من حديث طلحة، قال قلت: يا رسول الله، هذا التشهد قد عرفنا، فكيف الصلاة عليك –فذكره.

وفي إسناده: سليمان بن أيوب الطلحي، وقد وثقه يعقوب بن شيبة وغيره وقال ابن عديً: عامة أحاديثه أفراد لا يتابعه عليها أحد.

وخرج الحاكم والبيهقي من حديث ابن مسعودٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا تشهد أحدكم في الصلاة، فليقل: اللهم صل على محمد وآل محمدٍ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، وارحم محمداً وآل محمد، كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ)) .

وفي إسناده: رجل غير مسمىً.

وخرّج الدارقطني من حديث عبد الوهاب بن مجاهدٍ، عن مجاهدٍ، قال: أخذ بيدي ابن أبي ليلى –أو أبو معمرٍ -، قال: علمني ابن مسعودٍ التشهد، وقال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((التحيات لله)) –فذكره إلى آخره، وزاد بعده: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال: ابن مجاهد هذا، ضعيف الحديث.

وخرّج البيهقي من رواية إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن

عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((إذا جلستم بين

ص: 353

الركعتين فقولوا: التحيات لله)) – إلى آخر التشهد. قال عبد الله: وإذا قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أصابت كل عبدٍ صالحٍ أو نبيً مرسلٍ، ثم يبدأ بالثناء على الله والمدحة له بما هو أهله، وبالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل بعد ذلك.

والظاهر: أن آخره من قول ابن مسعود.

وفيه: استحباب الثناء على الله بعد التشهد قبل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

ولا نعلم خلافاٌ بين العلماء في أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير مشروعة، واختلفوا: هل تصح الصلاة بدونها؟ على ثلاثة أقوالٍ:

أحدها: لا تصح الصلاة بدونها بكل حال، وهو مذهب الشافعي وأحمد –في رواية عنه.

وروي عن أبي مسعودٍ الأنصاري، قال: ما أرى أن لي صلاة تمت لا أصلي فيها على محمد وآله.

وخرّج ابن ماجه من رواية عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعدٍ، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((لا صلاة لمن لم يصل على نبيه صلى الله عليه وسلم)) .

وعبد المهيمن، تكلموا فيه.

والثاني: تصح الصلاة بدونها مع السهو دون العمد، وهو رواية أخرى عن أحمد وإسحاق.

وروي معناه عن ابن عمر من قوله.

خرّجه المعمري في كتاب ((عمل يومٍ وليلةٍ)) .

ص: 354

واستدل بعض من قال ذلك بحديث فضالة بن عبيد المتقدم ذكره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر من صلى ولم يصل عليه بالإعادة حيث لم يكن يعلم ذلك، وإنما علمه أن يقولها فيما بعد.

والثالث: تصح الصلاة بدونها بكل حال، وهو قول أكثر العلماء، منهم: أبو حنيفة ومالك والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق –في رواية عنهما – وداود وابن جريرٍ وغيرهم.

وقال النخعي: كانوا يكتفون بالتشهد من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

خرّجه سعيد بن منصورٍ.

ولعله أراد: أن التسليم عليه والشهادة له بالرسالة تكفي من الصلاة عليه.

وقد روي عنه ما يدل على أن ذلك مراده، وعن منصور والثوري نحوه –

أيضاً.

واستدل لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم المسيء في صلاته الصلاة عليه، ولا صح عنه أنه علمها أصحابه مع التشهد، مع أنه علمهم الدعاء بعده، وليس بواجبٍ كما

سبق.

ص: 355

والأمر بها في حديث ابن إسحاق لا يدل على الوجوب؛ فإنه إنما أمرهم عندَ سؤالهم عنه، وهذه قرينة تخرج الأمر عن الوجوب، على ما ذكره طائفة من الأصوليين؛ فإنه لو كان أمره للوجوب لا بتدأهم به، ولم يؤخره إلى سؤالهم، مع حاجتهم إلى بيان ما يجب في صلاتهم؛ فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فدل على أنه اكتفى بالسلام عليه عن الصلاة.

يدل على ذلك: أن عمر كان يعلم الناس التشهد على المنبر، ولم يذكر فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك روي صفة التشهد عن طائفةٍ من الصحابة، منهم: ابن عمر وعائشة وغيرهما، ولم يذكروا فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

* * *

151 -

ص: 356

باب

من لم يمسح جبهته وأنفه حتى صلى

قال أبو عبد الله: رأيت الحميدي يحتج بهذا الحديث أن لا يمسح الجبهة في الصلاة.

ص: 357

836 -

حدثنا مسلم بن إبراهيم: ثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، قال: سألت أبا سعيدٍ الخدري، فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين، حتى رأيت أثر الطين في جبهته.

هذا مختصر من الحديث الذي فيه ذكر طلب ليلة القدر، وقد سبق بتمامه في ((أبواب السجود)) ، وسيأتي في آخر ((الصيام)) –إن شاء الله سبحانه وتعالى –بألفاظٍ أخر، وفي بعضها: أانه قال: فبصرت عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرت إليه انصرف من الصبح ووجهه ممتلىء.

ولا شك أنه لم ينظر إلى وجهه إلا بعد انصرافه من الصلاة، فدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يمسح أثر الطين من جبهته وأنفه في الصلاة، وهذا هو الذي أشار إليه الحميدي.

وقد اتفقوا على أن تركه في الصلاة أفضل، فإنه يشبه العبث،

ص: 357

واختلفوا: هل هو مكروهُ، أم لا؟

قال ابن المنذر: روينا عن ابن مسعودٍ، أنه قال: من الجفاء مسح الرجل أثر سجوده في الصلاة.

وكره ذلك الأوزاعي وأحمد ومالك.

وقال الشافعي: تركه أحب إلي، وإن فعل فلا شيء عليه.

ورخص مالك وأصحاب الرأي فيه. انتهى.

وروي عن ابن عباس، أنه قال: لا يمسح وجهه من التراب في الصلاة حتى يتشهد ويسلم.

وعن سعيد بن جبير: أنه عدّه من الجفاء.

وعن الحسن: أنه رخص فيه.

وقال سفيان –في نفض التراب عن اليدين في الصلاة -: يُكره.

وأما عن الوجه فهو أيسر، وفي كراهته حديثان مرفوعان:

أحدهما: خرّجه ابن ماجه من روايةٍ هارون بن هارون بن عبد الله بن الهدير، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إن من الجفاء أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل الفراغ من صلاته)) .

وهارون هذا، قال البخاري: لا يتابع على حديثه. وضَّعفه النسائي

ص: 358

والدارقطني.

والثاني: من رواية سعيد بن عبيد الله بن زياد بن جبير بن حية، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((ثلاث من الجفاء: أن يبول الرجل قائماً، أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، أو ينفخ في سجوده)) .

خَّرجه البزار في ((مسنده)) والطبراني والدارقطني وغيرهم.

وسعيد هذا، احتج به البخاري ووثقه أحمد وابن معينٍ وأبو زرعة وغيرهم.

لكنه خولف في إسناد هذا الحديث:

فرواه قتادة والجريري، عن ابن بريدة، عن ابن مسعودٍ من قوله.

ورواه كهمس، عن ابن بريدة، قال: كان يقال ذلك.

وهذا الموقوف أصح.

وحكى البيهقي، عن البخاري، أنه قال في المرفوع: هو حديث منكر يضطربون فيه.

ص: 359

وأشار الترمذي إليه في ((باب: البول قائما)) ، ولم يخرجه، ثم قال: حديث بريدة في هذا غير محفوظٍ.

قال البيهقي: وقد روي فيه من أوجه أخرى، كلها ضعيفة.

فأما مسح الوجه من أثر السجود بعد الصلاة، فمفهوم ما روي عن ابن مسعودٍ وابن عباسٍ يدل على أنه غير مكروهٍ.

وروى الميموني، عن أحمد، أنه كان اذا فرغ من صلاته مسح جبينه.

وقد روي من حديث أنسٍ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان اذا قضى صلاته مسح جبهته بكفه اليمنى.

وله طرق عن أنس، كلها واهية.

وكرهه طائفة؛ لما فيه من إزالة أثر العبادة، كما كرهوا التنشيف من الوضوء والسواك للصائم.

وقال عبيد بن عميرٍ: لا تزال الملائكة تصلي على إلانسان ما دام أثر السجود في وجهه.

خَّرجه البيهقي بإسنادٍ صحيحٍ.

وحكى القاضي أبو يعلي روايةً عن أحمد، أنه كان في وجهه شيء من أثر السجود فمسحه رجل، فغضب، وقال: قطعت استغفار الملائكة عني.

وذكر إسنادها عنه، وفيه رجل غير مسمىً.

ص: 360

وبوب النسائي ((باب: ترك مسح الجبهة بعد التسليم)) ، ثم خرج حديث أبي سعيد الخدري الذي خَّرجه البخاري هاهنا، وفي آخره: قال ابو سعيدٍ: مطرنا ليلة أحدى وعشرين، فوكف المسجد في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح، ووجهه مبتل طيناً وماءً.

* * *

152 -

ص: 361

باب

التسليم

ص: 362

837 -

حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا إبراهيم بن سعد: ثنا الزهري، عن هند بنت الحارث، أن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه، ومكث يسيراً قبل أن يقوم.

قال ابن ئهاب: فأرى –والله أعلم - أن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم.

المقصود من هذا الحديث: ذكر تسليم النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة، وتسليمه من الصلاة مذكور في أحاديث كثيرة جداً، قد سبق بعضها، ويأتي بعضها، كمثل حديث ابن بحينة في قيام النبي صلى الله عليه وسلم من الثنتين ولم يجلس، ومثل حديث عمران بن حصين حين صلى خلف علي بن أبي طالب –رضي الله عنهما، ومثل حديث أبي هريرة في سلام

النبي صلى الله عليه وسلم من اثنتين، وكلام ذي اليدين له، وحديث ابن مسعودٍ في سجود السهو –أيضاً.

والاحاديث في ذلك كثيرة جداً.

ولعله ذكر هاهنا هذا الحديث لما ذكر فيه من قيام النساء حين يقضي تسلميه؛ فإن هذا الكلام يشعر بإنه كانَ يسلم تسليمتين، فإذا قضاهما

ص: 362

قام النساء، فإنه لا يقال:((قضى الله)) بمعنى الفراغ منه إلا فيما لهُ أجزاء متعددة تنقضي شيئاً فشيئاً، كما قالَ تعالى:{فإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} [النساء:103] ، {? فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ}

[الجمعة:10]، {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ} [البقرة:200] .

وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الشيطان وهربه من الأذان والتثويب به: ((فإذا قضي الأذان –وإذا قضي التثويب –أقبل)) .

ولا يكاد يقال لمن سلم على قومٍ مرة: قضى سلامه، بمعنى فرغ، ولا لمن كبر للإحرام: قضى تكبيره، ولا لمن عطس فحمد الله: قضى حمده.

ولم يخرج البخاري الأحاديث المصرحة بتسليم النبي صلى الله عليه وسلم تسليمتين عن يمينه وشماله في الصلاة شيئاً، ولعله كان يميل إلى قول من يقول بالتسليمة الواحدة، وقد كان شيخه ابن المديني يميل إلى ذلك، متابعة لشيوخه البصريين.

وخَّرج مسلم في ((صحيحه)) من أحاديث التسليمتين عدة أحاديث:

منها: حديث مجاهد، عن أبي معمر، أن أميراً كان يسلم تسليمتين بمكة، فقال – يعني: ابن مسعودٍ -: أنى علقها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله.

وقد اختلف في رفعه ووقفه، وخَّرجه مسلم بالوجهتين.

وخرّج –أيضاً - من حديث سعد بن أبي وقاصٍ، قال: كنت أرى

ص: 363

رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره، حتى أرى بياض خده.

وهو من رواية عبد الله بن جعفرٍ المخرمي، ولم يخرج له البخاري.

وخرّج –أيضاً - من حديث عبيد الله بن القبطية، عن جابر بن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله)) .

وروى أبو إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه وعن يساره:((السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله)) .

خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

وفي روايةٍ لهم: حتى يرى بياض خده.

وخرّجه الترمذي بدون ذلك، وصححه.

وخرّجه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحهما)) والحاكم وصححه.

وصححه العقيلي، وقال: الأحاديث صحاح ثابتةٌ من حديث ابن مسعودٍ في تسليمتين.

وفي رواية للنسائي: ورأيت أبا بكرٍ وعمر يفعلان ذلك.

ص: 364

قد اختلف في إسناده على أبي إسحاق على أقوالٍ كثيرةٍ، وفي رفعه ووقفه، وكان شعبةُ ينكر أن يكون مرفوعاً.

وروى عمرو بن يحيى المازني، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، أنه سأل ابن عمر عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: كيف كانت؟ قال: ((الله أكبر)) ، كلما وضع ورفع، ثم يقول:((السلام عليكم ورحمه الله)) عن يمينه، ((السلام عليكم ورحمه الله)) عن يساره.

خَّرجه الإمام أحمد والنسائي.

وهذا إسناد جيد.

قال ابن عبد البر: هو إسناد مدني صحيح، إلا أنه يعلل بأن ابن عمر كان يسلم تسليمةً واحدةً، فكيف يروي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخالفه؟

وقد ذكر البيهقي أنه اختلف في إسناده، لكنه رجح صحته.

ورواه –أيضاً - بقية، عن الزبيدي، عن الزهري، عن سالمٍ، عن ابن عمر –مرفوعاً - أيضاً.

ص: 365

قال أبو حاتم: هو منكر.

وقال الدارقطني: اختلف على بقية في لفظه: روي أنه كان يسلم تسليمتين، وروي تسليمةً واحدةً، وكلها غير محفوظةٍ.

وقال الأثرم: هو حديث واهٍ، وابن عمر كان يسلم واحدةً، قد عرف ذلك عنه من وجوهٍ، والزهري كان ينكر حديث التسليمتين، ويقول: ما سمعنا بهذا.

وروي –أيضاً - من حديث حميدٍ الساعدي، أنه لما وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: سلم عن يمينه وشماله.

خرّجه أبو داود من رواية الحسن بن الحر: حدثني عيسى بن عبد الله بن مالكٍ، عن محمد بن عمرة وابن عطاءٍ، عن عباس بن سهلٍ، عنه.

وقد سبق الكلام على هذا الإسناد.

وفي الباب أحاديث كثيرة، لا تخلو أسانيد غالبها من كلام.

وقد قال الإمام أحمد –في رواية ابنه عبد الله -: ثبت عندنا، عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجهٍ، أنه كان يسلم عن يمينه وعن شماله، حتى يرى بياض خده.

وقال العقيلي: الأحاديث الصحاح عن ابن مسعودٍ وسعد بن أبي

ص: 366

وقاص وغيرهما في تسليمتين.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يسلم تسليمةً واحدةً من وجوهٍ لا يصح منها شيء -: قاله ابن المديني والأثرم والعقيلي وغيرهم.

وقال الإمام أحمد: لا نعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في التسليمة الواحدة إلا حديثاً مرسلاً لابن شهابٍ الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.

ومرسيل ابن شهابٍ من أوهى المراسيل وأضعفها.

ومن أشهرها: حديث زهير بن محمدٍ، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن

عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم في الصلاة تسليمةً واحدةً تلقاء وجهه، ثم يميل إلى الشق الأيمن شيئاً.

خرّجه الترمذي من رواية عمرو بن أبي سلمة التنيسي، عن زهير، به.

وقال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من من هذا الوجه. قال محمد بن إسماعيل: زهير بن محمد أهل الشام يروون عنه مناكير، ورواية أهل العراق عنه أشبه.

وخرّجه ابن ماجه من طريق عبد الملك بن محمد الصنعاني، عن زهير، به، مختصراً.

وخرّجه الحاكم، وقال: صحيح على شرطهما.

وأخطأ فيما قال؛

ص: 367

فإن روايات الشاميين عن زهيرٍ مناكير عند أحمد ويحيى بن معينٍ والبخاري وغيرهم.

قال أحمد –في رواية الأثرم -: أحاديث التنيسي عن زهيرٍ بواطيل. قال: وأظنٌّه قال: موضوعةٌ. قال: فذكرت له هذا الحديث في التسليمة الواحدة. فقال: مثلُ هذا.

وذكر ابن عبد البر: أن يحيى بن معين سئل عن هذا الحديث، فضعفه.

وقال أبو حاتم الرازي: هو منكر، إنما هو عن عائشة –موقوفٌ.

وكذا رواه وهيب بن خالد، عن هشام.

وكذا رواه الوليد بن مسلمٍ عن زهير بن محمدٍ، عن هشامٍ، عن أبيه –موقوفاً.

قال الوليد: فقلت لزهيرٍ: فهل بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء؟ قال: نعم، أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلم تسليمةً واحدةً.

قال العقيلي: حديث الوليد أولى.

يعني: من حديث عمرو بن أبي سلمة.

قال: وعمرو في حديثه وهم.

ص: 368

قال الدارقطني: الصحيح وقفه، ومن رفعه فقد وهم.

وخرج النسائي من حديث سعد بن هشامٍ، عن عائشة في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، أنه كان يسلم تسليمةً يسمعنا.

وخَّرجه الإمام أحمد، ولفظه: يسلم تسليمةً واحدةً: ((السلام عليكم)) يرفع بها صوته، حتى يوقظنا.

وقدحمله الإمام أحمد على أنه كان يجهر بالواحدة، ويسر الثانية.

وروي عبد الوهاب الثقفي، عن حميدٍ، عن أنسٍ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة.

ص: 369

خَّرجه الطبراني والبيهقي.

ورفعه خطأ، إنما هو موقوف، كذا رواه أصحاب حميدٍ، عنه، عن أنسٍ، من فعله.

وروى جرير بن حازمٍ، عن أيوب، عن أنسٍ، أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ وعمر كانوا يسلمون تسليمةً واحدةً.

خَّرجه البزار في ((مسنده)) .

وأيوب، رأى أنساً، ولم يسمع منه -: قاله أبو حاتمٍ.

وقال الأثرم: هذا حديث مرسل، وهو منكر، وسمعت أبا عبد الله

ص: 370

يقول: جرير بن حازم يروي عن أيوب عجائب.

وروى روح بن عطاء بن أبي ميمونة: ثنا أبي، عن الحسن، عن سمرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم في الصلاة تسليمةً واحدةً قبالة وجهه، فإذا سلم عن يمينه سلم عن يساره.

خَّرجه الدارقطني والعقيلي والبيهقي وغيرهم، وخَّرجه بقي بن مخلدٍ مختصراً.

وروح هذا، ضعفه ابن معين وغيره، وقال الأثرم: لا يحتج به.

وفي الباب أحاديث أخر لا تقوم بها حجة، لضعف أسانيدها.

ص: 371

وقد اختلف الصحابة ومن بعدهم في ذلك: فمنهم من كان يسلم ثنتين، ومنهم من كان يسلم واحدةً.

قال عمار بن أبي عمارٍ: كان مسجد الأنصار يسلمون تسليمتين، ومسجد المهاجرين يسلمون تسليمةً واحدةً.

وأكثر أهل العلم على التسليمتين.

وممن روي عنه ذلك من الصحابة: أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعودٍ وعمار وسهل بن سعدٍ ونافع بن عبد الحارث.

وروي عن عطاءٍ والشعبي وعلقمة ومسروقٍ وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعمرو بن ميمونٍ وأبي وائلٍ وأبي عبد الرحمن السلمي.

وهو قول النخعي والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثورٍ، وحكي عن الأوزاعي.

وروي التسليمة الواحدة عن ابن عمر وأنسٍ وعائشة وسلمة بن الأكوع، وروى عن عثمان وعليً –أيضاً -، وعن الحسن وابن سيرين وعطاءٍ –أيضاً – وعمر بن عبد العزيز والزهري، وهو قول مالكٍ والاوزاعي والليث.

وهو قول قديم للشافعي.

وحكاه أحمد عن أهل المدينة، وقال: ما كانوا يسلمون إلا واحدةً. قال: وإنما حدثت

ص: 372

التسليمتان في زمن بني هاشمٍ.

يعني: في ولاية بني العباس.

وقال الليث: أدركت الناس يسلمون تسليمةً واحدةً.

وقد اختلف على كثيرٍ من السلف في ذلك، فروى عنهم التسليمتان، وروي عنهم التسليمة الواحدة، وهو دليلٌ على أن ذلك كان عندهم سائغاً، وإن كان بعضه أفضل من بعضٍ، وكان الأغلب على أهل المدينة التسليمة الواحدة، وعلى أهل العراق التسليمتان.

وحكي للشافعي قولٌ ثالثٌ قديمٌ –أيضاً -، وقيل: إن الربيع نقله عنه، فيكون حينئذٍ جديداً -: أنه إن كان المصلي منفرداً أو في جماعةٍ قليلةٍ ولا لغط عندهم فتسليمةٌ واحدةٌ، وإلا فتسليمتان.

والقائلون بالتسليمتين أكثرهم على أنه لو اقتصر على تسليمة واحدة أجزأه، وصحت صلاته، وذكره ابن المنذر إجماعاً ممن يحفظ عنه من أهل العلم.

وذهب طائفة منهم إلى أنه لا يخرج من الصلاة إلا بالتسليمتين معاً، وهو قول الحسن بن حي وأحمد –في روايةٍ عنه – وبعض المالكية وبعض أهل الظاهر.

واستدلوا بقوله عليه السلام: ((تحليلها التسليم)) ، وقالوا: التسليم إلى ما عهد منه فعله، وهو التسليمتان، وبقوله:((صلوا كما رأيتموني أصلي)) ، وقدكان يسلم تسليمتين.

ص: 373

ومن ذهب إلى قول الجمهور، قال: التسليم مصدرٌ، والمصدر يصدق على القليل والكثير، ولا يقتضي عدداً، فيدخل فيه التسليمة الواحدة.

واستدلوا بأن الصحابة قد كان منهم من يسلم تسليمتين، ومنهم من يسلم تسليمةً واحدةً، ولم ينكر هؤلاء على هؤلاء، بل قد روي عن جماعةٍ منهم التسليمتان والتسليمة الواحدة، فدل على أنهم كانوا يفعلون أحياناً هذا وأحياناً هذا، وهذا اجماع منهم على أن الواحدة تكفي.

قال أكثر أصحابنا: ومحل الخلاف عن أحمد في الصلاة المكتوبة، فأما التطوع فيجزئ فيه تسليمة، واستدلوا بحديث عائشة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، وقد سبق ذكره.

وخرّج الإمام أحمد من حديث إبراهيم الصائغ، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل بين الشفع والوتر بتسليمةٍ يسمعناها.

وقد تأول حديث عائشة في هذا المعنى على أنه كان يسمعهم واحدةً ويخفي

الثانية، وقد نص أحمد على ذلك، وأن الأولى تكون أرفع من الثانية في الجهر.

وقد روى أبو رزينٍ، قال: سمعت علياً يسلم في الصلاة عن يمينه

ص: 374

وعن شماله، والتي عن شماله أخفض.

ومن أصحابنا من قال: يجهر بالثانية ويخفض بالأولى، وهو قول النخعي.

واختلفوا في صفة التسليم:

فقالت طائفةٌ: صفة التسليم: ((السلام عليكم ورحمه الله)) ، وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه، إليه ذهب أكثر العلماء.

ولو اقتصر على قوله ((السلام عليكم)) أجزأه عند جمهورهم، ولأصحاب أحمد فيه وجهان.

وقالت طائفة: يزيد مع ذلك: ((وبركاته)) ، ومنهم: الأسود بن يزيد، كان يقولها في التسليمة الأولى.

وقال النخعي: أقولها وأخفيها.

واستحبه طائفة من الشافعية.

وقد خرّج أبو داود من حديث وائل بن حجر، أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يسلم عن يمينه:((السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)) ، وعن شماله:((السلام عليكم ورحمة الله)) .

ومن أصحابنا من قال: إنما فعل ذلك مرةً لبيان الجواز.

ص: 375

وكان من السلف من يقول في التسليمة الأولى: ((السلام عليكم ورحمه الله)) ، ويقتصر في الثانية على ((السلام عليكم)) ، وروي عن عمار وغيره.

وقد تقدم حديث ابن عمر المرفوع بموافقة ذلك.

وقالت طائفة: بل يقتصر على قوله: ((السلام عليكم)) بكل حالٍ، وهو قول مالك والليث بن سعدٍ، وروي عن علي وغيره.

وكذلك هو في بعض روايات حديث جابر بن سمرة المرفوع.

وفي بعضها زيادة: ((ورحمه الله)) .

وقد خَّرجه مسلم بالوجهين.

واكثر العلماء على أنه لا يخرج من الصلاة بدون التسليم، واستدلوا بحديث:((تحليلها التسليم)) .

وممن قال من الصحابة: تحليل الصلاة التسليم: ابن مسعودٍ وابن عباسٍ، وحكاه الإمام أحمد إجماعاً.

وذهب طائفة إلى أنه يخرج من الصلاة بفعل كل منافٍ لها، من أكلٍ أو شربٍ أو كلامٍ أو حدثٍ، وهو قول الحكم وحماد والثوري وأبي حنيفة وأصحابه والأوزاعي وإسحاق.

ولم يفرقوا بين أن يوجد المنافي باختيار المصلي أو بغير اختياره إلا أبا حنيفة، فإنه قال: إن وجد باختياره خرج من الصلاة بذلك، وإن وجد بغير اختياره بطلت صلاته، وجعل الفرض الخروج منها بفعل المنافي باختيار المصلى لذلك.

وخالفه صاحباه في اشتراط ذلك.

ص: 376

وقد حكي عن طائفة من السلف: أن من أحدث بعد تشهده تمت صلاته، منهم: الحسن وابن سيرين وعطاء – على خلاف عنه – والنخعي.

وروي ذلك عنن علي بن أبي طالب، وقد أنكر صحته أحمد وأبو حاتمٍ الرازي وغيرهما.

وروي –أيضاً - عن ابن مسعود من طريقٍ منقطعٍ.

واستدل لهؤلاء بحديث ابن مسعود: ((إذا قلت هذا وقضيت هذا فقد قضيت صلاتك، فإن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد)) .

وقد سبق ذكره، والاختلاف في رفعه ووقفه على ابن مسعودٍ.

واختلف في لفظه –أيضاً -: فرواه بعضهم، وقال: قال ابن مسعودٍ: فإذا فرغت من صلاتك، فإن شئت فاثبت، وإن شئت فانصرف.

خَّرجه البيهقي.

وهذه الرواية تدل على أنه إنما خيره إذا فرغ من صلاته، وإنما يفرغ بالتسليم؛ بدليل ما روى شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: مفتاح الصلاة التكبير، وانقضاؤها التسليم، إذا سلم الإمام فقم إن شئت.

قال البيهقي: وهذا أثر صحيح.

وقال: ويكون مراد ابن مسعودٍ: الإنكار على من زعم أن المأموم لا يقوم حتى يقوم إمامه.

وحمل أبو حنيفة وإسحاق حديث: ((تحليلها والتسليم)) على

ص: 377

التشهد، وقالوا: يسمى التشهد تسليماً؛ لما فيه من التسليم على النبي والصالحين.

وهذا بعيد جداً.

واستدلوا –أيضاً - بما روى عبد الرحمن بن زيادٍ الأفريقي، أن عبد الرحمن بن رافعٍ وبكر بن سوادة أخبراه، عن عبد الله ابن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا أحدث وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم جازت صلاته)) .

خَّرجه الترمذي.

وقال: إسناده ليس بالقوي، وقد اضطربوا في إسناده، والأفريقي ضعفه القطان وأحمد بن حنبلٍ.

وخَّرجه أبو داود بمعناه.

وخَّرجه الدارقطني، ولفظه:((إذا أحدث بعدما يرفع رأسه من آخر سجدة واستوى جالساً تمت صلاته)) .

وقد روي بهذا المعنى عن الأفريقي، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو –مرفوعاً.

وهذا اضطراب منه في إسناده، كما أشار اليه الترمذي، ورفعه منكر جداً، ولعله موقوف، والأفريقي لا يعتمد على ما ينفرد به.

قال حربٌ: ذكرت هذا الحديث لأحمد، فرده، ولم يصححه.

ص: 378

وقال الجوزجاني: هذا الحديث لا يبلغ القوة أن يدفع أحاديث: ((تحليلها

التسليم)) .

وأجاب بعضهم عن هذا، وعن حديث ابن مسعودٍ –على تقدير صحتهما –بالنسخ، واستدل بما روى عمر بن ذرَّ، عن عطاء بن أبي رباحٍ، قالَ: كانَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قعد في آخر صلاته قدر التشهد أقبل على الناس بوجهه، وذلك قبل أن ينزل التسليم.

خَّرجه البيهقي.

وخَّرجه وكيعٌ في ((كتابه)) عن عمر بن ذرَّ، عن عطاءٍ – بمعناه -، وقال: حتَّى نزل التسليم.

وقد ذكرنا –فيما تقدم في أول ((كتاب الصَّلاة)) –حديثاً، عن عمر، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ يصلي في أول الاسلام ركعتين، ثُمَّ أمر أن يصلي أربعا، فكان يسلم بين كل ركعتين، فخشينا أن ينصرف الصبي والجاهل، يرى أنه قد أتم الصَّلاة، فرأيت أن يخفي الإمام التسليمة الأولى، ويعلن بالثانية، فافعلوا ذَلِكَ.

خَّرجه الإسماعيلي.

وإسناده ضعيف.

ص: 379

ولم يقل بذلك أحد من علماء المسلمين: إن الصَّلاة الرباعية المكتوبة يسلم فيها مرتين: مرة في التشهد الأول، ومرة في الثاني، ولكن الإمام يسر السلام الأول، ويعلن بالثاني، والأحاديث كلها تدل على أنه لم يكن يسلم فيها إلا مرةً واحدةً، في التشهد الثاني خاصةً.

* * *

153 -

ص: 380

باب

يسلم حين يسلم الإمام

وكان ابن عمر يستحب إذا سلم الإمام أن يسلم من خلفه.

روى وكيع بإسناده، عن مجاهد، قال: سألت ابن عمر، يسلم الإمام وقد بقي شيءٌ من الدعاء، أدعو أو أسلم؟ قال: لا، بل سلم.

وقد نص الإمام أحمد على هذه المسالة، وأن يسلم مع الإمام ويدع الدعاء، إلا أن يكون قد بقي عليه منه شيءٌ يسيرٌ، فيتمه ثم يسلم.

ومذهب سفيان - فيما نقله عنه أصحابه -: إذا سلم الإمام سلم من خلفه، وإن كان بقي عليه شيءٌ من التشهد قطعه.

ولعل مراده: الدعاء بعد التشهد.

ولكن نقل حسان بن إبراهيم، عن سفيان: أنه قال: إن كان بقي عليه شيءٌ من التشهد فليسلم، فإنه أحب إلي.

واستحب أحمد وإسحاق سلام المأموم عقب سلام الإمام، وجعله أحمد من جملة الائتمام به، وعدم الاختلاف عليه.

والأولى للمأموم أن يسلم عقب فراغ الإمام من التسليمتين، فان سلم بعد تسليمته الأولى جاز عند من يقول: إن الثانية غير واجبةٍ؛ لأنه يرى أن الإمام قد خرج من الصلاة بتسليمته الأولى، ولم يجز عند من يرى أن الثانية واجبةٌ، لا يخرج من الصلاة بدونها.

ص: 381

واختلف أصحاب الشافعي: هل الأفضل أن يسلم المأموم بعد تسليمة الإمام

الأولى، أو بعد تسليمته الثانية؟ على وجهين.

وقال الشافعي – في ((البويطي)) -: من كان خلف إمامٍ، فإذا فرغ الإمام من سلامه سلم عن يمينه وعن شماله.

وهذا يدل على أنه لا يسلم إلا بعد فراغ الإمام من التسليمتين، ويدل –أيضاً -، على أنه لا يستحب للمأموم التخلف عن سلام الإمام، بل يسلم عقب سلامه.

وهذا على قول من قال من أصحابه –كالمتولي -: إنه يستحب للمأموم أن يسلم بعد فراغ الإمام من التسليمة الأولى –أظهر.

وقال القاضي أبو الطيب الطبري منهم: المأموم بالخيار، إن شاء سلم بعده، وإن شاء استدام الجلوس للتعوذ والدعاء وأطال لك، وعلل: أنه قد انقطعت قدوته بالإمام بسلامه.

وهذا مخالفة لنص الشافعي، وعامة أصحابه، وللمأثور عن الصحابة.

ولو سلم المأموم مع تسلم إمامه، ففي بطلان صلاته لأصحابنا وأصحاب الشافعي وجهان، سبق ذكرهما عند ذكر متابعة المأموم للإمام.

والأصح عندنا وعندهم: أنه لا تبطل صلاته، كما لو قارنه في سائر الأركان، سوى تكبيرة الإحرام.

ومذهب مالك: البطلان.

وقد استحب طائفة من السلف التسليم مع الإمام.

ص: 382

وروى وكيع في ((كتابه)) عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يسلم مع تسليم الإمام.

وبإسناده، عن إبراهيم، قال: إن شئت سلمت معه، وإن شئت سلمت بعده.

وعن عطاءٍ، أنه كان ربما سلم تسليمه، وربما سلم بعده.

وقد يحتمل أن يكون مراد هؤلاء السلف بالسلام معه: السلام عقبيه، من غير مهلةٍ، وبالسلام بعده: التأخر عنه. والله أعلم.

وقد وقع في كلام المتقدمين في إسلام الزوجين معاً ما يدل على أن مرادهم به: اجتماعهما في الإسلام في مجلسٍ واحدٍ، أو يومٍ واحدٍ، وفيه حديثٌ مرفوعٌ يشهد

بذلك.

وإن سلم المأموم قبل سلام إمامه لم يجز، وبطلت صلاته إن تعمد ذلك ولم ينو مفارقته على وجه يجوز معه المفارقة، إلا عند من يرى أن السلام ليس من الصلاة، ويخرج منها بإنهاء التشهد، أو بدون التشهد عند من يرى أن التشهد الأخير سنة.

لكن من قال منهم: لا يخرج من الصلاة إلا بالإتيان بالمنافي، فإنه لا يجيز للمأموم أن يخرج من الصلاة قبل خروج إمامه بذلك.

وظاهر ما روي عن ابن مسعودٍ يدل على جوازه، وأنه يخرج من الصلاة بإنهاء التشهد، وقد تقدم قوله: فإذا قلت ذلك، فإن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد.

ص: 383

وروي ذلك عن علي صريحاً، فروى عبد الرزاق في ((كتابه)) ، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، قال: إذا تشهد الرجل وخاف أن يحدث قبل أن يسلم الإمام فليسلم، فقد تمت صلاته.

وقد رواه الحكم، عن عاصمٍ، عن علي، ولفظه: إذا جلس مقدار التشهد، ثم أحدث فقد تمت صلاته.

فيكون أمره بالمبادرة بالسلام على وجه الاستحباب، فإنه لو أحدث لم تبطل صلاته عنده.

وقد حكي مذهب أبي حنيفة مثل ذلك. والله أعلم.

قال البخاري:

838 -

ص: 384

ثنا حبان بن موسى: ثنا عبد الله – هو: ابن المبارك -: أنا معمر، عن الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عتبان، قال صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلمنا حين سلم.

هذا مختصر من حديث عتبان الطويل في إنكاره بصره، وطلبه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي إلى بيته فيصلي فيه في مكان يتخذه مسجدا، وقد خَّرجه بتمامه في الباب الذي يلي هذا عن عبدان، عن ابن المبارك.

وقد خَّرجه فيما مضى من طريق عقيل ومالك وإبراهيم بن سعدٍ، عن الزهري – مختصراً ومطولاً -، وليس في رواياتهم: ((

ص: 384

فسلمنا حين سلم)) ، إنما هذه في رواية معمرٍ المخَّرجة في هذا الباب.

وقوله: ((سلَّمنا حين سلم)) ظاهرة يقتضي أنهم سَّلموا مع سلامه؛ لأن

((الحين)) معناه الوقت، فظاهر اللفظ يقتضي أن سلامهم كانَ في وقت سلامه مقارناً لهُ، وليس هذا هوَ المراد –والله أعلم – وإنما المراد: أنهم سلمو اعقيب سلامه من غير تأخر عنه، وعبر عن ذَلِكَ باتحاد الوقت، والحيز؛ فإن التعاقب شبيه بالتقارب وهو – أيضاً –المراد –والله اعلم. من المروري عن ابن عمر وغيره من السلف في السلام مع

الإمام، وأنهم أرادوا بالمعية: التعاقب، دون التقارن.

* * *

ص: 385

‌154 - باب

من لم يرد السلام على الإمام واكتفى بتسليم الصلاة

خَّرج فيه حديث عتبان –أيضاً:

839 -

840 -

ص: 386

عن عبدان، عن ابن المبارك، بالإسناد المتقدم، وذكر الحديث بتمامه، وفي آخر قالَ:

فغدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ معه بعدما أشتد النهار، فأستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فأذنت له، فلم يجلس حتى قال:((اين تحب أن اصلي من بيتك؟)) فأشار إليه من المكان الذي أحب أن يصلي فيه، فقام وصففنا خلفه، ثم سلم، وسلمنا حين سلم.

مراده بهذا الحديث في هذا الباب: أن الذين صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عتبان سلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين سلم من الصلاة، ولم يوجد منهم سوى السلام من الصلاة كسلام النبي صلى الله عليه وسلم منها، وفي ذلك ردٌ على من قال: إن المأموم يرد على الإمام سلامه مع تسليمه من السلام إما قبله أو بعده.

وقد قال بذلك طوائف من السلف، منهم: ابن عمر وأبو هريرة:

فروي عن ابن عمر، أنه كان إذا سلم الإمام رد عليه، ثم سلم عن يمينه، فإن سلم عليه أحد عن يساره رد عليه وإلاّ سكت.

ص: 386

وروي عنه، أنه كان يسلم عن يمينه، ثم يرد على الإمام.

وعن أبي هريرة، أنه كان إذا سلم الإمام قال: السلام عليك أيها القارئ.

وقال عطاء: ابدأ بالامام، ثم سلم على من عن يمينك، ثم على من عن شمالك.

وعن الحسن وقتادة نحوه.

وقال الشعبي: إذا سلم الإمام فَّرد عليه.

وكان سالمٌ يفعله.

وقاله النخعي.

وقال الزهري: هو سنةٌ.

قال مكحولٌ: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يردون على الإمام إذا سلم عليهم.

وقال عطاء –أيضاً -: حق عليك أن ترد على الإمام إذا سلم.

وقال – مرةً -: هو مخيرٌ، إن شاء رد عليه، وإن شاء صبر حتى يسلم لنفسه، وينوي به الإمام، ومن صلى على جانبيه.

وقال في الرد على الإمام: يرد في نفسه، ولا يسمعه.

وكذا قال حمادٌ.

فإن كان مرادُ من قال: يرد على الإمام: أنه يرد عليه السلام في نفسه، ولا يتكلم به، فهذا الرد إذا فعله في الصلاة لا تبطل به الصلاة، وإن كان مراده: أنه يرد بلسانه، كما هو ظاهر أكثرهم، فإنه ينبني على أن ردَّ السلام في الصلاة لا يبطل الصلاة، وقد ذهب إلى ذلك

ص: 387

طائفة من السلف، ويأتي ذكره في موضعٍ آخر – إن شاء الله تعالى.

وقد ينبني –أيضاً -، على أن السلام ليس من فروض الصلاة، وأنه يخرج من الصلاة بكل منافٍ لها من الكلام ونحوه، كما قال ذلك من ذكرنا قوله من قبل.

وأما من قال: إن الرد على الإمام يكون بعد السلام من الصلاة، فهذا لا إشكال فيه؛ فإنه قد خرج من الصلاة بالسلام، وقد ذهب إلى ذلك غير واحد من الأئمة المشهورين.

قال مالكٌ، في المأموم: يسلم تسليمةً عن يمينه، وأخرى عن يساره، ثم يرد على الإمام.

قال ابن عبد البر: تحصيل قول مالكٍ في ذلك: أن الإمام يسلم واحدةً تلقاء وجهه، ويتيامن بها قليلاً - وأن المصلي لنفسه –يعني: منفرداً –يسلم اثنين – في رواية ابن القاسم، وأن المأموم يسلم ثلاثا إن كان عن يساره أحد.

واختلف قوله في موضع رد المأموم على الإمام: فمرةً قال: يسلم عن يمينه وعن يساره، ثم يرد على الإمام. ومرة قال: يرد على الإمام بعد أن يسلم عن يمينه، ثم يسلم عن يساره.

وقد روى أهل المدينة عن مالك وبعض المصريين، أن الإمام والمنفرد سواءٌ، يسلم كل واحد منهما تسليمةً واحدةً تلقاء وجهه، ويتيامن بها قليلاً.

قال: وكان الليث بن سعد يبدأ بالرد على الإمام، ثم

ص: 388

يسلم عن يمينه وعن يساره.

ونقل أبو داود عن أحمد في الرد على الإمام قبل السلام، قال: لا.

قيل له: فبعده؟ قال: نعم، وإن شاء نوى بالسلام الرد. قال: وما أعرف فيه حديثاً عالياً يعتمد عليه.

قال القاضي أبو يعلى: زظاهر هذا: أنه مخير في الرد على الإمام بالنية في حال سلامه، أو بالقول بعده، فيقول: السلام عليك أيها القارئ. قال: ويسر به، ولا يجهر.

نقل المروذي عن أحمد في الرجل يرد السلام على الإمام، فقال: إذا نوى بتسليمه الردَّ فقد ردَّ عليه، فإن فعل رجلٌ فليخفه.

قال: ومعناه: إن ردَّ عليه بالقول فليخفه.

وقال إسحاق: لا اختلاف بين أهل العلم في الرد على الإمام إذا سلم كما سلم، ولكن اختلفوا: هل يبدأ بالرد عليه قبل السلام، أم يرد عليه بعد السلام؟ قال: وأحب إلي أن يرد بعد السلام. قال واذا رفع صوته بالردَّ قدر ما يسمع الإمام والصف الذي يليه جاز، وإن أسره وأسمع أذنيه بالرد على الإمام أجزأه.

وكل من قال: يرد على الإمام قال: يرد عليه بلفظ السلام من غير زيادة، إلا ما روي عن أبي هريرة، أنه يقال: السلام عليك أيها القارئ، كما سبق.

واختلفوا في المأموم: هل ينوي بسلامه من الصلاة الرد على إمامه، أم لا؟ وفيه قولان:

ص: 389

أحدهما: لا ينوي ذلك، ونص عليه أحمد في رواية مُهنا وغيره، وهو اختيار ابن حامدٍ من أصحابنا؛ لأن السلام ركن من أركان الصلاة، لا يخرج منها بدونه، على ما تقدم، والصلاة لا يردّ فيها السلام على أحدٍ، بل هو مبطلٌ للصلاة؛ لأنه خطاب آدمي، هذا مذهبنا، وقول جمهور العلماء.

وعلى هذا: فهل تبطل صلاته بذلك؟

قالَ ابن حامد من أصحابنا: إن لم ينو سوى الرد بطلت صلاته، وإن نوى الردَّ والخروج من الصَّلاة ففي البطلان وجهان؛ لأنه لم يخلص النية لخطاب المخلوق، فأشبه ما لو قال لمن دق عليه الباب:{ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46] ينوي به القراءة والإذن له؛ فإن في بطلان الصَّلاة بذلك روايتين، أصحهما: لا تبطل.

قالَ أحمد – في رواية جعفر بن محمدٍ -: السلام على الإمام لا نعرف لهُ موضعاً، وتسليم الإمام هوَ انقضاء الصَّلاة، ليس هوَ سلام على القوم، فيجب عليهم أن يردوا، ولكن ابن عمر شدد في هذا، يسلم الرجل وينوي به السلام من الصَّلاة والرد على

الإمام، كأنه يقوله على وجه الإنكار لذلك. قيل له: أنهم يقولون: إن ردَّ السلام على الإمام واجبٌ. قال: أرجو أن لا يكون واجباً، وإن رد فلا بأس.

والقول الثاني: أنه ينوي المأموم بسلامه الرد على إمامه، وهو قول عطاءٍ والنخعي وحماد والثوري، ونص عليه أحمد في رواية جماعة من أصحابه.

وهل هو مسنونٌ مستحبٌ، أو جائز؟ فيه روايتان –أيضاً - عن أحمد:

ص: 390

قال – في رواية يعقوب بن بختان -: ينوي بسلامه الرد.

وهو اختيار أبي حفصٍ العكبري.

وقال – في رواية غيره -: لا بأس به.

فظاهره: جوازه فقط، وهو اختيار القاضي أبي يعلى وغيره.

وقال - في رواية ابن هانئ -: إذا نوى بتسليمه الردَّ على الإمام أجزأه.

وظاهر هذا: أنه واجبٌ؛ لأنه رد سلامٍ، فيكون فرض كفاية، إلا أن يقال: إن المسلم في الصلاة لا يجب الرد عليه، أو يقال: أنه يجوز تأخير الرد إلى بعد السلام. ولكن إذا جوزنا تأخيره وجب أحد أمرين: إما أن ينوي الرد بالسلام، أو أن يرد بعد ذلك، وهو قول عطاءٍ كما تقدم.

وتبويب البخاري قد يشعر بذلك؛ لقوله: ((واكتفى بتسليم الإمام)) ، ويحتمل أنه أراد أن تسليم الصلاة كافٍ عن الردَّ، وإن لم ينو به الردَّ، كما قاله أحمد في روايةٍ.

وقال يحيى بن سعيدٍ الأنصاري: إذا سلمت عن يمينك أجزأك من الرد عليه.

وكذا قال النخعي.

ولم يشترطا أن ينوي بسلامه الردَّ.

قال أبو حفصٍ العكبري: وينوي بالأولى الخروج من الصلاة، وبالثانية الرد على الإمام والحفظة.

ص: 391

وممن رأى أن ينوي بسلامة الرد على الإمام: أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما.

ثم قال أصحاب الشافعي: إن كان المأموم عن يمين الإمام نوى بتسليمه الأولى السلام على من عن يمينه من الملائكة والمسلمين من الإنس والجن، وينوي بالثانية ذلك مع الرد على إمامه، وإن كان المأموم عن يسار إمامه نواه في الأولى، وإن كان محاذياً له نواه في أيتهما شاء، والأولى افضل -: نص عليه الشافعي في ((الأم)) ، وينوي الإمام بسلامه من عن يمينه ويساره يمينه ويساره من الملائكة والمسلمين من المأمومين وغيرهم، وينوي بعض المأمومين الردَّ على من بعضٍ. قالوا: وكل هذه النيات مستحبةٌ، لا يجب منها شيءٌ.

وقال أصحاب أبي حنيفة ينوي المصلي بكل تسليمةٍ من في تلك الجهة من الناس والحفظة.

وهل يقدم الآدميين على الملائكة في النية؟ على روايتين عندهم:

أحدهما: يقدم الملائكة؛ لأنهم عندهم أفضل.

والثانية: يقدم الناس؛ لمشاهدتهم.

ويدخل المأموم الإمام في الجهة التي هو فيها. فإن كان بحذائه أدخله في اليمين؛ لأنهما أفضل.

وروى عبد الرزاق، عن معمرٍ، عن حمادٍ، قال: إذا كان الإمام عن يمينك ثم سلمت عن يمينك، ونويت الإمام كفى ذلك، وإذا كان عن يسارك ثم سلمت عن يسارك ونويت الإمام كفى ذلك - أيضاً -، وإن كان بين يديك فسلم عليه في نفسك، ثم سلم عن يمينك وشمالك.

ص: 392

وأما نية الخروج من الصلاة، فهل هي واجبةٌ، تبطل الصلاة بتركها، أم لا؟ فيه وجهان لأصحابنا، اختار ابن حامد وجوبها، واختار الأكثرون عدم الوجوب، وهو ظاهر كلام أحمد.

وينوي الخروج بالأولى، سواءٌ قلنا: يخرج بها من الصلاة، أو قلنا: لا يخرج إلا بالثانية؛ لأن النية تستصحب إلى الثانية.

ومن الأصحاب من قال: أن قلنا: الثانية سنةٌ نوى بالأولى الخروج، وإن قلنا: الثانية فرضٌ نوى الخروج بالثانية خاص. والصحيح: الأول.

ولأصحاب الشافعي في وجوب نية الخروج بالسلام وبطلان الصلاة بتركها وجهان –أيضاً.

ونص الشافعي على أن ينوي بالسلام الخروج.

ولكن اختلفوا: هل هو محمولٌ على الاستحباب، أو الوجوب؟

وإنما ينوي الخروج عندهم بالأولى؛ لان الثانية ليست عندهم واجبةً بغير خلافٍ.

واستدل من استحب أن ينوي بسلامه الحفظة والامام والمأمين بما خَّرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة، قال: كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((علام تومئون بأيديكم كأنها أذناب خيلٍ شمسٍ، وإنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثميسلم على إخيه من على يمينه وشماله)) .

ص: 393

وفي رواية له: فقال: ((ما شأنكم تشيرون بأيديكم، كأنها أذناب خيلٍ شمسٍ، إذا سلم احدكم فليلتفت إلى صاحبه، ولا يومئ بيده)) .

وخرّج أبو داود من حديث سمرة بن جندب، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرد على الإمام، وأن نتحاب، وأن يسلم بعضنا على بعض.

وخرّج أبو داود –أيضاً -، من طريقٍ اخرٌ، عن سمرة، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:((ابدأوا قبل التسليم، فقولوا: التحيات الطيبات الصلوات، والملك لله، ثم سلموا على اليمين، ثم سلموا على قارئكم وعلى أنفسكم)) .

وخرّجه ابن ماجه بمعناه.

وفي رواية له باسناد فيه ضعفٌ: ((إذا سلم الإمام فردوا عليه)) .

وخرّج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث عاصم بن ضمرة، عن علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل العصر أربعاً، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين، والنبيين والمرسلين، ومن تبعهم من المؤمنين.

وقال الترمذي: حديث حسنٌ.

وظاهره: يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان ينوي بسلامه في صلاة التطوع السلام على الملائكة ومن ذكر معهم.

وتأوله إسحاق على أنه اراد بذلك التشهد؛ فإنه يسلم فيه على عباد الله الصالحين.

وهو خلاف الظاهر. والله أعلم.

ص: 394

* * *

‌155 - باب

الذكر بعد الصلاة

فيه ثلاثة أحاديث:

الأول: حديث ابن عباس:

841 -

ص: 395

حدثنا إسحاق بن نصرٍ: حدثنا عبد الرزاق: أنا ابن جريجٍ: أخبرني عمرو، أن أبا معبد مولى ابن عباسٍ أخبره، أن ابن عباس أخبره، أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن عباسٍ: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته.

ص: 395

842 -

حدثنا عليٌ: ثنا سفيان: ثنا عمرو: أخبرني أبو معبدٍ، عن ابن عباسٍ، قال: كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير.

حدثنا عليٌ: ثنا سفيان، عن عمروٍ، قال: كان أبو معبدٍ أصدق موالي ابن عباسٍ.

ص: 395

قال عليٌ: واسمه: نافذٌ.

أبو معبدٍ مولى ابن عباسٍ، اسمه، نافذٌ، وهو ثقةٌ؛ وثقه أحمد ويحيى وأبو زرعة، واتفق الشيخان على تخريج حديثه.

ولكن في رواية لمسلمٍ في هذا الحديث من طريق ابن عيينة، عن عمروٍ، أن أبا معبدٍ حدثه بذلك، ثم أنكره بعد، وقال: لم أحدثك بهذا.

ورواه الإمام أحمد، عن سفيان، عم عمروٍ، به، وزاد: قال عمروٌ: قلت له: إن الناس كانوا إذا سلم الإمام من صلاة المكتوبة كبروا ثلاث تكبيرات وهكذا هنا ثلاث تهليلات [

] .

وقال حنيلٌ: سمعت أبا عبد الله يقول: ثنا عليٌ بن ثابتٍ: ثنا واصلٌ، قال: رأيتُ علي عبد الله بن عباسٍ إذا صلى كبر ثلاث تكبيراتٍ. قلت لأحمد: بعد الصلاة؟ قال: هكذا. قلت له: حديث عمرو، عن أبي معبد، عن ابن عباسٍ: ((كنا نعرف

ص: 396

انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير)) ، هؤلاء أخذوه عن هذا؟. قال نعم -: ذكره

أبو بكرٍ عبد العزيز ابن جعفر في كتابه ((الشافي)) .

فقد تبين بهذا أن معنى التكبير الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب الصلاة المكتوبة: هو ثلاث تكبيراتٍ متواليةٍ.

ويشهد لذلك: ما روي عن مسعرٍ، عن محمد بن عبد الرحمن، عن طيسلة، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال في دبر الصلوات، وإذا أخذ مضجعه: الله أكبر كبيراً، عدد الشفع والوتر، وكلمات الله الطيبات المباركات – ثلاثاً -، ولا إله إلا الله – مثل ذلك – كن له في القبر نوراً، وعلى الحشر نوراً، وعلى الصراط نوراً، حتى يدخل الجنة)) .

وخَّرجه –أيضاً - بلفظ آخر، وهو:((سبحان الله عدد الشفع والوتر، وكلمات ربي الطيبات التامات المباركات – ثلاثاً – والحمد لله، والله أكبر، ولا إله إلا الله)) .

وذكر الإسماعيلي: أن محمد بن عبد الرحمن، هو: مولى آل طلحة، وهو ثقةٌ مشهورٌ، وخرّج له مسلمٌ.

ص: 397

وطيسلة، وثقه ابن معينٍ، هو: ابن علي اليمامي، ويقال: ابن مياسٍ، وجعلهما ابن حبان اثنين، وذكرهما في ((ثقاته)) ، وذكر أنهما يرويان عن ابن عمر.

وخرّجه ابن أبي شيبة في ((كتابه)) عن يزيد بن هارون، عن مسعر بهذا الإسناد – موقوفاً على ابن عمر.

وأنكر عبيدة السلماني على مصعب بن الزبير تكبيره عقب السلام، وقال: قاتله الله، نعار بالبدع، واتباع السنة أولى.

وروى ابن سعدٍ في ((طبقاته)) بإسناده عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يكبر: الله اكبر ولله الحمد – ثلاثاً – دبر كل صلاةٍ.

وقد دل حديث ابن عباسٍ على رفع الصوت بالتكبير عقب الصلاة المفروضة، وقد ذهب الىظاهره أهل الظاهر، وحكي عن أكثر العلماء خلاف ذلك، وأن ألافضل الإسرار بالذكر؛ لعموم قوله تعالى:{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} [الأعراف:205] وقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:55]، ولقول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لمن جهر بالذكر من أصحابه:((إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)) .

ص: 398

وحمل الشافعي حديث ابن عباسٍ هذا على أنه جهر به وقتاً يسيراً حتى يعلمهم صفة الذكر؛ لا أنهم جهروا دائماً. قال: فأختار للإمام والمأموم أن يذكروا الله بعد الفراغ من الصلاة، ويخفيان ذلك، إلا أن يكون إماما يريد أن يتعلم منه، فيجهر حتى يعلم، أنه قد تعلم منه، ثم يسر.

وكذلك ذكر أصحابه.

وذكر بعض أصحابنا مثل ذلك – أيضاً.

ولهم وجهٌ آخر: أنه يكره الجهر به مطلقاً.

وقال القاضي أبو يعلى في ((الجامع الكبير)) : ظاهر كلام أحمد: أنه يسن للإمام الجهر بالذكر والدعاء عقب الصلوات بحيث يسمع المأموم، ولا يزيد على ذلك.

وذكر عن أحمد نصوصاً تدل على أنه كان يجهر ببعص الذكر، ويسر الدعاء، وهذا هو الأظهر، وأنه لا يختص ذلك بالإمام؛ فإن حديث ابن عباس هذا ظاهره يدل على جهر المأمومين –أيضاً.

ويدل عليه – أيضاً -: ما خَّرجه مسلمٌ في ((صحيحه)) من حديث ابن الزبير، أنه كان يقول في دبر كل صلاةٍ حين يسلم:((لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)) ، وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل بهن في دبر كل صلاةٍ.

ص: 399

ومعنى: ((يهل)) . يرفع صوته، ومنه: إلاهلال في الحج، وهو رفع الصوت بالتلبية، واستهلال الصبي إذا ولد.

وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهرون بالذكر عقب الصلوات، حتى يسمع من يليهم:

فخَّرج النسائي في ((عمل اليوم والليلة)) من رواية عون بن عبد الله بن عتبة، قال صلى رجلٌ إلى جنب عبد الله بن عمرو بن العاص، فسمعه حين سلم يقول:((أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلاب والاكرام)) ، ثم صلى إلى جنب عبد الله بن عمر، فسمعه حين سلم يقول مثل ذلك، فضحك الرجل، فقال له ابن عمر: ما أضحكك؟ قال: إني صليت إلى جنب عبد الله بن عمروٍ، فسمعته يقول مثلما قلت: قال ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.

وأما النهي عن رفع الصوت بالذكر، فإنما المراد به: المبالغة في رفع الصوت؛ فإن أحدهم كان ينادي بأعلى صوته: ((لا إله إلا الله، والله اكبر)) فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تنادون أصم ولا غائباً)) ، وأشار إليهم بيده يسكنهم ويخفضهم.

وقد خرّجه الإمام أحمد بنحو من هذه الألفاظ.

وقال عطية بن قيسٍ: كان الناس يذرون الله عند غروب الشمس،

ص: 400

يرفعون أصواتهم بالذكر، فإذا خفضت أصواتهم أرسل إليهم عمر بن الخطاب أن يرددوا الذكر.

خرّجه جعفر الفريابي في ((كتاب الذكر)) .

وخرّج – أيضاً - من رواية ابن لهيعة، عن زهرة بن معبدٍ، قال: قال: رأيت ابن عمر إذا انقلب من العشاء كبر كبر، حتى يبلغ منزله، ويرفع صوته.

وروى محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن جابرٍ، أن رجلاً كان يرفع صوته بالذكر، فقال رجل: لو أن هذا خفض من صوته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((دعه؛ فإنه أواه)) .

وهذا يدل على أنه يحتمل ذلك ممن عرف صدقه وإخلاصه دون غيره.

وخرّج الإمام أحمد من رواية عقبة بن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجلٍ، يقال له: ذو البجادين: ((إنه أواهٌ)) ، وذلك أنه رجلٌ كثير الذكر لله في القرآن، ويرفع صوته في الدعاء.

وفي إسناده: ابن لهيعة.

وقال الأوزاعي في التكبير في الحرس في سبيل الله: أحب إلي أن

ص: 401

يذكر الله في

نفسه، وإن رفع صوته فلا بأس.

فأما قول ابن سيرين: يكره رفع الصوت إلا في موضعين: الأذان والتلبية، فالمراد به –والله أعلم -: المبالغة في الرفع، كرفع المؤذن والملبي.

وقد روي رفع الصوت بالذكر في مواضع، كالخروج إلى العيدين، وايام العشر، وأيام التشريق بمنىً.

وأما الدعاء، فالسنة إخفاؤه.

وفي ((الصحيحين)) عن عائشة، في قوله تعالى:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء:110] ، أنها نزلت في الدعاء.

وكذا روي عن ابن عباس وأبي هريرة، وعن سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة وعروة ومجاهدٍ ولإبراهيم وغيرهم.

وقال الإمام أحمد: ينبغي أن يسر دعاءه؛ لهذه الآية. قال: وكان يكره أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء.

وقال الحسن: رفع الصوت بالدعاء بدعةٌ.

وقال سعيد بن المسيب: أحدث الناس الصوت عند الدعاء.

وكرهه مجاهدٌ وغيره.

وروى وكيعٌ، عن الربيع، عن الحسن –والربيع، عن يزيد بن أبانٍ، عن

أنسٍ -، أنهما كرها أن يسمع الرجل جليسه شيئاً من دعائه.

ص: 402

وورد فيه رخصةٌ من وجهٍ لا يصح:

خرّجه الطبراني من رواية أبي موسى: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح يرفع صوته حتى يسمع أصحابه، يقول:((اللهم، أصلح لي ديني الذي جعلته عصمة أمري)) –ثلاث مرات – ((اللهم، أصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي)) –ثلاث مرات، ((اللهم، أصلح لي آخرتي التي جعلت إليها مرجعي)) - ثلاث مراتٍ – وذكر دعاء آخر.

وفي إسناده: يزيد بن عياضٍ، متروك الحديث. وإسحاق بن طلحة، ضعيفٌ.

فأما الحديث الذي خَّرجه مسلمٌ وغيره، عن البراء بن عازبٍ، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه؛ ليقبل علينا بوجهه.

قال: فسمعته يقول: ((رب قني عذابك يوم تبعث عبادك)) .

فهذا ليس فيه أنه كان يجهر بذلك حتى يسمعه الناس، إنما فيه كان يقوله بينه وبين نفسه، وكان يسمعه منه –احيانا – جليسه، كما كان يسمع منه من خلفه الآية أحياناً في صلاة النهار.

ص: 403

وروى هلال بن يسافٍ، عن زاذان: نا رجل من الأنصار، قال: سمعت

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر الصلاة: ((اللهم، اغفر لي، وتب عليَّ، إنك أنت التواب الغفور)) –مائة مرةٍ.

خرّجه ابن أبي شيبة، وعنه بقي بن مخلدٍ في ((مسنده)) .

الحديث الثاني:

843 -

ص: 404

حدثنا محمد بن أبي بكر: ثنا المعتمر، عن عبيد الله، عن سمىً، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: جاء الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضلٌ من أموال يحجون بها ويعتمرون، ويجاهدون ويتصدقون، قال:((ألا أحدثكم بما إن أخذتم به أدركتم من سبقكم، ولم يدركم أحدٌ بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم، إلا من عمل مثله، تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين)) .

فاختلفنا بيننا، فقال بعضنا: نسبح ثلاثاً وثلاثين، ونحمد ثلاثاً وثلاثين،

ص: 404

ونكبر أربعاً وثلاثين. فرجعت إليه، فقال: تقول: سبحان الله، والحمد لله، والله اكبر، حتى يكون منهنكلهن ثلاثٌ وثلاثون.

ذكر الخطابي: أن لفظ هذه الرواية: ((ذهب أهل الدور)) ، وقال: والصواب ((الدثور)) .

وذكر غيره: أن هذه رواية المرزوي، وأنها تصحيفٌ، والرواية المشهورة:((أهل الدثور)) على الصواب.

و ((الدثور)) : جمع دثرٍ، بفتح الدال، وهو: المال الكثير.

وفي الحديث: دليل على قوة رغبة الصحابة –رضي الله عنهم في الأعمال الصالحة الموجبة للدرجات العلى والنعيم المقيم، فكانوا يحزنون على العجز عن شيءٍ مما يقدر عليه غيرهم من ذلك.

وقد وصفهم الله في كتابه بذلك، بقوله: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا

يُنفِقُونَ} [التوبة:92] .

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنين)) ، فذكر منهما:((رجل آتاه الله مالاً، فهو ينفقه في وجهه، فيقول رجل: لو أن لي مالاً، لفعلت فيه كما فعل ذلك)) .

فلذلك كان الفقراء إذا رأوا أصحاب الأموال

ص: 405

يحجون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون وينفقون حزنوا على عجزهم عن ذلك، وتأسفوا على امتناعهم من مشاركتهم فيه، وشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدلهم النبي صلى الله عليه وسلم على عمل، إن أخذوا به أدركوا من سبقهم، ولميدركهم أحدٌ بعدهم، وكانوا خير من هم بين ظهرانيهم، إلا من عمل مثله، وهو التسبيح والتحميد والتكبير خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين.

وهذا يدل على أن الذكر أفضل ألاعمال، وأنه أفضل من الجهاد والصدقة والعتق وغير ذلك.

وقد روي هذا المعنى صريحاً عن جماعةٍ كثيرةٍ من الصحابة، منهم: أبو الدرداء ومعاذ وغيرهما.

وروي مرفوعاً من وجوهٍ متعددةٍ –أيضاً.

ولا يعارض هذا حديث الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عما يعدل الجهاد، فقال:((هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر، وتقوم فلا تفتر)) –الحديث المشهور، لأن هذا السائل سأل عن عمل يعمله في مدة جهاد المجاهد من حين خروجه من بيته إلى

قدومه. فليس يعدل ذلك شيء غير ما ذكره، والفقراءُ دلهم النبي صلى الله عليه وسلم على عمل يستصحبونه في مدة عمرهم،

ص: 406

وهو ذكر الله الكثير في أدبار الصلوات، وهذا أفضل من جهاد يقع في بعض الأحيان، ينفق صاحبه فيه ماله.

فالناس منقسمون ثلاثة أقسامٍ، أهل ذكر يدومون عليه إلى أنقضاء أجلهم، وأهل جهادٍ يجاهدون وليس لهم مثل ذلك الذكر. فالأولون أفضل من هؤلاء.

وقومٌ يجمعون بين الذكر والجهاد، فهؤلاء أفضل الناس.

ولهذا لما سمع الأغنياء الذين كانوا يحجون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون بما علم النبي صلى الله عليه وسلم الفقراء من ذلك عملوا به، فصاروا أفضل من الفقراء حينئذ؛ ولهذا لما يألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال:((ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)) .

ومن زعم من الصوفية أنه أراد أن الفقر فضل الله، فقد اخطأ، وقال ما لا يعلم.

وقد دَّل الحديث على فضل التسبيح والتحميد والتكبير خلف كل صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين.

وخرّجه مسلمٌ من طريق بن عجلان، عن سميٍ، وذكر فيه: أن المختلفين هم سميٌ وبعض أهله، وان القائل له هو أبوه أبو صالحٍ

ص: 407

السمان، وأن ابن عجلان قال: حدثت بهذا الحديث رجاء بن حيوة، فحدثني بمثله عن أبي صالحٍ.

وخرّجه البخاري في أواخر كتابه ((الصحيح)) –أيضاً - من طريق ورقاء، عن سمي بهذا الإسناد، بنحوه، ولكن قال فيه:((تسحبون في دبر كل صلاةٍ عشراً، وتحمدون عشراً، وتكبرون عشراً)) .

وقال: تابعه عبيد الله بن عمر، عن سمي. قال: ورواه ابن عجلان عن سميَ ورجاء بنحيوة. ورواه جريرٌ، عن عبد العزيز بن رفيعٍ، عن أبي صالحٍ، عن أبي الدرداء. ورواه سهيلٌ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.

ومراده: المتابعة على إسناده.

ورواية عبيد الله بن عمر، هي التي خرجها في هذا الباب.

ورواية ابن عجلان، هي التي خرجها مسلمٌ، كما ذكرناه.

ورواية سهيلٍ، خرجها مسلمٌ –أيضاً - بمثل حديث ابن عجلانٍ، عن سمي، وزاد في الحديث: يقول سهيلٌ: إحدى عشرة إحدى عشرة، فجميع ذلك كله ثلاثةٌ وثلاثون.

وأما رواية جريرٍ التي أشار إليها البخاري، قوله: عن أبي صالحٍ، عن أبي

الدرداء، فقد تابعه عليها – أيضاً – أبو الأحوص سلام بن

ص: 408

سليمٍ، عن عبد العزيز.

والظاهر: أنه وهمٌ، فإن أبا صالحٍ إنما يرويه عن أبي هريرة، لا عن أبي الدرداء، كما رواه عنه سمي وسهيلٌ ورجاء ابن حيوة.

وإنما رواه عبد العزيز بن رفيعٍ، عن أبي عمر الصيني، عن أبي الدرداء، كذلك رواه الثوري، عن عبد العزيز، وهو أصح -: قاله أبو زرعة، والدارقطني.

وأما ألفاظ الحديث، فهي مختلفةٌ:

ففي رواية عبيد الله بن عمر التي خرجها البخاري هاهنا: ((تسبحون وتحمدون وتكبرون ثلاثاً وثلاثين)) ، وفسره بأنه يقول:((سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر)) حتى يكون منهن كلهن ثلاثاً وثلاثين.

وقد تبين أن المفسر لذلك هو أبو صالح، وهذا يحتمل أمرين:

أحدهما: أنه يجمع بين هذه الكلمات الثلاث، فيقولها ثلاثاً وثلاثين مرةً، فيكون مجموع ذلك تسعاً وتسعين.

والثاني: أنه يقولها إحدى عشرة مرةً، فيكون مجموع ذلك ثلاثاً وثلاثين.

وهذا هو الذي فهمه سهيلٌ، وفسر الحديث به، وهو ظاهر رواية سمي، عن أبي صالحٍ – أيضاً.

ص: 409

ولكن؛ قد روي حديث أبي هريرة من غير هذا الوجه صريحاً بالمعنى الأول:

فخرج مسلمٌ من حديث سهيل، عن أبي عبيد المذحجي –وهو: مولى سليمان بن عبد الملك وحاجبه -، وعن عطاء بن يزيد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((من سبح في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر)) .

وقد روي عن سهيل بهذا الإسناد –موقوفاً على أبي هريرة.

وكذا رواه مالك في ((الموطإ)) عن أبي عبيدٍ –موقوفاً.

وخرّجه ابن حبان في ((صحيحه)) من طريق مالكٍ –مرفوعاً.

والموقوف عن مالكٍ أصح.

وخرّجه النسائي في ((اليوم والليلية)) بنحو هذا اللفظ، من رواية ابن عجلان، عن سهيلٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة –مرفوعاً.

وخرّج الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان في ((صحيحه)) من طريق الأوزاعي: حدثني حسان بن عطية: حدثني محمد بن أبي عائشة: حدثني أبو هريرة، قال: قال أبو ذر: يا رسول الله، ذهب أصحاب الدثور بالأجور –

ص: 410

فذكر الحديث، بمعناه، وقال فيه:((تكبر الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتحمده ثلاثاً وثلاثين، وتسبحه ثلاثاً وثلاثين، تختمها بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غفرت له ذنوبه، ولوكانت مثل زبد البحر)) .

فهذا ما في حديث أبي هريرة من الاختلاف.

وقدروي عنه نوعٌ آخر، وهو: التسبيح مائة مرةٍ، والتكبير مائة مرةٍ والتهليل مائة مرةٍ، والتحميد مائة مرةٍ.

وخرّجه النسائي في ((كتاب اليوم والليلة)) بإسنادٍ فيه ضعفٌ.

وروي موقوفاً على أبي هريرة.

وخرّجه النسائي في ((السنن)) بإسنادٍ آخر عن أبي هريرة - مرفوعاً -: ((من سبح في دبر صلاة الغداة مائة تسبيحةٍ، وهلل مائة تهليلةٍ، غفر له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر)) .

وروي عن أبي هريرة –موقوفاً عليه -: التسبيح عشرٌ، والتحميد عشرٌ، والتكبير عشرٌ.

وقد تقدم أن البخاري خَّرجه في آر ((كتابه)) عنه – مرفوعاً.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير حديث أبي هريرة في هذا الباب

ص: 411

أنواعٌ أخر من الذكر:

فمنها: التسبيح والتحميد والتكبير مائة، فالتسبيح والتحميد كلٌ منهما ثلاثٌ وثلاثون، والتكبير وحده أربعٌ وثلاثون.

خرّجه مسلمٌ من حديث كعب بن عجرة.

وخرّجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث زيد بن ثابتٍ.

وخرّجه الإمام أحمد من حديث أبي ذر، لكن عنده: أن التحميد هو الأربع.

وخرّجه ابن ماجه، وعنده: أن ابن عيينة قال: لا أدري أيتهن أربع.

ومنها: التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل مائة مرةٍ، من كل واحدٍ خمسٌ وعشرون.

وخرّجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي من حديث زيد بن ثابتٍ.

وخرّجه النسائي من حديث ابن عمر.

ومنها: التسبيح ثلاثاً وثلاثين، والتحميد مثله، والتكبير أربعاً وثلاثين،

ص: 412

فذلك مائةٌ، ويزيد عليهن التهليل عشراً.

خرّجه النسائي والترمذي من حديث ابن عباسٍ.

ومنها: التسبيح عشرٌ مراتٍ، والتحميد مثله، والتكبير مثله، فذلك ثلاثون.

خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

وخرّجه النسائي في ((اليوم والليلة)) من حديث سعدٍ.

ومنها: التكبير إحدى عشرٌ مرةً، والتحميد مثله، والتهليل مثله والتسبيح مثله، فذلك أربعٌ وأربعون.

خرّجه البزار من حديث ابن عمر.

وإسناده ضعيفٌ، فيه موسى بن عبيدة.

ويجوز الأخذ بجميع ما ورد من أنواع الذكر عقب الصلوات، والأفضل أن لا ينقص عن مائةٍ، لأن أحاديثها أصح أحاديث الباب.

واختلف في تفضيل بعضها على بعض:

فقال أحمد – في رواية الفضل بن زيادٍ -، وسئل عن التسبيح بعد الصلاة ثلاثةً وثلاثين أحب إليك، أم خمسةً وعشرين؟ قال: كيف شئت.

ص: 413

قال القاضي أبو يعلى: وظاهر هذا: التخيير بينهما من غير ترجيح.

وقال – في رواية علي بن سعيدٍ -: أذهب إلى حديث ثلاثٍ وثلاثين.

وظاهر هذا: تفضيل هذا النوع على غيره.

وكذلك قال إسحاق: الافضل أن تسبح ثلاثاً وثلاثين، وتحمد ثلاثاً وثلاثين، وتكبر ثلاثاً وثلاثين، وتختم المائة يالتهليل. قال: وهو في دبر صلاة الفجر آكد من سائر الصلوات؛ لما ورد من فضيلة الذكر بعد الفجر إلى طلوع الشمس.

نقل ذلك عنه حربٌ الكرماني.

وهل الأفضل أن يجمع بين التسبيح والتحميد والتكبير في كل مرةٍ، فيقولهن ثلاثاً وثلاثين مرةٍ، ثم يختم بالتهليل، أم الأفضل أن يفرد التسبيح والتحميد والتكبير على

حدةٍ؟

قال أحمد –في رواية محمد بن ماهان، وسأله: هل يجمع بينهما، أو يفرد؟ قال: لا يضيق.

قال أبو يعلى: وظاهر هذا: أنه مخيرٌ بين الافراد والجمع.

وقال أحمد –في رواية أبي داود -: يقول هكذا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله اكبر، ولا يقطعه.

ص: 414

وهذا ترجيحٌ منه للجمع، كما قاله أبو صالحٍ، لكن ذكر التهليل فيه غرابةٌ.

وقد روى عبد الرزاق، عن معمرٍ، عن قتادة - مرسلاً -، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقولوا دبر كل صلاةٍ:((لا إله إلا الله، والله اكبر، وسبحان الله، والحمد لله عشرٌ مراتٍ)) .

وقال إسحاق: الأفضل أن يفرد كل واحدٍ منها.

وهو اختيار القاضي أبي يعلى من أصحابنا، قال: وهو ظاهر الأحاديث؛ لوجهين:

أحدهما: أنه قال: ((تسبحون وتحمدون وتكبرون)) ، والواو قد قيل: إنها للترتيب، فإن لم تقتض وجوبه أفادت استحبابه.

والثاني: أن هذا مثل نقل الصحابة –رضي الله عنهم – لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه تمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً، ولا خلاف في المراد: أنه غسل كل عضوٍ من ذلك بانفراده ثلاثاً ثلاثاً، قبل شروعه في الذي بعده، ولم يغسل المجموع مرةً، ثم اعاده مرةًثانيةً، وثالثةً.

ص: 415

قلت: هذا على رواية من روي التسبيح ثلاثاً وثلاثين، والتحميد ثلاثاً وثلاثين، والتكبير ثلاثاً وثلاثين ظاهرٌ، وأما رواية من روى ((تسبحون وتحمدون وتكبرون ثلاثاً وثلاثين)) فمحتملةٌ، ولذلك وقع الاختلاف في فهم المواد منها.

الحديث الثالث:

ص: 416

844 -

حدثنا محمد بن يوسف: ثنا سفيان، عن عبد الملك بن عميرٍ، عن ورادٍ - كاتب المغيرة بن شعبة -، قالَ: أملى علي المغيرة في كتاب إلى معاوية، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبةٍ: ((لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قديرٌ، اللهم، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما

منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) .

وقال شعبة، عن عبد الملك بن عمير بهذا، وعن الحكم، عن القاسم بن مخيمرة، عن ورادٍ بهذا.

ص: 416

هذا الحديث، أسنده البخاري من طريق سفيان الثوري، عن عبد الملك بن

عميرٍ، عن ورادٍ.

وعَّلقه عن شعبة بإالافضل سنادين:

أحدهما: عن عبد الملك –أيضاً - بهذا الإسناد.

والثاني: عن الحكم، عن القاسم بن مخيمرة، عن ورادٍ.

رواية شعبة لهذا الحديث غريبةٌ لم تخرج في شيءٍ من الكتب الستة، ولا في ((مسند الإمام أحمد)) .

وخرّجه مسلمٌ من طريق عبدة بن أبي لبابة والمسيب بن رافعٍ وغيرهما، عن ورادٍ.

وخرّجه البخاري في موضعٍ آخر من رواية المسيب، وفي روايته: ((بعد

السلام)) .

وخرّجه الإمام أحمد والنسائي من طريق مغيرة، عن الشعبي، عن ورادٍ، أن المغيرة كتب إلى معاوية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند انصرافه من الصلاة: ((لا إله إلا الله، وحده لا سريك له، له المللك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) –ثلاث مراتٍ.

وهذه زيادةٌ غريبةٌ.

وقد روي في الحديث زيادة: ((بيده الخير)) .

خرجها الإسماعيلي من طريق مسعرٍ، عن زياد بن علاقة، عن ورادٍ.

وروي فيه –أيضاً - زيادة: ((يحيى ويميت)) .

ذكرها الترمذي في ((كتابه)) –تعليقاً، ولم يذكر رواتها.

وقد خَّرجه البزار بهذه الزيادة من رواية ابن علاقة، عن عبد الله بن محمد بن

عقيلٍ، عن جابرٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث المغيرة، بهذه الزيادة.

وفي اسنادها ضعفٌ.

وخرّجه –أيضاً – من حديث ابن عباسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه زيادة:((بيده الخير)) .

وفي إسنادها ضعفٌ.

وخرّجه ابن عدي، وزاد فيه:((يحيى ويميت)) .

وقال: هو غير محفوظٍ.

وخَّرجه أبو مسلم الكجي في ((سننه)) من حديث أبان بن أبي عياشٍ، عن أبي الجوزاء، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:((يحيي ويميت، بيده الخير)) .

وأبانٌ، متروكٌ.

وخرج النسائي وابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم من حديث كعب الأحبار، عن صهيب، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند انصرافه من الصلاة: ((اللهم، أصلح لي ديني الذي جعلته لي عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي، اللهم، اني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ [

] بعفوك من نقمتك، وأعوذ بك منك، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) .

وفي إسناده اختلافٌ.

وخرج مسلمٌ من حديث عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقعد إلا مقدار ما يقول: ((اللهم، أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام)) .

وفي رواية له – أيضاً -: ((يا ذا الجلال والإكرام)) .

وخرج –أيضاً - من حديث ثوبان، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينصرف من صلاته استغفر ثلاث مراتٍ، ثم قال:((اللهم، أنت السلام، ومنك السلام، تبارك ذا الجلال والإكرام)) . [

] ، ((يا ذا الجلال والإكرام)) .

وفي الذكر عقب الصلوات المكتوبات أحاديث أخر.

وجمهور أهل العلم على استحبابه، وقد روي عن علي وابن عباسٍ وابن الزبير وغيرهم، وهو قول عطاءٍ والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم.

وخالف فيه طائفةٌ قليلةٌ من الكوفيين، وقد تقدم عن عبيدة السلماني، أنه عد التكبير عقب الصلاة من البدع، ولعله أراد بإنكاره على مصعبٍ، أنه كان يقوله مستقبل القبلة قبل أن ينحرف ويجهر، كذلك هو في ((كتاب عبد الرزاق)) ، وإذا صحت السنة بشيءٍ وعمل بها الصحابة، فلا تعدل عنها.

واستحب –أيضاً - أصحابنا وأصحاب الشافعي الدعاء عقب الصلوات، وذكره بعض الشافعية اتفاقاً.

واستدلوا بحديث أبي أمامة، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الدعاء أسمع؟ قال: ((جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات)) .

خرّجه الإمام أحمد والترمذي، وحَّسنه.

وخرّج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث معاذٍ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:((لا تدَعن دبر كل صلاةٍ تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) .

وقال طائفةٌ من أصحابنا ومن الشافعية: يدعو الإمام للمأمومين عقب صلاة الفجر والعصر؛ لأنه لا تنفل بعدهما.

فظاهر كلامهم: أنه يجهر به، ويؤمنون عليه، وفي ذلك نظرٌ.

وقد ذكرنا فيما تقدم حديث دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عقب الصلاة جهراً، وأنه لا يصح، ولم يصح في ذلك شيءٌ عن السلف.

والمنقول عن الإمام أحمد أنه كان يجهر ببعض الذكر عقب الصلاة، ثم يسر بالباقي، ويعقد التسبيح والتكبير والتحميد سراً، ويدعو سراً.

ومن الفقهاء من يستحب للإمام الدعاء للمأمومين عقب كل صلاة، وليس في ذلك سنةٌ ولا أثرٌ يتبع. والله أعلم.

وفي بعض نسخ البخاري:

وقال الحسن: الجد غنىً.

وهذا تفسير لقوله: ((ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) ، والجد –بفتح الجيم – المراد به في هذا الحديث: الغنى، والمعنى: لا ينفع ذا الغنى منك غناه.

وهذا كقوله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} [سبأ:37]، وقوله:{يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} [الشعراء:88] .

وقدروي تفسير الجد بذلك مرفوعاً:

ففي ((سنن ابن ماجه)) ، عن أبي جحيفة، قالَ: ذكرت الجدود عندَ رسول الله

صلى الله عليه وسلم وهو في الصَّلاة، فقالَ رجلٌ: جد فلانٌ في الخيل. وقال آخر: جد فلان في الابل، فقالَ آخر: جد فلانٌ في الغنم، وقال آخر: جد فلان في الرقيق، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، ورفع رأسه من آخر الركعة، قالَ:((اللَّهُمَّ، ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، اللَّهُمَّ، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدَّ منك الجدّ)) ، وطول رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته بالجد؛ ليعلم أنه ليس كما يقولون.

* * *

156 -

ص: 417

باب

يستقبل الإمام الناس إذا سلم

فيه ثلاثة أحاديث:

الأول:

845 -

ص: 417

حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا جرير بن حازم: ثنا أبو رجاءٍ، عن سمرة بن جندبٍ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاةً أقبل علينا بوجهه.

هذا أول حديثٍ طويلٍ، ساقه بتمامه في ((الجنائز)) ومواضع أخر وفيه: دليلٌ على أن عادة النبي صلى الله عليه وسلم الاقبال على الناس بوجهه بعد الصلاة.

الحديث الثاني:

846 -

ص: 417

حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالكِ، عن صالح بن كيسان، عن

عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن زيد ابن خالد الجهني، أنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال:((هل تدرون ماذا قال ربكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافرٌ)) - الحديث.

وسيأتي بتمامه في ((الاستسقاء)) –إن شاء الله تعالى.

والمقصود منه هاهنا: إقباله صلى الله عليه وسلم بعد انصرافه من صلاة الصبح، والمعنى: بعد فراغه منها.

الحديث الثالث:

847 -

ص: 417

ثنا عبد الله بن منيرٍ: سمع يزيد: أنا حميدٌ، عن أنسٍ، قال: أخر

رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ذات ليلةٍ إلى شطر الليل، ثم خرج علينا، فلمَّا صلى أقبل علينا بوجهه، فقال:((إن الناس قد صلوا ورقدوا، وإنكم لن تزالوا في صلاةٍ ما انتظرتم الصلاة)) .

قد تقدم في ((باب: وقت العشاء)) بسياق أتم من هذا.

والمقصود منه هاهنا: إقباله صلى الله عليه وسلم بوجهه بعد الصلاة.

وخرّج مسلمٌ في ((صحيحه)) من حديث البراء بن عازبٍ، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه؛ ليقبل علينا بوجهه.

قال: فسمعته يقول: ((رب قني عذابك يوم تبعث عبادك)) - وفيه: ذكر الدعاء بعد الصلاة –أيضاً.

وخرّج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث يزيد بن الأسود، قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا انصرف انحرف.

وصححه الترمذي.

وفي رواية بعضهم: فصلى، ثم انحرف.

وروى عبد الله بن فروخٍ: أنا ابن جريج، عن عطاءٍ، عن أنس بن مالكٍ، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان ساعة يسلم يقوم، ثم صليت مع أبي بكر، فكأن إذا سلم وثب مكانه، كانه يقوم على رضفٍ.

خرّجه البيهقي.

وقال: تفرد به عبد الله بن فروخ المصري، وله أفرادٌ، والله أعلم.

قلت: وثقه قومٌ، وخرج له مسلمٌ في ((صحيحه)) ، وتكلم فيه آخرون.

ص: 417

وقد رواه عبد الرزاق في ((كتابه)) عن ابن جريجٍ، قال: نبئت عن أنس بن مالكٍ - فذكر الحديث بتمامه.

وهذا أصح.

قال البيهقي: والمشهور: عن أبي الضحى، عن مسروقٍ، قال: كان أبو بكرٍ الصديق إذا سلم قام كأنه جالسٌ على الرضف.

قال: وروينا عن عليّ، أنه سلم ثم قام.

ثم خرج بإسناده، عن خارجة بن زيدٍ، أنه كان يعيب على الأئمة جلوسهم بعد أن يسلموا، ويقول: السنة في ذلك أن يقوم الإمام ساعة يسلم.

قال: وروينا عن الشعبي والنخعي، أنهما كرهاه.

ويذكر عن عمر بن الخطاب. والله أعلم.

وروى عبد الرزاق بإسنادٍ صحيحٍ، عن ابن عمر، قال: كان الإمام إذا سلم انكفت وانكفتنا معه.

وعن ابن مسعودٍ، قال: إذا سلم الإمام فليقم، ولينحرف عن مجلسه.

وعنه، أنه كان إذا سلم قام عن مجلسه أو انحرف.

وممن روي عنه، أن الإمام ينحرف ويستقبل القوم بوجهه: علي بن

ص: 426

أبي طالبٍ وطلحة والزبير.

وقال النخعي: إذا سلم الإمام ثم استقبل القبلة فأحصبوه.

وكره ذلك الثوري وأحمد وغيرهما من العلماء.

ولم يرخص في إطالة استقبال الإمام القبلة بعد سلامه للذكر والدعاء إلا بعض المتأخرين ممن لا يعرف السنن والآثار، ومنهم من استحب في عقب صلاة الفجر أن يأتي بالتهليل عشرٌ مراتٍ.

ذكره طائفةٌ من أصحابنا وغيرهم، لما روى شهر بن حوشبٍ، عن عبد الرحمن بن غنمٍ، عن أبي ذر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثانٍ رجله قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيءٍ قديرٌ –عشرٌ مرات – كتب له عشرٌ حسناتٍ ومحي عنه عشرٌ سيئاتٍ، ورفع له عشرٌ درجاتٍ، وكان يومه ذلك في حرزٍ من كل مكروهٍ، وحرس من الشيطان، ولم ينبغ لذنبٍ أن يدركه في ذلك اليوم، إلا الشرك بالله)) .

خَّرجه الترمذي بهذا اللفظ، وقال: حسنٌ غريبٌ صحيحٌ.

وخَّرجه النسائي في ((اليوم والليلة)) بنحوه.

وخَّرجه –أيضاً –من وجهٍ آخر من حديث شهرٍ، عن عبد الرحمن، عن معاذٍ بن جبلٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، ولم يذكر:((وهو ثانٍ رجله)) ،

ص: 427

إنما قال: ((قبل أن يتكلم)) ، وذكر في صلاة العصر مثل ذلك.

وخرّجه الإمام أحمد من حديث شهرٍ، وعن ابن غنمٍ - مرسلاً، وعنده ((من قال من قبل أن ينصرف ويثني رجله من صلاة المغرب والصبح)) –وذكر الحديث.

وشهر بن حوشبٍ، مختلفٌ فيه، وهو كثير الاضطراب، وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث كما ترى.

وقيل: عنه، عن ابن غنم عن أبي هريرة.

وقيل: عن شهر، عن أبي أمامة.

قال الدارقطني: الاضطراب فيه من قبل شهرٍ.

وقد روي نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوهٍ أخر، كلها ضعيفةٌ.

وحكى بعض أصحاب سفيان الثوري، عنه، أنه قال: يستحب للإمام إذا صلى أن لا يجلس مستقبل القبلة، بل يتحول من مكانه أو ينحرف، إلا في العصر والفجر.

ولم يأخذ الإمام أحمد بحديث أبي ذر، فإنه ذكر له هذا الحديث، فقال: أعجب إليّ أن لا يجلس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الغداة أقبل عليهم بوجهه.

يعني: أن هذا أصح من حديث شهر بن حوشبٍ هذا، مع أنه ليس في جميع رواياته:((قبل أن يثنى رجله)) ، بل في بعضها.

* * *

157 -

ص: 428

باب

مكث الإمام في مصلاه بعد السلام

ص: 429

848 -

وقال لنا آدم: ثنا شعبة، عن أيوب، عن نافعٍ، قال: كان ابن عمر يصلي في مكانه الذي صلى فيه الفريضة.

وفعله القاسم.

ويذكر عن أبي هريرة –رفعه -: ((لا يتطوع الإمام في مكانه)) . ولم يصح.

هذا الذي ذكر أنه لا يصح، خَّرجه الإمام وأبو داود وابن ماجه من رواية ليث، عن حجاج بن عبيدٍ، عن إبراهيم ابن إسماعيل، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر، أو عن يمينه أو شماله في الصلاة)) –يعني: في السبحة.

وليس في هذا ذكر الإمام، كما أورده البخاري.

وضعف إسناده من جهة ليث بن أبي سليمٍ، وفيه ضعفٌ مشهورٌ. ومن جهة إبراهيم بن إسماعيل، ويقال فيه: إسماعيل بن إبراهيم، وهو حجازي، روى عنه

ص: 429

عمرو بن دينارٍ وغيره. قال أبو حاتمٍ الرازي: مجهولٌ.

وكذا قال في حجاج بن عبيد، وقد اختلف في اسم أبيه.

واختلف في إسناد الحديث على ليثٍ –أيضاً.

وخرج أبو داود وابن ماجه –أيضاً - من حديث عطاءٍ الخراساني، عن المغيرة بن شعبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا يصلي الإمام في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة حتى يتنحى عنه)) .

وقال أبو داود: وعطاء الخراساني لم يدرك المغيرة.

وقد اختلف العلماء في تطوع الإمام في مكان صلاته بعد الصلاة، فأما قبلها فيجوز بالاتفاق -: قاله بعض أصحابنا:

فكرهت طائفةٌ تطوعه في مكانه بعد صلاته، وبه قال الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالكٌ وأحمد وإسحاق.

وروي عن علي –رضي الله عنه، أنه كرهه.

وقال النخعي: كانوا يكرهونه.

ورخص فيه ابن عقيلٍ من أصحابنا، كما رجحه البخاري، ونقله عن ابن عمر والقاسم بن محمدٍ.

فأما المروي عن ابن عمر، فإنه لم يفعله وهو إمامٌ، بل كان مأموماً، كذلك قال الإمام أحمد،.

ص: 430

وأكثر العلماء لا يكرهون للمأموم ذلك، وهو قول مالكٍ وأحمد.

وقد خرج أبو داود حديثاً يقتضي كراهته من حديث أبي رمثة، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكرٍ وعمر يقومان فيالصف المقدم عن يمينه، وكان رجلٌ قد شهد التكبيرة الأولى من الصلاة، فصلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم سلم عن يمينه وعن يساره، حتى رأيت بياض خديه، ثم انفتل، فقام الرجل الذي أدرك التكبيرة الأولى من الصلاة ليشفع، فوثب إليه عمر، فاخذ بمنكبيه فهزَّه، ثم قال: أجلس؛ فإنه لم يهلك أهل الكتاب إلا أنه لم يكن بين صلاتهم فصل، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره، فقال:((أصاب الله بك يا بن الخطاب)) .

وهذا الحديث يدل على كراهة أن يصل المكتوبة بالتطوع بعدها من غير فصل، وإن فصل بالتسليم.

ويدل عليه - أيضاً -: ما روى السائب بن يزيد، قال: صليت مع معاوية الجمعة في المقصورة، فلما سلم قمت في مقامي فصليت، فلما دخل أرسل إلي، فقال: لا تعد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاةٍ حتى تتكلم أو تخرج؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك، أن لا توصل صلاةٌ بصلاةٍ حتى نتكلم أو

ص: 431

نخرج.

خَّرجه مسلمٌ –بمعناه.

وروى حربٌ بإسناده، عن عطاءٍ، أنه قال فيمن صلى المكتوبة: لا يصلي مكانه نافلةً إلا أن يقطع بحديثٍ، أو يتقدم أو يتأخر.

وعن الأوزاعي، قال: إنما يجب ذلك على الإمام، أن يتحول من مصلاه.

قيل له: فما يجزئ من ذلك؟ قال: أدناه أن يزيل قدميه من مكانه. قيل له: فإن ضاق مكانه؟ قال: فليتربع بعد سلامه؛ فإنه يجزئه.

وروى – أيضاً -: بإسناده، عن ابن مسعودٍ، أنه كان إذا سلم قام وتحول من مكانه غير بعيدٍ.

قال حربٌ: ثنا محمد بن آدم: ثنا أبو المليح الرقي، عن حبيبٍ، قال: كان ابن عمر يكره أن يصلي النافلة في المكان الذي يصلي فيه المكتوبة، حتى يتقدم أو يتأخر أو يتكلم.

وهذه الرواية تخالف رواية نافع التي خرجها البخاري.

وقد ذكر قتادة، عن ابن عمر، أنه رأى رجلاً صلى في مقامه الذي صلى فيه الجمعة، فنهاه عنه، وقال: لا أراك تصلي في مقامك.

قال

ص: 432

سعيدٌ: فذكرته لابن المسيب، فقال: إنما يكره ذلك للإمام يوم الجمعة.

وعن عكرمة، قال: إذا صليت الجمعة فلا تصلها بركعتين حتى تفصل بينهما بتحولٍ أو كلامٍ.

خرَّجهما عبد الرزاق.

ومذهب مالك: أنه يكره في الجمعة أن يتنفل في مكانه من المسجد، ولا ينتقل منه وإن كان مأموماً، وأما الإمام فيكره أن يصلي بعد الجمعة في المسجد بكل حالٍ.

وقد قال الشافعي في ((سنن حرملة)) : حديث السائب بن يزيد، عن معاوية في هذا ثابتٌ عندنا، وبه نأخذ. قال: وهذا مثل قوله لمن صلى وقد أقيمت الصلاة:

((أصلاتان معاً؟!)) كأنه أحب أن يفصلهما منها حتى

ص: 433

تكون المكتوبات منفرداتٍ مع السلام بفصلٍ بعد السلام.

وقدروي أن النبي صلى الله عليه وسلم اضطجع بعد ركعتي الفجر.

وروى الشافعي، عن ابن عيينة، عن عمروٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عباسٍ، أنه كان يأمر إذا صلى المكتوبة، فأراد أن يتنفل بعدها أن لا يتنفل حتى يتكلم أو يتقدم.

قال ابن عبد البر: هذا حديثٌ صحيحٌ.

قال: وقال الشعبي: إذا صليت المكتوبة، ثم اردت أن تتطوع، فاخط خطوةً.

وخالف ابن عمر ابن عباسٍ في هذا، وقال: وأي فصلٍ أفصل من السلام؟

وقد ذكر الفقهاء من أصحابنا والشافعية: أن هذا كله خلاف الأولى من غير كراهةٍ فيه، وحديث معاوية يدل على الكراهة.

قال البخاري –رحمه الله -

ص: 434

849 -

حدثنا أبو الوليد: ثنا إبراهيم بن سعد: ثنا الزهري، عن هند بنت الحارث، عن أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم

ص: 434

مكث في مكانه يسيراً.

قال ابن شهاب: فنرى –والله أعلم – لكي ينفذ من ينصرف من النساء.

ص: 435

850 -

وقال ابن أبي مريم: أنا نافع بن يزيد: حدثني جعفر بن ربيعة، أن ابن شهاب كتب إليه، قال: حدثتني هند ابنت الحارث الفراسية، عن أن سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت من صواحباتها -، قالت: كان يسلم، فينصرف النساء فيدخلن في بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم ذكر رواياتٍ أخر عن الزهري، حاصلها يرجع إلى قولين في نسبة هند بنت الحارث:

منهم من قال: ((الفراسية)) .

ومنهم من قال: ((القرشية)) .

وقيل: انها فراسيةٌ بالنسب، قرشية بالحلف، كانت تحت معبد بن المقداد بن الأسود.

وفي الحديث: دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث في المسجد بعد تسليمه من الصلاة يسيراً، وإنما كان يمكث بعد إقباله على الناس بوجهه، لا يمكث مستقبلاً للقبلة، وبهذا يجمع بين هذا الحديث والأحاديث المذكورة في الباب الماضي.

ص: 435

ويدل على أنه كان يجلس قبل انصرافه يسيراً: ما خَّرجه مسلمٌ من حديث البراء بن عازبٍ، قال: رمقت الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدت قيامه، فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريباً من السواء.

فهذا الحديث: صريحٌ في أنه كان يجلس بعد تسليمه قريباً من قدر ركوعه أو سجوده أو جلوسه بين السجدتين، ثم ينصرف بعد ذلك.

وخرّج مسلمٌ –أيضاً –من حديث عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: ((اللهم، أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والاكرام)) .

وقد سأل أبو داود الإمام أحمد عن تفسير حديث عائشة، وهل المعنى: أنه يجلس في مقعده حتى ينحرف؟ قال: لا أدري.

فتوقف: هل المراد جلوسه مستقبل القبلة يسيراً؟

قال: وقال أبو يحيى الناقد: صليت خلف أبي عبد الله –يعني: أحمد -، فكان إذا سلم من الصلاة لبث هنيةً، ثم ينحرف. قال: فظننته يقول ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فحكى القاضي في كراهة جلوس الإمام مستقبل القبلة بعد سلامه يسيراً روايتين عن أحمد.

والمنصوص عن أحمد في تكبير أيام التشريق: أن

ص: 436

الإمام يكبر مستقبل القبلة قبل أن ينحرف، وحكاه عن النخعي.

قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفرٍ: والعمل على ذلك.

وهذا يدل على أنه يستحب اليسير للإمام قبل انحرافه.

ومن المتأخرين من أصحابنا من قال: إنما يكبر الإمام بعد استقباله للناس، واستدلوا فيه بحديثٍ مرفوعٍ، لا يصح إسناده.

والمنقول عن السلف يدل على أن الإمام ينحرف عقب سلامه، ثم يجلس إن شاء.

روى عبد الرزاق في ((كتابه)) عن معمرٍ، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعودٍ، قال: إذا سلم الإمام فليقم ولينحرف عن مجلسه. قلت: يجزئه ينحرف عن مجلسه ويستقبل القبلة؟ قال: الانحراف يغرب أو يشرق، عن غير واحدٍ.

وكان المسئول معمراً. والله أعلم.

وروى –أيضاً - بإسناده، عن مجاهدٍ، قال: ليس من السنة أن يقعد حتى يقوم، ثم يقعد بعد إن شاء.

وعن سعيد بن جبيرٍ، أنه كان يفعله.

وعن عطاءٍ، قال: قد كان يجلس الإمام بعد ما يسلم –وأقول أنا: التسليم: الانصراف - قدر

ص: 437

ما ينتعل نعليه.

وعن عبيدة، أنه قال لما سمع مصعباً يكبر ويهلل بعد صلاته مستقبل القبلة: ماله، قاتله الله، نعار بالبدع.

ويستثنى من ذلك: الجلوس بعد الفجر، فإنه لو جلس الإمام بعد استقباله الناس إلى أن تطلع الشمس كان حسناً.

ففي ((صحيح مسلم)) عن جابر بن سمرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام.

وروى وكيعٌ بإسناده، عن النخعي، أنه كان إذا سلم قام، إلا الفجر والعصر. فقيل له في ذلك؟ فقالَ: ليس بعدهما صلاة.

قالَ أحمد –في الإمام إذا صلى يقوم الفجر أو العصر -: أعجب إلي أن ينحرف، ولا يقوم من موضعه.

وكان أحمد إذا صلى بالناس الصبح جلس حتى تطلع الشمس.

فأما جلوسه بعد الظهر، فقال أحمد: لا يعجبني.

قال القاضي أبو يعلى: ظاهر كلامه: أنه يستحب بعد الصلاة التي لا يتطوع بعدها، ولا يستحب بعد غيرها.

قال: وروى الخلالُ بإسناده، عن عابدٍ الطائيَّ، قال: كانوا يكر هونَ جلوسَ الإمام في مصلاهُ بعد صلاةٍ يصلي بعدها، فإذا كانت صلاةٌ لا يصلى بعدها فإن شاءَ قامَ، وإن شاءَ جلسَ.

ص: 438

وحكي عن أصحاب الشافعيَّ: أن المستحب للإمامِ أن يقومَ ولا يجلسَ في كل الصلواتِ.

وقد نصَّ الشافعيَّ في ((المختصر)) على أنه يستحبَُ للإمامِ أن يقومَ عقبَ سلامهِ إذا لم سكن خلفهَ نساءٌ.

فأما المأموم فلا يكره له الجلوسُ بعدَ الصلا ة في مكانه، يذكرُ اللهَ، حصوصاً بعد الصبحِ والعصرِ، ولا نعلمُ في ذلك خلافاً.

وقد صحَ الحديثُ في أن الملائكةَ تصليَّ على العبدِ ما دامَ في مصلاه، ما لم يحدثُ، وقد سبق ذكرهُ، ووردت أحاديثُ في الجلوسِ بعد الصبحِ والعصرِ، وكان السلفُ الصالحُ يحافظونَ عليه.

ومتى أطال الإمامُ الجلوس في مصلاهُ، فإن للمأمومِ ان ينصرفَ ويتركه، وسواءٌ كان جلوسهُ مكروهاً أو غير مكروهٍ.

قال ابنُ مسعودٍ: إذا فرغَ الإمامُ ولم يقم ولم ينحرفُ، وكانت لك حاجةٌ فاذهب ودعه، فقد تمتَّ صلاتك.

ص: 439

خرجه عبد الرزاقِ.

وذكر بإسناده عن عطاء، قال: كلامهُ بمنزلةِ قيامه، فإن تكلم فليقم المأمومُ إن شاءَ.

وإن لم يطل الإمام الجلوس، فالسنة أن لا يقوم المأموم حتى يقوم الإمام، كذا قال الزهري والحسن وقتادة وغيرهم.

وقال الزهري: إنما جعل الإمام ليؤتم به.

يشير إلى أن مشروعية الاقتداء به لا تنقطع إلا بانصرافه.

وفي ((صحيح مسلمٍ)) عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((أيها الناس، إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف)) .

وحديث أم سلمة المخرج في هذا الباب يدل عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس يسيراً حتى ينصرف النساء، فلا يختلط بهن الرجال، وهذا يدل على أن الرجال كانوا يجلسون معه، فلا ينصرفون إلا مع انصرافه.

وقد روي ذلك صريحاً في هذا الحديث:

خَّرجه البخاري فيما بعد من رواية يونس، عن ابن شهاب، ولفظه: إن النساء كن إذا سلمن من الصلاة قمن وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال.

ص: 440

وفي هذا الحديث: دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدعو بعد فراغ صلاته دعاء عاما للمأمومين، فإنه لو كان كذلك لاشترك في حضوره الرجال والنساء، كما أمر بشهود النساء العيدين حتى الحيض، وقال:((يشهدن الخير ودعوة المسلمين)) ، فلو كان عقبٌ الصلاة دعاء عام لشهده النساء مع الرجال –أيضاً.

وقال الشافعي في ((الأم)) : فإن قام الإمام قبل ذلك، أو جلس أطول من ذلك، فلا شيء عليه. قال: وللمأموم أن ينصرف إذا قضى الإمام السلام قبل قيام الإمام، وتأخيره حتى ينصرف بعد انصراف الإمام أو معه أحب إلي.

وظاهر كلام كثير من السلف: كراهة ذلك، كما تقدم.

وفي ((تهذيب المدونة)) للمالكية، ولا يقيم الإمام في مصلاه إذا سلم، إلا أن يكون في سفرٍ أو فنائه، وإن شاء تنحى وأقام.

* * *

158 -

ص: 441

باب

من صلى بالناس فذكر حاجة فتخطاهم

ص: 442

851 -

حدثنا محمد بن عبيد: ثنا عيسى بن يونس، عن عمر بن سعيد: أخبرني ابن أبي مليكة، عن عقبة، قال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلم، ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلي بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنهم عجبوا من سرعته، فقال:((ذكرت شيئاً من تبرٍ عندنا، فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسمته)) .

فيه: دليل على أن الإسراع بالقيام عقب السلام من غير تمهلٍ لم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا تعجبوا من سرعته في هذه المرة، وعلم منهم ذلك، فلذلك أعلمهم بعذره.

وفيخ: دليلٌ على أن التخطي للإمام لحاجةٍ جائزٌ، وإن كان بعد فراغه من الصلاة، كما له أن يتخطى الصفوف في حال دخوله –أيضاً -، وأما غيره، فيكره له ذلك.

وظاهر كلام أحمد أنه يكره للإمام –أيضاً.

قال إسحاق بن هانئٍ:

ص: 442

سألت أبا عبد الله عن الرجل يصلي بالقوم، فإذا فرغ من الصلاة خرج من بين رجلين، أفهو متخطً؟ قال: نعم، وأحب إلى أن يتنحى عن القبلة قليلاً حتى ينصرف النساء، فإن خرج مع الحائط فهذا ليس بمتخط.

وظاهر هذا: كراهةٌ تخطيهم للإمام، وقد يكون مراده: إذا لم يكن له حاجة تدعوه إلى ذلك.

والتبر: هو قطع الذهب قبل أن يضرب.

والظاهر: أنه كان من مال الصدقة أو غيرها من الأموال التي يجب قسمتها على المساكين ونحوهم.

وقد خَّرجه البخاري في موضعٍ آخر، وذكر فيه: أنه كان تبراً من الصدقة، وقال:((كرهت أن أبيته، فقسمته)) .

* * *

159 -

ص: 443

باب

الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال

وكان أنسٌ ينفتل عن يمينه وعن يساره، ويعيب على من يتوخى –أو يعمد – الانفتال عن يمينه.

الانفتال: هو الانحراف عن جهة القبلة إلى الجهة التي يجلس اليها الإمام بعد انحرافه، كما سبق ذكره.

وحكمه: حكم الانصراف بالقيام نم محل الصلاة.

وقد نص عليه إسحاق وغيره.

وقد ذكر البخاري، عن أنسٍ، أنه كان ينفتل عن يمينه ويساره، ويعيب على من يتوخى الانفتال عن يمينه - يعني: يتحراه ويقصده.

وفي ((مسند الإمام أحمد)) من رواية أبي الأوبر الحارثي، عن أبي هريرة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفتل عن يمينه وشماله.

وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن

جده، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينفتل عن يمينه وعن يساره في الصلاة.

ص: 444

وفي رواية للإمام أحمد: ((ينصرف)) بدل: ((ينفتل)) .

وخرج مسلمٌ في هذا الباب حديث البراء بن عازب، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه فيقبل علينا بوجهه.

وخرّجه من روايةٍ أخرى ليس فيها: ((ثم يقبل علينا بوجهه)) .

ولكن روي تفسير هذه اللفظة بالبداءة بالتفاته إلى جهة اليمين بالسلام.

خرّجه الإسماعيلي في ((حديث مسعرٍ من جمعه)) ، ولفظه: كان يعجبنا أن نصلي مما يلي يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يبدأ بالسلام عن يمينه.

وفي رواية أخرى له: أنه كان يبدأ بمن علي يمينه، فيسلم عليه.

قال أبو داود: كان أبو عبد الله –يعني: أحمد – ينحرف عن يمينه.

قال ابن منصورٍ: كان أحمد يقعد ناحية اليسرى، ويتساند.

قال القاضي أبو يعلى: وهما متفقان؛ لأنه إذا انحرف عن يمينه حصل جلوسه ناحية يساره.

قال: وقال ابن أبي حاتمٍ: سمعت يقول: تدبرت الاحاديث التي رويت في إستقبال النبي صلى الله عليه وسلم الناس بوجهه،

ص: 445

فوجدت انحرافه عن يمينه أثبت.

وقال ابن بطة من أصحابنا: يجلس عن يسرة القبلة.

ونقل حربٌ، عن إسحاق، أنه كان يخير في ذلك كالانصراف.

وللشافعية وجهان: أحدهما: التخيير كقول إسحاق. والثاني: أن الانفتال عن يمينه أفضل.

ثم لهم في كيفيته وجهان:

أحدهما –وحكوه عن أبي حنيفة -: أنه يدخل يمينه في المحراب ويساره إلى

الناس، ويجلس على يمين المحراب.

والثاني –وهو أصح عند البغوي وغيره -: بالعكس.

واستدلوا له بحديث البراء بن عازبٍ الذي خَّرجه مسلمٌ.

وأما الانصراف: فهو قيام المصلي وذهابه من موضع صلاته إلى حاجته، فيذهب حيث كانت حاجته، سواءٌ كانت من وجهة اليمين أو اليسار، ولا يستحب له أن يقصد جهة اليمين مع حاجته إلى غيرها، هذا قول جمهور العلماء، وروي عن علي وابن مسعود وابن عمر والنخعي وعطاء والشافعي وأحمد وإسحاق.

وإنما كان أكثر انصراف النبي صلى الله عليه وسلم عن يساره؛ لأن بيوته كانت من جهة اليسار.

ص: 446

وقد خَّرجه الإمام أحمد مصرحاً بذلك من رواية ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، أن ابن مسعودٍ حدثه، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ عامةً ما ينصرف من الصَّلاة على يساره إلى الحجرات.

فإن لم يكن له حاجةٌ في جهةٍ من الجهات، فقال الشافعي وكثيرٌ من أصحابنا: انصرافه إلى اليمين أفضل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيمن في شأنه كله.

وحمل بعضهم على ذلك حديث السدي، قال: سألت أنساً: كيف أنصرف إذا صليت عن يميني أو عن يساري؟ فقال: أما أنا فأكثر ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه.

خرّجه مسلمٌ.

والسدي، هو: إسماعيل بن عبد الرحمن، وقد تكلم فيه غير واحدٍ، ووثقه أحمد وغيره. وعن يحيى فيه روايتان.

ولم يخرج له البخاري، وأظنه ذكر هاهنا الأثر الذي علقه عن أنسٍ ليعلل به هذا الذي رواه عنه السدي. والله أعلم.

ص: 447

وحكى ابن عبد البر، عن الحسن وطائفة من العلماء: أن الانصراف عن اليمين أفضل.

وقد حكاه ابن عمر عن فلانٍ، وأنكره عليه، ولعله يريد به ابن عباسٍ –رضي الله عنهما.

وسئل عطاءٌ: أيهما يستحب؟ قال: سواءٌ، ولم يفرق بين أن يكون له حاجة، أو لا.

وخرّج الإمام أحمد والنسائي من حديث عائشة. أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينصرف عن يمينه وشماله.

وهو من رواية بقية، عن الزبيدي، أن مكحولاً حدثه، إن مسروق بن الاجدع حدثه، عن عائشة.

وهذا إسنادٌ جيدٌ.

لكن رواه عبد الله بن سالمٍ الحمصي –وهو ثقةٌ ثبتٌ -، عن الزبيدي، عن سليمان بن موسى، عن مكحولٍ بهذا الإسناد.

قالَ الدارقطني: وقوله أشبه بالصواب.

ص: 448

وسليمان بن موسى، مختلفٌ في أمره.

وروى قبيصة بن الهلب، عن أبيه، قالَ: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمنا، فينصرف على جانبيه جميعاً، عن يمينه وشماله.

خَّرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي.

وقال: حديثٌ حسنٌ، وعليه العمل عندَ أهل العلم.

قالَ وصح الأمران عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم.

* * *

160 -

ص: 449