المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

باب ما جاء في الثوم النئ والبصل والكراث وقول النبي صلى الله - فتح الباري لابن رجب - جـ ٨

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

باب

ما جاء في الثوم النئ والبصل والكراث

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أكل الثوم والبصل، من الجوع أو غيره، فلا يقربن مسجدنا)) .

خرّج فيه: عن ابن عمر، وجابر، وأنسٍ:

فاما حديث ابن عمر:

فقال:

853 -

ص: 5

ثنا مسددٌ: ثنا يحيى، عن عبيد الله: حدثني نافعٌ، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – في غزوة خيبر -:((من أكل من هذه الشجرة –يعني: الثوم – فلا يقربن مسجدنا)) .

وخَّرجه مسلم، ولفظه:((فلا يقربن المساجد)) .

وهذا صريحٌ بعموم المساجد، والسياق يدل عليه؛ فإنه لم يكن بخيبر مسجد بني للنبي صلى الله عليه وسلم، إنما كان يصلي بالناس في موضع نزوله منها.

وقد روي، أنه أتخذ بها مسجداً، والظاهر: أنه نصب احجاراً في مكان، فكان يصلي بالناس فيه، ثم قد نهى من أكل الثوم عن قربان موضع صلاتهم.

ص: 5

يدل عليه: ما خَّرجه مسلمٌ من حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: لم نعد أن فتحت خيبر، فوقعنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك البقلة الثوم، والناس جياعٌ، فاكلنا منها أكلاً شديداً، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الريح، فقال:((من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئاً فلا يقربنا في المسجد)) ، فقال الناس: حرمت، حرمت. فبلغ ذلك

النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:((يأيها الناس، إنه ليس بي تحريم ما أحل الله، ولكنها شجرةٌ أكره ريحها)) .

وخرّج الإمام أحمد من حديث معقل بن يسار، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ له، فنزلنا في مكان كثير الثوم، وإن أناساً من المسلمين أصابوا منه، ثم جاءوا إلى المصلى يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عنها، صم جاءوا بعد ذلك إلى المصلى، فوجد ريحها

منهم، فقال:((من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا في مسجدنا)) .

وأما حديث جابرٍ، فمن طريقين:

أحدهما:

ص: 6

854 -

حدثنا عبد الله بن محمد: ثنا أبو عاصمٍ: أنا ابن جريجٍ: أخبرني عطاءٌ، قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أكل من هذه الشجرة –يريد: الثوم – فلا يغشانا في مساجدنا)) .

قلت: ما يعنى به؟ قال: ما أراه يعني إلا نيئه.

وقال مخلد بن يزيد، عن ابن جريجٍ: إلا نتنه.

ص: 6

وهذه الرواية –أيضاً - صريحة بعموم المساجد، والمسئول والمجيب لعله عطاءٌ وفي أبي عاصم.

((نيئه)) ، بالهمز، ويقال بالتشديد بدون همزة، والمراد به: ما ليس بمطبوخٍ، فإنه قد ورد في المطبوخ رخصةٌ، لزوال بعض ريحه بالطبخ.

وقد قال عمر –رضي الله عنه – في خطبته -: إنكم تأكلون شجرتين، لا أراهما إلا خبيثتين، هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحها من الرجل في المسجد أمر به وأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخا.

خَّرجه مسلمٌ.

وخرّج أبو داود والنسائي من حديث معاوية بن قرة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هاتين الشجرتين، وقال:((من أكلهما فلا يقربن مسجدنا)) وقال: ((إن كنتم لابد آكلوهما، فاميتوهما طبخاً)) .

قال: يعني: البصل والثوم.

وقال البخاري –فيما نقله عنه الترمذي في ((علله)) -: حديثٌ حسنٌ.

وخرّج الطبراني معناه من حديث أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال فيه:((فإن كنتم لابد آكلوهما فاقتلوهما بالنار قتلاً)) .

ص: 7

وخرّج أبو داود من حديث علي، قال: نهي عن أكل الثوم، إلا مطبوخاً.

خَّرجه الترمذي.

ثم خَّرجه - موقوفاً - عن علي، أنه كره أكله إلا مطبوخاً.

وخرّج ابن ماجه من حديث عقبة بن عامر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه:((لا تأكلوا البصل)) ، ثم قال كلمة خفية:((النئ)) .

وأما رواية مخلد بن يزيد الحراني، عن ابن جريج، التي ذكرها البخاري –تعليقاً -، فمعناها: نتن ريحه، ولأجلها كره دخول المسجد لآكله.

وخرّج مسلم حديث جابر هذا من رواية يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، ولفظه:((من أكل من هذه البقلة: الثوم)) –وقال مرةٍ -: ((من أكل من البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم)) .

وخرّج معناه من حديث أبي الزبير، عن جابر –أيضاً.

وخرّج مسلم –أيضاً - من حديث الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن

ص: 8

مسجدنا، ولا يؤذينا بريح الثوم)) .

فدل هذا الحديث – مع الذي قبله – على أن علة المنع من قربان المسجد تأذى من يشهده من المؤمنين والملائكة بالرائحة الكريهة.

وفي عامة هذه الأحاديث: تسمية الثوم شجرةً.

قال الخطابي: فيه أنه جعل الثوم من جملة الشجر، والعامة انما يسمون الشجر ما كان له ساق يحمل أغصانه دون غيره.

وعند العرب: أن كل ما بقيت له أرومة في الأرض تخلف ما قطع فهو شجر، وما لا أرومة له فهو نجمٌ، فالقطن شجرٌ، يبقى في كثير من البلدان سنين، وكذلك الباذنجان، فأما اليقطين والريحان ونحوهما فليس بشجر، فلو حلف رجل على شيء من الأشجار فالاعتبار من جهة الاسم والحقيقة على له ذكرت، وفي العرف ما تعارفه الناس. انتهى.

وأما قوله تعالى: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} [الصافات:146] ، فلا يرد على ذكره؛ فإنها شجرة مقيدة بكونها من يقطين، وكلامه إنما هوَ في اطلاق اسم

الشجر.

وقد اختلف أصحابنا الفقهاء فيما يتكرر حمله من أصول الخضروات ونحوهما: هل هو ملتحق بالشجر، أو بالزرع؟ وفيه وجهان، ينبني

ص: 9

عليهما مسائل متعددة، قد ذكرناها في ((كتاب القواعد في الفقه)) .

الطريق الثاني:

ص: 10

855 -

ثنا سعيد بن عفير: ثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب: زعم عطاء، أن جابر بن عبد الله زعم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا – أو قال: فلعتزل مسجدنا -، وليقعد في بيته)) .

وأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بقدر فيه خضروات من بقول، فوجد لها ريحا، فسأل، فأخبر بما فيها من البقول، فقال:((قربوها)) –الي بعض أصحابه كان معه -، فلما رأه كره أكلها. قال:((كل، فإني أناجي من لا تناجي)) .

وقال أحمد بن صالح، عن ابن وهب:((أُتي بِبَدرٍ)) .

قال ابن وهب: يعني: طبقاً فيه خضرواتٌ.

ولم يذكر الليث وأبو صفوان، عن يونس قصةَ القدرِ، فلا أدري: هو من قول الزهري، أو في الحديث؟

قالَ الخطابي: قول ابن شهاب: ((زعم عطاء، أن جابراً زعمَ)) ليس على معنى التهمة لهما، ولكن لما كان أمراً مختلفاً فيه حكىعنهم بالزعم، وقد يستعمل فيما يختلف فيه كما يستعمل فيما يرتاب به، ويقال: في قولِ فلانٍ مزاعمٌ، إذا لميكن موثوقاً به.

وذكر: أن رواية ((القدر)) تصحيفٌ، إنما الصواب ((ببدرٍ)) وهو الطبق،

ص: 10

كما قاله ابن وهب، وسمي بدراً لاستدارئه وحسن اتساقه، تشبيهاً بالقمر.

قال: وإن لم يكن ((القدر)) تصحيفاً، فلعله كان مطبوخاً، ولذلك لم يكره أكله لأصحابه، ثم بين أن كراهته لا تبلغُ التحريمَ لقوله:((أناجي من لا تناجي)) ، يريد: الملك. انتهى.

وخرج ابن جرير الطبري بإسناد فيه ضعفٌ من حديث أبي أيوب الأنصاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال –لما امتنعَ من أكل الطعام الذي أرسله إليه -:((إن فيها هذه البقلةَ: الثومَ، وأنا رجلٌ أقربُ الناسَ وأناجيهم، فأكره أن يجدُوا مني ريحهُ، ولكن مُر أهلكَ أن يأكلوها)) .

وهذه الرواية: تدلُ على أنه كره أكلها لكثرةِ مخالطتهِ للناس وتعليمهم القرآن والعلمَ، فيستفاد من ذلك: أن من كان على هذه الصفة، فإنه يكره ذلك من ذلك ما لا يكره لمن لم يكن مثلَ حاله.

ولكن؛ روى مالكٌ، عن ابن شهاب، عن سليمان بن يسار، قالَ: كانَ

رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل الثوم ولا البصل ولا الكراث من أجل أن الملائكة تأتيه، مِن أجل أنه يكلم جبريل عليه السلام.

ص: 11

وهذا مرسلٌ.

ولا ينافي التعليلُ بمناجاتِ الملك التعليلَ بمناجاةِ بني آدم، كما وردً تعليلٌ النهي عن قربانِ أكل الثومِ للمساجد بالعلتين جميعاً، كما سبق ذكرُه.

وقد ذكر البخاري: أن قصة إتيانه بقدرٍ أو بدرٍ لم يذكرها في هذا إلا ابن وهبٍ عن يونسَ، وأن الليث بن سعدٍ وأبا صفوان –وهو: عبدُ الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان –رويا عن يونس أول الحديث دون هذه القصةِ الآخرة، وأن ذلك يوجب التوقفَ في أن هذه القصةَ: هل هي من تمام حديثِ جابرٍ، أو مدرجةٌ من كلامِ الزهري؛ فإن الزهريَ كان كثيراً ما يروي الحديث، ثم يدرجُ فيه أشياءَ، بعضها مراسيلُ، وبعضها من رأيه وكلامه.

وقد خرّج البخاري في ((الأطعمةِ)) الحديث من رواية أبي صفوان، عن يونس، مقتصراً على أول الحديثِ.

وخرّج البخاري في ((الأطعمةِ)) الحديثَ عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب، وفي حديثه:((ببدر)) ، وذكر مخالفة سعيد بن عفيرٍ له، وأنه قال:((بقدرٍ)) .

ص: 12

وأما حديث أنسٍ:

فقال:

856 -

ص: 13

حدثنا أبو معمرٍ: ثنا عبدُ الوارثِ، عن عبد العزيز، قال: سأل رجلٌ أنساً: ما سمعتَ نبيَ الله صلى الله عليه وسلم في الثوم؟ فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا، ولا يصلين معنا)) .

وخَّرجه في موضع آخر، وقال:((فلا يقرَبنَّ مسجدنا)) .

وفي النهي لمن أكلهما عن قربان الناس: دليلٌ على أنه يكره له أن يغشى الناس حتى يذهب ريحها، ولكن حضوره مجامع الناسِ للصلاةِ والذكر ومجالسته لأهل العلمِ والدين أشد كراهةً من حضوره الأسواق ومجالسته الفساق.

ولهذا في حديث جابر المتقدم: ((وليقعد في بيته)) .

وفي ((صحيح مسلمٍ)) من حديث أبي سعيدٍ الخدريَ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على زراعة بصل هو وأصحابه، فنزلَ ناسٌ منهم، فأكلوا منه، ولم يأكل اخرون، فرحنا إليهِ، فدعا الذين لم يأكلوا البصلَ، وأخر الاخرينَ، حتى ذهب ريحها.

ص: 13

وقد روي عن عمرَ، أنه قال: من أكل البصل والكراث فلا يأكله عند قراءة القرآن، ولا عند حضورِ المساجد.

خرّجه عثمان الدارمي في ((كتاب الأطعمةِ)) .

ومن أغرب ما روي في هذا الباب: ما خَّرجه أبو داود وابن حبان في

((صحيحه)) من حديث حذيفةَ –بالشكَّ في رفعه -: ((من أكل منهذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا ثلاثاً)) .

وهذا مشكوك في رفعه.

وقدرواه جماعةٌ من الثقات، فوقفوه على حذيفة بغير شك، وهو الأظهر والله أعلم.

ويحتمل أن في الكلام حذفاً، تقديره: قالها ثلاثاً. يعني: أنه اعاد هذه الكلمة ثلاث مراتٍ.

وقد دلت أحاديث هذا الباب على أن أكل الثوم غير محرمٍ في الجملة، وإنما ينهى من أكله عن دخولِ المسجدِ حتى يذهبَ ريحه، وعلى هذا جمهور العلماءِ.

وذهب إلى تحريمِ أكله طائفةٌ قليلةٌ من أهل الظاهرِ. وروي عن بعض المتقدمين –أيضاً -، والنصوصُ الصحيحةُ صريحةٌ برد هذا الكلامِ.

ص: 14

وأما كراهةٌ أكل ذلك، فمن العلماء من كره أكله نيئاً حتى يُطبخ، منهم: عمر وابن عمر والنخعي، وهو قول أحمد، وقال: الثوم أشدُّ.

وروي عنه روايةٌ، أنه قال: لا أحب أكل الثوم خاصة، وإن طبخ، لأنه لا يذهب ريحه إذا طبخ، قال: وإن أكله من علةٍ فلا بأس، وقال: الذي يأكلها يتجنب المسجد، وكل ما له ريحٌ، مثلُ البصلِ والثومِ والكراثِ والفجلِ فإنما أكرهه لمكانِ الصلاةِ.

وسئل عن أكل ذلك بالليلِ؟ فقال: أليس يتأذى به الملكُ.

وظاهرُ هذا: يدل على كراهةِ أكل ما له ريحٌ كريهةٌ، وان كان وحده.

وقد روي عن سعد بن أبي وقاصٍ، أنه كان إذا اراد أن ياكل الثوم بدا –يعني: خرج إلى البادية.

وعن عكرمة، قال: كنا نأكله ونخرجُ من الكعبةِ.

خَّرجه ابن جريرٍ الطبريُ.

ولو أكله، ثم دخل المسجد كُره له ذلكَ.

وظاهر كلامِ أحمد: أنه يحرمُ، فإنه قال في رواية إسماعيل بن سعيد: إن أكل وحضر المسجدَ أثمَ.

وهو قولَ ابن جرير – أيضاً - وأهل الظاهر وغيرهم.

قال ابنُ جرير: وإذا وجد منه ريحةً في المسجد، فإن السلطان يتقدم اليه بالنهي عن معاودة ذلك، فإن خالف وعاد، أمر بإخراجه من البلد إلى أن تذهب منه الرائحة. واستدل بحديث عمر –رضي الله عنه، وقد سبق

ص: 15

ذكره.

وقد استدل قومٌ من العلماء بأحاديث هذا الباب على أن حضور الجماعة في المساجد ليست فرضاً؛ لأنها لو كانت فرضاً لم يرخص في أكل الثوم وينهى من أكله عن حضور المسجد، وجعلوا أكل هذهِ البقولِ التي لها ريحٌ خبيثةٌ عذراً يبيح ترك الجماعةِ.

ورد عليهم آخرون:

قال الخطابي: قد توهم هذا بعضُ الناس؛ قال: وإنما هو – يعني: النهي عن دخول المسجد – توبيخٌ له وعقوبةٌ على فعله إذ حرم فضيلة الجماعةَ.

ونقل ابن منصورٍ، عن إسحاق، قال: إن أكل الثوم من علةٍ حادثةٍ به فإن ذلك مباح، وان لم يكن علة لا يسعه أكله، لكي لا يترك الجماعةَ.

وهذا مجمولٌ على ما إذا أكله بقربِ حضورٍ الصلاة ويعلم [

] فريضة.

ودخولُ المسجد مع بقاء ريح الثوم محرمٌ، وهو قولُ طائفةٍ من أصحابنا وابن جرير وغيرهم من العلماء.

ويشهدُ لهذا: أن الخمر قبل أن تحرم بالكلية كانت محرمة عند حضور الصلاةِ، كيلا يمنع من الصلاةِ، حيث كان الله قد انزل فيها {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] ، فكان منادي

ص: 16

النبي صلى الله عليه وسلم ينادي: ((لا يقرب الصلاة سكرانٌ)) . وفي ضمن ذلك، النهي عن السكر بقرب وقت الصلاة، ثم حرمت بعد ذلك على الإطلاق بالآية التي في سورة المائدة.

وقد تقدم نص أحمد بإنه قال: أكرهه في وقت الصلاة، لمكانِ المسجدِ.

وهذا يحتملُ كراهة التنزيه، وكراهة التحريم.

وروى ابن وهب، عن مالك، أنه سئل عن أكل الثوم يوم الجمعة؟ فقال: بئسما صنع حين أكل الثوم وهو ممن يجب عليه حضورُ الجمعة.

وقد ذكرنا: أن هذ الحكم يتعدى إلى كل مأكول له رائحةٌ كريهةٌ، كالفجل وغيره، وأن أحمد نص عليه.

وكذلك قال مالكٌ: الكراثُ كالثوم، إذا وجدت ريحهما يؤذي.

وألحق أصحاب مالكٍ به: كل من له رائحةٌ كريهةٌ يتأذى بها، كالحراث والحوات.

وفيه نظر، فإن هذا أثر عملٍ مباحٍ، وصاحبه مخحتاج اليه، فينبغي أن يؤمر إذا شهد الصلاة في جماعته بالغسل وإزالة ما يتأذى برائحته منه، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان يشهد الجمعة من الأنصار الذين كانوا يعملون في نخلهم ويلبسون الصوف ويفوح ريحهم بالغسل، وأمرهم بشهود الجمعة في ثوبين غير ثوبي المهنة.

ص: 17

وذكر ابن عبد البر عن بعض شيوخه، أنه ألحق بأكل الثوم من كان أهل المسجد يتأذون بشهوده معهم من اذاه لهم بلسانه ويده، لسفهه عليهم وإضراره بهم، وأنه يمنع من دخول المسجد ما دام كذلك، وهذا حسنٌ.

وكذلك يمنعُ المجذومُ من مخالطة الناس في مساجدهم وغيره؛ لما روي من الامر بالفرار منه. والله أعلمَ.

ص: 18

وفي ((تهذيب المدونةِ)) : ويقامُ الذي يقعدُ في المساجد يوم الخميس وغيره لقراءة القرآن.

ولعلَ مراده: إذا كان يقرأ جهراً، ويحصلُ بقراءته أذى لأهلِ المسجدِ، ويشوش عليهم. والله أعلم.

* * *

161 -

ص: 19

باب

وضوء الصبيان، ومتى يجب عليهم الغسل والطهور

وحضورهم الجماعة والعيدين والجنائز، وصفُوفهم

لما أن تعين ذكر صفة الصلاة، وكان الغالبُ على أحكامها يختصً بالرجال المكلفين، افرد لحكم الصبيان باباً مفرداً، ذكر فيه حكم طهارتهم من الوضوء والغسل، وذكر صلاتهم وحضورهم الجماعات مع الرجال فيالصلوات المفروضات وفي العيدين والجنائز، وصفوفهم مع الرجال.

وذكر في الباب أحاديث ستة، يُستنبط منها هذهِ الأحكام التي بوب عليها.

ولم يبوب على وقت وجوب الصلاة عليهم؛ لأن الأحاديث في ذلك ليست على شرطهِ.

وهي نوعان:

أحاديث: ((مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم على تركها لعشرٍ)) .

وقد رُويت من وجوهٍ متعددةٍ، أجودها: من حديث سبرة بن معبدٍ الجهني، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((مروا الصبيَّ بالصلاة إذا بلغَ سبعَ سنينَ، واذا بلغ عشر سنينَ فاضربوه عليها)) .

خرّجه الإمام أحمد وأبو داود – وهذا لفظه – والترمذي –وقال: حسنٌ صحيحٌ –وابن خزيمة في ((صحيحه)) والحاكمُ –وقال: على شرط

ص: 20

مسلم.

وقد ذهبَ إلى هذا الحديث جماعةٌ من العلماء، وقالوا: يُؤمر بها الصبيُ لسبعٍ، ويضرب على تركها لعشرٍ، وهو قولُ مكحولٍ والأوزاعي وأحمد وإسحاق.

وتقل ابن منصورٍ، عنهما، أنهما قالا: إذا ترك الصلاة بعد العشر يعيد.

واختلف أصحابنا: هل هي واجبةٌ عليه في هذه الحال، أم لا؟ فأكثرهم على أنها لا تجب على الصبي، لكن يجب على الولي أمره بها لسبعٍ، وضربه إذا نركها لعشر.

ومنهم من قال: هي واجبةٌ عليه إذا بلغ عشراً، يضربه على تركها.

وقد قيل: إن الضرب على الترك، تارةً يكون في الدنيا والآخرة كالوضوء على المسلمِ البالغِ العاقل، وتارةً يكون في الآخرة دون الدنيا كوجوب فروع الاسلام على الكفار، وتارةً يكون فغي الدنيا خاصة كضرب الصبي إذا ترك الصلاة لعشر، ولا يلزم من ذلك أن يعاقب عليها في الآخرة.

ومن العلماء من قال: يؤمر الصبي بالصلاة إذا عرف يمينه من شماله، روي عن ابن سيرين والزهري، وروي عن الحسن وابن عمر،

ص: 21

وفيه حديث مرفوع، خَّرجه أبو داود، وفي إسناده جهالةٌ، وهو اختيار الجوزجاني.

وروي عن عمر، أنه مر على امرأة توقظ ابنها لصلاة الصبح وهو يتلكا، فقال: دعيه لا يعنيه، فإنها ليست عليه حتى يعقلها.

وعن عروة، وميمون بن مهران، قالا: يؤمر بها إذا عقلها.

وعن بعض التابعين: يؤمر بها إذا أحصى عدد عشرين.

وعن النخعي ومالك: يؤمر بها إذا ثغر –يعني: تبدلت اسنانه.

النوع الثاني: أحاديث: ((رُفع القلم عن ثلاث)) ، منهم: ((الصبي حتى

يحتلم)) .

وفي ذلك أحاديث متعددة:

منها: عن عمر وعلي، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

خَّرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذيُ والنسائي.

وقد اختلف في رفعه ووقفه، ورجح الترمذي والنسائي والدارقطني وغيرهم وقفه على عمر، وعلى عليّ من قولهما.

وله طرق عن علي.

ومنها: عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:((وعن الصبي حتى يكبر)) .

ص: 22

خَّرجه أبو داود وابن حبان في ((صحيحه)) من رواية حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة.

وقال النسائي: ليس في هذا الباب صحيحٌ إلاحديث عائشة؛ فإنه حسن.

ونقل الترمذي في ((علله)) عن البخاري، أنه قالَ: ارجو أن يكون محفوظاً. قيل له: رواه غير حماد؟ قال: لا أعلمه.

وقال ابن معين: ليس يرويه أحد، إلا حماد بن سلمة، عن حمادٍ.

وقال ابن المنذر: هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والى هذا الحديث ذهب أكثر العلماء، وقالوا: لا تجب الصلاة على الصبي حتى يبلغ. والله أعلم.

وقد تقدم: أن البخاري خرج في هذا الباب ستة أحاديث:

الأول:

857 -

ص: 23

حدثنا محمد بن المثنى: ثنا غندر: ثنا شعبة: سمعت سليمان

ص: 23

الشيباني: سمعت الشعبي، قال: أخبرني من مر مع النبي صلى الله عليه وسلم على قبرٍ منبوذ، فأمهم وصفوا عليه، فقلت: يا أبا عمرو: من حدثك؟ قالَ: ابن عباس.

مراد البخاري من هذا الحديث في هذا الباب: أن ابن عباس صلى خلف النَّبيّ صلى الله عليه وسلم مع أصحابه على القبر، وابن عباس كانَ صغيراً لم يبلغ الحلم، وقد سبق ذكر الاختلاف في سنه عندَ وفاة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في ((كتاب العلم)) ، فدّل على أن الصبي يشهد صلاة الجنائز مع الرجال، ويصلي معهم عليها، ويصف معهم.

وقدر خَّرجه البخاري في موضع آخر من ((كتابه)) هذا بلفظ آخر، وفيه:

((فقام فصففنا خلفه، قال ابن عباس: وأنا فيهم، فصلى عليه)) .

وقد خَّرجه الدارقطني من طريق شريك، عن الشيباني بهذا الإسناد، وقال في حديثه:((فقام فصلى عليه، فقمت عن يساره، فجعلني عن يمينه)) .

وهذه زيادة غريبة، لا أعلم ذكرها غير شريك، وليس بالحافظ، فإن كانت محفوظة استدل بها على صفوف الجنائز كصفوف سائر الصلوات.

وقد اختلف أصحابنا في ذلك:

فمنهم من قال: كذلك، وهو ظاهر كلام أحمد؛ لأنه نص على كراهة صلاة الفذ وحده في صلاة الجنازة.

ص: 24

ومنهم من قال: يصلي على الجنازة الرجل وحده، منفرداً خلف الصفوف، منهم: القاضي أبو يعلى في ((خلافه)) وابن عقيل.

وقالوا: إذا لم يكن جعل الصفوف في صلاة الجنازة ثلاثة إلا بقيام واحد

صفاً وحده كان أفضل.

واستدل بما روى عبد الله بنعمر العمري، قال: سمعت أم يحيى قالت: سمعت أنس بن مالك يقول: مات ابن أبي طلحة، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أبو طلحه خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأم سليمٍ خلف أبي طلحة كأنهم عرفُ ديكٍ، وأشار بيده.

خَّرجه الإمام أحمد.

وخرج أبو حفص العكبري – من أصحابنا – بإسناده. عن خير بن نعيم الحضرمي، أن أبا الزبير – أو عطاء بن أبي رباح – أخبره. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على جنازةٍ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سابعهم، فجعلهم ثلاثة صفوفٍ، الصف الأول ثلاثة، والصف الثاني رجلين، والصف الثالث رجلاً، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أيديهم.

وهذا مرسلٌ.

وقد نص أحمد على أنه يستحب جعلهم في صلاة الجنائز ثلاثة صفوف، إذا أمكن أن يكون في كل صف اثنان فصاعداً، واستدل بحديث مالك بن هبيرة، أنه كان إذا صلى على جنازة فتقال الناس عليها جزأئهم ثلاثة اجزاء، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب)) .

خَّرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي.

ص: 25

وقال: حديث حسن.

الحديث الثاني:

858 -

ص: 26

ثنا علي بن عبد الله: ثنا سفيان: حدثني صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)) .

مراده بهذا الحديث هاهنا: الاستدلال به على أن الغسل الواجب لا يجب إلا على من بلغ الحلم، وهو المراد بالمحتلم في هذا الحديث، كما أن قوله:((لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمارٍ)) ، إنما أراد به من بلغت

ص: 26

المحيض.

وقد اختلف العلماء في معنى الوجوب في هذا الحديث: هل هو على ظاهره، أم المراد به التأكيد؟ وفيه خلاف يأتي في موضع آخر –إن شاء الله سبحانه وتعالى.

فإن قيل: أنه علي ظاهره، وإنه يأثم بتركه، فإن هذا الوجوب يختص بالبالغ ولا يدخل فيه الصبي، اللهم، إلا على رأي من أوجب الصلاة على من بلغ عشراً من الصبيان، كما هو قول طائفةٍ من أصحابنا، فإنهم اختلفوا في وجوب الجمعة عليه، ولهم فيه وجهان، أصحهما: لا يجب.

ص: 27

فإن قيل بوجوبها عليه توجه وجوب الغسل عليه – أيضاً -، وهو ضعيف لأنه مبطلٌ فائدة تخصيص الوجوب في هذا الحديث بالمحتلم.

وإن قيل: أن الوجوب في الحديث إنما أريد به تأكيد الاستحباب، فهل يدخل فيه الصبي؟

لا يخلو الصبي، إما أن لا يريد حضور الجمعة، فلا يؤمر بالغسل لها، وإما أن يريد حضورها مع الرجال، ففي استحباب الغسل له وجهان لأصحابنا.

وينبغي أن لا يتأكد الاستحباب في حقه كتاكيده على الرجال؛ لئلا تبطل فائدة تخصيص الوجوب بالمحتلم في الحديث.

ومذهب مالك؛ أنه يغتسل إذا أراد شهود الجمعة.

وأما وجوب الغسل على الصبي إذا وجد منه ما يوجب الغسل على البالغ، مثل أن يطأ ويولج في فرج امرأة، أو تكون الزوجة الموطأة صغيرةً لم تبلغ، فيطؤها الرجل، فهل يجب عليها وعلى الصبي الواطء - بغير إنزال – الغسل؟ فيه قولان مشهوران

للفقهاء:

أحدهما: يجب، وهو نص أحمد، واختيار ابن شاقلا وغيره من أصحابنا، وهو قول إسحاق بن راهويه.

وقالت الشافعية: يصير بذلك جنباً، ويمنع مما يمنع منه الجنب حتى يغتسل، ويلزم وليه أن لا يمكنه مما يمنع منه الجنب حتى يغتسل.

ولم يقولوا: أن غسله واجبٌ، لئلا يتوهم

ص: 28

أنه مكلف به.

والثاني: لا يجب، بل يستحب، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وأبي ثور، وأصحابنا؛ لأن الغسل عبادة بدنية، فلا تلزم الصبي، كالصوم والصلاة.

قال المحققون من أصحابنا: وهذا لا يصح؛ لأنه ليس المعني بوجوبه تأثيمه بتركه لينافيه الصغر، بل فائدته اشتراطه لصحة صلاته وطوافه، وتمكينه من مس المصحف، وقراءة القرآن، واللبث في المسجد، وإلزامه به إذا بلغ، وتغسيلنا له يشبه ما لو قتل شهيداً قبل أن يغتسل، وغير ذلك من الأحكام، والصغر لا ينافي ذلك، كما لم يناف إيجاب الوضوء عليه بموجباته بهذا المعنى –أيضاً.

ولا نعلم خلافاً أن الصبي المميز تصح طهارته ويرتفع حدثه، ولو بلغ بعد أن توضأ لجاز أن يصلي بذلك الوضوء الفرض، ولا نعلم في ذلك خلافاً، إلا وجهاً شاذاً للشافعية، لا تعويل عليه.

ولكن؛ هل يوصف وضوؤه قبل بلوغه بالوجوب؟ فيه لأصحابنا وجهان.

ص: 29

وهذا الخلاف يشبه الخلاف في تسمية غسله واجباً، على ما سبق.

ويشبه تخريج هذا الخلاف في تسميته واجباً عليه بدون إرادة الصلاة، على الخلاف في أن الموجب للطهارة، هل هو الحدث، أو إرادة الصلاة؟ وفيه اختلافٌ مشهورٌ.

ويمكن أخذه من اختلاف الروايتين عن أحمد في غسل الحائض للجنابة في حال حيضها.

وأما أن الصبي ممنوعٌ من الصلاة بدون الطهارة، فمتفقٌ عليه.

نعم؛ في جواز تمكين الصبي من مس لوحه الذي يكتب فيه القرآن روايتان عن أحمد، ومن أصحابنا من حكى الخلاف في مسهم لمصاحفهم.

ووجه عدم اشتراطه: أن حاجتهم إلى ذلك داعيةٌ، ويشق منعهم منه بدون طهارة، لتكرره، ووضوؤهم لا يحتفظ غالباً.

وهو - أيضاً – قول الحنفية، وأصح الوجهين للشافعية؛ لهذا المعنى.

وهذا كله في حق الصبي المميز، فأما من لا تميز له فلا طهارة له ولا صلاة، ولو توضأ لم يؤثر استعماله في الماء شيئاً.

وأما المميز إذا توضأ بالماء، فهل يصير مستعملاً؟ فيه لأصحابنا وجهان.

ويحسن بناؤها على أن وضوءه: هل يوصف بالوجوب، أو بالاستحباب؟

والأظهر: أنه يصير مستعملاً، لأنه قد رفع حدثه، وأزال منعه من

ص: 30

الصلاة.

وهو – أيضاً – أصح الوجهين للشافعية.

والثاني لهم: ليس بمستعمل، لأنه لم يؤدَّ به فرضاً.

قالوا: والصحيح: أنه مستعمل؛ لأن المراد بفرض الطهارة ما لا تجوز الصلاة ونحوها إلا به، لا ما يأثم بتركه.

الحديث الثالث:

ص: 31

859 -

حديث ابن عباس: بت عند خالتي ميمونة ليلة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان في بعض الليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ من شنَّ معلقٍ، وضوءا خفيفا، ثم قام يصلي، فقمت فتوضأت نحواً مما توضأ، ثم جئت فقمت عن يساره، فحولني فجعلني عن يمينه، ثم صلى –وذكر الحديث.

وقد تقدم في أوائل ((كتاب الوضوء)) بهذا الاسناد والسياق الذي خرَّجه في هذا الباب.

والمقصود منه هاهنا: أن ابن عباسٍ توضأ كما توضأ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم يصلي معه، وأنه لما قام عن يساره ولم يكن موقفاً للمأموم حوله عن يمينه إلى موقف المأموم، فهذا يدل على صحة طهارة الصبي وصلاته، وإئتمامه بالإمام،

ص: 31

ومصافته للإمام، فإن ابن عباس كان إذ ذاك صبياً، كما سبق ذكره.

وقد تقدم الكلام على انعقاد الجماعة بالصبي، وعلى أن من وقف مع صبي، فهل هو فذٌ، أم لا؟

الحديث الرابع:

861 -

ص: 32

حديث ابن عباس: أقبلت راكباً على حمارٍ أتانٍ، وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنىً إلى غير جدارٍ، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك علي أحدٌ.

قد سبق هذا الحديث في ((باب: سترة الإمام سترةٌ لمن خلفه)) من طريق مالك، خرَّجه هناك عن عبد الله بن يوسف، عن مالكٍ، وخرَّجه هنا عن عبد الله بن مسلمة –هو: القعنبي -، عن مالكٍ.

والمراد بتخريجه هاهنا: الاستدلال على صحة صلاة النبي، وأنه يدخل في صف الرجال ويقف معهم.

وقد استدل بهذا مالكٌ على أن الأفضل أن يجعل في الصف بين كل رجلين صبياً؛ ليتعلم أدب الصلاة وخشوعها.

وهو أحد الوجهين للشافعية.

والثاني لهم: يقف الصبيان إذا كثروا صفاً خلف الرجال.

وهو

ص: 32

مذهبنا ومذهب أبي حنيفة.

استدلوا لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليلني أولوا الأحلام منكم والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) .

خرَّجه مسلم.

وبما روى شهر بن حوشبٍ: حدثنا عبد الرحمبن غنمٍ، أن أبا مالكٍ الأشعري جمع قومه، فقال: اجتمعوا واجمعوا نسائكم وأبنائكم أعلمكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا وجمعوا نساءهم وأبناءهم، وأراهم كيف يتوضأ، فأحصى الوضوء أماكنه، حتى لما أن فاء الفيء وانكسر الظل قام فأذن، وصف الرجال في أدنى الصف، وصف الولدان خلفهم، وصف النساء خلف الولدان، ثم اقام الصلاة، فتقدم فصلى – وذكر قصة الصلاة، ثم قال: إنها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خرَّجه الإمام أحمد بتمامه، وخرَّجه أبو داود مختصراً.

ولو قام الصبي في وسط الصف، ثم جاء رجلٌ، فله أن يؤخره ويقوم مقامه، نص عليه، وفعله أبي بن كعبٍ بقيسِ ابن عبادٍ، وروي نحوه عن عمر – أيضاً -، فهذا قول الثوري وأحمد، وقد سبق ذكره في ((أبواب الصفوف)) .

ص: 33

ولو كان الصبي في آخر الصف، فقام رجلٌ خلفه في الصف الثاني، فقال أحمد: لا بأس به، هو متصلٌ بالصف.

وحمله القاضي على أن الصف إذا كان فيه خللٌ، فوقف رجلٌ لم يبطل اتصاله؛ لأن الصبي لا يصاف في الفرض، على المنصوص لأحمد.

ومن أصحابنا من قال: لا يصاف في الفرض ولا في النفل، ولو قلنا: تصح إمامته في النفل.

وهذه طريقة أبي الخطاب، أنه تصح مصافته في الفرض والنفل، وهو قول الأوزاعي وإسحاق؛ لأنه محكومٌ بصحة صلاته، وان لم تصح إمامته للرجال.

وكذا قال الثوري ومالكٌ وأبو حنيفة والشافعي، لكنه يجيز إمامته للرجال ومصافته أولى.

وكل هؤلاء يقولون فيمن أم رجلاً وصبياً: إنهما يقفان خلفه، وعند أحمد: يقفان عن يمينه، أو يقف بينهما، وعليه حمل وقوف ابن مسعودٍ بين علقمة والأسود، وقال: كان الأسود غلاماً.

وحديث ابن عباسٍ الذي خرَّجه البخاري في هذا الباب يدل على أن دخول الصبي المميز في صف الرجال في الصلاة المفروضة هو السنة. والله أعلم.

الحديث الخامس:

862 -

ص: 34

حديث عائشة:

ص: 34

أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشاء، حتى ناداه عمر: قد نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث.

وقد سبق في ((أبواب المواقيت)) ، وذكرنا هنالك إسناد هذه الرواية التي في هذا الباب، وأنها من وجهين: مسندٍ ومعلقٍ، وبقية الحديث.

والمقصود منه هاهنا: أن الصبيان كانوا يشهدون مع الرجال الصلاة المكتوبة في المسجد مع النبي صلى الله عليه وسلم.

الحديث السادس:

863 -

ص: 35

حدثنا عمرو بن عليَّ: ثنا يحيى: حدثنا سفيان: حدثني عبد الرحمن بن عابس، قال: سمعت ابن عباسٍ، وقال له رجلٌ: شهدت الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ولولا مكاني منه ما شهدته –يعني: من صغره – وذكر بقية الحديث.

ويأتي في ((صلاة العيدين)) – إن شاء الله.

وقد خرَّجه هناك عن مسددٍ، عن يحيى، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عباسٍ: أشهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.

والمراد في هذه الرواية بالخروج: الخروج للعيد.

والمقصود من الحديث هاهنا: أن الصبيان كانوا يشهدون صلاة العيد

ص: 35

مع النبي

صلى الله عليه وسلم.

قوله: ((لولا مكاني منه ما شهدته –يعني: من صغره)) ، يدل على أن من كان في سنه لم يكن خروجه إلى العيد معتاداً، وإنما أخرج ابنٍ عباس لقربه من النبي صلى الله عليه وسلم، فكأن الإمام له مزية على الناس في الخروج إلى العيد، حتى يخرج حاشيته كلهم، صغيرهم وكبيرهم.

ولعل ابن عباسٍ أشار إلى خروجه في عيد وهو صغيرٌ في أول سن التمييز، والإ فقد أدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مدةً؛ فإنه كان في حجة الوداع مناهزاً للاحتلام، كما سبق في الحديث الماضي.

* * *

162 -

ص: 36

باب

خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس

لما فرغ من ذكر أحكام صلاة الرجال وصلاة الصبيان شرع في ذكر حكم صلاة النساء، فأفرد لذلك أبواباً وابتدأها بخروجهن إلى المساجد في الليل وغلس الفجر.

وخرج فيه ستة أحاديث:

الحديث الأول:

864 -

ص: 37

حدثنا أبو اليمان: أنا شعيبٌ، عن الزهري: أخبرني عروة، عن عائشة، قالت: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتمة، حتى ناداه عمر: نام النساء والصبيان – وذكر بقية الحديث.

وقد ذكرنا باقيه في ((أبواب المواقيت)) .

والمقصود منه هاهنا: الاستدلال على شهود النساء صلاة العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم.

الحديث الثاني:

865 -

ص: 37

ثنا عبيد الله بن موسى، عن حنظلة، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى

ص: 37

المساجد فأذنوا لهن)) .

تابعه: شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

((حنظلة)) ، هو: السدوسي.

وقد رواه الترمذي –أيضاً - عن سالم.

وخرَّجه البخاري فيما بعد، ويأتي قريباً –إن شاء الله.

وليس فيها: ذكر الليل.

وكذلك رواه نافعٌ، عن ابن عمر، وغيرهم –أيضاً.

ورواية الأعمش، عن مجاهدٍ، عن ابن عمر التي علقها البخاري، خرَجها مسلمٌ في ((صحيحه)) من رواية أبي معاوية وعيسى بن يونس، كلاهما عن الأعمش، به، ولفظه:((لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل)) .

وخرَّجه – أيضاً – من رواية عمروٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد)) .

وخرّج البخاريُّ في ((كتاب الجمعة)) من طريق عمروٍ – أيضاً -، وسياتي –إن شاء الله سبحانه وتعالى.

ص: 38

ومراد البخاري بالمتابعه، ذكر الليل، مع أن مسلماً خَرج حديث حنظلة عن سالمٍ، ولم يذكر فيه:((بالليل)) .

وقال الإمام أحمد في رواية حنظلة، عن سالم عن أبيه: إسنادٌ حسنٌ.

الحديث الثالث:

866 -

ص: 39

حدثنا عبد الله بن محمد: حدثنا عثمان بن عمر: أخبرنا يونس، عن الزهري: حدثتني هند بنت الحارث أن أم سلمه زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرتها، أن النساء في عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم كن إذا سلمن من المكتوبة قمن وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فاذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال.

قد سبق هذا الحديث وهذا السياق أتم مما تقدم.

وليس في هذا الحديث: ذكر الليل، والظاهر أنه كان نهاراً، أو أعم من ذلك.

الحديث الرابع:

867 -

ص: 39

حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالكٍ –ح وحدثنا عبد الله بن يوسف: أخبرنا مالكٌ، عن يحيى بن سعيد، عن

ص: 39

عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشه، قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي، الصبح فينصرف النساء متلفعاتٍ بمروطهن، ما يعرفن من الغلس.

قد سبق هذا الحديث في"أبواب المواقيت "من روايه الزهري، عن عروة عن، عائشة –بمعناه.

وفيه: دليلٌ على شهود النساء صلاة الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجوعهن في غلس الظلام.

الحديث الخامس:

868 -

ص: 40

حدثنا محمد بن مسكين - يعني: ابن نملية -: ثنا بشر بن بكرٍ: أنبأ الأوزاعي: حدثني يحيى بن أبي كثيرٍ، عن عبد الله ابن أبي قتادة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأقوم إلى الصلاة، وأنا أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي كراهة أن أشق على أمه)) .

((نملية)) بالنون، ذكره ابن ماكولا، وهو يماميٌ ثقةٌ.

وقد تقدم هذا الحديث في "أبواب الإمامه"مع أحاديث أخر متعددةٍ في هذا المعنى.

والمراد هاهنا من ذلك: أن النساء كن يشهدن الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ومعهن صبيانهن، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم ذلك، ويراعي في صلاته حالهن، ويؤثر ما عليهن، ويجتنب ما يشق

ص: 40

عليهن، وذلك دليل على أن حضورهن الجماعه معه غير مكروهٍ، ولولا ذلك لنهاهن عن الحضور معه للصلاة.

الحديث السادس:

869 -

ص: 41

حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٌ، عن يحيى بن سعيدٍ، عن عمرة، عن عائشه: قالت لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء [بعده] لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل.

قلت لعمرة: أو منعن؟ قالت: نعم.

تشير عائشةُ – رضي الله عنها –إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرخص في بعض ما يرخص فيه حيث لم يكن في زمنه فسادٌ، ثم يطرأ الفساد ويحدث بعده، فلو أدرك ما حدث بعده لما استمر على الرخصه، بل نهى عنه؛ فإنه إنما يأمرُ بالصلاح، وينهى عن الفساد.

وشبيهٌ بهذا: ما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكرٍ وعمر من خروج الإماء إلى الأسواق بغير خمارٍ حتى كان عمر يضرب الأمه إذا رآها منتقبةً أو مستترةً، وذلك لغلبة السلامه في ذلك الزمان، ثم زال ذلك وظهر الفساد وانتشر، فلا يرخص حينئذٍ فيما كانوا يرخصون فيه.

فقد اختلف العلماء في حضور النساء مساجد الجماعات للصلاة مع

ص: 41

الرجال: فمنهم من كرهه بكل حالٍ، وهو ظاهر المروي عن عائشه رضي الله عنها، وقد استدلت بأن الرخصة كانت لهن حيث لم يظهر منهن ما ظهر، فكانت لمعنىً وقد زال ذلك المعنى.

قال الإمام أحمد: أكره خروجهن في الزمان؛ لأنهن فتنتةٌ.

وعن أبي حنيفة روايةٌ: لا يخرجن الإ للعيدين خاصةً.

وروى أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي، قال: حقٌ على كل ذاتِ نطاقٍ أن تخرج للعيدين. ولم يكن يرخص لهن في شيء من الخروج الإ في العيدين.

ومنهم من رخص فيه للعجائز دون الشوابَّ، وهو قول مالكٍ –في رواية - والشافعي وأبي يوسف ومحمدٍ، وطائفةٍ من أصحابنا أو أكثرهم.

حكاه ابن عبد البر عن العلماء، وحكاه عن مالكٍ من روايه أشهب: أن العجوز تخرج إلى المسجد ولا تكثر التردد، وأن الشابه تخرج مرةً بعد مرة.

وقال ابن مسعودٍ: ما صلت امرأة صلاةً أفضل من صلاتها في بيتها، الإ أن تصلي عند المسجد الحرام، إلا عجوزاً في منقلها.

خرَّجه وكيع وأبو عبيدٍ.

وقال: يعني: خفها.

وخرَّجه البيهقي، وعنده: إلا في مسجد الحرام، أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 42

ومنهم من رخص فيه للجمع، إذا أمنت الفتنه، وهو قول مالكٍ - في رواية ابن القاسم، ولم يذكر في ((المدونة)) سواه -، وقول طائفه من أصحابنا المتأخرين.

ثم اختلفوا: هل يرخص لهن في الليل والنهار، أم في الليل خاصةً؟ على قولين.

أحدهما: يرخص لهن في كل الصلوات، وهو المحكي عن مالكٍ والشافعي وأبي يوسف ومحمدٍ، وقول أصحابنا.

واستدلوا بعموم الأحاديث المطلقة، وبخروجهن في العيدين، فأما المقيدة بالليل، فقالوا: هو تنبيهٌ على النهار من طريق الفحوى؛ لأن تمكن الفساق من الخلوة بالنساء والتعرض لهن بالليل أظهر، فإذا جاز لهن الخروج بالليل ففي النهار أولى.

وقالت طائفةٌ: إنما يرخص لهن في الليل، وتبويب البخاري يدل عليه، وروي مثله عن أبي حنيفة، لكنه خصه بالعجائز.

وكذا قال سفيان: يرخص لهن في العشاء والفجر. قال: وينهى عن حضورهن تراويح رمضان.

ومذهب إسحاق كأبي حنيفة والثوري في ذلك، الإ أنه رخص لهن في حضور التراويح في رمضان.

ص: 43

وهؤلاء استدلوا بالأحاديث المقيدة بالليل، وقالوا: النهار يكثر انتشار الفساق

فيه، فأما الليل فظلمته مع الاستتار تمنع النظر غالباً، فهو أستر وروي عن أحمد ما يدل على أنه يكره للمراة أن تصلي خلف رجلٍ صلاةً جهرية.

وهذا عكس قول من رخص في خروج المرأة إلى المسجد بالليل دون النهار.

قال مهنا: قال أحمد: لا يعجبني أن يؤم الرجل النساء، الإ أن يكون في بيته، يؤم أهل بيته، أكره أن تسمع المرأة صوت الرجل.

وهذه الروايه مبينة –والله أعلم - على قول أحمد: إن المرة لا تنظر إلى الرجل الأجنبي، فيكون سماعها صوته كنظرها إليه، كما أن سماع الرجل صوت المرأة مكروهٌ كنظره إليها؛ لما يخشى في ذلك من الفتنة.

وإن صلى الرجل بنساءٍ لا رجلٌ معهن، فإن كن محارم له أو بعضهن جاز، وإن كن أجنبياتٍ فإنه يكره.

وإنما يكره إذا كان في بيتٍ ونحوه، فأما في المسجد فلا يكره؛ لاسيما إن كان فيه رجالٌ لا يصلون معهم.

فقد روي أن عمر رضي الله عنه جعل للنساء في قيام رمضان إماماً يقوم بهن على حدة كما جعل للرجال إماماً.

وأما في بيت ونحوه فيكره؛ لما فيه من الخلوة.

فإن كان امرأةٌ واحدةٌ، فهو محرمٌ، وإن كان امرأتان فهل يمنع ذلك الخلوة؟ فيه لأصحابنا وجهان.

ص: 44

ومتى كثر النساء فلا يحرم، بل يكره.

ومن أصحابنا من علل الكراهة بخشيه مخالطة الوسواس له في صلاته.

ومذهب الشافعي: إن صلى بامرأتين أجنبيتين فصاعداً خالياً بهن فطريقان، قطع جمهورهم بالجواز. والثاني: في تحريمه وجهان.

وقيل: أن الشافعي نص على تحريم أن يؤم الرجل نساء منفرداتٍ، إلا أن يكون فيهن محرمٌ له، أو زوجةٌ، وإن خلا رجلان أو رجالٌ فالمشهور عندهم تحريمه.

وقيل: إن كانوا ممن يبعد مواطأتهم على الفاحشة جاز.

فإن صلي بهن في حال يكره، كرهت الصلاة وصحت، وإن كان في حال

تحريم، فمن أصحابنا من جزم ببطلان صلاتهما.

وكره طائفة من السلف أن يصلي الرجل بالنساءِ الأجنبيات وليس خلفه صفٌ من الرجال منهم: الجزري.

وكذلك قال الإمام أحمد –في روايه الميموني -: إذا كان خلفه صف رجال صلى خلفه النساء؛ لأن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم صلى بأنس واليتيم وأم سليم وراءهم.

قيل لهُ: فإن لم يكن رجال، كانوا نساء؟

قالَ: هذه مسأله مشتبهةٌ. قيل لهُ: فصلاتهم جائزة؟

ص: 45

قال: أما صلاته فهي جائزة قيل له: فصلاة النساء؟ هذه مسألةٌ مشتيهةٌ.

فتوقف في صحة صلاتهن دونه.

* * *

164 -

ص: 46

باب

صلاة النساء خلف الرجال

فيه حديثان:

الأول:

870 -

ص: 47

حديث أم سلمة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه ويمكث في مقامه هو يسيراً قبل أن يقوم.

قال: فنرى –والله أعلم –أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحدٌ من الرجال.

ص: 47

خرَّجه عن يحيى بن قزعة، عن إبراهيم بن سعد. وقد خرَّجه فيما تقدم من طريقتين. عنه.

ووجه استدلاله به على تأخير النساء: أن النساء إذا كن يصلين في مؤخر المسجد أمكن أن يتبادرن إلى القيام والخروج قبل الرجال فلو كن يصلين في مقدم المسجد لم يتمكن من ذلك.

الثاني:

871 -

ص: 48

حديث أنس: صلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم سليم، فقمت ويتيم خلفه، وأم سليم خلفنا.

خرَّجه عن أبي نعيم، عن ابن عيينه، عن إسحاق بن عبد الله، عن أنس.

ووجه الاستدلال به ظاهرةٌ الإ أن الأول هذه الجماعة لم تكن في المسجد.

وقد خرج فيما تقدم حديث سهل بن سعدٍ: كان الناس يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم عاقدي أزرهم من الصغر على رقابهم، فقيل للنساء:((لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرحال جلوساً)) .

خرَّجه في ((أبواب: اللباس)) وفي ((أبواب: السجود)) .

وهو صريح في أن النساء كن يصلين خلف الرجال.

وخرج أبو داود من حديث أسماء بنت أبي بكر، قالت: سمعت

ص: 48

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كان منكنَّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رؤسهم)) كراهية من أن يرين عورات الرجال. وقد تقدم حديث أبي مالكٍ الأشعري في وصفه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وصفهٍ الرجال، ثم الصبيان، ثم النساء.

وقد روي عن ابن مسعود، أنه قال: أخروهن من حيث أخرهن الله.

وخرّج مسلم من حديث سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

((خيرُ صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)) .

ولا خلاف بين العلماء في أن المراد بتأخير مقامها في الصلاة عن مقام الرجل، إلا أن تكون صغيرة، لم تبلغ فإنه قد روي، عن أبي الدرداء، أنه كان يفهم أم الدرداء –وهي صغيرة لم تبلغ – صف الرجال. والجمهور على خلافه.

وقد سبق حكم إبطال الصلاة بمصافتها الرجال، أو تقدمها عليهم في ((باب: إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد)) .

* * *

165 -

ص: 49

باب

سرعة انصراف النساء من الصبح

وقلة مقامهن في المسجد

ص: 50

872 -

حدثنا يحيى بن موسى: ثنا سعيد بن منصور: ثنا فليح، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح بغلس، فينصرفن نساء المؤمنين، لا يعرفن من الغلس –أو لا يعرف بعضهنَّ بعضاً.

قد سبق هذا الحديث في ((المواقيت)) من رواية الزهري، عن عروة، عن عائشة –بمعناه -، وفيه: ((ثم ينقلين إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يعرفهن أحد من

الغلس)) .

وهذا يدل على سرعة خروجهن من المسجد عقيب انقضاء الصلاة مبادرة لما بقي من ظلام الغلس، حتى ينصرفن فيه، فيكون أستر لهن.

وهذا المعنى لا يوجد في غير الصبح من سائر الصلوات؛ فلذلك خصه البخاري بالتبويب عليه. والله أعلم.

* * *

166 -

ص: 50

باب

استئذان المراة زوجها بالخروج إلى المسجد

ص: 51

873 -

حدثنا مسدد: ثنا يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا استأذنت امرأة أحدكم فلا يمنعها)) .

قد تقدم هذا الحديث بأتم من هذا السياق.

وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر:

خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود من رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات)) .

خرَّجه الإمام أحمد من حديث زيد بن خالد الجهني وعائشة، وفي حديث عائشة أنها قالت: لو رأى حالهنَّ اليوم لمنعهن.

فهذه الأحاديث: تدل على أمرين:

أحدهما:

أن المرأة لا تخرج إلى المسجد بدون اذن زوجها، فإنه لو لم يكن له اذن في ذلك لأمرها أن تخرج أن اذن أو لم يأذن.

ص: 51

وخرج ابن أبي شيبة من حديث ابن عمر – مرفوعاً -: ((حق الزوج على زوجته لا تخرج من بيتها إلا بأذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة الله، وملائكة الرحمة، وملائكة الغضب، حتى تتوب أو تراجع)) .

وفي إسناده: ليث بن أبي سليم، وقد اختلف عليه في إسناده.

وخرج البزار نحوه من حديث ابن عباسٍ.

وفي إسناده: حسين بن علي الرحبي، ويقال له: حنش، وهو ضعيف الحديث.

وخرج الترمذي وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث قتادة، عن مورق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((المرأة عورة، فاذا خرجت استشرفها الشيطان)) .

زاد ابن حبان: ((وأقرب ما تكون من ربها إذا هي في قعر بيتها)) .

وصَححه الترمذي.

وإسناده كلهم ثقات.

قال الدارقطني: رفعه صحيح من حديث قتادة، والصحيح عن أبي إسحاق وحميد بن هلال، أنهما روياه عن أبي الأحوص، عن عبد الله

ص: 52

موقوفاً.

ولا نعلم خلافاً بين العلماء: أن المرأة لا تخرج إلى المسجد الإ بأذن زوجها، وهو قول ابن المبارك والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم.

لكن من المتقدمين من كان يكتفي في اذن الزوج بعلمه بخروج المرأة من غير منع؛ كما قال بعض الفقهاء: إن العبد يصير مأذونا له في التجارة بعلم السيد بتصرفه في ماله من غير منعٍ.

فروى مالكٍ، عن يحيى بن سعيد، أن عاتكة بنت زيد كانت تستأذن زوجها عمر بن الخطاب إلى المسجد، فيسكت، فتقول: والله، لأخرجنَّ، إلا أن تمنعني، فلا يمنعها.

وروي عن ابن عمر، قال: كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في جماعة، فقيل لها: لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟ فقالت: ما يمنعه أن ينهاني؟ قالوا: يمنعه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)) .

خرَّجه البخاري من حديث عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر.

وخرَّجه الإمام أحمد من رواية سالم، عن عمر – منقطعاً.

والأمر الثاني:

أن الزوج منهيٌ عن منعها إذا استأذنته، وهذا لابد من تقييده بما إذا لم يخف فتنةً أو ضرراً.

وقد أنكر ابن عمر على ابنه لما قال له: والله، لمنمعهن، أشد الأنكار، وسبه، وقال له: تسمعني اقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: لنمنعهن؟! .

ص: 53

وقد تقدم من عمر عدم المنع.

وممن قال: لا يمنعن: ابن المبارك ومالك وغير واحد.

وحكي عن الشافعي، أن له المنع من ذلك وقاله القاضي أبو يعلى وغيره من أصحابنا.

وروى سعيد بن أبي هلال، عن محمد بن عبد الله بن قيس، أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن نساءنا استاذنونا في المسجد، فقال:((احبسوهن)) ، ثم إنهن عدن إلى أزواجهن، فعاد أزواجهن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:

((احبسوهن)) ، ثم إنهن عدن إلى أزواجهن، فقالوا: يا رسول الله، قد استأذننا حتى إنا لنخرج. قال:((فإذا أرسلتموهن، فأرسلوهن تفلات)) .

وهذا مرسلٌ غريب.

ومن هؤلاء من حمل قوله: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)) على النهي عن منعهن من حجة الاسلام، وهو في غاية البعد، ورواية من روى تقييده بالليل تبطل ذلك.

ومنهم من حمله على الخروج للعيدين، وهو بعيد –أيضاً -؛ فان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن من عادته صلاة العيدين في المسجد.

ومن أصحابنا من قال: يكره منعهن إذا لم يكن في خروجهن ضررٌ

ص: 54

ولا فتنهٌ، فحملوا النهي على الكراهة.

وقال صاحب ((المغني)) منهم: ظاهر الحديث يمنعه من منعها.

قلت: وهوظاهر ما روي عن عمر وابن عمر، كما تقدم.

وكذلك مذهب مالكٍ: لا يمنع النساء من الخروج إلى المسجد.

وبكل حال؛ فصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد.

خرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهنَّ خيرٌ لهنَّ)) .

وخرج الإمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) من حديث أم حميد –امرأة أبي حميد -، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:((صلاتك في بيتك خيرٌ من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي)) .

قال: فأمرت، فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها واظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل.

ص: 55

وخرج أبو داود معناه من حديث ابن مسعود.

والبيهقي معناه –أيضاً - من حديث عائشة.

وخرج الإمام أحمد والحاكم من حديث أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((خيرُ مساجد النساء قعر بيوتهن)) .

وخرَّجه الطبراني من وجه أخر عن أم سلمة، بمعنى الأحاديث التي قبله.

وقد تقدم عن ابن مسعود، أن صلاتها في مسجد مكة والمدينة أفضل من صلاتها في بيتها.

* * *

ص: 56

بسم الله الرحمن الرحيم

11

‌كتاب الجمعة

‌1 - باب

فرض الجمعة

لقول الله عز وجل: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] الآية.

صلاة الجمعة فريضة من فرائض الأعيان على الرجال دون النساء، بشرائط أخر، هذا قول جمهور العلماء، ومنهم من حكاه إجماعاً كابن المنذر.

وشذ من زعم أنها فرض كفايةٍ الشافعية، وحكاه بعضهم قولاً للشافعي، وأنكر ذلك عامة أصحابه، حتى قال طائفة منهم: لا تحل حكايته عنه.

ص: 58

وحكاية الخطابي لذلك عن أكثر العلماء وهم منه، ولعله أشتبه عليه الجمعة

بالعيد.

وحكي عن بعض المتقدمين: أن الجمعة سنةٌ.

وقد روى ابن وهبٍ، عن مالكٍ، أن الجمعة سنة.

وحملها ابن عبد البر على أهل القرى المختلف في وجوب الجمعة عليهم خاصة، دون أهل الأمصار.

ونقل حنبلٌ، عن أحمد، أنه قال: الصلاة –يعني: صلاة الحمعة –فريضةٌ، والسعي إليها تطوعٌ، سنةٌ مؤكدةٌ.

وهذا إنما هو توقف عن اطلاق الفرض على اتيان الجمعة، وأما الصلاة نفسها، فقد صرح بأنها فريضةٌ، وهذا يدل على أن ما هو وسيلة إلى الفريضة ولا تتم الإ به لا يطلق عليه اسم الفريضة؛ لأنه وإن كان مأموراً به فليس مقصوداً لنفسه، بل لغيره.

وتأول القاضي أبو يعلى كلام أحمد بما لا يصح.

وقد دل على فرضيتها: قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ

تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] .

والمراد بالسعي: شدة الاهتمام بإتيانها والمبادرة إليها. فهو من سعي القلوب، لا من سعي الأبدان،

ص: 59

كذا قال الحسن وغيره، وسيأتي بسط ذلك فيما بعد –إن شاء الله سبحانه وتعالى.

وفي ((صحيح مسلم)) عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة، إنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره:((لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين)) .

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أبي الجعد الضمري –وكانت له صحبة -، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((من ترك الجمعة تهاوناً ثلاث مرات طبع على قلبه)) .

وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ.

وخرَّجه ابن حبان في ((صحيحه)) .

وروي معناه من وجوهٍ كثيرةٍ:

ص: 60

وفي ((صحيح مسلمٍ)) عن ابن مسعودٍ، أن النبي صلى الله عليه وسلم هم أن يحرق على من يتخلف عن الجمعة بيوتهم، وقد سبق ذكره.

وخرج أبو داود بإسنادٍ صحيحٍ، عن طارق بن شهابٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

((الجمعة حقٌ واجبٌ في جماعةٍ، إلا أربعة: عبدٌ مملوكٌ، أو امرأةٌ، أو صبيٌ، أو

مريضٌ)) .

قال أبو داود: طارق بن شهابٍ راى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه شيئاً. قال البيهقي: وقد وصله بعضهم عن طارق، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس وصله بمحفوظٍ. وخرج النسائي من حديث حفصة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((رواح الجمعة واجبٌ على كل محتلم)) .

وخرج ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم، فقال في خطبيه: ((إن الله فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا، من عامي هذا الى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعدي، وله إمام عادل أو جائرٌ، استخفافاً بها أو جحودا

ص: 61

لها فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ولا زكاة له، ولا حج له، ولا صوم له، ولا بركة حتى يتوب، فمن تاب تاب الله

عليه)) .

وفي إسناده ضعفٌ واضطرابٌ واختلافٌ، قد أشرنا إلى بعضه فيما تقدم في ((أبواب الإمامة)) وفيه: دليلٌ على أن الجمعة إنما فرضت بالمدينة؛ لأن جابراً إنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم وشهد خطبته بالمدينة، وهذا قول جمهور العلماء.

ويدل عليه –أيضاً -: أن سورة الجمعة مدنيةٌ، وأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة بمكة قبل هجرته.

ونص الإمام أحمد على أن أول جمعةٍ جمعت في الإسلام هي التي جمعت بالمدينة مع مصعب بن عميرٍ.

وكذا قال عطاء والأوزاعي وغيرهما. وزعم طائفةٌ من الفقهاء: أن الجمعة فرضت بمكة قبل الهجرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها بمكة قبل أن يهاجر.

واستدل لذلك: بما خرَّجه النسائي في ((كتاب الجمعة)) من حديث المعافى بن عمران، عن إبراهيم بن طهان، عن محمد ابن زياد، عن أبي هريرة قال: إن أول جمعةٍ جمعت –بعد جمعة جمعت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة –بجواثاء بالبحرين –قرية لعبد

ص: 62

القيس.

وقد خرَّجه البخاري –كما سيأتي في موضعه – من طريق أبي عامر العقدي، عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي جمرة، عن ابن عباسٍ، أن أول جمعة جمعت –بعدجمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين.

وكذا رواه وكيع، عن إبراهيم بن طهمان، ولفظه: إن أول جمعة جمعت في الإسلام –بعد جمعة جمعت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة –لجمعة جمعت بجواثاء – قرية من قرى البحرين.

خرَّجه أبو داود.

وكذا رواه ابن المبارك وغيره، عن إبراهيم بن طهمان.

فتبين بذلك: أن المعافى وهم في إسناد الحديث ومتنه، والصواب: رواية

الجماعة، عن إبراهيم بن طهمان.

ومعنى الحديث، أن أول مسجدٍ جمع فيه –بعد مسجد المدينة -: مسجد جواثاء، وليس معناه: أن الجمعة التي جمعت بجواثاء كانت في الجمعة الثانية من الجمعة التي جمعت بالمدينة، كما قد يفهم من بعض ألفاظ الروايات؛ فإن عبد القيس إنما وفد على

رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، كما ذكره ابن سعد، عن عروة بن الزبير وغيره.

وليس المراد به –أيضاً - أن أول جمعة في الإسلام في مسجد المدينة، فإن أول جمعة جمعت بالمدينة في نقيع الخضمات، قبل

ص: 63

أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقبل أن يبني مسجده.

يدل على ذلك: حديث كعب بن مالكٍ، أنه كان كلما سمع أذان الجمعة استغفر لأسعد بن زرارة، فسأله ابنه عن ذلك، فقال: كان أول من صلى بنا صلاة الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة في نقيع الخضمات، في هزم النبيت، من حرة بني بياضة، قيل له: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعين رجلاً.

خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه –مطولاً.

وروى أبو إسحاق الفزاري في ((كتاب السير)) له، عن الأوزاعي، عمن

حدثه، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير القرشي إلى المدينة، قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:((أجمع من بها من المسلمين، ثم انظر اليوم الذي تجمر فيه اليهود لسبتها، فإذا مال النهار عن شطره فقم فيهم، ثم تزلفوا إلى الله بركعتين)) .

قال: وقال الزهري: فجمع بهم مصعب بن عمير في دار من دور الأنصار، فجمع بهم وهم بضعة عشر.

قال الأوزاعي: وهو أول من جمع بالناس.

ص: 64

وقد خرّج الدارقطني –أظنه في ((أفراده)) –من رواية أحمد بن محمد بن غالب الباهلي: نا محمد بن عبد الله أبو زيد المدني: ثنا المغيرة بن عبد الرحمن: ثنا مالكٌ، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباسٍ، قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجمعة قبل أن يهاجر، ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بمكة ولا يبين لهم، وكتب إلى مصعب بن عمير:((أما بعد، فانظر اليوم الذي تجمر فيه اليهود لسبتهم، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله بركعتين)) .

قال: فهو أول من جمع مصعب بن عمير، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فجمع عند الزوال من الظهر، وأظهر ذلك.

وهذا إسنادٌ موضوعٌ، والباهلي هو: غلام خليلٍ، كذاب مشهور بالكذب، وإنما هذا أصله من مراسيل الزهري، وفي هذا السياق ألفاظٌ منكرةٌ.

وخرج البيهقي من رواية يونس، عن الزهري، قال: بلغنا أن أول ما جمعت الجمعة بالمدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع بالمسلمين مصعب بن عميرٍ.

وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) عن معمر، عن الزهري، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى أهل المدينة ليقرئهم القرآن، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بهم، فاذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس

ص: 65

يومئذٍ بأميرٍ، ولكنه انطلق يعلم أهل امدينة.

وذكر عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: من أول من جمع؟ قال: رجلٌ من بني عبد الدار –زعموا -، قلت: أفبأمر النبي صلى الله عليه وسلم قال: فمه.

وخرَّجه الأثرم من رواية ابن عيينة، عن ابن جريج، وعنده: قال: نعم، فمه. قال ابن عيينة: سمعت من يقول: هو مصعب بن عميرٍ.

وكذلك نص الإمام أحمد في - رواية أبي طالب – على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو امر مصعب بن عمير أن يجمع بهم بالمدينة.

ونص أحمد –أيضاً - على أن أول جمعة جمعت في الإسلام هي الجمعة التي جمعت بالمدينة مع مصعب بن عمير.

وقد تقدم مثله عن عطاء والأوزاعي.

فتبين بهذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإقامة الجمعة بالمدينة، ولم يقمها بمكة، وهذا يدل على أنه كان قد فرضت عليه الجمعة بمكة.

وممن قال: إن الجمعة فرضت بمكة قبل الهجرة: أبو حامد الاسفراييني من الشافعية، والقاضي أبو يعلى في ((خلافه الكبير)) من أصحابنا، وابن عقيل في ((عمد الادلة)) ، وكذلك ذكره طائفة من المالكية، منهم: السهيلي وغيره.

وأما كونه لم يفعله بمكة، فيحمل أنه إنما امر بها أن يقيمها في دار

ص: 66

الهجرة، لا في دار الحرب، وكانت مكة إذ ذاك دار حربٍ، ولم يكن المسلمون يتمكنون فيها من إظهار دينهم، وكانوا خائفين على أنفسهم، ولذلك هاجروا منها إلى المدينة، والجمعة تسقط بأعذارٍ كثيرةٍ منها الخوف على النفس والمال.

وقد أشار بعض المتأخرين من الشافعية إلى معنى آخر في الامتناع من إقامتها بمكة، وهو: أن الجمعة إنما يقصد بإقامتها اظهار شعار الإسلام، وهذا إنما يتمكن منه في دار الإسلام.

ولهذا لا تقام الجمعة في السجن، وإن كان فيه أربعون، ولا يعلم في ذلك خلافٌ بين العلماء، وممن قاله: الحسن، وابن سيرين، والنخعي، والثوري، ومالك، وأحمد، وإسحاق وغيرهم.

وعلى قياس هذا: لو كان الأسارى في بلد المشركين مجتمعين في مكانٍ واحدٍ؛ فإنهم لا يصلون فيه جمعةً، كالمسجونين في دار الإسلام وأولى؛ لا سيما وأبو حنيفة وأصحابه يرون أن الإقامة في دار الحرب – وإن طالت – حكمها حكم السفر، فتقصر فيها الصلاة أبداً، ولو اقام المسلم باختياره، فكيف إذا كان أسيراً مقهوراً؟

وهذا على قول من يرى إشتراط إذن الإمام لإقامة الجمعة، أظهر، فأما على قول من لا يشترط إذن الإمام، فقد قال الإمام أحمد في الأمراء إذا أخروا الصلاة يوم الجمعة: فيصليها لوقتها ويصليها مع الإمام، فحمله القاضي أبو يعلى في ((خلافه)) على أنهم يصلونها جمعة لوقتها.

وهذا بعيدٌ جداً، وإنما مراده: أنهم يصلون الظهر لوقتها، ثم

ص: 67

يشهدون الجمعة مع الأمراء.

وكذلك كان السلف الصالح يفعلون عند تأخير بني أمية للجمعة عن وقتها، ومنهم من كان يومئ بالصلاة وهو جالسٌ في المسجد قبل خروج الوقت، ولم يكن أحد منهم يصلي الجمعة لوقتها، وفي ذلك مفاسد كثيرة تسقط الجمعة بخشية بعضها.

وفي ((تهذيب المدونة)) للمالكية: وإذا أتى من تأخير الأئمة ما يستنكر جمع الناس لأنفسهم أن قدروا، وإلا صلوا ظهراً، وتنفلوا بصلاتهم معهم.

قال: ومن لا تجب عليه الجمعة مثل المرضى والمسافرين وأهل السجن فجآئز أن يجمعوا.

وأراد بالتجميع هنا: صلاة الظهر جماعةً، لا صلاة الجمعة؛ فإنه قال قبله: وإذا فاتت الجمعة من تجب عليهم فلا يجمعوا.

والفرق بين صلاة الظهر جماعةً يوم الجمعة، ممن تجب عليه وممن لا تجب عليه: أن من تجب عليه يتهم في تركها، بخلاف من لا تجب عليه فإن عذره ظاهرٌ.

وقد روي عن ابن سيرين، أن تجميع الانصار بالمدينة إنما كان عن رأيهم، من غير أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكلية، وأن ذلك كان قبل فرض الجمعة.

قال عبد الله ابن الإمام أحمد في ((مسائله)) : ثنا أبي: ثنا اسماعيل –هو: ابن عليه -: ثنا ايوب، عن محمد بن سيرين، قال: نبئت أن الانصار

ص: 68

قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم المدينة قالوا: لو نظرنا يوماً فاجتمعنا فيه، فذكرنا هذا الأمر الذي أنعم الله علينا

به، فقالوا: يوم السبت، ثم قالوا: لا نجامع اليهود في يومهم، قالوا: يوم الأحد، قالوا: لا نجامع النصارى في يومهم.

قالوا: فيوم العروبة: قال: وكانوا يسمون يوم الجمعة: يوم العروبة، فاجتمعوا في بيت أبي أمامة أسعد بن زرارة، فذبحت لهم شاةٌ، فكفتهم.

وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) عم معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن تنزل الجمعة، وهم الذين سموها الجمعة، فقالت الأنصار: لليهود يومٌ يجتمعون فيه كل ستة أيامٍ، وللنصارى –أيضاً - مثل ذلك، فهلم فلنجعل يوماً نجتمع فيه، ونذكر الله عز وجل، ونصلي ونشكره –أو كما فقالوا -، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوا يوم

العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة: يوم العروبة، فاجتمعوا إلى اسعد بن زرارة، فصلى بهم وذكرهم، فسموه: يوم الجمعة حين اجتمعوا اليه، فذبح أسعد بن زراره لهم شاة، فتغدوا وتعشوا من شاة واحدة ليلتهم، فأنزل الله بعد ذلك:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] .

فوقع في كلام الإمام أحمد: أن هذه هي الجمعة التي جمعها مصعب بن عميرٍ، وهي التي ذكرها كعب بن مالكٍ في حديثه، أنهم كانوا أربعين رجلاً.

وفي هذا نظرٌ.

ويحتمل أن يكون هذا الاجتماع من الأنصار كان باجتهادهم قبل قدوم مصعبٍ إليهم، ثم لما قدم مصعب عليهم جمع بهم

ص: 69

بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الإسلام حينئذ قد ظهر وفشا، وكان يمكن إقامة شعار الإسلام في المدينة، وأما اجتماع الأنصار قبل ذلك، فكأن في بيت اسعد بن زرارة قبل ظهور الإسلام بالمدينة وفشوه، وكان باجتهاد منهم، لا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال البخاري –رحمه الله:

ص: 70

876 -

نا أبو اليمان: أنا شعيب: نا أبو الزناد، أن عبد الرحمن بن هرمز الاعرج مولى ربيعة بن الحارث حدثه، أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غدٍ)) .

قوله: ((نحن الآخرون)) –يعني: في الزمان؛ فإنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأمته آخر الأمم.

وقوله: ((السابقون)) –يعني: في الفضل والكرامة على الله؛ قالَ الله تعالى:

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:11] .

وفي حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((أنتم موفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل) .

ص: 70

وفي رواية أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الحديث -:((نحن الآخرون من أهل الدنيا، الأولون يوم القيأمة، المقضى لهم قبل الخلائق)) .

خرَّجه مسلم. امة

وخرَّجه من حديث حذيفة –بمثله.

وخرّج من حديث أبي صالحٍ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث زيادةٌ:((ونحن أول من يدخل الجنة)) .

وهذا كله –أيضاً - من سبقهم؛ فإنهم أول من يحاسب يوم القيأمة، ومن يجوز على الصراط، ومن يدخل الجنة.

وقوله: ((بيد)) ، هو اسمٌ ملازم للإضافة إلى ((أن)) وصلتها، ومعناه - هاهنا -: غير، ولا يستثنى به في الاتصال، بل في الانقطاع.

والمعنى: لكن أهل الكتاب أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتينا نحن الكتاب من

بعدهم، فلهم السبق في الزمان بهذا الاعتبار في الدنيا، لا في الفضل، ولا في الآخرة.

ونقل الربيع، عن الشافعي: أنه قال: ((بيد أنهم)) : من أجل أنهم –فجعله تعليلاً.

وقوله: ((ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه)) .

((ثم)) –هاهنا - لترتيب الاخبار، ويحتمل أنه لترتيب المخبر به، والمراد: أنهم أوتوا الكتاب، ثم فرض عليهم هذا اليوم –والاشارة إلى يوم الجمعة -، فاختلفوا

ص: 71

فيه، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق باذنه، فالناس لنا فيه تبعٌ.

وهذا - أيضاً - مما حازت به الأمة السبق مع تأخر زمانهم، فإن اليهود والنصارى لما فرض عليهم تعظيم الجمعة، والعبادة فيه لله، واتخاذه عيداً للاجتماع فيه لذكر الله فيه، ضلوا عنه، فاختارت اليهود السبت؛ لأنه يوم فرغ فيهِ الخلق، واختارت النصارى الأحد؛ لأنه يوم بدئ فيه الخلق، فهدانا الله للجمعة، فصار عيدنا أسبق من عيدهم، وصاروا لنا في عيدنا تبعاً، فمنهم من عيده الغد من يوم الجمعة، ومنهم من عيده بعد

غدٍ.

وإنما ضلت الطائفتان قبلنا لتقديمهم رأيهم على ما جاءت به رسلهم وانبياؤهم، واهتدت هذه الأمة باتباعهم ما جاءهم به رسلهم عن ربهم، من غير تغيير له ولا تبديلٍ.

وفي الحديث: دليلٌ على أن الجمعة فرض من الله واجب علينا، كما كان على من قبلنا، فإن الله فرض عليهم تعظيم يوم الجمعة، واتخاذه عيداً ومجمعاً لذكر الله

وعبادته، فبدلوه بغيره من الايام، وهدانا الله لهُ، فدل ذَلِكَ على أنه مفروض علينا تعظيمه، واتخاذه عيداً؛ لذكر الله والاجتماع فيه لعبادته، وهذا من أدل دليلٍ على أن شهود الجمعة فرض على هذه الأمة.

* * *

2 -

ص: 72

باب

فضل الغسل يوم الجمعة

وهل على الصبي شهود يوم الجمعة، أو على النساء؟

فيه ثلاثة أحاديث:

الحديث الأول:

877 -

ص: 73

ثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٌ، عن نافعٍ، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل)) .

ليس في هذا الحديث، ولا فيما بعده من الأحاديث المخرجة في هذا الباب ذكر فضل الغسل وثوابه، كما بوب عليه، بل الأمر به خاصةً.

وقد خرج فيما بعد هذا الباب أحاديث في فضل الغسل مع الرواح، أو مع الدهن والطيب، وستأتي في مواضعها –إن شاء الله تعالى.

وقد بوب على أن الصبي والمرأة: هل عليهما شهود الجمعة؟

فأما الصبي، فسيأتي الحديث الذي يؤخذ منه حكمه.

وأما حكم المرأة، فكأنه أخذه من هذا الحديث، وهو قوله:((إذا جاء أحدكم الجمعة)) ، فإن الخطاب كان للرجال، والضمير يعود إليهم، لأنه ضمير تذكيرٍ، فلا يدخل فيه النساء.

ص: 73

وقد اختلف المتكلمون في أصول الفقه في صيغ الجموع المذكرة: هل يدخل فيها النساء تبعاً، أم لا؟ وفي ذلك اختلاف مشهورٌ بينهم.

وأكثر أصحابنا على دخولهن مع الذكور تبعاً.

ومن أصحابنا من قال: لا يدخلن معهم، وهو قول أكثر الشافعية والحنفية ولفظة:((أحد)) وإن لم تكن جمعاً، إلا أنها مقتضية للعموم، إما بطريق البدلية، أو الشمول، كما في قوله:{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة:285] .

ولكن الأمر هنا بالغسل، لا بمجيء الجمعة، ولكن المأمور به بالغسل هو الذي يأتي الجمعة، بلفظ يقتضي أنه لابد من المجيء إلى الجمعة، فإن ((إذا)) إنما يعلق بها الفعل المحقق وقوعه غالبا قد يقتضي –أيضاً –العموم، لكن هذا العموم يخرج منه المرأة، بالأحاديث الدالة على أنه لا جمعة عليها، وقد سبق بعضها.

وخرّج أبو داود من حديث أم عطية، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة جمع نساء الأنصار في بيتٍ، فأرسل إليهن عمر، فقال: أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن، وأمرنا بالعيدين أن نخرج فيهما الحيض والعتق، ولا جمعة علينا.

وقد حكى ابن المنذر وغيره الإجماع على أن النساء لا تجب عليهن الجمعة، وعلى أنهن إذا صلين الجمعة مع الرجال أجزأهن من الظهر.

ومن حكى من متأخري أصحابنا في هذا خلافاً، فقد غلط، وقال ما لا حقيقة

له.

ص: 74

وروى أبو داود في ((مراسليه)) بإسناده، عن الحسن، قال: كن النساء يجمعن مع النبي صلى الله عليه وسلم.

وعن واصلٍ، عن مجاهدٍ، قال: كان الضعفاء من الرجال والنساء يشهدون الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لا يأوون إلى رحالهم إلا من الغد، من الضعف.

وواصلٌ، فيه ضعفٌ.

وروي، عن ابن مسعودٍ، أنه قال للنساء يوم الجمعة: إذا صليتن مع الإمام فبصلاته، وإذا صليتن وحدكن فتصلين أربعاً.

وعنه، أنه كان يخرج النساء من المسجد يوم الجمعة، ويقول: أخرجن؛ فإن هذا ليس لكن.

خرّجهما البيهقي.

ولعله كره أن يضيقن المسجد على الرجال لكثرة زحام الجمعة، أو كره لهن الخروج من بيوتهن بالنهار.

ومن الشافعية من استجب للعجائز حضور الجمعة.

وعند أصحابنا: لا يكره للعجائز حضور الجمعة.

وفي كراهته للشواب وجهان.

الحديث الثاني:

878 -

ص: 75

ثنا عبد الله بن محمد بن أسماء: أنا جويرية،

ص: 75

عن مالكٍ، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن عمر بينا هو قائم في الخطبة يوم الجمعة، إذ دخل رجلٌ من المهاجرين الأولين من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فناداه عمر: اية ساعةٍ هذه؟ قالَ: إني

شغلت، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت المنادي، فلم أزد أن توضأت، فقال: والوضوء أيضاً؟! وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل.

وهذا –أيضاً - ليس فيه ذكر فضل الغسل، إنما فيه إلامر به، ولعل مراده بتخريجه في هذا الباب: أن فيه ما يشعر بأن الأهل لا يخرجن إلى الجمعة؛ فإن هذا الرجل لما قال لعمر: ((لم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت المنادي، فلم أزد أن توضأت)) ، وسمع ذلك عمر ومن حضره من الصحابة، دل على اتفاقهم على أن خروج الأهل إلى الجمعة غير واجب. والله أعلم.

الحديث الثالث:

ص: 76

879 -

ثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٌ، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسارٍ، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلمٍ)) .

وهذا الحديث إنما يدل على تخصيص المحتلمين بوجوب الغسل، كما سبق ذكره في ((باب: وضوء الصبيان وطهارتهم)) .

وقد تقدم ما يدل

ص: 76

على أن المأمورين بالغسل هم الآتون للجمعة، فيستدل بذلك على اختصاص إلاتيان للجمعة بمن بلغ الحلم، دون من لم يبلغ.

وقد خرج النسائي من رواية عياش بن عباسٍ، عن بكير بن الأشج، عن نافعٍ، عن ابن عمر، عن حفصة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رواح الجمعة واجبٌ على كل

محتلم)) .

وهذا صريحٌ بأن الرواح إنما يجب على المحتلم، فيفهم منه أنه لا يجب على من لم يحتلم.

وخرَّجه أبو داود وابن حبان في ((صحيحه)) ، ولفظ أبي داود:((على كل محتلمٍ رواح الجمعة، وعلى كل من راح إلى الجمعة الغسل)) .

وقد أعل، بأن مخرمة بن بكيرٍ رواه عن أبيه، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر حفصة.

وهو أصح عند الإمام أحمد والدارقطني وغيرهما؛ فإن ابن عمر صرح بأنه سمع حديث الغسل من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هل حديث مخرمة موافق لحديث عياش في لفظه، أم لا؟

وقد سبق القول في وجوب الجمعة على من لم يحتلم من الصبيان في ((باب: وضوء الصبيان)) .

وحديث عمر وابن عمر فيهما التصريح بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل للجمعة، وحديث أبي سعيد فيه التصريح بوجوبه.

ص: 77

وقد أختلف العلماء في غسل الجمعة: هل هو واجبٌ –بمعنى: أنه يأثم بتركه مع القدرة عليه بغير ضرر -، أم هو مستحبٌ –فلا ياثم بتركه بحال –؟

ولم يختلفوا أنه ليس بشرط لصحة صلاة الجمعة، وأنها تصح بدونه، ولهذا أقر عمر والصحابة من شهد الجمعة ولم يغتسل، ولم يأمروه بالخروج للغسل.

وقد استدل –أيضاً - بذلك الشافعي وغيره على أنه غير واجب؛ لأنه لو كان واجباً لأمروه بالخروج له.

وأجاب بعضهم عن ذلك: بأنهم قد يكونوا خافوا عليه فوات الصلاة لضيق الوقت.

وأكثر العلماء على أنه يستحب، وليس بواجب.

وذكر الترمذي في ((كتابه)) أن العمل على ذلك عند أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم.

وهذا الكلام يقتضي حكاية الإجماع على ذلك.

وقد حكي عن عمر وعثمان، ومستند من حكاه عنهما: قصة عمر مع الداخل إلى المسجد؛ فإنه قد وقع في روايةٍ أنه كان عثمان، وسنذكرها –إن شاء الله تعالى.

وممن قال: هو سنة: ابن مسعودٍ.

وروي عن عباسٍ، أنه غير واجبٍ، وعن عائشة وغيرهم من الصحابة، وبه قال جمهور فقهاء الأمصار: الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد –في ظاهر مذهبه -، وإسحاق.

ورواه ابن وهبٍ عن مالكٍ، وأنه قيل له: في

ص: 78

الحديث: ((هو واجبٌ)) ؟ قال ليس كل ما في الحديث: ((هو واجبٌ)) يكون كذلك.

وهواختيار عبد العزيز بن أبي سلمة وغيره من أصحابه.

واستدل من قال: ليس بواجبٍ: بما روي عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن أغتسل فالغسل أفضل)) .

خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وحسنه.

ص: 79

وقد أختلف في سماع الحسن من سمرة.

وخرَّجه ابن ماجه من حديث يزيد الرقاشي، عن انس –مرفوعاً - أيضاً.

ويزيد، ضعيف الحديث.

ص: 80

وفي ((صحيح مسلمٍ)) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فدنا واستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام)) .

وهذا يدل على أن الوضوء كافٍ، وان المقتصر عليه غير أثمٍ ولا عاصٍ، وأما إلامر بالغسل فمحمول على إلاستحباب.

وقد روي من حديث عائشة وابن عباسٍ ما يدل على ذلك، وسيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى.

وأما رواية الوجوب، فالوجوب نوعان: وجوب حتم، ووجوب سنةٍ وفضلٍ.

وذهبت طائفة إلى وجوب الغسل، وروي عن أبي هريرة، والحسن، وروي - أيضاً - عن سعدٍ، وعمارٍ، وابن عباسٍ –في رواية أخرى عنه -، وعن عبد الرحمن بن يزيد بن الأسود، وعطاء بن السائب، وعمرو بن سليمٍ وغيرهم من المتقدمين.

وحكي رواية عن أحمد، قال أحمد - في رواية حربٍ وغيره -: أخاف أن يكون واجباً، إلا أن يكون بردٌ شديدٌ.

وهذا لا يدل على الوجوب جزماً.

وهو رواية عن مالكٍ، ولم يذكر في ((تهذيب المدونة)) سواها.

ذكر ابن عبد البر: أنه لا يعلم أحداً

ص: 81

قال: إنه يأثم بتركه، غير أهل الظاهر، وأن من أوجبه، قال: لا يأثم بتركه.

وحكى –أيضاً - إلاجماع على أنه ليس بفرضٍ واجبٍ.

وذكر عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاءٍ: غسل الجمعة

واجبٍ؟ قال: نعم، من تركه فليس بأثمٍ.

قال عبد الرزاق: وهو أحب القولين إلى سفيان، يقول: هو واجبٌ.

يعني: وجوب سنةٍ.

وذكر ابن عبد البر قولين للعلماء، وذكر أنه أشهر الروايتين عن مالكٍ.

والثاني: أنه مستحب وليس بسنةٍ، بل كالطيب والسواك، وحكاه رواية عن مالكٍ.

وحكى عن بعضهم: أن الطيب يغني عنه، حكاهٌ عن عطاء الخراساني، وعن

عبد الكريم بن الحارث المصري، وعن موسى بن صهيبٍ، قالَ: كانوا يقولون ذَلِكَ.

وعن النخعي، قالَ: ما كانوا يرون غسلاً واجبً إلا غسل الجنابة، وكانوا يستحبون غسل الجمعة.

فابن عبد البر لم يثبت في وجوب غسل الجمعة –بمعنى كونه فرضاً يأثم بتركه – اختلافاً بين العلماء المعتبرين، وإنما خص الخلاف في ذَلِكَ باهل الظاهر.

والأكثرون: أطلقوا حكاية الخلاف في وجوب غسل الجمعة، وحكوا

ص: 82

القول بوجوبه عن طائفة من السلف، كما حكاه ابن المنذر، عن أبي هريرة وعمار، وعن مالكٍ –أيضاً.

والذي ذكره ابن عبد البر هوَ التحقيق في ذَلِكَ –والله أعلم -، وأن من أطلق وجوبه إنما تبع في ذَلِكَ ما جاء عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم من إطلاق اسم ((الواجبٍ)) عليهِ، وقد صرح طائفة منهم بأن وجوبه لا يقتضي إلاثم بتركه، كما حمل أكثر العلماء كلام النَّبيّ صلى الله عليه وسلم على مثل ذَلِكَ –أيضاً.

وممن صرح بهذا: عطاءٌ، كما سبق ذكره عنه، ومنهم: يحيى بن يحيى النيسابوري، والجوزجاني.

وقد تبين بهذا أن لفظ ((الواجبٍ)) ليس نصاً في إلالزام بالشيء والعقاب على تركه، بل قد يراد به ذَلِكَ - وهو الأكثر -، وقد يراد به تأكد إلاستحباب والطلب.

ولهذا قالَ إسحاق: إن كل ما في الصَّلاة فهوَ واجبٌ. وإن كانت الصَّلاة تعاد من ترك بعضه، كما سبق ذكره عنه.

وسبق –أيضاً -، عن الشافعي وأحمد في لفظ: ((الفرض ما يدل على نحو ذَلِكَ، فالواجب أولى؛ لأنه دون الفرض.

ونص الشافعي –في رواية البويطي –على أن صلاة الكسوف ليست بنفلٍ، ولكنها واجبةٌ وجوب السنة.

وهذا تصريح منه بأن السنة المتأكدة تسمى ((واجباً)) . والله أعلم.

* * *

3 -

ص: 83

باب

الطيب للجمعة

ص: 84

880 -

حدثنا علي: ثنا حرمي بن عمارة: ثنا شعبة، عن أبي بكر بن المنكدر، قال: حدثني عمرو بن سليم إلانصاري، قال: اشهد على أبي سعيد، قال: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:((الغسل يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلم، وان يستن، وأن يمس طيباً إن وجد)) .

قال عمروٌ: أما الغسل، فأشهد أنه واجبٌ، وأما الاستنان والطيب، فالله أعلم واجبٌ هو، أم لا؟ ولكن هكذا في الحديث.

قال أبو عبد الله: هو أخو محمد بن المنكدر، ولم يسم أبو بكرٍ هذا، روى عنه بكير بن الأشج وسعيد بن أبي هلال وعدةٌ.

وكان محمد بن المنكدر يكنى بأبي بكرٍ، وأبي عبد الله.

((علي)) شيخ البخاري، هو: ابن المديني، وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث –فيما ذكره الدارقطني في ((علله)) -:

فرواه عنه تمتامٌ، كما رواه

ص: 84

عنه البخاري.

ورواه الباغندي عنه، فزاد في إسناده:((عبد الرحمن بن أبي سعيدٍ)) ، جعله: عن عمرو بن سليمٍ، عن عبد الرحمن، عن أبيه.

وكذا رواه سعيد بن أبي هلالٍ، عن أبي بكر بن المنكدر، عن عمروٍ، عن

عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه.

خرَّجه مسلمٌ من طريقه كذلك.

وخرَّجه –أيضاً - من رواية بكير بن الأشج، عن أبي بكرٍ بن المنكدر، ولم يذكر في إسناده:((عبد الرحمن)) .

وعن الدارقطني: أنه ذكر ((عبد الرحمن)) في إسناده أصح من إسقاطه.

وتصرف البخاري يدل على خلاف ذلك؛ فإنه لم يخرج الحديث إلا بإسقاطه، وفي روايته: أن عمروٍ بن سليم شهد على أبي سعيدٍ، كما شهد

ص: 85

أبو سعيدٍ على النَّبيّ

صلى الله عليه وسلم، وهذا صريح في أنه سمعه من أبي سعيد بغير واسطةٍ.

وكذا رواه إبراهيم بن عرعرة، عن حرمي بن عمارة –أيضاً.

وخرَّجه عنه المروزي في ((كتاب الجمعة)) .

وكذا رواه القاضي إسماعيل، عن علي بن المديني، كما رواه عنه البخاري.

خرَّجه من طريقه ابن منده في ((غرائب شعبة)) .

وكذا خرَّجه البيهقي من طريق الباغندي، عن ابن المديني.

وهذا يخالف ما ذكره الدارقطني عن الباغندي.

وذكر الدارقطني: أن بكير بن الأشج زاد في إسناده: ((عبد الرحمن بن أبي

سعيدٍ)) ، وهو –أيضاً - وهم منه.

فالظاهر: أن إسقاط عبد الرحمن من إسناده هو الصواب، كما هي طريقة البخاري.

وأما أبو بكر بن المنكدر، فهو: اخو محمد بن المنكدر، وهو ثقة جليل، ولم يسم، كذا قاله البخاري هاهنا، وأبو حاتمٍ الرازي.

وإنما نبه البخاري على ذلك لئلا يتوهم أنه محمد بن المنكدر، وأنه ذكر بكنيته؛ فإن ابن المنكدر كان يكنى بابي بكرٍ وبأبي عبد الله.

ويعضد هذا الوهم: أن سعيد بن سلمة بن أبي الحسام روي عنه هذا الحديث، عن محمد بن المنكدر، عن عمرو بن سليمٍ، عن أبي سعيدٍ، وروي عنه، عن محمد بن المنكدر، عن اخيه أبي بكرٍ، عن عمرو، عن

ص: 86

أبي سعيدٍ، وهو الصواب.

وفي الطيب للجمعة أحاديث أخر، يأتي بعضها –إن شاء الله تعالى.

وأكثر العلماء على استحباب الطيب للجمعة:

روى وكيعٌ، عن العمري، عن نافعٍ، عن ابن عمر، أن عمر كان يجمر ثيابه للمسجد يوم الجمعة.

وروى عبيد الله بن عمر، عن نافعٍ، قال: كان عمر إذا راح إلى الجمعة أغتسل وتطيب بأطيب طيب عنده.

وروي عنه، أنه كان يستجمر للجمعة بالعود.

وروي عن عمر، أنه كان يأمر بتجمير المسجد يوم الجمعة.

ولم تزل المساجد تجمر في أيام الجمع من عهد عمر.

وفي الأمر بتجميرها في الجمع حديثٌ مرفوعٌ، خرَّجه ابن ماجه من حديث واثلة بن الأسقع، وإسناده ضعيف جداً.

ومذهب مالكٍ: أن يتصدق بثمن ما يجمر به المسجد، أو يحلق، وقال: هو أحب إلي: - ذكره في ((تهذيب المدونة)) .

وسيأتي عن ابن عباسٍ التوقف في الطيب للجمعة.

وقد يقال: إنما توقف في وجوبه، كما توقف عمروٍ بن سليم الأنصاري،

ص: 87

فقد روى ابن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوسٍ، قال: سمعت أبا هريرة يوجب الطيب يوم الجمعة، فسألت ابن عباسٍ عنه، فقال: لا أعلمه.

قال سفيان: وأخبرني ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عباسٍ، قال: من أتى الجمعة فليمس طيبا، أن كان لأهله، غير مؤثمٍ من تركه.

وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((حقاً على المسلمين أن يغتسلوا يوم الجمعة، وليمس أحدهم من طيب أهله، فإن لم يجد فالماء طيب)) .

وقال الترمذي: حسنٌ.

وذكر في ((علله)) أنه سأل البخاري عنه، فقال: الصحيح: عن البراء موقوف.

* * *

4 -

ص: 88

باب

فضل الجمعة

ص: 89

881 -

ثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي صالحٍ السمان، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكانما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فاذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)) .

قوله: ((من اغتسل يوم الجمعة، ثم راح)) يدل على أن الغسل المستحب للجمعة أوله طلوع الفجر، وآخره الرواح إلى الجمعة، فإن اغتسل قبل دخول يوم الجمعة لم يات بسنة الغسل، كما لو اغتسل بعد صلاة الجمعة.

وممن قال: لا يصيب السنة بالغسل للجمعة قبل طلوع الفجر: مالكٌ، والشافعي، وأحمد، وأكثر العلماء.

وروى معناه عن ابن عمر.

ص: 89

خرَّجه حربٌ الكرماني بإسناد فيه نظرٌ.

وأجازه الأوزاعي، وهذا الحديث حجةٌ عليه، وكذلك حديث أبي سعيدٍ المتقدم:((غسل يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلم)) .

وحكي عن أحمد ما يدل على صحته سحراً – أيضاً.

وروي عن الشعبي ومجاهدٍ، وهو وجه للشافعية - أيضاً - وقول يحيى بن يحيى النيسابوري.

وقوله: ((غسل الجنابة)) في تأويله قولان:

أحدهما: أن المراد به: تعميم بدنه بالغسل، كما يعمه بغسل الجنابة.

ويشهد لذلك: الحديث الآخر الذي فيه: ((فيغسل رأسه وجسده)) .

فيكون المعنى: اغتسأله للجمعة كاغتسألة للجنابة، في المبالغة وتعميم البدن

بالماء، وهذا قول اكثر الفقهاء من الشافعية وغيرهم.

والثاني: أن المراد به: غسل الجنابة حقيقةً، وأنه يستحب لمن له زوجة أو أمة أن يطأها يوم الجمعة، ثم يغتسل، وهذا هو المنصوص عن أحمد، وحكاه عن غير واحد من التابعين، منهم: هلال بن يساف، وعبد الرحمن بن الأسود وغيرهما.

وروي عن عبد الرحمن بن الأسود، قال: كان يعجبهم أن يواقعوا النساء يوم الجمعة؛ لأنهم قد أمروا أن يغتسلوا، وأن يغسلوا.

وقول طائفةٍ من الشافعية، وحملوا عليه –أيضاً - حديث أوس بن أوسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((من غسل يوم الجمعة واغتسل)) –الحديث.

ص: 90

وقالوا: المراد: من اغتسل بنفسه وغسل من يطؤه من زوجة أو أمةٍ.

فعلى هذا: يستدل بالحديث على أن من عليه غسل الجنابة، فاغتسل للجنابة يوم الجمعة، فإنه يجزئه عن غسل الجمعة، وسواء نوى به الجمعة، أو لم ينو.

أما إن نواهما بالغسل، فإنه يحصل له رفع حدث الجنابة وسنة غسل الجمعة بغير خلافٍ بين العلماء، روي ذلك عن ابن عمر، وتبعه جمهور العلماء.

وللشافعية وجهٌ ضعيفٌ: لا يجزئه عنهما، وقاله بعض الظاهرية.

وحكي عن مالكٍ، وقيل: إنه لا يصح عنه، إنما قاله بعض المتأخرين من

أصحابه، وقد ذكر ذلك للإمام أحمد عن مالكٍ فأنكره.

وأما أن نوى بغسله الجنابة خاصةً، فإنه يرتفع حدثه من الجنابة.

وهل يحصل له سنة إلاغتسأل للجمعة؟ على قولين: أشهرهما: لا يحصل له، وروي عن أبي قتادة الأنصاري صأحب النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم:((الأعمال بالنيات، وإنما لامريءٍ ما نوى)) ، وهو المشهور عن مالكٍ، وروي نحوه عن الأوزاعي، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي وأحمد، ونص عليه أحمد في رواية الشالنجي.

والثاني: يحصل له غسل الجمعة بذلك، وهو أحد قولي الشافعي، وقول أشهب المالكي، وهو نص الشافعي، وقول أبي حنيفة وإسحاق، مع كون أبي حنيفة يعتبر النية لنقل الطهارة، وحكاه ابن عبد البر عن عبد العزيز بن أبي سلمة والثوري والشافعي والليث بن سعد

ص: 91

والطبري، وهو أحد الوجهين لأصحابنا.

وأما إن نوى الجنب غسل الجمعة، ولم ينو غسل الجنابة، فهل يرتفع حدث الجنابة بذلك؟ فيه قولان للشافعي، وروايتان عن أحمد.

ومن أصحابنا من رجح: أنه لا يرتفع، لأن غسل الجنابة ليس سببه الحدث؛ ولهذا يشرع للطاهر.

وعلى هذا: فهل يحصل له به سنة غسل الجمعة مع بقاء غسل الجنابة عليه؟ فيه وجهان لأصحابنا والشافعية، أصحهما: أنه يحصل له ذلك.

وأختلف أصحاب مالكٍ: هل يرتفع حدثه بنية غسل الجمعة؟

فقال: ابن القاسم: لا يجزئه، وحكاه ابن عبد الحكم عن مالكٍ.

وقال أشهب وابن وهب والأكثرون منهم: يجزئه: وهو قول المزني.

وقوله: ((ثم راح)) يدل على أنه لا تحصل سنة إلاغتسأل للجمعة إلا قبل صلاة الجمعة، وأنه لو اغتسل بعد الصلاة في بقية اليوم لم يكن آتياً بفضيلة الغسل المأمور به، وقد حكى ابن عبد البر وغيره إلاجماع على ذلك.

وأظن بعض الظاهرية يخالف فيه، ويزعم: أن الغسل لليوم لا للصلاة، ولا يعبأ بقوله في ذلك.

ويدل على أنه يحصل المقصود بالغسل، وإن اغتسل أول نهار الجمعة إذا كان الرواح متعقباً له.

فإن لم يتعقبه الرواح، بل أخر الرواح إلى بعده، فقال أكثر العلماء: تحصل له –أيضاً - سنة الغسل، فقالوا: ((

ص: 92

ثُمَّ)) تقتضي التراخي، فيصدق ذلك بأن يؤخر الرواح إلى الزوال.

وتأخير الغسل إلى حين الرواح أفضل، نص عليه أحمد وغيره.

وذهب طائفة إلى أنه لا تحصل له فضيلة الغسل إلا بأن يتعقبه الرواح، وهو قول مالكٍ، وحكاه الطحاوي عن الأوزاعي، وهو يخالف قوله المشهور عنه: أن الغسل للجمعة يجزئ من الليل، كما تقدم.

ومذهب مالكٍ في ذلك، أنه لا يجزئ الغسل إلا متصلا بالروح، فإن اغتسل وراح، ثم أحدث أو خرج من المسجد إلى موضع قريب، لم ينتقض غسله، وإن تباعد أو تغدى أو نام انتقض غسله وأعاده -: ذكره في ((تهذيب المدونة)) .

واستدلوا بقوله: ((إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل)) .

ويجاب عنه: بأن هذا كقوله تعالى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] الآية، المراد: أنه يتضيق الوجوب على القائم للصلاة، فكذلك يتضيق وقت الغسل على الآتي إلى الجمعة.

فاما أن كان قد فعله قبل ذلك فإنه يجزئه، ولا اعادة عليه منذ قيامه ورواحه.

كمن أدى الدين الواجبٍ عليه قبل تضايق وقت أدائه، فإنه لا يؤمر بأدائه مرة آخرى بعد ذلك.

ولو اغتسل للجمعة ثم انتفض وضؤوه، فهل يستحب له اعادته، أم يكفيه الوضوء؟ فيهِ قولان:

أحدهما: يكفيه الوضوء، وهو قول عبد الرحمن بن أبزى والحسن ومجاهدٍ ومالكٍ والليث والأوزاعي

ص: 93

والشافعي وأحمد.

والثاني: أنه يعيد غسله، وهو قول طاوس والزهري وقتادة ويحيى بن أبي كثيرٍ.

وروى ابن أبي شيبة باسناده، عن إبراهيم التيمي، قال: كانوا يحبون لمن اغتسل يوم الجمعة أن لا يكون بينه وبين الجمعة حدثٌ. قال: وكانوا يقولون: إذا أحدث بعد الغسل عاد إلى حاله التي كان عليها قبل أن يغتسل.

وعن أبي يوسف، أنه بنى هذا إلاختلاف على أن الغسل هل هو لليوم أو للصلاة، فمن قال: أنه لليوم قال: يجزئه غسله، ومن قال: إنه للصلاة قال: يعيده؛ لأنه إذا توضأ فإنما شهد الصلاة بوضوء لا بغسلٍ.

وخالف الأكثرون في ذلك، وقالوا: بل شهد الصلاة بغسلٍ، لأن الحدث الموجب للوضوء ليس منافياً للغسل، وحصول النظافة به.

ولو أحدث حدثاً موجباً للغسل، مثل أن اجنب، فحكي عن الأوزاعي، أنه يعيد غسل الجمعة –أيضاً -؛ لأنه قد أتى بما يبطل الغسل.

وعن الجمهور خلافه؛ لأنه إنما أتى بما يوجب غسل الجنابة، فيكتفي به، ولا حاجة إلى إعادته لغسل الجمعة.

وقوله: ((ثم راح فكانما قرب بدنةً)) المراد: راح في الساعة الأولى؛

ص: 94

بدليل قوله: ((ومن راح في الساعة الثانية)) .

وقد خرَّجه مالكٍ في ((الموطإ)) عن سمي بهذا إلاسناد، وفيه التصريح بذكر الساعة الأولى.

وقد اختلف العلماء في المراد بهذه الساعات: هل هي من أول النهار، أو بعد زوال الشمس؟ على قولين:

أحدهما: أن المراد بها أخر الساعة التي بعد زوال الشمس؛ لأن حقيقة الرواح إنما تكون بعد الزوال، والغدو يكون قبله، كما قال تعالى:{?غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12] .

واستدلوا –أيضاً –بالحديث الآخر: ((المهجر إلى الجمعة كالذي يهدي بدنةٍ)) ، فجعل البدنة بالتهجر، والتهجير إنما هو إلاتيان بالمهاجرة، وإنما يكون ذلك بعد الزوال.

هذا تأويل مالكٍ وأكثر أصحابه، ووافقهم طائفة من الشافعية على ذلك.

والقول الثاني: أن المراد بالساعات من أول النهار، وهو قول الأكثرين.

ثم اختلفوا: هل أولها من طلوع الفجر، أو من طلوع الشمس؟

فقالت طائفةٌ: أولها من طلوع الفجر، وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد.

واستدلوا بقوله: ((إذا كان الجمعة، كان على أبواب المسجد ملائكةٌ يكتبون الناس الأول فالأول)) - الحديث، كما سيأتي ذكره –أن شاء الله تعالى.

وظاهره: أن ذلك يكون بعد طلوع الفجر.

وقالت طائفة: أولها من طلوع الشمس، وحكي عن الثوري وأبي

ص: 95

حنيفة ومحمد بن إبراهيم البوشنجي، ورجحه الخطابي وغيره، لأن ما قبله وقت للسعي إلى صلاة الفجر.

ورجح هذا القول عبد الملك بن حبيبٍ المالكي.

وهؤلاء حملوا الساعات على ساعات النهار المعهودة، وهو الظاهر المتبادر إلى الفهم.

وأما ذكر الرواح، فعنه جوابان:

أحدهما: أنه لما كان آخر الساعات بعد الزوال، وهو رواحٌ حقيقيٌ، سميت كلها رواحاً، كما يسمى الخارج للحج والجهاد حاجاً وغازياً قبل تلبسه بالحج والغزو؛ لأن امره ينتهي إلى ذلك.

والثاني: أن الرواح هنا اريد به القصد والذهاب، مع قطع النظر عن كونه قبل الزوال أو بعده.

قال الأزهري وغيره: الرواح والغدو عند العرب يستعملان في السير، أي وقتٍ كان من ليلٍ أو نهارٍ، يقال: راح في أول النهار وآخره، وغدا بمعناه.

وأما التهجير، فيجاب عنه، بأنه استعمل في هذا المعنى بمعنى التبكير –أيضاً – لا بمعنى الخروج في الهاجرة.

وقيل: أنه ليس من الهاجرة، بل من الهجرة، والمراد بها: هجر الأعمال الدنيوية للسعي إلى الجمعة.

وقد دل على استحباب التبكير من أول النهار حديث أوس بن أوسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من اغتسل يوم الجمعة وغسل، وبكرٍ وابتكر، ودنا واستمع كان له بكل خطوة يخطوها اجر سنة

ص: 96

صيامها وقيامها)) .

خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في

((صحيحه)) .

وحسنه الترمذي.

وله طرقٌ متعددةٌ، قد ذكرناها في ((شرح الترمذي)) .

وفي رواية للنسائي: ((

ص: 97

وغدا وابتكر)) .

وفي بعض رواياته: ((ومشى ولم يركب)) .

وظاهر الحديث: يدل على تقسيم يوم الجمعة إلى اثني عشر ساعة، وأن الخطبة والصلاة يقعان في السادسة منها.

ومتى خرج الخطيب طوت الملائكة صحفها، ولم يكتب لأحدٍ فضل التبكير، وهذا يدل على أنه بعد الزوال لا يكتب لأحد شيءٌ من فضل التبكير إلى الجمعة بالكلية.

وظاهر الحديث: يدل على تقسيم نهار الجمعة إلى اثني عشر ساعةً مع طول النهار وقصره، فلا يكون المراد به الساعات المعروفة من تقسيم الليل والنهار إلى أربعة وعشرين ساعة؛ فإن ذَلِكَ يختلف باختلاف طول النهار وقصره.

ويدل على هذا: حديث جابر، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قالَ: ((يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة، لا يوجد مسلم يسأل الله شيئاً إلا آتاه إياه،

ص: 100

فالتمسوها آخر ساعةٍ بعد

العصر)) .

خرَّجه أبو داود والنسائي بإسناد كلهم ثقاتٌ.

وظاهره: يدل علي أن ساعة إلاجابة جزء من هذه إلاجزاء إلاثني عشر المتساوية في جميع فصول السنة.

وزعم بعض الشافعية: أنه ليس المراد بالساعات في التبكير الأربع والعشرون، بل ترتيب الدرجات، وفضل السابق على الذي يليه، لئلا يستوي في الفضيلة رجلان جاءا في طرفي ساعة.

ورد ذلك آخرون منهم، وقالوا: من جاء في أول ساعةٍ من هذه الساعات وآخرها مشتركان في تحصيل أصل البدنة أو البقرة أو الكبش مثلا، ولكن بدنة الأول أو بقرته أكمل مما للذي جاء في آخرها، وبدنة المتوسط متوسطةٌ.

وهذا هو الأقرب، وعليه يحمل الحديث الذي خرَّجه عبد الرزاق، عن ابن

جريج، عن سميَّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا كان يوم الجمعة فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة، ثم غدا في أول ساعةٍ، فله من إلاجر مثل الجزور، وأول الساعة وآخرها سواء)) - وذكر مثل ذلك في الثانية، والثالثة، والرابعة، يقول:((أولها وآخرها سواءٌ)) ، وزاد في آخر الحديث:((ثم غفر له إذا استمع وأنصت ما بين الجمعتين، وزيادة ثلاثة أيامٍ)) .

وفي هذه الرواية: ذكر الغدو إلى الجمعة،

ص: 101

والغدو يكون من أول النهار.

وقوله: ((فكأنما قرب بدنةً، فكأنما قرب بقرةً)) –إلى آخره – يدل على أن أفضل ما يتقرب به من الهدايا البدن، ثم البقر، ثم الغنم، وهو قول الجمهور، خلافاً لمالكٍ، ويذكر في موضعٍ آخر مستوفىَ –أن شاء الله تعالى.

ويدل –أيضاً - على أن الجمعة فيها شبهٌ من الحج، وقد روي في حديث ضعيف:((الجمعةُ حجُ المساكين)) .

قال ابن المسيب: شهود الجمعة أحب الي من حجةٍ نافلةٍ.

وخرج البيهقي من حديث سهل بن سعد –مرفوعاً -: ((إن لكم في كل جمعة حجةً وعمرةً، فالحجة التهجير للجمعة، والعمرة انتظار العصر بعد الجمعة)) .

وقال: هو ضعيف ٌ.

وقد روي: ((إن المؤمن يصبح يوم الجمعة كالمحرم، فلا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره حتى يصلي)) .

وقد حكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنهما كرها أن يجعل يوم الجمعة ميقاتاً لأخذ الشعر والظفر، واستدل لهما بهذا الحديث.

وقدروي من حديث علي –مرفوعاً -: أن ذلك يكون يوم الخميس، وإسناده لا يصح.

واستحب بعض أصحابنا فعله يوم الخميس؛ لذلك.

والحديث الذي ذكر فيه إلاحرام، هو بإسنادٍ مجهولٍ، عن أبي معشرٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر –مرفوعاً -: ((يصبح الرجل محرماً يوم الجمعة، فلا

ص: 102

يحل حتى يصلي، فاذا جلس في مكانه حتى يصلي العصر رجع بحجةٍ وعمرةٍ)) .

وهو منكرٌ، لا يصح.

قال البيهقي: قد روي عن ابن عباسٍ – مرفوعاً – في ((المؤمن يوم الجمعة كهيئة المحرم، لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى تنقضى الصلاة)) ، وعن ابن عمر – مرفوعاً -:((المسلم يوم الجمعة محرمٌ، فاذا صلى فقد أحل)) ، فانما رويا عنهما باسنادين ضعيفين، لا يحتج بمثلهما.

قال: وفي الرواية الصحيحة عن ابن عمر من فعله دليلٌ على ضعف ما خالفه.

وروي من طريق ابن وهبٍ، بإسنادٍ صحيح، عن نافعٍ، أن ابن عمر كان يقلم أظفاره ويقص شاربه في كل جمعةٍ.

قال: وروينا عن أبي جعفرٍ - مرسلاً -، النبي صلى الله عليه وسلم كان يستحب أن ياخذ من شاربه وأظفاره يوم الجمعة.

وروى بإسناده، عن معاوية بن قرة: قال: كان لي عمان قد شهدا الشجرة، يأخذان من شواربهما وأظفارهما كل جمعة.

وخرّج البزار في ((مسنده)) والطبراني من رواية إبراهيم بن قدامه، عن الأغر، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقلم أظفاره ويقص شاربه

ص: 103

يوم الجمعة، قبل أن يخرج إلى الصلاة.

قال البزار: لم يتابع إبراهيم بن قدامة عليه، وهو إذا انفرد بحديثٍ لم يكن حجةً؛ لأنه ليس بمشهورٍ.

قلت: وقد روي عنه، عن عبد الله بن عمروٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن أبي عاصمٍ: أحسب هذا – يعني: عبد الله بن عمروٍ –رجلاً من بني

جمحٍ، أدخله يعقوب بن حميد بن كاسبٍ في ((مسند قريش)) في الجمحيين.

يشير إلى أنه ليس ابن العاص.

وكذا ذكر ابن عبد البر، وزاد أن في صحبته نظرا.

وفي الباب – أيضاً - من حديث ابن عباسٍ وعائشة وأنسٍ، أحاديث مرفوعة، ولا تصح أسانيدها.

وقال راشد بن سعد: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: من اغتسل يوم الجمعة واستاك وقلم أظفاره فقد اوجب.

خرَّجه حميد بن زنجويه.

وممن استحب ذلك: النخعي.

قال مكحولٌ: من قص شاربه وأظفاره يوم جمعة لم يمت من الماء الأصفر.

وقال حميدٌ الحميري من قص أظفاره يوم الجمعة أخرج الله منه الداء، وادخل فيه الشفاء.

وكان الإمام أحمد يفعله.

واستحبه أصحاب الشافعي وغيرهم؛

ص: 104

فإنه من كمال التنظف والتطهر المشروع في يوم الجمعة، فيكون مستحبا فيه، كالطيب والدهن، والمحرم بخلاف ذلك.

ويشهد لذلك: ما خرَّجه ابن حبان في ((صحيحه)) من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((من فطرة إلاسلام: الغسل يوم الجمعة، والاستنان، وأخذ الشارب، وإعفاء اللحى؛ فإن المجوس تحفى شواربها وتحفى لحاها، فخالفوهم، خذوا شواربكم وأعفوا لحاكم)) .

فقرن أخذ الشارب بغسل يوم الجمعة والاستنان، وقد صح الأمر بالاستنان في يوم الجمعة –أيضاً.

* * *

5 -

ص: 105

باب

ص: 106

882 -

حدثنا أبو نعيم: ثنا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن عمر بن الخطاب بينما هو يخطب يوم الجمعة، إذ جاء رجلٌ، فقال عمر بن الخطاب: لم تحتسبون عن الصلاة؟ فقالَ الرجل: ما هوَ إلا أن سمعت النداء، فتوضأت. فقالَ: ألم تسمعوا النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا راح أحدكم إلى الجمعة

فليغتسل)) ؟ .

وخرَّجه مسلم من طريق الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، وسمى الداخل:

((عثمان بن عفان)) وقال في حديثه: فعرض به عمر، فقال: ما بال رجال يتأخرون بعد النداء؟

وهذا يستدل به على إنكار الإمام علي من يتأخر إلى بعد النداء، خصوصاً إن كان من أهل الفضائل الدينية، وكذلك ينكر عليه تقصيره في إلاخلال ببعض سنن الجمعة ومندوباتها المكتوبة، كالغسل ونحوه.

ص: 106

وقد روي هذا المعنى – مرفوعاً – من وجوه:

خرّج ابن حبان في ((صحيحه)) من حديث ابن إسحاق: حدثني أبان بن صالحٍ، عن مجاهدٍ، عن جابرٍ، قال: دخل سليكٌ الغطفاني المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، فقال له:((أركع ركعتين، ولا تعودن لمثل هذا)) ، فركعهما، ثم جلس.

قال ابن حبان: أراد: لا تعودن إلى إلابطاء في المجيء الىالجمعة، لأن في حديث أبي سعيدٍ، أنه امره بالركعتين –أيضاً – في الجمعة الثانية.

وخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن يسر، قال: جاء رجلٌ يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أجلس، فقد آذيت

وآنيت)) .

وخرَّجه أبو داود والنسائي، وليس عندهما:((وآنيت)) .

ومعنى: ((آنيت)) : ابطأت في المجيء، وأخرته عن آوانه.

وخرَّجه ابن ماجه من حديث جابر، بإسنادٍ ضعيفٍ.

وخرّج الطبراني وغيره من رواية عمر بن الوليد الشني، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: جاء رجلٌ والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة،

ص: 107

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يلهو أحدكم، حتى إذا كادت الجمعة تفوته جاء يتخطى رقاب الناس يؤذيهم)) . فقال:

يا رسول الله، ما فعلت، ولكني كنت راقداً، فاستيقظت، ثم تؤضأت وجئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أو يوم وضوءٍ هذا؟!)) .

وعمر بن الوليد: ضعيف الحديث.

وقد روى عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ: اخبرني عمروٍ بن دينارٍ، عن عكرمة، أن عثمان جاء وعمر يخطب –فذكر الحديث بمعنى رواية أبي سلمة، عن أبي هريرة التي خرجها البخاري هاهنا.

وهذا أصح. والله أعلم.

* * *

6 -

ص: 108

باب

الدهن للجمعة

فيه عن سلمان، وأبي هريرة:

أما حديث سلمان:

فقال:

883 -

ص: 109

ثنا آدم: ثنا ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، قال: أخبرني أبي، عن ابن وديعة، عن سلمان الفارسي، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يغتسل رجلٌ يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه – أو يمس من طيب بيته -، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ماكتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) .

هذا الحديث تفرد بتخريجه البخاري دون مسلمٍ؛ لاختلاف وقع في إسناده.

وقد خرَّجه البخاري هاهنا عن آدم بن أبي إياسٍ، عن ابن أبي ذئبٍ. ثم خرَّجه بعد ذلك من طريق

ابن المبارك، عن ابن أبي ذئب بهذا إلاسناد –أيضاً وكذا رواه جماعةً عن ابن أبي ذئب.

ورواه بعضهم، عن ابن أبي ذئب، عن سعيدٍ المقبري، عن ابن وديعة، عن سلمان – لم يذكر في

ص: 109

إسناده: ((أبا سعيدٍ المقبري)) .

ورواه الضحاك بن عثمان، عن المقبري بهذا إلاسناد –أيضاً - مع إلاختلاف عليه في ذكر ((أبي سعيدٍ)) وإسقاطه.

وزاد الضحاك في حديثه: قال سعيدٌ المقبري: فحدثت بذلك عمارة بن عمرو بن حزمٍ، فقال: أوهم ابن وديعة؛ سمعته من سلمان يقول: ((وزيادة ثلاثة أيامٍ)) .

ورواه ابن عجلان، عن سعيدٍ بن أبي سعيدٍ المقبري، عن أبيه، عن عبد الله بن وديعة، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه.

قال ابن عجلان: فذكرته لعبادة بن عامر بن عمرو بن حزمٍ، فقال: صدق،

((وزيادة ثلاثة أيامٍ)) .

خرَّجه الإمام أحمد وابن ماجه، ولم يذكر آخره.

وقد روى ابن أبي حاتم - مرةً -، عن أبي زرعة، أنه قال: حديث ابن عجلان أشبه.

يعني: قوله: ((عن أبي ذر)) .

ونقل –مرةً أخرى -، عن أبيه وأبي زرعة، أنهما قالا: حديث سلمان الأصح.

وكذا قال علي بن المديني والدارقطني، وهو الذي يقتضيه تصرف البخاري.

وكذا قال ابن معينٍ: ابن أبي ذئبٍ أثبتُ في المقبري من ابن عجلان.

ص: 110

وعبيد الله بن وديعه – ويقال: عبد الله -، قال أبو حاتمٍ الرازي: الصحيح

عبيد الله.

وقال أبو زرعة: الصحيح عبد الله.

وقد رواه أبو داود الطيالسي، عن ابن أبي ذئبٍ، فسماه: عبيد الله بن عدي بن الخيار، وهو وهم منه -: قاله أبو حاتمٍ.

وقد رواه جماعةً، عن سعيدٍ المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: ابن جريجٍ وعبيد الله بن عمر وأخوه عبد الله وغيرهم. وزاد ابن جريجٍ: وعن عمارة بن عامرٍ الأنصاري.

قال الدارقطني: ووهم في ذلك؛ إنما أراد عمارة بن عمرو بن حزمٍ، كما ذكر الضحاك.

ورواه صالحٌ بن كيسان، عن سعيدٍ المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبو زرعة وأبو حاتم: هو خطأ؛ إنما هوَ ما قاله ابن أبي ذئبٍ وابن عجلان.

ولا ريب أن الذي قالوا فيهِ: ((عن أبي هريرة)) جماعةٌ حفاظٌ، لكن الوهم يسبق كثيراً إلى هذا إلاسناد؛ فإن رواية ((سعيدٍ المقبري، عن أبي هريرة - أو عن أبيه، عن أبي هريرة)) سلسلةٌ معروفةُ، تسبق إليها الالسن، بخلاف رواية ((سعيدٍ)) عن

أبيه، عن ابن وديعة، عن سلمان)) ؛ فانها سلسلةٌ غريبةٌ، لا يقولها إلا حافظ لها متقنٌ.

ورجح ابن المديني قول من

ص: 111

رواه عن سلمان، [بأن حديثه

] ، فإنه قدر رواه النخعي، عن علقمة، عن القرثع، عن سلمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فقوله: ((لا يغتسل رجلٌ يوم الجمعة)) يؤخذ منه اختصاص الغسل بالرجال، كما هو قول أحمد، ويأتي ذكره فيما بعد – إن شاء الله تعالى.

وقوله: ((ويتطهر ما استطاع من طهر)) ، الظاهر: أنه أراد به المبالغة في

التنظف، وإزالة الوسخ، وربما دخل فيه تقليم الأظفار، وإزالة الشعر من قص الشعر وحلق العانة ونتف إلابط؛ فإن ذَلِكَ كله طهارة.

ويدل عليهِ: ما خرَّجه البزار من حديث أبي الدرداء، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قالَ:

((الطهارات أربعٌ: قص الشارب، وحلق العانة، وتقليم الأظفار، والسواك)) .

وفي إسناده: معاوية بن يحيى، قال البزار: ليس بالقوي، وقد حدث عنه أهل العلم، واحتملوا حديثه.

وخرّج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث عبد الله بن عمروٍ بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((أمرت بيوم الأضحى عيداً جعله الله لهذه الأمة)) . فقال رجلٌ: أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أنثى، أفأضحي بها؟ قالَ:

((لا، ولكن تأخذ من شعرك،

ص: 112

وتقلم أظفارك، وتقص شاربك، وتحلق عانتك، فذلك من تمام أضحيتك عند الله عز وجل) .

وهذا يشعر باستحباب هذه الطهارات في الأعياد كلها، وأنها من تمام النسك المشروع فيها، والجمعة من جملة الأعياد، وهي عيد الأسبوع، كما أن عيد الفطر والأضحى عيد العام.

وقوله: ((ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته)) ، ظاهره: التخيير بين الأمرين، إما الأدهان، أو التطيب، وأن أحدهما كاف.

وقوله: ((من طيب بيته)) يشير إلى أنه ليس عليه أن يطلب ما لا يجده، بل يجتزئ بما وجده في بيته.

والأدهان: هو دهن شعر الرأس واللحية مع تسريحه، وهو الترجل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله.

وفي ((صحيح مسلمٍ)) عن جابر بن سمرة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد شمط مقدم رأسه ولحيته فكأن إذا ادهن لم يتبين، وإذا شعث رأسه تبين، وكان كثير شعر الرأس واللحية صلى الله عليه وسلم.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل الطيب في شعره.

وقد خرّج البخاري في ((كتابه)) هذا من حديث ربيعة، قال: رأيت شعراً من شعره – يعني: النبي صلى الله عليه وسلم أحمر، فسألت عنه، فقيل لي: أحمر من الطيب.

ص: 113

وخرّج البزار في ((مسنده)) من حديث ابن عقيل، عن أنس، أن عمر بن

عبد العزيز سأله عن خضاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: اني رأيت شعراً من شعره قد لون؟ فقال: إنما هذا الذي لون من الطيب الذي كان يطيب شعر رسول صلى الله عليه وسلم.

وقوله: ((ثم يخرج)) يشير إلى أنه يفعل ذلك كله في بيته قبل خروجه، ثم بعد ذلك يخرج إلى المسجد.

وقوله: ((فلا يفرق بين أثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم

الإمام)) .

يأتي الكلام على هذه الثلاثة فيما بعد – إن شاء الله تعالى.

وقوله: ((إلاّ غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) . والمراد بذلك: الصغائر؛ بدليل ما خرَّجه مسلم من حديث أبي هريرة، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قالَ:((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ لما بينهن، ما اجتنبت الكبائر)) .

وفي حديث عمارة بن عمروٍ بن حزم، عن سلمان:((وزيادة ثلاثة أيام)) .

وخرج مسلم من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((من اغتسل، ثم أتى الجمعة، فصلى ما قدر له، ثم انصت حتى يفرغ الإمام من خطبته، فصلى معه غفر له ما بينه وبين الجمعة إلاخرى، وفضل ثلاثة أيام)) .

وخرَّجه أبو داود من وجهٍ آخر عن أبي هريرة، وجعل ذكر الثلاثة من قول أبي هريرة، قال: وكان أبو هريرة يقول: ((وثلاثة أيامٍ زيادةً؛ إن

ص: 114

الله جعل الحسنة بعشر أمثالها)) .

وأما حديث ابن عباسٍ:

فقال:

884 -

ص: 115

ثنا أبو اليمان: نا شعيب، عن الزهري: قال طاوسٌ: قلت لابن عباسٍ: ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اغتسلوا يوم الجمعة، واغسلوا رءوسكم، وان لم تكونوا جنباً وأصيبوا من الطيب)) ؟ قال ابن عباسٍ: أما الغسل، فنعم، وأما الطيب، فلا أدري.

ص: 115

885 -

حدثنا إبراهيم بن محمد بن موسى: أنا هشام، أن ابن جريجٍ أخبرهم، قال: أخبرني إبراهيم بن ميسرة، عن طاوسٍ، عن ابن عباسٍ، أنه ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم في الغسل يوم الجمعة، فقلت لابن عباسٍ: أيمس طيبا، أو دهناً، إن كان عند أهله؟ فقال: لا أعلمه.

مضمون هذا: أن ابن عباسٍ روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الغسل للجمعة، وأنه لم يكن عنده من ذكر الطيب والدهن علمٌ، فيحتمل أنه نفى أن يكون يعلم ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه نفى أن يكون ذلك مستحباً بالكلية؛ فإنه إذا لم يكن عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء، فإنه يقتضي التوقف في استحبابه.

وفي سماع الزهري لهذا الحديث من طاوسٍ نظرٌ، ولعله بلغه عنه؛ فإنه كانَ كثير الإرسال.

* * *

7 -

ص: 115

باب

يلبس أحسن ما يجد

ص: 116

886 -

حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٌ عن نافعٍ عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رأى حلةً سيراء عند باب المسجد فقال يا رسول الله لو اشتريت هذه، فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخره)) - وذكر بقيه حديث.

وقد خرَّجه بتمامه في ((اللباس)) وغيره.

والمقصود منه هاهنا: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أقر عمر على ما ذكره من التجمل بحسن اللباس للجمعة والظاهر: أن ذلك كان عادته صلى الله عليه وسلم؛ فلهذا قال له عمر ما قال وإنما امتنع من هذه الحلة لإنها كانت حريراً خالصاً أو أكثرها حريرٌ وقد قيل: أن السيراء نوعٌ من البرود، يخالطة حريرٌ، سمي سيراء لتخطيطٍ فيه، والثوب المسير الذي فيه سيرٌ، أي: طرائق.

وقال الخطابي: الحله السيراء هي المضلعة بالحرير، وسميت سيراء لما فيها من الخطوط التي تشبه السيور.

ص: 116

وفي حديث عبد الله بن وديعه عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم ((من اغتسل يوم الجمعه فأحسن الغسل، ثم لبس من صالح ثيابه)) - وذكر بقيه الحديث.

خرَّجه الإمام أحمد وابن ماجه، وقد سبق ذكره.

وخرّج أبو داود معناه من حديث أبي هريره وأبي سعيدٍ وعبد الله بن عمروٍ بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وخرج – أيضاً - من حديث يوسف بن سلام أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر

((ما على أحدكم إن وجد ثوبين للجمعة سوى ثوبي مهنته)) .

وفي روايةٍ له: عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وخرَّجه ابن ماجه وعنده: يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وخرَّجه – أيضاً - من حديث عائشه عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسنادٍ ضعيفٍ.

وخرَّجه البيهقي من روايه حجاج بن أرطاة، عن أبي جعفرٍ، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة.

ص: 117

كذا رواه حفص بن غياثٍ عن حجاجٍ.

ورواه هشيم عن حجاج عن أبي جعفرٍ – مرسلاً - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس يوم الجمعة برده الأحمر ويعتم يوم العيدين.

خرَّجه ابن سعدٍ في ((طبقاته)) .

وكذا خرَّجه عبد الرزاق، عن ابن جريحٍ، عن جعفرٍ، عن أبيه – مرسلاً.

وهذا المرسل أشبه.

وخرّج الطبراني من رواية سعد بن الصلت، عن جعفر بن محمدٍ، عن أبيه عن علي بن حسينٍ عن ابن عباسٍ قالَ: كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس يوم العيد بردة حمراء.

وهذا إلاسناد غير محفوظٍ.

وخرّج الإمام أحمد من رواية فليح بن سليمان، عن أبي بكرٍ بن المنكدر، عن أبي سعيدٍ الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((حقٌ على كل محتلمٍ الغسل يوم الجمعه، ويلبس من صالح ثيابه، وإن كان له طيبٌ مس منه)) .

كذا رواه فليحٌ، إنما رواه أبو بكرٍ بن المنكدر، عن عمرو بن سيلمٍ، عن أبي سعيدٍ.

وقد خرَّجه البخاري فيما تقدم بغير هذا اللفظ.

ص: 118

ولا خلاف بين العلماء – فيما نعلمه - في استحباب لبس الثياب أجود الثياب لشهود الجمعة والأعياد.

وروى وكيعٌ في ((كتابه)) عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: أدركت أشياخ الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانَ يوم الجمعه اغتسلوا، ولبسوا أحسن ثيابهم، وتطيبوا بأطيب طيبهم، ثُمَّ راحوا إلى الجمعة.

* * *

8 -

ص: 119

باب

السواك يوم الجمعة

وقال أبو سعيدٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم: يستن.

حديث أبي سعيدٍ قد خرَّجه فيما سبق في ((باب: الطيب للجمعة)) ولفظه

((الغسل يوم الجمعة واجبٍ على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيباً إن وجد)) .

قال عمروٍ: أما الغسل، فأشهد أنه واجبٌ وأما الطيب وإلاستنان فالله أعلم.

وهذا مما استدل به جمهور العلماء على أن المراد بالوجوب هاهنا: تأكد الاستحباب؛ لأنه قرنه بما ليس بواجبٍ اجماعاً وهو الطيب والسواك.

وخرّج الإمام أحمد وأبو داود من حديث ابن إسحاق: حدثني محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة وأبي أمامة بن سهلٍ عن أبي هريرة وأبي سعيدٍ، قالا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من اغتسل يوم الجمعة، واستن، ومس من طيب – إن كانَ عنده – ولبس أحسن ثيابه ثُمَّ جاء إلى المسجد ولم يتخط رقاب الناس ثُمَّ ركع ما شاء الله أن يركع ثُمَّ انصت إذا خرج إمامه حتَّى يصلي، كانت كفارةً لما بينها وبين الجمعة التي كانت

قبلها)) . يقول أبو هريرة: وثلاثة أيامٍ زيادةً؛ لأن الله قد جعل الحسنة بعشر أمثالها.

ص: 120

وفي إسناده اختلافٌ.

وروى مالكٍ في ((الموطإ)) عن ابن شهاب، عن عبيد بن السباق، أن النبي

صلى الله عليه وسلم قال – في جمعة من الجمع -: ((يا معشر المسلمين، أغتسلوا، ومن كان عنده طيبٌ فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك)) .

وقد روي عن الزهري، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والمرسل: هو الصحيح.

ورواه صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن عبيد بن السباق، عن ابن

عباسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

خرَّجه ابن ماجه.

ولا يصح –أيضاً -، والصحيح: رواية مالكٍ.

ويدل عليه: إنكار ابن عباسٍ للطيب، كما سبق عنه.

وخرّج الإمام أحمد من رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن رجلٍ من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((حقٌ على كل مسلمٍ أن يغتسل يوم الجمعة، ويتسوك، ويمس من طيب أن كان لاهله)) .

ص: 121

وخرَّجه بهذا إلاسناد موقوفاً –أيضاً.

وروي –أيضاً – عن ثوبان، عن أبي سعيدٍ الخدري – مرفوعاً.

وروي عن ابن ثوبان، عن رجلٌ، عن أبي سعيدٍ الخدري –مرفوعاً وموقوفاً.

وعن أبي زرعة وأبي حاتمٍ: أن الموقوف أصح.

خرّج البخاري في هذا الباب أحاديث ثلاثة، في السواك للصلاة، ولكن لا اختصاص لها بالجمعة:

الحديث الأول:

887 -

ص: 122

ثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٌ، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لولا أن أشق على أمتي –أو على الناس – لأمرتهم بالسواك مع كل صلاةٍ)) .

وفيه: دليلٌ على أن الحرج والمشقة مرفوعاًن عن هذه الأمة، كما قال تعالى:{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .

وقد سبق ذكر ذلك في تأخير عشاء الآخرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب تأخيرها، ولولا المشقة على أمته لجعل وقتها ثلث الليل أو نصفه.

وفيه: دليل على أن السواك ليس بفرض كالوضوء للصلاة، وبذلك قال جمهور العلماء، خلافاً لمن شذ منهم من الظاهرية.

ص: 122

وقد حكي عن إسحاق، أنه لو تركه عمداً اعاد الصلاة. وقيل: أنه لا يصح عنه.

وهذا الحديث: نص على أنه غير واجبٍ على الأمة؛ فإن المراد: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك أمر فرضٍ وأيجابٍ، لا أمر ندبٍ واستحبابٍ؛ فإنه قد ندب اليه واستحبه، ولكن لم يفرضه، ولم يوجبه.

وقد صرح بذلك في حديث آخر:

خرَّجه الإمام أحمد من حديث تمام بن العباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك، كما فرضت عليهم الوضوء)) .

وخرّج ابن أبي شيبة نحوه من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ويروى نحوه من حديث أبي هريرة، وأبي سعيدٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي الحديث: دليل على استحباب السواك مع كل صلاةٍ، فدخل في ذلك صلاة الجمعة وغيرها.

والسواك مع الصلاة نوعان:

أحدهما: السواك مع الوضوء للصلاة، وقد سبق ذكره في ((الطهارة)) .

ص: 123

والثاني: السواك للصلاة عند القيام إليها.

وقد خرّج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث زيد بن خالدٍ الجهني، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل

صلاةٍ)) فكأن زيد بن خالدٍ يشهد الصلوات في المسجد وسواكه على أذنه موضع القلم من أذن الكاتب، لا يقوم إلى صلاةٍ إلا استن، ثم رده إلى موضعه.

وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ.

وهذا مذهب الشافعي وأصحابنا.

وروى أبو يحيى الحماني، عن أبي سعدٍ، عن مكحولٍ، عن واثلة بن الأسقع، قال: كان أناسٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يربطون مساويكهم بذوائب سيوفهم، فاذا حضرت الصلاة استاكوا، ثم صلوا.

خرَّجه البيهقي في ((صلاة الخوف)) من ((سننه)) .

وقال: أبو سعدٍ البقال، غير قوي.

وقد أنكر طائفة من العلماء السواك عند إرادة الصلاة المفروضة في المسجد، وقالوا: ليس فيه نص عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل للتهجد في بيته.

وحكي عن مالكٍ، أنه يكره السواك في المساجد،

ص: 124

والذي رأيناه في ((تهذيب المدونة)) : أنه يكره أن يأخذ المعتكف من شعره أو أظفاره في المسجد، وإن جمعه

وألقاه؛ لحرمة المساجد.

وقد روي عن عثمان بن عفان، أنه كانَ يخطب يوم الجمعة، فذكر أنه لم

يستك، فنزل فاستاك.

وهذا يدل على أنه إنما نزل ليستاك خارج المسجد، وأنه رأى السواك في الجمعة عند الوضوء لا عند الصلاة.

وخرج الحاكم في ((أماليه)) من رواية أبي ايوب الأفريقي، عن صالح بن أبي

صالح، أظنه عن أبيه، عن زيد بن خالد الجهني، قال: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من بيته لشيءٍ من الصلوات حتى يستاك.

وهذا غريبٌ.

ويستدل به: على أنه إنما كان يستاك في بيته قبل خروجه إلى المسجد.

الحديث الثاني:

888 -

ص: 125

نا أبو معمر: نا عبد الوارث: نا شعيب: نا أنس بن مالكٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أكثرت عليكم في السواك)) .

المراد بإكثاره عليهم في السواك: كثرة حثهم عليه؛ وترغيبهم فيهِ، بذكر فضله.

ص: 125

وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قالَ:((السواك مطهر للفم، مرضاة للرب)) .

وقد علقه البخاري في موضع آخر، ويأتي في موضعه –إن شاء الله تعالى.

وقدروي عنه صلى الله عليه وسلم، أنه أكثر عليه في امره بالسواك:

ففي ((مسند الإمام أحمد)) من رواية إبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن

عباسٍ. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لقد أمرت بالسواك، حتى خشيت أن يوحى الي فيه)) .

التميمي، اسمه: أربد، ويقال: أربدة.

ومن حديث واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت بالسواك، حتى خشيت أن يكتب علي)) .

وفي إسناده: ليث بن أبي سليمٍ.

ويستدل به: على أن السواك لم يكن واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد قيل: إنه كان واجباً عليه.

وخرّج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن حنظلة بن الغسيل، أن

ص: 126

النبي صلى الله عليه وسلم كان أمر بالوضوء لكل صلاة، طاهراً كان أو غير طاهرٍ، فلما شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء، إلا من حدثٍ.

وخرَّجه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحهما)) والحاكم.

وقال: على شرط مسلم.

وليس كما قال.

وخرَّجه البزار في ((مسنده)) ، ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالوضوء عند كل صلاةٍ، فلما شق عليهم أمر بالسواك عند كل صلاة.

وقد روي من حديث عنبسة - مرفوعاً - أن السواك كان عليه فريضةً، وهو لأمته تطوعٌ.

خرَّجه الطبراني.

ولا يصح إسناده. والله أعلم.

الحديث الثالث:

889 -

ص: 127

نا محمد بن كثير: نا سفيان، عن منصور وحصين، عن أبي وائلٍ، عن حذيفة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه.

قد سبق هذا الحديث في ((الطهارة)) من رواية جريرٍ، عن منصورٍ وحده، وسبق الكلام على معناه مستوفى.

* * *

9 -

ص: 127

بابٌ

من تسوك بسواك غيره

ص: 128

890 -

حدثنا إسماعيل: حدثني سليمان بن بلال: قال هشام بن عروة: أخبرني أبي، عن عائشة، قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكرٍ، ومعه سواكٌ يستن به، فنظر اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن، فاعطانيه، فقصمته، ثم مضغته، فاعطيته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستن به، وهو مستند إلى صدري.

يروي: ((فقصمته)) بفتح الصاد المهملة، أي: كسرته، فأبنت منه الموضع الذي كان استن به عبد الرحمن، والقصأمة: ما يكسر من رأس السواك.

هذا هو الذي ذكره الخطابي، وقال: أصل القصم: الدق.

ويروى: ((فقصمته)) ، بكسر الضاد المعجمة، من القضم، وهو العض بالأسنان، ومنه: الحديث: ((فيقضمهما كما يقضم الفحل)) .

[

] الإستياك بسواك غيره في ((باب: دفع السواك إلى الأكبر)) من ((كتاب

ص: 128

الطهارة)) فأغنى عن إعادته هاهنا.

وفي الحديث: دليلٌ على أن إلاستياك سنةٌ في جميع الأوقات، عند إرادة الصلاة وغيرها، فإن استياك النبي صلى الله عليه وسلم بهذا السواك كان في مرض موته عند خروج نفسه، ولم يكن قاصداً حينئذ لصلاةٍ ولا تلاوة.

وقد قيل: إنه قصد بذلك التسوك عند خروج نفسه الكريمة؛ لأجل حضور الملائكة الكرام، ودنوهم منه لقبض روحه الزكية الطاهرة الطيبة.

وقد أمر سلمان الفارسي –رضي الله عنه – امرأته عند احتضاره أن تطيب موضعه بالمسك؛ لحضور الملائكة فيه، وقال: أنه يزورني أقوام، يجدون الريح، ولا يأكلون الطعام –أو كما قال.

* * *

10 -

ص: 129

باب

ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة

ص: 130

891 -

حدثنا أبو نعيمٍ ومحمد بن يوسف: ثنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن –هو: ابن هرمز -، عن أبي هريرة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة {آلم تنزيل} السجدة، {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [إلانسان:1] .

هذا الحديث خرَّجه البخاري هاهنا، وفي ((سجود القرآن)) .

في أحدهما: خرَّجه عن محمد بن يوسف الفريابي، عن سفيان –هو: الثوري.

وفي الآخر: عن أبي نعيمٍ، عن سفيان.

وفي رواية محمد بن يوسف زيادة: ذكر السجدة.

ففي بعض النسخ في هذا الباب: رواية محمد بن يوسف، وفي الآخر: رواية أبي نعيمٍ، وفي بعضها - في الموضعين: - عن محمد بن يوسف.

وإلاول: أصح. والله أعلم.

وقد ذكر الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في ((مستخرجه)) : أن البخاري خرَّجه في هذا الباب، عن أبي نعيمٍ.

ص: 130

وقد رواه يحيى القطان، عن سفيان، فقال في حديثه: وفي الثانية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] .

خرَّجه من طريقه إلاسماعيلي في ((صحيحه)) .

والظاهر: أن ذلك وهمٌ منه.

وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية جماعةٍ من الصحابة، ولم يخرجه البخاري إلاّ من هذا الوجه.

وخرَّجه مسلم منه، ومن حديث ابن عباسٍ –أيضاً.

وقوله: ((كان يقرأ)) يدل على تكرر ذلك منه، ومداومته عليه.

وقد روي، أنه كان يديم ذلك:

خرَّجه الطبراني من طريق عمروٍ بن قيس الملائي، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرا في صلاة الصبح يوم الجمعة {آلم تنزيل} السجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان:1] .

يديم ذلك.

ورواته كلهم ثقاتٌ، إلا أنه روي عن أبي إلاحوص مرسلاً.

وإرساله أصح عند البخاري وأبي حاتم والدارقطني.

ص: 131

وقد خرَّجه ابن ماجه من وجه أخر عن أبي الأحوص، عن عبد الله، موصولاً –أيضاً -، بدون ذكر المداومة.

وقد اختلف العلماء في قرءاة سورةٍ معينةٍ في صلاةٍ معينةٍ.

فكرهة طائفة، وحكي عن أبي حنيفة ومالك.

ولم يكرهه الأكثرون، بل استحبوا منه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وممن استحب قراءة سورة {آلم} سورة السجدة و {هلْ أَتَى} في صلاة الفجر يوم

ص: 132

الجمعة: الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو خيثمة وابن أبي شيبة وسليمان بن داود الهاشمي والجوزجاني وغيرهم من فقهاء الحديث.

وهذا هو المروي عن الصحابة، منهم: عليٌ وابن عباسٍ وأبو هريرة.

ثم اختلفوا: هل يستحب المداومة على ذلك في كل جمعةٍ؟

فقال بعضهم: لا يستحب ذلك، بل يستحب فعله أحياناً، وهو قول الثوري وأحمد –في المشهور عنه - وإسحاق.

وعللا بأنه يخشى من المداومة عليه اعتقاد الجهال وجوبه، وان صلاة الفجر يوم الجمعة فيها زيادة سجدة، أو أنها ثلاث ركعات، ونحو ذلك مما قد يتخيله بعض من هو مفرطٌ في الجهل.

وقال الأكثرون: بل يستحب المداومة عليه، وهو قول الشافعي، وسائر من سمينا قوله.

وهو ظاهر ما نقله اسماعيل بن سعيدٍ الشالنجي عن أحمد؛ فإنه قالَ: سألته عن القراءة في الفجر يوم الجمعة؟ فقال: نراه حسناً، أن تقرأ {آلم تنزيل} السجدة،

و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان:1] .

ورجحه بعض أصحابنا، وهو الأظهر.

وكان السلف يداومون:

قال الأعرج: كان مروان وأبو هريرة يقرءان في صلاة الصبح بـ {آلم تنزيل} سورة السجدة و {هلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [إلانسان:1] .

وقال الشعبي: ما شهدت ابن عباسٍ قرأ يوم الجمعة إلا {تنزيل} و {هلْ أَتَى} [الإنسان:1] .

خرَّجه ابن أبي شيبة.

واعتقاد فرضية ذلك بعيدٌ جداً، فلا يترك لأجله السنة الصحيحة، واتباع عمل الصحابة.

وكان كثيرٌ من السلف يرى أن السجدة مقصودةٌ قراءتها في فجر يوم الجمعة:

ص: 133

قال سعيدٍ بن جبيرٍ: ما صليت خلف ابن عباسٍ يوم الجمعة الغداة إلا قرأ سورة فيها سجدةً.

وعن ابن عوان، قال: كانوا يقرءون يوم الجمعة سورة فيها سجدةٌ، قال: فسألت محمداً –يعني: ابن سيرين -، فقال: لا أعلم به بأساً.

وعن النخعي، أنه صلى بهم يوم جمعة الفجر، فقرأ بـ {كهيعص} [مريم:1] .

خرج ذلك ابن أبي شيبة في ((كتابه)) .

ونقل حربٌ، عن إسحاق، قال: لا بأس أن يقرأ الإمام في المكتوبة سورة فيها سجدةٌ، وأحب السور الينا {آلم تزيل} السجدة، {هلْ أَتَى} [إلانسان:1] ، ويقرأ بهما في الجمعة، ولابد منهما في كل جمعة، وان أدمنهما جاز.

وهذا يدل على أنه يستحب قراءةٌ فيها سجدةٌ، وافضلها {آلم تنزيل} .

وروى أبو بكرٍ بن أبي داود باسناده، عن ابن عباسٍ، قال: غدوت على

رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة في صلاة الفجر، فقرأ في الركعة الأخيرة سورةً من المئين فيها سجدةٌ، فسجد فيها.

وقد روي عن أحمد ما يشهد لهذا –أيضاً -، وأن السجدة مقصودة في صلاة الفجر يوم الجمعة؛ فإن أبا جعفر الوراق روى، أن أحمد صلى

ص: 134

بهم الفجر بوم الجمعة، فنسي قراءة آية السجدة، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتي السهو.

قال القاضي أبو يعلى: إنما سجد للسهو، لأن هذه السجدة من سنن الصلاة، بخلاف بقية السجداًت في الصلاة؛ فإنها من سنن القراءة.

وقد زعم بعض المتأخرين من أصحابنا والشافعية: أن تعمد قراءة سورة سجدة غير {آلم تنزيل} في فجر الجمعة بدعةٌ، وقد تبين أن الأمر بخلاف ذلك.

وقدصلى الإمام أحمد صلاة الفجر يوم الجمعة بـ {آلم} السجدة، وسورة

{عبس} ، وهذا يدل –أيضاً - على أن ابدال {هلْ أَتَى} بغيرها غير مكروه.

وفي هذه الصلاة نسي قراءة السجدة، وسجد سجدتي السهو، وهو يدل على أن من نسي أن يسجد في صلاته للتلاوة لم يعد السجود بعد فراغه من الصلاة، وقد صرح به أصحابنا.

قال القاضي أبو يعلى في ((الجامع الكبير)) : ظاهره: أن من نسي سجود التلاوة سجد للسهو، كما إذا نسي دعاء القنوت.

قال: ولا يلزم على هذا بقية سجود التلاوة في غير صلاة؛ لأنه يحتمل أن يقال فيه مثل ذلك، ويحتمل أن يفرق بينهما، بأن الحث والترغيب وجد في هذه السجدة اكثر، وهو مداومة النبي صلى الله عليه وسلم لقراءتها. انتهى ما ذكره.

والتحقيق في الفرق: ما ذكره في موضعٍ آخر: أن السجدة في فجر يوم الجمعة من سنن الصلاة، فهي كقنوت الوتر، وفي غيرها من سنن القراءة التي لا تختص بالصلاة.

ص: 135

وممن قال: إن من نسي السجود للتلاوة في صلاته سجد للسهو إذا قضى صلاته: حمادٌ وابن جريجٍ -: ذكره عبد الرزاق عنهما في ((كتابه)) ، ولم يفرق بين سجدة يوم الجمعة وغيرها، ويحتمل أن مذهبهما وجوب سجود التلاوة، فيجبره إذا نسيه بسجود السهو.

ومذهب مالكٍ: أن نسي سجودها في الركعة الأولى من النافلة حتَّى يرفع رأسه من ركوعه، قالَ: فأحب الي أن يقرأها في الثانية، ويسجدها، ولا يفعل ذَلِكَ في الفريضة، وإن ذكرها وهو راكعٌ في الثانية من النافلة تمادى، ولا شيء عليهِ، إلا أن يدخل في نافلة اخرى، فإذا قام قرأها وسجد.

ذكره في ((تهذيب المدونة)) ، ولم يذكر لذلك سجود سهوٍ.

وعند أصحاب الشافعي: إذا نسي سجود التلاوة حتَّى سلم، فإن لم يطل الفصل سجد للتلاوة بعد سلامه، وان طال ففي قضاء السجود لهم قولان.

وأما من أوجب السجود للتلاوة، فقالَ سفيان فيمن قرأ سجدةً، فركع ناسياً، فذكر في آخر صلاته: سجدها، ثُمَّ ركع.

* * *

11 -

ص: 136

باب

الجمعة في القرى والمدن

فيه حديثان:

أحدهما:

قال:

892 -

ص: 137

نا محمد بن المثنى: نا أبو عامرالعقدي: نا إبراهيم بن طهمان، عن أبي جمرة الضبعي، عن ابن عباسٍ، قال: أن أول جمعة جمعت في الأسلام –بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين.

قد ذكرنا هذا الحديث في أول ((كتاب الجمعة)) ، وذكرنا بعض الأختلاف في إسناده ومتنه، وأن معناه: أنه لم يجمع في الأسلام بعد التجميع بالمدينة إلا في مسجد عبد القيس بالبحرين، فكأن أول بلدٍ أقيمت الجمعة فيه المدينة، ثم بعدها قرية جوثاء بالبحرين.

وهذا يدل على أن عبد القيس أسلموا قبل فتح مكة، وجمعوا في

ص: 137

مسجدهم، ثم فتحت مكة بعد ذلك، وجمع فيها.

والمقصود: أنهم جمعوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في قرية جواثاء، وإنما وقع ذلك منهم باذن النبي صلى الله عليه وسلم وأمره لهم؛ فإن وفد عبد القيس أسلموا طائعين، وقدموا راغبين في إلاسلام، وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن مهمات الدين، وبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم قواعد إلايمان وأصوله، وقد سبق ذكر حديثهم في ((كتاب الإيمان)) .

فيدل ذلك على جواز إقامة الجمعة بالقرى، وأنه لا يشترط لإقامة الجمعة المصر الجامع، كما قاله طائفة من العلماء.

وممن ذهب إلى جواز إقامة الجمعة في القرى: عمر بن عبد العزيز وعطاءٌ ومكحولٌ وعكرمة والأوزاعي ومالك والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق.

وروى القناد، عن سفيان نحوه.

وكان ابن عمر يمر بالمياه بين مكة والمدينة، فيرى أهلها يجمعون، قلا يعيب عليهم.

ذكره عبد الرزاق، عن العمري، عن نافعٍ، عنه.

وروى ابن المبارك، عن أسامة بن زيدٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر: لا

ص: 138

جمعة في سفر، ولا جمعة إلا في مصر جامع.

وهذا –مع الذي قبله – يدل على أنه أراد بالمصر القرى.

وروى الأثرم بإسناده، عن أبي ذر، أنه كان يجمع بالربذة مع الناس.

وقالت طائفة: لا جمعة إلا في مصرٍ جامعٍ، روي ذلك عن علي، وبه قال النخعي والثوري – في المشهور عنه – وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن.

وقال الحسن وابن سيرين: لا جمعة إلا في مصرٍ.

وقد روي عن علي خلاف ذلك، روى وكيعٌ، عن قيس بن الربيع، عن طالب بن السميدع، عن أبيه، أن علياً جمع بالمدائن.

وعن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي، أن حذيفة جمع بالمدائن.

وعن شعبة، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أبي رافعٍ، عن أبي هريرة، قال: كتبت إلى عمر بن الخطاب أسأله عن الجمعة بالبحرين، فكتب الي: أن اجمعوا حيثما كنتم.

قال الإمام أحمد: هذا إسنادٌ جيدٌ.

وروى وكيعٌ باسناده، عن النخعي، أنه جمع بحلوان.

ص: 139

وهذا كله يدل على أن من قال: لا جمعة إلا في مصرٍ جامعٍ، فإنه أراد بذلك القرى التي فيها والٍ من جهة الإمام، فيكون مراده: أنه لا جمعة إلا بإذن الإمام في مكان له فيه نائب يقيم الجمعة بإذنه.

وبذلك فسره أحمد في روايةٍ عنه.

وكذلك روى عن محمد بن الحسن –صاحب أبي حنيفة - تفسير المصر: أن الإمام إذا بعث إلى قرية نائبا له لإقامة الحدود، فهو مصرٌ، فلو عزله ألحق بالقرى.

وروي نحوه عن أبي يوسف، وعن أبي حنيفة –أيضاً.

قال أحمد: المصر إذا كان به الحاكم، ولا يقال للقرى: مصرٌ.

وقال إسحاق: كل قرية فيها أربعون رجلاً يقال لها: مصرٌ.

وهذا بعيدٌ جداً.

وعن سفيان روايتان في تفسير المصر:

إحدهما: أنه كل مصرٍ فيه جماعةً وإمامٌ.

والثانية - نقلها عنه ابن المبارك -: أن المصر الجامع ما عرفه الناس أنه جامعٌ.

وقال عمرو بن دينارٍ: سمعنا: أن لا جمعة إلا في قريةٍ جامعةٍ.

وعنه، قال: إذا كان المسجد تجمع فيه الصلوات فلتصل فيه الجمعة.

وقد تقدم حديث كعب بن مالك، أن أول جمعةٍ جمعت بالمدينة في نقيع الخضمات في هزم من حرة بني بياضة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع أول ما

ص: 140

قدم المدينة في مسجد بني سالم.

وهذه كلها في حكم القرى خارج المدينة.

الحديث الثاني:

893 -

ص: 141

نا بشر بن محمد: أنا عبد الله بن المبارك: أنا يونس، عن الزهري، قال: أخبرني سالمٌ، عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلكم راع)) .

وزاد الليث: قال يونس: كتب رزيق بن حكيم الىابن شهابٍ، وأنا معه يومئذ بوادي القرى: هل ترى أن أجمع؟ ورزيقٌ عاملٌ على أرض يعملها، وفيها جماعةً من السودان وغيرهم، ورزيقٌ يومئذ عاملٌ على أيلة، فكتب ابن شهاب - وأنا اسمع - يامره أن يجمع، يخبره أن سألما حدثه، أن عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته، الإمام راع ومسول عن رعيته)) –وذكر بقية الحديث.

والمقصود منه: أن الزهري استدل بهذا الحديث –في رواية الليث، عن يونس، عنه، التي ذكرها البخاري تعليقاً – على أن الأمير في البلدان

ص: 141

والقرى – وإن لم يكن من الأمصار الجامعة – أن يقيم الجمعة لأهلها، لأنه راع عليهم، ومسئول عنهم، ومما يجب عليه رعايته: أمر دين رعيته، واهمه الصَّلاة.

وقال الخطابي: فيه دليلٌ على جواز إقامة الجمعة بغير سلطانٍ.

وفيما قاله نظر؛ وابن شهابٍ إنما استدل به على أن نائب السلطان يقيم الجمعة لأهل بلدته وقريته، وان لم يكن مصراً جامعاً، ولا يتم إلاستدلال بذلك حتَّى يقوم دليل على جواز اقأمة الجمعة في غير الأمصار الجامعة، وإلا فاذا اعتقد الإمام أو نائبة أنه لا جمعة إلا في مصر جامع، ولم يقم الجمعة في قريته وبلدته الصغيرة؛ فإنه لا يلام على

ذلك، ولا يأثم أهل قريته وبلدته بترك الجمعة في هذه الحال.

قال أحمد - في الإمام إذا لم يول عليهم من يصلي بهم الجمعة -: ليس عليهم في ذلك إثمٌ.

وروى حجاج بن أرطاة، عن الزهري، قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ناس من أهل المياه، بين مكة والمدينة، أن يصلوا الفطر والأضحى، وأن يجمعوا.

خرَّجه حربٌ الكرماني وغيره.

وهو مرسلٌ ضعيفٌ، وحجاجٌ مدلسٌ، ولم يسمع من الزهري.

* * *

12 -

ص: 142

باب

هل على من لم يشهد الجمعة غسلٌ من النساء والصبيان وغيرهم؟

وقال ابن عمر: إنما الغسل على من تجب عليه الجمعة.

مراده: أن من لا يلزمه شهود الجمعة من النساء والصبيان وغيرهم كالمسافرين، هل عليهم غسلٌ، أم لا؟

والمعنى: هل يلزمهم الغسلٌ على قول من يرى الغسلٌ واجباً، أو يستحب لهم على قول من يراه مستحباً؟

وقد ذكر عن ابن عمر –تعليقاً -، أنه قالَ: إنما الغسلٌ على من تجب عليهِ

الجمعة.

وروى وكيعٌ: نا خالج بن عبد الرحمن بن بكيرٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر، قال: إنما الغسلٌ على من أتى الجمعة.

يعني: ليس على النساء جمعةٌ.

وروى عبد الرزاق بإسناده، عن سالمٍ ونافعٍ، أن ابن عمر كان لا يغتسل في السفر يوم الجمعة.

وإنما ذهب ابن عمر إلى هذا، تمسكاً بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:((من أتى الجمعة فليغتسل)) ، فحمله على أن المراد: من لزمه إتيان الجمعة

ص: 143

فليغتسل، وهو أعلم بما روى، وأفهم له.

وقد فهم آخرون منه أنه: من أراد إتيان الجمعة فلغتسل، سواء كان إتيانه للجمعة واجباً عليه، أو غير واجبٍ، وأما من لم يرد إتيانها كالمسافر والمريض المنقطع في بيته، ومن لا يريد حضور الجمعة من النساء والصبيان، فلم يدل الحديث على غسل أحدٍ

منهم.

وقد ذهب إلى أنهم يغتسلون للجمعة طائفةٌ من العلماء، فصارت إلاقوال في المسألة ثلاثةٌ:

اما اختصاص الغسلٌ بمن تلزمه الجمعة.

أو بمن يريد شهود الجمعة، سواءٌ لزمته، أو لا.

وأما أنه يعم الغسلٌ كل مكلف يوم الجمعة، سواءٌ أراد شهودها، أو لم يرده.

والقول الأول -: وجه لأصحابنا، وهوظاهر اللفظ الذي ذكره البخاري عن ابن عمر –تعليقاً -، وتبويب البخاري يدل على اختياره.

والثاني -: هو قول الأكثرين، كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق، إلا أن أحمد استثنى منه المرأة خاصة، الحاقا لغسلٌها بتطيبها، وهي منهيةٌ عنه إذا حضرت المسجد.

واستحبه الآخرون، وبعض أصحاب أحمد، حيث لم يكن خروجها للجمعة مكروهاً.

وقال عطاءٌ والشعبي: ليس على المسافر غسلٌ يوم الجمعة.

ص: 144

وأما القول الثالث -: فهو قول طائفة من العلماء، أن كان من أهل وجوب الجمعة، وإن كان له عذر يمنع الوجوب؛ فإنه يغتسل يوم الجمعة، مريضاً كان أو مسافراً، أو غير ذلك.

وروي عن طلحة بن عبيد الله ومجاهدٍ وطاوسٍ وسعيدٍ بن جبير، وهو قول إسحاق وأبي ثورٍ، ووجهٌ للشافعية.

ولهم وجه آخر: يسن لكل أحدٍ، مكلفاً كان بها أو غير مكلف، كفسل العيد، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:((حقٌ على كل مسلمٍ أن يغتسل في سبعة أيامٍ يوماً)) ، وسيأتي ذكره.

وروى الحسن، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه بثلاثٍ، لا يدعهن في حضرٍ ولا سفرٍ، فذكر منها:((والغسلٌ يوم الجمعة)) .

خرَّجه الإمام أحمد.

والحسن، لم يسمع من أبي هريرة، على الصحيح عند الجمهور.

والمعروف: حديث وصية أبي هريرة بثلاثٍ، ليس فيها:((غسلٌ الجمعة)) ، كما يأتي في موضعه –إن شاء الله سبحانه وتعالى.

ص: 145

واستدل الأكثرون بقوله: ((من أتى الجمعة فليغتسل)) .

وفي رواية: ((إذا أراد أن يأتي الجمعة فلغتسل)) .

وبأن الغسل مقرونٌ بالرواح إلى الجمعة في غير حديث، وهذا مقيد، فيقضي على المطلق.

ولأنه شرع للنظافة؛ لئلا يؤذي الحاضرون بعضهم بعضاً بالرائحة الكريهة، وهذا غير موجود في حق من لا يحضر الجمعة.

خرج في هذا الباب خمسة أحاديث:

الحديث الأول:

894 -

ص: 146

نا أبو اليمان: أنا شعيبٌ، عن الزهري: حدثني سالم بن عبد الله، أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من جاء منكم الجمعة فليغتسل)) .

لما كان الخطاب في هذا للرجال لمن جاء منهم الجمعة، دل على أنه لا غسل على من لا يأتي منهم الجمعة، كالمسافر والمريض والخائف على نفسه، ولا على من ليس من الرجال، كالنساء والصبيان؛ فإن الصبيان لا يدخلون في خطاب التكليف.

الحديث الثاني.

ص: 146

895 -

حديث: أبي سعيدٍ الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:((غسلٌ يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلمٍ)) .

خرَّجه: عن القعنبي، عن مالكٍ.

وقد سبق إسناده.

ويستدل به على أن من لم يبلغ الحلم فلا غسلٌ عليه.

الحديث الثالث:

896 -

ص: 147

نا مسلم بن إبراهيم: نا وهيبٌ، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه، عن أبي

هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن الآخرون السابقة يوم القيامة، أوتوا الكتاب من قبلنا، وأتيناه من بعدهم، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، وهدانا الله اليه، فغداً

لليهود، وبعد غد للنصارى)) .

897 -

ص: 147

فسكت، ثم قال: ((حقٌ على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام

يوماً، يغسلٌ فيه رأسه وجسده)) .

898 -

ص: 147

رواه أبان بن صالح، عن مجاهدٍ، عن طاوسٍ، عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الله تعالى على كل مسلم حق: أن يغتسل في كل

ص: 147

سبعة أيام يوماً)) .

إنما ذكر رواية أبان بن صالح المعلقة؛ ليبين أن آخر الحديث –وهو: ذكر الغسلٌ –مرفوع إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، لئلا يتوهم أن القائل:((حقٌ على كل مسلمٍ)) في آخر حديث وهيبٍ، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه -: هو أبو هريرة، وأنه مدرج في آخر الحديث.

وقد خرج مسلمٌ في ((صحيحه)) ذكر الغسلٌ من طريق وهيبٍ، وصرح برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وتوهم آخرون: أن ذكر الغسل في آخر الحديث مدرج من قول أبي هريرة.

قال الدارقطني: رفعه أبان بن صالحٍ، عن مجاهدٍ: عن طاوسٍ، عن أبي هريرة، واختلف عن عمروٍ بن دينار: فرفعه عمر بن قيس، عنه. وقيل: عن شعبة، عنه –مرفوعاً. وقيل: عنه –موقوفٌ. ورواه ابن جريجٍ وابن عيينة، عن عمروٍ - موقوفاً. وكذلك رواه إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس –موقوفاً، وروي عن ابن جريجٍ، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس –مرسلاً -، عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحيح الموقوف على أبي هريرة. انتهى.

ص: 148

ولم يذكر رواية وهيبٍ المخرجة في ((الصحيحين)) .

وكذا رواه أبو الزبير، عن طاوسٍ، عن أبي هريرة –موقوفاً.

ورواه داود بن أبي هند، عن أبي الزبير، عن جابر –مرفوعاً -:((على كل رجلٍ مسلمٍ في كل سبعة أيامٍ غسل)) ، وهو يوم الجمعة.

خرَّجه الإمام أحمد والنسائي وابن حبان في ((صحيحه)) .

وقال أبو حاتم الرازي: هو خطأ، إنما هو –على ما رواه الثقات -: عن أبي الزبير، عن طاوسٍ، عن أبي هريرة –موقوفاً.

وهذا الحديث هو الذي استدل به من قال: إن غسل الجمعة يكون لليوم لا لشهود الجمعة، فيغتسل من حضر الجمعة، ومنلم يحضرها، كما سبق ذكره عنهم.

واستدل بع بعضهم على أن الغسلٌ للأسبوع، لا لخصوص يوم

ص: 149

الجمعة، وأن من اغتسل في الأسبوع مرةً كفاه من غسلٌ الجمعة.

نقل حربٌ، عن إسحاق، قال: إن كان مغتسلاً سبعة أيام مرةً، فجاء يوم الجمعة، وقدكان غسلٌ رأسه واغتسل في كل سبعة أيامٍ مرةً جاز له ترك غسلٌ يوم الجمعة؛ قال ذلك ابن عباسٍ ومن بعده، أنهم كانوا يؤمرون بغسل رءوسهم وأجسادهم في كل سبعة أيام مرةً، فحول الناس إلى يوم الجمعة.

وقوله: ((يغسل رأسه وجسده)) يشير إلى أنه يعم بدنه بالغسل، فإن الرأس إلى الغسلٌ [

] لشعره، وقد كانت لهم شعورٌ في رءوسهم.

وعلي مثل هذا حمل طائفةٌ من العلماء قوله ((من غسل واغتسل)) ، فقالوا: غسل رأسه واغتسل في بدنه، وقالوا: كانت للقوم جممٌ.

الحديث الرابع:

ص: 150

899 -

نا عبد الله بن محمد: نا شبابة: نا ورقاء، عن عمرو بن دينار، عن

مجاهدٍ، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد)) .

وقد سبق من وجه أخر عن ابن عمر – بنحوه.

الحديث الخامس:

900 -

ص: 151

نا يوسف بن موسى: نا أبو اسأمة: نا عبيد الله بن عمر، عن نافعٍ، عن ابن عمر، قال: كانت امرأةٌ لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد، فقيل لها: لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟ قالت: فما يمنعه أن

ينهاني؟ قالَ: يمنعه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله عز وجل) .

ومراده بهذين الحديثين في هذا الباب: أن إلاذن في خروج النساء إلى المساجد إنما كانَ بالليل خاصةً، وحديث عمر يبين انهن إنما كن يخرجن كذلك، وقد سبق ذكر ذَلِكَ في ((باب: خروج النساء إلى المساجد في الليل والغلس)) .

وحينئذ؛ فلا تكون الجمعة مما اذن لهن في الخروج اليها؛ لانها منصلاة النهار، لا من صلوات الليل، وإنما أمر بالغسلٌ من يجيء إلى الجمعة، كما في حديث ابن عمر المتقدم،

ص: 151

فيدل ذلك على أن المرأة ليست مأمورة بالغسلٌ للجمعة، حيث لم يكن مأذونا لها بالخروج إلى الجمعة.

وقد رود لفظٌ صريحٌ بالغسل للنساء يوم الجمعة.

خرَّجه ابن حبان في ((صحيحه)) من طريق عثمان بن واقد العمري، عن نافعٍ، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل)) .

وخرَّجه بلفظٍ أخر، وهو:((الغسل يوم الجمعة على كل حالم من الرجال، وعلى كل بالغٍ من النساء)) .

وخرَّجه البزار في ((مسنده)) باللفظ الأول.

وقال: أحسب عثمان بن واقدٍ وهم في هذا اللفظ.

وعثمان بن واقدٍ هذا، وثقه ابن معين، وقال أحمد والدارقطني: لا بأس به.

قال أبو داود: هو ضعيفٌ، حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل)) لا نعلم أن أحداً قال هذا غيره.

يعني: أنه لم يتابع عليه، وأنه منكرٌ لا يحتمل منه تفردا به.

ص: 152

‌14 - باب

الرخصة إن لم يحضر الجمعة في المطر

ص: 153

901 -

حدثنا مسددٌ: نا إسماعيل: أخبرني عبد الحميد –صاحب الزيادي -: نا عبد الله بن الحارث –ابن عم محمد بن سيرين -: قال ابن عباس لمؤذنه يوماً مطيراً: اذا قلت: ((أشهد أن محمداً رسول الله)) فلا تقل: ((حي على الصلاة)) ، قل:((صلوا في بيوتكم)) ، فكان الناس استنكروا، فقال: فعله من هو خيرٌ مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم، فتمشون في الطين والدحض.

قد سبق هذا الحديث في موضعين: في ((باب: الكلام في الأذان)) ، وفي ((أبواب الجماعة)) في ((باب: هل يصلي لمن حضر، وهل يخطب يوم الجمعة في المطر)) .

وفي هذه الرواية: زيادةٌ، وهي قوله:((إن الجمعة عزمةٌ)) ، ولم يذكر فيما تقدم لفظ الجمعة.

وقد قال الإسماعيلي في ((صحيحه)) : هذه

ص: 153

اللفظة ما إخالها صحيحةً، فإن في هذا الحديث بيان أن العزمة قوله:((حي على الصلاة)) فكأن الدعاء إليها يوجب على السامع الإجابة، ولا أدري هذا في الجمعة أو غيرها، فلو كان المعنى: الجمعة عزمةٌ، لكانت العزمة لا تزول بترك بقية الأذان، لأن الجمعة قائمة، وإن لم يدع إليها الناس، والعزمة –إن شاء الله – هي الدعاء إلى الصلاة. والله أعلم. انتهى ما ذكره.

ولكن ذكر الخطبة يشهد لأنه كان في يوم جمعة.

وقد ورد التصريح بان ذلك كان يوم جمعةٍ في رواياتٍ أخر:

فخرج مسلمٌ ذكر الجمعة في هذا الحديث، من طريق شعبة، عن عبد الحميد.

قال البيهقي: ورواه –أيضاً - معمر، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن الحارث. وذكره –أيضاً - وهيبً، عن أيوب، عن عبد الله بن الحارث.

والظاهر: أن المراد: أن الجمعة فرض عينٍ حتمٌ، لا رخصة لأحدٍ في تركه، إلا بإذن الإمام للناس في التخلف في الأذان؛ فإن الأذان الذي بين يدي الإمام هوَ الموجب للسعي إليها على الناس، فلذلك احتاج أن يرخص

ص: 154

للناس فيهِ في التخلف.

وقد ذكرنا فيما تقدم، عن أحمد، أنَّهُ قالَ: إذا قالَ المؤذن في أذانه: ((صلوا في الرحال)) فلك أن تتخلف، وإن لم يقل، فقد وجب عليك أذاً قالَ:((حي على الصَّلاة، حي على الفلاح)) .

ولم يفرق بين جمعةٍ وغيرها.

وسبق ذكر حكم التخلف عن حضور الجمعة للمطر والوحل بما فيهِ كفاية. والله أعلم.

* * *

15 -

ص: 155

باب

من أين تؤتى الجمعة، وعلى من تجبُ؟

لقول الله عز وجل: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] .

وقال عطاء: إذا كنت في قرية جامعةٍ، فنودي بالصلاة من يوم الجمعة، فحقٌ عليك أن تشهدها، سمعت النداء أو لم تسمعه.

وكان أنس بن مالكٍ في قصره، أحيانا يجمع، وأحياناً لا يجمع، وهو بالزاوية على فرسخين.

تضمن هذا الذي ذكره مسألتين:

إحدهما:

أن من هو في قرية تقام فيها الجمعة، فإنه إذا نودي فيها بالصلاة للجمعة وجب عليه السعي إلى الجمعة، وشهودها، سواء سمع النداء أو لم يسمعه، وقد حكاه عن

عطاء.

وهذا الذي فيالقرية، إن كان من أهلها المستوطنين بها، فلا خلاف في لزوم السعي إلى الجمعة له، وسواءُ سمع النداء أو لم يسمع، وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد، ونقل بعضهم الاتفاق عليه.

وإن كان من غير أهلها، فإن كان مسافراً يباح له القصر، فأكثر العلماء على أنه لا يلزمه الجمعة مع أهل القرية، وقد ذكرنا فيما تقدم أن المسافر لا جمعةٍ عليه.

ص: 156

وحكي عن الزهري والنخعي، أنه يلزمه تبعاً لأهل القرية.

وروي عن عطاءٍ - أيضاً -، أنه يلزمه.

وكذا قال الأوزاعي: أن أدركه الأذان قبل أن يرتحل فليجب.

وإن كان المسافر قد نوى إقامة بالقرية تمنعه من قصر الصلاة، فهل يلزمه الجمعة؟ وفيه وجهان لأصحابنا.

وأوجب عليه الجمعة في هذه الحال: مالكٌ وأبو حنيفة، ولم يوجبها عليه الشافعي وأصحابه.

المسألة الثانية:

أن من كان خارج القرية أو المصر الذي تقام فيه الجمعة، هل تلزمه الجمعة مع أهل القرية أو المصر، أم لا؟ هذا مما اختلف فيه العلماء:

فقالت طائفةٌ: لا تلزم من كان خارج المصر أو القرية الجمعة مع أهله بحالٍ، إذا كان بينهم وبين المصر فرجة، ولو كانوا من ربض المصر.

وهذا قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه، الحاقاً لهم بأهل القرى، فإن الجمعة لا تقام عندهم في القرى.

وقال أكثر أهل العلم: تلزمهم الجمعة مع أهل المصر أو القرية، مع القرب دون البعد.

ثم اختلفوا في حد ذلك:

ص: 157

فقالت طائفةٌ: المعتبر: إمكان سماع النداء، فمن كان مو موضع الجمعة بحيث يمكنه سماع النداء لزمه، وإلا فلا. هذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق.

واستدلوا: بظاهر قول الله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] .

وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وعمرو بن شعيب.

وروي عن أبي أمامة الباهلي –معناه.

وخَّرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم:

((الجمعة على من سمع النداء)) .

وروي موقوفاً، وهو أشبه.

وروى إسماعيل، عن عبد العزيز بن عبد الله، عن محمد بن عمرو بن عطاءٍ، عن عبيد الله بن كعب بن مالكٍ، عن أبيه –يرفعه -، قال: ((

ص: 158

لينتهين أقوامٌ يسمعون النداء يوم الجمعة، ثم لا يشهدونها، أو ليطبعن الله على قلوبهم، وليكونن من الغافلين، أو ليكونن من أهل النار)) .

عبد العزيز هذا، شامي تكلموا فيه.

وقالت طائفةٌ: تجب الجمعة على من بينه وبين الجمعة فرسخٌ، وهو ثلاثة أميالٍ، وهوقول ابن المسيب والليث ومالكٍ ومحمد بن الحسن، وهو رواية عن أحمد.

ومن أصحابنا من قال: لا فرق بين هذا القول والذي قبله، لأن الفرسخ هو منتهى ما يسمع فيه النداء – غالباً -، فإن أحمد قال: الجمعة على من سمع النداء، والنداء يسمع من فرسخٌ، وكذلك راواه جماعة عن مالكٍ، فيكون هذا القول والذي قبله

واحدا.

وخرّج الخلال من رواية مندل، عن ابن جريج، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عسى أحدكم أن يتخذ الصبة على رأس ميلين أو ثلاثة، تأتي عليه الجمعة لا يشهدها، ثم تأتي

ص: 159

الجمعة لا يشهدها –ثلاثاً -، فيطبع على قلبه)) .

مندل، فيه ضعف.

وخرّج الطبراني نحوه من حديث ابن عمر – مرفوعاً.

وفي إسناده: إبراهيم بن يزيد الخوزي، وهو ضعيف.

وروى معدي بن سليمان، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي

صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين، فيتعذر عليه الكلا، فيرتفع، ثم تجئ الجمعة، فلا يجيء ولا يشهدها، وتجيء الجمعة، فلا يشهدها، وتجيء الجمعة، فلا يشهدها حتى يطبع على قلبه)) .

خرّجه ابن ماجه.

وخرّجه أبو بكر النحاد وابن عبد البر، وفي روايتيهما:((ميلين أو ثلاثة)) .

ومعدي هذا، تكلم فيه أبو زرعة غيره، وقال أبو حاتم: شيخ.

ص: 160

وقالت طائفةٌ: تجب الجمعة على من بينه وبينها أربعة أميالٍ؟، وروي عن ابن المنكدر والزهري وعكرمة وربيعة.

وروي عن الزهري –أيضاً - تحديده بستة أميالٍ، وهي فرسخان.

وروي عن أبي هريرة، قال: تؤتى الجمعة من فرسخين.

خرّجه ابن أبي شيبة بإسناد ضعيف.

وروى عبد الرزاق بإسناد منقطع، عن معاذ، أنه كان يقوم على منبره، فيقول لقوم بينهم وبين دمشق أربع فراسخ وخمس فراسخ: إن الجمعة لزمتكم، وأن لا جمعةٍ الا معنا.

وبإسناد منقطع، عن معاوية، أنه كان يامر بشهود الجمعة من بينه وبين دمشق أربعة عشر ميلاً.

وقال بقية: عن محمد بن زياد: أدركت الناس بحمص تبعث الخيل نهار الخميس إلى جوسية وحماة والرستن يجلبون الناس إلى الجمعة، ولم يكن يجمع إلا بحمص.

وعن عطاءٍ، أنه سئل: من كم تؤتى الجمعة؟ قال: من سبعة أميالٍ.

وعنه، قال: يقال: من عشرة أميالٍ إلى بريد.

ص: 161

وعن النخعي، قال: تؤتى الجمعة من فرسخين.

وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أنه أمر أهل قباء، وأهل ذي الحليفة، وأهل القرى الصغار حوله: لا يجمعوا، وأن يشهدوا الجمعة بالمدينة.

وعن ربيعة - أيضاً -، أنه قال: تجب الجمعة على من إذا نودي بصلاة الجمعة خرج من بيته ماشياً أدرك الجمعة.

وقالت طائفةٌ: تجب الجمعة على من آواه الليل إلى منزله.

قال ابن المنذر: روي ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة وأنس والحسن ونافع مولى ابن عمر، وكذلك قال عكرمة والحكم وعطاء والأوزاعي وأبو ثور. انتهى.

وهو قول أبي خيثمة زهر بن حرب وسليمان بن داود الهاشمي.

وحكى إسماعيل بن سعيد الشالنجي، عن أحمد نحوه، واختاره الجوزاني.

ص: 162

وفيه حديث مرفوع، من حديث أبي هريرة.

وقد ذكره الترمذي، وبين ضعف إسناده، وأن أحمد أنكره أشد الإنكار.

وفيه - أيضاً -، عن عائشة، وإسناده ضعيف.

وفيه –أيضاً - من مراسيل أبي قلابة، وفي إسناده ضعف.

وقالت طائفةٌ: تؤتى الجمعة من فرسخين، قاله النخعي وإسحاق -:

ص: 163

نقله عنه حرب.

لكنهما لم يصرحا بوجوب ذلك، وقد تقدم نحوه عن غير واحد.

وخرّج حرب من طريق ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، أنه كان يجمع من الزاوية، وهي فرسخان.

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن ثابت، عن أنس، أنه كان يكون بينه وبين البصرة ثلاثة أميالٍ، فيشهد الجمعة بالبصرة.

وقد ذكر البخاري، عنه، أنه كان أحياناً لا يجمع.

وكذلك روي عن أبي هريرة، أنه كان بالشجرة –وهي ذو الحليفة -، فكان أحياناً يجمع، وأحياناً لا يجمع.

وقد روي عنه الأمران جميعاً.

وكذلك سعد بن أبي وقاص، كان في قصره بالعقيق، فكأن أحياناً يجمع، وأحياناً لا يجمع، وكان بينه وبين المدينة سبعة أميالٍ أو ثمانية.

وكذلك روي عن عائشة بنت سعد، أن أباها كان يفعل.

ص: 164

قال البخاري:

902 -

ص: 165

نا أحمد: نا عبد الله بن وهبٍ: أخبرني عمرو بن الحارث، عن عبيد الله بن أبي جعفر، أن محمد بن جعفرٍ بن الزبير حدثه، عن عروة بن الزبير، عن عائشة –زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم والعوالي، فياتون في الغبار، يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى إنسان منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عندي -، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا)) .

((أحمد)) هذا، قد سبق الاختلاف فيه: هل هو ابن أخي ابن وهبٍ، أو ابن صالح، أو ابن عيسى التستري؟

ص: 165

وذكر أبو نعيم في ((مستخرجه)) : أنه ابن عبد الله.

كذا قال، ولم يبين من هو؟

وفي أكثر النسخ: ((فيأتون في الغبار)) ، وفي بعضها:((في العباء)) ، وهو الأشبه.

وفي النسخ: ((فيخرج منهم العرق)) ، وفي ((صحيح مسلم)) :((فيخرج منهم الريح)) .

وفيه - أيضاً -: ((العباء)) .

وهذا من أوضح الأدلة على أن غسل الجمعة ليس بواجب، حتى ولا على من له ريح تخرج منه، وإنما يؤمر به ندباً واستحباباً، لقوله: ((لو أنكم تطهرتم ليومكم

هذا)) .

ومقصود البخاري من هذا الحديث: أن أهل العوالي كانوا يشهدون الجمعة مع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم،

ص: 166

وليس في هذا ما يدل على وجوب الجمعة على من كانَ خارج المصر، فإنه ليس فيهِ أمر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لهم بشهود الجمعة.

وكذا، ما خرّجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر، قالَ: إن أهل قباء كانوا يجمعون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لكن قد روي عنه، أنه أمرهم بذلك.

خرّجه الترمذي من رواية إسرائيل، عن ثوبر –هوَ: ابن أبي فاختة -، عن رجل من أهل قباء، عن أبيه – وكان من أصحاب النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قالَ: أمرنا النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أن نشهد الجمعة من قباء.

وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

قالَ: ولا يصح في هذا الباب شيء. انتهى؟

وثوير، ضعيف الحديث: وشيخه مجهول.

وقد خرّجه وكيع في ((كتابه)) عن إسرائيل، به، ولفظه: كنا نجمع من قباء - ولم يذكر: أمرهم بذلك.

وقال الزهري: كانوا يشهدون الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة.

خرّجه ابن أبي شيبة وغيره.

ص: 167

ومراسيل الزهري ضعيفة.

وقد ذكر الإمام أحمد أن بين ذي الحليفة والمدينة فرسخين، وقال: كانوا يتطوعون بذلك من غير أن يجب عليهم.

ويشهد لقوله: أن أبا هريرةكان بذي الحليفة، وكان أحياناً ياتي الجمعة، وأحياناً لا يأتيها.

وكذلك ذكر عمرو بن شعيب، أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكون بالرهط، فلا يشهد الجمعة مع الناس بالطائف، وانما بينه وبين الطائف أربعة أميالٍ أو ثلاثة.

خرّجه عبد الرزاق.

وروى عطاءٍ بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أنه كان يشهد الجمعة بالطائف من الرهط.

وهذا يدل على أنه كان يشهدها أحياناً، ويتركها أحياناً، كما فعل غيره من الصحابة – رضي الله عنهم.

* * *

16 -

ص: 168

باب

وقت الجمعة إذا زالت الشمس

وكذلك يروى عن عمر، وعلي، والنعمان بن بشيرٍ، وعمرو بن حريثٍ.

اما المروي عن عمر: فروى مالكٌ في ((الموطإ)) ، عن عنه أبي سهيل، عن أبيه، قال: كنت ارى طنفسةً لعقيل بن أبي طالبٍ يوم الجمعة تطرح إلى جدار المسجد الغربي، فاذا غشي الطنفسة كلها ظل الجدار خَّرج عمر بن الخطاب فصلى الجمعة. قال: ثم نرجع بعد الجمعة فنقبل قائلة الضحى.

وأما المروي عن عليّ: فمن طريق إسماعيل بن سميع، عن أبي رزينٍ، قال: صليت خلف علي بن أبي طالب الجمعة حين زالت الشمس.

وأما المروي عن النعمان بن بشيرٍ وعمرو بن حريثٍ: فخرجه ابن أبي شيبة من طريق سماكٍ، قال: كان النعمان بن بشيرٍ يصلي بنا الجمعة

ص: 169

بعدما تزول الشمس.

ومن طريق الوليد بن العيزار، قال: ما رأيت إماماً كان أحسن صلاةً للجمعة من عمرو بن حريث، وكان يصليها إذا زالت الشمس.

وقد روي هذا - أيضاً - عن معاذ بن جبل، لكن من وجهٍ منقطعٍ.

وهو قول أكثر الفقهاء، منهم: الحسن، والنخعي، والثوري، وأبو حنيفة، ومالكٌ، والشافعي.

وذهب كثير من العلماء إلى أنه يجوز إقامتها قبل الزوال، وسنذكر ذلك فيما بعد – أن شاء الله تعالى.

خَّرج البخاري في ها الباب ثلاثة احاديث:

الحديث الأول:

903 -

ص: 170

ثنا عبدان: أنا عبد الله –هو: ابن المبارك -: أنا يحيى بن سعيد؟ أنه سأل عمرة عن الغسل يوم الجمعة، فقالت: قالت عائشة: كان الناس مهنة أنفسهم، وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم، فقيل لهم:((لو اغتسلتم)) .

هذا مما يستدل به على أن الغسل للجمعة غير واجبٍ، كما سبق.

والمراد بالمهنة: الخدمة، وقضاء الحوائج والأشغال، وذلك يوجب

ص: 170

الوسخ والشعث.

ووجه احتجاج البخاري به في هذا الباب: أن فيه ذكر رواح الناس إلى الجمعة، والرواح إنما يكون بعد الزوال، فدل على أن الجمعة إنما كانت تقام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد الزوال.

وقد يقال: ذكر الرواح في هذا الحديث كذكر الرواح في قوله: ((من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنةً)) – الحديث، ولم يحمله أكثر العلماء على ما بعد

الزوال، كما سبق، فالقول في هذا كالقول في ذاك.

الحديث الثاني:

904 -

ص: 171

نا سريج بن النعمان: ثنا فليح بن سليمان، عن عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، عن أنس بن مالكٍ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس.

ومعنى ((تميل)) : أي تزول عن كبد السماء، بعد استوائها في قائم الظهيرة.

وهذا يدل على انهذه كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم الغالبة، ولا يدل على أنه لم يكن يخل بذلك.

وقد قال أنسٌ: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعةٌ.

وقالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس في حجرتي.

وقال أبو برزة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الهجير

ص: 171

حين تدحض الشمس - الحدث

بطوله.

وإنما أرادوا: أن ذلك كان الغالب عليه، وإلا فقد يؤخرها عن ذلك أحياناً، كما أخرها لما سأله السائل عن مواقيت الصلاة، وأخرها يوم الخندق، وغير ذلك.

الحديث الثالث:

905 -

ص: 172

ثنا عبدان: أنا عبد الله: أنا حميد، عن أنس: قال: كنا نبكر بالجمعة، ونقيل بعد الجمعة.

هذا ما يستدل به من يقول بجواز إقامة الجمعة قبل الزوال، لأن التبكير والقائلة لايكون إلا قبل الزوال. وقد تقدم إنهم كانوا في عهد عمر يصلون معه الجمعة، ثم يرجعون فيقيلون قائلة الضحى، وهذا يدل على أن وقت الضحى كان باقياً.

وكل ما استدل به من قال: تمنع إقامة الجمعة قبل الزوال ليس نصاً صريحاً في

قوله، وإنما يدل على جواز إقامة الجمعة بعد الزوال أو على استحبابه، إما منع إقامتها قبله فلا، فالقائل بأقامتها قبل الزوال يقول بجميع الأدلة، ويجمع بينها كلها، ولا يرد منها شيئاً.

فروى جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، عن عبد الله بن سيدان، قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر الصديق، فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر، فكانت صلاته وخطبته إلى أن نقول: انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان، فكانت صلاته وخطبته إلى أن نقول: مال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره.

ص: 172

خرّجه وكيع في ((كتابه)) عن جعفر، به.

وخرّجه عنه ابن أبي شيبة في ((كتابه)) .

وخرّجه عبد الرزاق في ((كتابه)) عن معمر، عن جعفر، به.

وخرّجه الأثرم والدارقطني.

ورواه الإمام أحمد –في رواية ابنه عبد الله -، عن وكيع، عن جعفر، واستدل

به.

وهذا إسنادٌ جيدٌ:

وجعفر: حديثه من غير الزهري حجةٌ يحتج به -: قاله الإمام أحمد والدارقطني وغيرهما.

وثابت بن الحجاج: جزري تابعيٌ معروفٌ، لا نعلم أحداً تكلم فيه، وقد خَّرج له أبو داود.

وعبد الله بن سيدان السلمي المطرودي، قيل: إنه من الربذة، وقيل: إنه

جزريٌ، يروي عن أبي بكر وحذيفة وأبي ذر، وثقه العجلي، وذكره ابن سعدٍ في

((طبقة الصحابة)) ممن نزل الشام، وقال: ذكروا أنه رأى النبي

صلى الله عليه وسلم.

وقال القشيري في ((تاريخ الرقة)) : ذكروا أنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما البخاري، فقال: لا يتابع على حديثه – كأنه يشير إلى حديثه هذا.

وقول ابن المنذر: إن هذا الحديث لا يثبت. هو متابعة لقول

ص: 173

البخاري، وأحمد أعرف الرجال من كل من تكلم في هذا الحديث، وقد استدل به وأعتمد عليه.

وقد عضد هذا الحديث: أنه قد صح من غير وجه أن القائلة في زمن عمر وعثمان كانت بعد صلاة الجمعة، وصح عن عثمان أنه صلى الجمعة بالمدينة وصلى العصر بمللٍ. خرّجه مالك في ((الموطإ)) ، وبين المدينة ومللٍ اثنان وعشرون ميلاً، وقيل: ثمانية عشر ميلاً، ويبعد أن يلحق هذا السائر بعد زوال الشمس.

وروى شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: صلى بنا عبد الله بن مسعود الجمعة ضحى: وقال: خشيت عليكم الحر.

وروى الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن سويد، قال صلى بنا معاوية الجمعة ضحى.

وروى إسماعيل بن سميع، عن بلالٍ العبسي، أن عماراً صلى للناس الجمعة، والناس فريقان، بعضهم يقول: زالت الشمس، وبعضهم يقول: لم تزل.

خرّج ذلك كله ابن أبي شيبة.

ص: 174

وخرّج –أيضاً - من طريق الأعمش، عن مجاهد، قال: ما كان للناس عيدٌ إلا أول النهار.

ومن طريق يزيد بن أبي زياد، عن عطاءٍ، قال: كان من كان قبلكم يصلون الجمعة وإن ظل الكعبة كما هو.

وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، قال: كل عيد حين يمتد الضحى: الجمعة، والأضحى، والفطر، كذلك بلغنا.

وروى وكيع في ((كتابه)) عن جعفر بن برقان، عن حبيب بن أبي مرزوق، عن عطاءٍ، قال: كل عيد في صدر النهار.

وعن شعبة، عن الحكم، عن حماد، قال: كل عيد قبل نصف النهار.

وروى أبو سعدٍ البقال، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعودٍ، قال: ما كان عيدٌ قط إلا في صدر النهار، ولقد رأيتنا وأنا لجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل الخطبة.

أبو سعدٍ، فيه ضعفٌ.

ص: 175

وحكى الماوردي في كتابه ((الحاوي)) عن ابن عباسٍ، أنه يجوز صلاة الجمعة قبل الزوال.

وهو مذهب أحمد وإسحاق -: نقله عنهما ابن منصورٍ، وهو مشهورٌ عن أحمد، حتى نقل أنه لا يختلف قوله في جواز إقامة الجمعة قبل الزوال، كذا قاله غير واحد من أصحابه، ومنهم: ابن شاقلا وغيره.

وقد روى حنبل، عن أحمد، قال: صلاة الجمعة تعجل، يؤذن المؤذن قبل أن تزول الشمس، وإلى أن يخطب الإمام، وتقام الصلاة، قد قام قائم الظهيرة، ووجبت الصلاة، ويقال: إن يوم الجمعة صلاةٌ كله لا تحرى فيها الصلاة، وكان أصحاب

رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرون بصلاة الجمعة، إلا أنه لا ينبغي أن تصلى حتى تزول الشمس لأول الوقت، هذه السنة التي لم يزل الناس يعملون عليها بالمدينة والحجازٍ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على ذلك.

وظاهر هذه الرواية: أنه إنما يقدم على الزوال الأذان والخطبة خاصة، وظاهرها: أنه يجوز الصلاة في وقت الزوال يوم الجمعة خاصةً.

وقال صالح بن أحمد: سألت أبي عن وقت الجمعة؟ فقالَ: إذا زالت الشمس.

ونقل صالح - أيضاً -، عن أبيه - في موضع أخر -، أنه قال: إن فعل ذلك قبل الزوال فلا أعيبه، فأما بعده فليس فيه شكٌ.

ونحوه نقل ابن منصورٍ، عن أحمد وإسحاق.

ونقل أبو طالب، عنه، قال: ما ينبغي أن يصلي قبل الزوال، وقد صلى ابن مسعودٍ.

ص: 176

ونقل عنه جماعة ما يقتضي التوقف.

ونقل عنه عبد الله، أنه قال: لا بأس أن يصلي قبل الزوال، قد صلى ابن

مسعود.

وقد نقل عنه ابن القاسم، قال: وقت الجمعة قبل الزوال وبعد الزوال، أي ذلك فعل جاز.

ونقل عنه أحمد بن الحسن الترمذي، أنه قال: على ما جاء من فعل أبي بكر وعمر: لا أرى به بأسا، لأنها عيد، والأعياد كلها في أول النهار.

وكذا نقل عبد الله، عن أبيه، قال: يجوز أن تصلى الجمعة قبل الزوال، يذهب إلى أنها كصلاة العيد.

قال أبو بكر: وعلى هذا استقرت الروايات عنه، وعليه العمل.

واختلف أصحابنا في الوقت الذي يجوز فعلها فيه:

فقال الخرقي: في الساعة السادسة –وفي بعض النسخ: الخامسة.

وقال القاضي وكثير من أصحابه: يجوز فعلها في وقت جواز صلاة العيد، وهو إذا ارتفعت الشمس بعد طلوعها، وزال وقت النهي.

وهو ظاهررواية عبد الله، عن أبيه.

ومن أصحابنا من ثال: يجوز فعلها من وقت طلوع الفجر يوم الجمعة، إذا دخل وقت الفجر، حكاه ابن عقيل في ((مفرداته)) و ((عمد الأدلة)) .

ص: 177

وهذا القول غلوٌ من قائله، وكيف يجوز إقامة الجمعة في وقت صلاة الفجر؟! وهل فعل هذا أحدٌ سلفاً أو خلفاً؟! وإذا كانت صلاة لا تفعل قبل طلوع الشمس، ووقتها قبل الزوال دون ما بعده، فكيف تصلي الجمعة قبل طلوع الشمس، وإنما جاز تقديمها على الزوال إلحاقاً لها بالعيد، وتشبيهاً لها بها.

وبكل حالٍ؛ فلا يجب فعلها إلا بعد الزوال، على الصحيح من المذهب. وعليه جمهور الأصحاب.

وإنما يجوز تقديمها قبله وتعجيلها كما تعجل الصلاة المجموعة؛ فإن صلاة الجمعة سببها: اليوم؛ ولهذا تضاف إليه، فيقال: صلاة الجمعة، وشرطها:

الزوال، فيجوز تقديمها على شرطها بعد وجود سببها، وهو اليوم، كما يجوز تعجيل الزكاة بعد كمال النصاب، وهو سبب الوجوب، وقيل: الحول، وهوشرطه.

وهذا هو الذي تخيله من قال من الأصحاب: يجوز فعلها في وقت صلاة الفجر، لكن الصحيح: أنه غير جائز، ما دام وقت الفجر باقياً؛ لئلا يتداخل وقت الصلاتين، فإذا خرج وقت صلاة الفجر، وزال وقت النهي، ودخل وقت صلاة العيد والضحى جاز تقديم صلاة الجمعة حينئذٍ.

ومع هذا، فلا تصلى في حال استواء الشمس في السماء، ويجوز قبله، نص عليه أحمد، وقال: ما يعجبني، وأتوقاه في صلاتها في قائم الظهيرة، مع قوله: يجوز صلاتها قبل الزوال.

ص: 178

وأما آخر وقت الجمعة: فهو آخر وقت الظهر، هذا هو قول جمهور العلماء، وهو قول أبي حنيفة، والثوري، والحسن بن حي، ومالك - في رواية -، والشافعي، وأحمد، وعبد العزيز بن الماجشون.

واتفقوا: على أنه متى خَّرج وقت الظهر، ولم يصل الجمعة فقد فاتت ويصلي الظهر.

وأما أن صلى الجمعة، ثم خَّرج الوقت وهم في الصلاة، فقال أبو حنيفة والشافعي: تبطل الصلاة، إلا أن يخرج قبل السلام –على رأي أبي حنيفة وحده.

والمنصوص عن أحمد: أنه أن خَّرج الوقت وهم في التشهد أتموا الجمعة.

واعتبر الخرقي من أصحابنا أن يكون قد أدرك في الوقت ركعة فصاعدا، فإن خرج الوقت قبل إدراك ركعةٍ صلوا ظهراً.

وحكي رواية عن مالكٍ كذلك.

ومن أصحابنا من قال: تلحق الجمعة بتكبيرة الإحرام في الوقت كسائر

الصلوات.

ونقل ابن القاسم، عن مالكٍ، أن آخر وقتها: غروب الشمس.

قال ابن القاسم: من صلى من الجمعة ركعةً، ثم غربت الشمس صلى الركعة الثانية بعد غروب الشمس، وكانت جمعةً.

والعجب ممن ينصر هذا القول، ويحتج له، مع أنه لا يعرف العمل به إلاّ عن ظلمة بني أمية واعوانهم، وهو مما ابتدعوه في الإسلام، ثم ينكر على من قدم الجمعة على الزوال متابعة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكثيرٍ من التابعين لهم بإحسان!

فإن قيل: فقد كان الصحابة يصلون مع من يؤخر الجمعة إلى بعد

ص: 179

العصر، والى قريب من غروب الشمس؟

قيل: كانوا يصلون الظهر والعصر في بيوتهم قبل مجيئهم، ثم يجيئون إتقاء شر الظلمة، كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ومنهم من كان يومئ بالصلاة، وهو جالسٌ في المسجد إذا خاف فوت الوقت.

وسنذكر ذلك في الباب الآتي – أن شاء الله تعالى.

* * *

17 -

ص: 180

بابٌ

إذا اشتد الحر يوم الجمعة

ص: 181

906 -

حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي: ثنا حرمي بن عمارةً: ثناابو خلدة –هو: خالد بن دينار -، قال: سمعت أنس بن مالكٍ يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا أشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا أشتد الحر أبرد بالصلاة –يعني: الجمعة.

وقال يونس بن بكير: أنا أبو خلدة، وقال:((بالصلاة)) ، ولم يذكر:

((الجمعة)) .

وقال بشر بن ثابت: ثنا أبو خلدة: صلى بنا أمير المؤمنين الجمعة، ثم قال لأنسٍ: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر؟

خرّج الإسماعيلي في ((صحيحه)) –وهو ((المستخرج على صحيح البخاري)) –من طريق هارون بن عبد الله، عن حرمي بن عمارة: حدثني أبو خلدة، قالَ: سمعت أنس بن مالكٍ –وناداه يزيد الضبي: يا أبا حمزة، قد شهدت الصَّلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدت الصَّلاة معنا، فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة؟ - فقال: كان إذا أشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا أشتد الحر أبرد بالصلاة.

وخرّجه –أيضاً - من رواية محمد بن المثنى، عن حرمي، ولم يذكر في حديثه:

((الجمعة)) .

وخرّج –أيضاً - رواية يونس بن بكير التي علقها البخاري، ولفظ

ص: 181

حديثه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد بكر بها –يعني: الظهر.

وخرّج - أيضاً - حديث بشر بن ثابت الذي علقه البخاري - أيضاً -، ولفظ حديثه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الشتاء يبكر بالظهر، وإذا كان الصيف أبرد بها، ولكن يصلي العصر والشمس بيضاء.

وخرّجه البيهقي من رواية بشر بن ثابت – بهذا المعنى.

وخرّج - أيضاً - رواية يونس بن بكيرٍ: ثنا أبو خلدة: سمعت أنس بن مالكٍ – وهو جالسٌ مع الحكم أمير البصرة على السرير – يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد بكر بالصلاة.

وروى هذا الحديث – أيضاً – خالد بن الحارث: ثنا أبو خلدة، أن الحكم ابن أيوب أخر الجمعة يوماً، فتكلم يزيد الضبي. وقال: دخلنا الدار وأنس معه على السرير، فقال له يزيد: يا أبا حمزة، قد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وحضرت صلاتنا، فأين صلاتنا من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إذا كان الحر برد بالصلاة، وإذا كان البرد يبكر بالصلاة، ولم يسمعه، ولكنه قد شهد الأمر.

خرّجه النسائي في ((كتاب الجمعة)) .

ص: 182

وهذه الرواية تخالف رواية البخاري التي فيها التصريح بالسماع.

وقد رواه سهل بن حمادٍ، عن أبي خلدة، قال: بينا الحكم بن أيوب يخطب في البصرة إذ قام يزيد الضبي، فناداه، فقال: أيها الأمير: إنك لا تملك الشمس، فقال: خذاه، فأخذ، فلما قضى الصلاة أدخل عليه، ودخل الناس، وثم أنس بن مالكٍ، فأقبل على أنس، فقال: كيف كنتم تصلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبرد بالصلاة في الحر، ويبكر بها في الشتاء.

خرّجه المروزي في ((كتاب الجمعة)) .

فقد تبين بهذه الروايات أن سبب سؤال أنس إنما كان تأخير الحكم بن أيوب.

وقضية يزيد الضبي مع الحكم بن أيوب في إنكاره عليه تأخير الجمعة وهو يخطب معروفة، وكان أنس بن مالكٍ حاضراً.

وقد خرّجها بتمامها ابن أبي الدنيا في ((كتاب الأمر بالمعروف)) من رواية جعفر بن سليمان: حدثني المعلى بن زياد، قال: حدثني يزيد الضبي، قال: أتيت الحسن ثلاث مراتٍ، فقلت: يا أبا سعيدٍ، غلبنا على كل شيء، وعلى صلاتنا نغلب؟! فقال الحسن: إنك لن تصنع شيئاً، إنما تعرض نفسك لهم.

قال: فقمت والحكم بن أيوب ابن عم الحجاج يخطب، فقلت: الصلاة يرحمك الله، قال: فجاءتني الزبانية، فسعوا الي من كل جانب، فأخذوا بلبتي، وأخذوا بلحيتي ويدي وكل شيء، وجعلوا يضربوني بنعالهم وسيوفهم، قال: وسكت الحكم بن

أيوب، وكدت أن أقتل دونه، ففتح باب المقصورة، فادخلت عليه، فقال: أمجنونٌ أنت؟!

ص: 183

قلت: ما بي من جنون، قالَ: أوما كنا في صلاة؟ قلت: أصلحك الله، هل من كلام أفضل من كتاب الله؟ قال: لا، قلت: لو أن رجلاً نشر مصحفه فقرأه غدوة حتى يمسي، ولا يصلي فيما بين ذلك، كان ذلك قاضياً عنه صلاته؟ قال الحكم: إني لأحسبك مجنوناً: قال: وأنس بن مالكٍ جالس قريباً من المنبر، على وجههٌ خرقة

خضراء، فقلت: يا أبا حمزة، أذكرك الله، فانك صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وخدمته، أحقٌ أقول أم باطلٌ؟ قال: فو الله ما أجابني بكلمةٍ، فقال له الحكم: يا أنس، قال: لبيك، أصلحك الله – قال: وقد كان فات ميقات الصلاة – قال: يقول له أنس: قد كان بقي من الشمس بقيةٌ؟ فقال: احبساه. قال: فحبست، فشهدوا أني مجنونٌ.

قال جعفر: فإنما نجا من القتل بذلك – وذكر بقية القصة.

فقد تبين بهذا السياق أن الصحابة والتابعين كانوا كلهم خائفين من ولاة السوء الظالمين، وإنهم غير قادرين على الإنكار عليهم، وأنه غير نافع بالكلية؛ فإنهم يقتلون من أنكر، ولا يرجعون عن تأخير الصلاة على عوائدهم الفاسدة.

وقد تكلم بعض علماء أهل الشام في زمن الوليد بن عبد الملك في ذلك، وقال: أبعث نبيٌ بعد محمدٍ يعلمكم هذا – أو نحو ذلك؟ فأخذ فأدخل الخضراء، فكان آخر العهد به.

ولهذا لم يستطع أنس أن يجيب يزيد الضبي بشئ حين تكلم يزيد، وإنما قال للحكم لما سأله: قد بقي من الشمس بقيةٌ – يريد: قد بقي من ميقات العصر بقيةٌ -، وهو كما قال لكن وقت الجمعة كان قد فات، ولم

ص: 184

يستطع أن يتكلم بذلك، فلما دخل الحكم داره، وأدخل معه أنساً ويزيد الضبي، فسئل أنس في ذلك الوقت عن وقت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر أنه كان يعجل في البرد، ويبرد في الحر، ومراده –والله أعلم -: صلاة الظهر، وهذا هو الذي امكن أنسا أن يقوله فيذلك الوقت، ولم يمكنه الزيادة على

ذلك.

وأكثر العلماء على أن الجمعة لا يبرد بها بعد الزوال، بل تعجل في أول الوقت، وللشافعية في ذلك وجهان.

وقد كان الصحابة والتابعون مع أولئك الظلمة في جهدٍ جهيدٍ، لا سيما في تأخير الصلاة عن ميقاتها، وكانوا يصلون الجمعة في أخر وقت العصر، فكان أكثر من يجيء إلى الجمعة يصلي الظهر والعصر في بيته، ثم يجيء إلى المسجد تقية لهم، ومنهم من كان إذا ضاق وقت الصلاة وهو في المسجد أومأ بالصلاة خشية القتل.

وكانوا يحلفون من دخل المسجد أنه ما صلى في بيته قبل أن يجيء.

قال إبراهيم بن مهاجرٍ: كنت أنا وسعيد بن جبيرٍ وإبراهيم نصلي الظهر، ثم نجلس فنتحدث والحجاج يخطب يوم الجمعة.

خرّجه أبو نعيمٍ الفضل بن دكين في ((كتاب الصلاة)) .

وخَّرج –أيضاً - بإسناده، عن أبي بكر بن عتبة، قال صليت إلى جنب أبي جحيفة، فتمسى الحجاج بالصلاة، فقام يصلي الجمعة، ثم قام فصلى ركعتين، ثم قال: يا أبا بكر، أشهدك أنها الجمعة.

ص: 185

وهذا غريبٌ، يدل على أنه يصح أن يصلي الرجل الجمعة وحده.

وبإسناده: عن الأعمش، عن إبراهيم وخيثمة، أنهما كانا يصليان الظهر

والعصر، ثم يأتيان الحجاج يوم الجمعة، فيصليان معه.

وعن أبي وائل، أنه كان يأمرهم أن يصلوا في بيوتهم، ثم يأتوا الحجاج فيصلون معه الجمعة.

وعن محمد بن أبي إسماعيل، قال: كنت في مسجد منى، وصحف تقرأ للوليد، فأخروا الصلاة: قال: فنظرت إلى سعيدٍ بن جبير وعطاء يومئان، وهما قاعدان.

وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبة النميري البصري في ((كتاب أدب السلطان)) باباً في تأخير الأمراء الصلاة، خَّرج فيه الأحاديث المرفوعة، والآثار الموقوفة في ذلك، وقد سبق ذكر بعضها في ((أبواب: المواقيت)) .

وروى فيه بإسناده: أن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعودٍ كان يروح إلى المسجد وقد صلى الظهر والعصر، فيجلس فينتظر، فيقول: ماله قاتله الله؟!

يصيح على منبره صياحاً، وقد فاتته العصر، ولم يصل الظهر بعد.

وبإسناده: عن عمرو بن هرم، قال: كان أنس بن مالكٍ يصلي الظهر والعصر في بيته، ثم يأتي الحجاج فيصلي معه الجمعة.

وبإسناده: عن عبد الله بن أبي زكريا، أنه كان يجمع مع الوليد بن عبد الملك ما صلى الوليد في وقت الظهر الجمعة، ويعتد بها جمعةً، فإن أخرها عن وقت الظهر صلى الظهر في آخر وقت الظهر أربعاً إيماءً، ثم

ص: 186

صلى الجمعة معه، وجعلها تطوعا، فإن أخر العصر حتى يخرج وقتها صلاها في آخر وقتها ايماءً.

وبإسناده: عن حصينٍ، قال: كان أبو وائل إذا أخر الحجاج الجمعة استقبل القبلة، يومئ ايماءً: يتناعس.

وبإسناده: عن جريرٍ، قال: شهدت الجمعة مع ابن هبيرة، فأخر الصلاة إلى قريب من العصر، فرأيت الناس يخرجون، فرأيت أبا حنيفة خَّرج، فكأن شيخ يصيح في المسجد: لو كان الحجاج ما خرجوا، وجعل فضيل بن غزوان ويقول: إنهم، إنهم.

وبإسناده: عن ابن سيرين، أنه حضر الجمعة، فأخر الأمير الصلاة، فأدمى

ظفره، ثم قام فخرج، وأخذته السياط حتى خَّرج من المسجد. وعن عطاءٍ بن السائب: قال: رأيت سعيدٍ بن جبير وأبا البختري وأصحابه يومئون يوم الجمعة، والحجاج

يخطب، وهم جلوسٌ.

وعن محمد بن إسماعيل، قال: رأيت سعيد بن جبير وعطاء، وأخر الوليد الجمعة والعصر، فصلاهما جميعاً، قال: فأومئا إيماءً، ثم صليا معه بمنىً.

وبإسناده: عن حميدٍ، أن الوليد بن عبد الملك خَّرج بمنىً بعد العصر، فخطب حتى صارت الشمس على رؤس الجبال، فنزل فصلى الظهر، ثم صلى العصر، ثم صلى المغرب.

ص: 187

وروى بإسنادٍ له: عن سالم، أنه ذكر أن الوليد قدم عليهم المدينة، فما زال يخطب ويقرأ الليث حتى مضى وقت الجمعة، ثم مضى وقت العصر، فقال القاسم بن محمد لسالم: أما قمت فصليت؟ قال: لا. قال: أفما اومأت؟ قال: لا. وقال: خشيت أن يقال: رجل من آل عمر.

وروى بإسناده: عن عمارة بن زاذان: حدثني مكحولٌ، قال: خطب الحجاج بمكة، وأنا إلى جنب ابن عمر، يحبس الناس بالصلاة، فرفع ابن عمر راسه، ونهض، وقال: يا معشر المسلمين، انهضوا إلى صلاتكم، ونهض الناس، ونزلالحجاج، فلما صلى قال: ويحكم، من هذا؟ قالوا: ابن عمر.

قال: أما والله لولا أن به لمماً لعاقبته.

وروى أبو نعيم في ((كتاب الصلاة)) : ثنا زهير، عن جابر –وهو: الجعفي -، عن نافع، قال: كان ابن عمر يصلي خلف الحجاج، فلما اخرهاترك الصلاة معه.

وكان الحسن يأمر بالكف عن الإنكار عليهم، ثم غلبه الأمر فأنكر على الحجاج، وكان سبب اختفائه منه حتى مات الحجاج، والحسن متوار عنه بالبصرة.

وقد روى أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب ((مناقب الحسن)) بإسناد له، أن الحسن شهد الجمعة مع الحجاج، فرقى الحجاج المنبر، فأطال الخطبة حتى دخل في وقت العصر، فقال الحسن: أما من رجل يقول:

ص: 188

الصلاة جامعةٌ؟ فقالَ رجل: يا أبا سعيدٍ، تأمرنا أن نتكلم والإمام يخطب؟ فقال: إنما أمرنا أن ننصت لهم فيما أخذوا من أمر

ديننا، فإذا أخذوا في أمر دنياهم أخذنا في أمر ديننا، قوموا، فقام الحسن وقام الناس لقيام الحسن، فقطع الحجاج خطبته، ونزل فصلى بهم، فطلب الحجاج الحسن فلم يقدر عليه.

وهذا كله مما يدل على اجتماع السلف الصالح على أن تأخير الجمعة إلى دخول وقت العصر حرام لا مساغ له في الإسلام.

ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة صلى الجمعة في أول وقتها على ما كانت عليه السنة.

فروى إسماعيل بن عياش، عن عمرو بن مهاجرٍ، أن عمر بن عبد العزيز كان يصلي الجمعة في أول وقتها حين يفيء الفيء ذراعا ونحوه، وذلك في الساعة السابعة.

وقال ابن عونٍ: كانوا يصلون الجمعة في خلافة عمر بن عبد العزيز والظل هنية.

* * *

18 -

ص: 189

باب

المشي إلى الجمعة

وقول الله عز وجل: {فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ومن قال: السعي العمل والذهاب، لقوله {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا?} [الإسراء:19] .

وقال ابن عباسٍ: يحرم البيع حينئذ.

وقال عطاءٌ: تحرم الصناعات كلها.

وقال إبراهيم بن سعدٍ، عن الزهري: إذا اذن المؤذن يوم الجمعة وهو مسافر، فعليه أن يشهد.

اشتمل كلامه –هاهنا - على مسائل:

إحداها:

المشي إلى الجمعة، وله فضل.

وفي حديث أوس بن أوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((من بكر وابتكر، وغسل واغتسل، ومشى ولم يركب)) . وقد سبق.

وفي حديث اختصام الملأ الأعلى، ((إنهم يختصمون في الكفارات والدرجات، والكفارات إسباغ الوضوء في الكريهات، والمشي على الأقدام إلى الجمعات)) .

وقد خرّجه الإمام أحمد والترمذي من حديث

ص: 190

معاذٍ.

وله طرق كثيرة، ذكرتها مستوفاة في ((شرح الترمذي)) .

وروى ابن أبي شيبة بإسنادٍ فيه انقطاعٌ، أن عبد الله بن رواحة كان يأتي الجمعة ماشياً، فإذا رجع كيف شاء ماشياً، وإن شاء راكباً.

وفي رواية: وكان بين منزلة وبين الجمعة ميلان.

وعن أبي هريرة، أنَّهُ كان يأتي الجمعة من ذي الحليفة ماشياً.

وذكر ابن سعدٍ في ((طبقاته)) بإسناده، عن عمر بن عبد العزيز، أنه كتب ينهى أن يركب أحد إلى الجمعة والعيدين.

وقال النخعي: لا يركب إلى الجمعة.

المسألة الثانية:

أنه يستحب المشي بالسكينة مع مقاربة الخطا، كما في سائر الصلوات، على ماسبق ذكره في موضعه.

فأما قول الله عز وجل: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى

ص: 191

ذِكْرِ

اللَّهِ} [الجمعة:9] ، فقد حمله قوم من المتقدمين علىظاهره، وأنكر ذلك عليهم

الصحابة.

فروى البيهقي من حديث عبد الله بن الصامت، قال: خرجت إلى المسجد يوم الجمعة، فلقيت أبا ذر، فبينا أنا امشي اذ سمعت النداء، فرفعت في المشي؛ لقول الله عز وجل:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ، فجذبني جذبة

كدت أن ألاقيه، ثم قال: أو لسنا في سعي؟ .

فقد أنكر أبو ذر على من فسر السعي بشدة الجري والعدو، وبين أن المشي إليها سعي؛ لأنه عمل، والعمل يسمى سعياً، كم قال تعالى:{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4]، وقال:{?وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء:19] ومثل هذا كثير في القرآن.

وبهذا فسر السعي في هذه الآية التابعون فمن بعدهم، ومنهم: عطاءٍ، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، ومالك، والثوري، والشافعي وغيرهم.

وروي عن ابن عباسٍ –أيضاً - من وجه منقطع.

ومنهم من فسر السعي بالجري والمسابقة، لكنه حمله على سعي القلوب والمقاصد والنيات دون الأقدام، هذا قول الحسن.

وجمع قتادة بين القولين –في روايةٍ -، فقال: السعي بالقلب والعمل.

ص: 192

وكان عثمان وابن مسعودٍ وجماعة من الصحابة يقرءونها: ((فامضوا إلى ذكر

الله)) .

وقال النخعي: لو قرأتها ((فسعوا)) لسعيت حتى يسقط ردائي.

وروي هذا الكلام عن ابن مسعودٍ من وجهٍ منقطعٍ.

المسألة الثالثة:

في تحريم البيع وغيره مما يشغل به عن السعي بعد النداء.

وقد حكى عن ابن عباسٍ تحريم البيع وغيره.

وروى القاضي إسماعيل في كتابه ((أحكام القرآن)) من روايةٍ سليمان بن معاذ، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: لا يصلح البيع يوم الجمعة حين ينادى بالصلاة، فاذا قضيت الصلاة فاشتر وبع.

وبإسناده: عن ميمون بن مهران، قال: كان بالمدينة إذا نودي بالصلاة من يوم الجمعة نادوا: حرم البيع، حرم البيع.

وعن أيوب، قال: لأهل المدينة ساعة، وذلك عند خروج الإمام، يقولون: حرم البيع، حرم البيع.

وعن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يمنع الناس من البيع يوم الجمعة إذا

ص: 193

نودي بالصلاة.

وعن الحسن وعطاء والضحاك: تحريم البيع إذا زالت الشمس من يوم الجمعة.

وعن الشعبي، أنه محرمٌ.

وكذا قال مكحولٌ.

وحكى إسحاق بن راهويه الإجماع على تحريم البيع بعد النداء.

وحكى القاضي إسماعيل، عمن لم يسمه، أن البيع مكروه، وانه استدل بقوله {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} [الجمعة:9] .

ورد عليه: بأن من فعل ما وجب عليه وترك ما نهي عنه فهو خيرٌ له، كما قال تعالى:{وَلَا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء:171] .

وحكي القول بأن البيع مردود عن القاسم بن محمد وربيعة ومالكٍ.

ورواه ابن عيينة، عن عبد الكريم، عن مجاهد أو غيره.

وهو مذهب الليث والثوري وإسحاق وأحمد وغيرهم من فقهاء أهل الحديث.

وخالف فيه أبو حنيفة والشافعي واصحابهما وعبيد الله العنبري، وقالوا: البيع غير مردودٍ؛ لأن النهي عن البيع هنا ليس نهياً عنه لذاته بل لوقته.

والأولون يقولون: النهي يقتضي فساد المنهي عنه، سواء كان لذات المنهي عنه أو لوقته، كالصوم يوم العيد، والصلاة وقت النهي، فكذلك العقود.

ص: 194

وقال الثوري –فيما إذا تصارفا ذهباً بفضة وقبضا البعض، ثم دخل وقت النداء يوم الجمعة -: فإنهما يترادان البيع.

وهذا يدل على أن القبض عند شرط لانعقاد الصرف، فلا يتم العقد الا به، وهو الصحيح عند المحققين من أصحابنا –أيضاً.

وأما ما ذكره عن عطاءٍ، أنه تحرم الصناعات حينئذ، فإنه يرجع إلى أنه إنما حرم البيع؛ لأنه شاغلٌ عن السعي إلى ذكر الله والصلاة، فكل ما قطع عن ذلك فهو محرم من صناعة أو غيرها، حتى الاكل والشرب والنوم والتحدث وغير ذلك، وهذا قول الشافعية وغيرهم –أيضاً.

لكن لأصحابنا في بطلان غير البيع من العقود وجهان، فإن وقوعها بعد النداء نادر، بخلاف البيع، فإنه غالب، فلو لم يبطل لادى إلى الاشتغال عن الجمعة به، فتفوت الجمعة غالباً.

وأكثر أصحابنا حكوا الخلاف في جواز ذلك، وفيه نظرٌ؛ فإنه إذا وجب السعي إلى الجمعة حرم كل ما قطع عنه.

وقد روي عن زيد بن أسلم، قال: لم يأمرهم الله أن يذروا شيئاً غيره، حرم البيع، ثم أذن لهم فيه إذا فرغوا.

وهذا ضعيف جدا؛ فإن البيع إنما خص بالذكر لأنه أكثر ما يقع حينئذ مما يلهي عن السعي، فيشاركه في المعنى كل شاغل.

وأستدل بعض أصحابنا على جواز غير البيع من العقود بالصدقة، وقال: قد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب.

ص: 195

وهذا لا يصح؛ فإن الصدقة قربة وطاعة، وإذا وقعت في المسجد حيث لا يكره السؤال فيه فلا وجه لمنعها.

فإن الحق بذلك عقد النكاح في المسجد قبل خروج الإمام كان متوجهاً، مع أن بعض أصحابنا قد خص الخلاف بالنكاح، وهو ابن عقيل.

وعن أحمد روايةٍ: إنه يحرم البيع بدخول وقت الوجوب، وهو زوال الشمس.

وقد سبق مثله عن الحسن، وعطاء، والضحاك، وهو - أيضاً - قول مسروق، ومسلم بن يسارٍ، والثوري، وإسحاق.

وقياس قولهم: إنه يجب السعي بالزوال، ويحرم حينئذ كل شاغلٍ يشغل عنه.

والجمهور: على أنه لا يحرم بدون النداء.

ثم الأكثرون منهم على أنه النداء الثاني الذي بين يدي الإمام؛ لأنه النداء الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينصرف النداء عند إطلاقه إلا إليه.

وفي ((صحيح الإسماعيلي)) من حديث الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: كان النداء الذي ذكر الله في القرآن يوم الجمعة إذا خَّرج الإمام، وإذا قامت الصلاة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر.

وعن أحمد روايةٌ: أنه حرم البيع ويجب السعي بالنداء الأول.

وهو قول مقاتل بن حيان، قال: وقد كان النداء الأول قبل زوال الشمس.

ونقله ابن منصورٍ، عن إسحاق بن راهويه –صريحاً.

وعن أحمد، أنه قال: أخاف أن يحرم البيع، وإن أذن قبل الوقت.

ومجرد الشروع في الأذان يحرم به البيع عند أصحابنا والشافعية؛

ص: 196

لأنه صار نداءً مشروعاً مسنوناً سنة الخلفاء الراشدين.

قال أصحابنا: ولو اقتصر عليه اجزأ، وسقط فرض الأذان.

وعند أصحاب الشافعي: يحرم البيع بمجرد الشروع في النداء الثاني بين يدي

الإمام، إذا كان قاطعاً عن السعي، فأما إن فعله وهو ماش في الطريق ولم يقف، أو هو قاعد في المسجد كره ولم يحرم.

وهذا بعيد، والتبايع في المسجد بعد الأذان يجتمع فيه نهيان؛ لزمانه ومكانه، فهو أولى بالتحريم.

المسألة الرابعة:

حكى عن الزهري: أن المسافر إذا سمع النداء للجمعة، فعليه أن يشهدها، وقد سبق ذكر ذلك عنه، وعن النخعي والأوزاعي وعن عطاءٍ: أن عليه شهودها، سمع الأذان أو لم يسمعه، وأن الجمهور على خلاف ذلك.

وهل للمسافر أن يبيع ويشتري بعد سماع النداء؟ فيهِ اختلاف بين أصحابنا، يرجع إلى أن من سقطت عنه الجمعة لعذر، كالمريض: هل لهُ أن يبيع بعد النداء، أم

لا؟ فيه روايتان عن أحمد.

وأما من ليس من أهل الجمعة بالكلية، كالمرأة، فلها البيع والشراء بغير خلاف، وكذا العبد، إذا قلنا: لا يجب عليه الجمعة.

خَّرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث:

ص: 197

الأول:

907 -

ص: 198

ثنا علي بن عبد الله: ثنا الوليد بن مسلمٍ: ثنا يزيد بن أبي مريم: ثنا عباية بن رفاعة، قال: أدركني أبو عبسٍ وأنا اذهب إلى الجمعة، فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار)) .

((يزيد بن أبي مريم)) ، هو: الأنصاري الشامي، وهو بالياء المثناة من تحت، وبالزاي.

وأما: بريد بن أبي مريم –بالباء الموحدة، والراء المهملة -، فبصري، لم يخرج له البخاري في ((صحيحه)) شيئاً.

وخرّج الإسماعيلي في ((صحيحه)) هذا الحديث بسياق تام، ولفظه: عن يزيد بن أبي مريم: بينما أنا رائحٌ إلى الجمعة إذ لحقني عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج

الأنصاري، وهو راكب وأنا ماشٍ، فقال: احتسب خطاك هذه في سبيل الله، فاني سمعت أبا عبس بن جبر الأنصاري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار)) .

وخرّجه الترمذي والنسائي –بمعناه.

ففي هذه الرواية أن هذه القصة جرت ليزيد مع عباية، وفي روايةٍ البخاري أنها جرت لعباية مع أبي عبس، وقد يكون كلاهما محفوظاً. والله أعلم.

ص: 198

وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ذكر المشي إلى الجمعة، إنما فيه فضل المشي في سبيل الله، فأدخل الرواي المشي إلى الجمعة في عموم السبيل، وجعله شاملاً له

وللجهاد.

والأظهر في اطلاق سبيل الله: الجهاد، وقد يؤخذ بعموم اللفظ، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لمن جعل بعيره في سبيل الله أن يحج عليه، وقال:((الحج من سبيل الله)) ، وقد ذكرناه في موضع آخر.

وقد كان كثير من السلف يختارون المشي إلى الجمعة، كما سبق من غير واحدٍ من الصحابة.

وقد روي عن عبد الله بن رواحة –رضي الله عنه، أنه كان يبكر إلى الجمعة، ويخلع نعليه، ويمشي حافياً، ويقصر في مشيه.

خرّجه الأثرم بإسناد منقطع.

الحديث الثاني:

908 -

ص: 199

حديث: أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاتموا)) .

ص: 199

وقد تقدم في ((كتاب: الصلاة)) باختلاف أسانيده وألفاظه.

الحديث الثالث:

909 -

ص: 200

حديث: يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة –قال أبو عبد الله: ولا أعلمه إلاّ عن أبيه -، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قالَ:((لا تقوموا حتَّى تروني، وعليكم السكينة)) .

وقد تقدم –أيضاً - باختلاف ألفاظه.

وليس في هذا – والذي قبله – ذكر الجمعة، إنما فيهِ ذكر الصَّلاة، وهي تعم الجمعة وغيرها.

وحديث أبي هريرة إنما يدل على النهي عن السعي عندَ سماع الإقامة، وحديث أبي قتادة إنما فيهِ الأمر بالسكينة في القيام إلى الصَّلاة، لا في المشي إليها.

* * *

19 -

ص: 200

باب

لا يفرق بين اثنين يوم الجمعة

ص: 201

910 -

ثنا عبدان: أنا عبد الله: أنا ابن أبي ذئب، عن سعيدٍ المقبري، [عن

أبيه] ، عن ابن وديعة، عن سلمان الفارسي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اغتسل يوم الجمعة، وتطهر بما استطاع من طهر، ثم ادهن أو مس من طيبٍ، ثم راح ولم يفرق بين اثنين، فصلى ما كتب له، ثم إذا خَّرج الإمام أنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) .

التفريق بين اثنين يدخل فيه شيئان:

أحدهما:

أن يتخطاهما ويتجاوزهما إلى صف متقدمٍ.

وقد خرج أبو داود نحو هذا الحديث من حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيدٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:((ولم يتخط رقاب الناس)) .

ومن حديث عبد الله بن عمرو –أيضاً -، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 201

وخرّجه الإمام أحمد من حديث أبي أيوب، ومن حديث نبيشة الهذلي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديثهما:((ولم يؤذ أحداً)) .

ومن حديث أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديثه:((ولم يتخط أحداً، ولم يؤذه)) .

وقد تقدم حديث عبد الله بن بسر، قال: جاء رجلٌ يتخطى رقاب الناسِ يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:((اجلس، فقد آذيت)) .

خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.

وخرّجه ابن ماجه من حديث جابر.

ص: 202

وخرّج الإمام أحمد والترمذي من حديث زبان بن فائد، من حديث سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((من تخطي رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسراً إلى جهنم)) .

وزبان، مختلف في أمره.

ورواه عنه ابن لهيعة ورشدين بن سعدٍ.

وخرّج الإمام أحمد من حديث أرقم بن الأرقم المخزومي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

((الذي يتخطى الناس يوم الجمعة ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبة إلى النارِ)) .

ص: 203

وفي إسناده: هشام بن زياد أبو المقدام، ضعفوه، وقد اختلف عليه في إسناده.

وأكثر العلماء على كراهة تخطي الناس يوم الجمعة، سواء كان الإمام قد خَّرج أو لم يخرج بعد.

وقالت طائفةٌ: لا يكره التخطي إلا بعدَ خروجهِ، كما دل عليه حديث الأرقم، منهم: الثوريُ، ومالكٌ، والأوزاعي – في روايةٍ -، ومحمد بن الحسنِ.

وذكر مالكٌ، عن أبي هريرة، قال: لأن يصلي أحدكم بظهرة الحرة خيرٌ له من أن يقعد حتى إذا قام الإمام يخطبُ جاء يتخطى رقاب الناس يوم الجمعةِ.

فإن وجد فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي، ففيه قولان:

أحدهما:

ص: 204

يجوز له التخطي حينئذ، وهو قول الحسن، وقتادة، والأوزاعي والشافعي، وكذا قال مالكٌ في التخطي قبل خروج الإمام، وكذا روى معمر عن الحسن وقتادة.

والثاني: أنه يكره، وهو قولُ عطاءٍ، والثوريّ.

وعن أحمد روايتان في ذلك، كالقولين.

وعنه روايةٌ ثالثةٌ: إن كان يتخطى واحداً أو اثنين جاز، وان كان أكثر كره.

وحمل بعض أصحابنا رواية الجواز عن أحمد على ما إذا كان الجالسون قد جلسوا في مؤخر الصفوف، وتركوا مقدمها عمداً، ورواية الكراهة على ما إذا لم يكن منهم تفريطٌ.

وفي كلام الأوزاعي وغيره ما يدل على مثل هذا - أيضاً -، وكذلك قال الحسن، قال: لا حرمة لهم.

ومتى احتاج إلى التخطي لحاجة لابد منها من وضوء أو غيره، أو لكونه لا يجد موضعا للصلاة بدونه، أو كان إماماً لا يمكنه الوصول إلى مكانه بدون التخطي، لم

يكره.

وقد سبق حديث عقبة بن الحارث في قيام النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته مسرعاً، يتخطى رقاب الناسِ.

وكذا لو ضاق الموضع وآذتهم الشمسُ، فلهم –إذا أقيمت الصلاة – أن يشقوا الصفوف ويدخلوا لأذى الشمس، نص عليه أحمد في روايةٍ الأثرمِ.

وحكى ابن المنذر عن أبي نضرة: جواز تخطيهم بإذنهم، وعن قتادة: يتخطاهم إلى مجلسه.

ثم قال ابن المنذر: لا يجوز شيء من ذلك

ص: 205

عندي، لأن الأذى يحرم قليلة وكثيرة، وهذا اذى، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((اجلس، فقد آذيت)) .

فظاهر كلامه: تحريمه بكل حال، والاكثرون جعلوا كراهته كراهة تنزيهٍ.

ومتى كان بين الجالسين فرجة، بحيث لا يتخطاهما، جاز له أن يمشي بينهما، فإن تماست ركبهما بحيث لا يمشي بينهما إلاّ بتخطي ركبهما كره له ذلك، فإن كانا قائمين يصليان، فمشى بينهما ولم يدفع أحداً، ولم يؤذه، ولم يضيق على أحد جاز، وإلاّ فلا.

قال ذلك كله عطاءٍ -: ذكره عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ، عنه.

الثاني –مما يدخل في التفريق بين اثنين -:

الجلوس بينهما إن كانا جالسين، أو القيام بينهما أن كانا قائمين في صلاة.

فإن كان ذلك من غير تضييق عليهما ولا دفع ولا أذى، مثل أن يكون بينهما فرجة، فإنه يجوز، بل يستحب، لأنه مامور بسد الخلل في الصف، وإلاّ فهو منهي عنه، إلاّ أن ياذنا في ذلك.

وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

((لا يحل للرجل أن يفرق بين اثنين، إلا باذنهما)) .

خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي.

وقال: حديثٌ

ص: 206

حسنٌ.

فإن كان الجالسان بينهما قرابة، أو كانا يتحدثان فيما يباح، كان أشد كراهةً.

وفي ((مراسيل أبي داود)) عن المطلب بن حمطب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يفرق بين الرجل ووالده)) .

وخرّجه الطبراني من حديث سهل بن سعدٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((لا يجلس الرجل بين الرجل وابيه في المجلس)) .

وفي إسناده نظر.

وروي عن ابن عمر – مرفوعاً، وموقوفاً -:((إذا كان اثنان يتناجيان فلا يدخل بينهما إلا بإذنهما)) .

قال الإمام أحمد في الرجل ينتهي إلى الصف وقد تم فيدخل بين رجلين: أن علم أنه لا يشق عليهم.

قال القاضي أبو يعلى: أن شق عليهم لم يجز؛ لأن فيهِ أذية لهم، وشغلاً لقلوبهم.

* * *

20 -

ص: 207

باب

لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد مكانه

ص: 208

911 -

حدثنا محمد بن سلام: ثنا مخلد: أنا ابن جريجٍ: سمعت نافعا يقول: سمعت ابن عمر يقول: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم الرجلُ الرجل من مقعده، ثم يجلس فيهِ)) .

قلت لنافع: الجمعة؟ قال: الجمعة وغيرها.

وقد خرّجه البخاري في مواضع متعددة، وفي بعضها زيادة:((ولكن تفسحوا وتوسعوا)) .

وخرّج مسلم من حديث أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم،

ص: 208

قال: ((لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الحمعة ليخالف إلى مقعده فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا)) .

وخَّرج الإمام أحمد من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم)) .

وروى ابن أبي حاتم بإسناده، عن مقاتل بن حيان، قال: أنزلت هذه الآية – يعني: قوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافْسَحُوا} [المجادلة:11] –في يوم جمعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة، وفي المكان ضيقٌ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء اناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلموا عليه، ثم سلموا على القوم، فقاموا على ارجلهم ينتظرون أن يفسح لهم، فلم يوسع لهم، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار –من غير أهل بدر -: ((قم أنت

ص: 209

يا فلان، وأنت

يا فلان)) ، فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم، وتكلم في ذلك المنافقون، فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((رحم الله رجلاً فسح لاخيه)) ، فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعاً، فيفسح القوم لاخوانهم، ونزلت الآية يوم الجمعة.

فظاهر هذا: يدل على أن إقامة الجالس نسخ بهذه الآية، وانتهى الأمر إلى التفسح المذكور فيها.

وقال قتادة: كان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم ومن حوله خاصة.

يشير إلى إقامة الجالسين ليجلس غيرهم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك إكراماً لأهل الفضائل والاستحقاق، وغيره لا يؤمن عليه أن يفعله بالهوى.

ويستثنى من ذلك: الصبي، إذا كان في الصف، وجاء رجلٌ، فله أن يؤخره ويقوم مقامه، كما فعله أبي بن كعب بقيس بن عباد، وقد ذهب اليه الثوري وأحمد، وقد تقدم ذلك.

فإن كان الذي في الصف رجلاً، وكان أعرابياً أو جاهلاً، لم يجز تاخيره من موضعه.

قال أحمد: لا أرى ذلك.

وفي ((سنن أبي داود)) ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من سبق إلى ما لم

ص: 210

يسبق اليه أحد فهو أحق به)) .

واستثنى بعض الشافعية – أيضاً - ثلاث صور، وهي: أن يقعد في موضع الإمام، أو طريق الناس ويمنعهم الاجتياز، أو بين يدي الصف مستقبل القبلة.

ويستثنى من ذلك، أن يكون المتاخر قد ارسل من ياخذ له موضعاً في الصف، فاذا جاء الجالس وجلس الباعث فيه. وقد ذكره الشافعي وأصحابنا وغيرهم.

وروي عن ابن سيرين، أنه كان يفعله.

واما إن قام احد من الصف تبرعاً واثر الداخل بمكانه، فهل يكره ذلك، أم لا؟ أن انتقل إلى مكان أفضل منه لم يكره، وإن انتقل إلى ما دونه فكرهة الشافعية.

وقال أحمد فيمن تاخر عن الصف الأول، وقدم اباه فيه: هو يقدر أن يبرَّ أباه بغير هذا.

وظاهره: الكراهة، وأنه يكره الإيثار بالقرب.

وأم الموثر، فهل يكره له أن يجلس في المكان الذي اوثر به؟ فيهِ قولان

ص: 211

مشهوران.

أشهرهما: لا يكره، وهو قولُ أصحابنا والشافعية وغيرهم.

والثاني: يكره، وكان ابن عمر لا يفعل ذلك، وكذلك أبو بكرة.

وخَّرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر، قال: جاء رجل إلى

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام له رجل من مجلسه، فذهب ليجلس فيه، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم.

وخرّج أحمد وأبو داود من حديث أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه –أيضاً.

ولو بادر رجلٌ وسبق المؤثر إلى المكان، فهل هو أحق به من الموثر، أم لا؟ فيه وجهان لأصحابنا وغيرهم.

وأما من فسح له في مجلسٍ اوصفٍ، فلا يكره له الجلوس فيه.

وفي مراسيل خالد بن معدان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جاء أحدكم

ص: 212

إلى المجلس، فوسع له، فليجلس؛ فإنها كرامة)) .

خرّجه حميد بن زنجوية.

فإن كان في جلوسه تضييق على الناس، أو لم يصل إلى المكان الا بالتخطي، فلا يفعل.

وقد روي عن أبي سعيدٍ الخدري، أنه أوذن بجنازة في قومه، فتخلف حتى جاء الناس واخذوا المجالس، ثم جاء بعد، فلما رآه القوم توسعوا له، فقال: لا؛ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن خيرٌ المجالس أوسعها)) ، ثم تنحى فجلس في مجلس واسع.

وخَّرج أبو داود منه المرفوع فقط.

وروى الخرائطي –بإسناد فيه جهالة -، عن أبي هريرة –مرفوعاً -:((لا توسع المجالس إلا لثلاثة: لذي علم لعلمه، وذي سن لسنه، وذي سلطان لسلطانه)) .

ودخل خالد بن ثابت الفهمي المسجد يوم الجمعة، وقد امتلأ من الشمس، فرآه بعض من في الظل، فأشار اليه ليوسع له، فكره أن يتخطى

ص: 213

الناس إلى ذلك الظل، وتلا:{وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17] ، ثم جلس في الشمس.

خرّجه حميد بن زنجويه.

* * *

21 -

ص: 214

باب

الأذان يوم الجمعة

ص: 215

912 -

حدثنا آدم: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان، وكثر الناس، زاد النداء الثالث على الزوراء.

قال أبو عبد الله: الزوراء: موضع بالسوق بالمدينةِ.

الأذان يوم الجمعة قد ذكره الله تعالى في كتابه، وفي قوله {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، وقد ذهب طائفةٌ من العلماء إلى وجوبه، وان قيل: أن الأذان سنة، وهو الذي ذكره ابن أبي موسى من أصحابنا، وقاله طائفةٌ من الشافعية –أيضاً.

وقد دل الحديث على أن الأذان الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر هو النداء الذي بين يدي الإمام عند جلوسه على المنبر، وهذا لا اختلاف فيه بين العلماء.

ولهذا قال أكثرهم: أنه هو الأذان الذي يمنع البيع، ويوجب السعي إلى الجمعة، حيث لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم سواه.

ص: 215

وما ذكره ابن عبد البر عن طائفةٌ من أصحابهم، أن هذا الأذان الذي يمنع البيع، لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أحدثه هشام بن عبد الملك، فقد بين ابن عبد البر أن هذا جهل من قائله، لعدم معرفته بالسنة والاثار.

فإن قال هذا الجاهل: أنه لم يكن أذان بالكلية في الجمعة، فقد باهت، ويكذبه قولُ الله عز وجل:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} .

وإن زعم أن الأذان الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر هو الأذان الأول الذي قبل خروج الإمام، فقد أبطل، ويكذبه هذا الحديث واجتماع العلماء على ذلك.

وقوله في هذه الرواية: ((أوله إذا جلس الإمام على المنبر)) ، معناه: أن هذا الأذان كان هو الأول، ثم تليه الإقامة، وتسمى: أذاناً، كما في الحديث المشهور:((بين كل اذانين صلاةٌ)) .

وخرّجه النسائي من روايةٍ المعتمر، عن أبيه، عن الزهري، ولفظه: كان بلال يؤذن إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة، فاذا نزل أقام، ثم كان كذلك في زمن أبي بكر وعمر، فلما زاد عثمان النداء الثالث صار هذا الثالث هو الأول، وصار الذي بين يدي الإمام هو الثاني.

ص: 216

وقد خَّرج أبو داود هذا الحديث من طريق ابن إسحاق، عن الزهري، عن السائب، قال: كان يؤذن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد، وأبي بكر وعمر.

ففي هذه الرواية: زيادة: أن هذا الأذان لم يكن في نفس المسجد، بل على بابه، بحيث يسمعه من كان في المسجد ومن كان خارج المسجد، ليترك أهل الأسواق البيع ويسرعوا إلى السعي إلى المسجد.

وقوله: ((فلما كان عثمان)) –يريد: لما ولي عثمان – ((وكثر الناس في زمنه زاد النداء الثالث على الزوراء)) ، وسماه: ثالثاً؛ لأن به صارت النداآت للجمعة ثلاثة، وإن كان هو أولها وقوعاً.

وخرّجه ابن ماجه، وعنده –بعد قوله: ((على دار في السوق، يقال لها:

الزوراء)) -: ((فاذا خَّرج أذن، وإذا نزل أقام)) .

وهو من روايةٍ: ابن إسحاق، عن الزهري.

وروى الزهري، عن ابن المسيب: معنى حديثه عن السائب بن يزيد، غير أنه قال:((فلما كان عثمان كثر الناس، فزاد الأذان الأول، واراد أن يتهيأ الناس للجمعة)) .

ص: 217

خرّجه عبد الرزاق في ((كتابه)) عن معمر، عنه.

وقد رواه إسماعيل بن يحيى التميمي – وهو ضعيف جداً -، عن مسعر، عن القاسم، عن ابن المسيب، عن أبي أيوب الأنصاري، قال ما كان الأذان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة إلا قدام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر، فاذا نزل أقاموا الصلاة، فلما ولي عثمان أمر أن يؤذن على المنارة ليسمع الناس.

خرّجه الإسماعيلي في ((مسند مسعر)) ، وقال في القاسم: هو مجهولٌ.

قلت: والصحيح: المرسل.

وقد أنكر عطاءٍ الأذان الأول، وقال: إنما زاده الحجاج، قال: وإنما كان عثمان يدعو الناس دعاء.

خرّجه عبد الرزاق.

وقال عمرو بن دينار: إنما زاد عثمان الأذان بالمدينة، وأما مكة فأول من زاده الحجاج، قال: ورأيت ابن الزبير لا يؤذن له حتى يجلس على المنبر، ولا يؤذن له إلا أذان واحد يوم الجمعة.

ص: 218

خرّجه عبد الرزاق –أيضاً.

وروى مصعب بن سلام، عن هشام بن الغاز، عن نافع، عن ابن عمر، قال: إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد على المنبر أذن بلالٌ، فإذا فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته اقام الصلاة، والاذان الأول بدعة.

وروى وكيع في ((كتابه)) عن هشام بن الغاز، قال: سألت نافعاً عن الأذان يوم الجمعة؟ فقالَ: قالَ ابن عمر: بدعةٌ، وكل بدعة ظلالة، وإن رآه الناس حسناً.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لم يكن في زمان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إلا أذانان: أذان حين يجلس على المنبر، وأذان حين تقام الصَّلاة. قال: وهذا الأخير شيء أحدثه الناس بعد.

خرّجه ابن أبي حاتمٍ.

وقال سفيان الثوري: لا يؤذن للجمعة حتى تزول الشمس، وإذا أذن المؤذن قام الإمام عى المنبر فخطب، وإذا نزل أقام الصلاة، قال: والأذان

ص: 219

الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذان وأقامة، وهذا الأذان الذي زادوه محدثٌ.

وقال الشافعي –فيما حكاه ابن عبد البر -: أحب إلي أن يكون الأذان يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر بين يديه، فإذا قعد أخذ المؤذن في الأذان، فإذا فرغ قام فخطب، قال: وكان عطاءٍ ينكر أن يكون عثمان أحدث الأذان الثاني، وقال: إنما أحدثه معاوية.

قال الشافعي: وأيهما كان، فالأذان الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ينهى الناس عنده عن البيع.

ولأصحابه في أذان الجمعة – على قولهم: الأذان سنة - وجهان:

أحدهما: أنه سنة –أيضاً.

والثاني: أنه للجمعة خاصة فرض كفاية.

فعلى هذا: هل تسقط الكفاية بالأذان الأول، أو لا تسقط الا بالاذان بين يدي الإمام؟ على وجهين –أيضاً.

ومن أصحابنا من قال: يسقط الفرض بالأذان الأول، وفيه نظر. والله أعلم.

وقال القاضي أبو يعلى: المستحب أن لا يؤذن الا أذان واحد، وهو بعد جلوس الإمام على المنبر، فإن أذن لها بعد الزوال وقبل جلوس الإمام جاز، ولم يكره.

ثم ذكر حديث السائب بن يزيد هذا.

ونقل حرب، عن إسحاق بن راهويه: أن الأذان الأول للجمعة محدث،

ص: 220

احدثه عثمان، رأى أنه لا يسمعه إلا أن يزيد في المؤذنين، ليعلم الأبعدين ذلك، فصار سنة: لأن على الخلفاء النظر في مثل ذلك للناس.

وهذا يفهم منه أن ذلك راجع إلى رأي الإمام، فإن احتاج اليه لكثرة الناس فعله، وإلا فلا حاجة إليه.

* * *

22 -

ص: 221

باب

المؤذن الواحد يوم الجمعة

ص: 222

913 -

حدثنا أبو نعيمٍ: ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن الزهري، عن السائب بن يزيد، أن الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان، حين كثر أهل المدينة، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم غير مؤذنٍ واحدٍ، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام –يعني: على المنبر.

قوله: ((ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم إلا مؤذن واحد)) –يعني: في الجمعة؛ فإن في غير الجمعة كان له مؤذنان، كما سبق في ((الأذان)) .

وقد قيل: إنه يحتمل أن يكون مراد السائب: أنه لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة إلا تأذين واحد، فعبر بالمؤذن عن الأذان -: ذكره الإسماعيلي.

وهذا يرده قوله: ((فزاد عثمان النداء الثالث)) ، فإنه يدل على أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم أذانان –يعني: الأذان والاقامة - والمؤذن الواحد في الجمعة.

وقد تقدم في روايةٍ النسائي لحديث السائب بن يزيد، ويفهم من

ص: 222

حديث ابن عمر –أيضاً.

وخرّج ابن ماجه من روايةٍ عبد الرحمن بن سعدٍ بن عمار: حدثني أبي، عن

أبيه، عنجده –وهو: سعدٍ القرظ -، أنه كان يؤذن يوم الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الفيء مثل الشراك.

وهذا إسنادٌ ضعيف، ضعفه ابن معين وغيره.

وإنما كان سعدٍ يؤذن بقباء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن بقباء جمعةٌ.

وقد حكى ابن عبد البر اختلافاً بين العلماء في الأذان يوم الجمعة بين يدي الإمام: هل يكون من مؤذن واحد، أو مؤذنين؟

فذكر من روايةٍ ابن عبد الحكم، عن مالكٍ، أنه قالَ: إذا جلس الإمام على

المنبر، ونادى المنادي منع الناس من البيع.

قال: وهذا يدل على أن النداء عنده واحدٌ بين يدي الإمام.

وفي ((المدونة)) من قول ابن قاسم، وروايته، عن مالكٍ: إذا جلس الإمام على المنبر، وأخذ المؤذنون في الأذان حرم البيع.

فذكر ((المؤذنين)) بلفظ الجماعة.

قال: ويشهد لهذا حديث مالكٍ، عن ابن شهاب، عن ثعبلة بن أبي مالكٍ، أنهم كانوا في زمن عمر بن

ص: 223

الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر، فاذا خَّرج وجلس على المنبر وأخذ المؤذنون.

هكذا بلفظ الجماعة.

قال: ومعلوم عند العلماء أنه جائز أن يكون المؤذنون واحداً وجماعة في كل

صلاة، إذا كان ذلك مترادفاً، لا يمنع من إقامة الصلاة في وقتها.

وذكر من كلام الشافعي، أنه قال: إذا قعد الإمام اخذ المؤذنون في الأذان.

ومن كلام الطحاوي في ((مختصره)) : حكاية قولُ أبي حنيفة وأصحابه: إذا جلس الإمام على المنبر، وأذن المؤذنون بين يديه – بلفظ الجمع.

ووقع في كلام الخرقي من أصحابنا: واخذ المؤذنون في الأذان –بلفظ الجمع.

وقال مكحول: إن النداء كان في الجمعة مؤذنٌ واحدٌ حين يخرج الإمام، ثم تقام الصلاة، فأمر عثمان أن ينادى قبل خروج الإمام حتى يجتمع الناس.

خرّجه ابن أبي حاتم.

قال حربٌ: قلت لأحمد: فالأذان يوم الجمعة إذا أذن على المنارة عدة؟ قال: لا بأس بذلك، قد كان يوذن للنبي صلى الله عليه وسلم بلال وابن أم مكتوم، وجاء أبو محذورة وقد أذن رجل قبله، فأذن أبو محذورة.

وظاهر هذا: أنه لو أذن على المنارة مؤذن بعد مؤذن جاز، وهذا قبل خروج الإمام.

ص: 224

وقال القاضي أبو يعلى: يستحب أن يكون المؤذن للجمعة واحداً، فإن أذن أكثر من واحد جاز، ولم يكره.

ومراده: إذا أذنوا دفعة واحدة بين يدي الإمام، أو اذنوا قبل خروجه تترى، فأما أن أذنوا بعد جلوسه على المنبر، مرةً بعد مرة، فلا شك في كراهته، وأنه لم يعلم وقوعها في الإسلام قط.

وكذا قال كثيرٌ من أصحاب الشافعي: أنه يستحب أن يكون للجمعة أذان واحد عند المنبر، ويستحب أن يكون المؤذن واحداً؛ لأنه لم يكن يؤذن للجمعة للنبي صلى الله عليه وسلم إلا بلالٌ.

ونقل المحاملي هذا الكلام عن الشافعي، والذي نقله البويطي عن الشافعي يخالف ذلك؛ فإنه نقل عنه، أنه قال: النداء للجمعة هو الذي يكون والإمام على المنبر، يكون المؤذنون يستفتحون الأذان فوق المنارة جملة حين يجلس الإمام على المنبر، ليسمع الناس فيؤبون إلى المسجد.

وهذا تصريح بأنهم يكونون جماعة، وأنهم يؤذنون على المنارة لإسماع الناس، لا بين يدي المنبر في المسجد.

وقد خرّج البخاري في ((صحيحه)) هذا في ((باب: رجم الحُبلى)) ، من حديث ابن عباسٍ، قال: جلس عمر على المنبر يوم الجمعة، فلما سكت المؤذنون قام، فأثنى على الله –وذكر الحديث.

وروي عن المغيرة بن شعبة، أنه كان له في الجمعة مؤذنٌ واحدٌ.

وخرّج الإمام أحمد من روايةٍ ابن إسحاق، عن العلاء بن

ص: 225

عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي سعيدٍ الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد، يكتبون من جاء، فاذا أذن وجلس الإمام على المنبر طووا الصحف، ودخلوا المسجد يستمون الذكر)) .

وهذا لفظ غريب.

وروى عبد الرزاق بإسناده، عن موسى بن طلحة، قال: رأيت عثمان بن عفان جالساً على المنبر في يوم الجمعة، والمؤذنون يؤذنون يؤم الجمعة، وهو يسأل الناس عن أسعارهم وأخبارهم.

ويحتمل أن يكون مراد من قال: ((المؤذن)) –بلفظ الافراد -: الجنس، لا

الواحد، فلا يبقى فيهِ دلالة على كونه واحداً.

* * *

23 -

ص: 226

باب

يجيب الإمام على المنبر إذا سمع النداء

ص: 227

914 -

ثنا ابن مقاتل: أنا عبد الله: أنا أبو بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان، وهو جالس على المنبر، اذن المؤذن، فقال:((الله أكبر الله أكبر)) . قال معاوية: ((الله أكبر الله أكبر)) ، فقال:((أشهد أن لا إله الا الله)) . فقال معاوية: ((وأنا)) قال: ((أشهد أن محمداً رسول الله)) . قال معاوية: ((وأنا)) ، فلما قضى التاذين قال: يأيها الناس، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المجلس حين أذن المؤذن يقول ما سمعتم مني من مقالي.

ص: 227

المقصود من هذا الحديث في هذا الباب: أن الإمام يجيب المؤذن على المنبر إذا أذن بين يديه، كما يجيبه غيره من السامعين، وليس في ذلك خلافُ؛ فإن الإمام من جملة السامعين للمؤذن، فيدخل في عموم قوله:((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول)) .

وقد سبق في ((الأذان)) الكلام على اجابة المؤذن مستوفىً.

وفي حديث معاوية: دليل على أن من سمع مخبراً يخبر عن نفسه بشئ، فقال هو - مجيباً له -:((وأنا)) ، أنه يصير مقراً بمثل ما أقر به.

وعلى هذا: فلو سمع الكافر مؤذناً يؤذن، فقال –مجيباً له -:((وأنا)) ، فهل يصير مسلماً؟

وقد قال أحمد في ذمي مر بمؤذن، يؤذن، فقال له: كذبت: إنه يقتل.

وكذا لو سمع رجل رجلاً قال لامرأته: أنت طالق، أو قال: امرأتي طالق، فقال: وأنا، ونوى الطلاق، فهل تطلق امرأته؟

وقد حكى القاضي أبو يعلى في ((تعليقه)) فيما إذا قالَ رجل لرجل: يا زان، فقالَ لهُ: لا، بل أنت، فهل يحد الثاني، لكونه قاذفا، أم لا؟ على وجهين.

* * *

24 -

ص: 228

باب

الجلوس على المنبر عند التأذين

ص: 229

915 -

حدثنا يحيى بن بكير: ثنا الليث، عن عقيلٍ، عن ابن شهابٍ، أن السائب بن يزيد أخبره، أن التأذين الثاني يوم الجمعة أمر به عثمان بن عفان حين كثر أهل المسجد، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام.

إنما سماه ((الثاني)) باعتبار الأذان عند الجلوس على المنبر، فهما أذانان بهذا الاعتبار، و ((الإقامة)) لا تسمى أذاناً عند الاطلاق.

وجلوس الإمام على المنبر يوم الجمعة إذا رقى المنبر حتى يفرغ من الأذان سنة مسنونة، تلقاها الأمة بالعمل بها خلفاً عن سلف.

إلا أن ابن عبد البر حكى عن أبي حنيفة: أنه غير مسنون. ولا خلاف أنه غير واجبٍ.

* * *

25 -

ص: 229

باب

التأذين عند الخطبة

ص: 230

916 -

حدثنا محمد بن مقاتل: أنا عبد الله: أنا يونس: عن الزهري، قال: سمعت السائب ين يزيد يقول: إن الأ ان يوم الجمعة كان أوله حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان في خلافة عثمان وكثروا أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث فأذن به على الزوراء، فثبت الأمر على ذلك.

المقصود بهذا الباب: أن الأذان يوم الجمعة يكون عند جلوس الإمام على المنبر للخطبة، فهذا هو الأذان الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وهو المجتمع على مشروعيته.

وهل يكون بين يدي المنبر في المسجد، أو على المنارة؟ فيه كلام سبق ذكره، وان الشافعي نص في ((كتاب البويطي)) على أنه يكون على المنارة.

وكذا مذهب مالكٍ، قال في ((تهذيب المدونة)) : يجلس الإمام في أول خطبته حتى يؤذن المؤذنون على المنار، ثم يخطب.

ونقل مثنى الأنباري عن أحمد، أنه سئل عن الأذان الذي يجب على من كان خارجاً من المصر، أن يشهد الجمعة؟ قال: هو الأذان الذي في المنارة.

ص: 230

وهذا يحتمل أنه يريد به ما قاله الشافعي: أن أذان الجمعة بين يدي الإمام عند جلوسه على المنبر يكون على المنارة.

ويحتمل أنه يريد به: أنه يجب السعي بالأذان الأول، كما يحرم البيع به، على روايةٍ عنه؛ فإن قوله:((الذي على المنارة)) إخبار عن الواقع في زمانه، ولم يعهد في زمانه الأذان على المنارة سوى الذي زاده عثمان.

ويحتمل أنه إنما قال ذلك فيمن كان خارج المصر؛ لأن الأذان الأول يكون لإعلامهم، فليزمهم السعي به، بخلاف أهل المصر، فإنهم يلزمهم السعي من غير سماع أذان، فلا يجب عليهم السعي بالأذان الأول، بل بالثاني، والله أعلم.

وقد تقدم في روايةٍ ابن إسحاق، عن الزهري، عن السائب بن يزيد لهذا الحديث: أن هذا الأذان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكرٍ وعمر كان على باب المسجد.

وقوله في هذه الرواية التي خرجها البخاري هنا: ((فثبت الأمر على ذلك)) ، يدل على أن هذا من حين حدده عثمان أستمر، ولم يترك بعده.

وهذا يدل على أن علياً اقر عليه، ولم يبطله، فقد أجتمع على فعله خليفتان من الخلفاء الراشدين –رضي الله عنهم أجمعين.

* * *

26 -

ص: 231

باب

الخطبة على المنبر

وقال أنس: خطب النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر.

حديث أنس هذا: الظاهر أنه يريد به حديثه في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالاستسقاء يوم الجمعة على المنبر، وسيأتي في مواضع أخر من الكتاب – إن شاء الله سبحانه وتعالى.

فيه ثلاثة أحاديث:

الأول:

917 -

ص: 232

نا قتيبة: نا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله القاري الاسكندراني: نا أبو حازم بن دينار، أن رجالاً أتوا سهل بن سعدٍ الساعدي، وقد امتروا في المنبر: مم عوده؟ فسألوه عن ذَلِكَ، فقالَ: إني والله: لأعرف مما هوَ، ولقد رأيته أول يوم وضع، وأول يوم جلس عليهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة –امرأة قد سماها سهل -:((مري غلامك النجار أن يعمل لي أعواداً أجلس عليهن إذا كلمت الناس)) ، فأمرته، فعملها من طرفاء الغابة، ثُمَّ جاء بها، فارسلت إلى

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فامر بها فوضعت هاهنا، ثُمَّ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عليها، وكبر وهو عليها، ثُمَّ ركع وهو عليها، ثُمَّ نزل القهقري فسجد في أصل المنبر ثُمَّ عاد، فلما فرغ أقبل على الناس، فقال: ((ياأيها الناس،

ص: 232

إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي)) .

قد خرّجه فيما تقدم من حديث ابن عيينة عن أبي حازم، وهذا السياق أتم.

وفي روايةٍ ابن عيينة: ((من أثل الغابة)) ، و ((الأثل)) و ((الطرفاء)) : يشبه بعضه بعضاً. و ((الغابة)) : خارج المدينة مشهورة.

وخرّجه البخاري –أيضاً - مختصراً في ((أبواب المساجد)) ، في ((باب: الاستعانة بالصناع والنجار في عمل المسجد والمنبر)) من حديث عبد العزيز بن أبي حازم، وذكرنا الاختلاف في رسم الذي عمل المنبر.

وخرّجه مسلم من حديث عبد العزيز بتمامه، وفي حديثه: أن المنبر كان ثلاث درجاتٍ.

وقد روي هذا الحديث عن سهل من وجه أخر، وفيه: حنين الخشبة.

خرّجه ابن سعدٍ في ((طبقاته)) : ثنا أبو بكر بن أبي أويس: حدثني سليمان بن بلال، عن سعدٍ بن سعيدٍ بن قيس، عن عباسٍ بن سهل بن سعدٍ، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إذا خطب إلى خشبة ذات فرضتين –قال: أراه كانت من دومة كانت في مصلاه -،

ص: 233

فكأن يتكئ عليها، فقال له أصحابه: يا رسول الله، إن الناس قد كثروا، فلو أتخذت شيئاً تقوم عليه إذا خطبت نراك؟ فقال:((ما شئتم)) .

قال سهل: ولم يكن بالمدينة إلا نجار واحد، فذهبت أنا وذلك النجار إلى الخانقين، فقطعنا هذا المنبر من أثله. قال: فقام عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فحنت الخشبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((ألا تعجبون لحنين هذه الخشبة؟)) فأقبل الناس وفرقوا من حنينها حتى كثر بكاؤهم، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتاها، فوضع يده عليها، فسكنت، فامر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفنت تحت منبره – أو جعلت في السقف.

ورواه أبو إسماعيل الترمذي، عن أيوب بن سليمان بن بلال، عن أبي بكر ابن أبي أويس، به.

وهذا إسنادٌ جيد، ورجاله كلهم يخرج لهم البخاري، الا سعدٍ بن سعيدٍ بن قيس –وهو: اخو يحيى بن سعيدٍ -؛ فإن البخاري استشهد به، وخَّرج له مسلم، وتكلم بعضهم في حفظه.

الحديث الثاني:

918 -

ص: 234

نا سعيدٍ بن أبي مريم: أنا محمد بن جعفر بن أبي كثير: أخبرني يحيى بن سعيدٍ: أخبرني ابن أنس: سمع جابر بن عبد الله قال: كان جذع يقوم اليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وضع له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشار، حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده

عليه.

قال سليمان، عن يحيى: أخبرني حفص بن عبيد الله بن أنس: سمع جابر بن

عبد الله.

روايةٍ سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيدٍ: قد أسندها البخاري في ((أعلام النبوة)) .

والمقصود من ذكرها هاهنا: أن فيها تسمية ابن أنس الذي ابهم في روايةٍ محمد بن جعفر، وأنه حفص بن عبيد الله بن أنس.

والظاهر: أن البخاري أبهمه في روايةٍ محمد بن جعفر، لأن محمد بن جعفر سماه:((عبيد الله بن حفص بن أنس)) ، ووهم في ذلك -: قاله الدارقطني.

وقد خرّجه الإسماعيلي من طريق سعيدٍ بن أبي مريم، عن محمد بن جعفر، عن حفص بن عبيد الله بن أنس على الصواب.

وخرّجه من طريق يعقوب بن محمد: نا عبد الله بن يعقوب بن إسحاق: ثنا

يحيى بن سعيدٍ: حدثني عبيد الله بن حفص بن أنس.

ص: 235

قال يعقوب: وإنما هو: حفص بن عبيد الله، ولكن هكذا ثنا.

وفي روايةٍ البخاري: التصريح بسماع حفص لهذا الحديث من جابر، وهذا يرد ما قاله أبو حاتم الرازي: إنه لا يدري: هل سمع من جابر، أم لا؟ قال: ولا يثبت له السماع إلا من جده أنس.

ورواه سليمان بن كثير، عن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيدٍ بن المسيب، عن جابر، ووهم في قوله:((سعيدٍ بن المسيب)) -: قاله أبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني.

و ((العشار)) : النوق الحوامل، واحدتها: عشراء، وهي التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر، فتسمى بذلك حتى تضع، وبعد أن تضع.

وقد خَّرج البخاري هذا الحديث في ((الأعلام)) من روايةٍ عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر –نحوه.

الحديث الثالث:

919 -

ص: 236

نا آدم: نا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: ((من جاء إلى الجمعة فلغتسل)) .

والمقصود من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب على المنبر، ويعلم الناس دينهم

عليه.

ص: 236

ولو جمعت الأحاديث التي فيها ذكر خطب النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وكلامه عليه لكانت كثيرة جدا، وكذلك احاديث اتخاذ المنبر كثيرةٌ –أيضاً.

وقد خَّرج منها البخاري في ((دلائل النبوة)) من حديث ابن عمر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إلى الجذع، فلما أتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، فأتاه فمسح يده عليه.

خرّجه عن محمد بن المثنى: نا يحيى بن كثير أبو غسان: نا أبو حفص –واسمه: عمر بن العلاء، أخو أبي عمرو بن العلاء -، قال: سمعت نافعاً، عن ابن عمر –

فذكره.

ثم قال:

وقال عبد الحميد: أنا عثمان بن عمر: أنا معاذ بن العلاء، عن نافع، عن ابن عمر – بهذا.

ورواه أبو عاصم، عن ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم ?. انتهى.

وعبد الحميد هذا، قيل: أنه عبد بن حميد.

وقد خرّجه الترمذي عن أبي حفص الفلاس، عن عثمان بن عمر

ص: 237

ويحيى ابن كثير –كلاهما -، عن معاذ بن العلاء، عن نافع.

وخرّجه البيهقي من روايةٍ عباسٍ الدوري، عن عثمان بن عمر، عن معاذ.

وكذا رواه غير واحدٍ عن عثمان بن عمر.

وخرّجه ابن حبان في ((صحيحه)) من روايةٍ أبي عبيدة الحداد، عن معاذ بن العلاء –أيضاً.

وكذا رواه وكيع ويحيى بن سعيدٍ ومعتمر بن سليمان، عن معاذ بن العلاء.

وليس لأبي حفص عمر بن العلاء ذكر في غير روايةٍ البخاري المسندة، وقد قيل أنها وهم من محمد بن المثنى.

ص: 238

ولكن خرّجه أبو أحمد الحاكم من روايةٍ عبد الله بن رجاء الغذاني، عن أبي حفص بن العلاء –أيضاً.

وقد رواه يحيى بن سعيدٍ ومعتمر بن سليمان عن معاذ بن العلاء، وكنياه:((أبا غسان)) .

قال أبو أحمد الحاكم: والله أعلم، أهما أخوان: أحدهما يسمى:

ص: 239

عمر، والآخر: معاذ، وحدثا بحديث واحد؟ أو أحدهما محفوظ، والآخر غير محفوظ؟

وذكر: أن معاذ بن العلاء أخا أبي عمرو مشهورٌ، وأن أبا حفص لا يعرفه إلا في هاتين الروايتين. قال: والله أعلم بصحة ذلك. انتهى.

والصحيح في هذا الحديث: معاذ بن العلاء -: قاله أحمد والدارقطني وغيرهما.

وأما روايةٍ أبي عاصم، عن ابن أبي رواد التي علقها البخاري، فخرجها أبو

داود، ولفظ حديثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بدن، قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبراً يارسول الله، يجمع عظامك، أو يحمل عظامك؟ قالَ:((بلى)) ، فاتخذ لهُ منبراً

مرقاتين.

ولم يزد على هذا.

وخرّجه البيهقي، وزاد: ((فاتخذ له مرقاتين - أو ثلاثة -، فجلس عليها.

قال: فصعد النبي صلى الله عليه وسلم فحن جذع في المسجد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يستند

إليه، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فاحتضنه، فقال شيئاً لا أدري ما هو؟ ثم صعد المنبر، وكانت اساطين المسجد جذوعاً، وسقائفه جرائد)) .

وعنده - في أوله -: ((لما أسن وثقل)) .

ورواه عامر بن مدرك، عن ابن أبي رواد، عن نافع، عن تميم الداري –بنحوه، وفي حديثه: ((فصنع له منبراً مرقاتين، والثالثة مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً، فإذا عي قعد فاستراح، ثم قام فخطب –ووذكر الحديث.

ورواية أبي عاصم أصح.

ص: 240

ومن أغرب سياقات أحاديث اتخاذ المنبر: ما رواه عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع، إذ كان المسجد عريشاً، وكان يخطب إلى ذلك الجذع، فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله، هل لك أن نجعل لك شيئاً تقوم عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس وتسمعهم؟ قالَ:

((نعم)) ، فصنع له ثلاث درجات التي على المنبر –ثم ذكر حنينه إليه وسكونه بمسحه بيده -، ثم قال: وكان إذا صلى صلى إليه، فلما هدم المسجد وغير اخذ ذلك الجذع أبي بن كعب، فكأن عنده حتى بلي وأكلته الأرضة، وعاد رفاتاً.

خرّجه الإمام أحمد.

وفي روايةٍ له: أن القائل: ((فلما هدم المسجد)) –إلى اخره، هو الطفيل بن أبي بن كعب.

وخرّجه ابن ماجه –بمعناه.

وخرّجه عبد الله بن الإمام أحمد في ((زيادات المسند)) ، وعنده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((أن تشأ غرستك في الجنة فياكل منك الصالحون، وإن تشأ أعيدك كما كنت حطباً)) فاختار الآخرة على الدنيا، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم دفع إلى أبي، فلم يزل عنده حتى أكلته الأرضة.

ص: 241

وقد خرّجه الطبراني بنحو هذه الزيادة، بإسناد ضعيف، عن عائشة، وفيه: أن المنبر كان أربع مراقٍ. وفي آخره: أن الجذع غار فذهبَ.

وفي ((مسند البزار)) ، بإسناد لا يصح، عن [

] معاذ، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قالَ:((إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم، وان اتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم)) .

وقد أنكره أبو حاتم الرازي وغيره.

وقد قالَ بعض السلف: إن إبراهيم –عليه السلام – هوَ أول من خطب على المنابر.

والصحيح: أن المنبر كانَ ثلاث مراق، ولم يزل على ذَلِكَ في عهد خلفائه الراشدين، ثُمَّ زاد فيهِ معاوية.

وقد عد طائفةٌ من العلماء: تطويل المنابر من البدع المحدثة، منهم: ابن بطة من أصحابنا وغيره.

وقد روي في حديث مرفوع: أن ذَلِكَ من أشراط الساعة، ولا يثبت إسناده.

وكره بعض الشافعية المنبر الكبير جداً، إذا كانَ يضيق به المسجد.

* * *

27 -

ص: 242

باب

الخطبة قائما

وقال أنس: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً.

حديث أنس، هو الذي فيه ذكر الاستسقاء في الجمعة، وسيأتي –أن شاء الله سبحانه وتعالى فيما بعد.

ص: 243

920 -

حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري: نا خالد بن الحارث: نا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً، ثم يقعد، ثم يقوم كما يفعلون الان.

وفي الخطبة قائماً احاديث أخر.

وخَّرج مسلم من حديث سماك، عن جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائماً، فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب، فقد –والله – صليت معه أكثر من ألفي صلاةٍ.

ص: 243

وخَّرج مسلم بإسناده من حديث كعب بن عجرة، أنه دخل المسجد

وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعداً، فقال: انظروا الخبيث، يخطب قاعداً، وقد قال الله تعالى:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة:11] .

وخرّج ابن ماجه من حديث إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعودٍ، أنه سئل: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً أو قاعداً؟ قالَ: إما تقرأ {تَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة:11] ؟

وهذا إسنادٌ جيد.

لكن روي، عن إبراهيم، عن علقمة من قوله. وعن إبراهيم، عن عبد الله منقطعاً.

واستدل بهذه الآية على القيام في الخطبة جماعة، منهم: ابن سيرين، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعودٍ.

وإنما احتاجوا إلى السؤال عن ذلك، لأنه كان في زمن بني امية من يخطب

جالساً، وقد قيل: أن أول من جلس معاوية -: قاله الشعبي والحسن وطاوس.

وقال طاوس: الجلوس على المنبر يوم الجمعة بدعة.

وقال الحسن: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان يخطبون

ص: 244

قياماً، ثم أن عثمان لما رق وكبر كان يخطب، فيدركه ما يدرك الكبير فيستريح ولا يتكلم، ثم يقوم فيتم خطبته.

خرّجه القاضي إسماعيل.

وخَّرج –أيضاً - من روايةٍ ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، أنه قال: أول من جعل في الخطبة جلوساً عثمان، حين كبر واخذته الرعدة جلس هنية، قيل له: هل كان يخطب عمر إذا جلس؟ قال: لا أدري.

وقد روي عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يخطب الخطبة الأولى جالساً، ويقوم في الثانية.

خرّجه ابن سعدٍ.

والظن به أنه لم تبلغه السنة في ذلك، ولو بلغته كان أتبع الناس لها.

وقد قيل: أن ذلك لم يصح عنه؛ فإن الأثرم حكى: أن الهيثم بن خارجة قال لأحمد: كان عمر بن عبد العزيز يجلس في خطبته؟ قال: فظهر منه أنكار لذلك.

ورواية ابن سعدٍ له عن الواقدي، وهو لا يعتمد.

وقد روي عن ابن الزبير –أيضاً - الجلوس في الخطبة الأولى –أيضاً.

ص: 245

خرّجه القاضي إسماعيل.

واختلف العلماء في الخطبة جالساً: فمنهم من قال: لا يصح، وهو قولُ

الشافعي، وحكى روايته عن مالكٍ وأحمد.

وقال ابن عبد البر: اجمعوا على أن الخطبة لا تكون إلا قائماً لمن قدر على القيام.

ولعله أراد إجماعهم على استحباب ذلك؛ فإن الاكثرين على أنها تصح من

الجالس، مع القدرة على القيام، مع الكراهة. وهو قولُ أبي حنيفة ومالك، والمشهور عن أحمد، وعليه أصحابه، وقول إسحاق –أيضاً.

* * *

28 -

ص: 246

باب

يستقبل الإمام القوم

واستقبال الناس الإمام إذا خطب

واستقبل ابن عمر وأنس الإمام.

ص: 247

921 -

حدثنا معاذ بن فضالة: نا هشام، عن يحيى، عن هلال بن أبي ميمونة: نا عطاءٍ بن يسار: سمع أبا سعيدٍ الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر، وجلسنا حوله.

هذا أول حديث طويل، ذكر فيه قولُ النبي صلى الله عليه وسلم:((إنما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)) ، وضرب مثل الدنيا بنبات الربيع.

وهو حديث عظيم، قد خرجاه بتمامه في ((الصحيحين)) من حديث هشام الدستوائي.

وهذا لم يكن في خطبة الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجلس في خطبة الجمعة.

وأما ما ذكره عن ابن عمر وأنس.

ص: 247

فمن طريق ابن عجلان، عن نافع، أن ابن عمر كان يفرغ من سبحته يوم الجمعة قبل خروج الإمام، فاذا خَّرج لم يقعد الإمام حتى يستقبله.

ومن طريق ابن المبارك، قال: قال أبو الجويرية: رأيت أنس بن مالك إذا أخذ الإمام يوم الجمعة في الخطبة يستقبله بوجهه حتى يفرغ الإمام من الخطبة.

وقال يحيى بن سعيدٍ الأنصاري: هو السنة.

وقال الزهري: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ في خطبة استقبلوه بوجوههم.

خرجها البيهقي.

وخَّرج الأثرم من حديث الضحاك بن عثمان، عن نافع، أن ابن عمر كان يتهيأ للإمام قبل أن يخرج، ويتوجه قبل المنبر.

وروى وكيع، عن العمري، عن نافع، أن ابن عمر كان يستقبل الإمام يوم الجمعة إذا خطب.

وفي الباب أحاديث مرفوعة متصلة، لا تصح أسانيدها -: قاله

ص: 248

الترمذي، وقد ذكرتها بعللها في ((شرح الترمذي)) .

وذكر الترمذي: أن العمل على ذلك عند أهل العلم من الصحابة وغيرهم: يستحبون استقبال الإمام إذا خطب، قال: وهو قولُ سفيان والشافعي وأحمد وإسحاق.

وقال ابن المنذر: هو كالإجماع.

وروي عن الشعبي، قال: هو السنة.

وقد تقدم مثله عن يحيى بن سعيدٍ، وكذا قال مالكٍ.

وقال ابن عبد البر: لا أعلمهم يختلفون فيه.

وقال عمر بن عبد العزيز: كل واعظ قبلة.

يعني: أنه يستقبل كما تستقبل القبلة.

وقد روي عن بعض التابعين: أنه يستقبل القبلة حال الخطبة. وهو محمول على إنهم كانوا يفعلونه مع أمير ظالم يسب السلف، ويقول ما لا يجوز استماعه، وكانوا قد ابتلوا بذلك في زمن بني أمية.

والأكثرون على إنهم إنما يستقبلوه في حال الخطبة، وهو قولُ

ص: 249

أحمد.

وقال إسحاق: يستقبلونه إذا خرج، وهو قولُ أبي بكر بن جعفر من أصحابنا.

وقال الأوزاعي: يغفى بصره، ويلقي السمع، فإن نظر إلى الإمام فلا حرج.

وخرّج الإمام أحمد وأبو داود من حديث علي: سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول – وذكر يوم الجمعة -: ((إذا جلس الرجل مجلساً يستمكن فيه من الإستماع والنظر، فأنصت ولم يلغ كان له كفلان من الأجر)) .

وفي إسناده من ليس بمشهورٍ.

وخرّج ابن سعدٍ بأسانيد له متعددةً حديثاً طويلاً، فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب استقبله الناس بوجوههم، وأصغوا بأسماعهم، ورمقوه بأبصارهم.

وهذا لا يصح. والله أعلم.

أما استقبال الإمام أهل المسجد واستدباره القبلة فمجمع عليه –أيضاً -، والنصوص تدل عليه –أيضاً -؛ فإنه يخاطبهم ليفهموا عنه –أيضاً.

وذلك كله سنة، فلو خالفها الإمام فقد خالف السنة، وصحت جمعته.

ولأصحاب الشافعي وجه صعيف: أنها لا تصح. والله أعلم.

* * *

29 -

ص: 250

باب

من قال في الخطبة بعد الثناء: ((أما بعد))

رواه عكرمة، عن ابن عباسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

حديث عكرمة، عن ابن عباسٍ قد أسنده في آخر الباب، فلا أدري لأي معنى علقه في اوله؟

وقد ذكر أبو نعيم في ((مستخرجه)) هذا في الباب الذي قبله.

قال:

922 -

ص: 251

وقال محمود: نا أبو أسامة: نا هشام بن عروة: أخبرتني فاطمة ابنة

المنذر، عن أسماء ابنة أبي بكر، قالت: دخلت على عائشة والناس يصلون.

فذكرت حديث الكسوف، وفيه:

قالت: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تجلت الشمس، فحمد الله واثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:((إما بعد)) –وذكر بقيةٌ الحديث.

ص: 251

هكذا ذكره هنا تعليقاً عن محمود –وهو: ابن غيلان -، عن أبي اسامة.

وذكر بعضه في ((الكسوف)) تعليقاً - أيضاً - عن أبي أسامة.

وأسند الحديث في ((كتاب: العلم)) من حديث وهيب. وفي ((الكسوف)) وغيره من حديث مالكٍ –كلاهما -، عن هشام، وليس في حديثهما: ذكر: ((أما بعد)) .

وخرّج مسلم الحديث بهذه اللفظة من طريق ابن نمير وأبي أسامة –كلاهما - عن هشام، به.

ثم قال البخاري:

923 -

ص: 252

نا محمد بن معمر: نا أبو عاصم، عن جريرٍ بن حازم، قال: سمعت الحسن: نا عمرو بن تغلب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتي بمال –أو سبي -، فقسمه، فاعطى رجالاً وترك رجلاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:((أما بعد، فوالله، إني لأعطي الرجل والذي أدع أحب الي من الذين أعطي)) .

ص: 252

وذكر

الحديث.

سماع الحسن من عمرو بن تغلب مختلف فيه، فأثبته أبو حاتم والبخاري، ونفاه علي بن المديني شيخ البخاري.

وكذلك يحيى بن معين –فيما نقله عنه جعفر بن محمد بن أبان الحراني -، قال: لم يسمع منه، ولم يرو حديثه إلاّ جريرٍ بن حازم، وليس بشيء.

ص: 253

واختلف عن أحمد:

فنقل عنه ابنه صالح، قال: سمع الحسن من عمر بن تغلب أحاديث.

ونقل عنه ابنه عبد الله، قال: كانت سجية في جريرٍ بن حازم: نا الحسن، نا عمرو بن تغلب، وأبو الأشهب يقول: عن الحسن، قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن تغلب.

يريد: أن قول جريرٍ بن حازم: نا الحسن: نا عمرو بن تغلب كانت

ص: 254

عادة له، لا يرجع فيها إلى تحقيق.

وقد ذكر أبو حاتم نحو هذا في أصحاب بقيةٌ بن الوليد، أنهم يروون عنه، عن شيوخه، ويصرحون بتحديثه عنهم، من غير سماع له منهم.

وكذلك قال يحيى بن سعيد القطان في فطر بن خليفة: أنه كان يقول: ((ثنا فلان بحديث)) ، ثم يدخل بينه وبينه رجلاً أخر، كان ذلك سجية منه.

ذكره العقيلي في ((كتابه)) .

وكذا ذكر الإسماعيلي: أن أهل الشام ومصر يتسامحون في قولهم: ((ثنا)) من غير صحة السماع، منهم: يحيى بن أيوب المصري.

وقال:

924 -

ص: 255

نا يحيى بن بكير: نا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب: أخبرني عروة، أن عائشة رضي الله عنها – اخبرته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَّرج ليلة من جوف الليل، فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته.

ص: 255

فذكره، وفيه:

فلما قضى الفجر اقبل على الناس، فتشهد، ثم قال:((أما بعد، أنه لم يخف علي مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها)) .

تابعه: يونس.

يعني: عن الزهري، في لفظه:((أما بعد)) ، وهو من روايةٍ ابن وهبٍ، عن يونس.

ورواه مالكٍ عن الزهري، لم يذكر فيه هذه اللفظة.

وخرّج البخاري حديثه في موضع آخر.

ثم قال:

925 -

ص: 256

نا أبو اليمان: أنا شعيب، عن الزهري: أخبرني عروة، عن أبي حميد الساعدي، أنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عشية بعد الصلاة، فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال:((أما بعد)) .

تابعه: أبو معاوية وأبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن أبي حميد

ص: 256

الساعدي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((أما بعد)) .

وتابعه: العدني، عن سفيان.

هذا قطعة من حديث بعث ابن اللتبية على الصدقة، وقد خرّجه في مواضع تأتي –أن شاء الله سبحانه وتعالى.

وخرّجه في ((الأحكام)) بتمامه من طريق عبدة، عن هشام، وفيه: فقام

رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال:((أما بعد، فإني استعمل رجالاً منكم)) –وذكر الحديث.

وقد ذكر أن هذه اللفظة ذكرها في الحديث: أبو معاوية وأبو أسامة.

وقد خرّجه في ((الزكاة)) من طريق أبي أسامة، فاختصره ولم يتمه.

وخرّجه مسلم من طريق أبي أسامة بتمامه، وفيه ((أما بعد)) .

وخرّجه مسلم –أيضاً - من روايةٍ أبي معاوية، ولم يسق لفظ حديثه بتمامه. وكذلك خرّجه عن العدني، عن سفيان، ولم يسقه بلفظه.

ثم قال:

926 -

ص: 257

نا ابواليمان: أنا شعيب، عن الزهري: حدثني علي بن الحسين، عن المسور بن مخرمة، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعته حين تشهد يقول:((أما بعد)) .

تابعه: الزبيدي، عن الزهري.

والحديث مختصر من قصة خطبة علي لابنة أبي جهل، وقيام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً، فذكر فضل فاطمة عليها السلام.

وقد خرّجه بتمامه في ((مناقب فاطمة)) .

وذكره متابعة الزبيدي، لأن جماعة من أصحاب الزهري رووا الحديث، فلم يذكروا فيه: لفظة: ((أما بعد)) .

وللمسور حديث آخر في المعنى، في قصة قدوم هوازن وإسلامهم، ورد سبيهم عليهم.

خرّجه البخاري في ((الهبة)) من روايةٍ الزهري، عن عروة، عن المسور بن

مخرمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه وفد هوزان قام في الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال:((أما بعد، فإن أخوانكم جاءونا تائبين)) –الحديث.

ثم قال:

ص: 258

927 -

ثنا إسماعيل بن ابان - هو: الوراق -: نا ابن الغسيل –واسمه: عبد الرحمن بن سليمان -: نا عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر –وكان أخر مجلس جلسه –متعطفاً ملحفة على منكبه، قد عصب رأسه بعصابة دسمة، فحمد الله وأثنى

عليه، ثم قال:((أيها الناس، إلي)) ، فثابوا اليه، ثم قال:((أما بعد، فإن هذا الحي من الأنصار يقلون ويكثر الناس، فمن ولي شيئاً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فاستطاع أن يضر فيه أحداً أو ينفع فيه أحداً، فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم)) .

وفي الباب أحاديث أخر.

وقد خَّرج البخاري في ((المغازي)) حديث عائشة في قصة الافك بطولها، وفيه: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: ((أما بعد، يا عائشة، فإنه بلغني عنك كذا وكذا)) –الحديث.

وخرّجه في موضع أخر، وليس فيه:((أما بعد)) .

وخرّج مسلم في ((صحيحه)) من حديث جريرٍ البجلي، قال: ((كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه قوم مجتابي النمار، فصلى الظهر، ثم صعد

ص: 259

منبراً صغيراً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:((إما بعد؛ فإن الله أنزل في كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] –)) وذكر الحديث في الحثّ على الصدقة.

وخرّجه من طريق أخرى، ليس فيها لفظه:((أما بعد)) .

وخرّج – أيضاً - من حديث سعيدٍ بن جبير، عن ابن عباسٍ، أن ضماداً قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح، وان الله يشفي على يدي من

يشاء، فهل لك؟ فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحمد لله نستعينه، من يهده الله فلا مضل

له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد)) .

فدلت هذه الأحاديث كلها على أن الخطب كلها، سواء كانت للجمعة أو

لغيرها، وسواء كانت على المنبر أو على الارض، وسواء كانت من جلوس أو قيام، فإنها تبتدا بحمد الله والثناء عليه بما هو أهله، ثم يذكر بعد ذلك ما يحتاج إلى ذكره من موعظة أو ذكر حاجة يحتاج إلى ذكرها، ويفصل بين الحمد والثناء، وبين ما بعده بقوله: أما بعد.

وقد قيل: أن هذه الكلمة فضل الخطاب الذي أوتيه داود –عليه السلام، وقد سبق ذكر ذلك في أول الكلام في الكلام على حديث كتاب

ص: 260

النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل: ((أما بعد؛ فاني ادعوك بدعاية الإسلام)) .

والمعنى في الفصل بأما بعد: الإشعار بأن الأمور كلها وان جلت وعظمت فهي تابعة لحمد الله والثناء عليهِ، فذاك هوَ المقصود بالاضافة، وجميع المهمات تبع له من أمور الدين والدنيا.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع)) ، وفي روايةٍ:((أجذم)) .

خرّجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة.

وقد روي مرسلاً.

فالحمد لله متقدم على جميع الكلام، والكلام كله متأخر عنه وتبع له.

ولا يستثنى مما ذكرناه من الخطب إلا خطبة العيد، فقد قيل: إنها تستفتح

بالتكبير.

ص: 261

وقد روى عن أبي موسى الأشعري، أنه استفتح خطبتي العيدين بالحمد، ثم كبر بعد الحمد. وهو الأظهر.

وكذا قيل في خطبة الاستسقاء.

ومن الناس من قال: تستفتح بالحمد –أيضاً.

وقد ذكر بعض ائمة الشافعية: أن الخطب كلها تستفتح بالحمد بغير خلافٍ، وإنما التكبير في العيد يكون قبل الخطبة، وليس منها، وإن ذلك نص الشافعي.

وكذا ذكر طائفةٌ من أصحابنا: أن ظاهر كلام أحمد أنه يكبر إذا جلس على المنبر قبل الخطبة، وأنه ليس من الخطبة، فإذا قام استفتح الخطبة بالحمد.

وذكروا: قولُ عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: يكبر الإمام على المنبر يوم العيد قبل الخطبة تسعاً، وبعدها سبعاً.

فأما خطبة الجمعة، فلا خلاف أنها تستفتح بالحمد.

وخرّجه مسلم في ((صحيحه)) من حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب أحمرت عيناه، وعلا

ص: 263

صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول:((صبحكم ومساكم)) ، ويقول ((بعثت أنا والساعة

كهاتين)) ، ويقرن بين أصبعيه: السبابة والوسطى، ويقول: ((أما بعد؛ فإن خيرٌ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة

ضلالة)) ، ثم يقول:((أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي)) .

وفي روايةٍ له - أيضاً - بهذا الإسناد: كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه، ثم يقول على إثر ذلك، وقد علا صوته - ثم ساق الحديث بمثله.

وفي روايةٍ له – أيضاً -: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول:((من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله)) –ثم ساق الحديث بمثل الرواية الأولى.

وقد أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بهذه الخطبة لكل من له حاجة، أن يبدأ بها قبل ذكر

حاجته، كما خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن مسعودٍ، قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 264

خطبة الحاجة: ((إن الحمد لله نستعينه ونستغفرة، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا إله الا الله، واشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يا ايها الذين امنوا اتقوا الله الذي تساءلون به والارحام أن الله كان عليكم رقيبا} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}

[آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا} - إلى قوله -:{فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:7107] .

وهذا لفظ أبي داود.

وفي روايةٍ له: ((الحمد لله)) ، بغير ((إن)) ، وهي روايةٍ الأكثرين.

وفي روايةٍ له: ((في خطبة الحاجة في النكاح وغيره)) .

وعند ابن ماجه: ((الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفرة، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا)) –وذكر الحديث، وفيه: زيادة: ((وحده لا شريك

له)) .

وحسن الترمذي هذا الحديث، وصححه جماعة، منهم: ابن خراش وغيره.

وخرّج النسائي في ((اليوم والليلة)) من حديث أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم ((فإن شئت أن تصل خطبتك بآيٍ من القرآن)) - فذكر آلايات الثلاث، ثم قال:((أما بعد، ثم يتكلم بحاجته)) .

ص: 265

وخرّجه أبو داود من وجه آخر، عن ابن مسعودٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا تشهد قال:((الحمد لله)) - فذكره كما تقدم، زاد فيه –بعد قوله:((وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)) -: ((أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً)) .

وروى أبو مالكٍ الأشجعي، عن نبيط بن شريط، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب عند الجمرة فقال:((الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفرة، وأشهد أن لا إله الا الله، وان محمداً عبده ورسوله، واوصيكم بتقوى الله)) –وذكر الحديث.

وخرّج أبو داود في ((مراسليه)) من روايةٍ يونس، عن ابن شهاب، أنه سأله عن تشهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة؟ فقالَ ابن شهاب: ((أن الحمد لله وحده واستعينه

واستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل لهُ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله فقد غوى، نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه، ويطيع رسوله، ويتبع رضوانه، ويجتنب سخطه؛ فإنما نحن به وله)) .

وخرّجه في ((السنن)) مختصراً.

وخرّجه في ((المراسيل)) –أيضاً - من روايةٍ عقيل، عن ابن شهاب، قال: كان صدرخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره)) – فذكره بمثله.

ص: 266

ومن روايةٍ يونس، عن ابن شهاب، قال: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول إذا خطب:((كل ما هو آت قريب، لا بعد لما هو آت، لا يعجل الله فيعجله أحد، ولا يخف لامر الناس، ما شاء الله لا ما شاء الناس، يريد الناس أمراً، ويريد الله أمراً، ما شاء الله كان، ولو كره الناس، ولا مبعد لما قرب الله، ولا مقرب لما بعد الله، لا يكون شيء إلا بإذن الله عز وجل) .

ومن طريق هشام بن عروة، عن أبيه، أنه قال: كان أكثر ما كان رسول الله

صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: ((أتقوا الله وقولوا قولاً سديداً)) .

وفي خطب النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث أخر مرسلة، يطول ذكرها.

فظهر بهذا: أن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تشتمل على حمد الله والثناء عليه بما هو

أهله، وعلى الشهادة لله بالتوحيد، ولمحمد بالرسالة.

وقد خرّج أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم،

ص: 267

أنه قال: ((كل خطبة ليس فيها تشهدٌ فهي كاليد الجذماء)) .

ورجاله ثقاتٌ.

وأنه صلى الله عليه وسلم كان يعظ الناس ويذكرهم بالله وبوحدانيته، وتفرده بالربوبية والمشيئة، ويحثهم على تقواه وطاعته.

وكان - غالباً - يفصل بين التحميد وتوابعه من الشهادتين، وما بعد ذلك من الوعظ والأمر والنهي، بقوله:((أما بعد)) .

وكان –أيضاً - يتلو من القرآن في خطبته.

وفي ((الصحيحين)) عن يعلى بن أمية، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر:

{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} [الزخرف:77] .

وفي ((صحيح مسلم)) ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ كل جمعةٍ على المنبر، إذا خطب الناس:{ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ} [ق:1] .

وفيه - أيضاً -، عن جابر بن سمرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له خطبتان، يجلس

بينهما، يقرأ القرآن، ويذكر الناس.

وخرّجه النسائي، ولفظه:((كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم، ويقرأ آيات، ويذكر الله)) .

وترجم عليه: ((القراءة في الخطبة الثانية والذكر فيها)) .

وخرّجه ابن ماجه، ولفظه:((ثم يقوم فيقرأ آياتٍ)) .

فإن كان ذلك

ص: 268

محفوظاً فهو صريح فيما بوب عليه النسائي.

وظاهر كلام الخرقي من أصحابنا يدل على مثله –أيضاً.

وفي القراءة في الخطبة أحاديث كثيرةٌ:

وروى ابن لهيعة: حدثني أبو صخر –وهو: حميد بن زياد -، عن نافعٍ، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع قراءة سورة الأعراف في كل جمعةٍ.

خرّجه ابن عدي.

فإن كان هذا محفوظاً فلعله كان يواظب على ذلك؛ لما فيها من قوله: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ?وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف:204) فيكون مقصوده: الأمر بالاستماع والانصات للخطبة والموعظة.

وقد قال الإمام أحمد: أجمعوا أن هذه الآية نزلت في الصلاة، وفي الخطبة.

وكان عثمان بن عفان يأمر في خطبته بالإنصات؛ ولهذا اعتاد الناس في هذه الأزمان أن يذكروا قبل الخطبة بين يدي الخطيب بصوت عال يسمع الناس حديث أبي هريرة في الأمر بالإنصاف، كما سيأتي ذكره –أن شاء الله سبحانه وتعالى.

ص: 269

وكان مع ذلك مقتصداً في خطبته ولا يطيلها، بل كانت صلاته قصداً وخطبته قصداً.

خرّجه مسلم من حديث جابر بن سمرة.

وخَّرج –أيضاً - من حديث عمار، عن {النبي صلى الله عليه وسلم: قال} : ((أن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة؛ فإن من البيان سحراً)) .

ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي على نفسه في الخطبة، بل كان يشهد لنفسه بالعبودية والرسالة؛ ولكن روي عنه الأمر بالإكثار من الصلاة عليه في يوم الجمعة وليلة الجمعة، وان الصلاة عليه معروضة عليه.

ص: 270

وقد روي في حديث مرسل، رواه ابن إسحاق، عن المغيرة بن عثمان بن محمد بن الاخنس، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، أن قام فيهم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:((أما بعد، ايها الناس، فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله، ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه، ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه –ليس له ترجمانٌ، ولا حاجب يحجبه دونه -: ألم يأتك رسولي، فيبلغك، وآتيتك مالاً، وأفضلت، فما قدمت لنفسك؟ فينظر يميناً وشمالا، فلا يرى شيئاً، ثم ينظر قدامه، فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يفعل فبكلمة طيبة؟ فإن بها تجزئ الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام على رسول الله ورحمته وبركاته)) .

فالصلاة والسلام عليه في الخطبة يوم الجمعة حسنٌ متأكد الاستحباب، لكن لا يظهر أنه تبطل الخطبة بتركه، بل الواجب الشهادتان مع الحمد والموعظة.

ص: 271

وأما القراءة، فالأكثرون على وجوبها في الخطبة، وهو المشهور عن أحمد. وحكي عنه روايةٍ، أنها مستحبةٌ غير واجبةٍ.

واكثر أصحابنا على ايجاب الصلاة علىالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: الواجب الشهادة له بالرسالة والعبودية.

وفي وجوب ذلك كله –في كل واحدة من الخطبتين - نظر، والأشهر عند أصحابنا: وجوبه.

وظاهر كلام الخرقي: أن الموعظة تكون في الخطبة الثانية.

ولأصحابنا وجه في القراءة، أنها تجب في احدى الخطبتين.

والمنصوص عن أحمد: ما نقله عنه محمد بن الحكم، وقد سأله عن الرجل يخطب يوم الجمعة، فيكبر، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويحمد الله، تكون خطبةً؟ وقلت له: إن أصحاب ابن مسعودٍ يقولون: إذا كبر، وصلى {على} النبي صلى الله عليه وسلم، وحمد الله، تكون خطبةً؟ قال: لا تكون خطبةً، إلا كما خطب النبي صلى الله عليه وسلم، أو خطبةً تامةً.

وهذا يدل على أنه لا بد من ذلك من موعظةٍ.

وقد صرح به في روايةٍ حنبل، فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب وعظ فأنذر وحذر الناس.

فهذا تفسير قوله: لا تكون خطبةً إلا كما خطب النبي صلى الله عليه وسلم.

ومذهب الشافعي وأصحابه: لا يصح

ص: 272

‌35 - باب

الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة

ص: 273

933 -

حدثنا إبراهيم بن المنذر: ثنا الوليد: ثنا أبو عمرو: حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالكٍ، قال: اصابت الناس سنةٌ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم جمعةٍ قام أعرابيٌ، فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه - وما نرى في السماء قزعة - ـ، فوالذي نفسي بيده، ما وضعها حتى ثار السحاب امثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى. وقام ذلك الأعرابي –أو قال: غيره -، فقال: يا رسول الله، تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال:((اللهم، حوالينا، ولا علينا)) . فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب الا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجوبة وسال الوادي –قناة - شهراً، ولم يجئ احد من ناحية الا حدث بالجود)) } .

باهرة من آيات النبوة ومعجزاتها.

و ((لجوبة)) –بفتح الجيم -: الفجوة بين البيوت، والفجوة متسع في الارض –وغيرها –فارغ.

وقال الخطابي: المراد بالجوبة: الترس. قال: وفي حديث أخر: ((فبقيت المدينة كالترس)) ، والمراد: أنها بقيت في استدارتها غير ممطورةٍ.

ورواه بعضهم: ((الجونة) - بالنون -، وهو تصحيفٌ.

والمراد: أن السحاب انكشط عن المدينة وبقي على ما حولها.

وهذا يدل على أن القائم إليه في الجمعة الثانية كان من أهل المدينة، وأنه شكا ضررهم؛ ولذلك لم يدع برفع المطر عن غيرهم.

و ((قناة)) : اسم وادٍ بالمدينة، تجري عند السيول و ((الجود)) –بفتح الجيم -: المطر العظيم.

ص: 273

‌36 - باب

الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب

وإذا قال لصاحبه: ((أنصت)) ، فقد لغا

وقال سلمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((وينصت إذا تكلم الإمام)) .

حديث سلمان، خرّجه البخاري فيما تقدم في موضعين.

ص: 274

934 -

حدثنا يحيى بن بكير: نا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب: أخبرني سعيدٍ بن المسيب، أن أبا هريرة أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: انصت –والإمام يخطب –فقد لغوت)) .

حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٍ، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قلت لصاحبك: أنصت، فقد لغوت)) .

هذا الحديث الثاني، يوجد في بعض روايات هذا الكتاب، ولا يوجد في أكثرها.

الفضل في الجمعة، وحصول التكفير بها مشروط بشروط،

ص: 274

منها: أن يدنو من الإمام، ويستمع وينصت، ولا يلغو.

وقد ورد ذلك في أحاديث متعددة، قد ذكرنا بعضها فيما تقدم.

و ((اللغو)) : هو الكلام الباطل المهدر، الذي لا فائدة فيه.

ومنه: لغو اليمين، وهو مالا يعبأ به ولا ينعقد.

ومنه: قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاما} (الفرقان:72)، وقوله {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً?} (النبأ:35) .

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذ الحديث الأمر بالإنصات في حال الخطبة لغواً، وإن كان أمر بمعروف ونهيا عن منكرٍ، فدل على أن كل كلام يشغل عن الاستماع والإنصات فهو في حكم اللغو، وإنما يسكت المتكلم بالإشارة.

وكان ابن عمر يشير اليه، وتارة يحصبه بالحصى.

وكره علقمة رميه بالحصى.

ولا خلاف في جواز الإشارة اليه بين العلماء، الا ما حكي عن طاوس وحده، ولا يصح؛ لأن الإشارة في الصلاة جائزةٌ، ففي حال الخطبة اولى.

ص: 275

وروى أنس، أن رجلاً دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فأشار الناس اليه أن اسكت، فساله ثلاث مراتٍ، كل ذلك يشيرون اليه أن اسكت، فقال له رسول الله

صلى الله عليه وسلم: ((ويحك، ما أعددت لها)) –وذكر الحديث.

خرّجه البيهقي وغيره.

ولا يستثنى من ذلك إلا ما لابد منه، مما يجوز قطع الصلاة لأجله، كتحذير الأعمى من الوقوع في بئر ونحوه.

فأما رد السلام وتشميت العاطس، ففيه اختلاف سبقت الإشارة اليه، وكذلك حكم كلام الإمام ومن يكلمه لمصلحةٍ.

وأجمع العلماء على أن الأفضل لمن سمع خطبةً الإمام أن ينصت ويستمع، وانه افضل ممن يشتغل عن ذلك بذكر الله في نفسه، أو تلاوة قرآن أو دعاءٍ.

قال عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ، قلت لعطاء: أسبح في يوم الجمعة واهلل، وأنا اعقل الخطيب. قال: لا، إلا الشيء اليسير، واجعله بينك وبين نفسك.

وروى بإسناده، عن طاوسٍ، قال: إذا كان الإمام على المنبر فلا يدع احد بشيء، ولا يذكر الله، إلا أن يذكر الإمام.

ص: 276

وقول مالكٍ كقول عطاءٍ -: ذكره في ((تهذيب المدونة)) .

وروى حرب بإسناده، عن سفيان، عن منصورٍ، عن إبراهيم، قال: سألت علقمة: متى يكره الكلام يوم الجمعة؟ قال: إذا خَّرج الإمام، وإذا خطب الإمام. قلت: فكيف ترى في رجل يقرأ في نفسه؟ قال: لعل ذلك لا يضره، أن شاء الله.

قال سفيان: ذاك إذا لم يسمع الخطبة.

وروي عن سعيدٍ بن جبير والنخعي: الرخصة في القراءة والإمام يخطب.

ولعله إذا لم يسمع الخطبة أو إذا تكلم الإمام بما لا يجوز استماعه.

وكره الأوزاعي لمن سمع الخطبة أن يتشهد، وقال: قد جهل، ولم تذهب جمعته.

واختلفوا: في الإمام إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة: هل يوافقه المأموم؟

فقالت طائفةٌ: يصلي المأموم على النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، وهو قولُ مالكٍ وأبي يوسف وأحمد وإسحاق.

واستدلوا: بأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً يوم الجمعة متأكدة الاستحباب، ومختلف في وجوبها كلما ذكر، فيشرع الاتيان بها في حال الخطبة عند ذكره، لأن سببها

ص: 277

موجود، فهو كالتأمين على دعاء الإمام، وأولى.

وقال بعض الشافعية: إذا قرأ الإمام: {إِنَّ اللَّهَ?وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى

النَّبِيِّ} (الأحزاب:56) –الآية، جاز للمأموم أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويرفع بها صوته.

وقالت طائفةٌ: بل ينصت، وهو قولُ سفيان وأبي حنيفة ومحمد والليث بن سعدٍ ومالك –في روايةٍ – والشافعي.

وقال الأوزاعي: ينبغي للإمام إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة أن يسكت حتى يصلي الناس، فإن لم يسكت فأنصت، وأمن على دعائه.

واختلفوا فيمن لم يسمع الخطبة لبعده: هل يذكر الله ويقرأ القرآن في نفسه، أو ينصت؟ على قولين:

أحدهما: يذكر الله في نفسه ويقرأ، وهو قولُ علقمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق.

وقولهم هذا شبه قول الأكثرين في قراءة المأموم إذا لم يسمع قراءته.

والثاني: أنه ينصت ولا يتكلم بشيء، وهو قولُ الزهري والأوزاعي ومالك وأبي حنيفة.

واستدلوا: بقول عثمان: إن للمنصت

ص: 278

الذي لا يسمع مثل ما للسامع المنصت.

خرّجه مالكٌ في ((الموطإ)) .

وقالت طائفةٌ: من لا يسمع لا إنصات عليه، بل يباح له الكلام، وهو قولُ عروة بن الزبير، وطائفة من أصحاب الشافعي.

وأومأ إليه أحمد، فإنه قال: يشرب الماء إذا لم يسمع الخطبة.

واختاره القاضي أبو يعلى من أصحابنا.

وقال ابن عقيل منهم: له أن يقرئ القرآن، ويذاكر بالعلم.

وهو بعيدٌ؛ فإن رفع الصوت ربما منع من أقرب منه إلى الإمام ممن يسمع من السماع، بخلاف الذكر في نفسه والقراءة.

واختلفوا: هل انصات من سمع الخطبة واجبٌ، وكلامه في تلك الحال محرم، أو هو مكروه فقط، فلا يأثم به؟ على قولين:

أحدهما: أنه محرم، وهو قول الأكثرين، منهم: الأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي –في القديم – وأحمد –في المشهور عنه.

والمنقول عن أكثر السلف يشهد له.

وقال عطاءٌ ومجاهد: الانصات يوم الجمعة واجبٌ.

وقد أمر ابن مسعودٍ بقرع رأس المتكلم بالعصى، وكان ابن عمر يحصبه

بالحصباء.

وروي عنه، أنه قال: المتكلم لا

ص: 279

جمعةٍ له، ولمن أجابه: أنت حمارٌ.

وقال ابن مسعودٍ وغيره لمن تكلم في جمعةٍ: هذا حظك من صلاتك.

ويدل على تحريمه: قولُ الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204]، وقد تقدم قولُ الإمام أحمد: اجمعوا أنها نزلت في الصلاة والخطبة.

ولأن الخطبة وجبت في الجمعة تذكيراً للناس وموعظةً لهم، فاذا لم يجب استماعها لم تبق فائدة في وجوبها في نفسها؛ فإن إيجاب المتكلم بما لا يجب استماعه يصير لغواً لا فائدة له.

وفي ((مسند الإمام أحمد)) من حديث مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: أنصت، لا جمعةٍ له)) .

وإنما شبهه بالحمار يحمل أسفاراً، لأن الحمار لا ينتفع من حمله الأسفار بشيء، فكذلك من لم يستمع الإمام يوم الجمعة.

وهذا المثل ضربه الله لليهود الذين لم ينتفعوا بشيء من علمهم، وليس لنا مثل بالسوء، ولا التشبه بمن ذمه الله من أهل الكتاب قبلنا، فيما ذموا عليه.

وخَّرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم،

ص: 280

قال: ((من دنا من الإمام فلغا، ولم يستمع ولم ينصت، كان له كفل من الوزر، ومن قال له: مه فقد لغا، ومن لغا فلا جمعةٍ له)) .

والقول الثاني: أنه مكروه غير محرم، وهو قولُ الشافعي –الجديد – وحكي روايةً عن أحمد.

واختلف من قال بتحريمه: هل تبطل به الجمعة؟

واختلف من قال بتحريمه: هل تبطل به الجمعة؟

فحكي عن طائفةٌ أنه تبطل به الجمعة.

قال عطاءٌ الخراساني وعكرمة: من لغا فلا جمعةٍ له.

وقال الأوزاعي: من تكلم عمداً صارت جمعته ظهراً، ومن تكلم ساهياً لم يتره الله فضلها، إن شاء الله تعالى.

وزعم بعضهم أن قولُ الأوزاعي هذا يخالف الإجماع، وليس كذلك، ولم يرد الأوزاعي أنه يصلي ظهراً، إنما أراد أن ثواب جمعته يفوته، ويبقى له فضل صلاة الظهر، وتبرأ ذمته منها.

وكذلك قال فيمن قال كتاباً والإمام يخطب، قال: ذاك حظه من جمعته، ولم يامره باعادة الصلاة. وكذلك قال فيمن شرب الماء والإمام يخطب.

وقد روي في احاديث متعددةٍ مرسلةٍ، وبعضها متصلة الأسانيد، وفيها ضعف، أن من لغا لا جمعةٍ له، وأن ذلك حظه منها.

والمراد: أنه

ص: 281

يفوته ثواب الجمعة، وبذلك فسره عطاءٍ وابن وهبٍ –صاحب

مالكٍ.

وقال إسحاق: يخشى عليه فوات الأجر.

قال عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ: يقال: من تكلم فكلامه حظه من الجمعة –يقول: من أجر الجمعة، فأما أن يوفي أربعاً، فلا.

وقال –أيضاً -: قلت لعطاء: هل تعلم شيئاً يقطع جمعةٍ الإنسان، حتى يجب أن يصلي أربعاً، من كلام أو تخطي رقاب الناس، أو شيء غير ذلك؟ قال: لا.

وكذا قال الحسن والزهري، فيمن تكلم والإمام يخطب: يصلي ركعتين.

وقال الثوري: يستغفر الله، ويصلي.

ولا يصح عن أحدٍ خلاف ذلك. والله أعلم.

واختلفوا: متى يجب الإنصات يوم الجمعة؟

فقال الجمهور: بشروع الإمام في الخطبة، وهو المروي عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه، وكانوا يفعلونه في زمانه، وروي عن سعدٍ بن أبي وقاص وابن عباسٍ.

وقالت طائفةٌ: ينقطع بخروج الإمام، وإن لم يتكلم، كما تنتطع الصلاة

بخروجه، وهو قولُ طائفةٌ من الكوفيين، منهم: الحكم، وحكي عن أبي حنيفة، وروي عن ابن عمر وابن عباسٍ.

ص: 282

وقد خرّج البخاري حديث سلمان الفارسي في الانصات بلفظين: في أحدهما: ذكر خروج الإمام، وفي الآخر: ذكر كلامه.

فمن الناس من قال: رواية الخروج مطلقة، تحتمل حالة الكلام وغيرها، ورواية الكلام مقيدة فتقضي على المطلقة.

ومنهم من قال: إن الرواية المطلقة إنما دلت على اثبات فضل ترك الكلام

بالخروج، لا على منعه وتحريمه.

واستحب عطاءٌ: أن يتكلم من حضر الجمعة قبل أن يخطب الإمام.

وذكر عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ: قال: إذا خرج الإمام يوم الجمعة فافصل بكلام قبل أن يخطب. قلت: سلم الإمام، فرددت عليه أيكون ذلك فصلا؟ قال: إني أحب أن تزيد –أيضاً - بكلام، السلام في القرآن.

يعني: أن السلام لا يكفي في الفصل؛ لأنه مما في القرآن، والمقصود: الفصل بكلام من كلام الآدميين.

وهذا قولُ غريبٌ.

واختلفوا: إلى أي وقتٍ ينتهي النهي عن الكلام؟

فقال الجمهور: ينتهي بفراغ الإمام من الخطبتين، ويجوز الكلام مع نزوله، وبين الصلاة والخطبة.

ص: 283

وقالت طائفةٌ: ينتهي النهي إلى الدخول في الصلاة.

وقد سبق ذكر ذلك عند ذكر الكلام بين الإقامة والصلاة بما يغني عن إعادته

هاهنا.

واتفقوا على أن النهي عن الكلام يستمر ما دام يتكلم بما يشرع التكلم به في الخطبة، من حمد الله والثناء، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقراءة القرآن، والموعظة وغير ذلك.

وحكى ابن عبد البر عن طائفةٌ، منهم: الشعبي وأبو بردة، أنه لا ينهى عن الكلام إلاّ في حال قراءة القرآن خاصةً، ويجوز في غيرها.

وهذا لا يصح عنهم، وسنذكر وجه ما روي عنهم فيما بعد –أن شاء الله تعالى.

ولو شرع الإمام في خطبته في كلامٍ مباحٍ أو مستحب كالدعاء، فإنه يستمع له وينصت، وهذا قولُ جمهور العلماء، منهم: عطاءٌ وغيره.

ولأصحابنا ثلاثة أوجهٍ: أحدها: تحريم الكلام في الحالين. والثاني: لا يحرم. والثالث: أن كان مستحباً كالدعاء حرم الكلام معه، وإن كان مباحاً لم يحرم.

فأما أن تكلم بكلام محرم، كبدعةٍ أو كسب السلف، كما كان يفعله بنو أمية، سوى عمر بن عبد العزيز –رحمة الله عليه -، فقالت طائفةٌ: يلحق بالخطب وينصت لهُ، روي عن عمرو بن مرة وقتادة.

ص: 284

والأكثرون على خلاف ذلك، منهم: الشعبي وسعيد بن جبيرٍ وأبو بردة وعطاءٌ والنخعي والزهري وعروة والليث ابن سعدٍ.

وهو الصحيح؛ فإن الله تعالى يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68] الآية، وما كانَ محرماً حرم استماعه والانصات إليه، ووجب التشاغل عنه كسماع الغناء والآت اللهو، ونحو ذلك.

ولعل قول عمرو بن مرة وقتادة في كلامٍ مباحٍ لا في محرمٍ.

وفي بطلان الخطبة بالكلام المحرم قبل فراغ أركان الخطبة وجهان لأصحابنا، كالوجهين لهم في بطلان الأذان بالكلام المحرم في أثنائه.

وفي جواز الكلام في جلوس الإمام بين الخطبتين وجهان لأصحابنا والشافعية، ومنعه أصحاب مالكٍ.

وهذا كله في حق الجالس في المسجد من حين خروج الإمام، فأما من دخل المسجد في حال الخطبة، فقال طائفةٌ: إنما يمتنع عليه الكلام إذا جلس وأخذ مجلسه، وما دام يمشي فله أن يتكلم ويكلم من معه، وهذا قولُ الزهري وقتادة والثوري والشافعي.

وعموم قوله: ((إذا قلت لصاحبك: أنصت - والإمام يخطب – فقد لغوت)) ، ويشمل القائم والقاعد والماشي.

* * *

37 -

ص: 285

باب

الساعة التي في يوم الجمعة

ص: 286

935 -

حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالكٍ عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة، فقال:((فيه ساعةٌ لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ، وهو قائمٌ يصلي يسال الله شيئاً، إلا أعطاه إياه)) - وأشار بيده يقللها.

وخرّجه في ((كتاب الطلاق)) في ((باب: الإشارة في الطلاق وغيره)) من طريق آخر، فقال:

نا مسددٌ: نا بشر بن المفضل: نا سلمة بن علقمة، عن محمد

ص: 286

بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ((في الجمعة ساعةٌ، لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ، قائمٌ يصلي، يسأل الله خيراً، إلا أعطاه)) –وقال بيده، ووضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر، قلنا: يزهدها.

وخرّجه في ((الدعوات)) - أيضاً - من روايةٍ أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة – بمعناه، وقال فيه: وقال بيده. قلنا: يقللها، يزهدها.

قوله: ((في الجمعة)) - وفي الرواية الأخرى: ((في يوم الجمعة –ساعةٌ)) .

يقتضي أنها في كل يوم جمعةٍ: وهذا قولُ جمهور العلماء.

وقد تنازع في ذلك أبو هريرة وكعب، فقال: أبو هريرة في كل يوم جمعةٍ.

وقال كعبٌ: في السنة مرةً، ثم رجع كعب إلى قولُ أبي هريرة، ثم ذكر أبو هريرة لعبد الله بن سلامٍ ما قاله كعبٌ أولاً، فكذبه فقال له: إنه رجع عنه.

وقد زعم قوم أن ساعة الإجابة في الجمعة رفعت.

فروى عبد الرزاق في ((كتابه)) بإسناده، أن أبا هريرة قيل له: زعموا أن ليلة القدر رفعت. قال: كذب من قال ذلك. قيل له: فهي في كل رمضان نستقبله؟ قال: نعم. فقيل له: إنهم زعموا أن الساعة في يوم الجمعة التي لا يدعو فيها مسلم إلا استجيب له رفعت. قال: كذب من قال ذلك. قيل له: هي في كل جمعةٍ نستقبلها؟ قال: نعم.

ص: 287

وقوله: ((ساعةٌ)) يحتمل أنه أراد بها الساعة الزمنية من ساعات النهار.

زقال عبد الله بن سلامٍ: النهار اثنا عشرة ساعةً، والساعة التي تذكر من يوم الجمعة آخر ساعات النهار.

خرّجه عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ: حدثني موسى بن عقبة، أنه سمع أبا سلمة بن عبد الرحمن، أنه سمع عبد الله بن سلام يقوله.

وهذا إسنادٌ صحيحٌ.

وقد رواه الجلاح أبو كثيرٍ، عن أبي سلمة، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه.

خرّجه أبو داود والنسائي.

وعندي: أن روايةٍ موسى بن عقبة الموقوفة أصح.

ويعضده: أن جماعةً رووه، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام، ومنهم من قال: عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن عبد الله بن سلامٍ، كما سياتي.

وظاهر هذا: أنها جزء من اثني عشر جزء من النهار، فلا تختلف بطول النهار وقصره، ولكن الإشارة إلى تقليلها يدل على أنها ليست ساعةً زمانيةً، بل هي عبارة عن زمن يسيرٍ.

ص: 288

وقوله –في الرواية الأخرى -: ((يزهدها)) ، معناه: يقللها –أيضاً -، ومنه الزهد في الدنيا، وهو احتقارها وتقليلها وتحقيرها، هو من اعمال القلوب، لا من أعمال الجوارح.

وقد روي حديث يدل على أنها بعض ساعةٍ:

فروى الضحاك بن عثمان، عن سالمٍ أبي النضر، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلامٍ، قال: قلت –ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ -: إنا لنجد في كتاب الله: في يوم الجمعة ساعة، لا يوافقها عبد مؤمن يصلي، يسأل الله شيئاً، إلا قضى له حاجته. قال عبد الله: فاشار الي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أو بعض ساعة)) . قلت: صدقت ((أو بعض ساعة)) . قلت: أي ساعة هي؟ قال: ((آخر ساعة من ساعات النهار)) . قلت: إنها ليست ساعة صلاةٍ؟ قال: ((بلى، أن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس، لا يجلسه إلا الصلاة، فهو في صلاة)) .

خرّجه الإمام أحمد وابن ماجه، وهذا لفظه.

ورواته كلهم ثقات؛ لكن له علةٌ مؤثرةٌ، وهي أن الحفاظ المتقنين رووا هذا الحديث، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في ذكر ساعة الإجابة، وعن عبد الله بن سلامٍ في تعيينها بعد العصر.

كذلك رواه محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

خرّجه من طريقه مالكٍ في ((الموطإ)) ، وأحمد وأبو داود والترمذي، وصححه.

وذكر فيه: ((خيرٌ

ص: 289

يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه ساعة الإجابة)) ورفع ذلك كله.

ثم ذكر أبو هريرة، عن عبد الله بن سلامٍ، أنه قال له: هي بعد، وأنه ناظره في الصلاة فيها.

وكذا رواه محمد بن عمرو، عن أبي سلمة مختصراً.

ورواه سعيدٍ بن الحارث، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة –مرفوعاً.

وفي روايةٍ عنه بالشك في رفعه في ساعة الإجابة، وجعل ذكر تعيينها من روايةٍ أبي سلمة، عن عبد الله بن سلامٍ.

وكذا رواه معمرٌ، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة.

ورواه الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فجعل الحديث كله عن كعب في:((خيرٌ يومٍ طلعت فيه الشمس يوم الجمعة)) .

لم يرفع منه شيئاً، وقال: لم اسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، حدثني به كعبٌ.

ورواه حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن كعب، قال: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم جمعةٍ، فيه خلق الله آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة.

ص: 290

ورواه معاوية بن سلامٍ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة –موقوفاً.

ورواه محمد بن كثير، عن الأوزاعي، فرفعه.

ورفعه خطأٌ.

ورجح هذه الرواية أبو زرعة الدمشقي.

ويعضده –أيضاً -: روايةٍ حماد بن سلمة، عن قيس بن سعدٍ، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فرفع منه ذكر ساعة الإجابة، وجعل باقي الحديث في فضل يوم الجمعة، وما فيه من الخصال، وتعيين ساعة الإجابة كله من قولُ كعب.

ولعل هذا هو الأشبه.

وقد سبق أن موسى بن عقبة روى عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلامٍ قوله في تعيين ساعة الإجابة –أيضاً.

وخَّرج الإمام أحمد من روايةٍ فليح بن سليمان، عن سعيدٍ بن الحارث، عن أبي سلمة، أنه سمع أبا هريرة يحدث، عن النبي صلى الله عليه وسلم في ساعة الإجابة.

قال: فلما توفي أبو هريرة قلت: لو جئت أبا سعيدٍ فسألته عن هذه الساعة.

أن يكون عنده منها علم، فاتيته، فسالته، فقال:

ص: 291

سألنا النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقال:((إني كنت أعلمتها، ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر)) . قال: ثم خرجت من

عنده، فدخلت على عبد الله بن سلامٍ.

هكذا ساقه الإمام أحمد، ولم يذكر ما قاله ابن سلامٍ.

وقد خرّجه البزار بتمامه، وذكر فيه: أن ابن سلامٍ قال له: خلق الله آدم يوم الجمعة، وأسكنه الجنة يوم الجمعة، وأهبطه إلى الأرض يوم الجمعة، وتوفاه يوم الجمعة، وهو اليوم الذي تقوم فيه الساعة، وهي آخر ساعةٍ من يوم الجمعة. قلت: ألست تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((في صلاةٍ)) ؟ قال: أولست تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من انتظر الصلاة فهو في صلاة)) ؟ .

فهذه الرواية –أيضاً - تدل على أن ذكر فضل يوم الجمعة وما فيه من الخصال إنما هو من رواية أبي سلمة عن عبد الله بن سلامٍ، ورواية الأوزاعي وغيره تدل على أن هذا القدر كان أبو هريرة يرويه عن كعبٍ.

وقد روي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((خيرٌ يومٍ طلعت فيه الشمس يوم الجمعة)) ، وذكر ما فيه من الخصال من طرق متعددة، وهي معللة بما ذكرناه؛ ولذلك لم يخرّج البخاري منها شيئاً.

وقد خرّجه مسلم من طريق الاعرج، عن أبي هريرة –مرفوعاً.

وخرّجه ابن حبان من روايةٍ العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة –

ص: 292

مرفوعاً.

وروي عن العلاء، عن إسحاق أبي عبد الله، عن أبي هريرة –مرفوعاً.

فتحرر من هذا: أن المرفوع عن أبي هريرة من الحديث ذكر ساعة الجمعة.

وزعم ابن خزيمة: أن قوله: ((خيرٌ يومٍ طلعت فيه الشمس يوم الجمعة)) مرفوع –أيضاً - بغير خلافٍ، وأن الاختلاف عن أبي هريرة فيما بعد ذلك من ذكر الخصال التي في الجمعة.

وحديث أبي سعيدٍ يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أنسي معرفة وقتها، كما انسي معرفة ليلة القدر.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تعيينها أحاديث متعددةٌ:

ومن أغربها: أن ساعة الإجابة هي نهار الجمعة كله.

وهو من روايةٍ هانئ بن خالدٍ، عن أبي جعفر الرازي، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((الساعة التي في يوم الجمعة ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس)) .

خرّجه العقيلي.

وقال: هانئ بن خالد حديثه غير محفوظ، وليس بمعروف بالنقل، ولا يتابع

عليه، ولا يعرف إلا به.

ومنها: أنها آخر نهار الجمعة:

روى عبد السلام بن حفص، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة،

ص: 293

عن النبي

صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الساعة التي يتحرى فيها الدعاء يوم الجمعة هي آخر ساعة من

الجمعة)) .

خرّجه ابن عبد البر.

وقال: عبد السلام هذا مدني ثقةٌ.

قلت: رفعه منكرٌ، وعبد السلام هذا وان وثقه ابن معين، فقد قال فيه أبو حاتم الرزاي: ليس بالمعروف.

ولا يقبل تفرده برفع هذا.

وليته يصح موقوفاً، فقد روى شعبة والثوري، عن يونس بن خباب، عن

عطاء، عن أبي هريرة، قال: الساعة التي في الجمعة بعد العصر.

وخرّجه عبد الرزاق، عن الثوري، به، ولفظه: الساعة التي تقوم في يوم الجمعة ما بين العصر إلى أن تغرب الشمس.

وخرّجه وكيعٌ عن يونس، به.

ويونس بن خباب، شيعيٌ ضعيفٌ.

قال الدارقطني في ((العلل)) : ومن رفعه عن الثوري فقد وهم.

ص: 294

وقال: وفيه نائلٌ: ((عن يونس بن عبيدٍ)) ، ووهم فيه - أيضاً.

وروى إسماعيل بن عياش، عن سهيل بن أبي صالحٍ، عن مسلم بن مسافر، عن أبي رزين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إن في الجمعة ساعةً)) –يقللها بيده - ((لا يوافقها عبدٌ مؤمنٌ وهو يصلي، فيسأل الله فيها إلا استجاب له)) . قيل: أي الساعات هي يا رسول الله؟ قال: ((ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس)) .

خرّجه أبو أحمد الحاكم وأبو بكر عبد العزيز بن جعفر.

وإسناده

ص: 295

لا يصح، وروايات إسماعيل بن عياش عن الحجازيين رديئةٌ.

وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) ، عن ابن جريجٍ: حدثني العباس، عن محمد بن مسلمة الأنصاري، عن أبي سعيدٍ الخدري وأبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إن في الجمعة ساعةً، لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ، يسأل الله عز وجل فيها خيراً، إلا أعطاه إياه، وهي بعد العصر)) .

وخرّجه الإمام أحمد في ((مسنده)) ، عن عبد الرزاق.

وخرّجه العقيلي في ((كتابه)) .

وقال: العباس رجلٌ مجهولٌ، لا نعرفه، ومحمد بنمسلمة –أيضاً - مجهولٌ. وذكر عن البخاري، أنه قال: محمد بن مسلمة الأنصاري، عن أبي سعيدٍ وأبي هريرة - في ساعة الجمعة -: لا يتابع عليه.

قال العقيلي: الرواية في فضل الساعة التي في يوم الجمعة ثابتهٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجه، فأما التوقيت، فالرواية فيه لينةٌ.

يعني بالتوقيت: تعيين ساعة الإجابة.

وروى فرج بن فضالة، عن علي بن أبي طلحة، عنابي هريرة، قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: لأي شيءٍ سمي يوم الجمعة؟ قال: ((لأن فيها طبعت طينة أبيك آدم، وفيها الصعقة والبعثة، وفيها البطشة، وفي أخر ثلاث ساعاتٍ منها ساعةٌ، من دعا الله فيها استجيب له)) .

ص: 296

خرّجه الإمام أحمد.

وفرج بن فضالة، مختلفٌ فيه، وقد ضعفه ابن معينٍ وغيره.

وعلي بن أبي طلحة، لم يسمع من أبي هريرة.

وروى محمد بن أبي حميد، عن موسى بن وردان، عن أنسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إلتمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد العصر، إلى غيبوبة الشمس)) .

خرّجه الترمذي.

وقال: غريبٌ.

ومحمد بن أبي حميد، منكر الحديث.

وخرّجه الطبراني من طريق ابن لهيعة، عن موسى بن وردان –بنحوه، وزاد في آخر الحديث:((وهي قدر هذا)) –يعني: قبضةً.

ويروى من حديث فاطمة –عليها السلام، عن أبيها صلى الله عليه وسلم، أنه قال في هذه الساعة:((إذا تدلى نصف الشمس للغروب)) .

وفي إسناده اضطرابٌ وانقطاعٌ وجهالةٌ، ولا يثبت إسناده.

ص: 297

وروى عبد الرزاق، عن عمر بن ذر، عن يحيى بن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في صلاة العصر يوم الجمعة، والناس خلفه إذ سنح كلبٌ ليمر بين أيديهم، فخر الكلب فمات قبل أن يمر، فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه على القوم قال:((أيكم دعا على هذا الكلب؟)) فقال رجل من القوم: أنا دعوت عليه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوت عليه في ساعة يستجاب فيها الدعاء)) .

وهذا مرسلٌ.

ويروى بإسنادٍ منقطعٍ، عن أبي الدرداء –نحوه، إلا أن فيه: أنه دعا الله باسمه الأعظم، ولم يذكر الساعة.

ومنها: أنها الساعة التي تصلى فيها الجمعة:

فخرج مسلم في ((صحيحه)) من حديث ابن وهبٍ، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن أبي بردة بن أبي موسى، قال: قال عبد الله بن عمر:

ص: 298

أسمعت أباك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الجمعة؟ قلت: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة)) .

وروى البيهقي بإسناده، عن مسلمٍ، أنه قال: هذا أجود حديث وأصحه في ساعة الجمعة.

وقال الدارقطني: تفرد به ابن وهبٍ، وهو صحيح عنه. ورواه أبو إسحاق، عن أبي بردة، واختلف عليه، فرواه إسماعيل بن عمرو، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم خرّجه بإسناده من هذه الطريق، ولفظه:((الساعة التي يرجى فيها يوم الجمعة عند نزول الإمام)) .

وخالفه النعمان بن عبد السلام، فرواه عن الثوري بهذا الإسناد –موقوفاً.

يعني: على أبي موسى.

ثم أسنده من طريقه كذلك، ولفظه:((الساعة التي تذكر في الجمعة ما بين نزول الإمام عن منبره إلى دخوله في الصلاة)) .

قال: وخالفهما يحيى القطان، فرواه عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة – قوله.

وكذلك رواه عمار بن رزيق، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة – قوله.

وكذلك رواه معاوية بن قرة ومجالد، عن أبي بردة – من قوله.

ص: 299

وحديث مخرمة بن بكرٍ أخرجه مسلم في ((الصحيح)) .

والمحفوظ: من روايةٍ الآخرين، عن أبي بردة –قوله، غير مرفوع. انتهى.

وكذلك رواه واصل بن حيانٍ، عن أبي بردة، قال: ذكر عند ابن عمر الساعة التي في الجمعة، فقلت: إني أعلم أي الساعة هي. قال: وما يدريك؟ قلت: هي الساعة التي يخرج فيها الإمام، وهي أفضل الساعات. قال: بارك الله عليك.

وروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إن في الجمعة ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئاً ألا آتاه إياه)) . قالوا:

يا رسول الله، أية ساعة هي؟ قال:((حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها)) .

خرّجه ابن ماجه والترمذي.

وقال: حسنٌ غريبٌ.

وكثيرٌ هذا، يحسن البخاري والترمذي وغيرهما أمره. وقال بعضهم: أحاديثه عن أبيه عن جده أحبُ إلينا من مراسيل ابن المسيب. وضعف الأكثرون حديثه. وضرب الإمام أحمد عليه، ولم يخرجه في ((

ص: 300

مسنده)) .

قال أبو بكر الأثرم: إما وجه اختلاف هذه الأحاديث، فلن يخلو من وجهين: إما أن يكون بعضها أصح من بعضٍ، وإما أن تكون هذه الساعة تنتقل في الأوقات، كانتقال ليلة القدر في ليالي العشر.

قال: وأحسن ما يعمل به في ذلك: أن تلتمس في جميع هذه الأوقات، احتياطاً واستظهاراً. انتهى.

فأما القول بانتقالها فهو غريبٌ.

وقد روي عن كعبٍ، قال: لو قسم إنسان جمعة في جمع أتى علي تلك الساعة.

يعني: أنه يدعو كل جمعةٍ في ساعة ساعة حتى يأتي على جميع ساعات اليوم.

قال الزهري: ما سمعنا فيها بشيء عن احد احدثه الا هذا.

وهذا يدل على أنها لا تنتقل، وهو ظاهر أكثر الأحاديث والآثار.

وأما التماسها في جميع مظانها، فقد روي نحوه عن أبي هريرة.

فحكى ابن المنذر، عنه، أنه قال: هي بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس.

ص: 301

وهذا رواه ليث بن أبي سليم، عن مجاهد وطاوس، عن أبي هريرة، وفي ليث مقال، لا سيما إذا جمع في الاسناد بين الرجال.

ولم يرد أبو هريرة –والله أعلم – أنها ساعتان: في أول النهار وآخره، إنما أراد أنها تلتمس في هذين الوقتين.

ونقل ابن منصورٍ، عن إسحاق، قال: بعد العصر، لا أكاد أشك فيه، وترجى بعد زوال الشمس.

كذا نقله ابن منصورٍ في ((مسائله)) عنه، ونقله الترمذي في ((جامعه)) عن

أحمد.

وإنما نقله ابن منصورٍ عن أحمد، والترمذي إنما ينقل كلام أحمد وإسحاق من ((مسائل ابن منصورٍ، عنهما)) كما ذكر ذلك في آخر ((كتابه)) .

ولا أعلم في التماسها في أول النهار عن أحدٍ من السلف غير هذا.

والمشهور عنهم قولان:

أحدهما: أنها تلتمس بعد العصر إلى غروب الشمس، وقد سبق عن أبي هريرة وعبد الله بن سلامٍ.

وروى سعيدٍ بن منصورٍ بإسناده، عن أبي سلمة، قال: اجتمع ناسٌ من

ص: 302

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة، فتفرقوا ولم يختلفوا أنها آخر ساعةٍ من يوم الجمعة.

وروى سعيدٍ بن جبير، عن ابن عباسٍ، أنه سئل عن تلك الساعة التي في الجمعة، فقال: خلق الله آدم بعد العصر يوم الجمعة، وخلقه من أديم الأرض كلها، فأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته فلله ما أمسى ذلك اليوم حتى عصاه، فأخرجه منها.

خرّجه عبد الرزاق وغيره.

وهذا يدل على ترجيح ابن عباسٍ لما بعد العصر في وقت هذه الساعة؛ لخلق آدم فيها، وإدخاله الجنة، وإخراجه منها، وهو يشبه استنباطه في ليلة القدر، أنها ليلة سابعة.

وكذلك كان طاوس يتحرى الساعة التي في يوم الجمعة بعد العصر.

وعنه، أنه قال: الساعة من يوم الجمعة التي تقوم فيها الساعة، والتي أنزل فيها آدم، والتي لا يدعو الله فيها المسلم بدعوة صالحة إلا استجيب له: من حين تصفر الشمس إلى أن تغرب.

وهذا يشبه قول عبد الله بن سلامٍ، أنها آخر ساعةٍ من نهار الجمعة.

وروي مثله عن كعبٍ –أيضاً.

ص: 303

فأهل هذا القول، منهم من جعل وقت التماسها ما بين العصر وغروب الشمس، ومنهم من خصه بآخر ساعةٍ من الساعات.

وقال أحمد –في روايةٍ ابن منصورٍ -: أكثر الأحاديث بعد العصر.

وقال - في روايةٍ الميموني –كذلك، وزاد: قيل له: قبل أن تطفل.

الشمس للغروب؟ قالَ: لا أدري، إلا أنها بعد العصر.

وظاهر هذا: أن ما بعد العصر إلى غروب الشمس كله في التماسها سواءٌ.

والقول الثاني: أنها بعد زوال الشمس.

وقد تقدم عن ابن عمر وأبي بردة، أنها ساعةٍ صلاة الجمعة.

وروى عبد الله بن حجيرة عن أبي ذر، أنها من حين تزيغ الشمس بشبر إلى

ذراعٍ.

وعن عائشة، أنها إذا أذن المؤذن بصلاة الجمعة.

ص: 304

وقال عوف بن مالكٍ: اطلبوا ساعةٍ الجمعة في إحدى ثلاث ساعات: عند تأذين الجمعة، أو ما دام الإمام على المنبر، أو عند الاقامة.

خرّجه محمد بن يحيى الهمداني في ((صحيحه)) .

وعن الحسن وأبي العالية، قالا: عند زوال الشمس.

وعن الحسن، قال: هي إذا قعد الإمام على المنبر حتى يفرغ.

وعن أبي السوار العدوي، قال: كانوا يرون أن الدعاء مستجابٌ ما بين أن تزول الشمس إلى أن تدركك كل صلاة.

وعن ابن سيرين، قال: هي الساعة التي كان يصلي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن الشعبي، قال: هي ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل.

وعنه، قال: مابين خروج الإمام إلى انقضاء الصلاة.

وعن الشعبي، عن عوف بن حصيرة، قال: هي من حين تقام الصلاة إلى انصراف الإمام.

وروي، أن عمر سأل ابن عباسٍ عنها؟ فقال: أرجو أنها الساعة التي يخرج لها الإمام.

ص: 305

خرّجه الإسماعيلي في ((مسند عمر)) بإسنادٍ ضعيفٍ.

وذكر عن أبي القاسم البغوي، أنه قال: هذا واهٍ، وقد روي عن ابن عباسٍ خلافه.

يشير إلى أن المعروف عنه أنها بعد العصر، كما رواه عنه سعيد بن جبير، وقد تقدم.

فهذه الاقوال متفقة على أنها بعد زوال الشمس، ومختلفة في الظاهر في قدر امتدادها.

فمنهم من يقول: وقت الأذان.

ومنهم من يقول: ما دام الإمام على المنبر.

ومنهم من يقول: عند الاقامة.

ومنهم من يقول: من حين تقام الصلاة إلى انصراف الإمام فيها.

ومنهم من يقول: ما بين أن يحرم البيع بالنداء أو تزول الشمس –على اختلاف لهم فيما يحرم به البيع – إلى أن يحل بانقضاء الصلاة.

وهذا القول –أعني: أنها بعد زوال الشمس إلى انقضاء الصلاة، أو أنها ما بين أن تقام الصلاة إلى أن يفرغ منها –أشبه بظاهر قولُ النبي صلى الله عليه وسلم:((لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ قائمٌ يصلي يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه إياه)) ، فإنه أن أريد به صلاة الجمعة كانت من حين إقامتها إلى الفراغ منها، وإن أريد به صلاة التطوع كانت من زوال الشمس إلى خروج الإمام؛ فإن هذا وقت صلاة تطوعٍ، وإن أريد بها أعم من ذلك –وهو الأظهر – دخل فيه صلاة التطوع بعد زوال الشمس، وصلاة الجمعة إلى انقضائها.

ص: 306

وليس في سائر الأوقات التي قالها أهل القول الأول وقت صلاة؛ فإن بعد العصر إلى غروب الشمس، وبعد الفجر إلى طلوع الشمس وقت نهي عن الصلاة فيه، اللهم إلاّ أن يراد بقولهم: بعد العصر: دخول وقت العصر والتطوع قبلها.

ومرسل يحيى بن إسحاق بن أبي طلحة يشهد له.

من قال: إن منتظر الصلاة في صلاةٍ صحيحٌ، لكن لا يقال فيه قائم.

وقول يصلي؛ فإن ظاهر هذا اللفظ حمله على القيام الحقيقي في الصلاة الحقيقية.

وقد روى عبد الرزاق في ((كتابه)) نا يحيى بن زمعة: سمعت عطاءً يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في يوم الجمعة ساعةٌ، لا يوافقها عبدٌ وهو يصلي، أو ينتظر الصلاة، يدعو الله فيها بشيء إلا استجاب له)) .

وهذا غريبٌ.

ويحيى بن زمعة هذا، غير مشهورٌ، ولم يعرفه ابن أبي حاتم باكثر من روايته عن عطاءٍ، ورواية عبد الرزاق عنه.

وهذه الرواية تدل على أن المراد بالصلاة حقيقة الصلاة؛ لأنه فرق بين المصلي ومنتظر الصلاة، وجعلهما قسمين.

وتدل على أن ساعةٍ الجمعة يمكن فيها وقوع الصلاة وانتظارها، وهذا بما بعد الزوال أشبه؛ لأن أول تلك الساعة ينتظر فيها الصَّلاة ويتنفل فيها بالصلاة، وآخرها يصلى فيهِ الجمعة.

ص: 307

وخَّرج ابن أبي شيبة بإسناده، عن هلال بن يساف، قالَ: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجمعة لساعةً، لا يوافقها رجلٌ مسلمٌ، يسأل الله فيها خيراً، إلا أعطاه)) فقالَ رجل: يا رسول الله، فماذا اسال؟ فقال:((سل الله العافية في الدنيا والآخرة)) .

وهذا مرسلٌ.

* * *

38 -

ص: 308

باب

إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة

فصلاة الإمام ومن بقي تامةٌ

ص: 309

936 -

حدثنا معاوية بن عمرو: ثنا زائدة، عن حصين، عن سالم بن أبي الجعد: ثنا جابر بن عبد الله، قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم اذ أقبلت عيرٌ تحمل طعاماً فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ إثنا عشر رجلاً، فنزلت هذه الآية:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة:11] وخرّجه في "التفسير " عن حفص بن عمر قالَ: ثنا خالد بن عبد الله: أنبا حصين، عن سالم بن أبي الجعد –وعن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله –فذكره بمعناه.

وفي هذه الرواية: متابعة أبي سفيان لسالم بن أبي الجعد على روايته عن جابر، وإنما خرّج لأبي سفيان متابعةً.

وقد خرّجه مسلم بالوجهين – أيضاً.

وفي أكثر رواياته: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة.

وفي روايةٍ له: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً يوم الجمعة – فذكره بمعناه.

ص: 309

وفي روايةٍ له: فلم يبق إلا اثنا عشر رجلاً، أنا فيهم.

وفي روايةٍ له –أيضاً -: فيهم أبو بكر وعمر – رضي الله عنهما.

وقوله في الرواية التي خرجها البخاري: ((بينا نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم)) لم يرد به أنهم انفضوا عنه في نفس الصلاة، إنما أراد –والله أعلم – إنهم كانوا مجتمعين للصلاة، فانفضوا وتركوه.

ويدل عليه: حديث كعب بن عجرة، لما قال: انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً، وقد قال الله تعالى:{انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة: 11] .

وكذلك استدلال ابن مسعودٍ وخلق من التابعين بالآية على القيام في الخطبة.

وروى علي بن عاصمٍ هذا الحديث عن حصين، فقال فيه: فلم يبق معه الا أربعون رجلاً، أنا فيهم.

خرّجه الدارقطني والبيهقي.

وعلي بن عاصمٍ، ليس بالحافظ، فلا يقبل تفرده بما يخالف الثقات.

وقد استدل البخاري وخلقٌ من العلماء على أن الناس إذا نفروا عن الإمام وهو يخطب للجمعة، وصلى الجمعة بمن بقي، جاز ذلك، وصحت جمعتهم.

وهذا يرجع إلى أصلٍ مختلفٍ فيه، وهو: العدد الذي تنعقد به الجمعة، وقد اختلف في ذلك:

ص: 310

فقالت طائفةٌ: لا تنعقد الجمعة بدون أربعين رجلاً، روي ذلك عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعمر بن عبد العزيز، وهو قولُ الشافعي وأحمد – في المشهور عنه – وإسحاق ورواية عن مالكٍ.

وقالت طائفةٌ: تنعقد بخمسين، روي عن عمر بن عبد العزيز - أيضاً –وهو روايةٍ عن أحمد.

وقالت طائفةٌ تنعقد بثلاثة، منهم: ابن المبارك والأوزاعي والثوري وأبو ثور، وروي عن أبي يوسف، وحكي رواية عن أحمد. وقالت طائفةٌ: تنعقد بأربعةٍ، وهو قولُ أبي حنيفة وصاحبيه –في المشهور عنهما – والأوزاعي ومالك والثوري – في رواية عنهما – والليث بن سعدٍ.

وحكي قولاً قديماً للشافعي، ومنهم من حكاه أنها تنعقد بثلاثةٍ.

وقالت طائفةٌ: يعتبر أربعون في الأمصار وثلاثةٌ في القرى، وحكي روايةً عن أحمد، صححها بعض المتأخرين من أصحابه.

وقالت طائفةٌ: تنعقد بسبعة، وحكي عن عكرمة، ورواية عن أحمد.

وقالت طائفةٌ: تنعقد باثني عشر رجلاً، حكي عن ربيعة.

وقد قام الزهري: أن مصعب بن عمير أول ما جمع بهم بالمدينة كانوا إثنى عشر رجلاً.

وتعلق بعضهم لهذا الحديث بحديث جابر المخرج

ص: 311

في هذا الباب.

وقال طائفةٌ: تنعقد الجمعة بما تنعقد به الجماعة، وهو رجلان، وهو قولُ الحسن بن صالح وأبي ثور - في روايةٍ – وداود، وحكي عن مكحولٍ.

وتعلق القائلون بالأربعين كعب بن مالكٍ، أن أول جمعةٍ جمع بهم أسعد بن

زرارة، كانوا أربعين، وقد سبق ذكره في أول ((كتاب الجمعة)) .

وقد ذكر القاضي أبو يعلى وغيره وجه الاستدلال به: أن الجمعة فرضت بمكة، وكان بالمدينة من المسلمين أربعةٌ وأكثر ممن هاجر إليها وممن أسلم بها، ثم لم يصلوا [

] كذلك حتى كمل العدد أربعين، فدل على أنها لا تجب على أقل منهم، ولم يثب أبو بكر الخلال خلافه عن أحمد في اشتراط الأربعين.

قال: وإنما يحكى عن غيره، أنه قال بثلاثةٍ، وباربعةٍ، وبسبعةٍ، ولم يذهب إلى شيء من ذلك، وهذا الذي قاله الخلال هو الأظهر. والله أعلم.

وفي عدد الجمعة أحاديث مرفوعة، لا يصح فيها شيء، فلا معنى لذكرها.

ص: 312

وإذا تقرر هذا الأصل، فمن قال: أن الجمعة تنعقد بإثني عشر رجلاً أو بدونهم، فلا إشكال عنده في معنى حديث جابر؛ فإنه يحمله على أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة بمن بقي معه، وصحت جمعتهم.

ومن قال: لا تصح الجمعة بدون أربعين، فإنه يشكل عليه حديث جابرٍ.

وقد أجاب بعضهم: بأن الصحيح أنهم انفضوا وهو في الخطبة. قال: فيحتمل أنهم رجعوا قبل الصلاة، أو رجع من تم به الأربعون، فجمع بهم.

قال: والظاهر أنهم انفضوا ابتداءً سوى إثني عشر رجلاً، ثم رجع منهم تمام أربعين، فجمع بهم، وبذلك يجمع بين روايةٍ علي بن عاصم وسائر الروايات.

وهذا الذي قاله بعيدٌ، ورواية علي بن عاصم غلطٌ محضٌ، لا يلتفت إليها.

وسلك طائفةٌ مسلكاً آخر، وظاهر كلام البخاري هاهنا وتبويبه يدل عليه، وهو: أن انفضاضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم كان في نفس الصلاة، وكان قد افتتح بهم الجمعة بالعدد المعتبر، ثم تفرقوا في أثناء الصلاة، فأتم بهم صلاة الجمعة؛ فإن الاستدامة يغتفر فيها ما لا يغتفر في الابتداء.

وهذا قولُ جماعة من العلماء، منهم: أبو حنيفة وأصحابه والثوري ومالك والشافعي – في القديم – وإسحاق، وهو وجه لأصحابنا.

وعلى هذا؛ فمنهم من اعتبر أن يبقى معه واحد فأكثر؛ لأن أصل

ص: 313

الجماعة تنعقد بذلك، ومنهم من شرط أن يبقى معه اثنان، وهو قولُ الثوري وابن المبارك، وحكي قولاً للشافعي.

وقال إسحاق: أن بقي معه اثنا عشر رجلاً جمع بهم وإلاّ فلا؛ لظاهر حديث جابر.

وهو وجهٌ لأصحابنا.

ولأصحابنا وجه أخر: يتمها الإمام جمعة، ولو بقي وحده.

وهذا بعيد جداً.

وفرق مالكٌ بين أن يكون انفضاضهم قبل تمام ركعة فلا تصح جمعتهم ويصلون ظهراً، وبين أن يكون بعد تمام ركعةٍ فيتمونها جمعة.

ووافقه المزني، وهو وجه لأصحابنا.

وقال أبو حنيفة: إن انفضوا قبل أن يسجد في الأولى فلا جمعةٍ لهم، وان كان قد سجد فيها سجدةً أتموها جمعةً.

وقال صاحباه: بل يتمونها جمعةٍ بكل حال، ولو انفضوا عقب تكبيرة الإحرام.

ومذهب الشافعي – في الجديد – وأحمد والحسن بن زياد: أنه لا جمعةٍ لهم، حتى يكمل العدد في مجموع الصلاة.

قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر: لم يختلف قولُ أحمد في ذلك.

وقد وجدت جواباً آخر عن حديث جابر، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد صلى بأصحابه الجمعة، ثم خطبهم فانفضوا عنه في خطبته بعد صلاة الجمعة، ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك قدم خطبة الجمعة على صلاتها.

فخرج أبو داود في ((مراسيله)) بإسناده، عن مقاتل بن حيان، قال: كان

ص: 314

رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى الجمعة قبل الخطبة مثل العيد، حتى إذا كان يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وقد صلى الجمعة، فدخل رجل، فقال: إن دحية بن خليفة قد قدم بتجارته – وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف -، فخرج الناس، لم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء، فانزل الله عز وجل:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} [الجمعة:11] ، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة، وأخر الصلاة.

وهذا الجواب أحسن مما قبله.

ومن ظن بالصحابة أنهم تركوا صلاة الجمعة خلف النبي صلى الله عليه وسلم بعد دخولهم معه

فيها، ثم خرجوا من المسجد حتى لم يبق معه إلاّ إثنا عشر رجلاً، فقد أساء بهم الظن، ولم يقع ذلك بحمد الله تعالى.

وأصل هذه المسائل: أن الجمعة يشترط لها الجماعة، فلا تصح مع الانفراد، وهذا إجماع لا نعلم فيه خلافاً، إلاّ ما تقدم حكايته عن أبي حنيفة، أنه صلى ركعتين عند تأخير بعض الأمراء للجمعة، وقال: أشهدكم أنها جمعةٌ.

وحكي مثله عن الفاشاني، والفاشاني ليس ممن يعتد بقوله بين الفقهاء.

وذهب عطاءٌ إلى أن من حضر الخطبة فقد أدرك الجمعة، فلو أحدث بعد حضوره الخطبة، فذهب فتوضأ ثم رجع وقد فرغ الإمام من صلاة الجمعة، أنه يصلي ركعتين؛ لأنه قد حضر الخطبة -:

ص: 315

نقله عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ، عنه.

وخالفه جمهور العلماء، فقالوا: يصلي أربعاً.

وفي مراسيل يحيى بن أبي كثيرٍ: من أدرك الخطبة فقد أدرك الصلاة.

خرّجه عبد الرزاق.

ومراسيل يحيى ضعيفةٌ جداً.

واختلفوا فيمن جاء والإمام يخطب، قد فرغ من الخطبة.

فقالت طائفةٌ: لم يدرك الجمعة، ويصلي أربعاً، روي ذلك عن عمر، وعن طاوسٍ وعطاءٍ ومجاهدٍ ومكحولٍ، وقالوا: الخطبة بدلٌ عن الركعتين.

قال عطاءٌ: إن جلس قبل أن ينزل الإمام من المنبر فقد أدرك الخطبة، فيصلي جمعةٍ، وإلا صلى أربعاً.

وظاهر كلام عطاء: أن الجمعة ظهر مقصورة؛ فإنه يقول: إن أدرك الخطبة قصر، وإلا لم يقصر.

وقال سعيد بن جبير: كانت الجمعة أربعا، فجعلت الخطبة مكان الركعتين.

وذهب طائفة: إلى أن من أدركهم في التشهد قبل السلام فقد أدرك

ص: 316

الجمعة، وهو قول الحكم وحماد وأبي حنيفة وأصحابه، وحكي رواية عن النخعي، ورواية عن أحمد، ولا تكاد تصح عنه.

وروي عن ابن مسعود، أنه قال لأصحابه - وقد أدرك الناس جلوسا في الجمعة -: قد أدركتم، إن شاء الله.

قال قتادة إنما أراد: أدركتم الأجر.

وذهب أكثر العلماء إلى أنه إن أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام فقد أدرك الجمعة، ويتمها جمعة، وإن فاتته الركعة الثانية صلى أربعا.

وروي ذلك عن ابن عمر وابن مسعود وأنس، وهو قول علقمة والأسود والحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والليث والثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق.

واستدلوا بحديث: " من أدرك ركعة من الصلاة ".

ثم إن أكثرهم قالوا: يصلي من أدرك التشهد مع الإمام الظهر خلفه أربعا.

وهذا يتوجه على قول من يقول: يصح اقتداء من يصلي فرضا خلف من يصلي فرضا آخر. فأما من قال: لا يجوز ذلك، فهو مشكل على أصولهم.

فلهذا قال طائفة: لا يجزئه أن يصلي الظهر خلف من يصلي الجمعة، بل يستأنف الظهر، وهو اختيار بعض أصحابنا في المسبوق، وفيما إذا نقص العدد في أثناء الجمعة.

وهو قول بعض فقهاء أهل المدينة، إلا على قول من يقول: الجمعة ظهر مقصورة، فيكون كمقيم صلى خلف مسافر.

فلهذا قال بعضهم: ينوي في دخوله معه الجمعة، ثم يصلي ظهرا إذا فارقه، وهو

ص: 317

بعيد.

وحكي ذلك عن ابن شاقلا من أصحابنا.

وقد صنف ابن شاقلا في المسألة جزءا مفردا، وقد تأملته، فوجدته يقول: إن من أدرك التشهد خلف الإمام في يوم الجمعة، فإنه يصلي جمعة أربع ركعات. قال: وإنما كانت جمعة هذا أربعا لاتفاق الصحابة عليه، على خلاف القياس، وكان القياس: أن يصلي الركعتين.

وأخذ ذاك من قول أحمد - في رواية حنبل -: لولا الحديث الذي في الجمعة، لكان ينبغي أن يصلي ركعتين إذا أدركهم جلوسا.

حتى قال ابن شاقلا: لو كان الإمام قد صلى الجمعة قبل زوال الشمس، فأدركه في التشهد صلى أربعا، وأجزأه، وكانت جمعة.

وقد قال سفيان الثوري: إذا نوى الجمعة، وصلى أربعا أجزأته جمعته، وإن لم ينو الجمعة فلا أراه يجزئه.

وللشافعية فيما إذا نوى بصلاة الجمعة صلاة الظهر المقصورة: هل تصح جمعته؟ وجهان، على قولهم: إن الجمعة ظهر

ص: 318

مقصورة.

وإن نوى الجمعة، فإن قالوا: هي صلاة مستقلة أجزأه.

وإن قالوا: ظهر مقصورة، فهل تشترط نية القصر فيه وجهان لهم، أصحهما: لا تشترط.

ولو نوى الظهر مطلقا، من غير تعرض للقصر، لم يصح عندهم بغير خلاف.

وقال مالك - فيما نقله عنه ابن عبد الحكم - في الإمام ينزل بقرية لا تقام فيها الجمعة، فيجمع فيها: إنه لا يكون جمعة، بل يكون ظهرا مقصورة، فتصح له ولمن معه من المسافرين، ويتم أهل تلك القرية صلاتهم إذا سلم.

وهو ظاهر ما ذكره في " الموطأ "، ونقله عنه ابن نافع - أيضا.

وظاهر هذا: يدل على صحة صلاة الظهر المقصورة بنية الجمعة.

قال ابن القاسم في " المدونة ": لا جمعة للإمام ولا لمن خلفه، ويعيد ويعيدون؛ لأنه جهر عامدا.

وهذا تعليل عجيب، وهو يقتضي أن من جهر في صلاة السر عمدا بطلت صلاته.

والتعليل: بأنه لا تصح صلاة الظهر بنية الجمعة أظهر.

وذكر ابن المواز، عن ابن القاسم: أما هو فصلاته تامة، وأما هم فعليهم الإعادة.

واختلف السلف في هذه المسألة:

فقال عطاء - فيمن دخل قرية لا ينبغي أن تقام فيها الجمعة، وهي القرية التي ليست جامعة عنده، فأقام

ص: 319

أهلها الجمعة، فجمع معهم: إنه يتم صلاته، فإذا سلم إمامهم أتم صلاته بركعتين، ولا يقصر معهم.

وقال الزهري: يجمع معهم ويقصر.

ومذهب أصحاب الشافعي: أن المسبوق في صلاة الجمعة يتم صلاته - إذا سلم الإمام - ظهرا.

ثم منهم من قطع بذلك، وهم جمهور العراقيين، ومن الخراسانين من بناه على القول في أن الجمعة: هل هي صلاة مستقلة أو ظهر مقصورة.

فإن قيل: هي ظهر مقصورة أتمها ظهرا كالمسافر إذا امتنع عليه القصر لسبب، وإن قيل: هي صلاة مستقلة، فهل يتمها ظهرا؟ فيها وجهان، أصحهما: يتمها ظهرا؛ لأنها بدل منها، أو كالبدل.

فعلى هذا: هل يشترط أن ينوي قبلها ظهرا، أو تنقلب بنفسها؟ فيه وجهان - أيضا.

وهذا كله تفريع على قولهم: ينوي الجمعة موافقة للإمام.

ولهم وجه آخر: ينوي الظهر؛ لأنه لا يصح له غيرها.

وهو قول الخرقي وأكثر أصحابنا.

ومنهم من قال: هو ظاهر كلام أحمد.

وحكاه - أيضا - عن مالك والشافعي، وفي حكايته عن الشافعي نظر.

ص: 320

‌39 - باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها

ص: 321

937 -

حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين.

وقد خرجه في " أبواب صلاة التطوع " من طرق أخرى عن نافع، ومن طريق سالم، عن أبيه، والمعنى متقارب.

وقد دل هذا الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي بعد الجمعة في المسجد شيئا، وأنه كان ينصرف إلى بيته، فيصلي ركعتين.

فتضمن ذلك: استحباب شيئين: أحدهما: صلاة ركعتين بعد الجمعة. والثاني: أن تكون في البيت.

وقد كان ابن عمر يفعله بالمدينة، يرجع إلى بيته فيصلي ركعتين، وكان ينهى عن صلاتهما في المسجد، ويقول لمن يفعله: صلى الجمعة أربعا، وكان إذا كان بمكة يتقدم من موضع صلاته، فيصلي ركعتين، ثم ينتقل عنه فيصلي أربعا.

ص: 321

وفي " صحيح مسلم " عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا ".

وفي رواية له: قال سهيل: فإن عجل بك شيء فصل ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت.

وقد وقع في غير مسلم هذا الكلام عن سهيل من قوله.

وقد اختلف العلماء في الجمع بين حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة.

فقالت طائفة: هو مخير بين أن يصلي ركعتين وأربعا، عملا بكل واحد من الحديثين، وهو قول أحمد - في رواية عنه.

وظاهره: أنه لا فضل لأحدهما على الآخر.

وروي عنه، أنه قال: يصلي ركعتين ولا يعيب على من صلى أربعا؛ لحديث أبي هريرة.

وظاهره: أن الأفضل الأخذ بحديث ابن عمر؛ لأنه أثبت إسنادا.

ص: 322

وقالت طائفة: يجمع بينهما، فيصلي ستا -: نقله إبراهيم الحربي، عن أحمد، وقال: يجمع بينهما على وجه، بين أمر النبي صلى الله عليه وسلم وفعله.

ونقل عنه ابن هانئ، قال: يصلي ستا؛ لأمر علي بن أبي طالب بذلك.

وهذا مأخذ آخر.

وقالت طائفة: يجمع بينهما على وجه آخر، فإن صلى في المسجد صلى أربعا، وإن صلى في بيته صلى ركعتين، وهو قول إسحاق، واستدل - أيضا - بقول عمر وابن مسعود. ولا يصلى ركعتين بعد مكتوبة مثلها.

قال: فإذا صلى في المسجد ركعتين فقد صلى بعد المكتوبة مثلها، فيصلي أربعا، وأما إذا صلى في بيته ركعتين؛ فإن المشي إلى بيته فاصل بين المكتوبة وغيرها.

وقالت طائفة: يجمع بينهما على وجه آخر، وهو أن الإمام يصلي في بيته

ركعتين، والمأموم يصلي أربعا في المسجد، وهذا قول أبي خيثمة زهير بن حرب وأبي إسحاق الجوزجاني. وتبويب النسائي يدل عليه - أيضا.

وكان علي بن أبي طالب يأمر بصلاة ست ركعتات بعد الجمعة.

وكان ابن مسعود يأمر بأربع.

قال عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي: علمنا عبد الله بن مسعود أن نصلي بعد الجمعة أربعا، ثم جاء علي بن أبي طالب،

ص: 323

فعلمنا أن نصلي ستا.

وكان عمران بن حصين يصلي بعد الجمعة أربعا.

وروي عن علي من وجه آخر منقطع.

وعن أبي موسى الأشعري، أنه كان يصلي ستا.

وكان الحسن يصلي ركعتين، ومسروق يصلي ركعتين، ثم أربعا.

ونص الشافعي في " الأم "، أنه يصلي بعد الجمعة أربعا.

وحكي الترمذي، عنه، أنه يصلي ركعتين.

وقد تقدم عن ابن عمر، أنه كان يصلي في بيته ركعتين وفي المسجد ستا: ركعتين، ثم أربعا، يفصل بينهما.

وقال ابن عيينة: يصلي ركعتين، يسلم فيهما، ثم يصلي أربعا، لا يسلم إلا في آخرهن.

وقال أحمد - في رواية عنه -: إن شاء صلى أربعا، وإن شاء صلى ستا.

ولا يكره ترك الصلاة بعد الجمعة أحيانا -: نص

ص: 324

عليه أحمد، واستدل بأن عمران بن حصين تركها مرة، حيث كان يصلي أربعا بعد صلاة الجمعة خلف

زياد، فقيل عنه: إنه لا يعتد بصلاته خلف زياد، فأنكر ذلك، ثم صلى الجمعة الثانية، ولم يصل شيئا حتى صلى العصر.

وأما مكان الصلاة بعد الجمعة، فالأفضل أن يكون في البيت لمن له بيت يرجع إليه، كما كان ابن عمر يفعله ويأمر به.

فإن صلى في المسجد، فهل يكره، أم لا؟

ذهب الأكثرون إلى أنه لا يكره، ولكن يؤمر بالفصل بينها وبين صلاة الجمعة.

وقد سبق حديث السائب بن يزيد، عن معاوية في ذلك.

وقال عكرمة: إذا صليت الجمعة، فلا تصلها بركعتين حتى تفصل بينهما بتحول أو كلام.

وقال قتادة: رأى ابن عمر رجلا يصلي في مقامه الذي صلى فيه الجمعة، فنهاه عنه، وقال: ألا أراك تصلي في مقامك؟ قال: نعم. قال قتادة: فذكرت ذلك لابن المسيب، فقال: إنما يكره ذلك للإمام يوم الجمعة.

ومذهب مالك: أنه يكره للإمام أن يصلي بعد الجمعة في المسجد، ولا يكره للمأموم، إذا انتقل من موضع مصلاه، وقد روي عن ابن عمر.

قال عبد الرزاق: أخبرني ابن جريج:

ص: 325

أخبرني عطاء، أن عمرو بن سعيد صلى الجمعة، ثم ركع على إثرها ركعتين في المسجد، فنهاه ابن عمر عن ذلك، وقال: أما الإمام فلا، إذا صليت فانقلب فصل في بيتك ما بدا لك، إلا أن تطوف، وأما الناس، فإنهم يصلون في المسجد.

وفي صلاة الإمام في الجامع بعد الجمعة حديث، من رواية عاصم بن سويد، عن محمد بن موسى بن الحارث، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عمرو بن عوف يوم الأربعاء، فقال:" لو أنكم إذا جئتم عيدكم هذا صليتم حتى تسمعوا من قولي ". قالوا: نعم، بأبينا أنت يا رسول الله وأمهاتنا. قال: فلما حضروا الجمعة صلى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة، ثم صلى ركعتين بعد الجمعة في المسجد، ولم ير يصلي بعد الجمعة في المسجد، وكان ينصرف إلى بيته قبل ذلك اليوم.

خرجه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم.

وقال: صحيح الإسناد.

وقال بعض المتأخرين: محمد بن موسى بن الحارث لا يعرف.

وخرجه البزار في " مسنده "، وعنده: عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبيه، عن جابر.

فإن كان ذلك محفوظا، فهو موسى بن

ص: 326

محمد بن إبراهيم التيمي، وهو منكر الحديث جدا.

وخرج النسائي من رواية شعبة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين، يطيل فيهما، ويقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.

وذكر إطالة الركعتين بعد الجمعة غريب.

وقد روى غير واحد، عن أيوب في هذا الحديث: أن الإطالة إنما كانت في الصلاة قبل الجمعة، كما سنذكره.

وقد بوب البخاري على " الصلاة بعد الجمعة وقبلها "، كما بوب عليه عبد الرزاق والترمذي في " كتابيهما "، إلا أنهما ذكرا في الصلاة قبلها آثارا موقوفة غير مرفوعة، ولم يذكر البخاري فيها شيئا، إما لأن المرفوع فيها ليس على شرطه، وفيها أحاديث مرفوعة في أسانيدها نظر، أو لأن الذي فيها كله موقوف، فلم يذكره لذلك.

أو لأنه اجتزأ عنه بحديث سلمان الذي خرجه فيما تقدم في موضعين؛ فإن فيه: " وصلى ما كتب له، ثم أنصت إذا تكلم الإمام "؛ فإن هذا يدل على فضل الصلاة قبل الجمعة، لا سيما وفيه - في إحدى الروايتين

ص: 327

للبخاري -: " ثم راح "، والرواح حقيقة لا يكون حقيقة إلا بعد الزوال، كما سبق ذكره.

فعلى هذا، يكون ترغيبا في الصلاة بعد زوال الشمس يوم الجمعة من غير تقدير للصلاة، فيكون أقل ذلك ركعتين، والزيادة عليهما بحسب التيسير.

وإن قيل: إن الرواح هنا بمعنى الذهاب، فإنه يدل على استحباب الصلاة يوم الجمعة قبل خروج الإمام من غير تفضيل بين ما قبل زوال الشمس وبعده.

وروى ابن علية، عن أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة، ويصلي بعدها ركعتين في بيته، ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.

خرجه أبو داود.

وخرجه الإمام أحمد من طريق وهيب، عن أيوب، عن نافع، أن ابن عمر كان يغدو إلى المسجد يوم الجمعة، فيصلي ركعات يطيل فيهن القيام،

فإذا انصرف الإمام رجع إلى بيته، فصلى ركعتين، وقال: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.

وظاهر هذا: يدل على رفع جميع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم: صلاته قبل الجمعة وبعدها في بيته؛ فإن اسم الإشارة يتناول كل ما قبله مما قرب وبعد، صرح به غير واحد من الفقهاء والأصوليين.

وهذا فيما وضع

ص: 328

للإشارة إلى البعيد أظهر، مثل لفظة:" ذلك "؛ فإن تخصيص القريب بها دون البعيد يخالف وضعها لغة.

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر يصلي قبل الجمعة اثنتي عشرة ركعة.

وعن ابن جريج أنه قال لعطاء: بلغني أنك تركع قبل الجمعة ثنتي عشرة ركعة، فما بلغك في ذلك؟ فذكر له حديث أم حبيبة المرفوع:" من ركع ثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة - سوى المكتوبة - بنى الله له بيتا في الجنة ".

وقد تقدم عن ابن مسعود، أنه كان يأمر أن يصلي قبل الجمعة أربعا.

وروى الطحاوي بإسناده عن جبلة بن سحيم قال: كان ابن عمر يصلي قبل الجمعة أربعا لا يفصل بينهن بسلام وبعد الجمعة ركعتين ثم أربعا.

وروى ابن سعد في " طبقاته " بإسناده، عن صفية بنت حيي أم المؤمنين، أنها صلت الجمعة مع الإمام، فصلت قبل خروجه أربعا.

وقال النخعي: كانوا يحبون أن يصلوا قبل الجمعة أربعا.

خرجه ابن أبي الدنيا في " كتاب العيدين " بإسناد صحيح.

ص: 329

وقد روى ابن أبي خيثمة في " تاريخه " من طريق الأعمش، عن النخعي، قال: ما قلت لكم: كانوا يستحبون، فهو الذي أجمعوا عليه.

وممن ذهب إلى استحباب أربع ركعات قبل الجمعة: حبيب بن أبي ثابت والنخعي والثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق.

وروى حرب بإسناده، عن ابن عباس، أنه كان يصلي يوم الجمعة في بيته أربع ركعات، ثم يأتي المسجد فلا يصلي قبلها ولا بعدها.

وهذا يدل على أن سنة الجمعة عند ابن عباس قبلها لا بعدها.

واعلم؛ أن التطوع بالصلاة يوم الجمعة قبل الجمعة له أربعة أوقات:

أحدها: ما قبل طلوع الشمس لمن بكر إلى الجمعة حينئذ، فهذا الوقت وقت نهي عن التطوع فيه بما لا سبب له، وماله سبب كتحية المسجد فيه اختلاف، سبق ذكره في ذكر أوقات النهي.

إلا من يقول: إن يوم الجمعة كله صلاة ليس فيه وقت ينهى عن الصلاة فيه بالكلية، كما هو ظاهر كلام طاوس؛ فإنه قال: يوم الجمعة كله صلاة.

وقد قيل: إنه إنما أراد به وقت استواء الشمس خاصة.

والثاني: ما بين ارتفاع الشمس واستوائها، فيستحب التطوع فيه بما أمكن، وخصوصا لمن بكر إلى الجمعة.

ص: 330

والثالث: وقت استواء الشمس وقيامها في وسط السماء.

وقد اختلفوا: هل هو وقت نهي عن الصلاة في يوم الجمعة، أم لا؟

فمنهم من قال: هو وقت نهي، كأبي حنيفة وأحمد.

ومنهم من قال: ليس بوقت نهي، وهو مذهب مكحول والأوزاعي والشافعي.

ومن أصحابه من خصه بمن حضر الجمعة دون من هو في بيته. ومنهم من خصه بمن بكر إلى الجمعة، وغلبه النعاس.

ومنهم من قال: هو وقت نهي يوم الجمعة في الصيف دون الشتاء، وهو قول عطاء وقتادة.

ومنهم من لم يره وقت نهي في جميع الأيام، كمالك.

وقد سبق الكلام عليه في ذكر أوقات النهي.

والرابع: بعد زوال الشمس، وقبل خروج الإمام، فهذا الوقت يستحب الصلاة فيه بغير خلاف نعلمه بين العلماء سلفا وخلفا، ولم يقل أحد من المسلمين: إنه يكره الصلاة يوم الجمعة، بل القول بذلك خرق لإجماع المسلمين، إنما اختلفوا في وقت قيام الشمس، كما سبق.

قال مالك: لا أكره الصلاة نصف النهار في جمعة ولا غيرها.

وقد روى في " الموطأ " حديثا مرفوعا في النهي عنه، ثم تركه؛ لأنه رأى عمل العلماء وأهل الفضل على خلافه.

فأما الصلاة بعد زوال الشمس، فلم يزل عمل المسلمين على فعله.

ص: 331

وقد ذكر مالك في " الموطأ " عن الزهري، عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي، أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون حتى يخرج عمر ويجلس على المنبر، فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذنون جلسوا يتحدثون، فإذا اسكت المؤذن وقام عمر سكتوا ولم يتكلم أحد.

وهذا تصريح باستمرارهم في الصلاة إلى ما بعد زوال الشمس، وهو مما يستدل به على الصلاة وقت استواء الشمس وقيامها يوم الجمعة.

وقد وردت آثار آخر، تدل على أنهم كانوا يتركون الصلاة وقت قيام الشمس

يوم الجمعة، فإذا زالت قاموا إلى الصلاة.

وروى الأثرم بإسناده، عن عمرو بن سعيد بن العاص، قال: كنت أبقى - يعني: أنتظر - أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا زالت الشمس قاموا فصلوا أربعا.

وبإسناده، عن أبي بكر بن عياش، قال: كنا نكون مع حبيب بن أبي ثابت في الجمعة، فيقول: أزالت الشمس بعد، ويلتفت فينتظر، فإذا زالت الشمس، قام فصلى الأربع قبل الجمعة.

وبإسناده، عن حماد بن زيد، قال: كنت أمر بابن عون يوم الجمعة، فنمضي إلى الجمعة، فيقول لي: الشمس عندكم أبين منها عندنا، فنرى الشمس زالت.

قال حماد: كأنه يكره الصلاة حتى تزول الشمس.

وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ في " مسائله للإمام أحمد ": رأيت أبا عبد الله - يعني: أحمد - إذا كان يوم الجمعة يصلي إلى أن يعلم أن الشمس قد قاربت أن تزول، فإذا قاربت أمسك عن الصلاة حتى يؤذن

ص: 332

المؤذن، فإذا أخذ في الأذان قام فصلى ركعتين أو أربعا، يفصل بينها بالسلام.

وقال - أيضا -: رأيت أبا عبد الله إذا أذن المؤذن يوم الجمعة صلى ركعتين، وربما صلى أربعا على خفة الأذان وطوله.

ومما يدل على استحباب الصلاة في هذا الوقت يوم الجمعة: أنه وقت يرجى فيه ساعة الإجابة، فالمصلي فيه يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم:" لا يوافقها عبد قائم يصلي، يسأل الله شيئا، إلا أعطاه ".

وقد اختلف في الصلاة قبل الجمعة: هل هي من السنن الرواتب كسنة الظهر قبلها، أم هي مستحبة مرغب فيها كالصلاة قبل العصر؟

وأكثر العلماء على أنها سنة راتبة، منهم: الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وهو ظاهر كلام أحمد، وقد ذكره القاضي أبو يعلى في " شرح المذهب " وابن عقيل، وهو الصحيح عند أصحاب الشافعي.

وقال كثير من متأخري أصحابنا: ليست سنة راتبة، بل مستحبة.

وقد زعم بعضهم: أن حديث ابن عمر المخرج في هذا الباب يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي قبل الجمعة شيئا؛ لأنه ذكر صلاته بعد الجمعة، وذكر صلاته قبل الظهر وبعدها، فدل على الفرق بينهما.

وهذا ليس بشيء؛ فإن ابن عمر قد روي عنه ما يدل على صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قبل الجمعة، كما سبق، ولعله إنما ذكر الركعتين بعد الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليهما في بيته، بخلاف الركعتين قبل الظهر وبعدها؛

ص: 333

فإنه كان أحيانا يصليها في المسجد، فبهذا يظهر الفرق بينهما.

وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عمل عملا داوم عليه، ولم يكن ينقصه يوم الجمعة ولا غيرها، بل كان الناس يتوهمون أنه كان يزيد في صلاته يوم الجمعة بخصوصه، فكانت عائشة تسأل عن ذلك، فتقول: لا، بل كان عمله ديمة.

وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم، أنه كان يصلي قبل الظهر ركعتين أو أربعا.

وفي " صحيح ابن حبان "، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج صلى ركعتين.

ورويناه من وجه آخر عن عائشة، قالت: ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندي قط إلا صلى ركعتين.

وقد كان من هدي المسلمين صلاة ركعتين عند خروجهم من بيوتهم، من الصحابة ومن بعدهم، وخصوصا يوم الجمعة، وممن كان يفعله يوم الجمعة ابن

عباس وطاوس وأبو مجلز، ورغب فيه الزهري.

وقال الأوزاعي: كان ذلك من هدي المسلمين.

وقد سبق في " باب: الصلاة إذا دخل المسجد والإمام يخطب " ما يدل على ذلك - أيضا.

وحينئذ؛ فلا يستنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في بيته ركعتين قبل خروجه إلى الجمعة.

ص: 334

فإن قيل: فهو كان يخرج إلى الجمعة عقب الزوال من غير فصل؛ بدليل ما سبق من الأحاديث من صلاته الجمعة إذا زالت الشمس.

قيل: هذه دعوى باطلة، لا برهان عليها، ولو كانت حقا لكانت خطبته دائما أو غالبا قبل الزوال، إذا كانت صلاته عقب زوال الشمس من غير فصل، ولم يقل ذلك أحد.

وأيضا؛ فقد روي أنه كان يصلي الظهر إذا زالت الشمس، كما تقدم في " المواقيت " ولم يقل أحد: إنه يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي قبل الظهر شيئا.

وقد كتبت في هذه المسألة جزءا مفردا، سميته:" نفي البدعة عن الصلاة قبل الجمعة "، ثم اعترض عليه بعض الفقهاء المشار إليه في زماننا، فأجبت عما اعترض به في جزء آخر، سميته:" إزالة الشنعة عن الصلاة قبل الجمعة "، فمن أحب الزيادة على ما ذكرناه ها هنا، فليقف عليهما - إن شاء الله تعالى.

ص: 335

‌40 - باب قول الله عز وجل: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض)

[الجمعة: 10] الآية

ص: 336

938 -

حدثنا سعيد بن أبي مريم: ثنا أبو غسان: حدثني أبو حازم، عن سهل ابن سعد، قال: كانت فينا امرأة تجعل على أربعاء في مزرعة لها سلقا، فكانت إذا كان يوم الجمعة تنزع أصول السلف، فتجعله في قدر، ثم تجعل عليه قبضة من شعير تطحنها، فتكون أصول السلق عرقه، وكنا ننصرف من صلاة الجمعة فنسلم عليها، فتقرب ذلك الطعام إلينا، فنلعقه، فكنا نتمنى يوم الجمعة لطعامها ذلك.

ص: 336

939 -

حدثنا عبد الله بن مسلمة: نا ابن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد - بهذا، وقال: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة.

المقصود من هذا الحديث ها هنا: أن الصحابة لم يكونوا يجلسون بعد صلاة الجمعة في المسجد إلى العصر لانتظار الصلاة - كما ورد في الحديث المرفوع أنه يعدل [عمرة] وقد خرجه البيهقي بإسناد ضعيف، وقد سبق ذكره - وإنما كانوا يخرجون من المسجد ينتشرون في الأرض،

ص: 336

فمنهم من كان ينصرف لتجارة، ومنهم من كان يزور أصحابه وإخوانه، وكانوا يجتمعون على ضيافة هذه المرأة.

وقد ذهب بعضهم إلى [أن] الأمر بالانتشار بعد الصلاة للاستحباب، كان عراك بن مالك إذا خرج من المسجد يوم الجمعة [قال] : اللهم، أجبت دعوتك، وقضيت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين.

خرجه ابن أبي حاتم وغيره.

وهذا يدل على أنه رأى قوله تعالى: (فانتشروا في الأرض)[الجمعة: 10] أمرا على ظاهره.

وخرج - أيضا - بإسناده، عن عمران بن قيس، قال: من باع واشترى يوم الجمعة بارك الله له سبعين مرة.

قال بعض رواته: وذهب بعد صلاة الجمعة؛ لهذه الآية.

وذهب الأكثرون إلى أنه ليس بأمر حقيقة، وإنما هو إذن وإباحة، حيث كان بعد النهي عن البيع، فهو إطلاق من محظور، فيفيد الإباحة خاصة.

وكذا قال عطاء ومجاهد والضحاك ومقاتل بن حيان وابن زيد وغيرهم.

وروى أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في " كتاب الشافي " بإسناد لا

ص: 337

يصح، عن أنس - مرفوعا - في قوله تعالى:(فانتشروا في الأرض)، قال:" ليس بطلب دنيا، ولكن عيادة مريض، وتشييع جنازة، وزيارة أخ في الله ".

وفي حديث سهل: دليل على زيارة الرجال للمرأة، وإجابتهم لدعوتها، وعلى استحباب الضيافة يوم الجمعة خصوصا لفقراء المسلمين، فإطعام الفقراء فيه حسن مرغب فيه.

وفيه: أن فرح الفقير بوجود ما يأكل وتمنيه لذلك غير قادح في فقره، ولا مناف لصبره، بل ولا لرضاه.

وفي الحديث ألفاظ تستغرب:

ف " الأربعاء ": جداول الماء في الأرض، واحدها:" ربيع ".

وقوله: " فيكون أصول السلق عرقه " - وفي رواية: " عراقه " -، وهو بالعين المهملة والقاف، والعرق والعراق: اللحم.

والمعنى: أن أصول السلق تصير في هذا الطعام كاللحم لما يطبخ باللحم من الأطعمة.

ورواه بعضهم: " غرفه " - بالغين المعجمة والفاء -، وفسر ب " المرقة "؛ فإنها تغرف باليد.

وهذا بعيد؛ فإن أصول السلق لا تصير بغرف.

وقوله: " فنعلقه " أي: نلحسه، وهذا يدل على أنه كان قد ثخن.

وقيل: الفرق بين اللحس واللعق: أن اللحس يختص بالأصبع، واللعق يكون بالأصبع وبآلة يلعق بها كالملعقة.

ص: 338

48 -

باب القائلة بعد الجمعة

ص: 339

940 -

حدثني محمد بن عقبة الشيباني الكوفي: نا أبو إسحاق الفزاري، عن حميد، عن أنس، قال: كنا نبكر إلى الجمعة ثم نقيل.

ص: 339

941 -

حدثني سعيد بن أبي مريم: نا أبو غسان: حدثني أبو حازم، عن سهل بن سعد، قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة، ثم تكون القائلة.

هذا من أوضح دليل على أنهم كانوا يبكرون إلى الجمعة من أول النهار، فيمنعهم التبكير من القائلة في وقتها، فلا يتمكنون منها إلا بعد الصلاة، ولو كانوا يأتون الجمعة بعد الزوال لم يمتنعوا من القائلة بإتيان الجمعة.

وقد تعلق بذلك مني قول: إن الجمعة كانت تقام قبل زوال الشمس؛ لأنها لا تسمى قائلة إلا قبل الزوال، وكذا الغداء.

وقد مضى في الباب الذي قبله، عن سهل بن سعد، قال: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة.

وربما أشار الإمام أحمد إلى ذلك.

وأما الجمهور، فقالوا: سمي نومهم وأكلهم بعد الزوال في الجمعة " قائلة " و" غداء " باعتبار أنه قضاء لما يعتادونه في غير الجمعة من النوم والأكل قبل الزوال، فلما أخروه يوم الجمعة إلى بعد ذلك سمي ذلك باعتبار محله الأصلي الذي أخر عنه.

ويشبهه: تسمية السحور غداء؛ لأنه يقوم مقام الغداء، وإن تقدم عليه في وقته.

ويدل - أيضا - نومهم وغداؤهم بعد الجمعة على أنهم لم يكونوا

ص: 339

كلهم ينتظرون صلاة العصر في المسجد بعد الجمعة؛ فإنهم إن واصلوا الجلوس لانتظار العصر من غير نوم ولا أكل شق عليهم، وحصل لهم ضرر، ويوم الجمعة يوم عيد، فينهي عن إفراده بالصيام، وإن تأخروا لأجل انتظار العصر في المجيء إلى الجمعة فاتهم التبكير إليها، وهو أفضل من انتظار العصر، فكان المحافظة على التبكير إلى الجمعة مع الانصراف عقيب صلاتها أولى.

وكان الإمام أحمد يبكر إلى الجمعة، وينصرف أول الناس -: ذكره الخلال في " الجامع ". والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 340

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 341

‌1 - صلاة الخوف

وقول الله عز وجل: {وَإذا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً - وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَأبا مُهِيناً} [النساء: 101 - 102] قوله تعالى: {وَإذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} .

قد ذكر طائفة من السلف أنها نزلت في صلاة في السفر، لا في صلاة السفر بمجرده؛ ولهذا ذكر عقبيها قوله تعالى:{وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} ، ثم ذكر صفة صلاة الخوف، فكان ذلك تفسيرا للقصر المذكور في الآية الأولى. وهذا هو الذي يشير إليه البخاري، وهو مروي عن مجاهد والسدي والضحاك وغيريهم، واختاره ابن جرير وغيره.

ص: 341

وتقدير هذا من وجهين:

أحدهما: أن المراد بقصر الصلاة قصر أركانها بالإيماء ونحوه، وقصر عدد الصلاة إلى ركعة. فأما صلاة السفر، فإنها ركعتان، وهي تمام غير قصر، كما قاله عمر رضي الله عنه.

وروى سماك الحنفي، قال: سمعت ابن عمر يقول: الركعتان في السفر تمام غير قصر، إنما القصر صلاة المخافة.

خرجه ابن جرير وغيره.

وروى ابن المبارك عن المسعودي، عن يزيد الفقير، قال: سمعت جابر بن عبد الله يسأل عن الركعتين في السفر: أقصرٌهما؟ قالَ: إنما القصر ركعةٌ عندَ القتال، وإن الركعتين في السفر ليستا بقصرٍ.

وخرج الجوزجاني من طريق زائدة بن عمير الطائي، أنه سأل ابن عباس عن تقصير الصلاة في السفر؟ قال: إنها ليست بتقصير، هما ركعتان من حين تخرج من أهلك إلى أن ترجع إليهم.

ص: 342

وخرج الإمام أحمد بإسناد منقطع، عن ابن عباس، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين، وحين أقام أربعا أربعا.

وقال ابن عباس: فمن صلى في السفر أربعا كمن صلى في الحضر ركعتين.

وقال ابن عباس: لم تقصر الصلاة إلاّ مرة واحدة حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، وصلى الناس ركعة واحدة. يعني: في الخوف.

وروى وكيع، عن سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ركعة ركعة. قال سعيد: كيف تكون مقصورة وهما ركعتان.

والوجه الثاني: أن القصر المذكور في هذه الآية مطلق، يدخل فيه قصر العدد، وقصر الأركان ومجموع ذلك يختص بحالة الخوف في السفر، فأما إذا انفرد أحد الأمرين - وهو السفر أو الخوف - فإنه يختص بأحد نوعي القصر، فانفراد السفر يختص بقصر العدد، وانفراد الخوف يختص بقصر الأركان. لكن هذا ممالم يفهم من ظاهر القرآن، وإنما بين دلالةٌ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والآية لا تنافيه. وإن كان ظاهرها لا يدل عليه. والله سبحانه وتعالى

ص: 343

أعلم.

وقيل: إن قوله: {وَإذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} نزلت بسبب القصر في السفر من غير خوف، وإن بقية الآية مع الآيتين بعدها نزلت بسبب صلاة الخوف 0

روي ذلك عن عَلِيّ رضي الله عنه.

خرجه ابن جرير، عنه بإسناد ضعيف جداً، لايصح. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقد روي ما يدل على أن الآية الأولى المذكور فيها قصر الصلاة إنما نزلت في صلاة الخوف.

فروى منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسفان - وعلى المشركين خالد بن الوليد - فصلينا الظهر، فقال المشركونَ: لقد أصبنا غرةً، لقدأصبنا غفلةً، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر، فلما حضرت العصر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة والمشركون

أمامه، فصف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم صف، وصف بعد ذلك الصف صف آخر، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعاً، ثم سجدوا وسجد الصف الذين يلونه، وقام الآخرون يحرسونهم، فلما صلى هؤلاء سجدتين وقاموا، سجد الآخرون الذين كانوا خلفه، ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف

ص: 344

الآخر إلى مقام الصف الأول، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعاً، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الاخرون يحرسونهم، فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه سجد الآخرون، ثم جلسوا جميعاً فسلم عليهم جميعاً، فصلاها بعسفان، وصلاها يوم بني سليم.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود - وهذا لفظه - والنسائي وابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم.

وقال: على شرطهما.

وفي رواية للنسائي وابن حبان، عن مجاهد: نا أبو عياش الزرقي،

ص: 345

قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكره.

ورد ابن حبان بذلك على من زعم: أن مجاهداً لم يسمعه من أبي عياش، وأن أبا عياش لا صحبة له.

كأنه يشير إلى ما نقله الترمذي في ((علله)) عن البخاري، أنه قال: كل الروايات عندي صحيحٌ في صلاة الخوف، إلاحديث مجاهد، عن أبي عياش الزرقي، فأني أراه مرسلاً.

وابن حبان لم يفهم ما أراده البخاري، فإن البخاري لم ينكر أن يكون أبو عياش له صحبةٌ، وقد عدَة في ((تاريخه)) من الصحابة، ولا أنكر سماع مجاهد من أبي عياش، وإنما مراده: أن هذا الحديث الصواب: عن مجاهد إرساله عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر أبي عياش؛ كذلك رواه أصحاب مجاهد، عنه بخلاف رواية منصور، عنه، فرواه عكرمة بن خالد وعمر بن ذر وأيوب بن موسى ثلاثتهم، عن مجاهد، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً من غير ذكر أبي عياش.

ص: 346

وهذا أصح عند البخاري، وكذلك صحح إرساله عبد العزيز النخشبي وغيره من الحفاظ.

وأما أبو حاتم الرازي، فإنه قال - في حديث منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش -: إنه صحيح. قيل له: فهذه الزيادة ((فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر)) محفوظةٌ هي؟ قال: نعم.

وقال الإمام أحمد: كل حديث روي في صلاة الخوف فهو صحيح.

وقد جاء في رواية: فنزلت {وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} وهذا لاينافي رواية: ((فنزلت آية القصر)) بل تبين أنه لم تنزل آية القصر بانفرادها في هذا اليوم، بل نزل معها الآيتان بعدها في صلاة الخوف. وهذا كله مما يشهد لان آية القصر أريد بها قصر الخوف في السفر، وإن دلت على قصر السفر بغير خوف بوجه من الدلالة. والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال البخاري رحمه الله:

ص: 347

942 -

نا أبو اليمان: ثنا شعيب، عن الزهري، قال: سألته: هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقالَ أخبرني سالم، أن عبد الله بن عمر قالَ: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فوازينا العدو، فصاففنا لهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا، فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه وسجد سجدتين، ثُمَّ انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل، فجاءوا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ركعة وسجد سجدتين، ((ثُمَّ سلم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين)) .

وخرجه في موضع آخر من رواية معمر.

وخرجه مسلم من رواية معمر وفليح كلاهما، عن الزهري، به - بمعناه. وقد روي عن حذيفة نحو رواية ابن عمر - أيضا.

وخرجه الطبراني من رواية حكام بن سلم، عن أبي جعفر الرازي، عن قتادة، عن أبي العالية، قال: صلى بنا أبو موسى الأشعري بأصبهان صلاة الخوف.

وما كان كبير خوفٍ؛ ليرينا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فكبر، وكبر معه طائفة من القوم، وطائفة بإزاءالعدو، فصلى بهم ركعة

ص: 348

فانصرفوا، وقاموا مقام اخوانهم، فجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعة أخرى، ثُمَّ سلم، فصلى كل واحد منهم الركعة الثانية وحدانا.

ورواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي العالية، أن أبا موسى كان بالدار من أرض اصبهان، وما بها كبير خوف، ولكن أحب أن يعلمهم دينهم وسنة نبيهم، فجعلهم صفين: طائفة معها السلاح مقبلة على عدوها، وطائفة من ورائها، فصلى بالذين بإزائه ركعة، ثم نكصوا على أدبارهم حتى قاموا مقام الأخرى، وجاءوا يتخللونهم حتى قاموا وراءه فصلى بهم ركعة أخرى، ثم سلم، فقام الذين يلونه والآخرون فصلوا ركعة ركعة، ثم سلم بعضهم على بعض، فتمت للإمام ركعتان في جماعة، وللناس ركعة ركعة. يعني في جماعة.

خرجه ابن أبي شيبة، وعنه بقي بن مخلد في مسنده.

وهو إسناد جيد. وهو في حكم المرفوع؛ لما ذكر فيه من تعليمهم بسنة نبيهم.

ورواه أبو داود الطيالسي، عن أبي حرة، عن الحسن، عن أبي موسى، أن رسول الله ? صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه –فذكر نحوه، وفيه زيادة على حديث ابن عمر: أن الطائفة الأولى لما صلت ركعة وذهبت لم تستدبر

ص: 349

القبلة، بل نكصت على أدبارها.

وروي - أيضا - عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك، من رواية خصيف، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فقاموا صفين، فقام صف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف مستقبل العدو، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصف الذين يلونه ركعة، ثم قاموا فذهبوا، فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو، وجاءوا أولئك فقاموا مقامهم، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة، ثم سلم، ثم قاموا فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا ثم ذهبوا، فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو، ورجع أولئك إلى مقامهم، فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا.

خرجه الإمام أحمد –وهذا لفظه - وأبو داود – بمعناه.

وخصيف، مختلف في أمره. وأبو عبيدة، لم يسمع من أبيه، لكن رواياته عنه أخذها عن أهل بيته، فهي صحيحة عندهم. وهذه الصفة توافق حديث ابن عمر وحذيفة، إلاّ في تقدم الطائفة

ص: 350

الثانية بقضاء ركعة.

وذهابهم إلى مقام أولئك مستقبلي العدو، ثُمَّ مجيء الطائفة الأولى إلى مقامهم فقضوا ركعة.

وحديث ابن عمر وحذيفة فيهما: قيام الطائفتين يقضون لأنفسهم، وظاهره: أنهم قاموا جملة وقضوا ركعة ركعة واحدانا.

وقد رواه جماعة، عن خصيف، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود، وزادوا فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر وكبرالصفان معه جميعاً. وقد خرجه كذلك الإمام أحمد وأبو داود.

وزاد الإمام أحمد: ((وهم في صلاة كلهم)) واختلف العلماء في صلاة الخوف على الصفة المذكورة في حديث ابن عمر، وما وافقه: فذهب الأكثرون إلى أنها جائزة وحسنة، وإن كان غيرها أفضل منها، هذا قول الشافعي –في أصح قوليه - وأحمد وإسحاق وغيرهم.

وقالت طائفة: هي غير جائزة على هذه الصفة؛ لكثرة ما فيها من الأعمال المباينة للصلاة من استدبار القبلة والمشي الكثير، والتخلف عن الإمام، وادعوا أنها منسوخة، وهو أحد القولين للشافعي.

ودعوى النسخ هاهنا لا دليل عليها.

ص: 351

وقالت طائفة: هي جائزة كغيرها من أنواع صلاة الخوف الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا فضل لبعضها على بعض، وهو قول إسحاق: نقله عن ابن منصور ونقل حرب، عن إسحاق، أن حديث ابن عمر وابن مسعود يعمل به إذا كان العدو في غير جهة القبلة.

وكذلك حكى بعض أصحاب سفيان كلام سفيان في العمل بحديث ابن عمر على ذلك.

وقالت طائفة: هي افضل انواع صلاة الخوف، هذا قول النخعي، واهل الكوفة وأبي حنيفة وأصحابه، ورواية عن سفيان، وحكي عن الأوزاعي واشهب المالكي.

وروى نافع، ان ابن عمر كان يعلم الناس صلاة الخوف على هذا الوجه. وحكي عن الحسن بن صالح، أنه ذهب إلى حديث ابن مسعود، وفيه: أن الطائفة الثانية تصلي مع الإمام الركعة الثانية، ثم إذا سلم قضت ركعة، ثم ذهبت إلى مكان الطائفة الأولى، ثم قضت الطائفة الأولى ركعة، ثم تسلم وقد قيل: إن هذا هو قول أشهب.

وحكى ابن عبد البر، عن أحمد، أنه ذهب إلى هذا –أيضا.

وقال بعض أصحابنا: هو أحسن من الصلاة على حديث ابن عمر؛

ص: 352

لأن صلاة الطائفة الثانية خلت عن مفسد بالكلية.

وحكي عن أبي يوسف ومحمد والحسن بن زياد والمزني: أن صلاة الخوف لا تجوز بعد النبي صلى الله عليه وسلم لظاهر قول الله تعالى: {وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] الآية. قالوا: وإنما يصلي الناس صلاة الخوف بعده بإمامين، كل إمام يصلي بطائفة صلاة تامة، ويسلم بهم.

وهذا مردود باجتماع الصحابة على صلاتها في حروبهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صلاها بعده: علي بن أبي طالب، وحذيفة بن اليمان، وأبو موسى الاشعري، مع حضور غيرهم من الصحابة، ولم ينكره أحد منهم.

وكان ابن عمر وغيره يعلمون الناس صلاة الخوف، وجابر، وابن عباس وغيرهما يروونها للناس تعليما لهم، ولم يقل أحد منهم: أن ذلك من خصائص النبي ? صلى الله عليه وسلم.

وخطابه صلى الله عليه وسلم ? لا يمنع مشاركة أمته له في الأحكام، كما في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِم} [التوبة: 103]

وحكي عن مالك، أنها تجوز في السفر دون الحضر، وهو قول

ص: 353

عبد الملك بن الماجشون من أصحابه.

ويحتج له بحمل اية القصر على صلاة الخوف، وقد شرط لها شرطان: السفر والخوف، كما سبق؛ ولأن النَّبيّ ? صلى الله عليه وسلم إنما كانَ يصلي صلاة الخوف في أسفاره، ولم يصلها في الحضر مع أنه حوصر بالمدينة عام الخندق، وطالت مدة الحصار، واشتد الخوف، ولم يصل فيها صلاة الخوف. وقد قيل: إن صلاة الخوف إنما شرعت بعد غزوة الأحزاب في السنة السابعة.

وقد ذكر البخاري في ((المغازي)) من كتابه هذا - تعليقا - من حديث عمران القطان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في الخوف في غزوة السابعة: غزوة ذات الرقاع.

وخرجه الإمام أحمد من رواية ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ست مرار قبل صلاة الخوف، وكانت صلاة الخوف في السابعة.

وقد تقدم في حديث أبي عياش، أن أول صلاة الخوف كانت بعسفان وعلى المشركين خالد.

وقد روى الواقدي بإسناد له، عن خالد بن الوليد، أن ذلك كان في مخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمرة الحديبية.

ص: 354

وقد تقدم أن أبا موسى صلى بأصبهان هذه الصلاة، ولم يكن هناك كبير خوف، وإنما صلى بهم ليعلمهم سنة صلاة الخوف.

وهذا قد يحمل على أنه كان ثم خوف يبيح هذه الصلاة، ولم يكن وجد خوف شديد يبيح بالإيماء.

وقد قال أصحابنا وأصحاب الشافعي: لو صلى صلاة الخوف على ما في حديث ابن عمر في غير خوف لم تصح صلاة المأمومين كلهم؛ لإتيانهم بما لا تصح معه الصلاة في غير حالة الخوف من المشي والتخلف عن الإمام.

فأما الإمام، فلأصحابنا في صلاته وجهان، بناء على أن الإمام إذا بطلت صلاة من خلفه، فهل تبطل صلاته لنيته الإمامة وهو منفرد، أو يتمها منفردا وتصح؟ وفيه وجهان للأصحاب.

ص: 355

‌2 - باب

صلاة الخوف رجالاً وركباناً

راجلٌ: قائمٌ

.

ص: 356

943 – حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد القرشي: أنا أبي: نا ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر - نحوا من قول مجاهد: إذا اختلطوا قياما.

وزاد ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((وإن كانوا أكثر من ذلك فليصلوا قياما

وركبانا)) .

وخرج مسلم من حديث سفيان عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ذهبوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة، ثم قضت الطائفتان ركعة، ركعة. قالَ: وقال ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر من ذلك فصل راكبا أو قائما تومىء إيماء.

فجعل هذا الوجه من قول ابن عمر، ولم يرفعه.

وروى أبو إسحاق الفزاري، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر الحديث مرفوعا، ولم يذكر في آخره:((فإذا كان خوف أكثر من ذلك)) – إلى

آخره.

ص: 356

وخرج ابن ماجه وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث جرير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف فذكر صفتها بمعنى حديث موسى بن عقبة، وقال في آخر الحديث: فإن كان خوفا أشد من ذلك فرجالا أو ركبانا.

وقد خالف جريرا يحيى القطان وعبد الله بن نمير ومحمد بن بشر وغيرهم، رووه عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر – موقوفا كله.

ورواه مالك في ((الموطإ)) ، عن نافع عن ابن عمر – في صفة صلاة الخوف بطوله – وفي آخره: فإن كان خوفا هو أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم، أو ركبانا، مستقبلي القبلة، أو غير مستقبليها.

قال مالك: قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلاّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وخرجه البخاري في ((التفسير)) من طريق مالك كذلك.

قال ابن عبد البر: رواه مالك، عن نافع على الشك في رفعه، ورواه عن نافع جماعة لم يشكوا في رفعه، منهم: ابن أبي ذئب وموسى بن عقبة وأيوب بن موسى.

ص: 357

وذكرالدارقطني: أن إسحاق الطباع رواه عن مالك ورفعه من غير شك.

وهذا الحديث ينبغي أن يضاف إلى الأحاديث التي اختلف في رفعها نافع وسالم، وهي أربعة سبق ذكرها بهذا الاختلاف في رفع أصل الحديث في صلاة الخوف عن نافع.

وبقي اختلاف آخر، وهو: في قوله في آخر الحديث: ((فإن كان [خوفا] أكثر من ذَلِكَ)) إلى آخره؛ فإن هذا قد وقفه بعض من رفع أصل الحديث، كما وقفه

سفيان، عن موسىبن عقبة، وجعله مدرجاً في الحديث.

وقد ذكر البخاري: أن ابن جريج رفعه عن موسى، وخرجه من طريقه كذلك.

وأما قول مجاهد المشار إليه في رواية البخاري: روى ابن أبي نجيح، عن مجاهد:

{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانا} [البقرة: 239] إذا وقع الخوف صلى على كل وجهةٍ، قائما أو راكبا أو ما قدر، ويومئ برأسه، ويتكلم بلسانه.

ص: 358

وروى أبو إسحاق الفزاري، عن ابن أبي أنيسة، عن أبي الزبير، قال: سمعت جابرا سُئل عن الصلاة عند المسايفة؟ قالَ: ركعتين ركعتين، حيث توجهت على دابتك تومئ إيماء.

ابن أبي أنيسة، أظنه: يحيى، وهو ضعيف.

وخرجه الإسماعيلي في ((صحيحه)) ، وخرجه من طريقه البيهقي، من رواية حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن ابن كثير، عن مجاهد، قالَ: إذا اختلطوا، فإنما هو التكبير والإشارة بالرأس.

قال ابن جريج: حدثني موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل قول مجاهد: إذا اختلطوا، فإنما هو التكبير والإشارة بالرأس.

وزاد: عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((فإن كثروا فليصلوا ركبانا أو قياما على أقدامهم)) يعني: صلاة الخوف.

وخرجه - أيضا – من رواية سعيد بن يحيى الأموي، عن أبيه، عن ابن جريج، ولفظه: عن ابن عمر – نحواً من قول مجاهد: إذا اختلطوا، فإنما هو الذكر وإشارة بالرأس.

وزاد ابن عمر: عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((وإن كانوا

ص: 359

أكثرمن ذلك فليصلوا قياما

وركبانا)) .

كذا قرأته بخط البيهقي.

وخرجه أبو نعيم في ((مستخرجه على صحيح البخاري)) من هذا الوجه، وعنده:((قياما وركبانا)) وهو أصح.

وهذه الرواية أتم من رواية البخاري.

ومقصود البخاري بهذا: أن صلاة الخوف تجوز على ظهور الدواب للركبان، كما قال تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} ويعني: ((رجالا)) : قياما على أرجلهم، فهو جمع راجل، لا جمع رجل، و ((الركبان)) على الدواب. وقد خرج فيه حديثا مرفوعاً.

وقد روي عن ابن عمر وجابر، كما سبق.

وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المطلوب يصلي على دابته - كذلك قال عطاء بن أبي رباح، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور - وإذا كان طالبا نزل فصلى بالأرض.

قال الشافعي: إلا في حالة واحدة، وذلك أن يقل الطالبون عن المطلوبين، ويقطع الطالبون عن أصحابهم، فيخافون عودة المطلوبين عليهم، فإذا كانوا هكذا كان لهم أن يصلوا يومئون إيماءً. انتهى.

وممن قال: يصلي إلى دابته ويومئ: الحسن والنخعي

ص: 360

والضحاك، وزاد: أنه يصلي على دابته طالبا كان أو مطلوباً.

وكذا قال الأوزاعي.

واخلفت الرواية عن أحمد: هل يصلي الطالب على دابته، أم لا يصلي إلا على الأرض؟ على روايتين عنه، إلا أن يخاف الطالب المطلوب، كما قال الشافعي، وهوقول أكثر العلماء.

قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر: أما المطلوب، فلا يختلف القول فيه، أنه يصلي على ظهر الدابة، واختلف قوله في الطالب فقالوا عنه: ينزل فيصلي على الأرض، وإن خاف على نفسه صلى وأعاد، وإن أخر فلا بأس، والقول الآخر: أنه إذا خاف أن ينقطع عن أصحابه أن يعود العدو عليه، فإنه يصلي على ظهر دابته، فإنه مثل المطلوب لخوفه، وبه أقول. انتهى.

وما حكاه عن أحمد من أن الطالب إذا خاف فإنه يصلي ويعيد، فلم يذكر به نصا عنه، بل قد نص على أنه مثل المطلوب.

قال –في رواية أبي الحارث -: إذا كان طالبا وهو لا يخالف العدو، فما علمت أحدا رخص له في الصلاة على ظهر الدابة، فإن خاف إن نزل أن ينقطع من الناس، ولا يأمن العدو فليصل على ظهر دابته ويلحق بالناس، فإنه في هذه الحال مثل المطلوب.

ونقل هذا المعنى عنه جماعة، منهم: أبو طالب والأثرم.

وله أن يصلي مستقبل القبلة وغير مستقبلها على حسب القدرة.

ص: 361

وفي وجوب استفتاح الصلاة إلى القبلة روايتان عن أحمد: فمن أصحابنا من قال: الروايتان مع القدرة، فأما مع العجز فلا يجب رواية واحدة.

وقال أبو بكر عبد العزيز عكس ذلك، قالَ: يجب مع القدرة، ومع عدم الإمكان، روايتان. وهذا بعيد جدا – أعني: وجوب الاستفتاح إلى القبلة مع العجز، ولعل فائدة إيجاب الإعادة بدونه.

ولهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف رجالا وركبانا في جماعة، نص عليه أحمد، وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن.

وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: لا يصلون جماعة بل فرادى؛ لأن المحافظة على الموقف والمتابعة لا تمكن.

وقال أصحابنا ومن وافقهم: يعفى عن ذلك هاهنا، كما يعفى عن استدبار القبلة والمشي في صلوات الخوف، وإن كان مع الانفراد يمكن ترك ذَلِكَ.

قالوا: ومتى تعذرت المتابعة لم تصح الجماعة بلا خلاف.

ص: 362

‌3 - باب

يحرس بعضهم بعضا في صلاة الخوف

ص: 363

944 -

حدثنا حيوة بن شريح: نا محمد بن حرب، عن الزبيدي، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قالَ: قام النبي صلى الله عليه وسلم وقام الناس معه، فكبر وكبروا معه، وركع وركع ناس منهم، ثم سجد وسجدوامعه، ثم قام للثانية، فقام الذين سجدوا وحرسوا اخوانهم، وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه، والناس كلهم في صلاة، ولكن يحرس بعضهم بعضا.

وخرجه النسائي عن عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير، عن محمد بن حرب بهذا الإسناد، وزاد فيه الفاظا بعد قوله:((ثم قام إلى الركعة فتاخر الذين سجدوا معه وحرسوا أخوانهم)) .

ورواه النعمان بن راشد، عن الزهري بهذا الإسناد، وزاد فيه زيادات كثيرة، ولفظه: ((قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمنا خلفه صفين، فكبر وركع وركعنا جميعا، الصفان كلاهما، ثم رفع رأسه، ثم خر ساجدا، وسجد الصف الذي يليه وثبت الآخرون قياما

ص: 363

يحرسون أخوانهم، فلما فرغ من سجوده وقام خر الصف المؤخر سجودا، فسجد سجدتين، ثم قاموا فتأخر الصف المقدم الذي بين يديه، وتقدم الصف المؤخر، فركع وركعوا جميعا، وسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه، وثبت الآخرون قياما يحرسون أخوانهم، فلما قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خر الصف المؤخر سجودا، ثم سلم النبي

صلى الله عليه وسلم.

خرجه الدارقطني، ومن طريقه البيهقي.

وفي هذه الرواية: أن الصفين ركعوا معه، ورواية الزبيدي تدل على أن بعضهم ركع معه، وبعضهم لم يركع.

ورواه أبو بكر بن أبي الجهم، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بذي قرد، فصف الناس خلفه صفين، صف خلفه، موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة، ولم يقضوا.

خرجه النسائي من طريق سفيان، عنه.

وخرجه الإمام أحمد، ولفظه: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بذي قرد - أرض من أرض بني سليم -، فصف الناس خلفه صفين، صفا موازي العدو، وصفا

خلفه، فصلى بالذي يليه ركعة، ثم نكص هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وهؤلاء إلى مصاف هؤلاء، فصلى بهم ركعة أخرى.

ص: 364

وفي رواية أخرى لهُ: ثم سلم، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، ولكل طائفة ركعة وهذه الزيادة مدرجة من قول سفيان؛ كذلك هوَ في رواية البيهقي.

وخرجه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) .

وقال البخاري في ((المغازي)) : ((وقال ابن عباس: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوف بذي قرد)) – ولم يزد على ذَلِكَ.

وقال الشافعي: هو حديث لا يثبت أهل العلم بالحديث مثله. قالَ: وإنما تركناه لاجتماع الأحاديث على خلافه، ولأنه لا يثبت عندنا مثله لشيء في بعض إسناده. انتهى.

وإذا اختلف أبو بكر بن أبي الجهم والزهري، فالقول قول الزهري، ولعل مسلما ترك تخريج هذا الحديث للاختلاف في متنه، وقد صحح الإمام أحمد إسناده.

قال - في رواية علي بن سعيد في صلاة

ص: 365

الخوف -: قد روي ركعة وركعتان، ابن عباس يقول: ركعة ركعة، إلاّ أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان وللقوم ركعة، وما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها صحاح.

وقال – في رواية حرب -: كل حديث روي في صلاة الخوف فهو صحيح الإسناد، وكل ما فعلت منه فهو جائز.

وقد حمل بعضهم معنى رواية أبي بكر أبي الجهم على معنى رواية الزهري، وقال: إنما المراد أن الصفين صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم حرس أحد الصفين في الركعة الأولى، والآخر في الثانية، وإنما لم يقضوا بعد سلام النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم قضوا ما تخلفوا به عنه قبل سلامه، كما في رواية النعمان بن راشد، عن الزهري.

وأما قوله: ((فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان وللقوم ركعة)) ، فهو من قول سفيان، كما هو مصرح به في رواية البيهقي، وذلك ظن ظنه، قد خالفه غيره فيهِ.

ويشهد لهذا التأويل: أنه قد روي عن ابن عباس التصريح بهذا المعنى من وجه.

خرجه الإمام أحمد والنسائي من رواية ابن إسحاق: حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قالَ: ما كانت صلاة الخوف إلا كصلاة أحراسكم هؤلاء اليوم خلف أئمتكم هؤلاء إلاّ أنها كانت عقبا، قامت طائفة منهم وهم جميعا مع

رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجدت معه طائفة، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد الذين كانوا قياما لأنفسهم، ثم قام الرسول الله صلى الله عليه وسلم وقاموا معه جميعاً، ثم ركع وركعوا معه جميعاً، ثم سجد فسجد معه الذين كانوا قياما أول مرة، فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين سجدوا معه في آخر صلاتهم سجد الذين كانوا

ص: 366

قياما لأنفسهم، ثم جلسوا فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتسليم.

وخرج الإمام أحمد من رواية النضر أبي عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قالَ: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ? في غزاة فلقي المشركين بعسفان فأنزل الله {وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} الآية، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر وكانوا في القبلة صلى المسلمون خلفه صفين فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبروا معه - فذكر صلاة الخوف - وفيه: تأخر الصف الذين يلونه في الركعة الثانية وتقدم الآخرين - وقال في آخر الحديث: فلما نظر إليهم المشركون يسجد بعضهم ويقوم بعضهم ينظر إليهم، قالوا: لقد أخبروا بما أردناهم.

وقال: صحيح على شرط البخاري.

وليس كما قال؛ والنضر أبو عمر، ضعيف جدا.

وخرجه البزار - أيضا.

وقد تقدم حديث أبي عياش الزرقي في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان بهذا المعنى.

وروي - أيضا - من حديث جابر، من رواية عبد الملك بن أبي سليمان، عن

عطاء، عن جابر، قالَ: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة

ص: 367

الخوف، وصفنا صفين، صف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم ? وكبرنا جميعا، ثم ركع وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود، وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع رسول الله ? صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحور العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعا.

قال جابر: كما يصنع حرسكم هؤلاء [بأمرائهم] .

خرجه مسلم.

وخرجه - أيضا - من رواية أبي الزبير، عن جابر، قالَ: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما من جهينة، فقاتلونا قتالا شديدا - ثم ذكره بمعناه.

وروي - أيضا - من حديث حذيفة.

خرجه الإمام أحمد من رواية أبي إسحاق، عن سليم بن عبد السلولي، قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان، فقال: أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقالَ حذيفة: أنا، فأخر أصحابك يقومون طائفتين، طائفة خلفك وطائفة بازاء العدو، فتكبر فيكبرون جميعا، ثُمَّ تركع فيركعون جميعا، ثُمَّ ترفع

ص: 368

فيرفعون جميعا، ثُمَّ تسجد ويسجد معك الطائفة التي تليك، والطائف التي بازاء العدو قيام بازاء العدو، فإذا رفعت رأسك من السجود [يسجدون] ، ثُمَّ يتأخر هؤلاء ويتقدم الآخرون، فقاموا مقامهم، فتركع ويركعون جميعا، ثُمَّ ترفع ويرفعون جميعا، ثُمَّ تسجد فتسجد الطائفة التي تليك، والطائفة الأخرى قائمة بازاء العدو، فإذا رفعت رأسك من السجود سجدوا، ثُمَّ سلمت ويسلم بعضهم على بعض، وتأمر أصحابك أن هاجهم هيج من العدو، فقد حل لهم القتال والكلام.

وسليم بن عبد، ذكره ابن حبان في ((ثقاته)) .

وقد روي حديث حذيفة بالفاظ محتملة، وهذه الرواية مفسرة لما أجمل في تلك.

كما روى الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زهدم، قالَ: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان، فقام، فقال: إيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقالَ حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعة، وبهؤلاء ركعة، وانفضوا.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود، وهذا لفظه.

وخرجه النسائي، ولفظه: فقام حذيفة، فصف الناس خلفه صفين، صفا

خلفه، وصفا موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا.

ص: 369

وفي رواية: قال له حذيفة: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بطائفة ركعة، صف خلفه، وأخرى بينه وبين العدو، فصلى بالطائفة التي تليه ركعة، ثم نكص هؤلاء إلى مصاف أولئك، فصلى بهم ركعة.

وروى أبو روق، عن مخمل بن دماث، قال: غزونا مع سعيد بن الحارث، فقال: من شهد منكم صلاة الخوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالَ حذيفة: أنا، صلى بإحدى الطائفتين ركعة؛ والأخرى مستقبلة العدو، ثُمَّ ذهبت هذه الطائفة فقامت مقام

أصحابهم، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة، فصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة. وقد خرجه الإمام أحمد وغيره - أيضا.

فهذا الإختلاف في حديث حذيفة يشبه الاختلاف في حديث ابن عباس، وبعضه محتمل، وبعضه مفسر، فيرد المحتمل إلى المفسر المبين، كما قلنا في حديث ابن عباس. والله –سبحانه وتعالى أعلم. وقد ذهب أكثر العلماء إلى صحة الصلاة على وجه

الحرس، على ما

ص: 370

في حديث أبي عياش الزرقي وما وافقه من رواية جابر وابن عباس وحذيفة، وقد أمر بها حذيفة كما سبق.

وروى حطان بن عبد الله، أن أبا موسى صلاها في بعض حروبه، واستحبها طائفة منهم إذا كان العدو في جهة القبلة، منهم: سفيان وإسحاق وأبويوسف.

وروي عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز الصلاة بها، ولا يجوز إلا على حديث ابن مسعود وما وافقه، كما سبق.

والصلاة بهذه الصفة والعدو في جهة القبلة إذا لم يخش لهم كمين حسن؛ فإن أكثر ما فيها تأخر كل صف عن متابعة الإمام في السجدتين وقضاؤهما في الحال قبل سلامه، وتكون الحراسة في السجود خاصة، وهذا قول الشافعي وأصحابه.

وللشافعية وجه آخر: أنهم يحرسون في الركوع مع السجود، وقد سبق في رواية البخاري لحديث ابن عباس ما يدل عليهِ.

وأعلم؛ أن البخاري لم يخرج في ((أبواب صلاة الخوف)) مما ورد عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في أنواع صلاة الخوف سوى حديث ابن عمر، وابن عباس، وخرج في ((المغازي)) حديث جابر وسهل بن أبي حثمة، وذكر حديث أبي هريرة – تعليقاً.

ص: 371

فأما حديث جابر، فقال:((وقال أبان: نا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع –فذكر الحديث إلى أن قال -: وأقيمت الصَّلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتين)) .

هكذا ذكره تعليقاً. وخرجه مسلم مسنداً من حديث أبان، ولفظه: قالَ: فنودي بالصلاة –وذكره.

في الحديث: دليل على أن صلاة الخوف ينادي لها بالإذان والإقامة كصلاة

الأمن، ولا أعلم في هذا خلافاً، إلا ما حكاه أصحاب سفيان الثوري في كتبهم، عنه، أنه قالَ: ليس في صلاة الخوف إذان ولا إقامة في حضر ولا سفر.

وخرج الدارقطني من حديث الحسن، عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحاصر بني محارب بنخل، ثم نودي في الناس: أن الصلاة جامعة – وذكر معنى حديث أبي سلمة، وصرح فيه بأن النبي صلى الله عليه وسلم سلم بين كل ركعتين.

وقد خرجه النسائي - مختصراً - من رواية حماد بن سلمة، عن قتادة، عن

الحسن، عن جابر - بذكر السلام - أيضا، وليس فيه: ذكر

ص: 372

الصلاة جامعة.

ورواه قتادة –أيضا - عن سليمان اليشكري، عن جابر –بذكر السلام بين كل ركعتين، وفيه: أن يومئذٍ أنزل الله في إقصار الصلاة، وأمر المؤمنين بأخذ السلاح، وفي الحديث أن ذلك كان بنخلٍ.

والحسن، لم يسمع من جابر، وقتادة، لم يسمع من سليمان اليشكري.

وقد رواه أشعث، عن الحسن، عن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه صلى في خوف ثقيف ركعتين، ثم سلم، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين، ثم سلم، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربعاً، ولأصحابه ركعتين ركعتين.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في

ص: 373

((صحيحه)) .

وعند أبي داود: وبذلك كان يفتي الحسن.

وصلاة الخوف على هذه الصفة: أن يصلي الإمام أربع ركعات ويصلي كل طائفة خلفه ركعتين، لها صورتان:

إحداهما: أن يسلم الإمام من كل ركعتين، فهو جائز عن الشافعي وأصحابه.

واختلفوا: هل هي أفضل من صلاة ذات الرقاع - التي يأتي ذكرها؟ على وجهين لهم.

وكذلك اختار الجوزجاني هذه الصلاة على غيرها من أنواع صلوات الخوف؛ لما فيها من تكميل الجماعة لكل طائفة.

واختلف أصحابنا في ذلك:

فمنهم من أجازها في صلاة الخوف دون غيرها، وهو منصوص أحمد، وهو قول الحسن البصري - أيضا - واختاره طائفة من أصحابنا.

ومن أصحابنا من قال: هي مُخرجة على الاختلاف عن أحمد في صحة ائتمام المفترض بالمتنفل، كما سبق ذكره.

ومنع منها أصحاب أبي حنيفة؛ لذلك.

والصورة الثانية: أن لايسلم الإمام، ويكون ذلك في سفر، فينبني

ص: 374

على أنه: هل يصح أن يقتدي القاصر بالمتم في السفر؟

والأكثرون على أنه إذا اقتدى المسافر بمن يتم الصلاة فأدرك معه ركعة فصاعداً، فإنه يلزمه الإتمام.

فإن أدرك معه دون ركعة، فهل يلزمه الإتمام؟

قالَ الزهري وقتادة والنخعي ومالك: لا يلزمه، وهو رواية أحمد. والمشهور، عنه: أنه يلزمه الإتمام بكل حال، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه والأوزاعي والليث والشافعي وأبي ثور.

وقالت طائفة: لا يلزمه الإتمام، وله القصر بكل حال وهو قول الشعبي وطاوس وإسحاق.

فعلى قول هؤلاء: لاتردد في جواز أن يصلي الإمام أربع ركعات في السفر، وتصلي معه كل طائفة ركعتين.

وعلى قول الأولين: فهل يجوز ذلك في صلاة الخوف خاصة؟ فيه لأصحابنا وجهان.

ومن منع ذلك قال: ليس في حديث جابر تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسلم بين كل ركعتين بل قد ورد ذلك صريحاً في روايات متعددة، فتحمل الروايات المحتملة على الروايات المفسرة المبينة.

ثم قال البخاري: ((وقال أبو الزبير، عن جابر: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخل،

ص: 375

فصلى الخوف)) . وقال –أيضا -: ((وقال معاذ: ثنا هشام، عن أبي الزبير، عن جابر: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بنخل - فذكر صلاة الخوف)) .

وقد خرجه النسائي من رواية سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، قالَ: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخل، والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم فكبروا جميعاً، ثم ركع فركعوا جميعاً، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما قاموا سجد الآخرون مكانهم الذي كانوا فيهِ، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ثم ركع فركعوا جميعاً، ثم رفع فرفعوا جميعاً، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذين يلونه، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وجلسوا سجد الآخرون مكانهم، ثم سلم.

قال جابر: كما يفعل أُمراؤكم.

وخرجه مسلم - بمعناه - من رواية زهير بن معاوية، عن أبي الزبير، وليس عنده:((بنخلٍ)) .

وذكر البخاري – أيضاً - تعليقاً، عن جابر من طريقين آخرين، فقال: ((وقال بكر بن سوادة: حدثني زياد بن نافع، عن أبي موسى، أن جابراً حدثهم: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بهم يوم محارب وثعلبة.

وقال ابن إسحاق: سمعت وهب بن كيسان: سمعت جابراً: خرج

ص: 376

النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذات الرقاع من نخل، فلقي جمعاً من غطفان، فلم يكن قتال، وأخاف الناس بعضهم بعضاً، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتي الخوف)) . انتهى.

وأبو موسى، ليس هو الأشعري، بل تابعي، ذكره أبو داود، وذكر في حديثه: أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان، ولكل طائفة ركعة.

وقد رواه ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة بهذا الإسناد، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف يوم محارب وثعلبة، بكل طائفة ركعة وسجدتين.

وذكر أبو مسعود الدمشقي وغيره: أن أبا موسى هذا هو علي بن رباح

اللخمي، وقيل: إنه أبو موسى الغافقي، واسمه: مالك بن عبادة، وله صحبةٌ.

قال صاحب ((التهذيب)) : والقول الأول أولى. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 377

وأما حديث سهل بن أبي حثمة: فقال البخاري: ((ثنا قتيبة، عن مالك، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم.

قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف.

ص: 378

حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، قال: يقوم الإمام مستقبل القبلة، وطائفة منهم معه، وطائفة من قبل العدو، ووجوههم إلى العدو، فيصلي بالذين معه ركعة، ثم يقومون فيركعون لأنفسهم ركعة ويسجدون سجدتين في مكانهم، ثم يذهب هؤلاء إلى مقام أولئك، فيجيء أولئك فيركع بهم ركعة، فله ثنتان، ثم يركعون ويسجدون سجدتين.

حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

حدثنا محمد بن عبيد الله: ثنا ابن أبي حازم، عن يحيى: سمع القاسم: أخبرني صالح بن خوات، عن سهل، حدثه - قوله)) .

حاصل الاختلاف في إسناد هذا الحديث الذي خرجه البخاري هاهنا: أن يزيد بن رومان رواه عن صالح بن خوات، عمن شهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع، ولم

يسمه.

ورواه القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، واختلف عليه في رفعه ووقفه:

فرواه يحيى بن سعيد الانصاري، عن القاسم، فوقفه على سهل.

وقد خرجه البخاري هاهنا من طريق يحيى

ص: 379

القطان وابن أبي حازم، عن يحيى الأنصاري.

كذلك رواه شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الإمام أحمد: رفعه عبد الرحمن، ويحيى لم يرفعه. ثم قالَ: حسبك

بعبد الرحمن، هو ثقة ثقة ثقة. قيل له: فرواه عن عبد الرحمن غير شعبة؟ قالَ: ما علمت.

ثم قال: قد رواه يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يشد ذاك.

يريد: أنه يقوي رفعه.

ونقل الترمذي في ((العلل)) عن البخاري، أنه قال: حديث سهل بن أبي حثمة هوحديث حسن، وهومرفوع، رفعه شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم. انتهى.

ولكن رواه حرب الكرماني، عن إسحاق بن راهويه، عن الثقفي، عن يحيى الأنصاري، وقال في حديثه:((من السنة)) .

وهذا –أيضا - رفعٌ له.

وهو غريب عن الأنصاري.

ورواه عبد الله العمري، عن أخيه عبيد الله، عن القاسم بن محمد،

ص: 380

عن صالح بن خوات، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأخطأَ في قوله: ((عن أبيه)) ، إنما هو:((عن سهل)) : قاله أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان.

وقالا –أيضا - رواه أبو أويس، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عن أبيه - أيضا -، وأخطأ –أيضاً - في قوله:((عن أبيه)) .

وقد ذكر أبو حاتم الرازي وغيره: أن الذي قال صالح بن خوات في رواية يزيد بن رومان، عنه:((حدثني من شهد النبي صلى الله عليه وسلم)) ، هو سهل بن أبي حثمة، كما قاله القاسم، عن صالح.

قال أبو حاتم: وسهل بن أبي حثمة بايع تحت الشجرة، وكان دليل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أحد، وشهد المشاهد كلها إلا بدراً.

قالَ عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت رجلاً من ولده، سأله أبي عن ذلك، فأخبره به.

ولكن ذكر أكثر أهل السير كالواقدي والطبري وغيرهما: أن سهل بن أبي حثمة توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان سنين.

قال الواقدي

ص: 381

والطبري: وقد حفظ عنه، وقيل: إن الذي كان دليل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد وشهد معه المشاهد هو أبو حثمة والد سهل. والله سبحانه أعلم.

وقد ذكر الإمام أحمد وأبو داود أن رواية يحيى بن سعيد، عن القاسم تخالف رواية يزيد بن رومان في السلام؛ فإن في رواية يزيد بن رومان: أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ? سلم بالطائفة الثانية، وفي رواية يحيى بن سعيد: أنهم قضوا الركعة بعد سلامه.

وقد خرجه أبو داود من رواية مالك، عن يحيى بن سعيد كذلك، وفي حديثه: فركع بهم وسجد بهم ويسلم، فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية، ثم يسلمون.

وقد روى يحيى القطان الحديث، عن يحيى الأنصاري، ورواه عن شعبة عن

عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، وقال: لا أحفظ حديثه، ولكنه مثل حديث يحيى.

كذا خرجه الترمذي وابن ماجه.

وكذلك في رواية البخاري: أن

ص: 382

يحيى القطان رواه عن شعبة مثل حديث يحيى بن سعيد.

ولكن بينهما فرق في السلام:

فقد رواه معاذ بن معاذ، عن شعبة، عن عبد الرحمن بهذا الإسناد، وقال فيه: وتأخر الذين كانوا قدامهم، فصلى بهم ركعة، ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة، ثم سلم.

كذلك خرجه مسلم من طريقه.

ورجح ابن عبد البر رواية يحيى القطان، عن شعبة، على رواية معاذ بن معاذ، عنه، وقال في القطان: هو أثبت الناس في شعبة. وخالفه البيهقي، ورجح رواية معاذ بن معاذ؛ لان يحيى القطان لم يحفظ حديث شعبة.

وقال: رواه –أيضا - روح بن عبادة، عن شعبة، كما رواه عنه معاذ. قالَ: وكذلك رواه الثوري، عن يحيى الأنصاري بخلاف رواية مالك، عنه. قالَ: وهذا أولى أن يكون محفوظاً؛ لموافقته رواية عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، ورواية مالك. عن يزيد بن رومان.

قلت: فقد رواه أحمد، عن غندر، عن شعبة، عن يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن القاسم، وقال: أما عبد الرحمن فرفعه، وساق الحديث، وفي آخره: ثم يقعد حتى يقضوا ركعة أخرى، ثم يسلم عليهم.

وهذا يوافق رواية معاذ،

ص: 383

وغندر مقدم في أصحاب شعبة.

وقد ذهب كثير من العلماء إلى استحباب صلاة الخوف على ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع في هذا الحديث.

قال القاسم بن محمد: ما سمعت في صلاة الخوف أحب إلي منه.

وبه يقول مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وداود والثوري - في رواية - وحكاه إسحاق عن أهل المدينة وأهل الحجاز، وهو قول عبد الرحمن بن مهدي، وحكاه الترمذي، عن إسحاق.

وصرح إسحاق في رواية ابن منصور على أنه يجوز العمل به، ولا يختاره على غيره من الوجوه. إلاّ أنهم اختلفوا: هل تقضي الطائفة الركعة الثانية قبل سلام الإمام، أو بعده؟

فعند الشافعي وأحمد وداود: تقضي قبل سلام الإمام، ثُمَّ يسلم بهم وهو رواية عن مالك، ثُمَّ رجع عنها، وقال: إنما يقضون بعد سلام الإمام، وهو قول أبي ثور وأبي بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا، ذكره في كتابه ((الشافي)) .

ونص أحمد على أن هذه الصلاة تصلى وأن كان العدو

ص: 384

في جهة القبلة. وقال القاضي أبو يعلى: إنما تصلى إذا كان العدو في غير جهة القبلة، وكذلك حمل بعض أصحاب سفيان قوله على ذلك.

قال بعض أصحابنا: نص أحمد محمول على ما إذا لم يمكن صلاة عسفان لاستتار العدو، وقول القاضي محمول على ما إذا أمكن أن يصلوا صلاة عسفان لظهور العدو.

وكذا قال أصحاب الشافعي، لكنهم جعلوا ذلك شرطا لاستحباب صلاة ذات الرقاع، لا لجوازها.

قال البخاري:

((وقال أبو هريرة: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة نجد صلاة الخوف)) وهذا الحديث خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من رواية حيوة وابن لهيعة - إلا أن النسائي كنى عنه برجل آخر – كلاهما، عن أبي الاسود، أنه سمع عروة بن الزبير

يحدث، عن مروان بن الحكم، أنه سأل أبا هريرة: هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ قالَ أبو

ص: 385

هريرة: نعم. قالَ مروان: متى؟ قالَ أبو هريرة: عام غزوة

نجد، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر، فقامت طائفة معه، وطائفة أخرى مقابل العدو، وظهورهم إلى الكعبة، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبروا جميعا: الذين معه والذين مقابلو العدو، ثُمَّ ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة واحدة، وركعت الطائفة الذين معه، ثُمَّ سجد فسجدت الطائفة التي تليه، والآخرون قيام مقابل العدو، ثُمَّ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقامت الطائفة التي معه، فذهبوا إلى العدو فقابلوه، واقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم كما هوَ، ثُمَّ قاموا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى وركعوا معه، وسجد وسجدوا معه، ثُمَّ أقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو، فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد، ومن كان معه، ثم كان السلام، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا جميعا، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان، ولكل رجل من الطائفتين ركعة ركعة.

واللفظ لأبي داود.

ولفظ النسائي: فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان، ولكل رجل من الطائفتين ركعتان ركعتان. فتحمل - حينئذ - رواية أبي داود على أنه كان لكل واحد من الطائفتين

ص: 386

ركعة مع النبي صلى الله عليه وسلم والركعة الأخرى هو صلاها لنفسه، وعلى مثل ذلك تحمل كثير من أحاديث صلاة الركعة في الخوف.

ورواية ابن إسحاق، عن أبي الاسود، عن عروة أنه سمع أبا هريرة ومروان بن الحكم يسأله - فذكر الحديث بمعناه.

خرجه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) .

ورواية من روى عن عروة، عن مروان، عن أبي هريرة أشبه بالصواب -: قاله الدارقطني.

ونقل الترمذي في ((علله)) عن البخاري، أنه قال: حديث عروة، عن أبي

هريرة، حسن.

وقد روي هذا الحديث عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن أبي هريرة.

خرجه الأثرم.

وليس في حديثه: أن الطائفتين كبَرت مع النبي صلى الله عليه وسلم في أول صلاته.

ص: 387

وروي عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر، عن عروة، عن عائشة.

خرجه أبو داود.

ولفظ حديثه: قالت: كبَر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبرت الطائفة الذين صفوا معه، ثم ركع فركعوا، ثم سجد فسجدوا، ثم رفع فرفعوا، ثم مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا، ثم سجدوا هم لأنفسهم الثانية، ثم قاموا فنكصوا على أعقابهم يمشون القهقري حتى قاموا من ورائهم، وجاءت الطائف [الأخرى فقاموا] فكبروا، ثُمَّ ركعوا لأنفسهم، ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجدوا معه، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سجدوا لأنفسهم الثانية، ثم قامت الطائفتان جميعا فصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فركع فركعوا، ثم سجد فسجدوا جميعا، ثم عاد فسجد الثانية فسجدوا معه سريعا كأسرع الإسراع جاهدا، لا يألون إسراعا، ثم سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شاركه الناس في الصلاة كلها.

فقد اضطرب ابن إسحاق في لفظ الحديث وإسناده.

وقد رواه هشام بن عروة، عن أبيه - مرسلا -، بنحو حديث أبي عياش الزرقي.

ذكره أبو داود - تعليقا.

وقد أجاز الإمام أحمد وإسحاق وأبو خيثمة وابن أبي شيبة وابن جرير وجماعة من الشافعية صلاة الخوف على كل وجه صح عن

ص: 388

النبي صلى الله عليه وسلم، وأن رجحوا بعض الوجوه على بعض.

وأما صلاة الخوف ركعة، فيأتي الكلام عليه فيما بعد - إن شاء الله سبحانه وتعالى.

وظاهر كلام البخاري: أنه يجوز.

وقد نقل الترمذي عنه في ((العلل)) ، أنه قال: كل الروايات في صلاة الخوف عندي صحيح، وكل يستعمل، وإنما هو على قدر الخوف، إلا حديث مجاهد، عن أبي عياش، فإني أراه مرسلا.

وهذا يدل على أنه يستعمل كل وجه من وجوه صلاة الخوف على قدر ما تقتضيه حال الخوف، ويكون ذلك الوجه أصلح له.

وروي نحو ذلك عن سليمان بن داود الهاشمي، وحكي عن إسحاق - أيضا -، وقاله بعض أصحابنا.

ص: 389

‌4 - باب

الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو

وقال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح، ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء، كل امرىء لنفسه، فإن لم يقدروا على الايماء أخروا [الصلاة] حتى ينكشف القتال أو يأمنوا، فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا فلا يجزئهم التكبير. ويؤخرونها حتى يامنوا.

وبه قال مكحول.

إنما يقول مكحول بتأخير الصلاة للمطلوب دون الطالب.

قال الفزاري، عن يزيد بن السمط، عن مكحول، قال: إذا حضر القتال فلزم بعضهم بعضا، لم يطيقوا أن يصلوا، أخروا الصلاة حتى يصلوا علىالأرض، وقال: صلاة الطالب: أن ينزل فيصلي، فيؤثر صلاته على ما سواها، وصلاة الهارب: أن يصلي حيث كان ركعة.

قال أبو إسحاق، وقال الأوزاعي: الصلاة حيث وجهوا على كل

ص: 390

حال، لأن الحديث جاء أن البصر لا يرفع ما دام الطلب، وصلاة الخوف: أن يصلي القوم كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان خوف أكثر من ذلك صلوا فرادى، مستقبلي القبلة، يركعون ويسجدون، فإن كان خوف أكثر من ذلك أخروا الصلاة حتى يقدروا، فيقضوها.

قالَ: وقال الأوزاعي: إن ثلموا في الحصن ثلمة، وحضرت الصلاة فإن قدروا أن يصلوا جلوسا أو يومئون إيماءً أو يتعاقبون فعلوا وإلاّ أخروا الصلاة إن خافوا إن صلّوا أن يغلبوا عليهِ، وقد طمعوا في فتحه، صلوا حيث كانت وجوههم، ويتمموا أن خافوا.

وقد تضمن ما حكاه البخاري عن الأوزاعي مسائل.

منها:

أن الطالب يصلي صلاة شدة الخوف راكبا وماشيا كالمطلوب، وهو رواية عن أحمد.

وقال إسحاق - فيما نقله عن حرب -: يصلي بالأرض ويومىء إيماءً.

وفي صلاة الطالب ماشيا بالإيماء حديث، خرجه أبو داود من حديث عبد الله بن أنيس، وهو مما تفرد به ابن إسحاق.

ص: 391

وذهب الجمهور إلى أن الطالب لا يصلي إلاّ بالأرض صلاة الأمن، إلاّ أن يخاف، منهم: الحسن ومكحول ومالك والثوري والشافعي وأحمد - في رواية عنه - وقد سبق ذكر ذَلِكَ.

ومنها:

أن صلاة شدة الخوف لا تكون جماعة، بل فرادى، وقد سبق أن الجمهور على خلاف ذَلِكَ.

ومنها:

أنهم إذا لم يقدروا على الإيماء في حال شدة الخوف أخروا الصلاة حتى يأمنوا.

وممن قال بتأخير الصلاة مكحول كما سبق عنه، وهو قال أبي حنيفة وأصحابه.

وحكى ابن عبد البر، عن ابن أبي ليلى وأبي حنيفة وأصحابه أنه لا يصلي أحد في الخوف إلاّ إلى القبلة، ولا يصلي في حال المسايفة، بل يؤخر الصلاة.

وعن أحمد رواية: أنه يخير بين الصلاة بالإيماء وبين التأخير.

قال أبو داود: سألت أبا عبد الله عن الصلاة صبيحة المغار، فيؤخرون الصلاة

ص: 392

حتى تطلع الشمس، أو يصلون على دوابهم؟ قَالَ: كلٌ أرجوا.

واستدل أصحابنا لهذه الرواية بصلاة العصر فِي بني قريظة وفي الطريق، وأنه لم يعنف واحد منهما، وسيأتي ذكره والكلام على معناه قريبا – إن شاء الله سبحانه وتعالى.

وجمهور أهل العلم على أنه لا يجوز تأخير الصلاة في حال القتال، وتصلى على حسب حاله، فإنه لا يأمن هجوم الموت في تلك الحال.

فكيف يجوز لأحد أن يؤخر فرضاً عن وقته، مع أنه يخاف على نفسه مداركة الموت له في الحال، وهذا في تأخير الصلاة عن وقتها التي لا يجوز تأخيرها للجمع. فأما صلاة يجوز تأخيرها للجمع فيجوز تأخيرها للخوف، ولو كان في الحضر عند أصحابنا وغيرهم من العلماء.

وقول ابن عباس: جمع رسول الله ? صلى الله عليه وسلم بالمدينة من غير خوف، يدل بمفهومه على جواز الجمع للخوف؛ فإن الخوف عذر ظاهر، فالجمع له أولى من الجمع للمطر والمرض ونحوهما.

فأما قصر الصلاة في حال الخوف في الحضر، فالجمهور على منعه. وحكى القاضي أبو يعلى رواية عن أحمد بجوازه، مخرجة عن رواية حنبل عنه، بجواز الفطر في رمضان لقتال العدو.

وروي عن عثمان بن عفإن، أنه قالَ: لايقصر الصلاة إلاّ من كان

ص: 393

شاخصاً أو بحضرة العدو.

وظاهره: أنه يجوز القصر بحضرة العدو في غير السفر - أيضاً - وبذلك فسره أبو عبيدة في ((غريبه)) .

وذكر ابن المنذر عن عمران بن حصين مثل قول عثمان –أيضاً.

وقد يفسر بأنه لايجوز القصر إلاّ في حال السفر أو الإقامة في دار الحرب لقتال

العدو، وهذا قول كثير من العلماء، ويأتي بيانه في ((كتاب قصر الصَّلاة)) إن شاء الله

سبحانه وتعالى.

وسيذكر البخاري في هذا الباب ما يستدل به على جواز التأخير في حال شدة

الخوف.

ومنها:

أنهم إذا عجزوا عن صلاة ركعتين جاز لهم أن يصلوا ركعة واحدة تامةً.

وهذا قول كثير من العلماء، منهم: ابنُ عباس.

ففي ((صحيح مسلم)) ، عنه، قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في السفر ركعتين، وفي الحضر أربعاً، وفي الخوف ركعة.

وقد روي نحو ذلك عن جابر وابن عمر، وقد سبق ذكر قولهما.

ورواه الحسن، عن حطان الرقاشي، عن أبي موسى - أيضاً - أنه فعله.

ص: 394

وهو مروي - أيضاً - عن الحسن وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي والضحاك والحكم وقتادة وحماد، وقول إسحاق ومحمد بن نصر المروزي.

حتى قاله في صلاة الصبح، مع أن ابن حزم وغيره حكوا الإجماع على أن الفجر والمغرب لاينقص عن ركعتين وثلاث، في خوف ولا أمن، في حضر ولا سفرٍ.

ولم يفرق هؤلاء بين حضر ولاسفر، وهذا يدل على أنهم رأوا قصر الصَّلاة في الحضر للخوف أشد القصر وأبلغه، وهو عود الصلوات كلها إلى ركعةٍ واحدةٍ.

وحكي رواية عن أحمد، وهوظاهر كلامه في رواية جماعة، ورجحه بعض المتأخرين من أصحابنا، والمشهورعنه: المنع.

وقد نقل جماعة عنه، أنه قال: لايعجبني ذلك. وهو قول [....] أصحابنا.

والمنع منه قول النخعي والثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي.

وتقدم من حديث ابن عباس، أن كل طائفة من الناس صلوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ركعة وأنهم لم يقضوا. ومن حديث حذيفة - أيضاً - وما

ص: 395

في ذلك من التأويل.

وروى يزيد الفقير، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف، فقام صف بين يديه، وصف خلفه، صلى بالذي خلفه ركعة وسجدتين، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا في مقام أصحابهم، وجاء أولئك فقاموا مقام هؤلاء، فصلى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين، ثم سلم، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ? ركعتان، ولهم ركعة.

خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحهما)) .

وفي رواية النسائي: ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم سلم فسلم الذين خلفه، وسلم أولئك.

وذكر أبو داود في ((سننه)) : أن بعضهم قال في حديث يزيد الفقير: أنهم قضوا ركعة أخرى.

وروى عبد الله بن شقيق: نا أبوهريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضجنان

وعسفان، فقال المشركون: أن لهؤلاء صلاةً هي أحب إليهم من آباهم وأبنائهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم، فميلوا عليهم ميلةً واحدة، وأن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقيم أصحابه شطرين، فيصلي بهم،

ص: 396

وتقوم طائفة أخرى وراءهم، وليأخذوا

حذرهم وأسلحتهم، ثم يأتي الأخرون ويصلون معه ركعة، ثم يأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم، فيكون لهم ركعة ركعة، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان.

خرجه الترمذي والنسائي وابن حبان في ((صحيحه)) .

وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ.

ونقل الترمذي في ((العلل)) عن البخاري، أنه قال: هوحديثٌ حسنٌ.

وقد حمله بعضهم على أن كل واحدة من الطائفتين كانت لهم ركعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأما الأخرى فإنها صلتها مفردة.

وخرجه النسائي عنده: يكون لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان.

وخرج ابن حبان في ((صحيحه)) هذا المعنى من حديث زيد بن ثابت، عن النبي

صلى الله عليه وسلم، وأصله في ((سنن النسائي)) .

ص: 397

وقد أجاب بعضهم بأن الروايات إذا اختلفت، وكان في بعضها عدم القضاء، وفي بعضها القضاء، فالحكم للإثبات؛ لأن المثبت قد حفظ ما خفي على الباقي وهذا صحيح أن لو كانت الروايات كلها حكاية عن واقعة واحدة، فأما مع التعدد فيمكن أن القضاء وجد في واقعة ولم يوجد في الأخرى.

وقد زعم مجاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة الخوف إلاّ مرتين، مرة بذات الرقاع، ومرة بعسفان.

واختلاف الروايات في صفة صلاة الخوف يدل على أن ذلك وقع أكثر من مرتين.

واستدل بعض من رأى أن صلاة الخوف ركعة بأن ظاهر القرآن يدل عليهِ؛ فإن الله تعالى ذكر أن الطائفة الأولى تصلي معه حتَّى يسجد، فتكون من وراء الناس، وأن الطائفة الثانية التي لم تصل تأتي وتصلي معه، فظاهره: أن الطائفة الأولى تجتزئ بما صلت معه من تلك الركعة، وأن الثانية تكتفي بما أدركت معه، ولم يذكر قضاء على واحدة من

الطائفتين.

ومنها:

أنهم إذا عجزوا عن الصلاة بأركانها في حال الخوف، فقال الأوزاعي: لا يجزئهم التكبير بمجرده.

وإلى هذا ذهب الأكثرون، وهو: أنه لا يجزئ في حال شدة الخوف الاقتصار على التكبير، وهوقول أبي

ص: 398

حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق.

ونقل ابن منصور، عن أحمد وإسحاق، قإلاّ: لابد من القراءة، ولا يجزئهم

التكبير.

ونقل جماعة عن أحمد، أنه قال: لابد في صلاة الخوف من القراءة والتشهد

والسلام.

وذهب آخرون إلى أنهم يجزئهم التكبير.

روي عن جابر وابن عمر: تجزئهم تكبيرةٌ واحدة، وعن مجاهد والسدي.

وكذا قال عبد الوهاب بن بخت، وزاد: وإن لم يقدر على التكبير، فلا يتركها في نفسه.

يعني: النية.

وروي عن عبد الله بن الزبير، أنه ارتث يوم الجمل قبل غروب الشمس، فقيل له: الصلاة. فقال: لا استطيع أن أصلي، ولكني أكبر.

وعن الضحاك: إن لم يستطع أن يومئ كبر تكبيرة أو تكبيرتن.

وقال الثوري: إن لم يستطع أن يقرأ يجزئه التكبير في كل خفض ورفع، وإن لم يستطع أن يتوضأ تيمم بغبار سرجه.

وكذلك مذهب الثوري في المريض المدنف: إذا لم يستطع أن يصلي على جنبه، فإنه يكبر لكل ركعة تكبيرة، مستقبل القبلة، وتجزئه.

ص: 399

ونقل حرب، عن إسحاق، قال: إن لم يقدروا على ركعة فسجدة واحدة، فإن لم يقدروا فتكبيرةٌ واحدة، واستدل بقولِهِ:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .

فإذا قدر على الإتيان بشيء من الصلاة، وعجز عن الباقي لزمه أن يأتي به في وقته ويجزئه، ولا يجوز له تأخيره عن الوقت.

وذكر ابن جرير بإسناده، أن هرم بن حيان كان معه أصحابه يقاتلون العدو مستقبلي المشرق، فحضرت الصلاة، فقالوا: الصلاة الصلاة، فسجد الرجل حيث كان وجهه سجدة، وهم مستقبلوا المشرق.

ويستدل للجمهور بأن ما دون الركعة ليس بصلاة، فلا يكون مأموراً به من عجز عن الصلاة، وأقل ما ورد في صلاة الخوف أنها ركعة، فما دون الركعة ليس بصلاة، ولا يؤمر به في خوف ولا غيره، ولا يسقط به فرض الصلاة.

ثم قال البخاري رحمه الله:

وقال أنس بن مالك: حضرت مناهضة حصن تستر عند صلاة الفجر - واشتد اشتعال القتال -، فلم يقدروا على الصلاة، فلم نُصل إلاّ بعد ارتفاع النهار، فصليناها ونحن مع أبي موسى، ففتح لنا.

قال أنس: وما

ص: 400

يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها.

هذه الواقعة كانت في زمن عمر –رضي الله عنه سنة عشرين.

قال خليفة بن خياط في ((تاريخه)) : نا ابن زريع، عن سعيد، عن قتادة، عن

أنس، قالَ: لم نصل يومئذ صلاة الغداة حتى انتصف النهار، فما يسرني بتلك الصلاة الدنيا كلها.

قال خليفة: وذلك سنة عشرين.

ثم قال البخاري:

ص: 401

945 -

حدثني يحيى: ثنا وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله، قال جاء عمر يوم الخندق، فجعل يسب كفار قريش، ويقول: يارسول الله، ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغيب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((وأنا ما صليتها بعد)) . قال: فنزل إلى بطحان، فتوضأ وصلى العصر بعدما غابت الشمس، ثم صلى

ص: 401

المغرب بعدها.

((يحيى)) شيخ البخاري، قيل: إنه ابن جعفر بن أعين البيكندي. وقيل: إنه ابن موسى بن عبد ربه ابن ختّ البخلي، وكلاهما يروي عن وكيع.

وقد خرجه البخاري في آخر ((المواقيت)) من غير وجهٍ، عن يحيى بن أبي كثير.

وسبق الكلام على وجه تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في ذلك اليوم: هل كان نسياناً، أو اشتغإلاّ بالحرب؟

وعلى هذا التقدير: فهل هوَ منسوخ بنزول آيات صلاة الخوف، كما روي ذَلِكَ عن أبي سعيد الخدري، أو هو محكم باقٍ؟

والبخاري يشير إلى بقاء حكمه من غير نسخ.

وقال كثير من العلماء: إنه نسخ بصلاة الخوف، وحديث أبي سعيد

ص: 402

يدل عليه، وقد ذكرناه هنالك، وممن ذكر ذلك: الشافعي، وكثير من أصحابنا وغيرهم.

وأما قول ابن إسحاق: إن صلاة عسفان وذات الرقاع كانت قبل الخندق، ففيه

نظر. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وكذلك ذكر ابن سعد: أن غزوة ذات الرقاع كانت على رأس سبعة وأربعين شهراً من الهجرة، وفيها صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أول ما صلاها.

وقد رد البخاري في ((المغازي)) من ((صحيحه)) هذا بوجهين:

أحدهما: أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع، وأبو موسى إنما جاء بعد خيبر، وذلك بعد الخندق.

والثاني: أن جابراً ذكر أن صلاة الخوف إنما كانت في السنة السابعة، وقد ذكرنا حديثه هذا في الباب الأول من ((أبواب صلاة الخوف)) .

وقد استدل الإمام أحمد بهذا الحديث –أعني: حديث جابر في تأخير الصلاة يوم الخندق - على جواز تأخير الصلاة في حال الخوف لمن لم يقدر على الوضوء إلاّ بعد الوقت –في رواية جماعة من أصحابه.

وعنه رواية أخرى: أنه يتيمم ويصلي في الوقت، وقد سبق ذلك في ((التيمم)) .

فحمل الإمام أحمد تأخير الصلاة يوم الخندق على أنه كان للاشتغال

ص: 403

بالحرب، كما حمله البخاري.

قال الإمام أحمد: وقد قيل: إن ذلك كان قبل نزول هذه الآية: {فإن خِفْتُمْ فَرِجَإلاّ أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة:239] يعني: حديث أبي سعيد.

وحديث أبي سعيد إنما يدل على أن ذلك قبل نزول صلاة شدة الخوف بالإيماء رجإلاّ وركبانا، لم يدل على أن صلاة الخوف لم تكن نزلت.

والبخاري قد قرر في ((كتاب المغازي)) أن صلاة [الخوف] إنما شرعت في السنة السابعة، وذلك بعد الخندق بلا ريب، ومع هذا فجعل التأخير يوم الخندق محكما غير منسوخ بصلاة الخوف، ويكون الجمع بينهما بأنه مخير حال شدة الخوف بين التأخير وبين الصلاة بالإيماء، كما يقوله الإمام أحمد - في رواية عنه.

واجتماع الصحابة كلهم على النسيان يوم الخندق بعيد جدا، إلاّ أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الناسي، وأن الصحابة اتبعوه على التأخير من غير سؤال له عن سببه.

ويشهد لهُ: أنه جاء في رواية للإمام أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 404

قال: ((هل علم أحد منكم أني صليت العصر؟)) قالوا: لا، فصلاهما.

وفيه: دليل على رجوع الشاك في أصل صلاته: هل صلاها، أو لا؟ إلى قول غيره، كما يرجع إلى قوله في الشك في عدد ما صلى.

وقد قال الحسن - في الرجل يشك: هل صلى، أم لا؟ -: يعيد ما كانَ في وقت تلك الصَّلاة، فإذا ذهب الوقت فلا إعادة عليهِ.

ذكره عبد الرزاق، بإسناده عنه.

ص: 405

‌5 - باب

صلاة الطالب والمطلوب راكبا وايماء او قائما

وقال الوليد: ذكرت للأوزاعي صلاة شرحبيل بن السمط وأصحابه على ظهر

الدابة، فقال: ذلك الأمر عندنا، إذا تخوفت الفوت.

واحتج الوليد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يصلين أحد العصر إلاّ في بني قريظة)) .

ص: 406

946 -

حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء: نا جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الأحزاب: ((لا يصلين أحد العصر إلاّ في بني قريظة)) فأدرك بعضهم العصر في الطريق، وقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذَلِكَ. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم.

وقد تقدم أن الأوزاعي وأصحابه - ومنهم: الوليد بن مسلم - يرون جواز صلاة شدة الخوف للطالب، كما يجوز للمطلوب 0 وهو رواية عن أحمد، وأنهم يرون تأخير الصلاة عن وقتها إذا لم يقدروا على فعلها في وقتها على

ص: 406

وجه تام، كما تقدم - أيضا.

وقد استدل الوليد بن مسلم لذلك بحديث ابن عمر في البعث إلى قريظة.

وأما صلاة شرحبيل بن السمط التي استدل بها الأوزاعي [....] . ومما يتفرع على جواز صلاة الطالب صلاة شدة الخوف: أن من كان ليلة النحر قاصدا لعرفة، وخشي أن تفوته عرفة قبل طلوع الفجر، فإنه يصلي صلاة شدة الخوف وهو ذاهب إلى عرفة، وهو أحد الوجهين لأصحابنا، ولأصحاب الشافعي –أيضا.

وضعفه بعض أصحابهم، بأنه ليس بخائف بل طالب.

والصحيح: أنا إن قلنا: تجوز صلاة الطالب جازت صلاته، وإلاّ فلا تجوز، أو يكون فيه وجهان.

وهل يجوز تأخير العشاء إلى بعد طلوع الفجر؟ فيهِ – أيضا – وجهان للشافعية ولأصحابنا.

وأما استدلال الوليد بحديث ابن عمر في ذكر بني قريظة، فإنما يتم ذلك إذا كان الذين لم يصلوا العصر حتى بلغوا بني قريظة لم يصلوها إلاّ بعد غروب الشمس، وليس ذلك في هذا الحديث، فإن حديث ابن عمر إنما يدل على ان بعضهم أخر العصر إلى بني قريظة، فقد يكونوا صلوها

ص: 407

في آخر وقتها، وهذا لا إشكال في جوازه.

وممن ذهب إلى ذلك: الخطابي، وردَ به على من استدل بالحديث على أن كل مجتهد مصيب.

وذهب آخرون إلى أن الذين صلوا في بني قريظة صلوا بعد غروب الشمس. واستدلوا بأن مسلما خرج الحديث، ولفظه: عن ابن عمر، قالَ: نادى [فينا] رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف من الأحزاب: أن ((لا يصلي أحد العصر إلاّ في بني قريظة)) فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلاّ حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن فاتنا الوقت. قال: فما عنف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا من الفريقين.

وخرج البيهقي، بإسناد فيه نظر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عمه عبد الله أخبره، أن النبي صلى الله عليه وسلم عزم على الناس لما رجع من الأحزاب أن لا يصلوا صلاة العصر إلاّ في بني قريظة. قالَ: فلبس الناس السلاح، فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس، فاختصم الناس عند غروب الشمس، فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم علينا إلاّ نصلي حتى نأتي بني قريظة، فإنما نحن في عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس علينا إثم، وصلى طائفة من الناس احتسابا، وتركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس، فصلوها حين جازوا بني قريظة احتسابا، فلم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا من الفريقين.

وهذا مرسل.

وقد ذكره موسى بن عقبة في ((مغازيه)) عن الزهري – مرسلا -، بغير إسناد للزهري بالكلية، وهو أشبه.

وخرج البيهقي نحوه - أيضا - من طريق عبد الله بن عمر العمري، عن أخيه

عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة، وفي حديثها: ((فغربت الشمس قبل أن يأتوهم، فصلت طائفة إيمانا واحتسابا، وتركت طائفة إيمانا واحتسابا، ولم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا من

ص: 408

الفريقين)) .

والاستدلال بهذا الحديث على تأخير الصلاة للاشتغال بالحرب، استدلال ضعيف، وكذلك الاستدلال به على تأخير الصلاة لطالب العدو؛ فإن يوم ذهابهم إلى بني قريظة لم تكن هناك حرب تشغل عن صلاة، ولا كانوا يخافون فوات العصر ببني قريظة بالاشتغال بالصلاة بالكلية، وإنما وقع التنازع بين الصحابة في صلاة العصر في الطريق، إلتفاتا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى معنى كلامه ومراده ومقصوده:

فمنهم من تمسك بظاهر اللفظ، ورأى أنه ينبفي أن يصلي العصر إلاّ في بني قريظة، وإن فات وقتها، وتكون هذه الصلاة مخصوصة من عموم أحاديث المواقيت بخصوص هذا، وهو النهي عن الصلاة إلاّ في بني قريظة.

ومنهم من نظر إلى المعنى، وقال لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك،

ص: 409

وإنما أراد منا تعجيل الذهاب إلى بني قريظة في بقية النهار، ولم يرد تأخير الصلاة عن وقتها، ولا غير وقت صلاة العصر في هذا اليوم، بل هو باق على ما كان عليه في سائر الأيام.

وهذا هو الأظهر. والله أعلم.

ولا دلالة في ذلك على أن كل مجتهد مصيب، بل فيه دلالة على أن المجتهد سواء أصاب أو أخطأ فإنه غير ملوم على اجتهاده، بل إن أصاب كان له أجران، وإن أخطأ فخطؤه موضوع عنه، وله أجر على اجتهاده.

ومن استدل بالحديث على أن تارك الصلاة عمداً يقضي بعد الوقت فقد وهم؛ فإن من أخر الصَّلاة في ذَلِكَ كانَ باجتهاد سائغ، فهوَ في معنى النائم والناسي، وأولى؛ فإن التأخير بالتأويل السائغ أولى بأن يكون صاحبه معذوراً.

ص: 410

6 -

باب

التبكير والتغليس بالصبح والصلاة عند الإغارة والحرب

ص: 411

947 -

حدثنا مسدد: ثنا حماد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب

وثابت، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الصبح بغلس، ثم ركب، فقال: ((الله

أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم ٍ، فساء صباح المنذرين)) .

وذكر بقية الحديث، وفي آخره قصة صفية، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم لها، وجعل عتقها صداقها.

وقد تقدم أول الحديث في ((أبواب الأذان)) من حديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس.

والمقصود منه هاهنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الإغارة على أهل خيبر، ولم يكن عندهم علم من قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، بكر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبح، وصلاها بغلس، ثم أغار عليهم.

فيستفاد من ذلك: أنه يستحب لمن أراد الإغارة على المشركين أن يعجل بصلاة الصبح في أول وقتها، ثم يغير بعد ذلك:

ص: 411

وروى وكيع في ((كتابه)) ، عن عمران بن حدير، عن أبي عمران، قال: صليت مع أبي موسى الغداة ثلاث مرات في غداة واحدة، كأنه أراد أن يغير على قوم.

ومعنى هذا: أن أبا موسى الأشعري لما أراد الإغارة عجل بصلاة الصبح، ثم تبين أنه صلاها قبل طلوع الفجر، فأعادها، فعل ذلك ثلاث مرات في يوم واحد.

ص: 412

بسم الله الرحمن الرحيم

13 -

‌ أبواب العيدين

‌1 - باب

في العيدين والتجمل فيهما

ص: 413

948 -

حدثنا أبو اليمان: انا شعيب، عن الزهري، قالَ: أخبرني سالم بن

عبد الله، أن عبد الله بن عمر قالَ: أخذ عمر جبة من استبرق تباع في السوق فأخذها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ? فقال: يا رسول الله، ابتع هذه تجمل بها للعيد والوفود. فقال لهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إنما يلبس هذه من لا خلاق لهُ)) .

ثم ذكر بقية الحديث في إرسال النبي ??? صلى الله عليه وسلم بجبة ديباج إلى عمر.

وقد سبق في ((كتاب الجمعة)) من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر، وفيه:((لو اشتريت هذه للجمعة والوفود؟)) وهي قضية واحدة والله أعلم.

وقد يكون أريد بالعيد جنس الأعياد، فيدخل فيهِ العيدان والجمعة.

وقد دل هذا الحديث على التجمل للعيد، وأنه كان معتادا بينهم.

وقد تقدم حديث لبس النبي صلى الله عليه وسلم في العيدين برده الأحمر. وإلى

ص: 413

هذا ذهب الأكثرون، وهو قول مالك والشافعي وأصحابنا وغيرهم.

وقال ابن المنذر: كان ابن عمر يصلي الفجر وعليه ثياب العيد.

وقال مالك: سمعت أهل العلم يستحبون الزينة والطيب في كل عيد.

واستحبه الشافعي.

وخرج البيهقي بإسناد صحيح، عن نافع، أن ابن عمر كان يلبس في العيدين أحسن ثيابه.

والمنصوص عن أحمد في المعتكف: أنه يخرج إلى العيد في ثياب اعتكافه، وحكاه عن أبي قلابة.

وأما غير المعتكف، فالمنصوص عن أحمد: أنه يخير بين التزين وتركه.

قال المروذي: قلت لأحمد: أيما أحب إليك: أن تخرج يوم العيد في ثياب جياد أو ثياب رثة؟ قالَ: أما طاوس فكان يأمر بزينة الصبيان حتَّى يخضبوا، وأما عطاء فقالَ: لا، هوَ يوم تخشع. فقلت لأحمد: فإلى ما تذهب؟ قالَ: قد روي هذا وهذا، واستحسنهما جميعا.

ذكره أبو بكر ابن جعفر في كتابه ((الشافي)) ، عن الخلال، عنه.

وحكاه القاضي في ((شرح المذهب)) مختصرا، وفيه: وقال عطاء: لا، هو

ص: 414

يوم تخشع، وهذا أحسن.

ومما يتصل بذلك: الغسل للعيدين، وقد نص أحمد على استحبابه.

وحكى ابن عبد البر الإجماع عليهِ.

وكان ابن عمر يفعله، كذا رواه نافع، عنه، ورواه عن نافع: مالك وعبيد الله بن عمر وموسى بن عقبة وابن عجلان وابن إسحاق وغيرهم.

وروى أيوب، عن نافع، قالَ: ما رأيت ابن عمر اغتسل للعيد، كان يبيت في المسجد ليلة الفطر، ثم يغدو منه إذا صلى الصبح إلى المصلى.

ذكره عبد الرزاق، عن معمر، عنه.

وعجب ابن عبد البر من رواية أيوب، لمخالفتها رواية مالك وغيره، عن نافع.

ولا عجب من ذلك، فقد يجمع بينهما: بأن ابن عمر كان إذا اعتكف بات ليلة الفطر في المسجد، ثم يخرج إلى العيد على هيئة اعتكافه، كما قاله أحمد ومن قبله من السلف، وهو قول مالك - أيضا - وإن لم يكن معتكفا، اغتسل وخرج إلى المصلى.

ص: 415

وممن روي عنه الغسل للعيد - أيضا - من الصحابة: علي بن أبي طالب، وابن عباس، وسلمة بن الأكوع، والسائب بن يزيد.

وقال ابن المسيب: هو سنة الفطر.

وروى مالك، عن الزهري، عن عبيد بن السباق، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في جمعة من الجمع:((يا معشر المسلمين، إن هذا اليوم جعله الله عيدا، فاغتسلوا، ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك)) .

وهذا تنبيه على أن ذلك مأمور به في كل عيد للمسلمين.

رواه صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن عبيد، عن ابن عباس.

خرجه ابن ماجه.

ورواية مالك أصح.

ورواه بعضهم، عن مالك، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

خرجه كذلك الطبراني وغيره.

وهو وهم على مالك: قاله أبو حاتم الرازي والبيهقي

ص: 416

وغيرهما.

وروى صبيح أبو الوسيم: ثنا عقبة بن صهبان، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((الغسل واجب في هذه الأيام: يوم الجمعة، ويوم الفطر، ويوم النحر، ويوم عرفة)) .

غريب جداً. وصبيح هذا، لايعرف.

وخرج ابن ماجه من رواية الفاكه بن سعد –وله صحبة -، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم الفطر، ويوم النحر، وكان الفاكه يأمر أهله بالغسل في هذه الأيام.

وفي إسناده: يوسف بن خالد السمتي، وهو ضعيف جداً.

ص: 417

وخرج ابن ماجه عن جبارة بن مغلس، عن حجاج بن تميم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل يوم الفطر ويوم الأضحى.

وحجاج بن تميم وجبارة بن مغلس، ضعيفان.

وروى مندل، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل للعيدين.

خرجه البزار.

ومحمد هذا، ضعيف جداً.

والغسل للعيد غير واجب. وقد حكى ابن عبد البر الإجماع عليهِ، ولأصحابنا وجه ضعيف بوجوبه.

وروى الزهري، عن ابن المسيب، قال: الاغتسال للفطر والأضحى قبل أن يخرج إلى الصلاة حقٌ.

وخرج أبوبكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب ((الشافي)) بإسناد ضعيف، عن الحارث، عن علي، قال: كان بعضنا يغتسل وبعضنا يتوضأ، فلا يصلي أحد منا قبلها ولا بعدها حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم.

ويستحب –أيضاً - التطيب والسواك في العيدين.

وكان ابن عمر

ص: 418

يتطيب للعيد.

وروى أبو صالح، عن الليث بن سعد، حدثني إسحاق بن بزرجٍ، عن الحسن بن علي، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نلبس أجود ما نجد، ونتطيب بأجود ما نجد، وأن نضحي بأسمن ما نجد، وأن نظهر التكبير، وعلمنا السكينة والوقار.

خرجه الطبراني والحاكم.

وقال: لولا جهالة إسحاق بن بزرج لحكمنا للحديث بالصحة.

قلت: ورويناه من وجه آخر، من طريق ابن لهيعة: حدثني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عتبة بن حميد، عن عبادة بن نسي، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ، قالَ: كان رسول الله ? صلى الله عليه وسلم إذا غدا إلي

ص: 419

المصلى أمرنا أن نلبس أجود ما نقدر عليه من الثياب، وأن نخرج وعلينا السكينة، وأن نجهر بالتكبير.

وهذا منكر جداً.

ولعله مما وضعه المصلوب، وأسقط أسمه من الإسناد؛ فإنه يروى بهذا الإسناد أحاديث عديدة منكرة ترجع إلى المصلوب، ويسقط اسمه من إسنادها كحديث التنشف بعد الوضوء. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وهذا التزين في العيد يستوي فيه الخارج إلى الصلاة والجالس في بيته، حتى النساء والأطفال.

وقد تقدم ذلك عن طاوس.

وقال الشافعي: تزين الصبيان بالمصبغ والحلي، ذكوراً كانوا أو إناثاً؛ لأنه يوم

زينة، وليس على الصبيان تعبد، فلا يمنعون لبس الذهب.

قال بعض أصحابه: اتفق الأصحاب على إباحة زينة الصبيان يوم العيد بالمصبغ وحلي الذهب والفضة، واختلفوا في غير يوم العيد على وجهين.

وأما أصحابنا، فلم يفرقوا بين عيد وغيره، وحكوا في جواز إلباس الولي الصبي الحرير والذهب روايتين.

ص: 420

‌2 - باب

الحرب والدرق يوم العيد

ص: 421

949 -

حدثنا أحمد: نا ابن وهب: انا عمرو، أن محمد بن عبد الرحمان الأسدي حدثه، عن عروة، عن عائشة، قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر

فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأقبل عليهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: ((دعهما)) فلما غفل غمزتهما فخرجتا.

ص: 421

950 -

وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحرب، فإما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإما قال:((تشتهين تنظرين؟)) ، فقلت: نعم. فأقامني وراء خدي على خده، وهو يقول:((دونكم يابني أرفدة)) ، حتَّى إذا مللت قالَ:((حسبك؟)) ، قلت: نعم. قال: ((فأذهبي)) .

((أحمد)) الراوي عن ابن وهب سبق الاختلاف فيه.

و ((عمرو)) ، هو: ابن الحارث.

وشيخه، هو: أبو الأسود يتيم عروة.

وقد سبق الحديث باختلاف طرقه وألفاظه في ((أبواب المساجد)) في ((باب: أصحاب الحراب في المسجد)) .

وذكرنا فيه: أن هذا العيد كان

ص: 421

أحد عيدي الإسلام، وأنه قد قيل: إنه كان يوم عاشوراء. والظاهر: أن هذا كان قبل نزول الحجاب؛ لقولها: ((خدي عَلَى خده)) .

ويحتمل أنه كَانَ بعده؛ فإن البخاري خرجه في ((باب: أصحاب الحراب في المسجد)) بزيادة: ((وهو يسترني بردائه)) .

واللعب بالحراب والدرق في الأعياد مما لاشبهة في جوازه، بل واستحبابه؛ لأنه مما يتعلم به الفروسية، ويتمرن به على الجهاد.

وقد رخص إسحاق وغيره من الأئمة باللعب بالصولجان والكرة، للتمرن على

الجهاد.

وأما ذكر الغناء، فنذكره في الباب الآتي - إن شاء الله سبحانه وتعالى.

ص: 422

‌3 - باب

سنة العيدين لأهل الإسلام

فيه حديثان:

الأول:

ص: 423

951 -

حدثنا حجاج: انا شعبة: أخبرني زبيد: سمعت الشعبي، عن البراء: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال:((إن أول ما نبرأ في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل هذا فقد أصاب سنتنا)) .

ومراده: الاستدلال بهذا الحديث على أن سنة أهل الإسلام التي سنها لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم في عيد النحر: الصلاة ثم النحر بعد رجوعهم من الصلاة.

وهذا مما اتفق المسلمون على أنه سنة في يوم النحر، وإنما اختلفوا: هل هو واجب، أم لا؟

فأما النحر، فيأتي الكلام عليه في موضع آخر –إن شاء الله سبحانه وتعالى.

وأما صلاة العيد، فاختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها سنة مسنونة، فلو تركها الناس لم يأثموا.

هذا قول

ص: 423

الثوري ومالك والشافعي وإسحاق وأبي يوسف، وحكي رواية عن أحمد.

واختلفوا: هل يقاتلون على تركها؟ وفيه وجهان للشافعية. وقال أبويوسف: آمرهم وأضربهم؛ لأنها فوق النوافل، ولا أقاتلهم؛ لأنها دون الفرائض.

وقد يتعلق لهذا القول بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن المصلي يوم العيد أنه أصاب السنة.

ولا دليل فيه؛ فإن السنة يراد بها الطريقة الملازمة الدائمة، كقوله:{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح:23] .

والقول الثاني: أنها فرض كفاية فإذا أجمع أهل بلد على تركها أثموا وقوتلوا على تركها.

وهو الظاهر مذهب أحمد، نص عليه في رواية المروذي وغيره. وهو قول طائفة من الحنفية والشافعية.

والقول الثالث: أنها واجبة على الأعيان كالجمعة.

وهو قول أبي حنيفة، ولكنه لا يسميها فرضاً.

وحكى أبو الفرج الشيرازي – من أصحابنا - رواية عن أحمد: أنها فرض عين.

وقال الشافعي –في ((مختصر المزني)) -: من وجب عليه حضور الجمعة وجب عليه حضور العيدين.

وهذا صريح في أنها واجبة على الأعيان.

وليس ذلك خلافاً لإجماع

ص: 424

المسلمين، كما ظنه بعضهم.

وكثيرمن أصحابه تأولوا نصه بتأويلات بعيدة، حتى إن منهم من حمله على أن الجمعة فرض كفاية كالعيد.

وأقرب ما يتأول به: أن يحمل على أن مراده: أن العيد فرض كفاية؛ لأن فروض الكفاية كفروض الأعيان في أصل الوجوب، ثُمَّ يسقط وجوب فرض الكفاية بفعل البعض دون فرض العين.

فقد يقال: إن الشافعي أراد أن يعلق الوجوب في العيد بمن يتعلق به وجوب الجمعة وإن كانت العيد تسقط بحضور بعض الناس دون الجمعة.

وهذا أشبه مما تأوله به أصحابه، مع مخالفته لظاهر كلامه وبعده منه؛ فإنه صرح بوجوب الحضور في العيد كحضور الجمعة.

الحديث الثاني:

ص: 425

952 -

نا عبيد بن اسماعيل: نا أبو اسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الانصار، تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم

بعاث. قالت: وليستا بمغنيتين. فقال أبو بكر: مزامر الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((يا أبا بكر، إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا)) .

ص: 425

في هذا الحديث: الرخصة للجواري في يوم العيد في اللعب والغناء بغناء الأعراب. وإن سمع ذلك النساء والرجال، وإن كان معه دف مثل دف العرب، وهو يشبه الغربال.

وقد خرجه البخاري في آخر ((كتاب العيدين)) من رواية الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان، والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه، فقال: ((دعهما يا أبا

بكر؛ فإنها أيام عيد)) ، وتلك [الأيام] أيام منى.

ولا ريب أن العرب كانَ لهم غناء يتغنون به، وكان لهم دفوف يضربون بها، وكان غناؤهم بأشعار أهل الجاهلية من ذكر الحروب وندب من قتل فيها، وكانت دفوفهم مثل الغرابيل، ليس فيها جلاجل، كما في حديث عائشة، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:((أعلنوا النكاح واضربوا عليهِ بالغربال)) .

وخرجه الترمذي وابن ماجه، بإسناد فيه ضعفٌ.

ص: 426

فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرخص لهم في أوقات الأفراح، كالأعياد والنكاح وقدوم الغياب في الضرب للجواري بالدفوف، والتغني مع ذلك بهذه الأشعار، وما كان في معناها.

فلما فتحت بلاد فارس والروم ظهر للصحابة ما كان أهل فارس والروم قد أعتادوه من الغناء الملحن بالإيقاعات الموزونة، على طريقة الموسيقى بالأشعار التي توصف فيها المحرمات من الخمور والصور الجميلة المثيرة للهوى الكامن في النفوس، المجبول محبته فيها، بآلات اللهو المطربة، المخرج سماعها عن الاعتدال، فحينئذ أنكر الصحابة الغناء واستماعه، ونهوا عنه وغلظوا فيه.

حتى قال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل. وروي عنه - مرفوعا.

ص: 427

وهذا يدل على أنهم فهموا أن الغناء الذي رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لم يكن هذا الغناء، ولا آلاته هي هذه الآلات، وأنه إنما رخص فيما كان في عهده، مما يتعارفه العرب بآلاتهم.

فأما غناء الأعاجم بآلاتهم فلم تتناوله الرخصة، وإن سمي غناءً، وسميت آلاته دفوفا، لكن بينهما من التباين ما لا يخفى على عاقل، فإن غناء الأعاجم بآلاتها يثير الهوى، ويغير الطباع، ويدعو إلى المعاصي، فهو رقية الزنا. وغناء الأعراب المرخص به، ليس فيه شيء من هذه المفاسد بالكلية البتة، فلا يدخل غناء الأعاجم في الرخصة لفظا ولا معنى، فإنه ليس هنالك نص عن الشارع بإباحة ما يسمى غناء ولا دفا، وإنما هي قضايا أعيان، وقع الإقرار عليها، وليس لها [من] عموم.

وليس الغناء والدف المرخص فيهما في معنى ما في غناء الأعاجم ودفوفها المصلصلة، لأن غنائهم ودفوفهم تحرك الطباع وتهيجها إلى المحرمات، بخلاف غناء الأعراب، فمن قاس أحدهما على الآخر فقد أخطأ أقبح الخطأ، وقاس مع ظهور الفرق بين الفرع والأصل، فقياسه من أفسد القياس وأبعده عن الصواب.

وقد صحت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بذم من يستمع القينات في آخر الزمان، وهو إشارة إلى تحريم سماع آلات الملاهي الماخوذة عن الأعاجم.

وقد خرج البخاري في ((الأشربة)) حديث عبد الرحمن بن غنم،

ص: 431

عن أبي مالك –أو أبي عامر - الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، كما سياتي في موضعه - إن شاء الله سبحانه وتعالى.

فقال فيه: ((قال هشام بن عمار)) – فذكره.

والظاهر: أنه سمعه من هشام.

وقد رواه عن هشام الحسن بن سفيان النسوي.

وخرجه من طريقه البيهقي وغيره.

وخرجه الطبراني: نا محمد بن يزيد بن عبد الصمد: نا هشام بن عمار.

فصح واتصل عن هشام.

وخرجه أبو داود من وجه آخر مختصرا.

وقد بينت عائشة أن الجاريتين إنما كانا يغنيان بغناء بعاث، ويوم بعاث يوم من أيام حروب الجاهلية مشهور.

وباؤه مثلثة وعينه مهملة، ومنهم من حكى أنها معجمة، قال الخطابي: هو يوم مشهور من أيام العرب، كانت فيه مقتلة عظيمة للأوس على الخزرج، وبقيت الحرب قائمة مائة وعشرين سنة إلى الإسلام، على ما ذكره ابن إسحاق وغيره.

قالَ: وكان الشعر الذي تغنيان به في وصف الشجاعة والحرب، وهو إذا صرف إلى جهاد الكفار كان معونة في أمر الدين، فأما الغناء بذكر

ص: 432

الفواحش والابتهار للحرم، فهو المحظور من الغناء، حاشاه أن يجري بحضرته شيء من ذلك فيرضاه، أو يترك النكير لهُ، وكل من جهر بشيء بصوته وصرح به فقد غنى به.

قالَ: وقول عائشة: ((ليستا بمغنيتين)) ، إنما بينت ذلك؛ لأن المغنية التي اتخذت الغناء صناعة وعادة، وذلك لا يليق بحضرته، فأما الترنم بالبيت والتطريب للصوت إذا لم يكن فيهِ فحش، فهوَ غير محظور ولا قادح في الشهادة.

وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه لا ينكر من الغناء النصب والحداء

ونحوهما، وقد رخص فيه غير واحد من السلف.

قالَ: وقوله: ((هذا عيدنا)) يريد أن إظهار السرور في العيد من شعار الدين، وحكم اليسير من الغناء خلاف الكثير. انتهى.

وفي الحديث ما يدل على تحريمه في غير أيام العيد؛ لأن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم علل بأنها أيام عيد، فدل على أن المقتضي للمنع قائم، لكن عارضه معارض وهو الفرح والسرور العارض بأيام العيد.

وقد أقر أبا بكر على تسمية الدف مزمور الشيطان، وهذا يدل على وجود المقتضي للتحريم لولا وجود المانع.

ص: 433

وقد قال كثير من السلف، منهم: قتادة: الشيطان قرآنه الشعر، ومؤذنه المزمار، ومصايده النساء.

وروي ذلك من حديث أبي أمامة – مرفوعا.

وقد وردت الشريعة بالرخصة للنساء لضعف عقولهن بما حرم على الرجال من التحلي والتزين بالحرير والذهب، وإنما أبيح للرجال منهم اليسير دون الكثير، فكذلك الغناء يرخص فيه للنساء في أيام السرور، وإن سمع ذلك الرجال تبعا.

ولهذا كان جمهور العلماء على أن الضرب بالدف للغناء لا يباح فعله للرجال؛ فإنه من التشبه بالنساء، وهو ممنوع منه، هذا قول الأوزاعي وأحمد، وكذا ذكر الحليمي وغيره من الشافعية.

وإنما كان يضرب بالدفوف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم النساء، أو من يشبه بهن من المخنثين، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنفي المخنثين وإخراجهم من البيوت.

وقد نص على نفيهم أحمد وإسحاق، عملا بهذه السنة الصحيحة.

وسئل أحمد عن مخنث مات ووصى أن يحج عنه، فقال: كسب المخنث خبيث، كسبه بالغناء، نقله عنه المروذي.

وفي تحريم ضرب المخنث بالدف حديث مرفوع، خرجه ابن ماجه بإسناد ضعيف. فأما الغناء بغير ضرب دف، فإن كان على وجه الحداء والنصب فهو جائز. وقد رويت الرخصة فيه عن كثير من الصحابة.

والنصب:

ص: 434

شبيه الحداء -: قاله الهروي وغيره.

وهذا من باب المباحات التي تفعل أحيانا للراحة.

فأما تغني المؤمن فإنما ينبغي أن يكون بالقرآن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) والمراد: أنه يجعله عوضا عن الغناء فيطرب به ويلتذ، ويجد فيه راحة قلبه وغذاء روحه، كما يجد غيره ذلك في الغناء بالشعر.

وقد روي هذا المعنى عن ابن مسعود - أيضاً.

وأما الغناء المهيج للطباع، المثير للهوى، فلا يباح لرجل ولا لامرأة فعله ولا

استماعه؛ فإنه داع إلى الفسق والفتنة في الدين والفجور فيحرم كما يحرم النظر بشهوة إلى الصور الجميلة [....] ؛ فإن الفتنة تحصل بالنظر وبالسماع؛ ولهذا جعل النبي ? صلى الله عليه وسلم زنا العينين النظر، وزنا الأذن الاستماع.

ولا خلاف بين العلماء المعتبرين في كراهة الغناء وذمه وذم استماعه، ولم يرخص فيه أحد يعتد به.

وقد حكيت الرخصة فيه على بعض المدنيين.

وقد روى الإمام أحمد، عن إسحاق الطباع، أنه سأل مالكا عما يرخص فيه أهل المدينه من الغناء؟ فقالَ: إنما يفعله عندنا الفساق.

ص: 435

وكذا قالَ إبراهيم بن المنذر الحزامي، وهو من علماء أهل المدينة – أيضا.

وقد نص أحمد على مخالفة ما حكي عن المدنيين في ذَلِكَ. وكذا نص هو وإسحاق على كراهة الشعر الرقيق الذي يشبب به النساء.

وقال أحمد: الغناء الذي وردت فيه الرخصة هو غناء الراكب: أتيناكم أتيناكم.

وأما استماع آلات الملاهي المطربة المتلقاة من وضع الأعاجم، فمحرم مجمع على تحريمه، ولا يعلم عن أحد منه الرخصة في شيء من ذَلِكَ، ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يعتد به فقد كذب وافترى.

وأما دف الأعراب الخالي من الجلاجل المصوتة ونحوها فقد اختلف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب:

أحدها: أنه يرخص فيه مطلقا للنساء.

وقد روي عن أحمد ما يشهد له، واختاره طائفة من المتأخرين من أصحابنا، كصاحب ((المغني)) وغيره.

والثاني: إنما يرخص فيه في الاعراس ونحوها، وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز والأوزاعي، وهو قول كثير من أصحابنا أو أكثرهم.

ص: 436

والثالث: أنه لا يرخص فيه بحال. وهو قول النخعي وأبي عبيد.

وجماعة من أصحاب ابن مسعود كانوا يتبعون الدفوف مع الجواري في الأزقة فيحرقونها.

وقال الحسن: ليس الدف من أمر المسلمين في شيء. ولعله أراد بذلك دفوف الأعاجم المصلصلة المطربة.

وقد سئل أحمد على ذلك فتوقف، وكأنه حصل عنده تردد: هل كانت كراهة من كره الدفوف لدفوف الأعراب أو لدفوف الاعاجم فيه جرس؟ وقد قيل لأحمد: الدف فيهِ جرس؟ قال: لا.

وقد نص على منع الدف المصلصل.

وقال مالك في الدف: هو من اللهو الخفيف، فإذا دعي إلى وليمة، فوجد فيها دفاً فلا أرى أن يرجع.

وقاله القاسم من أصحابه.

وقال أصبغ –منهم -: يرجع لذلك.

وفي الرخصة في الدف في العيد أحاديث أخر:

خرج ابن ماجه من رواية الشعبي، قال: شهد عياض الأشعري عيداً بالأنبار، فقال: ما لي لا أراكم تقلسون كما يقلس رسول الله ? صلى الله عليه وسلم.

ومن رواية الشعبي، عن قيس بن سعد، قال: ما كان شيء على عهد

ص: 437

رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ وقد رأيته، إلاّ شيء واحد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقلس له يوم الفطر.

قال يزيد بن هارون: التقليس: ضرب الدف.

وقال يوسف بن عدي: التقليس: أن يقعد الجواري والصبيان على أفواه الطرق، يلعبون بالطبل وغير ذلك.

وقد بسطنا القول في حكم الغناء وآلات اللهو في كتاب مفرد، سميناه:((نزهة الأسماع في مسألة السماع)) ، وإنما أشرنا إلى ذلك هاهنا إشارة لطيفة مختصرة.

ومما يدخل في هذا الباب: ما روى حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال:((ما هذان اليومان؟)) قالوا: نلعبهما في الجاهلية. فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما: يوم

الفطر، ويوم الأضحى)) .

خرجه أبو داود والنسائي.

ص: 438

‌4 - باب

الأكل يوم الفطر قبل الخروج

ص: 439

953 -

حدثنا محمد بن عبد الرحيم: نا سعيد بن سليمان، أنا هشيم: أنا عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله ? صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى ياكل تمرات.

وقال مرجأ بن رجاء: حدثني عبيد الله بن أبي بكر: حدثني أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم وياكلهن وتراً.

هذا الحديث مما تفرد به البخاري، ولم يخرجه مسلم.

وإنما ذكر متابعة مرجى بن رجاء لثلاثة فوائد:

أحدها:

أنه حديث أنكره الإمام أحمد من حديث هشيم، وقال: إنما كان هشيم يحدث به عن محمد بن إسحاق، عن حفص بن عبيد الله، عن أنس. قَالَ: وإنما ثناه علي بن عاصم، عن عبيد الله بن أبي بكر.

كذا نقله عن أحمد ابنه عبد الله.

وقد رواه [قتيبة] ، عن هشيم، عن ابن إسحاق، عن حفص، كما قاله الإمام أحمد ومن هذه الطريق خرجه الترمذي، وصححه.

ص: 439

وقد رواه كذلك عن هشيم بهذا الإسناد الإمام أحمد، ويحيى، وابن أبي شيبة

وغيرهم.

قال البيهقي: ورواه سعيد بن سليمان، عن هشيم بالإسنادين معا.

وهذا يدل على أنهما محفوظان عن هشيم، فبين البخاري أنه قد توبع عليه هشيم.

وقد خرجه الإمام أحمد من حديث مرجى ((ويأكلهن أفرادا)) .

وخرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) والدارقطني من حديثه، وعندهما:((ويأكلهن وترا)) .

ومرجى بن رجاء، مختلف في أمره. وثقه أبو زرعة، وضعفه غيره وتابعه - أيضا -: علي بن عاصم، فرواه عن عبيد الله بن أبي بكر: سمعت أنسا يقول: ((ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر قط حتى يأكل تمرات)) .

خرجه الإمام أحمد، عنه.

وخرجه ابن شاهين في ((كتاب العيدين)) ، وزاد: ((ثلاثا، وكان أنس [يأكل] ثلاث تمرات أو

ص: 440

خمسا، وإن شاء زاد، إلاّ أنه يجعلهن وترا)) .

ورواه - أيضا - عتبة بن حميد: نا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس: سمعت أنسا قالَ: ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر حتى يأكل ثمرات، ثلاثا أو خمسا أو سبعا، أو أقل من ذلك أو أكثر، وتراً.

خرجه الطبراني.

وخرجه ابن حبان في ((صحيحه)) إلى قوله: ((سبعا)) .

ورواه - أيضا – أبو جزي نصر بن طريف، عن عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس.

فقد رواه جماعة، عن عبيد الله، عن أنس – كما ترى -، وإنما استنكره أحمد من حديث هشيم.

الفائدة الثانية:

إن في رواية مرجى زيادة الوتر.

والثالثة:

إن فيها التصريح بسماع عبيد الله له من أنس.

وقد ذكرنا أنه توبع على هاتين الزيادتين.

وفي الباب أحاديث أخر، ليست على شرط البخاري.

وقد استحب أكثر العلماء الأكل يوم الفطر قبل الخروج إلى المصلى، ومنهم علي وابن عباس.

وروي عنهما أنهما قالا: هو السنة.

وكان

ص: 441

ابن عمر يفعله.

وعن أم الدرداء، أنها قالت: خالفوا أهل الكتاب، فإنهم لا يفطرون في أعيادهم حتى يرجعوا.

وعن ابن المسيب، قال: كان الناس يؤمرون بذلك.

وعن الشعبي، قال: هو السنة.

وعن عَكْرِمَة، قال: كَانَ الناس يفعلونه.

وهو قول أبي حنيفة والثوري ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم.

وروي عن النخعي، قالَ: إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل.

وروي عنه، أنه قال: كانوا لا يبالون بذلك.

وعن ابن مسعود: إن شاء لم ياكل.

ولعله أراد به بيان أن الأكل قبل الخروج ليس بواجب، وهذا حق، وان أراد أنه ليس هو الأفضل فالجمهور على خلافه، والسنة تدل عليهِ.

ونص الشافعي على أن تركه مكروه.

ص: 442

وقد علل الأكل يوم الفطر قبل الخروج بالمبادرة إلى الفطر في يوم العيد، ليظهر مخالفته لرمضان حيث كان تحريم الأكل في نهاره.

وقد تقدم، عن أبي الدرداء: تعليله بمخالفة أهل الكتاب.

وقد علل بأن السنة تأخير الصلاة يوم الفطر، فيكون الأكل قبل الخروج اسكن للنفس، بخلاف صلاة النحر؛ فإن السنة تعجيلها.

وقد رَوَى الإمام أحمد: ثنا عَبْد الرزاق، عَن ابن جُرَيْج: أخبرني عَطَاء، أنه سَمِعَ ابن عَبَّاس يَقُول: إن استطعتم أن لا يغدوا أحدكم يوم الفطر حَتَّى يطعم فليفعل قَالَ: فَلَمْ أدع أن أكل قَبْلَ أن أغدو منذ سَمِعْت ذَلِكَ من ابن عَبَّاس. قُلتُ: فعلى ماذا تأول هَذَا؟ قال: أظن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. قال: كانوا لا يخرجون حتى يمتد الضحى، فيقولون: نطعم حتى لا نعجل عن صلاتنا.

وذكر بعضهم معنى آخر، وهو أن يوم الفطر قبل الصلاة تشرع الصدقة على المساكين بما يأكلونه خصوصا التمر، فشرع له أن يأكل معهم ويشاركهم، وفي النحر لا تكون الصدقة على المساكين إلاّ بعد الرجوع من الصلاة، فيؤخر الأكل إلى حال الصدقة عليهم، ليشاركهم - أيضا.

ويشهد له: ما خرجه ابن ماجه، عن ابن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 443

لا يغدو يوم الفطر حتى يغدي أصحابه من صدقة الفطر.

وإسناده ضعيف جدا.

وقد قيل: إن صوابه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الإمام.

قاله العقيلي.

ص: 444

‌5 - باب

الأكل يوم النحر

ص: 445

954 -

حدثنا مسدد: نا إسماعيل، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن انس بن مالك: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من ذبح قبل الصلاة فليعد)) . فقام رجل، فقال: هذا يوم يشتهى فيه اللحم، وذكر من جيرانه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم صدقه، فقال: وعندي جذعة أحب إلي من شاتي لحمٍ، فرخص له النبي صلى الله عليه وسلم فلا أدري أبلغت الرخصة من سواه، أم لا.

* * *

ص: 445

‌7 - باب

المشي والركوب إلى العيد بغير اذان ولا اقامة

ص: 445

957 -

حدثنا إبراهيم بن المنذر: نا أنس، عن عبيد الله، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الأضحى والفطر، ثم يخطب بعد الصَّلاة.

ص: 445

958 -

حدثنا إبراهيم بن موسى: أنا هشام، أن ابن جريج أخبرهم، قال: أخبرني عطاء، عن جابر بن عبد الله، قالَ: سمعته يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة.

ص: 445

959 -

قال: وأخبرني عطاء، أن ابن عباس أرسل إلى ابن الزبير في أول ما بويع لهُ: أنه لم يكن يؤذن بالصلاة يوم الفطر، وإنما الخطبة بعد الصَّلاة.

ص: 445

960 -

وأخبرني عطاء، عن ابن عباس، وعن جابر بن عبد الله، قالا: لم يكن يؤذن يوم الفطر، ولا يوم الأضحى.

ص: 445

961 -

وعن جابر بن عبد الله، قال: سمعته يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قام فبدأ بالصلاة ثم خطب الناس بعد، فلما فرغ نبي الله ? صلى الله عليه وسلم نزل، فأتى النساء فذكرهن، وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه، يلقي فيه النساء صدقة0

قلت لعطاء: أترى حقا على الإمام الآن أن يأتي النساء فيذكرهن حين يفرغ؟ قالَ: إن ذَلِكَ لحق عليهم، ومالهم أن لا يفعلوا؟

ص: 445

[0000000000000000000000000000000]

ولا إقامة

وخرج - أيضا - من طريق عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر، قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة.

وخرج أبو داود من طريق الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد بلا أذان ولا إقامة وأبا بكر وعمر - أو عُثْمَان.

وخرجه ابن ماجة مختصرا.

وخرج أبو داود من حديث سفيان، عن عبد الرحمن بن عباس، قال:[سأل رجل ابن عباس: أشهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، ولولا منزلتي مِنْهُ مَا شهدته من الصغر، فـ] أتى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم العلم الَّذِي عِنْدَ [دار] كثير بْن الصلت، فصلى ثُمَّ خَطَبَ، ولم يذكر إذانا ولا إقامة - وذكر الحَدِيْث.

وفي الباب: عن ابن عُمَر.

ص: 446

خرجه الإمام أحمد والنسائي.

وفي إسناده مقال.

خرجه الإمام أحمد من رواية الزهري، عن سالم، عن أبيه - وذكر النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر.

وهو من رواية عبد الرزاق بن عمر والنعمان بن راشد، عن الزهري.

وقال أبو حاتم: هو حديث منكر.

وخرجه النسائي، من رواية الفضل بن عطية، عن سالم، عن أبيه - ولم يذكر أبا بكر وعمر.

والفضل بن عطية، مختلف فيهِ.

وروي عنه عن عطاء عن جابر.

وخرج مسلم من حديث سماك، عن جابر بن سمرة، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيد غير مرة بغير أذان ولا إقامة.

ولا خلاف بين أهل العلم في هذا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يصلون العيد بغير أذان ولا إقامة.

قال مالك: تلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا.

واتفق العلماء على أن الأذان والإقامة للعيدين بدعة ومحدث.

وممن قالَ: إنه بدعة: عبد الرحمن بن أبزى والشعبي والحكم.

وقال ابن سيرين: وهو محدث.

وقال سعيد بن المسيب والزهري: أول من أحدث الأذان في العيدين معاوية.

وقال ابن سيرين: أول من

ص: 447

أحدثه آل مروان.

وعن الشعبي، قالَ: أول من أحدثه بالكوفة ابن دراج، وكان المغيرة بن شعبة استخلفه.

وقال حصين: أول من أذن في العيدين زياد.

وروى ابن أبي شيبة: نا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن عطاء بن يسار، أن ابن الزبير سأل ابن عباس - وكان الذي بينهما حسنا يومئذ - فقال: لا تؤذن ولا تقم، فلما ساء الذي بينهما أذن وأقام.

وقال الشافعي: قال الزهري: وكان النبي ? صلى الله عليه وسلم يأمر في العيدين المؤذن فيقول: الصلاة جامعة.

واستحب ذلك الشافعي وأصحابنا.

واستدلوا بمرسل الزهري، وهو ضعيف، وبالقياس على صلاة الكسوف؛ فإن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه أرسل مناديا ينادي: الصَّلاة جامعة.

وقد يفرق بين الكسوف والعيد، بأن الكسوف لم يكن الناس مجتمعين لهُ، بل كانوا متفرقين في بيوتهم وأسواقهم، فنودوا لذلك، وأما العيد، فالناس كلهم مجتمعون له قبل خروج الإمام.

وقول جابر: ((ولا إقامة ولا نداء ولا شيء)) يدخل فيه نفي النداء

ص: 448

بـ ((الصَّلاة جامعة)) .

وقد يقال: إن ((الصَّلاة جامعة)) هي بدل إقامة الصَّلاة للمكتوبات عندَ خروج الإمام حتَّى يعلم الناس حضور الصَّلاة؛ فيتهيئون لها بالقيام، وليس كلهم يشاهد الإمام ودخوله وصلاته، فاحتيج إلى ما يعلم به ذلك.

والإقامة مكروهة لهذه الصَّلاة، فتعين إبدالها بـ ((الصَّلاة جامعة)) .

وفي كراهة: ((حي على الصَّلاة)) بدل ((الصَّلاة جامعة)) وجهان للشافعية.

والمنصوص عن الشافعي: أنه خلاف الأولى.

وفي الحديث: أن الإمام إذا رأى أنه لم يسمع الموعظة النساء، فإنه يأتيهن بعد فراغه من موعظة الرجال، فيعظهن ويذكرهن.

وقد قال عطاء: إن ذلك حق عليهِ.

ولعله أراد أنه مندوب إليه، متأكد الندب.

قال طائفة من أصحاب الشافعي: إذا علم الإمام أن قوما فاتهم سماع الخطبة استحب أن يعيد لهم الخطبة، سواء كانوا رجالا أو نساءً، واستدلوا بهذا الحديث.

ص: 449

‌8 - باب

الخطبة يوم العيد

فيه ثلاثة أحاديث:

الأول:

ص: 450

962 -

نا أبو عاصم: أنا ابن جريج: أخبرني الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة.

فيهِ: دليل على أنهم كانوا يخطبون للعيدين، وأنهم كانوا يخطبون بعد الصَّلاة.

وخرجه فيما بعد من طريق عبد الرزاق، بسياق طويل.

الحديث الثاني:

ص: 450

963 -

نا يعقوب بن إبراهيم: نا أبو اسامة: نا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة.

وقد خرجه مسلم بنحوه من حديث أبي أسامة وعبدة بن سليمان

ص: 450

كلاهما، عن عبيد الله.

وقد قال الإمام أحمد - في رواية ابنه عبد الله -: ما سمعت من أحد يقول في هذا الحديث: ((أبو بكر وعمر)) إلا عبدة.

كذا قال، وكأنه لم يسمعه من أبي أسامة.

الحديث الثالث:

ص: 451

964 -

نا سليمان بن حرب: نا شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن

جبير، عن ابن عباس، قالَ: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفطر ركعتين، لم يصل قبلهما ولا بعدهما، ثم أتى النساء ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة، فجعلن يلقين، تلقي المرأة خرصها وسخابها.

ظاهره: أنه بعد الصلاة خطب النساء، وليس كذلك، وإنما خطب الرجال ثم أتى النساء بعد الرجال، وسيأتي ذلك من حديث طاوس.

و ((الخرص)) ، و ((القرط)) حلقة في الإذن، وربما كانت فيها حبة.

و ((السخاب)) : قلادة تتخذ من أنواع الطيب.

وفي الحديث: دليل على جواز صدقة المرأة بدون إذن زوجها.

الحديث الرابع:

ص: 451

965 -

نا آدم: نا شعبة: نا زبيد، قال: سمعت الشعبي، عن البراء بن عازب، قالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما نبدأ في يومنا هذا، أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن نحر قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء)) ، فقال رجل من الأنصار - يقال له: أبو بردة بن نيار -: يا رسول الله، ذبحت، وعندي جذعة خير من مسنة؟ قالَ:((اجعله مكانه، ولن توفي - أو تجزي - عن أحد بعدك)) .

في هذا الحديث: دليل على أن الخطبة كانت بعد الصَّلاة؛ لقوله: ((إن أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نصلي)) ولو كانَ يخطب قبل، لكان أول ما بدأ به الخطبة. وهذا القول قاله في خطبته، كما خرجه البخاري فيما بعد، عن سليمان بن حرب، عن

شعبة، بهذا الإسناد.

وقد تقدم: أن الإمام أحمد خرجه من رواية أبي جناب الكلبي، عن يزيد بن

البراء، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله قبل الصَّلاة، ثم صلى، ثم خطب، وذكر أنه قال في خطبته:((من كان منكم عجل ذبحا فإنما هي جزرة اطعمها أهله)) - وذكر قصة أبي بردة -، ثم قال:((يا بلال)) قال: فمشى، واتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى النساء، فقال:((يا معشر النسوان، تصدقن، الصدقة خير لكن)) . قال: فما رأيت يوما قط أكثر خدمة مقطوعة، ولا قلادة، ولا قرطا من ذلك اليوم.

ص: 452

وقال الإمام أحمد - أيضا -: نا يحيى بن آدم: نا أبو الأحوص، عن منصور، عن الشعبي، عن البراء بن عازب، قال: خطبنارسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الصلاة - ولم يزد على ذَلِكَ.

وأما ذكر الخطبتين في العيد، فخرجه ابن ماجه من رواية إسماعيل بن مسلم: نا أبو الزبير، عن جابر، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر - أو أضحى - فخطب قائما، ثم قعد قعدة، ثم قام.

وإسماعيل، هو المكي. ضعيف جدا.

ص: 453

‌9 - باب

ما يكره من حمل السلاح في العيد والحرم

وقال الحسن: نهوا عن حمل السلاح يوم العيد، إلا أن يخافوا عدواً.

هذا الذي ذكره عن الحسن، قد روي مرفوعاً:

فروى أبو داود في ((مراسيله)) بإسناده، عن الضحاك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخرج يوم العيد بالسلاح.

وبإسناده، عن مكحول، قال: إنما كانت الحربة تحمل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العيد لأنه كانَ يصلي إليها.

وخرج ابن ماجه بإسناد ضعيف جداً، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يلبس السلاح في بلاد الاسلام في العيدين، إلا أن يكونوا بحضرة العدو.

وفي إسناده: إسماعيل بن زياد، متروك.

ص: 454

قال البخاري –رحمه الله:

ص: 455

966 -

حدثنا زكريا بن يحيى أبو السكين: نا المحاربي: نا محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير، قال: كنت مع ابن عمر حين أصابه سنان الرمح في أخمص قدمه، فلزقت قدمه بالركاب، فنزلت فنزعتها، وذلك بمنى، فبلغ الحجاج فجاء يعوده، فقال الحجاج: لو نعلم من أصابك؟ قالَ: أنت أصبتني. قالَ: وكيف؟ قال: حملت السلاح في يوم لم يكن يحمل فيه، وأدخلت السلاح الحرم ولم يكن السلاح يدخل الحرم.

ص: 455

976 -

حدثنا أحمد بن يعقوب: حدثني إسحاق بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، عن أبيه، قال: دخل الحجاج على ابن عمر وأنا عنده، فقال: كيف هو؟ قالَ: صالح. قالَ: من أصابك؟ قال: أصابني من أمر بحمل السلاح في يوم لا يحل فيه حمله –يعني: الحجاج.

زكريا بن يحيى أبو السكين الطائي الكوفي، روى عنه البخاري هذا الحديث، ولم يرو عنه في ((كتابه)) ، ولم يخرج لهُ أحد من أهل الكتب الستة سواه.

وكذلك أحمد بن يعقوب المسعودي الكوفي، لم يروعنه البخاري من أهل

الكتب، لكنه روى عنه في موضوع أخر من ((كتابه)) .

وظاهر كلام ابن عمر: يقتضي أن حمل السلاح يوم النحر غير جائز، سواء كان في الحرم أو غيره، وكذلك حمله في الحرم.

وفي ((صحيح مسلم)) من حديث معقل، عن أبي الزبير، عن جابر، عن

النبي صلى الله عليه وسلم،

ص: 455

قال: ((لايحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح)) .

وقول ابن عمر قالَ: ((لم يكن يحمل فيه)) ، في معنى رفعه؛ لأنه إشارة إلى أن ذلك كان عادة مستمرة من عهد النبي ? صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الزمان.

ولعل النهي إنما هو عن إشتهار السلاح لا عن حمله في القراب، كما نهى عن ذلك في المساجد.

ويدل عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قاضى أهل مكة عام الحديبية على أن يدخلها من قابل، وأن لا يدخلها إلا بجلبان السلاح، وهي السيوف في القراب.

ولكن ألفاظ الأحاديث عامة، وقد يكون دخوله مكة عام القضية بالسلاح؛ لأنه كانَ خائفاً.

وقد حكي عن عطاء ومالك والشافعي، أنه يكره إدخال السلاح إلى الحرم لغير حاجة إليه.

وأما حمل السلاح يوم العيد، فقد حكى البخاري عن الحسن، أنه قال: نهوا

عنه، إلا أن يخافوا عدواً.

وقد روي عنه مرفوعاً.

خرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ((كتاب الشافي)) ، من طريق علي بن عياش: ثنا إسماعيل، عن ابن أبي نعم ٍ، عن الحسن، عن جابر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج السلاح في العيدين.

ص: 456

إسماعيل: كأنه: ابن عياش.

والصحيح: الموقوف.

وبوب عليه أبو بكر: ((باب: القول في لبس السلاح في العيدين وذكر

الثغور)) .

يشير إلى أنه في الثغور التي يخاف فيها من هجم العدو غير منهي عنه.

ص: 457

‌10 - باب

التبكير إلى العيد

وقال عبد الله بن بسر: إن كنا قد فرغنا في هذه الساعة، وذلك حين التسبيح.

ص: 458

968 -

حدثنا سليمان بن حرب: نا شعبة، عن زبيد، عن الشعبي، عن البراء، قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فقال:((إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر)) .

ثم ذكر بقية الحديث - يعني حديث آدم، عن شعبة -، وقد سبق قريباً، إلا أنه قال:((اجعلها مكانها)) - أو قال -: ((اذبحها، ولن تجزي جذعة عن أحد بعدك)) .

وجه الاستدلال بحديث البراء على التبكير بصلاة العيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أول ما يبدأ به في يوم النحر الصَّلاة، ثُمَّ النحر بعد رجوعه، والمراد باليوم

ها هنا: ما بعد طلوع الشمس، فإنه لا يجوز صلاة العيد قبل [ذَلِكَ] بالاتفاق.

وهذا مما يرد قول من قال من أصحابنا بجواز

ص: 458

صلاة الجمعة قبل طلوع الشمس.

وقد يستدل به من يرى أن صلاة العيد تجوز قبل زوال وقت النهي 0

ويجاب عنه بان ذكره أول ما يبدأ به في وقت متسع، لا يلزم منه أن يكون فعله له في أول الوقت 0

وقال الشافعي: أنا الثقة، أن الحسن كان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغدو إلى الأضحى والفطر حين تطلع الشمس، فيتتام طلوعها.

وأما حديث عبد الله بن بسر الذي ذكره تعليقاً:

فخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث يزيد بن خمير الرحبي، قال: خرج عبد الله بن بسر - صاحب النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس في يوم عيد فطر - أو أضحى -، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: أنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح.

والمراد بصلاة التسبيح: صلاة الضحى.

والمراد بحينها: وقتها المختار، وهو إذا اشتد الحر.

فهذا التأخير هو الذي أنكره عبد الله بن بسر، ولم ينكر تأخيرها إلى أن يزول وقت النهي؛ فان ذَلِكَ هوَ الأفضل بالاتفاق، فكيف ينكره.

وقد اختلف في أول وقت صلاة العيد:

فقال أبو حنيفة وأحمد: أول وقتها إذا ارتفعت الشمس، وزال وقت النهي.

وهو أحد الوجهين

ص: 459

للشافعية.

والثاني - لهم -: أول وقتها إذا طلعت الشمس، وان لم يزل وقت النهي.

وهو قول مالك.

ويتخرج لأصحابنا مثله، على قولهم: إن ذوات الأسباب كلها تفعل في أوقات النهي.

وقد خرجه بعضهم في صلاة الاستسقاء، وصلاة العيد مثلها.

وعمل السلف يدل على الأول؛ فإنه قد روي عن ابن عمر ورافع بن خديج وجماعة من التابعين، أنهم كانوا لا يخرجون إلى العيد حتَّى تطلع الشمس، وكان بعضهم يصلي الضحى في المسجد قبل أن يخرج إلى العيد.

وهذا يدل على أن صلاتها إنما كانت تفعل بعد زوال وقت النهي.

واختلفوا: هل يستحب إقامة العيدين في وقت واحد بالسوية، أو يعجل أحدهما عن آخر؟ على قولين.

أحدهما: انهما يصليان بالسوية، وهو قول مالك.

وقال ربيعة: إذا طلعت الشمس فالتعجيل بهما - يعني: الفطر والأضحى - أحسن من التأخير.

قال الزهري: كانوا يؤخرون العيدين حتى يرتفع النهار جداً.

وروى عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يبكر بالخروج إلى الصلاة؛ كيلا يصلي أحد قبلها.

ص: 460

خرجه كله جعفر الفريابي في ((كتاب العيدين))

والثاني: يستحب أن يؤخر صلاة الفطر، وتقدم الأضحى، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد.

وفي حديث مرسل، خرجه الشافعي، أن النبي كتب إلى عمرو بن حزم - وهو بنجران - أن عجل الأضحى، وأخر الفطر.

وفي إسناده: إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وهو ضعيف جداً.

والمعنى في ذلك: أنه بتأخير صلاة عيد الفطر يتسع وقت إخراج الفطرة المستحب إخراجها فيه، وبتعجيل صلاة الأضحى يتسع وقت التضحية، ولا يشق على الناس أن يمسكوا عن الأكل حتَّى يأكلوا من ضحاياهم.

وقد تقدم في حديث ابن عباس المخرج في ((المسند)) : وكانوا لا يخرجون حتى يمتد الضحى، فيقولون: نطعم حتى لا نعجل عن صلاتنا.

وأظنه من قول عطاء.

ويكون تعجيل صلاة الأضحى بمقدار وصول الناس من المزدلفة إلى منى ورميهم وذبحهم - نص عليه أحمد في رواية حنبل -؛ ليكون أهل الأمصار تبعاً للحاج في ذَلِكَ؛ فإن رمي الحاج الجمرة بمنزلة صلاة العيد لأهل الأمصار.

وأما آخر وقت صلاة العيد فهو: زوال الشمس.

قال عطاء: كل عيد

ص: 461

في صدر النهار.

وقال مجاهد: كانوا يعدون العيد في صدر النهار.

وقال مجاهد: كل عيد للمسلمين فهو قبل نصف النهار.

وقال أحمد: لا يكون الخروج للعيدين إلا قبل الزوال.

وأما إن لم يعلم بالعيد إلا في أثناء النهار، فإن علم به قبل زوال الشمس خرجوا من وقتهم، وصلوا صلاة العيد.

وإن شهدوا بعد الزوال في أثناء النهار، فقال أكثر العلماء: يخرجون من الغد للصلاة، وهو قول عمر بن عبد العزيز والثوري وأبي حنيفة والأوزاعي والليث وإسحاق وأحمد وابن المنذر 0

واستدلوا بما روى أبو عمير بن أنس، قال: حدثني عمومة لي من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: غم علينا هلال شوال، فأصبحنا صياماً، فجاء ركب من آخر النهار، فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر الناس أن يفطروا من يومهم، وأن يخرجوا لعيدهم من الغد.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

وصححه إسحاق بن راهويه والخطابي والبيهقي.

واحتج به أحمد.

وتوقف فيه الشافعي، وقال: لو ثبت قلنا به.

ص: 462

وقالت طائفة: تسقط ولا تصلي بعد ذلك، كما لا تقضى الجمعة إذا فاتت، وهو قول مالك وأبي ثور والشافعي - في قول له.

والقول المشهور، عنه: أنه إن أمكن جمع الناس في بقية يومهم لصغر البلد

خرجوا، وصلوا في بقية اليوم، وإلا أخروه إلى الغد.

وبنى ذلك أصحابه على أن التأخير إلى الغد قضاء، أو أداء.

فإن قيل: إنه أداء، لم تصل بعد الزوال؛ لأن وقت أدائها قد فات.

وإن قيل: إنَّهُ قضاء - وهو أصح عندهم -، قضيت في بقية النهار، إذا أمكن جمع الناس فيهِ.

وهو أفضل - عندهم - من تأخيرها إلى الغد، في أصح الوجهين عندهم. ولا خلاف عندهم، أنه إذا لم يعلم بالعيد إلاّ في الليلة الثانية، أنه يصلي من الغد.

قالوا: ويكون أداء، بغير خلاف.

واتفقوا على أن هذه الشهادة لا تقبل بالنسبة إلى صلاة العيد، بل تصلى من الغد أداء بغير خلاف.

قال في ((شرح المهذب)) : قال أصحابنا: ليس يوم الفطر أول شوال مطلقا وإنما هو اليوم الذي يفطر فيه الناس؛ بدليل حديث:

((فطركم يوم تفطرون)) وكذلك يوم النحر، وكذلك يوم عرفة هوَ اليوم الذي يظهر للناس، أنه يوم عرفة، سواء كانَ التاسع أو العاشر وقال الشافعي في ((الأم)) عقب هذا الحديث: فبهذا نأخذ. قالَ: وإنما كلف العباد الظاهر، ولم يظهر الفطر إلا يوم أفطروا. انتهى.

ص: 463

وقال أصحاب أبي حنيفة - فيمن شهد بيوم عرفة بعرفة، على وجه لا يتمكن الناس فيه من تلافي الوقوف، على تقدير صحة شهادتهم في ذلك العام -: إن شهادتهم غير مقبولة؛ لما يؤدى إليه قبولها من إيقاع الناس في الفتنه، بتفويت حجهم.

ذكره صاحب ((الكافي)) - منهم.

ص: 464