المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌11 - باب فضل العمل في أيام التشريق   وقال ابن عباس ((واذكروا - فتح الباري لابن رجب - جـ ٩

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

‌11 - باب

فضل العمل في أيام التشريق

وقال ابن عباس ((واذكروا الله في أيام معلومات)) : أيام العشر. والأيام المعدودات: أيام التشريق.

وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر، ويكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.

وكبر محمد بن علي خلف النافلة.

بوب على فضل أيام التشريق والعمل فيها.

وذكر في الباب أيام التشريق وأيام العشر، وفضلهما جميعاً.

وذكر ابن عباس: أن الأيام المعلومات المذكورة في سورة الحج هي أيام العشر، والأيام المعدودات المذكورة في سورة البقرة هي أيام التشريق.

وفي كل منهما اختلاف بين العلماء:

فأما المعلومات:

فقد روي عن ابن عباس، أنها أيام عشر ذي الحجة، كما حكاه عنه البخاري.

وروي - أيضاً - عن ابن عمر، وعن عطاء والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة.

وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد - في المشهور، عنه.

وقالت طائفة: الأيام المعلومات: يوم النحر ويومان بعده، روي عن ابن عمر وغيره من السلف. وقالوا: هي أيام الذبح.

وروي - أيضاً - عن علي وابن عباس، وعن عطاء الخراساني والنخعي وهو قول

ص: 5

مالك وأبي يوسف ومحمد وأحمد - في رواية عنه.

ومن قال: أيام الذبح أربعة، قال: هي يوم النحر وثلاثة أيام بعده.

وقد روي عن أبي موسى الأشعري، أنه قال - في خطبته يوم النحر -: هذا يوم الحج الأكبر، وهذه الأيام المعلومات التسعة التي ذكر الله في القرآن، لا يرد فيهن

الدعاء، هذا يوم الحج الأكبر، وما بعده من الثلاثة اللائي ذكر الله الأيام المعدودات، لا يرد فيهن الدعاء.

وهؤلاء جعلوا ذكر الله فيها هو ذكره على الذبائح.

وروي عن محمد بن كعب، أن المعلومات أيام التشريق خاصة.

والقول الأول أصح؛ فان الله سبحانه وتعالى قالَ – بعد ذكره في هذه الأيام المعلومات: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] .

والتفث: هو ما يصيب الحاج من الشعث والغبار.

وقضاؤه: إكماله.

وذلك يحصل يوم النحر بالتحلل فيه من الإحرام، فقد جعل ذلك بعد ذكره في الأيام المعلومات، فدل على أن الأيام المعلومات قبل يوم النحر الذي يقضى فيه التفث ويطوف فيه بالبيت العتيق.

فلو كانت الأيام المعلومات أيام الذبح لكان الذكر فيها بعد قضاء التفث ووفاء النذور

ص: 6

والتطوف بالبيت العتيق، والقران يدل على أن الذكر فيها قبل ذلك.

وأما قوله تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنعام} [الحج:28] .

فأما أن يقال: إن ذكره على الذبائح يحصل في يوم النحر، وهو أفضل أوقات الذبح، وهو آخر العشر.

وإما أن يقال: إن ذكره على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، ليس هو ذكره على الذبائح، بل ذكره في أيام العشر كلها، شكراً على نعمة رزقه لنا من بهيمة الأنعام؛ فإن لله تعالى علينا فيها نعماً كثيرة دنيوية ودينية.

وقد عدد بعض الدنيوية في سورة النحل، وتختص عشر ذي الحجة منها بحمل أثقال الحاج، وإيصالهم إلى قضاء مناسكهم والانتفاع بركوبها ودرها ونسلها وأصوافها وأشعارها.

وأما الدينية فكثيرة، مثل: إيجاب الهدي وإشعاره وتقليده، وغالبا يكون ذلك في أيام العشر أو بعضها، وذبحه في آخر العشر، والتقرب به إلى الله، والأكل من لحمه، وإطعام القانع والمعتر.

فلذلك شرع ذكر الله في أيام العشر شكراً على هذه النعم كلها، كما صرح به في قوله تعالى:{كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37] ، كما أمر بالتكبير عند قضاء صيام رمضان، وإكمال العدة، شكراً على ما هدانا إليه من الصيام والقيام المقتضي لمغفرة الذنوب السابقة.

وأما الأيام المعدودات:

فالجمهور على أنها أيام التشريق، وروي عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما.

واستدل ابن عمر يقوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] وإنما يكون

ص: 7

التعجيل في ثاني أيام التشريق.

قال الإمام أحمد: ما أحسن ما قال ابن عمر.

وقد روي عن ابن عباس وعطاء، أنها أربعة أيام: يوم النحر، وثلاثة بعده.

وفي إسناد المروي عن ابن عباس ضعف.

وأما ما ذكره البخاري عن ابن عمر وأبي هريرة، فهو من رواية سلام أبي المنذر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، أن ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان في العشر إلى السوق يكبران، لا يخرجان إلاّ لذلك.

خرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ((كتاب الشافي)) وأبو بكر المروزي القاضي في ((كتاب العيدين)) .

ورواه عفان: نا سلام أبو المنذر - فذكره، ولفظه: كان أبو هريرة وابن عمر يأتيان السوق أيام العشر، فيكبران، ويكبر الناس معهما، ولا يأتيان لشيء إلا لذلك.

وروى جعفر الفريابي، من رواية يزيد بن أبي زياد، قال: رأيت سعيد بن جبير

وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهدا - أو اثنين من هؤلاء الثلاثة - ومن رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر: ((الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر. الله أكبر ولله الحمد)) .

ص: 8

وروى المروزي، عن ميمون بن مهران، قال: أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر، حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نقصوا في تركهم التكبير.

وهو مذهب أحمد، ونص على أنه يجهر به.

وقال الشافعي: يكبر عند رؤية الأضاحي.

وكأنه أدخله في التكبير على بهيمة الأنعام المذكور في القران، وهو وإن كان داخلا فيه، إلا أنه لا يختص به، بل هو أعم من ذلك كما تقدم.

وهذا على اصل الشافعي وأحمد: في أن الأيام المعلومات هي أيام العشر، كما

سبق.

فأما من قال: هي أيام الذبح، فمنهم من لم يستحب التكبير في أيام العشر، وحكي عن مالك وأبي حنيفة.

ومن الناس من بالغ، وعده من البدع، ولم يبلغه ما في ذلك من السنة.

وروى شعبة، قال: سالت الحكم وحماداً عن التكبير أيام العشر؟ فقالا: لا؛ محدث.

خرّجه المروزي.

وخرّج الإمام أحمد من حديث ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما من أيام اعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيه من هذه الأيام العشر؛ فاكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)) .

ويروي نحوه من حديث ابن عباس – مرفوعاً، وفيه: ((فاكثروا فيهن

ص: 9

التهليل والتكبير؛ فإنها أيام تهليل وتكبير وذكر الله عز وجل) .

وأما ما ذكره عن محمد بن علي في التكبير خلف النافلة، فهوَ في أيام التشريق.

ومراده: أن التكبير يشرع في أيام العشر وأيام التشريق جميعاً، وسيأتي ذكر التكبير في أيام التشريق فيما بعد - إن شاء الله سبحانه وتعالى.

قال البخاري - رحمه الله تعالى -:

ص: 10

969 -

نا محمد بن عرعرة: نا شعبة، عن سليمان، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما العمل في أيام أفضل منها في هذه الأيام - يعني: أيام العشر -)) قالوا: ولا الجهاد؟ قالَ: ((ولا الجهاد، إلاّ رجل يخرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء)) . هكذا في أكثر النسخ المعتمدة، وفي أكثر النسخ:((ما العمل في العشر أفضل منه في هذه الأيام)) –وكأنه يشير إلى أيام التشريق -، والحديث بهذا اللفظ غير معروف.

وفيه: تفصيل العمل في أيام التشريق وأيام العشر جميعاً.

ولعل هذا من تصرف بعض الرواة، حيث أشكل عليه إدخال الحديث باللفظ المشهور في ((باب: فضل العمل في أيام التشريق)) .

والبخاري اتبع عبد الرزاق؛ فانه خرج هذا الحديث في (مصنفه) في ((باب: فضل أيام التشريق)) –أيضاً.

وقد ذكر أن البخاري وإن بوب

ص: 10

على أيام التشريق، لكنه ذكر في الباب فضل أيام العشر وأيام التشريق جميعا، ولهذا ذكر عن ابن عباس تفسير الأيام المعلومات، والأيام المعدودات. وعن ابن عمر وأبي هريرة التكبير في أيام العشر. وعن محمد بن علي التكبير في أيام التشريق خلف النوافل، فعلم انه أراد ذكر فضائل هذه الأيام جميعها، وليس في فضل العمل في أيام التشريق حديث مرفوع، فخرج فيه حديث فضل العمل في أيام العشر.

وهذا الحديث حديث عظيم جليل.

وسليمان الذي رواه عنه شعبة هو الأعمش، وقد رواه جماعة عن الأعمش بهذا الإسناد، وهو المحفوظ -: قاله الدارقطني وغيره.

واختلف على الأعمش فيه:

ورواه عن مسلم البطين مع الأعمش: حبيب بن أبي عمرة ومخول بن راشد.

ورواه عن سعيد بن جبير مع البطين: أبو صالح ومجاهد وسلمة بن كهيل وأبو إسحاق والحكم وعدي بن ثابت وغيرهم، مع اختلاف على بعضهم فيه.

ص: 11

ورواه عن ابن عباس مع سعيد بن جبير، عطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة

ومقسم، مع اختلاف على بعضهم يطول ذكره.

ولعل مسلماً لم يخرجه للاختلاف في إسناده. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وهذا الحديث نص في أن العمل المفضول يصير فاضلا إذا وقع في زمان فاضل، حتى يصير أفضل من غيره من الأعمال الفاضلة؛ لفضل زمانه.

وفي أن العمل في عشر ذي الحجة أفضل من جميع الأعمال الفاضلة في غيره.

ولا يستثنى من ذلك سوى أفضل أنواع الجهاد، وهو أن يخرج الرجل بنفسه

وماله، ثم لا يرجع منهما بشيء.

وقد سئل: ((أي الجهاد أفضل؟)) ، قالَ: ((من عقر جواده، وأهريق

دمه)) .

وسمع رجلا يقول: اللَّهُمَّ اعطني أفضل ما تعطي عبادك الصالحين، فقالَ لهُ:

((إذن يعقر جوادك، وتستشهد)) .

فهذا الجهاد بخصوص يفضل على العمل في العشر، وأما سائر أنواع الجهاد مع سائر الأعمال، فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل منها.

وفي رواية: ((وأحب الله عز وجل) .

فإن قيل: فإذا كان كذلك فينبغي أن يكون الحج أفضل من الجهاد؛

ص: 12

لأن الحج يختص بهده العشر، وهو من أفضل أعماله، ومع هذا فالجهاد أفضل منه؛ لما في ((الصحيحين)) ، عن أبي هريرة، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:((أفضل الأعمال الإيمان بالله ورسوله، ثُمَّ الجهاد في سبيل الله، ثُمَّ حج مبرور)) .

قيل: للجمع بينهما وجهان:

أحدهما: بان يكون الحج أفضل من سائر أنواع الجهاد، إلاّ الجهاد الذي لا يرجع صاحبه منه بشيء من نفسه وماله، فيكون هذا الجهاد هو الذي يفضل على الحج

خاصة.

وقد روي عن طائفة من الصحابة تفضيل الحج على الجهاد، ومنهم: عمر وابنه وأبو موسى وغيرهم، عن مجاهد وغيره.

فيحمل على تفضيله على ما عدا هذا الجهاد الخاص، ويجمع بذلك بين النصوص كلها.

الوجه الثاني: أن الجهاد في نفسه أفضل من الحج، لكن قد يقترن بالحج ما يصير به أفضل من الجهاد، وقد يتجرد عن ذلك فيكون الجهاد أفضل منه حينئذ.

ولذلك أمثله:

منها: أن يكون الحج مفروضا، فيكون حينئذ أفضل من التطوع بالجهاد، هذا قول جمهور العلماء.

وقد روي صريحاً، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

وروي - مرفوعاً - من وجوه متعددة، في أسانيدها لين.

ص: 13

ونص عليه الإمام أحمد وغيره.

وقد دل عليه: قول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه عز وجل: ((ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه)) .

وقد خرجه البخاري في ((كتابه)) هذا.

ومنها: أن يكون الحاج ليس من أهل الجهاد، فحجه أفضل من جهاده،

كالمرأة.

وقد خرج البخاري حديث عائشة، أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قالَ:((لكن أفضل الجهاد حج مبرور))

ومنها: أن يستوعب عمل الحج جميع أيام العشر، ويؤتي به على أكمل الوجوه، وجوه البر من أداء الواجبات وفعل المندوبات واجتناب المحرمات والمكروهات، مع كثرة ذكر الله عز وجل والإحسان إلى عباده، وكثرة العج والثج، فهذا الحج قد يفضل على الجهاد.

وقد يحمل عليه ما روي عن الصحابة من تفضل الحج على الجهاد، كما سبق.

وإن وقع عمل الحج في جزء يسير من العشر، ولم يؤت به على الوجه الكامل من البر، فإن الجهاد حينئذ أفضل منه.

ويدل عليه - أيضاً -: أن النبي لما سئل عن عمل يعدل الجهاد، فقال: ((هل تستطيع إذا خرج المجاهد، أن تقوم فلا تفتر، وتصوم فلا

ص: 14

تفطر؟)) .

فدل على أن العمل من [فتور] في أي وقت كانَ يعدل الجهاد، فإذا وقع هذا العمل الدائم في العشر بخصوصه في عدد أيامه من سائر السنة، إلا من أفضل الجهاد بخصوصه كما تقدم.

ولهذا كان سعيد بن جبير - وهو راوي هذا الحديث، عن ابن عباس - إذا دخل العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه.

وروي عنه، أنه قال: لا تطفئوا مصابيحكم في العشر - يعجبه العبادة.

فإن قيل: هل المراد: تفضيل العمل في هذه العشر على العمل في كل عشر غيره من أيام الدنيا، فيدخل في ذلك عشر رمضان وغيره، أم على العمل في أكثر من عشر أخر من الأيام، وإن طالت المدة؟

قيل: أما تفضيل العمل فيهِ على العمل في كل عشر غيره، فلا شك في ذَلِكَ.

ويدل عليه: ما خرجه ابن حبان في ((صحيحه)) ، من حديث جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة)) . فقال رجل: يا رسول الله، هو أفضل أو عدتهن جهاد في سبيل الله؟ قالَ:((هوَ أفضل من عدتهن جهاد في سبيل الله عز وجل) .

فيدخل في ذلك تفضيل العمل في عشر ذي الحجة على العمل في

ص: 15

جميع أعشار الشهور كلها، ومن ذلك عشر رمضان.

لكن فرائض عشر ذي الحجة أفضل من فرائض سائر الأعشار، ونوافله أفضل من نوافلها، فأما نوافل العشر فليست أفضل من فرائض غيره، كما سبق تقريره في الحج والجهاد.

وحينئذ؛ فصيام عشر رمضان أفضل من صيام عشر ذي الحجة؛ لأن الفرض أفضل من النفل.

وأما نوافل عشر ذي الحجة فأفضل من نوافل عشر رمضان، وكذلك فرائض عشر ذي الحجة تضاعف أكثر من مضاعفة فرائض غيره.

وقد كان عمر يستحب قضاء رمضان في عشر ذي الحجة؛ لفضل أيامه، وخالفه في ذَلِكَ علي، وعلل قوله باستحباب تفريغ أيامه للتطوع وبذلك علله أحمد وإسحاق، وعن أحمد في ذَلِكَ روايتان.

وأما تفضيل العمل في عشر ذي الحجة على العمل في أكثر من عشرة أيام من

غيره، ففيه نظر.

وقد روي ما يدل عليهِ:

فخرج الترمذي وابن ماجه من رواية النهاس بن قهم، عن قتادة، عن ابن

المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي قالَ:((ما من أيام احب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كل يوم منها بسنة، وكل ليلة منها بليلة القدر)) .

ص: 16

والنهاس، ضعفوه.

وذكر الترمذي عن البخاري، أن الحديث يروى عن قتادة، عن ابن المسيب - مرسلا.

وروى ثوير بن أبي فاختة - وفيه ضعف -، عن مجاهد، عن ابن عمر، قالَ: ليس يوم أعظم عند الله من يوم الجمعة، ليس العشر؛ فإن العمل فيهِ يعدل عمل سنة.

وممن روي عنه: أن صيام كل يوم من العشر يعدل سنة: ابن سيرين وقتادة وعن الحسن: صيام يوم منه يعدل شهرين.

وروى هارون بن موسى النحوي: سمعت الحسن يحدث، عن أنس، قالَ: كان يقال في أيام العشر بكل ألف يوم، ويوم عرفة عشرة الآف يوم.

وفي ((صحيح مسلم)) ، من حديث أبي قتادة - مرفوعا - ((إن صيامه كفارة سنتين)) .

وهذه النصوص: تدل على أن كل عمل في العشر فإنه أفضل من العمل في غيره، أما سنة أو أكثر من ذلك أو اقل. والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة ذلك كله.

ص: 17

وحديث جابر الذي خرجه ابن حبان: يدل على أن أيام العشر أفضل من الأيام مطلقا.

وقد خرجه أبو موسى المديني من الوجه الذي خرجه ابن حبان، بزيادة فيهِ، وهي:((ولا ليالي أفضل من لياليهن)) .

وفي ((مسند البزار)) من وجه آخر، عن جابر، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قالَ:((أفضل أيام الدنيا العشر)) .

وروي مرسلاً.

وقيل: إنه أصح.

وقد سبق قول ابن عمر في تفضيل أيام العشر على يوم الجمعة، الذي هوَ أفضل أيام الدنيا.

وقال مسروق في قوله: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} هي أفضل أيام السنة.

وهذه العشر تشتمل على يوم عرفة.

وفي ((صحيح ابن حبان)) عن جابر - مرفوعا -: ((إنه أفضل أيام الدنيا)) وفيه: يوم النحر.

وفي حديث عبد الله بن قرط، عن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ:((أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر)) .

خرّجه أبو داود وغيره.

ص: 18

وقد سبق في الحديث المرفوع: أن صيام كل يوم [منه] بسنة، وقيام كل ليلة منه يعدل ليلة القدر.

وهذا يدل على أن عشر ذي الحجة أفضل من عشر رمضان، لياليه وأيامه.

وقد زعم طائفة من أصحابنا: أن ليلة الجمعة أفضل من ليلة القدر.

وقد تقدم عن ابن عمر، أن أيام العشر أفضل من يوم الجمعة، فلا يستنكر حينئذ تفضيل ليالي عشر ذي الحجة على ليلة القدر.

وعلى تقدير أن لا يثبت ذلك، فقال بعض أعيان أصحابنا المتأخرين: مجموع عشر ذي الحجة أفضل من مجموع عشر رمضان، وإن كان في عشر رمضان ليلة لا تفضل عليها غيرها. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وروى سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن كعب: أحب الزمان إلى الله الشهر الحرام، وأحب الأشهر الحرم إلى الله ذو الحجة، وأحب ذي الحجة إلى الله العشر الأول.

وروي عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة – مرفوعا، ولا يصح، وكذا قال سعيد بن جبير: ما من الشهور أعظم حرمة من ذي الحجة.

وفي ((مسند البزار)) من حديث أبي سعيد - مرفوعا -: ((سيد الشهور

ص: 19

رمضان، وأعظمها حرمة ذو الحجة)) .

وفي إسناده مقال.

وفي ((مسند الإمام أحمد)) ، عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - في خطبته في حجة الوداع يوم النحر -:((ألا إن أحرم الأيام يومكم هذا، وأحرم الشهور شهركم هذا، وأحرم البلاد بلدكم هذا)) .

وروي هذا من حديث جابر، ووابصة، ونبيط بن شريط وغيرهم - أيضاً.

وهذا كله يدل على أن شهر ذي الحجة أفضل الأشهر الحرم؛ حيث كانَ أعظمها حرمة.

وروي عن الحسن: أن أفضلها المحرم.

وأما ما قاله بعض الفقهاء الشافعية: أن أفضلها رجب: فقوله ساقط مردود. والله تعالى أعلم.

ص: 20

‌12 - باب

التكبير أيام منى، وإذا غدا إلى عرفة

وكان عمر يكبر في قبته بمنى فيسمع أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتَّى ترتج منى تكبيرا.

وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات، وعلى فراشه، وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه، تلك الأيام جمعا.

وكانت ميمونة تكبر يوم النحر.

وكان النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد.

قد تقدم: أن الأيام المعدودات التي أمر الله بذكره فيها هي أيام منى.

وهل هي الأربعة كلها، أو أيام الذبح منها؟ فيهِ خلاف سبق ذكره.

وهو مبني على أن ذكر الله فيها: هل هوَ ذكره على الذبائح. أو أعم من ذَلِكَ؟

والصحيح: أنه أعم من ذَلِكَ.

وفي ((صحيح مسلم)) ، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ في أيام منى:((إنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل) .

وذكر الله في هذه الأيام نوعان:

أحدهما: مقيد عقيب الصلوات.

ص: 21

والثاني: مطلق في سائر الأوقات.

فأما النوع الأول:

فاتفق العلماء على أنه يشرع التكبير عقيب الصلوات في هذه الأيام في الجملة، وليس فيهِ حديث مرفوع صحيح، بل إنما فيهِ آثار عن الصحابة ومن بعدهم، وعمل المسلمين عليهِ.

وهذا مما يدل على أن بعض ما أجمعت الأمة عليهِ لم ينقل إلينا فيهِ نص صريح عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، بل يكتفى بالعمل به.

وقد قالَ مالك في هذا التكبير: إنه واجب.

قالَ ابن عبد البر: يعني وجوب سنة.

وهو كما قالَ.

وقد اختلف العلماء في أول وقت هذا التكبير وآخره.

فقالت طائفة: يكبر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق.

فإن هذه أيام العيد، كما في حديث عقبة بن عامر، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قالَ:

((يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام)) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وصححه.

وقد حكى الإمام أحمد هذا القول إجماعاً من الصحابة، حكاه عن عمر وعليّ وابن مسعود وابن عباس.

فقيل له: فابن عباس اختلف عنه؛ فقالَ: هذا هوَ الصحيح عنه، وغيره لا يصح عنه.

نقله الحسن بن ثواب، عن أحمد.

ص: 22

وإلى هذا ذهب أحمد؛ لكنه يقول: إن هذا في حق أهل الأمصار، فأما أهل الموسم فإنهم يكبرون من صلاة الظهر يوم النحر؛ لأنهم قبل ذَلِكَ مشتغلون بالتلبية.

وحكاه عن سفيان بن عيينة، وقال: هوَ قول حسن.

ويمتد تكبيرهم إلى آخر أيام التشريق - أيضاً - على المشهور عنه.

ونقل حرب، عنه، أنهم يكبرون إلى صلاة الغداة من آخر أيام التشريق.

وممن فرق بين الخارج وأهل الأمصار: أبو ثور. وروى الخضر الكندي، عن

عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، قال: إذا كان عليه تكبير وتلبية بدأ بالتكبير، ثم التلبية.

قال أبو بكر بن جعفر: لم يروها غيره.

قلت: الخضر هذا، غير مشهور، وهو يروي عن عبد الله بن أحمد المناكير التي تخالف روايات الثقات، عنه، والذي نقل الثقات، عن أحمد، أن الحاج لا يكبر حتى يقطع التلبية، فكيف يجتمعان عليهِ؟

وقد حملها أبو بكر إلى ما إذا اخر الحاج رمي جمرة العقبة حتَّى صلى الظهر؛ فإنه يجتمع عليهِ في صلاة الظهر - حينئذ - تلبية وتكبير.

ووجهه: بأن هذا الوقت وقت التكبير، وإنما

ص: 23

صار وقت تلبية في حق هذا لتأخيره الرمي، وهو نوع تفريط منه، فلذلك بدأ بالتكبير قبل التلبية.

والاجماع الذي ذكره أحمد، إنما هو في ابتداء التكبير يوم عرفة من صلاة الصبح.

أما اخر وقته، فقد اختلف فيه الصحابة الذين سماهم.

فأما علي، فكان يكبر من صبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق.

وهي الرواية التي صححها الإمام أحمد، عن ابن عباس.

وكذلك روي عن عمر.

وروي، عنه: إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق.

وأنكره يحيى القطان.

وإلى قول علي ذهب الثوري وابن أبي ليلى وشريك وإسحاق.

ولم يفرق بين أهل منى وغيرها.

وكذلك أكثر العلماء، وهو قول الثوري.

وكذلك قال: إذا أجتمع التكبير والتلبية بدأ بالتكبير.

وأما ابن مسعود، فإنه كان يكبر من صلاة الغداة يوم عرفة إلى الصلاة العصر يوم النحر.

وهو قول أصحابه، كالأسود وعلقمة، وقول النخعي وأبي حنيفة.

وروى خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: التكبير من الصلاة الظهر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق.

وهذه الرواية التي ضعفها أحمد، وذكر أنها مختلفة.

ص: 24

قال عبد الرزاق: وبلغني عن زيد بن ثابت - مثله.

وعن الحسن، قال: يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر من يوم النفر الأول.

وروى العمري، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الفجر، من آخر أيام التشريق.

وروى الواقدي بأسانيده، عن عثمان وابن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد -

نحوه.

وعن عطاء، أن الأئمة كانوا يكبرون صلاة الظهر يوم النحر، يبتدؤن بالتكبير كذلك إلى آخر أيام التشريق.

وقد روي عن عمر بن عبد العزيز التكبير من صلاة الظهر يوم النحر إلى صبح آخر أيام التشريق.

وإليه ذهب مالك والشافعي – في أشهر أقواله.

وله قول آخر كقول علي ومن وافقه.

وله قول ثالث: بيدأ من ليلة النحر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق.

والمحققون من أصحابه على أن هذه الاقوال الثلاثه في حق أهل الأ مصار، فأما أهل الموسم بمنى، فإنهم يبدءون بالتكبير عقيب صلاة الظهر يوم النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق بغير خلاف، ونقلوه عن الشافعي.

وهذا يوافق قول أحمد في ابتدائه.

وأختار جماعة من أصحابه القول بأن ابتداءه في الأمصار من صبح

ص: 25

يوم عرفة وانتهاءه عصر آخر يوم من أيام التشريق.

منهم المزني وأبن سريج وابن المنذر والبيهقي وغيرهم من الفقهاء المحدثين منهم.

قالوا: وعليه عمل الناس في الأمصار.

وفي المسألة للسلف أقوال أخر.

وفي الباب حديث مرفوع، لايصح إسناده.

وخرجه الحاكم من حديث علي وعمار.

وضعفه البيهقي، وهو كما قال.

وقد أشار البخاري إلى مسألتين من مسائل هذا التكبير.

إحداهما:

أن التكبير يكون خلف الفرائض.

وهل يكبر خلف صلاة التطوع؟

فقد تقدم في باب الماضي، عن محمد بن علي –وهو: أبو جعفر -، أنه كانَ يكبر خلف النوافل.

وإلى قوله ذهب الشافعي – في أشهر قوليه – وابن المنذر.

وقال أكثر العلماء: لايكبر عقب النوافل.

وأختلفوا في التكبير عقب صلاة عيد النحر:

فقال مجاهد: يكبر.

وقال أحمد: إن ذهب رجل إلى ذا فقد روي فيه عن بعض التابعين، والمعروف في المكتوبة.

وقال أبو بكر ابن جعفر –من أصحابنا -: يكبر؛ لأن صلاة العيد عندنا فرض كفاية، فهي ملحقة

ص: 26

بالفرائض، وهو قول إسحاق بن راهويه، وحكاه عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز والشعبي وعطاء الخراساني وغيرهم.

وللشافعي قولان.

واختلفوا: هل يكبر من صلى الفرض وحده؟ على قولين.

أحدهما: لايكبر، وهومروي عن ابن عمر.

وذكره سفيان الثوري، عن أبي جعفر، عن أنس.

وقال ابن مسعود: ليس بالتكبير في أيام التشريق على الواحد والاثنين، التكبير على من صلى في جماعة.

وممن قال: لايكبر إذا صلى الفرض وحده: الثوري وأبو حنيفة وأحمد - في

رواية.

والقول الثاني: وهو قول الشعبي والنخعي والأوزاعي والثوري – في رواية

أخرى – والحسن بن صالح ومالك والشافعي وأحمد في رواية أخرى.

وقال هؤلاء كلهم: يكبر في السفر والحضر.

وقال أبو حنيفة: لايكبر المسافر إلا إذا اقتدى بالمقيم، تبعاً له، واتفقوا على أن الحاج يكبرون بمنى.

المسألة الثانية:

أن النساء كن يكبرن إذا صلين مع الرجال في المسجد خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز – يعني: مسجد المدينة - في ليالي أيام التشريق.

ص: 27

وهذا يدل على أن النساء إنما كن يشهدن المساجد بالليل، كما سبق.

ولا خلاف في أن النساء يكبرن مع الرجال تبعاً، إذا صلين معهم جماعة، ولكن المرأة تخفض صوتها بالتكبير.

وإن صلت منفردة، ففي تكبيرها الرجل المنفرد، بل هي أولى بعدم التكبير.

وإن صلى النساء جماعة، ففي تكبيرهن قولان – أيضاً -، وهما روايتان عن الثوري وأحمد.

ومذهب أبي حنيفة: لايكبرن.

ومذهب مالك والشافعي: يكبرن.

النوع الثاني:

التكبير المطلق، الذي لا يتقيد بوقت.

وقد ذكر البخاري عن عمر وابن عمر، أنهما كانا يكبران بمنى – يعني: في غير إدبار الصلوات -، وأن الناس كانوا يكبرون بتكبير عمر حتى ترتج منى.

وعن ميمونة، أنها كانت تكبر يوم النحر.

وقد روى أبو عبيد: حدثني يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، أن عمر كان يكبر في قبته بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، فيسمعه أهل السوق فيكبرون حتى ترتج منى تكبيراً.

وخرجه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمر بن دينار: سمعت

ص: 28

عبيد بن عمير - فذكره بمعناه.

وخرجه وكيع في ((كتابه)) ، عن طلحة، عن عطاء.

وخرجه - أيضاً -، عن عبد الله بن نافع، عن أبيه، أن عمر كان يكبر تلك الأيام بمنى، ويقول: التكبير واجب على الناس، ويتأول هذه الآية:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أيام مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] .

وذكر مالك في ((الموطأ)) ، انه بلغه، أن عمر بن الخطاب خرج الغد من يوم النحر، حين ارتفع النهار شيئاً، فكبر الناس بتكبيره، ثم خرج حين زاغت الشمس، فكبر، فكبر الناس بتكبيره، حتى يتصل التكبير ويبلغ البيت، فيعلم أن عمر قد خرج يرمي.

وهذا منصوص الشافعي، قال في المصلي: إذا سلم كبر خلف الفرائض والنوافل وعلى كل حال.

وذكر في ((الأم)) من هذا الباب، أنه يكبر الحائض والجنب وغير المتوضىء في جميع الساعات من الليل والنهار ومذهب مالك، انه لا يكبر في أيام التشريق في غير دبر الصلوات. قال: كذلك كان من يقتدي به يفعل.

ذكره صاحب ((تهذيب المدونة)) .

وتأول بعض أصحابه تكبير عمر بمنى على أنه كان عند رمي الجمار وهو تأويل فاسد ولم يذكر أصحابنا التكبير في عيد النحر إلا في أدبار الصلوات، غير

ص: 29

أنهم ذكروا إظهار التكبير في ليلة العيد، وفي الخروج إلى المصلى إلى أن يخرج الإمام، والتكبير مع الإمام إذا كبر في خطبته.

وحكى بعضهم خلافاً عن أحمد في التكبير في حال الرجوع من المصلي إلى المنزل.

خرج البخاري في هذا الباب حديثين:

الأول:

ص: 30

970 -

ثنا أبونعيم: ثنا مالك بن أنس، حدثني محمد بن أبي بكر الثقفي، قال: سألت أنساً - ونحن غاديان من منى إلى عرفات – عن التلبية: كيف كنتم تصنعون مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: كانَ يلبي الملبي، لاينكر عليهِ، ويكبر المكبر، لا ينكر عليهِ 0

وقد أعاده في ((كتاب الحج)) ، عن عبد الله بن يوسف، وفي حديثه: كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله ? صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان يهل منا المهل فلا ينكر

عليه، ويكبر منا المكبر، فلا ينكر عليه.

في هذا الحديث: دليل على أن إظهار التكبير يوم عرفة مشروع، ولو كان صاحبه محرماً قاصداً عرفة للوقوف بها، مع أن شعار الإحرام التلبية.

فإذا لم ينكر عليه إظهار التكبير للمحرم الذي وظيفته إظهار التلبية، فلغير المحرم من أهل الأمصار أولى.

فهذا من أحسن ما

ص: 30

يستدل به على استحباب إظهار التكبير يوم عرفة في الأمصار وغيرها؛ فإن يوم عرفة أول أيام العيد الخمسة لأهل الإسلام؛ ولذلك يشرع إظهار التكبير في الخروج إلى العيدين في الأمصار.

وقد روي ذلك عن عمر وعليّ وابن عمر وأبي قتادة، وعن خلق من التابعين ومن بعدهم.

وهو إجماع من العلماء لايعلم بينهم فيه خلاف في عيد النحر، إلا ما روى

الأثرم، عن أحمد، أنه لا يجهر به في عيد النحر، ويجهر به في عيد الفطر.

ولعل مراده: أنه يجهر به في عيد النحر دون الجهر في عيد الفطر؛ فإن تكبير عيد الفطر – عنده – آكد.

وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: كانوا في عيد الفطر أشد منهم في الأضحى.

يعني: في التكبير.

وروي عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، انه سمع تكبير الناس يوم

العيد، فقال: أيكبر الإمام؟ قالوا: لا. قالَ: ما شأن الناس أمجانين؟ وشعبة هذا، متكلم فيه.

ولعله أراد التكبير في حال الخطبة.

وروي التكبير في الخروج يوم الفطر عن أبي أمامة وغيره من الصحابة.

خرجه الجوزجاني بإسناد ضعيف.

ص: 31

وعن النخعي وأبي حنيفة، أنه لا يكبر في عيد الفطر بالكلية.

وروي عنهما موافقة الجماعة.

وقال أحمد في التكبير في عيد الفطر: كأنه واجب؛ لقوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] .

وهذه الآية نظيرها قوله تعالى في سياق ذكر الهدايا: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37] ، فأستوى العيدان في ذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم.

الحديث الثاني:

ص: 32

971 -

ثنا عمر بن حفص: ثنا أبي، عن عاصم، عن حفصة، عن

ص: 32

أم عطية، قالت: كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى نخرج البكر من خدرها، وحتى نخرج الحيض، فيكن خلف الناس، فيكبرون بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته.

في هذا الحديث: دليل على أن إظهار التكبير للرجال مشروع في يوم العيد، ولولا إظهاره من الرجال لما كبر النساء خلفهم بتكبيرهم.

وإظهار التكبير يكون في حال انتظار الإمام قبل خروجه.

وهذا مما يستدل به على أن التكبير لا ينقطع ببلوغ المصلى، كما هو قول طائفة.

ويكون في حال تكبير الإمام في خطبته؛ فإن الناس يكبرون معه، كما كانَ ابن عمر يجيب الإمام بالتكبير إذا كبر على المنبر.

وكان عطاء يأمر بذلك بقدر ما يسمعون أنفسهم.

خرجه الجوزجاني.

وفيه –أيضاً -: ما يدل على ان إظهار الدعاء مشروع في ذلك اليوم، ولعل إظهار الدعاء حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في خطبته، ويؤمن الناس على دعائه.

وروي عن أبي موسى الأشعري، أنه كان يقول في خطبتة في العيدين: هذا يوم لا يرد فيه الدعاء، فارفعوا رغبتكم إلى الله عز وجل، ثم يرفع يديه ويدعو.

خرجه الفريابي.

ص: 33

‌13 - باب

الصلاة إلى الحربة يوم العيد

ص: 34

972 -

حدثنا محمد بن بشار: ثنا عبد الوهاب: ثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان تركز له الحربة قدامه يوم الفطر والنحر، ثم يصلي.

قد سبق هذا الحديث والكلام عليه في ((أبواب: سترة المصلي)) .

وذكرنا أن ابن ماجه خرجه من رواية الأوزاعي، عن نافع، وفي أول حديثه زيادة:((أن العنزة كانت تحمل بين يديه)) ، وفي آخره:((أن المصلىكان فضاءً، ليس شيء يستتر به)) .

ولعل هذه الزيادة في آخره مدرجة.

وقد خرجه البخاري بدونهما في الباب الآتي.

وتقدم –أيضاً - قول مكحول: إنما كانت تحمل الحربة مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد؛ لأنه كانَ يصلي إليها.

وفي هذا: إشارة إلى أنه لم يكن يفعل ذلك تعاظماً وتكبراً، كما كان أمراء بني أمية ونحوهم يفعلونه.

وقد يريد به –أيضاً -: أن الحربة من السلاح، والسلاح يكره حمله في

ص: 34

العيدين، إلا من حاجه، كما سبق ذكره، والحاجه إلى الحربة الصلاة إليها في الفضاء.

فأما إن كان في المصلى سترة مبنيةٌ، فلا حاجه إلى حمل عنزة مع الإمام.

وقد أشار إلى هذا جماعة من العلماء من أصحابنا وغيرهم، منهم: أبو بكر

عبد العزيز بن جعفر.

ولا يقال: فقد يحتاج إليها الإمام ليعتمد عليها في حال خطبته؛ لأن هذا لم ينقل عن النَّبيّ ? صلى الله عليه وسلم، أنه كانَ يعتمد في خطبته للعيدين على العنزة من وجه يعتمد عليهِ.

فقد رواه الشافعي، عن إبراهيم بن محمد –هو: ابن أبي يحيى -، عن ليث، عن عطاء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذاخطب يعتمد على عنزة إعتماداً.

وفي رواية: على عنزة أو عصاً. وهذا مرسل ضعيف.

وقد سبق من حديث البراء، أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي قوساً أو عصاً، فاتكأ عليه لما خطب.

ص: 35

‌14 - باب

حمل العنزة أو الحربة بين يدي الإمام يوم العيد

ص: 36

973 -

حدثنا إبراهيم بن المنذر: ثنا الوليد: ثنا أبو عمرو –هو: الأوزاعي -: حدثني نافع، عن ابن عمر، قالَ: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغدوإلى المصلى والعنزة بين يديه

تحمل، وتنصب بالمصلى بين يديه، فيصلي إليها.

قد ذكرنا في الباب الماضي معنى حمل العنزة بين يديه، فلا حاجة إلى إعادته.

وسبق الفرق بين العنزة والحربة في ((أبواب السترة)) .

وفي هذه الرواية: التصريح بسماع الأوزاعي لهذا الحديث من نافع.

وقد رواه الوليد بن مزيد، عن الأوزاعي: حدثني الزهري، عن نافع - فذكره.

ص: 36

وقد ذكر غير واحد: أن الأوزاعي لم يصح له سماع من نافع، منهم ابن معين ويحيى بن بكير.

وقيل: سمع منه حديثا واحداً.

وقد قيل: إن الشاميين كانوا يتسمحون في لفظة ((أنا)) ، و ((ثنا)) ، ويستعملونها في غير السماع.

ذكره الإسماعيلي وغيره.

ص: 37

‌15 - باب

خروج الحُيض إلى المُصلى

ص: 38

974 -

حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية، قالت: أمرنا أن نخرج العواتق وذوات الخدور.

وعن أيوب، عن حفصة - بنحوه، وزاد في حديث حفصة: أو قالت: العواتق وذوات الخدور ويعتزلن الحُيض المصلى.

قد سبق هذا الحديث بتمامه في ((كتاب الحيض)) في ((باب: شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين)) ، وفيه: أن حفصة قالت لأم عطية: الحيض؟ فقالت: أليست تشهد عرفة وكذا وكذا.

وتقدم هنالك الكلام عليه مستوفى.

وفي الحديث: أمر النساء بالخروج إلى العيدين حتى شوابهن وذوات الخدور

منهن.

وقد تقدم تفسير ((العواتق)) وأنها جمع عاتق، وهي البكر البالغ التي لم

ص: 38

تُزوج.

وفي خروج النساء إلي العيدين أحاديث كثيرة، قد سبق بعضها، ويأتي بعضها - أيضاً.

وقد اختلف العلماء فيه على أقوال:

أحدها: أنه مستحب، وحكي عن طائفة من السلف، منهم علقمة.

وروي عن ابن عمر، أنه كان يخرج نساءه. وروى عنه، أنه كان يحبسهن.

وروى الحارث، عن علي قال: حق على كل ذات نطاق أن تخرج في العيدين.

ولم يكن يرخص لهن قي شيء من الخروج إلا في العيدين.

وهو قول إسحاق وابن حامد من أصحابنا.

وقال أحمد –في رواية ابن منصور -: لا أحب منعهن إذا أردن الخروج.

والثاني: أنه مباح، غير مستحب ولا مكروه، حكى عن مالك، وقاله طائفة من أصحابنا.

الثالث: أنه مكروه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول النخعي ويحيى الأنصاري والثوري وابن المبارك.

وأحمد –في رواية حرب -، قال: لايعجبني في زماننا؛ لانه فتنةٌ واستدل هؤلاء بأن الحال تغير بعد النَّبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقد قالت عائشة: لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن

المساجد، وقد سبق.

ص: 39

والرابع: أنه يرخص فيه للعجائز دون الشواب، روي عن النخعي –أيضاً - وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، ونقله حنبل عن أحمد.

وروي عن ابن عباس بإسناد فيه ضعف، أنه أفتى بذلك سعيد بن العاص، فأمر مناديه أن لا تخرج يوم العيد شابة، وكل العجائز يخرجن.

الخامس: - قول الشافعي -: يستحب الخروج للعجائز ومن ليست من ذوات الهيئات.

وفسرأصحابه ذوات الهيئات بذوات الحسن والجمال، ومن تميل النفوس إليها، فيكره لهن الخروج؛ لما فيهِ من الفتنة.

ص: 40

‌16 - باب

خروج الصبيان إلى المُصلى

ص: 41

975 -

حدثنا عمرو بن عباس: ثنا عبد الرحمن: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن ابن عابس، قال: سمعت ابن عباس يقول: خرجت مع النبي ? صلى الله عليه وسلم يوم فطر – أو أضحى -، فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء، فوعظهن وذكرهن، وأمرهن بالصدقة.

ص: 41

977 -

حدثنا مسدد: ثنا يحيى: قال سفيان: حدثني عبد الرحمن بن عابس، قال: سمعت ابن عباس - وقيل له -: أشهدت العيد مع رسول ألله صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: نعم ' ولولا مكاني من الصغر ما شهدته' خرج حتَّى اتى العلم الذي عندَ دار كثير بن الصلت'فصلى'ثُمَّ خطب ثُمَّ أتى النساء ومعه بلال فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة فرأيتهن يهوين بايديهن يقذفنه في ثوب بلال، ثُمَّ انطلق هوَ وبلال إلى بيته.

قد سبق هذا الحديث في ((باب: وضوء الصبيان وصلاتهم)) وذكرنا هنالك مايتعلق به من خروج الصبيان إلى العيد؛ وإن هذا الحديث يدل على أن الأصاغر من الصبيان لم يكونوا يشهدون العيد إلا من كانَ منهم أقارب الإمام فلهم خصوصية على غيرهم.

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى العيد ومعه من أهله كبارهم وصغارهم.

خرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) عن ابن أخي ابن وهب، عن عمه، عن

عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان

ص: 42

يخرج في العيدين مع الفضل بن عباس وعبد الله بن عباس وعلي وجعفر والحسن والحسين وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة وأيمن بن أم أيمن، رافعاً صوته بالتهليل والتكبير، فيأخذ طريق الحدادين حتى يأتي المصلى، فإذا فرغ رجع على الحذائين حتى يأتي منزله.

وقال: في القلب من هذا الخبر، وأحسب الحمل فيه على العمري، إن لم يكن الغلط من ابن اخي ابن وهب. انتهى.

والحمل فيه على ابن أخي ابن وهب؛ فقد رواه جماعة عن ابن وهب، وعن العمري ليس فيهِ شيء من هذه الألفاظ المستنكرة.

وروى حجاج بن أرطاة، عن عبد الرحمن بن عابس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج نساءه وبناته في العيدين.

واحتج به إسحاق بن راهويه.

وخرج الإمام أحمد من رواية حجاج - أيضاً -، عن عطاء عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين ويخرج أهله.

والعلم الذي عند دار كثير بن الصلت، ودار كثير بن الصلت، الظاهر أن ذلك كله محدث، أحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم في مكان المصلى.

وقد تقدم أن المصلى كان فضاء، ليس فيه سترة؛ فلذلك كانَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم تحمل لهُ الحربة؛ ليصلي إليها.

ص: 43

‌17 - باب

استقبال الإمام الناس [في خطبة العيد]

وقال أبو سعيد: قام النبي ? صلى الله عليه وسلم مقابل الناس.

حديث أبي سعيد، قد خرجه فيما سبق.

ص: 44

976 -

حدثنا أبو نعيم: ثنا محمد بن طلحة، عن زبيد، عن الشعبي، عن

البراء، قال: خرج النبي ? صلى الله عليه وسلم يوم الاضحى إلى البقيع، فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه، وقال:((إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد وافق سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك، فإنه شيء عجله لأهله، ليس من النسك في شيء)) . فقام رجل، فقال: يارسول الله، إني ذبحت، وعندي جذعة خير من مسنة. قال:((أذبحها، فلا تفي عن أحد بعدك)) .

في هذا الحديث: أن خروجه وصلاته كانت بالبقيع، وليس المراد به: أنه صلى في المقبرة، وإنما المراد: أنه صلى في الفضاء المتصل بها، واسم البقيع يشمل الجميع 0

وقد ذكر ابن زبالة، بإسناد له، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد خارج المدينة في خمسة مواضع، حتَّى استقر من صلاته في الموضع الذي عرف به، وصلى فيه الناس بعده.

ص: 44

وأما استقباله الناس، فالمراد به: بعد الصلاة عند الخطبة.

وذكر استقباله الناس: يدل على أنه لم يرق منبراً، وأنه كان على الأرض والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 45

‌19 - باب

موعظة الإمام النساء يوم العيد

ص: 46

978 -

حدثنا اسحاق: ثنا عبد الرزاق: ثنا ابن جريج: أخبرني عطاء، عن جابر بن عبد الله، قالَ: سمعته يقول: قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر فصلى، فبدأ بالصلاة، ثم خطب، فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن، وهو يتوكأ على بلال، وبلال باسط

ثوبه، يلقي فيه النساء الصدقة.

قلت لعطاء: زكاة يوم الفطر؟ قالَ: لا. ولكن صدقة يتصدقن حينئذ، تلقي فتخها ويلقين.

قلت: أترى حقا على الإمام ذلك، يأتيهن ويذكرهن؟ قالَ: إنَّهُ لحق عليهم، وما لهم لا يفعلون؟

ص: 46

979 -

قالَ ابن جريج: واخبرني حسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس، قالَ: شهدت الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، يصلونها قبل الخطبة، ثُمَّ يخطب بعد، خرج النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ?كأني أنظر إليه حين يجلس بيده، ثُمَّ أقبل يشقهم حتَّى جاء

ص: 46

النساء، معه بلال، فقالَ:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12] الآية، ثُمَّ قالَ - حين فرغ منها -:((أأنتن على ذَلِكَ؟)) ، قالت امرأة واحدة منهن، لم يجبه غيرها: نعم - لا يدري حسن من هي – قال: فتصدقن، فبسط بلال ثوبه، ثم قال، هلم لكن فداء أبي وأمي، فيلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال.

قال عبد الرزاق: الفتخ: الخواتيم العظام، كانت في الجاهلية.

قد تقدم الكلام على قوله: ((فلما فرغ نزل)) وأنه يشعر بانه كان على موضع عالٍ.

وموعظته للنساء وهو يتوكأ على بلال: دليل على أن الإمام إذا وعظ قائما على قدميه فله أن يتوكأ على إنسان معه، كما يتوكأ على قوس أو عصا.

وفيه: أن النبي ? صلى الله عليه وسلم لما انتقل من مكان خطبته للرجال، اشار اليهم بيده أن لا يذهبوا.

وفيه: دليل على أن الأولى للرجال استماع خطبة النساء – أيضاً - لينتفعوا بسماعها وفعلها، كما تنتفع النساء.

وقد تقدم: أن الإمام يفرد النساء بموعظة إذا لم يسمعوا موعظة الرجال، وهو قول عطاء ومالك والشافعي وأصحابنا.

ص: 47

وقال النخعي: يخطب قدر ما ترجع النساء إلى بيوتهن.

وهذا يخالف السنة، ولعله لم يبلغه ذلك.

وقد روي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خير الناس بين استماع الخطبة والذهاب.

فروى عطاء، عن عبد الله بن السائب، قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيد، فلما قضى الصلاة قالَ:((أنا نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب)) .

خرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة في ((صحيحه)) ، من رواية الفضل بن موسى السيناني، عن ابن جريج، عن عطاء.

وقال أبو داود: ويروى – مرسلا - عن عطاء، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى عباس الدوري، عن ابن معين، قال: وصله خطأ من الفضل، وإنما هو عن عطاء مرسلا.

وكذا قال أبو زرعة: المرسل هو الصحيح.

ص: 48

وكذا ذكر الإمام أحمد أنه مرسل.

وكان عطاء يقول به، ويقول: إن شاء فليذهب.

قال أحمد: لا نقول بقول عطاء، أرأيت لو ذهب الناس كلهم على من كان يخطب؟

ولم يرخص بالانصراف قبل فراغ الخطبة، ولعله أراد انصراف الناس كلهم، فيصير الإمام وحده فتتعطل الخطبة. والله اعلم.

واختلف قول الإمام أحمد في جواز الكلام والإمام يخطب في العيد، على

روايتين، عنه.

وروى وكيع بإسناده، عن ابن عباس، أنه كره الكلام في أربع مواطن: في الجمعة، والفطر، والأضحى، والاستسقاء، والإمام يخطب.

وكرهه

ص: 49

الحسن وعطاء.

وقال مالك: من صلى مع الإمام فلا ينصرف حتى ينصرف الإمام.

وكذلك مذهبه فيمن حضر من النساء العيدين، فلا ينصرف إلا بإنصراف

الإمام. ذكره في ((تهذيب المدونة)) .

ومذهب الشافعي [من أصحابنا] كقول عطاء: إن استماع الخطبة مستحب غير لازم.

وظاهره: أنه يجوز للرجال كلهم الإنصراف وتعطيل الخطبة؛ لأنها مستحبة غير واجبة.

وقد رأيت كلام أحمد مصرحاً بخلاف ذلك.

وفي حديث ابن عباس، أنه يجوز للإمام أن يشق الناس ويتخطاهم إذا كان له في ذلك مصلحة.

وفي اكتفائه? صلى الله عليه وسلم بأجابة امراة واحدة بعد قوله للنساء: ((أأنتن على ذلك؟)) دليل على أن إقرار واحد من الجماعة في الأمور الدينية كاف، إذا سمع الباقون، وسكتوا عن الإنكار.

وقوله: ((لا يدري حسن من هي)) حسن، هو: ابن مسلم - صاحب طاوس.

وفي رواية مسلم في ((صحيحه)) لهذا الحديث: ((لا يدرى حينئذ من هي)) .

ص: 50

وقد قال بعض الحفاظ المتأخرين: إن رواية البخاري هي الصحيحة.

وقد فسر عبد الرزاق في رواية البخاري ((الفتخ)) بالخواتيم العظام.

وقيل: ((الفتخة)) حلقة من ذهب أو فضة لا فص لها، وربما اتخذ لها فص.

وقيل: إنها تكون في أصابع اليدين والرجلين من النساء.

وهي بفتح الفاء والتاء والخاء المعجمة.

ويفرق بين مفردها وجمعها تاء التأنيث، كأسماء الجنس الجمعي، وهو في المخلوقات كثير كتمرة وتمر، وفي المصنوعات قليل كعمامة وعمام. ومنه: فتخة وفتخ.

وتجمع ((فتخة)) على فتخات وفتوخ - أيضاً.

وفي الحديث: التفدية بالأب والأم، ولبسط القول فيه موضع آخر، يأتي - إن شاء الله سبحانه وتعالى.

ص: 52

وفيه جواز صدقة المرأة بدون إذن زوجها تطوعاً.

ولعل ابن جريج استشكل ذلك فظن أن هذه الصدقة كانت صدقة الفطر؛ لأن الصدقة الواجبة لا إشكال في إخراج المرأة لها بدون إذن زوجها، فسأل عطاء عن ذَلِكَ، فأخبره عطاء أنها لم تكن صدقة الفطر، وإنما هي صدقة تطوع.

ولم يستدل عطاء بأن صدقة الفطر لاتؤخذ فيها القيمة، فلعله كان يرى جواز إخراج القيمة فيها.

وإنما أخذ النبي ? صلى الله عليه وسلم معه بلال ليتوكأ عليهِ، وليحمل الصدقة التي تلقيها النساء.

وفيه: دليل على أن الإمام يستصحب معه المؤذن في الصلوات التي يجمع لها ويخطب، وإن لم يكن يؤذن لها ويقام، ويستعين به.

ص: 52

‌20 - باب

إذا لم يكن لها جلبابٌ في العيد

ص: 53

980 -

حدثنا أبو معمر: ثنا عبد الوارث: ثنا أيوب، عن حفصة بنت سيرين، قالت: كنا نمنع جوارينا أن يخرجن يوم العيد، فجاءت امرأة فنزلت قصر بني خلف، فأتيتها فحدثت أن زوج أختها غزا مع النبي ? صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة، فكانت أختها معه في ست غزوات. قالت: وكنا نقوم على المرضى ونداوي الكلمى فقالت: يارسول الله، أعلى إحدانا بأس إذا لم يكن لها جلباب أن لاتخرج؟ قالَ:((لتلبسها صاحبتها من جلبابها، فليشهدن الخير ودعوة المؤمنين)) .

قالت حفصة: فلما قدمت أم عطية أتيتها، فسألتها: أسمعت في كذا؟ فقالت: نعم بأبي – وقلما ذكرت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إلا قالت: بأبي – قالَ: ((ليخرج العواتق ذوات الخدور)) –أو قالَ: ((العواتق وذوات الخدور)) –شك أيوب – ((والحُيض، فيعتزل الحُيض المصلى، وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين)) .

فقلت لها: الحُيض؟ قالت: نعم، أليس الحائض

ص: 53

تشهد عرفات، وتشهد كذا

وكذا؟

((قصر بني خلف)) بالبصرة، منسوب إلى بني خلف الخزاعيين، وخلف هذا جدُ طلحة الطلحات بن عبد الله بن خلف.

وفي هذه الرواية عن أيوب: بيان أن ذكر الجلباب إنما روته حفصة بنت سيرين، عن امرأة غير مسماة، عن أختها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن بقية الحديث ترويه حفصة، عن أم عطية، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذا رواه ابن علية، عن أيوب – أيضاً.

ونحوه رواه حماد بن زيد وابن عيينة، عن أيوب.

وهذا هو الصحيح عند أبي بكر الخطيب وغيره.

وروى حماد بن سلمة الحديث كله، عن أيوب ويونس بن حبيب ويحيى بن عتيق وهشام في آخرين، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية – بتمامه.

وكذا رواه أبو جعفر الرازي، عن هشام بن حسان، عن محمد وحفصة، كلاهما عن أم عطية – بتمامه.

وقد خرجه مسلم في ((صحيحه)) من حديث عيسى بن يونس، عن هشام، عن حفصة، عن أم عطية –بتمامه، حتى ذكر فيه: قصة الجلباب.

ص: 54

وكذا خرجه الترمذي من حديث منصور بن زاذان، عن ابن سيرين، عن أم عطية –أيضاً.

وخرجه البخاري الحديث بتمامه، وفيه قصة الجلباب في ((كتاب الحيض)) - كما تقدم - من طريق يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين، عن أم عطية –أيضاً.

وفي الحديث: تأكيد في خروج النساء في العيدين.

وقد ورد التصريح بوجوبه.

فخرج الإمام أحمد من رواية طلحة بن مصرف، عن امرأة من بني عبد القيس، عن أخت عبد الله بن رواحة الانصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((وجب الخروج على كل ذات نطاق)) .

وفيه: امرأة لا تُعرف.

وخرج ابن شاهين في ((كتاب العيدين)) من حديث ابن عباس، عن النبي

صلى الله عليه وسلم، قال:((العيدان واجبان على كل حالم، من ذكر وأنثى)) .

وفي إسناده: عمرو بن شمر، ضعيف جدا.

ص: 55

وروى الحارث عن علي، قالَ: حق على كل ذات نطاق أن تخرج في العيدين.

وهذا مما لا يعلم به قائل – أعني: وجوب الخروج على النساء في العيد.

ص: 56

‌21 - باب

اعتزال الحيض المصلى

ص: 57

981 -

حدثنا محمد بن المثنى: ثنا ابن أبي عدي، عن ابن عون، عن محمد: قالت أم عطية: أمرنا أن نخرج، فنخرج الحيَض والعواتق وذوات الخدور - وقال ابن عون: أو العواتق ذوات الخدور - فأما الحيَض، فيشهدون جماعة المسلمين ودعوتهم، ويعتزلن مصلاهم.

قد سبق الكلام على هذا الحديث في ((كتاب الحيض)) وذكرنا وجه اعتزال الحيض المصلى: هل هو لأن حكم المصلى حكم المساجد، أو خشية التضييق على من يصلي من النساء، فيكون الاعتزال في حالة الصلاة خاصة؟

وهو الأظهر. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 57

‌22 - باب

النحر والذبح بالمصلى

ص: 58

982 -

حدثنا عبد الله بن يوسف: ثنا الليث: حدثني كثير بن فرقد، عن نافع عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينحر - أو يذبح – بالمصلى.

وخرجه في ((الأضاحي)) عن يحيى بن بكير، عن الليث، وقال فيهِ: كان يذبح وينحر بالمصلى.

وخرج - أيضاً - من رواية عبيد الله، عن نافع، قال: كان عبد الله ينحر في المنحر.

قال عبيد الله: يعني منحر النبي صلى الله عليه وسلم.

وخرج أبو داود من رواية أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذبح أضحيته بالمصلى، وكان ابن عمر يفعله.

وخرجه ابن ماجه - مختصرا.

وقال الإمام أحمد – في رواية حنبل - هو منكر.

وخرج ابن ماجه بإسناد فيه ضعف، عن سعد القرظ، أن النبي ? صلى الله عليه وسلم ذبح

ص: 58

أضحيته عند طرف الزقاق طريق بني زريق بيده بشفرة.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث المطلب، عن جابر قال: شهدت مع النبي? صلى الله عليه وسلم ?الأضحى بالمصلى، فلما قضى خطبته نزل من منبره، فأتي بكبش فذبحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال:((بسم الله، وبالله، والله أكبر، هذا عني وعمن لم يضحِ من أمتي)) .

وهذا لفظ الترمذي.

وقال: غريب، والمطلب يقال: إنه لم يسمع من جابر.

ص: 59

وخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل، عن علي بن حسين، عن أبي رافع، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه، فذبحه بنفسه بالمدية، - وذكر

الحديث.

وقد يعارض هذه الأحاديث حديث البراء بن عازب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:((إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي، ثم نرجع فننحر)) .

وخرج النسائي من رواية عبد الله بن سليمان: حدثني نافع، عن عبد الله بن

عمر، أن رسول الله ?? صلى الله عليه وسلم نحر يوم الأضحى بالمدينة. قال: وكان إذا لم ينحر ذبح

بالمصلى.

فهذه الرواية يجمع بها بين سائر

ص: 60

الروايات، وأنه كان إذا نحر ما ينحر نحره

بالمدينة، فإن ذبح الغنم ذبحها بالمصلى.

وعلى هذا، فتكون رواية البخاري الصحيحة لحديث ابن عمر:((كان يذبح - أو ينحر – بالمصلى)) – بالشك.

وذبح ابن عمر بالمصلى يدل على أنه كان يرى استحباب ذلك للإمام وغيره.

ومن العلماء [من] يستحب ذلك للإمام، منهم مالك. وقال: لا نرى ذلك على غيره.

وفيه: إشارة إلى أن غيره لا يتأكد في حقه ذلك كالإمام.

وقال سفيان: للإمام أن يحضر أضحيته عند المصلى؛ ليذبح حين يفرغ من الصَّلاة والخطبة؛ لئلا يذبح أحد قبله. قالَ: وذلك من الأمر المعروف.

وروى الواقدي بأسانيد لهُ متعددة، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ يذبح يوم النحر عندَ طرف الزقاق، عندَ دار معاوية.

ثم قال الواقدي: وكذلك يصنع الأئمة عندنا بالمدينة.

وروى - أيضاً - عن عمرو بن عثمان، أنه رأى عمر بن عبد العزيز رحمه الله خطب يوم النحر، ثم أتي بكبش في مصلاه، فذبحه بيده، ثم أمر به فقسم على

المساكين، ولم يحمل إلى منزله منه شيئاً.

ص: 61

‌23 - باب

كلام الإمام والناس في خطبة العيد

فيه ثلاثة أحاديث.

الأول:

ص: 62

983 -

ثنا مسدد: ثنا أبو الأحوص: ثنا منصور، عن الشعبي، عن البراء بن عازب، قالَ: خطبنا رسول الله ?? صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الصَّلاة، فقالَ:((من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم)) .

فقام أبو بردة بن نيار، فقالَ: يا رسول الله، والله لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، فعجلت وأكلت وأطعمت أهلي وجيراني. فقال رسول الله ? صلى الله عليه وسلم:((تلك شاة لحم)) . قال: فإن عندي عناقا جذعة، هي خير من شاتي لحم، فهل تجزي عني؟ قالَ:((نعم، ولن تجزي عن أحد بعدك)) .

مقصود البخاري بهذا الحديث: الاستدلال على جواز أن يكلم الإمام أحدا من الناس أو يكلمه أحد، وهو يخطب للعيد.

ص: 62

وقد تقدم: أن الكلام في حالة خطبة العيد قد كرهه الحسن وعطاء، وأباحه الشافعي وغيره.

وروى الشافعي بإسناد ضعيف، عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يترك المساكين يطوفون يسألون الناس في المصلى في خطبته الأولى يوم الأضحى والفطر، فإذا خطب خطبته الأخيرة أمر بهم فأجلسوا.

قال الشافعي: وسواء الأولى والآخرة، أكره لهم المسألة، وإن فعلوا فلا شيء عليهم فيها، إلا ترك الفضل في الاستماع.

وعن أحمد - في تحريمه وإباحته - روايتان.

ويستثنى من ذلك – عنده -: كلام الإمام لمصلحة، وكلام من يكلمه لمصلحة، كما قال في خطبة الجمعة.

وهذا الذي في هذا الحديث من هذا الجنس، فلا يستدل به على إباحة الكلام مطلقا.

ص: 63

الحديث الثاني:

ص: 64

984 -

ثنا حامد بن عمر، عن حماد، عن أيوب، عن محمد، أن أنس بن مالك قالَ: إن رسول الله ? صلى الله عليه وسلم صلى يوم النحر، ثم خطب، فأمر من ذبح قبل الصلاة أن يعيد ذبحه، فقام رجل من الأنصار، فقالَ: يا رسول الله، جيران لي - إما قالَ: بهم

خصاصة، وإما قالَ: فقراء - وإني ذبحت قبل الصَّلاة، وعندي عناق لي أحب [إلي] من شاتي لحم، فرخص له فيها.

وهذا الحديث، كالذي قبله في الدلالة.

الحديث الثالث:

ص: 64

985 -

ثنا مسلم: ثنا شعبة، عن الأسود، عن جندب، قالَ: صلى النبي ? صلى الله عليه وسلم يوم النحر، ثم خطب، ثم ذبح، فقال:((من ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)) .

في الاستدلال بهذا الحديث على الكلام في خطبة العيد نظر؛ لوجهين:

أحدهما: أنه ليس فيهِ التصريح بأن ذَلِكَ كانَ في الخطبة فيحتمل أنه قاله قبلها، أو بعدها.

ص: 64

وقد وقع في رواية لمسلم في ((صحيحه)) من هذا الحديث ما يدل على أنه قاله قبل الخطبة؛ فإنه قالَ: فلم يعد إن صلى وفرغ من صلاته سلم، فإذا هوَ يرى لحم أضاحي قد ذبحت قبل أن يفرغ من صلاته، فقالَ:((من كانَ ذبح)) – إلى آخره.

ولكن رواه غير واحد، عن شعبة، فذكروا فيهِ: أنه قاله في خطبته.

والثاني: أن هذا لم يكن خطابا لأحد معين، ولا في الحديث أن أحدا قام إليه فخاطبه، كما في حديث البراء وحديث أنس المتقدمين.

وحينئذ؛ فيكون ذكره لهذا في الخطبة من جملة تعليم أحكام الأضاحي، ولا شك في أن الإمام لهُ أن يعلم الناس في خطبة عيد النحر أحكام الأضاحي، وما يحتاجونه إلى معرفته منها.

وحديث البراء وأنس يدلان على ذلك – أيضاً.

وهذا كله مستحب، وقد نص عليه الشافعي وأصحابنا.

وقالوا - أيضاً - يسن للإمام أن يعلم الناس في خطبة عيد الفطر حكم إخراج الفطرة.

وقد روي عن ابن عباس، أنه خطب بالبصرة يوم الفطر، فعلم الناس صدقة الفطر.

خرجه ابن شاهين في ((كتاب العيدين)) .

وفي إسناده: ضعف.

والصحيح: ما روى الحسن، قالَ: خطب ابن عباس في آخر رمضان على منبر البصرة، فقالَ: أخرجوا صدقة صومكم. فكأن الناس لم

ص: 65

يعلموا، فقال: من هاهنا من أهل المدينة؟ قوموا إلى إخوانكم فعلموهم - وذكر بقية الحديث.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.

والحسن، لم يسمع من ابن عباس، ولم يكن بالبصرة يوم خطب ابن عباس.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود، من رواية الزهري، قال: قال عبد الله بن ثعلبة بن صعير: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس قبل الفطر بيومين، فقال:((ادوا صاعاً من بر)) –الحديث.

وفي إسناده: اختلاف كثير على الزهري.

واختلف في عبد الله بن ثعلبة: هل له صحبة، أم لا؟

وقد روى عبد الله ابن الإمام أحمد في ((مسائله)) بإسناده، عن الزهري عن ابن المسيب: كانَ النَّبيّ ?? صلى الله عليه وسلم يخطب قبل الفطر بيومين، ويأمرهم بأداء زكاة الفطر، فيخرجونها قبل الصَّلاة.

وروى الواقدي بأسانيد له متعددة، عن عائشة وابن عمر وأبي سعيد حديثاً طويلاً، فيه: أن النبي ? صلى الله عليه وسلم كان يخطب قبل الفطر بيومين، فيأمر بإخراج صدقة الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى.

دكره، عنه محمد بن سعد.

ص: 66

وذكر ابن سعد، عنه –أيضاً -: ثنا عمرو بن عثمان بن هانئ، قال: سمعت عمر بن عبد العزيز بخناصرة، وهوخليفة، خطب الناس قبل يوم الفطر بيوم، وذلك يوم الجمعة، فذكر الزكاة فحض عليها، وقال:

على كل انسان صاع تمراً ومدان من حنطة. وقال: انه لا صلاة لمن لازكاة له، ثم قسمها يوم الفطر.

ويدل على أن الإمام إنما يعلم الناس حكم صدقة الفطر قبل يوم الفطر:

حديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة.

وقد خرجه البخاري في موضع آخر.

وفيه: دليل واضح على انه كان يامر بذلك قبل يوم الفطر، والافكيف كان يأمر بعد الصلاة بأن تؤدى قبل الصلاة؟

وبقية ما دل عليهِ هذه الأحاديث، من الذبح قبل الصَّلاة، ومن الأمر لمن ذبح قبلها بالاعادة، ومن أحكام الجذع من الضأن والمعز موضعه غيرهذا، ويأتي فيهِ – إن شاء الله سبحانه وتعالى.

ص: 67

‌24 - باب

من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد

ص: 68

986 -

حدثنا محمد: ثنا أبو تميلة يحيى بن واضح، عن فليح بن سلمان، عن سعيد بن الحارث، عن جابر بن عبد الله، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق.

تابعه: يونس بن محمد، عن فليح، عن سعيد، عن أبي هريرة.

وحديث جابر أصح.

كذا في بعض النسخ: ((تابعه: يونس، عن فليح، عن سعيد، عن أبي

هريرة)) وهي رواية ابن السكن.

ويقال: إن ذلك من إصلاحه.

وفي أكثر النسخ: ((تابعه: يونس بن محمد، عن فليح، وحديث جابر

أصح)) .

وذكر أبو مسعود الدمشقي: أن البخاري قالَ: ((تابعه يونس بن محمد، عن فليح. قال: وقال: محمد بن الصلت: عن فليح، عن سعيد، عن أبي هريرة، وحديث جابر أصح)) .

ثم ذكر أن ذلك وهم منه - يعني: متابعة يونس لأبي تميلة -، وإنما رواه يونس ومحمد بن الصلت، كلاهما عن فليح، عن سعيد، عن أبي هريرة.

وكذا رواه الهيثم بن جميل، عن فليح، وأن

ص: 68

البخاري أراد أن يونس قال فيهِ: ((عن جابر)) .

وفيه: إشارة إلى أن غيرهما خالف في ذكر جابر، وإن ذكره أصح، وما ذكره أبو مسعود تصريح بذلك.

وقوله: ((وحديث جابر)) يدل عليه، والله أعلم.

وحاصل الأمر: أنه اختلف في إسناده على فليح:

فرواه، عنه الأ كثرون، منهم: محمد بن الصلت والهيثم بن جميل وسريج، فقالوا: عن سعيد بن الحارث، عن أبي هريرة.

وخالفهم أبو تميلة يحيى بن واضح، فرواه عن سعيد بن الحارث، عن جابر.

وعند البخاري، أن هذا أصح.

وأما يونس بن محمد، فرواه عن فليح، واختلف عنه:

فذكر البخاري والترمذي في ((جامعه)) : أنه رواه عن فليح عن سعيد، عن

جابر، متابعة لأبي تميلة.

وكذا رواه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) .

وكذلك خرجه البيهقي من رواية محمد بن عبيد الله المنادي،

ص: 69

عن يونس.

وقد قال مهنا: قلت لأحمد: هل سمع سعيد بن الحارث من أبي هريرة؟ فلم يقل شيئاً.

وقد ذكر البيهقي: أن أبا تميلة روي عنه، عن فليح، عن سعيد، عن أبي هريرة –أيضاً.

ثم خرجه من طريق أحمد بن عمرو الحرشي، عن أبي تميلة كذلك.

فتبين بهذا: أن ابا تميلة ويونس اختلف عليهما في ذكر: ((أبي هريرة وجابر)) ، وأن اكثر الرواة قال فيه:((عن أبي هريرة)) ، ومنهم من اختلف عليه في ذكر ((أبي هريرة وجابر)) .

وقد ذكر الإمام أحمد، أنه حديث أبي هريرة، وهذا يدل على أن المحفوظ قول من قالَ:((عن أبي هريرة)) ، كما قاله أبو مسعود، خلاف ما قاله البخاري.

وفي الباب: أحاديث أخر، ليست على شرط البخاري.

ومن أجودها: حديث عبد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يوم العيد في طريق، ثم رجع من طريق آخر.

خرجه أبو داود.

وخرجه ابن ماجه، وعنده: أن ابن عمر كان يخرج إلى العيد في طريق، ويرجع في أخرى، ويزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان

ص: 70

يفعله.

وقد استغربه الإمام أحمد، وقال: لم أسمع هذا قط.

وقال –أيضاً -: العمري يرفعه، ومالك وابن عيينة لا يرفعانه.

يعني: يقفانه على ابن عمر من فعله.

قيل له: قد رواه عبيد الله –يعني: أخا العمري، عن نافع، عن ابن عمر؟

فأنكره، وقال: من رواه؟ قيل لهُ: عبد العزيز بن محمد – يعني: الدراوردي.

- قالَ: عبد العزيز يروي مناكير.

ص: 71

وقال البرقاني: سألت الدارقطني: هل رواه عن نافع غير العمري؟ قَالَ: من وجه يثبت، لا. ثُمَّ قالَ: روي عن مالك، عن نافع، ولكن لايثبت. انتهى.

والصحيح عن مالك وغيره: وقفه دون رفعه.

وكذا رواه وكيع عن العمري - موقوفا.

وقد استحب كثير من أهل العلم للإمام وغيره إذا ذهبوا في طريق إلى العيد أن يرجعوا في غيره، وهو قول مالك والثوري والشافعي وأحمد.

وألحق الجمعة بالعيد في ذلك.

ولو رجع من الطريق الذي خرج منه لم يكره.

وفي ((سنن أبي داود)) حديث، فيه: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يفعلون ذلك في زمانه..

وتكلم الناس في المعنى الذي لأجله يسحب مخالفة الطريق، وكثر قولهم في ذلك، وأكثره ليس بقوي.

وقد روي في حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغدو من طريق ويرجع من اخر؛ ليتسع الناس في الطريق.

وعبد الرحمن هذا، ضعيف جداً.

ص: 72

ومعنى الاتساع في الطريق: أنه يخشى كثرة الزحام في الطريق الأول.

وهذا أحد ما قيل في معناه.

وقيل: ليشهد به الطريقان.

وقيل: ليتصدق على من كان فيهما من السؤال.

وقيل: ليكثر التقاء المسلمين بعضهم ببعض للسلام والتودد.

وقيل: للتفاؤل بتغير الحال إلى الرضى والمغفرة؛ فإنه يرجى لمن شهد العيد أن يرجع مغفوراً لهُ.

وقيل: كان يغدو في أطول الطريقين ويرجع في أقصرهما؛ لتكثر خطاه في المشي إلى الصَّلاة.

وهذا هو الذي رجحه كثير من الشافعية.

وقد روي في حديث عكس هذا:

فرواه سليمان بن أرقم، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعثمان إذا خرجوا إلى العيد من طريق رجعوا في طريق آخر أبعد منه.

وسليمان بن أرقم، متروك.

ولا أصل لحديثه هذا بهذا الإسناد.

وعلى تقدير أن يكون له أصل، فيمكن توجيهه بأن القاصد لصلاة العيد ينبغي له قصدها من أقرب الطرق؛ لأنه إن كانَ أماماً فلئلا يطول انتظاره، وان كانَ مأموماً فخشية أن يسبق بالصلاة أو بعضها، أو أن يتمكن من صلاتها في مكان يمكنه الاقتداء فيهِ بالإمام؛ ولهذا شرع له التبكير؛ ليقرب من الإمام.

والراجع من الصَّلاة قد أمن ذَلِكَ كله،

ص: 73

فيمشي حيث شاء، ويسلك أبعد الطرق، ويقف فيها لحاجته وللقاء الناس والسلام عليهم والدعاء لهم، وغير ذَلِكَ من المصالح.

وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين، أنهم كانوا يتلاقون يوم العيد، ويدعو بعضهم لبعض بالقبول.

ورخص فيه الإمام أحمد، وقال: لا أبتدئ به أحداً، فإن قاله لي، رددت عليه.

وقال - مرة -: ما أحسنه، إلا أن يخاف الشهرة.

كأنه يشير إلى أنه يخشى أن يشتهر المعروف بالدين والعلم بذلك، فيقصد لدعائه، فيكره لما فيه من الشهرة.

وقد خرج الإمام أحمد من حديث المنكدر بن محمد، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً في السوق يوم العيد، ينظر والناس

يمرون.

ورواه الشافعي، عن إبراهيم بن محمد: حدثني معاذ بن عبد الرحمن التيمي، عن أبيه، عن جده، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من المصلى في يوم عيد، فسلك على التمارين أسفل السوق، حتى إذا كان عند موضع البركة التي بالسوق قام فاستقبل فج

أسلم، فدعا ثم انصرف.

قال الشافعي: فأحب أن يصنع الإمام مثل هذا، وأن يقف في موضع يدعو الله عز وجل، مستقبل القبلة.

ص: 74

‌25 - باب

إذا فاته العيد يصلي ركعتين

، وكذلك النساء، ومن كان في البيوت والقرى؛ لقول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:((هذا عيدنا أهل الإسلام)) .

وأمر أنس بن مالك مولاهم ابن أبي عتبة بالزاوية، فجمع أهله وبنيه، فصلى بهم كصلاة أهل المصر وتكبيرهم.

وقال عكرمة: أهل السواد يجتمعون في العيد، يصلون ركعتين، كما يصنع الإمام 0

وكان عطاء إذا فاته العيد صلى ركعتين.

ذكر البخاري في هذا الباب مسائل.

أحدها:

من فاته صلاة العيد مع الإمام من أهل المصر، فإنه يصلي ركعتين.

وحكاه عن عطاء.

وحكي - أيضا - عن أبي حنيفة والحسن وابن سيرين ومجاهد وعكرمة والنخعي، وهو قول مالك والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد - في رواية، عنه.

ثم اختلفوا: هل يصلي ركعتين بتكبيركتكبيرالإمام، أم يصلي بغير تكبير؟

ص: 75

فقالَ الحسن والنخعي ومالك والشافعي وأحمد –في رواية -: يصلي بتكبير، كما يصلي الإمام.

واستدلوا بالمروي عن أنس، وأنس لم يفته في المصر بل كان ساكناً خارجاً من المصر بعيداً منه، فهوفي حكم أهل القرى.

وقد أشار إلى ذلك الإمام أحمد –في رواية عنه.

والقول بانه يصلي كما يصلي الإمام قول أبي حنيفة وأبي بكر بن أبي شيبة، حتى قالَ: لايكبر إلا كما يكبر الإمام، لا يزيد عليه ولا ينقص.

وكذا قاله الإمام أحمد –في رواية أبي طالب.

وعن ابن سيرين، قال: كانوا يستحبون إذا فات الرجل العيدان أن يمضي إلى الجبان، فيصنع كما يصنع الإمام.

وقال أحمد –في رواية الأثرم -: أن صليت ذهب إلى الجبان فصلى، وإن شاء صلى مكانه.

وقال - في رواية إسماعيل بن سعيد -: إذا صلى وحده لم يجهربالقراءة، وإن جهر جاز.

وهذا عنده حكم المصلي الصلاة الجهرية مفرداً، فلو صلاها في جماعة جهر بها بغير إشكال، كما فعله الليث بن سعد.

وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن الإمام لايجهر بالقرأة في

ص: 76

صلاة العيدين إلا بمقدار ما يسمع من يليه، روي ذلك عن علي، وهو قول الحسن والنخعي والثوري.

وذكر الحسن، عن أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يسمعون القراءة في العيدين والجمعة من يليهم.

خرجه المروزي في ((كتاب العيدين)) .

وهو قول الثوري في الجمعة والعيدين جميعاً.

وقال عطاء والأوزاعي وأحمد –في الرواية الأخرى -: يصلي من فاته العيد ركعتين بغير تكبير.

هذه الرواية، حكاها أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب ((الشافي)) .

وقال أحمد: إنما التكبير مع الجماعة.

وجعله أبو بكر عبد العزيز كالتكبير خلف المكتوبة في أيام التشريق.

وروى حنبل، عن أحمد، أنه مخير، إن شاء صلى بتكبير، وإن شاء صلى بغير تكبير.

وقالت طائفة: من فاتته صلاة العيد مع الإمام صلى أربع ركعات.

روي ذلك عن ابن مسعود من غير وجه.

وسوى ابن مسعود بين من فاتته الجمعة، ومن فاته العيد، فقال - في كل منهما -: يصلي أربعاً.

واحتج به الإمام أحمد.

ولا عبرة بتضعيف ابن المنذر له؛ فإنه روي بأسانيد صحيحة.

ص: 77

وهذا قول الشعبي والثوري وأحمد –في رواية أخرى، عنه -، وهي اختيار أبي بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا، بناءً على اختيارهم اشتراط الجماعة للعيد والاستيطان، ويكون الأربع عيداً.

نص عليه أحمد في رواية الميموني.

وهذا يشبه قول ابن شاقلا: إن أدرك تشهد الجمعة يصلي أربعاً، وهي جمعة له، كما سبق ذلك.

وعلى هذا، فيصلي وحده من غير جماعة، نص عليه أحمد في رواية محمد بن

الحكم، وكذا ذكره أبو بكر عبد العزيز.

وإنما يصلي في جماعة إذا قلنا: يصلي صلاة العيد على صفتها.

وهل يصلي الأربع بسلام واحد، أو يخير بين ذلك وبين صلاتها بسلامين؟

فيهِ عن أحمد روايتان.

واختار أبو بكر صلاتها بسلام واحد، تشبيهاً لصلاتها بصلاة من تفوته الجمعة.

وعن أحمد: يخير بين أن يصلي ركعتين أو أربعاً.

وهذا مذهب الثوري الذي حكاه أصحابه، عنه.

واستدل أحمد، بأنه روي عن أنس، أنه صلى ركعتين، وعن ابن مسعود أنه صلى أربعاً.

وكذلك روي عن علي، أنه أمر من يصلي بضعفة الناس في المسجد أربعاً، ولا يخطب بهم.

وروي أحمد بن القاسم، عن أحمد الجمع بين فعل أنس وقول ابن مسعود على وجه آخر، وهو: إن صلى من فاته العيد جماعة صلى

ص: 78

كصلاة الإمام ركعتين، كما فعل أنس، وإن صلى وحده صلى أربعاً، كما قال ابن مسعود.

وقال إسحاق: إن صلاها في بيته صلاها أربعاً كالظهر، وإن صلاها في المصلى صلاها ركعتين بالتكبير؛ لأن علياً أمر الذي يصلي بضعفة الناس في المسجد أن يصلي

أربعا، ركعتين مكان صلاة العيد، وركعتين مكان خروجهم إلى الجبان، كذا رواه حنش بن المعتمر عن علي.

واعلم؛ أن الاختلاف في هذه المسألة ينبني على أصل، وهو: أن صلاة العيد: هل يشترط لها العدد والاستيطان وإذن الإمام؟

فيهِ قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد.

وأكثر العلماء، على أنه لايشترط لها ذَلِكَ، وهو قول مالك والشافعي.

ومذهب أبي حنيفة وإسحاق: أنه يشترط لها ذلك.

فعلى قول الأولين: يصليها المنفرد لنفسه في السفر والحضر والمرأة والعبد ومن

فاتته، جماعة وفرادى.

لكن لا يخطب لها خطبة الإمام؛ لأن فيهِ افتئاتاً عليهِ، وتفريقاً للكلمة.

وعلى قول الآخرين: لايصليها إلا الإمام أو من أذن لهُ، ولا تصلى إلا كما تصلى الجمعة، ومن فاتته، فإنه لايقضيها على صفتها، كما لايقضي الجمعة على صفتها.

ثم اختلفوا:

فقال أبو حنيفة وأصحابه: لاتقضى بالكلية، بل

ص: 79

تسقط، ولا يصلي من فاتته مع الإمام عيدا أصلا، وإنما يصلي تطوعاً مطلقاً، إن شاء صلى ركعتين، وإن شاء صلى

أربعاً.

وقال أحمد وإسحاق: بل تقضى كما قال ابن مسعود وغيره من الصحابة.

وليست العيد كالجمعة؛ ولهذا يصليها الإمام والناس معه إذا لم يعلموا بالعيد إلا من آخر النهار من غد يوم الفطر، والجمعة لا تقضى بعد خروج وقتها، ولأن الخطبة ليست شرطاً لها، فهي كسائر الصلوات، بخلاف الجمعة.

والذين قالوا: تقضى إذا فاتت مع الإمام، لم يختلفوا أنها تقضى ما دام وقتها باقياً 0

فإن خرج وقتها، فهل تقضى؟

قالَ مالك: لاتقضى.

وعن الشافعي قولان.

والمشهور عندنا: إنما تقضى.

وخرجوا فيها رواية اخرى: أنها لاتقضى.

وأصل ذلك: أن السنن الرواتب: هل تقضى في غير وقتها، أم لا؟

وفيه قولان، وروايتان عن أحمد؛ فإن فرض العيد يسقط بفعل الإمام، فيصير في حق من فاتته سنة.

ولو أدرك الإمام وقد صلى وهو يخطب للعيد ففيه أقوال:

أحدها: أنه يجلس فيسمع الخطبة، ثم إذا فرغ الإمام صلى قضاءً، وهو قول الأوزاعي والشافعي وأبي ثور، ونص عليه أحمد –أيضا.

ص: 80

والثاني: أنه يصلي والإمام يخطب، كما يصلي الداخل في خطبة الجمعة والإمام يخطب، وهو قول الليث؛ لكن الليث صلى العيد بأصحابه والإمام يخطب.

وقال الشافعية: إن كانَ الإمام يخطب في المصلى، جلس واستمع؛ لأنه مالم يفرغ من الخطبة فهو في شعار اقامة العيد، فيتابع فيما بقي منه، ولا يشغل عنه بالصلاة، وإن كان يخطب في المسجد؛ فإنه يصلي قبل أن يجلس.

ثم لهم وجهان:

أحدهما: يصلي تحية المسجد، كالداخل يوم الجمعة، وهو قول بعض أصحابنا –أيضا.

والثاني: يصلي العيد؛ لأنها آكد، وتدخل التحية ضمنا وتبعاً، كمن دخل المسجد يوم الجمعة وعليه صلاة الفجر؛ فإنه يقضيها وتدخل التحية تبعاً.

ووجه قول الأوزاعي وأحمد: أن استماع الخطبة من كمال متابعة الإمام في هذا اليوم، فإذا فاتت الصَّلاة معه لم يفوت استماع الخطبة، وليس كذلك الداخل في خطبة الجمعة؛ لأن المقصود الاعظم الصلاة، وهي لاتفوت بالتحية.

المسألة الثانية:

صلاة النساء في بيوتهن في المصر، وكذلك المريض ونحوه.

وهذا مبني على أن صلاة العيد: هل يشترط لها العدد والاستيطان

ص: 81

وإذن الإمام، أم لا؟

فمن قالَ: لا يشترط ذَلِكَ جوز للمرأة أن تصلي صلاة العيد في بيتها على وجهها، وكذلك المريض، بل يجيز ذَلِكَ لكل من تخلف في بيته، أن يصلي كما يصلي الإمام، ولا سيما إن كانَ يقول مع ذَلِكَ أن صلاة العيدين سنة، كما يقوله الشافعي وغيره.

وقال الحسن – في المسافر يدركه الأضحى -: فإذا طلعت الشمس صلى ركعتين، ويضحي إن شاء.

وأما من يشترط لها العدد وإذن الإمام، فلا يرى لمن تخلف في بيته أن يصلي صلاة العيد على وجهها، بل يصلي ركعتين بغير تكبير –أو أربعاً -، على ما سبق.

قال الثوري وإسحاق –في النساء -: يصلين في بيوتهن أربعاً.

وعند أبي حنيفة وأصحابه: لاتقضي بحال، كما تقدم.

المسألة الثالثة:

أهل القرى: هل يصلون العيد في قراهم كما يصلي الإمام في المصر ونوابه في الأمصار؟

وقد حكى عن عكرمة، أنهم يصلونها كصلاة أهل الأمصار.

قال الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر: ثنا شعبة، عن قتادة، عن عكرمة، في القوم يكونون في السواد في سفرتهم عيد فطر أو أضحى، قال: فيجتمعون، فيصلون، يؤمهم أحدهم.

وقد تقدم أن جمهور العلماء على أن الجمعة تقام في القرى، فالعيد أولى.

لكن من يشترط العدد لصلاة العيد، كأحمد –في رواية - وإسحاق، يقول: لابد أن يكون في القرية أربعون رجلا كالجمعة.

قال إسحاق:

ص: 82

وإن لم يخطب بهم صلوا أربعا - أيضا - قال: وإذا لم تكن خطبة فليس بعيد.

وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لاعيد إلا في مصر جامع، كقولهم في الجمعة.

ولا خلاف أنه يجب على أهل القرى والمسافرين، وإنما الخلاف في صحة فعلها منهم، والأكثرون على صحته وجوازه.

ويستدل لذلك بفعل أنس بن مالك؛ فإنه كانَ يسكن خارجا من البصرة على أميال منها.

فروى الإمام أحمد –فيما رواه عنه ابنه عبد الله في ((مسائله)) -: ثناهشيم: أنا

عبيد الله بن أبي بكر، عن جده أنس بن مالك، أنه كان إذا لم يشهد العيد مع الناس بالبصرة، وكان منزله بالطف جمع أهله وولده ومواليه، ثم يامر مولاه عبد الله بن أبي عتبة أن يصلي بهم. قال: يكبر بهم تسع تكبيرات، خمس في الأولى، وأربع في الآخرة، ويوالي بين القراءتين.

وروى محمد بن الحكم، عن أحمد –فيمن تفوته صلاة العيد -: يجمع أهله

وولده، كما فعل أنس، ويكبر تسع تكبيرات في الركعتين، ويوالي بين القراءتين.

وهذا يدل على أنه أخذ بجميع ما روي عن أنس فيمن تفوته صلاة العيد مع

الإمام، سواء كان لبعده عن الإمام أو لغير ذَلِكَ، وأنه يكبر تسع تكبيرات في الركعتين، ويوالي بين القراءتين.

وهذا خلاف مذهبه في

ص: 83

تكبير الإمام ونوابه في الامصار، فإنه يرى أنهم يكبرون في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات.

وفي موالاته بين القراءتين روايتان عنه:

أشهرهما: أنه يكبر قبل القراءة في الركعتين.

والثانية: أنه يوالي بينهما. واختارها أبو بكر بن جعفر.

فأما التكبير في الاولى سبعاً وفي الثانية خمساً، وهو قول جمهور العلماء، وقد روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة، عن عمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير ومجاهد والزهري، وقال: مضت السنة به.

وحكاه ابن أبي الزناد عن فقهاء المدينة السبعة.

وهو قول مكحول وربيعة والليث والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وداود.

وأكثر أهل الحديث، منهم: ابن المديني وابن أبي شيبة وأبو خثيمة وسليمان بن داود الهاشمي وغيرهم.

ولكن اختلفوا: هل يكبر في الأولى سبعاً غير تكبيرة افتتاح الصلاة، أم بها؟

فقالَ مالك وأحمد: يحسب منها تكبيرة الافتتاح.

وروي ذلك عن ابن عباس صريحاً.

وقال الشافعي: لا يحسب منها.

وعن الليث والأوزاعي قولان، كالمذهبين.

وقالت طائفة: يكبر في الأولى خمساً بتكبيرة الافتتاح، وفي الثانية أربعاً

ص: 84

بعد

القراءة، بتكبيرة الركوع.

روى ذلك عن ابن مسعود وإسحاق، وهو قول سفيان وأهل الكوفة.

وروي عن ابن عباس –في رواية عنه.

وفي عدد التكبير أقوال متعددة للسلف، فيه احاديث مرفوعة معددة - أيضا -، لم يخرج منها البخاري شيئاً، وليس منها على شرطه شيء.

وقد روى هارون بن عبد الله، عن أحمد، أنه قالَ: ليس يروى في التكبير في العيدين حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكره الخلال.

وروى حرب، عن أحمد قريباً من ذلك.

قال حرب: وسألت ابن المديني: هل صح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: ويروى عن أبي هريرة –من قوله - صحيح. انتهى.

وحكى الترمذي في ((علله)) ، عن البخاري، أنه صحح هذا الحديث.

وقال أحمد –في رواية -: أنا اذهب إليه.

وقد خرجه في ((المسند)) وأبو داود وابن ماجة بألفاظ مختلفة،

ص: 85

ومعناها واحد: أن التكبير في الأولى سبع، وفي الثانية خمس.

وفي رواية أحمد وأبي داود: أن القراءة بعدهما.

وقد استوفينا الأحاديث في ذَلِكَ، والكلام عليها في ((شرح الترمذي)) بحمد

الله ومنه.

ونقل الميموني، عن أحمد، قال: التكبير في العيدين سبعاً في الأولى وخمساً، وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في التكبير، وكله جائز.

وهذا نص منه على أنه يجوز التكبير على كل صفة رويت عن الصحابة من غير كراهة، وإن كانَ الافضل عنده سبعاً في الأولى وخمساً في الثانية.

ورجح هذا ابن عبد البر، وجعله من الاختلاف المباح، كأنواع الأذان والتشهدات ونحوها.

ثم خرج البخاري في هذا الباب:

ص: 86

987 -

حديث عائشة في الجاريتين اللتين كانتا عندها تدففان وتغنيان.

وقد ذكرنا لفظه في ((باب: سنة العيدين لأهل الإسلام)) إلى قوله: ((دعهما يا أبا بكر؛ فإنها أيام عيد)) وتلك الأيام أيام منى.

وزاد فيه:

ص: 86

988 -

وقالت عائشة: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني، وأنا أنظر إلى الحبشة،

ص: 86

وهم يلعبون في المسجد فزجرهم عمر، فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:((دعهم، أمنا بني أرفدة)) –يعني: من الأمن.

خرجه عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.

ولكن؛ ليس فيهِ اللفظ الذي احتج به في أول الباب، وهو قوله:((هذا عيدنا أهل الإسلام)) ، إنما خرجه بهذا اللفظ في ((باب: سنة العيدين)) كما تقدم.

وليس فيه لفظة: ((أهل الإسلام)) ، ولم أجده بهذه الزيادة في شيء من الكتب الستة، وإنما تعرف هذه اللفظة في حديث عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((يوم عرفة، ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام)) .

ووجه الاستدلال به على ما بوب عليه البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل العيد عاما لأهل الإسلام كلهم، فدل على أنهم يشتركون فيمايشرع فيه جميعهم، رجالهم

ونساؤهم، أهل أمصارهم، وأهل قراهم فتكون صلاة العيد مشروعة لجميعهم من غير تخصيص لأحد منهم.

والمنازع في ذلك قد يقول: أنا لا أمنع ذلك، ولا أن يشهد العيد جميع المسلمين إذا صلاها الإمام أو نائبه في المصلى، فأما الإنفراد بصلاتها لآحاد الناس في بيوتهم، فهذا لم ينقل عن أحد من السلف فعله، ولو كان مشروعاً لما تركوه، ولو فعلوه لنقل.

ص: 87

وأيضا؛ فمما يدل عَلَى أن الاستيطان يعتبر لها: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يفعلها قط فِي اسفاره مَعَ كثرة أسفاره، وقد ادركه عيد النحر بمنى، وأدركه عيد الفطر فِي غزوة الفتح وَهُوَ مسافر، ولم ينقل أنهُ صلى العيدين فِي شيء من أسفاره، ولو فعل ذَلِكَ لما أهمل

نقله؛ لتوفر الدواعي على نقله، وكثرة الحاجة إليه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وأيضا؛ فالحديث إنما ورد في ايام منى، وظاهره: أنها أيام التشريق.

ولو قيل: إن يوم النحر يدخل فيها، فلا يلزم من كونها عيداً للمسلمين جميعاً أن يشترك المسلمون جميعهم في كل ما يشرع فيها؛ فإنه يشرع فيها للحاج ما لا يشرع لغيرهم من أهل الأمصار، فلا يمتنع أن يشرع لأهل الأمصار الاجتماع على مالا يشرع لغيرهم بإنفرادهم، كالنساء والمسافرين. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 88

‌26 - باب

الصلاة قبل العيد وبعدها

وقال أبو المعلى: سمعت سعيداً، عن ابن عباس: كره الصلاة قبل العيد.

ص: 89

989 -

حدثنا أبو الوليد: ثنا شعبة: أخبرني عدي بن ثابت، قالَ: سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم عيد الفطر، فصلى ركعتين، ولم يصل قبلها ولا بعدها، ومعه بلال.

((أبو المعلى)) ، هو: يحيى بن ميمون الكوفي، ثقة مشهور.

وقد اختلف الناس في معنى ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد قبلها وبعدها: فمنهم من قال: لأنه كان إماماً، والإمام لايتطوع موضع صلاة العيد قبلها ولا بعدها؛ لأن حضوره كاقامة الصَّلاة، فلا يتطوع بعده، وإذا خطب انصرف وانصرف الناس معه، فلو صلى فلربما احتبس الناس لهُ، وفيه مشقة.

وهذا تأويل جماعة، منهم: سليمان بن حرب وطائفة من الشافعية وغيرهم.

وأنكر ذلك الإمام أحمد، وقال: إنما لم يصل قبلها ولا بعدها؛ لأنه لا صلاة قبلها ولا بعدها.

واستدل بأن ابن عباس وابن عمر

ص: 89

رويا أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصل قبلها ولا بعدها وكرها الصلاة قبلها وبعدها استدلالاً بما روياه، فعلهم أنهما فهما مما روياه كراهة الصلاة قبلها وبعدها، وهما أعلم بما رويا.

فأما كراهة ابن عباس، فقد ذكره البخاري تعليقاً، وروي عنه من وجوه أخرَ.

وأما حديث ابن عمر، فمن رواية أبان بن عبد الله البجلي، عن أبي بكر بن

حفص، عن ابن عمر، أنه خرج يوم عيد فطر، ولم يصل قبلها ولابعدها، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله.

خرجه الإمام أحمد والترمذي.

وقال: حسن صحيح.

وحكى في ((علله)) عن البخاري، أنه قال: هو حديث صحيح، وأبان البجلي صدوق.

وأبان هذا، وثقه ابن معين، وقال أحمد: صدوق صالح الحديث.

وروى مالك وغيره، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان لا يصلي قبل العيد ولا بعدها – ولم يرفعه.

وكذا رواه عبد الله بن دينار، عن ابن عمر.

قال الإمام أحمد: روي عن ابن عمر وابن عباس وسلمة بن

ص: 90

الأكوع وبريدة، أنهم لم يصلوا قبلها ولا بعدها. انتهى.

وروي –أيضا - عن علي وجابر وابن أبي أوفى.

وقال الزهري: ما علمنا أحداً كانَ يصلي قبل خروج الإمام يوم العيد ولا بعده.

ذكره عبد الرزاق، عن معمر، عنه.

وخرجه جعفر الفريابي من رواية يونس، عن الزهري، قال: لم يبلغنا أن احداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يسبح يوم الفطر والأضحى قبل الصلاة ولا بعدها، إلا أن يمر منهم مار بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسبح فيه.

وخرجه الأثرم من رواية الزبيدي، عن الزهري، قال: لم أسمع أحدا من علمائنا يذكر عن أحد من سلف هذه الأمة، أنه كان يصلي قبلها ولا بعدها.

وكان عمر بن عبد العزيز لا يسبح قبلها ولا بعدها، ويبكر بالخروج إلى الخطبة والصلاة، كما لا يصلي أحد قبلها.

وحكى الإمام أحمد هذا القول عن أهل المدينة.

وروي عن الشعبي،

ص: 91

قالَ: أتيت المدينة وهم متوافرون، فلم أر أحداً من الفقهاء يصلي قبلها ولا بعدها.

خرجه الفريابي.

وهو قول مالك وأحمد وإسحاق.

وحكاه الترمذي عن الشافعي.

وهؤلاء، منهم من كان ينهى عن الصلاة قبلها، ويزجر عنه، وروي عن أبي قتادة الأنصاري وحذيفة وغيرهما.

ومنهم من كان يخبر بأنه ليس من السنة، ولا ينهى عنه، ومنهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وحكى الإمام أحمد عن أهل البصرة، أنهم رجعوا في الصلاة قبلها وبعدها، روي عن أنس وأبي برزة الاسلمي والحسن وأخيه سعيد وجابر بن زيد وأبي بردة بن أبي موسى، وهو المشهور عن الشافعي.

وقد حكاه الإمام أحمد –في رواية الأثرم - عن أنس وأبي برزة.

وروى الإمام أحمد –في رواية ابنه عبد الله -: نا محمد بن جعفر: نا سعيد، عن

قتادة، أن أبا برزة الأسلمي وأنس بن مالك والحسن وعطاء بن يسار، كانوا لا يرون بالصلاة قبل الإمام ولا بعده بأساً.

ص: 92

وقد خرج البيهقي من رواية الداناج، أنه رأى أبا بردة يصلي يوم العيد قبل الإمام.

فظن صاحب ((شرح المهذب)) ، أن من حكاه عنة أبي برزة الأسلمي فقد وهم وصحف، وليس كما قال.

ورخصت طائفة أخرى في الصلاة بعدها دون ما قبلها، وحكاه الإمام أحمد عن أهل الكوفة.

وقد روي عن علي من وجه ضعيف.

وعن ابن مسعود وأصحابه.

وعن ابن أبي ليلى والنخعي والثوري وأبي حنيفة والأوزاعي.

وفرقت طائفة بين أن يصلي العيد في المصلى، فلا يصلي قبلها ولا بعدها، وبين أن يصلي في المسجد فيصلي قبلها وبعدها، وهو قول الليث، ورواية عن مالك.

ولم يذكر في ((تهذيب المدونة)) سواها.

وعنه، الرخصة أن يصلي قبلها في المسجد خاصة.

وهذا كله في حق غير الإمام، فأما الإمام فلا نعلم في كراهة الصلاة له خلافاً قبلها وبعدها.

وكل هذا في الصلاة في موضع صلاة العيد، فأما الصلاة في غير موضع صلاة

العيد، كالصلاة في البيت أو في المسجد، إذا صليت العيد في المصلى، فقال أكثرهم: لا تكره الصلاة فيه قبلها وبعدها.

روي ذلك عن بريدة ورافع بن خديج.

وذكره عباس بن سهل، عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم كانوا يفعلونه.

وكان عروة

ص: 93

يفعله.

وروي عن ابن مسعود، أنه كان يصلي بعد العيد في بيته.

وهو مذهب أحمد وإسحاق.

وروى عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين.

خرجه الإمام أحمد وابن ماجه وابن خزيمة في ((صحيحه)) والحاكم.

وقال: سنة عزيزة، بإسناد صحيح.

كذا قال؛ وابن عقيل مختلف فيهِ.

وقالت طائفة: لا صلاة يوم العيد حتَّى تزول الشمس.

وصح عن ابن عمر، أنه كان يفعله.

وعن كعب بن عجرة، أنه أنكر على من صلى بعد العيد في المسجد، وذكر أنه خلاف السنة، وقال: هاتان الركعتان سبحة هذا اليوم حتى تكون الصلاة تدعوك.

واختار هذا القول أبو بكر الآجري، وأنه تكره الصلاة يوم العيد حتى تزول الشمس، وحكاه عن أحمد.

وحكايته عن أحمد غريبة.

وعند أحمد وأكثر أصحابه: لاتصلي قبل العيد، ولو صليت في

ص: 94

المسجد ودخل إليه بعد زوال وقت النهي.

وسئل أحمد - في رواية أحمد بن القاسم -: لو كان على رجل صلاة في ذلك الوقت: هل يصلي؟ قالَ: أخاف أن يقتدي به بعض من يراه. قيل لهُ: فإن يكن ممن يقتدى به؟ قال: لا أكرهه، وسهل فيه.

ص: 95

بسم الله الرحمن الرحيم

14 -

‌ أبواب الوتر

‌1 - باب

ما جاء في الوتر

فيه أربعة أحاديث:

الحديث الأول:

ص: 96

990 -

حدثنا عبد الله بن يوسف: انا مالك، عن نافع وعبد الله بن دينار عن ابن عمر، أن رجلاً سأل النبي ? صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح، صلى ركعه واحدة، توتر له ما قد صلى)) .

ص: 96

991 -

وعن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يسلم بين الركعة والركعتين في الوتر، حتى يأمر ببعض حاجته.

ص: 96

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الليل مثنى مثنى)) –يعني: ركعتين ركعتين.

والمراد: انه يسلم في كل ركعتين، وبذلك فسره ابن عمر.

أخرجه مسلم في ((صحيحه)) .

ويدل بمفهومه على أن صلاة النهار ليست كذلك، وأنه يجوز أن تصلى أربعا.

وقد كان ابن عمر –وهو راوي الحديث – يصلي بالنهار أربعا، فدل على أنه عمل بمفهوم ما روى.

فروى يحيى الأنصاري وعبيد الله بن عمر، عن نافع، أن ابن عمر كان يتطوع بالنهار ((بأربعٍ)) ، لا يفصل بينهن.

وبهذا رد يحيى بن معين وغيره الحديث المروي، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)) .

ص: 97

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، من رواية شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن علي الازدي، عن ابن عمر.

وقد أعله الترمذي، بأن شعبة اختلف عليه في رفعه ووقفه.

وذكر الإمام أحمد: أن شعبة كان يتهيبه.

وأعله ابن معين وغيره، بأن أصحاب ابن عمر الحفاظ رووا كلهم، عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((صلاة الليل مثنى مثنى)) ، من غير ذكر النهار، أكثر من خمسة عشر نفسا، فلا يقبل تفرد علي الازدي بما يخالفهم.

وأعله الإمام أحمد وغيره بأنه روي عن ابن عمر، أنه كان يصلي بالنهار أربعاً، فلو كان عنده نص عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخالفه.

ص: 98

وتوقف أحمد –في رواية، عنه – في حديث الأزدي.

وقال - مرة -: إسناده جيد، ونحن لا نتقيه.

وقد روي، عن ابن عمر موقوفاً عليه - أيضاً - ((صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)) .

وروي عنه - مرفوعاً - من وجه آخر.

وقيل: إنه ليس بمحفوظ.

قاله الدارقطني وغيره.

ص: 100

وذكر مالك، أنه بلغه، أن ابن عمر كان يقول: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، يسلم من كل ركعتين.

قلت: من يقول: لا مفهوم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة والليل مثنى مثنى)) يقول: إن ذكر الليل إنما كان جوابا لسؤال سائل، سأل عن صلاة الليل، ومثل هذا يدفع أن يكون له مفهوم معتبر. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقد بوب البخاري في ((أبواب صلاة التطوع)) على أن ((صلاة النهار مثنى

مثنى)) ، ويأتي الكلام فيه في موضعه – إن شاء الله تعالى.

والكلام هنا في صلاة الليل.

وهذا الحديث: يدل على أن التطوع بالليل كله مثنى مثنى، سوى ركعة الوتر، فإنها واحدة.

وقد عارض هذا حديث عائشة الذي خرجه مسلم، خرجه من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل

ص: 101

ثلاث عشرة ركعة، يوتر في ذلك بخمس، لا يجلس في شيء منهن، إلا في آخرهن.

وقد تكلم في حديث هشام هذا غير واحد.

قال ابن عبر البر: قد أنكر مالك. وقال: مذ صار هشام إلى العراق أتانا عنه ما لم يعرف منه.

وقد أعله الأثرم، بأن يقال في حديثه:((كان يوتر بواحدة)) ، كذا رواه مالك وغيره عن الزهري.

ورواه عمرو بن الحارث ويونس، عن الزهري، وفي حديثهما:((يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة)) .

وقد خرجه مسلم من طريقهما – أيضا.

وكذا رواه ابن أبي ذئب والأوزاعي، عن الزهري.

خرج حديثهما أبو داود 0

قال الأثرم: وقد روى هذا الحديث عن عائشة غير واحد، لم يذكروا في حديثهم ما ذكره هشام عن أبيه، من سرد الخمس.

ورواه القاسم، عن عائشة، في حديثه:((يوتر بواحدة)) .

ولم يوافق هشاماً على قوله إلا ابن إسحاق، فرواه عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة – بنحو رواية

ص: 102

هشام.

وخرجه أبو داود من طريقه كذلك.

ورواه - أيضا - سعد بن هشام، عن عائشة، واختلف عليه فيه:

فخرجه مسلم من رواية قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، أنه سال عائشة عن وتر النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان يصلي تسع ركعات، لا يجلس إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثُمَّ ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي ركعة، ثم يقعد، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليماً يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أسن نبي الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول، فتلك تسع يا بني.

وفي رواية له: أن قتادة اخبره سعد بن هشام بهذا، وكان جاراً له.

وقد خرّجه أبو داود بلفظ آخر، وهو: أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ثمان ركعات، لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، فيجلس فيذكر الله، ثم يدعو، ثم يسلم تسليماً، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم، ثم يصلي ركعة، فتلك إحدى عشرة ركعة.

وفي هذه الرواية: أنه كان يصلي الركعتين جالساً قبل الوتر، ثم يوتر بعدها بواحدة.

وهذا يخالف ما في رواية مسلم.

ورواه سعد بن هشام، عن عائشة، واختلف عليه في لفظه:

ص: 103

فروي عنه: الوتر بتسعٍ، وروى عنه: بواحدة.

ورواه أبان عن قتادة بهذا الإسناد، ولفظه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث، ولا يقعد إلا في آخرهن.

قال الإمام أحمد: فهذه الرواية خطأ.

يشير إلى إنها مختصرة من رواية قتادة المبسوطة.

وقد روي في هذا المعنى من حديث ابن عباس وأم سلمة.

وقد تكلم الأثرم في إسنادهما.

وطعن البخاري في حديث أم سلمة بانقطاعه، وذكر أن حديث ابن عمر في الوتر بركعة أصح من ذلك.

وكذلك الروايات الصحيحة عن ابن عباس في وصفه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة بات عند خالته ميمونة، يدل عليه: أنه صلى الله عليه وسلم من كل ركعتين وأوتر بواحدة.

فلهذا رجحت طائفة حديث ابن عمر وابن عباس، وقالوا: لا يصلي بالليل إلا مثنى مثنى، ويوتر بواحدة.

وهذه طريقة البخاري والأثرم.

وقال ابن عبد البر: هو قول أهل الحجاز، وبعض أهل العراق 0

ثم حكى عن مالك والشافعي وابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد، أن صلاة الليل مثنى مثنى.

قال: وقال أبو حنيفة في صلاة الليل: إن شئت ركعتين، وإن شئت أربعا، وإن شئت ستاً وثمانياً، ولا تسلم إلا في آخرهن.

وقال الثوري والحسن بن حي: صلاة الليل ما شئت، بعد أن تقعد في كل ركعتين وتسلم في آخرهن.

ص: 104

وحكى الترمذي في ((كتابه)) أن العمل عند أهل العلم على أن صلاة الليل مثنى مثنى.

قال: وهو قول سفيان وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق.

وحكاه ابن المنذر وغيره عن ابن عمر وعمار، وعن الحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي وسعيد بن جبيرٍ وحماد ومالك والأوزاعي.

وحكي عن عطاء، أنه قال: في صلاة الليل والنهار: يجزئك التشهد.

وهذا يشبه ما حكاه ابن عبد البر، عن الثوري والحسن بن حي.

وهو مبني على أن السلام ليس من الصلاة، وأنه يخرج منها بدونه، كما سبق ذكره.

وقد روي عن النخعي نحوه.

ومذهب سفيان الذي حكاه أصحابه أنه لا بأس أن يصلي بالليل والنهار أربعا أو ستا أو أكثر من ذلك، لا يفصل بينهنً إلا في آخرهن.

قال: وإذا صلى بالليل مثنى، فهو أحب إليّ.

وحمل هؤلاء كلهم قول عائشة: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي أربعا، ثم أربعا)) على أنه كان لا يسلم بينها، وسيأتي حديثها بذلك –إن شاء الله سبحانه وتعالى.

وحمله الآخرون على أنه كان يفصل بينها بسلام.

وهذا

ص: 105

كله في التطوع المطلق في الليل، فأما الوتر فاختلفوا فيه على أقوال:

أحدها: أنه ركعة واحدة، مفصولة مما قبلها، على مقتضى حديث ابن عمر، وبعض ألفاظ حديث عائشة.

قال ابن المنذر: [روينا عن ابن عمر، أنه] يقول: الوتر ركعة. ويقول: كان ذلك وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر.

قالَ: وممن روينا عنه: الوتر ركعة: عثمان وسعد وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية وأبو موسى وابن الزبير وعائشة، وفعله معاذ القاري، ومعه رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا ينكر ذلك منهم أحد.

وبه قال ابن المسيب وعطاء ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق [أبو ثور، غير أن مالكاً والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق] رأوا أن يصلي ركعتين، ثم يسلم، ثم يوتر بركعة. انتهى.

وذكر الزهري وغيره: أن عمل المدينة كان على ذلك إلى زمن الخير.

وممن قال الوتر: ركعة –أيضاً -: فقهاء أهل الحديث، سليمان بن داود الهاشمي أبو خيثمة وأبو بكر بن أبي شيبة وغيرهم.

والأفضل

ص: 106

عندهم: أن يصلي ركعة يوتر بها بعد ركعتين.

أما إن اقتصر على ركعة يوتر بها، ففي كراهته قولان:

أحدهما: أنه يكره. وهو قول أحمد –في أكثر الروايات، عنه.

ويستثني من ذلك من يستيقظ قرب الفجر، ويخاف أن يطلع عليه الفجر، فيوتر بواحدة.

وهو قول إسحاق، قال: إلا من عذر مرض أو سفر.

وكذا قال أبو بكر من أصحابنا.

قال أحمد: إنما جاء الوتر بركعة بعد تطوع مثنى.

وقال سفيان: إن خشي الفجر فأوتر بواحدة أجزأه، والثلاث أحب إلينا.

ومذهب مالك: لابد أن يكون قبل ركعة الوتر شفع يسلم بينهما في الحضر والسفر.

وقال مجاهد: ما أحب إن يكون وتري إلا على صلاة.

وروى ابن عبد البر، بإسناد فيه نظر، عن عثمان بن محمد بن ربيعة، عن الدراوردي، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن البتيراء، أن يصلي الرجل ركعة واحدة، يوتر بها.

وعثمان هذا، قال العقيلي: الغالب على حديثه الوهم.

وقبله في

ص: 107

الإسناد من لا يعرف.

وقد روي هذا –مرسلاً.

خرجه سعيد بن منصور، من حديث محمد بن كعب القرظي –مرسلاً.

والقول الثاني: لا يكره.

وروي عن سعد بن أبي وقاص، وأبي موسى، ومعاوية أنهم فعلوه.

وعن ابن عباس، أنه صوب فعل معاوية.

وقال أحمد –في رواية الشالنجي -: لا بأس به.

وهو قول الشافعي.

واختلف أصحابه: هل الركعة المفردة أفضل من ثلاث موصولة؟ على وجهين

لهم.

ومنهم من قالَ: المنفردة افضل من إحدى عشرة موصولة.

وقال الأوزاعي: حدثني المطلب بن عبد الله المخزومي، قال: أتى ابن عمر رجل، فقال: كيف أوتر؟ قالَ: أوتر بواحدة. قالَ: إني أخشى أن يقول الناس: إنها البتيراء. قالَ: سنة الله ورسوله – يريد: هذه سنة الله ورسوله.

المطلب، لم يسمع من ابن عمر.

ص: 108

وروى ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي منصور مولى سعد ابن أبي وقاص، قال: سألت ابن عمر عن الوتر، فقال: وتر الليل واحدة، بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: يا أبا عبد الرحمن، إن الناس يقولون: البتيراء؟ قالَ: يا بني، ليس تلك البتيراء، إنما البتيراء إن يصلي الرجل الركعة التامة في ركوعها وسجودها وقيامها، ثُمَّ يقوم في الأخرى ولا يتم لها ركوعاً ولا سجوداً ولا قياماً، فتلك البتيراء.

خرجهما البيهقي.

وأجاز أحمد وأصحابه وإسحاق: أن يوتر بثلاث موصولة، وأن يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرهن، وبتسع لا يجلس إلا في الثامنة، ولا يسلم ثم يقوم فيصلي ركعة، ثم يسلم؛ لما جاء في حديث عائشة المتقدم.

وجعلوا هذه النصوص خاصة، تخص عموم حديث صلاة الليل مثنى مثنى، وقالوا - في التسع والسبع والخمس -: الأفضل أن تكون بسلام واحد؛ لذلك.

فأما الوتر بسبع، فنص أحمد على أنه لا يجلس إلا في آخرهن.

ومن أصحابنا من قالَ: يجلس عقيب السادسة بتشهد، ولا يسلم.

وقد اختلف ألفاظ حديث عائشة في ذلك.

فأما الوتر بإحدى عشرة، فيكون بست تسليمات، وإن صلاه بتسليمة

ص: 109

واحدة، وتشهد عقب العاشرة، ولم يسلم جاز -: قاله بعض [....] .

ومنهم من حكى في الجميع وجهين:

أحدهما: أن الأفضل أن يسلم من كل ركعتين، وصححه غير واحد من أصحابنا.

والثاني: الأفضل سرد الجميع بسلام واحد، ولا يجلس إلا في آخر الاشفاع، فيتشهد، ثم يصلي ركعة ويسلم.

ومذهب إسحاق: أن أوتر بإحدى عشرة ركعة في كل ركعتين.

و [يجوز] عند أصحابنا أن يتطوع بأربع، وبأكثر من أربع، بسلام واحد، وحكوه عن أكثر العلماء، إلا عن محمد بن الحسن وزفر، فإنهما قإلا: لا بد أن يتشهد عقيب كل ركعتين.

وفي صحة التنفل بالإشفاع، كثلاث ركعات، وخمس ركعات، وسبع في غير صلاة الوتر عن أحمد روايتان.

ومذهب الشافعي وأصحابه: أنه يجوز أن يصلي بسلام واحد، ما شاء من الركعات، من واحدة إلى ما لانهاية له بالليل والنهار، وإن كان الأفضل أن يسلم فيهما في كل ركعتين، والوتر وغيره.

ونص الشافعي في ((الإملاء)) على أنه يجوز له أن يصلي عدداً لا يعلمه، ثم يسلم، كما روى عن أبي ذر أنه فعله.

ولأصحابه وجه: أنه

ص: 110

لا يجوز الزيادة على ثلاثة عشر ركعة بتسليمة واحدة؛ لأنه أكثر المنقول في الوتر، هوَ ضعيف عندهم.

فإن صلى ركعة واحدة تشهد عقيبها وسلم، وإن صلى أكثر من ذلك فله أن يقتصر على تشهد في آخر الركعات –وإن كثرت -، ويسلم عقيبه بغير خلاف عندهم، إلا في وجه ضعيف لا يعبأ به.

وإن أراد الزيادة على تشهد واحد، ففيه أوجه لهم:

أحدها: أن له أن يتشهد في كل ركعتين، وإن كثرت التشهدات، ويتشهد في الأخيرة، وله أن يتشهد في كل أربع، أو ثلاث أو ست، أو غير ذلك.

ولا يجوز أن يتشهد في كل ركعة؛ لأنه اختراع صورة في الصَّلاة لا عهد بها.

والثاني: لهُ أن يتشهد في كل ركعتين، وفي كل ركعة. وضعفه المحققون منهم.

والثالث: لا يجلس إلا في الأخيرة، وغلطوه –أيضا.

والرابع: لا يجوز الزيادة على تشهدين بحال في الصلاة الواحدة، ولا يجوز أن يكون بين التشهدين أكثر من ركعتين، أن كان العدد شفعاً، وإن كان وتراً لم يجز بينهما أكثر من ركعة.

قال صاحب ((شرح

ص: 111

المهذب)) : وهو قوي، وظواهر السنة تقتضيه.

وهذا كله في النوافل المطلقة، فأما في الوتر بخصوصه، فهل يجوز أن يزاد فيه على

تشهدين؟ فيهِ وجهان:

أصحهما –عندهم -: لا يجوز؛ لأنه خلاف المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن النوافل المطلقة لا حصر لركعاتها وتشهداتها، بخلاف الوتر.

وذهبت طائفة إلى أنها لا تجوز الزيادة على ركعتين بتسليمة واحدة، ولا زياد الوتر على

ركعة.

وهو الذي رجحه الأثرم، وقال لم يصح في الوتر بثلاث فما زاد من غير تسليم حديث واحد، ولا أكثر منه.

وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الوتر بثلاث ركعات بتشهدين من غير تسليم كالمغرب لا يجوز زيادته ولا نقصه.

وروي الوتر بثلاث عن جماعة من الصحابة والتابعين.

وحكاه الحسن، عن عمر وأبي بن كعب.

وهو منقطع عنهما.

وروى الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمان بن يزيد، قال: قال عبد الله بن مسعود: الوتر بثلاث كوتر النهار المغرب.

قال البيهقي: هو صحيح عن ابن مسعود، ورفعه رجل ضعيف

ص: 112

عن الأعمش 0 وكذا قال الدارقطني: إن رفعه لا يصح.

وروي - أيضا - عن أنس بن مالك.

وهو قول ابن المسيب، وأبي العالية ومكحول والنخعي وعمر بن عبد العزيز.

وقال الأوزاعي: إن فصل فحسن، وإن لم يفصل فحسن.

وأجاز أحمد الفصل وتركه، والفصل عنده أحسن، وقال: الأحاديث فيه أقوى وأكثر وأثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك مذهب الشافعي، كما سبق.

ولأصحابنا وجه: أن الوتر بثلاث موصولة بتشهد واحد.

وروي عن عطاء، أنه كان يوتر بثلاث لا يجلس فيهن، ولا يتشهد إلا في آخرهن.

وروى البخاري في ((تاريخه)) بإسناده، عن إسماعيل بن زيد بن ثابت، أن زيدا كان يوتر بخمس، لا يسلم إلا في الخامسة، وكان أبي يفعله.

قال البيهقي: كذا وجدته ((أبي)) مقيداً.

يعني: بالتشديد، يريد: ابن أبي بن كعب.

وروى وكيع، عن الأعمش، عن بعض أصحابه، قال: قالَ عبد الله: الوتر سبع أو خمس، ولا أقل من ثلاث.

وروي عن عراك، عن أبي هريرة، قال: لا توتروا بثلاث؛ تشبهوا

ص: 113

بالمغرب ولكن أوتروا بخمس، أو سبع، أو تسع، أو إحدى عشرة أو أكثر من ذَلِكَ.

وروي، عنه - مرفوعاً.

خرجه الحاكم، وصححه.

وفي رفعه نكارة.

وقال أبو أيوب الأنصاري: أوتر بخمس، أو بثلاث، أو بواحدة.

خرجه النسائي وغيره - موقوفا.

وخرجه أبو داود والنسائي –أيضا - وابن ماجه مرفوعاً.

والموقوف أصح عند أبي حاتم والنسائي والأثرم وغيرهم.

ص: 114

وقال ابن سيرين: كانوا يوترون بخمسٍ، وبثلاثٍ، وبركعة، ويرون كل ذلك حسناً.

خرجه الترمذي.

قال: وقال سفيان: إن شئت أوترت بخمسٍ، وإن شئت أوترت بثلاث، وإن شئت أوترت بواحدة. قال: والذي استحب أن يوتر بثلاث.

وحكى أصحاب سفيان، عنه، أنه إن شاء أوتر بخمسٍ، أو سبع، أو تسعٍ، أو إحدى عشرة، لا يسلم إلا في آخرهن، إذا فرغ.

ومن العلماء من قال: الوتر ثلاث عشرة، وهو قول بعض الشافعية، ووجه لأصحابنا.

ولو زاد على ذلك لم يجز ولم يصح وتره عند جمهور الشافعية.

ولهم وجه آخر: بصحته وجوازه.

وهذا إذا كان الجميع بسلام واحد، أو نوى بالجميع الوتر.

وروى الشافعي بإسناده، عن كريب، عن ابن عباس، قال: هي واحدة، أو خمس، أو سبع، أو أكثر من ذلك، الوتر ما شاء.

وقد كره قوم الوتر بثلاث، وقالوا: لا يكون إلا سبع أو خمس.

ص: 115

فروى شعبة، عن الحكم، قالَ: قلت لمقسم: إني أسمع الأذان فأوتر بثلاث، ثم أخرج إلى الصلاة؛ خشية أن تفوتني؟ قالَ: أن ذَلِكَ لا يصلح إلا بخمس، إلا سبع. فسألته عمن؟ فقالَ: عن الثقة، عن الثقة، عن عائشة وميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

خرجه الإمام أحمد.

وروى الشافعي بإسناده، عن ابن مسعود، أنه كان يوتر بخمس أو سبع.

[و] بإسناد منقطع عنه، أنه كان يكره أن يكون ثلاثا تترى، ولكن خمساً أو سبعا.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة، توتر له ما قد صلى)) يدل على أن هذه الركعة الواحدة جعلت مجموع ما صلى قبلها وتراً، فيكون الوتر هو مجموع صلاة الليل الذي يختم بوتر.

وهذا قول إسحاق بن راهويه 0 واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أوتروا يا أهل القرآن)) ، وإنما أراد صلات الليل..

ص: 116

وقالت طائفة: الوتر هو الركعة الأخيرة، وما قبله فليس منه.

وهو قول طائفة من أصحابنا، منهم: الخرقي وأبو بكر وابن أبي موسى.

وفي كلام أحمد ما يدلُّ عليه.

ومن أصحابنا من قال: الجميع وتر.

وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيمن فاته الوتر، وقلنا: يقضيه: هل يقضي ركعة واحدة؟ أو ثلاث ركعات؟ على روايتين، عنه.

ويحسن أن يكون مأخذهما أن الوتر: هل هو الركعة الواحدة، وما قبله تنفل مطلق؟ أو الوتر مجموع الثلاث؟

وإلى هذا أشار أبو حفص البرمكي من أصحابنا.

وقد نقل الأثرم وغيره، عن أحمد، أنه إذا قضى الوتر بعد طلوع الفجر فإنه يقضي ثلاث ركعات.

وقال: لم يرد التطوع، وإنما أراد الوتر.

وهذا ظاهر في أن المجموع وتر، ويحتمل أن يكون مراده أن الركعتين قبل الوتر متأكدة تابعة للوتر، فتقضي معه في أوقات النهي –أيضا.

وقد تقدم عن المالكية، أن ما قبل الوتر هو شفع له.

وقاله بعض أصحابنا – أيضا.

وقد ذكر أبو عمرو ابن الصلاح: أن أصحاب الشافعي اختلفوا في ذلك على أوجه:

ص: 117

أحدها: أن من أوتر بثلاث ينوي بالركعتين مقدمة الوتر، وبالأخيرة الوتر -: قاله أبو محمد الجويني.

والثاني: أنه ينوي بالركعتين سنة الوتر وبالثالثة الوتر -: حكاه الروياني.

قال: وفي هذين الوجهين تخصيص للوتر بالركعة الأخيرة، والثاني يشعر بأن للوتر سنة، ولا عهد لنا بسنة لها سنة هي صلاة.

وفي الوجهين أن الركعتين قبل الوتر لهما تعلق بالوتر.

والثالث: أن ينوي بما قبل الركعة الأخيرة التهجد أو قيام الليل، وفي هذا قطع لذلك عن الوتر.

قال: وما اتفقت عليه هذه الوجوه من تخصيص الوتر بالركعة المفردة على وفق قول الشافعي في رواية البويطي -: الوتر ركعة واحدة.

وقال الماوردي: لا يختلف قول الشافعي: أن الوتر ركعة واحدة.

ويشهد للوجه الثالث حديث ابن عمر: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح، فأوتر بواحدة)) .

والرابع: أنه ينوي بالجميع الوتر -: قاله القاضي أبو الطيب الطبري، واختاره الروياني.

ويشهد له: قول الشيخ أبي إسحاق وغيره: أقل الوتر ركعة، وأكثره إحدى عشرة ركعة.

وفي بعض كلام الشافعي إيماء إليه.

قال: وهو المختار؛ لأن فيهِ

ص: 118

جمعا بين الأحاديث كلها؛ إذ الواحدة الأصل في الإيتار، وبها يصير ما قبلها وتراً.

واستدل برواية من روى: ((توتر له ما قد صلى)) ، كما خرجه البخاري، وبأن نافعا ذكر عن ابن عمر، أنه كان يسلم بين الركعة والركعتين في الوتر فإنه يدل على أن الجميع من الوتر.

ورواية من روى: ((فأوتر بواحدة)) فيها محذوف، تقديره: فأوتر ما مضى من صلاتك بواحدة، كما صرح به في الرواية الأخرى.

قالَ: ويلي هذا الوجه في القوة الوجهان الأولان، وأبعدها الثالث. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وفي ((شرح المهذب)) : الصحيح المنصوص – يعني: عن الشافعي في ((الأم)) و ((المختصر)) -: أن الوتر يسمى تهجداً.

وفيه وجه: أنه لا يسمى تهجدا بل الوتر غير التهجد.

وهذا هو الذي ذكره بعض أصحابنا.

وينبغي أن يكون مبنياً على القول بأن الوتر هو الركعة المنفردة وحدها، فأما إن قلنا: الوتر الركعة بما قبلها، فالوتر هو التهجد، وإن لم ينو به الوتر.

وقد كان ابن عمر يفصل بين الركعة التي يوتر بها وما قبلها بكلام، كما في رواية البخاري.

واستحب أحمد أن يكون عقيبها، ولا يؤخرها عما قبلها. وقال: كان ابن عمر يستحب أن يتكلم بينهما بالشيء، ثم يقوم فيوتر بركعة 0وقال: هذا عندنا ثبت، ونحن نأخذ به.

وينبغي أن يكون الاختلاف في تسمية ما قبل الركعة الأخيرة

ص: 119

وتراً مختصاً بما إذا كانت الركعات مفصولة بالتسليم بينها، فأما إن أوتر بتسع، أو بسبع، أو بخمس، أو ثلاث بسلام

واحد، فلا ينبغي التردد في أن الجميع وتر.

ويدل عليه: ما خرجه مسلم، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ن يوتر في ذلك بخمس، ولا يجلس إلا في آخرهن.

فجعلت الوتر الخمس الموصولة بسلام واحد، دون ما قبلها.

وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر -: ((فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة، توتر له ما صلى)) –وفي رواية تأتي فيما بعد: ((فاركع ركعة واحدة)) - يدل على أن الأفضل تأخير الوتر الإمام آخر الليل. ويأتي الكلام فيه فيما بعد – إن شاء الله سبحانه وتعالى.

ويدل على أن الوتر مأمور به.

وهل الأمر به للوجوب، أم لتأكد الاستحباب؟ فيهِ قولان مشهوران.

وأكثر العلماء على أنه للاستحباب، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم.

وروي عن علي بن أبي طالب وعبادة بن الصامت.

وروي عن أبي أيوب الأنصاري، أنه واجب.

وعن معاذ، من وجه منقطع.

وهو قول أبي

ص: 120

حنيفة وأصحابه، أبي بكر بن جعفر من أصحابنا، ذكره في ((كتاب التنبيه)) .

وكذا قال في صلاة التراويح، مع أنه صرح في ((كتاب الشافي)) بأن الوتر ليس بواجب، وليس هو بفرض كالصلوات الخمس بغير خلاف.

وقد سبق الكلام في ذلك في ((كتاب الإيمان)) عند ذكر حديث طلحة، أن أعرابيا سال النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فذكر له الصلوات الخمس فقالَ: هل علي غيرها؟ قالَ: ((لا، إلا أن تتطوع)) .

وذكرنا قول من قال: أن الوتر واجب على أهل القرآن دون غيرهم، وأنه يرجع إلى القول بوجوب قيام شيء من الليل على أن أهل القرآن خاصة.

وعن الحسن وابن سيرين: لابد من قيام الليل، ولو قدر حلب شاة.

وعن عبيدة السلماني.

وفيه حديث مرفوع، ولا يصح.

ومن المتأخرين من قال: من صلى بالليل تهجدا وجب عليه أن يوتره، ويجعل آخره وترا؛ لحديث ابن عمر، ومن لم يتهجد فلا وتر عليهِ.

وقال أحمد: من ترك الوتر فهو رجل سوء؛ هوَ سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال – في رواية جعفر بن محمد: هوَ رجل سوء، لا شهادة لهُ.

ص: 121

فاختلف أصحابنا في وجه ذلك:

فمنهم من حمله على أنه أراد أنه واجب، كما قاله أبو بكر ابن جعفر، وهو بعيد؛ فإن أحمد صرح بأنه سنة.

ومنهم من قال: أراد إن داوم على تركه أو أكثر منه؛ فإنه ترد شهادته بذلك؛ لما فيه من التهاون بالسنن المؤكدة. وكذا حكم سائر السنن الرواتب، وهذا قول المحققين من أصحابنا.

ومنهم من قال: هو يدل على أن ترك المستحبات المؤكدة يلحق بها إثم دون إثم ترك الفرائض.

وقال القاضي أبو يعلى: من داوم على ترك السنن الرواتب أثم.

وهو قول إسحاق بن راهويه، قال في ((كتاب الجامع)) : لا يعذب أحد على ترك شيء من ترك النوافل، وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنناً غير الفرائض التي فرضها الله، فلا يجوز لمسلم أن يتهاون بالسنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل الفطر والأضحى والوتر والأضحية، وما أشبه ذلك؛ فإن تركها تهاوناً بها فهوَ معذب، إلا أن يرحمه الله، وإني لأخشى في ركعتي الفجر والمغرب؛ لما وصفهما الله في كتابه وحرض عليها، قالَ:{فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [قّ: 40]، وقال:{فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49] .

وقال سعيد بن جبير: لو تركت الركعتين بعد المغرب لخشيت أن لا يغفر لي. انتهى.

الحديث الثاني:

ص: 122

992 -

حديث: ابن عباس، أنه بات عند ميمونة وهي خالته.

فذكر الحديث في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته بالليل ركعتين ركعتين ست مرات.

ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن، فقام، فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى الصبح.

وقد خرّجه في ((الوضوء)) في ((باب: القراءة بعد الحدث)) ، عن إسماعيل، عن مالك.

وخرجه هاهنا، عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك.

وقد خرجه أبو داود، عن القعنبي، وقال القعنبي: ست مرات –يعني: لفظة: ((الركعتين)) .

قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في إسناده، ولا في لفظه.

وقد خرجه البخاري في أواخر ((كتاب العلم)) ، في ((باب: السمر في العلم)) ، من حديث شعبة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل أن ينام أربع ركعات، ثم نام، ثم لما قام من الليل صلى خمس ركعات، ثم صلى ركعتين، ثم نام، ثم خرج إلى الصلاة.

ص: 123

وهذا قد يشعر بأنه أوتر بخمس لم يسلم إلا في آخرهن.

وخرّجه في ((أبواب الصفوف)) –أيضا - بنحوه.

وخرّجه فيها –أيضا - من رواية كريب، فقال فيه، فصلى ثلاث عشرة ركعة، ثم نام حتى نفخ.

وخرّج أبو داود من حديث يحيى بن عباد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس –في هذا الحديث -، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أوتر بخمس لم يجلس بينهن.

وخرّجه أبو داود من حديث محمد بن قيس الأسدي، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وفيه: ثم صلى سبعاً أو خمسا، أوتر بهن، لم يجلس إلا في آخرهن.

ورده الأثرم بمخالفته الروايات الكثيرة الصحيحة عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر تلك الليلة بركعة بعد أن صلى قبلها ركعتين، ثم ركعتين ستاً أو خمساً.

وفي رواية مالك: أن اضطجاع النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل ركعتي الفجر.

وأكثر الروايات تدل على خلاف ذلك، كرواية سلمة بن كهيل، عن كريب، ورواية عبد ربه بن سعيد، عن مخرمة، عن كريب.

وكلاهما مخرجة في ((الصحيحين)) .

وكذلك رواية بكير بن الأشج، عن

ص: 124

كريب.

وهي مخرجة في ((صحيح مسلم)) .

لكن رواه الضحاك بن عثمان، عن مخرمة، عن كريب، عن ابن عباس، وقال في حديثه: أنه صلى إحدى عشرة ركعة، ثم احتبى حتى أني لأسمع نفسه راقداً، فلما تبين له الفجر صلى ركعتين خفيفتين.

خرجه مسلم.

وهذا يوافق [رواية] مالك، إلا أنه يخالفها في ذكر الاحتباء دون الاضطجاع.

ورواه سعيد بن أبي هلال، عن مخرمة –بنحو رواية مالك - أيضاً.

خرّجه أبو داود والنسائي.

وقد روي في هذا الحديث، عن ابن عباس، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صلى تلك الليلة ثمان ركعات، ثم أوتر بثلاث –من وجوه غير قوية.

خرّجه أبو داود من بعضها.

وخرّج مسلم من رواية محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى تلك الليلة ست ركعات، ثم أوتر بثلاث، ثم أذن المؤذن، فخرج إلى الصلاة.

وخرجه أبو داود، وزاد فيه: أنه صلى ركعتي الفجر حين طلع الفجر.

فعلى هذه الرواية: تكون كل صلاته إحدى عشرة ركعة.

ص: 125

وأكثر الروايات تدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلى ثلاث عشرة ركعة.

لكن رواية مالك وسعيد بن أبي هلال، فيهما: أن الثلاث عشرة بدون ركعتي الفجر.

وكذلك رواه الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن كريب، عن ابن عباس.

خرج حديثه النسائي.

وذكر الإمام حمد، أن الأعمش وهم في إسناده.

وأكثر الروايات تدل على أن ركعتي الفجر من الثلاث عشرة، ورواية الضحاك عن مخرمة مصرحة بذلك.

وقد خرّجها مسلم.

وخرّج البخاري –أيضا - ذلك من رواية شريك بن أبي نمر، عن كريب، عن ابن عباس وكذلك خرّج أبو داود، من رواية ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس –فذكر الحديث، فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ثلاث عشرة ركعة، منها ركعتا الفجر، حزرت قيامه في كل ركعة بقدر {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1] .

وفي رواية سعيد بن جبير، عن ابن عباس التي خرجها البخاري، أنه صلى الله عليه وسلم صلى قبل نومه أربعا، ثم بعد قيامه من نومه خمساً، ثم صلى ركعتين.

فهذه إحدى عشرة ركعة.

والظاهر: أن الركعتين بعد الخمس هما ركعتا الفجر.

ص: 126

وخرّجه أبو داود، وعنده: أن نومه كان قبل الركعتين، ثم صلى الركعتين، ثم خرج فصلى الغداة.

وهو يدل على ما قلناه 0.

وخرّجه النسائي، وعنده: أنه صلى خمسا، ثم ركعتين، ثم نام، ثم صلى ركعتين، ثم خرج إلى الصلاة.

فعلى هذه الرواية: صلاته ثلاث عشرة ركعة.

وكل هذه الروايات: من رواية شعبة، عن الحكم.

الحديث الثالث:

ص: 127

993 -

ثنا يحيى بن سليمان: ثنا ابن وهب: أخبرني عمرو، أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتر لك ما صليت)) .

قال القاسم: ورأينا: أناسا منذ أدركنا يوترون بثلاث، وإن كلاً لواسع، أرجو أن لا يكون بشيء منه باس.

هذه الروية بمعنى رواية نافع، عن ابن عمر المتقدمة.

وما ذكره القاسم بن محمد يدل على أنه يجوز الوتر بركعة واحدة، وبثلاث ركعات، وأنه أدرك أناسا يوترون بثلاث.

وقد سبق الكلام في قدر الوتر بما فيه كفاية.

ص: 127

الحديث الرابع:

ص: 128

994 -

ثنا أبو اليمان: انا شعيب، عن الزهري: حدثني عروة، أن عائشة أخبرته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة، كانت تلك صلاته - تعني: بالليل -، فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية، قبل أن يرفع رأسه، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن، حتى يأتيه المؤذن للصلاة.

كذا روى شعيب، عن الزهري هذا الحديث.

ورواه عمرو بن الحارث ويونس، عن الزهري –بمعناه -، وفي حديثهما: أنه كان فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع شقه الأيمن، حتى يأتيه المؤذن للإقامة.

خرّجه مسلم من طريقهما.

وخرّجه أبو داود من طريق الأوزاعي وابن أبي ذئب، عن الزهري - بنحوه أيضاً.

وخرّج ابن ماجه من طريق الأوزاعي وحده.

وخرّجه النسائي من طريق عقيل، عن الزهري –بمعناه.

ص: 128

ورواه مالك، عن الزهري، ولفظه: أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة، فإذا فرغ منها أضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين.

خرجه مسلم.

وخرجه البخاري فيما بعد، في ((ما يقرأ في ركعتي الفجر)) - مختصرا -، ولفظه: كانَ يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين.

كذا خرّجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك.

ولفظ: ((ثلاث عشرة)) غريب، وإنما هو في ((الموطأ)) كما خرجه مسلم:((إحدى عشرة)) .

وكذا خرّجه الترمذي وغيره من طريق مالك.

واسقط البخاري منه: ذكر: ((الاضطجاع)) ؛ لأن مالكاً خالف أصحاب ابن شهاب فيهِ، فإنه جعل الاضطجاع بعد الوتر، وأصحاب ابن شهاب كلهم جعلوه بعد ركعتي الفجر.

وهذا مما عده الحفاظ من أوهام مالك، منهم: مسلم في ((كتاب التمييز)) .

وحكى أبو بكر الخطيب مثل ذلك عن العلماء.

وحكاه ابن عبد البر عن أهل الحديث، ثم قال: يمكن أن يكون ذلك صحيحاً، وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان مرة يضطجع قبل ركعتي الفجر، ومرة بعدها.

ص: 129

وعضده برواية مالك، عن مخرمة، عن كريب، عن ابن عباس، كما سبق.

وقد عضد ذلك أحاديث آخر:

منها: رواية أبي سلمة، عن عائشة: ما ألفى رسول الله، السحر الأعلى في بيتي إلا نائماً.

خرّجاه في ((الصحيحين)) ، ولفظه لمسلم.

وخرّجه مسلم، وزاد فيه:((يعني: بعد الوتر)) .

وفي رواية أبي سلمة، عن عائشة، أنه صلى الله عليه وسلم كان ينام قبل الوتر – أيضا - وأن عائشة سألته عن ذلك، فقال:((أن عيني تنامان، ولا ينام قلبي)) وهذا يدل على أن وقت نومه كان يختلف.

كذا في رواية مالك، عن المقبري، عن أبي سلمة.

وقد خرّجها البخاري – فيما بعد.

ورواه عبد الرحمن بن إسحاق، عن المقبري، فذكر في حديثه: أنه كان ينام بعد العشاء، ثم يقوم فيصلي أربعا، ثم ينام، ثم يقوم فيصلى أربعا، ثم ينام، ثم يقوم فيصلي ثلاثا، يوتر بواحدة، ثم يضطجع ما شاء الله، حتى إذا سمع النداء قام فصلى ركعتين، حتى يأتيه المؤذن، فيخرج إلى الصلاة.

خرجه بقي بن مخلد في ((مسنده)) .

وفي ((الصحيحين)) – أيضا - عن الأسود، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام أول الليل، ويقوم آخره، فيصلي ثم يرجع إلى فراشه، فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كان به حاجة اغتسل، وإلا توضأ وخرج.

ص: 130

وهذا لفظ البخاري.

وزاد مسلم – في رواية -: ((ثم صلى الركعتين)) .

وفي رواية غيرهما: أنه كان يوتر، ثم ينام.

وخرج النسائي من حديث سعد بن هشام، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل، ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين جالسا، ثم يضع جنبه، وربما جاء بلال فآذنه قبل أن يغفى، وربما أغفى، وربما شككت أغفى أم لا.

قالت: فما زالت تلك صلاته صلى الله عليه وسلم.

وخرّجه أبو داود – مختصرا.

وروى الإمام أحمد: نا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد: نا أبي، عن أنس ابن سيرين، قال: قلت لابن عمر: ركعتا الفجر، أطيل فيهما القراءة؟ فقالَ: كانَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح أوتر بركعة، ثم يضع رأسه، فإن شئت قلت: نام، وإن شئت قلت: لم ينم، ثم يقوم إليهما والأذان في أذنيه، فأي طول يكون ثم؟

وخرّجه في ((الصحيحين)) من طريق حماد، عن أنس بن سيرين - مختصرا.

وقد استحب طائفة من السلف الفصل بين صلاة الليل والنهار

ص: 131

بالاضطجاع

بينهما.

روى وكيع في ((كتابه)) ، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن القاسم ابن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، قال: اضطجع ضجعة بعد الوتر.

وعن عاصم بن رجاء، عن أبيه، عن قبيصة بن ذؤيب، عن أبي الدرداء، قال: مر بي أبو الدرداء من آخر الليل وأنا اصلي، فقال: افصل بضجعة بين صلاة الليل وصلاة النهار.

يعني: يعني بعد الوتر، قبل الركعتين.

فهذه رواية الزهري، عن عروة، عن عائشة.

وقد سبق أن هشام بن عروة رواه، عن أبيه، عن عائشة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر منها بخمس، لا يجلس إلا في آخرهن.

وقد خرجه مسلم - بمعناه.

وفي رواية عن هشام، أنه كان يصلي قبل هذه الخمس ثمان ركعات،

ص: 132

يجلس في كل ركعتين ويسلم.

ورواه ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي ثلاث عشرة ركعة، بركعتيه قبل الصبح، يصلي ستا مثنى مثنى، ويوتر بخمس، لا يقعد بينهن إلا في آخرهن.

خرّجه أبو داود.

وذكر البيهقي في ((كتاب المعرفة)) ، عن الشافعي، أنه اختار حديث الزهري، من غير أن يضيق غيره؛ لفضل حفظ الزهري على حفظ غيره؛ ولموفقته رواية القاسم، عن عائشة، ورواية الجمهور عن [ابن] عمر وابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: وبهذا النوع من الترجيح ترك البخاري رواية هشام في الوتر، ورواية سعد بن هشام، عن عائشة في الوتر، فلم يخرج واحدة منهما في ((صحيحه)) ، مع كونهما من شرطه في سائر الروايات.

ثم ذكر بإسناده، عن أبي معين، قال: الزهري اثبت في عروة من هشام بن عروة في عروة 0

وخرّج مسلم من حديث عراك، عن عروة عن عائشة، أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، بركعتي الفجر.

وقد روى هذا المعنى، عن عائشة: أبو سلمة والقاسم بن محمد ومسروق.

وقد خرّج البخاري أحاديثهم، وتأتى - فيما بعد.

ولفظه

ص: 133

حديث مسروق، عنده: قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، فقالت: سبع وتسع وإحدى عشرة.

وخرّج مسلم من حديث عبد الله بن شقيق، عن عائشة، أن النبي، كان يصلي في بيتها بعد العشاء ركعتين، وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر.

ففي هذه الرواية: أن الإحدى عشرة التي كان يصليها بالليل منها ركعتان بعد العشاء، قبل أن ينام.

وقد تقدم في رواية عمرو بن الحارث ويونس، عن الزهري، عن عروة عن عائشة ما يشهد لذلك –أيضا.

وقد روي عنها، أن الإحدى عشرة ركعة منها ركعتان كان يصليهما بعد الوتر.

روى ذلك عنها: أبو سلمة وسعد بن هشام.

وسنذكر حديثهما فيما بعد – أن شاء الله سبحانه وتعالى.

وفي حديث سعد، عنها: أنه كان يصلي إحدى عشرة، ثم لما أسن واخذ اللحم صلى تسعاً.

خرّجه مسلم.

وخرّج أبو داود من رواية أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ثلاث عشرة ركعة من الليل، ثم أنه

ص: 134

صلى إحدى عشرة ركعة وترك ركعتين، ثم قبض حين قبض وهو يصلي من الليل تسع ركعات.

وخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه من رواية الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل تسع ركعات.

وحسنه الترمذي.

وفي إسناده: اختلاف عن الأعمش.

وقد روي عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن يحيى بن الجزار، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل تسع ركعات، فلما كثر لحمه وسن صلى سبع ركعات.

خرّجه النسائي.

ورواه أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الجزار، عن أم سلمة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث عشرة، فلما كبر وضعف أوتر بسبع.

خرّجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي، وحسنه.

ص: 135

أبو معاوية، مقدم على أصحاب الأعمش، إلا أن الدارقطني قال: من قال فيه: ((عن عمارة بن عمير)) فهو أشبه بالصواب من قول من قال: ((عمرو بن مرة)) .

وقال الأثرم: اضطرب الأعمش في إسناده وفي متنه. قال: ويحيى الجزار، لم يلق عائشة، ولا أم سلمة.

وخرّج الإمام أحمد وأبو داود من حديث معاوية بن صالح، عن عبد الله بن أبي قيس، قال: سألت عائشة: بكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر؟ قالت: بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان وثلاث، وعشرة وثلاث، ولم يكن يوتر بأكثر من ثلاث عشرة، ولا بأنقص من سبع، وكان لا يدع ركعتين قبل الفجر.

ففي هذه الرواية: أن مجموع صلاة الليل تسمى وتراً، وأنه كان يوتر بثلاث عشرة سوى ركعتي الفجر، ولعلها أدخلت في ذلك الركعتين بعد صلاة العشاء حتى توافق سائر الروايات عنها 0

وأما إطالة السجود المذكور في حديث عائشة الذي خرجه، فقد بوب عليه في ((أبواب قيام الليل)) ، واعاد فيه الحديث، ويأتي الكلام على معناه هنالك –إن شاء الله سبحانه وتعالى.

ص: 136

‌2 - باب

ساعات الوتر

وقال أبو هريرة: أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم بالوتر قبل النوم.

حديث أبي هريرة هذا، قد أسنده في ((أبواب صلاة الضحى)) من رواية شعبة: ثنا الجريري، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي هريرة، قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث، لا أدعهن حتى أموت: صيام ثلاثة أيام من كل شهرٍ، وصلاة الضحى، ونوم على وتر0.

وخرّجه مسلم، وزاد فيه: عن عباس الجريري وأبي شمر الضبعي كلاهما، عن أبي عثمان.

وخرّجاه - أيضا - من رواية أبي التياح، عن أبي عثمان، عن أبي هريرة - بنحوه، وفي حديثه: وأن أوتر قبل أن أنام.

وخرجه مسلم وحده من رواية أبي رافع الصائغ، عن أبي هريرة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث أبي عثمان، عنه.

وله طرق كثيرة جدا، عن أبي هريرة، قد ذكرت كثيرا منها في ((كتاب شرح الترمذي)) .

ص: 137

وذكر الحافظ أبو موسى المديني، أنه رواه عن أبي هريرة قريب من سبعين رجلا.

وفي متنه –أيضا – اختلاف، إلا أن المحفوظ منه: ذكر هذه الخصال الثلاث المذكورة في رواية أبي عثمان.

وقد روي عن أبي الدرداء، أن النبي صلى الله عليه وسلم وصاه بهذه الخصال الثلاث –أيضا.

خرّجه مسلم في ((صحيحه)) .

وروي –أيضا - عن أبي ذر، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أوصاه بها.

خرّجه الإمام أحمد والنسائي.

وخرّج ابن ماجه من حديث عمر بن الخطاب، أن النبي، قال:((لا تنم إلا على وتر)) .

وخرّجه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد.

وهو قطعة من حديث، خرج بعضه أبو داود –أيضا.

وقال على بن المديني: إسناده مجهول.

وخرج الإمام أحمد بإسناد فيه انقطاع، عن سعد بن أبي وقاص، أنه كان يوتر بعد العشاء بركعة، يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذي لا ينام حتى يوتر حازم)) .

وخرّج البزار بإسناد ضعيف جداً، عن علي بن أبي طالب: نهاني

ص: 138

رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنام إلا على وتر.

وخرّج ابن عدي بإسناد ضعيف، عن عمار بن ياسر، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوتر قبل أن تنام)) .

وروى الإمام أحمد: ثنا أبو سلمة الخزاعي: ثنا عبد الرحمن بن أبي الموالي: أخبرني نافع بن ثابت، عن ابن الزبير، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العشاء ركع أربع ركعات، وأوتر بسجدة، ثم نام حتى يصلي بعد صلاته بالليل.

نافع، هو ابن ثابت بن عبد الله بن الزبير، ورواياته عن جده ابن الزبير منقطعة –في ظاهر كلام البخاري وأبي حاتم.

خرّج البخاري في هذا الباب حديثين:

الأول:

ص: 139

995 -

نا أبو النعمان: نا حماد بن زيد: نا أنس بن سيرين، قال: قلت لابن عمر: أرأيت ركعتين قبل صلاة الغداة، أطيل فيهما القراءة؟ قالَ: كانَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل مثنى مثنى، ويوتر بركعة، ويصلي الركعتين قبل صلاة الغداة، وكان الأذان بأذنيه. قالَ حماد: أي: سرعة.

وخرّجه مسلم – بمعناه.

وخرّجه من حديث شعبة، عن أنس بن

ص: 139

سيرين، وزاد فيه: ويوتر بركعة من آخر الليل.

وخرّجه الإمام أحمد من حديث حبيب بن الشهيد، عن أنس بن سيرين، وفيه: فإذا خشي الصبح أوتر بركعة.

وقد تقدم لفظه بتمامه.

وقد تقدم حديث نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة)) .

خرج مسلم من حديث أبي مجلز: سمعت ابن عمر يحدث، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قالَ:((الوتر ركعة من آخر الليل)) .

وفي رواية – أيضا -: سألت ابن عباس عن الوتر، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ركعة من آخر الليل)) ، وسألت ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ركعة من آخر الليل)) .

الحديث الثاني:

ص: 140

996 -

نا عمر بن حفص: نا أبي: نا الأعمش: نا مسلم، عن مسروق، عن عائشة، قالت: كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى وتره إلى السحر.

((مسلم)) ، هو: ابن صبيح أبو الضحى، وصُبيح بضم الصاد.

وخرّجه مسلم – أيضا – من طريق الأعمش، ولفظه: ((من كل الليل

ص: 140

قد

أوتر)) - الحديث.

وخرّجه من حديث سعيد بن مسروق، عن أبي الضحى، كما خرجه البخاري – أعني:((كل الليل أوتر)) –، إلا أنه قال:((فانتهى وتره إلى آخر الليل)) .

وخرّجه أيضا من رواية أبي حصين، عن يحيى بن وثاب، عن مسروق، عن عائشة، قالت: من كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أول الليل، وأوسطه، وآخره، فانتهى وتره إلى السحر 0

وهذه الرواية تصرح بأن المراد: أنه صلى الله عليه وسلم كانَ يوتر أحيانا من أول الليل، وأحيانا من وسطه، وأحيانا من آخره، وأنه ليس المراد: أن وتره وقع في كل ساعة ساعة من الليل، أو في كل جزء جزء منه.

وروي هذا الحديث عن عائشة –بمعناه – من رواية ربيعة الجرشي، وعبد الله بن أبي قيس عنها، وغضيف بن الحارث، ويحيى بن يعمر.

ص: 141

وروي عن علي من رواية أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، قال: من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أوله، وأوسطه، وانتهى وتره إلى السحر.

خرّجه الإمام أحمد وابن ماجه.

وخرّجه أحمد –أيضا – من رواية أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي – بنحوه.

وقال علي بن المديني: هو إسناد كوفي حسن.

وروي عن عبد خير، عن علي – بنحوه – أيضا.

وخرّج الإمام أحمد –أيضا – بإسناد جيد، عن أبي مسعود الأنصاري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر من أول الليل وأوسطه وآخره.

وخرّج الإسماعيلي في ((مسند عمر)) من رواية أبي بكر بن أبي مريم، عن ضمرة بن حبيب، عن الحارث بن معاوية، قال: سألت عمر عن الوتر في أول الليل، أو في وسطه، أو في آخره؟ فقالَ عمر: كل ذَلِكَ قد عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ائت أمهات المؤمنين فسلهن عن ذَلِكَ؛ فإنهن أبصر بما كان يصنع من ذلك، فأتاهن فسألهن، فقلن له: كل ذلك قد عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبض وهو يوتر من آخر الليل.

أبو بكر بن أبي مريم، ضعيف.

ص: 142

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه حسن الوتر من أول الليل ومن آخره.

كما خرّجه الإمام أحمد وابن ماجه من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ((أي حين توتر؟)) قالَ: أول الليل بعد العتمة 0 قالَ: ((فأنت يا عمر؟)) قال: آخر الليل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما أنت يا أبا بكر فقد أخذت بالوثقى، وأما أنت يا عمر فقد أخذت بالقوة)) .

وخرّجه أبو داود من حديث عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم – نحوه.

وإسناده ثقات، إلا أن الصواب عند حذاق الحفاظ: عن ابن رباح – مرسلا.

وقد روي هذا الحديث من رواية ابن عمر وعقبة بن عامر وغيرهما، بأسانيد لينة.

ورواه الزهري، عن سعيد بن المسيب - مرسلا -، وهو من أجود

ص: 143

المراسيل.

كذا رواه الزبيدي وغيره عن الزهري.

ورواه بعضهم، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة.

والصواب إرساله -: قاله الدارقطني.

ورواه مسعر، عن سعد بن إبراهيم، واختلف عنه: فقيل: عن مسعر، عن سعد، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري.

وقيل: عنه، عن سعد، عن أبي سلمة – مرسلا.

وقيل: عنه، عن سعد، عن ابن المسيب، عن أم سلمة.

والظاهر: أنه غير ثابت.

وخرّجه ابن مردويه من هذا الوجه، وفي حديثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أما أنت يا أبا بكر، كما قال القائل: أحرزت نهبي وأبتغي النوافل 0 وأما أنت يا عمر، فتأخذ – أو تعمل - عمل الأقوياء)) .

ص: 144

ورواه وكيع في ((كتابه)) عن معسر، عن ابن المسيب –مرسلا -، وزاد فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: ((أنت مثل الذي قال: أحرزت نهبي وأبتغي النوافل)) .

وهذه الرواية أصح 0 والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقد رواه الشافعي، عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن المسيب – مرسلا – بهذه الزيادة – أيضا.

والكلام في وقت الوتر في مسألتين:

إحداهما:

في وقت جوازه.

فذهب أكثر أهل العلم إلى أن أول وقته من بعد صلاة العشاء، فلو أوتر من قبل صلاة العشاء لم يقع موقعا وأمر بإعادته.

ولو كان ناسيا، أو ظانا أنه قد صلى العشاء، مثل أن يصلي العشاء محدثا ناسيا، ثم يتوضأ ويصلي الوتر، ثم يذكر بعد الصلاة أنه صلى العشاء ناسيا، فإنه يقضي القضاء ثم الوتر.

هذا قول جمهور العلماء، منهم: الثوري والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد..

وقال أبو حنيفة: وقته وقت العشاء؛ فإنه واجب عنده، ويجب الترتيب بينهما، بشرط الذكر ويسقط بالسهو، فلا يعيد الوتر – عنده – في الصورة المذكورة.

ص: 145

وكذلك مذهب سفيان، إذا صلى الوتر ناسيا للعشاء، ثم ذكر، أنه يصلي العشاء ولا يعيد الوتر.

وللشافعية وجهان آخران:

أحدهما: أن وقته يدخل بدخول وقت العشاء، ويجوز فعله قبل صلاة العشاء، تعمد ذلك أو لم يتعمد.

والثاني: أن وقته لا يدخل إلا بعد العشاء وصلاة أخرى، فإن كان وتره بأكثر من ركعة صح فعله بعد صلاة العشاء، وإن أوتر بركعة لم يصح حتى يتقدمه نفل بينه وبين صلاة العشاء.

واستدل لقول الجمهور بحديث خارجة بن حذافة، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:((إن الله قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم: الوتر، جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر)) .

خرّجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي – وغربه – والحاكم - وصححه.

وقال الأثرم: ليس بقوي.

وخرّجه الإمام أحمد بإسناد جيد، عن أبي بصرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله زادكم صلاة، وهي الوتر، فصلوها ما بين العشاء إلى أن يطلع

ص: 146

الفجر)) .

وبإسناد فيه انقطاع، عن معاذ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((زادني ربي صلاة، هي الوتر، ووقتها بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر)) .

وأما آخر وقته، فذهب الأكثرون إلى أنه يخرج وقته بذهاب الليل، فإذا طلع الفجر صار فعله قضاء، وما دام الليل باقيا، فإن وقته باق.

ولا نعلم في ذلك خلافا، إلا ما ذكره القاضي أبو يعلى من أصحابنا في كتابه ((شرح المذهب)) ، أنه إذا أخره حتى خرج وقت العشاء المختار – وهو نصف الليل، أو ثلثه – صار قضاء.

وهذا قول ساقط جدا؛ لأن صلاة العشاء لا تصير قضاء بتأخيرها حتَّى يخرج وقتها المختار، وإن قيل: إن تأخيرها إليه عمدا لا يجوز، كما سبق ذكره في ((المواقيت)) ، فكيف يصير تأخير الوتر إلى ذَلِكَ الوقت قضاء؟ وأما إذا خرج الليل بطلوع الفجر، فإنه يذهب وقت أدائه عند جمهور العلماء، ويصير قضاء حينئذ.

وهو قول الشافعي وأحمد - في المشهور عنهما -، وقول أبي حنيفة والثوري.

وروي عن عمر وابن عمر وأبي موسى وأبي الدرداء وسعيد بن جبير وعطاء والنخعي.

حتى قال

ص: 147

النخعي: لأن يدركني الفجر وأنا أتسحر أحب إلي من أن يدركني وأنا أوتر.

ويدل عليه: حديث: ((فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة)) ، وسيأتي حديث:((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا)) . وخرّج مسلم من طرق، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: كيف صلاة الليل؟ قالَ: ((مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فصل ركعة، واجعل آخر صلاتك وترا)) .

وخرّجه من طريق ابن أبي زائدة، عن عاصم الأحوال، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((بادروا الصبح بالوتر)) .

وهذا لعله رواه بالمعنى من الحديث الذي قبله.

وخرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث ابن أبي زائدة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((بادروا الصبح بالوتر)) .

وصححه الترمذي.

وقد ذكر الدارقطني وغيره: أن ابن أبي زائدة تفرد بهذا الحديث

ص: 148

بالإسنادين.

وذكر الأثرم: أنه ذكر لأبي عبد الله – يعني: أحمد بن حنبل – حديث ابن أبي زائدة هذا من الوجهين، فقال: في الإسناد الأول: عاصم، لم يرو عن عبد الله بن شقيق شيئا، ولم يروه إلا ابن أبي زائدة، وما أدري. فذكر له الإسناد الثاني، فقال أحمد: هذا أراه اختصره من حديث: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة)) ، وهو بمعناه. قالَ: فقلت له: روى هذين أحد غيره؟ قالَ: لا.

قلت: والظاهر أنه اختصر حديث عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر أيضا -، كما اختصر حديث عبيد الله، عن نافع، عنه. والله أعلم.

وخرج مسلم – أيضا – من حديث ابن جريج: أخبرني نافع، أن ابن عمر كان يقول: من صلى بالليل فليجعل صلاته وترا قبل الصبح، كذلك كان رسول الله يأمرهم.

خرجه، عن هارون بن عبد الله: نا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج – فذكره.

وخرجه الترمذي عن محمود بن غيلان، عن عبد الرزاق: أنا ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا طلع الفجر فقد ذهب [كل] صلاة الليل والوتر، فأوتروا قبل

ص: 149

طلوع الفجر)) .

وقال: تفرد به سليمان بن موسى على هذا اللفظ.

وذكر المروذي عن أحمد، أنه قال: لم يسمعه ابن جريج من سليمان بن موسى، إنما قال:((قال سليمان)) . قيل له: إن عبد الرزاق قد قال: عن ابن جريج: أنا سليمان؟ فأنكره، وقال: نحن كتبنا من كتب عبد الرزاق، ولم يكن بها، وهؤلاء كتبوا عنه بأخرة.

وخرجه الحاكم من طريق محمد بن الفرج الأزرق: نا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: حدثني سليمان بن موسى: نا نافع، أن ابن عمر كان يقول: من صلى من الليل فليجعل آخر صلاته وترا؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، فإذا كانَ الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((أوتروا قبل الفجر)) .

وقال: إسناد صحيح.

وهذه الرواية أشبه من رواية الترمذي؛ فإن فيها أن ذهاب كل صلاة الليل بطلوع الفجر، إنما هوَ من قول ابن عمر، واستدل لهُ بأمر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم -

ص: 150

بالوتر قبل الفجر.

ورواية ابن جريج التي صرح فيها بسماعه من نافع – كما خرجه مسلم - ليس فيها شيء مما تفرد به سليمان بن موسى، وسليمان مختلف في توثيقه.

وخرج مسلم –أيضا – من رواية يحيى بن أبي كثير: أخبرني أبو نضرة، أن أبا سعيد أخبرهم، أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الوتر، فقال:((أوتروا قبل الصبح)) .

وخرجه الإمام أحمد، ولفظه: قال: ((الوتر بليل)) .

وخرجه ابن خزيمة والحاكم، من حديث قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من أدرك الصبح ولم يوتر فلا وتر له)) .

وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.

وذهب طائفة إلى أن الوتر لا يفوت وقته حتى يصلي الصبح: فروي عن علي وابن مسعود، وقال: الوتر ما بين الصلاتين.

يريدان: صلاة العشاء وصلاة الفجر.

وعن عائشة –معنى ذلك.

ص: 151

وممن روي عنه، أنه أوتر بعد طلوع الفجر: عبادة بن الصامت وأبو الدرداء وحذيفة وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة وفضالة بن عبيد وغيرهم.

وقال أيوب وحميد الطويل: أكثر وترنا لبعد طلوع الفجر.

وهو قول القاسم بن محمد وغيره.

وذكر ابن عبد البر: أنه لا يعرف لهؤلاء الصحابة مخالف في قولهم 0 قال: ويحتمل أن يكونوا قالوه فيمن نسيه أو نام عنه، دون من تعمده.

وممن ذهب إلى هذا: مالك والشافعي – في القديم – وأحمد – في رواية عنه – وإسحاق0

وقد ذكرنا – فيما تقدم - حديث أبي بصرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:((صلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر)) .

وخرج الطبراني بإسناد ضعيف، عن عقبة بن عامر وعمرو بن العاص كلاهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال – في صلاة الوتر -:((هي لكم ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الشمس)) .

ص: 152

وقد حكى يحيى بن آدم، عن قوم، أن الوتر لا يفوت وقته حتى تطلع الشمس.

وظاهر هذا: أنه يوتر بعد صلاة الصبح، ما لم تطلع الشمس، وتكون أداء.

وفي ((المسند)) ، عن علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر عند الآذان.

وقد سبق ذكره في الصلاة إذا أقيمت الصلاة.

وفيه –أيضا – بإسناد فيه جهالة، عن علي، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نوتر هذه الساعة، ثم أمر المؤذن أن يؤذن أو يقيم.

وخرّج الطبراني من حديث أبي ذر، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوتر بعد

الفجر.

وفي إسناده اختلاف.

وروي مرسلا.

والمرسل أصح عند أبي حاتم وأبي زرعة الرزايين.

وروى ابن جريج: أخبرني زياد بن سعد، أن أبا نهيك أخبره، أن أبا الدرداء خطب، فقال: من أدركه الصبح فلا وتر له 0 فقالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدركه الصبح فيوتر.

خرّجه الطبراني.

وخرّجه الإمام أحمد، ولفظه: كان يدركه بصبح

ص: 153

فيوتر.

وأبو نهيك، ليس بالمشهور. ولا يدرى: هل سمع من عائشة، أم لا؟

وقد روي عن أبي الدرداء خلاف هذا.

وخرّج الحاكم من رواية أبي قلابة، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: ربما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوتر، وقد قام الناس لصلاة الصبح.

وقال: صحيح الإسناد.

وخرّج – أيضا – من رواية محمد بن فليح، عن أبيه، عن هلال بن علي، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((إذا أصبح أحدكم ولم يوتر فليوتر)) .

وقال: صحيح على شرطهما.

والبخاري يخرج بهذا الإسناد كثيرا.

وروى زهير بن معاوية، عن خالد بن أبي كريمة، عن معاوية بن قرة، عن الأغر المزني، أن رجلا قال: يا رسول الله، أصبحت ولم أوتر؟ فقالَ:((إنما الوتر بليل)) – ثلاث مرات أو أربعة -، ثُمَّ قالَ:((قم فأوتر)) .

ص: 154

وخرجه البزار – مختصرا، ولفظه:((من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له)) .

ورواه وكيع في ((كتابه)) عن خالد بن أبي كريمة، عن معاوية بن قرة – مرسلا.

وهو أشبه.

وروى وكيع، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم – مثله -، إلا أنه قال: عن الوتر حتى أصبحت.

وفي المعنى –أيضا – عن أبي سعيد الخدري – مرفوعا – من وجهين، لا يصح واحد منهما.

وروى أيوب بن سويد، عن عتبة بن أبي حكيم، عن طلحة بن نافع، عن ابن عباس، أنه بات عند النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فصلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فجعل يسلم من كل ركعتين، فلما انفجر الفجر قام فأوتر بركعة، ثم ركع ركعتي الفجر، ثم اضطجع.

خرّجها الطبراني وابن خزيمة في ((صحيحه)) .

وحمله: إنما أوتر بعد طلوع الفجر الأول.

ص: 155

ثم خرج من رواية عباد بن منصور، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس، أنه بات ليلة عند النبي صلى الله عليه وسلم – فذكر الحديث، وفيه [فذكر] فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ما كان عليه من الليل، مثنى مثنى، ركعتين ركعتين، فلما طلع الفجر الأول، قام فصلى تسع ركعات، يسلم في كل ركعتين، وأوتر بواحدة، وهي التاسعة، ثم أمسك حتى إذا أضاء الفجر جدا قام فركع ركعتي الفجر، ثم نام.

قلت: وكلا الحديثين إسناد ضعيف. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وعلى تقدير صحة هذه الأحاديث، أو شيء منها، فقد تحمل على أن الوتر يقضى بعد ذهاب وقته، وهو الليل، لا على أن ما بعد الفجر وقت له.

والمشهور عن أحمد: أن الوتر يقضى بعد طلوع الفجر، ما لم يصل الفجر، وإن كان لا يتطوع عنده في هذا الوقت بما لا سبب له. وفيما له سبب عنه فيه خلاف، فأما الوتر فإنه يقضى في هذا الوقت.

ومن الأصحاب من يقول: لا خلاف عنه في ذلك، منهم: ابن أبي موسى

وغيره.

ص: 156

وحكي للشافعي قول كذلك: أنه يقضي الوتر ما لم يصل الفجر.

وقال أبو بكر – من أصحابنا -: يقضي ما لم تطلع الشمس.

وهذا القول يرجع إلى أن الوتر يقضيه من نام عنه أو نسيه.

وقد اختلف العلماء في قضاء الوتر إذا فات:

فقالت طائفة: لا يقضى، وهو قول أبي حنيفة ومالك، ورواية عن أحمد وإسحاق، وأحد قولي الشافعي.

وحكاه أحمد عن أكثر العلماء.

ويروى عن النخعي، أنه لا يقضى بعد صلاة الفجر، وعن الشعبي.

وقالت طائفة: يقضى، وهو قول الثوري والليث بن سعد، والمشهور عن الشافعي، ورواية عن أحمد.

والصحيح عند أصحاب الشافعي: أن الخلاف في قضاء الوتر والسنن الرواتب سواء.

ومنهم من قال: يقضي ما يستقل بنفسه كالوتر، دون ما هو تبع كالسنن الرواتب.

والمنصوص عن أحمد وإسحاق: أنه يقضي السنن الرواتب دون الوتر، إذا صلى الفجر ولم يوتر.

ونص عليه في رواية غير واحد من أصحابه.

ص: 157

واستدل من قال: لا يقضي الوتر بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نام أو شغله مرض أو غيره عن قيام الليل صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة.

خرجه مسلم من حديث عائشة.

فدل على أنه كان يقضي التهجد دون الوتر.

ويجاب عن هذا: بأنه يحتمل أنه كان إذا كان له عذر يوتر قبل أن ينام، فلم يكن يفوته الوتر حينئذ.

هذا في حال المرض ونحوه ظاهر، وأما في حال غلبة النوم فيه نظر.

وخرج النسائي حديث عائشة، ولفظه: كان إذا لم يصل من الليل منعه من ذلك نوم [غلبه عنه] أو وجع، صلى من النهار ثلاث عشرة ركعة.

فإن كانت هذه الرواية محفوظة دلت على أنه كان يقضي الوتر.

واستثنى إسحاق أن يكون نام عن الوتر وصلاة الفجر حتى طلعت الشمس، فقال: يقضي الوتر، ثم يصلي سنة الفجر، ثم يصلي المفروضة.

وقد ورد في هذا حديث، ذكرناه في قضاء الصلوات.

وخرجه النسائي من حديث محمد بن المنتشر، عن أبيه، أنه كان في منزل عمرو بن شرحبيل، فأقيمت الصلاة، فجعلوا ينتظرونه، فجاء فقال: إني كنت أوتر. وقال: سئل عبد الله: هل بعد الأذان وتر؟ قالَ: نعم،

ص: 158

وبعد الإقامة، وحدث عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ نام عن الصَّلاة حتَّى طلعت الشمس، ثُمَّ صلى.

فإن كان مراده: أنه نام عن الوتر فذاك، وإن كان مراده: أنه نام عن الفريضة ثم قضاها، فيكون مراده إلحاق القضاء الوتر بالقياس.

وكذا روي عن ابن عمر، أنه قاس قضاء الوتر على قضاء الفرض.

وأخذه بعضهم من عموم قوله: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)) .

خرجه مسلم. وقد سبق في موضعه.

فيدخل في عمومه الوتر.

وجاء في حديث التصريح به، من رواية عبد الرحمن بن زيد بن اسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((من نام عن الوتر أو نسيه فليصله إذا ذكره)) .

خرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه.

وخرجه الترمذي –أيضا - من رواية عبد الله بن زيد بن اسلم، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:((من نام عن وتره فيصله إذا أصبح)) .

وقال: هذا أصح.

وذكر: أن عبد الله بن زيد ثقة، وأخاه عبد الرحمن ضعيف.

ص: 159

ولكن خرجه أبو داود والحاكم من حديث أبي غسان محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن أبي سعيد –مرفوعاً.

وقال الحاكم: صحيح على شرطهما.

وخرجه الدارقطني من وجه آخر، عن زيد –كذلك.

لكنه إسناد ضعيف.

ورده بعضهم بأن أبا سعيد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أوتروا قبل أن تصبحوا)) ، وهذا يخالفه وليس كذلك؛ فإن الأمر بالإيتار قبل الصبح أمر بالمبادرة إلى أدائه في وقته، فإذا فات وخرج وقته، ففي هذا أمر بقضائه، فلا تنافي بينهما.

وفي تقييد الأمر بالقضاء لمن نام او نسيه يدل على أن العامد بخلاف ذلك، وهذا متوجه؛ فإن العامد قد رغب عن هذه السنة، وفوتها في وقتها عمداً، فلا سبيل لهُ بعد ذَلِكَ إلى استدراكها، بخلاف النائم والناسي.

وممن روي عنه الأمر بقضاء الوتر من النهار: علي وابن عمر وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن والشعبي وحماد.

وهو قول الشافعي –في صحيح عنه - وأحمد –في رواية.

والأوزاعي، إلا أنه قال: يقضيه نهاراً وبالليل ما لم يدخل وقت الوتر بصلاة العشاء الآخرة، ولا يقضيه بعد ذلك؛ لئلا يجتمع وتران في ليلة.

ص: 160

وعن سعيد بن جبير، قالَ: يقضيه من الليل القابلة.

وظاهر هذا: أنه لا يقضيه إلا ليلاً؛ لأن وقته الليل، فلا يفعل بالنهار.

المسألة الثانية:

في وقت أفضل الوتر.

قد كان كثير من الصحابة يوتر من أول الليل، منهم: أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان وعائذ بن عمرو وأنس ورافع بن خديج وأبو هريرة وأبو ذر وأبو الدرداء.

وهؤلاء الثلاثة أوصاهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فتمسكوا بوصيته.

ومنهم من كان يفعل ذلك خشية من هجوم الموت في النوم؛ فإنهم كانوا على نهاية من قصر الأمل.

وذهب طائفة إلى أن الوتر قبل النوم افضل، وهو أحد الوجهين للشافعية.

وهو مقتضى قول القاضي أبي يعلى من أصحابنا في كتابه ((شرح المذهب)) ، حيث ذكر أن وقت الوتر تابع لوقت العشاء، وأنه يخرج وقته بخروج وقت العشاء المختار.

وقال أبو حفص البرمكي من أصحابنا –في شهر رمضان خاصة لمن

ص: 161

صلى التراويح خلف الإمام -: فإن الأفضل أن لا ينصرف المأموم حتى ينصرف إمامه.

ونقل مهنا، عن أحمد، أنه كان يوتر قبل أن ينام، وقال: هو أحوط، وما يدريه؟ لعله لا ينتبه.

وهذا يدل على أن الأخذ بالاحتياط أفضل.

وروى شهر بن حوشب، عن ابن عباس، قال: النوم على وتر خير.

وقال عمر: الأكياس يوترون أول الليل، والأقوياء يوترون آخر الليل.

خرجهما وكيع.

وقد سبق هذا المعنى مرفوعاً من وجوه.

والكيس: هو الحذر الحازم المحتاط لنفسه، الناظر إلى عواقب الأمور.

وممن كان يقدم الوتر: ابن المسيب والشعبي.

وكان أكثر من السلف يوتر في آخر الليل، منهم: عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وغيرهم.

وروى وكيع، عن الربيع بن صبيح، عن ابن سيرين، قال: ما يختلفون أن الوتر من آخر الليل أفضل.

واستحبه النخعي ومالك والثوري وأبو حنيفة وأحمد –في المشهور عنه - وإسحاق، إن قوي

ص: 162

ووثق بنفسه القيام من آخر الليل، فأما من ليس كذلك فالأفضل في حقه أن يوتر قبل النوم.

وروي هذا المعنى عن عائشة.

واستدلوا بما خرجه مسلم من حديث أبي سفيان، عن جابر، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:((من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فان صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك افضل)) .

وفي رواية له: ((محضورة)) .

وخرجه –أيضا - من رواية ابي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم –بنحوه.

وحمل بعض هؤلاء أحاديث الأمر بالوتر قبل النوم على من خاف أن لا يقوم آخر الليل.

وهذا بعيد جداً في حق أولئك الصحابة، الذين أمروا بالوتر قبل النوم، مع ما عرف من شدة اجتهادهم، وكثرة تهجدهم.

ومنهم من حمله على بيان الجواز، وعدم الكراهة.

ومنهم من أشار إلى نسخة.

وروى الإسماعيلي في ((مسند علي)) بإسناد مجهول، عن السدي، عن الربيع بن خثيم، قال: خرج علينا على حين يبلج الصبح، فقال: إن جبريل أتى نبيكم النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يوتر أول الليل، فأوتر كما أمره الله، ثم أتاه فأمره أن يوتر وسطاً من الليل، فأوتر كما أمره الله، ثم أتاه

ص: 163

فأمره أن يوتر هذه الساعة، فقبض نبيكم صلى الله عليه وسلم وهو يوتر من هذه الساعة، أين السائلون عن الوتر، نعم ساعة الوتر.

وحديث عائشة: ((أنه انتهى وتره الى السحر)) قد يشعر بذلك، وأنه ترك الوتر من أول الليل ووسطه، واستقر عمله على الوتر من آخر، وإنما كان ينتقل من الفاضل إلى الأفضل وعلى هذا: فهل الأفضل الوتر إذا خشي طلوع الفجر، كما دل عليه حديث ابن عمر، وكان ابن عمر يفعل ذلك، ويوتر من السحر.

قال الثوري: كانوا يحبون أن يؤخروا الوتر آخر الليل، وقد بقي عليهم من الليل شيء.

وقال إسحاق: [كانوا] يستحبون أن يوتروا آخر الليل، وأن يوتروا وقد بقي من الليل نحو مما ذهب منه من صلاة المغرب، واستدل بقول عائشة:((فانتهى وتره الى السحر)) .

نقله عنه حرب.

وروى وكيع في ((كتابه)) عن الأعمش، عن إبراهيم، أنه بات عند عبد الله ابن مسعود، فسئل: أي ساعة أوتر؟ قالَ: إذا بقي من الليل مثل ما مضى إلى صلاة المغرب.

وعن سفيان، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عباس –بنحوه.

ص: 164

ومعنى ذلك: أنه يوتر وقد بقي من الليل قبل طلوع الفجر مقدار ما يصلي فيه صلاة المغرب، بعد دخول الليل وغروب الشمس.

والمراد: أنه لا يوتر إلا في ليل محقق بقاؤه.

وهو معنى قول النخعي: الوتر بليل، والسحور بليل.

فجعل وقته كوقت السحور بل أشد؛ فإنه قالَ لأن يدركني الفجر وأنا اتسحر أحب إلي من أن يدركني وأنا أوتر.

وكان علي بن أبي طالب يرخص في تأخير الوتر حتى ينشق الفجر، وربما روي عنه أنه أفضل.

وقد سبق عن طائفة من السلف نحوه.

وهؤلاء، منهم من رخص في تأخير السحور –أيضا -، كما يأتي في موضعه – إن شاء الله سبحانه وتعالى.

ولأصحابنا وجه شاذ: أن الوتر في الليل كله، سواء في الفضل.

ص: 165

‌3 - باب

في إيقاظ النبي صلى الله عليه وسلم أهله بالوتر

ص: 166

997 -

حدثنا مسدد: ثنا يحيى، ثنا هشام: ثنا أبي، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد ان يوتر أيقظني فأوترت.

قد سبق هذا الحديث بهذا الإسناد بعينه في ((باب: الصلاة خلف النائم)) .

وقد دل هذا الحديث على إيقاظ النائم بين يدي المصلي.

لكن هل كان إيقاظها لتوتر أو لتتنحى عن قبلته في الوتر؟

قد وردت أحاديث تدل على الثاني، قد سبق ذكرها في ((باب: من قالَ: لا يقطع الصَّلاة شيء)) .

وروى الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، فإذا انصرف قال لي:((قومي فأوتري)) .

خرّجه الإمام أحمد.

فإن كان إيقاظها للايتار استدل به على إيقاظ النائم للصلاة، لا سيما إذا تضايق وقتها؛ فإن ايتار النَّبيّ صلى الله عليه وسلم استقر في آخر عمره على أنه كانَ في السحر، كما سبق في الباب الماضي.

ص: 166

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان للصلاة بالليل والذكر والدعاء، ففي سائر السنة كان إيقاظه لهم للوتر خاصة؛ فإنه من آكد السنن الرواتب.

وإن كانَ إيقاظها لتتنحى عن قبلته في الوتر، استدل به على الرخصة في الصَّلاة إلى النائم في النفل المطلق دون النفل المعين المؤكد، فالفرض أولى.

وقد أشار إليه الإمام أحمد، كما سبق ذكره في موضعه.

وعلى التقديرين، فيستدل به على ان من له من يوقظه للوتر في آخر الليل لا يكره له ان ينام قبل ان يوتر، ولو كان امرأة أو صبياً، ممن يغلب عليه النوم؛ فان قولها:((فأوترت)) يدل على أنها كانت تؤخر الوتر إلى ذَلِكَ الوقت، وتنام قبله.

ص: 167

‌4 - باب

ليجعل آخر صلاته وتراً

ص: 168

998 -

حدثنا مسدد: نا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله: حدثني نافع، عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)) .

وخرّجه مسلم.

وخرّج –أيضا - من حديث الأسود، عن عائشة، ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل حتى يكون آخر صلاته الوتر.

وخرّجه أبو داود –مطولاً.

جعل الوتر آخر صلاة الليل يستفاد منه فوائد عديدة.

فمنها: تأخير الوتر إلى آخر الليل؛ فان صلاة وسط الليل وآخر الليل أفضل من صلاة أوله، فتأخير الوتر يتسع به وقت الصَّلاة في وسط الليل وآخره.

ومنها: أنه لا ينبغي التنفل في الليل بوتر غير الوتر الذي يقطع عليه صلاة الليل، كما لا ينبغي التنفل في النهار بوتر –أيضا -، حتى تكون صلاة المغرب وتره.

فروى الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون: أنا هشام، عن محمد –هو: ابن

سيرين -، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:((صلاة المغرب وتر النهار، فاوتروا صلاة الليل)) .

ص: 168

قال الدارقطني: رواه أيوب، عن نافع وابن سيرين، عن ابن عمر - موقوفاً. ورواه مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر – موقوفاً.

ورفعه بعضهم عن مالك.

وهذا قد يستدل به على جواز الوتر، بعد طلوع الفجر، ويكون ايتاراً لصلاة الليل، وان كان بعد خروج الليل، كما يوتر صلاة النهار بالمغرب، وإنما يفعل بعد خروج النهار.

فهذا يدل على ان لا وتر لصلاة النهار غير صلاة المغرب، ولا وتر لصلاة الليل غير الوتر المأمور به، فمن تطوع في ليل أو نهار بوتر غير ذلك، فقد زال ايتاره لصلاته، وصارت صلاته شفعاً.

وفي صحة التطوع بشفع في الليل والنهار عن أحمد روايتان. والصحة قول الشافعي، وعدم الصحة قول أبي حنيفة. وقد ذكرنا ما يستدل به للمنع.

واستدل الشافعي ومن وافقه بان عمر دخل المسجد، فصلى ركعة، ثم قال: هو تطوع، فمن شاء زاد، ومن شاء نقص.

وقد يعارض ذلك بالحديث المرفوع والموقوف: ((صلاة الليل والنهار مثنى

مثنى)) .

واستدلوا –أيضا - بأن جماعة نقضوا وترهم

ص: 169

بركعة.

وهذا استدلال مردود؛ لوجهين:

أحدهما: أنه قد أنكره عليهم غيرهم من الصحابة.

والثاني: أنهم إنما نقضوه لتصير صلاتهم شفعاً، ثم يوترون.

ومن تطوع بركعة في الليل، من غير نقض، ثم أوتر لم يبق لوتره فائدة؛ فإنه صار وتره شفعاً.

ونحن نذكر هاهنا مسألة نقص الوتر:

وهي: إذا أوتر الإنسان من الليل، ثم أراد أن يصلي:

فقال كثير من الصحابة: يصلي ركعة واحدة فيصير بها وتره الماضي شفعاً، ثم يصلي ما أراد، ثم يوتر في آخر صلاته 0

وهؤلاء اخذوا بقوله: ((اجعلوا آخر صلاتكم وتراً)) ، ولهذا روى ابن عمر هذا الحديث، وهو كان ينقض وتره، فدل على أنه فهمه منه.

وروي عن أسامة بن زيد وغير واحد من الصحابة، حتى قال أحمد: وروي ذلك عن اثني عشر رجلاً من الصحابة.

وممن روي ذلك عنه، منهم: عمر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وابن عباس –في رواية -، وهو قول عمرو بن ميمون وابن سيرين وعورة ومكحول.

وأحمد –في رواية اختارها أبو بكر وغيره.

ص: 170

قال ابن أبي موسى: هي الأظهر عنه.

وقول إسحاق، قال إسحاق: وإن لم يفعل ذلك لم يكن قد عمل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)) .

وهو –أيضا - وجه للشافعية.

ورد بعضهم هذا القول بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا وتران في ليلة)) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن حبان في ((صحيحه)) ، عن قيس بن طلق، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وحسنه الترمذي.

وقالوا: هذا يؤدي إلى ثلاثة أوتار، فيكون منهيا عنه.

وقال الأكثرون: لا ينقض وتره، بل يصلي مثنى مثنى.

وهو قول ابن عباس –في المشهور عنه – وأبي هريرة وعائشة وعمار وعائذ بن عمرو وطلق بن علي ورافع بن خديج.

وروي عن سعد.

ص: 171

ورواه ابن المسيب، عن أبي بكر الصديق.

وفي رواية، عنه: أن الصديق ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فاقره عليه، ولم ينكره.

خرجه حرب الكرماني.

ورواه خلاس، عن عثمان، ولم يسمع منه.

وهو قول علقمة وطاوس وسعيد بن جبير وأبي مجلز والشعبي والنخعي والأوزاعي والثوري ومالك وابن المبارك والشافعي وأحمد –في رواية عنه وصححها بعض أصحابنا.

واستدلوا بحديث: ((لا وتران في ليلة)) ، وقد تقدم، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم:((إذا قام أحدكم من الليل يصلي، فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين)) .

خرجه مسلم من حديث أبي هريرة.

وهو عام فيمن كان أوتر قبل ذلك، ومن لم يوتر.

واستدلوا –أيضا - بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد وتره، وسنذكره – إن شاء الله سبحانه وتعالى.

وبأن النقض يفضي إلى التطوع بالأوتار المعددة، وهو مكروه أو محظور.

وقد روي عن عائشة، أنها قالت: ذاك يلعب بوتره.

قال أحمد: كرهته عائشة، وأنا أكرهه.

وعن أحمد: أنه مخير بين الأمرين؛ لأنهما جميعاً مرويان عن الصحابة.

وقد روي عن علي، أنه خير بين الأمرين.

خرجه الشافعي بأسناد عنه، فيه ضعيف.

ص: 172

وخرج الطبراني: نا مقدام بن داود: نا عبد الله بن يوسف: نا ابن لهيعة، عن عياش بن عباس القتباني، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العتمة، ثم يصلي في المسجد قبل أن يرجع إلى بيته سبع ركعات، يسلم في الأربع في كل

ثنتين، ويوتر بثلاث، يتشهد في الأوليين من الوتر تشهده في التسليم، ويوتر بالمعوذات، فإذا رجع إلى بيته صلى ركعتين ويرقد، فإذا انتبه من نومه صلى ركعتين –وذكرت الحديث، ولم تذكر أنه أوتر في آخر الليل.

وهو غريب جداً، ومنكر؛ مخالف جميع الروايات الصحيحة عن عائشة.

ومقدام بن داود، من فقهاء مصر، ولم يكن في الحديث محموداً قالَ ابن يونس: تكلموا فيهِ. وقال النسائي: ليس بثقة.

ويتصل بهذا: الكلام على حكم الصلاة بعد الوتر:

وقد كرهه طائفة من السلف. ومستندهم: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)) ، وما أشبهه.

وروى عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، أنه كره الصلاة بعد الوتر. وكان أبو مجلز لا يصلي بعد الوتر إلا ركعتين.

ص: 173

وقال قيس بن عباد: إذا أوترت ثم قمت فاقرأ وأنت جالس.

وظاهر هذا: أنه يقرا من غير صلاة.

وأما الأكثرون، فلم يكرهوا الصلاة بعد الوتر. ولكن اختلفوا في نقضه – كما سبق.

ومذهب مالك: إذا أوتر قي المسجد، ثم أراد أن يتنفل بعده تربص قليلا، وإن انصرف بعد وتره إلى بيته تنفل ما أحب.

نقله في ((تهذيب المدونة)) .

واستحب أحمد أن يكون بين وتره وبين صلاته بعد الوتر فصل.

قال حرب: قلت لأحمد: الرجل يوتر، ثم يصلى بعد ذلك؟ قالَ: لا بأس به، يصلي مثنى مثنى. قالَ: وأحب أن يكون بينهما ضجعة أو نوم أو عمل أو شيء. قلت: ضجعة من غير نوم؟ فما أدري ما قالَ.

وروى المروذي، عن أحمد - في الرجل يصلي شهر رمضان، يقوم فيوتر بهم، وهو يريد يصلي بقوم آخرين -: يشتغل بينهما بشيء، يأكل أو يشرب أو يجلس.

قال أبو حفص البرمكي: وذلك لأنه يكره أن يوصل بوتره صلاة، ويشتغل بينهما بشيء؛ ليكون فصلا بين وتره وبين الصَّلاة الثانية، وهذا إذا كانَ يصلي بهم في موضعه، فإما إن كانَ موضع آخر، فذهابه فصل، ولا يعيد الوتر ثانية؛ لأنه لا وتران في ليله 0 انتهى.

ص: 174

والمنصوص عن أحمد خلاف ذلك:

قال – في رواية صالح - في رجل أوتر مع الإمام، ثم دخل بيته -: يعجبني أن يكون بعد ضجعة أو حديث طويل واختلفت الرواية عن أحمد في التعقيب في رمضان، وهو: أن يقوموا في جماعة في المسجد، ثم يخرجون منه، ثم يعودون إليه فيصلون جماعة في آخر الليل.

وبهذا فسره أبو بكر عبد العزيز بن جعفر وغيره من أصحابنا. فنقل المروذي وغيره، عنه: لا بأس به، وقد روي عن أنس فيه.

ونقل عنه ابن الحكم، قالَ: أكرهه، أنس يروى عنه أنه كرهه، ويروى عن أبي مجلز وغيره أنهم كرهوه، ولكن يؤخرون القيام إلى آخر الليل، كما قال عمر.

قال أبو بكر عبد العزيز: قول محمد بن الحكم قول له قديم، والعمل على ما روى الجماعة، أنه لا بأس به. انتهى.

وقال الثوري: التعقيب محدث.

ومن أصحابنا من جزم بكراهيته، إلا أن يكون بعد رقدة، أو يؤخره إلى بعد نصف الليل، وشرطوا: أن يكون قد اوتروا جماعة في قيامهم الأول، وهذا قول ابن حامد والقاضي وأصحابه. ولم يشترط أحمد ذلك.

وأكثر الفقهاء على أنه لا يكره بحالٍ.

وكره الحسن أن يأمر الإمام الناس بالتعقيب؛ لما فيهِ من المشقة عليهم، وقال: من كانَ فيهِ قوة

ص: 175

فليجعلها على نفسه، ولا يجعلها على الناس.

وهذه الكراهة لمعنى آخر غير الصلاة بعد الوتر.

ونقل ابن المنصور، عن إسحاق بن راهويه، أنه إن أتم الإمام التراويح في أول الليل كره له أن يصلي بهم في آخره جماعة أخرى؛ لما روي عن أنس وسعيد بن جبير من كراهته. وإن لم يتم بهم في أول الليل وآخر تمامها إلى آخر الليل لم يكره.

فأما صلاة ركعتين بعد الوتر، فقد رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، ولم يخرج البخاري منها شيئاً.

لكنه خرج من حديث عراك، عن أبي سلمة، عن عائشة، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ يصلي بعد العشاء ثمان ركعات، وركعتين جالساً، وركعتين بين النداءين.

ولم تذكر الوتر في هذه الرواية، ولا بد منه.

والظاهر: أن الركعتين اللتين صلاهما جالسا كانتا بعد وتره، ويحتمل أن يكون قبله.

فقد خرج مسلم من حديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمان ركعات، ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع، ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح.

وخرج –أيضا - من رواية زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام،

ص: 176

عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بتسع ركعات - وذكرت صفتها -، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد، فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع، صنع في الركعتين مثل صنيعه الأول.

وفي رواية لأبي داود في هذا الحديث: كان يصلي ثمان ركعات، لا يسلم إلا في آخرهن، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم، ثم يصلي ركعة.

فعلى هذه الرواية: تكون صلاته ركعتين جالسا قبل الوتر، لا بعده.

وخرج أبو داود –أيضا - من رواية بهز بن حكيم، عن زرارة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بتسع، يسلم في التاسعة تسليمة شديدة، ثم يقرأ وهو قاعد بأم

الكتاب، ويركع وهو قاعد، ثم يقرأ في الثانية، فيركع ويسجد وهو قاعد، ثم يدعو ما شاء أن يدعو، ثم يسلم.

وهذه الرواية تخالف رواية أبي سلمة، عن عائشة، أنه كان إذا أراد أن يركع

قام.

وخرج أبو داود من رواية علقمة بن وقاص، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بتسع ركعات، ثم اوتر بسبع ركعات، وركع ركعتين وهو جالس بعد الوتر، فقرأ فيهما، فإذا أراد أن يركع قام فركع ثم سجد.

ص: 177

وخرجه مسلم، ولفظه: عن علقمة، قال: قلت لعائشة: كيف كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعتين وهو جالس؟ قالت: يقرأ فيهما، فإذا أراد أن يركع قام

فركع.

وقد روي عن عائشة، من وجوه أخر.

وخرج النسائي من حديث شعبة، عن الحاكم: سمعت سعيد بن جبير يحدث، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى من الليل خمس ركعات، ثم ركعتين، ثم نام، ثم صلى ركعتين، ثم خرج إلى الصَّلاة.

وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث ميمون المرئي، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس.

وخرجه الترمذي إلى قوله: ((ركعتين)) .

وذكر العقيلي أن ميموناً تفرد برفعه، وغيره يرويه موقوفا على أم سلمة.

وفيه –أيضا - عن أبي أمامة وأنس وثوبان وغيرهم.

ص: 178

واختلف العلماء في الركعتين بعد الوتر؟

فمنهم من استحبها وأمر بها، ومنهم: كثير بن ضمرة وخالد بن معدان.

وفعلها الحسن جالساً.

وتقدم عن أبي مجلز، أنه كان يفعلها.

ومن أصحابنا من قال: هي من السنن الرواتب.

وفي حديث سعد بن هشام ما يدل على مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليهما.

ومن هؤلاء من قال: الركعتان بعد الوتر سنة له، كسنة المغرب بعدها، ولم يخرج بذلك المغرب عن أن يكون وتراً لها.

ومن العلماء من رخص فيهما، ولم يكرههما، هذا قول الأوزاعي وأحمد.

وقال: ارجوا إن فعله أن لا يضيق، ولكن يكون ذلك وهو جالس، كما جاء في الحديث. قيل له: تفعله أنت؟ قالَ: لا.

وقال ابن المنذر: لا يكره ذَلِكَ.

ومن هؤلاء من قال: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أحيانا لبيان الجواز فقط.

وحكي عن طائفة كراهة ذلك، منهم قيس بن عبادة ومالك والشافعي.

فأما مالك، فلم يعرف هاتين الركعتين بعد الوتر -: ذكره عنه ابن المنذر.

ص: 179

وأما الشافعي، فحكي عنه أنه قال: أمر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أن نجعل آخر صلاتنا بالليل وتراً، فنحن نتبع أمره، وأما فعله فقد يكون مختصا به.

وأشار البيهقي إلى أن هاتين الركعتين تركهما النبي صلى الله عليه وسلم بعد فعلهما، وانتهى أمره إلى أن جعل آخر صلاته بالليل وتراً.

وهذا إشارة إلى نسخهما، وفيه نظر.

وإذا كان مذهب الشافعي أنه لا تكره الصلاة بعد الوتر بكل حال، فكيف تكره هاتان الركعتان بخصوصهما، مع ورود الأحاديث الكثيرة الصحيحة بها؟

وقد ذكر بعض الناس: أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ يصلي ركعتين بعد وتره جالساً، لما كانَ يوتر من الليل ويجعل الركعتين جالسا كركعة قائمًا، فيكون كالشفع لوتره، حتَّى إذا قام ليصلي من آخر الليل لم يحتج إلى نقضه بعد ذَلِكَ.

وربما استأنسوا لذلك بحديث ثوبان: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال:((إن هذا السفر جهد وثقل، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين، فإن استيقظ، وإلا كانتا له)) .

خرجه ابن حبان في ((صحيحه)) .

وهذا القول مردود؛ لوجهين:

أحدهما: أن حديث عائشة يدل –لمن تأمله - على أن هذا كانَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يفعله في وتره من آخر الليل، لا من أوله، وكذلك حديث ابن عباس.

ص: 180

وثانيهما: أن صلاته جالساً لم تكن كصلاة غيره من أمته على نصف صلاة

القائم.

يدل عليه: ما خرجه مسلم في ((صحيحه)) من حديث عبد الله بن عمرو، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدته يصلي جالساً، فقلت: حُدّثتُ يا رسول الله، إنك قلت:

((صلاة الرجل قاعداً على نصف الصلاة)) ، وأنت تصلي قاعداً؟ قالَ:((أجل؛ ولكني لست كأحد منكم)) .

وأما حديث ثوبان، فتأوله بعضهم على أن المراد: إذا أراد أن يوتر فليركع ركعتين.

وكأنه يريد أنه لا يقتصر في وتره في السفر على ركعة واحدة، بل يركع قبلها ركعتين، فيحصل له بهما نصيب من صلاة الليل، فإن لم يستيقظ من آخر الليل كان قد اخذ بحظ من الصلاة، وإن استيقظ صلى ما كتب له، وهذا متوجه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يصلي في السفر صلاته من الليل قبل أن ينام.

ففي ((المسند)) من حديث شرحبيل بن سعد، عن جابر، أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فصلى العتمة –وجابر إلى جنبه -، ثم صلى بعدها ثلاث عشرة سجدة.

وشرحبيل، مختلف فيه.

ص: 181

‌5 - باب

الوتر على الدابة

ص: 182

999 -

حدثنا إسماعيل: حدثني مالك، عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن سعيد بن يسار، أنه قالَ: كنت أسير مع عبد الله بن عمر بطريق مكة. قال سعيد: فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت، ثم لحقته، فقال

عبد الله بن عمر: أين كنت؟ فقلت: خشيت الصبح فنزلت فأوترت. قالَ عبد الله: أليس لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؟ فقلت: بلى؛ والله. قال فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر على البعير.

هذا الحديث قد روي عن ابن عمر من وجوه متعددة، قد خرجاه في ((الصحيحين)) من هذا الوجه، ومن حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه.

وخرجه البخاري من حديث نافع، ومسلم من حديث عبد الله بن دينار.

وهذا مما استدل به على أن الوتر غير واجب، وأنه ملتحق بالنوافل؛ فإنه لو كانَ واجبا لألحق بالفرائض، ولم يفعل على الدابة جالساً، مع القدرة على القيام.

ص: 182

وقد اختلف العلماء في جواز الوتر على الراحلة:

فذهب أكثرهم إلى جوازه، ومنهم: ابن عمر، وروي عن علي وابن عباس، وهو قول سالم وعطاء والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور.

وقال الثوري: لا بأس به، وبالأرض أحب إلي.

وكذا مذهب مالك:

في ((تهذيب المدونة)) : أن المسافر إذا كان له حزب، فليوتر على الأرض، ثم يتنفل في المحمل بعد الوتر.

وهذا يدل على أن تقديم الوتر على الأرض على قيام الليل أفضل من تأخيره مع على الراحلة.

ومنع من الوتر على الراحلة من يرى أن الوتر واجب، وهو قول أبي حنيفة.

وقال النخعي: كانوا يصلون الفريضة والوتر بالأرض.

وحكى ابن أبي موسى – من أصحابنا – عن أحمد في جواز صلاة ركعتي الفجر على الراحلة روايتين، دون الوتر.

وحكي عن بعض الحنفية، أنه لا يفعل الوتر ولا ركعتا الفجر على الراحلة.

وروى الإمام أحمد: ثنا إسماعيل: ثنا أيوب، عن سعيد بن جبير، أن ابن عمر كان يصلي على راحلته تطوعاً، فإذا أراد أن يوتر نزل فأوتر على الأرض.

ولعله فعله استحباباً، وإنما أنكر [على] من لا يراه جائزاً.

ص: 183

وروى محمد بن مصعب: ثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن

عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر، قالَ: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته حيث توجهت به تطوعا، فإذا أراد أن يصلي الفريضة أو يوتر أناخ فصلى بالأرض.

قال ابن جوصا في ((مسند الأوزاعي من جمعه)) : لم يقل أحد من أصحاب الأوزاعي: ((أو يوتر)) غير محمد بن مصعب وحده.

وخرجه من طرق كثيرة عن الأوزاعي، ليس في شيء منها: ذكر الوتر.

ومحمد بن مصعب، قال يحيى: ليس حديثه بشيء. وقال ابن حبان: ساء حفظه فكان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل، لا يجوز الاحتجاج به.

ص: 184

‌6 - باب

الوتر في السفر

ص: 185

1000 -

حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به، يومئ إيماء، صلاة الليل، إلا الفرائض، ويوتر على راحلته.

الوتر في السفر مستحب كالوتر في الحضر، وقد كان ابن عمر يوتر في سفره.

وروى وكيع، عن شريك، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس وابن عمر، أنهما قالا: الوتر في السفر سنة.

وقال مجاهد: لا يترك الوتر في السفر إلا فاسق.

وروى وكيع - أيضا - عن خالد بن دينار، عن شيخ، قال: صحبت ابن عباس في سفر، فلا أحفظ أنه أوتر.

وهذا إسناد مجهول.

وقوله: ((لم أحفظ)) لا يدل على أنه لم يوتر.

والوتر تابع لصلاة الليل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاته بالليل وتراً.

وإنما اختلف العلماء في فعل السنن الرواتب في السفر؛ لأنها تابعة للفرائض، والفرائض تقصر في السفر تخفيفاً، فكيف يحذف شطر

ص: 185

المفروضة ويحافظ على سننها؟

ولهذا قالَ ابن عمر: لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي.

وقد روي، أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في السفر ركعتي الفجر والمغرب؛ لأن فريضتهما لا تقصر.

وهو من مراسيل أبي جعفر محمد بن علي.

ونص عليه أحمد –في رواية المروذي -، أنه لا يدع في السفر ركعتي الفجر والمغرب.

ص: 186

‌7 - باب

القنوت قبل الركوع وبعده

لم يبوب البخاري على القنوت إلا في عقب أبواب الوتر، وهذا يدل على أنه يرى القنوت في الوتر، إما دون غيره من الصلوات أو مع غيره منها.

وخرج فيه حديث أنس بن مالك من طرق أربعة.

الطريق الأول:

ص: 187

1001 -

ثنا مسدد: نا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، قال: سئل أنس بن مالك: أقنت النبي صلى الله عليه وسلم في الصبح؟ قالَ: نعم. فقيل: أو قبل الركوع؟ قال: بعد الركوع يسيراً.

هذا الحديث –بهذا اللفظ -: يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في الصبح، وأنه قنت بعد الركوع، وأنه قنت يسيراً.

وقوله: ((يسيراً)) يحتمل أن يعود إلى القنوت، فيكون المراد: قنت قنوتاً يسيراً، ويحمتل أنه يعود إلى زمانه، فيكون المعنى: قنوته زماناً يسيراً، فيدل على أنه لم يدم

عليه، بل ولا كان غالب أمره، وإنما كان مدة يسيرة فقط.

ص: 187

ويدل عليه: ما روى علي بن عاصم: أخبرني خالد وهشام، عن محمد بن سيرين: حدثني أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرا في الغداة، بعد الركوع، يدعو.

وقد خرجه أبو داود، وعنده: بدل ((يسيراً)) : ((يسراً)) أو ((يسر)) .

وهذه الرواية إن كانت محفوظة فإنما تدل على أنه اسر بالقنوت، ولم يجهر به.

الطريق الثاني:

ص: 188

1002 -

ثنا مسدد: ثنا عبد الواحد: ثنا عاصم، قال: سألت أنس بن مالك، عن القنوت؟ فقالَ: قد كانَ القنوت. قلت: قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله. قلت: فإن فلانا أخبرني عنك، أنك قلت: بعد الركوع؟ فقال: كذب، إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرا، أراه كان بعث قوما، يقال لهم: القراء، زهاء سبعين رجلا إلى قوم من المشركين دون أولئك، وكان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد، فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو عليهم.

وخرّجه – أيضا – في ((المغازي)) عن موسى بن إسماعيل، عن عبد الواحد،

[عن] عاصم، بأتم من هذا.

وخرّجه في أواخر ((الجهاد)) من طريق ثابت بن يزيد، عن عاصم:

ص: 188

سألت أنساً عن القنوت، [قال] : قبل الركوع، فقلت: إن فلانا يزعم أنك قلت: بعد الركوع؟ قالَ: كذب، ثُمَّ حدث عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قنت شهراً بعد الركوع –فذكره.

وخرّجه في ((الأحكام)) من طريق عباد بن عباد، عن عاصم. وفي ((الدعاء)) من طريق أبي الأحوص، عن عاصم –مختصراً، في القنوت شهراً، ولم يذكر فيه

:

((قبل)) .

وخرجه مسلم من رواية أبي معاوية، عن عاصم، عن أنس، قال: سألته عن القنوت قبل الركوع، أو بعد الركوع؟ فقالَ: قبل الركوع. قلت: فإن ناسا يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع؟ فقال: إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا، يدعو على أناس قتلوا أناسا من أصحابه، يقال لهم: القراء.

وخرجه من طرق أخرى، عن عاصم، عن أنس –في قنوت النبي صلى الله عليه وسلم شهرا

فقط.

وليس في شيء من هذه الروايات: مدوامة القنوت، كما في رواية عبد الواحد بن زياد التي خرجها البخاري، مع أنه لا دلالة فيها على ذلك –على تقدير أن تكون محفوظة –؛ فإنه ليس فيها تصريح بأن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم هوَ الذي كانَ يقنت قبل الركوع، فيحتمل أن يريد أن مدة قنوت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كانت شهرا بعد الركوع، وكان غيره من الخلفاء يقنت قبل الركوع، ولعله

ص: 189

يريد قنوت عمر، لما كانَ يبعث الجيوش إلى بلاد الكفار، فكان يقنت ويستغفر لهم.

ولكن روى الطبراني، عن الدبري، عن عبد الرزاق، عن أبي جعفر الرازي، عن عاصم، عن أنس، قال: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصبح يدعو على احياء من احياء العرب، وكان قنوته –قبل الركوع.

ولكن هذه الرواية شاذه منكرة، لا يعرج عليها.

وأبو جعفر الرازي، اسمه: عيسى بن ماهان، قد وثقه يحيى وغيره؛ فإنه من أهل الصدق ولا يتعمد الكذب، ولكنه سيئ الحفظ؛ فلذلك نسبه ابن معين إلى الخطإ والغلط مع توثيقه له.

وقال ابن المديني: هو يخلط مثل موسى بن عبيدة. وقال أحمد والنسائي: ليس بالقوي في الحديث. وقال أبو زرعة: يهم كثيراً. وقال الفلاس: فيه ضعف، وهو من أهل الصدق سيئ الحفظ. وقال ابن خراش: سيئ الحفظ صدوق. وقال ابن حبان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير.

وقد روى أبو جعفر هذا، عن الربيع بن أنس، عن أنس، قال: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم يقنت حتى فارق الدنيا.

خرجه الإمام أحمد وغيره.

ص: 190

وهذا - أيضا - منكر.

قال أبو بكر الأثرم: هو حديث ضعيف، مخالف للأحاديث.

يشير إلى أن ما ينفرد به أبو جعفر الرازي لا يحتج به، ولا سيما إذا خالف

الثقات.

وقد تابعه عليه: عمرو بن عبيد الكذاب المبتدع، فرواه عن الحسن، عن أنس - بنحوه.

وتابعه - أيضا -: إسماعيل بن مسلم المكي، وهو مجمع على ضعفه، فرواه عن الحسن، عن أنس.

وقد خرج حديثه البزار، وبين ضعفه.

وروي –أيضا - ذلك عن أنس من وجوه كثيرة، لا يثبت منها شيء، وبعضها موضوعة.

وروى خليد بن دعلج، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت في صلاة الفجر بعد الركوع، وأبو بكر وعمر وعثمان صدرا من خلافته، ثم طلب إليه المهاجرون والأنصار تقديم القنوت قبل الركوع.

خليد بن دعلج، ضعيف، ولا يعتمد.

وقد روى مصعب بن المقدام، عن عاصم الأحول، عن أنس، قال: قنت

رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً قبل الركوع.

وروى الحسن بن الربيع، عن أبي الأحوص، عن عاصم، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرا في صلاة الفجر، يدعو على خيبر.

ص: 191

قال عاصم: سألت أنساً عن القنوت؟ قالَ: هوَ قبل الركوع.

وهاتان الروايتان: تدل على أن القنوت قبل الركوع كانَ شهرا، بخلاف رواية عبد الواحد، عن عاصم.

وروى قيس بن الربيع، عن عاصم، قال: قلنا لأنس: إن قوماً يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت بالفجر؟ قالَ: كذبوا؛ إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا واحداً، يدعو على حي من أحياء المشركين.

فهذه تعارض رواية أبي جعفر الرازي، عن عاصم، وتصرح بأن مدة القنوت كلها تزد على شهر.

وليس قيس بن الربيع بدون أبي جعفر الرازي، وإن كان قد تكلم فيه؛ لسوء حفظه –أيضا - فقد أثنى عليهِ أكابر، مثل: سفيان الثوري وابن عيينة وشريك وشعبة وأبي حصين.

وأنكر شعبة على القطان كلامه فيه، وأنكر ابن المبارك على وكيع كلامه فيه.

وقال محمد الطنافسي: لم يكن قيس عندنا بدون سفيان، إلا أنه استعمل، فأقام على رجل حداً، فمات، فطفئ أمره.

وقال يعقوب بن شيبة: هو عند جميع أصحابنا صدوق وكتابه صالح، إنما حفظه فيه شيء.

وقال ابن عدي: رواياته مستقيمة، وقد حدث عنه شعبة وغيره من الكبار، والقول فيه ما قال شعبة: أنه لا بأس به.

ص: 192

وقد توبع قيس على روايته هذه:

فروى أبو حفص ابن شاهين: ثنا أحمد بن محمد بن سعيد –هو: ابن عقده الحافظ -: ثنا الحسن بن علي بن عفان: ثنا عبد الحميد الحماني، عن سفيان، عن عاصم، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقنت إلا شهراً واحداً حتى مات.

وابن عقده، حافظ كبير، إنما أنكر عليه التدليس، وقد صرح في هذا

بالتحديث.

وعبد الحميد الحماني، وثقه ابن معين وغيره، وخرج له البخاري.

وخرج البيهقي من حديث قبيصة، عن سفيان، عن عاصم، عن أنس، قال: إنما قنت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً. فقلت: كيف القنوت؟ قالَ: بعد الركوع.

وهذه تخالف رواية من روى عنه القنوت قبل الركوع.

وأما القنوت شهرا، فقد سبق أن البخاري خرجه من رواية عباد بن عباد.

وخرجه مسلم من رواية ابن عيينة، وغير واحد، كلهم عن عاصم.

وهو المحفوظ عن سائر أصحاب أنس.

فتبين بهذا: أن رواية عاصم الأحول عن أنس –في محل القنوت، والإشعار بدوامه - مضطربة متناقضة.

وعاصم نفسه، قد تكلم فيه القطان، وكان يستضعفه، ولا يحدث

ص: 193

عنه.

وقال: لم يكن بالحافظ.

وقد حدث عاصم، عن حميد بحديث، فسئل حميد عنه، فأنكره ولم يعرفه.

وحينئذ؛ فلا يقضى برواية عاصم، عن أنس، مع اضطرابها على روايات بقية أصحاب أنس، بل الأمر بالعكس.

وقد أنكر الأئمة على عاصم روايته عن أنس القنوت قبل الركوع:

قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله –يعني: أحمد بن حنبل -: يقول أحمد في حديث أنس: إن النبي صلى الله عليه وسلم قنت قبل الركوع غير عاصم الأحول؟ قالَ: ما علمت أحدا يقوله غيره: قالَ أبو عبد الله: خالفهم عاصم كلهم.

يعني: خالف أصحاب أنس.

ثم قال: هشام، عن قتادة، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت [بعد] الركوع. والتيمي، عن أبي مجلز، عن أنس. وأيوب، عن محمد: سألت أنساً. - وحنظلة السدوسي، عن أنس -: أربعة أوجه.

وقال أبو بكر الخطيب في ((كتاب القنوت)) : أما حديث عاصم الأحول، عن أنس، فإنه تفرد بروايته، وخالف الكافة من أصحاب أنس، فرووا عنه القنوت بعد الركوع، والحكم للجماعة على الواحد.

كذا قاله الخطيب في القنوت قبل الركوع، فأما في دوام القنوت، فإنه جعله أصلا اعتمد عليه، ويقال له فيه

ص: 194

كما قال هو في محل القنوت، فيقال: إن أصحاب أنس إنما رووا عنه إطلاق القنوت أو تقييده بشهر، ولم يرو عن أنس دوام القنوت من يوثق بحفظه.

وأما القنوت قبل الركوع، فقد رواه عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، كما خرج البخاري عنه من طريقه في ((السير)) ، وسنذكره – إن شاء الله سبحانه وتعالى.

وقد حمل بعض العلماء المتأخرين حديث عاصم، عن أنس في القنوت قبل الركوع على أن المراد به: إطالة القيام، كما في الحديث: ((أفضل الصلاة طول

القنوت)) .

والمراد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل القيام قبل الركوع للقراءة، وإنما أطال القيام بعد الركوع شهرا حيث دعا على من قتل القراء، ثم تركه.

وقد صح عن ابن عمر مثل ذلك.

وروى ابن أبي شيبة: ثنا ابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان لا يقنت في الفجر، ولا في الوتر، وكان إذا سئل عن القنوت، قال: ما نعلم القنوت إلا طول القيام وقراءة القرآن.

ورواه يحيى بن سعيد، عن عبيد الله – أيضا.

الطريق الثالث:

ص: 195

1003 -

ثنا أحمد بن يونس، ثنا زائدة، عن التيمي، عن ابن مجلز، عن

ص: 195

أنس بن مالك، قال: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا، يدعو على رعل وذكوان.

وخرجه في ((المغازي)) من رواية ابن المبارك، عن سليمان التيمي، وزاد فيه:((بعد الركوع)) .

وزاد –أيضا - فيه: ((ويقول: عصية عصت الله ورسوله)) .

وكذلك خرجه مسلم من رواية المعتمر بن سلمان التيمي، عن أبيه، وزاد فيه:((في صلاة الصبح)) .

الطريق الرابع:

ص: 196

1004 -

ثنا مسدد: ثنا إسماعيل: أنا خالد، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك، قال: كان القنوت في المغرب والفجر.

وخرجه – فيما تقدم - في ((باب: فضل اللهم ربنا ولك الحمد)) ، عن عبد الله بن أبي الأسود، عن إسماعيل –وهو: ابن علية -، به - أيضا.

وليس في هذا الحديث أن ذلك كان من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عهده، فيحتمل أنه اخبر عما كان في زمن بعض خلفائه، والله أعلم.

وقد روي حديث القنوت عن أنس من طرق أخرى، وقد خرجه البخاري في ((السير)) و ((المغازي)) من بعضها.

ص: 196

طريق آخر:

قال البخاري: ثنا أبو معمر: ثنا عبد الوارث: ثنا عبد العزيز، عن أنس، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً لحاجة، يقال لهم: القراء، فعرض لهم حيان من بني سليم: رعل وذكوان، فقتلوهم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم شهراً عليهم في صلاة الغداة، وذلك بدء

القنوت، وما كنا نقنت.

قال: وسأل رجل أنساً عن القنوت: بعد الركوع أو عند فراغ من القراءة؟ قالَ: بل عندَ فراغ من القراءة.

ولكن؛ ليس في هذه الرواية تصريح بأن قنوت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ قبل الركوع، إنما هوَ من فتيا أنس. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقد تقدم عنه ما يخالف ذلك، وما يوافقه، فالروايات عن أنس في محل القنوت مختلفة.

وفي هذه الرواية التصريح بأن هذا كان بدأ القنوت، وأنهم لم يقنتوا قبله، والتصريح بأن القنوت كان شهرا، ولا شك أن هذا القنوت ترك بعد ذلك ولم يقل أنس: إنه استمر القنوت بعد الشهر. والله سبحانه وتعالى أعلم.

طريق آخر:

قال البخاري: ثنا يحيى بن بكير: ثنا مالك، عن إسحاق [بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم على لادين قتلوا أصحابه ببئر ثلاثين صباحاً حين يدعوا على رعل ولحيان، وعصية عصت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

قال أنس: فأنزل الله تعالى لنبيه في الذين قتلوا - أصحاب بئر معونة -

قراناً، حتى نسخ بعد: بلغوا قومنا، فقد لقينا ربنا، فرضي عنا ورضينا عنه]

ص: 197

[كتاب الاستسقاء]

‌16 -[باب

الجهر بالقراءة في الاستسقاء

ص: 198

1024 -

ثنا أبو نعيم: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عباد بن تميم، عن عمه، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فتوجه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه، ثم صلى ركعتين، وجهر فيهما بالقراءة] .

الصواب.

فتبين بهذا: أن النعمان أخطأ في إسناده، فلا يبعد خطؤه في متنه - أيضا.

وعن أحمد رواية ثالثة: أنه يخير بين أن يخطب قبل الصلاة وبعدها، اختارها جماعة من أصحابنا؛ لورود النصوص بكلا الأمرين.

قالَ بعض أصحابنا: والأولى للإمام أن يختار الأرفق بالناس، في كل وقت

بحسبه.

وعن أحمد رواية أخرى: أنه لا يخطب، ولكن يدعو؛ لقول ابن عباس: لم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في التضرع والتكبير، وصلى ركعتين.

خرجه الترمذي وغيره.

وظاهر حديث عبد الله بن يزيد: يدل على أنه لم يزد على الدعاء - أيضا -، وعلى ذلك حمله الإمام أحمد في رواية المروذي.

ص: 198

وحديث عائشة الذي ذكرناه في ((أبواب الاستسقاء)) : يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم استفتح خطبته بالحمد والتكبير، ثم شرع في الدعاء، واستفتحه بتلاوة أول سورة الفاتحة، ثم بكلمات من الثناء على الله عز وجل، إلى أن نزل، وأنه كان في أول خطبة قاعداً على المنبر، وقد ثبت أنه دعا قائما في حديث عبد الله بن يزيد، فهذا القدر هو المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرو عنه أزيد منه في الدعاء الاستسقاء.

وروى حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عباس، قال: جاء أعرأبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالَ: يا رسول الله، لقد جئتك من عند قوم لا يتزود لهم راع، ولا يخطر لهم فحل، فصعد المنبر، فحمد الله، ثم قال:((اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً طبقاً مريعاً غدقاً عاجلاً، غير راث)) ثم نزل، فما يأتيه أحد من وجه إلا قال: قد أحييتنا.

خرجه ابن ماجه.

وروي عن حبيب –مرسلا، وهو أشبه.

وخرج الطبراني من حديث أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ثم استقبل القوم بوجهه، وقلب رداءه، ثم جثا على ركبتيه، ورفع يديه، وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي، ثم

دعا.

ص: 199

وإسناده ضعيف.

وقد تقدم عن عمر وعبد الله بن يزيد الأنصاري، أنهما لم يزيدا على الاستغفار.

واختلف القائلون بأنه يخطب – وهم الجمهور -: هل يخطب خطبة واحدة، أو خطبتين؟ على قولين:

أحدهما: يخطب خطبة واحدة، وهو قول ابن مهدي وأحمد وأبي يوسف ومحمد.

والثاني: أنه يخطب خطبتين، بينهما جلسة كالعيد، وهو قول الليث ومالك والشافعي، وروي عن الفقهاء السبعة، وهو وجه ضعيف لأصحابنا.

وقالت طائفة: يخير بين الأمرين، وهو قول ابن جرير الطبري، وحكي مثله عن أبي يوسف ومحمد –أيضا.

واختلفوا: بمإذا تستفتح الخطبة؟

فقالت طائفة: بالحمد لله، وحكى عن مالك وأبي يوسف ومحمد، وهو قول طائفة من أصحابنا، وهو الأظهر.

وقد سبق في ((الجمعة)) توجيه ذلك.

ومذهب مالك: ليس في خطبة الاستسقاء تكبير -: ذكره في ((تهذيب

المدونة)) .

ص: 200

وقالت طائفة: يفتتحها بالتكبير كخطبة العيدين، وهو قول أكثر أصحابنا، وطائفة من الشافعية، ونقل أنه نص الشافعي.

وقد تقدم من حديث عائشة ما يشهد له.

وقالت طائفة: يستفتحها بالاستغفار، وهو قول أبي بكر بن جعفر من أصحابنا، وأكثر أصحاب الشافعي.

قال أبو بكر –من أصحابنا –: يستفتحها بالاستغفار، ويختمها به، ويكثر من الاستغفار بين ذلك.

وهو منصوص الشافعي، ونص على أنه يختمها بقوله: استغفر الله لي ولكم.

وأما الثاني – وهو الجهر بالقراءة في صلاة الاستسقاء -: فحديث ابن أبي ذئب عن الزهري الذي خرجه البخاري –صريح بذلك.

قال الإمام أحمد –في رواية محمد بن الحكم -: كنت أنكره، حتى رأيت في رواية معمر عن الزهري كما قال ابن أبي ذئب.

يعني: أنه جهر بالقراءة.

وحديث معمر، خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من رواية عبد الرزاق، عنه.

ولا اختلاف بين العلماء الذين [يرون] صلاة الاستسقاء، أنه يجهر فيها بالقراءة، وقد تقدم عن عبد الله بن يزيد الخطمي، أنه فعله بمشهد من الصحابة.

وأكثر العلماء على أنه يقرأ فيهما بما يقرأ في العيدين، وهو قول الثوري ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم.

قال الشافعي: وإن قرأ {إِنَّا

ص: 201

أَرْسَلْنَا نُوحاً} [نوح:1] كان حسناً.

وقد قال ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الاستسقاء ركعتين، كما كان يصلي في العيد.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وصححه

الترمذي. وقد روي عن ابن عباس، أنه كان يفعل كذلك.

وخرج الطبراني من حديث أنس – مرفوعا -، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ فيهما ((سبح)) و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} .

وإسناده لا يصح؛ فيهِ مجاشع بن عمرو، متروك الحديث.

وروى عبد الرزاق بأسناده، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ يقرا في ركعتي الاستسقاء بالشمس وضحاها والليل إذا يغشى.

واختار هذا أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا.

ص: 202

‌17 - باب

كيف حول النبي صلى الله عليه وسلم ظهره إلى الناس

؟

ص: 203

1025 -

حدثنا آدم: نا بن أبي ذئب، عن الزهري، عن عباد بن تميم، عن عمه قالَ: رأيت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم خرج يستسقي، فحول إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة

يدعو، ثُمَّ حول رداءه، ثُمَّ صلى بنا ركعتين، جهر فيهما بالقراءة.

ظاهر الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم ? دعا مستقبل القبلة، وأنه حول رداءه بعد ذلك، وقد سبق الكلام في وقت تحويل الرداء.

وظاهر الحديث: يستدل به أنه ليس في الاستسقاء خطبة، بل دعاء مجرد.

وقد خرج البخاري – فيما تقدم – من حديث شعيب، عن الزهري، أنه صلى الله عليه وسلم دعا قائما، ثم توجه إلى القبلة.

ص: 203

وهذا صريح في أنه ابتدأ الدعاء مستقبل الناس، ثم أتمه مستقبل القبلة.

وأما من يقول: إنه يخطب، فإنه يقول: إذا أنهى خطبته ودعا استقبل القبلة، وحول ظهره إلى الناس فدعا.

وأكثرهم قالوا: يستقبل القبلة في أثناء خطبته.

وقال الشافعية: يكون ذلك في أثناء الخطبة الثانية؛ لأن عندهم يسن لها خطبتان، كما تقدم.

وإنما استقبل القبلة في الاستسقاء للدعاء دون خطبة الجمعة؛ لأن خطبة الجمعة خطاب للحاضرين وموعظة لهم فيستقبلهم بها، والدعاء تابع لذلك، ولو كانَ

للاستسقاء.

وأما الاستسقاء المجرد، فإنه إنما يقصد منه الدعاء، والدعاء المشروع إسراره دون إعلانه، وإخفاؤه دون إظهاره، فلذلك شرع إسراره في الاستسقاء وتولية الظهر إلى الناس، واستقبال القبلة؛ لأن الدعاء إلى القبلة أفضل.

وقد كانَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يستقبل القبلة إذا استنصر على المشركين في يوم بدر وغيره.

وأيضا؛ فإن استدبار الناس في الدعاء واستقبال القبلة أجمع لقلب الداعي؛ حيث لا يرى أحداً من الناس، وادعى إلى حضوره وخشوعه في الدعاء، وذلك أقرب إلى إجابته.

ص: 204

‌18 - باب

صلاة الاستسقاء ركعتين

ص: 205

1026 -

حدثنا قتيبة: نا سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عباد بن تميم، عن عمه، أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى، فصلى ركعتين، وقلب رداءه.

في الحديث: دليل على الصلاة للاستسقاء، وقد تقدم –أيضا - في حديث عائشة وابن عباس.

وجمهور العلماء على أنه تشرع صلاة الاستسقاء.

وخالف فيه طائفة من علماء اهل الكوفة، منهم: النخعي، وهو قول أبي

حنيفة، وقالوا: إنما يستحب في الاستسقاء الدعاء والاستغفار خاصة.

وهؤلاء لم تبلغهم سنة الصلاة، كما بلغ جمهور العلماء.

وفيه: دليل على أن صلاة الاستسقاء ركعتان، وهذا لا اختلاف فيه بين من يقول: إنه يشرع للاستسقاء صلاة.

ولكن اختلفوا: هل تصلى بتكبير كتكبير صلاة العيد، أم بغير تكبير كسائر الصلوات، فتستفتح بتكبيرة الإحرام، ثم يقرأ بعدها؟ على قولين.

ص: 205

أحدهما: أنها تصلى كما تصلى العيد بتكبير قبل القراءة وقد روي عن ابن عباس، وعن ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز وأبي بكر بن حزم، وهو قول الشافعي وأحمد – في ظاهر مذهبه – وأبي يوسف ومحمد.

والثاني: تصلى بغير تكبير زائد، وهو قول مالك والثوري والأوزاعي وأحمد –في رواية – وإسحاق وأبي ثور وأبي خيثمة وسليمان بن داود الهاشمي.

قال أبو إسحاق البرمكي من أصحابنا: يحتمل أن هذه الرواية عن أحمد قول قديم رجع عنه.

وحكي عن داود: إن شاء صلي بتكبير زائد، وإن شاء صلى بتكبيرة الإحرام فقط.

واستدل من قال: يصلي بتكبير بظاهر حديث ابن عباس: ((وصلى ركعتين كما يصلي في العيد)) ، وقد سبق ذكره.

وقد روي عنه صريحاً بذكر التكبير، لكن إسناده ضعيف.

ص: 206

خرجه الدارقطني والحاكم في ((المستدرك)) –وصححه - والبزار في ((مسنده)) وغيرهم، من رواية محمد بن عبد العزيز الزهري، عن أبيه، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الاستسقاء، كبر في الأولى سبع تكبيرات، وقرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، وقرأ في الثانية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] ، وكبر فيها خمس تكبيرات.

ومحمد بن عبد العزيز الزهري هذا، متروك الحديث، لا يحتج بما يرويه.

وروى يزيد بن عياض، حدثني أبو بكر بن عمرو بن حزم وابناه –عبد الله ومحمد - ويزيد بن عبد الله بن أسامة وابن شهاب، كلهم يحدثه عن عبد الله بن يزيد، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استسقى –فذكر الحديث - قال: ثم صلى ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، فكبر في الركعة الأولى سبعاً، وفي الآخرة خمساً، يبدأ بالتكبير قبل القراءة في الركعتين كليهما.

ويزيد بن عياض جعدبة المدني، متروك الحديث، لا يحتج به.

وقد روي خلاف هذا، من رواية عبد الله بن حسين بن عطاء، عن

ص: 207

شريك ابن أبي نمر، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الاستسقاء، في كل ركعة تكبيرة، وخطب قبل الصلاة، وقلب رداءه لما دعا.

خرّجه أبو القاسم البغوي.

وخرّجه الترمذي في ((كتاب العلل)) –مختصراً -، وقال: سألت البخاري عنه، فقال: هذا خطأ، وعبد الله بن حسين منكر الحديث؛ روى مالك وغيره، عن شريك، عن أنس، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم استسقى، ليس فيهِ هذا.

يشير البخاري إلى حديث الاستسقاء في الجمعة، وهذا المتن غير ذلك المتن؛ فإن هذا فيهِ ذكر صلاة الاستسقاء والخطبة لها وقلب الرداء في الدعاء، لكنه غير محفوظ عن شريك، عن أنس.

ووقت صلاة الاستسقاء وقت صلاة العيد، وقد تقدم حديث عائشة في خروج النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لها حين بدا حاجب الشمس، وأنه قعد على المنبر ودعا، ثم صلى بعد ذلك.

وذكر ابن عبد البر أن الخروج لها في أول النهار عند جماعة العلماء، إلا أبا بكر بن حزم؛ فإنه قالَ: الخروج إليها عندَ زوال الشمس.

وكأنه ألحقها بالجمعة.

ولا يفوت وقتها بفوات وقت العيد، بل تصلى في جميع النهار.

قال بعض أصحابنا: إلا أنه لا تصلى في أوقات النهي بغير خلاف،

ص: 208

إذ لا حاجة إلى ذلك، ووقتها متسع.

ومن أصحابنا من حكى وجهاً آخر بجواز صلاتها في وقت النهي، إذا جوزنا فعل ذوات الأسباب فيه، وهو ضعيف.

وكذا قال الشافعي في ((الأم)) ، قال: إذا لم يصل للاستسقاء قبل الزوال يصلها بعد الظهر وقبل العصر.

ومراده: أنه لا يصلى بعد العصر في وقت النهي.

ولأصحابه في ذلك وجهان.

ومن أصحابه من قال: وقتها وقت صلاة العيد.

ومنهم من قال: أول وقتها وقت العيد، ويمتد إلى أن يصلى العصر.

وهذا موافق لنص الشافعي كما تقدم.

ومنهم من قال: الصحيح أنها لا تختص بوقت، بل يجوز وتصح في كل وقت من ليل ونهار، إلا أوقات الكراهة –على أصح الوجهين -؛ لأنها لا تختص بيوم ولا تختص بوقت كصلاة الإحرام والاستخارة.

وهذا مخالف لنص الشافعي، لما علم من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في صلاة الاستسقاء؛ فإنهم كانوا يخرجون نهاراً لا ليلا، وجمع الناس لصلاة الاستسقاء ليلا مما يشق عليهم، وهو سبب لامتناع حضور أكثرهم، فلا يكون ذَلِكَ مشروعاً بالكلية.

وهذا بخلاف صلاة الإحرام والاستخارة، فإنه لا يشرع لهم الاجتماع، فلا يفوت بفعلهما ليلا شيء من مصالحهما.

ص: 209

‌19 - باب

الاستسقاء في المُصلى

ص: 210

1027 -

حدثنا عبد الله بن محمد: أنا سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر: سمع عباد بن تميم، عن عمه،: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى يستسقي، واستقبل القبلة، فصلى ركعتين، وقلب رداءه.

قال سفيان: وأخبرني المسعودي، عن أبي بكر، قال: جعل اليمين على

الشمال.

الخروج لصلاة الاستسقاء إلى المصلى مجمع عليه بين العلماء، حتى وافق الشافعي عليه - مع قوله: إن الأفضل في العيد أن يصلى في الجامع إذا وسعهم.

وذلك لأن الاستسقاء يجتمع له الخلق الكثير، فهو مظنة ضيق المسجد عنهم، ويحضره النساء والرجال وأهل الذمة والبهائم والأطفال، فلا يسعهم غير الصحراء.

ص: 210

‌20 - باب

استقبال القبلة في الاستسقاء

ص: 211

1028 -

حدثنا محمد - وهو ابن سلام -: نا عبد الوهاب: نا يحيى بن سعيد: أخبرني أبو بكر بن محمد، أن عباد بن تميم أخبره، أن عبد الله بن زيد الأنصاري أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى يصلي، وأنه لما دعا - أو أراد أن يدعو - استقبل

القبلة، وحول رداءه.

وقد سبق هذا المعنى في كثير من الروايات، وأنه حول ظهره في الدعاء إلى الناس واستقبل القبلة، ودعا، وسبق الكلام على معنى ذلك.

وخرج البخاري في ((الدعاء)) من ((كتابه)) هذا، من حديث عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد، قال: خرج رسول الله إلى هذا المصلى

يستسقي، فدعا واستسقى، ثم استقبل القبلة، وقلب رداءه.

وفي حديث عائشة: ثم اقبل على الناس ونزل.

وفيه: دليل على أنه يُقبل على الناس بعد ذلك وقبل نزوله.

ص: 211

‌21 - باب

رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء

ص: 212

1029 -

وقال أيوب بن سليمان: حدثني أبو بكر بن أبي اويس، عن سلمان بن بلال: قال يحيى بن سعيد: سمعت أنس بن مالك، قال: أتى رجل أعرابي من أهل البدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله، هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه [يدعو]، ورفع الناس أيديهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون. قال: فما خرجنا من المسجد حتى مطرنا، فما زلنا نمطر حتى كانت الجمعة الأخرى، فاتى الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشق المسافر، ومنع الطريق.

ص: 212

1030 -

وقال الأويسي: حدثني محمد بن جعفر، عن يحيى بن سعيد وشريك، سمعا أنساً، عن النبي صلى الله عليه وسلم، رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه.

هكذا ذكر البخاري تعليقاً.

ص: 212

وخرجه البيهقي من رواية أبي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الترمذي: نا أيوب بن سليمان بن بلال –فذكره، إلا أنه قال في آخره:((لثق المسافر، ومنع الطريق)) .

كذا قرأته بخط البيهقي، وقد ضبب على لفظة ((لثق)) بخطه، ووجدتها –أيضا - ((لثق)) من رواية أبي إسماعيل الترمذي في غير كتاب البيهقي.

وأما الرواية التي في ((صحيح البخاري)) هي ((بشق)) –بالباء.

قال في ((المطالع)) : كذا قيده الاصيلي، وذكر عن بعضهم أنه قال:((بشق)) –بكسر الباء – تأخر وحبس. وقال غيره: ملَّ. وقيل: ضعف.

وقيل: حبسَ. وقيل: هو مشتق من ((الباشق)) ، وهو طائر لا ينصرف إذا كثر المطر.

وسئل أبو محمد بن حزم الظاهري عن هذه اللفظة، فقال في جوابه: هي لفظة قد أعيتنا قديماً، وما رأيت من يعرفها. ولقد أخبرني بعض إخواننا، أنه سأل عنها جماعة ممن نظن بهم علم مثل هذا، فما وجد فيه شيئاً، وأكثر ما وجدنا في هذه اللفظة ما ذكره صاحب ((العين)) فقال: وأما ((بشق)) ، فلو أشتق هذا الفعل من اسم ((الباشق))

جاز، و ((الباشق)) طائر، وهذا كلام لا يحصل منه على كثير فائدة.

وذكر أن السائل ذكر في سؤاله أنه قد قيل: إنه ((نشق)) - بالنون -، وأن اللحياني ذكر في ((نوادره)) أن معنى ((نشق)) - بالنون -: كلَّ.

ص: 213

قال ابن حزم: ولقد كان هذا حسناً، إذا صح، لو وافق الرواية، وروايتنا بالباء. انتهى ما ذكره.

والمنقول عن اللحياني في ((نوادره)) ، أنه قال: قد نشق فلان في حبالي،

ونشب، وعلق، واستورط، وارتبط، واستبرق واترنبق وانربق في معنى واحد.

وعن غيره، أنه قال: الصواب ((نشق)) –بالنون - قال: وهو مشتق من النشقة، وهي العقدة التي تكون على يد البعير من الصيد، فكأنه قال: تقيد المسافر.

وقال الخطابي في ((الأعلام)) : ((بشق)) ليس بشيء إنما هو ((لثق)) ، من

اللثوق، وهو الوحل، لثق الطريق والثوب: إذا أصابه ندى المطر، وبكى الرجل حتى لثقت لحيته، أي: اخضلت، ويحتمل أن يكون ((مشق)) ، أي: صار منزله زلقاً، ومنه مشق الخط، والميم والباء متقاربان. انتهى ما ذكره.

والمقصود من هذا الحديث في هذا الباب: أن المأمومين يرفعون أيديهم إذا رفع الإمام يده، ويدعون معه.

وممن قال: إن الناس يدعون ويستسقون من الإمام: مالك وأحمد.

ص: 214

وقال أصحاب الشافعي: إن سمعوا دعاء الإمام أمنوا عليه، وإن لم يسمعوا دعوا.

وكذا قالوا في قنوت المأموم خلف الإمام.

وأما مذهب أحمد، فإن لم يسمع المأموم قنوت إمامه المشروع دعا.

وإن سمع، فهل يؤمن، أو يدعو، أو يخير بينهما، أو يتابعه في الثناء، ويؤمن على دعائه؟ حكي عنه فيهِ روايات.

ص: 215

‌22 - باب

رفع الإمام يده في الاستسقاء

ص: 216

1031 -

حدثنا محمد بن بشار: نا يحيى وابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شي من دعائه إلا في

الاستسقاء، وإنه كان يرفع حتى يرى بياض إبطيه.

وقد سبق في الباب الماضي، في الرواية التي علقها عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع في دعائه يوم الجمعة بالاستسقاء حتى رئي بياض إبطيه.

ولا يوجد ذلك في كل النسخ، وقد ذكره – تعليقا – في ((كتاب الأدعية)) في آخر ((صحيحه)) .

وروى معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن بركة، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى حتى رأيت – أو رئي – بياض إبطيه 0 قال معتمر: أراه في الاستسقاء.

خرجه ابن ماجه.

وقد رواه بعضهم، فلم يذكر:((بركة)) في إسناده.

والصواب ذكره -: قاله الدارقطنى.

ص: 216

وبركة، هو: المجاشعي.

قال أبو زرعة: ثقة.

وقد تقدم حديث عائشة في الاستسقاء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يرفع حتى يرى بياض إبطيه.

وقول أنس: ((كان لا يرفع يديه إلا في الاستسقاء)) ، في معناه قولان:

أحدهما: أن أنسا اخبر عما حفظه من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حفظ غيره عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه في الدعاء في غير الاستسقاء – أيضا.

وقد ذكر البخاري في ((كتاب الأدعية)) : ((باب: رفع الأيدي في الدعاء)) :

وقال أبو موسى، دعا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رفع يديه، ورأيت بياض إبطيه.

وقال ابن عمر: رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه، وقال:((اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)) .

ثم ذكر رواية الأويسي تعليقاً، وقد ذكرناها في الباب الماضي.

والثاني: أن أنساً أراد أنه لم يرفع يديه هذا الرفع الشديد حتى يرى بياض إبطيه، إلا في الاستسقاء.

وقد خرّج الحديث مسلم، ولفظه: كان النبي صلى الله عليه وسلم لايرفع يديه في شىء من دعائه الا في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه. ومع هذا؛ فقد رأه غيره رفع يديه هذا الرفع في غير الاستسقاء – أيضا.

ص: 217

وقد خرّج البخاري في ((الأدعية)) من حديث أبي موسى، قال: دعا النبي? صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ، ثم رفع يديه، وقال:((اللهم اغفر لعبيد أبي عامر)) ورأيت بياض إبطيه.

وخرّجه مسلم –أيضا.

وخرّجه مسلم من حديث شعبه، عن ثابت، عن أنس، قال: رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء، حتى يرى بياض إبطيه.

ولم يذكر في هذه الروايه الاستسقاء، لكن في روايه خرجها البيهقي:((يعني: في الاستسقاء)) .

[0 0 0 0 0 0] في هذا الحديث: قال شعبة: فأتيت علي بن زيد، فذكرت ذلك له، فقال: إنما ذلك في الاستسقاء. قلت: أسمعته من أنس؟

قالَ: سبحان الله 0 قلت: أسمعته من أنس؟ قالَ: سبحان الله.

وخرّج الإمام أحمد من حديث سهل بن سعد، قالَ: ما رأيت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم شاهرا يديه قط يدعو على منبر ولا غيره، ما كانَ يدعو إلا يضع يديه حذو منكبيه، ويشير بإصبعه إشارة.

وخرّج أبو يعلى الموصلي بإسناد ضعيف، عن أبي برزة الأسلمي، أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في الدعاء حتى رئي بياض إبطيه.

وخرّج مسلم من حديث ابن عباس، عن عمر بن الخطاب، أن النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 218

يوم بدر استقبل القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه:((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)) ، فما زال يهتف بربه، مادا يديه، مستقبل القبلة حتى سقط رداءه عن منكبيه – وذكر الحديث.

قال الوليد بن مسلم في ((كتاب الدعاء)) : نا عبد الله بن العلاء، قال: سمعت الزهري ومكحولا يقولان: لم نحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه كل الرفع إلا في ثلاث مواطن: عشية عرفة، وفي الاستسقاء، والانتصار.

ولا أعلم أحدا من العلماء خالف في استحباب رفع اليدين في دعاء الاستسقاء، وإنما اختلفوا في غيره من الدعاء، كما سنذكره في موضعه – إن شاء الله سبحانه

وتعالى.

وانما اختلفوا في صفة الرفع، على حسب اختلاف الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك في الاستسقاء.

وقد روي، عنه صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء في هذا خمسة أنواع:

أحدها: الإشارة بإصبع واحدة إلى السماء.

روي عامر بن خارجة بن سعد، عن أبيه، عن جده سعد، أن قوما شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحط المطر، فقال:((اجثوا على الركب، وقولوا: يا رب، يا رب)) ورفع السبابة إلى السماء، فسقوا حتى أحبوا أن يكشف عنهم.

خرّجه الطبراني.

وخرّجه أبو القاسم البغوي في ((معجمه)) ، وعنده: عن عامر بن خارجة،

عن جده سعد.

وترجم عليه ((سعد أبو خارجة)) يشير إلى أنه ليس سعد بن أبي وقاص.

[.............................................................] .

كل الرفع إلا في ثلاث مواطن: عشية عرفة، وفي الاستسقاء، والانتصار.

ولا أعلم أحداً من العلماء خالف في استحباب رفع اليدين في دعاء الاستسقاء، وإنما اختلفوا في غيره من الدعاء، كما سنذكره في موضعه - إن شاء الله سبحانه

وتعالى.

وإنما اختلفوا في صفة الرفع، على حسب اختلاف الروايات عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذَلِكَ في الاستسقاء.

وقد روي، عنه صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء في هذا خمسة أنواع:

أحدها: الإشارة بإصبع واحدة إلى السماء.

روى عامر بن خارجة بن سعد،؟ عن أبية، عن جده سعد، أن قوماً شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحط المطر، فقالَ:((اجثوا على الركب، وقولوا: يا رب، يا رب)) ورفع السبابة إلى السماء، فسقوا حتَّى أحبوا أن يكشف عنهم.

ص: 219

خرجه الطبراني.

وخرجه أبو القاسم البغوي في ((معجمه)) ، وعنده: عن عامر بن خارجة، عن جده سعد.

وترجم عليهِ ((سعد أبو خارجة)) ، يشير إلى أنه ليس سعد بن أبي وقاص

[. . . . . . . . . . .. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .] .

والإشارة بالإصبع، تارة تكون في الدعاء، كما روي عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه كانَ يفعله في دعائه على المنبر كما تقدم في ((كتاب الجمعة)) .

وقد تقدم قريباً حديث سهل بن سعد في ذَلِكَ.

وتاره تكون في الثناء على الله، كما الله، كما في التشهد، وكما أشار النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بإصبعه بعرفة، وقال:((اللَّهُمَّ، اشهد)) ، وكما أشار بإصبعه لما ركب راحلته، وقال:((اللَّهُمَّ، أنت الصاحب في السفر)) .

وروي عن أبي هريرة، أنه قالَ: إذا دعا أحدكم فهكذا - ورفع إصبعه المشيرة - وهكذا - ورفع يديه جميعاً.

خرجه الوليد بن مسلم في ((كتاب الدعاء)) .

وروى عن ابن عباس، قالَ: والاستغفار: أن يشير بإصبع واحدة.

روي عنه مرفوعا وموقوفا، ذكره أبو داود.

وروى عن عائشة، قالت: إن الله يحب أن يدعا هكذا - وأشارت بالسبابة.

ص: 220

وروي عنها - مرفوعا.

وعن ابن الزبير، قالَ: إنكم تدعون أفضل الدعاء، هكذا - وأشار بإصبعه.

وعن ابن سيرين، قالَ: إذا أثنيت على الله، فأشر بإصبع واحدة.

وعن ابن سمعان، قالَ: بلغنات أنه الإخلاص.

قالَ حرب: رأيت الحميدي يشير بالسبابة - يعني: في الدعاء -، ويقول: هذا الدعاء، ويقول: هذا السؤال.

وذهب طائفة من العلماء إلى أن المصلي إذا قنت لا يرفع يديه في دعاء القنوت، بل يشير بإصبعه.

ذكره الوليد بن مسلم في ((كتابه)) ، عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز ويزيد بن أبي مريم وابن حبان وإبراهيم بن ميمون.

ونقل ابن منصور، عن إسحاق بن راهويه، قالَ: إن شاء رفع يديه، وإن شاء أشار بإصبعه.

النوع الثاني: رفع اليدين وبسطهما، وجعل بطونهما إلى السماء.

وهذا هوَ المتبارد فهمه من حديث أنس في رفع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يديه في دعاء الاستسقاء يوم الجمعة على المنبر.

وخرجه أبو داود من رواية محمد بن إبراهيم التيمي، قالَ: أخبراني من رأي النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو عندَ أحجار الزيت باسطا كفيه.

يعني: في الاستسقاء.

ص: 221

وقد خرج أبو داود وابن ماجه، عن ابن عباس - مرفوعا -:((إذا سألتم الله فسلوه ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهورها)) .

وإسناده ضعيف، وروى مرفوعا.

وروي - أيضا - عن ابن عمر وأبي هريرة وابن سيرين وغيرهم.

وروي حرب، عن الحميدي، قالَ هذا هوَ السؤال.

النوع الثالث: أن يرفع يديه، ويجعل ظهورهما إلى القبلة، وبطونهما مما يلي وجهه.

وخرج أبو داود من حديث محمد بن إبراهيم التيمي، عن عمير مولى آبي اللحم، أنه رأى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يستسقي عندَ أحجار الزيت، قائما يدعو، يستسقى، رافعا يديه قبل وجهه، لا يجاوز بهما رأسه.

وخرجه الإمام أحمد، وزاد:((مقبلا بباطن كيفه إلى وجهه)) .

وخرجه ابن حبان - بهذه الزيادة.

ص: 222

وخرجه جعفر الفريابي من وجه آخر، عن عمير، أنه رأى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قائما يدعو، رافعا كفيه قبل وجهه، لا يجاوز بهما رأسه، مقبلا ببطن كفيه إلى وجهه.

وخرج الإمام أحمد، من حديث خلاد بن السائب، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا دعا جعل باطن كفيه إلى وجهه.

وفي رواية لهُ - أيضا -: كانَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا جعل باطن كفيه إليه وإذا استعاذ جعل ظاهر هما إليه.

وفي إسناده اختلاف على ابن لهعية.

وخرجه جعفر الفرابي، وعنده - في رواية لهُ -: عن خلاد بن السائب، عن أبيه، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا دعا جعل راحته إلى وجهه.

وذكر الوليد بن مسلم، عن ابن سمعان، قالَ: بلغنا أن رفع اليدين إلى المنكبين دعاء، وأن قلبهما والاستقبال ببطونهما وجه الإنسان تضرع، وأن رفعهما إلى الله جدا ابتهال.

وعن أبي عمرو، عن خصف الجزري، قالَ: رفع اليدين - يعني يكفيه -

تضرع، وهكذا - يعني: قلبهما مما يلي وجهه - رهبة.

النوع الرابع: عكس الثالث، وهو أن يجعل ظهورهما مما يلي وجه الداعي.

ص: 223

قالَ الجوزجاني: نا عمرو بن عاصم: نا حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد، عن أنس، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم استسقى ودعا هكذا - يقبل ببياض كفية على القبلة، وظاهر هما إلى وجهه.

ثُمَّ قالَ: وفي هذا بيان أنه قلب كفية، وجعل ظاهر هما إلى وجهه.

وقد تقدم في حديث خلاد بن السائب هذه الصفة - أيضا.

وروى عن ابن عباس، أن هذا هوَ الابتهال.

خرجه أبو داود.

وعنه قالَ: هوَ استجارة.

وروي عن أبي هريرة، أنه الاستجارة - أيضا.

خرجه الوليد بن مسلم.

وروي عن ابن عمر، قالَ: إذا سأل أحدكم ربه، فليجعل باطن كفيه إلى

وجهه، وإذا استعاذ فليجعل ظاهرهما إلى وجهه.

خرجه جعفر الفريابي.

وروي عن عمر بن عبد العزيز، أنه كانَ يدعو إذا رفع يديه حذو منكبيه، ظهورهما مما يلي وجهه.

النوع الخامس: أن يقلب كفيه، ويجعل ظهورهما مما يلي السماء، وبطونهما مما يلي الأرض، مع مد اليدين ورفعهما إلى السماء.

خرج مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم استسقى، فأشار بظهر كفيه إلى السماء.

ص: 224

وخرجه الإمام أحمد، ولفظه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقي، بسط يديه، وجعل ظاهر هما مما يلي السماء.

وخرجه أبو داود، وعنده: استسقى - يعني: ومد يديه -، وجعل بطونهما مما يلي الأرض، حتَّى رأيت بياض إبطيه.

وفي رواية: وهوَ على المنبر.

خرجها البيهقي.

وخرج أبو داود من رواية عمر بن نبهان، تكلم فيهِ.

وخرج الإمام أحمد من رواية بشر بن حرب، عن أبي سعيد الخدري، قالَ: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفة يدعو، هكذا، ورفع يده حيال ثندوتيه، وجعل بطون كفيه مما يلي الأرض.

وفي رواية لهُ - أيضا -: وجعل ظهر كفيه مما يل وجهه، ورفعهما فوق

ثندوتيه، وأسفل من منكبيه.

وبشر بن حرب، مختلف فيهِ.

وقد تأول بعض المتأخرين حديث أنس على أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقصد

ص: 225

قلب كفيه، إنما حصل لهُ من شدة رفع يديه انحاء بطونهما إلى الأرض.

وليس الأمر كما ظنه، بل هوَ صفة مقصود لنفسه في رفع اليدين في الدعاء.

روى الوليد بن مسلم بإسناده، عن ابن سيرين، قالَ: إذا سألت الله فسل ببطن كفيك، وإذا استخرت الله، فقل هكذا - ووجه يديه إلى الأرض -، وقال: لا تبسطهما.

وروى الإمام أحمد، عن عفان، أن حماد بن سلمة وصف النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يديه بعرفة، ووضع عفان وكفيه مما يلي الأرض.

وقال حرب: رأيت الحميدي مد يديه، وجعل بطن كفيه إلى الأرض، وقال: هكذا الابتها.

وحماد بن سلمة والحميدي من أشد الناس تشددا في السنة، وردا على من خالفها من الجهمية والمعتزلة ونحوهم.

وقد ذهب مالك إلى رفع اليدين في الاستسقاء على هذا الوجه:

ففي ((تهذيب المدونة)) في ((كتاب الصَّلاة)) : ضعف مالك رفع اليدين عد الجمرتين، واستلام الحجر، وبعرفات، والموافق، وعند الصفا والمروة، وفي المشعر، ووالاستسقاء، وقد رئي مالك رافعا يديه في الاستقاء، حين عزم عليهم الإمام، وقد جعل بطونهما مما يلي الأرض، وقال إن كانَ الرفع فهكذا.

قالَ ابن القاسم: يريد في الاستسقاء في مواضع الدعاء.

ص: 226

وكذا ذكره أصحاب الشافعي:

ففي ((شرح المهذب)) في ((الاستسقاء)) : قالَ الرافعي وغيره: قالَ العلماء: السنة لكل من الدعا لرفع بلاء أن يجعل ظهر كفيه إلى السماء، وإن دعا لطلب شيء جعل بطن كفيه إلى السماء.

وقال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا في كتابه ((الشافي)) في ((كتاب الاستسقاء)) في ((باب: القول في رفع اليدين في الدعاء وصفته)) ، ثُمَّ روى فيهِ حديث قتادة، عن أنس الذي خرجه البخاري في الدعاء وصفته)) ، ثُمَّ حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: كانَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يستسقى هكذا - ومد يديه، وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتَّى بياض إبطيه.

ولم يذكر في الرفع وصفته غير ذَلِكَ، وهذا يدل على أنه علي أنه يرى أن هذا هوَصفته رفع اليدين في الاستسقاء، أو مطلقا؛ لكن مع رفع اليدين إلى السماء والاجتهاد في رفعهما، إلا أن يرى منه بياض الابطين.

ص: 227

‌23 - باب

ما يقول إذا أمطرت

وقال ابن عباس {كصيب} [البقرة: 19] المطر.

وقال غيره: صاب وأصاب يصوب.

ص: 228

1032 -

حدثنا محمد بن مقتل أبو الحسن المروزني: أنا عبد الله - هوَ: ابن المبارك -: أنا عبيد الله، عن نافع، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ إذا رأى المطر قالَ:((صيبا نافعا)) .

تابعه: القاسم بن يحيى، عن عبيد الله.

ورواه الأوزاعي وعقيل، عن نافع.

أما ذكر المتابعات على هذا الإسناد؛ لا ختلاف وقع فيهِ:

فإنه روي عن عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير ذكر:((نافع)) .

والصحيح: ذكر: ((نافع)) فيهِ.

وقد رواه - أيضا - يحيى القطان وعبدة بن سليمان، عن عبيد الله كذلك -: ذكره الدارقطني في ((علله)) .

فإن كانَ ذَلِكَ محفوظا

ص: 228

عنهما، فكيف لم يذكر البخاري متابعتهما لابن المبارك، وعدل عنه إلى متابعة القاسم بن يحيى؟

وأما عقيل، فرواه عن نافع، عن القاسم، عن عائشة.

وروه - أيضا - أيوب، عن القاسم، عن عائشة.

خرجه الإمام أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عنه، ولفظ حديثه:((اللَّهُمَّ صيبا هنيئا)) .

وأما الأوزاعي، فقد رواه عن نافع، عن القاسم، عن عائشة، كما ذكره البخاري، ولفظ حديثه:((اللَّهُمَّ اجعله صيبا هنيئا)) .

وقد خرج حديثه كذلك الإمام أحمد وابن ماجه.

وفي رواية ابن ماجه: أن الأوزاعي قالَ: ((أخبرني نافع)) ، كذا خرجه من طريق عبد الحميد بن أبي العشرين، عنه.

وقد روي التصريح بالتحديث فيهِ عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي - أيضا.

ورواه إسماعيل بن سماعة، عن الأوزاعي، عن رجل، عن نافع، عن القاسم، عن عائشة.

وقال البابلتي: عن الأوزاعي، عن محمد بن الوليد

ص: 229

الزبيدي، عن نافع، عن القاسم، عن عائشة.

وقال عقبة بن علقمة: عن الأوزاعي، عن الزهري، عن نافع عن القاسم، عائشة.

قالَ الدارقطني: وهو غير محفوظ.

وقال عيسى بن يونس وعباد بن جويرية: عن الأوزاعي، عن الزهري عن القاسم، عن عائشة - من غير ذكر:((نافع)) .

وكذا روي عن ابن المبارك، عن الأوزاعي.

قالَ الدارقطني: فإن كانَ ذَلِكَ محفوظا عن الأوزاعي، فهوَ غريب عن الزهري.

وخرجه البيهقي من رواية الوليد بن مسلم: نا الأوزاعي: حدثني نافع ثُمَّ قالَ: كانَ ابن معين يزعم أن الأوزاعي لم يسمع من نافع شيئا.

ثُمَّ خرجه من طريق الوليد مزيد: نا الأوزاعي: حدثني رجل، عن نافع - فذكره.

قالَ: وهذا يشهد لقول ابن معين.

قلت: وقد سبق الكلام على رواية الأوزاعي عن نافع في ((باب: حمل العنزة بين يدي الإمام يوم العيد)) ؛ فإن البخاري خرج حديثا للأوزاعي عن نافع مصرحا فيهِ بالسماع.

ص: 230

وقد روي هذا الحديث عن عائشة من وجه آخر.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود ووالنسائي وابن ماجه من حديث المقدم بن شريح، عن أبيه، عن عائشة، أن النَّبيّ، كانَ إذا أمطر قالَ:((اللَّهُمَّ صيبا هنيئا)) - لفظ أبي دواد.

ولفظ النسائي: ((اللَّهُمَّ اجعله سيبا نافعا)) .

ولفظ ابن ماجه: ((اللَّهُمَّ، سيبا نافعا)) - مرتين أو ثلاثا.

وفي رواية لابن أبي الدنيا في ((كتاب المطر)) : ((اللَّهُمَّ سقيا نافعا)) .

وخرج مسلم من طريق جعفر بن محمد، عن عطاء، عن عائشة، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ يقول إذا رأى المطر:((رحمة)) .

وقد أشار البخاري إلى تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: ((صيبا هنيئا)) ، فذكر عن ابن عباس، أن الصيب هوَ المطر.

وقد خرجه ابن أبي الدنيا في كتاب ((كتاب المطر)) من رواية هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس.

وقال غيره: هوَ المطر الشديد.

وقد ذكر البخاري عن بعضهم، أن الفعل الماضي منه:((صاب وأصاب)) ، والمضارع منه:((يصوب)) .

وهذا عجيب؛ فإن ((أصاب)) إنما تقال

ص: 231

في ماضي ((يصيب)) ، من الإصابة التي هي ضد الخطإ.

وأما ((صاب يصوب)) ، فنعمناه: نزل من علو إلى سفل.

وأما رواية من روى ((سيبا)) بالسين، فيجوز أن تكون السين مبدلة من

الصاد.

وقيل: بل هوَ بسكون الياء، معناه: العطاء.

وروي عن محمد بن أسلم الطوسي، أنه رجح هذه الرواية؛ لأن العطاء يعم المطر وغيره من أنواع الخير والرحمة وفي هذه الأحاديث كلها: الدعاء ببأن يكون النازل من السماء نافعا، وذلك سقيا الرحمة، دون العذاب.

وروي ابن أبي الدنيا بإسناده، عن عبد الملك بن جابر بن عتيك، أن رجلا من الأنصار كانَ قاعداً عندَ عمر في مطر، فأكثر الأنصار الدعاء بالاستسقاء، فضربه عمر بالدرة، وقال: ما يدريك يكون في السقيا ألا تقول: سقيا وادعة، نافعة، تسع الأموال والأنفس.

ص: 232

‌24 - باب

من تمطر [في المطر] حتَّى يتحار على لحيته

خرج فيهِ:

ص: 233

1033 -

حديث: الأوزاعي: نا إسحاق بن عبد الله: نا أنس، قالَ: أصاب الناس سنة على النَّبيّ صلى الله عليه وسلم.

فذكر الحديث، وقد تقدم في ((كتاب الجمعة)) بتمامه، وفيه:

ثُمَّ لم ينزل - يعني: النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عن منبره حتَّى رأيت المطر يتحادر على لحيته.

خرجه من طريق ابن المبارك، عن الأوزاعي.

وفي الاستدال بهذا الحديث على التمطر نظر؛ فإن معنى التمطر: أن يقصد المستسقي أو غيره الوقوف في المطر يصيبه، ولم يعلم أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قصد الوقوف في ذَلِكَ اليوم على منبره حتَّى يصيبه المطر، فلعله إنما وقف لإتما الخطبة خاصة.

وفي الاستمطار أحاديث أخر، ليست على شرط البخاري:

فخرج مسلم، من رواية جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس، قالَ - قالَ أنس -: أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 233

ثوبه، حتَّى أصابه من المطر، فقلنا: يارسول الله، لم صنعت هذا؟ قالَ ((لأنه حديث عهد بربه)) .

وخرج ابن أبي االدنيا، من رواية الربيع بن صبيح، عن زيد الرقاشي، عن أنس، قالَ: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقي ثيابه أول مطره، ويتمطر.

والرقاشي، ضعف جدا.

وروى بإسناده، عن جابر الجعفي، عن عبد الله بن نجي، قالَ: كانَ علي رضي الله عنه إذا مطرت السماء خرج فإذا أصاب صلعته الماء مسح رأسه ووجهه وجسده، وقال:((بركة نزلت من السماء لم تمسها يد ولا سقاء)) .

وبإسناده، عن عبد الله بن مؤمل، عن ابن أبي مليكة، قالَ: كانَ ابن عباس يتمطر، يقول: يا عكرمة، أخرج الرحل، أخرج كذا، أخرج كذا، حتَّى يصيبه

المطر.

وبإسناده، عن وكيع، عن أم غراب، عن نباتةة، قالَ: كانَ عثمان بن عفان يتمطر.

وبإسناده، عن أبي الأشعر، قالَ: رأيت أبا حكيم إذا كانت أول مطر

ص: 234

تجرد، ويقول: إن عليا كانَ يفعله، ويقول، أنه حديث عهد بالعرش.

وهذا يدل على أن عليا كانَ يرى أن المطر ينزل من البحر الذي تحت العرش.

وحديث العباس بن عبد المطلب، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذكر السحاب والمزن

والعنان، وبعد ما بين السماء والأرض، وبعد ما بين السموات بعضهما من بعض، وأن فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله، مثل ما بين سماء إلى سماء - شهد ذَلِكَ.

وقد خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم.

وقال: صحيح الإسناد.

وقال الترمذي: حسن غريب.

وكذلك قاله عكرمة وخالد بن معدان وغيرهما من السلف: أالمطر ينزل من تحت العرش.

وروي عن ابن عباس من وجوه ما يدل عليهِ.

وأما من قالَ: أن المطر كله من ماء البحر؛ فإنه ما لا علم لهُ به.

فإن استدل بإنه يشاهد اغتراف السحاب من البحر، فقد حكم حكما كليا بنظر جزئي، ومن أين لهُ أن كل السحاب كذلك؟

وقد خرج ابن أبي الدنيا بإسناده، عن خالد بن يزيد: منه من

ص: 235

السماء، فلا ما يستقيه الغيم من البحر، فيعذبه الرعد والبرق، فإما ما يكون من البحر، فلا يكون لهُ نبات، وأما النبات فما كانَ من ماء السماء، وقال إن شئت أعذبت ماء البحر، فأمر بقلال من ماء، ثُمَّ وصف كيف يصنع حتَّى تعذب.

ونص الشافعي وأصحابنا على استحباب التمطر في أول مطرة تنزل من السماء في السنة.

وحديث أنس الذي خرجه البخاري إنما يدل على التمطر بالمطر النازل

بالاستسقاء، وإن لم يكن أول مطرة في تلك السنة.

ص: 236

‌25 - باب

إذا هبت الريح

ص: 237

1034 -

حديثا سعيد بن أبي مريم: أنا محمد بن جعفر: أخبرني حميد، أنه سمع أنس بن مالك يقول: كانت الريح الشديدة إذا هبت عرف ذَلِكَ في وجه النَّبيّ صلى الله عليه وسلم.

إنما كانَ يظهر في وجه النَّبيّ صلى الله عليه وسلم الخوف من اشتداد الريح؛ لأنه كانَ يخشى أن تكون عذابا أرسل إلى أمته.

وكان شدة الخوف النَّبيّ صلى الله عليه وسلم على أمته شفقة عليهم، كما وصفة الله سبحانه وتعالى بذلك في قوله:{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: من الآية128] .

ولما تلا عليهِ ابن مسعود: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] بكى.

ولما تلا قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية [المائدة: من الآية118] بكى، وقال:((اللَّهُمَّ، أمتي، أمتي)) ، فأرسل الله جبريل يقول لهُ:((إن الله يقول: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك)) .

وكان يقول: ((شيبتني هود وأخواتها)) .

وجاء في رواية مرسلة: ((قصفن علي الأمم)) .

يشير إلى أن شيبه منها

ص: 237

ما ذكر من هلاك الأمم قبل أمته وعذابهم.

وكان عندَ لقاء العدو يخاف على من معه من المؤمنين، ويستغفر لهم، كما فعل يوم بدر، وبات تلك الليلة يصلي ويبكي ويستغفر لهم، ويقول:((اللَّهُمَّ، إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)) .

وكل هذا من خوفه وشفقته من اشتداد الريح:

وقد جاء في رويات متعددة: التصريح بسبب خوفه من اشتداد الريح:

ففي ((الصحيحين)) من حديث سليمان بن يسار، عن عائشة، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذَلِكَ في وجهه، فقلت: يارسول الله: أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا؛ رجاء أن يكون فيهِ المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك

الكراهية؟ فقالَ: ((يا عائشة، يؤمني أن يكون فيهِ عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد العذاب، فقالوا {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الاحقاف: من الآية24] )) .

وخرجا - أيضا - من رواية ابن جريح، عن عطاء، عن عائشة، قالت كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة في السماء أقبل وأدبر، ودخل وخرج، وتغير وجهه، فإذا أمطرت السماء سري عنه، فعرفته عائشة ذَلِكَ، فقالَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:((وما أدري لعله كما قالَ قوم: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} [الاحقاف: من الآية24] الآية)) .

ص: 238

وزاد مسلم - في أوله -: كانَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قالَ: ((اللَّهُمَّ، أني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به)) .

وخرجه النسائي، ولفظه:((كانَ إذا رأى ريحا)) بدل: ((مخيلة)) .

وخرج مسلم - أيضا - من حديث جعفر بن محمد، عن عطاء، عن عائشة، قالت: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانَ يوم الريح والغيم عرف ذَلِكَ في وجهه، فأقبل

وأدبر، فإذا مطر سر به، وذهبت عنه ذَلِكَ. قالت عائشة: فسألته، فقالَ:((إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي)) .

وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا رأى سحابا مقبلا من أفق من الآفاق ترك ما هوَ فيهِ، وإن كانَ صلاته، حتَّى يستقبله، فيقول:((اللَّهُمَّ، إنا نعوذ بك من شر ما أرسل)) ، فإن أمطر قالَ:((اللَّهُمَّ سقيا نافعا)) - مرتين أو ثلاثا -، فإن كشفه الله ولم يمطر حمد الله على ذَلِكَ.

ولفظه لابن ماجه.

وخرجه أبو داود، ولفظه: كانَ إذا رأى ناشئا في أفق السماء ترك العمل، وإن كانَ في الصَّلاة، ثُمَّ يقول:((اللَّهُمَّ، أني أعوذ بك من شرها)) .

وخرجه أبو داود، ولفظه: كانَ إذا رأى ناشئا في أفق السماء ترك العمل، وإن كانَ في صلاة، ثُمَّ يقول:((اللَّهُمَّ، إني أعوذ بك من شرها)) .

ص: 239

وخرجه ابن السني، ولفظه: كانَ إذا رأى في السماء ناشئا، غبارا أو ريحا، استقبله من حيث كانَ، [وإن كانَ في الصَّلاة] تعوذ بالله من شره.

وكذا خرجه ابن أبي الدينا.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي في ((اليوم والليلة)) وابن ماجه وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث أبيه هريرة، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قالَ:((لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقالوا: اللَّهُمَّ، إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيهِا، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك منشر هذه الريح، وشر ما فيها وشر ما أمرت به)) .

وقال: حسن صحيح.

وخرجه النسائي في ((اليوم والليلة)) مرفوعا وموقوفا علي أبي كعب رضي الله عنه.

وفي الباب: أحاديث أخر متعددة.

ص: 240

وروي عن ابن مسعود، قالَ: لا تسبوا الريح؛ فإنها بشر ونذر ولواقح، ولكن استعيذوا بالله من شر ما أرسلت به.

وعن ابن عباس، قالَ: لا تسبوا الريح؛ فإنها تجئ بالرحمة، وتجئ بالعذاب، وقولوا: اللَّهُمَّ، اجعلها رحمة، ولا تجعلها عذابا.

خرجهما ابن أبي الدنيا.

وخرج - أيضا - بلإسناده، عن علي، أنه كانَ إذا هبت الريح قالَ: اللَّهُمَّ، إن كنت أرسلتها رحمة فارحمني فيمن ترحم، وإن كنت أرسلتها عذابا فعافني فيمن تعافي.

وبإسناده، عن ابن عمر، أنه كانَ يقول إذا عصفت الريح: شدوا التكبير؛ منتقع اللون، فقالَ: مالك يا أمير المؤمنين؟ قالَ: ويحك، وهل هلكت أمة إلا بالريح؟

ص: 241

‌26 - باب

قول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: ((نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور))

ص: 242

1035 حدثنا مسلم: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس،

أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: ((نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور))

وخرجه مسلم من طريق شعبة - أيضا 0ومن طريق الأعمش، عن مسعود بن مالك،

عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس 0 عن النَّبيّ صلى الله عليةوسلم الأحد بمثله 0

وهذا مما يدل على أن الريح تأتي تارة بالرحمة، وتارة بالعذاب 0

وخرج الحاكم من حديث جابر، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه كانَ يدعو:((اللَّهُمَّ، أعوذ بك من شر الريح، ومن شر ما تجيء به الريح، ومن ريح الشمال؛ فإنها الريح العقيم)) .

ومن حديث سلمة بن الأكوع رفعه - إن شاء الله -، أنه كان إذا اشتدت

الريح تقول: " اللهم، لقحا لا عقيما ".

ص: 242

وروينا عن شريح، قال: ما هاجت ريح قط إلا لسقم صحيح أو برء سقيم.

وفي " صحيح مسلم "، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان في سفر، فهبت ريح شديدة،

فقال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " هذه الريح لموت منافق

عظيم النفاق "، فوجدوا قد مات في

ذلك اليوم عظيم من المنافقين. وهو رفاعة بن التابوت.

ص: 243

‌27 - باب ما قيل في الزلازل والآيات

فيه حديثان:

الأول:

ص: 244

1036 -

نا أبو اليمان: أنا شعيب: أنا

أبو الزناد، عن عبد الرحمن، عن

أبي هريرة، قال: قال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر

الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج - وهو القتل القتل -،

[حتى يكثر فيكم المال فيفيض] ".

هذا قطعة من حديث طويل، قد خرجه بتمامه في " كتاب الفتن ".

وقبض العلم، قد سبق الكلام عليه بما فيه

كفاية.

وتقارب الزمان، فسر بقصر الأعمار، وفسر بقصر الأيام في زمن الدجال.

وقد روي في ذلك أحاديث

متعددة، الله أعلم بصحتها.

وأما كثرة الزلازل، فهو مقصود البخاري في هذا الباب من الحديث.

والظاهر: أنه

حمله على الزلازل المحسوسة، وهي ارتجاف الأرض

وتحركها.

ويمكن حمله على الزلازل المعنوية، وهي كثرة

الفتن المزعجة الموجبة

لارتجاف القلوب.

والأول أظهر؛ لأن هذا يغني عنه ذكر ظهور الفتن.

ص: 244

وكأن البخاري

ذكر هذا الباب استطرادا لذكر الرياح واشتدادها، فذكر بعده

الآيات والزلازل.

وقيل: إنه أشار إلى أن الزلازل لا يصلى لها؛ فإن النبي [صلى الله عليه وسلم] ذكر ظهورها

وكثرتها، ولم

يأمر بالصلاة لها، كما أمر به في كسوف الشمس والقمر، وكما

أنه لم يكن يصلي للرياح إذا اشتدت، فكذلك الزلازل

ونحوها من الآيات.

وقد اختلف العلماء في الصلاة للآيات:

فقالت طائفة: لا يصلى لشيء منها سوى كسوف

الشمس والقمر، وهو قول

مالك والشافعي.

وقد زلزلت المدينة في عهد عمر بن الخطاب، ولم ينقل أنه صلى لها

، هو

ولا أحد من الصحابة.

وروى عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، قالت:

زلزلت

الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر، وابن عمر يصلي، فلم يدر

بها، ولم يوافق أحدا يصلي فدرى بها،

فخطب عمر الناس، فقال: أحدثتم،

لقد عجلتم. قالت: ولا أعلمه إلا قال: لئن عادت لأخرجن من بين

ظهرانيكم.

خرجه البيهقي.

وخرجه حرب الكرماني، من رواية أيوب، عن نافع - مختصرا.

وروي أيضا من

رواية ليث، عن شهر، قال: زلزلت المدينة على

ص: 245

عهد

النبي [صلى الله عليه وسلم]، فقال النبي [صلى الله عليه وسلم] :" إن الله يستعتبكم فاعتبوه ".

وهذا مرسل ضعيف.

وقالت طائفة، يصلى لجميع الآيات في البيوت فرادى، وهو قول سفيان

وأبي حنيفة وأصحابه.

وكذلك إسماعيل بن سعيد الشالنجي، عن أحمد، قال: صلاة الآيات

وصلاة الكسوف

واحد.

كذا نقله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتابه " الشافي " من طريق

الجوزجاني، عن الشالنجي، عن

أحمد.

ونقله - أيضا - من طريق الفضل بن زياد وحبيش بن مبشر، عن أحمد -

أيضا.

والذي نقله

الجوزجاني في كتابه " المترجم "، عن إسماعيل بن سعيد،

قال: سألت أحمد عن صلاة كسوف الشمس والقمر

والزلازل؟ قال: تصلى

جماعة، ثمان ركعات وأربع سجدات، وكذلك الزلزلة.

قال: وبذلك قال أبو أيوب -

يعني: سليمان بن داود الهاشمي - وأبو خيثمة.

وقال: ابن أبي شيبة يرى فيها الخطبة وجماعة.

وقد نقل أبو

بكر في " الشافي " هذا - أيضا - من طريق الجوزجاني.

وخرج الجوزجاني من حديث عبد الله بن الحارث بن

نوفل، قال:

ص: 246

صلى

بنا ابن عباس في زلزلة كانت، فصلى بنا ست ركعات في ركعتين، فلما انصرف

التفت إلينا

وقال: هذه صلاة الآيات.

فالمنصوص عن أحمد إنما يدل على الصلاة للزلزلة خاصة، وهو الذي عليه

عامة

أصحابنا، وخصوه بالزلزلة الدائمة التي يتمكن من الصلاة لها مع وجودها.

وروي عن ابن عباس، أنه صلى

للزلزلة بعد سكونها وانقضائها.

وحكى بعض أصحاب الشافعي قولا له: أنه يصلى للزلزلة.

ومنهم من حكاه في جميع الآيات.

وحكى ابن عبد

البر، عن أحمد وإسحاق وأبي ثور: الصلاة للزلزلة

والطامة والريح الشديدة.

وهذا يدل على استحبابها لكل آية،

كالظلمة في النهار، والضياء المشبه

للنهار بالليل، سواء كان في السماء أو انتثار الكواكب، وغير ذلك.

وهو

اختيار ابن أبي موسى من أصحابنا، وظاهر كلام أبي بكر عبد العزيز في

" الشافي " - أيضا.

وممن روي عنه،

أنه يصلي في الآيات: ابن عباس.

وفي " المسند " و" سنن أبي داود "، عنه، أنه سجد لموت بعض أزواج

النبي [صلى الله عليه وسلم]، وقال: سمعت النبي [صلى الله عليه وسلم] يقول: " إذا رأيتم آية فاسجدوا ".

ص: 247

وروي عن عائشة، قالت: صلاة الآيات

ست ركعات وأربع سجدات.

وروي عنها - مرفوعا.

خرجه الجوزجاني من طريق حماد بن سلمة، عن قتادة،

عن عطاء، عن

عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقوم في صلاة

الآيات، فيركع ثلاث

ركعات، ويسجد سجدتين، ثم يقوم فيركع ثلاث ركعات،

ثم يسجد سجدتين.

واستدل به على الصلاة للزلزلة.

ولكن رواه وكيع، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، فوقفه على عائشة،

وهو

الصواب.

وخرج ابن أبي الدنيا في " كتاب المطر "، من رواية مكحول، عن أبي صخر

زياد بن صخر، عن

أبي الدرداء، قال: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا كانت ليلة ريح كان

مفزعه إلى المسجد، حتى تسكن الريح، وإذا حدث في

السماء حدث من كسوف

شمس أو قمر كان مفزعه إلى الصلاة، حتى ينجلي.

وهو منقطع، وفي إسناده: نعيم بن

حماد، وله مناكير.

وخرج أبو داود من رواية عبيد الله بن النضر، قال: أخبرني أبي،

قال:

ص: 248

كانت ظلمة على

عهد أنس بن مالك. قال: أتيت أنس بن مالك، فقلت

يا أبا حمزة: هل كان يصيبكم هذا على عهد النبي [صلى الله عليه وسلم] ؟ فقال

: معاذ الله، إن

كانت الريح تشتد فنبادر المسجد مخافة القيامة.

وبوب عليه: " باب: الصلاة عند الظلمة ".

وهو دليل على الصلاة عند اشتداد الريح - أيضا.

وأبو داود، من أجل أصحاب الإمام أحمد.

ثم بوب على

السجود عند الآيات، وذكر فيه حديث ابن عباس المتقدم.

وظاهره: يدل على أن الآيات يسجد عندها سجودا مفردا

، كسجود الشكر

من غير صلاة.

وذكر الشافعي، أنه بلغه عن عباد، عن عاصم الأحول، عن قزعة، عن

علي، أنه صلى في زلزلة ست ركعات في أربع سجدات: خمس ركعات

وسجدتين في ركعة، [وركعة] وسجدتين

في ركعة.

قال الشافعي: ولو ثبت هذا الحديث عندنا لقلنا به.

قال البيهقي: هو ثابت عن ابن عباس.

ثم ذكر بنحو ما

تقدم.

وله طرق صحيحة، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس.

وروى حرب: نا إسحاق، نا جرير،

عن الأعمش، عن إبراهيم، عن

علقمة، قال: إذا فزعتم من أفق من آفاق السماء فافزعوا إلى الصلاة.

ص: 249

وخرجه

البيهقي من رواية حبيب بن حسان، عن الشعبي، عن علقمة،

قال: قال عبد الله: إذا سمعتم هادا من السماء،

فافزعوا إلى الصلاة.

وخرجه ابن عدي من رواية حبيب بن حسان، عن إبراهيم والشعبي،

عن علقمة، عن عبد

الله، عن النبي [صلى الله عليه وسلم]، قال: " إذا فزعتم من أفق من آفاق

السماء، فافزعوا إلى الصلاة ".

وقال: حبيب بن حسان

، قد اتهم في دينه، ولا بأس برواياته.

قلت: الصحيح: رواية الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة - من قوله.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

وروى حرب بإسناده، عن أبي الجبر، قال: أظلمت يوما نهارا، حتى

رأينا الكواكب

، فقام تميم بن حذلم، فصلى، فأتاه هني بن نويرة، فسأله ما

صنع؟ فأمره أن يرجع إلى بيته فيصلي.

واعلم؛ أن الشغل بالصلاة في البيوت فرادى عند الآيات أكثر الناس

على

استحبابه، وقد نص عليه الشافعي وأصحابه.

كما يشرع الدعاء والتضرع عند ذلك؛ لئلا يكون عند ذلك

غافلا.

وإنما محل الاختلاف: هل تصلى جماعة، أم لا؟ وهل تصلى ركعة

بركوعين كصلاة الكسوف، أم لا؟

وظاهر كلام مالك وأكثر أصحابنا:

ص: 250

أنه لا تسن الصلاة للآيات جماعة ولا

فرادى.

وفي " تهذيب المدونة ":

أنكر مالك السجود للزلزلة.

ولا وجه لكراهة ذلك، إلا إذا نوى به الصلاة لأجل تلك الآية الحادثة دون

ما إذا نوى

به التطوع المطلق.

وقد روي عن طائفة من علماء أهل الشام، أنهم كانوا يأمرون عند الزلزلة

بالتوبة والاستغفار

، ويجتمعون لذلك، وربما وعظهم بعض علمائهم وأمرهم

ونهاهم، واستحسن ذلك الإمام.

وروي عن عمر بن عبد

العزيز، أنه كتب إلى أهل الأمصار: إن هذه الرجفة

شيء يعاتب الله به العباد، وقد كنت كتبت إلى أهل بلد كذا وكذا

أن يخرجوا يوم

كذا وكذا، فمن استطاع أن يتصدق فليفعل؛ فإن الله يقول: (قد أفلح من

تزكى) [الأعلى: 14]، وقولوا كما قال أبوكم آدم:(ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)[الأعراف: 23]، وقولوا كما قال نوح:(وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين)[هود، 47] ،

وقولوا كما قال موسى:

(رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي)[القصص: 16]، وقولوا كما قال ذو النون:

(لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)[الأنبياء: 87] .

وقال أبو بكر الخلال في " كتاب العلل "

: نا أبو بكر المروذي، قال:

سمعت أبا عبد الله - يعني: أحمد - يقول: سألني إنسان عن الرجفة، فكتبت

له هذا

الحديث - وقال: ما أحسنه -: أنا أبو المغيرة، قال: أصاب

ص: 251

الناس

رجفة بحمص، سنة أربع وتسعين، ففزع

الناس إلى المسجد، فلما صلى أيفع

بن عبد الكلاعي صلاة الغداة، قام في الناس، فأمرهم بتقوى الله، وحذرهم

وأنذرهم، ونزع القوارع من القرآن، وذكر الذين أهلكوا بالرجفة قبلنا، ثم

قال: والله، ما أصابت قوما قط قبلكم إلا

أصبحوا في دارهم جاثمين،

فاحمدوا الله الذي عافاكم ودفع عنكم، ولم يهلكم بما أهلك به الظالمين قبلكم،

وكان أكثر

دعائه: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحانه الله،

ولا حول ولا قوة إلا بالله، واستغفروا الله، ويقول:

يا أيها الناس، عليكم

بهؤلاء الكلمات؛ فإنهن القرآن، وهي الباقيات الصالحات.

ثم إن أيفع قال لأبي ضمرة

القاضي: قم في الناس، فقام فصنع كما صنع،

أيفع، فلما قضى موعظته انصرف، ثم صنع ذلك دبر الصلوات

ثلاثة أيام،

فاستحسن ذلك المسلمون.

ومما يتعلق بالزلزلة: هل يجوز الخروج منها والهرب إلى الصحراء؟

قال الأوزاعي: لا بأس به؛ كل يعلم أنه ليس يسبق قدر الله من فر ومن

جلس، قال: والجلوس أحب إلي.

خرجه حرب، من رواية الوليد بن مسلم، عنه.

قال حرب: وسألت إسحاق بن راهويه، عن الرجل يكون في

بيته،

فتصيبه الزلزلة: هل يقوم فيخرج من البيت؟ قال: إن فعل فهو أحسن.

وقد صنف في هذه المسألة أبو

القاسم ابن عساكر الحافظ الدمشقي مصنفا،

ولم يذكر في ذلك أثرا عمن تقدم من العلماء، لكنه حكى عن

ص: 252

بعض من في

زمانه، أنه استحب الفرار منها.

واستدل بحديث مرور النبي [صلى الله عليه وسلم] بحائط مائل، فأسرع، وقال: " أكره موت

الفوات ".

وهذا حديث مرسل،

خرجه أبو داود في " مراسيله ".

وقد روي مسندا، ولا يصح.

ورد أبو القاسم على هذا القائل قوله، وألحق

الفرار منها بالفرار من

الطاعون.

وفي ذلك نظر؛ لأن الفرار من الطاعون لا يتيقن به النجاة، بل الغالب فيه

عدم النجاة، وأما الخروج من المساكن التي يخشى وقوعها بالرجفة فيغلب على

الظن منه السلامة، فهو كالهرب من

النار والسيل ونحوهما.

والحديث المرسل الذي ذكرناه يشهد له. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وإنما جاء النهي عن

الخروج من الرجفة إلى الدجال، إذا حاصر المدينة،

فترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل منافق ومنافقة.

الحديث الثاني:

ص: 253

1037 -

نا محمد بن المثنى: نا حسين بن الحسن: نا ابن عون، عن

ص: 253

نافع،

عن ابن عمر

، قال: اللهم، بارك لنا في شامنا وفي يمننا، قالوا: وفي نجدنا. قال:

اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا. وقالوا:

وفي نجدنا. قال: هناك الزلازل والفتن،

وبها يطلع قرن الشيطان.

هكذا خرجه البخاري هاهنا موقوفا.

وحسين بن الحسن بصري، من آل مالك بن يسار، أثنى عليه الإمام أحمد،

وقال: كان يحفظ عن ابن عون.

وخرجه البخاري في " الفتن " من رواية أزهر السمان - مرفوعا.

وكذا رواه

عبد الرحمن بن عطاء، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعا -

أيضا.

خرج حديثه الإمام أحمد.

وكذا رواه أبو

فروة الرهاوي يزيد بن سنان - على ضعفه -: نا أبو رزين،

عن أبي عبيد - صاحب سليمان -، عن نافع، عن

ابن عمر - مرفوعا.

وقد روي - أيضا - عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن النبي

[صلى الله عليه وسلم] .

ذكره

الترمذي في آخر " كتابه " - تعليقا.

ورواه - أيضا - بشر بن حرب، عن ابن عمر، عن النبي

ص: 254

[صلى الله عليه وسلم] .

خرجه

الإمام أحمد - أيضا.

والاستدلال بهذا الحديث على أن لا صلاة للزلزلة بعيد، والاستدلال

بالحديث الذي قبله -

أيضا -؛ لأن هذا إنما سيق لذم نجد وما يحدث فيه، كما

أن الذي قبله سيق لذم آخر الزمان، وما يحدث فيه، دون

أحكام ما ذكر من

قبض العلم وتقارب الزمان وكثرة الهرج.

وأحكام هذه الحوادث مذكورة في مواضع أخر.

فلا يدل السكوت

عنه هاهنا على شيء من أحكامها بنفي ولا إثبات، فكذلك

يقال في أحكام الزلازل. والله أعلم.

ص: 255

‌28 - باب قول الله عز وجل: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون)[الواقعة: 82]

قال ابن عباس: شكركم

قال آدم بن أبي إياس في " تفسيره ": نا هشيم، عن جعفر بن إياس، عن

سعيد بن جبير، عن ابن عباس،

في قوله: (وتجعلون رزقكم) أي: شكركم

) أنكم تكذبون (قال: هو قولهم: مطرنا بنوء كذا وكذا.

قال ابن عباس: وما مطر قوم إلا أصبح بعضهم به كافرا، يقولون: مطرنا

بنوء كذا وكذا.

ثم خرج في سبب

نزولها من رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن

عباس.

وقد خرجه مسلم في " صحيحه " من رواية عكرمة بن

عمار: حدثني

أبو زميل: حدثني ابن عباس، قال: مطر الناس على عهد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ،

فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : "

أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة

وضعها الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا "،

فنزلت هذه الآية (فلا أقسم بمواقع النجوم) - حتى بلغ (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) . وروى عبد الأعلى الثعلبي، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن

ص: 256

علي، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] :(وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) قال

: " شكركم، تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، ونجم كذا وكذا ".

خرجه الإمام أحمد والترمذي.

وقال: حسن غريب، لا نعرفه - مرفوعا - إلا من حديث إسرائيل، عن

عبد الأعلى. ورواه سفيان عن عبد الأعلى - نحوه -، ولم يرفعه.

ثم خرجه من طريق سفيان - موقوفا على علي.

وكان سفيان ينكر على من رفعه.

وعبد الأعلى هذا، ضعفه الأكثرون. ووثقه ابن معين.

ص: 257

وخرج القاضي إسماعيل في كتابه " أحكام

القرآن " كلام ابن عباس بالإسناد

المتقدم، عن سعيد بن جبير، أن ابن عباس كان يقرؤها: (وتجعلون

شكركم) ، تقولون: على ما أنزلت من الغيث والرحمة، تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا. قال: فكان ذلك كفرا منهم لما أنعم الله عليهم.

قال البخاري رحمه الله:

ص: 258

1038 -

نا إسماعيل: حدثني مالك، عن صالح بن كيسان، عن عبيد الله بن

عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن زيد بن خالد الجهني، أنه قال: صلى لنا

رسول الله [صلى الله عليه وسلم] صلاة الصبح بالحديبية

على إثر سماء كانت من الليل، فلما

انصرف النبي [صلى الله عليه وسلم] أقبل على الناس، فقال:" هل تدرون ماذا قال ربكم؟ "

قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال:

مطرنا بفضل الله ورحمته،

فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء

كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ".

قوله: " على

إثر سماء "، أي: مطر كان من الليل.

والعرب تسمي المطر سماء؛ لنزوله من السماء، كما قال بعضهم:

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه،

وإن كانوا غضابا

ص: 258

وقوله: " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " - وفي بعض الروايات:

" الليلة "، وهي تدل على

أن الله تعالى يتكلم بمشيئته واختياره.

كما قال الإمام أحمد: لم يزل الله متكلما إذا شاء.

وقوله: " أصبح من

عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله

ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: بنوء كذا

وكذا، فذلك

كافر بي مؤمن بالكوكب ".

يعني: أن من أضاف نعمة الغيث وإنزاله إلى الأرض إلى الله عز وجل

وفضله ورحمته، فهو مؤمن بالله حقا، ومن أضافه إلى الأنواء، كما كانت

الجاهلية تعتاده، فهو كافر بالله، مؤمن

بالكوكب.

قال ابن عبد البر: النوء في كلام العرب: واحد أنواء النجوم، وبعضهم

يجعله الطالع، وأكثرهم

يجعله الساقط، وقد تسمى منازل القمر كلها أنواء،

وهي ثمانية وعشرون.

وقال الخطابي، النوء واحد الأنواء،

وهي الكواكب الثمانية والعشرون

التي هي منازل القمر، كانوا يزعمون أن القمر إذا نزل ببعض تلك الكواكب مطروا

،

فجعل النبي [صلى الله عليه وسلم] سقوط المطر من فعل الله دون غيره، وأبطل قولهم. انتهى.

وقال غيره: هذه الثمانية

وعشرون منزلا تطلع كل ثلاثة عشر يوما

ص: 259

منزل

صلاة الغداة بالمشرق، فإذا طلع رقيبه من المغرب؛ فسميت أنواء

لهذا المعنى.

وهو من الأضداد، يقال: ناء إذا طلع، وناء إذا غرب، وناء فلان إذا

قرب، وناء إذا بعد.

وقد أجرى الله

العادة بمجيء المطر عند طلوع كل منزل منها، كما أجرى

العادة بمجيء الحر في الصيف، والبرد في الشتاء.

فإضافة نزول الغيث إلى الأنواء، إن اعتقد أن الأنواء هي الفاعلة لذلك،

المدبرة له دون الله عز وجل، فقد كفر بالله

، وأشرك به كفرا ينقله عن ملة

الإسلام، ويصير بذلك مرتدا، حكمه حكم المرتدين عن الإسلام، إن كان قبل

ذلك

مسلما.

وإن لم يعتقد ذلك، فظاهر الحديث يدل على أنه كفر نعمة الله.

وقد سبق عن ابن عباس، أنه جعله كفرا

بنعمة الله عز وجل.

وقد ذكرنا في " كتاب: الإيمان " أن الكفر كفران: كفر ينقل عن الملة،

وكفر دون ذلك، لا

ينقل عن الملة، وقد بوب البخاري عليه هنالك.

فإضافة النعم إلى غير المنعم بها بالقول كفر للمنعم في نعمه، وإن

كان

الإعتقاد يخالف ذلك.

والأحاديث والآثار متظاهرة بذلك.

وفي " صحيح مسلم "، عن أبي هريرة، عن

النبي [صلى الله عليه وسلم]، قال: " ألم تروا

إلى ما قال ربكم؟ قال: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها

كافرين، يقولون: الكوكب وبالكوكب ".

ص: 260

وروي من وجه آخر، عن أبي هريرة، عن النبي [صلى الله عليه وسلم]، قال: " إن الله

عز وجل ليبيت القوم بالنعمة، ثم يصبحون وأكثرهم بها كافر، يقولون: مطرنا

بنوء كذا وكذا ".

وروى أبو سعيد الخدري، عن النبي [صلى الله عليه وسلم]، قال: " لو أمسك الله القطر عن

الناس سبع سنين،

ثم أرسله، كفرت طائفة منهم، فقالوا: هذا من نوء

المجدح ".

ص: 261

وروى [أبو] الدرداء، قال: مطرنا على عهد

رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ذات ليلة،

فأصبح رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ورجل يقول: مطرنا بنوء كذا وكذا، فقال رسول الله

[صلى الله عليه وسلم] : " قلما

أنعم الله على قوم نعمة، إلا أصبح كثير منهم بها كافرين ".

وفي " صحيح مسلم "، عن أبي مالك الأشعري، عن

النبي [صلى الله عليه وسلم]، قال:

" أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في

الأنساب،

والاستسقاء بالنجوم، والنياحة ".

وخرج البخاري في " صحيحه "، من رواية ابن عيينة، عن عبيد الله:

سمع

ابن عباس يقول: " خلال من خلال الجاهلية: الطعن في الأنساب،

والنياحة "، ونسي الثالثة. قال سفيان: ويقولون

: إنها " الاستسقاء بالأنواء ".

ص: 262

وروي عن ابن عباس - مرفوعا - من وجه آخر ضعيف.

وخرج ابن حبان في "

صحيحه " - معناه - من حديث أبي هريرة - مرفوعا.

وروى ابن عيينة، عن إسماعيل بن أمية، أن النبي [صلى الله عليه وسلم]

سمع رجلا في

بعض أسفاره يقول: مطرنا ببعض عثانين الأسد، فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] :

" كذبت، بل هو سقي الله عز وجل، ورزقه ".

وذكر مالك، أنه بلغه عن أبي هريرة، أنه كان يقول: مطرنا

بنوء الفتح،

ثم يتلو هذه الآية:) ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) [فاطر: 2] .

وذكر الشافعي

، أنه بلغه، أن عمر سمع شيخا يقول - وقد مطر الناس -:

أجاد ما أقرى المجدح الليلة، فأنكر ذلك عمر عليه.

ص: 263

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده، عن سلم العلوي، قال: كنا عند أنس،

فقال رجل: إنها لمخيلة للمطر. فقال أنس:

إنها لربها لمطيعة.

يشير أنس إلى أنه لا يضاف المطر إلى السحاب، بل إلى أمر الله ومشيئته.

وذكر ابن عبد

البر، عن الحسن، أنه سمع رجلا يقول: طلع سهيل،

وبرد الليل، فكره ذلك، وقال: إن سهيلا لم يأت قط بحر

ولا برد.

قال: وكره مالك أن يقول الرجل للغيم والسحابة: ما أخلقها للمطر.

قال: وهذا يدل على أن القوم

احتاطوا، فمنعوا الناس من الكلام بما فيه

أدنى متعلق من كلام الجاهلية في قولهم: مطرنا بنوء كذا وكذا. انتهى.

واختلف الناس في قول القائل: " مطرنا بنوء كذا وكذا " من غير اعتقاد أهل

الجاهلية: هل هو مكروه، أو محرم؟

فقالت طائفة: [هو] محرم، وهو قول أكثر أصحابنا، والنصوص تدل

عليه، كما تقدم.

وقال طائفة: هو مكروه، وهو قول الشافعي وأصحابه، وبعض أصحابنا.

فأما إن قال: " مطرنا في بنوء كذا وكذا "،

ففيه لأصحابنا وجهان:

أحدهما: أنه يجوز، كقوله:" في وقت كذا وكذا "، وهو قول القاضي

أبي

ص: 264

يعلى وغيره.

وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال للعباس رضي الله عنه،

وهو يستسقي: يا عباس، كم بقي من

نوء الثريا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن

أهل العلم بها يزعمون أنها تعترض بالأفق بعد وقوعها سبعا، فما مضت

تلك

السبع حتى أغيث الناس.

رواه ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن ابن المسيب،

قال:

حدثني من لا أتهم، عن عمر - فذكره.

والوجه الثاني: أنه يكره، إلا أن يقول مع ذلك:" برحمة الله عز وجل "

،

وهو قول أبي الحسن الآمدي من أصحابنا.

واستدل للأول بما ذكر مالك في " الموطإ "، أنه بلغه، أن النبي [صلى الله عليه وسلم]

كان

يقول: " إذا نشأت بحريتها فشاءمت، فتلك عين غديقة ".

وهذا من البلاغات لمالك التي قيل، إنه لا يعرف

إسنادها.

وقد ذكره الشافعي، عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، عن إسحاق بن

عبد الله، عن النبي [صلى الله عليه وسلم]-

مرسلا -، قال: " إذا نشأت بحرية، ثم استحالت

شامية، فهو أمطر لها ".

قال ابن عبد البر: ابن أبي يحيى؛

مطعون عليه متروك.

وإسحاق، هو: ابن أبي فروة، ضعيف - أيضا - متروك.

وهذا لا يحتج به أحد من

ص: 265

أهل العلم.

قلت: وقد

خرجه ابن أبي الدنيا من طريق الواقدي: نا عبد الحكيم بن

عبد الله بن أبي فروة: سمعت عوف بن الحارث: سمعت

عائشة تقول:

سمعت النبي [صلى الله عليه وسلم] يقول: " إذا أنشأت السحابة بحرية، ثم تشاءمت، فتلك عين " -

أو قال: " عام

غديقة ".

يعني: مطرا كثيرا.

والواقدي: متروك - أيضا.

والمعنى: أن السحابة إذا طلعت بالمدينة من

جهة البحر، ثم أخذت إلى

ناحية الشام، جاءت بمطر كثير، وهو الغدق.

قال تعالى: (لأسقيناهم ماء غدقا)[الجن: 16] .

وقيده ابن عبد البر: " غديقة " بضم الغين بالتصغير.

ومن هذا المعنى: قول الله عز وجل

(فالحاملات وقرا)[الذاريات: 2] ،

وفسره علي بن أبي طالب وابن عباس ومن بعدهما بالسحاب.

قال

مجاهد: تحمل المطر.

ص: 266

‌29 - باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله

وقال أبو هريرة، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] : " خمس لا يعلمهن إلا الله

".

حديث أبي هريرة هذا، قد خرجه في " كتاب: الإيمان " في حديث سؤال

جبريل النبي [صلى الله عليه وسلم] عن الإسلام

والإيمان والإحسان، وأنه تلا عند ذلك هذه الآية:

(إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث)[لقمان: 34] الآية، وقد تقدم ذكره

والكلام عليه.

ص: 267

1039 -

حدثنا محمد بن يوسف: نا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن

ابن

عمر، قال: قال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " مفتاح الغيب خمس، لا يعلمها إلا الله، لا يعلم أحد

ما يكون في غد [إلا الله] ،

ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام، ولا تعلم نفس

ما تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت، وما يدري أحد

متى يجيء

المطر.

قد سبق في الباب المشار إليه: الإشارة إلى اختصاص الله بعلم هذه

الخمس، التي هي مفاتح

الغيب، التي قال فيها:(وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو)[الأنعام: 59] .

ص: 267

وهذه الخمس المذكورة في

حديث ابن عمر، ليس فيها علم الساعة، بل

فيها ذكر متى يجيء المطر، بدل الساعة.

وهذا مما يدل على أن

علم الله الذي استأثر به دون خلقه لم ينحصر في

خمس، بل هو أكثر من ذلك، مثل علمه بعدد خلقه، كما قال: (وما تسقط

من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس) [الأنعام: 59] .

ومثل استئثاره بعلمه بذاته وصفاته وأسمائه، كما قال:

(ولا يحيطون به علما)[طه: 110] .

وفي حديث ابن مسعود - في ذكر أسمائه -: " أو استأثرت به في

علم الغيب

عندك ".

ص: 268

وإنما ذكرت هذه الخمس لحاجة الناس إلى معرفة اختصاص الله بعلمها،

والعلم بمجموعها مما اختص الله بعلمه، وكذلك العلم القاطع بكل

ص: 269

فرد فرد من أفرادها.

وأما الاطلاع على شيء يسير من أفرادها

بطريق غير قاطع، بل يحتمل الخطأ

والإصابة فهو غير منفي؛ لأنه لا يدخل في العلم الذي اختص الله به، ونفاه

عن غيره.

وتقدم - أيضا - أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أوتي علم كل شيء، إلا هذه الخمس.

فأما اطلاع الله سبحانه له على

شيء من أفرادها، فإنه غير منفي - أيضا -،

وهو داخل في قوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا

(26)

إلا من ارتضى من رسول) [الجن: 26، 27] الآية.

ولكن علم الساعة مما اختص الله به، ولم يطلع عليه غيره، كما تقدم في

حديث سؤال جبريل للنبي [صلى الله عليه وسلم] ، وكذلك جملة العلم بما في غد.

وقد قالت جارية

بحضرته [صلى الله عليه وسلم] : وفينا نبي يعلم ما في غد، فنهاها النبي [صلى الله عليه وسلم]

عن قول ذلك.

وقد خرجه البخاري في " النكاح ".

وأما العلم بما في الأرحام، فينفرد الله تعالى بعلمه، قبل أن يأمر ملك

الأرحام بتخليقه وكتابته، ثم بعد ذلك قد يطلع

الله عليه من يشاء من خلقه،

كما أطلع عليه ملك الأرحام.

فإن كان من الرسل فإنه يطلع عليه علما يقينا، وإن

كان من غيرهم من

الصديقين والصالحين، فقد يطلعه الله تعالى عليه ظاهرا.

كما روى الزهري، عن عروة،

عن عائشة، أن أبا بكر لما حضرته الوفاة

قال لها - في كلام ذكره -: إنما هو أخواك وأختاك. قالت:

ص: 270

فقلت هذا أخواي، فمن أختاي؟ قال: ذو بطن ابنة خارجة، فإني أظنها جارية.

ورواه هشام، عن أبيه، عن عائشة، أنها

قالت له عند ذلك: إنما هي

أسماء؟ فقال: وذات بطن بنت خارجة، أظنها جارية.

ورواه هشام، عن أبيه: قد

ألقي في روعي، أنها جارية، فاستوصي بها

خيرا. فولدت أم كلثوم.

وأما علم النفس بما تكسبه غدا، وبأي

أرض تموت، ومتى يجيء المطر،

فهذا على عمومه لا يعلمه إلا الله.

وأما الاطلاع على بعض أفراده، فإن كان

بإطلاع من الله لبعض رسله، كان

مخصوصا من هذا العموم، كما أطلع النبي [صلى الله عليه وسلم] على كثير من الغيوب المستقبلة،

وكان يخبر بها.

فبعضها يتعلق بكسبه، مثل إخباره أنه يقتل أمية بن خلف، وأخبر سعد بن

معاذ بذلك أمية بمكة

، وقال أمية: والله، ما يكذب محمد.

وأكثره لا يتعلق بكسبه، مثل إخباره عن الصور المستقبلة في أمته وغيرهم

،

وهو كثير جدا.

وقد أخبر بتبوك، أنه " تهب الليلة ريح شديدة، فلا يقومن أحد "،

وكان كذلك.

والاطلاع على هبوب بعض الرياح نظير الاطلاع على نزول بعض الأمطار في

وقت معين.

ص: 271

وكذلك إخباره [صلى الله عليه وسلم] ابنته فاطمة في مرضه، أنه مقبوض من مرضه.

وقد روي عنه [صلى الله عليه وسلم]، أنه قال: " ما بين قبري

ومنبري روضة من رياض

الجنة ".

خرجه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري، والنسائي من

حديث أم سلمة، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] .

وهو دليل على أنه علم موضع موته ودفنه.

وقد روي عنه، أنه قال:" لم يقبض نبي إلا دفن حيث يقبض ".

خرجه ابن ماجه وغيره.

وأما إطلاع غير الأنبياء على بعض أفراد ذلك فهو - كما تقدم

- لا يحتاج إلى

استثنائه؛ لأنه لا يكون علما يقينا، بل ظنا غالبا، وبعضه وهم، وبعضه حدس

وتخمين، وكل

هذا ليس بعلم، فلا يحتاج إلى استثنائه مما انفرد الله سبحانه

وتعالى بعلمه، كما تقدم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 272

بسم الله الرحمن الرحيم

16 -

‌ كتاب الكسوف

‌1 - باب

الصلاة في كسوف الشمس

فيه أربعة أحاديث:

الحديث الأول:

ص: 273

1040 -

نا عمرو بن عون: نا خالد، عن يونس، عن الحسن، عن أبي بكرة، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأنكسفت الشمس، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يجر رداءه، حتى دخل المسجد، [فدخلنا] ، فصلى بنا ركعتين، حتى انجلت الشمس، فقال: ((إن الشمس والقمر لاينكسفان لموت أحد، فإذا رأيتموهما فصلوا، وادعوا، حتى يكشف ما

بكم)) .

سماع الحسن من أبي بكرة صحيح عند علي بن المديني والبخاري وغيرهما، وخالف فيه ابن معين، وقد سبق ذلك.

ص: 273

وقد ذكر البخاري - فيما بعد - أن مبارك بن فضالة رواه عن الحسن، قال: حدثني أبو بكرة.

وخرجه الإمام أحمد كذلك.

وقد رواه قتادة، عن الحسن، عن النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

خرج حديثه النسائي.

وهذا مخالف لروايات أصحاب الحسن، عنه، عن أبي بكرة.

وجر النبي صلى الله عليه وسلم رداءه هاهنا؛ لأنه قام عجلا دهشا، كما في حديث أبي موسى:((فقام فزعا يخشى أن تكون الساعة)) ، وسيأتي - فيما بعد.

وإنما يكره جر الرداء تعمدا لذلك.

وفي رواية الإمام أحمد لهذا الحديث: ((فقام يجر ثوبه مستعجلاً)) .

وقوله: ((فصلى بنا ركعتين)) ، لم يذكر صفة الركعتين.

وقد رواه ابن علية ويزيد بن زريع، عن يونس، فزادا في الحديث:((فصلى بهم ركعتين نحو ما يصلون)) .

وخرجه ابن حبان في ((صحيحه)) من رواية أشعث، عن الحسن، عن أبي

بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه صلى في كسوف الشمس والقمر ركعتين، مثل صلاتكم.

ص: 274

وخرجه النسائي، ولم يذكر:((القمر)) ، وعنده:((مثل صلاتكم هذه)) .

وقال ابن حبان: أراد به مثل صلاتكم في الكسوف.

وهذا التأويل متجه في رواية ابن علية ويزيد بن زريع، عن يونس - أيضا.

وبذلك تأولها البيهقي 0

والمتبادر إلى الفهم: التشبيه بصلاة ركعتين، يتطوع بهما.

وهذا مما تعلّق به من قال: إن صلاة الكسوف ليس فيها ركوع زائد، وسيأتي ذكره - إن شاء الله سبحانه تعالى 0

وفيه دليل على أن صلاة الكسوف تستدام حتى تنجلي الشمس.

وقوله: ((إنهما لا يكسفان لموت أحد)) ، إشارة إلى قول الناس:((إن الشمس كسفت لموت إبراهيم عليه السلام) .

وفي رواية خرجها البخاري - فيما بعد -: ((وذلك أن ابنا للنبي مات، يقال له: إبراهيم، فقال الناس في ذلك)) .

و [روى] هذا الحديث محمد بن دينار الطاحي، عن يونس، فزاد في الحديث:((وإن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له)) .

خرجه الدارقطني.

[وقال]-: تابعه: نوح بن قيس، عن يونس.

ص: 275

وخرجه - أيضا - من رواية بكار بن يونس: [ثنا] حميد، عن الحسن، عن أبي بكرة - بهذه الزيادة - أيضا

ورويت هذا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 276

‌كتاب العمل في الصلاة

‌1 - باب

استعانة اليد في الصلاة إذا كان من أمر الصلاة

وقال ابن عباس: يستعين الرجل في صلاته من جسده بما شاء.

ووضع أبو إسحاق قلنسوته في الصلاة، ورفعها.

ووضع علي كفه على رسغه الأيسر، إلاّ أن يحك جلداً، أو يصلح ثوباً.

شرع البخاري من هاهنا في الكلام فيما يجوز من الأفعال في الصلاة، وما يكره فيها، وما لا يجوز.

وابتدأ من ذلك باستعانة المصلي بيده في صلاته، فيما يحتاج إليه من أمر صلاته.

ص: 277

وحكى عن ابن عباس، قال: يستعين الرجل في صلاته من جسده بما شاء.

وعن أبي إسحاق، أنه وضع قلنسوته في صلاته ورفعها.

والظاهر: أن هذا كان لحاجة، وإلاّ لكان عبثاً، وهو مكروه.

وعن علي بن أبي طالب، أنه وضع كفه على رسغه الأيسر، إلاّ أن يحك جسداً أو يصلح ثوباً.

روي وكيع في ((كتابه)) عن عبد السلام بن شداد الجريري، عن غزوان بن جرير الضبي، عن أبيه، قال: كان علي إذا قام في الصلاة وضع يمينه على رسغه، فلا يزال كذلك حتى يركع متى ما ركع، إلاّ أن يصلح ثوبه، أو يحك جسده.

وروى بإسناده، عن إبراهيم، أنه كره أن يحدث الرجال في الصلاة شيئاً، حتى زر القميص. قال: وكان إبراهيم لايرى بأساً إذا استرخى إزاره في الصلاة أن يرفعه.

وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) ، عن الثوري، عن منصور، عن مجاهد،

ص: 283

قال: كان يقال في مسح اللحية في الصلاة: واحدة او دع 0

وعن هشيم: أخبرني حصين، عن عبد الملك بن سعيد، قال: قد كان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلى وضع يده اليمنى على يده اليسرى، وكان ربما يضع يده على لحيتة في الصَّلاة.

وخرجه أبو داود في ((مراسيله)) من رواية شعبة، عن حصين، عن عبد الملك بن أخي عمرو بن حريث، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم.

وذكر عبد الرزاق، عن ابن جريج: سألت عطاء عن الاحتكاك في الصلاة، والارتداء، والاتزار؟ قالَ: كل ذَلِكَ لا تفعله في الصَّلاة.

وهذا محمول على أنه لم يكن لهُ حاجة إليه.

والمروي عن علي محمول [على] أنه كان يفعله للحاجة إليه.

وقال سفيان الثوري: يكره أن يلبس النعل أو الرداء، وأن يضع القلنسوة على رأسه، وينزع خفيه أو نعليه، إلاّ لشيء يؤذيه، ولا بأس أن يحك شيئاً من جسده، إذا آذاه ذَلِكَ.

وعند أصحابنا: كل عمل يسير يعرض في الصلاة لحاجة فلا يكره.

واستدلوا بما خرجه مسلم - رحمة الله - من حديث وائل بن حجر، أنه رأى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة، كبر ثم التحف

ص: 284

بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على يده اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثم رفعهما، [ثم] كبر فركع - وذكر الحديث.

ومذهب الشافعي نحوه - أيضا.

وروى حرب، عن أحمد في الرجل يسقط رداؤه عن ظهره في الصَّلاة، فيحمله، قال: أرجو أن لا يضيق ذلك.

وروى حرب بإسناده، عن أبي جعفر والشعبي، قالا: لا بأس أن يسوي الرجل رداءه في الصلاة.

وقال حرب: سألت أحمد عن الرجل يصلي فتحتك ساقه، فيحكه؟ فكأنه كرهه. قلت: يحكه بقدمه؟ قالَ: هوَ بالقدم أسهل، وكانه رخص فيهِ.

ومن متأخري أصحابنا من قالَ: الحك الذي لا يصبر عنه المصلي لا يبطل صلاته وإن كثر.

خرج في هذا الباب:

ص: 285

1198 -

حديث: مالك، عن مخرمة، عن كريب، عن ابن عباس، قالَ: بت عند خالتي ميمونة.

ص: 285

فذكر الحديث في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، وصلاة ابن عباس معه.

وفيه: قال:

فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني اليمنى يفتلها بيده، فصلى.

وذكر الحديث، وقد سبق بتمامه في غير موضع.

وخرجه مسلم - أيضا.

وخرجه من طريق الضحاك بن عثمان، عن مخرمة، وفي روايته:

فقمت إلى جنبه الأيسر، فأخذ بيدي فجعلني في شقه الأيمن، فجعل إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني.

فتبين بهذه الرواية: أن أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأذن ابن عباس في الصلاة إنما كان عند

نعاسه، إيقاظا له.

وكذلك خرجه أبو داود والنسائي من رواية سعيد بن أبي هلال، عن مخرمة، وفي حديثة: فقمت إلى جنبه، عن يساره، فجعلني عن يمينه، ووضع يده على رأسي، وجعل يمسح أذني، كأنه يوقظني.

فهاتان الروايتان: فيهما دلالة على أنه إنما أخذ بأذنه بعد أن أداره عن يمينه.

وفيه: رد على من زعم: أن أخذه بأذنه وفتلها إنما كان ليديره عن شماله إلى

يمينه، كما قاله ابن عبد البر.

قال: وهذا المعنى لم يقمه مالك في حديثه، وقد ذكره أكثر الرواة.

قالَ: وقيل: إنما فتل أذنه ليذكر ذلك ولا ينساه. وقيل: ليذهب نومه.

انتهى.

ورواية الضحاك مصرحة بهذا المعنى الأخير، ورواية سعيد بن أبي هلال تدل عليه - أيضا.

ص: 286

‌2 - باب

ما ينهى عنه من الكلام في الصلاة

وفيه حديثان:

الأول:

ص: 287

1199 -

ثنا ابن نمير: ثنا ابن فضيل: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قالَ: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه، فلم يرد علينا، وقال:((إن في الصلاة لشغلاً)) .

حدثنا ابن نمير: ثنا إسحاق بن منصور السلولي: ثنا هريم بن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

وخرجه - أيضا - في مواضع أخر، من رواية أبي عوانة عن الأعمش - نحوه.

ورواه أيضا - أبو بدر شجاع بن الوليد، عن الأعمش - بهذا الإسناد.

ص: 287

وإنما احتيج إلى ذكر هذه المتابعات عن الأعمش؛ لأن الثوري وشعبة وزائدة وجريراً وأبا معاوية وحفص بن غياث رووه، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله، لم يذكروا فيهِ:((علقمة)) ، فيصير منقطعاً.

وقد رجح انقطاعه كثير من الحفاظ، [منهم] : أبو حاتم الرازي.

وقال في رواية ابن فضيل الموصولة: أنها خطأ.

وقال الحافظ أبو الفضل بن عمار الشهيد: الذين أرسلوه أثبت ممن وصله.

قال: ورواه الحكم بن عتبة - أيضا -، عن إبراهيم، عن عبد الله مرسلا - أيضا - إلاّ ما رواه أبو خالد الأحمر، عن شعبة، عن الحكم موصولاً؛ فإنه وهم فيهِ أبو خالد. انتهى.

ص: 288

وتصرف البخاري يدل على خلاف ذلك، وأن وصله صحيح.

وكذلك مسلم في ((صحيحه)) ؛ فإنه خرجه من طريق ابن فضيل وهريم بن سفيان – موصولا – كما خرجه البخاري 0

وله عن ابن مسعود طريق اخرى متعددة، ذكرتها مستوفاة في ((شرح

الترمذي)) .

وقال البخاري في أواخر ((صحيحه)) :

وقال ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصَّلاة)) .

وهذا الحديث المشار إليه، خرجه الإمام أحمد والنسائي من رواية ابن عيينة، عن عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فيرد علينا السلام، حتى قدمنا من أرض الحبشة، فسلمت عليه، فلم يرد علي، فأخذني ما قرب وما بعد، فجلست حتى إذا قضى الصلاة قال:((إن الله يحدث)) – فذكره.

ورواه الحميدي وغيره من أصحاب سفيان، عنه، عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود.

وزعم الطبراني: أنه المحفوظ.

ص: 289

قلت: عاصم، هو: ابن أبي النجود، كان يضطرب في حديث زر وأبي وائل، فروى الحديث تارة عن زر، وتارة عن أبي وائل.

قال الطبراني: ورواه عبد الغفار بن داود الحراني، عن ابن عيينه، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله.

قال: فإن كان حفظه، فهو غريب.

قلت: ليس هو بمحفوظ، إنما المحفوظ رواية: سفيان، عن عاصم –كما تقدم.

وخرج النسائي – أيضا - من طريق سفيان، عن الزبير بن عدي، عن كلثوم، عن ابن مسعود، قال: كنت آتي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فأسلم عليه، فيرد عليَّ، فأتيته، فسلمت عليه وهو يصلي، فلم يرد عليَّ، فلما سلم أشار إلى القوم، فقال: ((إن الله

عز وجل يعني - أحدث في الصلاة أن لا تكلموا إلاّ بذكر الله، وما ينبغي لكم، وأن تقوموا لله قانتين)) .

وكلثوم، هو: ابن المصطلق الخزاعي، يقال: له صحبة، وذكره ابن

ص: 290

حبان في ((كتابه)) من التابعين.

وقوله: ((إن الله أحدث أن لا تكلموا في الصَّلاة)) إشارة إلى أنه شرع ذلك بعد أن لم يكن شرعه، ومنعه بعد أن لم يكن قد منعه 0

الحديث الثاني:

ص: 291

1200 -

ثنا إبراهيم بن موسى: ثنا عيسى –هو: ابن يونس -: ثنا إسماعيل –هو: ابن أبي خالد -، عن الحارث بن شبيل، عن أبي عمرو الشيباني، قال: قال لي زيد بن أرقم: إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكلم أحدنا صاحبه

بحاجته، حتى نزلت:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت.

وخرجه مسلم، وزاد فيه:((ونهينا عن الكلام)) ، وليس عنده: ذكر عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 291

وخرجه النسائي، وعنده:((فأمرنا حينئذ بالسكوت)) .

وخرجه الترمذي، ولفظه: كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فيكلم الرجل منا صاحبه إلى جنبه، حتى نزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] . قال: فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام.

وهذه الرواية صريحة برفع آخره.

واختلف الناس في تحريم الكلام في الصَّلاة: هلا كان بمكة، او بالمدينة؟ فقالت طائفة: كانَ بمكة.

واستدلوا بحديث ابن مسعود المتقدم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من الكلام عند قدومهم عليه من الحبشة، وإنما قدم ابن مسعود عليه من الحبشة إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة، كذا ذكره ابن إسحاق وغيره.

ويعضد هذا: أنه روي: أن امتناعهم من الكلام كان بنزول قوله: {وَإذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] وهذه الآية مكية.

فروى أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن المسيب بن رافع، قال: قال

ص: 292

ابن مسعود:

كنا نسلم بعضنا على بعض في الصلاة، فجاء القرآن {وَإذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} .

وأخرجه ابن جرير وغيره.

وهذا الإسناد منقطع؛ فإن المسيب لم يلق ابن مسعود.

وروى الهجري، عن أبي عياض، عن أبي هريرة، قالَ: كانوا يتكلمون في الصَّلاة، فلما نزلت هذه الآية {وَإذا قُرِئَ الْقُرْآنُ} والآية الأخرى، قالَ: فأمرنا بالإنصات.

وخرجه بقي بن مخلد في ((مسنده)) .

وخرجه غيره، وعنده:((أو الآية الأخرى)) – بالشك.

والهجري، ليس بالقوي.

ولكن يشكل على أهل هذه المقالة حديث زيد بن أرقم، الذي خرجه البخاري هاهنا؛ فإن زيداً الأنصاري، لم يصل خلف النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة، إنما صلى خلفه بالمدينة، وقد أخبر أنهم كانوا يتكلمون حتَّى نزلت: {وَقُومُوا

ص: 293

لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقر: 238] .

وهي مدنية بالاتفاق.

وأجاب أبو حاتم ابن حبان – وهو ممن يقول: إن تحريم كلام كان بمكة -: واجيب عن هذا بجوابين:

أحدهما: أن زيد بن أرقم حكى حال الأنصار وصلاتهم بالمدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وأنهم كانوا يتكلمون حينئذ في الصلاة؛ فإن الكلام حينئذ كانَ مباحاً، وكان النَّبيّ إذ ذاك بمكة، فحكى زيد صلاتهم تلك الأيام، لا أن نسخ الكلام كانَ بالمدينة.

قلت: هذا ضعيف؛ لوجهين:

أحدهما: أن في رواية الترمذي: ((كنا نتكلم خلف النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في الصَّلاة)) ، فدل على أنه حكى حالهم في صلاتهم خلف النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة.

والثاني: أنه ذكر أنهم لم ينهوا عن الكلام حتى نزلت الاية، وهي إنما نزلت بعد الهجرة بالاتفاق، فعلم أن كلامهم استمر في الصلاة بالمدينة، حتى نزلت هذه الآية 0

ثم قال ابن حبان:

والجواب الثاني: أن زيدا حكى حال الصحابة مطلقا، من المهاجرين

ص: 294

وغيرهم، ممن كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل تحريم ((الكلام)) في الصلاة، ولم يرد الأنصار، ولا أهل المدينة بخصوصهم، كما يقول القائل: فعلنا كذا، وإنما فعله بعضهم.

قلت: وهذا يرده قوله: ((حتى نزلت الآية)) ؛ فإنه يصرح بأن كلامهم استمر إلى حين نزولها، وهي إنما نزلت بالمدينة.

وأجاب غير ابن حبان بجوابين آخرين:

أحدهما: أنه يحتمل أنه كان نهي عن الكلام متقدما، ثم أذن فيه، ثم نهي عنه لما نزلت الآية.

والثاني: أنه يحتمل أن يكون زيد بن أرقم ومن كان يتكلم في الصلاة لم يبلغهم نهي النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نزلت الآية انتهوا.

وكلا الجوابين فيه بعد، وإنما انتهوا عند نزول الآية، بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسكوت، ونهيه عن الكلام، كما تقدم.

وقال طائفة أخرى: إنما حرم الكلام في الصلاة بالمدينة؛ لظاهر حديث زيد بن أرقم، ومنعوا أن يكون ابن مسعود رجع من الحبشة إلى مكة، وقالوا: إنما رجع من الحبشة إلى المدينة، قبيل بدر.

واستدلوا بما

ص: 295

خرجه أبو داود الطيالسي في ((مسنده)) من حديث عبد الله بن

عتبة، عن ابن مسعود، قال: بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، ونحن ثمانون رجلا، ومعنا جعفر بن أبي طالب – فذكر الحديث في دخولهم على النجاشي، وفي آخره -: فجاء ابن مسعود، فبادر، فشهد بدرا.

وروى آدم ابن أبي إياس في ((تفسيره)) : حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، والناس يتكلمون بحوائجهم في الصلاة، كما يتكلم أهل الكتاب، فأنزل الله {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ، فسكت القوم عن الكلام.

وهذا مرسل. وأبو معشر، هو: نجيح السندي، يتكلمون فيه.

وقد اتفق العلماء على أن الصلاة تبطل بكلام الآدميين فيها عمدا لغير مصلحة الصلاة، واختلفوا في كلام الناسي والجاهل والعامد لمصلحة الصلاة.

فأماكلام الجاهل، فيأتي ذكره – قريبا.

وأما كلام الناسي والعامد لمصلحة، فيأتي ذكره في ((أبواب سجود السهو)) قريبا – إن شاء الله تعالى.

ص: 296

‌3 - باب

ما يجوز من التسبيح والحمد في الصلاة للرجال

ص: 297

1021 -

حدثنا عبد الله بن مسلمة: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يصلح بين بني عمرو بن عوف، وحانت الصلاة، فجاء بلال أبا بكر، فقال: حبس النبي صلى الله عليه وسلم، فتؤم الناس؟ فقالَ: نعم، إن شئتم، فأقام بلال الصَّلاة -، فتقدم أبو بكر فصلى، فجاء النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يمشي في الصفوف يشقها شقاً، حتَّى قام في الصف الأول، فأخذ الناس بالتصفيح – قالَ سهل: تدرون ما التصفيح؟ هو التصفيق -، وكان أبو بكر لايلتفت في صلاته، فلما أكثروا إلتفت، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم في الصف، فأشار إليه مكانك، فرفع أبو بكر يديه، فحمد الله، ثم رجع القهقرى

وراءه، وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى.

التصفيق والتصفيح، من الناس من قال: هما بمعنى واحد -: قاله الأصمعي

وغيره.

وقال الخطابي: التصفيح: التصفيق بصفحتي الكف.

ص: 297

وقيل: التصفيق: ضرب بباطن الراحة على الأخرى. والتصفيح: الضرب بظاهر الكف على ظهر الأخرى، ويكون المقصود به: الإعلام والإنذار، بخلاف التصفيق؛ فإنه يراد به الطرب واللعب 0 والله أعلم.

وقد سبق هذا الحديث في ((أبواب الإمامة)) ، خرجه البخاري فيها من رواية مالك، عن أبي حازم.

وذكرنا هنالك عامة فوائده، وأشرنا إلى الاختلاف فيمن حمد الله في صلاته أو سبح لحادث حدث له، وهل تبطل بذلك صلاته، أم لا؟

وذكرنا ذَلِكَ – أيضا – في ((باب: إجابة المؤذن)) .

وأكثر العلماء على أنه لا تبطل صلاته بذلك.

فحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور.

وهو – أيضا – قول مالك والشافعي.

وسواء قصد بذلك تنبيه غيره، أم لم يقصد.

قال إسحاق – فيما نقله، عنه حرب -: إن قرأ آية فيها ((لا إله إلا الله)) ، فأعادها لاتفسد صلاته، وإن انقض كوكب، فقال:((لا إله إلا الله)) ، تعجباً

وتعمداً، فهو كلام يعيد الصلاة، وكذا إذا لدغته عقرب، فقال:((بسم الله)) .

وقال عبيد الله بن الحسن: فيمن رمي في صلاته، فقال:((بسم الله)) : لم تنقطع صلاته، هو كمن عطس فحمد الله. وقال في الذي يذكر النعمة وهو في الصلاة، فيحمد الله عليها، وإن ذلك حسناً.

ص: 298

وقال عطاء: ما جرى على لسان الرجل في الصلاة، فما له أصل في القرآن فليس بكلام.

وقالت طائفة: تبطل صلاته، وهو رواية عن أحمد وإسحاق.

ومذهب أبي حنيفة: إن قاله ابتداء فليس بكلام، وإن قاله جواباً فهو كلام.

قال بعض أصحابنا: هذه الرواية عن أحمد بالبطلان، هي قول أبي حنيفة ومحمد، أنه يبطل الصلاة، فكل ذكر يأتي به المصلي في غير موضعه، إلاّ في تنبيه المأموم على سهوه، وتنبيه المار بين يده ليرجع.

وكذلك الخلاف إذا بشر بما يسره، فقال:((الحمد لله)) ، أو بما يسوؤه، فقال:((إنا لله وإنا إليه راجعون)) ، أو عطس، فحمد الله، أو فتح على غير إمامه، أو خاطب إنسانا بشيء من القرآن قاصداً للقراءة والتنبيه.

وأصح الروايتين عن أحمد: أن الصلاة لا تبطل بذلك، كقول جمهور العلماء.

وفي ((الصحيحين)) ، عن عائشة، أن أسماء أختها لما سالتها وهي تصلي صلاة الكسوف، فأشارت برأسها إلى السماء، وقالت:((سبحان الله)) .

واحتج أحمد بما ذكره عن علي، أنه كان في صلاة الفجر، فمر بعض الخوارج، فناداه:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، فأجابه علي وهو في صلاته: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا

ص: 299

يُوقِنُونَ} [الروم:60] .

وروي عن ابن مسعود، أنه استأذن عليه رجل وهو يصلي، فقال:{ادْخُلُوا مِصْرَ إن شاء اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] .

وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى يفعله.

وخرج الإمام أحمد من حديث علي، قال: كانت لي ساعة من السحر أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان في صلاة سبح، فكان إذنه لي.

ومن حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إذن الرجل إذا كان في صلاة أن يسبح، وإذن المرأة أن تصفق)) .

ص: 300

وقد روي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن رجلاً عطس وراءه في الصلاة، فحمد الله، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم لما قضى صلاته بابتدار الملائكة لها، وكتابتها.

وقد خرجه أبو داود والترمذي والنسائي، من حديث رفاعة بن رافع.

وخرجه أبو داود – أيضا – من حديث عامر بن ربيعة – بمعناه.

وحكى الترمذي عن بعض أهل العلم، أنهم حملوا ذلك على التطوع، وقالوا: في المكتوبة يحمد الله في نفسه.

وهذا التفريق، هو قول مكحول، ورواية عن أحمد.

وقولهم: ((يحمد الله في نفسه)) ، ويحتمل أنهم أرادوا أنه يحمده بقلبه ولا يتلفظ به، ويحتمل أنهم أرادوا انه لا يجهر به.

وكذا قال النخعي: في الرجل يعطس في الصلاة: يحمد الله، ولا يجهر.

وقال الحسن: يحمد الله في المكتوبة وغيرها.

وكذا نقله حرب، عن إسحاق.

ص: 301

وروى عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: سمعت ابا طلحة: سمعت ابن عمر يقول في العاطس في الصلاة: يجهر بالحمد.

وأما تخصيص البخاري جواز التسبيح والحمد في الصلاة للرجال؛ فلأن المرأة تخالف الرجل في التسبيح للتنبيه، وإنما تنبه بالتصفيح، كما ياتي ذكره، فلا يشرع لها التسبيح والتحميد في غير ذَلِكَ – أيضا.

لكن حكمها حكم الرجل في القول بالإبطال وعدمه، وإنما يختلفان في الكراهة؛ فإن المرأة لايشرع لها رفع صوتها في الصَّلاة بقرآن ولا ذكر.

ص: 302

‌4 - باب

من سمى قوماً أو سلم في الصلاة على غيره وهو لا يعلم

ص: 303

1202 -

حدثنا عمرو بن عيسى: حدثنا أبو عبد الصمد العمي عبد العزيز بن عبد الصمد: ثنا حصين بن عبد الرحمن، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: كنا نقول: التحية في الصلاة، ونسمي، ويسلم بعضنا على بعض، فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:((قولوا التحيات لله)) .

فذكر التشهد بتمامه، ثم قال:

((فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء

والأرض)) .

وقد تقدم هذا الحديث في ((أبواب التشهد)) بألفاظ أخر.

وفي بعضها: أنهم كانوا يقولون: السلام على الله، والسلام على جبريل وميكائيل، وعلى فلان وفلان.

ص: 303

فأماالسلام على الله فهو كلام غير جائز، ولهذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:((لا تقولوا السلام على الله)) .

وقد خرجه البخاري فيما تقدم.

وأما السلام على أشخاص معينين، فإن كان بلفظ الغيبة، فأكثر العلماء على أنه لايبطل الصلاة.

وقال الثوري وأبو حنيفة: هو كلام.

وقد سبق ذكر ذلك في ((أبواب التشهد)) .

وإن كان بلفظ الخطاب، فهو كرد السلام في الصلاة على من يسلم، ويأتي ذكره – إن شاء الله تعالى.

وفي هذا الحديث: دليل على أن من تكلم في صلاته جاهلا، أنه لا تبطل صلاته؛ فإن كلام الجاهل قسمان:

أحدهما: أن يتكلم في صلاته جاهلا بأن الكلام في الصلاة ممنوع، وهذا يقع من كثير من أعراب البوادي وغيرهم ممن هو حديث عهد بالإسلام، وقد كان هذا يقع في أول الإسلام كثيراً.

قالت الشافعية: ولا يعذر بذلك إلاّ قريب العهد بالإسلام، فأمامن طال عهده بالإسلام فتبطل صلاته؛ لتقصيره في التعلم، وكذا لو علم تحريم الكلام في الصَّلاة، ولم يعلم أنه مبطل لها، كما لو علم تحريم الزنا، ولم يعلم حدّه، فإنه يحدّ بغير خلاف.

والثاني: أن يتكلم بكلام يظنه جائزاً، وهو في نفسه غير جائز التكلم

ص: 304

به في الصلاة وغيرها، كقولهم:((السلام على الله)) ، أو يتكلم بكلام يظنه جائزاً في

الصلاة، كما أنه جائز في غيرها، كرد السلام وتشميت العاطس.

وقد اختلف العلماء في حكم الجاهل في الصلاة:

فمنهم من قال: حكمه حكم كلام الناسي، وهو قول مالك والشافعي، وهو أحد الوجهين لأصحابنا.

ومنهم من قال: تبطل، بخلاف كلام الناسي، وهو قول المالكية.

والثالث: لا تبطل وإن قلنا: يبطل كلام الناسي، وهو قول طائفة من أصحابنا.

ويدل له: ما خرجه البخاري في ((الأدب)) من ((صحيحه)) هذا من حديث أبي هريرة، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، وقمنا معه، فقال أعرابي –وهو في الصلاة -: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلم النبي، قال للأعرابي:((لقد حجرت واسعاً)) –يريد: رحمة الله.

وفي ((صحيح مسلم)) عن معاوية بن الحكم السلمي: أنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فعطس رجل من القوم، فقال له: يرحمك الله. قال: فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم، تنظرون إلي؟ قالَ: فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم. وقال: فلما رأيتهم

ص: 305

يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ لهُ:((إن هذه الصَّلاة لايصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القران)) – أو كما قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولم ينقل أنه أمر أحدا بالإعادة.

وكذلك روي، عن معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري وغيرهما.

قال أصحابنا: ولأن الكلام كان مباحاً في أول الإسلام، ثم نسخ، والنسخ لا يثبت في حق الجاهل قبل العلم، بدليل قصة أهل قباء في القبلة.

ولكن هذا إنما يصح في حق من تمسك بالإباحة السابقة، ولم يبلغه نسخها، فأمامن لا يعلم شيئاً من ذلك، فلا يصح هذا في حقه.

وكذلك من تكلم بكلام محرم في نفسه، وهو يظن جوازه، كقول القائل:

((السلام على الله)) ، وقول الآخر: ((اللهم، ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا

أحداً)) .

وللشافعية – فيمن علم أن جنس الكلام محرم في الصلاة، ولم يعلم أن ما تكلم به محرم: هل يعذر بذلك ولا تبطل صلاته؟ - وجهان، أصحهما: يعذر به.

وكذلك لو جهل أن التنحنح ونحوه مبطل للصلاة.

ص: 306

‌5 - باب

التصفيق للنساء

فيه حديثان:

أحدهما:

ص: 307

1203 -

حدثنا علي بن عبد الله: ثنا سفيان: ثنا الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، [عن النبي صلى الله عليه وسلم]، قال:((التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء)) .

وخرجه مسلم – أيضا.

وخرجه – أيضا – من طريق يونس، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة ومن طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.

ومن طريق همام بن منبه، عن أبي هريرة، وزاد في حديثه:((في الصلاة)) .

وخرجه النسائي من طريق ابن سيرين، عن أبي هريرة.

ص: 307

وخرجه أبو داود من حديث رجل من الطفاوة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لهم:((إن نساني الشيطان شيئاً من صلاتي فليسبح القوم، وليصفق النساء)) .

وله طرق أخرى، عن أبي هريرة.

الحديث الثاني:

ص: 308

1204 -

حدثنا يحيى: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قالَ:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء)) .

وخرجه فيما تقدم من طريق مالك، عن أبي حازم، عن سهل، وذكر فيه: قصة إصلاح النبي صلى الله عليه وسلم بين بني عمرو بن عوف، وصلاة أبي بكر بالناس، وقال في آخر الحديث: ((من نابه شيء في صلاته فليسبح؛ فإنه إذا سبح ألتفت إليه، وإنما التصفيح

للنساء)) .

وخرجه مسلم.

وفي الباب أحاديث أخر، لم يخرج منها شيء في ((الصحيح)) .

وقد ذكر الترمذي: أن العمل على هذا عند أهل العلم.

وممن روي عنه، أنه أفتى بذلك: أبو هريرة، وسالم بن أبي الجعد.

ص: 308

وقال به الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو يوسف.

وأن المأموم ينبه أمامه بالتسبيح إذا كان رجلاً.

وقد تقدم عن أبي حنيفة، أنه إن سبح إبتداء فليس بكلام، وأن كان جواباً فهو كلام. والجمهور على خلافه.

ومذهب مالك وأصحابه: أنه يسبح الرجال والنساء.

وحملوا قوله: ((إنما التصفيق للنساء)) على أن المراد: أنه من أفعال النساء، فلا يفعل في الصلاة بحال، وإنما يسبح فيها.

وهذا إنما يتأتى في لفظ رواية مالك، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، وأما رواية غيره:((التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء في الصلاة)) فلا يتأتى هذا التأويل فيها.

وأما رواية من روى: ((إذا نساني الشيطان شيئاً من صلاتي فليسبح القوم، وليصفق النساء)) فصريحة في المعنى.

فالمراد بالقوم: الرجال، كما قال تعالى:{لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات:11] الآية.

وخرجه الإمام أحمد من حديث جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا أنساني الشيطان شيئاً في صلاتي فليسبح الرجال، وليصفق النساء)) .

وهو قول من رواية ابن لهيعة.

ص: 309

وخرج الأثرم، من رواية أبي نعامة، [عن] جبر بن حبيب، عن القاسم بن

محمد، عن عائشة، قالت: جاء أبو بكر يستأذن، وعائشة تصلي، فجعلت تصفق، ولا يفقه عنها فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وهما على تلك الحال، فقال:((ما منعكِ أن تأخذي بجوامع الكلم وفواتحه؟)) –وذكر دعاء جامعاً -، ((ثُمَّ نادي لأبيك)) .

وهذا إسناد جيد 0

وقد خرج الإمام أحمد وابن ماجه ذكر الدعاء، دون قصة الاستئذان.

ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليها التصفيق، ولا أمرها بالتسبيح، وإنما تصفق المرأة إذا كان هناك رجال.

فأما إن لم يكن معها غير النساء، فقد سبق أن عائشة سبحت لأختها أسماء في صلاة الكسوف، فإن المحذور سماع الرجال صوت المرأة، وهو مأمون هاهنا، فلا يكره للمرأة أن تسبح للمرأة في صلاتها. ويكره أن تسبح مع الرجال.

ص: 310

ومن أصحابنا من قال: لايكره.

والأول: الصحيح.

وقال بعض أصحابنا: الأفضل في حقها –أيضا - مع النساء التنبيه بالتصفيق – أيضا.

والكلام في هذا، يشبه الكلام في جهر المرأة بالقراءة إذا أمت النسوة.

وتصفيق المرأة، هو: أن تضرب بظهر كفها على بطن الأخرى، هكذا فسره أصحابنا والشافعية وغيرهم.

قالوا: ولا تضرب بطن الكف على بطن الكف؛ فإن فعلت ذَلِكَ كره.

وقال بعض الشافعية، منهم: القاضي أبو الطيب الطبري: تبطل صلاتها به، إذا كان على وجه اللعب؛ لمنافاته صلاتها، فإن جهلت تحريمه لم تبطل.

قالوا: ولو سبحت المرأة، أو صفق الرجل، فقد خالفا السنة، ولم تبطل صلاتهما بذلك.

ويدل عليه: أن الصحابة أكثروا التصفيق خلف أبي بكر الصديق، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، وإنما أمرهم بالأكمل والأفضل.

وقد قال طائفة من الفقهاء: متى أكثروا التصفيق بطلت الصلاة.

والحديث يدل على خلافه، إلاّ أن يحمل على أنهم لم يكونوا يعلمون منعه، فيكون حكمهم حكم الجاهل.

ص: 311

‌6 - باب

من رجع القهقرى في الصلاة أو تقدم لأمر ينزل به

رواه سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

حديث سهل، قد سبق قريباً، وفيه رجوع أبي بكر القهقرى في صلاته، وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى مكانه.

ص: 312

1205 -

حدثنا بشر بن محمد: ثنا عبد الله: قال يونس: قال الزهري: أخبرني أنس أن المسلمين بينا هم في الفجر يوم الاثنين، وأبو بكر يصلي بهم، ففجأهم النبي صلى الله عليه وسلم، قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم صفرف، فتبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، وهم المسلمون أن يفتتنوا، فرحا بالنبي حين راوه، فأشار بيده أن أتموا، ثم دخل الحجرة، وأرخى الستر، وتوفي ذلك اليوم صلى الله عليه وسلم.

ص: 312

وقد تقدم حديث سهل بن سعد في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، وأنه كان يقوم عليه، ثم ينزل فيسجد في الأرض.

وقد سبق – أيضا – في ((أبواب صلاة الكسوف)) من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم مد يده في صلاة الكسوف، كأنه يتناول شيئا، ثم تكعكع أي: تأخره.

وخرج مسلم من حديث جابر، في صلاة الكسوف، أن النبي صلى الله عليه وسلم تأخر في

صلاته، فتأخرت الصفوف خلفه، حتى انتهى إلى النساء، ثم تقدم وتقدم الناس معه، حتى قام في مقامه.

وروى برد بن سنان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: جئت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في البيت، والباب عليه مغلق، فمشى حتى فتح لي، ثم رجع إلى مكانه، ووصفت الباب في القبلة.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي – وهذا لفظه.

وقال: حسن غريب.

واستنكره أبو حاتم الرازي والجوزجاني؛ لتفرد برد به.

ص: 313

وبرد، شامي قدري، وثقه ابن معين. وقال أحمد: صالح الحديث.

وقال أبو زرعة: لابأس به. وقال أبو حاتم: كان صدوقاً.

وقد تقدم في ((باب: الركوع دون الصف)) حديث أبي بكرة، أنه ركع دون الصف، وأنه مشى حتى دخل في الصف.

خرجه أبو داود بهذا اللفظ.

وتقدم فيه عن جماعة بأنهم فعلوا ذلك، منهم: زيد بن ثابت.

وروي عن أبي بكر الصديق، وعن خلق من التابعين، ومن بعدهم.

وعن سعيد بن جبير وعطاء، انهما رخصا في ان يركع قبل ان يصل إلى صفوف النساء، ثم يمشي 0

وكل هذا يدل على أن المشي اليسير في الصلاة لاتبطل به الصلاة، وإنه قول جمهور السلف.

وكذلك أبو برزة مشى في صلاته إلى فرسه لما انفلتت، فأخذها.

وخرج البخاري حديثه فيما بعد.

وقد قال أحمد: إذا فعل كفعل أبي برزة فصلاته

ص: 314

جائزة.

وقال حرب: قلت لأحمد: يفتح الباب –يعني: في الصلاة – حيال القبلة؟ قالَ: في التطوع.

ولعله أراد أنه لايكره في التطوع خاصة، ويكره في الفريضة.

وأكثر أصحابنا على أن ذلك يرجع فيه إلى العرف، فما عد في العرف مشياً كثيراً أبطل، وما لم يعد كثيراً لم يبطل، وكذلك سائر الأعمال في الصلاة.

ومنهم من جعل الثلاث في حد الكثرة، فلم يعف إلاّ عن المرة والمرتين.

وللشافعية في الضربتين والخطوتين وجهان.

ومن الحنفية من قدر المشي المبطل بما جاوز محل السجود.

وما دلت السنة عليه، مع اتباع السلف فيه أولى.

قال أصحابنا: وإنما يبطل العمل الكثير إذا توالى، وما شك فيه لم يبطل؛ لأن الأصل دوام الصحة، فلا يزول بالشك في وجود المنافي.

وما تفرق من ذلك، وكان إذا جمع كثيراً لم يبطل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تكرر منه حمل أمامة في صلاته ووضعها، وقد سبق حديث أمامة والكلام عليهِ بما فيهِ كفاية.

ومذهب الشافعية كمذهب أصحابنا في ذلك كله، في الرجوع إلى العرف على الصحيح عندهم، مع قولهم: إن الثلاث في حد الكثرة بغير خلاف، وفي الثنتين

وجهان.

ص: 315

وأصحابنا يخالفونهم في هذا خاصة، ويقولون: ما لم يكن المشي والضرب يسمى كثيراً عرفاً فهو غير مبطل.

وهذا كله في العامد، فأما الناسي والجاهل، فأكثر أصحابنا والشافعية أن عمله الكثير يبطل كعمده.

ومن الشافعية من قال: فيه وجهان، أصحهما: لايبطل، كالكلام.

وكذلك حكى بعض أصحابنا رواية عن أحمد، أنه لايبطل عمل الساهي وإن

كثر.

وقال: هي أصح.

واستدل بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في خبر ذي اليدين، حين سلم ساهياً، ثم لما ذكر بني على صلاته، وسيأتي الحديث في موضعه من الكتاب – إن شاء الله تعالى.

ص: 316

‌7 - باب

إذا دعت الأم ولدها في الصلاة

ص: 317

1206 -

وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نادت امرأة ابنها وهو في صومعته، فقالت: ياجريج. فقال: اللهم أمي وصلاتي. فقالت: ياجريج. قال: اللهم أمي وصلاتي. قالت: ياجريج. قال: اللهم أمي وصلاتي. قالت: اللهم [لا] يموت جريج حتى ينظر في وجوه المياميس، وكانت تأوي إلى صومعته راعية ترعى الغنم، فولدت، فقيل لها: ممن هذا الولد؟ قالت: من جريج، نزل من صومعته. قالَ: جريج: أين هذه التي تزعم أن ولدها لي؟ قالَ: يابابوس من أبوك؟ قال: راعي الغنم)) .

هكذا ذكره هاهنا تعليقاً، من رواية الأعرج، عن أبي هريرة.

وقد خرجه في آخر ((الغصب)) ، وفي ((أخبار بني إسرائيل)) مسنداً، من رواية جرير بن حازم، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة – بتمامه.

ص: 317

و ((المياميس)) : جمع مومسة، وهي البغي، وتجمع على مياميس -: قاله أبو

زيد.

وهكذا في جميع روايات البخاري.

وقيل: إنما تجمع على ((مواميس)) – بالواو –؛ لأن الكلمة من ذوات الواو.

ورواه بعضهم ((المأميس)) – بالهمزة.

و ((البابوس)) هو الصغير الرضيع من بني آدم، وهو الصغير من أولاد الإبل – أيضا.

وقيل: إنه اسم لذلك المولود، وهو بعيد.

وفي الحديث: دليل على تقديم الوالدة على صلاة التطوع، وأنها إذا دعت ولدها في الصلاة فإنه يقطع صلاته ويجيبها.

قال حميد بن زنجويه في ((كتاب الأدب)) : نا الحسن بن الوليد: نا ابن أبي

ذئب، عن محمد بن المنكدر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إذا دعاك أبواك وأنت تصلي فأجب أمك ولا تجب أباك)) .

وبإسناد، عن شبيب بن يزيد، قال: مكتوب في التوراة: إذا دعتك أمك وأنت تصلي، فقل: لبيك، فإذا دعاك أبوك، فقل: سبحان الله.

ومرسل ابن المنكدر، قد رواه يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، عن ابن المنكدر – فذكره.

فتبين أنه لم يسمعه ابن أبي ذئب من ابن المنكدر.

وقال حرب: قيل لأحمد: الحديث الذي جاء: ((إذا دعاك أبوك وأنت في الصلاة فأجبه)) ؟ فرأيته يضعف الحديث.

وقال الأوزاعي، عن مكحول: إذا دعتك

ص: 318

أمك وأنت في الصَّلاة فأجب أمك، ولا تجب أباك.

قال الوليد بن مسلم: قلت للأوزاعي: في المكتوبة يجيبها؟ قالَ: نعم، وهل وجه إلاّ ذَلِكَ؟ ثُمَّ قالَ: يؤذنها في المكتوبه بتسبيحة، وفي التطوع يؤذنها بتلبية.

ووجه التفريق بينهما: أن الأم برها آكد من بر الأب؛ ولهذا وصى النبي صلى الله عليه وسلم ببرها ثلاث مرات، ثم وصى ببر الأب بعده.

قال الحسن: للأم ثلثا البر.

وقد روي، عنه في رجل حلف عليه أبوه بكلام، وحلف عليه أمه بخلافه؟ قالَ: يطيع أمه.

وقال عطاء، في رجل أقسمت عليه أمه أن لا يصلي إلاّ الفريضة، ولا

ص: 319

يصوم إلاّرمضان؟ قالَ: يطيعها.

وإنما قدم طاعتها على التطوع؛ لأن طاعتها واجبة، وهذا يشترك فيهِ الوالدان.

وقد سوى أصحابنا بينهما في إجابتهما في الصَّلاة، وقالوا: لاتجب إجابتهما

فيها، وتبطل الصَّلاة.

لكن إذا كان في نفل خرج وأجابهما، بخلاف إجابة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة لمن دعاه؛ فإنها كانت واجبة -: نص عليهِ أحمد، وقال: لاتبطل بها الصَّلاة.

وكذلك قاله إسحاق بن راهويه، وذكر أن ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وليست لأحد بعده.

وكذلك هو الصحيح من مذهب الشافعي وأصحابه.

واستدلوا بأن المصلي يقول في صلاته: ((السلام عليك أيها النبي)) ، ولو خاطب بذلك غيره لبطلت صلاته.

ولو قيل بوجوب إجابة الأم في الصلاة، وأنها لاتبطل بها الصلاة، لم يبعد، وهو ظاهر قول مكحول والأوزاعي، كما سبق.

وكذا قال الأوزاعي في تحذير الضرير والصبي في الصلاة من الوقوع في بئر ونحوها: أنه لاباس به.

وفي الحديث: دليل على استجابة دعاء الأم على ولدها.

قال بعض

ص: 320

السلف: يستجاب دعاؤها عليه، وإن كانت ظالمة.

وفي حديث أبي هريرة المرفوع: ((ثلاث دعوات تستجاب، لاشك فيهن)) – فذكر منها: ((ودعوة الوالدين على ولدهما)) .

وعن ابن مسعود، قال: ثلاث لاترد دعوتهم: الوالد، والمظلوم، والمسافر.

ص: 321

‌8 - باب

مسح الحصى في الصلاة

ص: 322

1207 -

حدثنا أبو نعيم: ثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، قال: حدثني معيقيب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوي التراب حين يسجد، قال:((إن كنت فاعلا فواحدة)) .

وخرجه مسلم، من طريق شيبان.

وخرجه –أيضا - من طريق هشام الدستوائي، عن يحيى –هو: ابن أبي كثير -، ولفظ حديثه: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المسح في المسجد – يعني: الحصى -، قال:((إن كنت لابد فاعلا فواحدة)) .

وفي رواية له، بهذا الإسناد، أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن المسح في الصلاة، فقال:((واحدة)) .

وفي الباب: عن جماعة من الصحابة، لم يخرج منه في ((الصحيح)) غير حديث معيقيب.

قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم.

يعني: على كراهة مسح الحصى، والرخصة في المرة الواحدة منه.

وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في مس الحصى في الصَّلاة.

ص: 322

وكان ابن عمر يصلي فيمسح الحصى برجليه.

وروي عن ابن مسعود، أنه يسويه مرة واحدة إذا سجد.

وكان أبو هريرة وأبو ذر يرخصان في مسحة مرة واحدة.

وكان مالك لا يرى بالشيء الخفيف بأساً.

وكره ذلك الأوزاعي وأصحاب الرأي.

وقال أصحاب الرأي: لا بأس به مرة، وتركه أحب إلينا.

وكان عثمان بن عفان وابن عمر يمسحان الحصى لموضع السجود، قبل إن يدخلا في الصلاة.

قال ابن المنذر: هذا أحب إليّ، ولا يخرج أن مسحه مرة؛ لحديث معيقيب، وتركه أفضل. انتهى.

ورويت كراهيته عن علي وابن مسعود وابن عباس.

وعن ابن عمر، قال: هو من الشيطان.

ورخص فيه مرة واحدة أبو عبد الرحمن السلمي.

وهو قول سفيان الثوري.

وقال ليث بن أبي سليم: سمعت العلماء يقولون: تحريك الحصى ومسحه في الصلاة أذى للملكين.

وقد روي في سبب كراهيته: إن الرحمة تواجه المصلي، فإذا أزال ما

ص: 323

يواجهه من التراب والحصى، فقد أزال ما فيه الرحمة والبركة.

فروى الزهري، عن أبي الأحوص، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى؛ فإن الرحمة تواجهه)) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي.

وقال: حديث حسن.

وأبو الأحوص هذا، ضعفه ابن معين وغيره.

وروى ابن المبارك في ((كتابه)) عن الأوزاعي، عن هارون بن رئاب، قال: قال ابن مسعود: إن الأرض لتزين للمصلى، فلا يمسحها أحدكم، فإن كان ماسحها لامحالة فمرة مرة، ولأن يدعها خير له من مائة ناقة للنقلة.

واعلم؛ أن مسح الحصى في الصَّلاة يكون على وجهين:

أحدهما: أن يكون عبثاً محضاً لغير وجه، فهذا مكروه؛ لأن العبث في الصلاة مكروه، كما يكره ذلك في حال استماع الخطبة.

وفي الحديث الصحيح: ((ومن مس الحصى فقد لغا)) .

فإن كانت الرخصة في المرة

ص: 324

الواحدة من هذا النوع، فيشبه أن يكون معناه: أن المرة الواحدة تقع عن سهو وغفلة، والمعاود إنما يكون عن تعمد وقصد، كما قالَ في نظر الفجأة:((إن لك الأولى، وليست لك الأخرى)) .

ويشهد لهذا: ما خرجه الإمام أحمد من رواية شرحبيل بن سعد، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((لإن يمسك أحدكم يده عن الحصى خير له من مائة ناقة، كلها سود الحدقة، فإن غلب أحدكم الشيطان فليمسح مسحة واحدة)) .

وشرحبيل، مختلف في أمره.

ورأى سعيد بن المسيب رجلا يعبث بالحصى، فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.

الوجه الثاني: أن يكون عن حاجة إليه، مثل أن يشتد حر الحصى، فيقلبه ليتمكن من وضع جبهته عليه في السجود، أو يكون فيه ما يؤذيه

ص: 325

السجود عليه، فيصلحه ويزيله، فهذا يرخص فيه بقدر ما يزول به الأذى عنه، ويكون ذلك مرة واحدة.

قال أحمد: لا بأس بتسوية الحصى إن اضطر.

وروى الأثرم بإسناده، عن ابن مسعود، أنه ركع، ثم سجد فسوى الحصى، ثم تقبطه بيده.

وروى الزبرقان بن عبد الله بن عمرو بن أمية، عن أبي سلمة، عن جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوى الحصى.

وهذا غريب جداً.

وقريب من هذا: ما خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث جابر، قال: كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم[الظهر] ، فأخذ قبضة من الحصى؛ لتبرد في كفي اضعها لجبهتي اسجد عليها لشدة الحر.

وزعم أبو بكر الأثرم: أن الرخصة في المرة الواحدة ناسخة للنهي المطلق.

وفيه نظر.

ومذهب مالك: يكره أن ينقل الحصى من موضع الظل إلى موضع

ص: 326

الشمس، فيسجد عليه، ولا يكره أن يسجد على ثوبه في الحر.

واستدل بعض من قال: إنه لايرخص في الصلاة في أكثر من عمل واحدة، كخطوة أو ضربة، بهذا الحديث.

وإنما يدل هذا الحديث على كراهة ما زاد على المرة الواحدة، حيث كان لا يحتاج إلى الزيادة على ذلك، فإن تسوية الحصى المقصود منه - غالباً – بمرة واحدة، وهذا خلاف ما يحتاج منه إلى زيادة على المرة الواحدة، كالمشي والضرب ونحوهما، وبذلك يجمع بين النصوص كلها في هذا الباب.

ص: 327

‌9 - باب

بسط الثوب في الصلاة للسجود

ص: 328

1208 -

حدثنا مسدد: ثنا بشر: ثنا غالب، عن بكر بن عبد الله، عن أنس بن

مالك، قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم في شدة الحر،، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن وجهه من الأرض بسط ثوبه، فسجد عليه.

وقد خرجه - فيما تقدم - من هذا الوجه - أيضا - في ((أبواب اللباس في

الصَّلاة)) ، وسبق الكلام هناك عليه مستوفى.

وإنما المقصود منه: أنه إذا شق عليه السجود على الأرض من شدة حرها، جاز له أن يبسط ثوبه في صلاته في الأرض، ثم يسجد عليه، ولا يكون هذا العمل في الصلاة مكروها؛ لأنه عمل يسير لحاجة إليه؛ فإن السجود على الحصى الشديد حره يؤذي ويمنع من كمال الخشوع في الصلاة، وهو مقصود الصلاة الأعظم.

ص: 328

‌10 - باب

ما يجوز من العمل في الصلاة

فيه حديثان:

الأول:

ص: 329

1209 -

نا عبد الله بن مسلمة: نا مالك، عن أبي النضر، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: كنت أمد رجلي في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم وهويصلي، فإذا سجد غمزني فرفعتها، فإذا قام مددتها.

قد تقدم هذا الحديث في غير موضع.

والمقصود منه هاهنا: أن غمز المصلي امرأته النائمة بين يديه في صلاته جائز.

وقد روي، أن غمزها كان برجله، وهذا عمل يسير في الصلاة؛ لحاجة إليه، وهو إخلاء موضع السجود؛ ليتمكن من السجود فيهِ.

وقد كانَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يطيل السجود في صلاة الليل.

وقد تقدم ذكر ذلك كله.

وقولها: ((فإذا سجد غمزني)) يدل على أنه كان يتكرر ذلك منه كلما سجد في كل ركعة، فكان يفعله في كل ركعة مرة عند سجوده، ولم تكن تمدها حتى يقوم إلى الركعة الأخرى، فما دام ساجداً او جالساً بين السجدتين فرجلاها مكفوفة، فإذا قام وقرأ في الركعة الأخرى مدت

ص: 329

رجلها في قبلته حتى يسجد.

الحديث الثاني:

ص: 330

1210 -

نا محمود –هو: ابن غيلان -: نا شبابة: نا شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه صلى صلاة، فقال: ((إن الشيطان عرض لي، فشد علي ليقطع الصلاة، فامكنني الله منه، فذعته، ولقد هممت أن اوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه، فذكرت قول سليمان:{رَبِّ....هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأحد مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] ، فرده الله خاسئاً.

معنى ((دعته)) : دفعته دفعاً عنيفاً، ومنه قول تعالى:{يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} [الطور:13] .

ويقال: ((دعته)) بالدال المهملة وبالذال المعجمة -: ذكره في ((الجمهرة)) .

ص: 330

وفي بعض نسخ ((كتاب الصحيح)) :

قال النضر بن شميل: ((فذعته)) – [بالذال] – أي: خنقته، [و ((فدعته)) ] من قول الله تعالى:{يَوْمَ يُدَعُّونَ} [الطور: 13] أي: يدفعون، والصواب:((فدعته)) ، إلا أنه كذا قال بتشديد العين والتاء.

وقال الخطابي: ((الذعت)) : شدة الخنق، ويقال: ذعت وسات إذا خنق، انتهى.

ص: 331

ويقال: لاتصح رواية من رواه ((دعته)) بالدال المهملة وتشديد الدال، فإنه لو كان من الدع كان أصله دعته، وتدغم العين في التاء.

وخرجه مسلم من طريق شعبة، بمعناه - أيضا.

وخرج الإمام أحمد بإسناد جيد، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فصلى صلاة الصبح، فالتبست عليه القراءة، فلنا فرغ من الصلاة قال:(( [لو] رأيتموني وإبليس، فأهويت بيدي، فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين - الإبهام والتي تليها -، ولولا دعوة أخي سليمان، لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة)) .

وفي هذا الحديث من العلم: أن دفع المؤذي في الصلاة جائز، وإن لم يندفع إلا بعنف وشدة دفع جاز دفعه بذلك.

وقد سبق في دفع المار بين يدي المصلي، أنه ((إن أبى فليقاتله؛ فإنه شيطان)) .

وهذا إذا كانَ أذاه يختص بالصلاة كالمار، والشيطان الملهي عن الصَّلاة وكذلك إن كانَ أذاه لايختص بالصلاة كالحية والعقرب.

ص: 332

وروى يحيى بن أبي كثير، عن ضمضم بن جوس، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي.

وقال: حسن صحيح.

وضمضم هذا، يمامي، قال أحمد: ليس به بأس، ووثقه ابن معين والعجلي.

وأخذ أكثر العلماء بهذا الحديث، ورخصوا في قتل الحية والعقرب في الصلاة، منهم: ابن عمر، والحسن، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم.

وكرهه النخعي خاصة، ولعل السنة لم تبلغه في ذلك.

ص: 333

وقال سفيان: لابأس أن يقتل الرجل – يعني: في صلاته – الحية والعقرب والزنبور والبعوضة والبق والقمل، وكل ما يؤذيه.

وقد سبق القول في قتل القمل في الصلاة وفي المسجد في ((باب: دفن النخامة في المسجد)) وذكرنا هناك الاختلاف في كراهة قتل القمل في المسجد ودفنه فيه، وإلقائه

فيه.

ومذهب مالك: أنه يقتلها في صلاته، بل إن كان في غير المسجد ألقاها، وإن كان في المسجد لم يلقها فيه، ولم يقتلها.

وكذلك كره قتل القملة في الصلاة: الليث وأبو يوسف.

وقال الأوزاعي: تركه احب الي.

ولم يكرهه الحسن وأبو حنيفة ومحمد وإسحاق وأكثر أصحابنا.

وفي الحديث: دليل على إمكان ربط الشيطان وحبسه وإيثاقه، وعلى جواز ربطه في المسجد، كما يربط الأسير فيه، وعلى جواز رؤية غير الأنبياء للجن والشياطين، وتلاعب الصبيان بهم.

وأما قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] فإنه خرج على الأعم الأغلب، وليس المراد به نفي إمكان رؤيتهم.

وقد ظن بعض الناس، أنه دال على ذلك، فقال: من ادعى رؤيتهم [فسق] .

ص: 334

وقد رآهم أبو هريرة وغيره من الصحابة، وستأتي الأحاديث بذلك متفرقة في أماكنها – إن شاء الله تعالى.

ص: 335

‌11 - باب

إذا انفلتت الدابة في الصلاة

وقال قتادة: إن أخذ ثوبه يتبع السارق ويدع الصلاة.

وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) ، عن معمر، عن الحسن وقتادة، في رجل كان يصلي، فأشفق أن تذهب دابته أو أغار عليها السبع؟ قالا: ينصرف.

وعن معمر، عن قتادة، قالَ: سألته، قلت: الرجل يصلي فيرى صبياً على بئر، يتخوف أن يسقط فيها، أفينصرف؟ قال: نعم. قلت: فيرى سارقاً يريد أن يأخذ

نعليه؟ قال: ينصرف.

ومذهب سفيان: إذا عرض الشيء المتفاقم والرجل في الصلاة ينصرف إليه.

رواه، عنه المعافى.

وكذلك إن خشي على ماشيته السيل، أو على دابته.

ومذهب مالك؛ من انفلتت دابته وهو يصلي مشى فيما قرب، إن كانت بين يديه، أو عن يمينه أو عن يساره، وإن بعدت طلبها وقطع الصَّلاة.

ومذهب أصحابنا: لو رأى غريقاً، أو حريقاً، أو صبيين يقتتلان، ونحو

ص: 336

ذلك، وهو يقدر على إزالته قطع الصلاة وأزاله.

ومنهم من قيده بالنافلة.

والأصح: أنه يعم الفرض وغيره.

وقال أحمد – فيمن كان يلازم غريماً له، فدخلا في الصلاة، ثم فر الغريم وهو في الصلاة -: يخرج في طلبه.

وقال أحمد - أيضا -: إذا رأى صبياً يقع في بئر، يقطع صلاته ويأخذه.

قال بعض أصحابنا: إنما يقطع صلاته إذا احتاج إلى عمل كثير في أخذه، فإن كان العمل يسيراً لم تبطل به الصلاة.

وكذا قال أبو بكر في الذي خرج ورأى غريمه: إنه يعود ويبني على صلاته.

وحمله القاضي على أنه كان يسيراً.

ويحتمل أن يقال: هو خائف على ماله، فيغتفر عمله، وإن كثر.

خرج البخاري في هذا الباب حديثين:

الأول - وهو موقوف -:

ص: 337

1211 -

ثنا آدم: ثنا شعبة: ثنا الأزرق بن قيس، قال: كنا بالأهواز نقاتل الحرورية، فبينا أنا على حرف نهر، إذا رجل يصلي، وإذا لجام دابته بيده، فجعلت الدابة تنازعه، وجعل يتبعها – وقال شعبة: هو أبو برزة

ص: 337

الأسلمي -، فجعل رجل من الخوارج يقول: اللهم، افعل بهذا الشيخ، فلما انصرف الشيخ، قال: إني سمعت

قولكم، وإني غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست غزوات – أو سبع غزوات أو ثمانياً -، وشهدت تيسيره، وإني إن كنت أرجع مع دابتي أحب الي من أن ادعها ترجع إلى

مألفها، فيشق علي.

فهذا موقوف على أبي برزة، وفيه: ما يشعر [بتوبيخ] من رفع؛ لقوله: ((شهدت تسير النَّبيّ صلى الله عليه وسلم)) .

والمعنى: أنه شاهد من تيسيره صلى الله عليه وسلم ما استدل به على أن هذا العمل في الصلاة غير مضر بالصلاة.

وقد تقدم أن الإمام أحمد قالَ: إذا فعل في صلاته كفعل أبي برزة فصلاته

جائزة.

ومتى كان يخاف من ذهاب دابته على نفسه، فحكمه حكم الخائف، فلا يبطل عمله في الصلاة لتحصيل دابته، وإن كثر.

وقد خرج البخاري حديث أبي برزة في ((الأدب)) من ((صحيحه)) هذا، من طريق حماد بن زيد، عن الأزرق، به، وفي حديثه: فانطلقت الفرس،

ص: 338

فخلى صلاته واتبعها، حتى أدركها، فأخذها، ثم جاء فقضى صلاته.

والظاهر: أن المراد بترك صلاته ترك العمل فيها، اشتغالا بطلب الفرس، ثم جاء فبنى على مامضى من صلاته.

الثاني:

ص: 339

1212 -

نا محمد بن مقاتل: نا عبد الله: أنا يونس، عن الزهري، عن عروة، قال: قالت عائشة: خسفت الشمس، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة طويلة، ثم ركع فأطال، ثم رفع رأسه، ثم استفتح سورة أخرى، ثم ركع حين قضاها وسجد، ثم فعل ذلك في الثانية، ثم قال: ((إنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتم ذلك، فصلوا حتى يفرج عنكم، لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدته، حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفاً من الجنة، حين رأيتموني أتقدم، ولقد رأيت جهنم، يحطم

ص: 339

بعضها بعضاً، حين رأيتموني تأخرت، ورأيت فيها عمرو بن لحي، وهو الذي سيب السوائب)) .

في هذا السياق: ما يستدل به على أنه لم يقرإ الفاتحة في قيامه الثاني من كل

ركعة.

وفيه: أن الناس في حال الكسوف في كربة وشدة تحتاج إلى التفريج.

وفيه: أنه تقدم وتأخر في صلاته، وأنه أخبر أن سبب تقدمه أنه أراد أن يأخذ قطفاً من الجنة، وأن سبب تأخره قرب جهنم فتباعد عنها.

وقد سبق القول في المشي في الصلاة والتقدم والتأخر.

وأما تناول القطف من الجنة، فليس هو من عمل الدنيا، حتى يستدل به على تناول الحاجات في الصلاة، وإنما هو من أمور الآخرة، وكذلك الاشتغال بالنظر إليه في الصلاة، وقد سبق ذكر هذا المعنى.

ولكن في ((مصنف عبد الرزاق)) عن ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، أن إنساناً قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بهدية، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة.

وهذا مرسل.

ص: 340

‌12 - باب ما يجوز من البصاق والنفخ في الصلاة

ويذكر عن عبد الله بن عمرو: نفخ النبي صلى الله عليه وسلم في سجوده في الكسوف.

حديث عبد الله بن عمرو هذا، هو من رواية عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو هذا، قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام

رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة - فذكر الحديث إلى أن قال -: فجعل ينفخ في آخر سجوده من الركعة الثانية، ويبكي ويقول:((لم تعدني هذا وأنا فيهم، لم تعدني هذا ونحن نستغفرك)) - وذكر باقي الحديث.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في

((صحيحهما)) .

ص: 341

وعطاء بن السائب، ثقة، تغير بآخرة.

وخرج الإمام أحمد من حديث مجالد، عن الشعبي، عن المغيرة بن شعبة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الصلاة، فجعل ينفخ بين يديه، ثم مد يده كأنه يتناول شيئاً، فلما انصرف قال:((إن النار أدنيت مني، حتى نفخت حرها عن وجهي)) .

ومجالد، فيه ضعيف.

خرج في هذا الباب حديثين:

الأول:

ص: 342

1213 -

ثنا سليمان بن حرب: ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد، فتغيظ على أهل المسجد، وقال:((إن الله قبل أحدكم إذا كان في صلاته، فلا يبزقن)) – أو قال: ((لايتخمن)) -، ثم نزل فحتها بيده.

وقال ابن عمر: إذا بزق أحدكم فليبزق عن يساره.

ص: 342

وقد خرجه في ((أبواب القبلة)) من حديث مالك، عن نافع – مختصراً.

الثاني:

ص: 343

1214 -

حدثنا محمد: ثنا غندر: ثنا شعبة، قال: سمعت قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا كان أحدكم في الصلاة، فإنه يناجي ربه، فلا يبزقن بين يديه، ولا عن يمينه، ولكن عن شماله، تحت قدمه اليسرى)) .

وقد خرجه – فيما تقدم -، عن آدم، عن شعبة.

ومقصوده: الاستدلال بإباحة النبي صلى الله عليه وسلم البزاق والتنخم في الصلاة، على أن النفخ ونحوه كالنحنحة لايبطل الصلاة؛ لأن للتنخم صوتاً كالتنحنح، وربما كانَ معه نوع من النفخ عندَ القذف بالنخامة.

وقد سبق أن ابن عبد البر ذكر مثل ذلك.

وقد اختلف العلماء في النفخ في الصلاة: هل هو كلام يبطلها إذا تعمده، أم لا؟

فقالَ طائفة: هوَ كلام.

قال ابن المنذر: كرهه ابن مسعود وابن عباس.

وروي عن ابن

ص: 343

عباس وأبي هريرة، أنه بمنزلة الكلام، ولا يثبت عنهما.

كذا قال، وليس كما قال، فقد روى الأعمش والحسن بن عبيد الله أبو عروة النخعي – وهو ثقة خرج له مسلم – كلاهما، عن أبي الضحى، عن ابن عباس، قال: النفخ في الصلاة كلام.

وقد خرجه وكيع في ((كتابه)) والإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله، عنه في

((مسائله)) .

وفي رواية له: النفخ في الصلاة يقطع الصلاة.

وخرجه الجوزجاني، وعنده: النفخ في الصلاة أخشى أن يكون كلاماً.

وأما المروي عن أبي هريرة، فمن طريق قيس، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: النفخ في الصلاة كلام.

خرجه عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه في ((مسائله)) .

وقيس، هو: ابن الربيع.

ص: 344

وروي عن النخعي، أنه قال: هو كلام.

وروي عنه -[أيضا]-، قال: إنما كانوا يكرهونه في الصلاة مخافة أن يؤذي الرجل جليسه.

وعن سعيد بن جبير، قال: هو بمنزلة الكلام.

وممن رأى أنه بمنزلة الكلام في إبطال الصلاة: أبو حنيفة ومحمد بن الحسن والثوري والشافعي وأصحابه وأحمد – في رواية – وابن القاسم المالكي، وعن أبي يوسف روايتان:

أحداهما: أن أراد به التافيف فهو كلام.

والثانية: ليس بكلام بكل حال، وهي التي رجع إليها.

وكرهه ابن سيرين ويحيى بن [أبي كثير] ، من غير إفساد الصلاة به.

وهو قول مالك وأحمد –في رواية - وإسحاق وسليمان بن داود الهاشمي وأبي خيثمة.

وقال أحمد –مرة -: أخشى أن يكون قد فسدت صلاته؛ يروى عن ابن عباس: من نفخ في صلاته فقد تكلم.

ص: 345

فحكى أكثر أصحابنا المتقدمين عن أحمد في ذلك روايتين.

وأما القاضي أبو يعلى وأصحابه، فنزلوهما على حالين، قالوا: إن بأن منه حرفان فهو كلام مبطل الصلاة، وإلا فلا.

ولايعرف هذا التفصيل عن أحمد، ولاعن غيره ممن تقدم، سوى الشافعي وأصحابه، وهو قول أبي ثور.

واستدلوا بأن الكلام عند العرب ما دل على معنى، وأقله حرفان.

ولكن الكلام المقصود يدل على معناه الموضوع له بالوضع، ودلالة النفخ والتأوه ونحو ذلك إنما هوَ بالطبع لا بالوضع، فليس في شيء من ذَلِكَ حروف موضوعة للدلالة على معنى خاص.

وقال الحسن: إذا رأيت ما يريبك - يعني في الصَّلاة - فانفخ.

وهذا يدل على اباحته للحاجه إليه.

وروي - أيضا - مثله عن بعض الصحابة. وفي الباب: حديث مرفوع، عن أم سلمة، اختلف في إسناده ولفظه: فروي عنبسه بن الأزهر، عن سلمة بن كهيل، عن كريب، عن أم سلمة، قالت: مر النبي صلى الله عليه وسلم بغلام لهم وهو يصلي فنفخ في سجوده، فقالَ:((لاتنفخ؛ إن من نفخ فقد تكلم)) خرجه النسائي. وهو مما تفرد به عنبسة هذا.

وقد قال فيه ابن

ص: 346

معين وأبو داود وأبو حاتم: لابأس به.

لكن قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به.

وذكره ابن حبان في ((ثقاته)) ، وقال: كان يخطىء.

وخرج الترمذي من حديث ميمون أبي حمزة، عن أبي صالح، عن أم سلمة، قالت: رأى النبي صلى الله عليه وسلم غلاما لنا، يقال له: أفلح، إذا سجد نفخ، فقال له:((أفلح، ترّب وجهك)) .

وقال: إسناده ليس بذاك، وميمون أبو حمزة، ضعفه أهل العلم.

وخرجه الإمام أحمد – أيضا.

وميمون الأعور أبو حمزة، قال أحمد: متروك.

ولكنه توبع عليهِ:

فخرجه الإمام أحمد من طريق سعيد أبي عثمان الوراق، عن أبي صالح، قال: دخلت على أم سلمة – فذكرالحديث مرفوعا، وفيه:((ترب وجهك لله)) .

ص: 347

وخرجه ابن حبان في ((صحيحه)) من طريق عدي بن عبد الرحمن، عن داود بن أبي هند، عن أبي صالح مولى آل طلحة بن عبيد الله، قال: كنت عند أم سلمة –فذكر الحديث.

كذا في الرواية: ((أبو صالح مولى آل طلحة)) ، وجاء في رواية، أنه:((مولى أم سلمة)) .

قال أبو زرعة الدمشقي في ((تاريخه)) : أبو صالح مولى أم سلمة، يحدث عنها في كراهة نفخ التراب في السجود، اسمه: زاذان. انتهى.

وهو مع هذا غير مشهور.

والحديث بهذا اللفظ: يدل على أن النفخ ليس بكلام، وإنما يكره نفخ التراب عن موضع السجود؛ لأنه يمنع تتريب الجبهة في السجود، والأفضل للساجد أن يترب وجهه لله، ولهذا كانَ سجوده على التراب افضل من سجوده على حائل بينه وبين التراب.

وفي كراهة النفخ في الصلاة أحاديث أخر مرفوعة، لا تصح.

وقد سبق في ((باب: من لم يمسح جبهته وأنفه حتى صلى)) في ذلك حديث مرفوع، من رواية بريدة، وبيان علته.

ص: 348

‌13 - باب

من صفق جاهلاً من الرجال في صلاته

لم تفسد صلاته

لم يخرج فيه شيئاً.

وفيه: حديث سهل بن سعد وقد خرجه فيما تقدم.

ومجرد التصفيق ليس مما يبطل الصلاة، إنما يبطل الإكثار منه.

وفي الحديث: أنهم أكثروا التصفيق حتى التفت أبو بكر، ولم يكونوا يعلمون أن التصفيق

منهى عنه الرجال في الصلاة.

ص: 349

‌14 - باب

إذا قيل للمصلي: تقدم أو انتظر، [فانتظر]

فلا بأس

ص: 350

1215 -

حدثنا محمد بن كثير: نا سفيان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم عاقدوا أزرهم من الصغر على رقابهم، فقيل للنساء:((لاترفعن رءوسكن حتى يستوي الرجال جلوساً)) .

الظاهر: أن البخاري حمل الحديث على أن النساء قيل لهن ذلك في نفس الصلاة.

وقد أنكر ذلك الإسماعيلي، وقال: إنما تقدم إليهم بذلك قبل الصلاة؛ لما علم من ضيق أزر الرجال، فليس الحديث مما ترجم عليهِ.

قلت: ولو خرج في الباب إشارة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته إلى الذين صلوا وراءه قياماً - وكان هو قاعداً -: أن اجلسوا، إذ أشار به لأبي بكر، وهو يصلي بالناس، أن اثبت مكانك، في حديث مرضه؛ وفي حديث اصلاحه بين بني عوف، لكان دليلاً على ما بوب عليهِ.

ص: 350

وحاصل الأمر: أن أمر المصلي بما فيهِ مصلحة لصلاته غير مكروه، وأما أمره بما ليس من الصَّلاة فيكره.

ذكر عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قال إنسان لعطاء: يأتيني إنسان وأنا في المكتوبة، فيخبرني الخبر، فأستمع إليه؟ قالَ: ما أحبه، وأخشى أن يكون سهواً، إنما هي المكتوبه، فتفرغ لها حتَّى تفرغ منها.

قال: فقلت لعطاء: أفتكره كل شيء من الإيماء في المكتوبة، حتى إن مر بي إنسان وأنا في المكتوبة، [إذا جاء رجل]، فقال: صليت الصلاة، كرهت أن أشير إليه برأسي؟ قالَ: نعم، أكره كل شيء من ذَلِكَ.

فقيل له: أفعل ذلك في التطوع؟ قالَ: إن كانَ شيء لابد منه، وأحب أن لايفعل.

وسيأتي ذكر إشارة المصلي والسلام عليهِ – إن شاء الله تعالى.

وقد بوب البخاري – فيما بعد -: ((باب: إذا كُلّم وهو يصلي فأشار بيده، أو

يستمع)) ، وسيأتي في موضعه – إن شاء الله تعالى.

وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) ، عن معمر، عن ثابت البناني، عن أبي رافع، قال: رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أحدهم ليشهد على الشهادة وهو قائم

يصلي.

ص: 351

‌15 - باب

لا يرد السلام في الصلاة

فيه حديثان:

الأول:

ص: 352

1216 -

حدثنا عبد الله بن أبي شيبة: ثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن

إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: كنت أسلم علي النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فيرد علي، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمت عليه، فلم يرد علي، وقال:((إن في الصلاة لشغلا)) .

قد سبق هذا الحديث، مع الكلام على إسناده.

والمقصود منه في هذا الباب: أن المصلي لا يرد السلام على من سلم عليه؛ لاشتغاله بما هوَ فيهِ من الإقبال على مناجاة الله عز وجل، فلا ينبغي لهُ أن يتشاغل بغيره، ما دام بين يديه.

الثاني:

ص: 352

1217 – ثنا أبو معمر: ثنا عبد الوارث: ثنا كثير بن شنظير، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر، قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة له، فانطقت، ثم رجعت وقد

قضيتها، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فسلمت عليه، فلم يرد علي، فوقع في قلبي ما الله أعلم به، فقلت في نفسي: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد علي أني أبطات عليه، ثم سلمت عليه، فلم يرد علي، فوقع في قلبي أشد من المرة الأولى، ثم سلمت عليه، فرد علي، فقال:((إنما منعني أن أرد عليك، أني كنت أصلي)) ، وكان على راحلته متوجها إلى غير القبلة.

وقد دل هذان الحديثان على مسائل:

منها:

أن المصلي إذا سلم عليه في الصلاة، لم يرد السلام بقوله، وهذا قول جمهور أهل العلم.

وذهب طائفة إلى أنه يجوز أن يرد السلام بقوله، روي ذلك عن أبي هريرة.

وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وقتادة.

وقال عطاء: يرد عليه إذا كان جالسا في التشهد الأخير.

وهذا مبني على قوله: إن المصلي يخرج من صلاته بدون السلام، كما سبق.

ص: 353

وقد نقل يونس بن عبد الأعلى، عن الشافعي: أن المصلي يشمت العاطس، يقول له: يرحمك الله.

وقال: هو دعاء له؛ وقد دعا النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في صلاته لقوم، ودعا على آخرين.

وقياس هذا: أنه يرد عليه السلام؛ لأنه دعاء لهُ –أيضا.

ولا يقال: الدعاء لمعين لايكون إلا على وجهة الخطاب لهُ؛ فإنه قد ورد ذلك على وجه الخطاب للمعين، كما يقول المصلي في تشهده:((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)) .

وفي ((صحيح مسلم)) ، عن أبي الدرداء، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صلاته للشيطان الذي تفلت عليه:((أعوذ بالله منك، ألعنك بلعنة الله)) – ثلاثا.

ومتى كان رد السلام بدون لفظ الخطاب، مثل أن يقول:(عليه السلام) أو

((يرحمه الله)) لم تبطل الصلاة به عند الشافعية وغيرهم، كالدعاء لمعين في الصلاة.

وقد سبق ذكره والاختلاف فيه.

والصحيح: الأول؛ لأن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم امتنع من رد السلام في الصَّلاة، وعلل بأنه يصلي، فدل على أن الصَّلاة تمنع من ذَلِكَ.

وقد نهى معاوية بن الحكم عن تشميت العاطس، وقال له: ((إن صلاتنا هذه لايصلح فيها

ص: 354

شيء من كلام الآدميين)) .

وأما السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، فمخصوص من بين الناس؛ لأن خطابه في الصَّلاة لم يكن مبطلا، كما سبق ذكره.

ومنها:

أن المصلي لايرد على المسلم في صلاته بالإشارة، ولا بعد سلامه.

فإنه ليس في حديث ابن مسعود، أنه رد عليه بالكلية، ولا في حديث جابر، أنه رد عليهِ بعد سلامه، إلا لما سلم عليه حينئذ.

وقد اختلف العلماء في رد المصلي للسلام عليه.

فقالت طائفة: يرد في الصلاة بالإشارة، روي عن ابن عمر.

وروي عن ابن مسعود من وجه منقطع.

[و] هو قول مالك والحسن بن حي والشافعي وأحمد وإسحاق.

وروي عن ابن عباس، أنه رد على من سلم عليهِ في صلاته، وقبض على يده.

وعن أحمد، أنه يرد بالإشارة في النفل، دون الفرض.

وحكي عنه

ص: 355

رواية أخرى: لا يرد في نفل ولا فرض، بإشارة ولا غيرها.

وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.

وعلى هذا: فالسلام لايجب رده بحال؛ لأنه مكروه، كما سيأتي ذكره، فلا يستحق رداً.

وقال طائفة: يرد إذا سلم من الصلاة، وهو قول عطاء والنخعي والثوري.

قال النخعي: إن كان قريباً يرد، وإن كان قد ذهب فأتبعه السلام.

وقال إسحاق: هو مخير بين أن يفعل به – كما قال النخعي -، وبين أن يرد في الصلاة بالإشارة.

وقال أصحابنا: هو مخير بين الرد بالإشارة في الصلاة، والتأخير حتى يسلم، والأول أفضل.

قالوا: لأن للتأخير آفات، منها: النسيان، ومنها: ذهاب المسلم.

وظاهر هذا: أنه إن أخر الرد حتى سلم، وكان المسلم قد مضى لم يرد عليه.

واستدل من قال: لايرد بإشارة ولا غيرها، لافي الصلاة ولا بعدها، بحديث ابن مسعود؛ فإن ظاهره: أنه لم يرد عليهِ في الصَّلاة، ولا بعدها.

واستدل من قالَ: يؤخر الرد، بما روى عاصم، عن أبي وائل، عن

ص: 356

ابن مسعود، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم رد عليه السلام بعد السلام.

خرجه أحمد وأبو داود.

وعاصم، هو: ابن أبي النجود، وليسي بذاك الحافظ.

وخرجه أبو يعلى الموصلي، من وجه آخر منقطع.

وخرجه عبد الرزاق في ((كتابه)) من وجه آخر منقطع – أيضا.

واستدل من قال: يرد في صلاته بالإشارة، بما روى محمد بن الصلت التوزي: ثنا عبد الله بن رجاء، عن هشام بن حسان، عن

ص: 357

محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن ابن مسعود، قال: لما قدمت من الحبشة، أتيت النبي صلى الله عليه وسلم هو يصلي، فسلمت عليه، فأشار إلي.

خرجه الطبراني وغيره.

وقد أنكر ابن المديني وصله بذكر أبي هريرة، وقال: إنما هو عن ابن سيرين، أن ابن مسعود.

يعني: أنه مرسل.

وكذا رواه وكيع في ((كتابه)) ، عن ابن عون، عن ابن سيرين، قال: لما قدم عبد الله من الحبشة، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسلم عليه، فأومأ النبي صلى الله عليه وسلم، فأشار برأسه – بنحوه، وقال فيه: فأومأ برأسه، أو قال: فأشار برأسه.

وخرجه أبو داود في ((مراسيله)) من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين.

وخرجه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين مرسلا – أيضا -، ولكن قال في حديثه: فلم يرد عليه حتى انفتل. وقال: ((إن في الصلاة لشغلاً)) .

وخرج مسلم من حديث أبي الزبير، عن جابر، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 358

بعثني لحاجة، ثم أدركته وهو يسير – وفي رواية له:[يصلي]-، فسلمت عليه، فأشار إلي، فلما فرغ دعاني، فقال:((إنك سلمت علي آنفاً، وأنا أصلي)) ، وهو موجه حينئذ قبل المشرق.

ويحتمل أنه إنما أشار إليه ليكف عن كلامه حينئذ، لم يكن رداً للسلام؛ ولهذا قالَ جابر: فلم يرد علي، وذكر أنه وجد في نفسه ما الله به عليم، ولو علم أنه رد عليهِ بالإشارة لم يجد في نفسه.

وفي رواية للنسائي: سلمت عليه، فأشار بيده، ثم سلمت فأشار بيده، فانصرفت، فناداني:((ياجابر)) ، فأتيته، فقلت: يا رسول الله، أني سلمت عليك، فلم ترد علي؟ فقالَ:((إني كنت أصلي)) .

ولو كانت إشارته رداً، لقال: قد رددت عليك.

وفي رواية لمسلم: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو منطلق إلى بني المصطلق، فأتيته وهو يصلي على بعيره، فقال لي بيده هكذا، ثم كلمته، فقال لي هكذا –وأنا أسمعه

يقرأ، يومئ برأسه -، فلما فرغ قال:((إنه لم يمنعني أن أكلمك إلا أني كنت أصلي)) .

فهذه الرواية: تدل علي أن إيماءه إليه إنما كان ليكف عن كلامه في تلك الحال.

واستدل من قال: يرد إشارة، بما روى نابل – صاحب العباء -، عن

ص: 359

ابن عمر، عن صهيب قال: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسلمت عليه، فرد علي إشارة.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وحسنه.

وقال: يعقوب بن شيبة: هو صالح الإسناد.

ونابل، قال ابن المديني ويعقوب بن شيبة: هو مديني ليس بالمشهور.

وسئل الدارقطني: أثقة هو؟ فأشار برأسه، أن لا.

وخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه من رواية زيد بن أسلم، عن ابن عمر، عن صهيب، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم – معناه.

وقد قيل: إن زيدا لم يسمعه من ابن عمر، وقد سئل عن ذلك فقال: أما أنا فقد كلمته وكلمني، ولم أقل: سمعته.

وممن قال: لم يسمعه من ابن عمر: ابن المديني ويعقوب بن شيبة.

ص: 360

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي – نحوه من حديث هشام بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر، عن بلال، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقد تكلم فيه ابن المديني ويعقوب بن شيبة؛ لتفرد هشام بن سعد به، وليس بالحافظ جداً.

وروى الليث: حدثني ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، أن رجلا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم

إشارة، فلما سلم قال:((قد كنا نرد السلام في الصلاة، فنهينا عن ذلك)) .

خرجه الجوزجاني والطبراني والبزار في ((مسنده)) .

وعندي؛ أن هذا يعلل برواية ابن عيينة وغيره، عن زيد بن أسلم، عن ابن

عمر، عن صهيب، كما تقدم.

وابن عجلان ليس بذاك

ص: 361

الحافظ.

وروى قيس بن سعد، عن عطاء، عن محمد بن علي، عن عمار، أنه سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فرد عليهِ.

خرجه النسائي في ((باب: رد السلام بالإشارة)) .

وخرجه الإمام أحمد، من طريق حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن محمد بن علي - هو: ابن الحنفية -، عن عمار – فذكره.

وخرجه البزار في ((مسنده)) ، وعنده:((فرد عليه إشارة)) .

وحمله ابن عيينة، على أنه رد عليه بالقول قبل تحريم الكلام، وأن رده انتسخ.

ونقل ابن أبي خيثمة، عن يحيى بن معين، أنه قال: هذا الحديث خطأ.

ورواه ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي، أن عماراً سلم على النَّبيّ صلى الله عليه وسلم.

وهذه الرواية مرسلة، وهي أصح.

وكذا رواه عبد الرزاق في ((كتابه)) ، عن ابن جريج، عن عطاء، عن

ص: 362

محمد بن علي بن حسين – مرسلاً.

قال ابن جريج: ثم لقيت محمد بن علي بن حسين، فحدثني به.

فتبين بهذا: أن محمد بن علي الذي روى هذا الحديث عن عمار هو أبو جعفر الباقر، وليس هو ابن الحنفية، كما ظنه بعضهم.

وقول ابن معين: إنه خطأ، يشير إلى من قال:((عن ابن الحنفية)) هو خطأ.

وأما رواية أبي الزبير، عن محمد بن علي:((هو: ابن الحنفية)) ، فهو ظن من بعض الرواة، فلا نحكم به.

وروايات حماد بن سلمة، عن أبي الزبير غير قوية.

ولعل أبا الزبير رواه عن أبي جعفر – أيضا -، أو عن عطاء، عنه ودلسه.

أو لعل حماد بن سلمة أراد حديث أبي الزبير، عن جابر، أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو صلي، فأشار إليه.

ومنها:

أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه من سلم عليهِ في الصلاة عن السلام عليه.

واستدل بذلك من قال: إنه لا يكره السلام على المصلي، وهو قول ابن عمر ومالك وأحمد وإسحاق – في رواية عنهم – ومروان بن محمد الدمشقي.

وقالت طائفة: يكره، وهو قول جابر بن عبد الله وعطاء والشعبي، الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق – في رواية عنهم.

ص: 363

واستدلوا بقوله لابن مسعود: ((إن في الصلاة شغلا)) ؛ فإن في ذَلِكَ إشارة إلى كراهة السلام عيله؛ ولأنه ينشغل [....] المصلي، وربما سهى بسببه فبادر الرد عليهِ.

ومن أصحابنا المتأخرين من قالَ: إن كانَ المصلي عالماً، يفهم كيف يرد عليهِ، لم يكره السلام عليهِ، وإلا كره.

فمن قال: إنه لا يكره السلام على المصلي، فمقتضى قوله: إنه لايستحق

جواباً، ولا يجب الرد عليه.

ومن قال: لايكره، فمنهم من قال: لايستحق جواباً، وإنما يستحب الرد في الحال بالإشارة، وهو قول الشافعية.

وحكى أصحابنا في وجوب الرد روايتين مطلقاً.

ص: 364

‌16 - باب

رفع الايدي في الصلاة لأمر ينزل به

ص: 365

1218 -

حدثنا قتيبة: حدثنا عبد العزيز، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني عمرو بن عوف بقباء، كان بينهم شيء، فخرج يصلح بينهم في أناس من أصحابه.

فذكر الحديث بطوله، وفيه:

أن النبي صلى الله عليه وسلم اشار إلى أبي بكر يأمره أن يصلي، فرفع أبو بكر يديه، فحمد الله، ثم رجع القهقرى وراءه، حتى قام في الصف، وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي للناس، فلما فرغ أقبل علي الناس، فقال:((ياأيها الناس، مالكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم في التصفيح؟ إنما التصفيح للنساء، من نابه شيء في صلاته فليقل: سبحان الله)) ، ثُمَّ التفت إلى أبي بكر، فقالَ:((يا أبا بكر، ما منعك أن تصلي بالناس حين أشرت إليك؟)) ، فقال أبو بكر الصديق:

ص: 365

ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي النبي

صلى الله عليه وسلم.

في الحديث: دليل على جواز رفع الأيدي في الصلاة لمن تجددت له نعمة، فيحمد الله عليها رافعاً يديه؛ فإن هذا فعله أبو بكر بحضرة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم ينكره، مع أنه صلى الله عليه وسلم أنكر على الناس التصفيح، وأمرهم بإبداله بالتسبيح، وسأل أبا بكر:((ما منعك أن تصلي للناس حين أشرت إليك؟)) ولم ينكر عليهِ ما فعله.

وفي رواية، خرجها الإمام أحمد في هذا الحديث، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ لأبي بكر:((لم رفعت يديك؟)) قالَ: رفعت يدي لأني حمدت الله على ما رأيت منك – وذكر الحديث.

وقد سبق الكلام على أن من تجددت لهُ نعمة في الصَّلاة: هل يحمد الله عليها؟ وأن عبيد الله العنبري استحسنه، وغيره جوزه، وخلاف من خالف في ذلك؛ فإن البخاري بوب على ذلك فيما سبق.

ومراد بهذا الباب: زيادة استحباب رفع الأيدي عند الثناء على الله في الصلاة.

ويعضده: ما خرجه مسلم في ((صحيحه)) من حديث عبد الرحمن بن سمرة، قال: كنت بأسهم لي بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كسفت الشمس فنبذتها، فقلت: والله، لأنظرن إلى ما حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كسوف الشمس. قال: فأتيته وهو قائم في الصلاة، رافعاً يديه،

ص: 366

فجعل يسبح ويهلل ويكبر، ويدعو حتى حسر عنها، فلما حسر عنها قرأ سورتين، وصلى ركعتين.

ويستدل بهذا القول من قال: إنه يرفع يديه في القنوت في الصلاة، وهو قول النخعي والثوري وأحمد وإسحاق ومالك والأوزاعي – في رواية عنهما.

وهو الصحيح عند أكثر أصحاب الشافعي.

ومنهم من قال: يرفعهما أولا لتكبير القنوت، ثم يرسلهما، وهو قول أبي حنيفة والليث بن سعد والحسن بن حي.

وقالت طائفة: لايرفعهما أصلاً.

وروي رفع اليدين في القنوت عن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة.

وخرج الإمام أحمد من حديث أنس، في حديث القراء السبعين الذين قتلهم حي من بني سليم، قال: فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وجد على شيء قط وجده عليهم، فلقد رأيته كلما صلى الغداة رفع يديه فدعا عليهم.

وإنما كان يدعو عليهم في قنوت الفجر بعد الركوع، كما سبق ذلك صريحاً عن أنس. والله أعلم.

ص: 367

‌17 - باب

الخصر في الصلاة

ص: 368

1219 -

حدثنا أبو النعمان: ثنا حماد، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، قال: نهي عن الخصر في الصلاة.

ص: 368

1220 -

حدثنا عمرو بن علي: حدثنا يحيى: نا هشام: ثنا محمد، عن أبي هريرة، قال: نهي أن يصلي الرجل مختصرا. وقال هشام وأبو هلال، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم. حاصل ما ذكره في هذا الباب: أن هذا الحديث اختلف في لفظه على ابن سيرين:

فرواه أيوب، عنه، عن أبي هريرة، قال:((نهي)) .

ثم خرجه من طريق يحيى القطان، عن هشام، عنه كذلك.

ثم قال: وقال هشام وأبو هلال، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة: نهى النبي صلى الله عليه وسلم – فصرحا برفعه.

وقد أشكل هذا على بعضهم، فقال: كيف يخرجه من طريق هشام [

] .

ثم يذكر أن هشاما صرح فيه بذكرالنبي صلى الله عليه وسلم؟

وقال بعضهم: إن الحديث في رواية أبي ذر الهروي، من طريق

ص: 368

يحيى، عن هشام – مرفوعا، وأنه الصواب.

وهذا هو عين الخطأ؛ فإن يحيى إنما رواه عن هشام بلفظ ((نهي)) .

وإنما مراد البخاري: أن هشاما اختلف عليهِ في ذكر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فخرجه من طريق القطان، عنه بلفظة:((نهي)) ، ثُمَّ ذكر أنه روي مصرحا برفعه.

وكذا ذكره الدارقطني في ((علله)) : أن هشاما اختلف عليه فيه، فرواه جماعة

عنه، وقالوا: نهى النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: زائدة وعبد الوهاب الثقفي وجرير بن عبد الحميد وغيرهم.

وقال الثوري والقطان وحفص بن غياث وأسباط بن محمد ويزيد بن هارون وحماد بن زيد، عن هشام:((نهي)) ، ولم يصرحوا برفعه.

إلا أن في رواية أسباط: ((نهينا)) ، وهذا كالتصريح.

ورواه أيوب وأشعث بن عبد الملك، عن محمد، عن أبي هريرة.

قال: وراوه عمران بن خالد، عن ابن سيرين. عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذا روي عن أبي جعفر الرازي، عن قتادة، عن ابن سيرين.

قال الدارقطني: وقد تقدم قولنا في أن ابن سيرين من تورعه وتوقيه، تارة يصرح بالرفع، وتارة يوميء، وتارة يتوقف، على حسب نشاطه في الحال انتهى.

ص: 369

ولم يذكر رواية أبي هلال، عن ابن سيرين، المصرحة بالرفع، التي علقها البخاري.

وخرج هذا الحديث مسلم في ((صحيحه)) من رواية أبي خالد وأبي أسامة وابن المبارك – جميعا –، عن هشام، مصرحا برفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم[أنه نهى] أن يصلي الرجل مختصراً.

وخرج ابن حبان في ((صحيحه)) من طريق عيسى بن يونس، عن هشام، عن محمد، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((الاختصار في الصلاة راحة أهل النار)) .

وقال: يعني: أنه فعل اليهود والنصارى، وهم أهل النار.

كذا خرجه؛ وإنما رواه عيسى بن يونس، عن عبيد الله بن الأزور، عن هشام بهذا اللفظ.

ص: 370

وكذا خرجه الطبراني والعقيلي من رواية عيسى بن يونس، عنه وقال العقيلي: لايتابع عبيد الله بن الأزور على لفظه.

و ((الاختصار)) ، فسره الأكثرون بوضع اليد على الخاصرة في الصلاة، وبذلك فسره الترمذي في ((جامعه)) ، وعليه يدل تبويب النسائي.

وروى الإمام أحمد في ((مسنده)) عن يزيد بن هارون، عن هشام، عن محمد، عن أبي هريرة، قال: نهي عن الاختصار في الصلاة. قلنا لهشام: ما الاختصار؟ قالَ: يضع يده على خصره وهو يصلي. قالَ يزيد: قلنا لهشام: ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم؟

قالَ برأسه – أي: نعم.

وبهذا التفسير فسره جمهور أهل اللغة، وأهل غريب الحديث، وعامة المحدثين والفقهاء، وهو الصحيح الذي عليه الجمهور.

وقد قيل: إنه إنما نهى عنه؛ لأنه فعل المتكبرين، فلا يليق بالصلاة.

ص: 371

وقيل: إنه فعل اليهود.

وقيل: فعل الشيطان.

فلذلك كرهه بعضهم في الصلاة وغيرها.

قد خرج البخاري في ((كتابه)) هذا في ((ذكر بني إسرائيل)) ، من رواية

مسروق، عن عائشة، أنها كانت تكره أن يجعل يده في خاصرته، وتقول: إن اليهود تفعله.

وخرجه سعيد بن منصور في ((سننه)) ، ولفظه: أن عائشة كانت تكره الاختصار في الصلاة، وتقول: لاتشبهوا باليهود.

وخرجه عبد الرزاق، ولفظه: إن عائشة نهت أن يجعل الرجل أصابعه في خاصرته في الصلاة، كما تصنع اليهود.

وروي عن عائشة، أنها قالت: هكذا أهل النار.

وعن ابن عباس، قال: إن الشيطان يحضر ذلك.

وعن مجاهد، قال: هو استراحة أهل النار في النار.

خرجه كله وكيع بن الجراح، وعنه ابن أبي شيبة.

وروى ابن أبي شيبة بإسناده، عن حميد الهلالي، قال: إنما كره

ص: 372

الخصر في الصلاة أن إبليس أهبط مختصراً.

وروى صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، قال: إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فلا يجعل يديه في خاصرته؛ فإن الشيطان يحضر ذَلِكَ.

خرجه عبد الرزاق.

وروى سعيد بن زياد الشيباني، عن زياد بن صبيح، قال: صليت جنب ابن

عمر، فوضعت يدي على خصري، فقال لي هكذا – ضربه بيده -، فلما صليت قلت: يا أبا عبد الرحمن، مارابك مني؟ قالَ: إن هذا الصلب، وأن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم نهانا عنه.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.

وزياد بن صبيح –ويقال: ابن صباح – الحنفي، وثقه ابن معين والنسائي

وغيرهما، وقال الدارقطني: يعتبر به.

قال: وسعيد بن

ص: 373

زياد الشيباني، الراوي عنه، لايحتج به، ولكن يعتبر به، قال: لا أعرف له إلا هذا الحديث -: نقله عنه البرقاني.

وسعيد بن زياد، قال ابن معين: صالح. ووثقه ابن حبان.

وحكى ابن المنذر كراهة الاختصار في الصلاة على هذا الوجه عن ابن عباس وعائشة ومجاهد والنخعي وأبي مجلز ومالك والأوزاعي وأصحاب الرأي. انتهى.

وهو قول عطاء والشافعي وأحمد – أيضا.

ومن الناس من فسر الاختصار في حديث أبي هريرة بأن يمسك بيده شيئاً يعتمد عليه في الصلاة؛ فإن العصى ونحوها مما يعتمد عليهِ يسمى مخصرة.

وفسره بعضهم باختصار السورة، فيقرأ بعضها.

وفسره بعضهم باختصار افعال الصلاة، فلا يتم قيامها ولا ركوعها ولا

سجودها.

وقد بوب أبو داود في ((سننه)) على ((التخصر والإقعاء في الصلاة)) ،

ص: 374

فخرج فيه: حديث ابن عمر المشار إليه.

ثم بوب على ((الاختصار في الصلاة)) ، وخرج فيه: حديث أبي هريرة هذا.

ثم اتبعه: ((باب: يعتمد في الصلاة على عصى)) .

فلعله فسر الاختصار بالاعتماد، كما قال بعضهم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 375

‌18 - باب

تفكر الرجل الشيء في الصلاة

وقال عمر: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة.

روى ابن عون، عن الشعبي، قال: قال أبو موسى الأشعري: صلى بنا عمر ولم يقرأ، فقلت: لم تقرأ، فقال: لقد رأيتني أجهز عيراً بكدى وأفعل كذا، فأعاد

الصلاة.

ورواه يونس، عن الشعبي، عن زياد بن عياض الأشعري، أن عمر صلى بهم المغرب فلم يقرأ، ثم قال: إنما شغلني عن الصلاة عير جهزتها إلى الشام، فجعلت أفكر في أحلاسها وأقتابها.

خرجه صالح ابن الإمام أحمد في ((مسائله)) ، عن أبيه بإسناده.

وخرجه - أيضا - من وجه آخر عن الشعبي، عن عمر - مرسلا.

ص: 376

وقد سبق ذكر بعض طرقه في ((أبواب القراءة في الصلاة)) .

وروى الأعمش، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث، أن عمر صلى بالناس المغرب، ولم يقرأ فيها شيء، فلما فرغ قالوا له: يا أمير المؤمنين، إنك لم تقرأ شيئاً؟ قالَ: لم أزل أنزل البعير منزلا منزلا، حتَّى وردت الشام، ثُمَّ أعاد الصَّلاة.

[خرجه] الجوزجاني.

وليس فكر عمر في تجهيز الجيوش في الصلاة من حديث النفس المذموم، بل هو من نوع الجهاد في سبيل الله؛ فإنه كانَ عظيم الاهتمام بذلك، فكان يغلب عليهِ الفكر فيهِ في الصَّلاة وغيرها.

ومن شدة اهتمامه بذلك غلب عليه الفكر في جيش سارية بن زنيم بأرض

العراق، وهو يخطب يوم الجمعة على المنبر، فألهمه الله، فناداه، فاسمعه الله صوته، ففعل سارية ما أمره به عمر، فكان سبب الفتح والنصر.

وقال سفيان الثوري: بلغني أن عمر قال: إني لأحسب جزية البحرين وأنا في الصلاة.

ورواه وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عمر قاله.

ص: 377

وهذا كله من شدة اهتمام عمر بأمر الرعية، وما فيه صلاحهم، فكان يغلب عليه ذلك في صلاته، فتجتمع له صلاة وقيام بأمور الأمة وسياسته لهم في حالة واحدة.

خرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث:

الاول:

ص: 378

1221 -

حديث: عمر بن سعيد، عن ابن أبي مليكة، عن عقبة بن الحارث، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العصر، فلما سلم قام سريعاً، ودخل على بعض نسائه، ثم خرج ورأى ما في وجوه القوم من تعجبهم لسرعته، فقال:((ذكرت وأنا في الصلاة تبراً عندنا، فكرهت أن يمسي – أو يبيت – عندنا، فأمرت بقسمته)) .

خرجه عن إسحاق بن منصور، عن روح.

وخرجه – فيما تقدم – من طريق عيسى بن يونس، عن عمر.

وخرجه في ((الزكاة)) – أيضا – من طريق أبي عاصم، عن عمر، به، وفيه: أنه كان من تبر الصدقة.

وهذا الذي وقع للنبي صلى الله عليه وسلم من جنس ما كان يقع لعمر؛ فإن مال

ص: 378

الصدقة تشرع المبادرة بقسمته بين أهله ومستحقيه، فكان من شدة اهتمام النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك يتذكره في صلاته، فيقوم عقب ذَلِكَ مسرعا حتَّى يقسمه بين أهله.

وهذا كله من اجتماع العبادات وتداخلها، وليس هم من باب حديث النفس المذموم.

الحديث الثاني:

ص: 379

1222 -

نا يحيى بن بكير: نا الليث، عن جعفر، عن الأعرج: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أذن بالصلاة ادبر الشيطان وله ضراط، حتى لايسمع

التأذين، فإذا سكت المؤذن أقبل، فإذا ثوب أدبر، فإذا سكت أقبل، فلا يزال بالمرء يقول له: اذكر ما لم يكن يذكر، حتى لايدري كم صلى)) .

قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: إذا فعل ذلك أحدكم، فليسجد سجدتين وهو قاعد.

وسمعه أبو سلمة من أبي هريرة.

وقد خرجه في ((باب: التأذين)) من رواية مالك، عن أبي الزناد، عن

الأعرج، عن أبي هريرة – إلى قوله:((لايدري كم صلى)) – أيضا.

ص: 379

وأما باقي الحديث، وهو الأمر بسجود السهو لذلك، فإنما رواه أبو سلمة، عن أبي هريرة، وهو مرفوع، وليس من قول أبي هريرة.

والقائل: ((قال أبو سلمة)) ، لعله جعفر بن ربيعة. والله أعلم.

وقد خرجه البخاري في ((أبواب السهو)) ، كما يأتي قريبأ – إن شاء الله تعالى– من رواية هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي

هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن رواية مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي

صلى الله عليه وسلم.

وفي حديثهما: ((فليسجد سجدتين وهو جالس)) .

وخرجه في ((بدء الخلق)) من طريق الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير – أيضا.

والمقصود من تخريجه في هذا الباب: أن الشيطان يأتي المصلي، فيذكره ما لم يكن يذكره، حتى يلبس عليه صلاته، فلا يدري كم صلى، وإن صلاته لاتبطل بذلك، بل يؤمر بسجود السهو؛ لشكه في صلاته.

وقد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على ذَلِكَ.

ومنهم من قال: هو إجماع من يعتد به.

وهذا يشعر بأنه خالف فيه من لا يعتد به.

ص: 380

وقد قال طائفة قليلة من متأخري أصحابنا والشافعية: أنه إذا غلب الفكر على المصلي في أكثر صلاته، فعليه الإعادة؛ لفوات الخشوع فيها.

وكذا قالَ أبو زيد المروزي من الشافعية، في المصلي وهو يدافع الأخبثين: أنه إذا اذهب ذَلِكَ خشوعه، فعليه الإعادة.

وقال ابن حامد من أصحابنا: متى كثر عمل القلب وفكره في الصلاة في أمور الدنيا أبطل الصلاة، كما يبطلها عمل الجسد إذا كثر.

والحديث حجة على هذه الأقوال كلها.

وقد استدل لوجوب الخشوع في الصلاة بحديث مختلف في إسناده، وقد ذكرناه مع الإشارة إلى هذه المسألة في ((باب: الخشوع في الصلاة)) ، فيما مضى.

الحديث الثالث:

ص: 381

1223 -

نا محمد بن المثنى: حدثنا عثمان بن عمر: أنا ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، قال: قال أبو هريرة: يقول الناس: أكثر أبو هريرة، فلقيت رجلاً فقلت: بم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم البارحة في العتمة؟ قالَ: لا أدري. فقلت: لم تشهدها؟ قال:

بلى. فقلت:

ص: 381

لكن أنا أدري، قرأ سورة كذا وكذا.

مراد أبي هريرة – رضي الله عنه: أن يبين للناس امتيازه عن غيره بضبط أمور النبي صلى الله عليه وسلم، واعنائه بها، وحفظه لها، وإذا كان كذا لم يستبعد أن يكون قد حفظ ما لم يحفظه غيره.

وهذه الواقعة كانت جرت له في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فحفظ قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء، ولم يحفظها بعض من شهد العشاء معه، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وظاهر السياق: يقضي أنه من حينئذ كان يقال: أكثر أبو هريرة، وهو بعيد.

والظاهر – والله اعلم -: أنه إنما قيل ذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حين أكثر أبو هريرة من الرواية عنه.

فاستدل أبو هريرة بحفظه ما لم يحفظه غيره بهذه القصة التي جرت له مع بعض الصحابة، حيث حفظ ما قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء، ولم يحفظ ذلك غيره ممن صلى معه.

واعلم؛ أن عدم حفظ المصلي لما قرأ به امامه لها حالتان:

أحدهما: أن يكون ذَلِكَ عقب انصرافه من الصَّلاة، فهذا إنما يكون غالباً من عدم حضور القلب في الصَّلاة، وغلبه الفكر والوساوس فيها.

وقد ذكرنا في ((باب: القراءة في الصلاة)) ، عن أحمد، أنه قال – فيمن

ص: 382

صلى مع إمام، فلما خرج من الصلاة قيل له: ما قرأ الإمام؟ قالَ: لا أدري – قالَ: يعيد الصَّلاة.

وإن الأصحاب اختلفوا في وجهها على ثلاث طرق لهم فيها.

وقد ورد حديث مرفوع، يستدل به على أن لا اعادة على من لم يحفظ ذلك:

فروى البزار ((مسنده)) ، عن عمرو بن علي: سمعت يحيى بن كثير، قال: حدثنا الجريري، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بأصحابه، فقال:((كيف رأيتموني صليت؟)) قالوا: ما أحسن ما صليت، قالَ:((قد نسيت آية كيت وكيت، وإن من حسن صلاة المرء أن يحفظ قراءة الإمام)) .

الحالة الثانية: أن يكون ذلك بعد مضي مدة من الصلاة، فهذا يكون غالباً من النسيان بعد الحفظ، لا من سهو القلب في الصلاة، وهذا هو الذي أراده أبو هريرة بحديثه هذا.

وحينئذ؛ ففي تخريجه في الباب نظر؛ لأن الباب معقود لحديث

ص: 383

النفس في الصلاة والوسوسة فيها، وهو ينقسم إلى المذموم - وهو حديث النفس بأمور [الدنيا] وتعلقاتها -، وإلى محمود - وهو حديث النفس بأمور الآخرة وتعلقاتها -، ومنه ما يرجع إلى ما فيه مصلحة المسلمين من أمور الدنيا، كما كان عمر يفعله.

وقد خرج البخاري في ((أبواب الوضوء)) حديث عثمان، فيمن توضأ ثم صلى ركعتين، لا يحدث فيهما نفسه، أنه يغفر له ما تقدم من ذنبه، وسبق الكلام عليه في موضعه.

ص: 384

[كتاب السهو]

بسم الله الرحمن الرحيم

‌1 - باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفرض

ص: 385

1224 -

حدثنا عبد الله

بن يوسف: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن

الأعرج، عن عبد الله بن بحينة، أنه قال: صلى لنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم]

ركعتين من

بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى صلاته ونظرنا

تسليمه، كبر قبل

التسليم، فسجد سجدتين وهو جالس، ثم سلم.

ص: 385

1225 -

حدثنا عبد الله بن يوسف: نا مالك، عن يحيى بن سعيد

، عن

عبد الرحمن الأعرج، عن عبد الله بن بحينة، أنه قال: إن رسول الله

ص: 385

[صلى الله عليه وسلم] قام من

اثنتين من الظهر، لم

يجلس بينهما، فلما قضى صلاته سجد سجدتين، ثم سلم

بعد ذلك.

قد خرج البخاري هذا الحديث فيما سبق في "

أبواب التشهد "، من حديث

شعيب، عن الزهري، ومن حديث جعفر بن ربيعة، عن الأعرج.

وفي حديثهما:

أن ذلك كان في صلاة الظهر.

وقد أجمع العلماء على أن من ترك التشهد الأول من الصلاة الرباعية أو

المغرب،

وقام إلى الثالثة سهوا، فإن صلاته صحيحة، ويسجد للسهو.

وقد روي ذلك عن خلق من الصحابة، بأنهم فعلوه.

وروي عن عمر، أنه تشهد مرتين، فقضى التشهد الأول في تشهده

الأخير.

روى سفيان الثوري: حدثني أبي،

عن الحارث بن شبيل، عن عبد الله

ابن شداد، قال: قام عمر في الركعتين فمضى، فلما سلم في آخر صلاته سجد

سجدتين، وتشهد مرتين.

وقال عبد الرزاق: عن ابن جريج: قال عطاء: إذا قام في قعود، فإذا

فرغ من صلاته

سجد سجدتي السهو، وتشهد

ص: 386

تشهدين.

وإن كان ترك التشهد الأول عمدا، ففي بطلان صلاته اختلاف، ذكرناه في

التشهد.

وإذا كان ساهيا فله ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يستمر سهوه حتى يقرأ في الركعة الثالثة، فإنه يستمر ولا

يرجع

إلى السجود عند جمهور العلماء.

وروي عن الحسن، أنه يجلس للتشهد، وإن قرأ، ما لم يركع.

وهذا

يدل على أن التشهد الأول عنده واجب متأكد.

الحالة الثانية: أن لا يستمر قائما، فقال الجمهور: له أن يرجع.

وقال أحمد: يجب أن يرجع، بناء على قوله: إن هذا التشهد واجب.

ويسجد للسهو، وإن رجع، عند جمهور

العلماء، وهو [قول]

عبد الرحمن بن أبي ليلى والشافعي وأحمد.

وروي عن النعمان بن بشير، وعن أنس بن

مالك، أنهما فعلاه.

وروي عن أنس، أنه فعله، وقال: هو السنة.

رواه سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن أنس.

قال

الدارقطني: لم يقله عن يحيى غيره. قال: وزيادة الثقة مقبولة.

وقال طائفة: إذا رجع لم يسجد للسهو، وهو قول

علقمة

ص: 387

والأوزاعي،

وهو أحد قولي الشافعي.

وحكي عن بعض أصحابنا - أيضا - وهو ابن حامد -، أنه إذا

رجع قبل أن

يستتم قائما لم يسجد.

وقال مالك: إذا فارقت أليته الأرض وناء للقيام لم يرجع، ويسجد

للسهو.

وقال حسان بن عطية: إذا تجافت ركبتاه عن الأرض مضى.

وعند أبي حنيفة: إن كان إلى القعود أقرب عاد

فجلس وتشهد، وإن كان

إلى القيام أقرب لم يقعد، ويسجد للسهو.

الحالة الثالثة: أن يستتم قائما ولا يقرأ، وفيه

قولان:

أحدهما: لا يجوز أن يجلس، وحكي عن علقمة والضحاك وقتادة، وهو

قول أبي حنيفة والأوزاعي ومالك

والشافعي وأحمد - في رواية -، وهي

المذهب عند ابن أبي موسى.

وممن كان لا يجلس إذا استتم قائما: سعد

بن أبي وقاص وعقبة بن عامر

وابن الزبير وغير واحد من الصحابة.

ص: 388

والثاني: أن له أن يرجع، ما لم يشرع في

القراءة، وهو قول النخعي

وحماد والثوري - مع قوله بكراهة الرجوع.

وروي نحوه عن الأوزاعي - أيضا -، وهو قول أحمد - في المشهور، عنه

عند أكثر أصحابه -، ووجه

لأصحاب الشافعي، وحكاه ابن عبد البر عن مالك

والشافعي.

واستدلوا بأن القراءة هي المقصود الأعظم من القيام

، من لم يأت به فلم

يأت بالمقصود من القيام، فكأنه لم يوجد القيام تاما.

وفي هذا نظر.

وحكى ابن عبد البر

عن جمهور العلماء القائلين بأنه لا يرجع إذا تم قيامه:

أنه إذا رجع لم تفسد صلاته؛ لأن الأصل ما فعله، وترك

الرجوع له رخصة.

وحكى عن بعض المتأخرين أنه تفسد صلاته. قال: وهو ضعيف.

كذا قال.

ومذهب

الشافعي عند أصحابه: أنه إن رجع عالما بالحال بطلت صلاته.

والجمهور على كراهة الرجوع، وإن لم تفسد به

الصلاة عند من يرى ذلك،

وإنما حكي الخلاف في كراهته عن أحمد.

وقوله: " إن الرجوع هو الأصل، وتركه

رخصة "، ليس كما قال، بل

الأصل أن من تلبس بفرض أنه يمضي فيه، ولا يرجع إلا إلى ما هو فرض

مثله،

فأما إن رجع من فرض إلى سنة، فليس هو الأصل، وإنما ي

ص: 389

جيء الرجوع

على قول من يقول: إن التشهد واجب،

وابن عبد البر لا يرى ذلك.

واستدل من لم يجوز الرجوع بما روى جابر الجعفي، عن المغيرة بن

شبيل، عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة

بن شعبة، عن النبي [صلى الله عليه وسلم]، قال:

" إذا قام أحدكم فلم يستتم قائما فليجلس، وإذا استتم قائما فلا يجلس، ويسجد

سجدتي السهو ".

خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه.

وجابر الجعفي، ضعفه الأكثرون.

وهذا كله في

قيامه من التشهد الأول في الصلاة المفروضة، كما بوب عليه

البخاري، فإن كانت صلاته نفلا، وكان نوى ركعتين،

ثم قام إلى ثالثة نهارا،

فهو مخير، إن شاء أتمها أربعا - وهو أفضل؛ لأن صلاة أربع بالنهار لا كراهة

فيها،

وبذلك يصون عمله عن الإلغاء، فكان أولى -، وإن شاء رجع وتشهد

وسجد للسهو، هذا قول أصحابنا وجمهور

العلماء.

ومن الشافعية من قال: الأفضل أن يرجع؛ لئلا يزيد على ركعتين.

ص: 390

وروي عن مالك: الأفضل

السجود، ما لم يركع في الثالثة.

وعنه: ما لم يرفع رأسه من ركوعها، ثم يكون المضي أفضل.

ومتى أتمها

أربعا، فعند أصحابنا: إن كان قد تشهد عقيب الركعتين لم

يسجد، وإلا سجد.

وحكي عن مالك والأوزاعي

والشافعي: يسجد لتأخيره السلام عن هذا

التشهد.

وإن كان ذلك في صلاة الليل، فإنه يرجع ولا يتمها أربعا،

ويسجد

للسهو -: نص عليه أحمد.

فإن أتمها أربعا، ففي بطلان صلاته وجهان، بناء على الوجهين في صحة

تطوعه

بالليل بأربع.

وحكي عن مالك والشافعي: أن الأفضل أن يمضي فيها.

وقال الأوزاعي ومالك - في رواية -:

إن كان قد ركع في الثالثة لم

يرجع، وإلا رجع.

وعن مالك رواية: أنه يراعي الرفع في الركوع، كما سبق عنه.

وقال الثوري - في رجل صلى تطوعا ركعتين، فسها فقام في الثالثة -: كان

الشعبي يقول: يمضي ويجعلها

أربعا.

وقال الثوري: وأحب إلي أن يجلس ويسلم.

ص: 391

‌2 - باب إذا صلى خمسا

ص: 392

1226 -

حدثنا أبو الوليد: نا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن علقمة،

عن عبد الله، أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] صلى الظهر خمسة، فقيل له: أزيد في الصلاة؟

قال: " وما ذاك؟ " قالوا: صليت

خمسا، فسجد سجدتين بعد ما سلم.

وقد خرجه البخاري في " أبواب استقبال القبلة " - فيما مضى -، من

رواية

منصور، عن إبراهيم بهذا الإسناد، بسياق مطول، وفي حديثه: قال

إبراهيم: " لا أدري زاد أو نقص ".

وذكر

في الحديث: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] سجد سجدتين، ثم سلم.

وزاد في آخر الحديث: " وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر

الصواب،

فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين ".

وخرجه مسلم من رواية الأعمش، عن إبراهيم، به،

ولفظه: صلى

رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فزاد أو نقص - قال إبراهيم: الوهم مني - فقيل: يا رسول

الله: أزيد في الصلاة

شيء؟ قال: " إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا

نسي أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس "، ثم تحول

رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، فسجد

سجدتين.

وقد اتفقت الروايات عن إبراهيم في هذا الحديث: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] لما

ص: 392

ذكر

بسهوه

لم يزد على أن سجد سجدتين.

وهذا يدل على أنه كان سهوه بزيادة ولا بنقص، فإنه لو كان سهوه بنقص

لأتى بما نقص من صلاته ثم سجد، فلما

اقتصر على سجدتي السهو دل على أن

صلاته كانت قد تمت، وأن السهو كان في الزيادة فيها.

ولكن رواه أبو

بكر الحنفي، عن مسعر، عن منصور، وقال في حديثه:

ثم قام النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فأتم صلاته، وسجد سجدتين بعد ما سلم.

وذكر إتمامه صلاته زيادة [غير] محفوظة، لم يقلها غير أبي بكر

الحنفي، وهو ثقة يتفرد بغرائب، ولم يتابع

على هذه الزيادة.

وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن سويد النخعي، عن علقمة، عن

ابن مسعود، أن النبي [صلى الله عليه وسلم]

صلى بهم الظهر خمسا، فلما انفتل توشوش القوم

بينهم. فقال: " ما شأنكم؟ " قالوا: يا رسول الله، هل زيد في

الصلاة؟

قال: " لا "، قالوا، فإنك قد صليت خمسا، فانفتل، ثم سجد سجدتين، ثم

سلم، ثم قال: " إنما أنا بشر

مثلكم، أنسى كما تنسون ".

خرجه مسلم.

وفي رواية له - أيضا - بهذا الإسناد -: " فإذا نسي أحدكم فليسجد

سجدتين ".

ص: 393

وخرجه مسلم - أيضا - من طريق أبي بكر النهشلي، عن عبد الرحمن بن

الأسود، عن أبيه، عن

عبد الله، قال: صلى بنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] خمسا،

فقلنا: يا رسول الله، أزيد في الصلاة؟ قال:" وما ذاك؟ " قالوا

: صليت

خمسا. قال: " إنما أنا بشر مثلكم، أذكر كما تذكرون، وأنسى كما تنسون "،

ثم سجد سجدتي السهو.

وإلى هذا الحديث ذهب جمهور أهل العلم، وأنه إذا صلى رباعية خمسا

أو أكثر من ذلك

، أو المغرب أربعا أو أكثر، أو الفجر ثلاثا أو أكثر، ثم ذكر بعد

سلامه أنه يسجد سجدتي السهو، وتجزئه صلاته.

وروي ذلك عن علقمة والحسن وعطاء والزهري والنخعي، وهو قول مالك

والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد

وإسحاق وأبي ثور، وفقهاء أهل الحديث

جملة.

وقالت طائفة: إن لم يكن قعد بعد الركعة الأخيرة من صلاته قدر

التشهد

فسدت صلاته، وعليه الإعادة، وإن كان قعد عقيب انقضاء صلاته قدر التشهد

أجزأه، وهو قول جماعة من

الكوفيين، منهم: حماد

ص: 394

وأبو حنيفة والثوري.

وقالوا: إذا لم يذكر حتى سجد في الخامسة، ولم يكن قعد عقيب

الرابعة

تحولت صلاته نفلا، وشفعها بسادسة.

ولو لم يشفعها جاز عند أبي حنيفة وأصحابه إلا عند زفر؛ فإنه لا

بد أن

يشفعها؛ لأنه بتلبسه بالخامسة لزمه إتمام ما شرع فيه من النفل.

وإن كان جلس عقيب الرابعة، ثم ذكر بعد

تمام الخامسة ضم إليها ركعة

أخرى، وكانت الركعتان نافلة.

واختلف الحنفية: هل تجزئانه من سنة الصلاة بعدها

، أو لا؟

واستدل الجمهور بحديث ابن مسعود، وقد روي عنه أنه عمل بمقتضاه،

وكذلك عمل به علقمة راوية

عنه، وهما أعلم بمدلول ما روياه.

والظاهر: أنه لم يكن قعد عقيب الرابعة؛ لأنه قام إلى الخامسة معتقدا أنه

قام

عن ثالثة، ولأن هذا زيادة في الصلاة من جنسها سهوا، فلا تبطل به

الصلاة، كما لو ذكر قبل أن يسجد في الخامسة، فإن هذا قد وافقوا عليه، وأن

صلاته لا تبطل بذلك، وأنه يرجع

فيتشهد ويسلم، وتجزئه صلاته، ولا فرق

في هذا بين صلاة وصلاة.

وحكي عن قتادة والأوزاعي: أن من صلى

المغرب أربعا، ثم ذكر، أنه

يأتي بخامسة، يقطعها على وتر.

وروى جابر، الجعفي، عن الشعبي

ص: 395

وسالم والقاسم

وعطاء - في رجل

صلى المغرب أربعا -، قالوا: يعيد.

قال أحمد: إنما يرويه جابر.

يعني: أنه تفرد به،

وهو ضعيف مشهور.

وذهب بعض المالكية إلى أن من زاد في صلاته مثل نصفها سهوا، أن

صلاته تبطل. ورد

ابن عبد البر ردا بليغا.

وروى زياد بن عبيد الله الزيادي، عن حميد، عن أنس، أن النبي [صلى الله عليه وسلم]

صلى الظهر ست

ركعات.

وروى ابن وهب في " مسنده "، عن معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية،

أن النبي [صلى الله عليه وسلم] صلى الظهر

سبع ركعات، وعليه حلة حرير، أهداها له أكيدر

دومة، فلما انصرف نزعها، وقال: " إني نظرت إليها،

ص: 396

فألهتني

عن صلاتي ".

وهذا مرسل.

وفي الحديث: دليل على أنه يسجد للسهو، إذا لم يذكره إلا بعد السلام،

وإن

كان قد تكلم بينهما، وبهذا قال علقمة وعطاء والثوري والشافعي وإسحاق

وأحمد.

لأن السجود مرسل هنا، منقول بعد السلام، فلا يمنع الكلام فعله،

كالتكبير في أيام التشريق، هكذا علله بعض

أصحابنا.

ويقتضي ذلك: أنه لا يمنع السجود فيه إن تكلم بعد ذكره عمدا.

وفي بعض روايات حديث ابن مسعود

ما يدل على ذلك، وأن النبي [صلى الله عليه وسلم]

تكلم بعد تذكيرهم له بزيادته، ثم سجد.

وقال أبو حنيفة: متى تكلم لم يسجد؛

لأن الكلام ينافي الصلاة.

واختلفوا: هل يعتبر أن لا يطول الفصل بين السلام من الصلاة والسجود،

أم لا؟ وفيه

قولان:

أحدهما: يعتبر ذلك، فإن طال الفصل امتنع السجود؛ لأن سجود السهو

تكملة للصلاة، فلا يبنى عليها

مع طول الفصل، كسائر أفعال الصلاة، وهذا

قول الشافعي - في أصح قوليه، وهو الجديد منهما -

ص: 397

وأحمد - في

إحدى

الروايتين.

واعتبر - أيضا - ألا يكون خرج من المسجد، وعليه أكثر أصحابه.

ومنهم من لم يعتبره،

وهو قول الشافعي وأصحابه، وهو رواية أخرى من

أحمد، ومذهب الثوري وغيره من العلماء.

والثاني: لا

يعتبر قرب الفصل، بل يسجد وإن طال الفصل، وهو قول

الضحاك ويحيى بن سعيد والثوري ومكحول والأوزاعي

والحسن بن حي

والشافعي - في قوله الآخر - وأحمد - في الرواية الأخرى.

لأنه جبران، يفعل بعد التحلل من

العبادة، فيجوز فعله بعد طول الزمان

كجبران الحج.

وقال مالك: إن كان السجود بعد السلام جاز فعله إذا ذكره

، وإن طال

الزمان، وإن كان قبل السلام لم يفعله إلا مع قرب الفصل، فإن تباعد أعاد

الصلاة؛ لأنه جزء من الصلاة.

وروى ابن وهب، عن مالك، أنه يفعله مطلقا، وإن طال الزمان، ما لم

ينتقض وضوؤه.

وعن ابن شبرمة

والحكم: يسجد ما لم يخرج من المسجد، فإن خرج أعاد

الصلاة.

وقال أبو حنيفة: يسجد ما لم يخرج من المسجد

ص: 398

أو يتكلم.

وقال عطاء: يسجدهما ما لم يتم، ولو اتكأ، ثم ذكر، جلس فسجد،

وإن قام فليصل ركعتين، ولا

يسجد للسهو.

وقال الليث بن سعد: يسجد ما لم ينتقض وضوؤه.

وعن الحسن وابن سيرين: يسجد ما لم

يصرف وجهه عن قبلته، فإن صرفه

لم يسجد.

وحديث ابن مسعود صريح في رد هذا، وقد سبق القول فيه في "

أبواب

استقبال القبلة ".

وللشافعية وجه: أنه لا يسجد مع قرب الفصل - أيضا -؛ لفوات محله،

وهو قبل

السلام عندهم.

قال بعضهم: وهذا غلط؛ لمخالفته للسنة.

قالوا: وهل يكون هذا السجود عائدا إلى حكم الصلاة

؟ فيه وجهان.

ولهما فوائد:

منها: لو تعمد الكلام في هذا السجود والحديث، فإن قيل: إنه عائد إلى

الصلاة

بطلت صلاته، وعلى الآخر لا تبطل.

ومنها: إن قيل: عائد إلى الصلاة، لم يكبر الافتتاح، ولم يتشهد، بل

يسلم بعد السجود، وعلى الآخر يكبر للافتتاح.

وفي تشهده وجهان، أصحهما: لا يتشهد؛ لأنه لم يصح فيه عن النبي [صلى الله عليه وسلم]

شيء.

قالوا: ويسلم على

الصحيح، سواء تشهد أو لا؛ للأحاديث الصحيحة

المصرحة بأنه [صلى الله عليه وسلم] سجد ثم سلم.

ومذهب الثوري إذا أحدث في

سجدتي السهو لم تبطل صلاته،

ص: 399

وليست

بمنزلة الصلاة.

واستدل طائفة بهذا الحديث على من زاد في صلاته

سهوا، فإنه يسجد لذلك

بعد السلام؛ لأن النبي [صلى الله عليه وسلم] سجد بعد السلام، وهذا قول مالك وأبي ثور ورواية

عن أحمد.

وحكي عن أحمد: أن زيادة عدد الركعات خاصة يسجد لها بعد السلام

مطلقا - وهو الذي حكاه الترمذي في " جامعه "

عن أحمد، وحكى

القاضي أبو يعلى في ذلك روايتين - لو ذكر قبل السلام، أنه يسلم ثم يسجد

بعد السلام.

وقد

ذهب إليه بعض أهل الحديث.

والذي عليه جمهور العلماء: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] إنما سجد في حديث ابن مسعود

بعد

سلامه؛ لأنه لم يشعر بسهوه إلا بعد السلام من صلاته، فكان سجوده بعد

السلام؛ فإنه إنما سلم ظانا أن صلاته لا

زيادة فيها، وإنما علم بالزيادة فيها بعد

ذلك.

وقد صرح الإمام أحمد بهذا المعنى في رواية حرب، وغيره.

وسيأتي القول في محل سجود السهو فيما بعد - إن

شاء الله تعالى.

ص: 400

‌3 - باب

إذا سلم في الركعتين أو في ثلاث سجد [سجدتين]

مثل سجود الصلاة أو أطول

ص: 401

1227 -

حدثنا آدم: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن

أبي هريرة، قال: صلى بنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] الظهر

أو العصر، فقال له ذو اليدين:

الصلاة يا رسول الله، نقصت؟ فقال النبي [صلى الله عليه وسلم] لأصحابه:" أحق ما يقول؟ "

قالوا

: نعم. فصلى ركعتين أخريين ثم سجد سجدتين.

قال سعد: ورأيت عروة بن الزبير صلى من المغرب ركعتين،

ص: 401

فسلم وتكلم،

ثم صلى ما بقي، وسجد سجدتين، وقال: هكذا فعل النبي [صلى الله عليه وسلم] .

بوب البخاري هذا الباب، على أن

من سلم من نقص ركعتين أو ركعة من

صلاته، فإنه يأتي بما بقي عليه، ويسجد سجدتين مثل سجود الصلاة أو

أطول، وتجزئه صلاته.

ولم يخرج الحديث من الرواية التي فيها: " وسجد سجدتين مثل سجوده

أو أطول "،

وإنما خرجها فيما بعد من حديث ابن سيرين، عن أبي هريرة.

وهذه الرواية المخرجة في هذا الباب من أهل

المدينة، رواها سعد بن

إبراهيم الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، [و] عن

عروة، عن

النبي [صلى الله عليه وسلم] .

ولعل البخاري إنما صدر طرق حديث أبي هريرة برواية المدنيين؛ لأن هذه

الرواية فيها متابعة لرواية البصريين

في ذلك السجود للسهو، وإن كانت رواية

البصريين فيها زيادة ذكر طول السجود.

وقد ذكر النسائي: أنه لا يعلم

أحدا ذكر عن أبي سلمة في هذا

الحديث: " ثم سجد سجدتين " غير سعد بن إبراهيم.

ص: 402

ثم خرجه من طريق عمران

بن أبي أنس ويحيى بن أبي كثير والزهري، عن

أبي سلمة، عن أبي هريرة - ولم يذكر فيه سوى قضاء الركعتين.

وخرجه مسلم من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة - ولم يتم

لفظ الحديث، بل اختصره.

وقال أبو

داود: رواه يحيى بن أبي كثير وعمران بن أبي أنس، عن أبي

سلمة - والعلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه - عن

أبي هريرة - ولم يذكروا: أنه

سجد السجدتين.

ورواه ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة، وقال فيه:

" ولم

يسجد للسهو ".

قلت: قد خرجه الإمام أحمد، عن حجاج، عن ابن أبي ذئب - فذكر

الحديث، وقال في

آخره - قال ابن أبي ذئب: قال الزهري: سألت أهل

العلم بالمدينة، فما أخبرني أحد أن النبي [صلى الله عليه وسلم] صلاهما.

يعني: سجدتي السهو.

فرجعت رواية نفي السجود إلى الزهري، ورواية الزهري بذلك

ص: 403

غير معروفة

[ولا] مشهورة.

وقد روى

الزهري هذا الحديث عن سعيد وأبي سلمة وعبيد الله بن

عبد الله، عن أبي هريرة.

خرجه أبو داود من طريق

الأوزاعي، عنه بهذا الإسناد، وفي حديثه:

ولم يسجد سجدتي السهو حتى يقنه الله ذلك.

وخرجه أبو داود

والنسائي من رواية صالح بن كيسان، عن الزهري،

عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة - مرسلا.

قال

الزهري: وأخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - وأبو سلمة

وأبو بكر بن الحارث بن هشام وعبيد الله بن

عبد الله.

وخرجه الإمام أحمد وابن حبان في " صحيحه " من طريق معمر، عن

الزهري، عن أبي سلمة وأبي

بكر بن سليمان، عن أبي هريرة.

وخرج النسائي من طريق الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن

سعيد

وأبي سلمة وأبي بكر بن عبد الرحمن وابن أبي حثمة، عن أبي هريرة،

عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، أنه لم يسجد يومئذ قبل

التسليم ولا بعده.

ص: 404

وخرجه مالك في " الموطأ " عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة

وأبي بكر بن أبي حثمة -

مرسلا.

واختلف على الأوزاعي في وصله عن الزهري وإرساله.

وقد أنكر هذا على الزهري غير واحد من الأئمة.

وعده مسلم بن الحجاج في " كتاب التمييز " من أوهام الزهري؛ لصحة

الروايات بخلاف روايته، وأن النبي [صلى الله عليه وسلم] سجد

للسهو يومئذ.

قلت: الذي يظهر - والله أعلم -: أن الزهري روى هذا الحديث عن

سعيد وأبي سلمة وغيرهما،

من غير ذكر سجود السهو بنفي ولا إثبات، وأن

الزهري أتبع ذلك بقوله من عنده: " لم يسجد النبي [صلى الله عليه وسلم] يومئذ للسهو

".

فهذا مما أرسله الزهري [وأدرجه] في الحديث، فمن اقتصر على هذا

القدر من حديث الزهري ووصله فقد وهم؛ لأنه أسند المدرج بانفراده.

وقد ذكر الزهري أنه لم

يخبره بالسجود أحد من أهل العلم بالمدينة،

فكان ينفي السجود لهذا، وهذا بمجرده لا يبطل رواية الحفاظ الأثبات

للسجود.

ص: 405

وقد روي عن الزهري، أنه حمل ترك السجود للسهو في هذه القصة على

أحد وجهين:

أحدهما: أنه

قال: كان هذا قبل أن يشرع سجود السهو.

فروى عنه معمر، أنه قال: كان هذا قبل بدر، ثم استحكمت الأمور.

والثاني: أنه كان يرى أنه لم يسجد يومئذ للسهو؛ لأن الناس يقنوا النبي

[صلى الله عليه وسلم] حتى استيقن.

وكلا الوجهين

ضعيف.

أما الأول؛ فلأن أبا هريرة شهد هذه القصة، وكان إسلامه بعد بدر بكثير،

وسيأتي بسط ذلك فيما بعد -

إن شاء الله تعالى.

وأما الثاني؛ فمضمونه أنه إنما يسجد للسهو إذا استدام الشك، فأما إذا

تيقن الأمر، وعمل عليه

، فإنه لا يسجد، وإن كان قد زاد في الصلاة، وهذا

مذهب غريب.

نعم؛ لو شك في شيء من صلاته، ثم زال

شكه قبل السلام، وتبين أنه

لم يزد في صلاته ولم ينقص، فهنا يستحب السجود ولا يجب -: نقله ابن

منصور،

عن أحمد وإسحاق.

وقال أصحابنا: الصحيح من مذهبنا ومذهب الشافعي: أنه لا

ص: 406

يسجد إلا أن

يكون قد فعل قبل

زوال شكه ما يجوز أن يكون زائدا، فإنه يسجد.

وفي المذهبين وجه آخر: لا يسجد بحال؛ لأن السجود إنما يشرع

[من]

زيادة أو نقص أو تجويزهما، ولم يوجد شيء من ذلك.

وهذا قول سفيان الثوري.

وقد روي عن أبي

هريرة، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] سجد للسهو في هذه القصة من

وجوه أخر:

فروى ذلك مالك، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان مولى ابن

أبي أحمد، عن أبي هريرة - فذكر هذا الحديث

، وقال فيه: فأتم رسول الله

[صلى الله عليه وسلم][ما] بقي من الصلاة، ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم.

وقد خرجه

مسلم من هذا الوجه.

رواه - أيضا - الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن جعفر بن ربيعة، عن

ابن مالك،

عن أبي هريرة، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] سجد يوم ذي اليدين سجدتين

بعد السلام.

خرجه النسائي.

ورواه - أيضا -

عكرمة بن عمار، عن ضمضم بن جوس الهفاني،

ص: 407

قال:

حدثني أبو هريرة - بهذا الحديث -، وذكر فيه: أن النبي

[صلى الله عليه وسلم][سلم] ثم

سجد سجدتي السهو وهو جالس، ثم سلم.

خرجه أبو داود والنسائي وابن حبان في " صحيحه ".

وروى السجود - أيضا - في هذه القصة: عمران بن حصين، عن النبي

[صلى الله عليه وسلم] .

فروى خالد الحذاء، عن أبي

قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن

حصين، قال: سلم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في ثلاث ركعات من العصر، ثم قام

فدخل

الحجرة، فقام رجل بسيط اليدين، فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله،

فخرج مغضبا، فصلى الركعة التي كان ترك، ثم سلم، [ثم] سجد سجدتي

السهو، ثم سلم.

خرجه مسلم.

وفي رواية له - أيضا -: فخرج غضبان، حتى انتهى إلى الناس،

فقال: " أصدق هذا؟ " قالوا: نعم، فصلى

ركعة، ثم سلم، ثم سجد

سجدتين، ثم سلم.

وهذه الرواية تدل على أن الخروج من المسجد لا يمنع البناء على

ص: 408

الصلاة

لمن سلم من نقص في صلاته، فلأن لا سجود السهو فبمجرده أولى.

وفي رواية لمسلم: أن الرجل الذي

قال للنبي [صلى الله عليه وسلم] ، كان اسمه الخرباق،

وكان في يده طول.

فمن الناس من قال: هو ذو اليدين المذكور في حديث

أبي هريرة.

وقال طائفة: هما رجلان، وواقعتان متعددتان، ونص على ذلك الإمام

أحمد.

وقد دل هذا

الحديث - من جميع طرقه - على أن من سلم من نقص

ركعة فأزيد من صلاته ناسيا، ثم ذكر قريبا، أنه يبني على

ما مضى من صلاته،

ولا يلزمه إعادتها، وهو قول جمهور أهل العلم.

فإن هذا إنما زاد في صلاته سلاما ناسيا،

والسلام مشروع في الصلاة، لكنه

أتى به قبل محله، فلا تبطل به الصلاة، كما لو زاد سجدة سهوا.

ووافق على ذلك أكثر من يقول: إن كلام

الساهي يبطل الصلاة، كأبي

حنيفة وأحمد - في رواية.

واختلف عن سفيان الثوري.

فروى عنه كذلك، هو

المشهور عنه.

وروى يعلى بن عبيد، عنه، أنه إذا سلم ساهيا قطع صلاته؛ لأنه تكلم في

صلاته ساهيا.

حكاه

ص: 409

أصحابه عنه في كتبهم.

وحكاه ابن عبد البر عن بعض أصحاب أبي حنيفة - أيضا.

وكذلك روى عبد

الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، ثم قال: إلا أن

يكون النبي [صلى الله عليه وسلم] صنع الذي يقولون.

يعني: سلم [ثم]

بنى على صلاته، فتوقف في ذلك حيث لم يكن

الحديث عنده.

واختلفوا: هل يشترط للبناء على ما مضى من

الصلاة أن يذكر مع

قرب الفصل، أو لا يشترط ذلك، بل يبني ولو ذكر بعد طول الفصل؟ على

قولين:

أحدهما: لا يبني إلا مع قرب الفصل، فإن طال الفصل بطلت الصلاة

واستأنفها، وهذا [قول] أبي حنيفة ومالك

والشافعي وأحمد وأبي خيثمة

وسليمان بن داود الهاشمي.

والثاني: يبني ولو طال الفصل، وهو قول مكحول والأوزاعي ويحيى

الأنصاري والحسن بن حي.

ونقل صالح

وغيره، عن أحمد ما يدل على ذلك - أيضا.

ص: 410

وقال الليث: يبني ما لم ينتقض وضوؤه الذي صلى به تلك الصلاة.

وفي حديث عمران بن حصين ما يدل على البناء مع طول الفصل.

والله أعلم.

واختلفوا - أيضا -: هل

يبني مع عمله عملا كثيرا ينافي الصلاة مثله،

أو لا يبني معه؟ وفيه خلاف عن الشافعي وأحمد، سبق ذكره؛ وأن

العمل

الكثير مع السهو: هل تبطل به الصلاة، أم لا؟

وفي حديث أبي هريرة وعمران بن حصين: ما يدل على

أنه يبني مع

[ذلك] كثرة العمل في هذه الحال سهوا.

واختلفوا: هل يبني، وإن خرج من المسجد، أو لا يبني

إلا مع كونه في

المسجد؟ وفيه خلاف سبق ذكره في تأخير سجود السهو نسيانا.

واختلفوا: هل يبني مع تكلمه

في هذه الحال، أم كلامه يقطع البناء

ويستأنف مع الصلاة؟

فقالت طائفة: إن تكلم بطلت صلاته، واستأنفها،

وهو قول النخعي

والثوري وأبي حنيفة، وروي عن الحسن وعطاء، وهو رواية عن

ص: 411

قتادة، وعن

أحمد اختارها

كثير من أصحابه.

لكن أحمد لم يقل: إن الكلام في الصلاة نسخ، وإنما قاله طائفة من

أصحابه، موافقة للكوفيين.

واستدلوا بقول

الزهري: كان هذا - يعني: قصة ذي اليدين - قبل بدر،

ثم استحكمت الأمور بعد.

وقد ذكر الزهري في روايته

: أن [الذي] كلم النبي [صلى الله عليه وسلم] هو ذو الشمالين

ابن عمر حليف بني زهرة.

كذا في " مسند أحمد " و" صحيح ابن

حبان ".

وكذا خرج النسائي أنه ذو الشمالين بن عمرو.

وكذا سماه عمران بن أبي أنس في روايته، عن أبي

سلمة، عن أبي هريرة:

ذا الشمالين.

وهذه متابعة للزهري.

قالوا: ذو الشمالين قتل يوم بدر، وتحريم الكلام

إنما شرع بعد ذلك.

وروى محمد بن أبي السري، عن عبد العزيز بن عبد الصمد

ص: 412

العمي، عن

أيوب، عن ابن

سيرين والحسن، عن أبي هريرة، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] سجد بعد

السلام والكلام قبل النسخ، فنسخ، وثبت السجدتان.

والمراد: أنه نسخ السجود بعد الكلام، وصار الكلام مبطلا تعاد معه

الصلاة.

ومحمد بن أبي السري، ليس

بالحافظ.

ولعل هذا من تصرف بعض الرواة بالمعنى عنده.

وكل من قال هذا، قال: إن كلام الناسي يبطل الصلاة.

وقال طائفة أخرى: بل يبني، وإن تكلم في هذه الحال، إذا ظن تمام

صلاته؛ فإنه إنما تكلم ناسيا الصلاة، وهذا قول

الشافعي وأحمد - في رواية

عنه.

قالوا: إن قصة السهو كانت بعد تحريم الكلام، فلم ينسخ، بل دلت على

أن

كلام الناسي مستثنى من عموم الكلام المبطل للصلاة، كما أن الأكل في

الصيام ناسيا معفو عنه لا يبطل به الصيام.

واستدلوا على تأخر قصة ذي اليدين، بأن أبا هريرة شهدها، وأبو هريرة إنما

أسلم عام خيبر، وممن ذكر ذلك:

الشافعي وأحمد.

وشهدها عمران بن حصين، وإنما أسلم بعد بدر، فيما قيل.

وشهدها معاوية بن حديج،

وحديثه مخرج في " كتاب النسائي " وغيره،

ومعاوية بن

ص: 413

حديج ممن تأخر إسلامه، حتى قيل: إنه أسلم قبل موت

النبي،

بشهرين.

وهذا كله بعد تحريم الكلام في الصلاة؛ فإنه كان إما بمكة قبل الهجرة،

أو عقيب الهجرة قبل

بدر، كما دل عليه حديث ابن مسعود، وقد سبق الكلام

على ذلك.

قالوا: وقول الزهري: " إن ذلك كان قبل بدر

" وهم منه، وكذلك قوله:

" إن [الذي] كلم النبي [صلى الله عليه وسلم] ذو الشمالين "، وإنما هو ذو اليدين.

قالوا: وقد بقي ذو

اليدين بعد النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وأما المقتول ببدر، فهو ذو

الشمالين، وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد، وأنكر أحمد أن يكون ذو اليدين

قتل ببدر.

وذهب طائفة إلى أنهما واحد.

وهؤلاء ذهبوا إلى أن كلام الناسي لا يبطل الصلاة، وروي عن ابن عباس

وابن الزبير.

وروي عن الزبير

بن العوام بإسناد منقطع.

وهو قول الشعبي وعروة وعطاء والحسن وقتادة - في رواية عنهم - وعمرو

ابن دينار

والشافعي وأحمد - في رواية - وإسحاق وأبي خيثمة وغيرهم من فقهاء

الحديث.

ص: 414

فعلى هذه المقالة: إنما تكلم

النبي [صلى الله عليه وسلم] بعد سلامه نسيانا؛ لظنه أن صلاته

قد تمت.

وخرج الطبراني من رواية معلى بن مهدي: حدثنا حماد

بن زيد، عن

أيوب وابن عون وهشام وسلمة بن علقمة، عن محمد، عن أبي هريرة، أن

النبي [صلى الله عليه وسلم] تكلم في

الصلاة ناسيا، فبنى على ما صلى.

وهذا مروي بالمعنى، مختصرا من قصة ذي اليدين.

واختلفت الرواية عن

أحمد: هل يختص كلام الساهي بما كان من مصلحة

الصلاة؛ لحال كلام النبي [صلى الله عليه وسلم] وأصحابه في قصة ذي اليدين، أم

يعم ما كان

لمصلحة الصلاة وغيره؟ .

ورجح طائفة من المتأخرين من أصحابنا اختصاصه بما كان لمصلحة الصلاة؛ لأن الرخصة إنما وردت في؛ ولأنه إذا كان لمصلحة الصلاة، وفعله ساهياً، فهو شبيه بالسلام من الصلاة ساهياً، وهو غير مبطل عند جمهور العلماء كما تقدم.

واختلف أصحابنا: هل محل الخلاف إذا سلم من صلاته، يظن أنها

ص: 415

قد تمت، ثم تكلم حينئذ؛ لأن هذه هي الصورة التي وردت فيها الرخصة، وهي التي يقع فيها كلام الساهي غالباً، أم تعم ذلك وغيره لمن تكلم في صلب صلاته ساهياً؟ وفيه طريقان للأصحاب 0

وأكثر [كلام الإمام] أحمد يدل على الأول.

وقد ذكرنا - فيما تقدم - أن أحمد لم يقل: إن حديث ذي اليدين نسخ، كما يقوله غيره، وإنما اختلفت الرواية عنه: هل كان ذلك خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم وبمن كلمه، أو هو عام، أم يختص بعده بالإمام دون المأموم؟

فروي عنه، أنه كانَ خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن كلمه.

وهذه الرواية اختيار أبي بكر الخلال وصاحبه.

فأما النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يقول: إنه كان مخصوصاً بجواز الكلام في الصلاة لمصلحتها، إما سهواً أو مطلقاً.

وأما المجيبون له، فقد صرح بأن إجابتهم للنبي صلى الله عليه وسلم كانت واجبة، فلا تبطل صلاتهم بذلك، وكلام ذي اليدين له بقوله: ((قصرت الصلاة، أم

ص: 416

نسيت؟)) كانَ في وقت يجوز فيهِ قصر الصَّلاة، فكان - أيضا - يظن أن صلاتهم تمت، وهذا لايوجد بعدهم.

وأما قول ذي اليدين بعد ذلك: ((بل نسيت يا رسول الله)) - وفي رواية: ((قد كان بعض ذلك)) ، فقد تكلم وهو عالم أن صلاتهم لم تتم، لكنه لم يعلم أنهم في الصلاة، وأن البناء يجوز لهم على ما مضى، بل قد يكون ظن أن ما مضى من الصلاة بطل ولغي، وأنهم الآن ليسوا في صلاة، وربما كان تكلم غير ذي اليدين من الصحابة لذلك؛ فإن جواز البناء إنما علم من فعل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يومئذ، لا قبله.

لكن هذا يقع للناس كثيراً، فهل حكم هذا حكم من تكلم يظن أنه ليس في

صلاة، فهو كالساهي، أم لا؟

الظاهر: أن هذا ملحق بالجاهل بأنه في صلاة، يعذر في كلامه، بخلاف الصائم، إذا جهل الوقت فاكل يظنه ليلاً، فتبين أنه نهاراً.

وحكوا الخلاف عن أحمد، في كل من تكلم وهو يعتقد أنه ليس في صلاة، وأنه خرج منها، يكون جاهلاً بأن [عمل] كلامه يبطل الصلاة.

ولأصحابنا وجهان فيمن أكل [في] الصيام ما لا يعتقد أنه يفطره، هل

ص: 417

يفطربه، أم لا؟ وهو - أيضا - جاهل.

ولهم وجهان فيمن أكل ناسيا، فظن أنه أفطر، وأنه لا يلزمه الإمساك، ثُمَّ

جامع، هل عليه كفارة بجماعه، أم لا؟

وحكى ابن المنذر، أنه لا كفارة عليهِ عندَ جمهور العلماء؛ لأنه لم يتعمد افساد الصوم.

وللشافعية فيهِ وجهان - أيضا.

وكلامهم يدل على أنه يفطر بذلك؛ فإن الجهل لايعذر به في الصوم، ويعذر به في الصَّلاة، فإذا سلم من صلاته، يظن أنها تمت، ثُمَّ علم أنها لم تتم، وظن أن صلاته بطلت، فتكلم، فهوَ كالجاهل.

وكذا إذا سلم الإمام ناسيا، والماموم يعلم، فتكلم ظاناً أن صلاته بطلت

بالسلام، فأحمد جعل هذا الحكم خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - في رواية عنه.

وجعله - في رواية أخرى عنه - عاما للأمة في حق كل من تكلم وهو يظن أن صلاته قد تمت، خاصة كما يقوله الشافعي.

وفرق - في رواية أخرى عنه - بين الإمام والمأموم؛ لأن الإمام لايسأل عن تمام صلاته إلا وهو شاك، والمأموم إنما يجيب وهو عالم بأن صلاته لم تتم، بخلاف حال الصحابة مع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن بعضهم تكلم وهو يظن أن الصَّلاة قد تمت؛ لاحتمال قصرها عنده، وبعضهم تكلم مجيباً للنبي صلى الله عليه وسلم وكلا الأمرين لا يوجد في حق من بعدهم.

ولكن يوجد في حق من بعدهم من يظن أن صلاتهم قد تمت كالإمام، ومن يظن أن صلاته تبطل بالسلام نسياناً، فيتكلم حينئذ، جاهلا بأنه في صلاة.

ص: 418

وخرج أبو داود من حديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي، فصلى ركعتين، ثم سلم - وذكر الحديث، وفيه: قال: ((أصدق ذو اليدين؟)) .

فاومئوا - أي: نعم - وذكر الحديث.

وذكر أن حماد بن زيد تفرد بقوله: ((فأومئوا)) .

وقول إسحاق بن راهويه في هذا كقول أحمد، بالتفريق بين الإمام والمأمومين.

قال: إنما تكلم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ظن تمأم صلاته، وذو اليدين ظن أن الصَّلاة قصرت وتمت، والصحابة اجابوا النَّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن اجابته بالكلام عليهم واجبة، لم يجدوا من ذَلِكَ بداً.

قالَ: وإن تكلم الإمام اليوم، وهو شاك في تمام صلاته، واستثبت من معه، جاز لهُ ذَلِكَ، ولو كانوا قدو نبهوه بالتسبيح، ولا يجوز لهم أن يتكلموا إذا علموا أن صلاتهم لم تتم، وتبطل به صلاتهم.

روى كل ذلك حرب وابن منصور، عن إسحاق.

ونقل ابن قرة الزبيدي، عن مالك، أن من تكلم في صلاته بعد النبي صلى الله عليه وسلم أعاد صلاته؛ لأن الصحابة تكلموا وهم يظنون أن الصَّلاة قد

ص: 419

قصرت، فلا يجوز ذَلِكَ اليوم.

وإلى هذه الرواية ذهب ابن كنانة من أصحابه.

وذكر الحارث بن مسكين وابن وضاح أن سائر أصحاب مالك خالفوا ابن القاسم فيما رواه عن مالك.

وقالت طائفة: حديث ذي اليدين يتخرج على أن الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها، عمداً ولا سهواً، وهو قول الأوزاعي وأيوب وحماد بن زيد وربيعة.

ومالك - في المشهور عنه -: نقله ابن القاسم، عنه.

وهو رواية عن أحمد.

وروي عنه، اختصاصه بالإمام.

ومذهب مالك: اختصاصه بالإمام والمأموم، دون المنفرد.

وروي هذا المعنى عن ابن الزبير وغيره من المتقدمين.

ويستدل له بأن في حديث معاوية بن حديج - الذي يأتي ذكره -: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن يقيم الصلاة.

وكذا رواه عبيد بن عمير - مرسلاً.

وهذا يدل على أن إقامة الصلاة والأمر بها لايبطل البناء على ما مضى من

الصلاة.

ص: 420

وادعى قوم: أن هذا كان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا رواية عن مالك وأحمد، قد سبق ذكرها.

وقد رويت هذه القصة من حديث أبي هريرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم[سلم] من ركعتين، وأن الذي كلم النبي صلى الله عليه وسلم هو ذي اليدين.

ومن حديث عمران بن الحصين، أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من ثلاث ركعات، وأن الذي كلمه هو الخرباق.

خرجه مسلم.

وقد نص أحمد على أنهما حديثان، وليسا بقصة واحدة -: نقله عنه علي بن سعيد.

وروى - أيضا - معاوية بن حديج، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوما، فسلم، وقد بقيت من الصلاة ركعة، فادركه رجل، فقال: نسيت من الصلاة ركعة، فرجع فدخل المسجد، وأمر بلالاً فأقام، فصلى للناس ركعة. قال: فأخبرت بذلك الناس، فقالوا: تعرف الرجل؟ قلت: لا، الا أن أراه، فمر بي، فقلت: هوَ هذا، فقالوا: هذا طلحة بن عبيد الله.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم.

وقال: صحيح حسن الإسناد.

وفي رواية. أنه المغرب.

ص: 421

وقد أنكر الإمام أحمد أن يكون لمعاوية بن حديج صحبة، وأثبته البخاري والأكثرون.

قال ابن حبان: هذا يدل على أن هذه ثلاثة أحوال متباينة في ثلاث صلوات، لا في صلاة واحدة.

ورجح ابن عبد البر وغيره أنها صلاة واحدة، وأن اختلفت بعض الروايات فيها.

وهذا أشبه. والله أعلم.

وعلى القول بأن الكلام نسياناً أو جاهلاً لايبطل الصلاة، إنما هو في اليسير، فأما إن كثر وطال، ففيه وجهان.

والمنصوص عن [أحمد]، أنه يبطل حينئذ -: نقله عنه أبو داود وغيره.

وكذلك لأصحاب الشافعي وجهان - أيضا.

والمنصوص، عنه: أنه

ص: 422

يبطل - أيضا -: نقله عنه البويطي.

قال: الشافعي: لا يشك مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينصرف إلا وهو يرى أن قد أكمل الصلاة، وظن ذو اليدين أن الصلاة قد قصرت بحادث من الله، ولم يقبل

رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذي اليدين؛ إذ سأل غيره، ولما سأل غيره احتمل أن يكون سأل من لم يسمع كلامه، فيكونون مثله - يعني: مثل ذي اليدين -، واحتمل أن يكون سأل من سمع كلامه، ولو سمع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم رد عليهِ، فلما سمع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم رد عليهِ كانَ في معنى ذي اليدين، من أنه لم يدر: أقصرت الصَّلاة أم نسي النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فأجابه، ومعناه معنى ذي اليدين مع أن الفرض عليهم جوابه.

ثم قال: فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم تناهت الفرائض فلا يزداد فيها، ولا ينتقص منها أبداً.

قال: فهذا فرق ما بيننا وبينه، إذا كان أحدنا إماما اليوم.

وفي حديث أبي هريرة المخرج في هذا الباب فوائد كثير جداً، يطول

استقصاؤها، ولكن نشير إلى بعضها إشارة:

فمنها: أن اليقين لا يزال بالشك؛ فإن ذا اليدين كان على يقين من أن صلاتهم تلك أربع ركعات، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين احتمل أن يكون قصرت الصلاة، واحتمل أن يكون ناسياً، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أقصرت الصلاة أم نسيت؟

ومنها: أن انفراد الواحد من بين الجماعة بشيء لايمكن في مثله أن

ص: 423

ينفرد بعلمه عنهم، يتوقف في قوله، حتَّى يتابعه عليهِ غيره.

وهذا اصل جهابذة الحفاظ: ((أن القول قول الجماعة دون المنفرد عنهم بزيادة ونحوها)) ، لاسيما أن كانوا زيادة الثقة مقبولة مطلقاً، وليس ذلك بشيء، فإذا توبع على قوله اعتمد عليه.

ومنها: أنه قد استدل به بعض من لايقبل خبر الواحد المنفرد به، حتى يتابع

عليه.

ورد ذلك الإمام أحمد، وفرق بينهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سلم من صلاته؛ لأنه كانَ يعتقد اعتقاداً جازماً أنه أتم صلاته، فلذلك توقف في قول ذي اليدين وحده، دون بقية الجماعة الذين شهدوا الصَّلاة.

وأما خبر الواحد الثقة الذي ليس له معارض أقوى منه، فإنه يجب قبوله؛ لأدلة دلت على ذَلِكَ، وقد يتوقف فيهِ احياناً؛ لمعارضته بما يقتضي التوقف فيهِ، كما توقف النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في قول ذي اليدين حتى توبع عليه.

ص: 424

ومنها: أنه يستدل به على أن الحاكم إذا نسي حكمه، فشهد عليه شاهدان، أنفده وأمضاه، وأن لم يذكره، وهو قول مالك وأحمد.

وعند أبي حنيفة والشافعي: لاينفذه حتى يذكر حكمه به.

وفيه فوائد أخر، تتعلق بسجود السهو، ياتي ذكرها فيما بعد - إن [شاء الله] تعالى.

ص: 425

‌4 - باب

من لم يتشهد في سجدتي السهو وسلم

أنس بن مالك، والحسن، ولم يتشهدا.

وقال قتادة: لا يتشهد؟

أما المروي عن أنس [...........................................] .

وأما المروي عن الحسن، فروى عبد الرزاق، عن معمر، عن رجل، عن

الحسن، قال: ليس فيها تشهد ولا تسليم.

وأما قتادة، قال: يتشهد في سجدتي السهو ويسلم.

وعن عبد الله بن كثير، عن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أنه وهم في صلاته، فسلم، فسجد سجدتي السهو، ثم سلم مرة أخرى.

قال شعبة: فسألت الحكم وحماداً، فقالا: يتشهد في سجدتي

ص: 426

السهو.

وعن ابن جريج، عن عطاء، قال: ليس في سجدتي السهو تشهد.

قلت: أجعل نهضتي قيامي؟ قالَ: بل اجلس، فهوَ أحب إلي، وأوفى لها.

وهذا يدل على أن مراده: السجود بعد السلام، أنه لا يتشهد لهُ، ولا يسلم

منه.

وروى عبد الرزاق بإسناده، عن النخعي، أنه كان يتشهد ويسلم.

وعن الثوري، عن خصيف، عن [أبي] عبيدة، عن عبد الله، أنه تشهد في سجدتي السهو.

وحاصل الأمر: أنه قد اختلف في التشهد، وفي التسليم في سجود السهو:

فأما التشهد: فروي ثبوته عن ابن مسعود والشعبي والنخعي وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد، وقتادة - وفي رواية - والحكم وحماد ويزيد بن قسيط والثوري والليث والأوزاعي وأبي حنيفة.

وروي عن ابن سيرين، قال: أحب إلي أن يتشهد.

ص: 427

وروي [....] عن أنس والحسن وعطاء وابن سيرين.

وحكاه البخاري عن قتادة.

وهذا كله في السجود بعد السلام.

وأما السجود قبله، فلا يتشهد فيه عند أحد من العلماء، إلا رواية عن مالك، رواها عنه ابن وهب.

وروي عن ابن مسعود من وجه فيه انقطاع، ومختلف في لفظه، وفي رفعه

ووقفه.

وحديث ابن بحينة يدل على أنه تشهد بعده؛ لأنه قالَ: ((سجد قبل السلام)) ، ولم يتشهد بعده، وإن سجد بعد السلام تشهد بعده، ثُمَّ سلم.

وحكي للشافعي قول آخر: أنه لايتشهد.

وحكي قول ثالث: أنه يتشهد ثم يسجد، ثم يسلم.

واختار الجوزجاني: أنه لا يتشهد في الموضعين، لا قبل السلام، ولا بعده.

وقد روي عن عمر بن الخطاب وعطاء: أن من نسي التشهد الأول يسجد بعد صلاته [و] تشهد تشهدين، وقد ذكرناه فيما تقدم.

وأما التسليم، فروي فعله عن ابن مسعود وعمران بن حصين،

ص: 428

وعلقمة والشعبي والنخعي وعبد الرحمن بن أبي ليلى والقاسم وسالم وقتادة والحكم وحماد.

وهو قول الثوري وأبي حنيفة والليث والشافعي وأحمد وإسحاق.

ثم قال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق: يسلم تسليمتين.

وروي عن ابن مسعود من وجه منقطع.

وقال النخعي: يسلم تسليم الجنازة.

يعني: واحدة.

وقاله بعض الحنفية – أيضا.

وقد حكى البخاري، عن أنس والحسن، أنهما سلما.

وحكى غيره، عنهما، أنهما لم يسلما.

وقد تقدم عن الحسن، أنه قال: ليس فيها تشهد ولا تسليم -، وعن عطاء.

ص: 429

وروى الربيع بن صبيح، عن عطاء، قال: فيها تشهد وتسليم.

وروي عن عطاء: إن شاء تشهد وسلم، وإن شاء لم يفعل.

وهذا كله في السجود بعد السلام، وأما السجود قبل السلام فإنه يعقبه السلام من

الصلاة، فلا يحتاج إلى تسليم آخر.

قال البخاري رحمه الله:

ص: 430

1228 -

ثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين: اقصرت الصلاة أم نسيت يارسول الله؟ فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أصدق ذو اليدين؟)) ، فقال الناس: نعم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى اثنتين أخرتين، ثم [سلم، ثم] كبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع.

ص: 430

حدثنا سليمان بن حرب: ثنا حماد، عن سلمة بن علقمة: قلت لمحمد: في سجدتي السهو تشهد؟ قالَ: ليس في حديث أبي هريرة.

رواية ابن سيرين عن أبي هريرة، إنما فيها ذكر السجدتين، كل سجدة ورفع منها

بتكبير.

وقد خرجه البخاري كذلك بتمامه في الباب الآتي، من حديث يزيد بن إبراهيم التستري، عن ابن سيرين.

وكذلك خرجه مسلم، من حديث ابن عيينة وحماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين.

وكذلك هو في ((الموطأ)) عن أيوب بتمامه.

وكذلك خرجه الترمذي من طريق مالك.

وفي رواية مسلم، قال –يعني: ابن سيرين -: واخبرت عن عمران بن حصين، أنه قالَ:((ثم سلم)) .

وهكذا خرجه البخاري في ((باب: تشبيك الأصابع [في] المسجد))

ص: 431

من طريق ابن عون، عن ابن سيرين، بسياق تام، وفي آخره:((فربما سألوه: ثم سلم؟ فيقول: نبئت عن عمران بن حصين، قالَ: ((ثُمَّ سلم)) .

وهذا يدل على أن ذكر السلام ليس - أيضا – في حديث أبي هريرة، إنما هو في حديث عمران بن حصين.

وإنما رواه ابن سيرين، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران -: قاله الإمام أحمد.

ورواه كذلك عن يحيى القطان، عن أشعث، عن ابن سيرين.

وخرج الطبراني، من رواية معاوية بن عبد الكريم الضال، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة حديث السهو بطوله، وفيه: فقام فصلى الركعتين، ثم سجد سجدتين، وهو جالس، ثم سلم.

هذه الزيادة غير محفوظة في حديث أبي هريرة، إنما ذكرها ابن سيرين بعد حديث أبي هريرة بلاغاً عن عمران بن حصين.

وخرجه مسلم من طريق الثقفي وابن علية، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 432

وروى محمد بن عبد الله الأنصاري: حدثنا أشعث، عن ابن سيرين، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم.

خرجه أبو داود والترمذي.

وقال: حديث حسن غريب.

وابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم.

وقال: صحيح على شرطهما.

وضعفه آخرون، وقالوا: ذكر التشهد فيه غير محفوظ، منهم: محمد بن يحيى الذهلي والبيهقي، ونسبا الوهم إلى أشعث.

وأشعث، هو: ابن عبد الملك الحمراني، ثقة.

وعندى؛ أن نسبة الوهم إلى الأنصاري فيهِ أقرب، وليس هوَ بذاك

ص: 433

المتقن جداً في حفظه، وقد غمزه ابن معين وغيره.

ويدل على: أن يحيى القطان رواه عن أشعث، عن ابن سيرين، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران في السلام خاصة، كما رواه عنه الإمام أحمد -: ذكره ابنه عبد الله، عنه في ((مسائله)) .

فهذه رواية يحيى القطان – مع جلالته وحفظه واتقانه -، عن أشعث، إنما فيها ذكر السلام فقط.

وخرجه النسائي، عن محمد بن يحيى بن عبد الله، عن الأنصاري، عن اشعث، ولم يذكر التشهد.

فإما أن يكون الأنصاري اختلف عليه في ذكره، وهو دليل على أنه لم يضبطه، وإما أن يكون النسائي ترك ذكر التشهد من عمد؛ لأنه استنكره.

وقد روى معتمر بن سليمان، وهشيم، عن خالد الحذاء حديث

ص: 434

عمران ابن حصين، وذكرا فيهِ: أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم صلى ركعة، ثُمَّ تشهد وسلم، ثُمَّ سجد سجدتي السهو، ثُمَّ سلم.

فهذا هو الصحيح في حديث عمران، ذكر التشهد في الركعة المقضية، لا في سجدتي السهو.

وأشار إلى ذلك البيهقي.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم التشهد في سجود السهو، من حديث ابن مسعود، وله طرق:

أجودها: رواية خصيف عن أبي عبيدة، عنه، مع الاختلاف في رفع الحديث، ووقفه أشبه، أو مع الاختلاف في ذكر السجود فبل السلام وبعده.

وروي من وجوه أخر، لا يثبت منها شيء.

وروي –أيضاً - من حديث عائشة – مرفوعاً.

خرجه الطبراني.

وإسناده ساقط.

وقال الجوزجاني: لانعلم في شيء من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في سجدتي السهو قبل السلام وبعده، أنه يتشهد بعدهما.

وقال – أيضا -:

ص: 435

ليس في التشهد في سجود السهو سنة قائمة تتبع.

وقال ابن المنذر: السلام في سجود السهو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وثبت عنه أنه كبر فيهما أربع تكبيرات.

وفي ثبوت التشهد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيهما نظر.

وخرج أبو داود في ((سننه)) من حديث سلمة بن علقمة، عن محمد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بحديث السهو، وفي آخره: قلت لمحمد: يعني التشهد؟ قالَ: لم أسمع في التشهد، وأحب إلي أن يتشهد.

وهذه الرواية: تدل على أن رواية اشعث عنه في التشهد لا اصل لها؛ لأن ابن سيرين أنكر أن يكون سمع في التشهد شيئاً.

والرواية التي ساقها البخاري من رواية سلمة بن علقمة، عن ابن سيرين، إنما فيها أنه قال:((ليس في حديث أبي هريرة)) –يعني: التشهد.

وقد بقي من فوائد حديث أبي هريرة أحكام، لم يتقدم ذكرها:

فمنها: أن الإمام إذا سها، ولم يتيقن سهوه، فذكره المامومون، فإن ذكر سهوه عمل بذكره، بغير خلاف بين العلماء.

وقد قال صلى الله عليه وسلم:

ص: 436

((إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني)) .

وأما إن لم يذكر سهوه حين ذكروه، فظاهر حديث أبي هريرة يدل على أنه يرجع إلى قول المأمومين، إذا لم يتيقن أنه على [الصواب] يقينا، وكذلك حديث عمران بن حصين، وحديث معاوية بن حديج.

وقد بوب البخاري على ذلك في ابواب الإمامة: ((باب: هل ياخذ الإمام إذا شك بقول الناس؟)) .

وخرج فيهِ حديث أبي هريرة، من طريق ابن سيرين، ومن طريق أبي سلمة.

وبهذا قال جمهور اهل العلم، وهو قول عطاء وأبي حنيفة والثوري ومالك – في رواية – وأحمد وغيرهم.

واختلفوا: هل يجب الرجوع إلى قولهم، أم يستحب؟

فقالَ أبو حنيفة: يجب.

وهو ظاهر أحمد. وروي عنه، أنه يستحب الرجوع إليهم، وله أن يبني على يقين نفسه، أو يتحرى، كما لو كان منفردا.

وقال ابن عقيل من أصحابنا: إنما يرجع إلى قول المأمومين، إذا قلنا: إن الإمام يتحرى، ولا يعمل بيقين نفسه؛ فإن أكثر ما يفيد قولهم غلبة

ص: 437

الظن، فيكون الرجوع إليهم من باب التحرى، فأما إذا قلنا: يعمل باليقين، لم يلتفت إليهم.

وجمهور أصحابنا على خلاف هذا، وأنه يرجع اليهم على كلا القولين؛ فإن قول اثنين فصاعدا من المأمومين حجة شرعية، فيجب العمل بها، وإن لم يوجب العلم، كسائر الحجج الشرعية التي يجب العمل بها من البيات وغيرها، وإنما محل الخلاف في التحري بالأمارات المجردة عن حجة شرعية.

وقال الشافعية ومالك – في رواية أخرى -: لا يرجع الإمام إلى قول المأمومين، إذا لم يذكر ما ذكروه به، بل يبني على يقين نفسه.

ولأصحابهما قول آخر: إنه يرجع إليهم، إذا كثروا؛ لبعد اتفاقهم على الخطإ، فأما الواحد والاثنان، فلا.

وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجب الرجوع إلى قول واحد من المأمومين؛ لأنه خبر ديني، فهوَ كالإخبار بالقبلة ونحوها.

وكذا قال إسحاق: يرجع إلى قول واحد.

ص: 438

ومذهب مالك وأحمد: لا يرجع إلى قول واحد من المامومين، بل إلى ما زاد على الواحد؛ لحديث أبي هريرة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بقول ذي اليدين حتى سال غيره، فلما اخبروه عمل بقولهم، ولأن انفراد الواحد من بين المامومين بالتنبيه على السهو، مع اشتراكهم جميعا في الصلاة يوجب ريبة، فلذلك احتاج إلى قول آخر يعضده.

وقد تقدم القول في هذا بابسط من هذا الكلام في ((باب: هل ياخذ الإمام إذا شك بقول الناس؟)) .

ومنها: أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ قد وقع منه في هذه الصَّلاة سلام من نقص وقيام ومشي وكلام، وكل واحد من هذه سبب يقتضي السجود بانفراده، ولم يسجد إلا سجدتين.

وكذلك حديث ابن بحينة، فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك التشهد الأول والجلوس له، ويقتضي ذلك ترك التكبيرة للقيام منه، وقد سجد سجدتين.

فدل على أن السهو إذا تعدد، لم يوجب أكثر من سجدتين.

وهذا قول جمهور العلماء، إذا كان من جنس واحد، وإنما خالف فيه الأوزاعي.

ص: 439

ويدل على الاكتفاء بسجود واحد، وإن تعدد السهو: أنه شرع تأخر السجود إلى آخر الصلاة، فدل على أنه يكتفى به لجميع ما يتجدد في الصلاة من السهو، إذ لو كان لكل سهو سجود، لشرع السجود عقب كل سهو عنده.

ومنها: أنه سجد للسهو بعد السلام، وسنذكره هذه المسألة مستوفاة فيما بعد – أن شاء الله تعالى.

ص: 440

‌5 - باب

يكبر في سجدتي السهو

وفيه حديثان:

الأول:

ص: 441

1229 -

حدثنا حفص بن عمر: ثنا يزيد بن إبراهيم، عن محمد، عن أبي

هريرة، قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي –قال محمد: وأكثر ظني العصر – ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد، فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا: قصرت الصلاة، ورجل يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين، فقال: أنسيت، أم قصرت؟ فقالَ: ((لم أنس، ولم

تقصر)) . قالَ: بلى، قد نسيت، فصلى ركعتين، ثُمَّ سلم، ثُمَّ كبر، ثُمَّ سجد مثل سجوده أو اطول، ثُمَّ رفع رأسه فكبر، ثُمَّ وضع رأسه فكبر، فسجد مثل سجوده

ص: 441

أو أطول، ثُمَّ رفع رأسه فكبر.

((صلاتا العشي)) : هما الظهر والعصر؛ لأنهما بعد زوال الشمس، وذلك زمن العشي.

وأكثر ظن ابن سيرين، أنها العصر.

وفي رواية ابن عون، عنه، أنه قال: سماها أبو هريرة، ونسيتها أنا.

وروي مجزوماً بذلك.

خرجه الإمام أحمد.

وفي هذه الرواية: أنه قام من مكانه الذي صلى فيه إلى مقدم المسجد، ووضع يده على الخشبة.

وفي رواية ابن عون، عن ابن سيرين، أنه شبك أصابعه.

وقد خرجها البخاري – فيما مضى.

وأما هيبة أبي بكر وعمر أن يكلماه، مع قربهما منه، واختصاصهما به، فلشدة معرفتهما بعظمته وحقوقه، وقوة المعرفة توجب الهيبة، كما أن اشد الناس معرفة بالله أشدهم لهُ خشية وهيبة وإجلالا، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم كذلك.

((وسرعان الناس)) ، وهم الذين أسرعوا الخروج من المسجد، فظنوا أن الصلاة قصرت، فتحدثوا بذلك.

وهذا يدل على أنه لم يخف ذلك على

ص: 442

عامة من كان في المسجد أو كلهم.

وفي رواية ابن عون، عن ابن سيرين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى خشبة فاتكأ عليها، وشبك بين أصابعه، ووضع خده على ظهر كفه، كأنه غضبان.

والظاهر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حال الصلاة مشغول البال بأمر أوجب له ذلك الغضب، وهو الذي حمله على أن صلى ركعتين وسلم، ولم يشعر بذلك.

وقوله: ((ورجل يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين)) ، فيه: دليل على أنه يجوز دعاء الإنسان بغير اسمه، ولا سيما إذا كان ليس من الألقاب المكروهة، وربما كان يدعى بذلك من باب الفكاهة والمزاح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل:((ياذا الأذنين)) .

وقوله: ((لم أنس ولم تقصر)) وهكذا في رواية ابن عون – أيضا -، عن ابن سيرين.

وزعم بعضهم: أن مراده: نفي مجموع الأمرين، يعني: لم يجتمع القصر

والنسيان، ولم يرد نفي أحدهما بانفراده.

وهذا ليس بشيء؛ فإنه لو كانَ

ص: 443

كذلك لكان ذاكراً لنسيانه حينئذ، مثبتاً لهُ؛ فإن القصر منتف قطعاً، فيكون مثبتا لنسيانه حينئذ، ولو كانَ حينئذ ذاكراً لنسيانه لم يحتج إلى قول ذي اليدين لهُ، ولا لاستشهاده بالناس على صدقه؛ فإن في رواية ابن عون: فقال: ((أكما يقول ذو اليدين؟)) ، قالوا: نعم.

ولو كانَ لنسيانه حينئذ لما تكلم، فإنه كانَ يكون متكلماً وهوعالم بأنه في صلاة أو حكمها، وإنما قالَ صلى الله عليه وسلم:((لم أنس ولم تقصر)) باعتبار ما كانَ في اعتقاده، بأنه أتم صلاته، ولم ينس منها شيئاً، فإنه إنما سلم من ركعتين لاعتقاده أنه أتمها. فقوله:((لم أنس)) إخبار عن حاله التي كانَ عليها في الصَّلاة، وهي مستمرة إلى حين تكلم بهذا.

وقد صح عنه، أنه قال:((إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني)) .

ولعلهم امتنعوا من تذكيره في هذه الصلاة بالتسبيح؛ لأنهم كانوا علي رجاء منه أن يقوم من التشهد إلى الركعتين الباقيتين، وإنما تيقنوا تركه لهما بسلامه، وكانوا حينئذ غير متيقنين لسهوه، فإنه كن يحتمل عندهم أن تكون الصلاة قد قصرت، فلذلك لم يسبحوا به عند سلامه.

وقول ذي اليدين: ((قد نسيت)) ، إنما جزم به لنفي النبي صلى الله عليه وسلم قصر

ص: 444

الصلاة، مع على الناس بأنه إنما صلى ركعتين فقط، فتعين أن يكون ترك الركعتين نسياناً.

والمقصود من هذا الباب: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سجد سجدتي السهو كبر فيها أربع تكبيرات، كبر في كل سجدة تكبيرة للسجود، وتكبيرة للرفع منه.

الحديث الثاني:

ص: 445

1230 -

حدثنا قتيبة: ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن الاعرج، عن عبد الله بن بحينة الاسدي – حليف بني عبد المطلب -، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين، يكبير في كل سجدة وهو جالس، قبل أن يسلم، وسجدهما الناس معه، مكان ما نسي من الجلوس.

تابعه: ابن جريج، عن ابن شهاب، في التكبير.

هذا الحديث؛ خرجه مسلم عن قتيبة، كما خرجه البخاري.

وخرجه النسائي من طريق ابن وهب: أخبرني عمرو ويونس والليث، عن ابن شهاب – فذكره بهذا اللفظ – أيضا.

ص: 445

ورواه مالك، عن ابن شهاب، وقال في حديثه:((فكبر ثم سجد سجدتين)) .

وهو مخرج في ((الصحيحين)) من طريق مالك.

وخرجه البخاري من طريق شعيب، عن الزهري - أيضا - كذلك.

وأما متابعة ابن جريج لليث بن سعد في ذكر التكبير:

فخرج الإمام أحمد، عن محمد بن بكر، عن ابن جريج: أخبرني ابن شهاب – فذكر الحديث، وفيه:((فلما صلى الركعتين الاخريين، وانتظر الناس أن يسلم كبر، فسجد، ثم كبر فسجد، ثم سلم)) .

وخرجه عبد الرزاق في ((كتابه)) ، عن ابن جريج – أيضا -، وعنده: يكبر في كل سجدة.

ورواه الأوزاعي، عن الزهري، فذكر في حديثه أربع تكبيرات، لكل سجدة تكبيرتين، تكبيرة للسجود، وتكبيرة للرفع، كما في حديث أبي هريرة المتقدم.

والعمل على هذا عند أهل العلم، أنه يكبر في كل سجدة تكبيرة للسجود وتكبيرة للرفع منه.

وبه قال عطاء والشافعي وأحمد وغيرهم.

ولا فرق في ذلك بين السجود قبل السلام وبعده.

ومن الشافعية من قال في السجود بعد السلام: يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يكبر للسجود، كقولهم في سجدة التلاوة، كما سبق.

ص: 446

وقد دل حديث ابن بحينة على السجود قبل السلام، وحديث أبي هريرة على السجود بعد السلام.

وكذلك حديث عمران بن حصين، وحديث معاوية بن حديج، وقد سبق ذكرهما.

وقد اختلف العلماء في محل سجود السهو، على ستة أقوال:

أحدهما: أنه كله بعد السلام.

قال ابن المنذر: روي ذلك عن علي وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعمار وأنس وابن الزبير وابن عباس، وبه قال الحسن والنخعي وابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح وأصحاب الرأي.

يعني: أبا حنيفة وأصحابه.

قال: ويجزئ عندهم أن يسجدهما قبل السلام.

قلت: وممن قال: يسجد بعد السلام -: قتادة.

وروي عن عمران بن حصين – أيضا.

والقول الثاني: أن كله قبل السلام.

قال ابن المنذر: روي عن أبي هريرة، وبه قال مكحول والزهري ويحيى الأنصاري وربيعة والأوزاعي والليث والشافعي. انتهى.

وحكي رواية عن أحمد.

وقيل: إنه لم يوجد بها نص عنه.

ص: 447

وقد ذكر القاضي في ((كتابه شرح المذهب)) : إن سلم من نقص ركعة تامة فأكثر، فإنه يسجد له بعد السلام، رواية واحدة، ولم نجد عن أحمد فيه خلافاً.

وأسنده الترمذي في ((كتابه)) عن أبي هريرة [و] السائب القارئ.

وذكر الشافعي، أن أخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم السجود قبل السلام، وأنه ناسخ لما

عداه.

وروي عن مطرف بن مازن، عن معمر، عن الزهري، قال: سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتي السهو قبل السلام وبعده، وآخر الأمرين قبل السلام.

ومطرف هذا، ضعيف.

وغاية هذا، أنه من مراسيل الزهري، وهي من أوهى المراسيل.

ص: 448

وسجود النبي صلى الله عليه وسلم قبل السلام وبعده، إن كان في صورتين، أمكن العمل بهما معا، وإن كان في صورة واحدة، دل على جواز الأمرين، والعمل بهما جميعاً، والنسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع، ولو توجه.

وادعى جماعة منهم، أن سجود النبي صلى الله عليه وسلم بعد السلام في حديث أبي هريرة كان سهوا، حيث كانت تلك القصة تضمنت أنواعا من السهو.

وهذا قول ساقط جداً، فان السهو كان قبل إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بالحال، وأما بعد إعلامه، فلو تطرق السهو إلى فعله لم يحتج به كله، وقد اجتمعت الأمة على الاحتجاج به، كيف؛ وقد رواه عمران بن حصين ومعاوية بن حديج وغير واحد، وقد قيل: إنها وقائع متعددة، كما سبق.

والقول الثالث: أن كان السهو من نقصان من الصلاة، فان سجوده قبل السلام، وان كان من زيادة فيها، فان سجوده بعد السلام؛ لئلا يجتمع في الصَّلاة زيادتان، وهو قول مالك والشافعي – في القديم – وأبي ثور.

وهو رواية عن أحمد.

والشك – على هذه الرواية – عنده كالنقص، يسجد له قبل السلام -: نص عليه أحمد.

ص: 449

ونقل حرب، عن إسحاق، مثل هذا القول، إلا أنه قال في الشك: يسجد له بعد السلام، ويبني على اليقين.

وهو قول مالك.

وروي هذا المعنى عن ابن مسعود:

رواه إسحاق بن راهويه، عن عتاب بن بشير، عن خصيف، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود، قال: كل شيء في الصلاة من نقصان من ركوع أو سجود أو غير

ذلك، فسجدتا السهو قبل التسليم، وما كان من زيادة، سجدها بعد التسليم.

وعتاب هذا، مختلف فيه.

وقد رواه غيره، عن خصيف، بغير هذا اللفظ.

روى الطبراني في هذا المعنى حديثين مرفوعين، من حديث عائشة، في إسناده علي بن ميمون، وهو متروك الحديث.

ص: 450

وأهل هذه المقالة جمعوا بهذا بين حديثي ابن بحينة وحديث أبي هريرة، وما في معناه؛ فان في حديث أبي هريرة، وما في معناه؛ كان قد وقع في تلك الصلاة زيادة كبيرة سهواً من سلام وكلام وعمل، فلذلك سجد بعد السلام، وحديث ابن بحينة، فيه: انه سجد قبل السلام؛ لترك التشهد الأول، فيلحق بالأول كل زيادة، وبالثاني كل نقصنٍ.

ويشهد لذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً، فسجد له بعد السلام، كما في حديث ابن مسعود، وقد سبق.

لكن قد ذكرنا – فيما تقدم – أنه لا دلالة فيه؛ فإن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إنما علم بسهوه بعد أن سلم، فكان سجوده بعد السلام ضرورة، لا عن قصد.

القول الرابع: أن سجود السهو كله قبل السلام، إلا في موضعين:

أحدهما: من سلم من نقص ركعة تامة فأكثر من صلاته سهواً، فإنه يأتي بما

فاته، ويسجد بعد السلام، كما في حديث أبي هريرة وعمران بن حصين وغيرهما.

والثاني: إذا شك في عدد الركعات، وعمل بالتحري، فإنه يسجد له بعد

السلام، كما في حديث ابن مسعود، ويأتي ذكره – إن شاء الله.

وما عدا هذين الموضعين، فإنه يسجد له قبل السلام، إلا أن لا يذكر سهوه إلا بعد أن يسلم، فإنه يسجد له بعد السلام ضرورة، كما في حديث ابن مسعود المتقدم.

وهذا هو ظاهر مذهب الإمام أحمد، وعليه عامة أصحابه، ووافقه عليه طائفة من أهل الحديث، منهم: سليمان بن داود الهاشمي، وأبو

ص: 451

خيثمة وابن المنذر.

وفي هذا عمل بجميع الأحاديث كلها على وجهها.

غير أن ترك التشهد الأول قد روي عن المغيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد له بعد السلام، ولكن حديث ابن بحينة أصح منه، فأخذ أحمد بأصح الحديثين فيما اختلفت الرواية فيه بعينه.

وقد قال طائفة من أصحابنا: إن القياس أن يكون السجود كله قبل السلام؛ لأنه تتمة الصَّلاة، كما في حديث عثمان بن عفان، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قالَ:((إياي وأن يتلعب بكم الشيطان في صلاتكم، من صلى منكم فلم يدر أشفع أم وتر، فليسجد سجدتين؛ فإنهما من تمام صلاته)) .

خرجه الإمام أحمد.

وإذا كانت السجدتان من تمام الصلاة، فتكون قبلها، ولكن إنما ترك ذلك في تلك الصورتين لورود النص فيهما، فما عداهما باق على الأصل.

وقد أشار أحمد إلى هذا المعنى بعينه – في رواية ابن بدينا.

ومن المتأخرين من قال: بل القياس يقتضي التفريق بين هاتين الصورتين وغيرهما؛ فان من سلم من نقص فقد زاد في صلاته زيادة، لو

ص: 452

تعمدها لبطلت صلاته، فيكون السجود بعد السلام؛ لئلا يجتمع في الصلاة زيادتان، ويكون السجود هنا بمنزلة صلاة مستقلة، جبر بها النقص الداخل في صلاته، وهو إرغام الشيطان.

وأما من شك وتحرى وبنى على غالب ظنه، فإنه قد أتم صلاته ظاهراً، فيسجد بعد السلام سجدتين زائدتين على صلاته، كما سماها النبي صلى الله عليه وسلم:((إرغأما للشيطان)) ؛ فإنه قصد تنقيص صلاته، فأتمها وزاد عليها زيادة أخرى.

وأما إذا بنى على اليقين، فإنه يحتمل الزيادة في صلاته احتمالاً ظاهراً، والزيادة هنا من جنس الصلاة بخلاف الزيادة في صورة السلام من النقص، فكانت السجدتان كركعة تشفع له صلاته؛ لئلا تكون صلاته وتراً، فيسجد قبل السلام.

وهذا كله قد أشار إليه النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في كلامه وتعليله، كما سيأتي لفظ الأحاديث

فيهِ.

ومن هنا: يتبين أن من صلى خمساً ساهياً، وذكر قبل سلامه، أنه يسجد حينئذ قبله، حتى لا يسلم عن وتر.

لكن يقال: فلو ذكر أنه صلى ركعتين زائدتين كان الحكم كذلك، مع أنه لم يسلم عن وتر.

القول الخامس: كالقول الرابع: إن ما فيه نص عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يتبع نصه، وما ليس فيه، فإن كان نقصاً في الصلاة فسجوده قبل السلام، وإن كان زيادة فسجوده بعده.

ص: 453

وهذه رواية ابن منصور، عن إسحاق بن راهويه.

والقول السادس: أن ورود بعض النصوص بالسجود قبل السلام، وبعضها بالسجود بعده يدل على جواز كلا الأمرين، من غير كراهة، فيعمل بهما في الجواز.

وأهل هذه المقالة لهم قولان:

أحدهما: أنهما سواء في الفضل، وحكي ذلك قولا للشافعي، كما سيأتي ذكره.

والقول الثاني: أنهما سواء في الجواز، وإن كان بعضهما أفضل من بعض.

وقد حكى ابن المنذر، عن أهل الرأي، أنهم يرون السجود قبل السلام جائزاً، والسجود بعده أفضل.

وكذلك حكى ابن عبد البر اختلاف العلماء في محل السجود، ثم قال: كل هؤلاء يقولون: لو سجد بعد السلام فيما فيه السجود قبله فيما لم يضره، وكذلك لو سجد قبله فيه السجود بعده لم يضره، ولم يكن عليه شيء.

وقال الماوردي - من الشافعية – في كتابه ((الحاوي)) : لا خلاف بين الفقهاء – يعني: جميع العلماء – أن سجود السهو جائز قبل السلام

ص: 454

وبعده، وإنما اختلفوا في المسنون والأولى: هل هو قبل السلام، أو بعده.

ثم ذكر اختلاف العلماء في ذلك.

وكذلك صرح بهذا طوائف من الحنفية والمالكية والشافعية، ومن أصحابنا كالقاضي أبي يعلى وأبي الخطاب في ((خلافيهما)) وغيرهما من بعد.

وفي ((تهذيب المدونة)) للمالكية: ومن وجب عليه سجود سهو بعد السلام، فسجده قبل السلام، رجوت أن يجزئه.

وأنكر ذلك طوائف أخرون من أصحابنا والشافعية، وقالوا: إنما الاختلاف في محل السجود في وجوبه عند من يراه واجباً، وفي الاعتداد به وحصول السنة عند من يراه سنة.

وهذا ظاهر على قواعد أحمد وأصحابه؛ لأنهم يفرقون في بطلان الصَّلاة بترك سجود السهو عمداً، بين ما محله قبل السلام وما محله بعده، فيبطلون الصَّلاة بترك السجود الذي محله قبل السلام، دون الذي محله بعده، ولو كانَ ذَلِكَ على الأولوية لم يكن لهُ أثر في إبطال الصَّلاة.

وقال القاضي أبو يعلى الصغير من أصحابنا: لو كان عليه سجود بعد السلام، فسجده قبله: هل يجزئه، ويعتد به؟ على وجهين.

ولم يذكر حكم ما لو سجد بعد السلام، لما قبله.

ص: 455

وظاهر كلامه: أنه لا يجزئه بغير خلاف.

وهذه – أيضا – طريقة أبي المعالي الجويني من الشافعية ومن اتبعه، فإنه حكى في المسألة طريقين لأصحابه.

أحدهما:

إن في المسألة ثلاثة أقوال – يعني: للشافعية -:

الصحيح فيها: أنه قبل السلام، فإن أخره لم يعتد به.

الثاني: أن كان السهو زيادة، فحمله بعد السلام وإن كان نقصاً فقبله، ولا يعتد به بعده.

والثالث: إن شاء قدمه، وإن شاء أخره.

والطريق الثاني:

يجزئ التقديم والتأخير، وإنما الأقوال في بيان الأفضل:

ففي قول: التقديم أفضل.

وفي قول: التقديم والتأخير سواء في الفضيلة.

وفي قول: إن كان زيادة فالتأخير أفضل، وإلا فالتقديم.

قال: ووجه هذه الطريقة: صحة الأخبار في التقديم والتأخير.

قال: والطريقة المشهورة الأولى، ويجعل الخلاف في الأجزاء والجواز، كما

سبق.

ص: 456

‌6 - باب

إذا لم يدر كم صلى - ثلاثاً أو أربعا -

سجدة سجدتين وهو جالس

.

ص: 457

1231 -

ثنا معاذ بن فضالة: ثنا هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع الأذان، فإذا قضى الأذان أقبل، فإذا ثوب بها أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: أذكر كذا وكذا – مالم يكن يذكر – حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى، فإذا لم يدر أحدكم كم صلى – ثلاثا أو أربعا -، فليسجد سجدتين وهو جالس)) .

((يخطر)) بضم الطاء عند الأكثر، والمراد: أنه يمر، فيحول بين المرء وما يريد من نفسه، من إقباله على صلاته.

وروي ((يخطر)) – بكسر الطاء -، يعني:

ص: 457

تحرك، فيكون المعنى: حركته بالوسوسة.

وقوله: ((حتى يظل الرجل)) ، هكذا الرواية المشهورة بالظاء القائمة المفتوحة، والمراد: يصير، كما في قوله تعالى:{ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} [النحل: 58] .

وروى بعضهم ((يضل)) بالضاد المكسورة، من الظلال، يعني: انه ينسى ويتحير.

وقوله: ((إن يدري)) ، (أن) بفتح الهمزة، حكاه ابن عبد البر عن الأكثرين، وقال: معناه: لايدري.

وقال القرطبي: ليست هذه الرواية بشيء، إلا مع رواية:((الضاد)) ، فتكون:((أن)) مع الفعل بتأويل المصدر مفعول ((ضل)) إن، بأسقاط حرف الجر، أي يضل عن درايته وينسى عدد ركعاته.

قال: وفيه بعد، ورجح أن الرواية:((إن)) بكسر الهمزة، يعني: ما يدري.

قلت: أما وقوع ((إن)) المكسورة نافية فظاهر، وأما ((أن)) المفتوحة، فقد ذكر بعضهم أنها تأتى نافية – أيضا -، وأنكره أخرون.

فعلى قول من أثبته، لا فرق بين أن تكون الرواية هاهنا بالفتح أو بالكسر.

وقوله: ((فإذا لم يدر أحدكم كم صلى – ثلاثاً أو أربعا -، فليسجد

سجدتين)) ، ليس في هذا الحديث سوى الأمر بسجود السهو عند الشك، من غير أمر بعمل بيقين أو تحر.

ص: 458

وروي عن أبي هريرة، أنه أفتى بذلك.

قال عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه: سالت أبا هريرة، فقلت: شككت في صلاتي. قال: يقولون: اسجد سجدتين وأنت جالس.

وهذا كله، ليس فيه بيان انه يتحرى أو يبني على اليقين، ولا بد من العمل بأحد الأمرين، وكلاهما قد ورد في أحاديث أخر، تقضي على هذا الحديث المجمل.

وقد روي من حديث أبي هريرة التحري، بالشك في رفعه ووقفه.

فروى شعبة، عن ابن إدريس الأودي، عن أبيه، عن أبي هريرة – قال شعبة: قلت: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: أحسبه، أكبر علمي، أنه قالَ: عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قالَ:((لا يصلي أحدكم وبه شيء من الخبث)) ، وقال في الوهم:((يتحرى)) .

وروي في حديث أبي هريرة ذكر السجود قبل السلام في هذا، من رواية ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((إن الشيطان يأتي أحدكم في صلاته، فيدخل بينه وبين نفسه، حتى لا يدري زاد أو نقص، فإذا كان ذلك، فليسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم يسلم)) .

خرجه أبو داود وابن ماجه.

وخرجه ابن ماجه – أيضا – من رواية ابن إسحاق – أيضا -: اخبرني سلمة بن صفوان بن سلمة، [عن أبي سلمة] ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم – بنحوه -، وقال: ((فليسجد سجدتين

ص: 459

قبل أن يسلم)) .

وخرجه أبو داود من طريق ابن أخي الزهري، عن الزهري، بهذا الإسناد، ولفظه:((فليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم)) .

وخرجه الدارقطني من رواية عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي، - فذكره، وقال: - بعد قوله: ((فليسجد سجدتين وهو جالس)) -: ((ثم يسلم)) .

وذكر في ((العلل)) أن سليمان وعلي بن المبارك وهشاما والأوزاعي وغيرهم رووه، عن يحيى، ولم يذكروا فيه: التسليم قبل ولا بعد.

قال: وكذلك قال الزهري، عن أبي سلمة.

ولم يذكر رواية ابن إسحاق وابن أخي الزهري، عن الزهري، وذكر رواية ابن إسحاق، عن سلمة بن صفوان بن سلمة، كما رواه عكرمة

ص: 460

بن عمار، عن يحيى.

قال: وهما ثقتان، وزيادة الثقة مقبولة.

قال: ورواه فليح بن سليمان، عن سلمة بن صفوان، وقال فيه:((وليسلم، ثم ليسجد سجدتين)) ، بخلاف رواية ابن إسحاق.

قلت: أما ابن إسحاق، فمضطرب في حديث الزهري خصوصاً، وينفرد عنه بما لا يتابع عليه، وروايته عن سلمة بن صفوان، قد خالفه فيها فليح، كما ترى.

ورواية عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، كثيرة الاضطراب عند يحيى القطان وأحمد وغيرهما من الأئمة.

ففي ثبوت هذه الزيادة نظر. والله تعالى أعلم.

وقد روي من غير حديث أبي هريرة البناء على اليقين والتحري.

فأما الأول:

فخرجه مسلم، من طريق سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا شك أحدكم في

صلاته، فلا يدري كم صلى ثلاثا أو أربعا، فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فان كان صلى خمساً، شفعن له صلاته، وان كان صلى إتمأما لأربع، كانتا ترغيما للشيطان)) .

ص: 461

وخرجه – أيضا – من رواية داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، به – بمعناه.

وخرجه الدارقطني من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، وهشام بن سعد بن سليمان وغيرهم، عن زيد بن أسلم – كذلك.

وكذلك رويناه من حديث عبد الله بن صالح، عن الليث، عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلم – بهذا الإسناد.

والمعروف من رواية ابن عجلان: أنه لم يذكر في حديثه: ((قبل السلام)) .

وكذا رواه أبو غسان وغيره، عن زيد بن أسلم.

ورواه مالك في ((الموطأ)) والثوري ويعقوب، عن زيد بن أسلم، عن عطاء – مرسلاً.

ووصله الوليد بن مسلم وغيره، عن مالك.

وليس بمعروف عنه

ص: 462

وصله.

ووصله بعضهم عن الثوري – أيضا.

ولعل البخاري ترك تخريجه؛ لإرسال مالك والثوري لهُ.

وحكم جماعة بصحة وصله، منهم: الإمام أحمد والدارقطني.

وقال أحمد: اذهب إليه. قيل له: إنهم يختلفون في إسناده. قال: إنما قصر به مالك، وقد أسنده عدة، فذكر منهم: ابن عجلان وعبد العزيز بن أبي سلمة.

ورواه الدراوردي وعبد الله بن جعفر وغيرهما، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكره الدارقطني.

وقال: القول قول من قال: عطاء، عن أبي

ص: 463

سعيد.

وله شاهد عن أبي سعيد من وجه أخر، من رواية عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير: حدثني هلال بن عياض: حدثني أبو سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلى أحدكم، فلا يدري زاد أو نقص، فليسجد سجدتين وهو جالس)) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي.

وقال: حديث حسن.

وخرجه النسائي، وزاد في رواية له:((ثم يسلم)) .

وشيخ يحيى بن أبي كثير، مختلف في اسمه، وحاله.

وروى ابن إسحاق، عن مكحول، عن كريب، عن ابن عباس، عن

عبد الرحمن بن عوف، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا سها

ص: 464

أحدكم في صلاته، فلم يدر واحدة صلى أم ثنتين، فليبن على واحدة فان لم يدر ثنتين صلى أو ثلاثاً، فليبن على ثنتين، فإن لم يدر صلى ثلاثا أو أربعا، فليبن على ثلاث، وليسجد سجدتين قبل أن يسلم)) .

خرج الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي.

وقال: حسن صحيح.

والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.

وله علة ذكرها ابن المديني.

قال: وكان عندي حسناً، حتى وقفت على علته، وذلك أن ابن إسحاق سمعه من مكحول مرسلا، وسمع إسناده من حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن مكحول. قال: يضعف الحديث من هاهنا.

يعني: من جهة حسين الذي يرجع إسناده إليه.

وخرجه الإمام أحمد، عن ابن علية، عن ابن إسحاق – كما ذكره ابن المديني.

وكذا رواه عبد الله بن نمير وعبد الرحمن المحاربي، عن ابن إسحاق، عن مكحول – مرسلاً – وعن حسين عن مكحول – متصلاً.

ص: 465

ورواه حماد بن سلمة وغيره، عن ابن إسحاق، عن مكحول – مرسلاً.

ذكره الدارقطني.

وخرجه الإمام أحمد – أيضا - من رواية إسماعيل بن مسلم، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وإسماعيل، هو: المكي، ضعيف جداً.

وقد قيل: إنه توبع عليه، ولا يصح، وإنما مرجعه إلى إسماعيل -: ذكره الدارقطني.

روى أيوب بن سليمان بن بلال، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن عمر بن محمد بن زيد، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا لم يدر أحدكم كم صلى – ثلاثا أو أربعا – فليركع ركعتين، يحسن ركوعهما

وسجودهما، ثم ليسجد سجدتين)) .

خرجه الحاكم.

وقال: صحيح على شرطهما.

والبخاري يخرج من هذه النسخة كثيراً، ولكن هذا رواه مالك في

ص: 466

((الموطإ)) ، عن عمر بن محمد، عن سالم، عن أبيه، - موقوفاً.

قال الدارقطني: رفعه غير ثابت.

وقال ابن عبد البر: لا يصح رفعه.

ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أنه قال: إذا شك الرجل في صلاته، فلم يدر ثلاثا صلى أم أربعا، فليبن على أتم ذلك في نفسه، وليس عليه سجود.

قال: فكان الزهري يقول: يسجد سجدتي السهو وهو جالس.

وأما الثاني: وهو التحري:

فقد خرجه البخاري في ((أبواب استقبال القبلة)) ، من رواية جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم – فذكر الحديث، وقال في آخره -:((وإذا شك أحدكم في صلاته، فليتحرى الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين)) .

وخرجه مسلم – أيضا.

وخرجه من طرق أخرى، عن منصور، وفي بعضها:((فلينظر أحرى ذلك للصواب)) .

وفي رواية: ((فليتحرى أقرب ذلك إلى الصواب)) .

وفي رواية: ((فليتحرى الذي يرى أنه صواب)) .

ص: 467

وخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي، وزادوا فيه:((ثم يسلم، ثم يسجد سجدتي السهو)) .

وقد رواه جماعة من ثقات أصحاب منصور، عنه، بهذا الزيادة.

وخرجه ابن ماجه، وعنده:((ويسلم ويسجد سجدتين)) – بالواو.

قال الإمام أحمد – في رواية الأثرم -: وحديث التحري ليس يرويه غير منصور، إلا أن شعبة روى عن الحكم، عن أبي وائل، عن عبد الله – موقوفاً – نحوه، قال: وإذا شك أحدكم فليتحر.

وخرجه النسائي كذلك.

وقد روي عن الحكم – مرفوعاً.

قال الدارقطني: الموقوف عن الحكم أصح.

وقد روي عن ابن مسعود التحري من وجه آخر، مختلف فيه:

فروى خصيف، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا كنت في صلاة، فشككت في ثلاث أو أربع، وأكثر ظنك على أربع، تشهدت، ثم سجدت سجدتين، وأنت جالس قبل أن تسلم، ثم تشهدت – أيضا -، ثم تسلم)) .

وخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.

وذكر أبو داود، أنه اختلف في رفعه ووقفه، وفي لفظه – أيضا.

ص: 468

وقال أحمد: حديث اليقين أصح في الرواية من التحري.

وقال في حديث التحري: هو صحيح، وري من غير وجه.

ويظهر من تصرف البخاري عكس هذا؛ لأنه خرج حديث التحري دون اليقين.

وخرج مسلم الحديثين جميعاً.

وقد دلت هذه الأحاديث على أن من شك في عدد صلاته، فإنه ليس عليه

إعادتها، ولا تبطل صلاته بمجرد شكه، بل يسجد سجدتي السهو بعد بنائه على يقينه أو تحريه، وهو قول جمهور العلماء.

وروي عن طائفة، أن من شك في صلاته فإنه يعيدها.

رواه همام بن منبه وابن سيرين، عن ابن عمر.

وهو خلاف رواية ابنه سالم ومولاه نافع وعبد الله بن دينار ومحارب بن دثار وغيرهم، كلهم رووا، عن ابن عمر، أنه يسجد ولا يعيد.

وقد سبق عن ابن عمر رواية أخرى، أنه لا يسجد.

وذكر عطاء، انه سمع ابن عباس يقول: إن نسيت الصلاة المكتوبة فعد لصلاتك. وأنه بلغه عن ابن عمر وابن عباس، أنه إذا شك أعاد مرة

ص: 469

واحدة، ثم لا يعيد، ويبني على أحرى ذلك في نفسه، ويسجد سجدتين بعد ما يسلم.

وكذلك قال طاوس: يعيد مرة، ثم لا يعيد.

وقال النخعي: أحب إلي أن أعيد، إلا أن أكون أكثر النسيان، فأسجد للسهو.

وهو قول أبي حنيفة والثوري.

ورويت الإعادة مع الشك مطلقاً عن الشعبي وشريح ومحمد ابن الحنفية.

وأما جمهور العلماء، فعلى أنه لا يعيد الصلاة.

لكن اختلفوا: هل يبني على الأقل – وهو اليقين -، أو يبني على غالب ظنه؟

فقالت طائفة: يبني على غالب ظنه.

روي عن ابن مسعود، وهو قول الكوفيين كالنخعي وأبي حنيفة والثوري – في رواية – والحسن بن حي.

وحكاه ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث.

وحكى ابن عبد البر عن الأوزاعي: يتحرى، فإن قام فلم يدر كم صلى، استأنف.

ص: 470

والتحري قول أحمد – في رواية عنه.

وعلى هذه الرواية، فهل ذلك عام في المنفرد والإمام، أم خاص بالإمام؟ على روايتين فيهِ.

وظاهر مذهبه: أنه يختص بالإمام؛ لأنه يعتمد على غلبة ظنه بإقرار المأمومين ومتابعتهم لهُ من غير نكير، فيقوى الظن بذلك.

واستدل هؤلاء بأحاديث تحري الصواب.

وأما حديث إطراح الشك، والبناء على ما استيقن، فحملوه على الشك

المساوي، أو الأضعف.

فأما غلبة الظن، فقالوا: لا يسمى شكا عند الإطلاق، كما يدعيه أهل الأصول ومن تبعهم، وإن كان الفقهاء يطلقون عليه اسم الشك في مواضع كثيرة.

وقالت طائفة: بل يبني على اليقين، وهو الأقل.

وروي عن عمر وعلي وابن عمر، وعن الحسن والزهري، وهو قول مالك والليث والثوري – في رواية – والشافعي وأحمد – في رواية عنه – وإسحاق.

وعن الثوري، قال: كانوا يقولون: إن كان أول ما شك، فإنه يبني على

اليقين، وإن ابتلي بالشك – يعني: أنه يتحرى -، وإن زاد به الشك ورأى انه من الشيطان، لم يلتفت إليه.

وهؤلاء استدلوا بحديث أبي سعيد الخدري المتقدم في البناء على ما استيقن.

وأما أحاديث التحري، فمنهم من تكلم فيها، حتى اعل حديث ابن

ص: 471

مسعود المرفوع المخرج في ((الصحيحين)) ، من رواية منصور، عن إبراهيم، عن علقمة،

عنه، بأنه روي موقوفاً، من طريق الحكم، عن أبي وائل، عنه، كما فعل النسائي وغيره.

وقد رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن منصور، عن النخعي، عن علقمة، عن ابن مسعود – موقوفاً.

وهذا قد يتعلق به من يدعي أن هذه الرواية في أخر الحديث مدرجة من قول ابن مسعود.

ومنهم من حمل تحري الصواب على الرجوع إلى اليقين، ومنهم: الشافعي وأصحابه وسليمان الهاشمي والجوزجاني وابن عبد البر وغيرهم.

وفي بعض ألفاظ الحديث ما يصرح بخلاف ذلك، كما تقدم.

وحمل أحمد – في ظاهر مذهبه –التحري على الإمام؛ لأن عمله بغالب ظنه، مع إقرار المأمومين لهُ واتباعهم إياه يقوي ظنه، فيصير كالعمل باليقين، بخلاف المنفرد، فإنه ليس عنده إمارة تقوي ظنه.

وقد نص أحمد، أنه يجوز للإمام إذا شك أن يلحظ ما يفعله المأمومون خلفه، من قيام أو قعود، وغير ذلك، فيتبعهم فيه.

ومن متأخري أصحابنا من قال: يحمل الأمر بالتحري على من قدر

ص: 472

عليه، بوجود إمارات توجب له غلبة الظن، ولا يختص ذلك بالإمام، بل المنفرد إذا كان عنده أمارة يتحرى بها عمل بها، فإن لم يكن عند المصلي أمارة توجب ترجيح أحد الأمرين، فقد استوى عنده الأمران، فيطرح الشك حينئذ، ويعمل باليقين.

وعلى هذا يحمل حديث أبي سعيد.

وهاهنا مسلك أخر: وهو حمل الأمر بالتحري على الرخصة والجواز، وحمل الأمر بإطراح الشك والبناء على [ما] استيقن على الأفضل والاحتياط، فيجوز للمصلي إذا شك العمل بكلا الأمرين، ويكون الأفضل الأخذ بالاحتياط.

وصرح بهذا القاضي أبو يعلى من أصحابنا في كتاب ((أحكام القرآن)) ، وتبعه عليه جماعة من أصحابنا.

وهذه المسألة ترجع إلى قاعدة تعارض الأصل والظاهر، وللمسالة أقسام قد ذكرناها مستوفاة في كتاب ((القواعد في الفقه)) .

وحملت طائفة أحاديث البناء على اليقين على من لم يعتبر الشك، ولم تلزمه أحاديث العمل بغلبة الظن على من لزمه الشك، وصار له عادة ووسواساً، فلا يلتفت إليه حينئذ، بل يجعل وجوده كالعدم، ويبني على غالب ظنه.

وذكر ابن عبد البر أن هذا تفسير الليث وابن وهب للحديث، وأنه

ص: 473

مذهب مالك – أيضا.

يعني: أن الشك إذا لزم صاحبه وصار وسواسا، لم يلتفت إليه.

وهو قول الثوري، وروي عن القاسم بن محمد، وصرح به أصحابنا – أيضا.

وعلى هذا؛ يحمل حديث الأمر لمن شك في صلاته بان يسجد سجدتين، من غير ذكر تحر ولا يقين.

ولهذا ذكر في أول الحديث تلبيس الشيطان عليه، حتى لا يدري: كم صلى.

وعليه يحمل – أيضا – ما روي عم بعض المتقدمين: أن سجدتي السهو تكفي من شك في صلاته. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وأما محل السجود للشك، فقد تقدم ذكره في الباب الماضي، واختلاف العلماء فيه، وأن أحمد يعمل بالأحاديث كلها في ذلك.

فإن شك وتحرى، سجد بعد السلام، وإن بنى على اليقين سجد قبله.

وهو قول أبي خيثمة زهير بن حرب – أيضا.

وذكرنا المعنى في ذلك فيما تقدم - أيضا.

ومذهب إسحاق، أنه يبني على اليقين، ويسجد بعد السلام -: نقله عنه

حرب.

ولعله حمل تحري الصواب في حديث ابن مسعود على الأخذ باليقين، كما تقدم عن جماعة أنهم قالوه.

وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وسوسة الشيطان للمصلى، وأمره بالسجود إذا لم يدر كم صلى، يدل على أنه لا يسجد بمجرد وسوسة الصلاة، إذا لم

ص: 474

يشك في عدد صلاته.

وعلى هذا جمهور العلماء، وحكاه بعضهم إجماعا.

وحكى إسحاق، عن الحسن بن علي، أنه سجد في الصلاة عن غير سهو ظهر منه، وقال: إني حدثت نفسي.

وروي عن أحمد، أنه سجد للسهو في صلاته، وقال: إني لحظت ذلك الكتاب.

وهذا خلاف المعروف من مذهبه.

وحكى أحمد، عن ابن عباس، قال: إن استطعت أن لا تصلي صلاة إلا سجدت بعدها سجدتين [فافعل] .

وفي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسجود السهو في حديث أبي هريرة وابن مسعود المتفق عليهما: دليل على أن سجود السهو واجب، إذا كان لما يبطل الصلاة تعمده.

واختلف العلماء في وجوب سجود السهو:

فذهب إلى وجوبه كثير من العلماء، منهم: الحكم وابن شبرمة وأبو حنيفة – فيما حكاه الكرخي، عنه – والثوري وأحمد وإسحاق.

لكن أحمد إنما يوجبه إذا كان لما يبطل عمدة الصلاة خاصة، فأما ما لا يبطل الصلاة عمده، كترك السنن وزيادة ذكر في غير محله، سوى السلام،

ص: 475

فليس بواجب عنده؛ لأن السجود من أجله ليس بواجب فعله أو تركه، فجبرانه أولى، فأما ما يجب فعله أو تركه، فيجب جبرانه بالسجود كجبرانات الحج.

وحكي عن مالك وأبي ثور: إن كان من نقصان وجب؛ لأن محله قبل السلام، فيكون من جملة أجزاء الصَّلاة، بخلاف ما محله بعد السلام؛ لأن محله بعد التحلل من الصلاة.

وقال الشافعي: هو سنة بكل حال.

وحكي رواية عن أحمد، وتأولها بعض أصحابه.

واستدل لذلك، بأنه روي في حديث أبي سعيد الخدري المتقدم:((فإن كانت صلاته تامة، كانت الركعة نافلة والسجدتان)) .

وأجيب: بأن المراد بالنافلة الزيادة على آخر الصلاة، كما في حديث عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه توضأ، وقال:((من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة)) .

خرجه مسلم.

وأراد بالنافلة: زيادة في حسناته؛ حيث كانَ الوضوء مكفرا للذنوب.

ص: 476

فمن قالَ: إن سجود السهو سنة، لم تبطل الصَّلاة بتركه بحال، وهو قول الشافعي وعبد الملك المالكي.

وكذلك مذهب أبي حنيفة، لكنه عنده: إذا فعل وقع موقع الفرض، والتحق

به، وإن كان بعد السلام حين لو أحدث فيه أو خرج الوقت بطلت الصلاة المتقدمة.

واختلفت الرواية عن أحمد: هل تبطل الصلاة بترك السجود للسهو عنه روايتان:

أحدهما: إن تركه عمدا، وكان محله قبل السلام بطلت الصلاة، وإن كان محله بعد السلام لم تبطل، وإن كان تركه نسياناً لم تبطل بكل حال.

وحكي مثله عن أبي ثور.

لأن ما محله قبل السلام – وهو واجب – هو كالجزء من الصلاة، بخلاف ما محله بعد السلام، فإنه خارج عن الصلاة، فهو كالأذان، عند من يقول بوجوبه، لا يبطل الصلاة تركه.

والرواية الثانية: إذا نسيه حتى طال الفصل أعاد الصلاة.

وهذا يدل على أن تركه يبطل الصلاة بكل حال، وهو قول الحكم وابن شبرمة؛ لأنه سجود واجب في الصَّلاة أو لأجلها، فهوَ كسجود صلب الصَّلاة.

ص: 477

وكذلك قال مالك، فيما قبل السلام.

وقال فيما بعده: لايبطل تركه مطلقا.

وروي عن مالك: اختصاص البطلان فينا قبل السلام بترك الأفعال دون الأقوال.

ومذهب الثوري: أن سجود السهو واجب، وليس هو من صلب الصلاة، فمن ضحك فيه أو أحدث، فلا شيء عليه.

ولكنه قال، فيمن سلم وهو يرى أنه ينبغي أن يسجد [في] صلاته: أعاد الصلاة؛ لأنه أدخل في صلاته زيادة.

يعني به: السلام.

وهذا يدل على تفريقه بين سجود السهو الذي قبل السلام وبعده، كقول أحمد.

وكذلك قال الليث، فيمن نسي سجود السهو الذي قبل السلام، فلم يذكره حتى صلى صلاة أخرى، أنه يعيد الصلاة التي نسي سجودها، فإن كان السجود بعد السلام سجد سجدتي السهو، ولم يعد صلاته.

نقله عنه ابن وهب في ((كتاب سجود السهو)) له، ووافقه عليه.

ص: 478

‌7 - باب

[السهو] في الفرض والتطوع

وسجد ابن عباس سجدتين بعد وتره.

قد تقدم أن الإمام أحمد حكى عن ابن عباس، أنه قال: إن استطعت أن لا تصلي صلاة إلا سجدت بعدها سجدتين فافعل.

وحمله أحمد على سجود السهو.

ومن الناس من حمله على [أنه] أراد به تصلي بعد كل مفروضة ركعتين.

وهذا على عمومه لا يصح؛ فإن الفجر والعصر لايصلى بعدهما.

وقد بوب النسائي على ((السجود بعد الفراغ من الصَّلاة)) ، وخرج فيهِ: حديث عائشة: كانَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة

ص: 479

العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يوتر بواحدة، ويسجد سجدة قدر ما يقرا أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه.

وقد تقدم هذا الحديث بلفظ: ((ويسجد السجدة)) .

والمراد: أنه مقدار السجدة الواحدة من سجوده بالليل، لا أنه يسجد بعد وتره سجدة واحدة.

وأما حكم السهو في الوتر، فحكمه حكم السهو في سائر الصلوات.

ومذهب الثوري وأبي حنيفة، إذا صلى الوتر أربعاً، أنه إن قعد في الثالثة قدر التشهد أجزاه، وسجد سجدتي السهو، وإن لم يكن جلس بعد الثالثة أعاد الوتر، كقولهم في صلاة المغرب، كما تقدم حكاية مذهبهم في ذلك.

ومذهب مالك في ((تهذيب المدونة)) : ومن شفع وتره ساهياً سجد بعد

السلام، واجتزأ بوتره، يعمل في السنن كما يعمل في الفرائض، ومن لم يدر جلوس في الشفع أو في الوتر سلم وسجد بعد السلام، ثم أوتر بواحدة، وإن لم يدر أفي الأولى هو جالس أو في الثانية، أو في الوتر، أتى بركعة، وسجد بعد السلام، ثم أوتر. انتهى.

ص: 480

ففرق بين أن يتحقق الزيادة، فيسجد للسهو، ويجتزئ بوتره، وبين أن يشك فيها، فيبني على اليقين، ويسجد للسهو، ثم يوتر.

وقد روي عن ابن عباس، أنه يسجد في التطوع:

قال حرب الكرماني: نا يحيى بن عبد الحميد: حدثنا ابن المبارك، عن يعقوب بن القعقاع، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: إذا اوهم في التطوع، سجد سجدتي

السهو.

وهذا قول جمهور العلماء.

وللشافعي قول قديم، أنه لايسجد في التطوع.

وروي عن ابن سيرين.

وعن ابن المسيب – في رواية – عنه منقطعة.

وروي عنه من وجه متصل خلافه.

وقال عطاء: لابأس أن لا يسجد للسهو في التطوع.

وعنه، أنه قال: لا يعيد التطوع إذا شك فيه، وبني على أحرى ما عنده، وسجد.

وهذا بناء على قوله: إن الشاك في الفريضة يعيد صلاته.

وسئل عطاء، عمن سها قبل الوتر: أيسجد بعد الوتر؟ قالَ: نعم.

ص: 481

ولعله أراد أنه سها قبل الركعتين قبل الوتر، إذا صلى الوتر ثلاثا متصلة [...........] أنه أراد أن الركعة التي يوتر بها لا يسجد فيها للسهو حتَّى يتم وتره، وإن كانت مفصولة بالسلام بينهما؛ لأن الجميع يشملها اسم واحد، وهو الوتر، فيكون السجود للسهو بعد كمالها وتمامها. والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال البخاري:

ص: 482

1232 -

نا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إن أحدكم إذا قام يصلي، جاء الشيطان فلبس عليه، حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس)) .

مراده من هذا الحديث في هذا الباب: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسجود السهو لمن صلى ولبس الشيطان عليه صلاته، ولم يفرق بين أن تكون صلاته فريضة أو نافلة، والأفعال نكرات، والنكرات في سياق الشرط تعم، كما تعم في سياق النفي. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ولأن النفل ينقص بالسهو، فشرع جبره بالسجود له، كما يجبر الحج، فرضه ونفله.

وإنما يشرع للسهو في النفل بركعة تامة فأكثر، فأما صلاة

ص: 482

الجنازة فليس فيها سجود سهو؛ لأنه لا سجود فيها بالكلية، وكذلك سجود التلاوة ليس فيهِ سجود

سهو، لأن المشروع للتلاوة سجدة واحدة، ولا يجبر بأكثر من أصله.

والله أعلم.

ص: 483

‌8 - باب

إذا كلم وهو يصلي فأشار برأسه أو استمع

ص: 484

1233 -

حديثا يحيى بن سلمان: نا ابن وهب: أخبرني عمرو، عن بكير، عن كريب.

فذكر حديثاً قد ذكرناه بتمامه في ((باب: ما يصلى بعد العصر من الفوائت)) ، وفيه:

أن أم سلمة قالت: دخل علي – يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم – وعندي نسوة من [بني حرام من] الأنصار، فأرسلت إليه الجارية، فقلت: قومي بجنبه، وقولي له: تقول لك أم سلمة: يارسول الله، سمعتك تنهى عن هاتين الركعتين، وأراك تصليهما، فإن أشار بيده، فاستأخري عنه، ففعلت الجارية، فأشار بيده فاستأخرت عنه،، فلما انصرف قال:((يابنة أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر، أنه أتاني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان)) .

ص: 484

وخرجه في ((المغازي)) – أيضا – بهذا الإسناد، ثم قال: ((وقال بكر بن

مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بكر – فذكر نحوه)) .

ومقصوده بهذا الباب: أن المصلي يجوز أن يكلم في صلاته، ويستمع لمن كلمه، ويشير بيده أو برأسه؛ فإن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أم سلمة إرسالها الجارية إليه؛ لتكلمه وهو يصلي، بل أشار إليها فاستأخرت عنه، ثم أجاب عن سؤالها بعد الصلاة.

وقد اختلف السلف في هذا: فمنهم من رخص فيه. ومنهم من كرهه.

قال عبد الرزاق في ((كتابه)) ، عن معمر، عن ثابت، عن أبي رافع، قال: رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أحدهم ليشهد على الشهادة وهو قائم يصلي.

وعن ابن جريج، عن عطاء، في الرجل كان يصلي، فيمر به رجل، فيقول له: فعلت كذا وكذا؟ [...........] قالَ: ليتم صلاته، ثُمَّ ليسجد سجدتي السهو.

قالَ: وقلت لعطاء: أتكره كل شيء من الإيماء في المكتوبة، حتَّى أن

ص: 485

يمر بي إنسان وأنا في المكتوبة، فقالَ: صليت الصَّلاة؟ كرهت أن أشير إليه برأسي، فأقول: نعم؟ قالَ: أكره كل شيء من ذَلِكَ.

فقيل لهُ: فإن كانَ في التطوع؟ فقال: إن كان شيئاً لابد منه، وأحب إلي أن لا تفعل.

قال: وقال إنسان لعطاء: يأتيني إنسان وأنا في المكتوبة، فيخبرني الخبر، فأسمع إليه؟ قالَ: ما أحبه، وأخشى أن يكون سهواً، إنما هي المكتوبة، فتفرغ لها حتَّى تفرغ منها.

ففرق عطاء بين المكتوبة وغيرها، فكرهه في المكتوبة، وقال في التطوع: إن كان شيئاً لابد منه، وأحب إلي أن لايفعل، لم يكرهه.

ص: 486

‌9 - باب

الإشارة في الصلاة

قاله كريب، [عن أم سلمة] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

حديث كريب، عن أم سلمة، هو الذي خرجه في الباب الذي قبله.

ثم خرج في هذا الباب ثلاثة أحاديث:

الأول:

ص: 487

1234 -

حدثنا قتيبة: ثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه، أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء، فخرج يصلح

بينهم، في أناس معه - فذكر الحديث بطوله.

وقد تقدم قريباً بنحو سياقه، عن قتيبة، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل.

فالحديث؛ رواه قتيبة، عن عبد العزيز بن

ص: 487

أبي حازم، وعن يعقوب بن

عبد الرحمن، كلاهما عن أبي حازم، عن سهل.

والمقصود من [هذا الحديث] : أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يشق الصفوف، حتى قام في الصف، فالتفت أبو بكر فرآه، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأمره أن يصلي، فاستدل البخاري بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر على جواز الإشارة في الصلاة.

وليس في الحديث تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند إشارته إلى أبي بكر في الصلاة، بل كان قائما في الصف، فيحتمل أنه كان كبر للصلاة، ويحتمل أنه لم يكن كبر.

ولا يقال: لو لم يكن كبر لأمره بالقول دون الإشارة؛ لأن حديث أنس في كشف النَّبيّ صلى الله عليه وسلم الستارة يوم الإثنين، والناس خلف أبي بكر في صلاة الفجر، فيهِ: أنه صلى الله عليه وسلم أشار إليهم أن أتموا، ثُمَّ أرخى الستر، ولم يكن حينئذ في صلاة.

وكذلك في حديث عائشة، في مرض النبي صلى الله عليه وسلم، لما صلّي أبو بكر، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بين رجلين، فأشار إلى أبي بكر أن صلّ، وتأخر أبو بكر، وقعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى

جنبه.

وقد خرج البخاري ذلك كله في ((أبواب الإمامة)) .

ولعل المعنى في ذلك: أن الإشارة إلى المصلي بما يفعله في صلاته أقل لشغل باله من خطابه بالقول، لما يحتاج إلى تفهم القول بقلبه، والإصغاء إليه بسمعه،

ص: 488

والإشارة إليه يراها ببصره، وما يراه ببصره قد يكون أقل إشغالا له مما يسمعه بأذنه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

الحديث الثاني:

ص: 489

1235 -

نا يحيى بن سليمان: نا ابن وهب: نا الثوري، عن هشام، عن

فاطمة، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: دخلت على عائشة، وهي تصلي قائمة، والناس قيام، فقلت: ما شأن الناس؟ فأشارت برأسها إلى السماء. فقلت: آية؟ فقالت برأسها: أي نعم.

هذا قطعة من حديث صلاة الكسوف، وقد سبق في مواضع مطولا ومختصراً.

والإشارة فيه، من فعل عائشة وهي تصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك بمرفوع.

الحديث الثالث:

ص: 489

1236 -

نا إسماعيل: حدثني مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، أنها قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته - وهو شاك - جالساً، وصلى وراءه قوم قيام، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال:((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا)) .

وقد سبق هذا الحديث في ((أبواب الإمامة)) - أيضا.

وسبق هناك من حديث مالك، عن الزهري، عن أنس - معناه -، غير أنه لم يذكر فيه:((أشار إليهم أن أجلسوا)) .

وقد رواه معمر، عن الزهري، وذكر فيه هذه الزيادة.

خرجه الإمام أحمد.

وخرجه - أيضا - هو وأبو داود، بهذا الإسناد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير في الصلاة.

وقد قيل: إنه مختصر من هذا الحديث.

ص: 490

وفي الإشارة في الصلاة أحاديث أخر، سبق بعضها في ((باب: رد السلام في الصلاة)) ، وبعضها في ((أبواب المرور بين يدي المصلي)) ..

وأكثر العلماء على أن الإشارة في الصلاة لا بأس بها، روي ذلك عن عائشة، وفعله ابن عمر وسعيد بن جبير وغيرهما.

وقال الحسن: لابأس بالإيماء في الصلاة.

وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهما.

لكن فعله من غير حاجة من باب العبث، وهو مكروه في الصلاة.

وسئل النخعي، عن الإشارة في الصلاة، فقال: إن في الصلاة لشغلاً.

وكذا قال الثوري.

وكرهه عطاء خصوصاً في المكتوبة، وقد تقدم قوله في ذلك.

وكره الإشارة في الصلاة، بما ليس شأن الصلاة، منهم: أبو زرعة الرازي وأبو بكر الأثرم.

وقد روي عن عائشة، أنها كانت تشير في الصلاة بما ليس من شأن الصلاة.

وعن أوس بن أوس وغيره.

وروى ابن لهيعة، عن حيي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن

ص: 491

الحبلي، عن

عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي، فأشارت إليه بثوبه، فأشار إليها صلى الله عليه وسلم أن اغسليه.

خرجه الجوزجاني.

وهو إسناد ضعيف.

وإن صح، فإنما فيه إباحة الإشارة في الصلاة بما فيه مصلحة دينية، وليس دنيوياً محضاً.

وروى ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن الأخنس، عن أبي غطفان، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((التسبيح للرجال والتصفيق للنساء، من أشار في الصلاة إشارة تفهم عنه فليعد لها)) .

يعني: الصلاة.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود.

وخرجه البزار، ولفظه:((فليعد صلاة أفسدت)) .

وقال أبو داود: هذا الحديث وهم.

وقال أحمد - في رواية ابن

ص: 492

هانئ -: لا يثبت هذا الحديث، إسناده ليس بشيء.

وقال - في رواية غيره -: لا أعلم رواه غير ابن إسحاق.

وقال أبو زرعة الرازي: هو عندي ليس بذاك الصحيح، ولم يروه غير ابن إسحاق.

وقال الأثرم: ليس بقوي الإسناد.

وقال الدارقطني: قال لنا ابن أبي داود: أبو غطفان هذا رجل مجهول، وآخر الحديث زيادة في الحديث، لعله من قول ابن إسحاق.

يعني: أن آخره مدرج، ليس هو من تمام الحديث المرفوع.

وهذا هو الظاهر.

وهذا يدل على أن أبا غطفان هذه ليس هو المري الذي خرج له مسلم، بل هو غيره.

وابن إسحاق، مدلس، ولم يصرح بسماعه من يعقوب بن عتبة، فلعله دلسه عن ضعيف.

ص: 493

‌استدراك

(*)

فائدةٌ:

قال الحافظ ابن رجب في ((شرح البخاري)) ، لما تكلم على حديث النزول، قالَ:

أهل الحديث في النزول على ثلاث فرق:

فرقة منهم، تجعل النزول من الأفعال الاختيارية التي يفعلها الله بمشيئته وقدرته، وهو المروي عن ابن المبارك ونعيم بن حماد وإسحاق بن راهويه وعثمان الدارمي.

وهو قول طائفة من أصحابنا، ومنهم: من يصرح بلوازم ذلك من إثبات

الحركة.

وقد صنف بعض المحدثين المتأخرين من أصحابنا مصنفاً في إثبات ذلك، ورواه عن الامام أحمد من وجوه كلها ضعيفة، لا يثبت عنه منها شيء.

وهؤلاء؛ منهم من يقول: ينزل بذاته، كابن حامد من أصحابنا.

وقد كان الحافظ إسماعيل من التميمي الأصبهاني الشافعي يقول بذلك، وجرى بينه وبين طائفة من أهل الحديث بسببه فتنة وخصام.

(ج 6 / ص 533)

(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذا الاستدراك من طبعة الشيخ طارق عوض الله (دار ابن الجوزي - السعودية / الدمام - 1422هـ) ، وتجد أرقام الصفحات والأجزاء بأسفل كل صفحة

ص: -1

قال الحافظ أبو موسى المديني: كان من اعتقاد الإمام إسماعيل أن نزول الله تعالى بالذات، وهو مشهور من مذهبه؛ لكنه تكلم في حديث نعيم بن حماد الذي رواه بإسناده في النزول بالذات. قالَ: وهو إسناد مدخول، وفيه مقال، وفي بعض رواته مطعن، ولا تقع بمثله الحجة، فلا يجوز نسبة قوله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والفرقة الثانية: تقول: إن النزول إنما هوَ نزول الرحمة.

ومنهم من يقول: هوَ إقبال الله على عباده، وإفاضة الرحمة والإحسان عليهم.

ولكن؛ يرد ذَلِكَ: تخصيصه بالسماء الدنيا، وهذا نوع من التأويل لأحاديث الصفات.

وقد مال إليه في حديث النزول خاصة طائفة من أهل الحديث، منهم: ابن قتيبة والخطابي وابن عبد البر.

وقد تقدم عن مالك، وفي صحته عنه نظر.

وقد ذهب إليه طائفة ممن يميل إلى الكلام من أصحابنا، وخرجوه عن أحمد من رواية حنبل عنه في قوله تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22]، أن المراد: وجاء أمر ربك.

وقال ابن حماد: رأيت بعض أصحابنا حكى عن أبي عبد الله في الإتيان، أنه قال: تأتي قدرته. قال: وهذا على حد الوهم من قائله، وخطأ في إضافته إليه.

وقد روي فيه حديث موضوع: ((إن نزول الله تعالى إقبال على الشيء من غير نزول)) .

(ج 6 / ص 534)

ص: -1

وذكره ابن الجوزي في ((الموضوعات)) .

وهذا الحديث مقابل لحديث نعيم بن حماد الذي رواه في النزول بالذات.

وكلاهما باطل، ولا يصح.

والفرقة الثالثة: أطلقت النزول كما ورد، ولم تتعد ما ورد، ونفت الكيفية عنه، وعلموا أن نزول الله تعالى ليس كنزول المخلوق.

وهذا قول أئمة السلف: حماد بن زيد، وأحمد؛ فإن حماد بن زيد سئل عن النزول، فقال: هو في مكانه، يقرب من خلقه كيف شاء.

إلى أن قال:

وقال حنبل: قلت لأبي عبد الله: ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا؟ قال:

نعم. قلت: نزوله بعلمه، أو بماذا؟ قال لي: اسكت عن هذا، مالك ولهذا؟ ! أمض الحديث على ما روي، بلا كيف ولا حد؛ إلا بما جاءت به الآثار وبما جاء به الكتاب؛ قال الله عزوجل:{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: 74] ، ينزل كيف شاء بعلمه وقدرته وعظمته، أحاط بكل شيء علماً، لا يبلغ قدره واصف، ولا ينأى عنه هارب. انتهى.

إلى ان قال:

والزيادة على ما ورد في النزول من ذكر الحركة والانتقال وخلو العرش

وعدمه؛ كله بدعة، والخوض فيه غير محمود.

قال أبو داود الطيالسي: كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يجسدون، ولا يشبهون، ولا يمثلون الحديث،

(ج 6 / ص 535)

ص: -1

لا يقولون: كيف، وإذا سئلوا أجابوا بالأثر. خرجه البيهقي.

(ج 6 / ص 537)

ص: -1