الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فتح الباقي على منظومة المراقي
تأليف: محمد بن محمد محمود بن محمد المصطفى بن ديَّ اليعقوبي الأعمامي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فقد طلب مني نفر من طلبة العلم، أن أشرح لهم منظومة جدنا السيد، البركة، الإمام، الحجة، شيخ الشيوخ، وعمدة ذوي الرسوخ، شمس الدين، مولاي سيدي: عبد الله بن الحاج إبراهيم بن الإمام العلوي رحمهم الله سبحانه وتعالى أجمعين ـ فأردت أن أجيبهم إلى ذلك، رغم ما أعلمه من قصر الباع، ودواعي الامتناع، مستعينا بالله سبحانه وتعالى لا رب سواه، ولا فاعل غيره.
وقد رجعت في هذا الشرح الوجيز، والتعليق المقتضب، إلى شرح الشيخ الناظم رحمه الله سبحانه وتعالى فهو علق نفيس، جمع فيه ما تدعو الحاجة إليه في تعلم هذا الفن، مع زيادة فوائد حسنة جدا، وكأنما عناه بقوله في النظم:
أنهيت ما جمعه اجتهادي
…
وضربي الاغوار مع الأنجاد
مما أفادنيه درس البرره
…
مما انطوت عليه كتْب المهره
كالشرح للتنقيح والتنقيح
…
والجمع والآيات والتلويح
مطالعا لابن حلولو اللامعا
…
مع حواش تعجب المطالعا
وهو حري أن ينشد فيه قول ابن بري ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى:
أوردت ما أمكنني من الحُجج
…
مما يقام في طلابه حِجج
وإلى شرح الشيخ آب رحمه الله سبحانه وتعالى فهو أحسن الشروح اختصارا للأصل، وأبينها عبارة، وأنفعها للمبتدئين.
وإلى شرح الشيخ اباه ـ حفظه الله سبحانه وتعالى فقد تضمن نقولا مفيدة حسنة، لا غنى عنها، تفرد بها عن سائر الشروح، كما اعتنى بالتصحيح والمقابلة بين النسخ، وتوثيق المادة، وذلك مقصد عظيم الأهمية، وكما يعتبر شرحه شرحا للمراقي، يعتبر أيضا حاشية على شرح المؤلف.
ورجعت كذلك إلى تنقيح الفصول في اختصار المحصول، وشرحه لمؤلفه، شهاب الدين أحمد ابن إدريس القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى لكونه من أهم مدارك الشيخ، في المراقي والنشر معا.
وإلى كتاب الإشارة للقاضي أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي رحمه الله سبحانه وتعالى.
وإلى حاشية الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله سبحانه وتعالى على التنقيح، فقد تضمنت تحريرات حسنة، في مواضع كثيرة.
وإلى إرشاد الفحول للشوكاني رحمه الله سبحانه وتعالى فهو من أكثر الكتب المختصرة في هذا الفن استيعابا للأقوال.
وربما رجعت لمقتض إلى غير هذه الكتب، كإبهاج التاج على المنهاج، ورفع الحاجب له على مختصر ابن الحاجب، والبحر المحيط، وغيرها.
وقد سميت هذا التقييد الميمون، بفتح الباقي، على منظومة المراقي.
وسأشرحه ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى إذا تفرغت بأوفى من هذا.
والله سبحانه وتعالى وحده المستعان، وعليه وحده التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله تعالى وسلم وبارك على سيدنا، وشفيعنا، وحبيبنا، وقرة أعيننا، محمد صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
محمد بن محمد محمود بن محمد المصطفى بن دي.
محروسة كيف غرة شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين.
قال الناظم رحمه الله سبحانه وتعالى:
يقول عبد الله وهو ارتسما
…
سُمى له والعلوي المنتمى
الحمد لله على ما فاضا
…
من الجدا الذي دهورا غاضا
وجعل الفروع والأصولا
…
لمن يروم نيلها محصولا
وشاد ذا الدينَ بمن ساد الورى
…
فهْو المجلِّي والورى إلى ورا
محمد منوِّر القلوب
…
وكاشف الكرب لدى الكروب
صلى عليه ربنا وسلما
…
وآله ومن لشرعه انتمى
هذا وحين قد رأيت المذهبا
…
رجحانُه له الكثير ذهبا
وما سواه مثل عَنْقا مُغْرِب
…
في كل قُطر من نواحي المغرب
أردت أن أجمع من أصوله
…
ما فيه بُغية لذي فصوله
منتبذا عن مقصدي ما ذُكرا
…
لدى الفنون غيره محررا
سميته مراقي السعود
…
لمبتغي الرقي والصعود
أستوهب الله الكريم المددا
…
ونفعه للقارئين أبدا
قوله: ارتسمى معناه: ثبت، وسمى: مثلث السين لغة في الاسم، والاسم يطلق في مقابلة الفعل والحرف، فيتناول الأسماء كلها، ويطلق في مقابلة الكنية واللقب، ويراد به ما وضع علما للشيء وضعا أوليا، وما وضع له بعد ذلك، ينظر فإن دل على ذم أو مدح، فهو اللقب، وإن تصدر بابن، أو أب، أو بنت، أو أخ، أو نحو ذلك، فهو كنية.
وقوله: وهو ارتسما سما له، معناه أن عبد الله اسم علم له، كما أنه صفة له كغيره، دفع بهذا توهم عدم الاسمية، وأنه إنما أراد الوصف.
قوله والعلوي: نسبة إلى علي بن أبي طالب أو علي آخر من ذريته، كما قال الناظم ـ رحمه الله تعالى ـ.
والحمد: المدح والثناء، وفاض فَيضا وفُيوضا وفَيَضانا: جرى وتدفق، وفي نسخة: أفاض، بهمزة التعدية.
والجدا ـ بفتح الجيم مع القصر والمد ـ: النفع والعطاء، من جداه جَدْوا، والجداء بضم
الجيم: نتيجة الضرب، يقال: ثلاثة في أربعة، جداؤها: اثنا عشر.
والدهور: جمع دهر، ويجمع في القلة على أدهر، يطلق على الزمان قصر أو طال، وعلى الزمان الطويل خاصة، وهو المراد هنا، ويطلق على الدنيا كلها، ويطلق على النازلة.
وغاض غَيْضا ومَغاضا ومَغيضا: نقص، والفروع: جمع فرع، والأصول: جمع أصل، والفرع لغة: أعلى الشيء، والأصل خلافه، ومنه قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(أصلها ثابت وفرعها في السماء) والفرع في المسائل ما بني على غيره، بأن كان مقيسا عليه ـ مثلا ـ أو مدلولا له، والأصل خلافه أيضا.
ويروم: مضارع رام الشيء روْما ومراما: قصده وطلبه، ويأتي بمعنى زال، رَيْما ورَيَمانا، يقال: لم يرم يفعل كذا.
والنيل بفتح النون: مصدر نال مطلوبه إذا أصابه، ومحصولا معناه حاصلا، يقال: محصول كذا أي: حاصله.
وشاد: من شاد البناء شَيدا إذا رفعه، والدين: الملة، وساد: فعل من السيادة، وهي الشرف والرفعة، والورى: الخلق، والمجلي: السابق في الميدان، ووراء بمعنى خلف، ويستعمل أيضا بمعنى أمام.
والمحمد في الأصل: الذي كثرت محامده، قال:
إليك أبيت اللعن أعملتُ ناقتي
…
إلى الماجد القرم الكريم المحمد
والمنور: اسم فاعل من نور تنويرا إذا أضاء، والكروب جمع كرب: الحزن والغم يأخذ بالنفس.
والصلاة من الله سبحانه وتعالى على رسوله ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ قيل: زيادة تشريفه ورفع درجته، وقيل: ثناؤه عليه بالملإ الاعلى.
والرب: المالك، والسلام: التحية والأمن، وآل النبي ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ هنا: قرابته، بقرينة قوله: ومن لشرعه انتمى، والشرع: الدين.
وهذا: كلمة ينتقل بها من مقام إلى مقام، والمذهب: الطريق، وأل فيه للعهد، أي: مذهب الإمام مالك رحمه الله سبحانه وتعالى.
والرجحان: مصدر رجح، كالرجوح، والمراد قوته، وظهور مداركه، وعنقا مغرب: طائر
وهمي، يقال في الإخبار على عدم الشيء يقال: حلقت به في الجو عنقاء مغرب، والبغية: الحاجة المطلوبة.
والمراد بذي الفصول: الفروعي، ومنتبذا: اسم فاعل من انتبذ، يقصد تاركا. والمقصد: مصدر ميمي، ومحررا: اسم فاعل من حرره تحريرا إذا ضبطه وهذبه، وهو حال من فاعل أجمع في قوله: أن أجمع من أصوله.
والمعنى أنه ترك ـ عن قصد ـ الكلام على الفصول التي جرت عادة بعض أهل الفن بذكرها، مع أنها من علوم أخرى، كمعاني الحروف، وأنواع الدلالة.
والمراقي: جمع مرقاة، وهي الآلة التي يصعد بها، والسعود: جمع سعد، وهو اليمن والبركة، نقيض النحس.
وأستوهب: فعل مضارع من استوهب الشيء استيهابا، إذا طلب أن يوهب له. والمدد: العون، والمراد بالقارءين: الدارسون، والأبد: الزمن الذي ليس بمحدود، وفي المثل طال الأبد على لُبَد، يضرب لكل ما تقادم عهده، ومرت عليه أزمنة كثيرة.
ترجمة الناظم
هذا وقد كنت ذكرت في مصعد الراقي ترجمة مختصرة للشيخ الناظم رحمه الله سبحانه وتعالى وسأنقلها هنا ـ مع تصرف ـ تبركا بها وتيمنا، فأقول:
ولد الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى عام 1152 هـ كما في حوليات تججكه
(1)
.
وأخذ عن طائفة من أهل العلم ببلاده، منهم سيدي مولاي المختار بن بونا الجكني رحمه الله سبحانه وتعالى
(2)
ومولاي سيدي عبد الله
(3)
بن الفاضل اليعقوبي رحمه الله سبحانه
(1)
قال في نيل النجاح: بفوقية مكسورة، فجيمين، الأولى مكسورة، والثانية ساكنة، وكاف معقودة.
إلى أن قال: ومعناها بلسان آزناقة: بئر البقر اهـ
(2)
هو العالم الكبير المختار بن محمد سعيد، المعروف ببونا، ولد في العقود الأولى من القرن الثاني عشر، وأخذ عن انجبنان الشمشوي، والمختار بن أحمدنا ألفغ، وغيرهما من علماء عصره رحمهم الله سبحانه وتعالى أجمعين ـ.
اشتهر بعلوم العربية والمعقول من نحو، ولغة، وبيان، وكلام، ومنطق، وأصول، وغير ذلك.
وممن أخذ عنه من مشاهير عصره: سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم، وابنه سيدي محمد، وحرمة بن عبد الجليل العلوي، وعبد الله بن الحاج حمى الله، وابن أخته: محمد النابغة القلاوي، وسيدي عبد الله بن أحمد دام، وبلا، الحسنيان، وابن عيد الجكني، وادييجه الكمليلي، ومحمد لمجيدري اليعقوبي، والمختار بن حبيب الجكني، ومولود بن أحمد الجواد اليعقوبي، والسالك بن عمار العلوي، وعبد الله بن سيد محمود الحاجي، وأبات النزاري، وغيرهم من الأئمة الأعلام رحمهم الله سبحانه وتعالى أجمعين ـ.
له مؤلفات عديدة، طار صيتها، ولقيت قبولا عظيما، منها الجامع بين التسهيل والخلاصة، المعروف بالاحمرار والطرة، ومنها وسيلة السعادة في علم الكلام، وتحفة المحقق في علم المنطق، ومبلغ المأمول من علم الأصول، نظم به جمع الجوامع، ومؤلفات أخرى.
توفي رحمه الله سبحانه وتعالى في حدود عام 1230 هـ
(3)
سيدي عبد الله، بن الفاضل، بن بارك الله فيه، اليعقوبي، عالم متبحر، ذو مكانة عظيمة بين أهل عصره، أخذ عن علماء قبيلته، وعن سيدي أحمد الحبيب اللمطي وغيره، ويقال: إنه أخذ عن المختار بن بونا أيضا، ولا يبعد ذلك بحكم علاقة الجوار، والمحبة المعروفة بينهما، وقد أثنى على ابن بونا في رسالته تحفة المتابع، كما مدحه هو المختار في بعض قصائده، حج ولقي عددا من العلماء في رحلته، وأخذ عنه سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم، وعبد الله بن الحاج حمى الله وغيرهم، توفي سنة 1209 هـ
قال عنه البرتلي: كان رحمه الله سبحانه وتعالى من العلماء العاملين، وعباد الله الصالحين، له حظ من علم التصوف، متفننا في علوم شتى، ناصر السنة، ومخمد جمر البدعة، ورعا في مطعمه، لا يعيش إلا من لبن نياق ورثهم عن والديه رحمهم الله سبحانه وتعالى.
وتعالى ـ.
ورحل إلى المغرب، وعمره نحو الثلاثين.
وذكر في الدر الخالد أنه مكث فيه سبع سنين، وقال: الغالب عليه الفاسان: الجديد، والبالي، ومراكُش، وهي التي أخذ فيها عن بناني اهـ
وممن تتلمذ عليهم من أهل العلم بالمغرب، سيدي محمد التاودي بن سودة ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى.
وسيدي عمر الفاسي رحمه الله سبحانه وتعالى ذكره في نشر البنود مستهل مسألة القوادح.
والشريف الحسيني: سيدي عبد الله بن مولاي إدريس ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى ذكره في نيل النجاح.
كان من خاصة السلطان سيدي محمد الثالث بن عبد الله بن إسماعيل ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى.
رحل إلى الحج من هناك مع ابن الأمير: مولاي اليزيد ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى ودخل في رحلته الأزهر الشريف، كما في شرحه لرشد الغافل.
ومر في رجوعه بتلمسان، كما في شرحه لنظم الأربعين سادة.
كان رجوعه إلى بلاد شنقيط عام 1190 هـ كما في حوليات تججكه، وعمره يومئذ ثمانية وثلاثون سنة، وعاش بعد ذلك نحو اثنين وأربعين عاما، تخرج به فيها خلائق لا يحصون من أهل العلم والصلاح الظاهر، ورفعت إليه النوازل من البلاد البعيدة، وأذعن لإمامته في العلم، والتربية، والفتوى عامة أهل قطره، برهم وفاجرهم، وقصته مع جدنا مولاي الولي الشهير، والعالم الكبير، ذي البركات الظاهرة، والخوارق الباهرة، مولاي الشريف: سيدي أحمد الولي
(1)
بن مولاي إدريس العلَمي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى قصة عجيبة،
(1)
ترجم له الأستاذ الباحث المبرز في التاريخ وأصول الفقه الشيخ محمد يحيى بن احريمو فقال: الشريف أحمد بن مولاي إدريس العلَمي، الحسني، الإدريسي، صالح وعالم مشهورمن أسرة من الشرفاء " العَلَميين " أبناء سيدي عبد السلام بن مشيش رحمه الله سبحانه وتعالى.
ولد ونشأ في نواحي فاس بالمغرب، ثم انتقل إلى موريتانيا بعد سياحة وجولان في الأرض.
إلى أن قال: لا تسعفنا المصادر المكتوبة بمعلومات كبيرة عن هذه الشخصية العلمية والصوفية الهامة، غير أنها تتفق على بلوغه الغاية في العلم والصلاح والعبادة، فقد سلم له علماء عصره، واعترفوا بتبريزه.
وقد ورد ذكره ضمن تلامذة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم رحمه الله سبحانه وتعالى وهو أمر وارد بحكم العلاقة الوطيدة التي جمعته به.
وقد تتلمذ للشريف أحمد الولي رحمه الله سبحانه وتعالى بعض العلماء من أشهرهم: الطالب أعمر بن علي السِّيدْ الطلابي، ومحمد المختار بن أيدَّ الجكني، والعلامة الجليل أحمد الصغير بن حمى الله التشيتي (ت 1272 هـ) فقد ذكر ابنه محمدو في ترجمته أنه لازم الشريف أحمد الولي مدة، وانتفع به وتربى على يديه، كما تشير بعض المصادر إلى لقاء عابر جمعه مع الشيخ محمد فاضل بن مامين في صغره رحمهم الله سبحانه وتعالى أجمعين ـ.
إلى أن قال: توفي الشريف أحمد الولي رحمه الله سبحانه وتعالى سنة 1267 هـ كما في حوليات تشيت اهـ
إلى أن قال: أما أبناء الشريف أحمد الولي رحمه الله سبحانه وتعالى فهم: الطيب، ومولاي، وعبد القادر، والحضرمي، ورقية، وفاطمة، ولاله، وعائشة ـ رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.
ولقاء الشيخ محمد فاضل به ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى الذي أشار إليه، ذكره الشيخ ما العينين رحمه الله سبحانه وتعالى في فاتق الرتق، ونصه: يحكى أن أبانا الشيخ محمد فاضل بن مامين ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنه ـ كان يلعب مع الصبيان، وهو في غاية الصبية، إذ رأوا جملا من بعد، وعليه رجل عليه عمامة، وحوله الناس، ما بين مشيع وسائر معه، فقال شيخنا: من هذا؟ فقالوا له: ذلك سيدي أحمد الولي الشريف، الذي له من المزايا كذا وكذا، فجعل يعدو بأثره حتى وصله، فلما وصله نظر إليه الشريف، وأمسك الجمل عن السير بعد أن رأى الناس يقبلون شيخنا، ويقولون: مرحبا مرحبا، فقال له شيخنا: أيها الشريف: إني جئت زائرك، وأريد أن تدعو الله سبحانه وتعالى لي بخير، فقال لهم الشريف: من هذا الصبي الذي قول هذا؟ فقالوا له: ذلك ابن مامين فلان، فقال لهم: ارفعوه لي، فرفعوه له، فوضعه على فخذيه، بينه مع قربوس راحلته، وجعل يقبله، ويمسح يده على رأسه، فقال له: أتريد أن أدعو لك بالعلم الظاهر، أو بالعلم الباطن؟ فقال له شيخنا: أريد أن تدعو لي بهما، فقال له: إن كنت تريد العلم الظاهر فتعلم هذا البيت
فمن لم يذق ذل التعلم ساعة
…
تجرع كأس الجهل طول حياته
وحكاه عليه حتى حفظه، وإن كنت تطلب العلم الباطن فتعلم هذا البيت
وقدم فتوحا إذ عليه مدارها
…
فإن طريق الشيخ بذل العطيه
فتعلم شيخنا البيتين، وعمل بهما ما شاء الله سبحانه وتعالى حتى أعطاه الله سبحانه وتعالى ما أعطاه بالتمام، وله الحمد والشكر على ما أولاه من بين الأنام اهـ
دالة على أنه من كبار المكاشفين.
ألف رحمه الله سبحانه وتعالى تآليفه التي تلقاها الناس بالقبول، في علوم شتى.
ومن أولها: نَوْر الآقاح، أتمه بتججكه أواخر جمادى الأخيرة عام 1191 هـ
ثم طرد الضوال والهمل الذي أتمه أواخر جمادى الأخيرة من العام الموالي.
ثم فيض الفتاح على نَوْر الآقاح، الذي شرع فيه في صفر الخير، عام 1194 ه
وأتمه في رجب عام 1198 هـ بتججكه.
ثم روضة النسرين في الصلاة على النبي الأمين ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ.
ثم شرحه: يسر الناظرين، وقد أتمه عام 1201 هـ
ثم شرع في هدي الأبرار في تلك السنة، منتصف شعبان، وأتمه عام 1205 هـ
ولم أقف على تاريخ نظمه لطلعة الأنوار.
وقد اشتغل بنيل النجاح عام 1203 هـ أثناء اشتغاله بهدي الأبرار.
ولم أقف على تاريخ نظمه لنيل النجاح.
واشتغل قبل إتمامه لنيل النجاح بمراقي السعود، حيث أتم نظمه 1206 هـ
وبشرحه نشر البنود الذي ابتدأه عام 1207 هـ ولم يكمله إلا عام 1214 هـ
ثم أتم نيل النجاح عام 1223 هـ
ثم أتم شرحه لرشد الغافل عام 1224 هـ
ولم أقف على تاريخ نظمه لرشد الغافل.
ومن مؤلفاته كذلك شرح لأسماء الله تعالى الحسنى، وقد نظمه شيخ شيوخنا الصالح الشهير والفقيه الحجة لمرابط السالم
(1)
بن إسلمو الأبياري رحمه الله سبحانه وتعالى.
ومن مؤلفاته نظم في القراآت الثلاث.
ومن مؤلفاته رسالة في نسب قبيلتي إيدوعلي والأقلال، ولم أتمكن من الوقوف عليها.
وقد جمعت فتاويه، فجاءت في جزء غزير العلم، عظيم الفائدة، تلقاه أهل العلم
(1)
هو السالم بن إسلمو بن اعْلِنْبِطالِبْ بن عبد الودود بن ألفغ ألمين بن لمرابط بلعمش الأبياري الفاضلي، عالم متمكن في الفقه، شديد الشكيمة، لا تأخذه الله سبحانه وتعالى لومة لائم، لا يداهن الأمراء، مبرز في الفتوى والقضاء، عابد ناسك، له ديوان شعر، وأنظام كثيرة في العقائد والفقه وغيرهما، أخذ عن لمرابط أحمد فال بن آد الجكني الرمضاني، ولمرابط محمد المصطفى بن دي اليعقوبي الأعمامي، ولمرابط أحمد بن مود الجكني الأجفاغي، وأخذ عنه جمع كثير من أعيان الفقهاء وغيرهم، توفي عام 1381 هـ بتكانت عن نحو خمسين سنة.
بالقبول، وتعاطوه بالنظم، والشرح.
ولا أعرف تاريخ جمعها، ويظهر من تتبعها أن جمعها تم في مراحل، ولا أستبعد أن يكون البعض منها جمع في حياة الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى لتكرر العزو إليها في نوازل القصري ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى المتوفى عام 1235 هـ
توفي الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى عام 1233 هـ كما قال الفقيه الأديب باب ابن أحمد بيب العلوي رحمه الله سبحانه وتعالى:
عام ثلاث وثلاثين سنه
…
القبة الزهراء صارت مدفنه
وذكر في الدر الخالد أن ذلك وقت المغرب ليلة الجمعة الثامن والعشرين من ربيع الثاني.
المقدمة:
بفتح الدال من قدم الشيء: ضد أخره، وبكسرها من قدم بين يديه بمعنى: تقدم.
وهي نوعان:
مقدمة كتاب، وهي ما يذكر أوله غالبا، لبيان مصطلحه ـ مثلا ـ كمقدمة خليل رحمه الله سبحانه وتعالى في مختصره.
ومقدمة علم، وهي: ما يذكر فيه حده ـ مثلا ـ ونحوه من المبادئ، كهذه المقدمة.
أول من ألفه في الكتب
…
محمد بن شافع المطلبي
وغيره كان له سَلِيقه
…
مثل الذي للعُرْب من خَليقه
قوله: أول من ألفه البيت، معناه أن أول من ألف في علم الأصول، هو الإمام الشافعي رحمه الله سبحانه وتعالى وهو محمد بن إدريس، بن عباس، بن عثمان، بن شافع.
وذلك في كتاب الرسالة الذي وضعه لما بعث إليه عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله سبحانه وتعالى يسأله أن يضع له كتابا يذكر فيه معاني القرآن، وشروط الأخبار، وأشياء
من هذا القبيل.
وكان قبل ذلك سليقة للناس، كالنحو والبلاغة وغيرهما، كما أشار إليه رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: وغيره كان له سليقة البيت.
والسليقة والخليقة مترادفان، معناهما: الطبيعة، وهي الأمر المركوز في الإنسان.
وذلك أن أكثر هذا العلم ـ أو كثير منه ـ عائد إلى مسائل اللسان، كمباحث الألفاظ، وقد كانت قواعد اللسان مركوزة في طبائعهم، ككل لسان للمولود بين أهله، ولم تدون قواعده حتى دخل العجم في الإسلام، فدخل على الناشئة من العرب اللحن من قبلهم، وما سوى ذلك من قواعده ما بين عقلي، وشرعي، قريب من البدهي عند الممارسين، كشروط الأخبار.
الاحكام والأدلة الموضوعُ
…
وكونه هذي فقط مسموع
معناه أن موضوع علم أصول الفقه، هو أدلة الأحكام، التي هي الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، لأنه يبحث فيه، عن العوارض اللاحقة لها، من كونها عامة أو خاصة، أو مطلقة، أو مقيدة، أو ناسخة أو منسوخة، أو محكمة، أو مجملة، أو ظاهرة، أو نصا، ونحو ذلك، وهذه الأشياء هي مسائل الفن.
وموضوع الفن: هو ما يبحث فيه عن أعراضه الذاتية، كبدن الإنسان بالنسبة لعلم الطب، والمراد حملها على نوع من أنواعه، كقولنا: الإجماع القطعي حجة قطعية، أو على أعراضه، كقولنا: الأمر للوجوب، فالأمر من عوارض النص الذي هو نوع من أنواع الأدلة، أو على أنواع أعراضه، كقولنا: الأمر المقيد ليس أمرا بتحصيل ما قيد به، فالأمر المقيد نوع من أنواع الأمر.
وقيل: موضوعه الأدلة والأحكام معا، إذ يبحث فيه أيضا عن أعراض الحكم، كانقسام الأمر إلى عيني وكفائي، ونحو ذلك، والأول رأي الأكثرين.
أصوله دلائل الإجمال
…
وطُرُق الترجيح قَيْد تال
وما للاجتهاد من شرط وَضَح
…
ويطلق الأصل على ما قد رجح
قوله: أصوله دلائل الإجمال، معناه أن أصول الفقه هي أدلته الإجمالية، أي: مسائل
أدلته الإجمالية، وطرق الترجيح، وشروط المجتهد.
والدليل سيأتي أنه: ما يتوصل بصحيح النظر فيه، إلى مطلوب خبري.
والإجمالية: خلاف التفصيلية، من أجمل الشيء إذا جمعه.
قال في الإبهاج: والمراد بالإجمالية: كليات الأدلة، فإن (أقيموا الصلاة) و (لا تقربوا الزنا)(اقتلوا المشركين) ونهيه صلى الله تعالى عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان،
(1)
وإطلاق الرقبة في موضع، وتقييدها بالإيمان في موضع، وصلاته صلى الله تعالى عليه وسلم في الكعبة،
(2)
وإجمال الصلاة في الآية المذكورة، وبيان جبريل ـ على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ لها،
(3)
ونسخ التوجه إلى بيت المقدس، والإجماع على أن بنت الإبن لها السدس، وخبر ابن مسعود ـ رضي الله سبحانه وتعالى في ذلك،
(4)
وقياس الأرز على البر، ومرسل سعيد بن المسيب ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنهما ـ في النهي عن بيع اللحم بالحيوان،
(5)
وقول عثمان ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنه ـ في بيع الفراء، والمصلحة المرسلة في التترس، والأخذ بالأخف في دية اليهودي، والاستحسان في التحليف على المصحف، ونحو ذلك كلها أدلة معينة، وجزئيات مشخصة، والعلم بها ليس من أصول الفقه في شيء، وإنما هي وظيفة الفقه، ولهذه الأدلة وأمثالها كليات، وهي مطلق الأمر، والنهي، والعموم، والخصوص، والإطلاق، والتقييد، والفعل، والإجمال، والتبيين، والنسخ، والإجماع، وخبر الواحد، والقياس، والمرسل، وقول الصحابي، والمصلحة المرسلة، والأخذ بالأخف، والاستحسان عند من يقول به.
وهذه الكليات داخلة في الجزئيات، فإن الكلي الطبيعي موجود في الخارج، وفي الذهن، في ضمن مشخصاته، ففي الأدلة اعتباران:
(1)
متفق عليه.
(2)
متفق عليه.
(3)
حديث " أمني جبريل ـ على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ عند البيت مرتين " رواه أبو داوود والترمذي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
(4)
رواه البخاري وأبو داوود والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد.
(5)
رواه الإمام مالك في الموطإ.
أحدهما من حيث كونها معينة، وهذه وظيفة الفقيه، وهي الموصلة القريبة إلى الفقه، والفقيه قد يعرفها بأدلتها إذا كان أصوليا، وقد يعرفها بالتقليد.
والاعتبار الثاني من حيث كونها كلية، أعني يعرف ذلك الكلي المندرج فيها، وإن لم يعرف شيئا من أعيانها، وهذه وظيفة الأصولي.
فمعلوم الأصولي الكلي، ولا معرفة له بالجزئي من حيث كونه أصوليا.
ومعلوم الفقيه الجزئي، ولا معرفة له بالكلي من حيث كونه فقيها، ولا معرفة له بالكلي إلا لكونه مندرجا في الجزئي المعلوم، وأما من حيث كونه كليا فلا.
فالأدلة الإجمالية هي الكلية، سميت بذلك لأنها تعلم من حيث الجملة، لا من حيث التفصيل، وهي توصله بالذات إلى حكم الإجمالي، مثل كون كل ما يؤمر به واجبا، وكل منهي عنه حراما، ونحو ذلك، وهذا لا يسمى فقها في الاصطلاح، ولا توصل إلى الفقه بالتفصيلي، وهو معرفة سنية الوتر، أو وجوبه، وبطلان بيع الغائب أو صحته ـ مثلا ـ إلا بواسطة.
ثم معرفة الأدلة من حيث كونها أدلة، لا بد معه من كيفية الاستدلال،
(1)
ومعظمها يذكر في باب التعارض والترجيح، فجعلت جزءا آخر من أصول الفقه، لتوقف الفقه عليها.
وليس كل أحد يتمكن من الاستدلال، ولا يحصل له الفقه بمجرد علم تلك الأدلة وكيفية الاستدلال، لأنها أدلة ظنية، ليس بينها وبين مدلولاتها ربط عقلي، فلا بد من اجتهاد يحصل به ظن الحكم، فالفقه موقوف على الاجتهاد، والاجتهاد له شروط يحتاج إلى بيانها، فجعلت جزءا ثالثا من أصول الفقه، لتوقف الفقه عليها اهـ بخ
وعرفه ابن الحاجب رحمه الله سبحانه وتعالى بأنه العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية اهـ
وقد اعترض الإضمار في قول بعض المؤلفين: أصوله، لأن أصول الفقه ـ علما ـ مفرد،
(1)
فالأمر ـ مثلا ـ قد يعارضه معارض، فيحتاج في الاستدلال، إلى معرفة ما يكون به أحدهما مقدما على الآخر.
والمفرد لا معنى لبعضه حتى يضاف، فأصول من قولنا: أصول الفقه ـ علما ـ كالباء من بكر، كما هو قول الأخضري:
مستعمل الألفاظ حيث يوجد
…
إما مركب وإما مفرد
فأول ما دل جزؤه على
…
جُزُء معناه بعكس ما تلا
قوله: ويطلق الأصل على ما قد رجح، هو من تتمة الكلام على كلمة أصول، فكلمة أصول الفقه لها تفسيران: تفسيره مركبا إضافيا، وتفسيره علما للفن.
أما معناه في العلمية، فهو المشار إليه بقوله: أصوله دلائل إلخ.
وأما معناه قبل العلمية، فهو مركب من كلمتين: أصول، وفقه.
أما الأصول فجمع أصل، وهو كما أسلفنا أساس الشيء، ومبناه، وأول أمره، وذكر بعضهم أن معناه في الاصطلاح الأمر الراجح، وهو ما أراد المؤلف رحمه الله سبحانه وتعالى هنا، ومثلوا لهذا بقولهم: الأصل براءة الذمة، وعدم المجاز عند الإطلاق، وإبقاء ما كان على ما كان، وطهارة الأعيان.
وليس ببين عندي تعين الراجحية في معنى الأصل في هذه المواضع، فما المانع من القول بأن الأصل في هذه المواضع، بمعنى أول أمر الشيء، والسابق منه، في الوضع أو الحكم؟
والفرع حكم الشرع قد تعلقا
…
بصفة الفعل كندب مطلقا
لما تكلم على الأصل، ناسب أن يتكلم على الفرع، فقال: والفرع البيت.
والأوضح ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى أن الفرع واحد الفروع، وأن الفروع هي الفقه، فيغني عن الكلام عليه، الكلام على الفقه، الذي هو علم، ويعرف من تعريف الفقه الذي هو صفة للمجتهد، المذكور في قول المؤلف رحمه الله سبحانه وتعالى: والفقه هو العلم إلخ.
وكأنهم لم يتكلموا على الفرع في الاصطلاح، لأنه معلوم من قولنا أصول الفقه، وذلك هو قول سيدي خليل رحمه الله سبحانه وتعالى: لعدم اطلاعي في الفرع على أرجحية منصوصة.
وقد عقد الشيخ بهذا البيت كلاما للإمام اللقاني ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى عند
النص المذكور.
قال العدوي رحمه الله سبحانه وتعالى: الفرع هو الحكم الشرعي المتعلق بكيفية عمل، قلبي كالنية، أو غير قلبي كالوضوء، كما قال الناصر اللقاني رحمه الله سبحانه وتعالى.
وأراد بالحكم: النسبة التامة، وهي الوقوع، واللاوقوع، أعني وقوع ثبوت المحمول ـ الذي هو كيفية العمل ـ للموضوع، كقولك: النية واجبة، فالحكم هو وقوع ثبوت الوجوب، الذي هو كيفية النية، التي هي العمل.
وقولنا: النية في الأذان غير واجبة، الحكم فيه هو انتفاء ثبوت الوجوب، الذي هو كيفية عن النية، فمعنى تعلق الحكم الذي هو وقوع النسبة التامة أنه وقع ثبوت تلك الكيفية لذلك العمل أو لم يقع، وهذا ما أفاده بعضهم.
ويصح أن تقول: الحكم هو ثبوت الوجوب الذي هو كيفية العمل اهـ
وهذا تعريف الحكم على اصطلاح الفقهاء، كما سياتي قريبا ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى في الكلام على معنى الحكم، لأن الحكم بالمعنى الآخر إنشاء.
وأيضا الفرعية لا يليق وصف الخطاب بها.
وقول البيضاوي رحمه الله سبحانه وتعالى في المنهاج: والحكم متعلق بفعل العبد، لا صفته كالقول المتعلق بالمعدومات اهـ
لفظ " صفته " فيه، مرفوع بالعطف على متعلق، وليس معطوفا على " فعل "
(1)
.
ومراده أن الحكم قول متعلق بفعل العبد، وليس صفة له، ومراده: الرد على المعتزلة في اعتراضهم بأن خطاب الله سبحانه وتعالى قديم عندنا، والحكم يكون صفة لفعل العبد، حيث يقال: هذا الفعل حلال.
قال التاج السبكي رحمه الله سيحانه وتعالى ـ في شرحه: هذا جواب عن قوله: ويكون صفة لفعل العبد، فأجاب بأن الحكم قول متعلق بالفعل، لا صفة للفعل، لأن معنى الإحلال قول الله سبحانه وتعالى: رفعت الحرج عن فاعله، وهذا القول صفة لله ـ سبحانه
(1)
كما هو ظاهر عبارة بعض الشروح.
وتعالى ـ قائم بذاته، متعلق بغيره، لا صفة، كالقول المتعلق بالمعدومات إذا أخبرت عنها ـ مثلا ـ فليس القول صفة لها، وإلا لزم قيام الموجود بالمعدوم، وأما كون القديم متعلقا بالحادث فلا يمتنع اهـ
والفقه هو العلم بالأحكام
…
للشرع والفعل نماها النامي
أدلة التفصيل منها مكتسب
…
والعلم بالصلاح في ما قد ذهب
فالكل من أهل المناحي الاربعه
…
يقول: لا أدري، فكن متبعه
الفقه: العلم، أو جودته، وفقه ـ بالكسر ـ فَقَها ـ بفتحتين ـ وفقها ـ بالسكون ـ فهو فقِه ـ كفرح ـ: فهِم بعد جهل.
وفقَه صاحبَه ـ بالفتح ـ فَقْها ـ بالسكون ـ فهو فاقه: غلبه في العلم، وسبقه إلى الفهم.
…
وفقُه ـ بالضم ـ فقاهة ـ بالفتح ـ فهو فقيه: صار الفقه له سجية، والفقُه ـ كندُس ـ: الذي أصل أمره جودة الفهم، جمعه فِقاه بالكسر.
والحكم في العرف العام: إثبات أمر لآخر، أو نفيه عنه، ويختلف تعريفه في ما بعد ذلك باختلاف الاصطلاحات، ومن معانيه عند الفقهاء الفرع كما تقدم، ويطلق عندهم أيضا على قضاء القاضي.
وأشار بالبيتين إلى معنى الفقه اصطلاحا، الذي هو الجزء الثاني من المركب الإضافي، فذكر أنه: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من الأدلة التفصيلية.
وأرورد على التعبير بالعلم، أن أكثر الفقه ظنون، فالأولى أن يقال: العلم أو الظن.
وأجاب عن ذلك، إمام الحرمين رحمه الله سبحانه وتعالى وغيره بأن العلم واقع في كل حكم بالعلم بوجوب العمل به.
قال في رفع الحاجب: وأشهر ما اعترض به على الحد: أن الفقه من باب الظنون، فكيف قيل فيه: العلم؟
وهو مشكل، أورده شيخ الجماعة، ومقدم الأشاعرة: القاضي أبو بكر رحمه الله سبحانه وتعالى والتزم لأجله جماعة العناية بالحد، فقالوا: المراد بالعلم: الإدراك.
وقيل: الصواب أن يقال: العلم أو الظن.
والجواب عن السؤال: ما ذكره الإمام رحمه الله سبحانه وتعالى في المحصول، من أن المجتهد إذا غلب على ظنه مشاركة صورة لصورة في مناط الحكم، قطع بوجوب العمل، فالحكم معلوم، والظن وقع في طريقه.
وسنوضح ذلك بترتيب خاص، فإن أصحاب الإمام لم يقنعوا منه بهذا الجواب، وزعموا السؤال باقيا.
فنقول: إذا ظننا شتاء، لظننا أيام الشتاء نزول المطر ـ إذا رأينا الغيم المطبق الرطب قد أرخى أهدابه ـ فنزول المطر غالب على عدم نزوله، وهذا ظن، ثم نحن واجدون من أنفسنا أنا عالمون بظننا، وهذا علم وجداني بالظن، والمطر يجوز أن ينزل، وأن لا ينزل حال ظننا، وأما نحن فلا يجوز أن نظن حال ظننا.
وكذا إذا قال لزوجته: متى ظننت أني طلقتك طلقة، فأنت طالق ثلاثا، فظنت أنه طلقها طلقة، طلقت ثلاثا قطعا.
فهذا حكم معلوم قطعا، والظن وقع في طريقه.
وكذلك المجتهد إذا ظن حكما من الأحكام العملية، وجب عليه العمل بمقتضى ظنه قطعا، علم ذلك بالضرورة من استقراء الشرع، والظن واقع في طريقه كما ذكرنا في المرأة.
وعند هذا نقول: إذا ظن الإمام الشافعي رحمه الله سبحانه وتعالى حل لعب الشطرنج، فإن حله في حقه معلوم قطعا، لأنه مظنون الحل عنده ـ وذلك وجداني ـ وكل ما ظن حله، فهو حلال في حقه قطعا، والظن لم يكن في هذا الدليل مقدمة من المقدمتين، وإنما وقع في طريق الدليل، حيث كان معلوما بالوجدان.
والذين ردوا الجواب، ظنوا الظن أحد المقدمتين، وهو غلط.
فإن الظن لم يكن مقدمة، بل كان متعلق الوجدان.
وظنوا أن مستند المقدمة الثانية الإجماع، فأوردوا على الإمام أن الإجماع عنده ظني.
والإمام لم يذكر أن مستنده الإجماع، وإنما مستنده الاستقراء، قاله الشيخ صدر الدين ابن المرحل رحمه الله سبحانه وتعالى.
وذكر أن شيخ الإسلام سيد المتأخرين تقي الدين بن دقيق العيد رحمه الله سبحانه
وتعالى ـ كان ممن يظن بطلان الجواب، ويقول: متعلق الظن مظنون قطعا، كما أن متعلق العلم معلوم قطعا، فيستحيل أن يكون معلوما مظنونا.
قال: وجوابه: أن نتيجة الأدلة الأصولية هو الظن، ففي ذلك الوقت ـ وهو الوقت الأول ـ هو مظنون، ثم إذا صار مظنونا، وجب العمل به، ووجوب العمل به معلوم في الوقت الثاني، وهما غيران: الأول منهما مظنون، والثاني معلوم.
إلى أن قال: وجواب الإمام الرازي رحمه الله سبحانه وتعالى مسبوق إليه، فإن إمام الحرمين رحمه الله سبحانه وتعالى ذكره، حيث قال:
جواب السؤال: ليست الظنون فقها، إنما الفقه العلم بوجوب العمل عند قيام الظنون، فأخذه الإمام الرازي وبسطه اهـ بخ
…
وقال في الإبهاج: مضمون هذا الجواب أن الفقه كله قطعي، لا ظني، وهذه المقالة تنسب إلى أكثر الأصوليين، وحاصل كلامهم ومداره ما قاله المصنف رحمه الله سبحانه وتعالى.
وتقريره بالمثال أن نقول في الوتر ـ مثلا ـ: الوتر يصلى على الراحلة، فهو سنة، فالوتر سنة، والمقدمة الأولى ثابتة بخبر الواحد، والثانية بالاستقراء، وهما لا تفيدان إلا الظن، فالنتيجة ظنية، لتوقفها على الظن، وهذا الظن الذي أراده المصنف بقوله: والظن في طريقه. وأكثر الناس إذا وصلوا إلى هذه النتيجة، وقفوا عندها، واعتقدوا أنها الفقه، وهو الظاهر من اصطلاح الفقهاء، وعليه بنى السائل سؤاله، والأصوليون لم يقفوا عند ذلك، لأن الظن لا يجوز اعتماده حتى يدل عليه دليل، فنظروا وراء ذلك، وقالوا: لما حصلت هذه النتيجة ـ وهي اعتقاد كون الوتر سنة ظنا ـ ركبنا قياسا آخر من مقدمتين هكذا: الوتر مظنون سنيته، وكل مظنون سنيته، فهو سنة في حق من ظنه.
إلى أن قال: وهذا التقرير على حسنه، إنما يفيدنا القطع بوجوب العمل، فلذلك اختار جماعة أن الفقه هو العلم أو الظن، والإنصاف أنهما مقامان:
اعتقاد كون الحكم عند الله سبحانه وتعالى كذا لا يمكن دعوى القطع فيه.
واعتقاد وجوب العمل بما ظنه من ذلك، دعوى القطع فيه ممكنة، والفقهاء نظروا للأول،
والأصوليون نظروا للثاني، ولا مشاحة في الاصطلاح، ولم يتوارد اختلافهما على شيء واحد.
على أني أقول: قولهم: حكم الله سبحانه وتعالى في حق كل مجتهد ما أداه إليه اجتهاده، سبيله أنه يجب عليه اتباعه، ودعواهم الإجماع بهذا التفسير صحيح، وبغير هذا التفسير ممنوع، فإذا قلنا: المصيب واحد، والمخطئ معفو عنه، لا يستمر هذا الإطلاق، وإن كان بعضهم قال: إنه يتعين التكليف، ولكن يجب حمله على أنه يأثم بترك ما ظنه واجبا، وبفعل ما ظنه حراما، لجراءته على ربه، بحسب اعتقاده، وأما أن ذلك يصير في حقه كالواجب والحرام في نفس الأمر، فلا يمكن، وإذا ظن زوجه أجنبية، فوطئها يأثم، ولكن أيميز إثمه، أو يساوي إثم الزاني اهـ
ولعل في اندفاع الاشكال بما ذكر، مع قيد الاكتساب من الدليل التفصيلي، نظرا.
وقولهم: بالأحكام، يحترز به كما قالوا عن الذوات، فالتصورات كلها غير فقه.
وقولهم: الشرعية، احتراز من العقلية، كالعلم بامتناع اجتماع النقيضين، والحسية كالعلم بأن النار حارة، والاصطلاحية كالعلم بأن الفاعل مرفوع، فليس شيء من ذلك بفقه.
…
وخرج بالعملية: العلم بالأحكام الشرعية العلمية، كمسائل الاعتقاد.
وأورد عليه أن من عمل القلب ما هو فقه، كمنع حسد، وعجب، ونحو ذلك.
وعبر الآمدي رحمه الله سيحانه وتعالى ـ بدل العملية بالفرعية.
وقولهم: المكتسب، يحترز به عن وجوب الصلاة، والصوم، ونحو ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة، لأن لفظ الفقه يشعر بالعلم بما فيه دقة، وقيل إن ذلك فقه أيضا.
وقولهم: من الأدلة التفصيلية، يحترز به عن معرفة المقلد بالحكم، سواء كانت علما أو ظنا، فهي مكتسبة من دليل إجمالي، هو أن ما يفتيه به المجتهد، هو حكم الله سبحانه وتعالى في حقه.
قوله: والعلم بالصلاح في ما قد ذهب، أشار به إلى أن المراد بالعلم في تعريف الفقه المذكور: الملكة التي يقتدر بها على استنباط الأحكام.
وأشار بهذا لرد ما أورد على التعبير بالأحكام، من أنه إن أريد البعض، أشكل عليه حصول ذلك للمقلد، وإن أريد الجميع، أشكل عليه أن المجمع على فقههم كانوا يجيبون
كثيرا في ما يسألون عنه بلا أدري.
وقال في الإبهاج: الألف واللام في الأحكام للجنس، هذا هو الذي نختاره، والألف واللام الجنسية إذا دخلت على جمع، قيل تدل على مسمى الجمع، ويصلح للاستغراق، ولا يقتصر به على الواحد والاثنين، محافظة على الجمع، والمختار أنه متى قصد الجنس، يجوز أن يراد به بعضه إلى الواحد، ولا يتعين الجمع، كما لو دخلت على المفرد، نعم قد تقوم قرينة تدل على مراعاة الجمع مع الجنس، فيقارب بذلك المفرد على ما قلناه، ويصدق على العلم بحكم مسألة واحدة من الفقه، أنها فقه، ولا يلزم أن يسمى العالم به فقيها، لأن فعيلا صفة مبالغة مأخوذة من فقُه ـ بضم القاف ـ إذا صار له الفقه سجية.
وقال بعضهم إنها للعموم، والمراد: التمكن، أي: يكون له قوة قريبة من الفعل، يصدق عليه بها العلم بجميع الأحكام إذا نظر، كما هي وظيفة المجتهد.
وهذا أحسن في اسم فقيه: اسم الفاعل المقصود به المبالغة، لا في اسم الفقه: المصدر.
وقال بعضهم: إنها للعهد، والمراد جملة غالبة يحكم أهل العرف عندها بصدق الاسم، وهذا ليس بشيء اهـ
وقوله: فالكل من البيت، هو مفرع على ما ذكر قبله، من أن المراد بالعلم في تعريف الفقه: الملكة.
والمناحي: جمع منحاة، تقال على المسيل الملتوي، وعلى طريق السانية.
كلام ربي إن تعلق بما
…
يصح فعلا للمكلف اعلما
من حيث إنه به مكلف
…
فذاك بالحكم لديهم يعرف
أشار بهذا إلى تعريف الحكم.
والحكم لغة: المنع والصرف، ومنه الحَكَمَة للحديدة التي في اللجام.
وفي الاصطلاح ذكر الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى أنه: كلام الله سبحانه وتعالى المتعلق بما يصح أن يكون فعلا للمكلف، من حيث إنه مكلف به.
وعدل بقوله: كلام ربي، عما عبر به غير واحد من الخطاب، لما وقع من الخلاف في تسمية كلام الله سبحانه وتعالى في الأزل خطابا، فعدل عما اختلف فيه، إلى ما اتفق
عليه.
والتعريف بالخطاب، ذكر في التوضيح أنه منقول عن الإمام أبي الحسن الأشعري ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى
قال: والفقهاء يطلقونه على ما ثبت بالخطاب، كالوجوب والحرمة مجازا، بطريق إطلاق اسم المصدر على المفعول، كالخلق على المخلوق، لكن لما شاع فيه صار منقولا اصطلاحيا اهـ
واعترض على التعريف المذكور، بأن الحكم المصلح بين الفقهاء، هو ما ثبت بالخطاب، لا نفس الخطاب.
قال: فلا يكون ما ذكر تعريفا للحكم المصطلح بين الفقهاء، وهو المقصود بالتعريف هنا اهـ
وعرفه الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى في البحر بقوله: خطاب الشرع المتعلق بفعل المكلف بالاقتضاء أو التخيير اهـ
وقوله: إن تعلق بما يصح فعلا للمكلف، احتراز من المتعلق بالذوات، والمتعلق بفعل غير المكلف، والمتعلق بفعل المكلف لا على جهة التكليف به، كالإخبار عن كونه مخلوقا لله سبحانه وتعالى في قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(والله خلقكم وما تعملون).
وعبر بقوله: بما يصح أن يكون فعلا للمكلف، بدلا من قول بعضهم: بفعل المكلف، لأن التكليف لا يتعلق إلا بمعدوم يمكن تحصيله، والمعدوم ليس بفعل حقيقة.
وهذا التعريف لا يتناول خطاب الوضع، فهو جار على اختصاص الحكم المتعارف بخطاب التكليف.
ومن جعل خطاب الوضع من الحكم المتعارف، زاد في الحد ما يدخل به في المعرف، كابن الحاجب رحمه الله سبحانه وتعالى حيث عرفه بأنه: خطاب الله سبحانه وتعالى المتعلق بأفعال المكلفين، بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع اهـ
وأورد عليه نحو دلوك الشمس.
وجعل الإمام رحمه الله سبحانه وتعالى خطاب الوضع راجعا إلى خطاب التكليف،
فيتناوله التعريف الأول، ونصه في المحصول: المراد من كون الدلوك سببا، أنا متى شاهدنا الدلوك، علمنا أن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالصلاة، فلا معنى لهذه السببية إلا الإيجاب.
وإذا قلنا: هذا العقد صحيح، لم نعن به إلا أن الشرع أذن له في الانتفاع به، ولا معنى لذلك إلا الإباحة اهـ
وأجيب بمنع اطراد هذا كما في صحة صلاة الصبي، وندبها، وكما في إسلامه، وبمنع اقتضاء التلازم الاتحاد.
وسيأتي ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى أن الإباحة ليست تكليفا عند غير الأستاذ أبي إسحاق رحمه الله سبحانه وتعالى وعليه
(1)
تكون خارجة عن الحكم، وليس كذلك قطعا، فالأولى ـ كما عبر به بعضهم ـ أن يقال: المتعلق بفعل المكلف بالطلب أو الإذن، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قد كلف الصبي على الذي اعتمي
…
بغير ما وجب والمحرم
معناه أن الصبي مكلف عندنا بغير الواجب والمحرم، وهو الندب والكراهة.
أما الندب فلحديث التي أخذت بضبعي صبي لها، وقالت: ألهذا حج يا رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ؟ فقال: " نعم، ولك أجر "
(2)
ومعلوم أن غير المطلوب لا يقع قربة، فاقتضى ذلك استحبابه في حقه، للإجماع على عدم الوجوب، وحديث رفع القلم عنه حتى يكبر
(3)
.
وأما الكراهة فلما سيأتي في مباحث الأمر ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى من أن الأمر بالشيء، نهي عن ضده الوجودي، على الخلاف في ذلك.
وأما الإباحة، فلما لم يكن مأمورا ولا منهيا في بعض أفعاله، مع توجه الخطاب إليه في الجملة أشبه أن يقال إنه جائز في حقه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهو إلزام الذي يشق
…
أو طلب فاه بكل خلق
(1)
يعني على قولهم: من حيث إنه مكلف به.
(2)
رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد.
(3)
رواه أبو داود والنسائي والدارمي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
لكنه ليس يفيد فرعا
…
فلا تضق لفقد فرع ذرعا
قوله: وهو إلزام البيت، أشار به إلى تعريف التكليف، وهو لغة: من الكلفة: بمعنى المشقة، واصطلاحا معناه عند القاضي على ما نسبه له إمام الحرمين ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى: الأمر بما فيه كلفة، أو النهي عما في الامتناع عنه كلفة، وقال إمام الحرمين رحمه الله سبحانه وتعالى: هو إلزام ما فيه كلفة، ونحوه للقاضي أيضا في التقريب ـ كما في البحرـ قال: والحاصل أنه يتناول الحظر والوجوب قطعا، ولا يتناول الإباحة قطعا إلا عند الأستاذ أبي إسحاق رحمه الله سبحانه وتعالى وفي تناوله الندب والكراهة خلاف اهـ
والوجه أن إمام الحرمين رحمه الله سبحانه وتعالى نظر إلى اشتقاقه من الكلفة، ورأى أنه لا مشقة مع الإذن في الترك، قال: فالندب والكراهة لا كلفة فيهما لأنها تنافي التخيير اهـ واكتفى صاحب القول الثاني بحصول الكلفة في المأمور به، ولم يشترط الجزم في الخطاب، وهو أبين.
وهذا أمر أغلبي، كما هو ظاهر، وفي الحديث: أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟ قال: " أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قال: " فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر "
(1)
قوله: لكنه ليس يفيد فرعا، معناه أن الخلاف المذكور لا ينبني عليه حكم أصلا، فهو خلاف لفظي محض، حاصله هل يسمى الخطاب غير الجازم تكليفا أو لا.
قوله: فلا تضق لفقد فرع ذرعا، معناه لا تضجر من عدم انبناء حكم على هذا الخلاف، يقال: ضاق ذرعه، وذراعه بالأمر: إذا ضجر منه، أو لم يطقه، ولم يتحمله، ويقال: فلان واسع الذراع، وأرحب القوم ذراعا، إذا كان ذا طاقة وتحمل.
والحكم ما به يجيء الشرع
…
وأصل كل ما يضر المنع
قوله: والحكم ما به يجيء الشرع، يعني به أنه لا حكم قبل ورود الشرع، وقد قال سبحانه وتعالى جل من قائل:(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وذهبت المعتزلة إلى
(1)
رواه مسلم وأبو داود والإمام أحمد.
إمكان إدراك الحكم بالعقل، بناء على مذهبهم في التحسين والتقبيح الآتي إن شاء الله سبحانه وتعالى.
قوله: وأصل كل ما يضر المنع، معناه أن الأصل في الأشياء الضارة بعد ورود الشرع التحريم، للنصوص الكثيرة في ذلك، كحديث (لا ضرر ولا ضرار) سواء اشتملت على منفعة أو لا، حيث كانت المفسدة ملازمة، ولم تكن مرجوحة، بأن كانت راجحة أو مساوية، كما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله سبحانه وتعالى في المسالك في الكلام على المناسبة، وفي كتاب الاستدلال في الكلام على سد الذرائع.
ومقتضى دليل الخطاب في كلامه: أن الأصل في الأشياء النافعة عدم المنع، وهو كذلك على أحد أقوال.
ولا فرق بين أن يكون الضرر مقطوعا به، أو غالبا، وأما الشك فلم أقف على نص فيه، وقد نسب الشيخ آد رحمه الله سبحانه وتعالى التحريم فيه لعبد الباقي الزرقاني ـ وذلك حيث يقول:
وانظر إذا ما اعتدلا أو جهلا
…
وعابد الباقي بشك حظلا
إلا أنهم اختلفوا في النهي عن ما لا يؤمن إسكاره، هل هو نهي تحريم أو نهي كراهة.
وسيأتي الكلام على المشتبهات ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى وأن حكمها عند أهل المذهب الكراهة.
ولو قيل إن في قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس) إيماءً لسببية المنفعة للحلية لم يكن بعيدا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ذو فترة بالفرع لا يُراع
…
وفي الأصول بينهم نزاع
الفترة بالفتح: المدة بين زمنين، أو نبيين، ومنه قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل).
ويراع: من أراعه إذا أفزعه.
وأهل الفترة: من كانوا بين رسولين، لم يرسل إليهم الأول، ولم يدركوا الثاني.
والمعنى أن أهل الفترة لا يعذبون على ترك الفروع كالصلاة والزكاة، بل سيأتي ذكر
الاختلاف في تعذيب غيرهم من الكفار بالفروع، وإن كان المعول منه أنهم يعذبون عليها، واختلف في تعذيب أهل الفترة على الأصول ـ يعني العقائد ـ فقيل: يعذبون على ذلك، لما جاء في بعض الأحاديث، وقيل: لا يعذبون عليها، وكأن القائل به نظر إلى ظاهر بعض الآيات بالعذر بعدم البعثة، كالآية الكريمة السالفة:(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وكقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير) وكقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (ليلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) الآية، وغير ذلك من الآيات الكريمة، وقيل: يرسل إليهم يوم القيامة، فيؤمن من علم الله سبحانه وتعالى إيمانه في سابق أزله، ويكفر من علم كفره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم الخطاب المقتضي للفعل
…
جزما فإيجاب لدى ذي النقل
وغيره الندب، وما التركَ طلب
…
جزما، فتحريم له الإثم انتسب
أو لا، مع الخصوص أو لا، فع ذا
…
خلافَ الاولى، وكراهةً خذا
لذاك، والإباحة الخطاب
…
فيه استوى الفعل والاجتناب
الاقتضاء: الطلب والاستدعاء، يقال: اقتضاه دينه إذا طلبه، وأخذه منه، واقتضى الحال كذا: استوجبه، واستدعاه.
وجزم عليه الأمر: أوجبه عليه، وجزم الأمر: قطع فيه قطعا لا عودة فيه.
والإيجاب: مصدر أوجب الشيء إذا صيره واجبا، والواجب: اللازم.
والندب: مصدر ندبه للأمر، إذا دعاه إليه.
والتحريم: مصدر حرم الأمر إذا جعله حراما، والحرام: نقيض الحلال.
ومعنى الأبيات أن الخطاب الذي يقتضي من المكلف فعل أمر على وجه جازم، هو الإيجاب، ويسمى متعلقه كالصلوات الخمس واجبا.
فإن كان الاقتضاء غير جازم، بأن لم يأثم بالترك، فهو ندب، ويسمى متعلقه مندوبا، كصلاة الضحى.
والخطاب المقتضي للترك، إن اقتضاه جزما تحريم، ويسمى متعلقه حراما كأكل الربا، وإن
اقتضاه من غير جزم، بحيث لا يأثم بالإقدام، فهو كراهة، ويسمى متعلقه مكروها.
ومنهم من فرق، فسمى متعلقه مكروها في ما كان النهي فيه منصوصا، وخلاف الاولى إذا كان النهي عنه مستفادا من الأمر بضده.
فخلاف الأولى عند من يصطلح عليه، وصف لمتعلق الخطاب، كما هو بين، والتعبير بما يوهم خلاف ذلك سهو، كما نقل العطار في حاشيته التنبيه عليه.
ولم أر نقلا في التفريق في المندوب بين المامور به نصا، وما فهم الأمر به من النهي عن ضده، وكذلك في الواجب والمحرم.
وأما ما دل الخطاب على استواء فعله وتركه، بأن لم يترتب على أحدهما ثواب ولا عقاب، فهو الإباحة، ويسمى متعلقه مباحا، وينقلب بنية الخير به، من تقو على طاعة، أو ترفق، أو كف شهوة، أو نحو ذلك، مأمورا، كما في حديث الصحيح المتقدم: أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر
(1)
.
ويستعمل السلف لفظ: الكراهة، كثيرا في الحرمة، إذا لم يكن دليل التحريم قطعيا.
وقد يستعملون في ذلك لفظ: لا يعجبني، ولا أحبه، ولا خير فيه.
ونقل سيدي زروق رحمه الله سبحانه وتعالى عن الطراز، أنه قال في قول المدونة: ومن صلى محتزما، أو جمع شعره بوقاية، أو شمر كميه، فإن كان ذلك لباسه، أو كان في عمل حتى حضرت الصلاة، فلا بأس به، وإن تعمد بذلك إكفات ثوبه، أو شعره، فلا خير فيه انتهى ما نصه: كل موضع في المدونة من قوله " لا خير فيه "على المنع إلا هذا.
وانظر هذا، مع قول القاضي أبي الوليد ابن رشد رحمه الله سبحانه وتعالى في البيان والتحصيل، في الكلام على مسألة شراء العظام التي بها تصوير
(2)
: قوله: لا خير في الصور، ولا هذا من تجارة الناس
…
يدل على أنه كره ذلك، ولم يحرمه، لأن ما هو حرام لا يحل،
(1)
رواه مسلم.
(2)
نص المسألة: وسئل مالك رحمه الله سبحانه وتعالى عن التجارة في عظام على قدر الشبر، يجعل لها وجوه؟ فقال: الذي يشتريها ما يصنع بها؟ فقيل: يبيعها، فقيل: ما يصنع بها؟ قال: يلعب بها الجواري، يتخذونها بنات، قال: لا خير في الصور، ولا هذا من تجارة الناس.
فلا يعبر عنه بأنه لا خير فيه، لأن ما لا خير فيه، فتركه خير من فعله، وهذا هو حد المكروه
(1)
اهـ
ويستعمل لفظ: لا بأس، في كلامهم أحيانا في الجائز المستوي الطرفين، وقد يستعمل مع راجحية أحد الطرفين.
وينقسم المكروه إلى مكروه بالنص، سواء كان النهي عنه منصوصا، أو كان مستفادا من الأمر بضده، ومكروه بالاجتهاد، وهو ما ترجح عند المجتهد فيه الجواز، مع احتمال الحرمة، فكرهه لذلك، وهو أشد مما قبله، للجزم بعدم إثم المقْدم في الأول، دون الثاني، وهو المشتبه في حديث " الحلال بين "
(2)
كما سيأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى.
والحرام بعضه أشد حرمة من بعض، كما ترتب عليه لعن، ونقيضه يصدق بالحرام الذي ليس بتلك المثابة، فإذا قلنا ـ مثلا ـ: مستأصلة الحاجبين ملعونة، لم يقتض ذلك أن الأخذ منهما مأذون فيه، بل مقتضاه أنه ليس فيه نهي بتلك المثابة، وذلك أعم من الإذن.
وسيأتي أن المندوب مراتب ذات أسماء مختلفة.
ويلزم انقسام المكروه في شدة الكراهة، ضرورة تقابله مع الندب، فالمندوب المؤكد كالوتر ونحوه، نقيضه أشد كراهة، من نقيض المندوب الذي ليس بمؤكد، كالضحى، وقد جاء تجريح تارك الوتر، واستحباب قطع الصبح له.
وما من البراءة الأصليه
…
قدُ اُخذتْ فليست الشرعيه
معناه أن الإباحة المأخوذة من البراءة الأصلية، التي هي استصحاب عدم الحكم، حتى يرد الدليل به، ليست إباحة شرعية، وإنما هي إباحة عقلية، ولذلك لم يكن رفعها نسخا، خلافا للمعتزلة، حيث جعلوا الإباحة الشرعية شاملة للنوعين.
وهي والجواز قد ترادفا
…
في مطلق الإذن لدى من سلفا
(1)
قال: ومعنى ذلك إذا لم تكن صورا مصورة مخلوقة مخروطة، مجسدة على صورة الإنسان، وإنما كانت عظاما غير مخلوقة على صورة الإنسان، إلا أنه عمل فيها شبه الوجوه بالتزويق، فأشبه الرقم في الثوب.
(2)
متفق عليه.
معناه أن الإباحة والجواز يستعملان أيضا في ما يقابل التحريم، وهو الإذن في الفعل، سواء كان مع استواء الترك والفعل، الذي هو المباح في الاصطلاح السابق، أو مع راجحية الفعل، الذي هو الواجب والندب في ما سبق، أو مع راجحية الترك، الذي هو المكروه في ما سبق، وهذا هو اصطلاح المتقدمين.
والعلم والوسع على المعروف
…
شرط يعم كل ذي تكليف
معناه أن الخطاب التكليفي يشترط في توجهه إلى المكلف، العلم والقدرة، وهي المراد بالوسع في البيت، قال سبحانه وتعالى جل من قائل:(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وفي الحديث " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "
(1)
وسيأتي الكلام ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى في مباحث الأمر على تفاصيل التكليف بالمحال.
وأما خطاب الوضع، فما كان منه مرتبا على خطاب التكليف، اشترط ذلك فيه أيضا، كأسباب الحدود، فهي مرتبة على انتهاك الحرمة، والحرمة مشروطة بالعلم والوسع، والخلاف في حد المكره على الزنى، عائد إلى الخلاف في تصور الجماع كرها، إذ لا يكون دون انتشار، والانتشار يستلزم عند قوم الاختيار.
وأما ما ليس منه مرتبا على خطاب التكليف، كضمان المتلفات، فلا يتوقف على ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم خطاب الوضع هو الوارد
…
بأن هذا مانع أو فاسد
أو ضده أوَ اَنه قدَ اَوجبا
…
شرطا يكون أو يكون سببا
معناه أن خطاب الوضع، هو الخطاب الوارد بأن الشيء كذا سبب للشيء كذا، أو شرط له، أو مانع منه، أو بأن العقد كذا، أو العمل كذا، صحيح، أو فاسد، وسيأتي بيان هذه المعاني الخمسة، قريبا إن شاء الله سبحانه وتعالى.
واختار ابن الحاجب رحمه الله سبحانه وتعالى أن الصحة والفساد حكمان عقليان،
(1)
رواه بألفاظ متقاربة ابن ماجة في سننه، وابن حبان في صحيحه، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، والدارقطني والبيهقي والطبراني وهو حديث صحيح.
وهو الأوجه، فالعقل قاض بأن الفعل المستجمع للشروط موافق للإذن، أو مسقط للطلب ـ مثلا ـ وذلك هو الصحة، وغيره غير موافق للإذن، ولا مسقط للطلب، وذلك هو الفساد.
وزاد القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى في خطاب الوضع التقادير الشرعية، وهو غير بين، فالتقادير ـ عند التأمل ـ لا تخرج عن الشروط، والأسباب، والموانع.
وزاد الآمدي رحمه الله سبحانه وتعالى الرخصة والعزيمة أيضا، وهو غير بين أيضا
(1)
، فمبنى الحكم كالسفر سبب، والحكم كاستنان القصر، خطاب تكليف، وقد كنت بينت ذلك في البيان والتوجيه، والحمد لله رب العالمين.
فالمتجه انحصار خطاب التكليف، في الشروط والأسباب والموانع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهو من ذاك أعم مطلقا .........................
الضمير عائد إلى خطاب الوضع، والإشارة عائدة إلى خطاب التكليف.
والمعنى أن خطاب الوضع، أعم من خطاب التكليف عموما مطلقا، كما ذكره القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى في التنقيح، فكل ما تعلق به خطاب تكليف، تعلق به خطاب وضع، دون العكس.
وذكر في الفروق أن النسبة بينهما العموم والخصوص من وجه، وصوبه في نشر البنود، وهو أبين، وصوب في نثر الورود الأول.
ومثال انفراد خطاب التكليف: التسبيح، والتحميد، والتكبير، والذكر كله، وقراءة القرآن، والصدقة.
ومثال انفراد خطاب الوضع: مواقيت الصلاة.
ومثال اجتماعهما: السرقة والزنا.
(1)
وقد أطبق الكل على تقسيم متعلق الرخصة، إلى واجب وغيره، من أقسام متعلق خطاب التكليف، ما عدا الحرام، ولا شك أنه يلزم من تقسيم المتعلق إلى ذلك، تقسيم المتعلق ـ بالكسر ـ إلى إيجاب وغيره، من أقسام الخطاب المذكور، ما عدا التحريم اهـ من تقريرات الشربيني رحمه الله سبحانه وتعالى بتصرف.
........................
…
والفرض والواجب قد توافقا
كالحتم واللازم مكتوب وما
…
فيه اشتباه للكراهة انتمى
معناه أن الفرض، والواجب، والمحتم، واللازم، والمكتوب مترادفة، للمأمور بفعله أمرا جازما.
وفرق أبو حنيفة رحمه الله سبحانه وتعالى بين الفرض والواجب، فالفرض عنده ما ثبت فيه الطلب الجازم بدليل قطعي، والواجب ما ثبت ذلك فيه بدليل ظني.
ويقع في كلام كثير من أصحابنا إطلاق الواجب على المسنون المؤكد، فيقولون في غسل الجمعة، وصلاة العيد ـ مثلا ـ إن ذلك واجب.
ويستعمل البغداديون من أصحابنا في المأمور به أمرا جازما كلمة: مستحق، فيقولون الأمر كذا واجب مستحق، ويستعملون المستحب في المسنون، ويقع ذلك كثيرا في كتاب التفريع لابن الجلاب رحمه الله سبحانه وتعالى.
ويتميز مختصر ابن الجلاب رحمه الله سبحانه وتعالى بأن كل ما فيه من المسائل للإمام مالك رحمه الله سبحانه وتعالى إلا أن يعزوه لغيره
(1)
.
قوله: وما فيه اشتباه للكراهة انتمى، معناه أن المشتبهات المذكورة في حديث الصحيحين " الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات " الحديث، حكمها عند أهل المذهب الكراهة، وهي الأمور المختلف في تحريمها بين أهل العلم، إذا ترجح فيها دليل الإباحة، مع احتمال التحريم.
وأما ما كان مدرك التحريم فيه ضعيفا جدا، فالظاهر أنه من قبيل الحلال البين.
وهذا الحديث يقتضي أن الإجماع حجة، إذ مقتضاه أن ما لم يختلف فيه، حلال بين، أو حرام بين، وقد كنت ذكرت ذلك في مصعد الراقي والله سبحانه وتعالى أعلم.
وليس في الواجب من نَوال
…
عند انتفاء قصد الامتثال
في ما له النية لا تشترط
…
وغير ما ذكرته فغلط
(1)
نقله ابن ناجي عن ابن عبد السلام ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى في شرحه على الرسالة في أول صلاة السفر.
ومثله الترك لما يحرم
…
من غير قصد ذا، نعم مسلم
النوال ـ بفتح النون ـ: العطاء.
والمعنى أن الواجب الذي لا يتوقف الاعتداد به على النية، كقضاء الديون، ورد الودائع، وأداء الديات، وأروش الجنايات، وغرم المتلفات، لا يثاب فاعله عليه، إلا إذا فعله بنية الامتثال.
وأما الواجب الذي لا يعتد بفعله دون نية، كالوضوء، والصلاة، فيثاب عليه وإن لم يتعرض في نيته للامتثال.
وليس معنى هذا أن شيئا من الأعمال يثاب عليه دون نية الامتثال، كما توهم، بل لا ثواب إلا مع قصد الامتثال " وإنما لامرئ ما نوى "
(1)
لكن نية العبادة تستلزم الامتثال، لأن الامتثال هو الإتيان بالفعل لأجل أمر الشرع به، وهذا المعنى لا تتعقل القربة دونه، فالفعل الذي لم يبعث عليه أمر الشرع به، لا يصح أن يكون قربة، بالأولى مما وقع فيه شرك.
وقد نقل ابن عرفة رحمه الله سبحانه وتعالى في مختصره في الكلام على نيات الوضوء عن أبي عبد الله المازري رحمه الله سبحانه وتعالى أنه قال: والثلاثة
(2)
متلازمة، ولذا لو أثبت أحدها نافيا الآخر، فسدت انتهى
ولهذا استدل الأئمة كابن يونس رحمه الله سبحانه وتعالى في جامعه لوجوب نية رفع الحدث، ونية الصلاة المعينة، بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) وقد بينت هذا المعنى في عون المتين، على نظم رسالة القرويين، في الكلام على النية، فى الوضوء، وفي الصلاة.
قوله: ومثله الترك لما يحرم البيت، معناه أن اجتناب المنهيات مطلقا، لا ثواب فيه إلا إذا كان بنية الامتثال، وهو المشار إليه في قوله: من غير قصد ذا.
وقوله: نعم مسلم، أشار به إلى أن السلامة من الإثم في ترك المنهي عنه، لا تتوقف على
(1)
متفق عليه.
(2)
يعني الثلاثة التي تكفي نية أحدها في الوضوء.
الامتثال، وإنما يتوقف عليه الأجر.
وقوله: وغير ما ذكرته فغلط، أشار به إلى رد ما ذكره بعضهم من اشتراط نية الامتثال في الأجر على القربة.
ولا يختص ما ذكره من التفصيل في الأمر بالواجب، فالمندوب يفصل فيه أيضا بين ما يتوقف على النية كالضحى، وغيره كالصدقة، فلو قال: وليس في المطلوب من نوال لكان أشمل.
ومثل المحرم أيضا المكروه، فلا ثواب في تركه، إلا إذا كان بنية امتثال.
وإذا كان أصل القصد لله سبحانه وتعالى لم يضر ما يعرض من الخواطر، وقد يكون ذلك من الشيطان، ليصده عن العمل، فليجدد النية، ولا يقطعه ذلك عن العمل، كما قال الإمام مالك رحمه الله سبحانه وتعالى.
فضيلة والندب والذي استحب
…
ترادفت، ثم التطوع انتخب
قوله: فضيلة والندب والذي استحب ترادفت، معناه أن الفضيلة، والمندوب، والمستحب ألفاظ مترادفة، لما يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه.
وقوله: ثم التطوع انتخب، أشار به إلى أن التطوع في اصطلاح بعض المتأخرين، هو ما يختاره الإنسان لنفسه من الأوراد مثلا.
رغيبة ما فيه رغَّب النبي
…
بذكر ما فيه من الأجر جُبي
أو دام فعله بوصف النفل
…
والنفلَ من تلك القيود أَخْلِ
والامرِ، بل أعلم بالثواب
…
فيه نبي الرشد والصواب
وسنة ما أحمد قد واظبا
…
عليه، والظهور فيه وجبا
أشار بهذا إلى تعريف الرغيبة، والنافلة، والسنة، في اصطلاح المالكية.
والسنة آكدها، وهي ما أدامه النبي ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ وأظهره في جماعة.
وذلك هو قوله: وسنة ما أحمد قد واظبا البيت.
والرغيبة هي ما رغب صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم في فعله، بذكر ما فيه من
الأجر، بأن قال: من فعل كذا، فله كذا، أو أدامه مخفيا له.
وذلك هو قوله: رغيبة ما فيه رغب النبي ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ بذكر ما فيه من الأجر جبي، أو دام فعله بوصف النفل، والمراد بوصف النفل: الإخفاء.
والنفل: هو ما أعلم صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم بالثواب على فعله، من غير أن يحد فيه ثوابا، أو يداوم عليه، أو يأمر به.
وهذا اصطلاح خاص بالمالكية، والاستقراء يقتضي اختصاص هذا التفريق عندهم بالعبادات.
وليس لغير الندب والاستحباب، من هذه الألفاظ، ذكر في المعاملات.
وربما يكتفون في الطعام، والشراب، واللباس، والدخول، والخروج ونحوها بالأدب.
…
واستقراء كلام أهل المذهب، دال على اتحاد رتبة النفل، والمستحب، والفضيلة، وأن لفظ النفل، والفضيلة، خاص بالعبادات.
ويدل كذلك، على أن السنة هي أعلى مراتب الندب، وأنها خاصة بالعبادات، وأن الرغيبة دونها، وهي أيضا خاصة بالعبادة، ونقل في المذهب قول بكونها آكد من السنة.
وبعضهم سمى الذي قدُ اُكدا
…
منها بواجب، فخذ ما قُيِّدا
أشار بهذا إلى ما تقدم، من أن من أهل المذهب من يستعمل لفظ الواجب في المسنون المؤكد، كالإمام الشيخ أبي محمد رحمه الله سبحانه وتعالى في كتاب الرسالة.
والنفل ليس بالشروع يجب
…
في غير ما نظمه مقرِّب
قف واستمع مسائلا قد حكموا
…
بأنها بالابتداء تلزم
صلاتنا وصومنا وحجنا
…
وعمرة لنا كذا اعتكافنا
طوافنا مع ائتمام المقتدي
…
فيلزم القضا بقطع عامد
قوله: والنفل ليس بالشروع يجب، المراد بالنفل فيه: ما ليس بواجب.
والمعنى أن غير الواجب، لا يتعين بالشروع فيه، إلا في هذه المسائل المذكورة، فيتعين عندنا على من شرع في نافلة من صلاة، أو صوم، أو حج، أو عمرة، أو طواف، أو اعتكاف، أن يتمها.
وكذلك يجب على المؤتم أن يتم صلاته مأموما، ولا يجوز له أن يتم فذا.
ونقل في مواهب الجليل في كتاب الصلاة، قبل قول سيدي خليل ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى: وإلا أتم النافلة أو فريضة غيرها، عن سيدي زروق رحمه الله سبحانه وتعالى أن أصل المذهب، أن كل عبادة توقف أولها على آخرها، يجب إتمامها
(1)
.
أصله الحج، فيجب إتمامه، والعمرة، والصلاة، والصوم، والاعتكاف، والطواف، بخلاف الوضوء، والقراءة، والذكر، ونحوها اهـ
ونقل عن القرافي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى أنه قال في كتاب الصوم من الذخيرة حين تكلم على ما يجب بالشروع: بخلاف الوضوء، والصدقة، والوقف،
(2)
والسفر للجهاد، وغير ذلك، قاله الشيخ عياض، رحمهم الله سبحانه وتعالى في التنبيهات.
قال الشيخ خليل رحمه الله سبحانه وتعالى: فعلى هذا، إذا سافر للجهاد، فهل له أن يرجع عن ذلك؟ وكذلك الصدقة بشيء.
واختلف إذا خرج بكسرة خبز للسائل، فلم يجده، هل له أكلها أم لا؟
قيل: يجوز له أكلها، وقيل: إن كان معينا أكلها، وإن كان غير معين لم يأكلها اهـ
وانظر التمثيل بالوضوء، فإنه عبادة يتوقف أولها على آخرها.
وانظر التمثيل بالقراءة، ما المراد به، هل أن الكلمة لا يجب إتمامها على من شرع فيها، أو أن الآية لا يجب إتمامها على من شرع فيها، أو السورة، أو غير ذلك، وفي كل ذلك إشكال
(3)
.
(1)
انظر هل يمكن أن يقال: إنما لا يتوقف بعضه على بعض قُرب، لا قربة؟
(2)
قال عبد الباقي الزرقاني في شرحه لمختصر خليل ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى: وأنشد ابن عرفة رحمه الله سبحانه وتعالى في ذلك:
صلاة وصوم ثم حج وعمرة
…
عكوف طواف وائتمام تحتما
وفي غيرها كالوقف والطهر خيِّرن
…
فمن شاء فليقطع، ومن شاء تمما
قال: ويعني بالوقف، بناء الأوقاف، كالمساجد، والقناطر، والسقايات، وحفر الآبار، وغير ذلك، قاله الشيخ سالم رحمه الله سبحانه وتعالى.
(3)
أما الأول فلأنه إذا افتتح الكلمة فلم يتمها فقد تعمد الإفساد، وأما ما بعده فتوقف المتلو على المتروك ـ حتى يكون قربة واحدة ـ محل نظر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وانظر كلام سيدي خليل رحمه الله سبحانه وتعالى الذي نقل عنه في السفر للجهاد، فالجهاد إذا أريد به الجهاد الواجب كفاية، فمسألته ليست مما نحن فيه، وسيأتي الكلام عليها في الواجب الكفائي ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى إلا أن يقال إن المسأله مفروضة في غير ما يجب عينا.
وإن أريد الجهاد المستحب، كان ظاهره أن الجهاد المستحب يجب بالشروع فيه مطلقا، وإن لم يترتب على الكف عنه ممنوع، كهزيمة، ونحو ذلك، وهو خلاف إطلاقهم هنا.
وقد يفهم من هذا الكلام أيضا أن السفر للحج، أو العمرة، يجب إتمامه، وأن من خرج للمسجد لصلاة أو اعتكاف، يلزمه التمادي، وليس كذلك، فلا يجب شيء من ذلك إلا بالشروع، وهو الإحرام في الصلاة، والحج، والعمرة، والدخول في المعتكف، في الاعتكاف.
وأما مسألة الكسرة يخرج بها لسائل، فقد ذكر ابن رشد رحمه الله سبحانه وتعالى في نوازله، في جواب مسألة سأله عنها عياض ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى أنه لم يقع فيها إعطاء أصلا.
وقد نقل ذلك سيدي الحطاب رحمه الله سبحانه وتعالى في مواهبه، في الهبة في الكلام على الحيازة، وذكروا في الصدقة المبتلة وجوب الإمضاء.
هذا واعلم أن في قضاء هذه المستثنيات المذكورة في الأبيات تفصيلا:
أما الصلاة فإنما يجب قضاؤها إذا أفسدها عامدا مختارا، فإن فسدت سهوا أو غلبة، فلا قضاء عليه.
وأما الصوم فيجب قضاؤه كذلك في الفساد عمدا اختيارا، وأما السهو فلا يفسده، وأما الغلبة فلا يجب القضاء معها.
وأما الحج والعمرة فيجب قضاؤهما على أي وجه كان فسادهما، ويتميزان بوجوب إتمام الفاسد منهما.
وأما الاعتكاف فيلزم قضاؤه أيضا على أي وجه كان فساده.
وأما الطواف فهو عندهم على حكم الصلاة.
وأما الائتمام فإذا قطع الصلاة بأي وجه بطلت، وتجب عليه إعادتها مطلقا إذا كانت
واجبة، لكن يجوز أن يعيدها فذا، كما نص عليه في المواهب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والمراد بالمقرب: الحطاب رحمه الله سبحانه وتعالى فالأبيات الثلاثة له، وقد ذكرها في مواهبه في الموضع الذي أشرت إليه آنفا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ما من وجوده يجيء العدَمُ
…
ولا لزوم في انعدام يُعلم
بمانع، يمنع للدوام
…
والابتدا، أو آخر الأقسام
أوَ اَول فقط، على نزاع
…
كالطول، الاستبراء، والرضاع
قوله: ما من وجوده، إلى قوله: بمانع، أشار به إلى ما عرف به القرافي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى المانع.
فذكر أنه ما يلزم من وجوده عدم الحكم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته، وذلك كالحيض، فإنه يلزم من وجوده، عدم وجوب الصلاة ـ مثلا ـ ولا يلزم من انتفائه وجوبها ولا عدمه.
فخرج بقوله: يلزم من وجوده عدم الحكم، السبب، لأنه يلزم من وجوده وجود الحكم.
…
وخرج بقوله: ولا يلزم من عدمه وجود، ولا عدم، الشرط، فإنه يلزم من عدمه، عدم الحكم. واحترز بقوله: لذاته، من لزوم الوجود في الانتفاء، لوجود السبب.
وهذا مانع الحكم، وأما مانع العلة، فهو ما أبطل معناها، وسيشير إليه الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى في كتاب القياس ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى بقوله:
وامنع لعلة بما قد اَذهبا
ومثاله الدين المسقط للزكاة، فعلة وجوب الزكاة، الاستغناء بملك النصاب، والدين ينافي ذلك.
وقوله: يمنع للدوام إلخ، معناه أن المانع ينقسم إلى ثلاثة أنواع:
مانع الابتداء والدوام معا، وذلك كالرضاع، فالعقد على مَحْرم الرضاع، ممنوع، وإذا عقد على أجنبية فأرضعتها من تحرم عليه بناتها، انفسخ العقد.
ومانع الابتداء فقط دون الدوام، وذلك كالاستبراء، فالعقد على المستبرأة غير جائز، وطرو الاستبراء على النكاح، لا يفسده.
ومانع اختلف فيه، هل يمنع الابتداء فقط، أو يمنع الابتداء والدوام معا؟
وذلك كالطول بالنسبة لنكاح الإماء، فهو مانع من ابتداء النكاح، مختلف إذا طرأ عليه هل يفسده.
وقد عقد المصنف بهذا قول القرافي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى في التنقيح: الموانع الشرعية على ثلاثة أقسام:
منها ما يمنع ابتداء الحكم واستمراره.
ومنها ما يمنع ابتداءه فقط.
ومنها ما اختلف فيه، هل يلحق بالأول أو بالثاني؟
ومثل بالأمثلة المذكورة، مع أمثلة أخرى.
(1)
وسيأتي له ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى في كتاب القياس في بحث العلة منه، تقسيمه إلى مانع دوام وابتداء معا، ومانع ابتداء فقط، ومثالهما ما ذكر من الرضاع والاستبراء، ومانع دوام فقط، ومثاله الطلاق البائن القاصر عن الغاية، فهو مانع من استمرار الزوجية، دون ابتدائها، وذلك حيث يقول:
للدفع والرفع أو الأمرين
…
واجبة الظهور دون مين
(1)
وللشيخ محمد يحيى بن احريمو تعليقا على هذه الأبيات:
مثل بالطول لمانع الدوام
…
على خلاف فيه لا غير يرام
فمنعه للابتداء ما اختلف
…
فيه، فقوله: فقط، لذا صرف
ومانع الدوام باتفاق
…
رابعها لا البدء كالطلاق
فهو يرفع النكاح السابقا
…
ولم يكن يمنع نكحا لاحقا
هذا وإن خامس الأقسام
…
ما كان قطعا مانع الدوام
بلا خلاف والخلاف يجري
…
في منعه الدوام دون نكر
مثل الثلاث دفعة، فالخلف
…
فيها شهير قد حوته الصحف
ولم أجد نصا به كفيلا
…
لكن كفى السبر به دليلا
وهذه القسمة باعتبار
…
أمر الوفاق والخلاف الجاري
وقسموه باعتبار الذات
…
تقسيمة لدى القياس تاتي
للدفع والرفع وللأمرين
…
واجبة الظهور دون مين
أزكى صلاة الله كل حين
…
على النبي الخاتم الأمين
وقد ظن بعض الشروح أنه أراد هنا هذا التقسيم، فأشكل عندهم كلامه.
ويروى البيت بلفظ: أو يمنع الدوام عن نزاع.
وقد وقفت على ذلك في نسختين: إحداهما نسخة جدنا لمرابط محمد المصطفى بن ديَّ ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى من نشر البنود، وذلك الموضع منها بخط تلميذه سيدي لمرابط: محمد محمود بن داهي رحمه الله سبحامه وتعالى ـ.
وفي هذه النسخة إضافة إلى خط الجد، وخط لمرابط محمد محمود، خطوط جماعة من أهل العلم والفضل، من بينهم سيدي لمرابط الحاج رحمه الله سبحانه وتعالى.
وكان ختمها على يد صداف بن محمد البشير.
والنسخة الثانية: نسخة عتيقة، أوقفت عليها من قبل الشيخ اباه بن عبد الله ـ حفظه الله تعالى ـ من شرح محمد يحيى بن سليمة اليونسي الولاتي، على مراقي السعود.
وظاهر بعض الشروح أن هذه الرواية دالة على التقسيم الآخر، ولم يظهر لي فرق بينها وبين الرواية الأخرى.
فقوله: في النسخة المتداولة على نزاع، عائد إلى مفهوم قوله: فقط، أي: أو يمنع الابتداء، ولا يمنع الدوام على خلاف في الثاني.
وهذا هو معنى الرواية الأخرى، فقوله فيها: عن نزاع، عائد إلى حصر المنع في الابتداء، لا إلى منع الابتداء، فالمعنى واحد.
والحاصل أن عبارة الناظم وافية بالتقسيم الذي أراد، على كلا الرواية بوضوح، وليس فيها إشكال، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولازم من انتفاء الشرط
…
عدم مشروط لدى ذي الضبط
كسبب، وذا الوجود لازم
…
منه، وما في ذاك شيء قائم
واجتمع الجميع في النكاح
…
وما هو الجالب للنجاح
أشار بهذا إلى تعريف الشرط والسبب.
فذكر أن الشرط هو ما يلزم من انتفائه العدم، ولا يلزم من وجوده، وجود ولا عدم لذاته.
فأول الأبيات أشار به إلى لزوم انتفاء الحكم من انتفائه.
وأشار إلى عدم لزوم شيء من وجوده بقوله: وما في ذاك شيء قائم.
وقولنا: لذاته، يحترز به عن مقارنة وجوده، لوجود السبب، نحو ما تقدم في انتفاء المانع. ومثال الشرط: الطهارة من الحيض ـ مثلا ـ بالنسبة للصلاة، والصوم، فانتفاؤها يلزم منه عدم وجوبهما، ولا يلزم من وجودها، وجود الوجوب.
وأما السبب فهو ما يلزم من وجوده، وجود الحكم، ويلزم من انتفائه، انتفاؤه لذاته. وأشار إلى لزوم انتفاء الحكم من انتفائه، بقوله: كسبب.
وأشار إلى لزوم وجوده من وجوده، بقوله: وذا الوجود لازم منه.
وقولنا: لذاته، يحترز به عن مقارنة وجوده، لوجود مانع، أو فقد شرط، فإن الحكم منتف حينئذ، لأجل ما ذكر، ومن إخلافه بسبب آخر، فالحكم لازم لوجود ذلك السبب.
ومثال السبب: الذكاة في حلية الشاة.
فتحصل أن المانع، لا يؤثر إلا بوجوده، وأن الشرط، لا يؤثر إلا بانتفائه، وأن السبب يؤثر بكل منهما.
وقوله: واجتمع الجميع البيت، أشار به إلى أن أنواع خطاب الوضع الثلاثة مجتمعة في النكاح.
فهو سبب من أسباب الإرث ـ مثلا ـ.
شرط في لحوق الطلاق ـ مثلا ـ.
مانع من التزوج بأم الزوجة، وابنتها، وأبي الزوج، وابنه، ونحو ذلك.
وقوله: وما هو الجالب للنجاح، يعني به الإسلام، فهو سبب في عصمة الدم والمال. شرط في الإرث من المسلم.
مانع من القصاص في ما إذا كان القتيل كافرا ـ مثلا ـ ولم يكن القتل حرابة.
وانظر قول شروح النظم هنا: إن الإيمان سبب للثواب، مع كلام القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى في الفروق الذي سبق لهم نقله في الكلام على النسبة بين خطابي التكليف والوضع، ونصه: ونحن لا نعني بكون الشيء سببا، إلا كونه وضع سببا لفعل من قبل
المكلف اهـ
والركن جزء الذات والشرط خرج
…
وصيغة دليلها في المنتهج
ومع علة ترادف السبب
…
والفرق بعضهم إليه قد ذهب
أشار بقوله: والركن البيت، إلى جواب سؤال نشأ من تعريف الشرط، وهو أن التعريف المذكور يصدق بالركن، فالركن يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده، وجود ولا عدم لذاته، وليس بشرط.
والجواب هو أن الركن خارج من الحد بما هو معلوم من كونه جزءا من الذات، ومن كون الشرط خارجا عن المشروط.
وقوله: وصيغة دليلها في المنتهج، أشار به إلى رد ما وقع في كلام بعض الفقهاء من عد الصيغة ركنا، فذكر أنها دليل الماهية، ودليل الشيء غيره.
ويقع اللبس أيضا بين الشرط وجزء العلة، فجزء العلة يصدق عليه حد الشرط.
وفرق القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى في التنقيح بينهما، بكون جزء العلة مناسبا للحكم في ذاته، والشرط مناسب في غيره، قال: كجزء النصاب، فإنه مشتمل على بعض الغنى في ذاته، ودوران الحول ليس فيه شيء من الغنى، وإنما هو مكمل للغنى الكائن في النصاب.
وقوله: ومع علة البيت، معناه أن العلة والسبب مترادفان للمعنى الذي سبق بيانه، وفرق بينهما ابن السمعاني رحمه الله سبحانه وتعالى تبعا لأهل اللسان، بأن السبب هو الموصل إلى الشيء من غير تأثر عنه، مع جواز المفارقة، كالحبل للماء، والعلة: ما يتأثر عنه الشيء دون واسطة، كالإسكار للتحريم، والسفه للحجر.
شرْط الوجوب ما به نكلَّف
…
وعدم الطلب فيه يعرف
مثل دخول الوقت، والنقاء
…
وكبلوغ بعث الانبياء
ومعْ تمكنٍ من الفعل الادا
…
وعدمُ الغفلة والنوم بدا
وشرْط صحةٍ به اعتداد
…
بالفعل منه الطهر يستفاد
والشرط في الوجوب شرْطٌ في الأدا
…
وعزْوه للاتفاق وُجدا
المراد بالشرط هنا، ما يلزم وجوده لوجود أمر آخر، سواء كان سببا أو شرطا في التعريف المتقدم.
ومعنى الأبيات، أن الشرط بالمعنى المذكور، ينقسم إلى ثلاثة أنواع:
شرط وجوب، وهو ما توقف طلب الشيء على حصوله، من غير أن يكون تحصيله مطلوبا منه، سواء كان تحصيله في استطاعته أو لا، وذلك كالنقاء من دمي الحيض والنفاس لطلب الصلاة والصوم - واجبين كانا أو مندوبين - وكبلوغ الدعوة، ودخول الوقت، واستهلال رمضان، والعقل، وملك النصاب، والإقامة.
وشرط أداء، وهو ما يكون به التمكن من الفعل، بعد حصول ما يكون به من أهل التكليف، كعدم الغفلة، وعدم النوم.
وشرط صحة، وهو ما يتوقف عليه الاعتداد بالماهية، كالطهارة للصلاة.
ومنهم من نوَّع الشرط إلى نوعين فقط، وهما النوع الأول، والنوع الأخير، وأرجع شرط الأداء إلى شرط الصحة، وإلى هذا أشار بالأبيات الأربعة الأولى.
وقوله: والشرط في الوجوب، شرط في الأدا البيت، معناه أن كل ما هو شرط في وجوب الماهية، فهو شرط في أدائها، عند من يجعل القسمة ثلاثية، وشرط في صحتها عند من يجعل القسمة ثنائية.
وأشار بقوله: وعزوه للاتفاق وجدا، إلى أن السعد حكى الاتفاق على ذلك.
والظاهر أنه أمر أغلبي، فقد لا يكون شرطا في الصحة، كالإقامة بالنسبة لوجوب الجمعة، والذكورة، والحرية، وكذلك الاستطاعة في وجوب الحج، والحرية والتكليف، والوضوء قبل دخول الوقت، والكفارة قبل الحنث، ونحو ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصحة وفاق ذي الوجهين
…
للشرع مطلقا بدون مين
الصحة لغة: السلامة، وفي الاصطلاح: موافقة الأمر ذي الوجهين لإذن الشرع، سواء كان عبادة أو معاملة، وذلك هو المراد بالإطلاق في البيت.
ووقوعه موافقا لإذن الشرع: أن يقع على وجه مستجمع لما يشترط في الاعتداد به شرعا.
وقولهم: ذي الوجهين، المراد بالوجهين فيه: كونه يقع موافقا لإذن الشرع، ويقع مخالفا له.
يحترز بذلك عما لا يقع إلا موافقا، كالاستغفار والتسبيح، ونحو ذلك.
كما لا يوصف ما لا يقع إلا مخالفا لإذن الشرع، بالفساد، فلا يقال ربا فاسد، ولا زنى فاسد، ولا سرقة فاسدة، ولا غصب فاسد.
وذلك أن الأصل أن لا يوصف الشيء بالأمر، إلا إذا كان يفارقه، وحينئذ فهذا القيد لا داعي له.
كما أن عبارة موافقة الأمر لا تستعمل إلا مع تأتي مخالفته.
وقد وقع في التنقيح تعريف الصحة بتعريف الصحيح بإسقاط القيد المذكور، فقال في تعريف الصحة: ما وافق الأمر.
وإذا وقعت العبادة موافقة للإذن، كانت صحيحة عند المتكلمين، وإن لم يسقط بذلك قضاؤها، كما لو صلاها ظانا أنه على طهارة، وتبين أنه ليس على طهارة في نفس الأمر، خلافا للفقهاء، وبعض المتكلمين، حيث اشترطوا في تسميتها صحيحة أن تقع على وجه يسقط به قضاؤها، بمعنى أنه إذا تبين تخلف بعض ما يشترط في صحتها مما لا يعذر فيه بسهو، كانت باطلة، غير مخرجة من عهدة الخطاب، وإلى هذا أشار بقوله:
وفي العبادة لدى الجمهور
…
أن يسقط القضا مدى الدهور
ومبنى الخلاف: الخلاف في القضاء هل هو بأمر جديد، أو بالأمر الأول؟
فعلى أنه بأمر جديد، فالصلاة الواقعة على وجه ظاهره الصحة، صحيحة، لموافقتها للإذن في ظاهر الأمر، وهو المأمور بمراعاته، كما تقدم في مسألة اشتراط العلم والوسع. وعلى أنه بالأمر الأول، فهي غير صحيحة، ولا مخرجة من عهدة الخطاب، وإلى هذا أشار بقوله:
يبنى على القضاء بالجديد
…
أو أول الأمر لدى المجيد
فصحتها عند المتكلمين، بالنظر إلى الخروج بها من عهدة الخطاب الأول، بدليل أنه لو لم يظهر على منافي الصحة، لم يكن عاصيا للأمر، بل ممتثل مأجور، موافق للإذن، وأن
التكليف مشروط بالعلم والوسع، ولا ينافي ذلك أنهم يوجبون قضاء هذه الصلاة، كما توهمه بعضهم، فإيجابها بخطاب آخر، يستلزمه الشرط مع السهو، فاشتراط الطهارة مع السهو، عائد إلى الأمر بالإعادة بعد التذكر.
وأما استشهاد الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى بمسألة من صلى بنجس ناسيا، أو إلى غير القبلة خطأ، فغير بين، وذلك أن شرطية بعض الشروط مشروطة بالذكر والقدرة، فعدمه لا يستلزم مخالفة الإذن مطلقا.
هذا وذكر ابن عاشور رحمه الله سبحانه وتعالى أن تعريف الفقهاء يقتضي اختصاص الصحة بالفرض، وهذا بين، على أن المراد بالقضاء في قولهم: أسقط القضاء، القضاء بالمعنى الآتي، الذي هو فعل العبادة خارج وقتها الذي حدده الشرع لها، لكن هذا يقتضي أيضا عدم دخول وصف الصحة في الحج.
فإن قيل: الحج يصير موقتا بالشروع فيه، قلنا: كذلك نفل الصوم، والصلاة، والعمرة، والاعتكاف.
واستعمال الفقهاء يقتضي أن المراد بالقضاء، الفعل ثانية، أعم من كونه في الوقت أو لا، الذي هو الإعادة كما سيأتي قريبا ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى وهو مقتضى ما عُلل به كل من القولين، وإن كان كلام القرافي في شرح التنقيح صريحا في مثل ما لابن عاشور ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى وعليه فالنوافل التي تقدم أنها تتعين بالشروع توصف بالصحة، وإن كان في الصوم والصلاة إنما يؤمر بالقضاء حيث كان وقوع البطل عن عمد اختياري، ووصف تلك القرب بالصحة والبطلان معلوم في كلام الفقهاء، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهْي وفاقه لنفس الامر
…
أو ظن مأمور لدى ذي خُبْر
أشار بهذا إلى ما ذكره تقي الدين السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى من أن صحة العبادة هي موافقتها للإذن، لكن المعتبر عند الفقهاء الموافقة في نفس الأمر، وعند المتكلمين الموافقة في ظاهر الأمر، وليس إسقاط القضاء مشترطا حتى عند الفقهاء، وبنى ذلك على أن الصحة تقع في كلامهم على ما لا يكون مغنيا عن القضاء.
بصحة العقد يكون الأثر
…
وفي الفساد عكس هذا يظهر
إن لم تكن حوالة أو تلف
…
تعلق الحق، ونقص يُؤْلَف
قوله: بصحة العقد يكون الأثر، أشار به إلى رد ما قيل في تفسير صحة العقد، من أنها ترتب أثره عليه، بحيث يكون للمشتري التصرف في السلعة، ويكون للبائع التصرف في الثمن، فصحة العقد موافقته للإذن، وهي سبب لانتقال الملك في العوضين، والملك سبب لإطلاق التصرف المشروع في المملوك.
فترتب الأثر ناشئ عن الصحة، لا عينها، بدليل وجودها دونه، كما في بيع الخيار، وبيع الفضولي، وبيع المرتهن، وبيع المولى عليه، ونحو ذلك.
ولا يترتب على العقد الفاسد أثر، لأن المعدوم شرعا معدوم حسا، وسيأتي في مباحث النهي ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى أن النهي يقتضي الفساد، خلافا للحنفية.
نعم قد يترتب في العقد الفاسد الأثر الذي يترتب على العقد الصحيح، لكن لا لنفس العقد، بل لمعنى آخر، كما في الخلع الفاسد، والكتابة الفاسدة، فترتب الطلاق والعتق فيهما ليس لنفس العقد، بل للتعليق، فالفساد راجع للتعاوض، وأصل العقدين الذي هو الطلاق والعتق، لا يتوقف على العوض.
قوله: وفي الفساد عكس هذا يظهر، أشار به إلى أن العقد الفاسد لا يترتب عليه أثر لما تقدم، وقد قال سبحانه وتعالى جل من قائل:(وأحل الله البيع وحرم الربا)
وقوله: إن لم تكن حوالة البيت، ظاهره أن الأثر يترتب في الفاسد إذا لم يطلع عليه إلا بعد الفوات مطلقا، وظاهره أيضا اختصاص ذلك بالبيع، وذلك هو ظاهر كلام القرافي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى في شرح التنقيح.
والمعروف أن الفاسد ينقسم إلى فاسد مجمع على فساده، وفاسد مختلف في فساده، أما المختلف في فساده فيفصل على المشهور بين ما إذا لم يطلع على فساده إلا بعد مفوت، وما إذا اطلع عليه قبل ذلك، فإن اطلع عليه قبل الفوات، فسخ، وإلا أقر بالثمن على المشهور، مراعاة للخلاف، وقيل إنه يمضي بمجرد العقد، وقيل بالقبض.
وأما شبهة الملك فهي حاصلة بظن الملك.
والوجه في مراعاة الخلاف بين، وإن أشكل على كثيرين، فمراعاة الخلاف عائدة إلى أن
ما وقع صحيحا على مقتضى اجتهاد معتبر، وحصل فيه مفوت، بحيث يلحق في فسخه ضرر أو نحوه، لا ينبغي أن ينقض لمخالفته لاجتهاد آخر.
والمعول أنه لا يراعى من الخلاف ما كان مدركه ضعيفا.
وهذا كما جاء عن عمر ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنه ـ في مسألة المشتركة، حين راجعه فيها أحد الإخوة لأم، فعمل بغير اجتهاده فيها قبل ذلك، فقيل له في قضائه الأول، فقال: تلك على ما قضيناه، وهذه على ما قضينا
(1)
.
وأما المجمع على فساده فمفسوخ مطلقا.
وهذا غير خاص بالبيع، بل يجري في ما سواه من العقود كالنكاح، فالنكاح الفاسد المختلف في فساده يمضي بالدخول، والمجمع على فساده يفسخ أبدا، ودخوله وطء شبهة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والمراد بالحوالة: حوالة السوق، والسوق: فسره عليش في قول سيدي خليل: بتغير سوق، بالثمن، ووقع مثله في عبارة غيره، ولا أدري هل مرادهم أنه موضوع لذلك أيضا حقيقة، أو هو تفسير باللازم، وهو استعمال معروف في لساننا الشعبي، نقول: كم سوق هذه السلعة.
والمراد بالتلف: تلف العين المعقود عليها.
وبتعلق الحق: تعلق الحق بها لثالث، كرهنها له أو إجارتها.
والمراد بالنقص: حدوث نقص فيها، كعور الشاة، وتخرق الثوب، ونحو ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
كفاية العبادة الإجزاء
…
وهي أن يسقط الاقتضاء
أو السقوط للقضا وذا أخص
…
من صحة إذ بالعبادة يخص
معناه أن إجزاء العبادة هو إيقاعها على وجه يسقط به طلبها، ويُخرج به من عهدة الخطاب بها.
(1)
رواه الدارمي بإسناد جيد.
وقيل: إيقاعها على وجه يسقط به قضاؤها، نحو الخلاف المتقدم في صحة العبادة، ولم أقف على عزو طرفي الخلاف هنا، والظاهر أيضا أن المراد بالقضاء هنا المراد به في الصحة، خلاف ما يقتضيه بعضهم، وذلك لما أسلفنا هناك، ولما صرحوا به من ترادف صحة العبادة وإجزائها، كما هو قوله: وذا أخص من صحة إذ بالعبادة يخص.
والمعنى أن الإجزاء أخص من الصحة مطلقا، لعدم جريانه في غير العبادات، فلا يقال بيع مجزئ، ولا نكاح مجزئ.
والصحة القبول فيها يدخل
…
وبعضهم للاستواء ينقل
أشار به إلى أن الأكثرين على أن الصحة لا تستلزم القبول، وإنما تستلزم الخروج من عهدة الخطاب.
وقيل: هما مترادفان، وهناك نصوص كثيرة ظاهرها إناطة أصل الثواب بالفعل، فضلا من الله سبحانه وتعالى وكرما وجودا وإحسانا، دون المضاعفة الزائدة على العشر مثلا، فهي محل التفاوت، والله سبحانه وتعالى أعلم.
لكن لا يخفى أن الفعل الذي رتب عليه الثواب، مشروط بالامتثال، والإخلاص، وغير ذلك مما هو معروف، فعدم الجزم بالثواب إنما هو لعدم الجزم بالسلامة مما يمنع ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وخصص الإجزاء بالمطلوب
…
وقيل بل يختص بالمكتوب
وصف الإجزاء تقدم أنه خاص بالعبادة، وذكر هنا أنه اختلف في اختصاصه بالواجب، ودخوله في المندوبات، وهو الأبين، ولعل الأبين لو قال: وعمم الإجزاء في المطلوب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقابل الصحة بالبطلان
…
وهْو الفساد عند أهل الشان
وخالف النعمان، فالفساد
…
ما نهيه للوصف يستفاد
معناه أن الصحة يقابلها البطلان، ويتخرج تعريفه على ما سبق في تعريف الصحة، فبطلان المعاملة وقوعها مخالفة لإذن الشرع، وبطلان العبادة كذلك أيضا، إلا أنه يختلف هل المعتبر في ذلك ظاهر الحال، أو ما في نفس الأمر، كما تقدم بيانه.
ويرادف البطلان الفساد عند الجمهور، وفرق الحنفية بينهما، فجعلوا البطلان في ما كان النهي عنه لذاته، والفساد في ما كان النهي عنه لوصفه.
أولهما كبيع الخمر والخنزير.
والثاني كبيع درهم بدرهمين، فمبادلة الدراهم جائزة في الأصل، والنهي في هذا العقد إنما هو لأجل الزيادة، وتحرير هذا يطلب من كتبهم.
فعل العبادة بوقت عُينا
…
شرعا لها باسم الاداء قُرنا
وكونه بفعل بعض يحصل
…
لعاضد النص هو المعول
وقيل ما في وقته أداء
…
وما يكون خارجا قضاء
والوقت: ما قدره من شرعا
…
من زمن مضيَّقا موسعا
وضده القضا تداركا لما
…
سبْق الذي أوجبه قد عُلما
أشار بأول الأبيات إلى تعريف الأداء، وهو من الأوصاف المختصة بالعبادة، فذكر أنه فعل العبادة في الوقت المحدد لها شرعا، ويقابله القضاء.
وأشار بالبيتين المواليين، إلى الاختلاف في من أدرك ركعة من الصلاة قبل أن يخرج وقتها، هل تعتبر أداء كلها، وهو المعول، لحديث الصحيحين " من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر "
(1)
أو هي قضاء كلها؟
وقيل: الركعة الواقعة قبل خروج الوقت أداء، والواقعة بعده قضاء.
وأشار بقوله:
والوقت ما قدره من شرعا
…
من زمن مضيقا موسعا
إلى أن وقت العبادة، هو الزمن الذي عينه الشرع لها، سواء كان مضيقا، بأن كان لا يزيد عليها كرمضان، أو موسعا، كأوقات الصلوات، وسيأتي الكلام على ذلك ـ إن شاء الله
(1)
متفق عليه.
سبحانه وتعالى ـ في مباحث الأمر.
وقوله: وضده القضا البيت، معناه أن القضاء هو فعل العبادة خارج الوقت المحدد لها شرعا، تداركا لما علم تقدم سبب وجوبه.
واحترز الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى بذكر الإيجاب، عن النوافل، إذ لا يجري فيها قضاء عندنا إلا في ركعتي الفجر على المشهور، وهو أحد أقوال ثلاثة: جريان القضاء فيها مطلقا، وعدم جريانه فيها مطلقا.
وقد يستشكل على قيد كون الفعل فيه خارج الوقت، قضاء تطوع الصوم والحج، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
من الاداء واجب وما منع
…
ومنه ما فيه الجواز قد سمع
واجتمع الأداء والقضاء
…
وربما ينفرد الأداء
وانتفيا في النفل .......... ..........................
معنى أول الأبيات، أن الأداء قد يوصف بالوجوب، وذلك هو الأصل، وقد يكون جائزا، كصوم المسافر الذي يقوى على الصوم في السفر، وقد يكون ممتنعا، ومثلوا له بصوم الحائض، وهو محل نظر.
وقوله: واجتمع الأداء إلى قوله: في النفل، معناه أن العبادات باعتبار الوصف بالأداء والقضاء، تنقسم إلى ثلاثة أنواع:
نوع يوصف بهما، كالصلوات الخمس، وصوم رمضان.
ونوع يوصف بالأداء فقط، ومثل له بصلاة الجمعة، والنوافل المؤقتة كالصلوات المسنونة.
ونوع لا يوصف بهما كالنفل المطلق.
والأبين أن لا يوصف بالأداء إلا ما يوصف بالقضاء، وما وجه به القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى ليس ببين.
والعباده
…
تكريرها لو خارجا إعاده
للعذر .................. ........................
معناه أن الإعادة - وهي أيضا وصف خاص بالعبادة - هي فعل العبادة مرة ثانية في الوقت أوبعده، لسبب يقتضي ذلك، ولا تعاد بعد الوقت إلا لمقتض ذلك وجوبا، وهو المعبر عنه بالإعادة الأبدية.
ومنع بعض الشروح تسمية ذلك إعادة، لأن الأولى كالعدم، وليس هذا ببين جدا، فعدميتها إنما هي في جهة الإجزاء، لا في جهة صدق اسم الصلاة عليها، فهي صلاة مثاب عليها، وإطلاق أهل المذهب الإعادة على هذا معلوم، فيقولون أحيانا: يعيد في الوقت، وأحيانا: يعيد أبدا، واسم الماهية يصدق بفاسدها.
وما ذكره الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى من عدم اختصاصها بالوقت، هو مذهب الإمام مالك رحمه الله سبحانه وتعالى كما بينه القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى في شرح التنقيح، وإن كان في التنقيح قيدها بالوقت تبعا للإمام رحمه الله سبحانه وتعالى في المحصول.
والرخصة حكم غيرا
…
إلى سهولة لعذر قررا
مع قيام علة الأصلي
…
وغيرها عزيمة النبي
وتلك في المأذون حتما توجد
…
وغيره فيه لهم تردد
وربما تجي لما أخرج من
…
أصل بمطلق امتناعه قمن
قوله: والرخصة إلى قوله الأصلي، أشار به إلى تعريف الرخصة، وهي بسكون الخاء وضمها، مع ضم الراء، وحكى فيها خرصة بتقديم الخاء.
وهي لغة: اليسر والسهولة، وفي الاصطلاح: الحكم الذي تغير من صعوبة إلى سهولة لعذر، مع قيام علة الحكم الأصلي، ولو تغير من استحباب إلى جواز، كما في رد الضعفة من المزدلفة إلى منى.
وخرج بهذا التعريف، ما لم يقع فيه تغير أصلا، بأن بقي على ما وقع عليه شرعه ابتداء، وهو أكثر أحكام الشرع.
وقد يسمى هذا رخصة أيضا، إذا وقع على أخف مما تقتضيه القواعد، للحاجة، وإليه أشار بقوله:
وربما تجي لما أُخرج من
…
أصل بمطلق امتناعه قمن
وذلك كالمساقاة، فهي من قبيل الإجارة بمجهول، وكذلك القراض.
وكبيع العرية، فهو من قبيل بيع الطعام بالطعام نسيئة.
وكضرب الدية على العاقلة، وغير ذلك.
وخرج ما تغير إلى أصعب، كتعيين صيام رمضان بعد التخيير بينه وبين الافتداء.
وما تغير إلى مساو، كتحويل القبلة.
وما تغير إلى أخف لا لعذر، كسقوط الوضوء مما مست النار.
وما تغير إلى أخف لارتفاع سببه، كادخار لحوم الأضاحي، فالنهي عنه ابتداء إنما كان لأجل الدافَّة.
قوله: وغيرها عزيمة النبي ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ معناه أن غير الرخص من الأحكام هو العزائم.
واعترض صاحب نثر الورود حصر الأحكام في الرخصة والعزيمة، وجعل المنسوخ واسطة، ولم أقف عليه لغيره.
ولم يتبين لي وجه امتناع دخوله عنده في العزيمة.
ولا أستبعد أن يكون قد سرى له ذلك من تعريف القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى في الفروق، والشاطبي رحمه الله سبحانه وتعالى في الموافقات، حيث عرفاها، بأنها ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء، لكن المراد بكونه ابتداء، أن لا يكون حكما مستثنى من حكم قائم، فالمنسوخ قد ارتفع، بخلاف الرخصة فإن الحكم الأصلي فيها لم يرفع، بل هو قائم، والرخصة استثناء منه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأثبت القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى واسطة بين الرخصة والعزيمة أيضا، وذلك حيث منع دخول وصف العزيمة في الجائز، قال: لأن العزائم مأخوذة من العزم، وهو الطلب المؤكد فيه، وعرف العزيمة بأنها: طلب الفعل الذي لم يشتهر فيه مانع شرعي.
قال: ولم أعين الوجوب، لأن المالكية قالوا إن السجدات المندوب السجود عند تلاوتها، عزائم اهـ
وإذا كان كما ذَكر، خرج من العزيمة أيضا المندوب الذي ليس بمؤكد، فقد نصوا أن السجدات لا تنحصر في العزائم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وليس ما قاله ببين أيضا ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى فالأوجه أنها من عزم الأمر إذا قطعه ولم يبق فيه ترددا، ولا خيارا.
ولو كان الأمر كما قال، لاختصت الرخصة بالجائز، لمقابلتها للعزيمة.
ثم هذا البحث إنما هو على ما ذهب إليه القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى تبعا لغيره من أن الرخصة تتحقق بالوجوب، بل نسبه في البحر لجميع الأصوليين.
أما على ما ذهب إليه غيره كالتاج السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى في الإبهاج، ورفع الحاجب، والشاطبي رحمه الله سبحانه وتعالى في الموافقات، من أنها الإباحة خاصة، فهو وارد.
وقد احتج الشاطبي رحمه الله سبحانه وتعالى لما ذهب إليه من اختصاصها بالمباح، بأن النصوص الواردة في الرخص، إنما وردت بألفاظ دالة على رفع الحرج والإثم، ولم ترد بالأمر، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) وكقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) وإنما يستفاد الأمر من دليل آخر، فالآية الكريمة إنما جاءت برفع الحرج عن المضطر، ثم ينظر بعد ذلك، فإن خاف التلف وجب عليه الأكل، من جهة وجوب إحياء النفس، المستفاد من نحو آية (ولا تقتلوا أنفسكم).
ونحوه قول ابن دقيق العيد رحمه الله سبحانه وتعالى في مثل إساغة اللقمة بالخمر: لا مانع أن يطلق عليه رخصة من وجه، وعزيمة من وجه، فمن حيث قام الدليل المانع، نسميه رخصة، ومن حيث الوجوب نسميه عزيمة، نقله عنه في البحر.
قال: وهذا التردد الذي أشار إليه سبقه إليه إمام الحرمين رحمه الله سبحانه وتعالى في النهاية، وتردد في أن الواجبات هل يوصف شيء منها بالرخصة اهـ
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
وتلك في المأذون حتما توجد
…
وغيره فيه لهم تردد
إلى أن الرخصة تكون في المأذون بأنواعه الثلاثة، التي هي الوجوب، والاستحباب، والجواز، بمعنى أن متعلقها قد يكون واجبا، كنكاح الإماء لمن عدم الطول، وقد يكون مندوبا كالقصر في السفر، وقد يكون جائزا، كالمسح على الخفين، وقد يكون مكروها، كالجمع في السفر عند بعض أصحابنا.
ولا يمكن تحققها في المحرم، لأن التحريم نقيض الإذن، وهذا أمر لا خلاف فيه.
وأما قول الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى: وغيره فيه لهم تردد، فهو سهو في العبارة، وإنما أراد الإشارة إلى الاختلاف في اشتراط حلية السبب المقتضي للترخيص، وذلك كالسفر، فقد اختلف إذا كان السفر معصية، هل يجوز قصر الصلاة فيه، والفطر في رمضان، أو لا.
وقد تفطن لهذا من شراح النظم مولاي لمرابط: محمد الامين بن أحمد زيدان رحمه الله سبحانه وتعالى إلا أنه جعل متعلق الرخصة الصلاة، والصلاة المكتوبة لا يمكن وصفها بالرخصة، وإنما الرخصة قصرها، والقصر في سفر المعصية عند من لا يراه سببا للقصر لا يمكن وصفه بالرخصة، لأنه معصية، وهذا بين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وما به للخبر الوصول
…
بنظر صح هو الدليل
الدليل: فعيل من الدلالة، وهي مصدر دله دَلا، ودِلالة، ودِلِّيلى، إذا أرشده، فهو لغة: المرشد.
واصطلاحا: ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري، والمراد بصحيح النظر: أن ينظر فيه من الجهة التي من شأنها أن ينتقل العقل بواسطتها إلى ذلك المطلوب، المعروفة بوجه الدلالة، وجهة الدلالة.
كآية (أقيموا الصلاة) فهي دليل لوجوب الصلاة، لأن النظر فيها من جهة أنها أمر بالصلاة، يتوصل به إلى وجوبها، لأن الأمر بالشيء يقتضي وجوبه، والمراد بالنظر: جولان الفكر في المعقولات، لا النظر بالمعنى الآتي قريبا ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى.
والمراد بالخبر: التصديق، ويحترز به عن التصور، فالمتوصل به إليه هو القول الشارح.
…
وينقسم الدليل إلى قطعي وظني، وذلك أن ترتب المطلوب على ذلك الأمر قد يكون على
وجه لا يتخلف بحال، وقد يكون على وجه الغلبة والرجحان، مع إمكان التخلف، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والدلالة اصطلاحا قيل هي: فهم أمر من أمر، وقيل: هي كون أمر بحيث يفهم منه أمر، فهم أو لم يفهم.
ودلالة اللفظ الوضعية، على ثلاثة أنواع:
دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام.
فالأولى: دلالة اللفظ على مجموع معناه، كدلالة لفظ اثنين على مجموعهما.
والثانية: دلالته على بعض ما وضع له، كدلالة لفظ اثنين على أحدهما.
والثالثة: دلالته على خارج لازم له، كدلالة اللفظ المذكور على الشفع والزوجية.
والمراد باللزوم: اللزوم في الذهن، كالعمى والبصر، لا اللزوم في الخارج فقط، لأن الفهم حينئذ ليس ناشئا من اللفظ، وقد أشار الأخضري رحمه الله سبحانه وتعالى إلى ذلك في السلم بقوله:
دلالة اللفظ على ما وافقه
…
يدعونها دلالة المطابقه
وجزئه تضمنا، وما لزم
…
فهو التزام إن بعقل التزم
وكلامهم في دلالة الاقتضاء، صريح في تساوي اللزوم العقلي واللزوم الشرعي، فلعل التخصيص باللزوم العقلي اصطلاح خاص بالمناطقة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولا بد للطالب من معرفة هذه الأوجه، فإن بعض البحوث التي تدور في كلامهم مبنية على تفاصيلها، وإنما لم يتكلم عليها المؤلف رحمه الله سبحانه وتعالى لقوله:
منتبذا عن مقصدي ما ذكرا
…
لدى الفنون غيره محررا
ولا شك أن هذا لا يقل أهمية عن التصور والتصديق.
والنظر الفكر الموصِّل إلى
…
ظن بحكم، أو لعلم مسجلا
معناه أن النظر في الاصطلاح، هو الفكر الذي يوصل إلى علم أو ظن.
ومقتضى قوله: ظن بحكم: أن التصور لا يكون إلا علما، وهو كذلك في ما ذكروا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والفكر هو حركة النفس في المعقولات.
والمراد بالإطلاق في البيت، أنه لا فرق بين أن يكون العلم بذات، أو نسبة.
الادراك من غير قضا تصور
…
ومعْه تصديق وذا مشتهر
معناه أن التصور هو الإدراك الذي لا حكم معه، فإن كان معه حكم، فهو تصديق، والحكم تقدم أنه إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه.
وقيل: إن التصديق هو الإدراك الرابع من الإدراكات التي يتوقف عليها الحكم، وهي إدراك زيد في قضية: زيد كاتب، وإدراك الكاتب، وإدراك النسبة بين زيد والكاتب، التي هي مورد الإثبات والنفي، من غير حكم، كحال شاك، وكونها واقعة بالفعل، أو منتفية، وهو مذهب قدماء المناطقة، وهو المشار إليه بمفهوم قوله: وذا مشتهر.
وإنما سمي التصور تصورا، لانطباع صورة المدرَك في ذهن مدرِكه، وأما التصديق فسمي تصديقا، أخذا بأشرف الاحتمالين: الصدق والكذب، فالتصديق خبر، والخبر محتمل للصدق والكذب.
والمراد بالتصور ـ في ما قالوا ـ: وصول النفس إلى المعنى بتمامه، وإلا فهو شعور، ومثلوا له بشعورنا بأن الملئكة أجسام لطيفة نورانية لا تعلم حقيقتهم.
وهذا يؤدي إلى سؤال، وهو أنه إذا كان التصديق متوقفا على التصور، وكان التصور خاصا بوصول النفس إلى المعنى بتمامه، فكيف يكون التصديق في الأشياء الغيبية؟
…
والجواب: أن التصديق إنما يتوقف على إدراك الشيء إدراكا يرفع أصل الجهالة به، المانع من تمييزه، ومعرفته من الجهة التي يتعلق به فيها ذلك الحكم.
فإن كان هذا هو المراد بوصول النفس إلى المعنى بتمامه، فلا إشكال.
وإن أريد تعقله على وجه تام، كما يقتضيه التمثيل بالملئكة فليس بصحيح، والله سبحانه وتعالى أعلم.
جازمه دون تغير علم
…
علما، وغيره اعتقاد ينقسم
إلى صحيح إن يكن يطابق
…
أو فاسد إن هو لا يوافق
والوهم والظن وشك ما احتمل
…
لراجح أو ضده أو ما اعتدل
معناه أن التصديق إما أن يكون جازما أو لا.
والجازم قابل للتغير، وغير قابل له.
فالجازم الذي لا يقبل التغير، كالتصديق بأن الكل أكبر من الجزء، يسمى علما. والجازم الذي يقبل التغير، يسمى اعتقادا، كالعقائد الفاسدة كلها.
وينقسم الاعتقاد إلى صحيح، وهو ما وافق الواقع، وفاسد، وهو غيره.
وغير الجازم إما أن يكون احتمال نقيضه مرجوحا، وهو الظن، أو راجحا، وهو الوهم، أو مساويا، وهو الشك، وإلى هذه الثلاثة أشار رحمه الله سبحانه وتعالى على سبيل اللف والنشر المرتب بقوله: والوهم والظن البيت.
وقيل: إن الشك والوهم ليسا من التصديق، إذ ليس فيهما إلا التجويز، وقد عدهما السيد وغيره من التصور، وهو أبين.
وأما قول بعض الشروح: إن الواهم حاكم بالطرف المرجوح حكما مرجوحا، وأن الشاك إن كان شكه ناشئا عن تعارض الأدلة فهو حاكم بالتردد، فمشكل.
أما في الشك، فلما ذكروه من أن التصديق الحكم بوقوع النسبة، أو عدم وقوعها، وهذا غير واحد منهما.
وأما الحكم بالتردد، فهذا حكم في نسبة أخرى، وقضية أخرى، وهي تكافؤ أدلة الوقوع، وأدلة اللاوقوع.
وأما في الوهم، فكيف يكون حاكما بعدم وقوع الشيء مثلا، مع حكمه بوقوعه؟
…
فالأوجه أن الواقع منه إنما هو تجويز للنقيض.
وأيضا كيف يكون صاحب الوهم حاكما، وصاحب الشك غير حاكم، مع أن الشك أقوى من الوهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا والأصل العمل بالظن إلا في مواضع مستثناة، كالمواطن المتعبد فيها بالقطع، كالعقائد. وأما الشك والوهم، فالأصل إلغاؤهما، وقد يراعيان لمعنى عارض، كالاحتياط ونحوه، كلزوم الوضوء بالشك في الحدث، وكلزوم طلب الماء مع ظن عدم وجوده، على خلاف في المسألتين، وكندب التنزه في الرضاع، ويقول الشيخ آد رحمه الله سبحانه وتعالى:
والشك في الشرط ومانع سبب
…
لغو، كما الحبر القرافي جلب
وذلك لقاعدة أن اليقين لا يرتفع بالشك، وهي قاعدة متفق عليها، وسيأتي أنها من القواعد الخمس التي ذكر القاضي الحسين ـ رحمه سبحانه وتعالى أن الفقه ينبني عليها، وذلك عملا بأصل الاستصحاب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والعلم عند الاكثرين يختلف
…
جزما، وبعضهم بنفيه عُرف
وإنما له لدى المحقق
…
تفاوت بحسب التعلق
لما له من اتحاد منحتم
…
مع تعدد لمعلوم علم
يبنى عليه الزيد والنقصان
…
هل ينتمي إليهما الإيمان
أشار بهذا إلى أنه اختلف في تفاوت العلم في جزئياته، فذهب الأكثرون إلى أنه يتفاوت، فالعلم بأن الكل أكبر من الجزء، أقوى من العلم بمجيء زيد الثابت بالأخبار المتواترة، والعلم الناشئ عن العيان، أقوى من العلم الناشئ عن الأخبار المتواترة.
وتشهد لهذا المذهب ظواهر كثيرة، كقول سيدنا إبراهيم ـ على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ:(ولكن ليطمئن قلبي) وكقول الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها المذكور في الآية الكريمة، وكقول الحواريين:(وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا) وكقوله سبحانه وتعالى جل من قائل خبرا عن الشهداء: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) الآية الكريمة، وكقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين) والله سبحانه وتعالى أعلم.
وذهب قوم إلى أنه لا يتفاوت في نفسه، فلا فرق بين ضروريه ونظريه، وإنما يتفاوت بكثرة المتعلقات، كمثل ما في حديث الصحيحين (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا)
وينبني على هذا الاختلاف: الاختلاف في الإيمان هل يزيد وينقص بحسب الجزم أو لا؟ والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهذا الخلاف ينبني على خلاف آخر، وهو هل يتعدد العلم بتعدد المعلوم، أو لا؟
وعلى الأول أبو الحسن الأشعري رحمه الله سبحانه وتعالى وكثير من المعتزلة، وعليه يجري القول بتفاوت العلم في نفسه.
وأما من ذهب إلى أن العلم واحد، ولا يتعدد بتعدد المعلوم، فيرى أن العلم لا يتفاوت في نفسه، وإلى هذا أشار بقوله: لما له من اتحاد منحتم البيت.
والجهل جا في المذهب المحمود
…
هو انتفاء العلم بالمقصود
معناه أن الجهل هو انتفاء العلم بما من شأنه أن يقصد ليعلم، وذلك صادق بالجهل البسيط، وهو عدم العلم به من دون اعتقاد العلم به، والجهل المركب وهو اعتقاده على هيئة خلاف هيئته.
وقولهم: عما من شأنه أن يقصد ليعلم، احتراز عن نحو جهل ما تحت الأرض ـ مثلا ـ فلا يسمى عدم معرفته جهلا على ما قالوا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
زوال ما علم قل نسيان
…
والعلم في السهو له اكتنان
معناه أن النسيان، هو زوال المعلوم عن الحافظة، بحيث يحتاج إلى استئناف تحصيله، والسهو هو الذهول عن الشيء مع بقائه في الحافظة، بحيث يستحضره عند التذكير، وذلك هو المراد بقوله: له اكتنان، أي اختفاء واستتار في الحافظة، من غير أن يكون قد ذهب جملة.
وقيل: هما مترادفان، والظاهر أن المراد ترادفهما لما يعم الأمرين جميعا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ما ربنا لم ينه عنه حسن
…
وغيره القبيح والمستهجن
معناه أن قبح الأشياء وحسنها الشرعيين ـ الذين يترتب عليهما الثواب والعقاب والذم والمدح ـ لا يدركان إلا بالشرع.
فالحسن: ما لم ينه عنه الشرع، بأن أذن فيه، سواء كان واجبا، أو مندوبا، أو مباحا، والقبيح: ما نهى عنه الشرع، سواء كان النهي نهي تحريم أو نهي كراهة.
وقال إمام الحرمين رحمه الله سبحانه وتعالى: المكروه واسطة، إذ لا يذم على فعله، ولا يسوغ الثناء عليه.
والصواب أنه من قبيل القبيح، للإثابة على تركه، لكن قبحه دون قبح الحرام، كما أن حسن المندوب دون حسن الواجب، وحسن المباح دون حسن المندوب، فالقبح والحسن معنيان مشككان، وليسا متواطئين.
وذهب المعتزلة إلى أن ما ذكر من الحسن والقبح، يدرك بالعقل، قبل الشرع.
وصرح بعض الشروح بأن المحرم في حق الصبي حسن.
ومقتضاه أن الواجب والمحرم لا يتوجه إلى الصبي فيهما خطاب، عند من يرى توجه الخطاب إليه بالندب والكراهة، فيكون شرب الخليطين في حقه قبيحا، وشرب الخمر وغيره من كبائر الذنوب حسنا، وهو غير بين الوجاهة.
فالأوجه أن المنفي في حق الصبي التحريم والإيجاب، لا الخطاب في المحرم والواجب، فمن ذهب إلى توجه الخطاب إليه بالندب والكراهة، يرى ندب الواجب، وكراهة المحرم في حقه، وهو الذي تقتضيه تفاريع أهل المذهب، وهو مقتضى استدلالهم لاستحباب صلاته، باستحباب حجه، كما سيأتي بيانه ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى.
ومن لا يرى توجه الخطاب إليه جملة، يرى أفعاله كلها غير موصوفة بحسن ولا قبح، فهي كأفعال المجانين والعجماوات، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما الحسن والقبح بمعنى ملاءمة الطبع ونفوره، ونحو ذلك، فلا خلاف أنه يدرك بالعقل قبل الشرع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هل يجب الصوم على ذي العذر
…
كحائضٍ ومُمْرَض، وسَفْر
وجوبه في غير الاول وضح
…
وضعفه فيه لديهمُ رجح
وهو في وجوب قصدٍ للأدا
…
أو ضده لقائل به بدا
اختلف إذا انعقد سبب وجوب الصوم، مع قيام العذر المبيح للفطر، هل يوصف بالوجوب أو لا؟
وذلك كالحائض، والنفساء، والمريض، والمسافر، فقد اختلف في وجوب الصوم عليهم في وقت العذر، وذلك على أقوال: ثالثها وجوبه على المسافر والمريض.
واحتج من قال يجب عليهم بوجوب القضاء بقدر ما فات، قال: فلو لم يكن الفائت
واجبا، لم يكن البدل واجبا.
وأجيب عن هذا، بأن وجوب القضاء قد يوجد دون وجوب الأداء، كما في الناسي والنائم عن الصلاة حتى خرج وقتها.
ومن فصل، نظر إلى إجزائه ممن ذهب إلى وجوبه عليهم، وغير الواجب لا يجزئ عن الواجب، فهو في حقهم عنده من قبيل الواجب المخير.
ومن قال لا يجب عليهم، نظر إلى عدم الإثم بالترك.
والأصح القول بالتفصيل، كما أشار إليه الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: وجوبه في غير الاول رجح البيت.
وفائدة هذا الخلاف هل يقضي من ذكر، بنية الأداء، أو بنية القضاء، عند من يرى وجوب التعرض لذلك في النية.
ونقل بعض الشروح عن الرجراجي رحمه الله سبحانه وتعالى أنه قال في المرأة تسافر وهي حائض، فتطهر أثناء المسافة: مشهور المذهب أنها تتم الصلاة ولا تقصر، ويتخرج في المذهب قول ثان أنها تقصر.
قال: وينبغي أن ينبني الخلاف فيها، على الخلاف في الحائض، هل هي مخاطبة بالعبادة مع وجود الحيض، أو غير مخاطبة؟
فعلى القول بأنها غير مخاطبة، لا بالأداء ولا بالقضاء في الصلاة، والقضاء في الصيام بالخطاب الجديد، فلا بد من اعتبار بقية المسافة كما هو منصوص.
وعلى القول بأنها مخاطبة بالخطاب الأول، ويسترسل عليها مع وجود الحيض، إلى ارتفاعه، يجب أن تقصر الصلاة إذا طهرت، اعتبارا ببقية المسافة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهذا مشكل جدا، فعدم خطاب الحائض بالصلاة، صرح فيه غير واحد كالمازري رحمه الله سبحانه وتعالى وغيره بالإجماع.
والخلاف المذكور جار أيضا في المجنون يفيق أثناء المسافة، والقلم مرفوع عنه بإجماع أيضا.
ولا يكلِّف بغير الفعل
…
باعثُ الانبيا وربُّ الفضل
فكفنا بالنهي مطلوب النبي
…
والترك فعل في صحيح المذهب
له فروع ذكرت في المنهج
…
وسردها من بعد ذا البيت يجي
من شرب أو خيط ذكاة فضل ما
…
وعمد رسم شهادة وما
عطل ناظر وذو الرهن كذا
…
مفرط في العلْف فادر المأخذا
وكالتي ردت بعيب وعَدِم
…
وليُّها وشبهها مما علم
قوله: ولا يكلف بغير الفعل البيت، معناه أن التكليف لا يكون إلا بفعل، بناء على امتناع التكليف بالمحال.
والمراد بالفعل: ما يقع باختيار من المكلف، وهذا بين في جهة الأمر، لاقتضائه الفعل غالبا، وأما النهي فالمطلوب فيه هو الكف بمعنى الانتهاء.
وقيل: فعل الضد، وقيل: انتفاء الفعل، وإلى الأول أشار بقوله: فكفنا بالنهي مطلوب النبي ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ.
وأما قوله: والترك فعل في صحيح المذهب إلخ الأبيات، فظاهره أن الخلاف فيه في مطلق الكف هل هو فعل؟
والمتبادر أن المراد بالفعل في القاعدة المشار إليها، أخص من الفعل المراد في ما كنا فيه، فالمراد بالفعل هنا فعل خاص، وهو القيام بالإتلاف ـ مثلا ـ نظير قولهم: هل الساكت كالمقر، لا مطلق الفعل.
وعبارتهم ظاهرة في الاتفاق على أنه غير فاعل، وإنما الخلاف هل يعتبر كالفاعل، فالمثبت لا يخالف في أنه غير فاعل، وإنما يخالف في مخالفته للفاعل في الحكم، مع اتفاقهم على كونه فاعلا بالمعنى الأعم، لاتفاقهم على لومه بتركه، ولفظ الزقاق:
وهل كمن فعل تارك كمن
…
له بنفع قدرة، لكن كمن
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقول صاحب المنهج: من شرب، يشير به إلى الاختلاف في ضمان من منع مضطرا فضل طعام أو شراب، حتى مات.
وأشار بقوله: أو خيط، إلى الاختلاف في ضمان من ترك مواساة من به جائفة بخيط
حرير عنده، حتى مات.
وأشار بقوله: ذكاة، إلى الاختلاف في ضمان من مر بصيد لم تنفذ مقاتله، وكانت تمكنه ذكاته فلم يفعل، حتى مات.
وأشار بقوله: فضل ما، إلى الاختلاف في ضمان من كان له فضل ماء، وكان لجاره زرع، وانهدمت بئره، وأخذ يصلحها، فمنعه فضل مائه حتى تلف زرعه.
وأشار بقوله: وعمد، إلى مسألة: من منع عمده من صاحب جدار يخاف سقوطه، حتى سقط.
وأشار بقوله: رسم، إلى الاختلاف في ضمان من ضيع وثيقة حق.
وأشار بقوله: شهادة، إلى الاختلاف في ضمان من كتم شهادة بحق يتعذر على ربه إثباته إلا بشهادته.
وأشار بقوله: وما عطل ناظر وذو الرهن، إلى الاختلاف في ضمان الناظر على اليتيم ونحوه كراء عقاره إذا عطله، وضمان المرتهن ذلك للراهن أيضا إذا عطل العقار المرتهن عنده. وأشار بقوله: كذا مفرط في العلف، إلى الاختلاف في ضمان من دفعت له دابة مع علفها فترك علفها حتى ماتت.
والعلف ـ بسكون اللام ـ: تقديم العلف ـ بفتحها ـ.
وأشار بقوله: وكالتي ردت بعيب البيت، إلى الاختلاف في ضمان المرأة المعيبة التي زوَّجها وليها القريب الذي لا يخفى عليه عيبها، الصداق، إذا كان الولي معدما.
والامر قبل الوقت قد تعلقا
…
بالفعل للإعلام قد تحققا
وبعدُ للإلزام يستمرُّ
…
حال التلبس، وقوم فروا
فليس يُجزي من له يُقَدِّم
…
ولا عليه دون حظر يُقْدِم
وذا التعبد، وما تمحضا
…
للفعل فالتقديم فيه مرتضى
وما إلى هذا وهذا ينتسب
…
ففيه خلف دون نص قد جُلب
وقال إن الامر لا يوجَّه
…
إلا لدى تلبس منتبه
فاللوم قبله على التلبس
…
بالكف، وهْي من أدق الاسس
وهي في فرض الكفاية فهل
…
يسقط الاثم بشروع قد حصل
قوله: والامر قبل الوقت، إلى قوله: للإلزام، معناه أن الأمر يتعلق بالفعل قبل وقته، إعلاما بوجوب فعله إذا دخل وقته، ويتعلق به بعد دخول وقته إلزاما بفعله، وهكذا القول في بقية الأحكام التكليفية.
واختلف هل ينقطع توجهه بالشروع فيه، أو يستمر توجهه حتى يتم الفعل على الوجه المطلوب؟ وهو المعول، وإليه أشار بقوله: يستمر حال التلبس، لأن الخطاب لا يُخرج من عهدته إلا بالامتثال، والامتثال لا يقع إلا بالإتيان بالفعل على الوجه المطلوب، فتعلقه باق، وإلا لأجزأ عنه أدنى شطر منه، وهو باطل.
واستدل من رأى انقطاع الخطاب بالتلبس، بأن توجه الخطاب مع التلبس، طلب تحصيل حاصل، وهذا إنما يتوجه حيث كان المطلوب مجرد التلبس.
وأشار بقوله: فليس يجزي من له يقدم، الأبيات الثلاثة، إلى أنه ينبني على ما تقدم من تأخر التعلق الإلزامي ـ مثلا ـ إلى دخول الوقت، عدم إجزاء الفعل إذا قدم قبل الوقت، لأنه حينئذ غير واجب، وغير الواجب لا يغني عن الواجب، بل فعل العبادة الموقتة قبل وقتها ممنوع، كما أشار إليه بقوله: ولا عليه دون حظر يقدم.
وهذا في ما كان من الأمور تعبديا محضا، كالصلاة والصوم، وأما ما كان متمحضا للمفعولية، بأن كان معقول المعنى، كقضاء الديون، ورد الودائع، فالأصل جواز تقديمه، وإجزاؤه، وقد يمنع لمعنى عارض، وإلى ذلك أشار بقوله: وما تمحضا للفعل فالتقديم فيه مرتضى.
واختلف في ما اشتمل على شائبة التعبد، وشائبة المعقولية، كالزكاة، وإليه أشار بقوله: وما إلى هذا وهذا ينتسب، ففيه خلف.
وقوله: دون نص قد جلب، أشار به إلى أن محل الاختلاف ما لم يرد نص فيه بجواز التقديم، كالوضوء، فإنه يجزئ قبل الوقت اتفاقا.
ولو قيل: إن وجه إجزائه مقدما، عدم اختصاصه بالصلاة المفروضة، فهو عبادة مشروعة لقرب أخرى غير موقتة، كالتلاوة ونحوها، لم يكن بعيدا.
وقوله: وقال إن الامر لا يوجه إلا لدى تلبس منتبه، أشار به إلى أن منهم من ذهب إلى أن التعلق الإلزامي لا يقع إلا عند التلبس بالفعل، لأنه وقتُ القدرة، لأن القدرة عرض، والعرض لا يبقى زمانين.
وهذا معترض، فالقدرة التي هي شرط في التكليف، إنما هي القدرة بمعنى سلامة الأسباب، وانعدام الموانع، وهي المفهومة من القدرة عند الإطلاق، ولو اعتبرت القدرة بمعنى العرض المقارن، لم يتحقق عصيان أصلا، إذ لا يتوجه الخطاب إلا مع القدرة، والتارك غير قادر.
وأما ما أجابوا به من أن العصيان متحقق بالتلبس بالكف، إذ هو منهي عنه، لأن الأمر بالشيء نهي عن تركه، فيرد عليه نفس ما ورد على الترك، إذ العصيان بالكف مشروط أيضا بالقدرة على تركه، وهو وقت التلبس بالكف غير قادر على تركه، فلا يكون ملوما على التلبس به.
مع أن توجه النهي عن الكف، فرع عن توجه الأمر بالفعل، فإذا انتفى الملزوم انتفى اللازم.
وإلى الجواب المذكور الإشارة بقوله: فاللوم قبله على التلبس بالكف.
وقوله: وهي من أدق الاسس، أشار به إلى قول القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى في شرح التنقيح: هذه المسألة لعلها أغمض مسألة في أصول الفقه، والعبارات فيها عسرة التفهم اهـ
وقوله: وهي في فرض الكفاية البيت، أشار به إلى أن الاختلاف في انقطاع توجه الخطاب بالتلبس، ينبني عليه الاختلاف في تعين فرض الكفاية على من شرع فيه، الآتي ذكره ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى في مبحث الكفائي من مباحث الأمر، وعدم تعينه. وعلى التعين يسقط الإثم عن غيره، بمجرد شروعه، والظاهر أن الاختلاف المذكور لا يختص بالواجب، فهو جار في المطلوب كفاية مطلقا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهذا في ما لا يتعين بالشروع كتجهيز الميت، لا ما يتعين به كالصلاة على الميت.
للامتثال كلف الرقيب
…
فموجب تمكنا مصيب
أو بينه والابتلا ترددا
…
شرط تمكن عليه انفقدا
عليه تكليف يجوز، ويقع
…
معْ علم من أُمِر بالذي امتنع
في علم من أمَر، كالمأمور
…
في المذهب المحقق المنصور
معناه أنه اختلف في فائدة التكليف، هل هي منحصرة في الامتثال، أو دائرة بينه وبين الابتلاء؟ وينبني على ذلك اشتراط التمكن من الفعل في التكليف، فمن قال هي منحصرة في الامتثال، شرط ذلك، ومن جعلها مترددة بينه وبين الابتلاء، لم يشترط ذلك.
واختلف على هذا، هل يجوز التكليف عقلا، ويقع شرعا، معلوما للمأمور إثر سماعه الأمر الدال عليه، مع علم الآمر انتفاء شرط وقوعه عند وقته؟
فمن لم يشترط التمكن، أجاز ذلك، ومن اشترط ذلك، منعه، وهذا هو المراد بقوله: عليه تكليف يجوز ويقع مع علم من أمر - بالبناء للمفعول - بالذي امتنع في علم من أمر - بالبناء للفاعل ـ.
وقوله: بالذي امتنع في علم من أمر، يتعلق بقوله: تكليف، والضمير في قوله: عليه تكليف، يعود للقول بتردد التكليف بين الامتثال والابتلاء، أي: على قول التردد بين الأمرين، يقع التكليف، ويعلم المكلف أنه مأمور عند سماعه الخطاب، بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه عند وقته، ابتلاء له، هل يعزم، ويأخذ في الاستعداد، فيؤجر، أو لا، فيأثم.
وعلى مقابله لا يقع التكليف في ذلك، ولا يعلم المأمور أنه مكلف، حتى يتمكن من الفعل.
وأشار بقوله: كالمأمور إلخ، إلى جريان ذلك الاختلاف في ما إذا علم كل من الآمر والمأمور انتفاء شرط وقوع الفعل عند وقته، كما لو أخبر المرأةَ نبي ـ صلى الله تعالى وسلم على نبينا وعلى سائر الأنبياء والمرسلين ـ أنها تحيض ظهر اليوم كذا من رمضان ـ مثلا ـ فهل يلزمها صومه وهو المعول، أو لا؟
وحكى الآمدي رحمه الله سبحانه وتعالى الاتفاق في هذه الصورة على المنع، وإلى رد ذلك أشار الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: في المذهب المحقق المنصور.
وفي النسخة المطبوعة من نثر الورود هنا كلام غير معارض.
كتاب القرآن ومباحث الأقوال
اختلف في لفظ القرآن هل هو مشتق، أو لا؟
فقال قوم: إنه اسم مرتجل، كالتورية والإنجيل.
وقال قوم: هو مشتق.
واختلف القائلون باشتقاقه، فقال قوم: هو مشتق من قَرَأَ بمعنى جمع، وعلى هذا اقتصر جماعة من أئمة اللسان، وذلك لجمعه السور والآيات، وجمْع الأخبار، والأحكام، والوعد، والوعيد، وغير ذلك، ثم نقل من المصدر وجعل علما.
وقيل: هو مشتق من قَرَأَ إذا تلا، فهو من إطلاق المصدر بمعنى اسم المفعول، وذلك أنه مقروء ومتلو.
وقال قوم: هو غير مهموز، واشتقاقه من القرائن، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والمباحث: جمع مبحث، وهو اسم مكان من البحث، وهو التفتيش والتحقيق.
والمراد أنه سيذكر في هذه الترجمة مسائل الأقوال، والمراد بالأقوال: الأقوال التي يشتمل عليها القرآن، ونظيرها من السنة أيضا، كالأمر، والنهي، والعام، والخاص، والمطلق، والمقيد، والناسخ، والمنسوخ، والمبين، والمجمل، والمحكم، والمتشابه، وغيرها.
لفظ منزَّل على محمد
…
لأجل الاعجاز وللتعبد
القرآن يطلق بإزاء معان:
فيطلق على اللفظ، كما في قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله)
ويطلق على المكتوب، ومنه قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(لا يمسه إلا المطهرون) وحديث نهى صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو
(1)
وما في كتاب عمرو بن حزم " لا يمس القرآن إلا طاهر "
(2)
.
(1)
متفق عليه.
(2)
رواه مالك في الموطإ بإسناد صحيح.
ويطلق على المقروء، ومنه قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(فإذا قرأت القرآن) وقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن)
ومن رأى أن لفظ اللافظ، أو ورقة المصحف ـ مثلا ـ هي عين صفة الباري سبحانه وتعالى فقد أبعد إبعادا يدركه الذكي والغبي.
ويختلف تعريف القرآن بحسب الجهة التي يتعلق به البحث منها، وهو عند الفقهاء والأصوليين وعلماء اللسان: اللفظ المنزل على محمد ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ لأجل الإعجاز به، والتعبد بتلاوته.
فخرج بوصف التنزيل: الأحاديث النبوية، فإنها لم تنزل عليه ألفاظها، وإنما نزل عليه معناها.
وخرج بقولنا: على محمد ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ ما سوى القرآن من الكتب المنزلة.
وخرج بقولنا: لأجل الإعجاز، الأحاديث القدسية، كحديث " أنا أغنى الشركاء عن الشرك "
(1)
.
وخرج بقولنا: والتعبد بتلاوته: المنسوخ، كآية الشيخ والشيخة.
تنبيه
كان يشكل علي كثيرا، ما أسمعه من أن من قرأ حرفا هجائيا من القرآن، يكون له به عشر حسنات، مع أن ظاهر حديث " لا أقول ألم حرف "
(2)
يقتضي غير ذلك.
ووقع ببالي مرة، أن المراد حرف الهجاء، لكن العبرة فيه بالرسم، لا باللفظ، ثم نقل لي بعض طلبة العلم كلاما للحافظ أبي عمرو الداني رحمه الله سبحانه وتعالى في كتاب البيان في عد آي القرآن، صريحا في ذلك، ونصه:
لو كانت الكلمة إنما تعد حروفها على حال استقرارها في اللفظ، دون الرسم، لوجب
(1)
رواه مسلم والترمذي وابن ماجة والإمام أحمد.
(2)
رواه الترمذي، وهو حديث صحيح.
أن يكون لقارئ (ألم) تسعون حسنة، إذ هي في اللفظ تسعة أحرف، فلما قال الصحابي ـ وبعضهم يرفعه ـ إنها ثلاثة أحرف، وإن لقارئها ثلاثين حسنة، لكل حرف منها عشر حسنات، ثبت أن حروف الكلم إنما تعد على حال صورهن في الكتابة، دون اللفظ اهـ.
وهذا يقتضي أن الرسم توقيفي، ويحتمل عليه أن يثاب على الأحرف الزوائد، ولم أقف على شيء في ذلك.
ووقفت بعد ذلك أيضا على جواب آخر للإمام الحافظ ابن الجزري رحمه الله سبحانه وتعالى في ذلك، ونصه:
وقد سألت شيخنا الإمام ابن كثير رحمه الله سبحانه وتعالى: ما المراد بالحرف في الحديث؟
فقال: الكلمة، لحديث ابن مسعود ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنه ـ " من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف "
قال: وهذا الذي ذكره هو الصحيح، إذ لو كان المراد بالحرف حرف الهجاء، لكان ألف بثلاثة أحرف، ولام بثلاثة أحرف، وميم بثلاثة أحرف، وقد تعسر على فهم بعض الناس، فينبغي أن يتفطن له، فكثير من الناس لا يعرفه اهـ.
وهذا الجواب أقرب عندي مما قبله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهو يقتضي أن الحرف يطلق بمقابلة معنيين غير حرف الهجاء: أحدهما الكلمة، والثاني الآية أو الجملة.
فبين الخبر أنه ليس المراد حرف الهجاء، ولا الحرف بمعنى الآية مثلا، وإنما المراد الحرف بمعنى الكلمة، وبهذا يظهر بيان عدم صحة ما يقع في كلام بعضهم من زيادة الأجر في كلمة بقراءة، عليها في قراءة أخرى، لزيادتها فيها بحرف، إلا أن يكون الحرف حرفا دالا على معنى، الذي هو الحرف في اصطلاح النحاة، وذلك أن ظاهر الخبر على هذا المعنى أن المراد الكلمة معنى لا رسما، ويحتمل اختصاص ذلك أيضا بالحرف الذي يستقل بنفسه كعن ومن، دون الحرف الذي لا يستقل بنفسه كالفاء، والباء، والواو، والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وليس للقرآن تُعزى البسمله
…
وكونها منه الخلافي نَقَلَه
وبعضهم إلى القراءة نظر
…
وذاك للوفاق رأي معتبر
ومعناه أنه اختلف في عد البسملة آية من أول كل سورة، غير سورة التوبة، وعدم عدها، فذهب أكثر الأصوليين، والفقهاء، والأئمة الثلاثة، كما في النشر، إلى أنها ليست آية في أول كل سورة، قال:
والصحيح عن الشافعي رحمه الله سبحانه وتعالى أنها آية في جميع أوائل السور، غير براءة، وروي عنه أنها آية من الفاتحة، وروي عنه أنه قال: لا أدري، هل هي آية من الفاتحة أو لا.
وذهب جماعة من الحفاظ إلى التوفيق بأن الخلاف فيها راجع إلى اختلاف القراءة، فمن قرأ بحرف من يثبتها في أول كل سورة، فهي آية عنده من كل سورة، ومن قرأ بحرف من لا يثبتها، فليست آية عنده من كل سورة.
واستشكل الأمير ذلك في الفاتحة بالنسبة للمصلي، بأمرين:
أحدهما اتفاق القراء على إثباتها عند الافتتاح بكل سورة، والفاتحة في الصلاة لا تكون إلا مفتتحا بها.
وهذا غير بين، فالنظر في إثبات البسملة قبل أول كل سورة، إنما هو لإثباتها على وجه الدوام، لا لإثباتها لعروض وصف الابتداء، فالبسملة في مثل ذلك كالاستعاذة، وقد اتفق على أنها ليست من القرآن، وقد اتفقوا على طلبها عند الابتداء بالقراءة، واستغني عنها في الصلاة بالتكبير، فكذلك البسملة عند من لا يثبتها على كل حال.
وقد جاء عن بعض أهل الأداء الافتتاح بعد الاستعاذة بالبسملة وإن لم يكن الافتتاح بأول سورة.
الثاني الإجماع على عدم تعين قراءة في الصلاة، ولا خارجها، وهذا وجه بين وجيه، إذا كان المراد بناء الاختلاف في بطلان صلاة تاركها.
وأما بناء الاختلاف في إثبات قرآنيتها أول كل سورة عليه، الذي هو مرادهم فلا يظهر
توجهه عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وليس منه ما بالاحاد رُوي
…
فللقراءة به نفي قوي
كالاحتجاج، غير ما تحصلا
…
فيه ثلاثة فجوز مسجلا
صحة الاسناد، ووجه عربي
…
ووفق خط الام شرط ما أُبي
مثل الثلاثة ............... .............................
قوله: وليس منه ما بالاحاد روي، البيت، معناه أن القرآنية لا تثبت برواية الآحاد، فلا تجوز القراءة بما روي أنه قرآن آحادا، ولا تثبت به الأحكام، على القول القوي، وذلك كقراءة ابن مسعود ـ رضي الله سبحانه وتعالى في كفارة اليمين (فصيام ثلاثة أيام متتابعات)
وقيل: تجوز القراءة به، ويحتج به.
وقيل: لا تجوز القراءة به، ولكن يحتج به.
فالمنقول على أنه قرآن، لا تثبت قرآنيته حتى تجتمع فيه ثلاثة أمور:
أولها: صحة إسناده إلى النبي ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ.
الثاني: موافقة وجه عربي، وإن لم يكن الأفصح، أو كان مختلفا فيه، وما في بعض الشروح من اشتراط كونه الجادة، خلاف مذهب المحققين.
قال الإمام الحافظ أبو الخير محمد بن محمد ابن الجزري رحمه الله سبحانه وتعالى في كتابه النشر: وقولنا في الضابط: ولو بوجه، نريد وجها من وجوه النحو، سواء كان أفصح أم فصيحا، مجمعا عليه أم مختلفا فيه، اختلافا لا يضر مثله، إذا كانت القراءة مما شاع وذاع، وتلقاه الأئمة بالإسنادالصحيح، إذ هو الأصل الأعظم والركن الأقوم، وهذا هو المختار عند المحققين في ركن موافقة العربية، فكم من قراءة أنكرها بعض أهل النحو، أو كثير منهم، ولم يعتبر إنكارهم، بل أجمع الأئمة المقتدى بهم من السلف على قبولها، كإسكان (بارئكم). ثم نقل عن الإمام الحافظ أبي عمرو الداني ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى أنه قال: وأئمة القراءة لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر، والأصح في النقل.
والرواية إذا ثبتت عنهم، لم يردها قياس عربية، ولا فشو لغة، لأن القراءة سنة متبعة، يلزم قبولها والمصير إليها اهـ.
الثالث: موافقة رسم أحد المصاحف العثمانية، ولو احتمالا فقط، كما في الألفات المحذوفة.
وإلى هذا أشار ببقية الأبيات.
وهذه الشروط إنما هي في غير المتواتر، وأما المتواتر فلا يشترط فيه شيء.
قال الإمام الحافظ ابن الجزري رحمه الله سبحانه وتعالى في النشر في الكلام على شرط صحة الإسناد: نعني به أن يروي تلك القراءة، العدل الضابط عن مثله كذلك، حتى تنتهي، وتكون مع ذلك مشهورة عند أئمة هذا الشأن الضابطين، غير معدودة عندهم من الغلط، أو مما شذ بها بعضهم.
وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن، ولم يكتف فيه بصحة السند، وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وأن ما جاء مجيء الآحاد، لا يثبت به قرآن، وهذا مما لا يخفى ما فيه، فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الأخيرين، من الرسم وغيره، إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترا عن النبي ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ وجب قبوله، والقطع بكونه قرآنا، سواء وافق الرسم أم خالفه.
وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف، انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم، ولقد كنت قبل أجنح إلى هذا القول، ثم ظهر فساده، وموافقة أئمة السلف والخلف اهـ.
والذي ظهر لي بعد التأمل، أن مقصود مشترط التواتر، والمكتفي بصحة الإسناد مختلف، فمقصود مشترط التواتر أصول الكلمات، كما هو ظاهر عبارة الصفاقسي، حيث قال ما معناه: لا يمكن أن يكون القرآن كغيره ـ يعني في الثبوت بأخبار الآحاد ـ.
وجواز القراءة بالأوجه الثابتة التي تقرأ عليها الكلمات معلوم عن الجميع، وعدم التواتر في ذلك معلوم أيضا.
ومقصود المكتفي بصحة الإسناد: الوجوه التي تقرأ عليها الكلمة، ولا يخالف في اشتراط
التواتر في أصول الكلمات، إلا أن هذا معلوم من شرط موافقة الخط، وذلك أن موافقة الخط على وجهين:
موافقة على وجه لا احتمال فيه، وموافقة على وجه محتمل، وهذه إنما تعتبر في الأوجه التي تقرأ عليها الكلمة، لا في أصل الكلمة، حتى حروف المعاني، كما صرح به ابن الجزري رحمه الله سبخانه وتعالى ـ في النشر.
ولا يخفى أن ثبوت الكلمة بوجه لا احتمال فيه، في إحدى نسخ المصحف العثماني، يستلزم التواتر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ورجح النظر
…
تواترا لها لدى من قد غبر
تواتر السبع عليه أجمعوا ..........................
معناه أن الراجح أن القراآت الثلاث، قراءة خلف، وأبي جعفر، ويعقوب رحمهم الله سبحانه وتعالى متواترة.
وقال التاج السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى في منع الموانع على سؤالات جمع الجوامع: إن القول بأنها غير متواترة في غاية السقوط، ولا يصح القول به عمن يعتبر قوله في الدين.
وقال الإمام الحافظ ابن الجزري رحمه الله سبحانه وتعالى: وقد جرى بيني وبينه في ذلك كلام كثير، وقلت له: ينبغي أن تقول: والعشر متواترة ولا بد، فقال: أردنا التنبيه على الخلاف، فقلت: وأين الخلاف؟ وأين القائل به؟ ومن قال: إن قراءة أبي جعفر، ويعقوب، وخلف، غير متواترة؟
فقال: يفهم من قول ابن الحاجب: والسبع متواترة، فقلت: أي سبع؟ وعلى تقدير أن يكون هؤلاء السبعة، مع أن كلام ابن الحاجب لا يدل عليه، فقراءة خلف لا تخرج عن قراءة أحد منهم، بل ولا عن قراءة الكوفيين في حرف، فكيف يقول أحد بعدم تواترها مع ادعائه تواتر السبع؟!
وأيضا فلو قلنا إنه يعني هؤلاء السبعة، فمن أي رواية؟ ومن أي طريق؟ ومن أي كتاب؟ إذ التخصيص لم يدعه ابن الحاجب رحمه الله سبحانه وتعالى ولو ادعاه لما سلم له
بقي الإطلاق، فيكون كلما جاء عن السبعة، فقراءة يعقوب جاءت عن عاصم، وأبي عمرو، وأبو جعفر هو شيخ نافع، ولا يخرج عن السبعة من طرق أخرى.
فقال: فمن أجل هذا قلت: والصحيح أن ما وراء العشرة فهو شاذ، وما يقابل الصحيح إلا فاسد.
وذكر أنه كتب له في جواب سؤال وجهه إليه بذلك، ما نصه:
الحمد لله، القراآت السبع التي اقتصر عليها الشاطبي، والثلاث التي هي قراءة أبي جعفر، وقراءة يعقوب، وقراءة خلف، متواترة، معلومة من الدين بالضرورة، وكل حرف انفرد به واحد من العشرة، معلوم من الدين بالضرورة أنه منزل على رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ لا يكابر في شيء من ذلك إلا جاهل، وليس تواتر شيء منها مقصورا على من قرأ بالروايات، بل هي متواترة عند كل مسلم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ ولو كان مع ذلك عاميا جلفا، لا يحفظ من القرآن حرفا.
ولهذا تقرير طويل، وبرهان عريض، لا يسع هذه الورقة شرحه، وحظ كل مسلم وحقه أن يدين الله سبحانه وتعالى ويجزم نفسه بأن ما ذكرناه متواتر، معلوم باليقين، لا يتطرق الظنون ولا الارتياب إلى شيء منه، والله سبحانه وتعالى أعلم كتبه عبد الوهاب بن السبكي الشافعي.
ولم يكن في الوحي حشو يقع
وما به يُعنى بلا دليل
…
غير الذي ظهر للعقول
معناه أنه يمتنع أن يقع في القرآن، أو في السنة، لفظ له معنى لا يمكن فهمه، خلافا للحشوية، حيث أجازوا أن يقع فيه ما لا يمكن فهمه، واحتجوا بالحروف المقطعة في أوائل السور.
وأجيب بأن لها معاني، وإن وقع الخلاف في تعيينها، فهي كغيرها مما اختلف في معناه، وهذا أمر مختلف فيه، وأورد على تخصيص الخلاف بهم، مذهب الجمهور في المتشابه.
وقيل: المختلف في جواز وقوعه ما لا معنى له أصلا.
قال البناني رحمه الله سبحانه وتعالى: والحاصل أنهم اضطريت أقوالهم في محل النزاع في هذه المسألة، وتعارضت، والذي صوبه الأسنوي ما قاله المصنف ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى من أن محل النزاع ورود ما لا معنى له أصلا اهـ.
وهو ظاهر عبارة البيضاوي رحمه الله سبحانه وتعالى في المنهاج، حيث قال: لا يخاطب الله سبحانه وتعالى بمهمل اهـ
وهو أيضا ظاهر عبارة الشيخ الناظم رحمه الله سبحانه وتعالى حيث قال: ولم يكن في الوحي حشو، وإن كان قد شرحها بغير ذلك.
وذكر العطار رحمه الله سبحانه وتعالى أنه لا قائل بذلك، واستدل بمنافاة ذلك للفصاحة، لكن بطلان القول بالنظر، لا يرد روايته، فكم من قول بين البطلان، قد ثبتت نسبته لبعض الأعيان، فكيف بأهل الأهواء، ونقل عن الكوراني والزركشي رحمهم الله سبحانه وتعالى أجمعين ـ أنهما قالا: إن ذلك لم يقل به أحد، فإن ثبت أنهما أرادا الإطلاق، فنقلهما معارض بنقل غيرهما، والأصل أن المثبت مقدم على النافي، وإن أرادا أحدا ممن يعتد به، أو كان ذلك بعبارة محتملة فلا تعارض، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومنهم من بحث في منع ذلك في السنة، وهو بحث لين، فقد قال سبحانه وتعالى جل من قائل:(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولا يجوز أن يقع فيهما لفظ يراد به غير ظاهره بلا دليل دال على ذلك، سواء بين المراد، أو لم يبينه، كما في حاشية العطار رحمه الله سبحانه وتعالى.
وجوزت المرجئة وقوع ذلك، وذهبوا إلى أن آيات وأخبار الوعيد التي ظاهرها تعذيب العصاة، إنما يراد بها الترهيب، بناء على مذهبهم أن المعصية لا تضر مع الإيمان، كما لا تنفع الطاعة مع الكفر.
والنقل بالمنضم قد يفيد
…
للقطع، والعكس له بعيد
معناه أن الدليل النقلي، قد يكون قطعي الدلالة على المراد منه، فيحصل القطع به بما ينضم إليه من القرائن المانعة لتجويز إرادة غير ذلك المعنى، خلافا لمن قال تفيده مطلقا،
وخلافا لمن قال لا تفيده مطلقا، معللا ذلك بالتوقف على العلم بعدم المعارض.
قال السعد التفتازاني رحمه الله سبحانه وتعالى في شرح المقاصد: الحق أنها تتوقف على عدم العلم بالمعارض، لا على العلم بعدمه، إذ كثيرا ما يحصل اليقين من الدليل، ولا يخطر المعارض بالبال، إثباتا أو نفيا، فضلا عن العلم بعدمه، فالمراد بقولهم: إن إفادتها اليقين تتوقف على العلم بعدمه، أنها تكون بحيث لو لاحظ العقل المعارض جزم بعدمه، نقله العطار رحمه الله سبحانه وتعالى.
فصل في المنطوق والمفهوم
معنى له في القصد قل تأصل
…
وهو الذي اللفظ به يستعمل
أشار بهذا البيت إلى تعريف المنطوق، فذكر أنه المعنى الذي يراد من اللفظ في محل النطق، بحيث لا تتوقف استفادته من اللفظ، إلا على مجرد النطق به، بأن تكون دلالته عليه ناشئة من وضع اللفظ له، ولو وضعا نوعيا، كما في المجاز، حكما كان، أو لا، ذاتا كان، أو معنى.
أولها: كمجيء زيد، في قولك: جاء زيد.
والثاني: كزيد، والثالث: كالمجيء، خلافا لابن الحاجب رحمه الله سبحانه وتعالى حيث خصه كالمفهوم بالحكم، لأنهما عنده الدلالة لا المدلول.
فقوله: معنى له في القصد قل تأصل، معناه أنه المعنى الذي يفهم من اللفظ ابتداء، بلا واسطة شيء، من لزوم أو غيره، بخلاف المفهوم، فإنه مفهوم بالنظر إلى المعنى، إما من جهة كونه مناط الحكم، كما في مفهوم الموافقة بنوعيه، وبعض مفاهيم المخالفة، وإما من جهة التقييد، كما في كثير من مفاهيم المخالفة، وبخلاف توابع المنطوق، فهي مفهومة من لازم خارج عن مدلول اللفظ، كما في المدلول عليه بالاقتضاء، أو الإشارة، أو من السياق، كما في الإيماء.
فالمنطوق هو المعنى الأصلي الذي يفهم من اللفظ ابتداء، والمعاني الأخرى متفرعة عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
نص إذا أفاد ما لا يحتمل
…
غيرا، وظاهر إن الغير احتمل
معناه أن دلالة اللفظ على المعنى المنطوق على وجهين:
دلالة صريحة لا تحتمل، كالأعلام كزيد، وأسماء العدد، حيث لم تكن هناك قرينة صارفة كالتشبيه في أولهما، والمبالغة في الثاني.
ويسمى المنطوق في ذلك نصا.
ودلالة ظاهرة، محتملة غير المعنى الظاهر احتمالا مرجوحا، وذلك كقولك رأيت بحرا، فهو في البحر المعروف حقيقة، ويحتمل بمرجوحية: رجلا ـ مثلا ـ موصوفا بالكرم.
ويسمى المنطوق في ذلك ظاهرا.
قال إمام الحرمين رحمه الله سبحانه وتعالى في البرهان: فمن الظواهر إذن مطلق صيغة الأمر، فالصيغة ظاهرة في الوجوب، مؤولة في الندب والإباحة، كما سبق في القول في محامل الصيغ.
ومنها صيغة النهي المطلقة، فهي ظاهرة في التحريم، مؤولة إذا حملت على التنزيه.
ومنها النفي الشرعي المطلق في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من اليل "
(1)
فهي ظاهرة في نفي الجواز، مؤولة في نفي الكمال.
ومنها حمل الصيغ المطلقة الموضوعة في اللغة للعموم، على وجه العموم ظاهر، مؤول حمله على وجه الخصوص.
ومنها تلقي المفهوم من التخصيص على الشرط الذي سيأتي، والاستمساك به تعلق بالظاهر، وتركه في حكم التأويل اهـ
وأما اللفظ المحتمل لمعنيين من غير راجحية، فهو المجمل، وسيأتي الكلام عليه ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى.
والكل من ذين له تجلى
…
ويطلق النص على ما دلا
وفي كلام الوحي ........... ...........................
أشار بهذا إلى أن لفظ النص، يطلق بإزاء ثلاثة معان أخرى:
(1)
رواه أبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجة بألفاظ متقاربة، وهو حديث صحيح.
أحدها: ما يعم معناه المذكور ومعنى الظاهر المذكور أيضا.
فهو بهذا المعنى مرادف للمنطوق.
وإلى هذا أشار بقوله: والكل من ذين له تجلى، أي: والكل من معنى النص المذكور، ومعنى الظاهر، له تجلى أي: ظهر، يعني أنه يطلق على ما يعمهما، كما في النشر.
ونقله في البحر عن إلكيا الطبري عن الإمام الشافعي رحمهم الله سبحانه وتعالى وعبارته: كل خطاب علم ما أريد به من الحكم.
قال الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى: ثم على هذا ينقسم النص إلى ما يحتمل وإلى ما لا يحتمل اهـ
ونسب إمام الحرمين هذا القول في البرهان، للقاضي أبي بكر الباقلاني ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى.
والظاهر أن هذا هو مراد من قال: إن النص يستعمل في الظاهر، كشيخ الإسلام زكريا رحمه الله سبحانه وتعالى في غاية الوصول، لا أنه يختص بالظاهر في هذا الاستعمال، عما لا يحتمل، كما هو مقتضى بعض شروح المراقي.
وظاهر الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى في النشر، أنه فهم على ما ذكر عن الإمام الشافعي والقاضي أبي بكر، قول القرافي رحمهم الله سبحانه وتعالى أجمعين ـ في التنقيح: وقيل ما دل على معنى قطعا، وإن احتمل غيره، كصيغ الجموع في العموم، فإنها تدل على أقل الجمع قطعا، وتحتمل الاستغراق اهـ
وليس ببين فيه.
وقد حكى نحو ما للقرافي، التاج السبكي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى في الإبهاج.
ومقتضاه أن النص على الاستعمال السابق، لا يكون نصا حتى تكون دلالته على كل ما يدل عليه قطعية.
والمعروف في استعمال العلماء أن اللفظ يكون نصا باعتبار بعض ما يدل عليه، غير نص باعتبار بعض آخر.
نظير ما يأتي للشيخ في المحكم والمجمل.
الثاني: اللفظ الدال، سواء كانت دلالته قطعية، أو راجحة، سواء كانت بطريق المنطوق، أو المفهوم، أو الاقتضاء، أو الإشارة، أو الإيماء، أو غيره من الدلالات.
قال في التنقيح: وهو غالب استعمال الفقهاء اهـ
الثالث: إطلاقه في الكتاب والسنة خاصة، فيقابله القياس والإجماع.
فتحصل أنه يطلق بمعنى المنطوق الدال على وجه لا احتمال فيه، وبمعنى المنطوق عموما، وبمعنى اللفظ الدال كيف كانت دلالته، وبمعنى الكتاب والسنة.
وقد يستعمله الفقهاء في مقابل التخريج، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والمنطوق هل
…
ما ليس بالصريح فيه قد دخل
معناه أن المدلول عليه بالاقتضاء، أو الإشارة، أو الإيماء، اختلف فيه، هل هو داخل في المنطوق، أو المفهوم؟
وعلى الأول، فالمنطوق نوعان:
منطوق صريح، وهو ما تقدم.
ومنطوق غير صريح، وهو الثلاثة المذكورة، هذا هو المراد.
وذكر الشربيني في تقريراته على حاشية البناني ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى أن تنويع المنطوق إنما هو على طريقة ابن الحاجب ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى التي ترى المنطوق والمفهوم أقساما للدلالة.
وأما على الطريقة التي سلك الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى تبعا للأكثرين، فالمدلول عليه بالالتزام ونحوه ليس منطوقا، لأن الدلالة عليه ليست في محل النطق، قال: وإنما هو عند المصنف من توابع المنطوق.
فالمدلولات عنده ثلاثة: منطوق، وتوابعه، ومفهوم.
وقد صرح بتثليث الأقسام الآمدي رحمه الله سبحانه وتعالى وبعض شروح المنهاج. ثم قال: فإن قلت: ما الفرق بين المفهوم وتوابع المنطوق؟
قلت: المفهوم يقصد التنبيه بالمنطوق عليه، إما تنبيه بالأعلى على الأدنى، أو بالعكس، أو التنبيه بالشيء على ما يساويه، وكل ذلك للمناسبة بينهما، بخلاف توابع المنطوق، كما
يعرفه الذكي المحقق اهـ
وهْو دلالة اقتضاء إن يدل
…
لفظ على ما دونه لا يستقل
دلالة اللزوم، مثل ذات
…
إشارة، كذاك الايما آت
فأول إشارة اللفظ لما
…
لم يكن القصد له قد علما
دلالة الإيماء والتنبيه
…
في الفن تقصد لدى ذويه
أن يقرن الوصف بحكم إن يكن
…
لغير علة يعبْه من فطن
أشار بهذا، إلى تفسير دلالة الاقتضاء، والإشارة، والإيماء.
فذكر أن دلالة الاقتضاء، هي: دلالة اللفظ باللزوم على معنى لا يستقل الكلام دونه، لتوقف صدقه عليه، أو صحته شرعا، أو عقلا.
مثال توقف الصدق: قوله ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ في حديث ذي اليدين ـ رضي الله تعالى عنه ـ: " كل ذلك لم يكن "
(1)
يعني في ظني.
ومثال ما تتوقف عليه الصحة عقلا: قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (حرمت عليكم الميتة) فالعقل يقتضي أنه لا تكليف إلا بفعل، وذلك يقتضي تقديرا في الكلام.
ومثال توقف الصحة شرعا: الأمر بالصلاة، فهو مقتض للأمر بالطهارة.
وإلى هذا الإشارة بقوله: وهو دلالة اقتضاء إن يدل لفظ على ما دونه لا يستقل دلالة اللزوم.
ودلالة الإشارة: دلالة اللفظ باللزوم على معنى غير مقصود بالأصالة، لا يتوقف عليه صدق الكلام، ولا صحته، كدلالة قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) على جواز إصباح الصائم جنبا، لأن ليلة الصيام التي هي ظرف للحل، تصدق بآخر جزء منها، الذي لا يمكن أن يقع بينه وبين الصبح غسل.
وإلى هذا الإشارة بقوله: إشارة اللفظ لما لم يكن القصد له قد علما.
ودلالة الإيماء والتنبيه هي: اقتران الحكم بوصف على وجه يقتضي عليته له، كقوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم للأعرابي الذي قال: واقعت أهلي في نهار رمضان "
(1)
متفق عليه.
أعتق رقبة "
(1)
فالسياق مقتض علية الوقاع للإعتاق، وإلى هذا الإشارة ببقية الأبيات.
فتحصل أن اللفظ يدل على ثمانية أشياء، وهي:
المنطوق بنوعيه: النص والظاهر، والدلالة عليه من وضع اللفظ دون توقف على شيء. ومفهوم الموافقة بنوعيه: الأولى والمساوي، والدلالة عليهما بالنظر إلى المعنى المنوط به الحكم، كما تقدم بيانه.
ومفهوم المخالفة، وهو أنواع، سيأتي ذكرها قريبا ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى والدلالة عليه من جهة اقتضاء التقييد، اختصاص المذكور بالحكم، وانتفاءه بانتفاء القيد ـ مثلا ـ أو اقتضاء العلية دوران الحكم مع المعنى وجودا وعدما.
وتوابع المنطوق الثلاثة: الاقتضاء، والإشارة، والإيماء.
ودلالة اللفظ على الأولين التزامية.
والفرق بينهما: توقف الصدق أو الصحة في الاقتضاء دون الإشارة.
وأما دلالة الإيماء فهي دلالة سياقية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وغير منطوق هو المفهوم .........................
أشار بهذا إلى أن المفهوم هو ما دل عليه اللفظ في غير محل النطق.
وينقسم المفهوم إلى مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة، وإلى الأول منهما أشار بقوله:
منه الموافقة قل معلوم
يُسْمى بتنبيه الخطاب، وورد
…
فحوى الخطاب اسما له في المعتمد
ومعنى البيت الثاني، أن مفهوم الموافقة يسمى بتنبيه الخطاب، وفحوى الخطاب، كما أشار له بالبيت، وأشار إلى تعريفه بقوله:
إعطاء ما للفظة المسكوتا
…
من باب أولى نفيا أو ثبوتا
ومعناه أن مفهوم الموافقة، هو ثبوت حكم المنطوق للمسكوت عنه على وجه الأحروية، سواء كان ذلك في سياق النهي أو غيره، كان إثباتا، أونفيا.
(1)
متفق عليه.
مثال النهي: قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (فلا تقل لهما أف) فهو مقتض لحرمة ما هو أبلغ منه في الأذية، التي هي المعنى الموجب للنهي، كالضرب بالأولى والأحرى. ومثاله في النفي في سياق الخبر: قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك) فانتفاء الأمانة في الدينار، يقتضي انتفاءها في القنطار بالأولى. ومثاله في سياق الإثبات: قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) فثبوت الأمانة في القنطار، يقتضي ثبوتها في الدينار بالأولى، وعلى هذه الطريقة، فمفهوم الموافقة خاص بالأولى، وإن كان المساوي مثله في الاحتجاج، ويسمى مفهوم مساواة.
فالمفاهيم على هذا ثلاثة: موافقة، ومساواة، ومخالفة، وهذا معزو للأكثرين، وأشار إلى المشهور من تقسيم مفهوم الموافقة إلى أولى ومساو، بقوله:
وقيل ذا فحوى الخطاب، والذي
…
ساوى بلحنه دعاه المحتذي
ومعنى هذا أن منهم من ذهب إلى أن مفهوم الموافقة نوعان:
أولى، ويسمى فحوى الخطاب، وهو ما تقدم.
ومساو، ويسمى لحن الخطاب، وهو ما يكون حكم المسكوت فيه، مساويا لحكم المنطوق، مع الاستواء في المعنى الذي هو مناط الحكم.
وذلك كإتلاف مال اليتيم بغير الأكل، المفهوم تحريمه من تحريم أكله، المستفاد من الوعيد عليه، في قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) لمساواته له في تفويته عليه.
دلالة الوفاق للقياس
…
وهْو الجلي تُعزى لدى أناس
وقيل للفظ مع المجاز
…
وعزوها للنقل ذو جواز
اختلف في الدلالة على مفهوم الموافقة، هل هي لفظية أو لا؟
فنقل عن الإمام الشافعي رحمه الله سبحانه وتعالى وجماعة: أنها قياسية، فحرمة الضرب إنما فهمت بالقياس الجلي على حرمة التأفيف، بجامع الإيذاء، وليست مفهومة من اللفظ، وذلك لتوقفها على النظر إلى المعنى الذي هو مبنى الحكم في المنطوق.
فلو لا أنه عُلم أن موجب التحريم في التأفيف، أنه أذية، لم يقتض تحريمه تحريم الضرب، فقد ينهى عن السب، مع الإذن في الضرب لمعنى صحيح، كأن يقول الرجل لغلامه ـ مثلا ـ: لا تسب فلانا، ولكن اصفعه ـ مثلا ـ أو اضربه، فكانت دلالته قياسية.
وقيل: إنها لفظية، واختلف القائلون به، فمنهم من قال هي مجازية، حيث عبر بالأخص كالتأفيف، مرادا به الأعم، الذي هو الإيذاء.
فحرمة غير التأفيف إنما فهمت من القرينة، لما تقدم من صحة منع إيذاء، مع الإذن في ما هو أشد منه، فهي من المجاز المرسل.
ومنهم من قال: إن العرف اللغوي، نقل اللفظ من وضعه للدلالة على ثبوت الحكم به للمذكور خاصة، إلى ثبوته به للمذكور والمسكوت عنه معا، فهي حقيقة عرفية.
وغير ما مر هو المخالفه
…
ثمت تنبيه الخطاب حالفه
كذا دليل للخطاب انضافا ...........................
معناه أن غير ما سبق من المفهوم: هو مفهوم المخالفة.
والذي سبق ذكره من المفهوم هو ما كان المسكوت عنه فيه مساويا في الحكم للمنطوق به.
فمفهوم المخالفة هو ما كان المسكوت عنه فيه مخالفا في الحكم للمنطوق به.
ويسمى تنبيه الخطاب، ودليل الخطاب.
والثابت في المخالفة هو نقيض الثابت في المنطوق لا ضده.
ودع إذا الساكت عنه خافا
أشار بهذا إلى موانع اعتبار مفهوم المخالفة، وهي غير منحصرة في ما ذكره، فما ذكره أمثلة فقط.
وبيان ذلك: أن الأصل أن تخصيص المنطوق بالذكر، إنما يكون لاختصاصه بالحكم، فإذا ظهرت فائدة لتخصيصه بالذكر، غير اختصاصه بالحكم، امتنع اعتباره، لانعدام المعنى الذي هو مبنى اعتباره.
فإذا قامت القرينة على أنه إنما خصه بالذكر مخافة أمر إذا جاء بدله بما يعم المسكوت
عنه، لم يعتبر، وهذا هو المراد بهذا الشطر.
ومثلوا له بقول حديث عهد بالإسلام لعبده بحضور المسلمين: تصدق بهذا على المسلمين، يخص المسلمين بالذكر خوف التهمة بالنفاق.
ومن الأمثلة أن يخصه بالذكر لجهل حكم المسكوت عنه، كقوله: في الغنم إذا كانت ضأنا الزكاة، يخص الضأن بالزكاة لجهله حكم المعز.
ومن الأمثلة أيضا أن يكون ذكره له على الخصوص، واقعا في جواب سؤال عن خصوص المنطوق، دون المسكوت عنه، فيخص بالذكر في الجواب كذلك.
ومن الأمثلة أن يخصه بالذكر لغلبته وكثرته، وندور المسكوت عنه، فيكون التخصيص خارجا على الوجه الغالب، لا لاختصاص المذكور بالحكم.
ومثلوا له بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن) فالوصف بكونهن في الحجر خارج مخرج الغالب، فالغالب في الربيبة أن تكون في حجر زوج أمها.
ومن أمثلته أيضا قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) فالغالب أن الوالد لا يقتل ولده إلا خشية الإملاق، وإلى هذا أشار بقوله:
أو جَهِلَ الحكم، أو النطق انجلب
…
للسؤل أو جري على الذي غلب
ومن الأمثلة أيضا أن يخصه بالذكر لمزيد المنة فيه.
ومثلوا له بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (لتأكلوا منه لحما طريا) فتخصيص الطري بالذكر، لأن المنة فيه أعظم، فلا يكون ذلك مقتضيا لعدم جواز المجفف مثلا.
ومن الأمثلة أيضا كون النص واردا على واقعة موضوعها المنطوق، فيخص بالذكر لموافقة الواقع، ومثلوا لذلك بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) فالأضعاف لا مفهوم لها، وإنما خَصتها الآية الكريمة بالذكر، لأنها جاءت للنهي عما كانوا عليه من ذلك، حيث يقول صاحب الحق لصاحبه عند حلوله: إما أن تقضي، وإما أن تربي.
ومن الأمثلة أيضا أن يكون تخصيص المنطوق بالذكر خارجا على وجه التعليم لمن علم
أنه يجهل حكمه دون المسكوت عنه، كأن تعلم من شخص أنه يجهل وجوب الزكاة في المعز ويعلم وجوبها في الضأن، فتقول له: نوع الغنم المسمى بالمعز تجب فيه الزكاة، فلا يكون هذا مقتضيا لاختصاص الزكاة في الغنم بالمعز.
ومن الأمثلة أيضا خروج التنصيص على المنطوق، على وجه التأكيد والتهويل.
ومثلوا له بحديث " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا "
(1)
فالوصف بالإيمان بالله واليوم الآخر، ليس لإخراج الكافرة، بل لتأكيد الحكم، بتشبيه التاركة له، بمن لا تؤمن بالله سبحانه وتعالى واليوم الآخر، وإلى هذا أشار بقوله:
أو امتنان أو وفاق الواقع
…
والجهل والتأكيد عند السامع
وأشار بقوله:
ومقتضِي التخصيص ليس يحظُل
…
قيسا، وما عُرض ليس يشمل
إلى أن ما ذكر مما يمنع اعتبار المفهوم، لا يمنع إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق، بطريق القياس، عند وجود وصف جامع يصح الإلحاق به، الذي سيأتي بيانه ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى.
فالأمور المذكورة إنما تدل على أن لتخصيص المنطوق بالذكر فائدة غير الاختصاص بالحكم، فيبقى المفهوم مسكوتا عنه معنى أيضا، إذ لم يتناوله الكلام.
وقيل: إن الأمور المذكورة تقتضي بطلان القيد المذكور، بحيث يكون كأن لم يذكر جملة، فيكون المقيد عاما في المذكور والمسكوت عنه، فكأن لفظ (التي في حجوركم) ـ مثلا ـ لم يذكر أصلا، فيكون لفظ ربائبكم من نسائكم، عاما في مكفولته وغيرها، ونقل الإجماع على خلافه أيضا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقول الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى: وما عرض، يعني به اللفظ، وذلك لعروض التقييد له، وعدل إلى ذلك عن الموصوف، دفعا لتوهم اختصاص ما ذكر بالصفة.
(1)
متفق عليه.
وهو ظرف علة وعدد
…
ومنه شرط غاية تعتمد
والحصر والصفة مثل ما علم
…
من غنم سامت وسائم الغنم
معناه أن مفهوم المخالفة ـ بمعنى محل الحكم ـ أنواع:
منها الظرف زمانيا كان أو مكانيا، أولهما كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(ليذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام)
والثاني كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (فول وجهك شطر المسجد الحرام) ومنها العلة، قال الطاهر ابن عاشور في حاشيته على تنقيح القرافي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى: لا شك أن المراد من العلة في تعداد المفاهيم: العلة النحوية، وهي ما يدل على أن الفعل وقع لأجله، مثل لام التعليل، وكي، والمفعول لأجله، وغير ذلك، لا العلة التي هي أحد أركان القياس، وعليه فالفرق بينها وبين الصفة النحوية، لا يحتاج إلى بيان، ولا يرد عليه سؤال كما توهمه المصنف اهـ
وهذا بين، ولذلك عدوا الشرط، ومعلوم أن الشروط اللغوية أسباب، ولو أريد كل ما قد يؤذن بالعلية، لاحتيج إلى الفرق بين العلة والظرف، وبينها وبين العدد، وبينها وبين الغاية.
ومثال العلة: قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)
ومن مفاهيم المخالفة: العدد، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(لو لا جاءو عليه بأربعة شهداء)
ومنها الشرط، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن)
ومنها الغاية، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(حتى يضعن حملهن)
ومنها الحصر، وله أدوات، منها الاستثناء بعد النفي، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(فاعلم أنه لا إله إلا الله)
ومنها إنما، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(إنما تعبدون من دون الله أوثانا) الآية
ومنها تقديم المعمول، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(والظالمين أعد لهم عذابا أليما)
ومن مفاهيم المخالفة أيضا الصفة، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(أو دما مسفوحا)
والمراد بها الصفة النحوية كما تقدم في كلام ابن عاشور رحمه الله سبحانه وتعالى.
وأشار بقوله: مثل ما علم من غنم سامت، وسائم الغنم، إلى أنه لا فرق بين أن تتقدم الصفة على الموصوف، فلا فرق بين قولك مثلا: سابق الأزمنة، وقولك: الأزمنة السابقة، فكلاهما مقتض لاختصاص الحكم بزمن سابق.
معلوفة الغنم أو ما يعلف
…
ألخلف في النفي لأي يصرف
أشار بهذا إلى أنه اختلف في المقيد بقيد كالصفة مثلا، هل يرجع النفي فيه في المفهوم إذا كان المنطوق مثبتا، والإثبات إذا كان المنطوق منفيا، إلى القيد في خصوص ذلك الموضوع المدلول عليه بالمقيد، فيكون مفهوم قولنا: في الغنم السائمة زكاة، أن المعلوفة من الغنم خاصة لا زكاة فيها، ولا يتناول المفهوم معلوفة غيرها، كما لم يتناول المنطوق سائمة غير الغنم، ويكون مفهوم قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(أو دما مسفوحا) إباحة الدم الذي ليس بمسفوح، ويكون مفهوم قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن) أن البائن التي ليست بحامل لا تجب النفقة عليها.
أو يرجع إليه مطلقا، فيكون مفهوم الأول، سقوط الزكاة في المعلوفة مطلقا، ومفهوم الثاني الإذن في كل ما ليس بمسفوح دما أو غيره، ومفهوم الثالث سقوط نفقة غير الحامل مطلقا، مطلقة أو لا، بائنا أو لا.
ولا يخفاك ما يترتب على هذا من الأمور الخارقة للإجماع.
ويبعد أن يقول بهذا أحد ممن يعتد بقوله على وجه مطلق، وغاية ما يمكن القول به في هذا أن ذلك - أعني رجوع النفي إلى القيد فقط - قد يقع، فقد تقوم القرينة على أن المقصود دوران الحكم مع القيد مطلقا، لا بشرط تحققه مع خصوص المقيد المذكور، كقولك: الرجل العابد لا يكون محروما، فهذا يفهم منه بالقرينة، سببية العبادة للرزق ولعدم
الحرمان مطلقا، لا في خصوص الرجل.
وكقولك: إذا لم تكن عالما، لم تكن عزيزا، فمثل هذا يفهم منه بالقرينة سببية العلم للعز، وعدمه لعدمه مطلقا، لا في خصوص المخاطب.
لكن ينبغي أن يلاحظ هنا، أن المقيد دلت القرينة على إلغائه في المنطوق أولا، فرجع النفي بسبب ذلك إلى القيد خاصة، والقرينة مخصصة للقواعد الأصولية كلها، فمتى قامت القرينة على إرادة معنى تعين المصير إليه، لأن ظاهر القصد مقدم على ظاهر اللفظ، لأن ظاهر اللفظ إنما ترجح لظهوره في القصد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
أضعفها اللقب، وهْو ما أُبي
…
من دونه نظم الكلام العربي
معناه أن أضعف مفاهيم المخالفة، مفهوم اللقب، واللقب قال الطاهر بن عاشور رحمه الله سبحانه وتعالى في حاشيته: هو الاسم الجامد الذي لا يؤذن بموصوف.
قال في النشر: سواء كان اللقب علما بأنواعه الثلاثة، من اسم، وكنية، ولقب، أو اسم جنس، جامدا كان أو مشتقا غلبت عليه الاسمية، أما ما لم تغلب عليه، فإن ذكر موصوفه فهو ما تقدم، أو لا نحو في السائمة زكاة، فالأظهر عند السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى أنه كاللقب، لاختلال الكلام بدونه، وقيل من الصفة، وكاسم الجنس اسم الجمع، كقوم ورهط اهـ
وإنما لم يراع اللقب لما تقدم من أن تخصيص المنطوق بالذكر إنما يدل على اختصاصه بالحكم إذا لم تظهر فائدة غير ذلك، واللقب محتاج إلى ذكره ليسند إليه، إذ لا يمكن إسناد خبري دون مسند إليه، وهذا هو ما أشار إليه الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: وهو ما أبي من دونه نظم الكلام العربي.
وذلك هو المراد بتعليل قول السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى في الكلام السابق على الموصوف نحو في السائمة زكاة، والأوجه أنه حجة، فترتيب الحكم على الموصوف موذن بتأثير صفته في الحكم، وقصد غير ذلك ممتنع بلاغة كما تقدم، وهذا هو المعنى الذي لأجله اعتبر مفهوم الصفة، بل مفاهيم المخالفة كلها، كما بينه القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى في
الفرق الحادي والستين،
(1)
وتفاريع أصحابنا صريحة في الأخذ به، والله سبحانه وتعالى أعلم.
أعلاه لا يرشد إلا العلما
…
فما لمنطوق بضعْف انتمى
فالشرط فالوصف الذي يناسب
…
فمطلق الوصف له يقارب
فعدد ثمت تقديم يلي
…
وهو حجة على النهج الجلي
أشار بهذا إلى ترتيب أنواع مفاهيم المخالفة في القوة، فذكر أن أقواها الحصر بإلا بعد النفي، لأن جماعة من أهل العلم قد ذهبوا إلى أنه منطوق صريح.
ويلي ذلك ما قيل فيه إنه منطوق بالإشارة على ضعف، كمفهوم إنما، ومفهوم الغاية.
ويلي ذلك مفهوم الشرط، وتأخر عن الغاية لأن نفاته يقولون بها.
ويلي ذلك مفهوم الصفة، وتأخرت عن الشرط لأن بعض القائلين به خالف فيها، وتقدم الصفة المناسبة نحو: في الغنم السائمة زكاة، على الصفة التي ليست مناسبة، نحو: إذا لقيت رجلا ثريا فتصدق عليه.
وما ذكر في نثر الورود هنا من اختصاص التعبد بالعبادات، سهو.
ويلي مفهوم الصفة: مفهوم العدد، وتأخر عن الصفة أيضا لأن بعض القائلين بها أنكروه.
ويلي ذلك: مفهوم الحصر بتقديم المعمول، وإنما تأخر للاختلاف في اقتضائه الحصر.
قوله: وهو حجة على النهج الجلي، معناه أن مفهوم المخالفة ـ ما عدا اللقب ـ حجة عند جماهير أهل العلم، وأنكر الإمام أبو حنيفة رحمه الله سبحانه وتعالى الجميع، وحكي عن القفال الشاشي، وأبي حامد المروزي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله سبحانه وتعالى من الحنفية أنه ليس بحجة في خطابات الشرع، وأما في مصطلح الناس وعرفهم فهو حجة، وعكس ذلك بعض المتأخرين من الشافعية، قاله في
(1)
ونصه: ومفهوم الصفة ونحوه، فيه رائحة التعليل، فإن الشروط اللغوية أسباب أيضا، فمتى جعل الشيء شرطا، أشعر ذلك بسببية ذلك الشرطعند المتعلق عليه، أدركنا نحن ذلك أم لا، وكذلك إذا حصر أو جعل غاية.
وإذا كانت هذه الأشياء تشعر بالتعليل عند المتكلم بها، والقاعدة أن عدم العلة علة لعدم المعلول، فيلزم في صورة المسكوت عنه عدم الحكم، لعدم ثبوت العلة فيه اهـ
إرشاد الفحول.
فصل في اللغة
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان محتاجا إلى الاستعانة بغيره، غير قادر على الاستقلال في استيفاء مطلوبه، فكان لا بد مما يحصل به التفاهم بينه وبين غيره، حتى يعينه على تحصيل مقصوده، وتسهيل مراده، ويسترشد به في ما لا يعلم، ويستنصحه فيما يشكل عليه، وغير ذلك، فأنعم الله سبحانه وتعالى عليه بهذه الموضوعات اللغوية، ليتمكن من ذلك دون بذل جهد، ولا ضياع وقت.
قال التاج السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى في جمع الجوامع: من الألطاف حدوث الموضوعات اللغوية، ليعبر عما في الضمير، وهي أفيد من الإشارة والمثال، وأيسر اهـ
وإنما كانت أفيد، لإمكان التعبير بها عن الأشياء كلها، في كل الوقوت، في عموم الأحوال، مع وضوحها في مراد المتكلم، عند الصغير والكبير، والبليد والذكي، بخلاف الإشارة، فالتعبير بها عن كثير من الأمور على وجه ظاهر متعذر، ولا تأتى الإفادة بها في كل وقت، فالإفادة بها في اليل، والأماكن المظلمة، متعذرة أيضا، وكذلك يتعذر الإفهام بها إذا حال بينك وبين صاحبك ساتر ـ مثلا ـ وهي مع المقابلة والقرب لا يتمكن من فهم المراد بها كل الناس، إلا في بعض الأحوال، لكثرة ما يطرقها من الاحتمالات.
وإنما كانت الموضوعات أيسر، لأن التكلم أيسر من الأفعال، مع أنه لا يحتاج إلى وضع معين، فيحصل الإفهام به بمجرد أن يكون بحيث يسمعه، فلا يحتاج إلى تغيير وضع لترقب مواجهة، مع تعين ما يعبر به في الكلام، بخلاف الإشارة فإنها تحتاج إلى تأمل في الكيفية الدالة على المقصود، ومراقبة الطرف الآخر هل حصل له بها فهم المراد، وغير ذلك مما يوجب مشقة فادحة بتكرره عند إرادة الإخبار بأي شيء، ولو كان يسير الخطب، فانظر إلى اهتزاز النحلة أمام وخلف، وأعلى وأسفل، ويمينا ويسارا، لو تطلبه منك كل إفهام لصاحبك، فإنك ستكون في حرج بليغ، ومشقة فادحة.
وأما المثال فالمشقة فيه أفدح بكثير من الإشارة، مع ما يتطلبه من الوقت الكثير، وهذا ما أشار إليه الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
من لطف ربنا بنا تعالى
…
توسيعه في نطقنا المجالا
واللطف في اللغة: الرفق، والمراد هنا إيصال الإحسان، أو إرادته، والمجال: محل الجولان، وهو الطواف.
وما من الألفاظ للمعنى وضع
…
قل لغة بالنقل يدري من سمع
معناه أن اللغة هي: الألفاظ الموضوعة للمعاني.
فخرجت الدلالة العقلية، كدلالة اللفظ على لافظ.
والدلالة العادية، كدلالة الأنين على الوجع، والضحك على التعجب.
والألفاظ: جمع لفظ، والوضع هو جعل اللفظ اسما لمعنى، كالسماء لمعناها المعروف.
وإطلاق المتكلم اللفظ بإرادة المعنى كذا منه، يسمى استعمالا.
وفهم السامع إرادة المتكلم المعنى كذا باللفظ كذا، يسمى حملا.
فالوضع سابق، والحمل لاحق، والاستعمال متوسط.
والمعاني: جمع معنى، والمعنى مفعل من عَنى إذا قصد، فالمعنى هو المراد والمقصود من اللفظ.
وقول الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى: بالنقل يدري من سمع، معناه أن اللغة إنما تثبت بالنقل عن العرب، تواترا في أكثرها، كالسماء والأرض لمعنييهما المعروفين، وآحادا في بعضها، كالغضنفر في الأسد.
وقيل: إنها متواترة كلها، لأن أئمة اللسان في كل عصر أعداد يستحيل تواترها ـ عادة ـ على الكذب، وهو غير بين، فإن الأئمة وإن كانوا كذلك، إلا أن كثيرا من الكلمات لم يتفق على معناه من يحصل بخبره العلم.
وتثبت اللغة أيضا باستنباط العقل من النقل، قال في النشر: الجمع المعرف بأل يصح الاستثناء منه، وكل ما يصح الاستثناء منه بإلا وأخواتها مما لا حصر فيه، عام، فيستنبط العقل أن الجمع المعرف عام، إلى أن قال: واحترز بما لا حصر فيه، عن العدد، فإنه يصح الاستثناء منه، نحو له علي ستة إلا ثلاثة، وليست عامة.
وسيأتي الخلاف في ثبوتها بالقياس.
مدلولها المعنى ولفظ مفرد
…
مستعملا ومهملا قد يوجد
وذو تركب ................. ...........................
معناه أن مدلول الألفاظ، إما معنى وإما لفظ.
والمعنى كلي وجزئي، والكلي: هو ما أفهم اشتراكا، كرجل، والجزئي خلافه كزيد، قال الأخضري رحمه الله سبحانه وتعالى:
فمفهم اشتراك الكلي
…
كأسد، وعكسه الجزئي
واللفظ إما مفرد وإما مركب، وهو في كل من الوجهين يكون مستعملا، ويكون مهملا، فالمفرد المستعمل: كمدلول الكلمة، قال ابن مالك رحمه الله سبحانه وتعالى:
واحده كلمة ................... ............................
فمدلولها لفظ مفرد مستعمل: اسم، أو فعل، أو حرف.
والمفرد المهمل: كأسماء الحروف، كالباء مثلا، فمدلولها الذي هو " بَهْ " مفرد مهمل. والمركب المستعمل: كمدلول الكلمة في مثل خبر " أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
(1)
...............................
والمركب المهمل: كمدلول الهذيان، والمراد بالمركب: ما تركب من كلمتين فأكثر، لا المركب بمعنى ما يدل جزؤه على جزء معناه، كشاة زيد، الذي أشار الأخضري رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
مستعمل الألفاظ حيث يوجد
…
إما مركب، وإما مفرد
فأول ما دل جزؤه على
…
جزُء معناه، بعكس ما تلا
وقوله رحمه الله سبحانه وتعالى:
ووضْع النكره
…
لمطلق المعنى فريق نصره
وهي للذهن لدى ابن الحاجب
…
وكم إمام للخلاف ذاهب
معناه أنه اختلف في النكرة، هل هي موضوعة لمطلق المعنى، من غير تقييد بكونه ذهنيا أو خارجيا، لاستعماله فيهما، ودعوى وضعه لأحدهما بخصوصه، لا دليل عليها، فيكون
(1)
متفق عليه، واللفظ للبخاري.
حقيقة في كل منهما، ونسب للفهري رحمه الله سبحانه وتعالى.
أو هي موضوعة للمعنى الذهني خاصة، لأنها موضوعة لفرد شائع، والمشترك بين آحاده لا وجود له في الخارج، فالموجود في الخارج هو الأفراد، وكل واحد منها لا يشاركه غيره في حقيقته، وهذا القول للإمام الفخر رحمه الله سبحانه وتعالى ونسبه الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى لابن الحاجب رحمه الله سبحانه وتعالى.
أو هي موضوعة للمعنى الخارجي خاصة، وهو مذهب الجمهور، وحجته أن الأحكام إنما وضعت للأمور الخارجية المتشخصة.
ومحل الخلاف ما له وجود ذهني، ووجود خارجي، وأما ما لا وجود له إلا في الذهن، كبحر زئبق، فلا خلاف أن الوضع فيه إنما هو للمعنى الذهني.
وليس للمعنى بلا احتياج
…
لفظ، كما لشارح المنهاج
معناه أن وضع لفظ خاص بإزاء المعنى، لا يتعين في كل معنى، وإنما يتعين في المعاني المحتاجة إلى ذلك احتياجا قويا، بل قال في المحصول إنه لا يجوز، وهو أبين، لعدم انحصار المعاني.
وهذا في المعاني المنضبطة، وأما غير المنضبطة، فلا يمكن الوضع لها، لعدم تميزها، فيقصدها المتكلم، ويعرفها السامع، وذلك كأنواع الطعوم، والروائح، واللذات، والآلام، والمسرات، والأحزان، ونحو ذلك.
واللغة الرب لها قد وضعا
…
وعزوها للاصطلاح سمعا
فبالإشارة، وبالتعين
…
كالطفل فهْم ذي الخفا والبين
يبنى عليه القلب، والطلاق
…
بكاسقني الشراب والعتاق
المعنى أنه اختلف في ابتداء اللغات، فقيل هي توقيفية، إما بالوحي إلى آدم ـ على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ أو بخلق الأصوات، وإلهام معانيها، أو غير ذلك.
وقيل: هي اصطلاحية، وضعها البشر، وحصل التعارف بينهم بالتعيين بالإشارة، وانتصاب القرائن، كما يتعلم الطفل لسان أبويه.
وقيل: كان ابتدؤها بتوقيف، ثم كانت اصطلاحا في ما بعد.
وقيل: بالعكس، وقيل: بتجويز ذلك كله، وهو رأي الأكثرين.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: يبنى عليه القلب، إلى أن الاختلاف المذكور ينبني عليه الاختلاف في جواز القلب، بأن يعبر بالشاة عن الدار، وبالرجل عن الحصان، فعلى أنها توقيفية، يكون ذلك ممنوعا، وعلى أنها اصطلاحية، يكون ذلك جائزا.
وهذا غير بين، فإن التوقيف لا يقتضي التحجير في الخروج عنه، وقد صرح بذلك التاج السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى كما في الحلي.
وهذا الخلاف إنما هو في القلب لذاته، ولا ينافي أنه قد يمتنع لعارض، كما إذا وقع في الألفاظ المتعبد بها، أو ترتب عليه تلبيس في المواطن التي لا يجوز فيها ذلك، كما قال سبحانه وتعالى جل من قائل ـ في من يشبهون نساءهم بأمهاتهم ـ:(وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا)
فقد صرح أصحابنا بأن المنكر هنا الذي لا يعرف المراد منه، نحو قول سيدنا إبراهيم ـ على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ:(قوم منكرون)
ومن ذلك النهي عن لفظ: راعنا، وإن أريد به معنى صحيح، تجنبا لاحتمال المشتق من الرعونة، الذي كانت اليهود تقصد.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: والطلاق بكاسقني الشراب والعتاق، إلى أن الخلاف المذكور، ينبني عليه الاختلاف أيضا في لزوم الطلاق والعتق بالكناية الخفية، وهي كل لفظ أرادهما به، مما لا يدل عليه عرفا، فمن قال هي توقيفية، لم يقعا عنده بذلك، ومن قال هي اصطلاحية، ألزمهما بذلك.
ولا يتجه أيضا انبناء هذا عليه، إذ لا فرق في هذا المعنى بين الكناية الخفية والكناية الظاهرة، بل ولا بينها وبين اللفظ الصريح، فإنه قد يكون غير موضوع أولا للطلاق، أو العتق، فالحكم على اللفظ بكونه صريحا أو كناية مبني على العرف لا على الوضع الأول، ولو قيل إن المختلفين في هذا الفرع لم يخطر ببالهم هذا الأصل أصلا، لكان قريبا، وإعمال هذه الألفاظ في مثل هذه الأبواب مبني على معان ومدارك أخرى، متقررة في تلك المواطن، كالتشوف للحرية، والاحتياط للفروج، وكون الأصل براءة الذمة، وتبعية الأمور للمقاصد،
وغير ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هل تثبت اللغة بالقياس
…
والثالث الفرق لدى أناس
اختلف في اللغة هل تثبت بالقياس، فقيل: تثبت به، وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني، وابن شريح، وأبي إسحاق الشيرازي، والرازي، وجماعة من الفقهاء رحمهم الله سبحانه وتعالى أجمعين ـ.
وقيل: لا تثبت به، وهو قول الجويني، والغزالي، والآمدي، والحنفية، وأكثر الشافعية، واختاره ابن الحاجب، وابن الهمام رحمهم الله سبحانه وتعالى أجمعين ـ.
وقيل: تثبت به الحقيقة دون المجاز.
فإذا سمي شيء باسم، وكان فيه معنى يناسب أن تكون تسميته بذلك الاسم لأجله، فوجد أمر آخر يساويه في الاتصاف بذلك الوصف، فهل يتعدى ذلك الاسم إليه، ومثلوا لذلك بالخمر، قالوا: العرب إنما وضعت هذا الاسم لخصوص المسكر من ماء العنب، وتسميته بهذا الاسم يتوقع أنها كانت لتخميره العقل، وتغطيته إياه، فهل يتعدى هذا الاسم لكل مسكر، أو يقتصر في إطلاقه على موضع وروده؟
وما في نثر الورود من التعقيب بثبوت تسمية كل مسكر خمرا في الصحيح، لا ينافي ذلك.
فالشأن لا يعترض المثال
…
إذ قد كفى الفرض والاحتمال
والخلاف المذكور إنما هو في المشتق، وهو ما اشتمل محله على معنى يناسب اسمه، كما مثلنا، بخلاف الأعلام، وذلك هو المراد بقوله رحمه الله سبحانه وتعالى:
محله عندهم المشتق
…
وما سواه جاء فيه الوفق
وفائدة الخلاف أن من أثبت الاسم للفرع بذلك، أثبت له حكم الأصل، لتناول الاسم الذي ورد عليه الحكم عنده له.
فآية الخمر ـ مثلا ـ متناولة لفظا لكل مسكر.
ومن لم يثبت الاسم للفرع، احتاح إلى تطلب دليل على حكمه، من نص آخر، أو قياس شرعي، بأن ينظر في المعنى الذي هو مناط الحكم في الخمر ـ مثلا ـ الذي هو مسكر ماء
العنب على الخصوص، وينظر في وجوده في الفرع، على الشروط والتفاصيل المعلومة في قياس التمثيل، وهذا هو المراد بقوله رحمه الله سبحانه وتعالى:
وفرعه المبني خفة الكلف
…
في ما بجامع يقيسه السلف
والمعنى أن من يثبت اللغة بالقياس، تخف عليه الكلفة والمؤنة، إذا كان حكم المسمى الأول منصوصا، إذ يرى تناول نص المسمى الأول، للمسمى الثاني، ومن لا تثبت عنده بالقياس، يحتاج إلى تطلب دليل على حكم المسمى الثاني.
والجامع: العلة.
فصل في الاشتقاق
والاشتقاق ردك اللفظ إلى
…
لفظ ........................
معناه أن الاشتقاق هو رد لفظ إلى لفظ، والمراد برده إليه، الحكم بتفرعه عنه، لما بينهما من المناسبة في الحروف الأصلية والمعنى.
وذلك كاشتقاق الضحية من الضحى الذي هو الوقت المأمور بذبحها فيه.
وهذا تعريف له بحكم الناظر في ذلك به، وإلا فهو مجرد تفرعه عنه، نظر فيه أو لم ينظر، وهو كتعريف التخصيص، بأنه قصر العام على بعض أفراده لحجة، ونحوه كثير.
والاشتقاق ثلاثة أنواع: صغير، وكبير، وأكبر.
والأول هو المبوب له، وهو المقصود عند الإطلاق، وأما الآخران فإنما يذكران استطرادا وتتميما للفائدة.
وقد جاءت بالاشتقاق الأحاديث الصحيحة، من ذلك ما جاء من اشتقاق اسم الرحم الحديث المعروف،
(1)
وما جاء من أنهم سألوا النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم عن العقيقة، فكره ذلك وقال: " لا يحب الله سبحانه وتعالى العقوق، من وُلد له ولد فأحب أن
(1)
عن عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ يقول: " قال الله سبحانه وتعالى: أنا الرحمن، وهي الرحم، شققت لها اسما من اسمي، من وصلها وصلته، ومن قطعها بتته " رواه أبو داود، والترمذي، والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
ينسك عنه فلينسك، عن الغلام شاتان مكافأتان، وعن الجارية شاة "
(1)
ولا يختص الاشتقاق بالحقيقة، بل يجري في الحقيقة والمجاز معا، كما أشار إليه رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
وأطلق في الذي تأصلا
يعني أن الأصل المشتق منه كما يكون حقيقة، يكون مجازا، ومثلوا لذلك بقولك: الحال ناطقة بكذا، أي: دالة عليه، فهو مشتق من النطق بمعنى الدلالة، وهو مجاز، فالنطق حقيقة التكلم.
وفي المعاني والأصول اشترطا
…
تناسبا بينهما منضبطا
معناه أنه يشترط في الاشتقاق، التناسب بين المشتق والمشتق منه، في المعنى، والحروف الأصلية.
والمراد بالتناسب في الحروف الأصلية: أن تكون موجودة بتمامها في المشتق، بنفس الترتيب الذي هي عليه في المشتق منه.
والمحذوف لعارض يعتبر كالموجود، سواء حذف من المشتق منه الذي هو المصدر كعدة، أو من المشتق، كيعد، وعِدْ ـ بصيغة الأمر ـ كما أشار إليه ابن مالك رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
فا أمر أو مضارع من كوعد
…
إحذف، وفي كزنة ذاك اطرد
وذلك كالضارب والضرب.
فخرج بالتناسب في المعنى، ما اتفق معناه كعدة ووعد، ومقتل وقتل، على أن مقتلا مصدر لا اسم مصدر.
وجعل من هذا القبيل بعضهم العدل، كعمر وعامر.
وخرج ما اختلف معناه، كالفحم لمحروق الحطب، مع فحم صاحبه إذا أسكته.
وخرج بالتناسب في الحروف الأصلية، ما اتفق معناه واختلفت حروفه، كالمترادف،
(1)
رواه أبو داود، والنسائي، والإمام أحمد، وهو حديث حسن.
كميت وهالك، وما اتفقت حروفه الأصلية مع اختلاف الترتيب فقط، كجبذ وجذب، أو مع اختلاف المعنى أيضا كمِلْح، ولَمْح، وحِلْم، ولَحْم، وحَمْل، ومَحْل.
وأشار بقوله:
لا بد في المشتق من تغيير
…
محقق، أو كان ذا تقدير
إلى أنه لا بد في القول باشتقاق الكلمة من غيرها، أن يكون بينهما اختلاف، ولو تقديرا، فلو اتفقتا لم يكن للاشتقاق معنى، لأنها عينها.
فالاختلاف الظاهر، كاختلاف الضارب والمضروب عن الضرب، والمقدر كطلبَ: فعل ماض، من طلبٍ مصدرا، قالوا: فتحة اللام في الفعل، غيرها في المصدر، وكضمة النون في جنب مفردا، فهي ـ كما قالوا ـ غيرها فيه جمعا.
وشرط الاختلاف في اللفظ، يقتضي أن المنقول ليس من قبيل المشتق، كجمرة علم رجل، وأسد، وأسامة، ونعمان، وهو خلاف ما يقع في عبارة بعض أهل العلم عند الكلام على الأسماء الشرعية، فيقولون في الصوم ـ مثلا ـ إنه مشتق من صوم النهار: سكون رياحه ونحو ذلك.
وإن يكن لمبهَم فقد عهد
…
مطردا، وغيره لا يطرد
معناه أن اشتمال المحل على معنى يناسب اسمه، لا يستلزم جواز إطلاقه في كل موضع وجد فيه ذلك المعنى، فقد تضع العرب ذلك لبعض المواضع المشتملة على المعنى، دون غيره على وجه الخصوص.
فإن علم من استعمالهم ذلك في لفظ لم يتعد به موضعه، وذلك كالقارورة: لوعاء المائع من الزجاج خاصة، وكالدبران: للنجوم المعروفة، وكعيوق: للنجم المعروف، وكالأدهم: للقيد، والأخيل: للطائر المعروف.
وإن علم عدم أخذ المحل قيدا، كان مطردا، كالضارب لكل من وجد منه وصف الضرب، وبهذا احتج من منع ثبوت اللغة بالقياس، لاحتمال أخذ المحل قيدا في الاسم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ونقل في الحلي هنا عن ولي الدين في النجم الوهاج، أنه قال: اشتقاق الألفاظ بعضها
من بعض اصطلاحي قطعا، ولا يجري فيه الخلاف في وضع اللغة هل هو اصطلاحي أو توقيفي، وقال: إنها مسألة حسنة انتهى
والأوجه أنه إن أراد أن ذلك هو الكثير فمشبه، وإن أراد العموم، فيرده ما جاء في الرحم، ونحوها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والجبذ والجذب كبير، ويرى
…
للاكبر الثلم وثلبا من درى
أشار بهذا إلى الاشتقاق الكبير، والاشتقاق الأكبر، واكتفى عن تعريفهما بالمثال، فمثل للكبير بالجبذ والجذب، فهو ما اتفقت فيه الحروف الأصلية مع الاختلاف في الترتيب، والتناسب في المعنى، في الجملة، كجذبه وجبذه.
ومثل للأكبر بالثلم والثلب، فهو ما حصل فيه توافق في بعض الحروف الأصلية، مع تناسب معنوي في الجملة، كالثلم والثلب، والرجم والرقم.
قال في الحلي: وينبغي أن يكون الأصل المشتق منه في الاشتقاق الكبير والأكبر، أكثر اللفظين استعمالا، وإن لم أر من تعرض لذلك اهـ.
وكأن هذا ما أراده في نثر الورود، حيث جعل الجبذ ـ بتأخير الذال ـ مشتقا من الجذب ـ بتقديم الذال ـ وجعل الثلم ـ بالميم ـ مشتقا من الثلب ـ بالباء ـ.
والمتجه أن المراد أن ما ذكر من التناسب لفظا ومعنى، قرينة على أن أحدهما متفرع عن الآخر، أو أنهما من مادة واحدة، وقد يظهر مع ذلك من القرائن ما يفيد أصلية أحدهما وفرعية الآخر، وقد لا يظهر ذلك، فلا يتأتى الحكم بأصلية أحدهما.
وأما كثرة الاستعمال فهذه قد تعرض للفظ في بعض الأزمنة، ثم ينعكس الحال في أزمنة أخرى، وقد يكون أحد اللفظين لغة جهة، بحيث لا يعرف فيها غيره، والآخر لغة جهة أخرى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
نعم يقال إن المدلولات الحسية، سابقة على المدلولات المعنوية، فإن كان معنى أحدهما محسوسا دون الآخر، أشبه أن يقال: إنه أصل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا والمراد بالمناسبة في المعنى في الاشتقاق الصغير: الموافقة خاصة.
وفي غيره: ما يعم الموافقة والمشابهة.
فالموافقة في الكبير كمثال الناظم رحمه الله سبحانه وتعالى والمشابهة فيه: ككنى وناك. والموافقة في الأكبر: كهدم وهذم، والمشابهة فيه: كمثال الناظم رحمه الله سبحانه وتعالى والله سبحانه وتعالى أعلم.
والاعجمي فيه الاشتقاق
…
كجبراءيل قاله الحذاق
معناه أن الأسماء العجمية يقع فيها الاشتقاق، وعزاه في نشر البنود للأصفهاني ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى وذكر أنه احتج به بما جاء أن اسم جبريل ـ على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ مشتق من الجبروت.
وذكر في الحلي أن الذي ذكره الأصبهاني إنما هو منع ذلك، جاعلا الاشتقاق من خصائص العربية.
والخبر الذي ذكر لم أقف على ذكره في شيء من كتب التخريج.
والمعنى الذي ذكر الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى صحيح، فوجود أصول عربية في بعض لغات العجم، أمر معلوم اليوم، كما أن وجود أصول أعجمية في العربية معلوم أيضا، واشتراك أسماء متعددة متقاربة في المعنى في حروف معينة، معروف أيضا في ألسنة العجم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
كذا اشتقاق الجمع مما أفردا
…
ونفي شرط مصدر قد عهدا
معنى أول الشطرين، أن الجمع مشتق من المفرد، وكذلك المثنى، فرجلان مشتق من رجل، وكذلك رجال، وكذلك المنسوب كقرشي، والمصغر كفليس، وعلى هذا فالحرف يشتق منه، لجواز النسبة إليه، كما هو قول ابن مالك رحمه الله سبحانه وتعالى:
وضاعف الثاني من ثنائي
…
ثانيه ذو لين، كلا ولائي
ومعنى الشطر الثاني، أن الاشتقاق لا يشترط فيه وجود مصدر بالفعل، ولا استعماله، فقد يشتق من مصدر مقدر.
قال في النشر: فالجمود لا ينافي الاشتقاق، وذكر أن نحو عسى، وليس، من الأفعال التي ليست متصرفة، مشتق، وظاهره قصد العموم، والمتجه أن ذلك يتوقف على استقراء. وأما اجتماع عدم التصرف مع الاشتقاق فبين جدا، ومن أمثلته قول ابن مالك ـ رحمه الله
سبحانه وتعالى ـ:
فعلان غير متصرفين
…
نعم وبئس رافعان اسمين
واشتقاق الفعل في الموضعين من الظهور بمكان، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومقتضى ما ذكروا هنا أنه لا بد في الاشتقاق من مصدر، وانظره مع ما تقدم في اشتقاق المفرد من الجمع، واشتقاق الحروف، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وعند فقد الوصف لا يشتق
…
وأعوز المعتزليَّ الحقُّ
معنى أول شطري البيت، أنه يشترط في اشتقاق الاسم من الوصف، قيام ذلك الوصف بالمشتق له، فلا يجوز اشتقاق اسم العالم ـ مثلا ـ لمن لم يقم به وصف العلم.
واحترز الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى بالوصف، عن الذوات، فاشتقاق الاسم منها، يكفي فيه الارتباط بها ارتباطا يصحح النسبة إليها، وذلك كبقال لصاحب البقول، وبزاز لصاحب البز، وتامر لصاحب التمر، ولابن لصاحب اللبن، قال ابن مالك رحمه الله سبحانه وتعالى:
ومع فاعل وفَعَّال فَعِل
…
في نسب أغنى عن اليا فقبل
وقوله: وأعوز المعتزلي الحق، أشار به إلى مذهب المعتزلة في صفات المعاني، حيث قالوا إن الله سبحانه وتعالى قادر من غير قدرة قامت به، عالم من غير علم قام به، وهكذا، فأثبتوا الاسم مع نفي الصفة المشتق منها، وأعوزه الشيء احتاج إليه، قال في النشر: يعني أن المعتزلة خالفوا منهج الصواب، المحتاج إلى اتباعه.
وحيث ما ذو الاسم قام قد وجب .................................
المراد بذي الاسم: المعنى الذي وضعت له العرب اسما مطردا.
والمعنى أن الوصف الذي وضعت له العرب اسما باطراد، إذا قام بموضع ثبت له اسم منه، وذلك كوصف البياض، فكل موضع قام به هذا المعنى، ثبت له ـ لقيامه به ـ اسم أبيض، أو بيضاء في التأنيث.
واختلف هل يكفي في إطلاق الاسم عليه ـ على وجه الحقيقة ـ مجرد حصول اتصافه به، ولو زال، فالمتصف بالبياض، إذا فارقه وصف البياض، يبقى إطلاق الأبيض عليه
حقيقة، أو لا يكفي ذلك؟
فيشترط في كون إطلاقه عليه حقيقة، بقاء المعنى قائما به، فإذا خلا من المعنى، فإطلاق الاسم المشتق منه عليه مجاز، وهو قول الجمهور، والأول لابن سينا، وبعض المعتزلة.
وفرق قوم بين ما إذا طرأ على المحل وصف وجودي مناقض، فيمتنع الاشتقاق بإجماع المسلمين وأهل اللسان، كالقائم يجلس، فلا يجوز أن يشتق له اسم من القيام، إلا على وجه المجاز، باعتبار ما كان، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن)
ويحترز بالضد الوجودي، عن الضد العدمي، الذي هو عدم الوصف، وإلى هذا أشار الناظم رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
وفرعه إلى الحقيقة انتسب
لدى بقاء الاصل في المحل
…
بحسب الإمكان عند الجل
ثالثها الإجماع حيث ما طرا
…
على المحل ما مناقضا يرى
وقوله: بحسب الإمكان، أشار به إلى أن قيام الوصف بالمشتق له، المشترط في الاشتقاق، إنما هو بحسب الإمكان، فهو في المصادر السيالة، كالكلام على ما يقتضي العرف أن صاحبه لم ينزع عنه، لأنها لا تقوم بالمحل جملة، وإنما تقع على الترتيب، شيئا فشيئا.
عليه يُبنى من رمى المطلقه
…
فبعضهم نفى وبعض حققه
معناه أنه ينبني على الاختلاف المذكور: الاختلاف في من قذف مبانته، هل يلاعنها، كما لو قذفها قبل أن يطلقها، أو يحد حد القذف، ولا يمكن من اللعان، كما لو قذف من لم يتزوج بها أصلا، أو يفرق بين ما إذا تزوجت بعد طلاقه إياها زوجا آخر، فيحد كالأجنبي، وما إذا لم تتزوج بعده فيلاعن، كالزوجة التي لم تطلق؟
وبيان ذلك أن الله سبحانه وتعالى قضى في قذف الزوج باللعان، إذا لم يأت على ذلك بالبينة، وذلك حيث قال سبحانه وتعالى جل من قائل:(والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) الآية الكريمة، وأوجب في قذف الأجنبي الجلد، حيث لم يأت
على ذلك بالبينة، وذلك حيث قال سبحانه وتعالى جل من قائل:(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) الآية الكريمة، فمن صدق عنده اسم الزوج حقيقة على المطلق طلاقا بائنا، قضى باللعان، ومن لم ير ذلك أوجب الحد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ونسب في النشر القول بالتفصيل لابن المواز، وذكر في الحلي أن المنسوب في كتب المذهب لابن المواز رحمه الله سبحانه وتعالى هو القول بالحد مطلقا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والبحوث التي نقل بعض الشروح هنا عن القرافي وغيره في حديث " البيعان بالخيار "
(1)
لينة جدا.
فالنظر في الحديث بالقواعد التي ذكر، مفض إلى إبطال دلالة الحكم المنوط باسم الفاعل، فهذه البحوث واردة في مثل آية (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) الآية الكريمة.
فالنظر بهذه القواعد يقتضي اختصاص الأمر بالجلد بحالة الإيلاج، لأنه إذا نزع فقد انقطع صدق اسم الزاني عليه حقيقة، كما في القاعدة الأولى.
وصدق اسم الزاني عليه، هو علة الأمر بجلده، كما في القاعدة الثانية.
فيسقط عنه الحد للقاعدة الثالثة، وهو أن عدم العلة، علة لعدم المعلول.
وهكذا في السارق، والقاذف، وغيرهما.
وبطلان هذا، ومخالفته للإجماع من الظهور بمكان.
وسيأتي للقرافي رحمه الله سبحانه وتعالى في المسألة الموالية نقل الإجماع على أن الإطلاق في ذلك حقيقة، لا مجاز.
وهي عين مسألة الحديث الشريف.
ولا يخفاك أيضا الإجماع على عدم توقف الحكم في ذلك على كون الإطلاق حقيقة،
(1)
متفق عليه.
فالجلد مأمور به إجماعا في من زنى، سواء قلنا إن استعمال الزاني فيه حقيقة أو مجاز. ومقتضى إطلاق القاعدة الأولى ـ وهو أيضا صريح إيرادها على الحديث الشريف المذكور ـ امتناع الحمل على المجاز، وإن قامت قرينة على إرادته، كما في الحديث الشريف " ما لم يتفرقا " ورد ذلك أظهر من أن يذكر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما ما نقل عن بعض أرباب الحواشي من انبناء الخلاف في الرجوع في السلعة إذا فلس المشتري أو مات على هذا الأصل، وأن المالكية خالفوا أصلهم هنا فهو غير بين، فاعتقاد المجازية في ذلك لا يمنع من الحمل عليه، خاصة مع انتصاب القرينة على إرادته، والتصريح به في بعض الروايات، فحمله على البائع لا يستلزم القول بكونه حقيقة فيه.
وأما مذهب المالكية فأصله ما رواه مالك رحمه الله سبحانه وتعالى في موطئه عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ قال:" أيما رجل باع متاعا، فأفلس الذي ابتاعه منه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا، فوجده بعينه، فهو أحق به، وإن مات الذي ابتاعه، فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء "
فما كسارق لدى المؤسس
…
حقيقة في حالة التلبس
أو حالة النطق بما جا مسندا
…
وغيره العموم فيه قد بدا
أشار بهذا إلى ما أجيب به عن الاشكال الذي أورده القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى على استلزام ما تقدم من أن إطلاق المشتق إنما يكون حقيقة ما دام المعنى قائما بالمشتق له، كون إطلاق اسم السارق مثلا على من لم يقم به وصف السرقة حال الإطلاق، مجاز، فيكون تناول نحو آية (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) لمن تحصل منه السرقة مجازا، والإجماع على أنه حقيقة.
فمن ذلك ما أجاب به الإمام تقي الدين السبكي وابنه تاج الدين ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى وهو الذي أشار إليه رحمه الله سبحانه وتعالى بأول البيتين.
فالمراد بالمؤسس فيه: السبكيان.
ومعناه أن المراد بالحال في ما سبق: حال التلبس، لا حال النطق والكلام.
فإطلاق اسم الفاعل حقيقة في كل ذات قام بها معناه، سواء كان قيام المعنى بها حاصلا وقت النطق به أو لا، فالسارق في الآية الكريمة حقيقة في كل من حصلت منه السرقة وقت نزول الآية، وفي من تحصل منه بعد ذلك، لكن بعد حصولها منه.
وقال الطاهر ابن عاشور رحمه الله سبحانه وتعالى في هذا إنه: يفضي إلى هدم قاعدة الزمان في الفعل الذي حمل عليه اسم الفاعل، إذ الزمان في الفعل هو زمان النطق بلا شك، وإلا لم يتصور ماض ومستقبل أبدا.
وأجاب القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى بأن محل التفصيل المذكور إذا كان الوصف محكوما به، كقولك: زيد سارق.
وهو المراد بقوله: أو حالة النطق بما جا مسندا.
فإن كان محكوما عليه، كان الإطلاق حقيقة مطلقا في من حصل منه الاتصاف بذلك المعنى، سواء كان اتصافه به واقعا حال النطق، أو سابقا عليه، ويكون حقيقة في من يتصف به بعد الإطلاق، بعد اتصافه به، لا مطلقا، كما توهمه ابن عبد السلام، كما بينه ابن عرفة ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى في الجزء الثالث عشر من مختصره الفقهي في رد الاستدلال بآية (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) على وجوب التحمل، فلا يرد ما أشار إليه بعضهم، من أن هذا التفصيل يؤدي إلى أمور مخالفة للإجماع.
وإلى هذا أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: وغيره العموم فيه قد بدا.
وذكر بعضهم أن لاسم الفاعل واسم المفعول استعمالين:
أحدهما: إرادة ذات متصفة بالمشتق منه، من غير اعتبار زمان ولا حدوث، فيكون كاسم الجنس، لا دلالة له على الزمان، ويكون حقيقة في كل من اتصف به بعد اتصافه به، سواء كان اتصافه به سابقا على وقت التكلم، أو مصاحبا، أو متأخرا، وهذا هو معناه عند البيانيين.
والثاني: قصد الحدوث، وظاهر أنه لا يكون حقيقة في هذا الاستعمال إلا إذا كان الاتصاف به حاصلا وقت الكلام.
فإن أريد الحدوث، ولم يكن الاتصاف حاصلا وقت الكلام بذلك، كان مجازا باعتبار
حصوله قبل، أو توقع حصوله.
وإذا كان كذلك، فالمسألة على هذا مختلف فيها بين أهل اللسان.
وعليه فسؤال القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى إنما يتوجه على مذهب النحويين خاصة، ولا يتم جوابه إلا على هذه الطريقة خاصة.
وجواب السبكيين ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى غير بين، فمذهب البلاغيين الذي اختارا ليس فيه نظر إلى الزمان أصلا، وتأويل الحال بحال التلبس لا يستقيم، والمقابلة بالماضي والاستقبال، مانعة منه، كما بينه ابن عاشور رحمه الله سبحانه وتعالى وليس فيه انقسام إلى حقيقة ومجاز بالنسبة لمن حصل له اتصاف بالمعنى في وقت.
وهذا المنقول غير بين أيضا، فالانقسام للحقيقة والمجاز حاصل في الصفة المشبهة أيضا، فلا فرق بين قولك: زيد ضارب عمرا، وقولك: زيد حسن، فإذا لم يكن زيد متصفا بالضاربية أو الحسن في الوقت الذي وصفته فيه بذلك، بل أطلقت عليه الوصفين باعتبار اتصافه بهما سابقا مثلا، كان مجازا.
وما نُسب للنحاة، هو الفرق عندهم بين اسم الفاعل والصفة المشبهة.
فاسم الفاعل هو الدال على الحدوث، وإن جيء به من فعل لازم، ويؤتى به حينئذ على فاعل، كما أشار إليه ابن مالك رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
وفاعل صالح للكل إن قصد الـ
…
ــحدوث، نحو غدا ذا جاذل جذلا
وما قصد به الثبوت صفة مشبهة لا اسم فاعل، وإن صيغ من فعل متعد، عند من يجيز ذلك.
وأما الأصوليون فالمراد عندهم هنا الصفة عموما، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والمتجه أن الجواب الأقعد بالقواعد الأصولية: أن الوصف العام ـ مثلا ـ لا نظر فيه للوقت، فهو حقيقة في أفراده في كل زمن، بل لا يتأتى فيه النظر إلى الوقت، إذ لم يحكم فيه لذات معينة، حتى ينظر هل هي متصفة بمعناه أو لا.
وسيأتي ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى للشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى في العموم، استلزام العموم في الذوات، العموم في الأزمنة، حيث يقول:
ويلزم العموم في الزمان
…
والحال للأفراد والمكان
وأما الوصف الخاص فينظر فيه إلى الوقت على التفاصيل المتقدمة.
لأن معناه الإخبار عن فلان ـ مثلا ـ أنه متصف به، فإذا لم يكن متصفا به في الوقت الذي حكم له بالاتصاف به فيه، لم يكن حقيقة.
فإذا قلت: زيد صحيح، فإن لم يكن صحيحا في الوقت الذي حكمت له بالصحة فيه، وإنما حكمت له بذلك اعتبارا بالوقت السابق على ذلك، أو توقعا لذلك، بأن يكون قد قارب البرء ـ مثلا ـ فهو مجاز، وإن لم يتصف بذلك قبل، ولم يكن يتوقع اتصافه به بعد، أو كان قد اتصف به قبل، أو يتوقع اتصافه به، ووصفته بالصفة لا باعتبار ذلك، كان الكلام المذكور كذبا.
وهذا هو الذي يظهر أنه مراد القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى لكن لم يبين وجهه.
نعم الظاهر أن النظر في الوقت، إلى الوقت الذي حكمت بالاتصاف فيه، وقد يكون ذلك وقت الكلام، كما لو قلت: زيد صحيح، أو صحيح الآن، وقد يكون غير وقت الكلام، كما لو قلت ـ مثلا ـ: زيد صحيح أمس، أو كنت تخبر عن أزمان سالفة، فالنظر في مثل ذلك إلى حاله أمس، أو في الزمن السالف، لا إلى حاله الآن، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله تعالى وسلم وبارك على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
فصل في الترادف
الترادف هو: توالي ألفاظ مفردة، على مسمى واحد، باعتبار معنى واحد، كالبر، والحنطة، والقمح، في الأسماء، وككاد، وأوشك، في الأفعال، ونعم، وأجل، في الحروف. فخرجت دلالة اللفظين ـ مثلا ـ على مسمى واحد، لا باعتبار واحد، بل باعتبار صفتين، كالصارم والمهند، أو باعتبار الصفة، وصفة الصفة، كالناطق والفصيح.
وذو الترادف له حصول
…
وقيل لا ثالثها التفصيل
معناه أن الترادف واقع في ما ذهب إليه الجمهور، ومن فوائده توسيع دائرة التعبير، وأن أحد اللفظين ـ مثلا ـ قد يكون موافقا للقافية، أو الوزن، أو السجعة دون الآخر، وكذلك في الجناس ونحوه من أنواع البديع.
وقد يكون النطق بأحدهما أسهل على شخص، من النطق بالآخر، لعقدة في لسانه. ونفى ثعلب وابن فارس والزجاج وقوعه، وقالوا: ما يظن مترادفا، كالإنسان والبشر، غير مترادف، بل متباين بالصفة، فالأول باعتبار النسيان، أو الأنس، والثاني باعتبار بدو البشرة، ورده ابن قاسم العبادي رحمه الله سبحانه وتعالى بأنا نقطع أن العرب تطلق الإنسان حيث لا يخطر ببالها معنى بدو البشرة، وذلك يقتضي عدم اعتبار ذلك المعنى، وإلا لم يتصور إطلاقهم له واستعماله في معناه من غير ملاحظة ذلك المعنى، مع أنه جزء المعنى على هذا التقدير، ولا يمكن استعمال اللفظ في معناه من غير ملاحظة جزئه، نقله الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى في النشر.
وفصل قوم فأجازوه في اللغة، ومنعوه في الأسماء الشرعية خاصة، معللين بأن علة جوازه الحاجة إليه، في النظم والسجع ونحو ذلك، وذلك منتف في كلام الشارع، وهذا توجيه لين جدا والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.
وهل يفيد التالي للتأييد .............................
المراد بالتالي: التابع، وهو اللفظ المهمل الذي تذكره العرب بعد لفظ بزنته، تقوية له، كقولهم حسن بسن، وعطشان نطشان، والمراد بالتأييد: التأكيد.
والمعنى أنه اختلف في اللفظ التابع، هل يفيد توكيد متبوعه، وهو المعول، وهو الذي يدل له الاستعمال، أو لا يفيده، نظرا لكونه مهملا.
كالنفي للمجاز بالتوكيد
أشار به إلى الاختلاف في التوكيد هل يرتفع به احتمال قصد المجاز؟ فإذا قلت: جاء زيد نفسه، امتنع أن يكون القصد مجيءَ رسوله، أو كتابه مثلا، كما عند أهل البيان، أو لا يرتفع به ذلك، ولا يزال قصد المجاز محتملا، ونسبه في النشر للقرافي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى.
والمتجه أن منه ما هو نص في قصد الحقيقة، نحو جاء زيد نفسه، ومنه ما هو ظاهر في ذلك، ككل، ولذلك أكدت بأجمع، كقوله سبحانه وتعالى:(فسجد الملئكة كلهم أجمعون) والله سبحانه وتعالى أعلم.
وللرديفين تعاور بدا
…
إن لم يكن بواحد تُعبدا
وبعضهم نفي الوقوع أبدا
…
وبعضهم بلغتين قيدا
التعاور: التعاقب، والمراد بهذه المسألة، أنه إذا صح التعبير بأحد المترادفين في موضع، فهل يلزم أن يصح التعبير بمرادفه بدله، لأنهما مترادفان، فإذا صح التعبير في تركيب بكلمة، لزم أن يصح التعبير في موضعها بمرادفها.
فإذا صح مثلا أن تقول: إذا تكلم زيد بكذا، لزم أن يصح أن تقول: إذا نطق زيد بكذا، لأنهما مترادفان، لا زيادة لأحدهما على الآخر.
ولا فرق في هذا من جهة المعنى بين كونهما من لغة واحدة، أو من لغتين.
وقيل: لا يلزم من صحة التعبير بأحدهما في موضع، صحة التعبير بالآخر فيه.
وأما استثناء التعبد، فلا معنى له، لأن المراد لزوم صحة الإبدال، من جهة اتحاد المعنى الوضعي لا الإبدال بالفعل.
وفرق بعض، فأوجب ذلك في اللغة الواحدة، ومنعه في لغتين، كالعربية والفارسية. وما ذكرنا في تفسير المسألة من أن الاختلاف في اللزوم هو الظاهر في المعنى، وهو الذي عبر به طائفة كالفخر الرازي رحمه الله سبحانه وتعالى وغيره، ونص الرازي في المحصول: المسألة الثالثة في أنه هل تجب صحة إقامة كل واحد من المترادفين مقام الآخر أم لا؟
الأظهر في أول النظر ذلك، لأن المترادفين لا بد وأن يفيد كل واحد منهما عين فائدة الآخر، فالمعنى لمَّا صح أن ينضم إلى معنى حين ما يكون مدلولا لأحد اللفظين، لا بد وأن يبقى بتلك الصفة، حال كونه مدلولا للفظ الثاني، لأن صحة الضم من عوارض المعاني، لا من عوارض الألفاظ.
والحق أن ذلك غير واجب، لأن صحة الضم قد تكون من عوارض الألفاظ، لأن المعنى الذي يعبر عنه في العربية بلفظ " من " يعبر عنه في الفارسية بلفظ آخر، فإذا قلت
خرجت من الدار استقام الكلام، ولو أبدلت صيغة " من " وحدها بمرادفها من الفارسية لم يجز، فهذا الامتناع ما جاء من قبل المعاني، بل من قبل الألفاظ.
وإذا عقل ذلك في لغتين، فلم لا يجوز مثله في لغة واحدة اهـ
وقد عبر طائفة بالجواز لكن الظاهر أن مرادهم ما ذكر من تعين الجواز، لا مطلق الجواز، ولذلك شرح في الإبهاج كلام صاحب المنهاج عليه.
ولفظ المنهاج: الثالثة: اللفظ يقوم بدل مرادفه من لغته، إذ التركيب يتعلق بالمعنى دون اللفظ.
ونص الإبهاج: هل يجب صحة إقامة كل واحد من المترادفين مكان الآخر، فيه ثلاث مذاهب:
أحدها: أنه غير واجب، قال الإمام رحمه الله سبحانه وتعالى: وهو الحق.
والثاني: أنه واجب، بمعنى أنه يصح مطلقا، وهو اختيار ابن الحاجب رحمه الله سبحانه وتعالى وقال الإمام: إنه الأظهر في أول النظر.
والثالث ـ وهو اختيار المصنف وصفي الدين الهندي رحمهما الله سبحانه وتعالى إن كانا من لغة واحدة صح، وإلا فلا.
أما صحته إذا كانا من لغة واحدة، فلأن المقصود من التركيب إنما هو المعنى، دون اللفظ، فإذا صح المعنى مع أحد اللفظين، وجب أن يصح مع الآخر، لاتحاد معناهما.
وأما عدم صحته إذا كانا من لغتين، فلأن اختلاط اللغتين يستلزم ضم مهمل إلى مستعمل، فإن إحدى اللغتين بالنسبة إلى اللغة الأخرى بمثابة المهمل اهـ
وقد أوقع تعبير بعض أئمة الفن بعبارة غير صريحة ـ اتكالا على وضوح المعنى بالتعين ـ في تصور المسألة على غير وجهها، حيث توهم أن المراد: أنه إذا عبر عن معنى بلفظ، امتنع أن يعبر عنه بمرادفه، وتطرقوا للرواية بالمعنى.
وهذا معنى لا يستقيم، فالرواية بالمعنى في كلام الناس ضرورية الجواز، والخلاف في الحديث الشريف لمعنى يختص به، وتكلم المرء بغير لسانه أيضا معلوم الجواز، لا فرق في ذلك بين الألسن المتفرعة عن لسان واحد، والألسن المختلفة والله سبحانه وتعالى أعلم.
دخول من عجز في الإحرام
…
بما به الدخول في الإسلام
أو نية، أو باللسان يقتدي ..........................
معناه أنه ينبني على الاختلاف المذكور: الاختلاف في العجمي العاجز عن النطق بالتكبير، كيف يدخل الصلاة؟
فقيل: يدخلها بما دخل به الإسلام، لتضمنه التكبير، وقيل: يدخلها بالنية فقط، وقيل يدخلها بما يرادف التكبير من لسانه.
وكثير من هذه الخلافات التي يبنون على هذه الأصول، يكتفون في بنائها عليها بمجرد القابلية، وهذا أمر قريب إن كان لبيان القاعدة وتوضيحها، وإلا فلا يخلو من إشكال.
ولا يخفى تعذر انبناء القول بدخوله بما دخل به في الإسلام، على مسألة المترادفين، وأيضا قد سبق استثناء الألفاظ التعبدية، وتكبيرة الإحرام منها، ولو كانت غير تعبدية لصح إبدالها بمرادفها من العربية، وقد قال سيدي خليل رحمه الله سبحانه وتعالى: وإنما يجزئ ألله أكبر.
ونقل بعض الشروح عن الرجراجي، أنه بنى هذا الخلاف على خلاف آخر، وهو الاختلاف في اشتمال القرآن الكريم على ألفاظ أعجمية، فمن منع ذلك، منع الإحرام بالأعجمي، بل مقتضى ما ذكره منع تسمية الله سبحانه وتعالى بالعجمية مطلقا، وأغلظ في ذلك كثيرا، بما لا خفاء في غرابته.
ومقتضى ما ساق من علة المانع، جواز الإحرام بالمرادف من العربية، مع أنه بنى الخلاف على ذلك أيضا، وكل ذلك مشكل.
والخلف في التركيب لا في المفرد
تقدم في بيان المسألة، أن المراد، أن الترادف، اختلف هل يستلزم صحة إطلاق كل من الرديفين مكان الآخر، فمتى صح التعبير بأحدهما في موضع، صح التعبير بالآخر، فالترادف تطابق اللفظين على وجه تام، بحيث لا يمكن استعمال أحدهما في تركيب، إلا صح استعمال الآخر فيه، أو الترادف لا يستلزم ذلك، فقد يصح التعبير بأحدهما في موضع، لا يصح فيه التعبير بالآخر، بأن يكون في أحدهما إشعار في تركيب معين، بمعنى لا يشعر به
الآخر فيه.
وأما التعبير في حكاية كلام ـ مثلا ـ عن كلمة بمرافها فلا يختلف في جوازه بحسب الأصل، لا لغة ولا شرعا.
وإذا علمت ذلك، فلا داعي لذكر تقييد الخلاف بالتركيب، إذ لا تصور للمسألة إلا في التركيب.
إبدال قرأن بالاعجمي
…
جوازه ليس بمذهبي
معناه أن إبدال القرآن بالأعجمي، بأن يقرأ مكانه بتفسيره من الفارسية ـ مثلا ـ لا يجوز، خلافا للأحناف عند العجز، على تفصيل عنهم في ذلك.
بل لا يجوز عندنا إبداله أصلا لا بالعجمي ولا بالعربي، ونقل بعض الشروح عن الأحناف هنا أصلا غريبا، شديد النكارة.
فصل في المشترك
المشترك هو: اللفظ الموضوع لحقيقتين مختلفتين، أو أكثر، وضعا أولا، من حيث هما كذلك.
فخرج بكونه موضوعا لحقيقتين: ما يدل على الشيء بالحقيقة، وعلى غيره بالمجاز. وخرج بقيد الحيثية: المتواطئ، فإنه يتناول الماهيات المختلفة، لكن لا من حيث هي كذلك، بل من حيث إنها مشتركة في معنى واحد.
ومذهب الأكثرين أنه جائز، وواقع مطلقا، في الوحي وغيره.
وذهب قوم إلى منعه مطلقا، لما يترتب عليه من اللبس في المعنى.
وأجيب بمنع اللبس غالبا، إذ لا يكاد يتجرد عن قرينة، دالة على إرادة أحد معانيه على وجه الخصوص، وإن لم تصحبه قرينة حمل على الجميع.
وذهب قوم إلى الفرق بين الوحي وغيره، فمنعوه في الوحي، وأجازوه في غيره.
وعللوا بأنه لو وقع في الوحي، فإما أن يكون مع بيان، فيؤدي إلى التطويل بلا فائدة، أو دونه، فيكون خطابا بما لا يعرف المراد منه.
وأجيب بأن البيان لا يستلزم التطويل، فقولك: زكاة العين، إضافة الزكاة فيه إلى العين،
قرينة صريحة في أن المراد بالعين: النقد من غير تطويل، وهكذا.
مع عدم تسليم خلو التطويل من فائدة، فالبيان بعد الإجمال مقصد بلاغي معروف، فهو أبلغ في ثبوت المعنى، وأقوى في البيان، فإذا اقتضاه المقام كان راجحا على الاختصار.
وإلى هذا أشار الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
في رأي الاكثر وقوع المشترك
…
وثالث للمنع في الوحي سلك
وأشار بقوله:
إطلاقه في معنييه مثلا
…
مجازا أو ضدا أجاز النبلا
إلى أن استعمال اللفظ المشترك في جميع معنييه، أو معانيه، في وقت واحد، من متكلم واحد، جائز عند الإمام الشافعي، والقاضي أبي بكر ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى والجمهور.
كأن تقول: اشتريت كذا بالنقد، تعني أنك اشتريته بالعين على الحلول.
واحتجوا بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض) إلى قوله جل من قائل سبحانه وتعالى: (وكثير من الناس) وذهب أبو هاشم، وأبو الحسن البصري، والكرخي، إلى امتناعه.
وقيل: يجوز بمجرد القصد، لا من حيث اللغة، ونسب للغزالي والرازي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى.
وقيل: يجوز في النفي، ولا يجوز في الإثبات، فتقول ـ مثلا ـ: ما رأيت عينا، تريد العين الباصرة، والعين الجارية، وعين النقد، ولا يجوز أن تقول: رأيت عينا، وأنت تريد أكثر من معنى.
وقيل: يجوز في الجمع نحو عندي عيون، ولا يجوز في الإفراد.
واختلف فيه على رأي الأولين، هل هو حقيقة، وهو منسوب للإمام الشافعي، والقاضي أبي بكر ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى لأنه موضوع لكل منهما.
وأورد عليه أنه إنما وضع لكل واحد على حدته، والشيء مع غيره غيره، لا مع غيره. وقيل: مجاز، لأنه استعمال له في غير ما وضع له، واختاره ابن الحاجب، والسبكي ـ رحمهما
الله سبحانه وتعالى واستشكل من جهة العلاقة.
إن يخل عن قرينة فمجمل
…
وبعضهم على الجميع يحمل
معناه أن المشترك إذا تجرد عن القرينة المبينة للمقصود منه، كان مجملا، فيتوقف عنه إلى البيان.
وقال الشافعي رحمه الله سبحانه وتعالى يحمل على الجميع، لظهوره في الجميع، لوضعه لكل، وعدم قرينة إرادة بعض.
وروي عن القاضي أبي بكر رحمه الله سبحانه وتعالى أنه يحمل على الجميع احتياطا، وأورد أن الاحتياط قد لا يقع بالحمل على الجميع.
وقيل لم يجزه نهج العُرْب
…
وقيل بالمنع لضد السلب
أشار بهذا إلى قولين من الأقوال التي ذكرنا سابقا، في استعمال المشترك في معنييه، أو معانيه، وهما:
القول بمنع ذلك لغة، لأن العرب إنما استعملته في كل واحد من معانيه على حدته. والقول بمنعه في سياق الإثبات، ويلزم القائل به القول بالجواز في الاقتران بأدوات العموم كلها.
وفي المجازين أو المجاز
…
وضده الإطلاق ذو جواز
معناه أن استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معا، أو مجازيه معا، أو مجازاته معا، جائز، كقولك: لا أشتري، تريد عدم شرائك، وعدم سومك، وعدم شراء وكيلك أو غلامك. وذلك حيث قامت القرينة على إرادة ذلك كله، أو تساوى الاستعمال في الجميع، ولم يكن ثم مرجح لبعضها، ولم تتناف، كالأمر في التهديد والتخيير.
قال في النشر: ومحل الخلاف حيث ساوى المجاز الحقيقة في الشهرة، وإلا امتنع الإطلاق عليه معها قطعا.
ونقل في الحلي عن العطار اشتراط ذلك في الحمل، ولعل غيره وهم.
واختلف في اللفظ المستعمل في حقيقته ومجازه، هل هو مجاز؟ أو حقيقة ومجاز باعتبارين؟
فصل في الحقيقة
قال في النشر: الحقيقة من حق الشيء يحق بالكسر والضم، بمعنى: ثبت، ووجب، فهي فعيل بمعنى فاعل، أو بمعنى مفعول، من حققته: أثبته، نقل إلى الكلمة الثابتة - أو المثبتة - في مكانها الأصلي، والتاء في الحقيقة عند صاحب المفتاح للتأنيث، وعند الجمهور للنقل من الوصفية إلى الاسمية، فهي علامة للفرعية، كما أن المؤنث فرع المذكر اهـ
والحقيقة هي: اللفظ المستعمل في ما وضع له، في اصطلاح التخاطب.
فخرج باللفظ: غيره من الدوال.
وخرج بقولنا: المستعمل في ما وضع له: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، كاستعمال الحمار في البليد، فهو مجاز.
وخرج بقولنا: في اصطلاح التخاطب: اللفظ المستعمل في ما وضع له في غير اصطلاح التخاطب، كإطلاق الصلاة في الدعاء، إذا كان التخاطب باصطلاح الشرع. وتنقسم الحقيقة إلى لغوية، وعرفية، وشرعية، ولا خلاف في ثبوت اللغوية والعرفية.
واختلف في ثبوت الشرعية، والمراد بها: اللفظ المستعمل في ما وضع له بوضع الشارع، لا بوضع أهل الشرع، والمعول ثبوتها، وذلك كالصلاة الموضوعة شرعا للأذكار والأفعال المخصوصة على النظام المخصوص، والصوم الموضوع شرعا لإمساك مخصوص، في وقت مخصوص، عن أشياء مخصوصة.
وقال المانعون: إن هذه الألفاظ مستعملة في معانيها اللغوية، لكن اشترط الشرع فيها شروطا.
ورد بالإجماع على ركنية الركوع، والسجود ـ مثلا ـ في الصلاة.
وبأن ما ذكر يستلزم جعل الأكثر شروطا، والأقل مشروطا، وهو خلاف المعهود. وتنقسم الحقيقة الشرعية إلى منقولة ومرتجلة.
فالمنقولة هي: التي سبق لها استعمال، كالصلاة، والزكاة، والحج.
والمرتجلة هي: التي لم يسبق لها استعمال.
ومثل لها بعض شروح المراقي بالحروف المقطعة في أوائل السور، عند من جعلها أسماء للسور، أو أسماء للقرآن.
والأوجه أنها على القول بذلك، حقيقة شرعية منقولة، لا مرتجلة، فهي كالصلاة، سواء.
فهذه الألفاظ معروفة قبل التسمية، لبعض ما جعلت اسما له.
والتسمية بها شبيهة بالتسمية بالبقرة، وآل عمران.
ومنهم من نفى المرتجلة خاصة، وهو أمر موقوف على الاستقراء.
نعم حكي عن بعضهم أنه قال بابتداء الحقائق الشرعية كلها، وأن التسمية بها لم تقع للمناسبة بين معانيها المعروفة عند العرب، وبين مسمياتها الشرعية، وعليه فالحقائق الشرعية ليس فيها ما هو منقول أصلا، وليس ببين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والخلف في الجواز والوقوع
…
لها من المأثور والمسموع
أشار بهذا إلى ما أسلفنا من الاختلاف في جواز الحقيقة الشرعية، وإلى اختلاف القائلين بجوازها في وقوعها.
والمعول أنها جائزة، وواقعة، كما تقدم تمثيله.
وحجته تبادر المعنى الشرعي عند الإطلاق في الشرع، كحديث " الصوم جنة "
(1)
" والصلاة نور "
(2)
والتبادر هو برهان الحقيقة.
واحتج المانع بأن بين المعاني والألفاظ مناسبة مانعة من النقل.
ويلزم القائل به نفي الحقيقة العرفية أيضا.
وهذا القول منسوب للمعتزلة، والقول بالجواز مع عدم الوقوع منسوب للقاضي أبي بكر، وابن القشيري ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى وآخرين.
وما أفاد لاسمه النبي
…
لا الوضع مطلقا هو الشرعي
صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم.
(1)
رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والدارمي، والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
(2)
رواه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والدارمي، والإمام أحمد.
أراد بهذا ما أسلفنا من أن الحقيقة الشرعية، هي اللفظ الذي استفيد من الشرع وضعه للمعنى، وإن كان ظاهر اللفظ أن المراد المسمى، وذلك كالصلاة، فاسميتها للعمل المخصوص، المركب من التكبير، والقراءة، والركوع، والسجود وغيرها، لم تعلم إلا من الشرع، وهكذا.
والحقيقة العرفية هي: اللفظ الذي نقله العرف إلى بعض ما وضع له لغة.
وينقسم إلى عام، وهو ما لا ينسب لمعين، كالعرف في بعض البلاد باختصاص الدابة بالحمار.
وخاص، وهو ما ينسب لمعين، كعرف النحاة في الفاعل والمفعول.
وربما أطلق في المأذون
…
كالشرب والعشاء والعيدين
أشار بهذا إلى أن لفظ الشرعي، يطلق في غير المنهي عنه، وهو المباح، ومثل له بالشرب، كشرب الحائض في رمضان، والمندوب، ومثل له بالعيدين، فيقال: صلاة العيدين مشروعة، والواجب، ومثل له بصلاة العشاء، فيقال: صلاة العشاء مشروعة.
فصل في المجاز
المجاز: مفعل للمكان من جاز جوازا، إذا مر، وهو في الاصطلاح: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، في اصطلاح التخاطب لعلاقة بين المعنيين، مع قرينة صارفة عن إرادة معناه الحقيقي، وهو أنواع:
نوع مجمع على جوازه.
ونوع مجمع على منعه.
ونوع مختلف فيه.
أما المجمع على جوازه، فهو ما كان المحمل فيه متحدا، بحيث لا يمكن قصد غير المراد، وكانت العلاقة فيه بين المعنى الأصلي، والمعنى المراد ظاهرة، وذلك كقولك: رأيت أسدا يرمي.
فالمقصود بالأسد هنا: الرجل الشجاع، ولا يحتمل غيره، والعلاقة بين المعنى الموضوع له
الذي هو السبع، والمعنى المقصود الذي هو الرجل الشجاع ـ وهي الشجاعة ـ ظاهرة ..
وما حكي من الخلاف في هذا النوع، ضعيف بين الضعف، فليس بحيث يعتد به.
وما عول عليه في نثر الورود من منعه في القرآن الكريم، بحجة جواز نفيه، ليس بشيء، فنفيه إنما يكون باعتبار معنى غير المعنى المراد، وليس فيه محذور، وقد تنفى الحقيقة ليدل على أبلغية المعنى المجازي في المعنى الذي وضع له لفظها، كما في آية (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) وكما في حديث " ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب "
(1)
وحديث " أتدرون من المفلس؟
(2)
وغيرهما كثير.
…
وأما المجمع على منعه، فهو ما لا يفيد المقصود، لكونه معقدا، بأن يقصد المتكلم باللفظ لازما من لوازم المعنى الأصلي لا يقصد به عادة، فيتعذر الانتقال من المعنى الأصلي إليه، لعدم عهد اتخاذه واسطة في الإطلاق، فيترتب على ذلك خفاء المقصود، لخفاء العلاقة، وذلك كأن تقول: زيد حمار، تريد أنه رمادي اللون ـ مثلا ـ فالحمار - وإن كان رمادي اللون – إلا أنه إنما تعهد استعارته للرجل بعلاقة البلادة، واستعارته له بعلاقة رمادية اللون غير معهودة.
وأما النوع المختلف فيه، فهو ما تقدم من حمل اللفظ على حقيقته ومجازه، وحمل المشترك على أكثر من معنى.
وإلى هذا أشار الناظم رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
ومنه جائز، وما قد منعوا
…
وكل واحد عليه أجمعوا
ما ذا اتحاد فيه جاء المحمل
…
وللعلاقة ظهور أول
ثانيهما ما ليس بالمفيد
…
لمنع الانتقال بالتعقيد
ثم قال الناظم رحمه الله سبحانه وتعالى:
وحيث ما استحال الاصل ينتقل
…
إلى المجاز أو لأقرب حصل
معناه أنه إذا امتنع حمل اللفظ على حقيقته عقلا، أو عادة، أو شرعا، حمل على
(1)
متفق عليه.
(2)
رواه مسلم، والترمذي، والإمام أحمد.
مجازه إن كان له مجاز واحد، وإن تعددت مجازاته، حمل على أقربها إلى حقيقته، فالأقرب مع الأبعد كالأقرب مع الحقيقة.
أولها: كما تقدم من قولك: رأيت أسدا يرمي.
والثاني: كقولك: أكل زيد النخلة، فالنخلة حقيقة: الجذع ونحوه مما يعلم أنه لا يؤكل، فيعلم أنه غير مراد، فينتقل إلى المجاز، والمجاز متعدد، إذ يحتمل قصد الثمرة، ويحتمل قصد الثمن، فيصار إلى الأقرب الذي هو أكل الثمرة.
ونقلت عن الشافعية المخالفة في هذا الأصل، ونوزع في ذلك أيضا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فإذا استوى استعماله في مجازاته فهي مسألة:
وفي المجازين أو المجاز
…
وضده الإطلاق ذو جواز
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وليس بالغالب في اللغات
…
والخلف فيه لابن جني آت
معناه أن المجاز ليس غالبا في اللغة على الحقيقة، خلافا لابن جني رحمه الله سبحانه وتعالى حيث قال إن استعمال كل لفظ مجازا مقرونا بالقرينة، أكثر من استعماله في حقيقته بالاستقراء، وله وجه.
وظاهر الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى أن مراده باللغات - بالجمع - الألفاظ، لا اللغات بالمعنى المتبادر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وبعد تخصيص مجاز فيلي
…
الاضمار، فالنقل على المعول
فالاشتراك، بعده النسخ جرى
…
لكونه يحتاط فيه أكثرا
قوله: وبعد تخصيص مجاز، أشار به إلى أن التخصيص مقدم على المجاز عند احتمال اللفظ لهما، وذلك لوجهين:
أحدهما: أن اللفظ يبقى في حمله على التخصيص في بعض الحقيقة.
قال في شرح التنقيح: كلفظ المشركين إذا بقي في الحربيين، وخرج غيرهم، والحربيون هم بعض المشركين، فهو مجاز أقرب للحقيقة.
الثاني: أن البعض إذا خرج بالتخصيص، بقي اللفظ مستصحبا في الباقي من غير احتياج إلى قرينة، وهذان الوجهان لا يوجدان في غير التخصيص، قاله القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى في شرح التنقيح.
ومثل لاحتمال اللفظ لهما بقوله سبحانه وتعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله) قال: يقول الشافعي: الأمر للوجوب، فتجب العمرة.
يقول المالكي: تخصيص النص بالحج والعمرة المشروع فيهما، لأن استعمال الإتمام في الابتداء مجاز اهـ.
وانظر هذا، فحمل الإتمام على المشروع فيه، ليس تخصيصا بالمعنى الاصطلاحي. ومثل له في النشر بقوله سبحانه وتعالى:(ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) فقال رحمه الله سبحانه وتعالى: خص عند الإمام مالك والإمام أبي حنيفة ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى الناسي للتسمية، فتؤكل ذبيحته، وحمله بعضهم على المجاز، أي: مما لم يذبح اهـ
ويقدم المجاز على الإضمار، لأنه أكثر منه في الكلام، والكثرة تدل على الرجحان، ولأن الإضمار يحتاج إلى ثلاث قرائن:
قرينة تدل على أصل الإضمار.
وقرينة تدل على موضع الإضمار.
وقرينة تدل على نفس المضمر.
بخلاف المجاز، فإنه إنما يحتاج لقرينة واحدة.
وقال الإمام فخر الدين رحمه الله سبحانه وتعالى في المحصول: هما سواء، لأن كل واحد محتاج للقرينة، نقله في شرح التنقيح.
ومثال احتمال اللفظ لهما قوله سبحانه وتعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) الآية الكريمة.
قال في شرح التنقيح: يقول المالكي والشافعي: تقديره إذا قمتم محدثين، ولولا هذا الإضمار، لكان الأمر بالطهارة بعد الصلاة.
يقول السائل: هذا المحذور يزول بجعل القيام مجازا عبر به عن إرادة القيام.
وإذا قدم المجاز على الإضمار، قدم عليه التخصيص، لما سبق من أرجحيته على المجاز.
ويقدم الإضمار على النقل، لما فيه من تغيير الوضع، بخلاف الإضمار.
ومثال تعارضهما: قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (وحرم الربا)
يقول الحنفي: في الكلام إضمار، والأصل: وحرم أخذ الربا، وهو الزيادة، كما في درهم بدرهمين، فإذا أسقطت الزيادة صح البيع، وارتفع الإثم.
ويقول غيره: الربا وإن كان في الأصل الزيادة، إلا أنه نقل إلى العقد، فهو فاسد، وإن أسقطت الزيادة.
وإذا قدم الإضمار على النقل، قدم عليه ما تقدم أنه مقدم على الإضمار من التخصيص والمجاز.
ويقدم النقل على الاشتراك، لأن اللفظ في النقل لحقيقة واحدة مفردة في جميع الأوقات، والمشترك مشترك في الأوقات كلها.
وقيل: يقدم المشترك، إذ لا نسخ فيه لوضع سابق، ولأنه أكثر في الكلام من المنقول، بل قيل: إن الاشتراك يقدم على الإضمار، لاحتياج الإضمار إلى ثلاث قرائن.
ومثال احتمال الاشتراك والنقل: قوله ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ: " طهر إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات "
(1)
يقول الشافعي: الطهارة في عرف الشرع: منقولة إلى إزالة الحدث أو الخبث، ولا حدث، فيتعين الخبث.
يقول المالكي: الطهارة لفظها مشترك في اللغة بين إزالة الأقذار، والغسل على وجه التقرب إلى الله سبحانه وتعالى لأنه مستعمل فيهما حقيقة إجماعا، والأصل عدم التغيير.
ويقدم الاشتراك على النسخ، لأن النسخ إبطال للحكم بعد إرادته، فلا يصار إليه ما أمكن البقاء.
(1)
رواه الإمام أحمد بإسناد على شرط الشيخين.
ومثاله: ما لو قيل في حديث النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع،
(1)
مع آية الأنعام: إن النهي مشترك بين الحرمة والكراهة، فيكون الجمع بينه وبين الآية الكريمة ممكنا، وإعمال الدليلين أولى من إهمالنا.
بخلاف ما لو قلنا: إن النهي حقيقة في الحرمة خاصة، فيكون ناسخا، وهذا فرض مثال فقط.
ومثل له بعضهم بما لو قال صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: صلوا وقت كذا، ثم أمر بالطواف في ذلك الوقت، فعلى أن الطواف مشترك بين معناه المعروف، وبين الصلاة، فلا تعارض، وعلى أنه مفرد، يكون الأمر الثاني ناسخا.
أما ما قاله في نثر الورود هنا من أن ذلك لا يتصور إلا في الاشتراك بين معنيين متضادين، فمراده به ـ على ما يظهر ـ: أن الاشتراك إذا كان بين معنيين متخالفين، لا يقع التقابل بينه وبين النسخ، لعدم التضاد، فنسبة كل من معنييه لمعنى النص المقابل سواء، فالتقابل إنما يقع بينهما إذا كان الاشتراك المحتمل بين معنيين متضادين، لأن معنى اللفظ على تقدير الإفراد، إذا لم يكن ضد معناه الاخر على تقدير الاشتراك، لم يرتفع بالحمل عليه التعارض المقتضي للمصير إلى النسخ.
وهذا غير بين، فإن التعارض المقتضي للقول بالنسخ، يرتفع بالحمل على معنى مخالف، وبيان ذلك بالمثال: أنا لو افترضنا نصا بعدم الاعتداد بالقروء، أمكن الجمع بينه وبين النص الوارد بالاعتداد بالقروء، بحمل القرء على الاشتراك بين معنيين متخالفين، بأن يقال: القرء مشترك بين الشهور مثلا والحيض، والمراد في الإثبات مثلا الحيض، وفي النفي الشهور، وهكذا أيضا إذا حملناه على الاشتراك بين معنيين متضادين، وقلنا المراد في الإثبات أحدهما، وفي النفي غيره، فلا تعارض، فلا نسخ.
وهذا وهم سرى له من تضاد الناسخ والمنسوخ كما ذكره، والتضاد في النسخ لا يستلزم التضاد بين متعلق المنسوخ وبدله.
وأما حمل كلامه على عدم تعدد النص، وأن اللفظ إن حمل على الاشتراك كان ناسخا
(1)
متفق عليه.
لنفسه، فهذا أمر لا يمكن أن يقصده عامي فدم، فكيف بمثل هذا الشيخ الجليل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما ما استشكله من تقديم المجاز على الإضمار، وتقديم الإضمار على النقل، فغير بين، فالمراد بالمجاز ما لا يعم النقل بدليل المقابلة، ووجه الترتيب بينهما، ما تقدم، ووجه تأخير الإضمار ما تقدم أيضا من توقفه على قرائن متعددة، مع أنه أقل في الكلام بكثير من المجاز والنقل.
وأما ما ذكره من أن المجاز نسخ للمعنى الأصلي فليس ببين، بل هو استعمال عارض للفظ في غير حقيقته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وحيث ما قصد المجاز قد غلب
…
تعيينه لدى القرافي منتخب
ومذهب النعمان عكس ما مضى
…
والقول بالإجمال فيه مرتضى
معناه أن اللفظ إذا دار بين الحقيقة المرجوحة، والمجاز الراجح، لغلبة استعمال اللفظ فيه على استعماله في حقيقته، تعين عند أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى حمله على المجاز، لرجحانه بغلبة الاستعمال فيه، واختاره القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى.
وذهب أبو حنيفة رحمه الله سبحانه وتعالى إلى أنه يحمل على حقيقته لأصالتها، ولا يحمل على المجاز إلا بقرينة خاصة أو نية.
وذهب الإمام الرازي والتاج السبكي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى إلى أنه يكون مجملا، لترجح كل من وجه.
وانظر نقل القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى لهذه المسألة مع قوله في التنقيح: كل مجاز راجح منقول، فمقتضى ذلك أن الدوران بين المجاز الراجح والحقيقة، هو عين الدوران بين الحقائق المختلفة
(1)
.
(1)
وسيأتي ذلك إن شاء الله سبحانه وتعالى في قوله رحمه الله سبحانه وتعالى:
واللفظ محمول على الشرعي
…
إن لم يكن فمطلق العرفي
إلخ.
وما ذكره من أن كل مجاز راجح منقول، أبين، فأعظم أمارات الحقيقة التبادر، والمعروف في المنقول أيضا بقاء استعماله في المنقول عنه، عكس ما يدعي القائل بالفرق بين المجاز الراجح، والحقيقة العرفية، وذلك كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم)
(1)
أجمع إن حقيقة تمات
…
على التقدم له الأثبات
معناه أن حقيقة اللفظ إذا أميتت، بحيث صار لا يستعمل فيها جملة، حمل على مجازه باتفاق، ومثلوا لذلك بالحلف عن الأكل من النخلة، فيحنث بالأكل من ثمرها، فالنخلة لا تستعمل في مثل هذا السياق في حقيقتها التي هي الجذع.
وعلى هذا فالمراد بإماتتها: انتصاب القرينة القاطعة على عدم إرادتها، خلاف ما يتبادر من اللفظ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والحاصل أن أحوال اللفظ من حيث الحمل على الحقيقة أو المجاز أربعة، لأن الحقيقة إما أن تكون أكثر في الاستعمال، كما هو الأصل أو تكون مساوية، فتقدم على المجاز في الوجهين، حيث لا قرينة على إرادته، أو تكون مرجوحة، وهي مسألة أبي يوسف وأبي حنيفة ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى أو تكون مماتة فيقدم المجاز قولا واحدا.
وهو حقيقة أو المجاز
…
وباعتبارين يجي المجاز
معناه أن اللفظ المستعمل في معنى، يكون حقيقة، كالأسد في السبع.
ومجازا، كالأسد في الرجل الشجاع.
وحقيقة ومجازا باعتبارين، كالصلاة فهي حقيقة شرعا في الأفعال المعروفة، مجاز في الدعاء، وهي لغة على عكس ذلك، فهي حقيقة في الدعاء، مجاز في العبادة المخصوصة، ولا يمكن أن يكون حقيقة ومجازا باعتبار واحد، لأنهما وصفان متناقضان.
وحصر اللفظ في ما ذكر بناء على أن الكناية حقيقة، أو مجاز، وأما على القول بكونها واسطة، فلا ينحصر في الثلاثة كما نبه عليه في نثر الورود.
(1)
فقد ذكرت في الآية الكريمة الطهارة والزكاة والصلاة مستعملة ـ في ما يظهر ـ في معانيها اللغوية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
واللفظ محمول على الشرعي
…
إن لم يكن فمطلق العرفي
فاللغوي على الجلي .......... ...........................
اللفظ يحمل على حقيقته في عرف المتكلم به، فإذا قامت القرينة على عدم إرادته، حمل على أقرب حقائقه في غير عرفه، فهو أقرب مجازاته في استعماله.
فإذا كان اللفظ شرعيا، حمل على المعنى الشرعي، فإذا قامت القرينة على عدم إرادته حمل حقيقته العرفية، لأنه أقرب مجازاته، والمراد بالعرف العرف وقت الخطاب، كما سيأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى في مبحث المخصص المنفصل.
وإذا قامت القرينة على عدم إرادته، حمل حقيقته اللغوية.
وقوله: فمطلق العرفي، أشار به إلى أن لا فرق في العرف بين العرف العام، والعرف الخاص، ولا بين العرف القولي والعرف الفعلي، كذا قالوا، ولا معنى لذكر العرف الخاص، فهو عين الشرعي، وسيأتي الكلام ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى على الحمل على العرف في مبحث المخصص المنفصل.
وقوله: على الجلي، أشار به إلى قول من قال بتقديم الحقيقة اللغوية، على الحقيقة العرفية، وقول من قال بتأخير الحقيقة الشرعية، قال: كما فعل سيدي خليل رحمه الله سبحانه وتعالى في مختصره، إلا أن موضوع كلام سيدي خليل رحمه الله سبحانه وتعالى لفظ المكلف لا اللفظ الشرعي، وقد تكلم على ذلك سيدي كنون رحمه الله سبحانه وتعالى.
نعم قول من قال بتقديم الحقيقة الشرعية، في موضوع سيدي خليل رحمه الله سبحانه وتعالى على الحقيقة اللغوية، عند التجرد عن القرائن، أبين، فهي أجرى في كلام عوام المسلمين، أو ـ على ما أعلم ـ في بلادنا من الحقيقة اللغوية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولم يجب
…
بحث عن المجاز في الذي انتخب
كذاك ما قابل ذا اعتلال
…
من التأصل والاستقلال
ومن تأسس عموم وبقا
…
الافراد والإطلاق مما ينتقى
كذاك ترتيب لإيجاب العمل
…
بما له الرجحان مما يحتمل
قوله: ولم يجب بحث عن المجاز فى الذي انتخب، معناه أن المختار جواز حمل اللفظ على معناه الحقيقي، قبل البحث هل هو مستعمل في مجازه أوحقيقته؟
لأن الأصل عدم المجاز بلا قرينة، وقد نسبه في النشر للفهري ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى قال: وذكر القرافي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى أنه لا يصح التمسك بالحقيقة إلا بعد الفحص عن المجاز، كالعام مع المخصص، وكذا كل دليل مع معارضه اهـ.
وقد نقل الغزالي، والآمدي، وابن الحاجب رحمهم الله سبحانه وتعالى الإجماع على منع العمل بالعام قبل البحث عن المخصص، واختلفوا في قدر البحث، والأكثرون إلى أن يغلب على الظن عدمه، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني رحمه الله سبحانه وتعالى حتى يقطع بذلك، وهو ضعيف، قاله في إرشاد الفحول.
قوله: كذاك ما قابل ذا اعتلال، التشبيه على ما تقدم، من تقديم الشرعي في ألفاظ الشارع، ثم العرفي، ثم اللغوي.
فكما يقدم الشرعي إذا احتمل اللفظ أكثر من معنى، فكذلك يقدم التأصل على الزيادة، إذا كان اللفظ محتملا لهما، عملا بالأصل، وهكذا في بقية المذكورات.
ومثلوا لدوران اللفظ بين احتمال التأكيد، واحتمال الزيادة، بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(لا أقسم) فلا، يحتمل أن تكون زائدة، ويحتمل أن تكون نافية، كقول الشاعر:
فلا وأبيك ابنت العامر
…
يِّ لا يدعي القوم أني أفر
وكذلك يقدم الاستقلال، على الإضمار، ومثلوا لذلك بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل في حد الحرابة:(أن يُقتَّلوا أو يُصلَّبوا) فمن أهل العلم كالشافعية من قال فيه إضمار، والتقدير أن يقتلوا إن قتلوا، أو تقطع أيديهم إن سرقوا.
وقال المالكية: الأصل عدم الإضمار، فيخير السلطان بين هذه الخلال، بحسب اجتهاده، وذلك بحسب حال المحارب، وما تقتضيه المصلحة فيه.
ويقدم التأسيس على التأكيد، ومثلوا لذلك بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(ويل يومئذ للمكذبين) المتكرر في سورة المرسلات، فهل يحمل ما بعد أولها على التأكيد له، أو يحمل كل لفظ منها على تكذيب آخر، غير ما قبله.
ويقدم العموم على الخصوص، ومثلوا له بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(وأن تجمعوا بين الأختين) فإنه يحتمل أن يكون عاما في الجمع بالملك والنكاح، وأن يكون خاصا في الجمع بالنكاح.
وما في النشر من التقييد بكون ذلك قبل البحث عن المخصص، يظهر أنه محرف، أو سبق قلم، وأن الأصل، أو المقصود ' بعد البحث عن المخصص ' وذلك لما سبق من حكاية الغزالي، والآمدي، وابن الحاجب رحمهم الله سبحانه وتعالى الإجماع على منع العمل بالعام قبل البحث عن المخصص، فحمله على عمومه إنما هو بعد البحث، وعدم ثبوت التخصيص، سواء كان هناك نص آخر يحتمل أن يكون مخصصا، أو احتمل أن يكون المراد به الخصوص، لوروده على سبب معين، أو نحو ذلك، مما يكون معه خصوص العام محتملا.
وما في نثر الورود من استشكال المقابلة، منشؤه توهم اطراد مرجوحية احتمال التخصيص، وليس كذلك، فقد يكون احتماله مساويا لاحتمال العموم، كما يقع في بعض قضايا الأعيان كثيرا، وكما يقع في سياق بعض العمومات، حيث يؤذن إيذانا قويا باختصاص الحكم ببعض أفراد العام، وغير ذلك، وسيأتي الكلام على التخصيص بالسياق والقرائن، في الكلام على العام الوارد على سبب ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وما قيل في العام مع المخصص، يقال أيضا في الحقيقة مع المجاز، والإطلاق مع التقييد، والنسخ مع البقاء، وغيرها، ولا يمكن أن يقال في الاحتمالين المتساويين إنه لا تقابل بينهما، ولا وجه لتخصيص الثلاثة التي خصها بالاستشكال، بل غيرها من المذكورات، أولى بالإشكال، لأنها أندر من الثلاثة بكثير، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإلى مسألة تقديم العموم أشار الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: عموم.
والآية التي مثلوا بها للمسألة، سيأتي أنها مع آية ملك اليمين من العامين الذين بينهما عموم وخصوص، ومثل ذلك لا يصح فيه القول بتقديم العموم، لأن كلا من النصين عام، في صورة التعارض، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ويقدم أيضا البقاء على النسخ، وذلك كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (وإذا
حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) قيل: أمر استحباب للبالغين، وقيل: أمر وجوب كان في صدر الإسلام ثم نسخ، وذلك هو قوله: وبقا.
ويقدم أيضا الإفراد على الاشتراك، ومثلوا لذلك بلفظ النكاح، فقد قيل إنه حقيقة في الوطء، مجاز في العقد الذي هو سببه، وقيل: هو مشترك بينهما.
ويقدم أيضا الإطلاق على التقييد، ومثال ذلك: الصيام في كفارة اليمين، منهم من أوجب متابعته، حملا على كفارتي الظهار والقتل، ومنهم من لم يوجب تتابعه.
والظاهر أن الآية التي مثلوا بها من قبيل العام،
(1)
لا من قبيل المطلق، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإلى هذه المسألة الإشارة بقول الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى: والإطلاق.
ويقدم أيضا الترتيب على التقديم والتأخير، ومثلوا لذلك بقوله سبحانه جل من قائل:(والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) الآية الكريمة.
قال في النشر: ظاهرها أن الكفارة لا تجب إلا بالظهار والعود معا، وقيل: فيها تقديم وتأخير، تقديره: والذين يظهرون من نسائهم فتحرير رقبة، ثم يعودون لما قالوا قبل الظهار، سالمين من الإثم بسبب الكفارة، وعلى هذا لا يكون العود شرطا في كفارة الظهار اهـ
والشأن لا يعترض المثال
…
إذ قد كفى الفرض والاحتمال
وإلا فحمل العود على المجاز أقرب من هذا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن يجي الدليل للخلاف
…
فقدمنَّه بلا اختلاف
معناه أن محل ما ذكر من تقديم حقيقة اللفظ، التي هي معناه الشرعي، وتقديم التأصل على الزيادة، والاستقلال على الإضمار، والتأسيس على التأكيد، والعموم على التخصيص، والبقاء على النسخ، والإفراد على الاشتراك، والإطلاق على التقييد، والترتيب على التقديم والتأخير، ما لم يقم الدليل على خلاف ذلك، كما هو بين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وبالتبادر يُرى الأصيل
…
إن لم يك الدليل لا الدخيل
(1)
يعني قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (لئن أشركت ليحبطنَّ عملك) الآية الكريمة.
وعدم النفي والاطراد
…
إن وُسم اللفظ بالانفراد
أشار بهذا إلى ما يعرف به كون اللفظ حقيقة في المعنى.
فذكر في أول البيتين، أن من علامة كون اللفظ حقيقة في المعنى، تبادره منه إلى أفهام أهل اللغة عند سماعه بدون قرينة، فإن كان المعنى المراد لا يفهم منه إلا بالقرينة، فهو المجاز، وذلك هو قوله: لا الدخيل، فمراده به المجاز.
واعترض على هذه العلامة بالمشترك المستعمل في معنييه، أو معانيه، فإنه لا يتبادر أحدهما، أو أحدها، لولا القرينة المعينة للمراد مع أنه حقيقة.
وأجيب بأنها يتبادر جميعها عند من قال بجواز حمل المشترك على جميع معانيه، ويتبادر أحدها لا بعينه عند من منع من حمله على جميع معانيه، ورد بأن علامة المجاز تصدق حينئذ على المشترك المستعمل في المعين، إذ يتبادر غيره، وهو علامة المجاز مع أنه حقيقة فيه.
ودُفع هذا الرد، بأنه إنما يصح ذلك لو تبادر أحدهما لا بعينه على أنه المراد، واللفظ موضوع للقدر المشترك مستعمل فيه، وأما إذا علم أن المراد أحدهما بعينه ـ إذ اللفظ يصلح لهما وهو مستعمل في أحدهما ولا يعلمه ـ فذلك كاف في كون المتبادر غير المجاز، فلا يلزم كونه للمعين مجازا، قاله في إرشاد الفحول.
وأشار بقوله: وعدم النفي، إلى أن من علامات كون اللفظ حقيقة في المعنى، عدم صحة نفيه عنه باعتبار ما في نفس الأمر، فإن صح نفيه عنه في نفس الأمر، فهو مجاز. أولهما: كاستعمال لفظ إنسان في زيد، فهو معنى لا يصح نفيه عنه في نفس الأمر.
والثاني كاستعمال الحمار فيه أيضا، فهو غير حمار في نفس الأمر.
قال في النشر: واعترض على هذه العلامة، بأنه يلزم عليها الدور، لتوقفها على أن المجاز ليس من المعاني الحقيقية، وكونه ليس منها يتوقف على كونه مجازا.
وأجيب بأن المراد صحة النفي بالنسبة إلى من لم يعرف أنه معنى حقيقي لذلك اللفظ اهـ
وأشار بقوله: والاطراد إلخ، إلى أن مما يعرف به أيضا كون اللفظ حقيقة في المعنى، اطراده فيه، بأن يصح إطلاقه في كل المواضع التي يوجد بها ذلك المعنى، مع تعذر العدول
عنه في بعض أفراد المعنى، إلى تعبير حقيقي، إذا لم يكن مشتركا، وذلك لصحة التعبير بكل من الرديفين مكان الآخر.
وهذا ما لم يمنع من الإطلاق مانع، شرعيا كان أو لغويا.
أولهما: كأسماء الله سبحانه وتعالى لأنها توقيفية.
والثاني: كالقارورة، لما تقدم من وضعه لمعين.
ومقتضى هذا توقف الاستدلال بهذه العلامة على استقراء الألفاظ الأخرى التي تستعمل في ذلك المعنى، ومعرفة مجازيتها بعدم اطرادها، وهذا يجب أن يكون علامة بانفراده للحقيقة، وإلا لزم أن يكون كل ما يعبر به عن ذلك المعنى مجاز، وهو خلاف الأصل، وإذا كان كذلك لم يكن الاطراد حجة، وقد صرح بعدم حجيته بعضهم.
والضد بالوقف في الاستعمال
…
وكون الاطلاق على المحال
وواجب القيد وما قد جمعا
…
مخالف الأصل مجازا سمعا
معناه أن اللفظ يعرف كونه مجازا في المعنى، بتوقف إطلاقه فيه، على إطلاقه في نفس الكلام على معنى آخر، وهو المسمى عند أهل البديع بالمشاكلة، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) فإطلاق الاعتداء في الجزاء، متوقف على إطلاقه في نفس الكلام في الظلم، الذي هو المعنى الحقيقي له، بخلاف إطلاقه في الظلم، فإنه غير متوقف على شيء، وهذا هو المراد بقوله: والضد بالوقف في الاستعمال.
ويعرف أيضا، بكون إطلاق اللفظ فيه إطلاقا في ما يستحيل، لامتناع تعلق المعنى به، كقوله سبحانه وتعالى:(واسأل القرية) فالقرية حقيقة في الأبنية، وسؤالها معلوم الامتناع، إذ لا يسأل من لا يتوقع منه الفهم والإجابة، وذلك قرينة على أن المراد أهلها، وهذا هو المراد بقوله: وكون الاطلاق على المحال.
ويعرف كذلك، بوجوب تقييد اللفظ عند استعماله فيه، كنور العلم، فالانكشاف والاهتداء الحاصل بالعلم، لا يمكن أن يستعمل فيه النور مطلقا، بخلاف النور الحسي، وكظلمة الجهل، وأوار الحرب، وصبح الحقيقة، وإلى هذا أشار بقوله: وواجب القيد.
ويعرف أيضا، بجمعه في المعنى على غير جمعه في معنى آخر هو فيه حقيقة، لأن ذلك يقتضي أنه لم يوضع للقدر المشترك بينهما، فلزم المجاز أو الاشتراك، والمجاز أرجح من الاشتراك.
قال في النشر: كالأمر بمعنى الفعل مجازا، يجمع على أمور، بخلافه بمعنى القول، فيجمع على أوامر.
فصل في المعرب
وهو اسم مفعول من التعريب، وعرفه رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
ما استعملت في ما له جا العرب
…
في غير ما لغتهم معرَّب
والمعنى أن المعرب، هو ما استعملته العرب في ما وضع له في غير لغتهم.
ما كان منه مثل إسماعيل
…
ويوسف قد جاء في التنزيل
إن كان منه ................. .............................
معناه أن الأعلام العجمية، واقعة في القرآن الكريم من غير خلاف، وقد اختلف هل هي من المعرب، والصحيح أنها ليست منه، إذ لا تختص بلغة، وإنما المعرب ما سوى الأعلام، وهو الذي أشار إليه بقوله:
واعتقاد الاكثرِ
…
والشافعي النفي للمنكر
معناه أن الأكثرين، ومنهم الإمام الشافعي، وابن جرير، وأبو عبدة، والقاضي أبو بكر، وابن فارس رحمهم الله سبحانه وتعالى أجمعين ـ ذهبوا إلى منع وقوع غير الاعلام من كلام العجم، في القرآن الكريم، لقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(قرآنا عربيا) وقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته آعجمي وعربي) وقد شدد الإمام الشافعي رحمه الله سبحانه وتعالى النكير على القائل بذلك.
وذهب قوم إلى وقوعه فيه، وعددوا ألفاظا، كالاستبرق، والاباريق، والأرائك، والأكواب.
وأجيب باتفاق اللغات في هذه الالفاظ.
وذهب قوم إلى التوفيق، فقالوا في هذه الكلمات، إن أصولها عجمية، لكن وقعت للعرب فعربتها بألسنتها، وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنها عربية فهو صادق، ومن قال: عجمية فهو صادق، ومال إلى هذا القول الجواليقي، وابن الجوزي، وغيرهما.
وذكر المعرب في الأصول لا يبنى عليه فرع فقهي، ولا تترتب عليه فائدة في هذا الفن، كما أشار إليه بقوله:
وذاك لا يبنى عليه فرع
…
حتى أبى رجوع در ضرع
والدر بفتح الدال: اللبن، أو كثيره، وحتى في نسخة جدنا المخطوطة من نشر البنود بالحاء، وهو الذي في الطبعة التي عندي منه أيضا، وهو ظاهر المعنى التركيبي لشرحه للشطر، ونصه: يعني أنه لا يبنى عليه فرع، ولا يستعان به في علم الأصول، حتى يعود الدر، بفتح الدال، وهو اللبن، إلى الضرع اهـ
فصل في الكناية والتعريض
مستعمل في لازم لما وضع
…
له وليس قصده بممتنع
فاسم الحقيقة وضد ينسلب
…
وقيل بل حقيقة لما يجب
من كونه في ما له مستعملا
…
والقول بالمجاز فيه انتقلا
لأجل الاستعمال في كليهما
…
والتاج للفرع والاصل قسما
مستعمل في أصله يراد
…
لازمه منه ويستفاد
حقيقة، وحيث الاصل ما قصد
…
بل لازم فذاك أولا وجد
معناه أن الكناية هي اللفظ المستعمل في لازم ما وضع له، مع جواز إرادة ما وضع له، لعدم وجود قرينة مانعة من إرادته، وذلك كقولك: زيد طويل النجاد، وبكر كثير الرماد، قاصدا طول القامة في الجملة الأولى، والكرم في الجملة الثانية.
فالنجاد ـ بكسر النون ـ: حمائل السيف، وطولها يستلزم طول القامة، وكذلك كثرة الرماد تستلزم كثرة الطبخ، وذلك يسلتزم كثرة الضيفان.
وهذا ما أشار إليه بقوله: مستعمل في لازم البيت.
وأشار ببقية الأبيات إلى الاختلاف في اللفظ المكنى به هل هو حقيقة أو مجاز؟
فقيل: ليس بحقيقة، لاستعماله في غير ما وضع له، ولا مجاز، لجواز إرادة الحقيقة. وقيل: إنه حقيقة لاستعماله في ما وضع له ابتداء، وإن كان المقصود بالذات إثبات لازمه، وهذا مثل قولهم في التعريض: إن المعنى المعرض به: هو المقصود الأصلي، فإرادة المعنى الأصلي، لا تنافي إرادة معنى آخر، فما قيل من أن الاستعمال هو الإرادة من اللفظ، وأن ما ذكر يقتضي المغايرة بينهما غير بين جدا.
وقيل: هو مجاز، لاستعماله في مجموع معنييه الحقيقي والمجازي.
ومنهم من فصل، فقال: إن أريد المعنى الأصلي ابتداء، لينتقل منه إلى لازمه، فهو حقيقة، وإن أريد لازم المعنى الأصلي ابتداء، دون توسط إليه بالمعنى الأصلي، فهو مجاز. وهذا هو المراد بقوله: والتاج للفرع والاصل قسما، والمراد بالتاج: تاج الدين السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى والمراد بالفرع: المجاز، وبالأصل: الحقيقة.
ومقتضى هذا أن الحكم عليه بالحقيقة والمجاز، متوقف على معرفة قصد المتكلم.
وسم بالتعريض ما استعمل في
…
أصل أو الفرع لتلويح يفي
للغير، من معونة السياق
…
وهو مركب لدى السباق
معناه أن التعريض هو استعمال اللفظ في معناه الحقيقي، أو المجازي، أو الكنائي، ليشار به إلى معنى آخر، لا من جهة وضع اللفظ، بل من معونة السياق والقرائن، وذلك كقولك بحضرة زيد الذي يؤذي المسلمين:" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده "
(1)
فهذا الكلام مستعمل في حقيقته التي هي انحصار الإسلام في من سلم المسلمون من لسانه ويده، ولازم ذلك انتفاء الإسلام عمن يؤذي المسلمين، وهو المعنى الكنائي، وسوق الكلام بحضرة زيد الذي يؤذي المسلمين، قرينة على أن المراد الأصلي التعريض به، بانتفاء وصف الإسلام عنه.
وقوله: وهو مركب لدى السباق، أشار به إلى أن اللفظ المعرض به لا يكون إلا مركبا
(1)
متفق عليه.
تركيبا إسناديا.
فصل في الأمر
قال في النشر: والمراد به في هذه الترجمة، أعم من النفسي واللفظي.
هو اقتضاء فعل غير كَفِّ
…
دُلَّ عليه لا بنحو كُفِّي
معناه أن الأمر النفسي هو اقتضاء فعل غير كف، نحو اضرب، أو كفٍّ مدلول عليه بافعل، نحو صم.
فقوله: دل عليه لا بنحو كفي، وصف للكف في قوله: غير كف.
وكفي في قوله: لا بنحو كفي، هو بضم الكاف أمر للواحدة.
وكف في قوله: غير كف، هو بفتح الكاف: مصدر كف.
وذلك بأن لا يكون كفا نحو: اضرب، أو كفا مدلولا عليه بافعل، نحو: صم، بخلاف الكف المدلول عليه بلا تفعل، فهو نهي لا أمر، ولا فرق في الاقتضاء بين الجازم وغيره، حتى على القول بأن الأمر حقيقة في الوجوب خاصة، لأن المراد بالأمر في ذلك: افعل.
قال في النشر: وأورد عليه أيضا أنه يلزم عليه عدم التمايز بين الأمر الذي هو طلب فعل هو كف، والنهي الذي هو طلب ذلك الكف، كما في: كف عن ضرب زيد، ولا تضرب زيدا، إذ المميز بينهما كون الأول مدلولا لنحو كف، والثاني مدلولا لنحو لا تفعل، ولا دلالة في الأزل لحدوث العبارة، التي هي الدال اهـ
وأجاب عن ذلك شيخ الإسلام الشربيني ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى بأن الكف في طلب الكف الذي هو أمر، مطلوب لذاته، بخلاف طلب الكف في النهي، فليس مطلوبا لذاته، بل من حيث إنه حال من أحوال غيره.
وعليه فالكف المقصود لذاته لا يعبر عنه بلا تفعل، وإنما يعبر عنه بافعل كصم، بخلاف غيره، فإنما يعبر عنه بلا تفعل.
وانظر هذا مع قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) وقوله سبحانه وتعالى جل من قائل في آية الخمر: (فاجتنبوه) مع قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (فهل أنتم منتهون) فظاهر السياق أن (فاجتنبوه) نهي لا أمر، فمنتهون: اسم
فاعل من انتهى: مطاوع نهى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأيضا طلب الكف الذي ليس بمقيد، يجري فيه ما يجري في النهي، من عدم تحقق امتثاله بالكف مرة، فاجتناب الخمر مثلا، وترك البيع، لا يقع امتثالهما بالكف مرة، فالمطلوب فيهما عدم الماهية، ولا يتحقق إلا بالكف المستمر، ولو كان أمرا لأمكن الخروج من عهدته بالمرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
نعم لقائل أن يقول: الإجماع منعقد على أن الصوم أمر، للإجماع على توقفه على النية، والإجماع على عدم توقف الخروج من عهدة النهي بعدم فعله على النية.
والظاهر في جواب ذلك: أن الصوم لما كان تروكا مجموعة في وقت واحد، كان طلبه أمرا بإيجاد ماهية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا الذي حُد به النفسي
…
وما عليه دل قل لفظي
معناه أن ما ذكر هو حد الأمر النفسي، واللفظ الدال عليه هو اللفظي، فالأمر اللفظي هو اللفظ الدال على اقتضاء فعل غير كف.
وليس عند جل الاذكياء
…
شرْط علو فيه واستعلاء
وخالف الباجي بشرط التالي
…
وشرط ذاك رأي ذي اعتزال
واعتبرا معا على توهين
…
لدى القشيري وذي التلقين
معناه أن الأكثرين على أنه لا يشترط في مفهوم الأمر علو ولا استعلاء.
وذهب أبو الوليد الباجي رحمه الله سبحانه وتعالى إلى اشتراط الاستعلاء، دون العلو ونسب للمحققين.
واشترطت المعتزلة ـ إلا أبا الحسين منهم ـ العلو، ووافقهم أبو إسحاق الشيرازي، وابن الصباغ، وابن السمعاني رحمهم الله سبحانه وتعالى من الشافعية كما في إرشاد الفحول.
وذهب إلى اشتراطهما معا القاضي عبد الوهاب، والقشيري ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى.
قال في النشر: ومعنى العلو: كون الطالب أعلى مرتبة من المطلوب منه، والاستعلاء: كون الطلب بغلظة وقهر، قال القرافي وغيره: فالاستعلاء هيئة في الأمر من الترفع وإظهار
القهر، والعلو راجع إلى هيئة الآمر - بكسر الميم - من شرفه وعلو منزلته اهـ
ثم ذكر أن الخلاف المذكور جار في النهي أيضا، قال: والصحيح فيه من ذلك الصحيح في الأمر، وهو عدم اشتراطهما معا.
والامر في الفعل مجاز واعتمى
…
تشريك ذين فيه بعض العلما
معناه أن الأمر في الفعل، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(وشاورهم في الأمر) مجاز، وذلك لتبادر القول من الأمر إلى الذهن، والتبادر تقدم أنه من علامات الحقيقة. وقيل: هو مشترك بين الأمر الذي تقدم تعريفه، والفعل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وافعل لدى الأكثر للوجوب
…
وقيل للندب أو المطلوب
وقيل للوجوب أمر الرب
…
وأمر من أرسله للندب
معناه أن صيغة " افعل " وما في معناها، إذا تجردت عن القرائن الدالة على الوجوب أو الندب أو غيرهما، مختلف فيها هل هي حقيقة في الوجوب خاصة، وهو مذهب أكثر المالكية، وصححه ابن الحاجب، والبيضاوي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى قال الرازي رحمه الله سبحانه وتعالى: وهو الحق.
وذكر الجويني أنه مذهب الإمام الشافعي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى.
أو هي حقيقة في الندب خاصة، وبه قال أبو هاشم، وعامة المعتزلة، وجماعة من الفقهاء، وهو رواية عن الإمام الشافعي رحمه الله سيحانه وتعالى ـ كما في إرشاد الفحول. أو حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب، وهو الطلب، أي: ترجيح الفعل على الترك.
قال في الإرشاد: ونسبه شارح التحرير إلى أبي منصور الماتريدي رحمه الله سبحانه وتعالى ومشائخ سمرقند.
ونقل عن أبي بكر الأبهري رحمه الله سبحانه وتعالى أن الأمر من الله سبحانه وتعالى للوجوب، وأمر النبي ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ المبتدأ منه للندب.
وهو الذي أشار إليه الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: وقيل للوجوب البيت، وهذا قول غريب من جهة المعنى، ونسب له غير ذلك أيضا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
واحتج القائلون بكونه حقيقة في الوجوب بنصوص كثيرة من الكتاب العزيز، والسنة النبوية الشريفة دالة على ذلك، وهي وإن لم تكن قطعية في آحادها فمجموعها يحصل القطع، ونصوصية آحادها تتوقف على العلم بالتجرد عن القرائن، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وما ذكره بعض شروح المراقي من أن من أصرحها حديث بريرة ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنها ـ غير بين جدا، إذ مقتضى الحديث أن الصيغة التي هي موضوع البحث للطلب الأعم من الوجوب، إما على وجه الاشتراك أو التواطئ، ولو كانت نصا في الوجوب لم يكن لسؤالها وجه.
وإنما اقتضى كلامها أن لفظ الأمر للوجوب، والذي يجري على ما سبق له تبعا للأصل ـ من أن الأمر حقيقة في الطلب وإن لم يكن جازما، وأن الخلاف إنما هو في صيغة افعل وما في معناها ـ أن المراد بقولها: أتأمرني: أتعزم علي، مجازا.
نعم ما سبق هناك محل نظر، فمقتضاه أن الندب لم توضع له صيغة على قول الأكثرين، مع أنه أمر حقيقة، وهو غير بين.
وأيضا ما احتجوا به من النصوص مما ذكره الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى في الأصل، والبعض المذكور، صريح في انتفاء اسم الأمر عن الندب، فانظر ذلك.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومفهم الوجوب يُدرى الشرع
…
أو الحجا أو المفيد الوضع
معناه أنه اختلف في ما يدل على اقتضاء الصيغة الوجوب، فقيل: الدال على ذلك هو الشرع، واحتج قائله بما سبقت الإشارة إليه من النصوص التي ظاهرها اللوم على مخالفة الأمر المجرد.
وقيل: الدال عليه العقل، وهو المراد بالحجا في البيت، واحتج قائله بأن الطلب الذي تدل عليه اللغة، إن لم يحمل على الوجوب، جاز الترك، وصار المعنى افعل إن شئت.
قال في النشر: وقوبل بمثله في الحمل على الوجوب، فإنه يصير المعنى افعل من غير تجويز ترك اهـ
وقيل: الدال عليه هو اللغة، وهو المراد بقوله: أو المفيد الوضع، واحتج له بحكم أهل
اللغة قبل ورود الشرع باستحقاق العبد العقاب بمخالفته أمر سيده.
ومذهب الجمهور ـ على ما ذكر في الإرشاد ـ أن الدال على ذلك اللغة والشرع معا، وذهب البلخي ـ كما في الإرشاد أيضا ـ وأبو عبد الله البصري، والجويني، وأبو طالب إلى أن الدال عليه الشرع خاصة، وذكر أن كلا من الفريقين استدل بالعقل والنقل، أما العقل فما تقدم من تقرر عصيان العبد بمخالفته أمر سيده، وأما النقل فما علم من استدلال السلف بالصيغة المجردة عن القرائن على الوجوب من غير نكير، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكونه للفور أصل المذهب
…
وهْو لدى القيد بتأخير أبي
وهل لدى الترك وجوب البدل
…
بالنص أو ذاك بنفس الاول
وقال بالتأخير أهل المغرب
…
وفي التبادر حصول الارب
والارجح القدر الذي يشترك
…
فيه، وقيل إنه مشترك
وقيل للفور أو العزم، وإن
…
تقل بتكرار فوفق قد زكن
أشار بأول الأبيات، إلى أنه اختلف في الأمر المجرد عن القيد بالفور أو التراخي، إذا قلنا إنه لا يقتضي التكرار، فقيل: يقتضي الفور، فيجب الإتيان بالمأمور به في أول أوقات الإمكان، وهو مذهب البغداديين من أصحابنا، وأخذ للإمام مالك رحمه الله سبحانه وتعالى من مسائل عديدة، وهو مذهب الحنابلة، وبعض الحنفية والشافعية.
وقوله: وهو لدى القيد بتأخير أبي، أشار به رحمه الله سبحانه وتعالى إلى أن كونه للفور إنما هو حيث لم يقيد بالتراخي، وهو ظاهر.
وكذلك القول بالتراخي، فمحله عند القائل به: ما لم يقيد بالفور.
واختلف على هذا القول ـ أعني القول بكونه للفور ـ إذا أخر هل يلزم البدل بنفس الأمر، أو إنما يلزم بنص جديد؟
قال في الإرشاد: قال في المحصول: ومنشأ الخلاف أن قول القائل لغيره: افعل، هل معناه افعل في الزمان الثاني، فإن عصيت ففي الثالث، فإن عصيت ففي الرابع، ثم كذلك أبدا.
أو معناه في الثاني - يعني الذي يلي وقت الخطاب - من غير بيان حال الزمان
الثالث، والرابع؟
فإن قلنا بالأول، اقتضى الأمر الأول الفعل في سائر الأزمان.
وإن قلنا بالثاني لم يقتضه.
والحق أن الأمر المطلق يقتضي الفعل من غير تقييد بزمان، فلا يخرج المكلف عن عهدته إلا بفعله، وهو أداء، وإن طال التراخي، لأن تعيين بعض أجزاء الوقت له لا دليل عليه، واقتضاؤه الفور لا يستلزم أنه بعد أول أوقات الإمكان قضاء، بل غاية ما يستلزمه أن يكون المكلف آثما بالتأخير عنه إلى وقت آخر.
وذلك هو قول الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى: وهل لدى الترك وجوب البدل البيت.
وأما ما ذكره في الشرح من أن المراد بالبدل العزم فهو سهو، وقد تنبه لذلك في الحلي.
وذهب المغاربة من المالكية إلى أنه لا يقتضي الفور، فالمتراخي غير عاص، والمبادر ممتثل، وهو الصحيح عند الحنفية، وعزي إلى الإمام الشافعي رحمه الله سبحانه وتعالى وأصحابه، واختاره الرازي، والآمدي، وابن الحاجب، والبيضاوي رحمهم الله سبحانه وتعالى أجمعين ـ.
قال ابن برهان رحمه الله سبحانه وتعالى: لم ينقل عن الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى نص، وإنما فروعهما تدل على ذلك، قاله في إرشاد الفحول.
وإلى قول المغاربة هذا أشار الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: وقال بالتأخير أهل المغرب البيت.
قال في الإرشاد: وتوقف الجويني رحمه الله سبحانه وتعالى في أنه باعتبار اللغة للفور أو التراخي، قال: فيمتثل المأمور بكل من الفور والتراخي، لعدم رجحان أحدهما على الآخر، مع التوقف في إثمه بالتراخي، لا بالفور، لعدم احتمال وجوب التراخي.
وقيل: إنه حقيقة للقدر المشترك بين الفور والتراخي، الذي هو طلب الماهية من غير تعرض لوقت، وذلك لأنه لا إشعار له بأحدهما على الخصوص، ولذلك حسن من السيد
أن يقول لعبده: افعل الفعل كذا في الحال، أو غدا، وحذرا من الاشتراك والمجاز.
وقيل: إنه موضوع لكل منهما على انفراده، فهو مشترك، وإلى هذين القولين أشار الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: والارجح القدر الذي يشترك البيت.
وقال القاضي رحمه الله سبحانه وتعالى: الأمر يوجب إما الفور، أو العزم على الإتيان به في ثاني حال، وذلك هو قول الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى: وقيل للفور أو العزم.
وقوله: وإن تقل بتكرار إلخ، أشار به إلى ما قدمنا من أن الخلاف في اقتضاء الأمر الفور، إنما هو على القول بعدم التكرار، وأما على أنه للتكرار فهو للفور قطعا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهل لمرة أو اِطلاق جلا
…
أو التكرر خلاف من خلا
أو التكرر إذا ما عُلقا
…
بشرط أو بصفة تحققا
اختلف في الأمر، هل هو موضوع للمرة، وهو مذهب أصحابنا، وعزاه الأستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني رحمه الله سبحانه وتعالى إلى أكثر الشافعية، وقال إنه مقتضى كلام الإمام الشافعي رحمه الله سبحانه وتعالى والصحيح الأشبه بمذاهب العلماء، وبه قال أبو علي الجبائي، وأبو هاشم، وأبو عبد الله البصري، وجماعة من قدماء الحنفية.
وحجة هذا الفريق حصول الامتثال بالمرة.
وأورد عليه أن ذلك لا يقتضي اعتبارها جزءا من مدلول الأمر، لأن ذلك حاصل على تقدير الإطلاق.
أو هو موضوع لمطلق الطلب، من غير إشعار بمرة ولا تكرار، لنحو ما تقدم بيانه في عدم دلالته على فور ولا تراخ، واختاره الحنفية، والآمدي، وابن الحاجب، والجويني، والبيضاوي رحمهم الله سبحلنه وتعالى ـ.
قال السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى: وأراه رأي أكثر أصحابنا، واختاره المعتزلة، وأبو الحسين البصري، وأبو الحسن الكرخي.
أو هو موضوع للتكرار مدة العمر حسب الإمكان، إذ لو لم يكن كذلك لامتنع ورود
النسخ عليه بعد الفعل، واستقرأه ابن القصار من كلام الإمام مالك ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى وبه قال أبو إسحاق الشيرازي، والأستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى وجماعة من الفقهاء والمتكلمين.
وقيل: هو للتكرار إذا علق بشرط أو صفة، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(وإن كنتم جنبا فاطهروا) وقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) ونسبه في النشر للإمام مالك رحمه الله سبحانه وتعالى وجمهور أصحابه، والشافعية
(1)
.
ونسبه في الإرشاد لبعض الحنفية والشافعية، وقال: وأجيب بأن الشرط هنا علة، فيتكرر المأمور بتكررها اتفاقا، ضرورة تكرر المعلول بتكرر علته، والنزاع إنما هو في دلالة الصيغة مجردة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما مسألة الاكتفاء بمسبب واحد عند تعدد السبب، وعدم الاكتفاء به، فالأوجه أن مدركها النظر إلى المصلحة التي هي مبنى الحكم، فإذا كانت مصلحة المسببات المتعددة تحصل بالمسبب الواحد، اكتفي به، كما في الوضوء الواحد، والغسل الواحد، مع تعدد أسبابهما.
وإن كان المسبب الواحد غير محصل لمصلحة المسببات المتعددة، لم يكتف به، كما في
(1)
قال في شرح التنقيح: قال القاضي عبد الوهاب ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى: القائلون بعدم التكرار في الأمر المطلق، قالوا به عند تكرار الشرط والصفة، وهو قول كثير من أصحابنا وأصحاب الإمام الشافعي رحمه الله سبحانه وتعالى.
وقال القليلون من أصحابنا وأصحاب الإمام الشافعي والإمام أبي حنيفة ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى: لا يقتضيه، قال: وهو الصحيح اهـ
قال ابن عاشور رحمه الله سبحانه وتعالى: قوله: قال: وهو الصحيح اهـ إذ ليس من مقتضى الشرط التكرار، بل حصول الفعل عمد شرطه مرة، وإلا لكان القائل: إن أتيتني بألف، فلك كذا قفيزا من قمح، مقتضيا أن يسلم له أضعافه عند تعدد آلافه، أما الشروط الدالة على العموم، فلا خلاف في دلالتها على التكرار، نحو مهمى، وكذا ما يشعر بسببية، أو علية، أو حكمة، ومنه المعلق على الصفة، ولهذا فصل القاضي أبو بكر الباقلاني رحمه الله سبحانه وتعالى فقال: المعلق على شرط، لا يتكرر، والمعلق على الصفة يتكرر اهـ
تعدد الجناية، فهي كمن اقترض من شخص عشرة دراهم، ثم اقترض منه عشرة دراهم، فالعشرة الواحدة غير محصلة لمصلحة عشرتين، فلا تكفي في قضائهما، وهكذا.
وإذا كان حصول المصلحة بالمسبب الواحد محتملا، إما للاحتمال في تعيين المصلحة، وإما للاحتمال في حصولها على وجه تام، فهاهنا يكون الخلاف، كقذف الجماعة.
وينبغي أن يعلم أن الاكتفاء بالمسبب الواحد، إنما هو إذا كان تكرر السبب قبل حصول المسبب، وأما إذا حصل السبب ثانية بعد فعل المسبب، فلا بد من مسبب آخر، وإلا لم يكن سببا.
وإذا علمت ذلك، فبناء مسألة تكرر الحكاية بتكرر الأذان على هذا غير بين، فالقائل بسقوط الحكاية إنما بنى ذلك على أصل التخفيف في مواطن المشقة، كما سقط سجود التلاوة عن المتعلم في تكراره حزب السجدة مثلا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والامر لا يستلزم القضاء
…
بل هو بالأمر الجديد جاء
لأنه في زمن معين
…
يجي لما عليه من نفع بُني
وخالف الرازي إذ المركب
…
لكل جزء حكمه ينسحب
اختلف في الأمر المقيد بوقت، كافعل في يوم كذا، هل يقتضي إيقاع ذلك الفعل في ما بعد ذلك الوقت؟ لأنه أمر بمركب، هو الفعل، وكونه في وقت كذا، والأمر بالمركب أمر بأجزائه، فإذا تعذر البعض بقي الطلب متوجها بغيره، وهو مذهب الفخر الرازي رحمه الله سبحانه وتعالى وجماعة من الحنفية، وجماعة من الحنابلة والمعتزلة.
أو لا يقتضي ذلك، وهو مذهب الجمهور، فلا يلزم قضاؤه إلا بأمر جديد، لأن تقييده بالوقت لا يكون إلا لمعنى يختص به ذلك الوقت عن غيره من الأوقات، وإلا لصح قبل وقته.
وأما ما ذكر من التركب فهو مبني على أن المطلق والمقيد شيئان في الخارج، وهو أمر مختلف فيه.
والمعول أن الأمر بالفعل، لا يستلزم الأمر بقضائه، سواء قيد بوقت، أو لم يقيد به وقلنا إن الأمر يقتضي الفور، وهي المسألة المتقدمة في قوله:
وهل لدى الترك وجوب البدل ...........................
فالقضاء إنما هو بأمر جديد، ولذلك سقط عن من لم يرد النص بوجوبه عليه من ذوي الأعذار، كالحائض، والنفساء، والمجنون، والمغمى عليه في الصلاة.
وأما العامد فهو فحوى الناسي،
(1)
ولذلك قضى ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ الصلوات في الأحزاب،
(2)
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وما في بعض الشروح هنا عن الدبوسي من أن وجوب القضاء بالقياس على العبادات الفائتة التي دل الدليل على وجوب قضائها، والجامع بينهما استدراك مصلحة الفائت. قال: وحاصله أن ما لم ينقل فيه أمر بالقضاء، يكون مأمورا به قياسا، لا بالأمر الأول، ولا بأمر جديد اهـ
فهو مشكل، فإنه لا يمكن أن يكون إلا بالأمر السابق، أو بأمر جديد، والقياس كما هو معلوم ليس إلا تعميما لنص الأصل في الفرع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وليس من أمر بالأمر أمر
…
لثالث إلا كما في ابن عمر
والامر للصبيان ندبه نُمي
…
لما رووه من حديث خثعم
اختلف في من أمر شخصا أن يأمر آخر، هل يكون ـ أعني الآمر أولا ـ آمرا للثالث، أو لا؟
وهذا ما لم تقم قرينة على أن المأمور أولا مأمور بالتبليغ، لا بالأمر.
وكذلك ـ على ما يظهر ـ إذا قامت قرينة على أنه مأمور بالأمر، لا بالتبليغ.
أولهما: كما في حديث ابن عمر ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنهما ـ الذي أشار إليه
(1)
يعني في قوله ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ: " من نسي صلاة " الحديث.
(2)
روى الشيخان أن ذلك حصل له في صلاة العصر، وروى الإمام مالك رحمه الله سبحانه وتعالى أن ذلك حصل له في الظهر والعصر معا، وروى الدارمي بإسناد صحيح، والإمام أحمد بإسناد على شرط مسلم، أنه وقع له في الظهرين والعشاءين، ووفق بين الروايات باختلاف الأيام التي حصل فيها ذلك، وهذا مما يؤكد أن التأخير لم يكن عن سهو.
الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى
(1)
وكحديث " مروا أبا بكر فليصل بالناس "
(2)
وكحديث " مروهن فليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم "
(3)
بل نقل في النشر عن القرافي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى أنه قال في شرح التنقيح: علم من الشريعة أن كل من أمره رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ أن يأمر غيره فإنما هو على سبيل التبليغ، ومتى كان على سبيل التبليغ، صار الثالث مأمورا إجماعا اهـ
وهو ظاهر كلام صاحب الإرشاد، وغير واحد، وهو بين عند التجرد من القرائن.
والثاني كما في قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (وأمر أهلك بالصلاة)
فالظاهر أن المراد أمر خاص، وهو التعاهد بالحث والحض.
وكما في حديث " مري غلامك النجار "
(4)
فكونها مالكة له ولكسبه، قرينة بينة على توجه الأمر إليها.
ومن هذا أيضا حديث " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين "
(5)
فإن المراد ليس الأمر مرة، حتى يكون بلاغا، فهو أمر للولي بتعاهد الولد بالأمر بالصلاة، وتربيته عليها.
…
ذهب الجمهور إلى الأول، وذهب إلى الثاني جماعة.
وأشار الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: والامر للصبيان البيت، إلى أن مدرك استحباب الصلاة في حق الصبي الذي هو مذهبنا كما تقدم، هو حديث التي أخذت بضبعي صبي لها وقالت: ألهذا حج يا رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم؟ فقال: " نعم ولك أجر "
(6)
(1)
يعني حديث الشيخين أن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ أخبر النبي ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ أن عبد الله بن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ طلق زوجه وهي حائض، فقال:" مره فليراجعها " الحديث.
(2)
متفق عليه.
(3)
رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، وهو حديث حسن.
(4)
رواه البخاري، وأبو داوود، والنسائي، والإمام أحمد.
(5)
رواه أبو داوود، والإمام أحمد، وهو حديث حسن.
(6)
رواه مسلم، وأبو داوود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والإمام أحمد.
ولذلك فظاهر كلام أصحابنا أن الاستحباب المذكور لا يتوقف على بلوغ سبع سنين. هذا ونسبة المرأة المذكورة في هذا الحديث الشريف إلى خثعم، وقعت في كلام جماعة من أهل العلم، والذي يغلب على الظن أنها وهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
تعليق أمرنا بالاختيار
…
جوازه روي باستظهار
المقصود أن في جواز تعليق الأمر باختيار المأمور، نحو افعل كذا إن شئت، خلافا، واستظهر المحلي جوازه، والتخيير قرينة عدم الوجوب.
وذلك كحديث البخاري رحمه الله سبحانه وتعالى أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال: " صلوا قبل المغرب " قال في الثالثة: " لمن شاء "
وكحديثه أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنه ـ أصاب أرضا بخيبر فجاء إلى النبي ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ يستأمره فيها، فقال:" إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها "
وكحديثه أن امرأة قالت: يا رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه؟ فإن لي غلاما نجارا، فقال صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ:" إن شئت " فعملت المنبر.
وآمر بلفظة تعم هل
…
دخل قصدا أو عن القصد اعتزل
اختلف في من أمر غيره بلفظ يشمله، هل يكون داخلا في ذلك الأمر؟ لتناول الصيغة له، أو لا يكون داخلا فيه بقرينة كونه الآمر.
وذلك كقول السيد لعبده: أحسن إلى من أحسن إليك، وقد أحسن هو إليه، وهذا ما لم تقم قرينة بينة أخص من القرينة المذكورة على عدم الدخول، وكذا لو قامت قرينة أيضا على دخوله على ما يظهر والله سبحانه وتعالى أعلم.
أنب إذا ما سر حكم قد جرى
…
بها، كسد خلة للفقرا
معناه أن إنابة المأمور غيره على فعل المأمور به، جائزة، إذا كانت المصلحة التي شرع لها، تحصل مع الإنابة، سواء كان ذلك لضرورة أو لا، سواء كان الحق المأمور به ماليا، كالزكاة، أو بدنيا، كالحج.
فإن كانت المصلحة لا تحصل إلا بالمباشرة، امتنعت الإنابة، وذلك كالصلاة، والطواف، وقالت المعتزلة: لا تجوز الإنابة في البدني إلا لضرورة.
والامر ذو النفس بما تعينا
…
ووقته مضيق تضمنا
نهيا عن الموجود من أضداد
…
أو هو نفس النهي عن أنداد
وبتضمن الوجوب فرقا
…
بعض، وقيل لا يدل مطلقا
ففاعل في كالصلاة ضدا
…
كسَرقة على الخلاف يبدى
إلا إذا النصُّ الفسادَ أبدى
…
مثل الكلام في الصلاة عمدا
اختلف في الأمر النفسي بشيء معين مضيق الوقت، هل يستلزم النهي عن أضداده الوجودية؟
وعليه أكثر أصحاب الإمام مالك رحمهم الله سبحانه وتعالى وصار إليه القاضي رحمه الله سبحانه وتعالى في آخر مصنفاته.
وحجته: امتناع تصور فعله إلا بترك أضداده، وامتناع غفلة الآمر عن ذلك، وإن كان لا يلزم استحضاره لآحاد الأضداد.
أو هو عينه، وهو مذهب الإمام أبي الحسن الأشعري، والقاضي أبي بكر ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى والجمهور من المتكلمين، والأصوليين، والمحدثين، ومن الحنفية، والشافعية، لما سبق أيضا.
وقيل: أمر الإيجاب نهي عن ضده، دون أمر الندب.
وقيل: ليس نهيا عنه ولا يتضمنه عقلا، واختاره الجويني، والغزالي، وابن الحاجب رحمهم الله سبحانه وتعالى لجواز الذهول عنه، وفيه ما سبق.
وقيل: نهي عن واحد من الأضداد غير معين، وهو مذهب جماعة من الحنفية، والشافعية، والمحدثين.
واحترز بالنفسي عن اللفظي، فلا خلاف في تغاير صيغتي الأمر والنهي، كما لا خلاف في تغاير مفهوميهما.
واحترز بوصف الضد بالوجودي، عن الضد العدمي، وهو عدم المأمور به، الذي هو
النقيض، فهو نهي عنه، أو يتضمنه اتفاقا على ما ذكره بعضهم.
وإنما اتفق عليه لأنه أخص من جهة التلازم الذهني الذي هو مثار المسألة.
واحترز بالمعين، عن الواجب المخير، وقوله:
ففاعل في كالصلاة ضدا
…
كسرقة على الخلاف يبدى
معناه أنه ينبني على الاختلاف المذكور: الاختلاف في بطلان صلاة من سرق أثناء صلاته، فمن أثبت هناك أبطل، ومن نفى لم يبطل، هكذا في الأصل تبعا لحلولو ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى وليس ببين، فإن حجج القوم صريحة في أن المراد ضد خاص، وهو الضد المفوت للأمر، وقد صرح بذلك الشوكاني رحمه الله سبحانه وتعالى في الإرشاد، والفعل الخفيف لا ينافي الصلاة، فمسألة السرقة في الصلاة، إنما تبنى على مسألة الواحد بالشخص له جهتان، وقد نبه على هذا في الحلي.
وقوله: إلا إذا النص الفساد أبدى البيت، معناه أن محل الاختلاف ما لم يرد النص بالبطلان بفعل الضد، مثل الكلام في الصلاة عمدا، وهذا غير بين، فإن ترك الكلام في الصلاة شرط في صحتها، والشرط يلزم من عدمه العدم، كما تقدم في حده، فلا يمكن بناء ترك الشرط على الخلاف في تضمن الأمر النهي ـ على ما يظهر ـ وإن كان بعضهم قد صرح به، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولا يقال: كيف مثل بالصلاة مع أنها من الواجب الموسع، لأن التوسيع إنما هو قبل الشروع، فإذا أحرم تعين عليه الإتمام كما تقدم.
وذكر في الإرشاد أنه ينبني على المسألة: الخلاف في تارك الواجب هل يتعدد عليه الذنب، بترك الأمر، وفعل النهي، أو لا.
ويلزم عليه مثل ذلك في فعل المأمور.
وظواهر النصوص بينة في أن تارك المأمور عليه سيئة واحدة، وفاعل المنهي عليه سيئة واحدة، وفاعل المأمور به جاء بحسنة واحدة، وكذلك تارك المنهي امتثالا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والنهي فيه غابر الخلاف
…
أو اَنه أمر على ائتلاف
وقيل لا قطعا كما في المختتصر
…
وهْو لدى السبكي رأي ما انتصر
معناه أنه اختلف في النهي النفسي كذلك، فقيل: هو أمر بأحد أضداده الوجودية، فهو من الواجب المخير، نحو الخلاف السابق في الأمر.
وقيل: هو أمر بأحدها اتفاقا، وهي طريقة القاضي رحمه الله سبحاته وتعالى ـ إذ لا بد من حضور الضد فيه بالذهن.
وذكر ابن الحاجب رحمه الله سبحانه وتعالى حكاية الاتفاق أيضا على أنه ليس أمرا به، وذكر السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى أنه لم يقف على نقل ذلك لغيره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الامران غير المتماثلين
…
عُدا كصم قم متغايرين
وإن تماثلا وعطف قد نُفي
…
بلا تعاقب فتأسيس قفي
وإن تعاقبا فذا هو الاصح
…
والضعف للتاكيد والوقف رجح
إن لم يكن تأسس ذا منْع
…
من عادة ومن حِجا وشرع
وإن يكن عطف فتأسيس بلا
…
منعٍ يرى لديهمُ معولا
إذا تكرر الأمر، فإما أن يكون المأمور به ثانيا مماثلا لما قبله، أو لا.
فإن كان غير مماثل له، فهما أمران، بلا خلاف، كصم يوما، صل ركعتين، سواء وقع الأمر بهما في فور، أو على التراخي، سواء كان بعطف، أو بدون عطف، سواء كانا خلافين، كالمثال المتقدم، والمثال الذي في البيت، أو كانا ضدين، نحو " اركعوا واسجدوا " إلا أنه يشرط في الضدين اختلاف الوقت، فإن اتحد حمل على التخيير، نحو أكرم زيدا وأهنه، ولا يحمل على النسخ لأن من شرطه تراخي الناسخ عن المنسوخ، هذا هو المراد بأول الأبيات.
وأشار بالبيت الثاني إلى المتماثلين، فذكر أنهما إن كانا في فور، ولم يعطف الثاني منهما على السابق، نحو: صل ركعتين، صل ركعتين، فالأصح أنهما أمران، وذلك هو المراد بالتأسيس.
وهذا إذا تكرر قبل امتثال السابق، وإلا فهما أمران بلا خلاف.
وأشار بقوله: وإن تعاقبا فذا هو الاصح، إلى أن المتماثلين إذا تعاقبا، بأن تراخى ورود الثاني منهما عن السابق ـ ولا يكون ذلك بعطف، لأن العطف إنما يعهد في الكلام الواحد ـ فالأصح أنهما أمران، لأن الأصل التأسيس لا التأكيد.
وقيل: الثاني مؤكد للسابق، لأن الأصل براءة الذمة، والأصل في المكرر التأكيد.
وقيل: بالوقف، وإلى هذين القولين أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: والضعف للتأكيد والوقف رجح.
وهذا ما لم يمنع من التأكيد مانع عقليا كان، أو شرعيا، أو عاديا، كما أشار إليه رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: إن لم يكن تأسس البيت.
ومثال المانع العقلي أن يقول: اقتل زيدا، اقتل زيدا، فتكرر قتله ممتنع عقلا.
ومثال المانع العادي أن يقول: اسقني ماء، اسقني ماء، أو أطعمني أطعمني، فالعادة الاكتفاء بالسقي مرة واحدة، والأكل مرة واحدة، وأن مثل ذلك إنما يراد به التأكيد، لا تعدد السقي أو الأكل.
ومثال المانع الشرعي أن يقول: أعتق زيدا، أعتق زيدا، أو تصدق بشيئك كذا، تصدق بشيئك كذا، لعين السابق.
وإن كان الأمر بمتماثلين مع العطف ـ ولا يكون ذلك إلا في فور ـ فالمعول أيضا أنهما أمران لأن العطف يغاير التأكيد، وقيل إن الثاني مؤكد للأول.
وإلى هذا أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بالبيت الأخير.
وحاصل معنى الأبيات: أن الأمر إذا تكرر قبل الامتثال، فإن كان الثاني غير مماثل للأول، فهما أمران بلا خلاف، سواء كان هناك عطف أو لا، سواء كانا خلافين أو ضدين، سواء كان ذلك في فور واحد، أو على التعاقب.
وإن كان الثاني مماثلا للسابق، فإما أن يكون مع العطف أو لا، فإن كان مع العطف فهما أمران أيضا، لأن العطف ينافي التأكيد.
وقيل: الثاني مؤكد، لأن الأصل براءة الذمة، فلا ينتقل عنه بمحتمل.
وإن كان دون عطف، فالصحيح المنسوب للأكثرين أيضا أنهما أمران، سواء كانا في
فور واحد، أو كانا متعاقبين.
وهذا ما لم تقم قرينة على خلاف ما ذكر، حالية كانت أو لفظية، كأل العهدية، واستغراق الأول الجنس.
وما وقع في شرح التنقيح من التمثيل للخلافين بالركوع والسجود، سهو، كما نبه عليه في النشر، حتى في أحوال الإيماء، فهما في تلك الأحوال أيضا إما مثلان أو ضدان، وذلك أن الإيماء إما أن يتحد أو يختلف، فإن اتحد فهما مثلان، وإلا فضدان، هذا إذا اعتبرت الصورة، وليس ببين، والأمر في ذلك كله خفيف، والحمد لله رب العالمين.
والامر للوجوب بعد الحظل
…
وبعد سؤل قد أتى للاصل
معناه أن الأمر الوارد بعد التحريم، للوجوب عند أبي الوليد الباجي ومتقدمي أصحاب الإمام مالك، وأصحاب الإمام الشافعي، والإمام فخر الدين رحمهم الله سبحانه وتعالى أجمعين ـ كالأمر الوارد ابتداء.
خلافا لبعض أصحابنا وأصحاب الإمام الشافعي، في قولهم: إن تقدم ذلك عليه قرينة دالة على كونه للإباحة، مع كثرة استعماله فيها في ذلك.
وقيل: إنه لرفع التحريم والرجوع إلى ما كان عليه.
ونقل في شرح التنقيح عن القاضي عبد الوهاب ـ رحمهما الله سبحامه ونعالى ـ في الملخص أن النهي نوعان:
نهي معلق بغاية، أو شرط، أو علة، كقوله سبحانه وتعالى:(فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) بعد قوله سبحانه وتعالى: (وذروا البيع).
ونهي غير معلل بعلة عارضة، ولا معلق بشرط.
فالأول يقتضي الإباحة عند الجمهور، كالثاني عند الإمام مالك رحمه الله سبحانه وتعالى وأصحابه.
وقال أكثر أهل الأصول إنه يقتضي الوجوب.
وإلى هذا أشار بقوله: أو يقتضي إباحة للاغلب البيتين.
وقوله: وبعد سؤل، أشار به إلى أن الأمر الوارد بعد السؤال والاستئذان، محمول على
الوجوب كالوارد ابتداء، خلافا لمن رأى ذلك أيضا قرينة على إرادة الإباحة، مع كثرة استعماله في ذلك لها، وهو أبين.
وقوله: للأصل هو تعليل لما ذكره من كون الأمر في الموضعين للوجوب.
بعد الوجوب النهي لامتناع
…
للجل، والبعض للاتساع
وللكراهة برأي بانا
…
وقيل للإبقا على ما كانا
معناه أن النهي الوارد بعد الوجوب، للتحريم عند الأكثرين على الأصل، وليس تقدم الوجوب عليه قرينة بمجرده صارفتة عن المعنى الموضوع له، خلافا لمن ذهب إلى ذلك.
وقد اختلف القائلون بكون ذلك قرينة صارفة عن المعنى الموضوع له، فمنهم من جعل ذلك قرينة صارفة عن إرادة النهي أصلا، فيكون للإباحة.
ومنهم من جعله قرينة صارفة عن إرادة الجزم في النهي، فجعله للكراهة.
ومنهم من جعله قرينة دالة على إرادة رفع الوجوب، فيعود لما كان عليه قبل الوجوب.
…
ولم يتكلموا على النهي بعد الندب، ويحتمل أنهم إنما نصوا على الوجوب لأنه أغلب، ويحتمل اختصاص الحكم به، وأن القرينة في أمر الندب أضعف، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال في النشر: وأما النهي بعد السؤال فيحمل على ما يفهم من السؤال من إيجاب، أو ندب، أو إرشاد، أو إباحة، أو على ما يفهم من دليل خارج.
فمما ورد منه للتحريم، خبر مسلم والبخاري عن المقداد ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار، فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف، ثم قطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله سبحانه وتعالى أفأقتله يا رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ بعد أن قالها؟ قال: " لا "
وحديث أنس ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنه ـ قال رجل: يا رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ الرجل منا يلقى أخاه أينحني له؟ قال: " لا "
(1)
وحديث سعد ـ رضي الله تعالى عنه ـ في الوصية بجميع ماله، فقال صلى الله تعالى عليه
(1)
رواه الترمذي وحسنه.
وعلى آله وسلم: " لا "
(1)
حمله على التحريم من فهم أن السؤال عن الإباحة، ويحتمل أن يكون السؤال عن الندب اهـ
وقد يفهم من قوله: إنه يحمل على ما يفهم من السؤال، أن الأمر يحمل على الوجوب، وإن فهم من السؤال غيره، وليس ببين.
كالنسخ للوجوب عند القاضي
…
وجلنا بذاك غير راض
بل هو في القوي: رفع الحرج
…
وللإباحة لدى بعض يجي
وقيل للندب كما في مبطل
…
أوجب الانتقال للتنفل
نسخ الوجوب يقتضي عند القاضي أبي محمد عبد الوهاب رحمه الله سبحانه وتعالى رجوع الأمر لما كان عليه قبل الوجوب، مما هو مقتضى الأدلة العامة.
وذلك كأن يقال: نسخت وجوب الأمر كذا، أو رفعت وجوبه، أو وجوب الأمر كذا منسوخ، أو مرفوع.
وأما نسخه بالنهي فهو المسألة السابقة.
وأما نسخه بإيجاب ضده، فيرفع الطلب، على أصل عدم التكليف بالمحال، وأما اقتضاؤه المنع فليس للنسخ، بل لوجوب الضد، على أصل أن الأمر بالشيء نهي عن أضداده الوجودية المتقدم.
وكأن هذا ما أراده العبادي رحمه الله سبحانه وتعالى في كلامه المسوق في النشر الذي اعترضه بعض شروح المراقي، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإلى مذهب القاضي رحمه الله سبحانه وتعالى المذكور أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بأول الشطرين، فالتشبيه في قوله: كالنسخ للوجوب، على معنى قوله قبل: وقيل للإبقا على ما كانا، وهذا مذهب بين جدا.
وذهب الجمهور منا، ومن أهل العلم، إلى أنه لرفع الحرج، المتحقق في الإباحة خاصة، أو فيها أو في الندب، كما قال القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى أو في أحدهما، أو في
(1)
متفق عليه.
الكراهة، كما قال المحلي رحمه الله سبحانه وتعالى وهو مشكل جدا.
قال الشربيني رحمه الله سبحانه وتعالى: قد تقرر أنه لا بد لكل واحد من هذه الثلاثة من دليل خاص، والفرض أنه لا دليل هنا، ولو فرض وجوده فليس الكلام في ما يؤخذ من الدليل بعد النسخ، بل في ما يؤخذ من نفس النسخ، فلعل المراد من بقاء ذلك: بقاء ما يتحقق به كل واحد منها، وهو المعنى العام الصالح لذلك على البدل، على فرض وجود دليله، فليتأمل اهـ
وقيل: إن نسخ الوجوب يقتضي الاستحباب.
وكأن مبنى هذا أن المطلق والمقيد شيئان، فإذا نسخ أحدهما بقي الآخر، والتحقيق أنهما شيء واحد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقول الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى: كما في مبطل إلخ، يشير به إلى قول حلولو رحمه الله سبحانه وتعالى: وقع في مذهبنا مسائل تشهد له، كقولهم في طرو ما يوجب قطع الصلاة: إنه يسلم عن نافلة، ولم يروا هذا إبطالا للعمل الأول، وأحسب أن بعض شيوخ المذهب وجهه بأن الواجب مندوب وزيادة، فإذا طرأ ما يسقط الواجب بقي المندوب اهـ
وجوز التكليف بالمحال
…
في الكل من ثلاثة الأحوال
وقيل بالمنع لما قد امتنع
…
لغير علم الله أن ليس يقع
وليس واقعا إذا استحالا
…
لغير علم ربنا تعالى
معناه أن التكليف بما لا يطاق، جائز خلافا للمعتزلة والغزالي، وإمام الحرمين، وأبي حامد الاسفرائيني، والتلمساني، وابن دقيق العيد رحمهم الله سبحانه وتعالى أجمعين ـ وإن كان لم يقع في الشرع، خلافا للإمام فخر الدين رحمه الله سبحامه ونعالى ـ.
قال في التنقيح: لنا قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (ربنا ولا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا به) فسؤال دفعه يدل على جوازه، وقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)
قال: وهاهنا دقيقة، وهي أن ما لا يطاق قد يكون عاديا فقط، كالطيران في الهواء، أو عقليا فقط، كإيمان الكافر الذي علم الله سبحانه وتعالى أنه لا يؤمن، أو عاديا وعقليا
معا، كالجمع بين الضدين، والأول والثالث، هما المرادان ههنا، دون الثاني اهـ
وإلى هذه الدقيقة أشار الناظم رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: في الكل من ثلاثة الأحوال.
وأشار إلى قول المعتزلة المذكور بقوله: وقيل بالمنع.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى إلى اختصاص الاختلاف بالممتنع عقلا وعادة، أو عادة فقط، بمفهوم قوله: لما قد امتنع لغير البيت.
وأشار إلى عدم وقوع المختلف في جوازهما، بقوله: وليس واقعا إذا استحالا لغير البيت.
ومفهومه وقوع ما كانت الاستحالة فيه لعلم الله سبحانه وتعالى أنه لا يقع، وهو كذلك إجماعا، كإيمان من علم الله سبحانه وتعالى في سابق علمه أنه لا يؤمن.
والمعروف في الاصطلاح كون هذا من قبيل الجائز عقلا، وإن علم أنه لا يقع، واصطلاح القرافي قال ابن عاشور ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى: لم يسبقه إليه أحد ممن رأينا اهـ
فالمستحيل العقلي في الاصطلاح المشهور هو ما يمتنع تصوره عقلا، وهو أخص من المستحيل عادة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وما وجود واجب قدُ اُطلقا
…
به، وجوبه به تحققا
والطوق شرط في الوجوب يعرف
…
إن كان بالمحال لايكلف
كعلمنا الوضوء شرطا في أدا
…
فرض، فأمرنا به بعدُ بدا
وبعض ذي الخلف نفاه مطلقا
…
والبعض ذو رأين قد تفرقا
معناه أن الواجب الذي أطلق وجوبه، يجب بوجوبه عندنا وعند الجمهور ما لا يتحقق إلا به، مما هو مقدور للمكلف.
إذ لو لم يجب، لجاز ترك الواجب، إذ الفرض أنه لا تحقق له بدونه، سواء كان سببا، أو شرطا، شرعيا كان، كالطهارة في الصلاة، أو عقليا، كترك ضد الواجب، أو عاديا، كالسفر إلى الحج.
وقد اختلف في دلالة الواجب المطلق على سببه أو شرطه هل هي تضمنية، ونسبه في
الحلي لإمام الحرمين رحمه الله سبحانه وتعالى أو التزامية، ونسبه لابن برهان رحمه الله سبحانه وتعالى أو من دليل خارجي، وهو لابن الحاجب رحمهم الله سبحانه وتعالى أجمعين ـ؟
وأولها مشكل، لأن لفظ (أقيموا الصلاة) غير موضوع للأمر بمجموع الطهارة والصلاة، ولذلك قال الناظم رحمه الله سبحانه وتعالى: كعلمنا الوضوء البيت.
قال في التنقيح: فلو قال الله سبحانه وتعالى: صلوا ابتداء، صلينا بغير وضوء، حتى يدل دليل على اشتراط الطهارة.
وقد تقدم في كلامهم في مبحث المنطوق التمثيل بهذا للاقتضاء، قال الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى:
وهْو دلالة اقتضاء إن يدل
…
لفظ على ما دونه لا يستقل
دلالة اللزوم ................ .............................
فقول الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى: وما وجود واجب، ما فيه: اسم موصول مبتدأ، خبره: وجوبه، والضمير في به الأولى: عائد على الموصول، والضمير في به الثانية: عائد إلى واجب، وقوله: قد أطلقا: صفة لواجب، يحترز به من المقيد الآتي في الأبيات بعد. والاختلاف المذكور في الوجوب بموجب الواجب، لا في أصل الوجوب.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: والطوق شرط في الوجوب البيت، إلى ما تقدم من اشتراط كون ما يتوقف عليه الواجب مقدورا للمكلف، يحترز بذلك عن تعلق علم الله سبحانه وتعالى وإرادته وقدرته بإيجاده.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: كعلمنا الوضوء البيت إلى مثال المسألة. وقال قوم: لا يجب بوجوبه مطلقا، وإنما يجب بدليل آخر، وإليه أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: وبعض ذي الخلف نفاه مطلقا.
قال في النشر: والدليل الخارجي هو أنه لما لم يكن في وسع المكلف ترتيب المسبب على السبب، كان القصد بطلب المسببات الإتيان بأسبابها اهـ
واحتج القائلون بعدم وجوب الوسيلة بوجوب المقصد، بأن المكلف إذا ترك المقصد
كصلاة الجمعة، والحج فإنه يعاقب عليهما، دون المشي إليهما، وإذا لم يستحق عقابا عليه، لم يكن واجبا، لأن استحقاق العقاب من خصائص الوجوب، قاله في النشر.
والظاهر أن الجواب عن هذا، أن هذا شأن الوسائل، فالعقاب عند الترك إنما هو على المقاصد، وما ذكر من السعي إلى الجمعة، والمشي إلى الحج واجب بالنص، فعدم العقاب فيه لم يأت من جهة عدم الوجوب، بل من جهة عدم القصد الأصلي في الخطاب إلى ذلك، فلم يعاقب عليها فضلا من الله سبحانه وتعالى.
ومثل ذلك ما يتوقف عليه العلم بترك المنهي عنه الآتي في قوله: فما به ترك المحرم يرى البيت.
فلو أنه اقتحم هذه الأمور كلها، لم يعاقب إلا على المنهي عنه بالذات.
وكذلك الثواب على الوسيلة أيضا إنما هو من حيث إنها جهد في سبيل الطاعة، كغيرها من الجهود التي ليست وسائل، فقد قال سبحانه وتعالى جل من قائل:(وما تفعلوا من خير فلن تكفروه) وقال جل من قائل سبحانه وتعالى: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله) الآية الكريمة، وقال صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم " إن بالمدينة أقواما، ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ وهم بالمدينة؟ قال: " وهم بالمدينة، حبسهم العذر "
(1)
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفرق قوم فقالوا: يجب بوجوبه إن كان سببا، سواء كان شرعيا، كصيغة العتق في الكفارة ـ مثلا ـ أو عاديا كإمساس النار لما يجب إحراقه، لا إن كان شرطا، لأن ارتباط الشيء بسببه أقوى من ارتباطه بشرطه.
وقال إمام الحرمين رحمه الله سبحانه وتعالى: يجب بوجوبه إن كان شرطا شرعيا، كالوضوء، لا عقليا أو عاديا، لأن توقف صورة الواجب عليهما مغن عن قصدهما، وإلى هذين القولين أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: والبعض ذو رأين قد تفرقا والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1)
رواه البخاري وأبو داوود وابن ماجة والإمام أحمد.
ومقتضى أدلة المختلفين أن المستحب في ما ذكر كالواجب، فاستحباب الغسل يقتضي استحباب أخذ الماء ونحو ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وما وجوبه به لم يجب
…
في رأي مالك وكل مذهب
معناه أن ما يتوقف عليه وجوب الواجب، لا يجب بوجوبه، كملك النصاب، فلا يجب تحصيله بإيجاب زكاته ـ إجماعا ـ لأن معنى سببيته له، وجوبه به، فلو وجب السبب أيضا بوجوب المسبب لزم الدور، ومثل الواجب في ذلك المستحب، كما هو ظاهر.
واعلم أن الشيء قد يكون واجبا مطلقا بالنسبة إلى مقدمة، ومقيدا بالنسبة إلى أخرى، كوجوب الصلاة، فهو بالنسبة للعقل مثلا مقيد، وبالنسبة للطهارة مطلق.
فما به ترْكُ المحرم يرى
…
وجوبَ تركه جميع من درى
أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بهذا إلى أنه لا فرق بين توقف فعل الواجب على شيء، أو ترك المحرم عليه، وتوقف العلم بفعل أحدهما عليه، فإذا تعذر العلم بترك المحرم، إلا بترك جائزات، تعين تركها، كما لو طلق معينة من زوجاته ونسيها.
وإذا تعذر العلم بفعل الواجب إلا بفعل أمر آخر غير واجب، أو أمور، تعين فعلها، وذلك كإمساك جزء من اليل، وغسل جزء من الرأس في غسل الوجه، ومسح جزء من الوجه في مسح الرأس، وصلاة الخمس لمن جهل منسية منها.
وسوينَّ بين جهل لحقا
…
بعد التعيُّن، وما قد سبقا
معناه أنه لا فرق في التباس المحرم بالجائز ـ مثلا ـ الموجب لتجنب الجميع، بين الطارئ بعد التعين، كما في مسألة نسيان المطلقة، وبين السابق، بأن لم يتقدم عليه تعين، كما في التباس ذات محرم بأجنبية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هل يجب التنجيز في التمكن
…
أو مطلقُ التمكين ذو تعين
عليه في التكليف بالشيء عُدِم
…
موجبُه شرعا خلاف قد عُلم
فالخلف في الصحة والوقوع
…
لأمر من كفر بالفروع
ثالثها الوقوع في النهي، يُرَدْ
…
بما افتقاره إلى القصد انفقد
وقيل في المرتد، فالتعذيب
…
عليه والتيسير والترغيب
اختلف في التمكن المشترط في التكليف، هل يشترط أن يكون ناجزا، وذلك بناء على أن الأمر لا يتوجه إلا عند المباشرة، أو يكفي التمكن في الجملة، وهو الصحيح، وقد تقدم بيان فساد غيره.
وينبني على هذا الاختلاف: الاختلاف في جواز التكليف عقلا بالشيء من مسبب، أو مشروط، مع عدم موجبه شرعا، من سبب، أو شرط.
فمن شرط كونه ناجزا، منع التكليف في ذلك، ومن لا فلا، وإلى هذا أشار بالبيتين الأولين.
قال في الإرشاد: وهذه المسألة ليست على عمومها، إذ لا خلاف في أن مثل الجنب والمحدث مأموران بالصلاة، بل هي مفروضة في جزئي، وهو أن الكفار مخاطبون بالشرائع، أي: بفروع العبادات عملا اهـ
وصرح بمثله آخرون والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإلى ذلك أشار الناظم رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: فالخلف في الصحة والوقوع البيت.
قال في النشر: قولان في كل منهما ـ يعني الجواز والوقوع ـ موجودان في المذهب من غير ترجيح.
وقال في التنقيح: قال الباجي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى: وظاهر مذهب الإمام مالك رحمه الله سبحانه وتعالى خطابهم بها، خلافا للحنفية، وأبي حامد الاسفرائيني رحمه الله سبحانه وتعالى لقوله سبحانه وتعالى جل من قائل ـ حكاية عنهم:(قالوا لم نك من المصلين) وقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا) الآية الكريمة.
وما قيل من احتمال كون ما في الآية من التعبير باللوازم عن الملزومات، كحديث " نهيت عن قتل المصلين "
(1)
فليس بالبين جدا، لأن مجرد الاحتمال، لا يمنع من الاستدلال،
(1)
رواه أبو داوود بسند ضعيف.
وإلا لانحصرت الحجية في النص، ولا يخفى أن احتمال ذلك مرجوح، لمخالفته لظاهر اللفظ، وظاهر العطف، مع اعتضاد الظاهر بالظواهر الكثيرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقيل: إنهم مخاطبون بالنواهي دون الأوامر، بل حكى عليه بعضهم الإجماع.
ووجه هذا القول عدم توقف الخروج من عهدة النواهي على نية الامتثال.
وأورد عليه أن من الأوامر ما لا يتوقف على نية، كأداء الدين والوديعة.
وإلى هذا أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: ثالثها الوقوع فى النهي البيت.
ونقل عكسه أيضا، وهو مخاطبتهم بالأوامر دون النواهي.
وقيل: يخاطب المرتد دون الكافر الأصلي، استصحابا للخطاب السابق.
وإلى هذا أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: وقيل في المرتد.
وقيل: يخاطبون بما عدا الجهاد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وتوقف قوم في خطابهم.
وقوله: فالتعذيب إلخ أشار به إلى قول القرافي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى في شرح التنقيح: وأذكر منها - يعني فوائد الخلاف في مخاطبته بالفروع - هاهنا نبذا:
أحدها: تيسير الإسلام عليه، فإنه إذا كان مخاطبا، وهو خيِّر النفس بفعل الخيرات، من الصدقات، وأنواع البر وغيرها، كان ذلك سببا في تيسير إسلامه، استنباطا من قوله ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ:" إن المؤمن ليختم له بالكفر بسبب كثرة ذنوبه " فيناسب أن يختم للكافر بالإيمان بسبب كثرة إحسانه وحسناته، وإن أجمعنا على أنه لا يثاب عليها في الآخرة، إلا أنه ورد الحديث الصحيح أنه يطعم بها في الدنيا، ولم يرد دليل على أنها لا تكون سببا لتيسير الإسلام فبقي استنباطه لا مانع منه.
وثانيها: الترغيب في الإسلام، فإنه إذا كان كثير القتل، والفتك، والفساد، وقيل: إن الإسلام من شرفه أن يهدم جميع آثام هذه الأفعال، كان ذلك أوقع في نفسه، من قولنا: إن الإسلام لا ينهض إلا بالكفر وحده.
ثالثها تخفيف العذاب في الدار الآخرة، فإن الدليل ما دل إلا على تخليد الكافر في العذاب، وأما مقداره في الكمية، فالتفاوت واقع فيه قطعا، ولذلك قال سبحانه وتعالى جل
من قائل ـ: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) واليهود أسفل من النصارى، كما جاء في الحديث الصحيح، من ترتيب طبقات النار ـ أجارنا الله سبحانه وتعالى منها فإذا قلنا هو مخاطب وفعل ذلك، كان سببا لتخفيف العذاب عنه من الخلود.
فهذه فوائد تظهر من ثمرة الخلاف في كونهم مخاطبين اهـ
وفي أكثر هذا الكلام ضعف بين، ولين لا خفاء فيه، ولا إساءة ولا ظلم أعظم من الكفر، وقد قال سبحانه وتعالى جل من قائل:(إن الشرك لظلم عظيم) وقال جل من قائل سبحانه وتعالى: (وكان الكافر على ربه ظهيرا)
وفي تضاعيف فروع المذهب، اختلافات يصرحون بانبنائها على هذا الأصل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وعلل المانع بالتعذر
…
وهو مشكل لدى المحرر
في كافر آمن مطلقا وفي
…
من كفره فعل كإلقا مصحف
والرأي عندي أن يكون المدرك
…
نفْي قبولها فذا مشترك
أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بهذا إلى ما ذكره القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى في شرح التنقيح ونصه:
وسبب الخلاف، يحتمل أن يكون عند من منع، أن التقرب بالفعل، فرع اعتقاد صدق المخبر بالتكليف به، ومن لم يصدق تعذر عليه أن يتقرب، فلا يكلف بالتقرب، وعلى هذا المدرك تكون هذه المسألة من مسألة منع التكليف بما لا يطاق.
ويحتمل أن يكون المدرك، إنما هو أن الله سبحانه وتعالى لا يقبل الفروع منهم، لأجل كفرهم، فلا يكلفهم بها، لأن الله سبحانه وتعالى لا يقبلها.
والاحتمال الأول هو الظاهر من احتجاجات العلماء في هذه المسألة، ومن أقوالهم.
إلى أن قال: وإذا كان هذا هو المدرك فهو مشكل.
إلى أن قال: فمن آمن بظاهره وباطنه منهم، أو بظاهره فقط، معتقد صدق التكليف، فالتعذر في حقه ساقط، وكذلك من كان كفره بالفعل، كإلقاء المصحف في القاذورات، أو باني كنيسة مريدا للكفر فيها، أو كان كفره بجحده آية من كتاب الله سبحانه وتعالى ـ
فقط، أو بجحد سليمان النبي فقط ـ على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ فإن هؤلاء كلهم يعتقدون صحة الفروع، فلا يتعذر منهم التقرب بالفروع، فلا يتجه التعليل بتعذر التقرب اهـ
وهذا غير بين، فما ذكره من الإيمان غير رافع للتعذر، فالاعتداد بالعمل بحيث يترتب عليه الثواب - فعلا كان أو تركا - متوقف على الإيمان بمعنى الإسلام، وهو أخص مما ذكره، والمطلوب الشرعي إنما هو المعتد به شرعا، فالصواب هو الاحتمال الثاني كما اختار الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى في قوله: والرأي عندي أن يكون المدرك البيت.
والمدرك: اشتهر على الألسنة بفتح الميم، والصواب الضم، لأنه اسم مكان من أدرك، وفي ذلك يقول شيخنا محمد الحسن بن أحمد الخديم ـ حفظنا الله تعالى وإياه ـ:
ومدرك بضم ميم: موضع
…
إدراكِه، والفتح فيه يمنع
لأنه من اَدرك الرباعي
…
فليس للفتح به من داع
والله سبحانه وتعالى أعلم.
تكليف من أحدث بالصلاة
…
عليه مجمع لدى الثقات
معناه أن المجتهدين أجمعوا على أن المحدث مخاطب بالصلاة، وهو حجة لمن لا يشترط كون التمكن المشترط في التكليف ناجزا، وما حكى بعضهم من الخلاف في ذلك، محمول على قصد تقدم الطهارة في الفعل، ولا خلاف فيه أيضا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وربطه بالموجب العقلي
…
حتم بوفق قد أتى جلي
معناه أن ربط التكليف وإناطته بالموجب العقلي، من سبب، أو شرط، كالحياة للعلم، وفهم الخطاب، أمر متفق عليه، وكذلك السبب الشرعي، نحو إن دخلت المسجد فصل ركعتين، وأما الشرط العادي كغسل جزء من الرأس في الوجه، فليس شرطا في صحة التكليف اتفاقا، وإنما الخلاف في الشرط الشرعي على ما سلف بيانه.
دخول ذي كراهة في ما أُمر
…
به، بلا قيد وفصل قد حظر
معناه أن مطلق الأمر بماهية بعض جزئياتها منهي عنه، لا يتناول المنهي عنه منها ـ مكروها كان أو محرما ـ خلافا للحنفية حيث قالوا بتناوله لذلك، عملا بعموم اللفظ.
وحجة الجمهور: أنه لو تناوله لكان الشيء الواحد مطلوبا منهيا عنه في وقت واحد، وهو تناقض.
ومحل الخلاف: إذا لم يقيد الأمر بغير المنهي عنه، فإن قيد بذلك لم يتناوله اتفاقا، وذلك هو المراد بقوله: بلا قيد.
ومحله أيضا: إذا لم تنفصل جهة النهي عن جهة الأمر، بأن لا تكون له إلا جهة واحدة، أو تكون له جهتان بينهما لزوم، وذلك هو المراد بقوله: وفصل، أي: وبلا فصل، فهو معطوف على قيد.
وقوله: قد حظر: خبر قوله: دخول.
فإن كانت له جهتان لا لزوم بينهما، صح أن يتعلق به الأمر من جهة، والنهي من جهة.
فنفي صحة ونفي الاجر
…
في وقت كره للصلاة يجري
معناه أنه ينبني على ما ذكر في البيت قبل: بطلان الصلاة في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، فالنهي وإن تعلق بخارج عن الصلاة إلا أنه ملازم لها، إذ لا يمكن فعل الصلاة حينه إلا فيه، فلا انفكاك عنه.
ونقل الشيخ عن الزركشي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى الاتفاق على حرمة الإقدام على العبادة التي لا تصح، وانظر ذلك في المكروه المذكور.
وأما المكان المنهي عن إيقاع الصلاة فيه، فالنهي فيه متعلق بخارج غير ملازم، فالملازم إنما هو مطلق المكان، لا مكان بعينه، لإمكان الإيقاع في غيره في ذلك الوقت، فجهة النهي منفكة عن جهة الأمر، فلم تقتض فسادا، عند الجمهور.
نعم اختلف هل يؤجر عليها أو لا؟ وإلى هذا أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
وإن يك الأمر عن النهي انفصل
…
فالفعل بالصحة لا الأجر اتصل
وذا إلى الجمهور ذو انتساب
…
وقيل بالأجر مع العقاب
ومعنى البيتين أن الصلاة المذكورة، صحيحة غير مثاب عليها، في ما نسبه إلى الجمهور من المالكية وغيرهم.
أما صحتها، فلاستجماعها ما يشترط في صحتها.
وأما عدم الأجر، فلأن العصيان سبب لعدم القبول مع الانفصال، فكيف به وهو مقارن.
وقيل: يؤجر عليها من جهة أنها صلاة مأمور بها، ويعاقب عليها من جهة ركوب النهي، كما لو فعل أمرا ونهيا منفصلين.
ولعل مراد الجمهور بعدم الأجر: أن ذلك مظنة له، كما أن مراد غيرهم أنه فعل سبب ثواب في الجملة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد رُوِي البطلانُ والقضاء
…
وقيل ذا فقط له انتفاء
معناه أن الصلاة في الأماكن المكروهة، روى ابن العربي عن الإمام مالك ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى أنها باطلة، يجب قضاؤها، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله سبحانه وتعالى وأكثر المتكلمين كما في النشر.
وقال القاضي والإمام الرازي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى إنها باطلة، ولكن لا تقضى، لأن السلف لم يأمروا بقضائها.
مثل الصلاة بالحرير والذهب
…
وفي مكان الغصب والوضو انقلب
ومعطن ومنهج ومقبره
…
كنيسة وذي حميم مجزره
أشار بهذا إلى أمثلة من اجتماع الأمر والنهي مع تعدد الجهة، وعدم التلازم.
فمن ذلك: صلاة الرجل بثوب حرير، أو بذهب، ولو خاتما، والصلاة في المكان المغصوب، والوضوء المنكس، والصلاة بمعاطن الإبل، والجدة، والمقبرة، والكنيسة، والحمام، والمجزرة، على التفاصيل المذكورة في ذلك كله في كتب الفقه.
فالصلاة على هذه الأحوال كلها مأمور بها من جهة كونها صلاة، منهي عنها من جهة التلبس بالمنهي عنه بها، وجهة الأمر غير ملازمة لجهة النهي، فالصلاة إنما تستلزم مطلق المكان، ولذلك صح الأمر بها مع الذهول عن خصوصيات الأمكنة، والأمر بالشيء يستلزم الشعور به، وهكذا في بقية المذكورات.
من تاب بعد أن تعاطى السببا
…
فقد أتى بما عليه وجبا
وإن بقي فساده كمن رجع
…
عن بث بدعة عليها يتبع
أو تاب خارجا مكان الغصب
…
أو تاب بعد الرمي قبل الضرب
وقال ذو البرهان إنه ارتبك
…
مع بقاء النهي للذي سلك
مذهب الجمهور أن من توسط أرضا مغصوبة ـ مثلا ـ ثم تاب وتوجه للخروج واختار أقل الطرق ضررا، وأقربها، فخروجه واجب، لا تحريم فيه، وإن وجد فيه اعتباران: الشغل، والتفريغ، لأنه لا يمكن الإتيان بالتفريغ إلا بالشغل، قال القاضي رحمه الله سبحانه وتعالى: هذا هو المختار، وكذلك القول في كف الزاني عن الزنى، قال ابن برهان رحمه الله سبحانه وتعالى: وهذا مما أجمع عليه كافة الفقهاء والمتكلمين، وقال أبو هاشم: خروجه كلبثه، لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وذلك قبيح لعينه.
وقال إمام الحرمين رحمه الله سبحانه وتعالى: هو مرتبك في المعصية بحكم الاستصحاب، مع انقطاع تكليف النهي.
واسنبعد قوله، إذ ليس في الشرع معصية من غير نهي، قاله بمعناه في البحر.
وقال ابن الحاجب رحمه الله سبحانه وتعالى في مختصره: وأما من توسط أرضا مغصوبة، فحظ الأصولي فيه: بيان استحالة تعلق الأمر والنهي معا بالخروج اهـ
قال التاج رحمه الله سبحانه وتعالى: فإنه تكليف بالمحال، فيتعلق التكليف بواحد منهما يعينه الفقيه، والفقيه يقول: يؤمر بالخروج، كما يؤمر المولج في الفرج الحرام بالنزع، وإن كان به مماسا للفرج الحرام، ولكن يقال: انزع على قصد التوبة، لا على قصد الالتذاذ، فكذلك الخروج من الغصب، فإن أهون الضررين يصير واجبا بالإضافة إلى أعظمهما اهـ
وقال الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله سبحانه وتعالى في موافقاته: متعاطي السبب قد يبقى عليه حكمه، وإن رجع عن ذلك السبب، أو تاب منه، فيظن أن المسبب يرتفع حكمه برجوعه عن السبب، ولا يكون كذلك.
مثاله: من توسط أرضا مغصوبة، ثم تاب وأراد الخروج منها، فالظاهر الآن أنه لما أمر بالخروج، فأخذ في الامتثال، غير عاص، ولا مؤاخذ، لأنه لم يمكنه أن يكون ممتثلا عاصيا في حالة واحدة، ولا مأمورا منهيا من جهة واحدة، لأن ذلك تكليف ما لا يطاق.
فلا بد أن يكون في توسطه مكلفا بالخروج على وجه يمكنه، ولا يمكن مع بقاء حكم النهي في نفس الخروج، فلا بد أن يرتفع عنه حكم النهي في الخروج.
وقال أبو هاشم: هو على حكم المعصية، ولا يخرج عن ذلك إلا بانفصاله، عن الأرض المغصوبة.
ورد الناس عليه قديما وحديثا.
والإمام رحمه الله سبحانه وتعالى أشار في البرهان إلى تصور هذا وصحته، باعتبار أصل السبب الذي هو عصيان، فانسحب عليه حكم التسبب، وإن ارتفع بالتوبة، ونظر ذلك بمسائل.
وهو صحيح باعتبار الأصل المتقدم، فإن أصل التسبب أنتج مسببات خارجة عن نظره، فلو نظر الجمهور إليها، لم يستبعدوا اجتماع الامتثال، مع استصحاب حكم المعصية إلى الانفصال عن الأرض المغصوبة.
وهذا أيضا ينبني على الالتفات إلى أن المسبب خارج عن نظره، فإنه إذا رأى ذلك وجد نفس الخروج ذا وجهين:
أحدهما: كون الخروج سببا في الخلوص عن التعدي بالدخول في الأرض، وهو من كسبه.
والثاني: كونه نتيجة دخوله ابتداء، وليس من كسبه بهذا الاعتبار، إذ ليس له قدرة عن الكف عنه.
ومن هذا، مسألة من تاب عن القتل بعد رمي السهم عن القوس، وقبل وصوله إلى الرمية، ومن تاب من بدعة بعد ما بثها في الناس، وقبل أخذهم بها، أو بعد ذلك وقبل رجوعهم عنها، ومن رجع عن شهادته بعد الحكم بها، وقبل الاستيفاء.
وبالجملة بعد تعاطي السبب على كماله، وقبل تأثيره، ووجود مفسدته، أو بعد وجودها وقبل ارتفاعها إن أمكن ارتفاعها، فقد اجتمع على المكلف هنا الامتثال مع بقاء العصيان.
فإن اجتمعا في الفعل الواحد كما في المثال الأول، كان عاصيا ممتثلا، إلا أن الأمر
والنهي لا يتواردان عليه في هذا التصوير، لأنه من جهة العصيان غير مكلف به، لأنه مسبب غير داخل تحت قدرته، فلا نهي إذ ذاك، ومن جهة الامتثال مكلف، لأنه قادر عليه، فهو مأمور بالخروج، وممتثل به.
وهذا معنى ما أراده الإمام رحمه الله سبحانه وتعالى وما اعترض به عليه، وعلى أبي هاشم لا يرد مع هذه الطريقة إذا تأملتها والله سبحانه تعالى أعلم اهـ
وارتكب الأخف من ضرين .............................
معناه أنه إذا تقابل ضرران، فلم يكن من ارتكاب أحدهما بد، تعين ارتكاب الأخف، دفعا للأشد، وذلك كخرق سيدنا الخضر ـ على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ سفينة اليتامى دفعا لغصبها.
قال في النشر: ومن ثم جبر المحتكر على البيع، عند احتياج الناس إليه، وجار المسجد إذا ضاق، وجار الطريق.
إلى أن قال: ومثل الضررين، المكروهان والمحظوران.
وجعل في الحلي الواجبين كذلك، وهو كذلك في ما يظهر.
وكذلك ينبغي أن يكون القول في تقابل مستحبين، فكما يرتكب الضرر المرجوح، اتقاء للضرر الراجح، كذلك تترك المصلحة المرجوحة، في سبيل تحصيل المصلحة الراجحة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وتسمية المطلوب تركه مطلوبا، والمطلوب فعله منهيا عنه، باعتبار ما قبل التقابل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وخيرنْ لدى استوا هذين
كمن على الجريح في الجرحى سقط
…
وضعَّف المكث عليه من ضبط
معناه أنه إذا استوى الضرران، كان المكلف بالخيار، ومن أمثلة ذلك الساقط على جريح من جرحى، إن مكث فوقه قتله، وإن تحول عنه وقع على آخر يقتله، إذ لا يجد محلا يعتمد عليه إلا بدن جريح، فهو مخير بين المكث والانتقال.
وقيل: يجب عليه المكث على من وقع عليه، لأن الانتقال فعل مستأنف.
وضعفه البعض بأن المكث الاختياري كالانتقال بلا فرق.
ورجح زكريا رحمه الله سبحانه وتعالى وجوب المكث لأنه دوام، ويغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء.
ولم يستبعد العبادي رحمه الله سبحانه وتعالى ترجيحه في السقوط اختيارا، معللا بأن الانتقال استئناف قتل بغير حق، وتكميل القتل أهون من استئنافه اهـ
وتوقف إمام الحرمين رحمه الله سبحانه وتعالى في المسألة.
ومحل ما ذكر إذا تكافأ الجريحان، فإن كانا غير كفؤين، تعين المكث، إذا وقع على الأدنى، والانتقال إذا وقع على الأعلى، ولا يبعد عند العبادي رحمه الله سبحانه وتعالى أن يكون في معنى التفاوت في الكفاءة، ما إذا كان أحدهما إماما ـ مثلا ـ تترتب على هلاكه المفاسد، أو عالما يترتب على موته وهن في الدين، أو ضياع العلم، وهو بين.
وهو من مفردات القاعدة التي قبل هذه القاعدة أعني قوله: وارتكب الأخف من ضرين.
وظاهر كلام أصحابنا في الإكراه أنه إذا كان يمكنه الانتقال عنه إلى غير نفس، إلا أنه يخاف على نفسه الموت، كما لو أمكنه أن ينتقل عنه إلى نار أو بحر، أنه يجب عليه الانتقال، ولا يجوز له أن يؤثر نفسه بالبقاء، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ألأخذ بالأول لا بالآخر
…
مرجح في مقتضى الأوامر
وما سواه ساقط، أو مستحب
…
لذاك الاطمئنان والدلك انجلب
وذاك في الحكم على الكلي
…
مع حصول كثرة الجزئي
أشار بهذا إلى قول القرافي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى في التنقيح: فرع اختار القاضي عبد الوهاب رحمه الله سبحانه وتعالى أن الأمر المعلق على الاسم يقتضي الاقتصار على أوله، والزائد على ذلك إما مندوب، أو ساقط اهـ
مع قوله في شرحه: هذه المسألة مشهورة بالأخذ بأوائل الأسماء أو بأواخرها، قولان للعلماء، وكثير من الفقهاء غلط في تصويرها، حتى خرج عليها ما ليس من فروعها، ظانا أنه
من فروعها، فقال أبو الطاهر
(1)
رحمه الله سبحانه وتعالى وغيره، في قول الفقهاء: التيمم إلى الكوعين، أو إلى المرفقين، أو الإبطين، ثلاثة أقوال، أن ذلك يتخرج على هذه القاعدة، هل يؤخذ بأوائل الأسماء اقتصر على الكوع أو بأواخرها فيصل إلى الإبط؟ ويجعلون كل ما هو من هذا الباب مخرجا على هذه القاعدة.
وهذا باطل إجماعا، ومنشأ الغلط إجراء أحكام الجزئيات على الأجزاء، والتسوية بينهما، ولا خلاف أن الحكم في الكل لا يقتصر به على جزئه، فلا تجزئ ركعة عن ركعتين في الصبح، ولا يوم عن شهر رمضان في الصوم، ونظائره كثيرة.
إنما معنى هذه القاعدة إذا علق الحكم على معنى كلي، له محال كثيرة، وجزئيات متباينة في العلو والدناءة، والكثرة والقلة، هل يقتصر بذلك الحكم على أدنى المراتب، لتحقق المسمى بجملته فيه، أو يسلك طريق الاحتياط، فيقصد في ذلك المعنى أعلى المراتب؟ هذا موضع الخلاف.
ومثاله إذا قال رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ: " إذا ركعتَ فاطمئن راكعا "
(2)
فأمر بالطمأنينة، فهل يكتفى بأدنى رتبة تصدق فيه الطمأنينة، أو يقصد أعلاها؟ وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام:" خللوا الشعر، وأنقوا البشرة "
(3)
يقتضي التدليك، هل يقتصر على أدنى رتبة التدليك، أو أعلاها؟
فهذه صورة هذه القاعدة في الجزئيات في المحل، لا في الأجزاء، ثم الفرق أن الجزء لا يستلزم الكل، والجزئي يستلزم الكلي، فلذلك أجزأ الثاني، دون الأول، فأدنى رتب الموالاة موالاة، وليست الركعة ركعتين، ولا اليوم شهرا.
إلى أن قال: وقوله: والزائد على ذلك إما مندوب، أو ساقط، فالمندوب كالطمأنينة، والساقط كزيادة التدلك، فإن الشرع لم يندب لزيادة التدلك، كما ندب لزيادة الطمأنينة، ووجب الاقتصار على أول الرتب، جمعا بين الدال على الوجوب، وأن الأصل براءة الذمة،
(1)
لعله يقصد ابن بشير ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى.
(2)
معناه متفق عليه من حديث الأعرابي، وهذا اللفظ لم أقف عليه.
(3)
لم أقف عليه بهذا اللفظ، وأقرب ما وقفت عليه إليه، حديث أبي داود والترمذي " تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشر " وهو حديث ضعيف.
كما أنه لو وجب عتق رقبة، واقتصرنا على ما يسمى رقبة أجزأ، وإن كانت أدنى الرقاب، ولا يجب علينا أن نعتق رقبة بألف دينار، فهذه صورة القاعدة ومدركها من حيث النظر.
وقال ابن عاشور رحمه الله سبحانه وتعالى في حاشيته عليه: وليس قصر هاته المسألة على ما ذكره المصنف بمتعين، حتى يغلط من صورها من الفقهاء، في إجزاء اسم الكل، كالأوقات، عند القائل بأن أول الوقت متعين، في مسألة الواجب الموسع، ومن صورها في أحد معنيي الاسم المشترك، في معنيين متفاوتين، كاليد في التيمم كما قال أبو الطاهر، إذ لا مانع من شمول المسألة لصور متعددة، وجريان الخلاف في جميع صورها، وكيف يعمد إلى تغليط غير واحد من الفقهاء في ذلك مع صحة المراد اهـ
وما قاله هو الأبين ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وما ذكره القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى من الكل والجزء لا ورود له هنا، فاسم الكل لا يصدق على الجزء، فليس اسم الركعتين صادقا على الركعة، ولا اسم الشهر صادقا باليوم، وإنما الذي يصدق بذلك اسم الصوم، واسم الصلاة على الخلاف في التنفل بركعة. وما ذكره من حمل اليد في التيمم على اليد إلى الكوع، ليس من قبيل الحمل على البعض، بل ذلك هو كل معنى اليد في وضع آخر، فهو أحد حقائق لفظ اليد، فالاجتزاء به إنما هو لصدق الاسم حقيقة في أحد الأوضاع عليه، والأصل براءة الذمة، وهذا هو وجه الاكتفاء بأدنى جزئي في المطلق، كما تقدم، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وربما اجتماع أشياء انحظل
…
مما أتى الأمر به على البدل
أو الترتب، وقد يُسَنُّ
…
وفيه قل إباحة تعنُّ
معناه أن الأشياء المأمور بها على سبيل البدل أو الترتيب، قد يكون الجمع بينها ممتنعا، وقد يكون مسنونا، وقد يكون مباحا، فالأقسام إذا ستة، من ضرب ثلاثة - وهي الامتناع، والاستنان، والإباحة - في اثنين، وهما كون الأمر بها على سبيل البدل أو الترتب.
…
ومثلوا لمنع الجمع في البدلية، بتزويج المرأة من الأكفاء.
ومثلوا لمنع الجمع في المرتبة بأكل المذكى والميتة.
ومثلوا لاستنان الجمع في البدلية، بالستر بأحد ثوبين كل منهما كاف في ستر العورة وحده، بالنسبة للمحرم، فالستر بأحدهما كاف في أداء الواجب، لكن الجمع بينهما بأن يتزر بأحدهما، ويرتدي بالآخر مسنون.
ومثلوا لاستنان الجمع في المرتبة بخصال كفارة الظهار، قال في شرح التنقيح: لأنها مصالح وقربات، وانظره
(1)
.
ومثل ابن عاشور رحمه الله سبحانه وتعالى لإباحة الجمع في المرتبة بالركوب في الطواف، إذا جاز له الركوب لعذر، فركب، ثم تكلف المشي في بعض الأطواف.
وحاصله: أن الجمع بينهما مع العذر جائز، لكن ينظر في كون ذلك جمعا.
ومثلوا لإباحة الجمع في البدلية بالثياب المتعددة بالنسبة لغير المحرم، إذا كان الواحد محصلا للمطلوب من الستر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل في الواجب الموسع
قال في النشر: وهو راجع إلى الواجب المخير قاله الفهري ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى ولذا ذكرت بعده مسألة الأمر بواحد مبهم من أشياء معينة.
وبيان ذلك أن المكلف مخير في أجزاء الوقت، كتخييره في المفعول في خصال كفارة اليمين.
ما وقته يسع منه أكثرا
…
وهو محدودا وغيره جرى
معناه أن الواجب الموسع، هو الموقت بوقت يزيد على فعله ـ يعني من الواجبات ـ وكأنهم خصوا الواجب بالذكر لاختصاصه ببعض بحوثه.
وسواء كان للوقت المذكور حد له ينتهي عنده، كما في أوقات الصلوات، أو لا، وذلك هو المقصود بقوله رحمه الله سبحانه وتعالى: وهو محدودا وغيره جرى.
وليس هذا الإطلاق ببين عندي جدا، فإن قولنا في حده: يسع وقته أكثر من فعله، يقتضي اختصاص القسمة بالموقت، ومطلق الوقت، لا يخلو عنه مأمور، فتوجه أن يكون
(1)
فذلك نظر من جهة أخرى، وإنما المراد الجمع من جهة القصد إلى التكفير بها.
المراد الوقت المعين كالذي مر في قوله:
والوقت ما قدره من شرعا
…
من زمن مضيقا موسعا
وإذا كان كذلك اختص بما له حد ينتهي إليه، وإلا كان كل مطلوب على التراخي موسعا، وكل مطلوب على الفور مضيقا، وهو وإن صح من جهة المعنى، ووقع في عبارة البعض أحيانا، إلا أنه غير ما عليه الاصطلاح، على ظاهر عباراتهم وتمثيلهم، والله سبحانه وتعالى أعلم
(1)
.
وقد اختلف في ثبوت الوجوب الموسع، فنفاه قوم، لأن التوسعة تستلزم تجويز الترك، والوجوب يستلزم منعه، ومذهبنا ثبوته، وأن الأمر متعلق بالقدر المشترك بين أجزاء الوقت، ففي أي جزء منه أوقع المكلف الصلاة مثلا، كان ممتثلا مؤديا، ولا يأثم بالتأخير عن أوله، وإن لم يكن من ضرورة، لقوله ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ:" ما بين هذين وقت "
(2)
.
وذهب القاضي عبد الوهاب والقاضي أبو بكر الباقلاني ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى إلى وجوب التقديم أول الوقت المختار، أو العزم على الأداء فيه، ولا يجوز عندهما التأخير دون عزم على الأداء فيه، وهو مذهب بين، ونقل نحوه عن الغزالي رحمه الله سبحانه وتعالى في حق الذاكر دون الغافل، والظاهر أنه مقصود القاضيين، إذ الغافل عن الفعل حتى خرج الوقت ليس بآثم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ونسب أبو الوليد الباجي رحمه الله سبحانه وتعالى لبعض المالكية، أن وقت الأداء هو ما يعينه المكلف للأداء من المختار، ولا يبعد رجوعه إلى القول المشهور، فظاهر كلام أبي الوليد الباجي رحمه الله سبحانه وتعالى أن مراد قائله حصول أداء الواجب به، وذلك حيث قاسه مستحسنا له على الواجب المخير، وسيأتي أن الخروج من عهدة الوجوب فيه، بما يعينه المكلف، ليس لتعينه للوجوب، بل لتحقق القدر المشترك فيه، وكذلك الحال هنا،
(1)
وقفت بعد كتابتي لهذا بزمن، على التصريح بمثله للزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى في البحر.
(2)
رواه النسائي، والإمام مالك، والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإلى ما ذكر أشار الناظم رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
فجوزوا الأدا بلا اضطرار
…
في كل حصة من المختار
وقائل منا يقول العزم
…
على وقوع الفرض فيه حتم
أو هو ما مكلف يعين ...........................
فقوله: وقائل منا، يريد به القاضيين - رحمهما الله سبحانه وتعالى.
ثم أشار رحمه الله سبحانه وتعالى إلى أقوال نفاة الواجب الموسع، فقال:
وخلف ذي الخلاف فيه بين
فقيل الاخر وقيل الاول
…
وقيل ما به الأدا يتصل
ذهب الحنفية على ما نسبه إليهم القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى إلى أن الوجوب متعلق بآخر الوقت، لعدم الإثم بالترك في ما قبل ذلك.
وأورد عليه الإجماع على الإجزاء في أول الوقت.
وقيل: يتعلق بأول الوقت، لأن الزوال مثلا سبب لوجوب الظهر، والأصل ترتب المسببات على أسبابها، ونسب لبعض الشافعية.
وأورد عليه أن الإجماع منعقد على جواز التأخير في الصلوات ـ مثلا ـ فلو تعلق الوجوب بأوله خاصة، لكان المؤخر عنه آثما.
وقيل: وقت الأداء منه هو الجزء منه الذي وقع فيه الفعل، فإن لم يفعل في الوقت، تعين آخره، وهذا هو المشهور عن الحنفية.
وانظر ما الفرق بين هذا وبين القول الثالث؟
ونقل في النشر عن الكرخي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى من الحنفية أنه إن قدم الفعل على آخر الوقت، وقع واجبا بشرط بقائه مكلفا إلى آخر الوقت، فإن مات أو جن قبله، وقع ما قدمه نفلا.
فصل في الواجب المخير
والامر بالواحد من أشياء
…
يوجب واحدا على استواء
معناه أن الأمر بواحد مبهم، من أشياء معينة مختلفة، يقتضي وجوب واحد منها لا بعينه، للخروج به من عهدة الخطاب، لتحقق القدر المشترك بينها فيه، كالحال في الواجب الموسع بالنسبة للوقت، والكفائي بالنسبة للمكلفين.
وذهب قوم إلى أن إيجاب واحد مبهم من أشياء معينة، يقتضي إيجاب جميعها.
ورد بالإجماع على البراءة بفعل أي واحد منها، وعدم العقاب عند ترك الجميع، على ترك أكثر من واحد.
وما قيل في إيجاب واحد مبهم من أشياء معينة، يقال ـ أيضا ـ في ندب واحد مبهم من أشياء معينة، فهو يقتضي ندب واحد منها لا بعينه.
فصل في ذي الكفاية
سمي بذي الكفاية أو الكفائي، لكفاية البعض فيه، وسمي غيره بالعيني، لتوجه الخطاب فيه لكل عين ـ أي: ذات من المكلفين ـ أو لعين معينة.
ما طلب الشارع أن يحصلا
…
دون اعتبار ذات من قد فعلا
معناه أن ذا الكفاية هو ما طلب الشرع مجرد حصوله، من غير نظر إلى ذات فاعله، إلا تبعا للفعل ضرورة أنه لا يحصل دون فاعل، سواء كان دينيا، كتجهيز الميت، أو دنيويا، كالحرف المهمة.
وهْو مفضل على ذي العين
…
في زعم الاستاذ مع الجويني
معناه أن القيام بالواجب الكفائي، أفضل من القيام بالواجب العيني، عند الأستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني، وأبي محمد الجويني، وكذلك ابنه إمام الحرمين رحمهم الله سبحانه وتعالى بحجة أنه يصان عن القيام به جميع المكلفين به عن الإثم، بخلاف العيني، ولكن الذي يقتضيه اهتمام الشرع بالعيني حيث وجه الخطاب به لكل مكلف، أنه آكد من الكفائي، ولذلك أشار الناظم رحمه الله سبحانه وتعالى تبعا للتاج السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى بعبارة الزعم.
مزه من العيني بأن قد حظلا
…
تكرير مصلحته إن فعلا
أشار بهذا إلى قول القرافي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى في التنقيح:
قاعدة: الفعل على قسمين:
منه ما تتكرر مصلحته بتكرره، كالصلوات الخمس، فإن مصلحتها الخضوع لذي الجلال، وهو متكرر بتكرر الصلاة.
ومنه ما لا تتكرر مصلحته بتكرره، كإنقاذ الغريق، فإنه إذا شيل من البحر، فالنازل بعد ذلك إلى البحر لا يحصل شيئا من المصلحة، وكذلك إطعام الجائع، وكذلك كسوة العريان وقتل الكفار.
فالقسم الأول، جعله الشرع على الأعيان، تكثيرا للمصلحة، والقسم الثاني على الكفاية، لعدم الفائدة في الأعيان اهـ
مع قوله في شرحه: هذه القاعدة هي سر ما يشرع على الكفاية، وما يشرع على الأعيان، تكرار المصلحة، وعدم تكررها، فمن علم ذلك، علم ما هو الذي يكون على الكفاية، وما هو الذي يكون على الأعيان في الشريعة اهـ
وما ذكره رحمه الله سبحانه وتعالى غير بين، بل الوجه في ما ذكره، أن الأمر في الكفائي أمر واحد، والمطلوب فيه شيء واحد، فإذا حصل سقط الطلب، ولم يكن لفعله مرة أخرى معنى، بخلاف العيني، فإن الأمر فيه متعدد بتعدد المكلفين، والمطلوب فيه متعدد بتعدد المكلفين أيضا، كما نصوا في العام أنه في قوة قضايا بعدد أفراده، فلا يسقط الطلب جملة، حتى يقع من جميع المخاطبين.
لكن هذا خاص بالعيني العام، كالصلوات ونحوها.
وأما العيني الخاص، فالأمر فيه واحد أيضا، فيسقط الطلب بفعله مرة، كأداء الدين، والأروش، ورد الوديعة، والمظلمة، وتطهير النجس، وأداء الكفارة، ودواء المرض، ونحو ذلك.
وما ذكره هو في القاعدة من إطعام الجائع وكسوة العريان، فإن ذلك قد يؤمر به عينا أيضا.
وتمثيله لمتكرر المصلحة بالصلوات الخمس مشكل، لأنه إن أراد تكريرها من غير تكرر
سببها، فليس ببين، لما جاء في الحديث من النهي عن الصلاة في يوم واحد مرتين،
(1)
وإن أراد تكريرها لتكرر سببها، فكذلك الحال في الكفائي، فإذا تكرر الغرق، أو حلول الضيفان، توجه الطلب من جديد وهذا بين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وما ذكره من سقوط الطلب في الكفائي بفعله مرة على الجملة، ليس على إطلاقه، فقد يبقى الطلب قائما، كما في الصلاة على الجنازة عند بعض أهل العلم، وكما في بعض أحوال الجهاد، وكما في طلب العلم، ونشره، والأذان ونحوه مما هو واجب بمطلقه، مندوب الجزئيات الآتي في البيت بعد ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى وكالسلام ابتداء وردا
(2)
.
وما ذكره في الجنازة من امتناع القطع بحصول المغفرة ـ مثلا ـ فلا يكون لتكرير الصلاة معنى، لحصول الظن، غير بين، فإن الظن درجات، وليس الظن في صلاتين مثل الظن في واحدة، ولا الظن في صلاة الكثير، مثل الظن في صلاة اليسير، ولا الظن في صلاة الفاضل، كالظن في صلاة المفضول، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهْو على الجميع عند الاكثر
…
لإثمهم بالترك والتعذر
وفعل من به يقوم مسقط
…
وقيل بالبعض فقط يرتبط
معينا أو مبهما أو فاعلا
…
خلف عن المخالفين نقلا
معناه أن الواجب على الكفاية، واجب على جميع المكلفين، أو من فيه أهلية القيام به، بدليل إثمهم جميعا، عند تركه، ولتعذر خطاب المجهول.
وإذا قام به البعض سقط عن الباقين، لتعلق الخطاب بالقدر المشترك بين المكلفين، المتحقق في كل فرد.
هذا مذهبنا، ومذهب الأكثرين.
وقيل: إن الوجوب فيه يتعلق بالبعض خاصة، واستدل له التاج السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير)
(1)
رواه أبو داوود، والنسائي، والإمام أحمد، وهو حديث حسن صحيح.
(2)
فإذا سلم بعض الجماعة أجزأ عن باقيهم، ويستحب لباقيهم، وكذلك في الرد.
الآية الكريمة.
وليس ببين جدا، لما تقدم من تعلق الطلب فيه بالقدر المشترك، ولذلك إذا ظهر المنكر فلم يغير، عم العقاب الجميع، وإذا غيره فرد برئ الجميع.
وليس المراد بخطاب الجميع، أن الجميع مطالب بمباشرته، بل هذا قد يكون منهيا عنه، لما فيه من الإخلال بالنظام، وإضاعة المصالح، كما قد يتنسم من قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)
واختلف القائلون بتعلق الخطاب بالبعض خاصة، فقال بعضهم: إن البعض المذكور معين عند الله سبحانه وتعالى مبهم عندنا، يسقط الطلب بفعله وبفعل غيره، كأداء الدين.
وقال بعضهم: هو مبهم إذ لا دليل على تعيينه، واختاره الإبياري رحمه الله سبحانه وتعالى ويسقط بفعل من قام به.
وقال بعضهم: هو من قام به لسقوطه بفعله.
وهذه الأقوال في معنى الأقوال المتقدمة في الواجب المخير، يجري فيها من البحث ما سبق هناك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ما كان بالجزئي ندبه عُلم
…
فذاك بالكلي كعيد منحتم
أشار بهذا إلى ما ذكره الإمام أبو إسحاق الشاطبي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى في موافقاته، من أن المندوب بالنظر إلى آحاده، واجب بالنظر إلى مطلقه، كالأذان فهو واجب كفائيا في البلد، مسنون في كل مسجد، وكالصلاة في الجماعة، وليس هذا بمطرد في كل مستحب، بل هو خاص ببعض المستحبات لمعنى يخصها، ككونها من الشعائر، ونحو ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهل يعين شروع الفاعل
…
في ذي الكفاية خلاف ينجلي
فالخلف في الأجرة للتحمل
…
فرع على ذاك الخلاف قد بُلي
أشار بهذا إلى ما سبق، من الاختلاف في تعين الكفائي ـ واجبا أو مندوبا ـ على من
شرع فيه، فيصير واجبا عليه خاصة، أو مستحبا في حقه خاصة، وعدم تعينه، وهو المعول، إلا في ما يتعين بالشروع، كالصلاة على الجنازة، أو لمعنى عارض، كما في الخروج من صف القتال.
وينبني على هذا الاختلاف: الاختلاف في الإجارة على تحمل الشهادة، فالمتعين لا تصح الإجارة عليه، بخلاف الكفائي.
وتتعين عندنا فروض الكفاية، بتعيين الإمام إلا القضاء لخطره.
وغالب الظن في الاسقاط كفى
…
وفي التوجه لدى من عرفا
معناه أن غلبة الظن بقيام البعض بالكفائي، كافية في سقوط الطلب به، عند الإمام الرازي، وشهاب الدين القرافي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى وكذلك غلبة الظن بعدم قيام الغير به، فهي كافية أيضا في توجه الخطاب به.
وفصل الفهري رحمه الله سبحانه وتعالى بين ما يتصور العلم بحصوله، كميت خوطب بكفنه، ودفنه، فلا يسقطه إلا العلم بالامتثال، وما يتعذر العلم بحصوله، فيكفي فيه الظن.
وجعله الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى تفسيرا لقول القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى أخذا من التعليل.
ومقتضى ما ذكر: عدم توجه الخطاب به في الشك في القيام به، وفيه خلاف، مبناه ما تقدم من الاختلاف في المخاطب به، هل هو الكل أو البعض؟ والله سبحانه وتعالى أعلم.
فروضه القضا كنهي أمْر
…
رد السلام وجهاد الكفر
فتوى وحفظ ما سوى المثاني
…
زيارة الحرم ذي الأركان
إمامة منه ودفع الضرر
…
والاحتراف مع سد الثُّغَر
حضانة توثق شهاده
…
تجهيز ميت وكذا العياده
ضيافة حضور من في النزع
…
وحفظ سائر علوم الشرع
وغيره المسنون كالإمامه
…
والبدء بالسلام والإقامه
عدّد في هذه الأبيات ما يجب على الكفاية، فذكر من ذلك القضاء بين الناس،
لفصل الخصومات، وفض النزاعات، فهو فرض كفاية على المتأهلين، إذا كان السلطان يعينهم عليه.
وذكر منها الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على الشروط المقررة في الفروع.
وذكر منها رد السلام، فإذا سلم واحد أو جمع على قوم، وجب عليهم الرد عليه، أو عليهم، كفاية، ويؤمر الباقون بالرد استحبابا.
ومنها جهاد الكفار في أهم جهة كل سنة، ويستحب بث السرايا في أوقات الغرة. ومنها الفتوى، وهي الإخبار بالحكم لا على سبيل الإلزام.
ومنها حفظ القرآن الكريم ما عدا سورة الفاتحة الشريفة، فإن حفظها واجب على كل مكلف.
ومنها إقامة الموسم كل سنة.
ومنها الإمامة العظمى، فيجب على أهل الحل والعقد نصب إمام.
ومنها دفع الضرر عن المسلمين، كإنقاذ الغريق، وتأمين الخائف، ومداواة المريض، وإطعام الجائع، وكسوة العريان، ونصر المظلوم.
ومنها الحرف المهمة، كالتجارة والخياطة والنجارة.
ومنها سد الثغور، والثغور: جمع ثغر، وهو ما يلي دار الحرب، وموضع المخافة، والثغرة مثله، جمعها: ثغر، كزمرة وزمر، وهو الجاري على الوزن في البيت.
ومنها حضانة اللقيط.
ومنها التوثيق، أي كتابة الوثائق بالحقوق.
ومنها تحمل الشهادة، وأداؤها.
ومنها ما يجب في تجهيز الميت من كفن ودفن وغسل وصلاة على ما هو مبين في الفروع.
ومنها عيادة المرضى.
ومنها الضيافة، واستدلوا له بحديث " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه
جائزته يوم وليلة، وضيافته ثلاثة أيام، وما كان بعد ذلك صدقة "
(1)
وانظر ذلك، فإن ظاهره العينية، وروى أبو داوود رحمه الله سبحانه وتعالى بإسناد صحيح " أيما رجل أضاف قوما فأصبح الضيف محروما فإن نصره حق على كل مسلم، حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله ".
قال في النشر: قال مالك ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى: الضيافة إنما تتأكد على أهل القرى والبوادي، ولا ضيافة في الحضر لوجود الفنادق وغيرها، لأن القرى يقل الوارد إليها، فلا مشقة بخلاف الحضر.
ومنها حضور المحتضر، وحفظ علوم الشرع، وآلاتها من نحو، وبيان، ولغة، وغيرها، وعلوم الشرع هي التفسير والحديث والفقه، وحفظها يكون بتعلمها، وتعليمها، والتأليف فيها وغير ذلك.
وأشار بالبيت الأخير إلى أن غير ما ذكر من الكفائي، هو الكفائي المسنون، أي: المندوب، كإمامة الصلاة، والبدء بالسلام، والأذان والإقامة، وما يفعل بالميت من غير ما تقدم ذكره، وغير ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل في النهي أي: النفسي
هو اقتضاء الكف عن فعل ودع
…
وما يضاهيه كذر قد امتنع
وهو للدوام والفور متى
…
عدم تقييد بضد ثبتا
واللفظ للتحريم شرعا، وافترق
…
للكرْه والشرْكةِ والقدرِ الفِرَق
وهُو عن فرد وعن ما عُدِّدا
…
جمعا، وفرقا، وجميعا وُجدا
وجاء في الصحيح للفساد
…
إن لم يجي الدليل للسداد
لعدم النفع وزيد الخلل
…
وملك ما بيع عليه ينجلي
إذا تغير بسوق أو بدن
…
أو حقُّ غيره به قد اقترن
وبث للصحة في المدارس
…
معللا بالنهي حبر فارس
(1)
متفق عليه.
والخلف في ما ينتمي للشرع
…
وليس في ما ينتمي للطبع
الاجزاء والقبول حين نفيا
…
لصحة وضدها قد رويا
أغلب مباحث هذا الباب، تقدم الكلام فيها، والمذكور هنا إنما هو تتمات فقط.
فأول الأبيات أشار رحمه الله سبحانه وتعالى به إلى تعريف النهي، فذكر أنه اقتضاء الكف عن فعل.
قال في النشر: والمراد بالاقتضاء عندنا الجازم، لأنه حقيقة في التحريم.
ومقتضاه أن النهي حقيقة في التحريم خاصة، والأمر في ذلك على ما تقدم في الأمر.
…
وتقدم هناك ـ أيضا ـ أن عدَّ "دع " أمر غير بين.
وذكروا هنا أنه يقال في حد اللفظي: اللفظ الدال على ما ذكر، ويرد على تقييد النفسي بكونه بغير دع ونحوها نحو ما تقدم.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بالبيت الثاني إلى أن النهي النفسي يدل على طلب الكف على وجه الدوام، لأنه يقتضي انتفاء الماهية، وذلك لا يحصل إلا بانتفائها دواما، فمتى وجدت لم يكن ممتثلا، وذلك يقتضي الفور أيضا، قال في النشر: إجماعا أو على المشهور.
وهذا ما لم يقيد بمرة، أو تراخ.
وقد ذكروا أن النهي لا يخالف الأمر إلا في هذين الأمرين المذكورين في هذا البيت.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بالبيت الثالث، إلى أن صيغة النهي حقيقة في التحريم عندنا، لتبادره منها، ولحمل السلف لها عليه، وهو ظاهر حديث الصحيحين " فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم "
وقيل: إنه حقيقة في الكراهة.
وقيل: إنه مشترك بينهما.
وقيل: إنه للقدر المشترك بينهما، وهو طلب الكف جازما أو غير جازم.
وقيل غير ذلك.
قال في التنقيح: وهو عندنا للتحريم وفيه من الخلاف ما سبق في الأمر.
وهذا كله عند عدم القرينة، فإن قامت قرينة عمل عليها اتفاقا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بالبيت الرابع إلى أن النهي يتعلق بفرد، كالنهي عن شرب الخمر، ويتعلق بمتعدد، وهو على وجوه:
فتارة يكون عن الجمع خاصة، كشرب الخليطين.
وتارة يكون عن التفريق خاصة، كما في لبس النعلين وخلعهما، لقوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم:" لينعلهما جميعا أو ليخلعهما جميعا "
(1)
وتارة يكون عن آحاده كالنهي عن عقوق الوالدين.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
وجاء في الصحيح للفساد
…
إن لم يجي الدليل للسداد
لعدم النفع وزيد الخلل ..........................
إلى أن النهي عن الشيء ـ تحريما أو تنزيها ـ يقتضي فساد المنهي عنه شرعا، لحديث الصحيح " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ولاستدلال العلماء على ممر العصور على الفساد بالنواهي، في أبواب العبادات والمعاملات.
وقيل: يدل عليه لغة، لاستدلال العلماء به على الفساد.
وأجيب بأنهم إنما استدلوا به على ذلك أخذا من الشرع، وفساد الشيء عبارة عن سلب أحكامه، وليس في لفظ النهي ما يدل عليه لغة.
وقيل: يقتضي الفساد في العبادات، دون المعاملات.
وقيل: لا يقتضي الفساد مطلقا.
وقيل: يقتضي الفساد على وجه تثبت معه شبهة الملك، وهو مذهب مالك رحمه الله سبحانه وتعالى قاله القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى في شرح التنقيح.
وقال في التنقيح: ومعنى الفساد في العبادات: وقوعها على نوع من الخلل، يوجب بقاء
(1)
متفق عليه.
الذمة مشغولة بها، وفي المعاملات: عدم ترتب آثارها عليها، إلا أن يتصل بها ما يقرر آثارها على أصولنا في البيع وغيره.
قال في النشر: وإنما يدل على الفساد، إذا كان النهي لأمر داخل في الذات، أو لازم لها، لا إن كان لأمر منفصل كما تقدم، ودلالته على الفساد مع إثباته شبهة الملك هو الصحيح من مذهبنا.
وقوله: لعدم النفع وزيد الخلل: تعليل لاقتضاءالنهي الفساد، أي: إنما كان النهي يقتضي الفساد، لأن النهي إنما يكون لدرء المفسدة الكائنة في المنهي عنه، وإمضاؤه تقرير للمفسدة وتتميم لها.
وقوله: إن لم يجي الدليل للسداد، معناه أن محل ما ذكر من اقتضاء النهي الفساد ما لم يدل الدليل على الصحة، كالطلاق في الحيض، لقوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم:" مره فليراجعها "
(1)
فالمراجعة فرع عن الطلاق.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
وملك ما بيع عليه ينجلي
إذا تغير بسوق أو بدن
…
أو حق غيره به قد اقترن
إلى أنه ينبني على ما ذكر من اقتضاء النهي الفساد وشبهة الصحة: ملك المشتري ما اشتراه بعقد منهي عنه، إذا حصل مفوت من هذه المفوتات المذكورة، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة بما يغني عن التطويل فيها، وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
وبث للصحة في المدارس
…
معللا بالنهي حبر فارس
إلى أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله سبحانه وتعالى ذهب إلى أن النهي عن الشيء يقتضي إمكان وجوده شرعا، وإلا لم يتأت النهي عنه، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة بما يكفي.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
والخلف في ما ينتمي للشرع
…
وليس في ما ينتمي للطبع
(1)
متفق عليه.
إلى أن الخلاف المذكور في اقتضاء النهي الفساد أو الصحة، المراد بالصحة فيه: الصحة الشرعية، لا الصحة العادية، كأنه يشير بهذا إلى قول القرافي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى في شرح التنقيح:
قاعدة: الصحة ثلاثة أقسام:
صحة عقلية، وهي إمكان الشيء، وقبوله للوجود والعدم في نظر العقل، كإمكان العالم والأجسام والأعراض.
وصحة عادية، كالمشي أماما ويمينا وشمالا، دون الصعود في الهواء.
وصحة شرعية، وهي الإذن الشرعي في جواز الإقدام على الفعل، وهو يشمل الأحكام الشرعية إلا التحريم، فلا إذن فيه، والأربعة الباقية فيها الإذن.
إذا تقررت هذه القاعدة، فالنزاع مع الحنفية إنما هو في الصحة الشرعية، وهي الإذن في جواز الإقدام على الفعل، واستدلوا بحديث الأعمى والمقعد، وذلك إنما يوجب اشتراط الصحة العادية، وهي مجمع عليها، اتفق الناس على أنه ليس في الشريعة منهي عنه، ولا مأمور به، ولا مشروع على الإطلاق، إلا وفيه الصحة العادية، وكذلك حصل الاتفاق أيضا على أن اللغة لم يقع فيها طلب وجود ولا عدم، إلا في ما يصح عادة، وإن جوزنا تكليف ما لا يطاق، فذلك بحسب ما يجوز على الله سبحانه وتعالى لا بحسب ما يجوز في اللغة، فاللغات موضع إجماع، فعلى هذا دليلهم لا يمس صورة النزاع.
قال الإمام فخر الدين رحمه الله سبحانه وتعالى: سلمنا أن دليلكم يدل على الصحة الشرعية، لكن تلك الصحة متقدمة على النهي لا متأخرة عنه، وتقرير ذلك أن الموكل إذا عزل وكيله بقوله: لا تبع هذه السلعة التي وكلتك على بيعها، فيكون هذا النهي عزلا له، ونسخا لتلك الصحة السابقة، وكذلك الخلائق وكلاء الله سبحانه وتعالى في أرضه، لقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) وقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) وإذا ورد النهي بعد ذلك عليهم كان ناسخا لتلك الصحة السابقة، وأنتم تطلقون على أنه يدل على صحة لاحقة، حتى تثبتون الملك في عقود الربا، بناء على النهي اهـ
قال في النشر: قوله: إنها أي: الصحة: الإذن، لعل مراده أنها موافقة الإذن اهـ
ومما يشكل في كلامه أيضا إخراج المكروه عن الفاسد.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بالبيت الأخير، إلى الاختلاف في نفي الإجزاء عن الشيء، أو نفي القبول، هل يستلزم عدم صحته، أو لا؟
بمعنى أنه إذا قيل في عبادة ـ مثلا ـ: إنها غير مجزئة، أو غير مقبولة، فهل ذلك مقتض لفسادها، أو يجوز أن تكون صحيحة.
وقد تقدم ذكر الاختلاف في القبول في قوله:
والصحة القبول فيها يدخل
…
وبعضهم للاستواء ينقل
ومنشأ الخلاف: ورود ما يشهد لكل من الأمرين، ولذلك قال البرماوي رحمه الله سبحانه وتعالى: إنه لا ترجيح لأحدهما على الآخر.
وتقدم ذكر ترادف إجزاء العبادة وصحتها، وهو الأبين، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله تعالى وسلم وبارك على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
فصل في العام
قال الشربيني رحمه الله سبحانه وتعالى: العموم يقع تارة في كلامهم بمعنى التناول، وإفادة اللفظ للشيء، وهذا أمر سببه الوضع، فالذي يوصف به على الحقيقة هو اللفظ. وتارة يقع بمعنى الكلية، وهي: كون الشيء إذا حصل في العقل، لم يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، والموصوف بهذا هو المعنى.
والمراد بالعموم هنا: الأول، وإلا لخرج الجمع المعرف، إذ لا شيء فيه شركة، وكذلك اسم الجمع، لأن آحادهما أجزاء، لعدم صدق كل منهما على كل واحد، كيف ولولا اعتبار الوضع في العموم، لما أفادته النكرة المنفية، إذ معناها واحد لا بعينه، وهي مع النافي موضوعة بالوضع النوعي للاستغراق الشمولي، الذي معناه كل فرد بشرط الاجتماع، لأن التركيب
لانتفاء فرد مبهم، وانتفاؤه بانتفاء كل فرد.
وتارة يقع بمعنى الشمول، وحينئذ يتصف به اللفظ والمعنى جميعا اهـ
ما استغرق الصالح دفعة بلا
…
حصر من اللفظ كعشر مثلا
معناه أن العام هو اللفظ الذي يستغرق ما يصلح له دفعة من غير حصر.
فخرج بقولنا: اللفظ: ما ليس بلفظ، وسواء قلنا إن العموم من عوارض الألفاظ خاصة، أو من عوارض الألفاظ والمعاني جميعا، لما تقدم قريبا.
وقولنا: الذي يستغرق، أي: يتناول على وجه الإحاطة والاستيعاب.
وقولنا: ما يصلح له، يعني جميع أفراد معنى اللفظ الموضوع له، سواء كان حقيقة فيه أو مجازا، وجدت في الخارج أو لا.
ويحترز بالصالح، عن غير ما يصلح له، كمن في غير العقلاء ـ مثلا ـ فعدم تناوله له لا ينافي أنه عام، وعدم تناول " ما " للعقلاء، لا ينافي أنها عامة.
وقوله: دفعة، هو بفتح الدال: اسم للمرة، يحترز به عن النكرة في سياق الإثبات لا من حيث الآحاد، فإنها تستغرق ما تصلح له، لكن على سبيل البدل، فالنكرة المفردة تتناول كل فرد فرد على سبيل البدل، ولا تتناول أكثر من واحد في مرة، وكذلك المثناة مع كل اثنين اثنين، والمجموعة مع كل جمع جمع على الصحيح من الخلاف فيها.
وكذلك اسم العدد كعشرة ـ مثلا ـ فهي تتناول كل عشرة عشرة على سبيل البدل لا الاستغراق.
وخرج بقولنا: من غير حصر: النكرة المثناة من حيث الآحاد كرجلين، فهي دالة على أكثر من واحد دفعة، لكنه محصور من جهة دلالة اللفظ، وكذلك اسم العدد من حيث الآحاد أيضا، فعشرة ـ مثلا ـ مستغرقة لآحادها دفعة، لكن آحادها محصورة.
وبحث شهاب الدين عميرة رحمه الله سبحانه وتعالى في خروج اسم العدد من جهة الآحاد، بأن اللفظ لا يصلح لكل جزء من مدلوله، فهو خارج بالصالح، قال: وإن أراد ـ أي: التاج السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى أنه يصلح للمجموع، فهذا لا يسمى استغراقا، فيخرج بالاستغراق.
وأجاب عن ذلك السعد بأن المراد بالصلاحية ما يعم صلوح الكلي لجزئياته، كعشرة في العشرات، والكل لأجزائه، كعشرة في آحادها، إذ لو أريد الأول فقط، لم يصدق على الجمع المعرف، نحو المسلمين، وإن أريد الثاني فقط، لم يصدق على المفرد المعرف ـ مثلا ـ كالرجل اهـ
وانظر هذا، مع ما هو مقرر من بطلان معنى الجمع في العموم، لما هو معلوم في خطابات العرب، واستدلالات أهل العلم على مر العصور دون مخالف، ولذلك جاز تخصيصه حتى لا يبقى إلا فرد.
وقوله: بلا حصر، يعني من جهة دلالة اللفظ، وإن كان في الواقع منحصرا كالسموات والأرضين، وعبيد زيد.
وهو من عوارض المباني
…
وقيل للألفاظ والمعاني
معناه أن العموم من صفات الألفاظ خاصة، يقال: لفظ عام، ولا يقال: معنى عام، سواء كان المعنى ذهنيا أو خارجيا، كما ذهب إليه السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى وغيره.
وذهب ابن الحاجب رحمه الله سبحانه وتعالى إلى أنه من صفات الألفاظ والمعاني معا، سواء كان المعنى ذهنيا أو خارجيا، فكما يصدق لفظ عام، يصدق معنى عام.
وقيل: هو من صفات الألفاظ والمعاني الذهنية خاصة، دون الخارجية، لوجود معنى مشترك في الأولى، وذلك ككل ما يتصوره الإنسان من المعاني الكلية، فإنها شاملة لجزئياتها المتعددة الداخلة تحتها، دون الثانية، كعموم المطر، إذ الموجود في مكان غير الموجود في المكان الآخر.
ولا يخفى عليك أن العموم المراد هنا غير العموم المبوب له الذي هو التناول كما تقدم في كلام الإمام الشربيني رحمه الله سبحانه وتعالى وهذه المسألة قليلة الأهمية.
هل نادر في ذي العموم يدخل
…
ومطلق أو لا؟ خلاف ينقل
فما لغير لذة، والفيلُ
…
ومشبهٌ فيه تنافى القيلُ
وما من القصد خلا فيه اختلِفْ .............................
معناه أن في تناول العام والمطلق للصورة النادرة، وعدم تناولهما لها خلافا في المذهب.
ومثلوا لذلك في العموم بحديث " إنما الماء من الماء "
(1)
بالنسبة للمني دون لذة، أو بلذة غير معتادة، فقد اختلف هل يجب به الغسل أو لا؟
فمن يعول على مقتضى الصيغة، ولا ينظر إلى ندور ولا غيره، أوجب الغسل في ذلك.
ومن نظر إلى ندور ذلك، ولم ير العموم متناولا له، لم يوجب بذلك غسلا.
ومثلوا لذلك في الإطلاق بالفيل في حديث " لا سبق إلا في خف أو في حافر أو نصل "
(2)
فالفيل ذو خف، لكن المسابقة عليه نادرة، فهل يتناوله الحديث اعتبارا بالصيغة، أو لا يتناوله، مراعاة لندور وقوعه، فيكون الظن أنه غير مراد.
واختلف كذلك في تناولهما للصورة التي دلت القرينة على عدم إرادتها.
ومثلوا لذلك، بما لو وكل رجل رجلا على شراء عبيد فلان، وفيهم من يعتق عليه. والأوجه عدم دخولهما، وقد أوضح ذلك الشاطبي رحمه الله سبحانه وتعالى في موافقاته بما لا مزيد عليه، ونصه:
للعموم الذي تدل عليه الصيغ بحسب الوضع نظران:
أحدهما: باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أصل وضعها على الإطلاق، وإلى هذا النظر قصْد الأصوليين، فلذلك يقع التخصيص عندهم بالعقل، والحس، وسائر المخصصات المنفصلة.
والثاني: بحسب المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد بالقصد إليها، وإن كان أصل الوضع على خلاف ذلك.
وهذا الاعتبار استعمالي، والأول قياسي، والقاعدة في الأصول العربية أن الأصل
(1)
رواه مسلم والإمام أحمد.
(2)
رواه أبو داوود والترمذي والنسائي والإمام أحمد رحمهم الله سبحانه وتعالى وهو حديث صحيح.
الاستعمالي إذا عارض الأصل القياسي، كان الحكم للاستعمالي.
ثم قال بعد بيان ذلك بالأمثلة: ومن الدليل على هذا أنه لا يصح استثناء هذه الأشياء بحسب اللسان، فلا يقال: من دخل داري أكرمته إلا نفسي، أو أكرمت الناس إلا نفسي، ولا قاتلت الكفار إلا من لم ألق منهم، ولا ما كان نحو ذلك.
وإنما يصح الاستثناء من غير المتكلم ممن دخل الدار، أو ممن لقيت من الكفار، وهو الذي يتوهم دخوله لو لم يستثن.
هذا كلام العرب في التعميم، فهو إذا الجاري في عمومات الشرع.
وأيضا فطائفة من أهل الأصول نبهوا على هذا المعنى، وأنما لا يخطر ببال المتكلم عند قصده التعميم إلا بالإخطار، لا يحمل لفظه عليه، إلا مع الجمود على مجرد اللفظ، وأما المعنى فبعيد أن يكون مقصودا للمتكلم، كقوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم:" أيما إهاب دبغ فقد طهر "
(1)
قال الغزالي رحمه الله سبحانه وتعالى: خروج الكلب عن ذهن المتكلم والمستمع عند التعرض للدباغ ليس ببعيد، بل هو الغالب الواقع، ونقيضه هو الغريب المستبعد، وكذا قال غيره أيضا، وهو موافق لقاعدة العرب، وعليه يحمل كلام الشارع بلا بد اهـ
ومحل الخلاف في هذه، وفي النادرة، حيث قامت القرينة على عدم قصدهما، فإن قامت قرينة على قصد النادرة دخلت اتفاقا، أو قامت قرينة على قصد انتفاء صورة، لم تدخل اتفاقا، وعدم قصدها لا يستلزم قصد انتفائها، فيلزم إخراجها عن الحكم.
والصورة النادرة أخص من غير المقصودة، فالندور أحد قرائن عدم القصد.
وقد يجيء بالمجاز متصف
معناه أن العموم كما يكون في الحقيقة، يكون في المجاز، فإذا اقترنت به أداة عموم، كان عاما، قال في النشر: نحو جاءني الأسود الرماة إلا زيدا، خلافا لبعض الحنفية الزاعم أن المجاز لا يكون عاما، لأنه خلاف الأصل، فيقتصر به على محل الضرورة، وهي تندفع بإرادة
(1)
رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي والإمام أحمد رحمهم الله سبحانه وتعالى وهو حديث صحيح.
بعض الأفراد، ورد بأنه ليس خاصا بمحل الضرورة.
مدلوله كلية إن حكما
…
عليه في التركيب من تكلما
معناه أن العام إذا كان موضوع قضية، فهي كلية، فالحكم ثابت لكل فرد من أفراد معناه، سواء كان ذلك في سياق الإثبات، كالامر والخبر المثبت، أو في سياق السلب، كالنهي والخبر المنفي.
فإذا قال: جاء الرجال، فمعناه إثبات المجيء لكل فرد من أفرادهم.
وكذلك إذا قال: ليقم الرجال، فهو أمر لكل فرد من أفرادهم بالقيام.
وإذا قال: لم يقم الرجال، فمعناه نفي المجيء عن كل فرد من أفرادهم.
وإذا قال: لا يقم الرجال، فمعناه نهي كل فرد من أفرادهم عن القيام.
فهو في قوة قضايا متعددة بعدد أفراده.
وبهذا أجاب الأصفهاني عن الاستشكال الذي أورده القرافي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى على دلالة العام على أفراده، قائلا: إنها ليست مطابقة، ولا تضمنا، ولا التزاما.
فدلالة لفظ " المشركين " في قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (فاقتلوا المشركين) على زيد منهم، ليست مطابقة، لأن لفظ المشركين لم يوضع لزيد وحده.
ولا تضمنا، لأن الجزء لا يصدق إلا إذا كان المسمى كلا، ومدلول لفظ العام كلية لا كل، إذ لو كان كلا، لخرج الناس من عهدته في النهي بكف واحد منهم، وبطلانه معلوم شرعا ولغة.
ولا التزاما، لأنه ليس بخارج.
فإما أن يبطل انحصار الدلالة في الثلاثة، أو لا يدل العام على شيء من أفراده.
وقد ألف الشيخ أحمد بن مبارك بن علي بن مبارك السجلماسي المتوفى سنة ست وخمسين من القرن الثاني عشر رسالة في رد هذا الاستشكال، سماها: إنارة الأفهام، بسماع ما قيل في دلالة العام، بين فيها أن دلالته تضمنية، وأن الكلية وصف خاص بالحكم، وليس هو العام الذي البحث فيه، والعام المبحوث فيه كل، لثبوته لأفراده من غير استقلال، وكل ما كان كذلك كان كلا، ونقل التصريح بكونه كلا عن الفخر في المحصول وغيره، وقد نقل
مضمون هذه الرسالة في حلي التراقي، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقول الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى: مدلوله، الضمير فيه للعام، والمراد صيغته، لا مفهومه، والمدلول: المعنى، والكلية: هي ما كان الحكم فيه لكل فرد فرد.
وقوله: في التركيب، قال في النشر: احترازا عنه قبل التركيب، إذ لا يتصور كونه كلية حينئذ اهـ
فمدلوله قبل التركيب كل الأفراد، والكلية إنما هي مدلول القضية، والله سبحانه وتعالى أعلم
وهْو على فرد يدل حتما
…
وفهْم الاستغراق ليس جزما
بل هو عند الجل بالرجحان
…
والقطع فيه مذهب النعمان
معناه أن دلالة العام على أصل معناه، من الواحد في المفرد، والاثنين في المثنى، وأقل معنى الجمع في صيغة الجمع، قطعية، لوجوب بقاء ذلك في التخصيص، ودلالته على ما زاد على ذلك ظنية، لأنه ظاهر فيها، وليس نصا.
قال في النشر: فلا تدل على القطع إلا بالقرائن، كما أنها لا تسقط دلالتها إلا بالقرائن، وهذا هو المختار عند المالكية، قاله الإبياري رحمه الله سبحانه وتعالى.
وذهب أكثر الحنفية إلى كون دلالته على ثبوت الحكم لجميع الأفراد قطعيا، ووافق بعضهم الجمهور.
وذهب إمام الحرمين رحمه الله سبحانه وتعالى إلى أن أدوات الشرط تدل على استغراق جميع الأفراد دلالة قطعية، بخلاف غيرها.
وينبني على هذا الاختلاف: الاختلاف في تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد والقياس.
ويلزم العموم في الزمان
…
والحال للأفراد والمكان
إطلاقه في تلك للقرافي
…
وعمم التقي إذا ينافي
معناه أن استغراق العام للأفراد، يستلزم عموم الأزمنة، والأحوال، والأمكنة، إذ الأفراد لا يجمعها زمن واحد، ولا حال واحد، ولا مكان واحد، فالسارق في قوله سبحانه وتعالى
جل من قائل: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) يعم كل سارق، في أي زمان ومكان كان، وعلى أي حال كان، إذ لو خرج بعض هذه الأمور لخرج بعض الأفراد، وهذا بالنسبة لعموم الأفراد، وأما بالنسبة للواحد فهو مطلق.
وذهب القرافي والآمدي والأصبهاني رحمهم الله سبحانه وتعالى إلى أنه مطلق في هذه الأمور بالنسبة لجميع الأفراد، لعدم الصيغة فيها.
وأجيب بأن المدعَى مجيء العموم من الاستلزام، لا من الصيغة.
واستشكل القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى على ما ذهب إليه أن المطلق تكفي في الخروج من عهدته المرة، فيلزم أنما عمل به من العمومات في زمن، ينقطع الخطاب به. وأجاب عن ذلك تقي الدين ابن دقيق العيد رحمه الله سبحانه وتعالى في كتابه إحكام الأحكام على عمدة الأحكام في الكلام على حديث أبي أيوب الأنصاري ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنه ـ " لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها "
(1)
بعموم الأفراد في المتعلقات، إذا كان ما يلزم على الإطلاق من الاكتفاء بالمرة ينافي مقتضى صيغة العموم، فيكون عاما محافظة على مقتضى صيغة العموم، لا من حيث إن المطلق يعم.
ونقل عنه في رفع الحاجب، وعن أبي الحسن الباجي رحمهم الله سبحانه وتعالى أنهما أجابا بأن المقصود بكون العام في الأشخاص مطلقا في الأحوال، والأزمنة، والبقاع، أنه إذا عمل به في الأشخاص في حالة ما، في مكان ما، لا يعمل به في تلك الأشخاص مرة أخرى، أما في أشخاص أخر فيعمل به، وإلا يلزم التخصيص في الأشخاص، فالتوفية بالإطلاق أن لا يتكرر ذلك الحكم، فكل زان يحد، وإذا جلدناه لا نجلده ثانيا إلا لزنى آخر، لأن تكرر جلده لا دليل عليه، والفعل مطلق.
قال: وقد أشار الإمام رحمه الله سبحانه وتعالى في المحصول إلى هذا، حيث قال في دليل القياس: لما كان أمرا بجميع الأقيسة كان متناولا لا محالة لجميع الأوقات، وإلا قدح في كونه متناولا لجميع الأقيسة.
(1)
متفق عليه.
وكذلك اقتضاه كلام ابن السمعاني رحمه الله سبحانه وتعالى في مسأة الاستصحاب.
قال: واعترض أبي رحمه الله سبحانه وتعالى في كتاب " أحكام كل " هذا الجواب، بأن عدم تكرار الجلد ـ مثلا ـ معلوم من كون الأمر لا يقتضي التكرار، وبأن المطلق هو الحكم، والعام فيه هو المحكوم عليه، وهما غيران، فلا يصح أن يكون ذلك تأويلا لقولهم: العام مطلق.
ثم قال: ينبغي أن يهذب هذا الجواب، ويجعل العموم والإطلاق في لفظ واحد، بأن يقال: المحكوم عليه، وهو الزاني ـ مثلا ـ أو المشرك فيه أمران:
أحدهما: الشخص.
والثاني: الصفة كالزنى.
وأداة العموم لما دخلت عليه، أفادت عموم الشخص، لا عموم الصفة، والصفة باقية على إطلاقها، وهذا معنى قولهم: العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، والأزمنة، والبقاع، أي: كل شخص حصل منه مطلق زنى حد، وكل شخص حصل منه مطلق شرك، قتل بشرطه، ورجع العموم والإطلاق إلى لفظة واحدة باعتبار مدلوليها، من الصفة، والشخص المتصف بها، فافهم ذلك.
ثم إنه مع هذا لا يقول: كون الصفة مطلقة تحمل على بعض مسماها، لأنه يلزم منه إخراج بعض الأشخاص.
نعم لو حصل استغراق الأشخاص لم يحافظ مع ذلك على عموم الصفة، لإطلاقها اهـ
صِيَغُه كل أو الجميع
…
وقد تلا الذي التي الفروع
أشار بهذا إلى صيغ العموم، وقد اختلف في العموم، هل له صيغة تخصه أو لا؟
فذهب الجمهور إلى أن له صيغة موضوعة له، لأن الحاجة ماسة إلى الألفاظ العامة، لتعذر جمع الآحاد على المتكلم، فوجب أن يكون لها ألفاظ موضوعة حقيقة، لأن الغرض من وضع اللغة الإعلام والإفهام.
وذهب قوم إلى أنه لا صيغة له بالخصوص، وأن ما ذكره الأكثرون موضوع في
الخصوص، ولا يقتضي العموم إلا بقرينة، وعزي لمحمد بن منتاب من المالكية ومحمد بن شجاع البلخي من الحنفية ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى.
وقال جماعة من المرجئة: إن شيئا من الصيغ لا يقتضي العموم، لا بذاته، ولا مع القرائن، وإنما يكون العموم عند إرادة المتكلم.
وقال قوم بالوقف، ونقله القاضي في التقريب عن الإمام أبي الحسن الأشعري ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى ومعظم المحققين، وذهب إليه، والحق مذهب الجمهور.
ومن صيغه: كل، وهي أصرحها أو من أصرحها في العموم، تدل على استغراق ما تضاف إليه.
قال في الإرشاد: وقد ذكر علماء النحو والبيان الفرق بين أن يتقدم النفي على كل، وبين أن تتقدم هي عليه، فإذا تقدمت على حرف النفي نحو: كل القوم لم يقم، أفادت التنصيص على انتفاء قيام كل فرد فرد، وإن تقدم النفي عليها، مثل لم يقم كل القوم، لم تدل إلا على نفي المجموع، وذلك يصدق بانتفاء القيام عن بعضهم.
ويسمى الأول عموم السلب، والثاني سلب العموم، من جهة أن الأول يحكم فيه بالسلب عن كل فرد، والثاني لم يفد العموم في حق كل أحد، إنما أفاد نفي الحكم عن بعضهم.
قال الفراء
(1)
: وهذا شيء اختصت به كل من بين سائر صيغ العموم.
قال: وهذه القاعدة متفق عليها عند أرباب البيان، وأصلها قوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم:" كل ذلك لم يكن "
(2)
لما قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت اهـ
ونحوه في البحر قال: وقد ذكروا في سبب ذلك طرقا، منه أن النفي مع تأخر " كل " متوجه إلى الشمول دون أصل الفعل، بخلاف ما إذا تقدمت، فإن النفي حينئذ، يتوجه إلى أصل الفعل.
(1)
وفي البحر: قال القرافق ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى.
(2)
حديث ذي اليدين ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنه ـ متفق عليه.
قال الجرجاني رحمه الله سبحانه وتعالى: من حكم النفي إذا دخل على كلام وكان في ذلك الكلام تقييد على وجه من الوجوه، أن يتوجه النفي إلى ذلك التقييد، دون أصل الفعل، فإذا قيل: لم يأت القوم مجتمعين، كان النفي متوجها إلى الاجتماع الذي هو قيد في الإتيان دون أصل الإتيان.
ولو قال قائل: لم يأت القوم مجتمعين، وكان لم يأته أحد منهم، لقيل له: لم يأتك أحد أصلا، فما معنى قولك: مجتمعين؟
فهذا مما لا يشك فيه عاقل، والتأكيد ضرب من التقييد اهـ
ونبه على أن محل ما ذكر في ما إذا تقدم النفي، إذا لم ينتقض النفي، فإن انتقض كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) فالاستغراق باق، ويكون لعموم السلب.
قال: وسببه أن النفي للمجهول، وما بعد إلا، لا تسلط للنفي عليه، لأنه مثبت، وهو في المفرغ مستند لما قبلها، وهو كل فرد، كما كان قبل دخول النفي والاستثناء اهـ
واستظهر خلاف ما تقدم من اختصاص " كل " بما ذكر، قال: بل ما دل على متعدد، أو مفرد ذي أجزاء كذلك.
فإذا قلت: ما رأيت رجالا، أو ما رأيت رجلين، أو ما أكلت رغيفا، أو ما رأيت رجلا وعمرا، كل ذلك سلب المجموع، لا لكل واحد، بخلاف ما لو تقدم السلب اهـ
ومنها: جميع، قال في الإرشاد بعد كلامه على كل: وإذا عرفت هذا في معنى كل، فقد تقرر أن لفظ جميع هو بمعنى كل الأفراد، وهو معنى قولهم: إنها للعموم الإحاطي.
وقيل: يفترقان من جهة كون دلالة كل على فرد بطريق النصوصية، بخلاف جميع، وفرقت الحنفية بينهما بأن " كلا " تعم الأشياء على سبيل الانفراد، و" جميع " تعمها على سبيل الاجتماع، وقد روي أن الزجاج حكى هذا الفرق عن المبرد.
قال في الإبهاج: ولا أدري كيف يستفاد العموم من لفظة " جميع " فإنها لا تضاف إلا إلى معرفة، تقول: جميع القوم، وجميع قومك، ولا تقول: جميع قوم، ومع التعريف بالألف واللام، أو الإضافة، يكون العموم مستفادا منها لا من لفظة " جميع " اهـ
قال في البحر: وقد يقال: إن العموم مستفاد من " جميع " والألف واللام لبيان الحقيقة، أو هو مستفاد من الألف واللام، وجميع للتأكيد اهـ
وعد من صيغ العموم: معشر، ومعاشر، وعامة، وكافة، وقاطبة.
قال: ولكن " معشر " لا يستعمل إلا مضافا، و" قاطبة " لا يضاف، و" عامة " و"كافة " يستعملان مضافين وخاليين اهـ
ومن صيغ العموم: الأسماء الموصولة كلها، فهي عامة في كل متصف بصلتها، وذلك حيث لم تكن الصلة للعهد، وإلا فلا عموم.
أين وحيثما ومن أيٌّ وما
…
شرطا ووصلا وسؤالا أفهما
معناه أن من صيغ العموم كذلك أين، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(أينما تكونوا يدرككم الموت)
وحيثما، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) قال في النشر: وهما للمكان شرطيتين، نحو أين وحيثما كنت آتيك، وتزيد أين بالاستفهام، نحو أين كنت؟ اهـ
ومنها كذلك من وأي وما، سواء كان كل من الثلاثة شرطيا أو موصوليا أو استفهاميا، والاستفهام هو المراد بقوله: سؤالا.
مثال من الشرطية قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (من يعمل سوءا يجز به)
ومثال الموصولة، قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(ولله يسجد من في السماوات ومن في الأرض)
ومثال الاستفهامية، قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا)
ومثال أي الشرطية، قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى)
ومثال الموصولة قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا)
ومثال الاستفهامية، قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(فبأي حديث بعده يؤمنون) ومثال ما الشرطية، قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(وما تفعلوا من خير فلن تكفروه) ومثال الموصولة، قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(ما عندكم ينفد وما عند الله باق) ومثال الاستفهامية، قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(وما تلك بيمينك يا موسى)
متى وقيل: لا، وبعض قيَّدا
…
وما معرفا بأل قد وُجدا
أو بإضافة إلى المعرَّف
…
إذا تحقق الخصوص قد نُفي
معناه أن من صيغ العموم كذلك: متى للزمان، استفهامية، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(متى هذا الوعد) وشرطية، نحو متى دخلتِ دار زيد فأنت طالق.
وقيل: إنها لا تقتضي عموما، وقيل: إن ذكرت معها ما اقتضت العموم، وإلا لم تعم، وذلك هو المراد بقوله رحمه الله سبحانه وتعالى: وبعض قيدا.
ومن صيغه كذلك: المعرف بأل، أو الإضافة، مفردا كان أو مثنى، أو اسم جمع، أو جمعا ـ سالما أو مكسرا ـ سواء كان جمع قلة أو كثرة.
لأن المعرفة لا تحصل عند إطلاقه إلا بالحمل على الكل، ولاستدلال أهل العلم من الصحابة ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنهم ـ فمن بعدهم به على العموم.
وهذا ما لم يثبت عهد، وإلا اختص بالمعهود.
قال في النشر: وقد احتج الإمام مالك رحمه الله سبحانه وتعالى على من قال إن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد بني، بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(وأنتم عاكفون في المساجد)
إلى أن قال: ومثاله في المضاف أيضا قوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم في قول المصلي: " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" فإنه إذا قال ذلك أصابت كل عبد لله صالح في السماوات والأرض"
(1)
.
وقال أبو هاشم في المعرف المذكور: إنه للجنس عند عدم العهد حتى يثبت العموم، وقال إمام الحرمين رحمه الله سبحانه وتعالى: إذا احتمل عهدا حمل عليه.
(1)
متفق عليه.
وخالف الرازي رحمه الله سبحانه وتعالى في المفرد المحلى، وجعله للجنس الصادق ببعض الأفراد.
وخالف فيه إمام الحرمين والغزالي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى إذا لم يكن واحده بالتاء، كالماء، زاد الغزالي رحمه الله سبحانه وتعالى: أو تميز واحده بالوحدة كالرجل، إذ يقال رجل واحد، فهو في ذلك للجنس الصادق بالبعض، نحو شربت الماء ورأيت الرجل، ما لم تقم قرينة على العموم.
وقد اختلف في أفراد الجمع المعرف، هل هي آحاد، وهو رأي الأكثرين، أو جموع؟ ومحله ما لم تقم قرينة على إرادة المجموع، فإن قامت قرينة على ذلك فليست أفراده آحادا، وقد يكون مع ذلك عاما نحو رجال كل بلد لا تسعهم هذه الدار، وقد يكون غير عام، نحو هذه الدار لا تسع الرجال انظر تقريرات الشربيني رحمه الله سبحانه وتعالى.
وقول النشر: في مسجد بني، هو كذلك بتقديم الباء على النون في بعض الأصول، وهو محرف، والأصل نبي بتقديم النون ـ على نبينا وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ وقد وقع في بعض الأصول بتقديم النون على الصواب، كالتمهيد والاستذكار في صدر باب الاعتكاف، وبعض شروح الحديث، وقد نبه على ذلك في الحلي.
وفي سياق النفي منها يُذكر
…
إذا بُني أو زِيد " مِنْ " منكَّر
أو كان صيغة لها النفي لزم
…
وغير ذا لدى القرافي لا يعم
وقيل بالظهور في العموم .............................
معناه أن من صيغ العموم كذلك: النكرة في سياق النفي، وهي نص في العموم في مواضع:
أحدها: إذا بنيت مع " لا " النافية للجنس.
وأورد البناني رحمه الله سبحانه وتعالى عليه ما إذا كان اسم لا منصوبا، نحو لا صاحب بر ممقوت، قال: فلو قال - يعني التاج السبكي رحمهما الله سبحانه وتعالى: نصا إن وقعت بعد لا العاملة عمل إن، كان أولى اهـ
والثاني: إذا زيدت قبلها " من " كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (ما جاءنا من
بشير ولا نذير) فهي بزيادة من قبلها تكون نصا في العموم.
وقد ذهب المبرد إلى أن العموم مستفاد من لفظ " من " وذهب سيبويه إلى أن العموم مستفاد من النفي، قبل دخول " من " و" من " تفيد النصوصية.
قال أبو حيان: مذهب سيبويه ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى أن ما جاءني من أحد، وما جاءني من رجل:" من " في الموضعين، لتأكيد استغراق الجنس، وهذا هو الصحيح نقله في الإرشاد.
والثالث: أن تكون ملازمة للنفي.
وقد نظم سيدي مولاي المختار بن بونا رحمه الله سبحانه وتعالى النكرات الملازمة للنفي ـ أو ما شاء الله سبحانه وتعالى منها، بقوله:
وعظموا بأحد الآحاد
…
وأحد في النفي ذو انفراد
بعاقل، ومثله عريب
…
كما هنا من أحد غريب
ديار كراب كتيع دعوى
…
داري دوري وطاو طؤوى
طوري نمي أرمي وأرم
…
دبي آبن وتامور علم
كذاك دبيج وتؤمور يرد
…
ووابر والنفي في شفر فقد
وما سوى هذه المواضع الثلاثة، أنكر القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى عمومها فيه، واحتج بمسائل غير بينة.
منها: قول من قال بقول المبرد السابق الذكر، كالزمخشري والجرجاني.
ومنها: نفي سيبويه العموم عن اسم لا أخت ليس.
وقد تقدم تصريح أبي حيان بأن مذهب سيبويه ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى أنها تعم، وإن لم تدخل عليها " من " وأن مذهب سيبويه في ذلك هو الصحيح.
ولا يخفى أن مثل قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (لا يعزب عنه مثقال ذرة) الآية الكريمة.
وقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (لا تجزي نفس عن نفس شيئا)
(لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا)
(لا يكلف الله نفسا الا وسعها)
(لا يمسهم فيها نصب)
(لا تسمع فيها لاغية)
(لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا)
(ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل)
(فإن لم يكن له ولد)
(لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياإلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) وغيرها من عشرات، بل مئات الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، دال على العموم لا يمكن أن يخالف في ذلك، ولا موجب للعموم فيها سوى وقوع النكرة في حيز النفي.
وأما قول سيبويه في اسم لا أخت ليس، وفي غيرها أيضا من النكرات، فهو في نفي النصوصية في العموم، وبيان لجواز قصد الخصوص، كما هو صريح النقل السابق عنه في مسألة زيادة " من ".
وعدم النصوصية، لا ينافي الظهور في العموم، وذلك كالحال في المعرف، فقد يراد به العهد.
قال إمام الحرمين رحمه الله سبحانه وتعالى في البرهان: إذا قال القائل: ما رأيت رجلا، فهذا ظاهر في نفي الرؤية عن جنس الرجال، والتأويل يتطرق إليه، قال سيبويه رحمه الله سبحانه وتعالى: يجوز أن يقول القائل ما رأيت رجلا، وإنما رأيت رجالا، وإذا كان ينتظم الكلام على هذا الوجه، فليس التنكير مع النفي نصا في اقتضاء العموم، غير قابل للتأويل، ووجه تطرق الاحتمال إليه الذي نبهنا عليه.
فإذا قال القائل: ما جاءني من رجل، لم يتجه فيه غير التعميم، فإن من وإن جرت زائدة فهي مؤكدة للتعميم، قاطعة للاحتمال الذي نبهت عليه اهـ
ولو توقفت حجية ألفاظ الشرع على نصوصيتها وقطعيتها في معناها، لتعطل أكثر الأحكام، وهو بين الفساد والبطلان، فمجرد الراجحية كاف.
واستدل القرافي كذلك، بما تقدم ذكره في معنى " كل " إذا تقدم عليها النفي، من اقتضائها سلب العموم، وجوابه ما سبق هناك عن الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى.
قال ابن عاشور رحمه الله سبحانه وتعالى: والجواب أن كلا نكرة تدل على معنى الكلية، فإذا نفيت انتفى ذلك المعنى كله على وجه العموم، فإذا قلت: ما كل عدد زوج، فإنما نفيت الزوجية عن العدد بوصف الكلية، فبقيت بعضيته لم تتعرض لها، لأن النفي وإن كان يتوجه إلى المحمول، إلا أن كلا تشبة المحمول، لما فيها من الحكم، فكأن المحمول معها تنوسي، وصارت هي المقصود، ولذلك إذا قلت: ما كل بيضاء درة، فهم أن بعض البيضاء درة، لأن النفي توجه لكل، وهذا حكمها حيث ما وقعت في حيز النفي، فالذي لم يعم في قولهم: ما كل عدد زوج، هو عدد، وليس هو الواقع في حيز النفي، لأنه جيء به لتخصيص كل، وبيان نوعها، بل الواقع في حيز النفي هو كل، وقد رأيت أنها منفية على وجه العموم، أما لو وقعت قبل النفي، فتعتبر هي داخلة عليه، وحاكمة بعمومه اهـ
وكما تعم النكرة في النفي، تعم كذلك في النهي، والاستفهام الإنكاري، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(هل من خالق غير الله) والشرط كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (من يعمل سوءا يجز به) والامتنان، ونص في البرهان أنها في الشرط نص كالمنفية مع زيادة من.
وهْو مفاد الوضع لا اللزوم
بالقصد خصص التزاما قد أبى
…
تخصيصه إياه بعض النجبا
قوله: وهو مفاد الوضع لا اللزوم، أشار به إلى الاختلاف في دلالة النكرة المنفية على العموم، هل هي بوضع اللفظ أو بالالتزام؟
وذلك أنها موضوعة وضعا نوعيا لعموم النفي عن الأفراد، بقرينة العقل، لأنها إما أن تجرد عن الوحدة لتأكيد العموم، فيبقى الجنس المطلق، ولا ينتفي إلا بانتفاء جميع الأفراد، وإما أن لا تجرد بل تبقى الوحدة، لكنها مبهمة، وانتفاء فرد مبهم لا يكون إلا بانتفاء جميع
الأفراد، فمن نظر للوضع النوعي، جعل الإفادة بطريق المطابقة، ومن نظر إلى كون الاستفادة بطريق العقل، جعلها بطريق اللزوم، قاله الشربيني رحمه الله سبحانه وتعالى قال: والأول هو الحق، إذ العموم المستفاد من اللفظ قد يكون بقرينة العقل اهـ
والأول منسوب إلى المالكية والشافعية، والثاني منسوب لبعض الحنفية وتقي الدين السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى.
قال البناني رحمه الله سبحانه وتعالى: يؤيده قول النحاة إن لا، في نحو لا رجل في الدار، لنفي الجنس، فإن قضيته أن العموم بطريق اللزوم، دون الوضع اهـ
واختار التاج السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى التفصيل بين المبنية مع لا النافية للجنس، وغيرها، فالأولى لا تدل عليه عنده، إلا باللزوم، والثانية تدل عليه بالوضع.
وينبني على هذا الاختلاف: الاختلاف في تخصيصها بالنية.
فمن قال: إن دلالتها على العموم وضعية، قبلت عنده التخصيص بالنية.
ومن قال: إنها لزومية، لم تقبل عنده التخصيص بالنية، لعدم وجود الأفراد لفظا، بل هي لازم عقلي فقط، وليس ببين، فقد وقع في كلامهم الاستثناء من اسم لا النافية للجنس بكثرة، كما في كلمة الشهادة، والحوقلة، وكما في حديث " لا حسد إلا في اثنتين "
(1)
وحديث " لا سبق إلا في خف "
(2)
ونحوه كثير، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ونحو لا شربت أو إن شربا
…
واتفقوا إن مصدر قد جلبا
أشار بهذا إلى أن الفعل المتعدي إذا وقع في سياق النفي، نحو والله لا شربت، أو سياق الشرط، نحو إن شربت فهند طالق، يعم مفاعيله إذا لم يقيد بشيء، فإذا شرب شرابا ما، حنث في الموضعين، هذا مذهب الشافعية والمالكية، وأبي يوسف رحمهم الله سيحانه وتعالى ـ وغيرهم.
وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله سبحانه وتعالى إلى عدم عمومه، واختاره
(1)
متفق عليه.
(2)
رواه أبو داوود والترمذي والنسائي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
القرطبي والرازي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى كما في الإرشاد.
واحتج عليهم القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى بمسألة المصدر المشار إليها بقوله: واتفقوا إن مصدر قد جلبا، فذكر المصدر بعد الفعل تأكيد للفعل، والتأكيد لا ينشئ حكما، بل ما هو ثابت معه، ثابت قبله.
واختلف في الفعل اللازم هل يدل نفيه على نفي المصدر، فيكون عاما، ونسبه القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى للمالكية والشافعية، أو لا؟
ومنهم من حكى فيه ما في المتعدي، وجعل القول فيهما سواء كالأصفهاني رحمه الله سبحانه وتعالى.
ومنهم من ظاهره اختصاص الخلاف بالمتعدي، وأن اللازم لا يعم، كإمام الحرمين والغزالي والآمدي والصفي الهندي رحمهم الله سبحانه وتعالى كما في الإرشاد.
واختار القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى أنهما مسألتان، ونصه:
والذي يظهر لي أنهما مسألتان متباينتان، الفعل في سياق النفي يعم، نحو (لا يموت فيها ولا يحيى) أي: لا موت له ولا حياة، والفعل المتعدي إذا كانت له مفاعيل لا يعم مفاعيله اهـ
قال في الإرشاد: والذي ينبغي التعويل عليه، أنه لا فرق بينهما في نفس مصدريهما، فيكون النفي لهما نفيا لهما، ولا فرق بينهما، وبين وقوع النكرة في سياق النفي، وأما في ما عدا المصدر فالفعل المتعدي لا بد له من مفعول به، فحذفه مشعر بالتعميم كما تقرر في علم المعاني اهـ.
ومسألة إشعار حذف المفعول بالعموم، لا تختص بالفعل المنفي.
إلا أن العموم فيه إنما هو حيث انتصبت قرينة على إرادة التعميم كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (والله يدعو إلى دار السلام) كما استظهره الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى.
وقوله: واتفقوا إن مصدر قد جلبا، قال في النشر: يعني أن القرافي والرهوني وغيرهما نقلوا اتفاق الحنفية وغيرهم على العموم إذا ذكر المصدر، وقبول التخصيص بالنية، نحو والله
الكريم لا أكلت أكلا، ونوى به شيئا معينا، فلا خلاف بين الحنفية وغيرهم أنه لا يحنث بغيره اهـ.
ونزلنَّ ترْكَ الاستفصال
…
منزلةَ العموم في الأقوال
معناه أن ترك الشارع الاستفصال في حكاية الأحوال، مع قيام الاحتمال، في قوة العموم بالصيغة، فيكون الحكم عاما في تلك الاحتمالات، وذلك كقوله ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ للذي أسلم على عشر نسوة:" أمسك منهن أربعا، وفارق سائرهن "
(1)
من غير أن يستفصله هل تزجهن معا، أو على الترتيب، فلو لا أن الحكم في الوجهين سواء، لاستفصله، لامتناع الإطلاق في موضع التفصيل، ووجوب البيان عند الحاجة.
وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله سبحانه وتعالى إن ذلك لا يقتضي عموم الحكم، بل يكون الكلام مجملا، كمسألة الاحتمال في الفعل الذي لا قول معه، التي أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
قيام الاحتمال في الأفعال
…
قل مجمل، مسقط الاستدلال
وذلك كصلاته صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم داخل الكعبة،
(2)
فلا يصح الاستدلال بها على جواز الصلاة كيف كانت في جوف الكعبة، لأن الفعل لا عموم له، ولا يمكن أن يقع إلا على وجه واحد، فكان مجملا باحتماله في أنواع ذلك الفعل.
قال في النشر: ومحل العموم في الأولى - يعني مسألة ترك الاستفصال في حكاية الأحوال مع قيام الاحتمال- والإجمال في الثانية، حيث تساوت الاحتمالات، فإن ترجح بعضها، فالعمل بالراجح واجب إجماعا.
وما أتى للمدح أو للذم
…
يعم عند جل أهل العلم
معناه أن العام المسوق لغرض خاص، من مدح، أو ذم، أو غيرهما، محمول على عمومه عند جمهور أهل العلم، نظرا لصيغته، وعدم منافات ذلك المعنى للعموم، وذلك كقوله
(1)
رواه الإمام مالك رحمه الله سبحانه وتعالى في الموطإ.
(2)
متفق عليه.
سبحانه وتعالى جل من قائل: (والذين هم لفروجهم حافظون)
وذهب الإمام الشافعي رحمه الله سبحانه وتعالى وبعض أصحابه إلى أنه لا يقتضي العموم، لأنه مسوق للمبالغة في الحث والزجر، وصححه إلكيا الهراس، وجزم به القفال الشاشي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى وقال لا يحتج بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(والذين يكنزون الذهب والفضة) على وجوب الزكاة في قليل الذهب والفضة وكثيرهما، بل مقصود الآية الوعيد لتارك الزكاة، نقله في الإرشاد.
وقيل: يعم إلا أن يعارضه عام لم يسق لمثل ذلك، فيقدم عليه، وصححه التاج السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى في الجمع، والمعول مذهب الجمهور.
وما به قد خوطب النبي
…
تعميمه في المذهب السني
معناه أن ما خوطب به النبي ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ يتناول الأمة من جهة الحكم، على المشهور عندنا، حيث لم يدل دليل على الخصوصية، للأمر باتباعه، واقتداء الصحابة بأفعاله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم دون بحث عن الخصوصية معلوم، ومما هو بين من النصوص في أن الاصل عدم الخصوصية قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا)
وقال الإمام أحمد والإمام أبو حنيفة - رحمهما الله سبحانه وتعالى إن ذلك يعم الأمة ظاهرا، لأن أمر القدوة أمر لأتباعه معه عرفا، فيحمل على العموم إلا بدليل خارجي، واختاره إمام الحرمين وابن السمعاني، ـ رحمهما الله سبحامه وتعالى ـ كما في الإرشاد.
وقالت الشافعية إنه لا يتناول الأمة من جهة الحكم، لاختصاص الصيغة به صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ونسبه في الإرشاد للجمهور.
ومحل الخلاف ما تمكن إرادة الأمة فيه معه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، ولم تدل قرينة على إرادتهم، بخلاف ما لا تمكن إرادتهم فيه معه، ومثلوا له بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك)
وبخلاف ما قامت القرينة فيه على إرادتهم به معه، كقوله سبحانه وتعالى جل من
قائل: (يا أيها النبيء إذا طلقتم النساء) الآية الكريمة.
ومحله أيضا ما تمكن فيه إرادته صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، بخلاف نحو قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف).
وما يعم يشمل الرسولا
…
وقيل لا ولنذكر التفصيلا
معناه أن خطاب الأمة بلفظ يشمل النبي ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ نحو يا أيها الناس، يا أيها الذين آمنوا، يعمه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم عند الأكثرين من جهة الحكم، كما عمه من جهة الصيغة.
وقيل: لا يشمله من جهة الحكم، لأن علو منصبه يأبى ذلك.
ومنهم من فصل فقال: إن اقترن بنحو بلغ، وقل، فلا يشمله، لظهوره في التبليغ، وإلا فلا.
وأجيب بأن الخطابات كلها على تقدير ذلك.
والعبد والموجود والذي كفر
…
مشمولة له لدى ذوي النظر
معناه أن خطاب الشرع بصيغة عامة، نحو يا أيها الناس، يعم العبيد شرعا، ويعم الموجودين زمن الخطاب خاصة دون من يأتي بعدهم، ويعم الكافر.
أما العبيد فتناول تلك العمومات لهم، هو مذهب أكثر المالكية، والشافعية، والحنفية، كما في النشر، بل عزاه في الإرشاد لأتباع الأئمة الأربعة.
وذلك لتناول الصيغة لهم، وخروجهم من بعض العمومات كالحج، والجهاد، والزكاة، إنما هو بدليل منفصل، كخروج غيرهم من أصناف المكلفين من بعض العمومات، كالمرضى والمسافرين والغارمين والعميان.
وذهب قوم إلى أنه لا يعمهم شرعا.
وقال أبو بكر الرازي إن كان الخطاب في حقوق الله سبحانه وتعالى عمهم، وإن كان في حقوق الآدميين لم يعمهم.
وهذا الخلاف خاص بالفروع، كالخلاف في تناول الكافر.
وأما اختصاص العموم في خطاب المواجهة بالموجودين،
(1)
فالخلاف فيه منسوب للحنابلة، فتناوله للمعدوم وقت الخطاب عندهم بالصيغة، ولا خلاف في شمول الحكم لهم، والخلاف في ذلك لا ينبني عليه شيء.
وهو خاص بما اشتمل على علامات الخطاب، كالنداء وضمير الخطاب، وأما نحو (لينفق ذو سعة من سعته) مما تجرد عن ذلك، فلا خلاف في شموله لغير الموجود زمن الخطاب، كما في حاشية ابن عاشور رحمه الله سبحانه وتعالى.
وأما تناوله للكفار، فهو مذهب القائلين بخطابهم بالفروع، وقد تقدم الكلام على ذلك، والحمد لله رب العالمين.
واختلف في جريانه في الخطاب الخاص بالمسلمين، والمومنين، ونحو ذلك مما لا يتناولهم، فاختار ابن السمعاني رحمه الله سبحانه وتعالى التعميم في مثل ذلك أيضا، ونظر فيه الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى لأن الكلام في التناول بالصيغة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وما شمول مَنْ لأنثى جَنَفُ ...........................
قال في النشر: قوله: جنف ـ بالتحريك ـ يعني أنه ليس ميلا عن الصواب.
والمعنى أن لفظ " من " الذي تقدم أنه من صيغ العموم، يعم الأنثى عند الجمهور، وحكي خلافه عن بعض الحنفية، ولذلك لم يروا قتل المرتدة، لعدم تناول حديث " من بدل دينه فاقتلوه "
(2)
لها على هذا.
قال في الإرشاد: لكن الموجود في كتبهم أنها تعم الجميع، وصرح به البزدوي وشراح كتابه وابن الساعتي وغيرهم، إذ نقل الرازي في المحصول الإجماع، على أنه لو قال: من دخل داري من أرقائي فهو حر، دخل فيه الإماء، وكذا لو علق بهذا اللفظ وصية، أو توكيلا، أو إذنا في أمر لم يختص بالذكور.
وحجة تناولها لهن:
(1)
فالمختلف فيه، إنما هو اختصاصه بهم، لا عمومه لهم.
(2)
رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد.
أنها تستعمل فيهن دون الرجال، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(يا نساء النبيء من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما)
وما جاء من بيانها بالذكر والأنثى، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى) وكقوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله سبحانه وتعالى إليه " فقالت أم سلمة ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنها ـ: فما تصنع النساء بذيولهن
(1)
.
ومثل من في ما ذكر ما.
وفي شبيه المسلمين اختلفوا
معناه أنه اختلف كذلك في عموم المسلمين ونحوه مما يستعمل من الجموع بعلامة التأنيث في المؤنث، وبحذفها في المذكر، هل يتناول الإناث؟
قال في النشر: قال في التنقيح: والصحيح عندنا اندراج النساء في خطاب التذكير، قاله القاضي عبد الوهاب اهـ
قال: وكذا الحنابلة، وصححه بعض الشافعية اهـ
وعزى في الإرشاد عدم دخولهن للجمهور.
وحجة القائل بالتناول: عادة العرب في تغليب المذكر على المؤنث إذا قصدت ذكرهما معا، استثقالا لإفراد كل بالذكر.
وقال في الإرشاد: قال ابن الأنباري: لا خلاف بين الأصوليين والنحاة في أن جمع المذكر لا يتناول المؤنث بحال، وإنما ذهب بعض الاصوليين إلى تناوله الجنسين، لأنه لما كثر اشتراك الذكور والإناث في الأحكام لم تقصر الأحكام على الذكور، قال الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى في البحر: وحاصله الإجماع على عدم الدخول حقيقة، وإنما النزاع في ظهوره، لاشتهاره عرفا.
(1)
رواه الترمذي والنسائي، وهو حديث صحيح.
قال الصفي الهندي: وكلام إمام الحرمين ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى يشعر بتخصيص الخلاف بالخطابات الواردة من الشرع لقرينة عليه، وهي المشاركات في الأحكام الشرعية.
قال في النشر: ومن المتنازع فيه نحو صوام وقوام، من جموع التكسير، بخلاف صوم وقوم، فإنه لا يخص المذكر اهـ
ولا خلاف في عدم تناول ما يختص بالذكور بحسب المادة للنساء، كلفظ " الرجال " كما لا خلاف في تناول ما هو موضوع لمجموع الجنسين كلفظ " الناس ".
وعمم المجموع للأنواع
…
إذا بمن جُرَّ على نزاع
كمن علوم ألْقِ بالتفصيل
…
للفقه والتفسير والأصول
معناه أنه اختلف في الجمع المعرف وما في معناه، إذا اقترن بما يدل على التبعيض، هل يحمل على جميع أنواعه، وهو مذهب الجمهور، لما تقدم من كلية قضية العام.
وذلك كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (خذ من أموالهم صدقة) فمعنى أموالهم كل نوع من أموالهم كما تقدم، فالمعنى خذ من جميع أموالهم، فيقتضي الأخذ من كل نوع، قال الشافعي رحمه الله سبحانه وتعالى: لولا دلالة السنة، لكان ظاهر القرآن أن الأموال كلها سواء، وأن الزكاة في جميعها، لا في بعضها دون بعض، وهذا هو مذهب الجمهور.
أو يحمل على المجموع؟ فيكفي الأخذ من نوع واحد منها في المثال المذكور، لبطلان العموم بصيغة التبعيض، فهي مقتضية لتبعيض مدخولها، واختاره القرافي وابن الحاجب ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى ونسب للكرخي من الحنفية، وبعض أهل الأصول.
وتوقف في ذلك الآمدي رحمه الله سبحانه وتعالى فقال: وبالجملة فالمسألة محتملة، ومأخذ الكرخي دقيق اهـ
وينبني على هذا الاختلاف: الاختلاف إذا اشترط على المدرس أن يلقي كل يوم، ما تيسر، من علوم التفسير والفقه والأصول، هل يلزمه أن يلقي كل يوم، من كل واحد من هذه العلوم، أو يكفي أن يلقي كل يوم، من واحد منها، وإلى ذلك أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: كمن علوم ألق ألبيت.
والمقتضى أعم جل السلف ..............................
معناه أن مذهب الجمهور تعميم المقتضى ـ بفتح الضاد ـ وهو المدلول عليه بالاقتضاء، فإذا توقف صدق الكلام، أوصحته على تقدير أحد أمور، من غير رجحان لبعضها على بعض، قدرت جميعا، حذرا من الإجمال.
وذهب ابن الحاجب والغزالي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى إلى أنه لا يعمها، لأن الضرورة تندفع بتقدير واحد منها، فإن تعين بالقرينة فذلك، وإلا كان مجملا، ونسبه في الإرشاد للجمهور.
فإن ترجح أحد تلك الأمور فلا خلاف في الحمل عليه خاصة.
وأما لو توقف صدقه أو صحته على المجموع لا على سبيل البدل، فيقدر المجموع قطعا.
كذاك مفهوم بلا مختلف
معناه أن المفهوم عام أيضا عند الجمهور، سواء كان مفهوم موافقة، أو مفهوم مخالفة.
وذهب القاضي أبو بكر وأبو حامد الغزالي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى وجماعة من الشافعية إلى أنه لا عموم له.
ورده في المحصول قائلا: إن كنت لا تسميه عموما، لأنك لا تطلق لفظ العام إلا على الألفاظ، فالنزاع لفظي، وإن كنت تعني به أنه لا يعرف منه انتفاء الحكم عن جميع ما عداه، فهو باطل، لأن البحث على أن المفهوم هل له عموم أم لا؟
ومتى ثبت كون المفهوم حجة، لزم القطع بانتفائه عما عداه، لأنه لو ثبت الحكم في غير المذكور، لم يكن لتخصيصه بالذكر فائدة.
فصل في ما اختلف في عمومه وعدم العموم فيه أصح
منه منكر الجموع عُرفا
…
وكان، والذي عليه انعطفا
وسائر، حكاية الفعل بما
…
منه العموم ظاهرا قد علما
خطاب واحد لغير الحنبلي
…
من غير رعي النص والقيس الجلي
أشار في هذه الأبيات إلى ما اختلف في عمومه، والأصح فيه عدم العموم.
فذكر من ذلك الجمع المنكر، وهو على نوعين:
جمع قلة، وجمع كثرة.
أما جمع القلة، فقال في الإرشاد: إن جمهور الأصوليين على أنه ليس بعام، لظهوره في العشرة فما دونها.
وأما جمع الكثرة، فذكر أن جمهور المحققين على أنه ليس بعام، وذلك لعدم صحة الاستثناء منه ما لم يتخصص.
وذهب الجبائي، وبعض الحنفية، وابن حزم، إلى عمومه، ما لم يمنع من ذلك مانع، نحو جاء رجال.
وحكاه ابن برهان رحمه الله سبحانه وتعالى عن المعتزلة.
واختاره البزدوي، وابن الساعاتي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى وهو أحد وجهي الشافعية، كما في الإرشاد.
واحتجوا بثبوت إطلاقه في كل مرتبة من مراتب الجموع، فكان حمله على الجميع حملا له على جميع حقائقه.
وأجيب بمنع إطلاقه في كل مرتبة حقيقة، بل هو للقدر المشترك بينها، لصحة نعته بأي جمع، فيقال رجال ثلاثة، وأربعة، وخمسة، فمفهوم رجال يمكن أن يجعل مورد التقسيم لهذه الأقسام، فلا يكون دالا عليها، وأما الثلاثة فهي مما لا بد فيه، فيثبت أنه يفيد الثلاثة فقط قاله في الإرشاد.
وذكر أيضا منه فعل كان، فالأصح أنها لا تقتضي العموم.
وقد اختلف في دلالة كان مع المضارع على التكرار، وعدم دلالتها عليه.
وعلى أنها تدل عليه، فهل تدل عليه لغة، كما للقاضي رحمه الله سبحانه وتعالى أو عرفا، كما لعبد الجبار لأن ذلك لا يقال في صدور الفعل مرة.
واختلف في التكرار قال في النشر: والتحقيق عند الكمال بن الهمام، وفاقا لسعد
الدين التفتازاني ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى أن المفيد للاستمرار لفظ المضارع، وكان للدلالة على مضي ذلك المعنى، والتكرار غير العموم، لأن العموم في الأنواع، وغاية ما يفيد التكرار العموم في الأزمان، وليس الكلام فيه، بل في عموم الفعل لأقسامه وجهاته، قاله في الآيات البينات عن العضد ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى.
وذكر منها كذلك المعطوف على العام، فالأصح أن عطفه عليه لا يقتضي عمومه، والاصح كذلك أن خصوص المعطوف، لا يقتضي خصوص المعطوف عليه، وهو مذهب الجمهور.
وذهبت الحنفية إلى اقتضاء ذلك العموم، وقيل بالوقف.
ومثلوا له بحديث " لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده "
(1)
قيل يعني بكافر، وخص منه غير الحربي بالإجماع.
وأجيب بأنه لا حاجة إلى ذلك، بل يقدر بحربي من أول الأمر، هذا على المسألة الأولى.
وعلى المسألة الثانية، يختلف في عموم كافر في قوله " لا يقتل مؤمن بكافر "
فهو على مذهب الجمهور عام في الذمي وغيره.
وعلى مذهب الحنفية يختص بالحربي، للإجماع على اختصاص الثاني به.
وأما تمثيل القرافي رحمه الله سبحانه وتعالى بآية (وبعولتهن) فسهو، كما نبه عليه ابن عاشور رحمه الله سبحانه وتعالى لأن الضمير الذي هو محل الشاهد ليس معطوفا، بل المعطوف البعولة وهو عام.
وذكر منها لفظ سائر، وقد اختلف أهل اللسان في معناه، فمنهم من قال: معناه: بقية الشيء، ومنهم من قال: معناه: جميعه، والمختلف فيه العموم الإحاطي، لا أصل العموم.
وذكر منها كذلك: حكاية الفعل بما ظاهره العموم، نحو نهى عن بيع الغرر، وقضى
(1)
رواه أبو داوود والإمام أحمد، وهو حديث حسن.
بالشاهد واليمين، وعدم عموم ذلك هو مذهب الأكثر، لأن الحجة في المحكي لا في الحكاية، والمحكي يحتمل أن يكون غير عام، هذا مذهب الأكثر، فلا يعم ذلك كل غرر، وكل شاهد.
واختار ابن الحاجب والآمدي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى عمومه لكل غرر، وكل شاهد.
قال في الإرشاد: وهو الحق، لأن مثل هذا ليس بحكاية للفعل الذي فعله، بل حكاية لصدور النهي منه، إلى أن قال: لأن عبارة الصحابي ـ رضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين ـ يجب أن تكون مطابقة للمقول، لمعرفته باللغة، وعدالته، ووجوب مطابقة الرواية للمسموع، إلى أن قال: وحكي عن بعض أهل الأصول التفصيل بين أن يقترن الفعل بحرف أن، فيكون للعموم، كقوله: قضى أن الخراج بالضمان، وبين أن لا يقترن، فيكون خاصا نحو قضى بالشفعة للجار، وقد حكى هذا القول القاضي في التقريب، والأستاذ أبو منصور، والشيخ أبو إسحاق، والقاضي عبد الوهاب، وصححه، وحكاه عن أبي بكر القفال رحمهم الله سبحانه وتعالى أجمعين ـ اهـ
قال في النشر: ولا يقال: نحو قضى بالشفعة للجار، ليس من حكاية الفعل، ولا من حكاية القول، لأنا نقول: مثل هذا القول ملحق عندنا بالفعل، قاله في الآيات البينات، ولهذا قال إمام الحرمين رحمه الله سبحانه وتعالى في الورقات: ولا يجوز دعوى العموم في الفعل، وما يجري مجراه اهـ
ومثلوا الثاني بالقضاء بالشفعة اهـ
وفرق في التوضيح بين حكاية الفعل، نحو صلى ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ في الكعبة، وبين نحو قضى بالشفعة للجار، فجعل هذا من قبيل الرواية بالمعنى، ونصه:
مسألة حكاية الفعل لا تعم، لأن الفعل المحكي عنه واقع على صفة معينة، نحو صلى النبي ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ في الكعبة، فيكون هذا في معنى المشترك، فيتأمل، فإن ترجح بعض المعاني بالرأي، فذاك، وإن ثبت التساوي، فالحكم في البعض يثبت
بفعله عليه الصلاة والسلام وفي البعض الآخر بالقياس.
(1)
وأما نحو قضى بالشفعة للجار، فليس من هذا القبيل، وهو عام لأنه نقل الحديث بالمعنى، ولأن الجار عام.
وقال في التلويح: فهو حكاية عن قول النبي ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ الشفعة ثابتة للجار، ولئن سلمنا أنه حكاية الفعل، لكن الجار عام، لأن اللام لاستغراق الجنس، لعدم المعهود، فصار كأنه قال: قضى صلى الله تعالى عليه وسلم بالشفعة لكل جار اهـ
وقوله: إن نحو قضى بالشفعة للجار من قبيل الرواية بالمعنى غير بين، فالرواية بالمعنى خاصة بالألفاظ، والمعلوم في مثل هذا التركيب أن المراد به الإخبار عن الواقعة، لا رواية قوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، وإن كنا نعلم أن هذه الواقعة لا تخلو غالبا عن قول، لكن حكاية الواقعة بمثل هذا القول لا يقتضي أن القائل شهد الأمر، ولا أنه سمع لفظ النبي ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ ولا تكرر الحادثة، وحينئذ فليس في خبره ما يقتضي العموم.
أما قوله: قضى فمطلق، وأما قوله: بالشاهد، فلا معنى لقصد العموم فيه، مع عدم راجحية إرادة تكرر الأمر، فالوجه أن تكون الألف واللام فيه للجنس.
لكن لا ينبغي أن يختلف في عموم الحكم، في مثل هذا التركيب إذ الأصل عدم الخصوصية، فأقل أحواله أن يكون الخطاب فيه خطاب واحد، وهو عام من حيث الحكم اتفاقا، وموطأ الإمام رحمه الله سبحانه وتعالى وكتب أصحابه وغيرهم، مليئة بالاحتجاج بمثل هذه التراكيب في ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
وذكر منها أيضا خطاب الواحد، ومحل الخلاف فيه، إذا لم يقترن بما يدل على
(1)
قال في التلويح: نحن نقول: لما ثبت جواز البعض بفعله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ والتساوي بين الفرض والنفل في أمر الاستقبال حالة الاختيار ثابت، فيثبت الجواز في البعض الآخر قياسا.
اختصاصه به، نحو حديث " تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك "
(1)
وعدم العموم مذهب الجمهور.
ونسب لبعض الحنابلة، وبعض الشافعية أنه عام.
وقال إمام الحرمين رحمه الله سبحانه وتعالى: لا ينبغي أن يكون في هذه المسألة خلاف، إذ لا شك أن الخطاب خاص لغة بذلك الواحد، ولا خلاف أنه عام بحسب العرف الشرعي.
وقال الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى: والحق أن التعميم منتف لغة، ثابت شرعا، والخلاف في أن العادة هل تقضي بالاشتراك، بحيث يتبادر فهم أهل العرف إليها، أو لا، فأصحابنا ـ يعني الشافعية ـ يقولون: لا قضاء للعادة في ذلك، كما لا قضاء للغة، والخصم يقول: إنها تقضي بذلك اهـ نقله في الإرشاد.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: من غير رعي النص، والقيس الجلي، إلى ما ذكر من الاتفاق على عموم الحكم شرعا، فما نسبه ابن القصار لمالك - رحمهما الله سبحانه وتعالى محل اتفاق، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل في التخصيص
قال في النشر: وهو لغة الإفراد، قاله الإبياري ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى قال: وهو مصدر خصص بمعنى خص، فالتضعيف هنا بمعنى أصل الفعل، دون دلالة على التكثير الذي تفيده هذه الصيغة غالبا.
قصْر الذي عم مع اعتماد
…
غير على بعض من الأفراد
معناه أن التخصيص اصطلاحا: هو قصر العام على بعض أفراده، بأن لا يراد منه البعض الآخر حكما ـ وهو العام المخصوص ـ أو لا يراد حكما ولا لفظا ـ وهو العام المراد به الخصوص ـ بدليل يقتضي ذلك، وهو المراد بقوله: مع اعتماد غير.
وهذا تعريف للتخصيص الذي هو قول المجتهد بكون العام كذا مخصوصا.
(1)
أصل الحديث متفق عليه.
قال في جمع الجوامع: والقابل له حكم ثبت لمتعدد، يعني سواء كان ثبوته لفظيا، وهو المتقدم التعريف، أو معنويا، كالمفهوم.
جوازه لواحد في الجمع
…
أتت به أدلة في الشرع
وموجب أقله القفال
…
والمنع مطلقا له اعتلال
معناه أن العام يجوز تخصيصه حتى لا يبقى من أفراده إلا واحد، سواء كان لفظه جمعا كالرجال، أو لا، كمن، والرجل.
أما المفرد فحكى الشيخ أبو إسحاق الاسفرائيني رحمه الله سبحانه وتعالى الاتفاق فيه، وحكى غيره فيه خلافا.
وأما الجمع، فنسب ذلك فيه القاضي عبد الوهاب رحمه الله سبحانه وتعالى للجمهور، وذلك لبطلان الجمع، وصيرورة آحاده أفرادا، وجاء أن المراد بالناس الأولى في قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم) نعيم ابن مسعود وبالثانية أبو سفيان - رضي الله سبحانه وتعالى عنهما -.
وذهب القفال الشاشي وابن الصباغ ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى إلى أنه لا بد من بقاء أقل معنى الجمع، وإلا كان نسخا.
وقيل: يجب بقاء أقل معنى الجمع مطلقا، حكاه ابن برهان رحمه الله سبحانه وتعالى.
وأشار الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى إلى تضعيفه بقوله: والمنع مطلقا له اعتلال، وهو لأبي الحسين المعتزلي.
وقيل: يجب بقاء عدد غير محصور.
وقيل: إذا كان التخصيص بالاستثناء و البدل، جاز إلى الواحد، وإلا فلا.
أقل معنى الجمع في المشتهر
…
الاثنان في رأي الامام الحميري
ذا كثرة أم لا وإن منكرا
…
والفرق في انتهاء ما قد نكرا
معناه أن أقل معنى الجمع اثنان عند الإمام مالك رحمه الله سبحانه وتعالى ونقله أبو الوليد الباجي عن القاضي أبي بكر بن العربي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى واختاره،
ونقل عن الإمام أبي الحسن الاشعري، وأبي يوسف، وجمهور أهل الظاهر، والخليل ابن أحمد، ونفطويه، واختاره الغزالي رحمهم الله سبحانه وتعالى أجمعين ـ.
وذهب الأكثرون إلى أن أقله: ثلاثة وحكاه ابن الدهان النحوي عن جمهور النحاة. وذكر الآمدي رحمه الله سبحانه وتعالى أدلة الفريقين، ولم يرها مقنعة، ونحى نحو الوقف.
وحكى بعض أهل الأصول قولا بأن أقله: واحد.
وذكر المازري أن القاضي أبا بكر ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى حكى الاتفاق على أنه - يعني الاستعمال في الواحد - مجاز.
ولا فرق في ما ذكر بين جمع القلة وجمع الكثرة، فالفرق بينهما إنما هو في منتهى ما يدلان عليه.
فمنتهى جمع القلة: العشرة، وجمع الكثرة لا حد لمنتهاه.
والفرق بينهما أيضا في المنتهى، محله إذا لم تقترن بهما أداة معممة، وإلا فهما سواء، إذ لا حصر في العام، وهذا هو مراد الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: ذا كثرة أم لا البيت.
وقد استشكل قوم اجتماع العموم مع جمع القلة، إذ الأول يقتضي عدم الحصر، والثاني يقتضي الحصر، وهو سهو، فإن العموم يبطل الحصر، ولذلك عم المفرد والمثنى، وآحاد الجمع العام أفراد، كما هو مقتضى الاستعمال.
وذو الخصوص هو ما يستعمل
…
في كل الافراد لدى من يعقل
وما به الخصوص قد يراد
…
جعله في بعضها النقاد
والثاني اعز للمجاز جزما
…
وذاك للأصل وفرع ينمى
أشار بهذه الأبيات إلى الفرق بين العام المخصوص، والعام المراد به الخصوص.
فقوله: وذو الخصوص البيت، المراد به: العام المخصوص.
ومعناه أن العام المخصوص عمومه مراد تناولا، ليصح الإخراج، لا حكما، للمخصص.
بخلاف العام المراد به الخصوص، فليس عمومه مرادا، لا تناولا ولا حكما، فهو العام
المصحوب عند التكلم به بقرينة دالة على إرادة بعض ما يتناوله بعمومه، ولذلك كان مجازا قطعا.
ومثاله ما تقدم من قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم) الآية الكريمة.
قال الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى: وظن بعضهم أن الفرق بينهما مما أثاره المتأخرون، وليس كذلك، فقد وقعت التفرقة بينهما في كلام الإمام الشافعي ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنه ـ وجماعة من أصحابنا، في قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(وأحل الله البيع) هل هو عام مخصوص، أو عام أريد به الخصوص.
وقوله: والثاني اعز للمجاز جزما، أشار به إلى ما ذكرنا من كون العام المراد به الخصوص مجازا، من إطلاق اسم الكل في البعض، فالناس موضوع للكل، وقد أريد به فرد بعينه.
وقوله: وذاك للأصل وفرع ينمى، أشار به إلى الاختلاف في العام المخصوص، هل هو حقيقة في الباقي بعد التخصيص، أو مجاز، وهو مذهب الأكثرين، ونسبه إلكيا الطبري رحمه الله سبحانه وتعالى إلى المحققين.
ووجهه: أنه موضوع للمجموع، فإذا أريد به البعض، فقد أريد به غير ما وضع له، ولو كان حقيقة في البعض، كما كان حقيقة في الكل، لزم أن يكون مشتركا.
والمذهب السابق هو مذهب الإمام الشافعي وأصحابه وهو قول الإمام مالك، وجماعة من أصحاب الإمام أبي حنيفة ـ رضي الله تعالى عنهم أجمغين ـ.
واحتجوا بأن تناول اللفظ للبعض الباقي بعد التخصيص، كتناوله قبل التخصيص. وفصل القاضي رحمه الله سبحانه وتعالى فقال: إن خص بما لا يستقل بنفسه، كالاستثناء، فهو حقيقة، وإلا فمجاز، وهو مذهب بين جدا.
وقال إمام الحرمين رحمه الله سبحانه وتعالى هو حقيقة باعتبار تناوله، مجاز باعتبار الاقتصار، وقيل غير ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم المحاشاة وقصر القصد
…
من آخر القسمين دون جحد
وشبه الاستثنا للاول سما
…
واتحد القسمان عند القدما
قوله: ثم المحاشاة البيت معناه أن العام مع المحاشاة المذكورة في قول سيدي خليل رحمه الله سبحانه وتعالى استثناء من قوله في الاستثناء: إن نطق ـ: إلا أن يعزل في يمينه أولا، كالزوجة، في الحلال علي حرام، وهي المحاشاة اهـ من العام المراد به الخصوص، وهو المراد بآخر القسمين.
وكذلك العام المخصص بالنية المذكور في قوله: وخصصت نية الحالف إلخ، وذلك هو المراد بقوله رحمه الله سبحانه وتعالى: وقصر القصد، فالمراد بالقصر: التخصيص، والمراد بالقصد: النية.
واختلف الشيوخ في المحاشاة، والتخصيص بالنية، هل هما شيء واحد، أو المحاشاة خاصة اصطلاحا بمسألة الحلال علي حرام، أو المحاشاة إنما تطرد في المحلوف به، دون المحلوف عليه، بخلاف التخصيص بالنية، فإنه مطرد في المحلوف به، والمحلوف عليه.
وأولها هو ظاهر عبارة غير واحد، حيث قابلوا بين المحاشاة والاستثناء، وفرق بينهما ابن محرز رحمه الله سبحانه وتعالى باختصاص المحاشاة بإرادة البعض ابتداء، الذي هو قول سيدي خليل رحمه الله سبحانه وتعالى إلا أن يعزل في يمينه أولا، وأن الاستثناء الذي لا بد فيه من النطق يختص بحل اليمين جملة، كأن يقول إلا أن يبدو لي، وبإخراج البعض على وجه الاستدراك والتلافي، فلا بد من النطق في هذين الوجهين بما يدل على هذه النية، إذا كانت اليمين في ما يقضى فيه، وقامت عليه بها البينة، وإلا فخلاف، كما في جواهر ابن شاس رحمه الله سبحانه وتعالى.
ونقل سيدي ابن عرفة رحمه الله سبحانه وتعالى في مختصره عن ابن رشد رحمه الله سبحانه وتعالى أنه قال: والنية: قصر عقد اليمين على بعض مدلولها الظاهر، ولا يشترط فيه النطق اتفاقا.
قال سيدي ابن عرفة رحمه الله سبحانه وتعالى: هذا ما فسر به ابن محرز المحاشاة.
وظاهر سيدي خليل رحمه الله سبحانه وتعالى في توضيحه، أنه لم يقف على الفرق
بين التخصيص بالنية والمحاشاة لأحد سوى شيخه، ونصه:
وكان شيخنا يزيد حقيقة ثالثة، وهي التخصيص بالنية.
ثم ذكر عنه كلاما لا يستقيم مع كلامهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولعل مما أدى إلى اللبس هنا أمرين:
أحدهما: قولهم في محاشاة الزوجة في الحلال علي حرام: إنه يصدق في دعوى المحاشاة مطلقا، مع قولهم في التخصيص بالنية ـ حيث لم تنتصب على ما يدعيه من ذلك قرينة، ولا على عدمه ـ: إنه لا يصدق فيه إلا في الفتوى.
وليس هذا تفريقا بين التخصيص بالنية، والمحاشاة.
بل الفرق إنما هو بين الحلال علي حرام، وغيرها من الأيمان، وهو اختلاف أهل العلم في هذه الصيغة إذا حنث فيها، فمنهم من لم يوجب فيها إلا كفارة يمين، كما بينه رشد رحمه الله سبحانه وتعالى في البيان.
وقد وقع التصريح بذلك في كلام مطرف، قال في التوضيح: وقال مطرف عن الإمام مالك ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى يصدق في المحاشاة وإن استحلف، لاختلاف الناس في الحرام وإن كانت اليمين بغير الحرام لم تنفعه النية، واليمين على نية المستحلف اهـ
الثاني: دوران لفظ المحاشاة في كلامهم مع مسألة الحلال علي حرام.
وهذا الإشكال مبني على استقراء ناقص، فقد وقع في عبارتهم لفظ المحاشاة في غير المسألة المذكورة، من ذلك ما في العتبية ونصها:
مسألة:
وسئل الإمام مالك رحمه الله سبحانه وتعالى عن الرجل يكون له الحق على رجل قد حل، فخرج يطلبه بحقه، ويقول المطلوب: امرأته طالق إن قضاك شهرا، فيستأذي عليه صاحب الحق، فيأمر السلطان ببيع متاعه، حتى يقتضي، كيف ترى الأمر فيه؟
قال: أرى أن يدين، إن قال: لم أرد إلا ألا أقضي أنا، ولم أرد السلطان، فذلك له، وأدينه في ذلك ما الذي أراد بيمينه، فإن حاشى السلطان لم أر عليه شيئا، وإن لم يحاش السلطان رأيته حانثا اهـ
وتقييد الشيخ بأولا، في قوله رحمه الله سبحانه وتعالى: إلا أن يعزل في يمينه أولا، هو لازم ما ذكره الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى من كونهما من العام الذي أريد به الخصوص، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله: وشبه الاستثنا للاول سما، معناه أن العام مع الاستثناء وما شابهه كالشرط والغاية من المخصصات اللفظية من العام المخصوص، وليس من العام المراد به الخصوص، كما تقدم.
وسيأتي ذكر الاختلاف في المخصص بالحس أو العقل، هل هو من الأول أو الثاني.
وقوله: واتحد القسمان عند القدما، معناه أن العام المراد به الخصوص، والعام المخصوص مترادفان عند المتقدمين، فالكل من العامين يطلق عليه عندهم العام المخصوص، والعام المراد به الخصوص، وقد تقدم للشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى نقل ما هو صريح في ذلك عن العبادي رحمه الله سبحانه وتعالى في شرح قوله: وذو الخصوص هو ما يستعمل البيت.
وقد تقدم عن الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى خلاف ذلك.
وما ذكره من كون العام مع المخصص المتصل، من العام المخصوص سيأتي ذكر الخلاف فيه ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى في قوله رحمه الله سبحانه وتعالى:
وعدد مع كإلا قد وجب
…
له الخصوص عند جل من ذهب
ثم أشار رحمه الله سبحانه وتعالى إلى حجية العام بعد التخصيص، فقال:
وهُو حجة لدى الأكثر إن
…
مخصص له معينا يبن
معناه أن العام المخصوص حجة بعد التخصيص عند جماهير أهل العلم، لاستدلال السلف من الصحابة وغيرهم ومن بعدهم به، من غير نكير، ولأنه لا يكاد يوجد عام لم يدخله تخصيص، وأكثر أحكام الشريعة مستمد من العمومات، فلو لم يكن حجة لبطل أكثر ذلك، وفساد ذلك اللازم أظهر من أن يذكر.
وذهب عيسى بن أبان وأبو ثور ـ رحمهما الله سيحانه وتعالى ـ إلى أنه ليس بحجة في ما بقي، ونسب لجماعة من الشافعية، والمالكية، والحنفية.
وقيل: إن خص بمتصل، فهو حجة في ما بقي، وإن خص بمنفصل، صار مجملا،
وقيل غير ذلك.
وأشار بقوله: إن مخصص له معينا يبن، إلى أن محل حجية العام بعد التخصيص إذا كان تخصيصه بمعين، فإن خص بمبهم، كما لو قيل: اقتلوا المشركين إلا بعضهم، لم يكن حجة، إذ ما من فرد إلا ويحتمل أنه ذلك المبهم، فإخراج المجهول من المعلوم، يصيره مجهولا، وقد حكى الإجماع على هذا القيد جماعة منهم القاضي أبو بكر، وابن السمعاني، والأصفهاني رحمهم الله سبحانه وتعالى ونقل الزركشي عن ابن برهان ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى في وجيزه، أنه حكى الخلاف في ذلك.
قال: وبالغ فصحح العمل به مع الإبهام، واعتل بأنا إذا نظرنا إلى فرد، شككنا فيه هل هو من المخرج، والأصل عدمه، فيبقى على الأصل، ونعمل به إلى أن نعلم بالقرينة بأن الدليل المخصص معارض للفظ العام، وإنما يكون معارضا عند العلم به.
قال الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى: وهو صريح في الإضراب عن المخصص، والعمل بالعام في جميع أفراده، وهو بعيد، وقد رد الهندي رحمه الله سبحانه وتعالى هذا البحث، بأن المسألة مفروضة في الاحتجاج به في الكل المخصوص وغيره، ولا قائل به اهـ
وقال بعض الشافعية بإحالة هذا، محتجا بأن البيان لا يتأخر، وهذا يؤدي إلى تأخيره، قاله في الإرشاد.
وقال الشربيني رحمه الله سبحانه وتعالى: إن المراد بالمبهم، المبهم المعبر عنه بعبارة، قال: أما لو قيل هذا العام مخصوص، أو لم يرد به الكل، فليس بحجة اتفاقا، قاله العضد رحمه الله سبحانه وتعالى وذلك نحو إلا رجلا.
وأما ما ذكره صاحب نثر الورود رحمه الله سبحانه وتعالى هنا عن المالكية، من أن فسخ المتفق على فساده من البيوع، ومضي المختلف فيه بالفوات، قاعدتان أغلبيتان، والخارج منهما غير معين، فليس ببين كونه من هذا القبيل.
أما عدم اطراد الفسح في المتفق عليه، فهو آئل إلى تعدد المخصص، فكأنه قيل الفاسد يجب فسخه، إلا المختلف في فساده بعد الفوات، وإلا ما دل دليل على عدم فسخه، ولا محذور في ذلك.
وأما عدم اطراد المضي في المختلف فيه، فهو بمعنى دخول التخصيص في العام المخصص به، فكأنه قيل الفاسد يجب فسخه إلا ما اختلف فيه، إلا ما ضعف مدرك صحته، ولا محذور في هذا أيضا.
وأما عدم تعيين الخارج من الأصلين، فغير مسلم، إذ لا يخرج عنهما إلا لمعنى تختص به الجزئية الخارجة، وذلك ليس من التخصيص بالمجهول، لأن المراد بالمجهول، المجهول الذي لا أمارة عليه، وإلا امتنع التخصيص بالوصف.
وهذا هو الأصل في الضوابط، فالمراد بها اطراد الحكم في ذلك المعنى إلا لمعنى يوجب حكما آخر، إذ قل أن يسلم عموم من التخصيص، والمخصص فيها لا يمكن حصره غالبا بالعد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقس على الخارج للمصالح ............................
معناه أنه اختلف في جواز القياس على الصورة المخصوصة من العموم، فذهب القاضي إسماعيل رحمه الله سبحانه وتعالى وجماعة من الفقهاء إلى جواز ذلك، ومنعه الأكثرون، قال في النشر: كما لو خرج بيع البر متفاضلا من قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (وأحل الله البيع) فهل يجوز قياس الأرز عليه بجامع القوت والادخار عندنا، أو بجامع الطعم عند الشافعية، أو الكيل عند الحنفية خلاف اهـ
والفرق بين هذه المسألة، ومسألة التخصيص بالقياس ـ في ما يظهر ـ هو ما بينه لمرابط ابن أحمد زيدان رحمه الله سبحانه وتعالى وصاحب الحلي.
ومقتضى التعليل أن قياس ما لا يتناوله العموم على الصورة الخارجة من العموم ليس من محل الخلاف، فليس الاختلاف في جواز أصليته مطلقا، وإنما هو في أصليته لما يشترك معه في تناول اسم العام والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل في المخصص المتصل
المخصص في الحقيقة هو المتكلم، وعرفا: اللفظ المقتضي للتخصيص مثلا. والمخصص المتصل هو ما لا يستقل بنفسه عن العام، بأن يرتبط في دلالته على معناه، بلفظ العام، كالاستثناء مع المستثنى منه.
الاستثناء
حروف الاستثناء والمضارع
…
من فعل الاستثنا وما يضارع
معناه أن من المخصص المتصل الاستثناء، وهو إخراج بعض العام بإلا أو غيرها من حروف الاستثناء، وما في معنى ذلك نحو أستثني، وخلا وعدا في النصب بهما.
والظاهر أن في معنى ذلك أخرج، وأستبقي، ونحو ذلك.
وهل يشترط كونه من المتكلم بالعام، فلو قال قائل: قام الرجال، وقال آخر: إلا زيدا، كان لغوا، أو لا يشترط، فيكون قول القائل المذكور استثناء.
والحكم بالنقيض للحكم حصل
…
لما عليه الحكم قبلُ متصل
وغيره منقطع، ورجحا
…
جوازه، وهو مجازا وضحا
أشار بهذا إلى أن الاستثناء نوعان:
استثناء متصل، واستثناء منفصل، والمخصص هو المتصل، وهو الحكم بنقيض المحكوم به أولا، لجنس المحكوم عليه، نحو قام القوم إلا زيدا.
فإن كان المحكوم عليه في الاستثناء من غير جنس المحكوم عليه أولا، نحو قام القوم إلا حمارا، أو كان من جنسه، ولم يحكم له بنقيض ما حكم به أولا، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما) فهو استثناء منقطع، قال أبو بكر الصيرفي رحمه الله سبحانه وتعالى: يشترط أن يتوهم دخوله في المستثنى منه بوجه ما، وإلا لم يجز، كقوله:
وبلدة ليس بها أنيس
…
إلا اليعافير وإلا العيس
فاليعافير قد تؤانس، فكأنه قال ليس بها من يؤانس به إلا هذا النوع، قاله في الإرشاد.
وقد ذكر الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى أن من أهل اللغة من أنكره، وأوله تأويلا رده به إلى الجنس، وحينئذ فلا خلاف في المعنى.
وقال العضد رحمه الله سبحانه وتعالى: لا نعلم خلافا في صحته لغة، وإلى ذلك
الإشارة بقوله رحمه الله سبحانه وتعالى: ورجحا جوازه.
وأشار بقوله: وهو مجازا سمعا، إلى أن الاستثناء المنقطع مجاز عند الجمهور، وقيل حقيقة.
واختلف هل محل الخلاف لفظ الاستثناء، وهو للمحلي رحمه الله سبحانه وتعالى وهو الذي في الإرشاد، قال: والثالث أنه لا يسمى استثناء، لا حقيقة ولا مجازا حكاه القاضي في التقريب والماوردي، أو الصيغة كما للتفتازاني، قال: وأما لفظ الاستثناء فحقيقة اصطلاحا في القسمين بلا نزاع.
فلتنم ثوبا بعد ألف درهم
…
للحذف والمجاز أو للندم
وقيل بالحذف لدى الإقرار
…
والعقد معنى الواو فيه جار
اختلف إذا قال: له علي ألف درهم إلا ثوبا، فقيل: هو على تقدير محذوف، وأصل الكلام: قيمة ثوب، ليصير الاستثناء متصلا، إذ لا يصار إلى انقطاعه، إلا مع عدم إمكان اتصاله.
وقيل: يحمل على المجاز، فهو مستعمل في القيمة، وبه قال القاضي إسماعيل رحمه الله سبحانه وتعالى.
وقيل: يعد ندما، فتلزم الألف كلها، لأن ذلك خلاف المعهود، فكان مرجوحا، وذلك قرينة على القصد إلى إبطال الإقرار، ولا علاقة لهذا بالخلاف في جواز الاستثناء المنقطع، فالعبرة في الإقرار بما يدل عليه، سواء وقع بجائز أو ممتنع لغة، فما استظهره في نثر الورود في ذلك غير بين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهذا هو المراد بالبيت الأول.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بالبيت الثاني إلى قول مفصِّل، وهو أن الاستثناء من غير الجنس في الإقرار يحمل على إرادة القيمة، وفي العقود تكون إلا بمعنى الواو، فإذا قال: له علي ألف درهم إلا ثوبا، كان المعنى إلا قيمة ثوب، وإذا قال: بعتك هذه السلعة بدينار إلا قفيز حنطة، كان المعنى بعتك هذه السلعة وقفيز حنطة بدينار، إذ لو جعل القفيز مستثنى من الدينار، لفسد البيع، للجهل بالثمن، بخلاف ما لو جعل مبيعا.
وهذا التعليل مشكل، إذ المقرر حمل ألفاظ العقود على ما علم أنه مقصود المتعاقدين، صح أو فسد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
بشِرْكة وبالتواطي قالا
…
بعض ....................
تقدم أن الاستثناء مجاز في المنقطع، وذكر هنا قولا بأنه حقيقة فيه، واختلف القائلون به، فمنهم من قال: إن الاستثناء متواطئ في المتصل والمنقطع، فهو موضوع للقدر المشترك بينها، وهو المخالفة بإلا أو إحدى أخواتها.
ومنهم من قال: إنه مشترك فيهما، فهو حقيقة في كل منهما على حدته.
وقيل: بالوقف، وهذا صريح في أن الخلاف في كلمة الاستثناء، لا صيغته.
وأوجب فيه الاتصالا
وفي البواقي دون ما اضطرار
…
وأبطلنْ بالصمت للتذكار
معناه أن الاستثناء يشترط فيه الاتصال بحسب العادة، ولا يضر الفصل اليسير اضطرارا، كالقطع لسعال، أو عطاس، ونحوهما.
فإن انفصل لا على هذا الوجه لم يعتد به.
واشتراط الاتصال هو مذهب الجمهور، وجاء عن ابن عباس ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنهما ـ جواز تأخيره، قيل: إلى شهر، وقيل: إلى سنة، وقيل: أبدا، وقيل: إنما قوله في التعليق على مشيئة الله سبحانه وتعالى خاصة، كمن حلف وقال: إن شاء الله سبحانه وتعالى وليس هو في الإخراج بإلا وأخواتها، وأن مدركه في ذلك قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت) قال: المعنى إذا نسيت قول إن شاء الله سبحانه وتعالى فقل بعد ذلك، ولم يخصص.
ووجه قول الجمهور حديث الصحيحين وغيرهما " من حلف على شيء، فرأى غيره خيرا منه، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه " فلو صح الاستثناء مع التراخي، لقال: فليستثن، ولو جاز على التراخي لزم بطلان جميع الإقرارات والإنشاآت، لإمكان الكر عليها بالاستثناء، ولو جاز على التراخي، لما صح صدق ولا كذب، لإمكان التعقب بالاستثناء.
وروي عن طاووس رحمه الله سبحانه وتعالى جواز الاستثناء ما دام في المجلس، وعن
عطاء رحمه الله سبحانه وتعالى جوازه إلى مقدار حلب ناقة غزيرة، وعن مجاهد رحمه الله سبحانه وتعالى إلى سنتين، وعن سعيد بن جبير ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنه ـ إلى أربعة أشهر، وقيل: يجوز تأخيره ما لم يأخذ في كلام آخر، وقيل: يجوز تأخيره بشرط أن ينوى في الكلام، وقيل: في كلام الله سبحانه وتعالى فقط.
وقوله: وفي البواقي، معناه أن الاتصال مشروط أيضا في بقية المخصصات المتصلة، لأجل المعنى المذكور.
قال في النشر: اتفاقا في غير الشرط عند بعضهم وقد حكى المازري وتاج الدين السبكي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى الاتفاق على وجوب اتصال الشرط أيضا.
وقوله: دون ما اضطرار، أشار به إلى أن الفصل الواقع قهرا عن المتكلم لا ينافي الاتصال، كما لو عرضت له نوبة سعال، أو عطاس، أو ذرعه القيء ونحو ذلك.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: وأبطلن بالصمت للتذكار، إلى أن السكوت انشغالا باستحضار المنسي، مناف للاتصال المشترط في الاعتداد بالاستثناء.
قال في النشر: قال ابن عرفة ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى: ظاهر أقوال أهل المذهب أن سكتة التذكار مانعة مطلقا اهـ
وعدد معَ كإلا قد وجب
…
له الخصوص عند جل من ذهب
وقال بعض بانتفا الخصوص
…
والظاهر الإبقا من النصوص
الكلام المركب من العام والمخصص المتصل، قد يورد عليه إشكال، وهو أن الخارج بالمخصص، داخل بالعموم، إذ لو لم يدخل لم يحتج إلى إخراجه، ولو لم يخرج بطل التخصيص، والشيء الواحد لا يمكن أن يكون داخلا في الحكم، وغير داخل فيه في وقت واحد، لامتناع توارد النفي والإثبات على محل واحد.
والجواب عن هذا عند الجمهور، أنه إنما يلزم في ذلك توارد النفي والإثبات على محل واحد، لو لم يكن الحكم بالنسبة بعد تقدير الإخراج، فالمراد بقول القائل: جاءني عشرة إلا ثلاثة، إنما هو سبعة، وإلا ثلاثة، قرينة إرادة السبعة من العشرة، إرادة الجزء باسم الكل، فهو من العام الذي أريد به الخصوص.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى إن ذلك اسم مركب للباقي بعد التخصيص، فالسبعة مثلا لها اسمان: اسم مفرد، وهو السبعة، واسم مركب، وهو عشرة إلا ثلاثة.
وعلى هذا القول فليس في هذا تخصيص أصلا، وهذا هو مختار أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله سبحانه وتعالى في موافقاته، فالعام المخصوص كله عنده إنما يراد به الخصوص، قال: فالأصوليون إنما اعتبروا صيغ العموم بحسب ما تدل عليه في الوضع الإفرادي، ولم يعتبروا حالة الوضع الاستعمالي، حتى إذا أخذوا في الاستدلال على الأحكام رجعوا إلى اعتباره.
ونصه: التخصيص إما بالمنفصل أو بالمتصل.
فإن كان بالمتصل، كالاستثناء، والصفة، والغاية، وبدل البعض، وأشباه ذلك، فليس في الحقيقة بإخراج لشيء، بل هو بيان لقصد المتكلم في عموم اللفظ، أن لا يتوهم السامع منه غير ما قصد، وهو ينظر إلى قول سيبويه رحمه الله سبحانه وتعالى: زيد الأحمر، عند من لا يعرفه، كزيد وحده، عند من يعرفه.
وبيان ذلك أن زيدا الأحمر، هو الاسم المعرف به مدلول زيد، بالنسبة إلى قصد المتكلم، كما كان الموصول مع صلته هو الاسم، لا أحدهما، وهكذا إذا قلت: الرجل الخياط، فعرفه السامع، فهو مرادف لزيد، فإذا المجموع هو الدال، ويظهر ذلك في الاستثناء، إذا قلت: عشرة إلا ثلاثة، فإنه مرادف لقولك: سبعة، فكأنه وضع آخر عرض حالة التركيب، وإذا كان كذلك، فلا تخصيص في محصول الحكم، لا لفظا ولا قصدا اهـ
وبه تعلم أنه لا يراد أن ذلك اسم مركب من ثلاثة ألفاظ.
وقيل: العشرة في هذا التركيب: العشرة باعتبار أفرادها، ثم أخرجت الثلاثة بقوله: إلا ثلاثة، فأسند لفظا إلى العشرة، ومعنى إلى السبعة، فكأنه قيل: له علي الباقي من عشرة أخرج منها ثلاثة، فليس في ما حكم عليه ـ وهو السبعة ـ إلا الإثبات، وإنما النفي في الثلاثة المخرجة، ولا إثبات فيها أصلا، وهو اختيار ابن الحاجب والتاج السبكي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى وذلك لإجماع النحاة على أن الاستثناء إخراج، والثلاثة على قول الأكثر
قرينة استعمال العشرة في السبعة، وهي على قول القاضي رحمه الله سبحانه وتعالى جزء الاسم، ولا إخراج في القولين.
وقد أشار الناظم رحمه الله سبحانه وتعالى إلى مذهب الجمهور بقوله: وعدد مع كإلا قد وجب البيت.
وأشار إلى القولين الآخرين بقوله: وقال بعض بانتفا الخصوص.
قال في الإرشاد: والظاهر ما ذهب إليه الجمهور، لأن الإسناد إنما يتبين معناه، بجميع أجزاء الكلام، وعلى كل حال فالمسألة قليلة الفائدة.
وقوله: والظاهر الإبقا من النصوص، أشار به إلى أن الظاهر عنده رحمه الله سبحانه وتعالى أن مقتضى الأقوال الثلاثة أن المستثنى مبقى، لا مشترى، لأن المراد في المثال المتقدم من حيث الحكم السبعة باتفاق، وإنما اختلف في التناول لفظا، فما ذكره حلولو غير بين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والمثل عند الاكثرين مبطل
…
ولجوازه يدل المدخل
وجُوز الأكثر عند الجل
…
ومالك أوجب للأقل
ومُنع الأكثر من نص العدد
…
والعَقْد منه عند بعض انفقد
يشترط في صحة الاستثناء أن لا يستغرق المستثنى المستثنى منه، وقد حكى الإجماع على ذلك جماعة من المحققين، منهم الرازي في المحصول، وابن الحاجب في المختصر ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى وحكي قول بصحته، ولا يخفى ضعفه.
وذهب الأكثرون إلى جواز استثناء الأكثر، نحو له عشرة إلا تسعة، واستدلوا بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) ومعلوم أن الغاوين أكثر.
وذهب قوم من النحاة منهم الزجاج إلى منعه، وقال: لم ترد به اللغة.
قال ابن جني رحمه الله سبحانه وتعالى: لو قال: له عندي مائة إلا تسعة وتسعين، ما كان متكلما بالعربية، وكان عبثا من القول.
ويجب عند الإمام مالك رحمه الله سبحانه وتعالى إبقاء الأكثر، وهو مذهب
القاضي رحمه الله سبحانه وتعالى فلو قال: له علي عشرة إلا خمسة، كان مقرا بعشرة، لبطلان الاستثناء.
وقيل: يمنع استثناء الأكثر إذا كان المستثنى منه نصا في العدد، ويجوز في غيره.
وهذا هو أوجه الأقوال ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى وأقعدها بالاستعمال.
وقيل: يمتنع استثناء عَقد صحيح من اسم العدد، ونسب لابن الماجشون رحمه الله سبحانه وتعالى كالعشرات من المائة، والآحاد من العشرة، فلا يقال له علي مائة إلا عشرة، بخلاف له علي مائة إلا تسعة، أو إلا ثلاثة عشر.
وقيل: يمتنع الاستثناء من العدد مطلقا، ورده ابن عصفور بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما)
وأجيب بأن الألف تستعمل في التكثير، ورد بمنع إرادة ذلك هنا، إذ لو أريد لصار المعنى: مكث فيهم دهرا طويلا إلا خمسين عاما.
وذا تعدد بعطف حصِّلِ
…
بالاتفاق مسجلا للاول
الاستثناء إذا تعدد، فإما أن يكون ذلك مع العطف أو دونه.
فإن كان مع العطف، كانت الاستثناآت كلها عائدة إلى المستثنى منه أولا، لأن العطف يقتضي اشتراك المتعاطفات في المعنى، سواء كان هناك استغراق أولا، وذلك هو المراد بقوله: مسجلا.
فإن لم يكن فيها استغراق صح استثناء الجميع، نحو: له علي عشرة إلا أربعة، وإلا ثلاثة، وإلا اثنين، فيكون مقرا بواحد، عند من يجيز استثناء الأكثر.
وإن استغرق بطل الجميع، أو ما وقع به الاستغراق خاصة، على الخلاف في جمع المتفرق الآتي - إن شاء الله سبحانه وتعالى.
فإذا قال: له علي عشرة إلا خمسة، وإلا أربعة، وإلا واحدا، فعلى الجمع تبطل الاستثناآت كلها، وتلزم العشرة، لأن ذلك في معنى: له علي عشرة إلا عشرة، وعلى عدم الجمع، يبطل الاستثناء الأخير خاصة، لأنه الذي وقع به الاسغراق، فيكون مقرا بواحد.
وإلى هذا أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بهذا البيت.
ومقتضى ما سيأتي، أنه إذا تعدد المستثنى منه في هذه المسألة، تكون الاستثناآت عائدة إلى كل مستثنى على حدته، فإذا قال: له علي عشرة وعشرة إلا أربعة، وإلا ثلاثة، وإلا اثنين، لزمه اثنان، وقد صرح بذلك البناني رحمه الله سبحانه وتعالى والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكذلك بقية هذه المسائل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا واعلم أن العطف إنما يكون بين الاستثناآت، وأما عطف الاستثناء على المستثنى منه، فهو مبطل للاستثناء اتفاقا، كما في الإرشاد عن الأستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى وذلك نحو: له علي عشرة، وإلا واحدا، فتلزم العشرة كلها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإذا تعدد الاستثناء من غير تخلل حرف عطف، كان كل واحد منها راجعا لما قبله، وذلك لقربه منه، فإذا قال: له علي عشرة إلا ستة إلا أربعة، كان مقرا بثمانية، لأن الأربعة خارجة من الستة، لا من العشرة، فكأنه قال: له علي عشرة إلا اثنين، وإلى هذا أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
إلا فكل للذي به اتصل ...........................
وهذا ما لم يمنع من ذلك مانع الاستغراق، فإن كان هناك استغراق نظر، فإن استغرق كل ما يليه، نحو: له علي عشرة، إلا عشرة، إلا عشرة، بطل الجميع، ولزمت العشرة، وإلى ذلك أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
وكلها عند التساوي قد بطل
وإن كان المستغرق هو ما بعد الأول، كان ذلك قرينة على عود الاستثناآت كلها للمستثنى منه أولا، كمسألة التعاطف، نحو: له علي عشرة، إلا اثنين، إلا ثلاثة، إلا أربعة، فيلزم واحد، لأن مجموع الخارج في الاستثناآت تسعة.
وإلى هذا أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
إن كان غير الأول المستغرقا
…
فالكل للمخرج منه حققا
وهذا حيث استغرق كل واحد مما بعد الأول، كما مثل.
فإن استغرق بعض مما بعد الأول، دون بعض، نحو: له علي عشرة، إلا اثنين، إلا ثلاثة، إلا واحدا، كان المستغرق ـ وهو الثلاثة في المثال المذكور ـ عائدا إلى الأول، لامتناع خروجه مما قبله، ويكون غيره ـ وهو الواحد ـ عائدا إلى ما يليه، لقربه، وعدم المانع، وهو الثلاثة، نقله الشربيني عن العضد ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى.
وإذا استغرق الأول دون ما بعده، نحو: له علي عشرة إلا عشرة إلا ثلاثة، فقيل يبطل الأول لاستغراقه، واختلف القائل به هل يبطل الثاني تبعا له، فيلزم مجموع العشرة، أو لا يبطل، فتلزم سبعة.
وقيل: لا يبطل الأول، بل يكون ذلك قرينة على تركب الاستثناءين، وأن المستثنى: هو الخارج من عشرة إلا ثلاثة، وهو سبعة، فتلزم ثلاثة، وكأنه قال: له عشرة إلا سبعة، وإلى هذا أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
وحيث ما استغرق الاول فقط
…
فألغ واعتبر بخلف في النمط
وقوله رحمه الله سبحانه وتعالى:
وكل ما يكون فيه العطف
…
من قبل الاستثنا فكلا يقفو
دون دليل العقل أو ذي السمع ...........................
معناه أن الاستثناء إذا وقع بعد متعاطفات، كان استثناء من كل واحد منها، حيث لم يمنع من ذلك مانع، اتفاقا على ما لبعضهم في المفردات، نحو: أكرم الفقراء، وأبناء السبيل، وطلبة العلم، إلا الفسقة، وعند الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، وأصحابهم، والأكثر، في الجمل، لأن ذلك هو ظاهر الكلام، إذ الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات.
وقيل: إنما يعود لجميع الجمل إذ اتفق المعنى فيها، نحو حبست داري على أبناء السبيل، ووقفت بستاني على طلبة العلم، وسبلت بئري على الفقراء إلا أن يتنازعوا، فالتحبيس والوقف والتسبيل ألفاظ مترادفة، فيكون الاستثناء عائدا إلى الجمل الثلاث. وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله سبحانه وتعالى: يعود إلى الأخيرة خاصة، ونقل عن الظاهرية.
وقيل: مشترك بين العود للكل، والعود للأخيرة خاصة.
وقيل بالوقف، وهو مذهب الأشعرية واختاره إمام الحرمين وأبو حامد الغزالي رحمهم الله سبحانه وتعالى.
وهذا ما لم تقم قرينة على مرجعه، فإن قامت عمل عليها، سواء قامت على رجوعه للجميع، أو للأخيرة خاصة.
أولهما: كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) إلى قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (إلا من تاب) فهو استثناء من قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (يلق أثاما) وهو جواب للشرط المشار فيه لجميع ذلك.
والثاني: كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا) بقرينة عود الضمير في يصدقوا إلى أهل القتيل، وهم مذكورون في الدية، لا في التحرير، مع أن التصدق إنما يتأتى في الدية، لأنها حق آدمي، بخلاف التحرير قاله شيخ الإسلام رحمه الله سبحانه وتعالى.
وإلى ذلك أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: دون دليل العقل، أو ذي السمع.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
والحق الافتراق دون الجمع
إلى أنه على المعول من عود الاستثناء للمتعاطفات، فالمعول أنه يعود للجميع متفرقا، لا مجموعا، فلو قال: طالق ثلاثا، وثلاثا، إلا أربعا، كانت طالقا ثلاثا، للاستغراق، على المعول من عوده لها متفرقة، وعلى مقابله تطلق طلقتين فقط، إذ كأنه قال: طالق ستة إلا أربعة.
أما قِران اللفظ في المشهور
…
فلا يساو في سوى المذكور
معناه أن تعاطف الجملتين، أو الجمل، أو المفردين، أو المفردات، لا يستلزم الاستواء في غير الحكم المذكور، مما علم ثبوته لأحدهما من الأحكام، على مذهب الجمهور، خلافا لما ذهب إليه بعض المالكية، والمزني من الشافعية وأبو يوسف من الحنفية، من اقتضائه استواءهما في غير ما وقع فيه التشريك بينهما بالعطف، مما تقرر الحكم به لأحدهما، فتكون
العمرة واجبة لقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (وأتموا الحج والعمرة لله).
قال في النشر: قال ابن عباس ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنهما ـ لما سئل عن وجوب العمرة: إنها لقرينته في كتاب الله سبحانه وتعالى وقال: ما من أحد إلا وعليه حجة وعمرة.
ومنه ما كان من الشرط أعد
…
للكل عند الجل أو وفقا تفد
أخرج به وإن على النصف سما
…
كالقوم أكرم إن يكونوا كرما
معناه أن من المخصص المتصل كذلك: الشرط، والمراد به: ما دخلت عليه أداة من أدوات الشرط المعروفة، كإن وإذا، نحو أكرم بني تميم إن أحسنوا، فمعناه أكرم المحسنين منهم، وكقول الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى: القوم أكرم إن يكونوا كرما
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: أعد للكل، إلى أن الشرط الواقع بعد متعاطفات يعود إليها كلها، وحكي فيه الاتفاق.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: أخرج به وإن على النصف سما، إلى أنه يجوز إخراج الأكثر به، وحكي في ذلك الاتفاق أيضا، فتقول: أكرم بني تميم إن أحسنوا، مع كون المحسن منهم أقل.
وإن ترتب على شرطين
…
شيء فبالحصول للشرطين
وإن على البدل قد تعلقا
…
فبحصول واحد تحققا
إذا تعدد الشرط، فقد تكون الشروط مشترطة على وجه الاجتماع، فلا يقع المشروط إلا بحصول جميعها، وهذا هو المراد بأول البيتين، وقد يكون ذلك على سبيل البدلية، فيقع المشروط بوقوع أي واحد منها، وهذا هو المراد بالبيت الثاني.
ومسألة الحنث ببعض الشروط المتعاطفة على المعول فيها، مبنية على ما هو مقرر عندنا في اليمين من الحنث بالبعض.
وأما مسألة تعليق التعليق التي ذكر سيدي ـ خليل رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: وإن قال: إن كلمت إن دخلت لم تطلق إلا بهما، فالمعول توقف الطلاق فيها على مجموع الأمرين.
ووجهه: أن ذلك ليس تعليقا للطلاق على شرطين، بل على شرط واحد، ولكن اشترط في سببيته أمر آخر، فتتوقف سببيته عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومنه في الإخراج والعودِ يُرى
…
كالشرط قل وصف وإن قبلُ جرى
معناه أن من المخصص المتصل أيضا: الصفة، وهي كالشرط في جواز إخراج الأكثر بها، وفي عودها إلى جميع ما تعاطف قبلها، سواء تأخرت، نحو: وقفت هذا على أولادي وأولادهم المحتاجين، أو تقدمت، نحو: وقفت هذا على محتاجي أولادي وأولادهم.
وإن توسطت نحو: وقفت على أولادي المحتاجين وأولادهم فقال السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى في الجمع: المختار اختصاصها بما وليته، قال المحلي رحمه الله سبحانه وتعالى: ويحتمل أن يقال تعود إلى ما وليها أيضا.
وذكر العبادي رحمه الله سبحانه وتعالى أنه لا فرق في ذلك بين الصفة وغيرها، وإليه أشار الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
وحيث ما مخصص توسطا
…
خصصه بما يلي من ضبطا
ولا يخفى أن المراد بالصفة: الصفة التي لم يمنع من اعتبار مفهومها مانع، وكذا في بقية المذكورات.
ومنه غاية عموم يشمل
…
لو كان تصريح بها لا يحصل
وما لتحقيق العموم فَدَعِ
…
نحوُ سلام هي حتى مطلع
وهْي لما قبلُ خلا تعود
…
وكونها لما تلي بعيد
معناه أن من المخصص المتصل كذلك: الغاية، والمراد: الغاية التي يتناول العموم ما بعدها لو لم يؤت بها، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(حتى يعطوا الجزية) فإن هذه الغاية لو لم ترد، لكنا مأمورين بقتال المشركين وإن أعطوا الجزية، وهذا هو المراد بأول الأبيات.
بخلاف نحو: قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (سلام هي حتى مطلع الفجر) إذ طلوع الفجر ليس من اليلة.
وبخلاف نحو: ما لو قيل سلام هي إلى آخرها، إذ لا إخراج أصلا، فالغاية في
الموضعين لتحقيق العموم وتوكيده، وليست مخصصة للعموم، وإلى هذا أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بالبيت الثاني.
والمراد بالعموم في الآية، استغراق أبعاض مسمى اليلة، لا العموم المصطلح عليه.
ولا فرق في التخصيص بالغاية بين تأخرها، كالمثال المذكور، وبين تقدمها، نحو: إلى أن يفسق أولادي، وقفت بستاني عليهم، وعلى أولادهم.
وإذا وقعت الغاية بعد متعاطفات، كانت عائدة إلى جميعها، ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك، كغيرها من المخصصات، خلافا لمن جعلها عائدة إلى ما يليها خاصة، وإلى هذا أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بالبيت الثالث.
وبدل البعض من الكل يفي
…
مخصصا لدى أناس فاعرفِ
معناه أن من المخصص المتصل كذلك: بدل البعض من الكل، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا).
ولم يعده الأكثرون، لأن المبدل منه في نية الطرح، قال البناني رحمه الله سبحانه وتعالى: فيه أن معنى كونه في نية الطرح، أنه غير معتمد عليه، لا أنه لا يذكر.
ونحوه في الإرشاد ونصه:
الذي عليه المحققون ـ كالزمخشري ـ أن المبدل منه في غير بدل الغلط ليس في حكم المهدر، بل هو للتمهيد والتوطئة، وليفاد بمجموعهما فضل تأكيد وتبيين لا يكون في الإفراد، قال السيرافي: زعم النحوييون أنه في حكم تنحية الأول، وهو المبدل منه، ولا يريدون إلغاءه، وإنما مرادهم أن البدل قائم بنفسه، وليس تبيينه الأول كتبيين النعت الذي هو من تمام المنعوت، وهو معه كالشيء الواحد اهـ
واختار في الحلي أنه من قبيل العام المراد به الخصوص، وقد علمت أن ذلك هو مذهب الجمهور في كل عام خصص بمتتصل لكن ذلك أبين هنا والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفي معنى بدل البعض، بدل الاشتمال، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومن المخصصات المتصلة كذلك: الظرف، والجار والمجرور، نحو: أكرم زيدا اليوم، أو في
مكان كذا.
ومنها كذلك: المفعول له، فهو مقتض تخصيص الفعل بتلك العلة، وكذلك المفعول معه، فهو مقتض اختصاص الفعل بالمعية، انظر الإرشاد.
فصل في المخصص المنفصل
وسم مستقله منفصلا
…
للحس والعقل نماه الفضلا
المخصص المنفصل هو: ما يستقل بنفسه عن العام، بحيث لا يفتقر إلى ذكر العام معه، وهو نوعان: لفظي وغيره، وقدم غير اللفظي لقلته، وهو الحس والعقل.
والمراد بالتخصيص بالحس: أن يشهد الحس بخروج بعض أفراد العام عن حكمه، وذلك كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(تجبى إليه ثمرات كل شيء) فالحس يدرك ضرورة خروج بعض أفراد الثمرات.
وجعله الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى من العام الذي أريد به الخصوص، لا من العام المخصوص.
والمراد بالتخصيص بالعقل أيضا: اقتضاؤه خروج بعض أفراد العام عن حكمه، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(الله خالق كل شيء) فالعقل قاض بعدم تناول العموم له سبحانه وتعالى لاستحالة ذلك.
ونفى قوم كون ذلك تخصيصا، إذ لو كان تخصيصا لصحت إرادة العموم، وما اقتضى العقل خروجه لا يراد من اللفظ لغة.
وخصص الكتاب والحديث به
…
أو بالحديث مطلقا فلتنتبه
معناه أن الكتاب يخصص بالكتاب وبالسنة، والسنة تخصص أيضا بالكتاب وبالسنة، وخالف في تخصيص الكتاب بالكتاب بعض الظاهرية، وقالوا التخصيص بيان، ولا يكون إلا بالسنة، لقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(لتبين للناس ما نزل إليهم).
وأجيب بأن ذلك لا يستلزم اختصاص البيان بالسنة، فقد قال سبحانه وتعالى جل من قائل:(وأنزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء).
ومثال تخصيص الكتاب بالكتاب: قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (والمطلقات
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) فقد خصت منه الحوامل بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) وخصت منه المطلقات قبل الدخول، بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المومنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها).
وخالف في تخصيص الكتاب بالسنة قوم، أما تخصيصه بالسنة المتواترة، فحكيت عن داوود رواية بمنعه، وحكي أيضا الإجماع على جوازه.
وخالف في تخصيصه بخبر الآحاد بعض الحنابلة، والمعتزلة، ونقل عن عيسى بن أبان التفصيل بين ما دخله التخصيص بدليل قطعي وغيره، فالأول يجوز تخصيصه بخبر الآحاد، دون الثاني، ونقل عنه أيضا أنه إن دخله التخصيص، جاز تخصيصه بخبر الآحاد، سواء كان مخصصه قطعيا أو لا، وإلا فلا.
وذهب الكرخي رحمه الله سبحانه وتعالى إلى اختصاص الجواز بما دخله التخصيص بدليل منفصل، سواء كان قطعيا أو ظنيا.
وذهب القاضي أبو بكر رحمه الله سبحانه وتعالى إلى الوقف.
والجمهور على الجواز مطلقا.
ومثاله: تخصيص قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (يوصيكم الله في أولادكم) بقوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: " لا نورث ما تركناه صدقة "
(1)
وبقوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: " لا يرث المسلم الكافر "
(2)
.
وتخصيص قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) بقوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: " لا قطع في ثمر ولا كثر "
(3)
وقد قال صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: " لا ألفينَّ أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الامر من أمري مما
(1)
متفق عليه
(2)
متفق عليه.
(3)
رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام مالك، وهو حديث صحيح.
أمرت به أو نهيت عنه، فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله سبحانه وتعالى اتبعناه "
(1)
.
ومحل الخلاف الأخبار الآحادية التي لم تجمع الأمة على العمل بها، أما ما أجمع على العمل به، كحديث " ليس لقاتل ميراث "
(2)
وحديث " لا وصية لوارث "
(3)
فالتخصيص به كالتخصيص بالمتواتر.
ومثال تخصيص السنة بالسنة: تخصيص عموم حديث " في ما سقت السماء والعيون أو كان عَثْرِيا
(4)
العشر "
(5)
بحديث " ليس في ما دون خمسة أوسق صدقة "
(6)
وتخصيص النهي عن بيع ما ليس عندك
(7)
بتجويز السلم.
ومثال تخصيص السنة بالكتاب: حديث " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله "
(8)
بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون).
واعتبر الإجماع جل الناس
…
وقسمي المفهوم كالقياس
معناه أن من المخصص المنفصل: الإجماع، وقد حكى الاتفاق على ذلك الأستاذ أبو منصور رحمه الله سبحانه وتعالى قال: ومعناه أن يعلم بالإجماع أن المراد باللفظ العام بعض ما يقتضيه ظاهره، وفي الحقيقة يكون التخصيص بدليل الإجماع، لا نفس الإجماع، قاله في الإرشاد.
قال: ومثله ابن حزم رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) واتفقت الأمة على أنهم لو بذلوا فلسا أو فلسين، لم يجز بذلك حقن دمائهم، قال: والجزية بالألف واللام، فعلمنا أنه أراد جزية معلومة.
(1)
رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
(2)
رواه ابن ماجة، وهو حديث صحيح.
(3)
رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي والإمام أحمد بألفاظ مختلفة، وهو حديث حسن.
(4)
العثري الذي يشرب بعروقه.
(5)
رواه البخاري وأبو دود والترمذي والنسائي وابن ماجة، واللفظ للبخاري والترمذي.
(6)
متفق عليه.
(7)
رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد، وهو حديث حسن صحيح.
(8)
متفق عليه.
ومثله ابن الحاجب رحمه الله سبحانه وتعالى بآية حد القذف، وبالإجماع على التنصيف للعبد، ومثله ابن عاشور رحمه الله سبحانه وتعالى بالإجماع على اعتداد الأمة بقرأين.
وقول الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى: واعتبر الإجماع جل الناس، ظاهره في النشر أنه يشير به إلى أن من الأصوليين من لم يذكره كالسبكي رحمه الله سبحانه وتعالى إذ المخصص إنما هو النص الذي يستند إليه الإجماع مباشرة أو بواسطة القياس.
ومن المخصصات المنفصلة كذلك،: المفهوم بنوعيه: الموافقة والمخالفة، قال الآمدي رحمه الله سبحانه وتعالى: لا أعرف خلافا في تخصيص العموم بالمفهوم، بين القائلين بالعموم والمفهوم، ووقع لصفي الدين الهندي رحمه الله سبحانه وتعالى أن الخلاف إنما هو في مفهوم المخالفة، وأن مفهوم الموافقة متفق على التخصيص به، وقال الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى: والحق أن الخلاف ثابت فيهما نقله في الإرشاد.
وذكر الشيخ أن الذي نقله أبو الوليد الباجي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى عن أكثر أصحابنا امتناع التخصيص بمفهوم المخالفة، لأن تناول العام لما تعارض فيه مع المفهوم بالمنطوق، والمنطوق مقدم على المفهوم.
وهذا مشكل من وجهين:
أحدهما: تخصيص مفهوم المخالفة بذلك عن مفهوم الموافقة.
والثاني: ما اقتضاه من اشتراط مساوات المخصص للعام في القوة، فهو مشكل مع ما يأتي في البيان من عدم اشتراط مساواة المبين ـ بالكسر ـ للمبين ـ بالفتح ـ وما تقدم من تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بأخبار الآحاد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وظاهر هذه العلة، أن الخلاف خاص بالعام المنطوق، فلو كان العموم بطريق المفهوم، لجاز تخصيصه بالمفهوم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومن المخصصات المنفصلة القياس، في ما ذهب إليه الجمهور والأئمة الأربعة رحمهم الله سبحانه وتعالى.
وذهب الجبائي إلى المنع مطلقا، ونقل عن عيسى بن أبان رحمه الله سبحانه وتعالى
ـ نحو ما نقل عنه في تخصيص الكتاب الكريم بخبر الواحد.
ونقل عن الكرخي رحمه الله سبحانه وتعالى هنا أيضا نحو مذهبه هناك.
وذهب الإصطخري رحمه الله سبحانه وتعالى إلى التخصيص بالقياس الجلي، دون غيره.
وذهب أبو حامد الغزالي رحمه الله سبحانه وتعالى إلى أنه إن تفاوت القياس والعام في غلبة الظن، رجح الأقوى، وإن تعادلا فالوقف، واختاره المطرزي ورجحه الفخر الرازي واستحسنه القرافي والقرطبي رحمهم الله سبحانه وتعالى أجمعين ـ نقله في الإرشاد.
ومثاله: قياس العبد على الأمة في تشطر الحد، الوارد في قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) المخصص للعموم في قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)
قال في الإرشاد: وقد حكى إمام الحرمين ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى في النهاية مذهبين لم ينسبهما إلى من قالهما أحدهما: أنه يجوز إن كان الأصل المقيس عليه مخرجا من ذلك، وإلا فلا.
ونقل في الحلي عن الإبياري رحمه الله سبحانه وتعالى اختصاص الخلاف بالقياس الظني، وسيأتي بيان القياس القطعي إن شاء الله سبحانه وتعالى في القياس.
والعرف حيث قارن الخطابا ...........................
معناه أن العرف المقارن للخطاب، بأن كان قائما وقت ورود النص، مخصص أيضا، بمعنى أن العرف إذا خص العام ببعض معناه اللغوي اختص به، كما تقدم في محامل اللفظ، وأما العرف الفعلي فتخصيصه راجع إلى ما سبق من السنة والإجماع.
وذلك أن العادة إذا جرت بفعل بعض المنهي عنه، أو ترك بعض المأمور به، فإن كانت في زمنه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم وأقرها، فذلك من قبيل التخصيص بالسنة، كعدم إرضاع الشريفة، وإن كانت بعده صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، وأجمع الناس عليها، فذلك من قبيل التخصيص بالإجماع.
ولا تؤثر العادة الفعلية في دلالة اللفظ على الأصح، قال التاج السبكي ـ رحمه الله
سبحانه وتعالى ـ في بيان الأصح في مسائل من الباب: وأن العام لا يقصر على المعتاد، ولا على ما وراءه، بل تطرح له العادة السابقة اهـ
قال المحلي رحمه الله سبحانه وتعالى: الأول كما لو كان عادتهم تناول البر، ثم نهى عن بيع الطعام بجنسه متفاضلا، فقيل: يقصر الطعام على البر المعتاد.
والثاني: كما لو كان عادتهم بيع البر بالبر متفاضلا، ثم نهى عن بيع الطعام بجنسه متفاضلا، فقيل: يقصر الطعام على غير البر المعتاد.
وهذا ما لم تقم قرينة على إرادة المعنى المعهود خاصة، كحديث معمر بن عبد الله ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنه " الطعام بالطعام مثلا بمثل "
(1)
قال معمر ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنه ـ: وكان طعامنا يومئذ الشعير، فيحمل عليه، كما هو الحال لو لم تكن هناك عادة.
ودع ضمير البعض والأسبابا
قوله رحمه الله سبحانه وتعالى: ودع ضمير البعض، معناه أنه إذا دل الدليل على أن المراد في الضمير العائد على العام بعضه خاصة، لم يقتض ذلك اختصاص العام بمرجع الضمير، وذلك كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) إلى قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (وبعولتهن أحق بردهن) فالضمير في (بعولتهن) و (ردهن) عائد إلى الرجعيات خاصة، فلا يقتضي ذلك كون المطلقات في صدر الآية خاصا بالرجعيات، على ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله سبحانه وتعالى والأكثر.
وقوله رحمه الله سبحانه وتعالى: والأسبابا، معناه أن ورود العام على سبب خاص من سؤال أو غيره، لا يخصصه، فلا يقصر على موضع السبب، بل هو باق على ما تقتضيه الصيغة من العموم عند الجمهور.
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن القشيري وإِلْكِيا الطبري وأبو حامد الغزالي ـ
(1)
رواه مسلم والإمام أحمد.
رحمهم الله سبحانه وتعالى: إنه الصحيح، وجزم به القفال الشاشي رحمهم الله سبحانه وتعالى.
وقيل: يقصر على سببه، ونقل عن بعض الشافعية، وأبي الفرج من أصحابنا وأبي حنيفة.
وقيل: بالوقف، وقيل غير ذلك.
ومحل الخلاف إذا لم تقم قرينة على تخصيص، كما في مسألة البساط على الظاهر من عبارة الأكثر، ولا على تعميم، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) نزل كما قال المفسرون في شأن مفتاح الكعبة، فذكر الأمانات بالجمع قرينة على إرادة العموم.
ومحل الخلاف أيضا إذا كان الخطاب يستقل بنفسه، فإن كان لا يستقل بنفسه، كجواب سؤال لا يستقل عنه، كحديث " أينقص الرطب إذا جف " قالوا: نعم، قال:" فلا إذا "
(1)
كان تابعا للسؤال في عمومه وخصوصه اتفاقا كما ذكره الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى.
وذكر ما وافقه من مفرد
…
ومذهب الراوي على المعتمد
أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بالشطر الأول، إلى أن ذكر بعض أفراد العام بحكمه، لا يقتضي قصر العام عليه، عند الجمهور، إذا لم يكن له مفهوم ينفي الحكم عن ما سواه من أفراد العام، فإن كان له مفهوم ينفي الحكم عما سواه من أفراد العام، فهو من أفراد مسألة التخصيص بالمفهوم المتقدمة الذكر.
ونقل عن أبي ثور رحمه الله سبحانه وتعالى أنه ذهب إلى التخصيص بذلك، وقيل إنه لم يقل به، وإنما نسب له من جهة قوله بمفهوم اللقب، وقال ابن دقيق العيد رحمه الله سبحانه وتعالى: إن كان أبو ثور نص على هذه القاعدة فذاك، وإن كان أخذها له بطريق الاستنباط من مذهبه في مفهوم اللقب، فلا يدل على ذلك.
قال الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى: فإن قلت: فعلى قول الجمهور ما فائدة
(1)
رواه أبو دود والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام مالك، وهو حديث صحيح.
هذا الخاص، مع دخوله في العام؟
قلت: يجوز أن تكون فائدته عدم جواز تخصيصه، أو التفخيم له، أو إثبات المزيد له على غيره من الأفراد، نقله في الإرشاد.
ولا فرق بين أن يكون الخاص المذكور معطوفا على العام، وأن يكون منفصلا عنه في نص آخر.
مثال أولهما: قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) وقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن) الآية الكريمة.
ومثال الثاني: قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (وآتوا حقه يوم حصاده) مع قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (خذ من أموالهم صدقة) الآية الكريمة.
وأشار بالشطر الثاني، إلى أن راوي العام إذا كان مجتهدا، وكان يذهب إلى اختصاص الحكم ببعض أفراد العام، فذلك لا يخصصه، عند الإمام مالك والإمام الشافعي والكرخي رحمهم الله سبحانه وتعالى بل هو باق على عمومه، لاحتمال كون مخالفته عن اجتهاد منه، ولا يجوز للمجتهد تقليد مجتهد.
وقيل: إن ذلك مخصص، وهو مذهب بعض الحنفية.
وقيل: إن كان الراوي المخالف صحابيا فهو مخصص، لبعد خفاء المراد عليه.
وقيل: إن مذهب الصحابي مخصص للعموم مطلقا.
قال الرازي رحمه الله سبحانه وتعالى في المحصول: حجة الشافعي - رضي الله سبحانه وتعالى عنه - أن المقتضي - وهو ظاهر اللفظ قائم، والمعارض الموجود - وهو مخالفة الراوي - لا يصلح أن يكون معارضا، لاحتمال أن يكون قد تمسك في تلك المخالفة بما ظنه دليلا، مع أنه لا يكون كذلك اهـ
ومثال ذلك ما جاء عن أبي هريرة - رضي الله سبحانه وتعالى عنه - من غسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا، مع روايته لحديث الغسل من ذلك سبعا.
واجزم بإدخال ذوات السبب
…
وارو عن الإمام ظنا تصب
معناه أن صورة السبب الذي ورد عليه العام، قطعية الدخول فيه عند الأكثرين، بل نقل الإجماع عليه.
قال الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى في البحر: فهو نص في سببه، ظاهر في ما زاد عليه، وإنما جعلوها قطعية في السبب، لاستحالة تأخير البيان عن وقت الحاجة، وروي عن الإمام مالك والإمام أبي حنيفة ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى أنها ظنية كغيرها، وإليه ذهب تقي الدين السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى.
قال الشربيني رحمه الله سبحانه وتعالى: ظاهر الشارح أن النزاع في عين صورة السبب، وهو ابن زمعة، ويصرح به ما قاله الشيخ الإمام رحمه الله سبحانه وتعالى يعني تقي الدين السبكي - وصرح السعد بأن الإمام أبا حنيفة ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى لم يخرج عينها، بل نوعها، لأن عين صورة السبب داخلة قطعا، واتفاقا اهـ
وجاء في تخصيص ما قد جاورا
…
في الرسم ما يعم خلف النظرا
قوله: خلف النظرا، هو فاعل جاء، وما في قوله: ما قد جاورا في الرسم، فاعل المصدر الذي هو تخصيص، ومفعوله ما في قوله: ما يعم.
والمعنى أنه جاء في تخصيص العام بالخاص المجاور له في الرسم، بأن يكون مواليا له في المصحف، وإن تأخر عنها نزولا، خلاف.
ولم أقف على شيء في هذا.
فالذي ذكره التاج السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى في ذلك، إنما هو أن صورة الخاص فيه، قريبة من صورة السبب من جهة قطعية الدخول في العام.
وهو غير بين، فإن الترتيب لا أثر له في المعنى.
ومسألة التذييل، ليست هي مسألة المجاورة في الرسم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والتخصيص في مسألة التذييل عند القائل به من قبيل التخصيص بالسياق، وليست دلالته هنا بينة جدا.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله سبحانه وتعالى في شرح الإلمام ـ: نص بعض الأكابر من الأصوليين، أن العموم يخص بالقرائن القاضية بالتخصيص، قال: ويشهد له مخاطبات
الناس بعضهم بعضا، حيث يقطعون في بعض الخطابات بعدم العموم، بناء على القرينة، والشرع يخاطب الناس بحسب تعارفهم، قال: ولا يشتبه عليك التخصيص بالقرائن، بالتخصيص بالسبب، كما اشتبه على كثير من الناس، فإن التخصيص بالسبب غير مختار، فإن السبب وإن كان خاصا، فلا يمنع أن يورد لفظ عام يتناوله وغيره، كما في قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) ولا ينتهض السبب بمجرده قرينة لرفع هذا، بخلاف السياق، فإنه يقع به التبيين، والتعيين، أما التبيين ففي المجملات، وأما التعيين ففي المحتملات، وعليك باعتبار هذا في ألفاظ الكتاب والسنة، والمحاورات، تجد منه ما لا يمكنك حصره نقله في الإرشاد.
قال: والحق أن دلالة السياق إن قامت مقام القرائن القوية المقتضية لتعيين المراد، كان المخصص هو ما اشتملت عليه من ذلك، وإن لم يكن السياق بهذه المنزلة، ولا أفاد هذا المفاد فليس بمخصص اهـ
ومعنى تخصيص القرائن اقتضاؤها إرادة الخصوص بالعام، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن أتى ما خص بعد العمل
…
نسخ، والغير مخصص جلي
معناه أن الخاص إذا تأخر عن وقت العمل بالعام، كان ناسخا لما تعارض فيه مع العام، قال الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى في البحر: وفاقا، ولا يكون تخصيصا، لأن تأخير بيانه عن وقت العمل غير جائز.
وإن تقدم الخاص عن وقت العمل بالعام كان مخصصا له، سواء تأخر عن وقت الخطاب بالعام، أو تقدم، سواء تأخر العام عن العمل بالخاص، أو لا، خلافا للإمام أبي حنيفة رحمه الله سبحانه وتعالى وأكثر أصحابه، حيث قالوا: إن تأخر العام عن وقت العمل بالخاص، كان ناسخا له.
وإذا جهل تاريخهما، فمذهب الشافعية، والمالكية، والحنابلة، وبعض من الحنفية، بل نقل عليه أبو الحسين الإجماع، أن العام يبنى على الخاص، ونقل عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله سبحانه وتعالى وأكثر أصحابه الوقف حتى يعلم التاريخ، أو يظهر مرجح، وحكي عن القاضي أبي بكر والدقاق ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى.
وإن يك العموم من وجه ظهر
…
فالحكم بالترجيح حتما معتبر
معناه أنه إذا كان بين الدليلين عموم وخصوص من وجه، فإنه يصار إلى الترجيح، سواء تقارنا، أو تأخر أحدهما.
قال الشربيني رحمه الله سبحانه وتعالى: قولهم: العام الآتي بعد الخاص ناسخ مطلقا، سواء كان موصولا أو مفصولا، في ما إذا كان العموم ليس وجهيا، نص عليه السعد رحمه الله سبحانه وتعالى وغيره، وذلك لأنه لو نسخ الاول لكان نسخ ما لا يتناوله منه كالرجال، في " من بدل دينه فاقتلوه " بغير دليل تأمل اهـ
ومثال تقابلهما: قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (وأن تجمعوا بين الأختين) مع قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (أو ما ملكت أيمانكم) فيرجح عموم الآية الأولى، لاقتضائه التحريم، ولأن الثاني مخصص بنصوص كثيرة، ولأنه سيق لغرض خاص، وقد تقدم الخلاف في ذلك، والحمد لله رب العالمين وصلى الله تعالى وسلم وبارك على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
فصل في المقيد والمطلق
المناسبة في ذكر المقيد والمطلق بعد العام والخاص بينة، فالمطلق عام عموما بدليا، والمقيد منه بمثابة المخصص من العام، مع اتفاقهما في أغلب البحوث.
فما على معناه زِيد مسجلا
…
معنى لغيره اعتقده الاولا
قال الآمدي رحمه الله سبحانه وتعالى في الإحكام: المقيد يطلق باعتبارين:
الأول: ما كان من الألفاظ الدالة على مدلول معين، كزيد وعمرو، وهذا الرجل ونحوه.
الثاني: ما كان من الألفاظ دالا على وصف مدلوله المطلق بصفة زائدة عليه، كقولك: دينار مصري، ودرهم مكي، وهذا النوع من المطلق وإن كان مطلقا في جنسه، من حيث هو دينار مصري، ودرهم مكي، غير أنه مقيد بالنسبة إلى مطلق الدينار والدرهم، فهو مطلق من وجه، ومقيد من وجه اهـ
وهذا المعنى الثاني هو المراد بالبيت.
وقوله رحمه الله سبحانه وتعالى: مسجلا، أشار به إلى أنه لا فرق في ذلك بين كون
القيد الدال على المعنى المزيد على أصل المعنى مذكورا نحو (رقبة مؤمنة) وكونه مقدرا، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(فصيام ثلاثة أيام) أي: متتابعة، عند من يشترط التتابع، وبه قرأ ابن مسعود ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنه ـ.
وما على الذات بلا قيد يدل
…
فمطلق وباسم جنس قد عقل
وما على الواحد شاع النكره
…
والاتحاد بعضهم قد نصره
عليه طالق إذا كان ذكر
…
فولدت لاثنين عند ذي النظر
معنى أول الأبيات: أن المطلق ـ ويرادفه اسم الجنس ـ: هو اللفظ الدال على الماهية بلا قيد، والوحدة ضرورية عند الطلب، إذ لا وجود للماهية المطلوبة بأقل من واحد، فالتوجه إلى الماهية من حيث اتحادها مع الأفراد، أو وجودها فيها.
فخرج الدال على الماهية بقيد التعين في الخارج، وهو المعرفة، أو التعين في الذهن، وهو علم الجنس، أو بقيد الاستغراق، وهو العام، والدال عليها بقيد الوحدة الشائعة ـ وهي الفرد المنتشر ـ وهو النكرة، كما أشار إليه رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: وما على الواحد شاع النكره، والشيوع: خلاف التعيين.
فالمطلق والنكرة من حيث اللفظ سواء، والاختلاف إنما هو بالاعتبار، فإن أريدت باللفظ الماهية بلا قيد، فهو المطلق، واسم الجنس، وإن أريدت به الماهية مع قيد الوحدة الشائعة، فهو النكرة.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: والاتحاد بعضهم قد نصره، إلى أن من أهل الأصول من اختار ما ذهب إليه ابن الحاجب والآمدي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى من استواء النكرة والمطلق، فالمطلق عندهم هو ما دل على واحد شائع في جنسه، كالنكرة في الإثبات، إذا لم يقترن بها ما يوجب عمومها،
(1)
وينكرون كون المطلق يدل على الماهية بلا قيد.
والمراد بالواحد: مفرد المعنى، فإذا كان اللفظ مثنى، دل على اثنين شائعين في الجنس،
(1)
كالنكرة في سياق الامتنان، والشرط، ونحو: أكرم كل رجل، والنكرة المستغرقة باقتضاء المقام، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(علمت نفس) وقوله: تمرة خير من جرادة.
وإذا كان جمعا دل على جمع شائع في الجنس، فالنظر إلى الشيوع.
قال العطار رحمه الله سبحانه وتعالى: وقول ابن الحاجب رحمه الله سبحانه وتعالى: ما دل على شائع في جنسه، معناه ما دل على حصة من الجنس، ممكنة الصدق على كل من حصص كثيرة مندرجة تحت مفهوم كلي.
وقول الآمدي رحمه الله سبحانه وتعالى: إنه عبارة عن النكرة في سياق الإثبات، بنحو معناه، لا أن مراده النكرة المحضة، بدليل قوله عقبه: إنه احترز بقوله: نكرة عن المعارف، وعما مدلوله واحد معين، أو عام مستغرق، ثم تصريحه بأن النكرة تخرج بالاستغراق عن التنكير، إذ لا يخفى أنها إنما تخرج به عن كونها نكرة محضة، لا أنها تصير معرفة اهـ
والقول باستواء المطلق والنكرة هو الموافق لكلام أهل العربية، إذ لا دليل في كلامهم على الفرق المذكور، ولأن التكليف متعلق بالأفراد، دون المفهومات الكلية التي هي أمور عقلية قاله العطار رحمه الله سبحانه وتعالى.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: عليه طالق البيت، إلى أنه ينبني على الاختلاف في استواء المطلق والنكرة واختلافهما: اختلاف الفقهاء في من قال لزوجته: إن كان ما في بطنك ذكرا، فأنت طالق، فولدت ذكرين، هل تطلق عليه أو لا؟
فقيل: تطلق، حملا على الجنس.
وقيل: لا تطلق نظرا للتنكير المشعر بالتوحيد، قاله المحلي رحمه الله سبحانه وتعالى.
بما يخصص العموم قيِّد
…
ودع لما كان سواه تقتدي
معناه أن المطلق يقيد بنحو ما سبق أنه يخصص العام مما يتأتى تقييده به.
قال أبو الوليد الباجي رحمه الله سبحانه وتعالى في الإشارة: التقييد يقع بثلاثة أشياء: الغاية، والشرط، والصفة.
فأما الغاية فقولك: اضرب زيدا، وعمرا أبدا حتى يرجع إلى الحق، فلولا أنه قيد الضرب بالرجوع إلى الحق، لاقتضى ذلك ضربه أبدا.
وأما الشرط فقولك: من جاءني من الناس فأعطه درهما، فقيد ذلك بالشرط.
وأما الصفة فقولك: أعط القرشيين المؤمنين، فقيد بصفة الإيمان، ولولا ذلك لاقتضى
اللفظ كل قرشي اهـ
والشأن لا يعترض المثال
…
إذ قد كفى الفرض والاحتمال
وجميع ما تقدم من البحوث في العام والخاص، جار في المطلق والمقيد، ولا يفترق البابان إلا في ما أشار إليه رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
وحمل مطلق على ذاك وجب
…
إن فيهما اتحد حكم وسبب
معناه أن المطلق والمقيد إذا اتفقا في الحكم والسبب، وجب حمل المطلق على المقيد، لأن السبب الواحد لا يوجب متنافيين، وذلك كتقييد الوصية في قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(من بعد وصية يوصي بها) الآية الكريمة، بحديث " الثلث والثلث كثير "
(1)
وحديث " فلا وصية لوارث "
(2)
وأما التمثيل بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (أو دما مسفوحا) فالظاهر أنه سهو، وأن ذلك من قبيل تخصيص العام.
وكذلك التمثيل بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (يأخذ كل سفينة غصبا).
…
وكذلك التمثيل بقراءة ابن مسعود ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنه ـ في آية كفارة اليمين، لاتحاد المورد
(3)
.
والوصف في الآية الأولى يقتضيه السياق، فالتعليل للخرق بشأن الملك مع السفن، صريح في أنه لا يأخذ ذات الخرق، فالنص ليس مطلقا، حتى يقال إنه مقيد بالإجماع والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وقد نقل الاتفاق على حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة القاضي أبو بكر والقاضي عبد الوهاب وابن فورك وإلكيا الطبري رحمهم الله سبحانه وتعالى قاله في الإرشاد.
وليس القول به خاصا بمن يرى حجية المفهوم، كما بينه ابن عاشور رحمه الله
(1)
متفق عليه.
(2)
رواه أبو داوود والترمذي وابن ماجة والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
(3)
والنص الواحد لا يمكن أن يكون مطلقا مقيدا.
سبحانه وتعالى ـ.
ومحل حمل المطلق على المقيد، إذا لم يتأخر المقيد عن وقت العمل بالمطلق، فإن تأخر كان ناسخا للمطلق، بالنسبة إلى صدقه بغير المقيد، فلو قال: إن ظاهرت فأعتق رقبة، ثم قال بعد ذلك: إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة، كان ناسخا لما اقتضاه القول من إجزاء الرقبة الكافرة، وإنما يحمل عليه إذا تقارنا، أو تأخر المطلق، أو جهل تاريخهما، أو تأخر الخطاب بالمقيد، عن الخطاب بالمطلق، لكن ورد قبل وقت العمل بالمطلق، وإلى هذا أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
وإن يكن تأخر المقيد
…
عن عمل فالنسخ فيه يعهد
وذلك لامتناع تأخر البيان عن وقت الحاجة، كما تقدم بيانه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإن يكن أمر ونهْي قُيِّدا
…
فمطلق بضد ما قد وجدا
المراد أنه إذا تقابل أمر ونهي، وكان أحدهما مقيدا، والآخر مطلقا، فالمطلق منهما مقيد بضد ما قيد به المقيد، جمعا بينهما.
فإذا قال: أعتق رقبة مؤمنة، وقال: لا تعتق رقبة، قيدت الرقبة في النهي بالكفر، وفي تسمية هذا تقييدا توسع.
وإذا قال: لا تعتق رقبة كافرة، وقال أعتق رقبة، قيدت الرقبة في الأمر بالإيمان.
وحيث ما اتحد واحد فلا
…
يحمله عليه جل العقلا
معناه أن المطلق لا يحمل على المقيد إذا اتفقا في الحكم دون السبب، أو في السبب دون الحكم، بل يبقى المطلق على إطلاقه، هذا مذهب جل المالكية، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله سبحانه وتعالى.
وذهب جمهور الشافعية إلى أنه يحمل عليه، وجعله الرازي ضعيفا جدا.
وذهب محققون منا ومنهم إلى جواز التقييد بالقياس على المقيد على نحو ما يأتي اشتراطه في القياس، لا أن ذلك مطرد، هكذا ذكر هذا القول جماعة، وليس الكلام في هذا، إنما الكلام في الحمل بمقتضى اللفظ.
ومثال ذلك: إطلاق الرقبة في الظهار، وتقييدها في القتل، فيبقى المطلق على إطلاقه لاختلاف السبب، وإطلاق الأيدي في التيمم، وتقييدها في الوضوء بالمرافق، فيبقى المطلق على إطلاقه لاختلاف الحكم، إذ هو في المقيد الغسل، وفي المطلق المسح.
فصل في التأويل والمحكم والمجمل
التأويل لغة: من آل يؤول إذا رجع، تقول: آل الأمر إلى كذا أي: رجع إليه، ومآل الأمر: مرجعه.
واصطلاحا: صرف اللفظ عن معناه الظاهر منه، إلى معنى محتمل منه بمرجوحية، لدليل دال على ذلك، فلا يكون في النص، ولا في المجمل، وإلى هذا أشار الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
حمل لظاهر على المرجوح ..........................
وأما المحكم ـ بفتح الكاف ـ فهو لغة: من أحكمه إذا أتقنه.
واصطلاحا: مشترك بين البيِّن الدلالة على معناه ـ وهو المراد هنا ـ والنص الذي ليس بمنسوخ، وسيأتي ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى
والمجمل ـ بفتح الميم ـ وهو لغة: من أجمله إذا جمعه مع غيره ولم يميزه، من أُجمل الحسابُ إذا جمع، وجعل جملة واحدة.
واصطلاحا: ما احتمل أكثر من معنى على وجه سواء.
واقسمه للفاسد والصحيح
صحيحه وهْو القريب ما حمل
…
معْ قوة الدليل عند المستدل
وغيره الفاسد والبعيد
…
وما خلا فلعبا يفيد
معناه أن التأويل ينقسم إلى تأويل صحيح، ويسمى تأويلا قريبا، وإلى تأويل فاسد، ويسمى تأويلا بعيدا.
وذلك أن صرف اللفظ عن ظاهره، إما أن يكون لدليل دال على ذلك، أو لا.
والدليل إما أن يكون قويا، أو لا.
فأول القسمين: كحمل الجار في حديث " الجار أحق بصقبه "
(1)
على الشريك، فالمخالط قد يطلق عليه لفظ الجار، كقول الأعشى:
أيا جارتا بيني فإنك طالقه
…
كذا أمر الناس غاد وطارقه
لحديث قضى رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ بالشفعة في كل مال لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة "
(2)
وكتأويل القيام في قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) الآية الكريمة، بالعزم على القيام، لما علم من اشتراط الطهارة للصلاة، كما في حديث " لا يقبل الله تعالى صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ "
(3)
وذلك يقتضي حصوله قبل الشروع في الصلاة، فهذا تأويل صحيح.
والثاني ـ وهو ما كان الصرف عن الظاهر فيه لأمر يعتقده المؤول مقتضيا لذلك، وليس كذلك في الواقع ـ هو التأويل الفاسد، وسيذكر منه أمثلة.
وإن كان لغير دليل، فليس بتأويل أصلا، بل هو تلاعب، كما يقع من أهل الأهواء كثيرا في تفسيرهم لبعض الآيات الشريفة، والأحاديث النبوية.
وقد تبع الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى في ما ذكر من ترادف القريب والصحيح، وترادف البعيد والفاسد، البرماوي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى كما ذكره في النشر.
وذكر غير واحد أن التأويل القريب هو ما كان المعنى المرجوح فيه غير بعيد، بأن تكون القرينة منتصبة عليه، والبعيد ما كانت إرادة المعنى المرجوح فيه بعيدة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والخلفَ في فهم الكتاب صيِّرِ
…
إياه تأويلا لدى المختصر
المراد بالكتاب: المدونة، وبالمختصر: مختصر العلامة سيدي خليل رحمه الله سبحانه وتعالى.
(1)
رواه البخاري والإمام أحمد.
(2)
رواه البخاري وأبو داود وابن ماجة والإمام أحمد.
(3)
متفق عليه، واللفظ للبخاري.
يشير بهذا إلى أن سيدي خليلا رحمه الله سبحانه وتعالى إذا أطلق في مختصره التأويل، فمراده به الوجوه التي يفسر الشيوخ بها كلام المدونة، كما أشار إليه رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: وبأول لاختلاف شارحيها في فهمها.
والتفسير من المعاني المعروفة لكلمة التأويل، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل حكاية عن سيدنا يوسف ـ على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ:(قال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل)
فجعل مسكين بمعنى المد
…
عليه لائح سمات البعد
كحمل مرأة على الصغيره
…
وما ينافي الحرة الكبيره
وحمل ما روي في الصيام
…
على القضاء معَ الالتزام
أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بهذه الأبيات، إلى أمثلة من التأويل البعيد.
فأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بأول الأبيات، إلى ما جاء عن الحنفية من تأويل المسكين في قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(فإطعام ستين مسكينا) بالمد، فجوزوا إطعام مسكين واحد ستين يوما، بعلة أن المراد سد الخلة، ولا فرق بين سد خلة ستين مسكينا في يوم واحد، وسد خلة مسكين ستين يوما.
فالكلام عندهم إما أن يكون على تقدير مضاف، والأصل إطعام طعام ستين مسكينا، وهو ستون مدا، أو يكون المسكين فيه بمعنى المد، والأول هو الواقع في كلام غير واحد، والثاني توهمه عبارة التاج السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى في الجمع.
قال في المنخول: قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (فإطعام ستين مسكينا) يقتضي مراعاة عدد المساكين، وقال الإمام أبو حنيفة ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنه ـ: لا يراعى، ومعناه إطعام طعام ستين مسكينا، فيجوز صرفه إلى واحد، وقال: ذكر عدد المساكين، لبيان الطعام.
ثم اعترضه بوجهين:
أحدهما: أن الافعال التي تتعدى إلى مفعولين، تنقسم إلى ما ينتظم من مفعوليه مبتدإ وخبر، كقولك: ظننت زيدا عالما، فتقول: زيد عالم، فيفهم، فهذا لا بد فيه من ذكر المفعولين
فأما ما لا يتأتى من مفعوليه كلام يفهم، كقولك: أعطيت زيدا درهما، فهذا يجوز الاقتصار فيه على أحد المفعولين، إذ تقول إذا أردت بيان المعطى: أعطيت درهما، ويبقى المعطى له مجملا.
وإذا قصدت بيان المعطى له، قلت: أعطيت زيدا، والقدر المعطى مجمل، والإطعام من جنس الإعطاء، وقد ذكر الرب سبحانه وتعالى أحد مفعوليه، وهو المعطى لهم، وجرد القصد إلى بيانه، وترك مقدار الطعام وجنسه مجملا، فالتأويل المذكور إلغاء لما صرح به وتقدير في محل الاحتمال.
الثاني: عدم تسليم ما قيل من استواء سد خلة فقير واحد ستين يوما، وسد خلة ستين مسكينا يوما، لاحتمال أن يكون إحياء مهج أقوام معدودين مقصودا للشارع، واللفظ دال عليه اهـ بتصرف.
ولم يستبعد المازري رحمه الله سبحانه وتعالى تأويل الحنفية المذكور، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بالبيت الثاني إلى حمل الحنفية أيضا حديث " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له "
(1)
على الصبية، أو الأمة أو المكاتبة، لصحة تزويج الحرة الكبيرة نفسها عندهم قياسا على المال، فهو بعيد، أما الصبية فلأن المرأة لا تطلق على الصبية، وأما الأمة فلقوله:" فلها المهر " وقصره على المكاتبة قصر للعموم على صورة نادرة، فيكون كاللغز، والندور يقتضي عدم الإرادة، والعموم في الحديث لأجل الشرط، وأما ترك الاستفصال المذكور في بعض الشروح فلم أفهم المقصود به.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بالبيت الثالث، إلى ما جاء عن الحنفية من حمل
(1)
رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والدارمي والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
حديث " لا صيام لمن لم يجمع الصيام قبل الفجر "
(1)
على الصيام قضاء، والصيام عن نذر، وهو المراد بالالتزام، وذلك لجواز صوم رمضان، وصوم التطوع عندهم بنية في النهار.
ووجه البعد: أنه قصر للعام النص في العموم ـ وهو " لا صيام " الذي هو نكرة مركبة مع لا النافية للجنس ـ على صورة نادرة، فالصيام المذكور نادر بالنسبة لصيام رمضان، لأنه إنما يكون لأسباب عارضة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وذو وضوح محكم، والمجمل
…
هو الذي المراد منه يجهل
أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بهذا إلى ما تقدم في شرح ترجمة البحث من تفسير المحكم والمجمل، فذكر أن المحكم: هو اللفظ المتضح الدلالة على معناه، وأن المجمل: هو ما له دلالة غير ظاهرة من قول أو فعل.
قال في الإرشاد: الإجمال إما أن يكون في حال الإفراد، أو التركيب.
والأول إما أن يكون بتصريفه، نحو: قال من القول والقيلولة، ونحو مختار، فإنه صالح للفاعل والمفعول، قال العسكري: ويفترقان، تقول في الفاعل: مختار لكذا، وفي المفعول: مختار من كذا، ومنه قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(لا تضار والدة بولدها)(ولا يضار كاتب ولا شهيد)
وإما أن يكون بأصل وضعه، فإما أن تكون معانيه متضادة كالقرء، للطهر والحيض، والناهل للعطشان والريان، أو متشابهة غير متضادة، فإما أن يتناول معاني كثيرة بحسب خصوصياتها، فهو المشترك، وأما بحسب معنى تشترك فيه فهو المتواطئ.
وكما يكون في المفردات يكون في المركبات، نحو قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) لتردده بين الزوج والولي، ويكون أيضا في مرجع الضمير، ويكون في الصفة، نحو طبيب ماهر، لترددها بين أن تكون للمهارة مطلقا، أو للمهارة في الطب، ويكون في تعدد المجازات المتساوية مع مانع يمنع من حمله على حقيقته اهـ
(1)
رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام مالك والدارمي والإمام أحمد بألفاظ متقاربة، وهو حديث صحيح.
منه بتصرف.
وما به استأثر علم الخالق
…
فذا تشابه عليه أطلق
معناه أن المتشابه هو ما استأثر الله سبحانه وتعالى بعلم معناه، بناء على أن الوقف في قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(وما يعلم تأويله إلا الله) على اسم الجلالة، وهو مذهب الجمهور، قالوا: ولا ينافي ذلك حصول العلم به لبعض الأولياء مثلا، كما أشار إليه رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
وإن يكن علم به من عبد
…
فذاك ليس من طريق العهد
كأنه يشير إلى أن ذلك من قبيل الصورة النادرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد يجي الإجمال من وجه، ومن
…
وجه يراه ذا بيان من فطن
معناه أن النص قد يكون محكما من جهة، مجملا من جهة، بل هذا هو شأن أكثر النصوص، ومثاله قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) فهو واضح في وجوب الدعيمتين، مجمل في تفاصيل الأحكام، كذا للقرافي رحمه الله سبحانه وتعالى في التنقيح.
وقال إمام الحرمين رحمه الله سبحانه وتعالى في البرهان: المجمل على أقسام:
فقد يكون اللفظ مجمل الحكم والمحل، كقولك: لفلان في بعض مالي حق، فالحكم ـ وهو الحق ـ مجهول، والمحل ـ وهو بعض المال ـ مجهول.
ومنها أن يكون الحكم مجهولا، والمحل معلوما، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(وآتوا حقه يوم حصاده) فالمحل الذي هو مورد الحق معلوم، وهو الزرع، والحكم الذي وقع التعبير عنه بالحق مجهول القدر والصفة والجنس.
ومنها ما يكون الحكم منه معلوما، والمحل مجهولا، كقول القائل لنسائه: إحداكن طالق، أو لعبيده: أحدكم حر، فالحكم الطلاق والعتاق، وهو معلوم، ومحلهما مجهول.
ومنها ما يكون المحكوم فيه معلوما، والمحكوم له، وبه، مجهولين، ومنه قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) فالمحكوم فيه القتيل، والمحكوم له الولي، وهو مجهول، وكذلك المحكوم به مجهول، لأن السلطان مجهول في وصفه اهـ
والنفي للصلاة والنكاح
…
والشبه محكم لدى الصحاح
أشار رحمه الله سبحانه وتعالى إلى أن مذهب الأكثرين في نحو " لا صلاة إلا بطهور "
(1)
و " لا صيام لمن لم يجمع الصيام قبل الفجر "
(2)
و " لا نكاح إلا بولي "
(3)
أنه ليس بمجمل، خلافا للقاضي أبي بكر الباقلاني رحمه الله سبحانه وتعالى فقد ذهب إلى أنه مجمل، قائلا: لا يصح نفي المسمى في هذه المواضع، لوجوده حسا، فلا بد من تقدير شيء، وهو متردد بين الصحة والكمال، ولا مرجح لواحد منهما.
وأجيب بمنع عدم المرجح، فالمجاز بعدم الصحة هو أقرب المجازات إلى الحقيقة، لأن الفاسد لا يعتد به، فكان في معنى المعدوم حسا، فيكون أرجح، فإن قامت قرينة في موضع على إرادة غير الصحة كالكمال، صير إليه، ولا إجمال مع ترجح أحد الاحتمالات، وإلا كان كل ما ليس بنص مجملا.
قال السيف الآمدي رحمه الله سبحانه وتعالى: مذهب الكل أنه لا إجمال فيه، خلافا للقاضي أبي بكر وأبي عبد الله البصري ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى فإنهما قالا بإجماله، لأن حرف النفي دخل على هذه المسميات، مع تحققها، فلا بد من إضمار.
إلى أن قال: والمختار أنه لا إجمال في هذه الصور، لأنه لا يخلو إما أن يقال بأن الشارع له في هذه الأسماء عرف، أو لا عرف له فيها، بل هي منزلة على الوضع اللغوي.
فإن قيل بالأول، فيجب تنزيل كلام الشارع على عرفه، إذ الغالب منه أنه إنما يناطقنا في ما له فيه عرف بعرفه، فيكون لفظه منزلا على نفي الحقيقة الشرعية من هذه الأمور، ونفي الحقيقة الشرعية ممكن، والأصل حمل الكلام على ما هو حقيقة فيه، وعلى هذا فلا إجمال، وإن كان مسمى هذه الأمور بالوضع اللغوي غير منفي.
وإن قيل بالثاني، فالإجمال أيضا إنما يتحقق أن لو لم يكن اللفظ ظاهرا بعرف استعمال أهل اللغة قبل ورود الشرع في مثل هذه الألفاظ في نفي الفائدة والجدوى، وليس
(1)
رواه الدارقطني، وهو حديث ضعيف.
(2)
تقدم قريبا.
(3)
رواه أبو داوود والترمذي والدارمي وغيرهم، وهو حديث صحيح.
كذلك.
وبيانه أن المتبادر إلى الفهم من نفي كل فعل كان متحقق الوجود، إنما هو نفي فائدته وجدواه، ومنه قولهم: لا علم إلا ما نفع، ولا كلام إلا ما أفاد، ولا حكم إلا لله سبحانه وتعالى ولا طاعة إلا له سبحانه وتعالى ولا بلد إلا بسلطان، إلى غير ذلك.
وإن كان النفي محمولا على نفي الفائدة والجدوى، فلا إجمال فيه.
وإن سلمنا أنه لا عرف للشارع، ولا لأهل اللغة في ذلك، وأنه لا بد من الإضمار، غير أن الاتفاق واقع على أنه لا خروج للمضمر هاهنا عن الصحة والكمال، وعند ذلك فيجب اعتقاد ظهوره في نفي الصحة والكمال، لوجهين:
الأول: أنه أقرب إلى موافقة دلالة اللفظ على النفي، لأنه إذا قال: لا صلاة، لا صوم إلا بكذا، فقد دل على نفي أصل الفعل، بدلالة المطابقة، وعلى صفاته بدلالة الالتزام، فإذا تعذر العمل بدلالة المطابقة، تعين العمل بدلالة الالتزام، تقليلا لمخالفة الدليل.
الثاني: أنه إذا كان اللفظ قد دل على نفي العمل وعدمه، فيجب عند تعذر حمل اللفظ على حقيقته، حمله على أقرب المجازات الشبيهة به، ولا يخفى أن مشابهة الفعل الذي ليس بصحيح، ولا كامل، للفعل المعدوم، أكثر من مشابهة الفعل الذي نفي عنه أحد الأمرين، دون الآخر، فكان الحمل عليه أولى اهـ
والعكس في جداره، ويعفو
…
والقرء في منع اجتماع فاقف
معناه أن من المجمل حديث " لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة أو خشبه- بضمتين- في جداره "
(1)
فالضمير في جداره يحتمل أن يكون عائدا إلى المنهي، وأن يكون عائدا إلى الجار، ومثل هذا كثير.
ومنه الاسم الموصول في قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) فقد حمله الإمام مالك رحمه الله سبحانه وتعالى على الولي، لما قام عنده من الدليل على ذلك، وحمله الإمام الشافعي رحمه الله سبحانه وتعالى على الزوج، لما قام عنده أيضا على ذلك من الدليل.
(1)
متفق عليه.
ومنه المشترك في ما لا يمكن اجتماعه، عند التجرد عن القرائن المعيِّنة للمقصود، ومثل لذلك بالقرء، فهو مشترك في الطهر والحيض، وقد حمله على كل من المعنيين في آية العدة جماعة من أهل العلم.
وقول الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى: في منع اجتماع، يحترز به عن المشترك الذي تقدم ذكر الاختلاف فيه في فصل المشترك، وأنه عام عند الشافعية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل في البيان
البيان اسم مصدر بيَّن إذا أظهر، قال البناني: قال العضد ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى: البيان يطلق على فعل المبين، وهو التبيين، كالسلام والكلام للتسليم والتكليم، واشتقاقه من بان إذا ظهر وانفصل، وعلى ما حصل به التبيين، وهو الدليل، وعلى متعلق التبيين ومحله، وهو المدلول، وبالنظر إلى المعاني الثلاثة اختلف تفسير العلماء له، فقال الصيرفي رحمه الله سبحانه وتعالى بالنظر إلى الأول: هو الإخراج من حيز الإشكال، إلى حيز التجلي والوضوح اهـ
وهذا هو ما عقده الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
تصيير مشكل من الجلي ...........................
وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله سبحانه وتعالى: هذا الحد لفرع من البيان، وهو بيان المجمل خاصة، والبيان يكون فيه وفي غيره اهـ
وقال القاضي أبو بكر، وإمام الحرمين، والغزالي، والآمدي، والإمام الرازي رحمهم الله سبحانه وتعالى والأكثرون ـ نظرا إلى الثاني ـ: إنه الدليل.
وقال أبو عبد الله البصري ـ نظرا إلى الثالث ـ: هو العلم عن الدليل.
وهُو واجب على النبي
إذا أريد فهمه ......... .......................
معناه أن البيان واجب على النبي ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ على امتناع
التكليف بما لا يطاق، لكن إنما يجب عليه لمن أريد فهمه للمشكل، ليعمل به كأحكام الوضوء، أو يفتي به كأحكام الحيض بالنسبة للرجال.
ويجب على النبي ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ بيان ما يتعلق بأحكام الشرع، واجبها، ومندوبها، وحرامها، ومكروهها، ومباحها.
وقال بعض المتكلمين: يجب عليه بيان الواجب، ويستحب له بيان المندوب، ويباح له بيان المباح.
قال ابن القشيري رحمه الله سبحانه وتعالى: وهذا خرق للإجماع، لإجماع الأمة على وجوب تبليغ جميع الشرعيات، نقله الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى في البحر.
وهْو بما
…
من الدليل مطلقا يجلو العمى
معناه أن البيان يكون بكل ما يرتفع به الإشكال، ويتضح به المراد، من قول، أو فعل، أو قرينة عقلية، أو حسية، أو غير ذلك.
أما القول، فلا خلاف في وقوع البيان به، وأما الفعل، فمذهب الجمهور أنه يقع به البيان، كمسحه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم على خفيه.
ومحل الخلاف، حيث لم ينضم إليه قول، كقوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلي "
(1)
وقوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم " خذوا عني مناسككم "
(2)
ومنهم من حكى الاتفاق في البيان بالكتابة والإشارة.
ومن الفعل: الترك، والتقرير.
وبين القاصر من حيث السند
…
أو الدلالة على ما يعتمد
معناه أنه لا يشترط عند جمهور أهل العلم في المبين ـ بالكسر ـ أن يكون مساويا للمبين ـ بالفتح ـ في قوة السند، ولا في قوة الدلالة، فيجوز بيان الكتاب الكريم، والسنة المتواترة، بأخبار الآحاد، ويجوز بيان المنطوق بالمفهوم.
وذهب الكرخي رحمه الله سبحانه وتعالى إلى اشتراط المساواة.
(1)
متفق على أصله، واللفظ للبخاري.
(2)
رواه مسلم والنسائي.
واختار ابن الحاجب رحمه الله سبحانه وتعالى اشتراط كونه أقوى دلالة من المبين ـ بالفتح ـ.
واختار الآمدي رحمه الله سبحانه وتعالى التفصيل بين المجمل وغيره، فالمجمل يكفي في تعيين أحد محتملاته أدنى ما يفيد الترجيح، وأما العام والمطلق، فلا بد فيهما من كون المخصص والمقيد أقوى دلالة.
وأوجبنَّ عند بعض عِلما
…
إذا وجوبُ ذي الخفاء عما
معناه أن منهم من اشترط في المبين ـ بالكسر ـ أن يكون قطعيا إذا كان المبين ـ بالفتح ـ مما يعم التكليف به، كالطهارة والصلاة، لأن ما كان كذلك، تتوفر الدواعي على نقله تواترا.
وهذا القول لا يختص بالبيان، على ما نقله ابن حزم رحمه الله سبحانه وتعالى في الإحكام عن قوم من الحنفية وقوم من المالكية، فأخبار الآحاد عندهم مطروحة في ما تعم البلوى به.
ونسبه الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى في البحر لأكثر الحنفية وأبي عبد الله البصري وابن خويز الخارجي وابن سريج، وسيأتي الكلام على ذلك ـ إن شاء الله سبحانه وتعالى في كتاب السنة.
والقول والفعل إذا توافقا
…
فانم البيان للذي قد سبقا
وإن يزد فعل فللقول انتسب
…
والفعل يقتضي بلا قيد طلب
والقول في العكس هو المبيِّن
…
وفعله التخفيف فيه بيِّن
إذا ورد بعد المجمل قول وفعل، وكان كل منهما صالحا لبيانه، فإما يتوافقا، بأن لا تكون في أحدهما زيادة على الآخر، أو لا، فإن توافقا فإما أن يعلم السابق منهما، أو لا.
فإن علم السابق منهما، فهو المبين، والثاني تأكيد له.
وقيل: إذا كان الفعل أضعف دلالة منه، لم يحمل على تأكيده، إذ يمتنع التأكيد بالأضعف.
وإن لم يعلم السابق منهما، لم يحكم على واحد منهما بأنه المبين، فالمبين هو السابق في نفس الأمر، والثاني تأكيد له.
وإن لم يتفقا، بأن زاد أحدهما على الآخر، فالمبين هو القول خاصة، تقدم أو تأخر، وذلك هو قوله رحمه الله سبحانه وتعالى: بلا قيد، والنقص الحاصل في الفعل تخفيف خاص به صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، وإن كان هو الزائد، فالزيادة إما مستحبة مطلقا، أو واجبة في حقه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم خاصة.
وذلك كما لو طاف صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم في بيان الحج طوافين، وأمر بواحد، فالطواف الثاني إما مستحب في حقه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم وفي حق الأمة، أو واجب يختص وجوبه به صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم.
وأما تمثيل صاحب نثر الورود بالوصال فسهو، كما بينه في الحلي.
تأخر البيان عن وقت العمل
…
وقوعه عند المجيز ما حصل
تأخيره للاحتياج واقع
…
وبعضنا هو لذاك مانع
وقيل بالمنع بما كالمطلق
…
ثم بعكسه لدى البعض انطق
أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بأول الأبيات، إلى أن تأخر البيان لمجمل أو ظاهر لم يرد ظاهره، عن وقت العمل، بحيث لا يكون المكلف متمكنا من المعرفة لما تضمنه الخطاب قبل الوقت، ممتنع عند القائلين بمنع التكليف بما لا يطاق، لاستحالة الإتيان بالشيء مع عدم العلم به، جائز عند من أجاز ذلك، إلا أنه لم يقع.
فعدم الوقوع متفق عليه، وإنما الخلاف في الجواز.
وأما تأخيره عن وقت الخطاب بالمبين ـ بالفتح ـ إلى وقت العمل، فقد اختلف في جوازه على مذاهب:
أحدها: أنه جائز مطلقا، وواقع، حكاه القاضي عن الإمام مالك ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى وقال أبو الوليد الباجي رحمه الله سبحانه وتعالى: عليه أكثر أصحابنا، وهو مذهب الأكثرين.
قال في الإرشاد: واستدلوا بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) وثم للتعقيب مع التراخي.
وقوله سبحانه وتعالى جل من قائل ـ في قصة سيدنا نوح على نبينا وعليه أفضل الصلاة
وأتم التسليم -: (وأهلك)
وبقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) ثم لما سأل ابن الزبعرى عن عيسى والملائكة - على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم - نزل قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) اهـ منه بتصرف.
والثاني: أنه لا يجوز مطلقا، وهو قول المعتزلة، وكثير من الحنفية، وبعص الشافعية، وداود الظاهري، والأبهري ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى.
وإلى هذين القولين أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بالبيت الثاني.
والثالث: أنه يمتنع في ما له ظاهر، كالعام، والمطلق، ويجوز في ما لا ظاهر له، كالمجمل، ونسب لأبي الحسين المعتزلي.
والرابع: أنه يمتنع في ما لا ظاهر له، كالمجمل، ويجوز في ما له ظاهر، كالعام، حكاه الماوردي والروياني ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى وجها لأصحاب الشافعي.
وإلى هذين القولين أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بالبيت الثالث.
وقيل غير ذلك، والمعول مذهب الجمهور والله سبحانه وتعالى أعلم.
وجائز تأخير تبليغ له
…
ودرء ما يُخشى أبى تعجيله
قوله رحمه الله سبحانه وتعالى: وجائز تأخير تبليغ له، معناه أن تأخير النبي ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ بلاغ ما أوحي إليه إلى وقت العمل به، جائز، لا فرق في ذلك بين القرآن الكريم وغيره، إذ لا محذور فيه، خلافا لمن قال بعدم جواز ذلك، محتجا بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(بلغ ما أنزل إليك من ربك) قالوا: المراد بلغ على الفور، لأن وجوب التبليغ معلوم بالعقل ضرورة، فلا فائدة للأمر به، والوجوب بالعقل مبني على أن العقل يحسن ويقبح، فهو غير مسلم عند الجمهور، وكلام ابن الحاجب والإمام الرازي والآمدي رحمهم الله سبحانه وتعالى يقتضي الاتفاق على المنع في القرآن الكريم، للتعبد بتلاوته، فالحاجة إليه حاصلة قبل وقت العمل بمقتضاه، وهو بين، إذ قد ينسخ التعبد بالتلاوة دون الحكم ـ كما هو معلوم ـ والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: ودرء ما يخشى أبى تعجيله، إلى أن تعجيل التبليغ قد يمتنع، وذلك حيث ترتب على التأخير درء فساد، ولهذا المعنى كان صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها، وكان يقول:" الحرب خدعة "
(1)
ونسبة الجهل لذي وجود
…
بما يُخصِّصُ من الموجود
معناه أن تعين البيان قبل وقت الحاجة عليه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم لا يقتضي تعين إعلام كل فرد من المكلفين، فإعلام البعض كاف، وعدم علم بعض المكلفين الموجودين حين الخطاب، ببعض الأحكام معروف عن أعيان الصحابة، كما في قصة سيدنا أبي بكر ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنه ـ في ميراث الجدة، وقصة سيدنا عمر ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنه ـ في مجوس هجر.
وحكي فيه قول بالمنع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل في النسخ
النسخ لغة: الرفع والإزالة، ومنه نسخت الريح الأثر، قال في الحلي: ومنه قوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (فينسخ الله ما يلقي الشيطان) ويطلق بمعنى النقل، والتحويل، ومنه تناسخ الأرواح، قيل: ومنه نسخت الكتاب، قال الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى: وهو المعني بقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) اهـ
ومذهب الأكثرين أنه حقيقة في الرفع والإزالة، مجاز في الثاني، وقيل مشترك بينهما، وقيل حقيقة في القدر المشترك بينهما.
واصطلاحا عرفه القاضي أبو بكر رحمه الله سبحانه وتعالى بأنه: رفع الحكم الثابت، بطريان الحكم اللاحق، المضاد له، مع تراخيه عنه، لأن الله سبحانه وتعالى شرع الحكم السابق دائما على خلقه، والحكم الثاني اقتضى عدم دوام الحكم الأول، فعدم الحكم الأول، مضاف إلى وجود الحكم الثاني، قاله في النشر.
واختار التاج السبكي رحمه الله سبحانه وتعالى هذا القول، لتناوله للنسخ قبل
(1)
متفق عليه.
التمكن.
وقال السرخسي رحمه الله سبحانه وتعالى: وأوجه ما قيل فيه، إنه عبارة عن التبديل، من قول القائل: نُسخت الرسوم، أي: بدلت برسوم أخر، إلى أن قال: وعبارة التبديل منصوص عليه في القرآن الكريم، قال سبحانه وتعالى جل من قائل:(وإذا بدلنا آية مكان آية) اهـ
وهو في معنى ما قبله، قال في المحصول: والتبديل يشتمل على رفع وإثبات، والمرفوع إما التلاوة، وإما الحكم، وكيف ما كان فهو رفع ونسخ اهـ
وقيل: النسخ هو بيان انتهاء زمن الحكم السابق، بالخطاب الثاني، فعدم الحكم الأول، ليس مضافا لوجود الحكم الثاني، بل لأنه كان مغيا بغاية، علمناها بورود الحكم الثاني، وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء، فهو راجع إلى التخصيص في الزمن، وقد يتصمن النص الأول تلويحا بالتوقيت، وذلك ـ في ما أحسب ـ كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(أو يجعل الله لهن سبيلا) وإلى هذا التعريف أشار الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
رفع لحكم أو بيان الزمن ..........................
وهذا يتناول نسخ التلاوة دون الحكم، لأنه نسخ للتعبد بألفاظ الآية الكريمة، وحرمة قرائتها على الجنب، ومسها للمحدث على الخلاف، وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالنظم.
وخرج بقوله: رفع لحكم، رفع البراءة كما تقدم بيانه، وخرج بكون الرفع بحكم، الرفع بزوال السبب، ولذلك لم يكن قول من قال: من سقط رجلاه نسخ غسلهما، جاريا على الاصطلاح، وإلى ذلك أشار- رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
بمحكم القرآن أو بالسنن
فلم يكن بالعقل .......... .............................
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
أو مجرد
…
الاجماع بل ينمى إلى المستند
إلى أن النسخ لا يقع بالإجماع، لأنه إنما ينعقد بعد متوفاه صلى الله تعالى عليه وعلى
آله وسلم، ولا نسخ بعد متوفاه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، فالناسخ هو دليل الإجماع الذي يستند إليه.
وكذلك القول في التخصيص والتقييد، فكل منهما لا يقع بالإجماع، فالإجماع دال على وجود ناسخ، أو مخصص، أو مقيد، وليس ناسخا بنفسه، ولا مخصصا، ولا مقيدا.
وكما لا يقع النسخ بالإجماع، كذلك لا يمكن نسخ الإجماع، لما تقدم من أنه إنما ينعقد بعد متوفاه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، ولا نص بعد متوفاه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم.
ومنْع نسخ النص بالقياس
…
هو الذي ارتضاه جل الناس
أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بهذا إلى أن مذهب الجمهور، امتناع النسخ بالقياس، لأن القياس إنما يستعمل مع عدم النص، ولأنه إن عارض نصا أو إجماعا كان فاسد الاعتبار.
وحكى القاضي أبو بكر رحمه الله سبحانه وتعالى عن بعضهم النسخ به مطلقا، لاستناده للنص.
وحكى عن قوم نسخ أخبار الآحاد به، دون المتواتر والقرآن الكريم.
وحكي عن أبي القاسم الأنماطي النسخ بمنصوص العلة دون مستنبطها.
وجعل الهندي رحمه الله سبحانه وتعالى محل الخلاف في حياة الرسول ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ وأما بعده فلا ينسخ به بالاتفاق.
وينسخ القياس بنسخ أصله، والمعول امتناع بقائه مع نسخ أصله، انظر الإرشاد.
ونسْخ بعض الذكر مطلقا ورد
…
والنسخ للنص بنص معتمد
والنسخ بالآحاد للكتاب
…
ليس بواقع على الصواب
قوله: ونسخ بعض الذكر مطلقا ورد، معناه أن نسخ بعض القرآن الكريم جائز تلاوة وحكما، مثل ما جاء عن عائشة رضي الله سبحانه وتعالى عنها أنها قالت: كان في ما أنزل من القرآن " عشر رضعات معلومات يحرمن "
(1)
أو تلاوة فقط، كآية الرجم، أو حكما فقط،
(1)
رواه مسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام مالك.
كآية عدة المتوفى عنها بالحول.
خلافا لمن قال: لا يجوز نسخ أحدهما دون الآخر، فنسخ أحدهما يستلزم نسخ الآخر.
قوله: والنسخ بالنص لنص معتمد، معناه أن نسخ النص ـ كيف كان ـ بالنص ـ كيف كان ـ جائز وواقع، على خلاف في نسخ القرآن بأخبار الآحاد، والأكثرون على أنه جائز، لكنه غير واقع، بل حكى طائفة الإجماع على عدم وقوعه.
وذهب قوم من أهل الظاهر إلى وقوعه، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله سبحانه وتعالى.
وفصل قوم، فقالوا بوقوعه في زمن النبي ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ لا بعده.
وجعل القائلون بالوقوع من أمثلة وقوعه نسخ حديث " لا وصية لوارث " آية الوصية للوالدين والاقربين، في أمثلة أخرى عددوها.
قال في النشر: وممن قال بالوقوع أبو الوليد الباجي رحمه الله سبحانه وتعالى منا، وعليه مشى القرافي في التنقيح.
ونسخ النص بمساويه، متفق عليه، كنسخ الكتاب بالكتاب، والمتواتر بالمتواتر، والآحاد بالآحاد، وكذلك نسخه بأقوى منه، كنسخ السنة بالقرآن الكريم، ونسخ الآحاد بالمتواتر، كما في الإرشاد.
وأما نسخ القرآن الكريم بالسنة المتواترة، فهو مذهب الجمهور، وذهب الإمام الشافعي رحمه الله سبحانه وتعالى إلى منعه، ونقل عن أصحابه الاتفاق عليه، ونقل أيضا عن أكثرهم الجواز.
وأما ما نقله في الحلي هنا عن صاحب نثر الورود، فهو غلط ببن، كما بينه.
وينسخ الخِفُّ بما له ثِقَل
…
وقد يجيء عاريا من البدل
قوله: وينسخ الخف بما له ثقل، معناه أن الحكم الناسخ قد يكون أثقل من الحكم المنسوخ، كنسخ وجوب صوم عاشوراء، بإيجاب صوم رمضان، ونسخ جواز الخمر بتحريمها، وخالف في جواز ذلك الظاهرية، وبعض المعتزلة، معللين بعدم المصلحة في الانتقال إلى
الأثقل.
وأجيب بمنع تعين الأصلح، ومنع لزوم عدم الأصلحية في ذلك.
وأما النسخ بالمساوي، والنسخ بالأخف، فلا خلاف في جوازه، كما في النشر والإرشاد.
وقوله: الخف، هو بكسر الخاء: الخفيف، وقوله: ثقل، هو كعوج.
وقوله: وقد يجيء عاريا من البدل، معناه أن الحكم قد ينسخ من دون بدل، عند الجمهور، كنسخ وجوب القيام للجنازة، ومنعه قوم، لقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها)
وأجيب بأن الجواب لا يجب أن يكون ممكنا، فضلا عن أن يكون واقعا.
وليس ببين، فالموضوع أنه واقع، ولا معنى للجواب به، إلا التلازم في الوقوع، والآية من المتشابه.
والنسخ من قبل وقوع الفعل
…
جاء وقوعا في صحيح النقل
معناه أن نسخ الحكم قبل التمكن من الفعل، بأن لم يدخل وقته، أو دخل ولم يمض منه ما يسعه، جائز عند الجمهور، كما في قصة سيدنا إبراهيم في أمره بذبح ولده ـ على نبينا وعليهما وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ.
وذهب أكثر الحنفية والحنابلة والمعتزلة إلى المنع.
وجاز بالفحوى ونسخه بلا
…
أصل، وعكسه جوازه انجلى
قوله: وجاز بالفحوى، معناه أن النسخ بالفحوى ـ والمراد به مفهوم الموافقة بنوعيه ـ جائز، وقد حكى على ذلك الرازي والآمدي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى الاتفاق، وتعجب من ذلك الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى وذكر أن فيه وجهين لأصحابهم، وذكر أن بعضا منهم صحح المنع، وذلك بناء على أنه قياس.
قوله: ونسخه بلا أصل وعكسه جوازه انجلى، معناه أن نسخ المنطوق دون الفحوى، ونسخ الفحوى دون المنطوق، جائز، بناء على لفظية الدلالة فيه، فهما بمثابة نصين، فلا يلزم من نسخ أحدهما نسخ الآخر، فيجوز نسخ تحريم ضرب الوالدين، مع بقاء حرمة
التأفيف، ونسخ حرمة التأفيف، مع بقاء حرمة الضرب.
وهذا قول أكثر المتكلمين.
ومذهب أكثر الفقهاء تلازمهما، فلا يجوز نسخ أحدهما دون الآخر، وإلى قولهم أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
ورأي الاكثرين الاستلزام ...........................
قال في الإرشاد: وذهب بعض المتأخرين إلى التفصيل، فقال: إن كانت علة المنطوق لا تحتمل التغيير، كإكرام الوالدين بالنهي عن التأفيف، امتنع نسخ الفحوى، لأنه يناقض المقصود، وإن احتملت النقض، جاز، كما لو قال لغلامه: لا تعط زيدا درهما، قاصدا بذلك حرمانه، ثم يقول: أعطه أكثر من درهم، ولا تعطه درهما، لاحتمال أنه انتقل من علة حرمانه إلى علة مواساته، قال: وهذا التفصيل قوي جدا اهـ وهو بين.
وبالمخالفة لا يرام
وهْي عن الأصل لها تجرد
…
في النسخ وانعكاسه مستبعد
أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بهذا إلى ثلاث مسائل:
الأولى: عدم النسخ بمفهوم المخالفة، وهي المراد بقوله رحمه الله سبحانه وتعالى: وبالمخالفة لا يرام، وذلك لضعفه عن مقاومة النص.
قال الشربيني رحمه الله سبحانه وتعالى: لاحتمال القيد لأن يكون مخرجا على سبب من الأسباب، وبوجود النص يتقوى ذلك، بخلاف الفحوى، فإنها تنبيه بالأدنى على الأعلى اهـ
وصحح الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله سبحانه وتعالى جواز النسخ بالمخالفة، قال الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى في البحر: ويحتمل وجها ثالثا، وهو التفصيل بين أقوى المفاهيم، وهو ما قيل فيه إنه منطوق، كالحصر، والشرط، وبين ما أجمعوا على أنه ليس بمنطوق اهـ
ومقتضى تعليل المانع بضعفها عن مقاومة النص، جواز نسخ مفهوم المخالفة بها، ثم رأيت العطار نظر في ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والثانية: جواز نسخ مفهوم المخالفة مع بقاء المنطوق، وذلك كقوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم:" إنما الماء من الماء "
(1)
فمفهومه الذي هو سقوط الغسل عن من جامع ولم ينزل، منسوخ بإيجاب الغسل من التقاء الختانين، ومنطوقه الذي هو وجوب الغسل من الإنزال باق، وهذا هو المراد بقوله رحمه الله سبحانه وتعالى: وهي عن الأصل لها تجرد في النسخ.
الثالثة: امتناع نسخ المنطوق دون المخالفة، وهي المراد بقوله رحمه الله سبحانه وتعالى: وانعكاسه مستبعد، وقد ذكر الصفي الهندي رحمه الله سبحانه وتعالى في ذلك احتمالين، واستظهر منهما المنع، وحكى سليم الرازي رحمه الله سبحانه وتعالى عن بعض أصحابهم الجواز، قال: والمذهب أنه لا يجوز ذلك، نقله في الإرشاد.
ووجه المنع، أن المخالفة تابعة للمنطوق، لأن سبب اعتبارها، هو اعتبار المنطوق قيدا، فمتى ارتفعت قيديته بارتفاع اعتبار الدلالة عليها، كيف يثبت مفهوم القيد؟ قاله الشربيني رحمه الله سبحانه وتعالى قال: فإن قلت يثبت لا من حيث إنه مفهوم القيد، قلت: حينئذ يثبت بلا حكمة، لانتفاء الحكمة التي كانت معتبرة شرعا، وهي ثقل المؤنة في المعلوفة مثلا، وانتفاء الحكمة ملزوم لانتفاء الحكم، لاستحالة بقائه بلا حكمة، وهذا بخلاف مفهوم الأولى، فإنه لا يلزم من انتفاء حكمة حرمة التأفيف مثلا، وهي غاية التعظيم، انتفاء حكمة حرمة الضرب مثلا، وهي أصل التعظيم اهـ
ويجب الرفع لحكم الفرع
…
إن حكم أصله يرى ذا رفع
معناه أن نسخ الحكم المقيس عليه، يقتضي نسخ حكم المقيس، لتبعيته له، وذهب بعض الحنفية إلى أنه لا يستلزمه، وذلك بناء على مذهبهم من أن حكم الأصل لا يضاف إلى العلة، وإنما يضاف إليها حكم الفرع، ولا تلازم بين العلة وحكم الأصل، فلا يكون نسخ حكم الأصل نسخا للعلة، فيبقى الفرع، وعلى مذهبهم في أن القياس مظهر لحكم الفرع، لا مثبت له.
قال في النشر: مثاله على ما حكاه أبو الوليد الباجي رحمه الله سبحانه وتعالى عنهم،
(1)
رواه مسلم والترمذي والإمام أحمد.
جواز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، بالقياس على شهادتهم على المسلمين في السفر، ثم نسخت شهادتهم على المسلمين، وبقي حكم شهادة بعضهم على بعض.
وينسخ الإنشا ولو مؤبدا
…
والقيد في الفعل أو الحكم بدا
وفي الاخير منع ابن الحاجب
…
كمستمر بعد صوم واجب
معناه أن نسخ الإنشاء، جائز، ولو وصف بكونه مؤبدا، عند الجمهور.
سواء وصف بذلك الفعل، نحو: صوموا أبدا وجوبا، أو الحكم، نحو: الصوم واجب أبدا، إذا قيل إنشاء، ويتبين بورود الناسخ، أن المراد: افعلوا إلى وجوده، أو واجب إلى وجوده، فالمراد بالأبد البعض مجازا، كما يقال: لازم غريمك أبدا، أي إلى أن يعطيك الحق.
قال الشربيني رحمه الله سبحانه وتعالى: فإن قلت: لا قرينة على المجاز، قلت: القرينة إنما تلزم عند تعين المعنى المجازي، لا عند احتماله، كما نص عليه عبد الحكيم في حاشية القاضي، والكلام هنا مسوق على الاحتمال، وإلا فلا مساغ للنسخ فيه، بل تقدم أنه لا بد أن يكون النسخ على خلاف ظاهر الكلام.
ومنع ابن الحاجب رحمه الله سبحانه وتعالى النسخ في الثاني، لظهور منافاة ذلك للنسخ.
قال في النشر: وأجيب من جهة الجمهور بعدم الفارق، لأنه إذا كان المراد بقوله: الصوم واجب مستمر الإنشاء، كان بمعنى صوموا صوما مستمرا، أو صوموا أبدا، وإنما يظهر الفرق بين كون التأبيد قيدا للواجب، أن لو كان المراد به الخبر، وهو محل وفاق.
ونسخ الاخبار بإيجاب خبر
…
بناقض، يجوز، لا نسخ الخبر
معناه أنه يجوز نسخ الأمر بالإخبار بشيء، بالأمر بالإخبار بنقيضه، كأن يؤمر بالإخبار عن زيد بالقيام، ثم يؤمر قبل الإخبار عنه بذلك، بالإخبار عنه بعدم القيام، لجواز تغير حاله، ولا خلاف في نحو هذا مما يمكن فيه تغير، وخالفت المعتزلة في ما لا يتغير، كالإخبار عن العالم بالقدم، لأنه كذب وهو قبيح، بناء على مذهبهم في التحسين والتقبيح.
ورد بعدم تسليم مبناه، وعدم تسليم اطراد قبح الكذب، واطراد خلوه من المصلحة. وأما نسخ وجوب الإخبار، بإيجاب ترك الإخبار، كأن يقال ـ بعد إيجاب الإخبار عن شيء
بأمر ـ: لا تخبروا عنه بشيء، فجائز.
وأما الخبر فلا يجوز نسخ مدلوله، سواء كان عما يتغير أو لا، وفيه أقوال أخرى.
وكل حكم قابل له، وفي
…
نفي الوقوع الاتفاق قد قُفي
قوله: وكل حكم قابل له، يعني به أنه يجوز عقلا نسخ الأحكام الشرعية كلها دفعة، وينقطع التكليف جملة، ومنع أبو حامد الغزالي رحمه الله سبحانه وتعالى ذلك لتوقف العلم به - على تقدير وقوعه - على معرفة النسخ والناسخ، وهي من التكاليف، إذ النسخ لا يكون إلا بدليل شرعي، وهو خطاب يجب فهمه ومعرفته، ولا يتأتى نسخها، لأنها لو نسخت لوجب معرفة النسخ والناسخ لها أيضا، وهكذا.
وأجيب بتسليم ذلك، لكن بحصول معرفة النسخ والناسخ ينتهي التكليف، وهو المراد، ولا خلاف في عدم وقوع ذلك، كما أشار إليه رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: وفي نفي الوقوع الاتفاق قد قفي.
وما شرح به في نثر الورود البيت، هو ظاهر العبارة، لكن مراده ما سبق.
هل يستقل الحكم بالورود
…
أو ببلوغه إلى الموجود
فالعزل بالموت أو العزل عرض
…
كذا قضاء جاهل للمفترض
قوله: هل يستقل الحكم البيت، معناه أنه اختلف هل يثبت الحكم في حق المكلفين بمجرد وروده على النبي ـ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ـ من غير اشتراط علمهم به، بمعنى تقرره في ذممهم، والأمر بقضائه، كحال النائم وقت الصلاة، أو لا يستقر حتى يبلغهم، وعليه الأكثر، لأنه تكليف محال، لا تكليف بالمحال، لأن الخلل فيه من جهة المأمور، لا المأمور به.
ومثال المسألة ما وقع ليلة الإسراء من تخفيف فرض الصلاة ـ فضلا من الله سبحانه وتعالى من خمسين إلى خمس، فهذا لا يسمى على قول الأكثر نسخا في حق الأمة خاصة، وأما على مقابله فيسمى نسخا.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: فالعزل بالموت أو العزل عرض، إلى ما ينبني على الاختلاف في تقرر الحكم بمجرد حصوله، وعدم تقرره إلا ببلوغ المخاطب، من
الاختلاف في انعزال الوكيل بمجرد عزل الموكل له، أو موته، وإن لم يعلم بذلك، وعدم انعزاله، حتى يبلغه ذلك.
وينبني على ذلك: الاختلاف في مضي تصرفه بعد عزله قبل علمه، أو بعد موت الموكل قبل علمه بذلك.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: كذا قضاء جاهل للمفترض، إلى أن مما ينبني على الاختلاف المذكور أيضا: الاختلاف في من أسلم ولم يتمكن من العلم بالفرائض إلا بعد زمن، لكونه في شاهق، أو بدار الحرب، مما يتعذر معه العلم، هل يجب عليه القضاء إذا علم؟
وأما من يمكنه تعلم الشرائع ولم يعلم، فيجب عليه القضاء لتفريطه.
وليس نسخا كل ما أفادا
…
في ما رسا بالنص الازديادا
معناه أن الزيادة المتصلة على مدلول النص، ليست نسخا له، وذلك كزيادة جزء في العبادة، كزيادة ركعة، أو زيادة شرط، كزيادة شرط الإيمان في رقبة الكفارة، هذا مذهب الإمام مالك رحمه الله سبحانه وتعالى وأكثر أصحابه، والشافعية، والحنابلة.
ووجهه أن الزيادة غير منافية، ومن شرط النسخ التنافي.
وذهبت الحنفية إلى أن ذلك نسخ، واحتجوا بأن السلام كان واجبا بعد الركعتين، فبطل ذلك، وصار في موضع آخر، فقد بطل حكم شرعي.
وأجيب بأن الفرض في السلام أن يكون آخر الصلاة، وهو باق على حاله، لا تغير فيه.
وقيل: إن غيرت المزيد عليه، بحيث يكون غير معتبر دونها، فهي نسخ، وإلا فلا، وقيل غير ذلك.
قال في النشر: ومثار الخلاف: الاختلاف في النص المزيد عليه، هل يقتضي ترك الزيادة أو لا؟
فالجمهور يرون أنه ساكت عن الزيادة، وأن تركها مأخوذ من البراءة الأصلية، ورفعها ليس بنسخ، والحنفية يرون أنه مقتض لذلك، والزائد وارد بخلافه، فيكون ناسخا، والمفصل
يرى أنه يقتضي ذلك أحيانا، على حسب المعاني التي نحوا إليها في التفصيل.
قال الزركشي رحمه الله سبحانه وتعالى في البحر: واعلم أن فائدة هذه المسألة أن ما ثبت أنه من باب النسخ، وكان مقطوعا به، فلا ينسخ إلا بقاطع، كالتغريب، فإن أبا حنيفة لما كان عنده نسخا نفاه، لأنه نسخ للقرآن بخبر الواحد، ولما لم يكن عند الجمهور نسخا قبلوه، إذ لا معارضة، نقله في الإرشاد.
وأما الزيادة المنفصلة، فإن لم تكن من جنس المزيد عليه، كزيادة الحج على الصلاة، فليست بنسخ اتفاقا، وإن كانت من جنسه، كزيادة صلاة على الصلوات، فليست بنسخ عند الجمهور، وجعلها بعض العراقيين نسخا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
واختلف كذلك في النقص من العبادة، هل هو نسخ للباقي؟
فالوجوب كان متعلقا بالكل، وبعد النقص صار الواجب البعض فقط، فقد نسخ وجوب الكل، أو المنسوخ إنما هو الساقط خاصة، إذ البعض الباقي لم يحصل تجدد لوجوبه، بل هو واجب بالوجوب الأول، وإنما طرأ بالنص إسقاط البعض، فالبعض الساقط هو الذي تغير حكمه.
وهذا الخلاف ناظر أيضا إلى ما سبق، ولا فرق في ما ذكر بين كون الساقط جزءا، كركعة من الصلاة، أو شرطا، كالوضوء، وإلى هذا أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله:
والنقص للجزء، أو الشرط انتقي
…
نسخه للساقط لا للذْ بقي
وقيل: نقص الجزء نسخ، بخلاف نقص الشرط.
وقيل: نقص الشرط المتصل، كالاستقبال، نسخ، بخلاف المنفصل، كالوضوء.
وقول الشيخ رحمه الله سبحانه وتعالى: وليس نسخا كل ما أفادا، هو على حد قوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(لا يحب كل مختال فخور) فالمراد: عموم السلب، لا سلب العموم.
الاجماع والنص على النسخ ولو
…
تضمنا كلا معرفا رأوا
أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بهذا إلى ما يستدل به على النسخ، فذكر أن النسخ يعلم بتأخر أحد النصين ورودا، مع عدم إمكان الجمع بينهما، والتأخر يعرف بإجماع أهل
العلم عليه، كإجماعهم في آيتي عدة الوفات، وكذلك أيضا إذا أجمعوا على أن النص كذا، ناسخ للنص كذا، أو أن النص كذا منسوخ، كما تقدم بيانه.
ويعرف أيضا بالنص صريحا أو لا، كقوله سبحانه وتعالى جل من قائل:(الآن خفف الله عنكم) وقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (فالآن باشروهن) الآية وقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (علم أن لن تحصوه فتاب عليكم) وقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجويكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون)
وكقوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: " نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكرا "
(1)
ويعرف أيضا بنصه على خلاف ما نص عليه في الشيء قبل ذلك، مع تعذر الجمع بينهما.
كذاك يعرف لدى المحرر
…
بالمنع للجمع مع التأخر
كقول راو: سابق، والمحكي
…
بما يضاهي المدني والمكي
وقوله: الناسخ ........... ........................
معناه أن النسخ يعرف أيضا بتعذر الجمع بين النصين، مع معرفة المتأخر منهما، فالمتأخر ناسخ، وذلك كقول جابر ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنه ـ: كان آخر الأمرين من فعله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ترك الوضوء مما مست النار.
ويعرف التأخر بقولهم في أحدهما: إنه مدني، وفي الآخر إنه مكي، فالمدني ناسخ، وما في معنى ذلك، كقوله: كان هذا في غزوة كذا، وهذا في غزوة كذا، حيث كان تقدم إحداهما معلوما، أو هذا عام كذا، وهذا عام كذا.
ويعرف كذلك بقوله: هذا هو الناسخ، أو هذا ناسخ، إذا قال ذلك في ما علم نسخه،
(1)
رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد.
وجهل ناسخه كما قالوا.
وانظره فإن هذا وإن دل على التأخر، إلا أنه ليس في ثبوت النسخ، بل في ثبوت الناسخية لنص جهل اتصافه بها، فهو بيان للناسخ، لا للنسخ، إذ لو قال ذلك في ما لا يعلم نسخه، لم يكن لقوله أثر، على المعول، وإنما يدل على النسخ على مقابله الذي لم يشترط في دلالته عليه العلم بنسخ الآخر.
والفرق بين قوله: هذا سابق، وقوله: هذا ناسخ، أن دعوى السبق لا تكون ـ عادة ـ عن اجتهاد، بخلاف دعوى النسخ، فقد تقع عن اجتهاد.
والتأثير دع
…
بوفق واحد للاصل تتبع
وكون راويه الصحابي يقتفي
…
ومثله تأخر في المصحف
أشار رحمه الله سبحانه وتعالى بأول البيتين، إلى أن موافقة أحد النصين المتعارضين للبراءة الأصلية، لا تدل على أنه الناسخ، خلافا لمن قال بذلك، لأن الأصل مخالفة الشرع لها.
وأجيب بأنه غير لازم، فقد يكون المنسوخ جاء على وفق البراءة الأصلية، وسيأتي - إن شاء الله سبحانه وتعالى في المرجحات أن منهم من استدل بموافقة البراءة على التقدم.
وأشار رحمه الله سبحانه وتعالى بقوله: وكون راويه الصحابي يقتفي، إلى أنه إذا تعارض حديثان تعارضا لا يتأتى الجمع معه، وكان إسلام راوي أحدهما متأخرا عن إسلام الآخر، فذلك لا يستلزم كون مرويه هو الناسخ، لجواز كون رواية المتقدم الإسلام متأخرة، خلافا لمن استدل بذلك.
وذلك كحديث أبي هريرة
(1)
مع حديث طلق
(2)
- رضي الله سبحانه وتعالى عنهما - في الوضوء من مس الذكر، فطلق ـ رضي الله سبحانه وتعالى عنه ـ أقدم إسلاما.
(1)
يعني حديث " إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما ستر ولا حائل فليتوضأ " أخرجه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك، وصححه.
(2)
يعني حديث " هل هو إلا مضغة منك، أو بضعة منك؟ " روه أبو داوود والترمذي وابن ماجة والإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
وهذا ما لم يتوف الأسبق إسلاما، قبل إسلام الثاني، إذ الأغلب في التحمل كونه بعد الإسلام.
قوله رحمه الله سبحانه وتعالى: ومثله تأخر في المصحف، معنى أن تأخر إحدى الآيتين المتعارضين في ترتيب المصحف، لا يستلزم كونها متأخرة في النزول، فتكون ناسخة، إذ قد تتقدم المتأخرة في النزول ترتيبا، كما في آيتي عدة الوفاة، فترتيب الآيات على حسب الترتيب في النزول، ليس بمطرد، وأولى ترتيب السور، فإن السور الأوائل في النزول، من آخر السور في المصحف الشريف، وهذا آخر النصف الأول من هذا الكتاب الميمون، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، اللهم صل، وسلم، وبارك، على سيدنا، وشفيعنا، وحبيبنا، وقرة أعيننا: محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله، وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.