المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تقديم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام - فتح الجليل في التعليق على كتاب الإكليل

[عبد الرحمن بن علي الحطاب]

فهرس الكتاب

‌تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيِّه الأمين، نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فهذه تعليقات على كتاب الإكليل في استنباط التنزيل لجلال الدين السيوطي رحمه الله سميتها (فتح الجليل في التعليق على كتاب الإكليل) أصلها دروس ألقيت في بيت من بيوت الله عام 1439، جمعتها لما رأيت تمزق وتساقط بعض أوراق مادة الدرس، فأحببت أن أدرك الموجود وأعوض المفقود، وبذلت جهداً لإخراجها مهذبة منقحة.

واقتصرت هنا على التعليق على المقدمة وسورة البقرة، أما المقدمة فقد ذكر فيها السيوطي الأساليب الشرعية الدالة على الأحكام، وجعلها كمفتاح للدخول وشرط للاستنباط، وهي كذلك فإن من لم يدركها فقد فاته الكثير من أوجه الاستنباط للأحكام، وأما الاقتصار على سورة البقرة فلأنها فسطاط القرآن، والحاوية لأصول الأحكام أولاً، وثانياً: لأنني علقت على جُل الأحكام الفقهية الواردة في كتاب الإكليل في شرحي على كتابي (بلوغ المرام من آيات الأحكام) المسمى ب (فتح العلام في بيان مآخذ الأحكام).

وقد ركزت في هذه التعليقة على المآخذ الأصولية في استنباط تلك الأحكام، إذا هي الجانب الأقوى في النظر والاستنباط، والأضعف في الطرح العلمي في نظري.

ص: 5

وأنبه هنا إلى أن كتاب الإكليل قد حقق بتحقيقات متعددة، واعتمدت منها على تحقيق الدكتور عامر بن علي العرابي في ضبط نص كلام السيوطي، إذ هي الطبعة التي علقت عليها، واستفدت من تحقيق الشيخ مصطفى العدوى في التعليق على الأحاديث والحكم عليها، أما الآثار فتركت تخريجها والحكم عليها لكثرتها، ولخروجها عن غرض الكتاب وهدفه، وهو بيان مآخذ تلك الأحكام، ومن أراد الحكم على هذه الآثار فليرجع إلى العملين السابقين ففيهما الغنية، والله الموفق.

ص: 6

‌التمهيد

استفتح السيوطي رحمه الله كتابه الإكليل بمقدمتين، الأولى لم ينص على كونها مقدِّمة، بخلاف الأخرى، وكأنه أرادها تمهيداً للكتاب، وقد نقل السيوطي المقدمتين، أو التمهيد والمقدِّمة بنصها في كتابه الإتقان في علوم القرآن، تحت النوع الخامس والستون، بعنوان: في العلوم المستنبطة من القرآن

(1)

.

وأما التمهيد فكان متعلقاً ببيان العلوم المستنبطة من القرآن، ولم أشأ الخوض والبسط فيه لقلة الثمرة المتعلقة به.

وخلاصته: أن السيوطي كأنه يميل إلى أن القرآن الكريم مشتمل على كل شيء في شتى أنواع العلوم وساق لذلك أدلة من الكتاب والسنة والآثار.

فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].

ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «ستكون فتن. قيل: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم»

(2)

.

ومن الآثار قول ابن مسعود: (من أراد العلم فعليه بالقرآن؛ فإن فيه خبر الأولين والآخرين)

(3)

.

(1)

ينظر: الإتقان في علوم القرآن (5/ 1906).

(2)

أخرجه الترمذي (2908) وقال عنه: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال ".

(3)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1/ 7) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 168) رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح ".

ص: 7

ثم نقل كلام أبي الفضل المرسي (ت 655 هـ) باختصار، ومما قاله المرسي بعد ذكره ما أُخذ من القرآن من العلوم الإسلامية، قال:«هذه الفنون التي أخذتها الملة الإسلامية منه، وقد احتوى على علوم أُخر من علوم الأوائل، مثل الطب، والجدل، والهيئة، والهندسة، والجبر، والمقابلة، والنجامة، وغير ذلك»

(1)

، ثم ذكر بعد ذلك ما في القرآن من أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها كالخياطة، والحدادة، والبناء، والنجارة، والغزل، والنسج، والفلاحة، وغيرها ".

ويظهر مما ذكره من الأمثلة أن مقصوده بالاحتواء مجرد الذكر، فإذا ذكر شيء له تعلق بعلم اعتبر ذلك احتواءً لذلك العلم

(2)

.

والسيوطي بعد ذكره لكلام المرسي لم يعترض عليه، بل قال معقباً على كلامه:«وأنا أقول قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء. أما أنواع العلوم فليس منها باب، ولا مسألة هي أصل إلا وفي القرآن ما يدلّ عليها»

(3)

ثمَّ ذكر أمثلة.

وهذا النص قد يشعر بموافقة السيوطي له، إلا أن جميع ما ذكره من الأمثلة هو من العلوم الشرعية، أو مما تأتي الأديان بمثله

(4)

.

قال ابن عاشور: «لا شك أن المراد أنه عموم عرفي في دائرة ما لمثله تجيء الأديان والشرائع»

(5)

.

ثم ذكر أن المراد بشمولية القرآن شموليته لما يحتاجه الناس في أمور دينهم، وما يقيم شؤون حياتهم، كما أراد الله تعالى، وذلك كبيان إصلاح النفوس، وإكمال

(1)

الإكليل (1/ 247).

(2)

ينظر: حاشية (6) من منهج الاستنباط من القرآن للوهبي (68).

(3)

الإكليل (1/ 253).

(4)

ينظر: منهج الاستنباط من القرآن للوهبي (79).

(5)

التحرير والتنوير (7/ 253).

ص: 8

الأخلاق، وتقويم المجتمع، وتبيين الحقوق، وما تتوقف عليه الدعوة من الاستدلال على الوحدانية، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يأتي من خلال ذلك من الحقائق العلمية، والدقائق الكونية، ووصف أحوال الأمم، وأسباب فلاحها وخسارها، والموعظة بآثارها، بشواهد التاريخ، وما يتخلل ذلك من قوانينهم، وحضاراتهم، وصنائعهم، وفي خلال ذلك كلّه أسرار ونكت، من أصول العلوم المعارف

(1)

. والله أعلم.

والحقيقة أن موقف الإمام السيوطي ليس ظاهراً في أنه متابع لأبي الفضل المرسي، وإجمالاً فالعلماء مختلفون في دلالة قوله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، هل هما من العام الباقي على عمومه، أو من العام المراد به الخاص، وبالثاني قال به جمهور أهل العلم، وعليه فالمراد: أن القرآن بيان لكل شيء من أمور الدين، أو لما لمثله تجيء الشرائع

(2)

.

(1)

ينظر: المصدر السابق (7/ 253)، ومنهج الاستنباط من القرآن للوهبي (71).

(2)

ينظر: منهج الاستنباط من القرآن للوهبي (68).

ص: 9

‌مقدمة

(1)

قال الغزالي وغيره: آيات الأحكام

(2)

خمسمائة آية

(3)

، وقال بعضهم مائة وخمسون

(4)

، وقيل لعل مرادهم المصرح به؛ فإن آيات القصص والأمثال وغيرها

(1)

جاء في شرح مختصر الروضة للطوفي (1/ 113): المقدّمة: «مأخوذة من مقدّمة الجيش - بكسر الدّال- وهي أوّله، لم يحك الجوهري فيها غير الكسر، لكنه ذكر قادمتي الرّحل مقدمة - بفتح الدّال- وهي أوّله مما يلي وجه الرّاكب، وهي مقابلة آخر الرّحل.

وهذه المادة ترجع تراكيبها إلى معنى الأولية، فمقدمة الكتاب - أيضًا- أوّله، ويجوز فيها كسر الدّال على صيغة الفاعل، وفتحها على صيغة المفعول، وهي في الأصل صفة، ثم استعملوها اسمًا في كل ما وجد فيه التقديم نحو مقدمة الجيش والكتاب».

وكان جلُّ مقدمة السيوطي متعلقة بالأساليب الخبرية للأحكام الشرعية التكليفية الخمس: الواجب والمندوب والحرام والمكروه والمباح.

(2)

ذكر السيوطي في الإكليل (1/ 282) المراد بآيات الأحكام: «كل ما استنبط من القرآن، أو استدل به عليه من مسائل فقهيّة، أو أصلية، أو اعتقادية» ، والمراد بالأصلية: أصول الفقه.

(3)

قد صرّح بذلك الغزالي في كتابه المستصفى، وكذا الرّازي، وابن قدامة، والإسنوي، وعبد العزيز البخاري، وغيرهم.

وذكر الزركشي أن سبب حصرهم آيات الأحكام بخمسمئة أية هي متابعتهم لمقاتل بن سليمان، حيث إنّه أوّل من أفرد آيات الأحكام في تصنيف وجعلها خمسمئة أية

ينظر: المستصفى (2/ 383) المحصول (6/ 23)، روضة الناظر (3/ 960)، نهاية السول (2/ 1036) كشف الأسرار (4/ 15)، البحر المحيط (6/ 199)

(4)

لم ينسبها لأحد المصنف هنا، ولا في كتابه الإتقان، وكذا الزركشي في البرهان

ينظر: الإتقان (5/ 1928)، البرهان (3/ 402).

ص: 10

يستنبط منها

(1)

كثير من الأحكام

(2)

.

(1)

من أمثلة استنباط الأحكام من القصص ما ذكره السيوطي في هذا الكتاب من استحباب القيام للعالم ونحوه من قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34].

وهذا الحكم مستنبط من دلالة سياق الآيات، حيث إنّ النّظر في الآيات السابقة من موضع الشاهد تبين أن العلم هو الأمر الذّي فضِّل به آدم عليه السلام على الملائكة.

قال سبحانه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 31 - 32]

قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (1/ 334): «هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة، بما اختصه من علم أسماء كل شيء دونهم، وهذا كان بعد سجودهم له» .

وينبه هنا إلى أن القصة القرآنية تشمل أخبار الأنبياء وغير الأنبياء، والأخبار المستقبلية التي سيقت في سياق القصص، أمّا قصص الأنبياء وما ورد من شرائعهم فالأحكام المستنبطة منها كثيرة عند من يقول بأن شرع من قبلنا شرع لنا. وأما غيرها فقد يكون المأخذ إقرار الله سبحانه وتعالى وعدم إنكاره، مما يعلم من خلال سياق القصة على مشروعيته.

قال ابن القيم في زاد المعاد (3/ 135 - 136): «ما حكاه الله سبحانه في قصة يوسف من استدلال الشاهد بقرينة قدِّ القميص من دبر على صدقه، وكذب المرأة، وأنه كان هاربًا موليًا، فأدركته المرأة من ورائه فجبذته فقدَّت قميصه من دبر، فعلم بعلها والحاضرون صدقه وقبلوا هذا الحكم وجعلوا الذنب ذنبها، وأمروها بالتوبة وحكاه الله سبحانه وتعالى حكاية مقرر له غير منكر، والتأسي بذلك وأمثاله في إقرار الله له، وعدم إنكاره، لا في مجرد حكايته فإنه إذا أخبر به مقرًا عليه، ومثنيًا على فاعله ومادحًا له، دلَّ على رضاه به، وأنه موافق لحكمه ومرضاته، فليتدبر هذا الموضع، فإنه نافع جدًا» .

(2)

هناك أقوال أخر في الحصر لم يذكر أصحابها دليلًا على الحصر؛ لذا كان القول بعدم الحصر هو الأظهر.

قال الطوفي في شرح مختصر الروضة (3/ 415): «والصّحيح أن هذا التقدير غير معتبر، وأن مقدار أدلة الأحكام في ذلك غير منحصر، فإن أحكام الشرع كما تستنبط من الأوامر والنواهي؛ كذلك تستنبط من الأقاصيص والمواعظ ونحوها، فقلَّ آية من القرآن الكريم إلّا ويستنبط منها شيء من الأحكام وإذا أردت تحقيق هذا، فانظر إلى كتاب أدلة الأحكام للشيخ عز الدين بن عبد السلام، وكأن هؤلاء الذين حصروها في خمسمئة آية إنما نظروا إلى ما قصد منه بيان الحكم دون ما استفيدت منه، ولم يقصد به بيانها» .

وقال القرافي في شرح التنقيح (476): «فلا تكاد تجد آية إلّا وفيها حكم، وحصرها في خمسمئة آية بعيد» .

ص: 11

قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في كتاب الإمام: إنما ضرب الله الأمثال

(1)

في كتابه تذكيراً ووعظاً

(2)

فما اشتمل منها على تفاوت في ثواب أو على إحباط عمل أو على مدح أو ذم أو نحوه فإنه يدل على الأحكام، ثم قال: ومعظم أي القرآن لا تخلو عن أحكام مشتملة على آداب حسنة وأخلاق جميلة

(3)

.

(1)

أمثال القرآن قسمان -كما يقول السيوطي في الإتقان- ظاهر مصرح بلفظ المثل كقوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] وكامن لا ذكر للمثل فيه.

ومن أمثلة الأمثال المستنبط منها أحكام شرعية، وهي من القسم الأول، قوله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75]

قال السيوطي في هذا الكتاب الإكليل (2/ 905): «استدل به الشافعي على أن العبد لا يملك. واستدل به من قال: إنّه لا يملك الطّلاق أيضا، وأن طلاقه بيد سيده، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: [ليس للعبد طلاق إلا بإذن سيده وقرأ هذه الآية]»

ووجه الاستنباط: أن كلمة (شيء) نكرة في سياق النفي، فتعمّ كل شيء: المال والطلاق.

ومن أمثلة استنباط الحكم من الأمثال الكامنة، قوله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]

ذكره السيوطي في الإتقان (5/ 1936). من أمثال العرب وقولهم: [خير الأمور أوساطها]

وقال في الإكليل (3/ 1057): «فيه ذم الإسراف والإقتار في النفقة ومدح التوسط» .

(2)

نقل المصنف عن العزّ بعض مقاصد القرآن من ضرب الأمثال، وهي الوعظ والتّذكير. وذكر في الإتقان (5/ 1933 - 1934) مقاصد أخرى.

والوعظ والعظة والموعظة هو: النصح والتذكير بالعواقب، ونقل ابن منظور عن ابن سيدة قوله:«هو تذكيرك للإنسان بما يلين قبله من ثواب وعقاب» كما في لسان العرب (7/ 466).

وقال الراغب الأصفهاني في معجم ألفاظ القرآن (564): «الوعظ: زجر مقترن بتخويف. قال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب» .

فالوعظ في الأصل هو التّذكير بالعواقب سواء بالتّرغيب أو التّرهيب.

والتّرغيب بالفعل من خاصية الواجب والمندوب، والترهيب من خاصية المحرم في جانب الفعل، أو الواجب في جانب الترك، فدلالة التذكير والوعظ على الأحكام ظاهرة.

(3)

ختم العزّ كتابه العظيم (الإمام في بيان أدلة الأحكام) بهذه العبارات بعد أن فصَّل في الأساليب الشّرعيّة الدّالة على الأحكام، وقال بعدها (284):«جعلها الله نصائح لخلقة مقربات إليه مزلفات لديه، رحمة لعباده، فطوبى لمن تأدب بآداب القرآن،، وتخلق بأخلاقه الجامعة لخير الدنيا والآخرة» .

ص: 12

ثم من الآيات ما صُرِّح فيه بالأحكام

(1)

، ومنها: ما يؤخذ بطريق الاستنباط

(2)

إما بلا ضمٍّ إلى آية أخرى كاستنباط تحريم الاستمناء من قوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} إلى قوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7]

(3)

، وصحة أنكحة الكفار، من قوله:{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4]

(4)

، وصحة صوم الجنب من قوله:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلى قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} [البقرة: 187] الآية

(5)

.

(1)

وهذا هو أكثر ما في القرآن، وسيأتي تفصيل ذلك عند قول المصنف: «قال الشيخ عزّ الدّين: ويستدل على الأحكام تارة بالصيغة وهو ظاهر

إلى آخر المقدمة.

(2)

أي يكون فيه شيء من الخفاء، والاستنباط هو: استخراج ما خفي المراد به من اللفظ، كما يقول العلماء.

أو: استخراج الأمر الذّي من شأنه أن يخفى على غير المستنبط.

تهذيب الأسماء واللغات للنووي (4/ 158)، إعلام الموقعين لابن القيم (1/ 172) منهج الاستنباط من القرآن للوهبي (35)

(3)

قال السيوطي في هذا الكتاب الإكليل (3/ 1000): «واستدل به مالك والشافعي أيضًا على تحريم الاستمناء باليد» . ووجه الاستنباط: أنّه لما حصر الله تعالى إباحة الاستمتاع في الزوجة وملك اليمين، دلّ ذلك على حرمة الاستمناء باليد؛ لخروجه عن هذين القسمين، وذلك بناء على مفهوم الحصر بالاستثناء. ينظر: منهج الاستنباط من القرآن للوهبي (125).

(4)

قال السيوطي في الإكليل (3/ 1353): «قوله: {وَامْرَأَتُهُ} استدل به الشافعي على صحة أنكحة الكفار» .

ووجه الاستنباط: أن الله سبحانه وتعالى أضاف النساء إليهم، وحقيقة الإضافة تقتضي زوجية صحيحة، والأصل في الإطلاق الحقيقة. ينظر: حاشية (5) منهج الاستنباط من القرآن للوهبي (126).

(5)

قال السيوطي في الإكليل (1/ 359): «واستدل به على صحة صوم الجنب؛ لأنّه يلزم من إباحة الجماع إلى تبين الفجر إباحته في آخر جزء من أجزاء الليل، ويلزم من ذلك بطريق الإشارة طلوع الفجر وهو جنب» .

وذكر السيوطي في كلامه السّابق بناء المسألة على أصلين ومأخذين:

الأول: دلالة الغاية في قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} أي: جواز المباشرة إلى التبين، ومفهوم هذه الدلالة عدم وجوب الاغتسال عليه قبل الفجر؛ لأنّه إذا كانت المباشرة مأذونًا فيها إلى الفجر لم يمكنه الاغتسال إلّا بعد الفجر.

الثاني: دلالة الإشارة؛ فإنّه يلزم من تأخير الجماع إلى تبين الفجر، أنّه لا يغتسل إلّا بعد طلوع الفجر.

وقول السيوطي: «ويلزم من ذلك بطريق الإشارة» بيان لوجه هذه الدلالة كونها تدل على المعنى من جهة اللزوم العقلي.

ودلالة الإشارة هي: دلالة اللفظ على معنى ليس مقصودًا باللفظ في الأصل، ولكنه لازم للمقصود، فكأنه مقصود بالتّبع لا بالأصل. ينظر: مذكرة أصول الفقه للشنقيطي (236).

ص: 13

وإما به

(1)

كاستنباط أن أقل الحمل ستة أشهر من قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مع قوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]

(2)

.

قال الشيخ عز الدين: ويستدل على الأحكام تارة بالصيغة وهو ظاهر

(3)

،

(1)

أي: بضم أية أخرى، وتسمى عند بعض العلماء ب دلالة التركيب، وهي داخلة في دلالة الإشارة.

ينظر: منهج الاستنباط من القرآن للوهبي (132، 351).

(2)

قال السيوطي في الإكليل (3/ 1181): «قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} استدل به علي بن أبي طالب على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر مع قوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}» ، ثم ذكر قصة هذا الاستنباط.

ووجه الاستنباط: أن الله تعالى بيَّن في أية البقرة مدة الرضاع حولين كاملين، وهي أربعة وعشرين شهرًا، وبيَّن في أية الأحقاف مدّة الحمل والفصال ثلاثين شهرًا؛ فإذا أخذ منها مدّة الفصال بقي للحمل ستة أشهر. ينظر: منهج الاستنباط من القرآن للوهبي (134).

(3)

ظهور ذلك يمكن تقريبه فيما يلي:

أولًا: الأحكام الشّرعيّة التّكليفية هي: الوجوب والندب والإباحة، والتحريم والكراهة.

ثانيا: هذه الأحكام مطلوبة من الشارع، إمّا طلب فعل أو طلب ترك، وقد يستوي فيها الفعل أو الترك، والأخير هو المباح، على خلاف في دخوله في مسمى الحكم التكليفي.

أمّا طلب الفعل فهو: إمّا أن يكون طلبًا جازمًا وهو الواجب، أو طلبًا غير جازم وهو النّدب.

وطلب الترك: إمّا أن يكون طلب ترك جازم وهو المحرم، أو غير جازم وهو المكروه.

وطلب الفعل هو الأمر به، وصيغته صيغة الأمر، وهي:(افعل) للحاضر، والفعل المضارع المجزوم بلام الأمر (لتفعل) للغائب، واسم الفعل، والمصدر، وهذه الصيغ عند الإطلاق تحمل على الوجوب، وقد تصرف من الوجوب إلى النّدب أو الإباحة بصارف من الصوارف، والصوارف متعددة.

وطلب الترك هو النهي، وهو عند الإطلاق يحمل على التحريم، وقد يصرف من التحريم إلى الكراهة، وصيغته: الفعل المضارع المجزوم بلا الناهيّة (لا تفعل).

وعليه: فقد يستدل على الوجوب والندب والإباحة بإحدى صيغ الأمر الأربعة، وقد يستدل على التّحريم والكراهة بصيغة النهي (لا تفعل) وهذا ما أشار إليه المصنف نقلًا عن العزّ بقوله:«ويستدل على الأحكام تارة بالصيغة» وانظر: الإمام في بيان أدلة الأحكام (79).

ص: 14

وتارة بالإخبار مثل {أُحِلَّ لَكُمْ} [المائدة: 96]، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]

(1)

، وتارة بما رتب عليها في العاجل أو الآجل من خير أو شر أو نفع أو ضر

(2)

.

(1)

أي: وتارة يستدل على الأحكام بأسلوب الإخبار عن الحكم، كالحل والحرمة، والكتب، أي: الفرض.

(2)

وهذا أيضًا يدخل في الأسلوب الخبري، إلّا أنّه مختص بذكر خاصة من خواص الحكم، كذكره خاصة الواجب، وهو الوعيد على الترك، وذلك بالتّرهيب، أو بذكر ما يترتب عليه في العاجل أو الأجل من شر حال التّرك، أو خير حال الفعل، ويشترك المندوب معه في الخير حال الفعل.

ويمكن تقسيم الأساليب الخبرية الدّالة على الحكم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أسلوب الإخبار عن حكم الشارع: وفيه يخبر المولى سبحانه وتعالى عن الحكم إما بلفظ صريح، أو ظاهر، والأحكام التكليفية خمسة، ولكل حكم ألفاظ أخبر بها الشارع، وبيان ذلك:

أولاً: الإخبار عن حكم الشارع المقتضي للوجوب.

1.

إثبات الحكم بلفظ الفرض وما تصرف منه: ومن أمثلته:

قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب: 50]، أي: ما فرضنا عليهم التزامه من الأحكام المتعلقة بالزوجات، والإماء، مثل عدم الزيادة على أربع نسوة، وعدم الزواج إلا بِوَلِيّ وشهود، أو أن تكون المرأة الموطوءة بملك اليمين مسلمة أو كتابية، وأن تستبرأ قبل الوطء، فهذه جملة من الأحكام التي فرضها الله على المؤمنين، فيجب التزامها.

وقوله تعالى بعد أن بين مصارف الزكاة والصدقات: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]، والتقدير:«فرض الله هذه الأشياء فريضة» .

2.

إثبات الحكم بلفظ الكتب وما تصرف منه، فقد ورد بلفظ «كتب" ومن أمثلته قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، وقوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]، وورد بلفظ «كتاب" ومن أمثلته: قوله تعالى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] أي: الزموا ما كتب الله عليكم، أي: فرضه. ومثله قوله تعالى: {كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] أي: واجبًاً مفروضاً مؤقتًا وقّته الله عليهم.

3.

إثبات الحكم بلفظ الأمر وما يتصرف منه، ومن أمثلته:{أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: 40] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، وقوله:{يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60].

4.

إثبات الحكم بلفظ «قضى» ومن أمثلته: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].

5.

إثبات الحكم بلفظ «وصى» وما تصرف منه، ومن ذلك قوله تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8]، وقوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]، وقوله في آية المواريث:{وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12].

6.

الدلالة على الحكم بلفظ (على) ملفوظًا، أو مقدّرًا، ومن ذلك قوله تعالى في آية الصيام:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] وقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] وجاء بصيغة الجمع كقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25].

أما المقدَّر فيه لفظ (على) فهو كثير في كتاب الله، أكتفي بمثال واحد، وهو ما ورد في آية الظهار.

يقول القرطبي: «قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} هذا ابتداء، والخبر: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وحذف «عليهم» لدلالة الكلام عليه، أي: فعليهم تحرير رقبة».

7.

وصف الشارع للفعل بأنه (حق)، ومن ذلك قوله تعالى:{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة: 149]، وقوله تعالى:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241].

8.

إثبات الحكم بلفظ العزيمة وما تصرف منه: ومن ذلك قوله تعالى: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] أي: من الأمور الواجبة المعزومة؛ أي المقطوعة، كما يقول الرازي.

ثانياً: الإخبار عن حكم الشارع المقتضي للندب.

1.

إثبات الحكم بلفظ التطوع، قال تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة: 184]. قيل: الإطعام مع الصيام. وقيل: إطعام مسكين آخر.

2.

إثبات الحكم بلفظ النافلة، قال تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]

ثالثاً: الإخبار عن حكم الشارع المقتضي للتحريم.

إثبات الحكم بلفظ التحريم وما يتصرف منه: ومن ذلك قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]

1.

إثبات الحكم بلفظ النهي، وما يتصرف منه: ومن ذلك قوله تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90]

2.

إثبات الحكم بلفظ (نفي الحل): ومن ذلك قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19]

3.

إثبات الحكم بلفظ الكراهة، وهو مشترك بين التحريم والكراهة: ومن ذلك قوله تعالى:

{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38].

رابعاً: الإخبار عن حكم الشارع المقتضي للإباحة.

1.

إثبات الحكم بلفظ الحل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]

2.

إثبات الحكم بلفظ (نفي الحرمة): ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]

3.

إثبات الحكم بلفظ نفي الحرج والجناح: ومن ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230].

4.

إثبات الحكم بلفظ نفي الإثم: ومن ذلك قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203].

5.

إثبات الحكم بلفظ نفي السبيل {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41]{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91].

وهناك أساليب مشتركة بين الوجوب والندب، وبين التحريم والكراهة، وقد جمعت هذه الأساليب في رسائل علمية، من أجمعها كتاب أساليب الحكم الشرعي للدكتور علي المطرودي.

القسم الثاني: من أقسام الأساليب الخبرية الدالة على الحكم هو: ذكر خاصية من خواص الواجب، إما بالوعيد على الترك، أو بترتب العقاب على الترك، أو الذم والتوبيخ، ولها صوَر عديدة، كما أن ترتب الثواب أو المدح على طلب الفعل والأمر به، وله صور متعدّدة.

وهو كما قال السيوطي نقلاً عن عزِّ الدِّين كما سيأتي: «وقد نوّع الشّارع ذلك أنواعًا كثيرة ترغيبًا لعباده، وترهيبا وتقريبًا إلى أفهامهم،

». هـ.

القسم الثالث: أسلوب الخبر المراد به الأمر، فيما عدا الأسلوبين السابقين، وهو الأسلوب الذي ينبه عليه المفسرون بأنه طلب أو أمر خرج مخرج الخبر، وهو محط أمثلة الأصوليين غالبًا، وهذا الأسلوب يعرف كونه مستعملًا في معنى الأمر من سياق الكلام، وما يستوجه من الإلزام. والمقصود بالإلزام هنا: ما يشير إليه العلماء غالبًا في إثبات كون الصيغة للطلب مثل قولهم: لو لم يكن للطلب للزم الخلف لما هو مشاهد في الواقع، فيقولون -مثلا- عند قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وجدت مطلقات لا يتربصن ثلاثة قروء، ولو كان خبراً محضاً لما تخلف الخبر عن مخبره، لأن أخبار الله تعالى لا تنفك من وجود مخبراتها، فلما وجد الانفكاك علمنا بأنه خرج من الخبرية إلى الإنشائية معنًى دون اللفظ.

يقول الزركشي عن الآية نفسها في كتابه البرهان في علوم القرن (2/ 320): «إن السياق يدل على أن الله تعالى أمر بذلك لا أنه خبرٌ، وإلا لزم الخلف في الخبر» .

أو يقولوا في قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، إن الرفث والفسوق والجدال موجود، ولو كان خبراً لما تخلف الخبر عن مخبره، فدلَّ أن المقصود بالخبر هنا النهي، أي: لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا.

وهذه الأساليب مستفادة من تقسيمات الأصوليين.

يقول المرداوي في التحبير (2/ 180): «فائدة: أدلة الأحكام لا تتقيد استفادتها من صريح الأمر والنهي، بل تكون بنص، أو إجماع، أو قياس. والنص إما أن يكون أمرًا، أو نهيًا، أو إذنًا، أو خبرًا بمعناها، أو إخبارًا بالحكم، نحو: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) أخرجه البخاري برقم (6270)، {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]، أو بذكر خاصية لأحدهما، كوعيد عن فعل شيء، أو تركه، أو وعد على فعل شيء أو تركه، ونحو ذلك» ا. هـ

ص: 15

وقد نوع الشارع ذلك أنواعاً كثيرة

(1)

ترغيباً للعباد، وترهيباً وتقريباً

(1)

أي نوع في الأدلة: أدلة الأمر،، وأدلة النهي، وأدلة الإباحة.

وسيبدأ في أدلة الأمر، وهي الدالة على مشروعية الفعل، وهي التي يشترك فيها الفعل بين الوجوب والندب. أي تدلُّ على كونه واجباً أو مندوباً ..

ص: 18

إلى أفهامهم: فكل فعل

(1)

عظمه الشرع

(2)

أو مدحه

(3)

أو مدح فاعله

(4)

، أو أحبه

(5)

(1)

المقصود بالأفعال هنا: الأفعال الكسبية، وهي: الأفعال الصادرة عن اختيار المكلف، والمفضية إلى اجتلاب نفع أو دفع ضر.

أما الأفعال الجبلية، وهي الاضطرارية التي لا اختيار ولا كسب فيه للمكلَّف، فلا يتعلق بها تكليف. كالحركة والسكون.

قال العز ابن عبد السلام في كتابه الإمام (77): «ثمَّ لا يتعلَّق طلب ولا تخيير إلا بفعل كسبي، ولا يمدح شيئاً من أفعال، ولا يذمه، ولا يمدح فاعله ولا يذمه، ولا يوبخ عليه ولا ينكره، ولا يعد عليه الثواب، ولا عقاب إلا أن يكون كسبياً، فإن علَّق شيء من ذلك بفعل جبلي كان متعلقاً بآثاره، كقوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} [النور: 2]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة» ".

(2)

كقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وإصعاد الشيء ورفعه دلالة على تعظيمه، ودلالة على مشروعية الفعل: الكلم الطيب، والعمل الصالح، وهذه المشروعية كما سيذكر المؤلف دائرة بين الوجوب والندب. ومن الأمثلة على التعظيم قوله تعالى:{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6]، وفيه دلالة على مشروعية قيام الليل.

(3)

أي: كل فعل مدحه الشارع فيدل مدحه على مشروعيته الدائرة بين الوجوب والندب، كقوله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، وفيها مدح للصلاة بكونها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فدلَّ على مشروعية الصلاة، وكقوله تعالى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41]، وفيها مدح للجهاد بأنه خيرٌ، فدلَّ على مشروعيته.

(4)

كقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، مدح المولى سبحانه وتعالى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بأنهم من المفلحين، فذلَّ على مشروعية فعلهم، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكقوله في مدح الصابرين:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44]، فدلَّ على مشروعية الصبر.

(5)

أي: أحب الفعل، كقوله صلى الله عليه وسلم:«إِنْ الله يحب أَنْ تُؤْتى رخصه كَمَا يجب أَنْ تُؤْتى عَزَائِمه» أخرجه أحمد (2/ 108) وصححه الألباني كما في الإرواء (3/ 10)، وفيه الندب إلى قصر الصلاة في السفر، وهو مذهب الجمهور، وَقَوله صلى الله عليه وسلم:(إِنَّك عَفْو تحب الْعَفو)، أَي: يحب أَنْ يعْفُو بَعْضنَا عَنْ بعض. والحديث أخرجه الترمذي (3513)، وابن ماجة (3850) وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة (7/ 1008).

ص: 19

أو أحب فاعله

(1)

، أو رضي به

(2)

أو رضي عن فاعله

(3)

، أو وصفه بالاستقامة

(4)

أو البركة

(5)

أو الطيب

(6)

، أو أقسم

(1)

أي: فاعل الفعل، كقوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] أحب الذين يتطهرون عن إتيان النساء حال الحيض، كقوله تعالى:{يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4]{يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، وفيها التصريح بمحبة الفاعل للدلالة على حب الفعل وطلبه.

(2)

أي رضي المولى عز وجل عَنْ الْفعل، كقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقوله:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7].

(3)

أي: رضَا الله عز وجل عَنْ الْفَاعِل، كقوله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، وقوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 20 - 21].

(4)

أي: وصف الْفِعْل بالاستقامة، ومثَّل العز رحمه الله لهذا النوع من الأدلة في كتابه الإمام (92) بقوله تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 5]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30][والشاهد في الأحقاف: 13] أي: قالوا ربنا الله - وهذا الإيمان والإسلام - ثمَّ استقاموا عليها، وهذا حث على التمسك بالدِّين.

(5)

أي: وصف الْفِعْل بِالْبركَةِ، كقوله تعالى:{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] فالسلام تحية وفعل مطلوب من الشارع، وكقوله عليه السلام في التشهد:(التَّحِيَّات المباركات الطَّيِّبَات لله) وفيه كما عند البخاري (6230): (فإنه إذا قال ذلك أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض).

(6)

أي: وصف الْفِعْل بالطيب، كقوله تعالى:{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24]، وإذا رجعنا إلى تفسير السلف للوقوف على القول الذي هدوا إليه، نجدهم يختلفون فيه اختلاف تنوع: فقيل: إنه لا إله إلا الله والحمد لله. وقيل: القرآن. وقيل: الحمد لله.

وعليه فالآية تدلُّ على مشروعية القول المنقول عنهم؛ لأنه وصف بالطّيب. ومن أمثلة هذا النوع كذلك: قوله عليه السلام: (من عاد مريضاً أو زار أخاً له نادى مناد من السماء أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً)، أخرجه الترمذي (2008) وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع (2/ 1091)، ودلَّ الحديث على مشروعية زيارة وعيادة المريض.

ص: 20

به

(1)

أو بفاعله

(2)

، كالأقسام بالشفع، والوتر، وبخيل المجاهدين، وبالنفس اللوامة، أو نصبه سبباً لذكره عبده

(3)

، أو لمحبته

(4)

، أو للثواب عاجلاً

(5)

(1)

قال المصنف: «أو أقسم به أو بفاعله كالأقسام بالشفع والوتر وبخيل المجاهدين، وبالنفس اللوامة» ، أي: أقسم بِالْفِعْلِ، أو أقسم بالفاعل. كقوله تعالى:{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 1 - 3]، والمراد بالفجر على أحد التفاسير: صلاة الفجر. والشفع والوتر: الوتر المغرب، وباقي الصلوات شفع. والصلاة من فعل المصلي؛ إذ لا توجد صلاة بلا مصل، فإقسامه بها إقساماً بفعلها.

قال العز (96): «إِنْ حمل على الصَّلَوَات فَإِنَّهُ يرجع إِلَى تَعْظِيم الْفِعْل فَإِنَّهُم لَا يقسمون إِلَّا بِمَا يحترمون ويعظمون» .

(2)

كقوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2] أقسم بِنَفس الْمُؤمن لِكَثْرَة لومها إِيَّاه فِي ذَات الله تَعَالَى، فدلَّ على مشروعية لوم النفس على تقصيرها في حق الله سبحانه. وكذا الإقسام بخيل الْمُجَاهدين كما فِي قَوْله {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات: 1] تَنْبِيه على تَعْظِيم الْمُجَاهدين وتوقيرهم بطرِيق الأولى، كما قال العز في كتابه الإمام (95).

(3)

أي: نصب الْفِعْل سَببا لذكر الله تَعَالَى، كما في قوله تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} وهذا حث على ذكر الله، لكي يحضى العبد بذكر المولى سبحانه وتعالى له. وفي الحديث:(من ذَكرنِي فِي نَفسه ذكرته فِي نَفسِي وَمن ذَكرنِي فِي مَلأ ذكرته فِي مَلأ خير مِنْهُم وَأكْثر). فالذكر فعل مطلوب؛ لأن الشارع نصبه سبباً لذكر الله تعالى، والحديث أخرجه أحمد في المسند (9254) وصححه الألباني في تحقيقه لكتاب الإيمان (77).

(4)

أي: نصب الْفِعْل سَببا لمحبة الله تَعَالَى، كقوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وفيه مشروعية اتباع النبي صلى الله عليه وسلم. وكقوله عليه السلام:(وَما يزَال عَبدِي يتَقرَّب إِلَيّ بالنوافل حَتَّى أحبه)، يدلُّ على مشروعية التقرب بالنوافل. والحديث أخرجه البخاري (6502).

(5)

أي: نصب الله عز وجل الفعل سَببا للثواب عَاجلاً، ومثَّل له العز رحمه الله في كتابه الإمام (96) بقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]، فدلَّ على مشروعية الإيمان بالله عز وجل وكذا قوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3].

ص: 21

أو آجلاً

(1)

، أو لشكره له

(2)

، أو لهدايته إياه

(3)

، أو لإرضاء فاعله

(4)

، أو لمغفرة ذنبه وتكفير سيئآته

(5)

، أو لقبوله

(6)

، أو لنصرة

(1)

أي: نصب الْفِعْل سَببا لثواب آجل وَهُوَ أَكثر وعود الْقُرْآن، ومن ذلك قوله تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] يدلُّ على مشروعية الأعمال الصالحة الخيرة، وكقوله تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245].

(2)

أي: نصب الْفِعْل سَببا لشكر الله عز وجل، أي: لشكر الله عز وجل لعبده، قال تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]. قال ابن جرير في تفسيره (3/ 247): إن الصواب عندنا في ذلك أن معنى ذلك: ومن تطوع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته الواجبة عليه؛ فإن الله شاكر له تطوعه أ. هـ. وعليه: فإن تكرار الحج والعمرة مطلوب شرعاً؛ لأن الله نصبه سبباً لشكره. ومن أمثلته كذلك قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147].

(3)

أي: نصب الْفِعْل سَببا للهداية، كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، أي: من جاهد بالطاعة هداه سبيل الجنة، وكقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9].

(4)

أي: رضَا الْفَاعِل عَنْ ربه، قال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] اتباع السلف الصالح بإحسان سبب لنيل العبد رضا ربه. ومن ذلك قوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130].

(5)

أي: نصب الْفِعْل سَببا لمغفرة الخطيئات وتكفير السَّيِّئَات. قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]، وقال تعالى:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271].

(6)

أي: نصب الْفِعْل سَببا لقبُول الْعَمَل، كقوله تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 15]- فجعل الإحسان للوالدين سبباً لقبول العمل.

ص: 22

فاعله

(1)

، أو بشارته

(2)

، أو وصف فاعله بالطيب

(3)

، أو وصف الفعل بكونه معروفاً

(4)

، أو نفي الحزن أو الخوف عن فاعله

(5)

، أو وعده بالأمن

(6)

،

(1)

أي: نصب الْفِعْل سَببا لمعونة الْفَاعِل ونصرته، قال تعالى {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].

(2)

أي: نصب الْفِعْل سَببا للبشارة، قال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 154 - 155]{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223]{وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37]{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25][التوبة: 19 - 21].

(3)

أي: وصف الْفَاعِل بالطيب. قال تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100]{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37]، الطَّيب يطلق في القرآن على الإيمان أو المؤمن، وعلى الطاعة، والأعمال الطيبة، والمال الحلال، وعلى السعادة، وعلى أهل الجنة. فدلَّت الآية على مشروعية الإيمان، والعمل الطيب الصالح، والكسب الحلال، وفي المقابل الخبيث على الكفر أو الكافر، والمعصية، والأعمال السيئة، والمال الحرام، والشقاوة، وعلى أهل النار.

(4)

أي: وصف الْفِعْل بِكَوْنِهِ مَعْرُوفا. والمعروف: ما يعرفه الشرع ويأمر به، ويمدحه، ويثني على أهله، ويدخل في ذلك جميع الطاعات، وفي مقدمتها التوحيد والإيمان بالله، قال تعالى:{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263]، والمعروف هنا قيل: الكلام الحسن والرد الجميل على السائل، وقوله:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] والعرف هنا بمعنى المعروف، ضد المنكر، فدخل فيه جميع الطاعات. ومن ذلك قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

(5)

أي: نفي الْحزن وَالْخَوْف عَنْ الْفَاعِل. قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]، وقوله تعالى:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 262].

(6)

أي: تأمين الفاعل من عذاب الآخرة بسبب الفعل، كما قال تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 45 - 46]، وقوله تعالى:{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)} [سبأ: 37]،

وفِي حديث سخبرة الأسدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أُعطي فشكر، وابتُلي فصبر، وظَلَم فاستغفر، ثم سكت فقالوا: يا رسول الله ماله؟. قال: أولئك لهم الأمن وهم مهتدون» فذلَّ على مشروعية الشكر والصبر والاستغفار. والحديث أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (6613).

ص: 23

أو نصبه سبباً لولايته

(1)

، أو أخبر عن دعاء الرسول بحصوله

(2)

، أو وصفه بكون قربه

(3)

، أو بصفة مدح كالحياة والنور

(1)

أي: نصب الْفِعْل سَببا لولاية الله تَعَالَى، كقوله تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] وقوله {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196].

(2)

الألف واللام في الرسول للجنس، فيعم؛ لذا قال العز بن عبد السلام في كتابه الإمام (102 - 103):«دُعَاء الْأَنْبِيَاء بِالْفِعْلِ» ، ومثاله قوله تعالى:{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40]، وقوله تعالى:{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19].

ويشترط في ذلك ألا يكون من خصائص الأنبياء كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 34 - 35].

(3)

أي: وصف الْفِعْل بِكَوْنِهِ قربَة، كقوله تعالى:{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 99]، قال القرطبي في جامعه (8/ 235):{قُرُبَاتٍ} جمع قربة، وهي: ما يتقرب به إلى الله تعالى {أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} أي: تقربهم من رحمة الله، يعني نفقاتهم».

ومنها التحريض على قيام الليل، بقوله عليه السلام:(عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين فيكم، وهو قربة لكم إلى ربكم) أخرجه الترمذي (3549) وصححه الألباني في الإرواء (2/ 199 - 200)، وصحيح الجامع (2/ 752). وعند العز زيادة في الإمام (93) وهي:«وصف الْفَاعِل بالتقريب» . ومثَّل له، بقوله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10 - 11]، على مشروعية المسابقة في الطاعات.

ومن التقريب ذكر لفظ العندية، ومن ذلك: قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55]، فدلَّت الآية على مشروعية التقوى، وقوله تعالى:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 262] أو بيان القرب، كقوله عليه الصلاة والسلام:(أَنا جليس من ذَكرنِي) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (670).

ص: 24

والشفاء

(1)

، فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب

(2)

.

وكل فعل طلب الشارع تركه

(3)

، أو ذمه

(4)

،

(1)

أي: وصف الفعل بصفة مدح. وهذا لم يذكره العز بن عبد السلام، استغناء بما ذكره في أول أنواع الأدلة، عند قوله:: «فكل فعل عظمه الشرع أو مدحه أو مدح فاعله، .... الخ» . ومن أمثلة هذا الأسلوب قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122] مدح المولى سبحانه الإيمان والمؤمنين وشبههم بالأحياء والنور، وقيل: بأن المراد بالذي كان ميتاً فأحياه الله: عمر بن الخطاب. وقيل عمار بن ياسر. أما الذي مثله بالظلمات - أي ظلمات الكفر - فهو أبو جهل بن هشام. على قول كثير من المفسرين.

(2)

تنبيه: 1 - وَقد يتَعَلَّق بعض هَذِه الْأَدِلَّة باجتناب الْحَرَام كَقَوْلِه {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] فَإِنَّهُ مدحهم باجتناب الْمحرم كَمَا مدحهم بِفعل الْوَاجِب وَلذَلِك مدحهم بقوله {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37].

وكل هَذِه الْأَدِلَّة عَائِدَة إِلَى الْمَدْح والوعد وَلَكِن لما اخْتلفت أَنْوَاع الوعود والمدائح عددت هَذِه الْأَنْوَاع لينْتَفع بهَا المتدرب فِي مضانها

2 -

مما لم يذكره السيوطي في الإكليل من الأنواع التي ذكرها العز بن عبد السلام (89، 101):

الأول: الْفَرح بِالْفِعْلِ كقوله عليه السلام: (لله أفرح بتوبة أحدكُم من أحدكُم بضالته إِذا وجدهَا) أخرجه البخاري (5933). الثاني: نصب الْفِعْل سَببا لإِصْلَاح الْعَمَل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] جعل الله الْعَمَل سَببا للتثبيت.

(3)

يكون بصيغة النهي: كتحريم الزنا، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] وتحريم أكل الأموال بالباطل {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، وبصيغة الأمر: كتحريم جماع الحائض {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، وتحريم شرب الخمر {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].

(4)

مثاله: قوله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63]، وقوله تعالى:{وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء: 74].

ص: 25

أو ذم فاعله

(1)

، أو عتب عليه

(2)

، أو مقت فاعله

(3)

، أو لعنه

(4)

، أو نفي محبته

(5)

(1)

أي: ذمّ الفاعل، ومثاله: قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}

[الأنفال: 55] وقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] وقوله تعالى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء: 74].

(2)

أي: العتب على الْفَاعِل، ومثال ذلك قوله تعالى:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة: 43]، ونقل السيوطي في الإكليل (2/ 810 - 811) عن أبي حاتم عن عون قوله: سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ بدأ بالعفو قبل المعاتبة.

ومن العتب على الْفَاعِل قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37].

(3)

ومثال ذلك من الأدلة، قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 10].

وذكر العز في كتابه الإمام (108) - أيضاً -: مقت الْفِعْل ومثَّل له بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء: 22] وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3].

(4)

أي: لعن الفاعل بسبب الفعل. وقال العز في قواعد الأحكام (1/ 24): «وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بأن قال: كل ذنب قُرن بوعيد، أو حد، أو لعن فهو من الكبائر» .

ومن الأمثلة لهذا النوع من الأدلة: تحريم الكذب، بقوله تعالى:{فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]، وتحريم الوصل والوشم بقوله صلى الله عليه وسلم:«لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة» .

وذكر العز رحمه الله (115) كذلك وصف الفعل بأنه سبب اللعن، ومن ذلك تحريم القتل متعمداً، بقوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].

(5)

أي: نفي محبَّة الْفِعْل أو الفاعل. ومثَّل العز رحمه الله لنفي محبة الفعل (108) بقوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] وقوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148].

ص: 26

أو محبة فاعله

(1)

، أو الرضا به

(2)

أو عن فاعله

(3)

، أو شبه فاعله بالبهائم

(4)

أو بالشياطين

(5)

، أو جعله مانعاً من الهدى

(6)

أو القبول

(7)

،

(1)

ومثَّل العز رحمه الله لنفي محبَّة الْفَاعِل من الأدلة (108)، بقوله تعالى:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64] وقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، وقوله تعالى:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23].

(2)

أي: نفي الرِّضَا بِالْفِعْلِ، ومثَّل العز رحمه الله لنفي عدم الرضا بالفعل (108) بقوله تعالى:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7].

(3)

ومثَّل العز رحمه الله لنفي الرِّضَا عَنْ الْفَاعِل من الأدلة (109)، بقوله تعالى:{فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 96].

(4)

ومثَّل العز رحمه الله لهذا النوع من الأدلة - وهو تشبيه الفاعل بالبهائم - (109) بقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]

الكلب إن كان رابضاً لهث، وإن طُرد لهث، وكذا من أتاه الله العلم والحكمة، أو الذي يقرأ القرآن ولايعمل به، كالكافر والمنافق، أي لا ينفعه العلم والقرآن سواء وعظ بها، أو لم يوعظ، والكلب يلهث سواء طردته أو تركته رابضاً.

(5)

كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27]، وزاد العز كذلك التشبه بالكفرة (109) ومن أمثلتها، قوله تعالى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140] وفيه تحريم الجلوس في مجلس يستهزأ فيه بآيات الله.

(6)

ومثال كون الفعل سبباً لحرمان الهدي، قوله تعالى:{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264]، أي: لما يرشدهم إِلَيْهِ ويقربهم مِنْهُ، فجعل الكفر سبباً في حرمان الهدى. ومن الأمثلة قوله تعالى:{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] أَي عَنْ فهم آياتي أَوْ تدبر آياتي.

(7)

أي: نصب الْفِعْل سَببا لحرمان القَبول، ومثاله من الأدلة، قوله تعالى:{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54]، وفي الحديث:(من أتى عرَّافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) رواه مسلم (2230).

ص: 27

أو وصفه بسوء أو كراهة

(1)

، أو استعاذ الأنبياء منه

(2)

، أو أبغضوه

(3)

، أو جعله سبباً لنفي الفلاح

(4)

، أو لعذاب آجل

(5)

(1)

مثَّل العز رحمه الله لهذا النوع من الأدلة (110)، بقوله تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 29 - 38]، وَفِي الحَدِيث:(وَيكرهُ لكم ثَلَاثًا قيل وَقَالَ، وَكَثْرَة السُّؤَال، وإضاعة المَال) أخرجه البخاري (1477)، ومسلم (1715).

(2)

أي: استعاذة الْأَنْبِيَاء من الْفِعْل، ومثاله من الأدلة، قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67]، وَفِي الحَدِيث:(وَأَعُوذ بك أَنْ أزل أَوْ أضلّ أَوْ أظلم أَوْ أظلم أَوْ أَجْهَل أَوْ يجهل عَليّ). قال العز (110 - 111): «استعاذوا من المخالفات كَمَا استعاذوا من البليات» . وكونه يظلم أو يجهل فهذا من المخالفات. وكون الظلم والجهل يقع عليه، فهذا من البليات. وأمروا بالاستعادة من البليات؛ لأنه قد لا يصبر، فالمؤمن يحتاج لصبر على البليات والطاعات، ويحتاج لصبر عن المعاصي والمخالفات.

(3)

مثال إبغاض الْأَنْبِيَاء للْفِعْل وكراهتهم لَهُ من الأدلة، قوله تعالى:{قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: 168]{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف: 88].

(4)

مثال نصب الْفِعْل سَببا لنفي الْفَلاح من الأدلة، قوله تعالى:{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21] وقوله تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69]، وَفِي الحَدِيث لن يفلح قوم ولوا أَمرهم امْرَأَة.

(5)

ومثال نصب الْفِعْل سَببا لعذاب آجل - وَهُوَ أَكثر وَعِيد الْقُرْآن، كما قال العز (112) - من الأدلة، قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، وفي الحديث:(الذي يشرب في آنية الفضة) أو (إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب إِنَّمَا يجرجر فِي بَطْنه نَار جَهَنَّم). رواهما مسلم (2065).

ص: 28

أو عاجل

(1)

، أو لذم أو لوم

(2)

، أو ضلالة

(3)

أو معصية

(4)

، أو وصف بخبث

(5)

أو رجس

(6)

أو نجس، أو بكونه فسقاً

(7)

أو إثماً

(8)

، أو سبباً لإثم أو رجس، أو لعن

(1)

ومثال نصب الْفِعْل سَببا لعذاب عَاجل من الأدلة، قوله تعالى: في قوم عاد {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 25] وقوله تعالى: {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 26] وقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].

(2)

ومثَّل العز رحمه الله لهذا النوع من الأدلة (113)، بقوله تعالى:{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22] وقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29].

(3)

مثال الوقوع في المعصية بسبب الفعل من الأدلة، حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه رأى رجلاً خرج بعد الأذان فقال:(أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم أخرجه مسلم (655)، وحديث عمار:(من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم)، (من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله) أخرجه أبو داود (4938)، وابن ماجة (3762)، وحسنه الألباني في الإرواء (2670).

(4)

مثال الوقوع في الضلالة بسبب الفعل من الأدلة، قوله تعالى:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116]، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].

(5)

مثال وصف الفعل بكونه رجساً من الأدلة: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. والرجس هو النجس.

(6)

مثال وصف الفعل بكونه خبثاً من الأدلة: قوله تعالى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء: 74]، وأضاف العز (114): وصف الْفَاعِل بِأَنَّهُ رِجْس أَوْ نجس، ومثَّل لهذا النوع من الأدلة، بقوله تعالى:{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ} [التوبة: 95] وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28].

(7)

مثال وصف الفعل بكونه فسقا من الأدلة: قوله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282] وقوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7].

(8)

مثال وصف الفعل بكونه إِثْمًا أَوْ سَبَباً لإِثْم من الأدلة: قوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219].

ص: 29

أو غضب

(1)

، أو زوال نعمة

(2)

، أو حلول نقمة

(3)

، أو حد من الحدود

(4)

، أو قسوة

(5)

، أو خزي

(6)

، أو ارتهان نفس

(7)

، أو لعداوة الله ومحاربته

(8)

، أو لاستهزائه

(9)

،

(1)

مثال وصف الْفِعْل بِأَنَّهُ سَبَب رِجْس أَوْ لعن أَوْ غضب من الأدلة، قوله تعالى:{قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [الأعراف: 71] وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].

(2)

مثال نصب الْفِعْل سَببا لزوَال نعْمَة من الأدلة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

(3)

مثال نصب الْفِعْل سَببا لحلول نقمة فمثاله من الأدلة قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم: 17 - 20].

(4)

مثال نصب الْفِعْل في كونه سَببا لحد من الأدلة، قوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].

(5)

ومثال نصب الْفِعْل سَببا لقسوة: من الأدلة، قوله تعالى:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13] وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22].

(6)

ومثال نصب الْفِعْل سَببا لخزي: من الأدلة، قوله تعالى:{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 25 - 26].

(7)

مثال نصب الْفِعْل سَببا لارتهان النُّفُوس: من الأدلة، قوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] وقوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].

(8)

مثال نصب الْفِعْل سَببا لعداوة الله ومحاربته: من الأدلة، قوله تعالى:{فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98] وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278 - 279].

(9)

مثال نَصب الفعل سَببا لاستهزاء الله بفاعله من الأدلة، قوله تعالى:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 14 - 15].

ص: 30

أو سخريته

(1)

، أو جعله الله سبباً لنسيانه فاعله

(2)

، أو وصف نفسه بالصبر عليه

(3)

أو بالحلم أو بالصفح عنه

(4)

، أو دعا إلى التوبة منه

(5)

، أو وصف فاعله بخبث

(6)

أو احتقار

(7)

، أو نسبه إلى عمل

(1)

مثال نَصب الفعل سَببا لسخرية الله من الأدلة، قوله تعالى:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79].

(2)

مثال نَصب الفعل سَببا لنسيان الله له: من الأدلة، قوله تعالى:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67].

(3)

قال العز (119): «لَا حلم وَلَا صفح وَلَا مغْفرَة وَلَا عَفْو وَلَا صَبر إِلَّا على مذنب أَوْ عَنْ مذنب» ، ومثَّل العز رحمه الله لهذا النوع من الأدلة، بقوله صلى الله عليه وسلم:«لَا أحد أَصْبِر على أَذَى يسمعهُ من الله عز وجل» أخرجه مسلم (2804).

(4)

ومثال الأمر بالعفو والصفح - وإن كان هنا من المأمور -: قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13].

(5)

قال العز (119 - 120): «وَلَا تَوْبَة فِي الْأَغْلَب إِلَّا عَنْ ذَنْب والذنب هُوَ الْمُخَالفَة لاقْتِضَاء الْأَمر أَوْ النَّهْي وَلَا يكون الصَّبْر إِلَّا على مَكْرُوه أَوْ عَنْ مَحْبُوب .. وَقد تطلق التَّوْبَة باعتبارات أخر وَلَكِن غلب عرف الشَّرْع على بعض مسميات التَّوْبَة» . وقال ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 305): «فحقيقة التوبة: الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يجب، وترك ما يكره، ولهذا علَّق سبحانه الفلاح المطلق على التوبة، حيث قال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]» . ومثال الدعوة للتوبة: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118].

(6)

مثال لوصف الفاعل بالخبث، قوله تعالى:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: 26].

(7)

مثال لاحتقار الفاعل من الأدلة، قوله تعالى:{أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 67]، وقوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105].

وزاد العز (122): وحجبه، ومثَّل له بقوله تعالى:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 10 - 15].

ص: 31

الشيطان

(1)

أو تزيينه

(2)

أو تولي الشيطان لفاعله

(3)

، أو وصف بصفة ذم ككونه ظلماً

(4)

أو بغياً

(5)

، أو عدوناً

(6)

، أو إثماً

(7)

، أو مرضاً

(8)

، أو تبرأ الأنبياء منه، أو من فاعله

(9)

، أو شكوا إلى الله من

(1)

مثال نِسْبَة الْفِعْل أَوْ الْفَاعِل إِلَى الشَّيْطَان من الأدلة: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]

وقوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص: 15].

(2)

مثال تزيين الشيطان للْفِعْل. قوله تعالى: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 24].

(3)

مثال تولي الشيطان للْفَاعِل. قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257].

(4)

مثال وصف الفعل بأنه ظلم من الأدلة، قوله تعالى:{يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

(5)

مثال وصف الفعل بأنه بغيٌ، قوله تعالى:{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة: 213] وقوله تعالى: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم: 20].

(6)

مثال وصف الفعل بأنه عدوانٌ، قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 29 - 30].

(7)

مثال وصف الفعل بأنه إثمٌ، قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219]، وقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].

(8)

مثال وصف الفعل بأنه مرض، قوله تعالى:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124 - 125].

(9)

مثال لتَبرأ الْأَنْبِيَاء صلى الله عليه وسلم من الْفَاعِل وَإِظْهَار عدواته من الأدلة، قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: 26].

ص: 32

فعله

(1)

، أو جاهروا فاعله بالعداوة

(2)

، أو نهوا عن الآسى والحزن عليه

(3)

، أو نصب سبباً لخيبه فاعله عاجلاً أو آجلاً

(4)

، أو رتب عليه حرمان الجنة وما فيها

(5)

، أو نصب فاعله بأنه عدو الله أو بأن الله عدوه

(6)

، أو أعلم بحرب من الله ورسوله

(7)

،

(1)

مثال لشكوى الْأَنْبِيَاء من الْفَاعِل من الأدلة، قوله تعالى:{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} [الشعراء: 116 - 117] وقوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30].

(2)

قال العز في الإمام (121 - 122) عداوة الله للفاعل، مثَّل له بقوله تعالى:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98] وسبق أن مثل بالآية كذلك على نصب الفعل لعداوة الله، وهنا للفاعل، ومثَّل كذلك بقوله تعالى:{لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1].

(3)

مثال لنهي الْأَنْبِيَاء عَنْ الأسى والحزن على الْفَاعِل من الأدلة، بقوله تعالى:{فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26] وقوله تعالى: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 68] وقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النمل: 69 - 70].

(4)

أي: نصب الْفِعْل سَببا لخيبة عاجلة أو آجلة، ومثَّل العز رحمه الله لهذا النوع من الأدلة (122)، بقوله تعالى:{قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه: 61] وقوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111] وقوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10].

(5)

ومثالها من الأدلة، قوله تعالى:{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50] وقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: 72].

(6)

ومثَّل العز رحمه الله لهذا النوع من الأدلة (121 - 122)، بقوله تعالى:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98] وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1].

(7)

ومثالها من الأدلة، قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278 - 279].

ص: 33

أو حمل فاعله إثم غيره

(1)

، أو قيل فيه لا ينبغي هذا، أو لا يكون

(2)

، أو أمر بالتقوى عن السؤال عنه

(3)

، أو أمر بفعل مضاده

(4)

، أو بهجر فاعله

(5)

، أو تلاعن فاعلوه في الآخرة

(6)

، أو تبرأ بعضهم من بعض

(7)

، أو دعا

(1)

ومثالها من الأدلة، قوله تعالى:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25] وقوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13].

(2)

ومثالها من الأدلة، قوله تعالى:{قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: 18] وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].

(3)

ومثالها من الأدلة: ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه أن أباه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاماً -أي وهبته عبداً - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكلَّ ولدك نحلته مثله؟» ، فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فأرجعه» رواه البخاري (2586)، وفي رواية -وهي الشاهد -: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» البخاري (2587).

ويمكن التمثيل على أن التذكير بالتقوى بسبب الفعل تدل على عدم مشروعية ذلك الفعل، بقوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 194] حيث إن الشارع حرم الزيادة على عدوان الغير.

(4)

ومثالها من الأدلة، قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104].

(5)

ومثالها من الأدلة، قوله تعالى:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68].

(6)

مثال تلاعن فاعلوه في الآخرة، قوله تعالى:{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25].

(7)

مثال تبرأ بعضهم من بعض في الآخرة، قوله تعالى:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166].

ص: 34

بعضهم على بعض

(1)

، أو وصف فاعله بالضلالة

(2)

، أو أنه ليس من الله في شيء

(3)

، أو ليس من الرسول وأصحابه

(4)

، أو جعل اجتنابه سبباً للفلاح

(5)

، أو جعله سبباً لإيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين، أو قيل هل أنت منته

(6)

، أو نهى الانبياء عن الدعاء لفاعله

(7)

، أو رتب عليه إبعاداً أو طرداً أو لعنة

(8)

، قتل من فعله

(9)

، أو قاتله

(1)

مثال دعا بعضهم على بعض في الآخرة، قوله تعالى:{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 67 - 68].

(2)

مثال وصف فاعله بالضلالة من الأدلة، قوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].

(3)

مثال وصف الفاعل بأنه ليس من الله في شيء من الأدلة، قوله تعالى:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28].

(4)

كقوله عليه السلام: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) أخرجه البخاري (1294)، ومسلم (165).

(5)

ومثالها من الأدلة، قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130].

(6)

مثالها من الأدلة، قوله تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91].

(7)

ومثَّل العز رحمه الله لهذا النوع من الأدلة (123)، بقوله تعالى:{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37] وقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84].

(8)

مثال ما رتب عليه الإبعاد أو الطرد، من الأدلة قوله تعالى:{أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} [هود: 68].

(9)

مثال ما رتب عليه قتل فاعله، من الأدلة قوله تعالى:{فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]{فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12] وقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9].

ص: 35

الله

(1)

، أو أخبر أن فاعله لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكيه، ولا يصلح عمله، ولا يهدي كيده

(2)

أو لا يفلح

(3)

، أو قيض له الشيطان

(4)

، أو جعله سبباً لإزاغة قلب فاعله

(5)

، أو صرفه عن آيات الله

(6)

، أو سؤاله عن علة الفعل

(7)

،

(1)

مثال ما رتب قتال الله لفاعله من الأدلة قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] وقوله تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4].

(2)

مثالها من الأدلة، قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77].

(3)

وسبق ذكر هذا، في نصب الفعل سبب لنفي الفلاح، مثالها من الأدلة، قوله تعالى:{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 17] وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 135] وقوله تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69].

(4)

مثالها من الأدلة، قوله تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36].

(5)

مثال جعلها سبباً لإزاغة قلب فاعله من الأدلة، قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5].

(6)

ومثال جعلها سبباً في صرفه عن آيات الله من الأدلة، قوله تعالى:{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146].

(7)

قال العز (123): «السُّؤَال عَنْ عِلّة الْفِعْل يدل على التوبيخ بعرف الِاسْتِعْمَال فِي غَالب الْأَمر» . ومثَّل العز رحمه الله لهذا النوع من الأدلة، بقوله تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران: 70] وقوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71] وقوله تعالى: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75].

وإذا كان السؤال عن علَّة الفعل يدل على التوبيخ، وهو من أدلة النهي عن الشيء، فكيف بالتوبيخ على الفعل نفسه؟، ولذا ذكر العز التوبيخ على الْفِعْل عَاجلا أم آجلاً، دليلاً من أدلة النهي عن الفعل (118)، ومثَّل له بقوله تعالى:{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 165] وقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} .

ص: 36

فهو دليل المنع، ودلالته على التحريم أظهر من دلالته على مجرد الكراهة

(1)

.

وتستفاد الإباحة من لفظ الإحلال

(2)

ونفي الجناح

(3)

والحرام

(4)

(1)

قال العز (124 - 125): «وأصناف الْوَعيد كَثِيرَة كسواد الْوُجُوه وزرقة الْعُيُون والعبوس والبسور والذل وتنكيس الرؤوس وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ دلَالَة على مَا تَرَكْنَاهُ وكل مَا ذَكرْنَاهُ عَائِد إِلَى الذَّم أَوْ الْوَعيد وَلكنه نوع ترهيبا وتحذيرا وَإِذا تواردت هَذِه الدَّلَائِل على فعل دلّت على تأكده فِي بَابه وَكَذَلِكَ أَدِلَّة الْأَمر» .

ومما ذكره العز ولم يذكره السيوطي: نصب الْفِعْل محبطا للْعَمَل الصَّالح، كقوله تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264].

ونفي ولَايَة الْفَاعِل ونصرته، كقوله تعالى:{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] وقوله تعالى: {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} [هود: 63]

والْغيرَة الشَّرْعِيَّة، كقوله صلى الله عليه وسلم:«لَا أحد أغير من الله من أجل ذَلِك حرم الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن» أخرجه البخاري (4634)، ومسلم (2760).

والتعادي يوم القيامة، لأجل المحبة لغير الله، كقوله تعالى:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].

(2)

مثال ذلك: إباحة الجماع في ليالي الصوم في رمضان، لقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] وكذا إباحة البيع لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، وإباحة صيد البحر {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96].

(3)

أي: تستفاد الإباحة من نفي الجناح عن الفعل، ومثال هذا الأسلوب: إباحة المتاجرة أثناء الحج، أخذاً من قوله:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، وكذا إباحة نكاح الربيبة إذا لم يدخل بأمها، حيث قال سبحانه في سياق بيان المحرمات:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23]، وإباحة فصال المولود قبل الحولين، وإباحة اتخاذ مرضعة للطفل {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233].

(4)

أي: تستفاد الإباحة من نفي الحرج عن الفعل، ومثاله: إباحة ترك الجهاد والقعود عنه لذوي الأعذار: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91]{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 16 - 17].

ورد في بعض النسخ: «والحرام» ، أي: نفي الحرام بدل نفي الحرج، ويمكن التمثيل له بقوله صلى الله عليه وسلم عن الضب:(لا آكله ولا أحرمه) أخرجه البخاري (5217)، ومسلم (1945). وقال عن الجراد:(أكثر جنود الله، لا آكله ولا أحرمه) رواه أبو داود (3813) مرسلاً، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1533). ومن الأساليب الدالة على الإباحة بطريق نفي الحرام: الاستثناء من الحرام، أو يقال: انتفاء تحريم غير المستثنى {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145].

ص: 37

والإثم

(1)

والمؤاخذة

(2)

، ومن الإذن فيه

(3)

والعفو عنه

(4)

ومن الامتنان بما في

(1)

أي نفي الإثم عن الفاعل، ومثال هذا الأسلوب: إباحة أكل الميتة للمضطر، لقوله تعالى:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] وقد يقال بوجوب الأكل، وأنها رخصة واجبة. وكذا إباحة التعجل في يومين لمن أراد قضاء حجه، من قوله:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203].

(2)

ومنه قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225]، بمعنى رفع الحرج والإثم عن الفاعل، ورفع الإثم والحرج لغير القاصد دليل الإباحة.

(3)

أي: بالفعل، فيدل على إباحته، ومثاله: إباحة ترك المبيت بمنى لمن كان له حاجة خارجها، كالسقاة والرعاة؛ لما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه:(أن العباس رضي الله عنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم ليبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له) أخرجه البخاري (1634)، ومسلم (1315)، وإباحة الرقية من الحمة؛ لما ورد من حديث أنس رضي الله عنه قال: (أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل بيت من الأنصار أن يرقوا من الحمة

) أخرجه البخاري (5719). ومنه كذلك إباحة قتال الكفار، من قوله تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]، وكانت أول آية نزلت في القتال، قبل أن يفرض عليهم.

(4)

ويمثل لذلك بما رواه أبو الدرداء مرفوعاً بلفظ: (ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته){وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، أخرجه الدارقطني في سننه (2/ 137)، والحاكم (2/ 375) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وانظر: السلسلة الصحيحة (5/ 325).

ص: 38

الأعيان من المنافع

(1)

. ومن السكوت عن التحريم

(2)

، ومن الإنكار على من حرم الشيء

(3)

، ومن الإخبار بأنه خلق أو جعل لنا

(4)

، والاخبار عن فعل من قبلنا

(1)

منها: إباحة ركوب البحر، والانتفاع بما يخرج من البحر؛ لقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14]، وكذا إباحة شرب لبن الأنعام؛ لقوله تعالى:{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66].

قال العز بن عبد السلام في كتابه الإمام (86): «فائدة: تمنن الرب بما خلق في الأعيان من المنافع، يدل على الإباحة دلالة عرفية؛ إذ لا يصح التمنن بممنوع» .

(2)

قلت: وهو تقرير بعدم التحريم، ويمكن التمثيل له: بإباحة العزل - على خلاف في اشتراط إذن الزوجة - لحديث جابر رضي الله عنه قال: (كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل) أخرجه البخاري (5208)، ومسلم (1440)، وإباحة أكل لحم الضب؛ لقول ابن عباس رضي الله عنه:

(أهدت أم حفيد - خالة ابن عباس - إلى النبي صلى الله عليه وسلم أقطاً، وسمناً، وأضباً، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم من الأقط والسمن، وترك الضب تقذراً. قال ابن عباس: فأكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان حراماً ما أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه البخاري (2575).

(3)

مثاله: الإنكار على تحريم وطء الإنسان أمته، أو شرب العسل - كما ذكرا في سبب نزول قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]-؛ فأنكر وعتب عز وجل على من حرم ذلك، ومن ذلك إباحة لحوم بهيمة الأنعام؛ لإنكاره عز وجل على من حرمها، بقوله:{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 143 - 144]، وكذا إباحة أكل الطيبات، أخذاً من إنكاره عز وجل على من حرمها، بقوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وإباحة الزينة والطيبات {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].

(4)

لأن الأصل في الأشياء الإباحة؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، قال السعدي في تفسيره (1/ 48):«وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة؛ لأنها سيقت في معرض الامتنان .... » ، ومن الأمثلة قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر: 79]{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].

ص: 39

غير ذام لهم عليه

(1)

، فإن اقترن بالإخبار مدح دل على مشروعيته وجواباً أو استحباباً. انتهى

(2)

.

(1)

سبق الحديث عن فعل من قبلنا، عند الحديث من استفادة الأحكام من القصص، وفعل من قبلنا يشمل قصص الأنبياء وقصص غيرهم، وهما سواء عند من يقول بأن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا -وهو مذهب المصنف السيوطي الشافعي - وأما إذا ورد في سياق القصة ما يشعر بالذم فهو قرينة على عدم مشروعية ذلك الفعل، وإذا وردت قرينة بالمدح فهي دليل على مشروعية الفعل الوارد في القصة، وأما إذا ورد الخبر عن فعل من قبلنا غير ذام لهم عليه، ولا مادح لهم عليه، فهي للإباحة.

(2)

هناك صيغ وألفاظ تدل على الإباحة لم يذكرها المصنف، مثل: لفظ الرخصة، ونفي السبيل عن الفاعل.

وهناك أساليب كذلك دالة على الإباحة مذكورة عند الأصوليين لم تذكر: مثل الأمر بعد الحظر، وبعد الاستئذان، وفعله صلى الله عليه وسلم الذي لم يقصد فيه التقرب.

ص: 40

‌سورة البقرة

•‌

‌ قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [3]

قال الرازي: يتضمن الأمر بالصلاة والزكاة

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} الآية [8]

قال الرازي: يدل على أن الايمان ليس هو الإقرار دون الاعتقاد؛ لأن الله قد أخبر عن إقرارهم بالإيمان ونفى عنهم سمته بقوله: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}

(2)

قال هو وغيره: يحتج بهذه الآية وأشباهها على استتابة الزنديق الذي ظهر منه الكفر؛ لأنه تعالى أخبر عنهم بذلك ولم يأمر بقتلهم، ومعلوم أن نزول هذه الآيات بعد فرض القتال

(3)

.

(1)

بيَّن الرازي الجصاص وجه الأمر المتضمن فيها - نقله عنه المحقق ح (1)(1/ 293) فقال -: «ووجه ذلك أنه جعلهما من صفات المتقين، ومن شرائط التقوى، كما جعل الإيمان بالغيب من شرائط التقوى فاقتضى ذلك إيجاب الصلاة» .

قلت: لعل المأخذ اقترانه بالإيمان بالله وهو واجب، فكذا ما اقترن به، كما أن الإخبار بإقامة الصّلاة والزكاة، وردت في سياق مدح الفاعل على الفعل، وهي من الأساليب الشرعيّة الدّالة على مشروعية الفعل. أو يقال: إنه خبر بمعنى الأمر.

(2)

والآية نصّ على هذا الحكم؛ إذ لو كان الإيمان بالله عبارة عن التصديق اللساني فقط، لما صحّ هذا النفي

(3)

ذكر السيوطي محل الخلاف، وهو فيمن أظهر الكفر، وكون الاستنباط، مبني على القول بأنّ نزول هذه الآيات بعد فرض القتال، وعلل المأخذ، وقال:«لأنّه تعالى أخبر عنهم بذلك (أي الكفر) ولم يأمر بقتلهم» .

ص: 41

•‌

‌ قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً

وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [22 - 24]

فيه دلالة على الأمر باستعمال حجج العقول

(1)

، وإبطال التقليد

(2)

.

قال محمود بن حمزة الكرماني: استدل أكثر المفسرين بالآية على شكل الأرض بسيط ليس بكروي

(3)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [23].

استدل به من قال: إنه لا يتعلق الإعجاز بأقل من سورة

(4)

، ورد به على من قال

(1)

حيث استدل سبحانه بكمال قدرته بخلقهم، وخلق الذين من قبلهم، وجعل الأرض فراشًا؛ لأجل التفكر والتّأمل بالمستحق للعبادة، فالاستدلال بفعله سبحانه وتعالى.

(2)

لأنّ من أعمل عقله، فقد عمل بالحجة، وخرج عن التقليد؛ لأنّ التقليد هو: قبول قول الغير من غير حجة، أو من غير معرفة دليله.

(3)

المأخذ لُغوي، ومن استدل بها على عدم كروية الأرض، أخذًا من قوله:{فِرَاشًا} أي: بساطًا ومهادًا، فهي فراش يمشى عليها، وهي المهاد والقرار.

وقد يجاب عن الاستدلال المذكور بما نقله المحقق ح (6)(1/ 295) عن البيضاوي أن كروية شكلها مع عظم حجمها لا يأبى الافتراش عليها.

وينبه: أنّ نسبة هذا القول لأكثر المفسرين فيه تساهل، وقد نقل ابن تيمية في مجموع الفتاوى (25/ 195) عن بعض العلماء الإتفاق على أنها كروية.

وفسَّر بعض العلماء قوله: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} فقال: أي يغشي هذا هذا، ويحمل الليل على النهار، أو يجيء بالنهار ويذهب الليل، ولو كانت مسطحة لخيم الليل، أو طلع النهار جميع أجزائها. وتكوير الشيء إدارته، وضم بعضه إلى بعض ككور العمامة، أي: إن هذا يكر على هذا، وهذا يكر على هذا كروراً متتابعاً، كتتابع أكوار العمامة بعضها على إثر بعض.

(4)

لمفهوم قوله: {بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} أي: أنّ أقل من السورة لا يتعلق به الاعجاز.

ص: 42

من المعتزلة بأنه يتعلق بجميع القرآن

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [24].

استدل به على أن النار مخلوقة الآن

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} الآية [26].

فيه دلالة لمذهب أهل السنة أن الهدى والضلالة من الله

(3)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [29]

استدل به على أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما ورد الشرع بتحريمه

(4)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} الآية [30].

فيه إرشاد عباده إلى المشاورة

(5)

، وأن الحكمة تقتضي إيجاد

ما يغلب خيره وإن كان فيه نوع شر

(6)

، وأنه لا رأي مع وجود

(1)

قلت: منطوق الآية أنّ التحدي يقع بالسورة من مثل القرآن، وهذا المنطوق مقدّم على المفهوم الذي استدل به المعتزلة يتعلق الاعجاز بجميع القرآن، وذلك من قوله:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} .

(2)

لأنّ الفعل الماضي في قوله: {أُعِدَّتْ} يدل حقيقة على وجود الشيء، فأعد بمعنى: مُعدّ، والمعدوم لا يقال له مُعدّ.

(3)

لإخبار المولى سبحانه وتعالى بفعله عن نفسه.

(4)

لأنّ السياق سياق امتنان، وأبلغ وجوه المنة، إطلاق الانتفاع بالممتن به. أو لأنّ اللام لام الاستحقاق، وعليه؛ فلا وجه بأن تخلق لنا ثم نحرم من الانتفاع بها.

(5)

باعتبار أنّ المحاورة كانت من قبيل المشاورة، وكونه مشاورة ضرب من التساهل، والحق أنّه إخبار بما هو كائن، والملائكة قالت ذلك على سبيل الضراعة والدعاء.

(6)

لأن القصص القرآني إنّما نزل لأجل العبرة {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} فالمقصود: الاعتبار بما تضمنته القصة.

فاستخلاف آدم على ذريته في الأرض لعمارتها من الخير الذي شرع، وإن كان منه نوع شر، وهو سفك الدماء والإفساد في الأرض من بني آدم.

ص: 43

النص

(1)

، وهو أصل في المسائل التعبدية

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [31]

استدل به من قال: إن اللغات توقيفية، وضعها الله وعلمها بالوحي

(3)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {قَالَ يَاآدَمُ} [33]

استدل به صلى الله عليه وسلم على أن آدم نبيٌّ مكلم

(4)

.

روى أحمد وغيره عن أبي أمامة: أن أبا ذر قال يا نبي الله أي الأنبياء كان أول؟ قال: (آدم)، قال: أول نبياً كان آدم؟ قال: (نعم نبي مُكَلَّم، خلقه الله بيده و نفخ فيه من روحه ثم قال له: يا آدم قُبُلاً

(5)

(6)

.

(1)

لقول ابن عباس رضي الله عنهما: «إيّاكم والرأي، فإنّه تعالى رد الرأي على الملائكة، وذلك أنّ الله قال:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} قالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} قال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .

في سنده أبو عبد الله الهذلي متروك.

(2)

لكونها مما لا يدرك بالعقل، وعلمها عند الله {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فليس للعقل مدخل في معرفة عللها، لا من حيث الصّفة كالصّلاة، ولا المكان كالوقوف بعرفة، ولا الزمان كصيام رمضان، فلا بدّ فيها من نصٍّ.

(3)

إذا قيل: إنّ الأسماء المقصود بها المسميات، فتشمل الأسماء بكل لغة، وقيل: مخصوصة بأسماء الملائكة، أو ذريته، أو أسماء الأجناس، ووجه كونها توقيفية هو ما ذكره المصنف من وضع الله لها

الخ.

(4)

لأنّه سبحانه وتعالى خاطبه فقال: {يَاآدَمُ} على من يقول إن طريق التعليم كان بقولٍ، وقيل: بإلهام علم ضرورة، والقول بواسطة ملك، فالآية مجملة، والحديث مفسِّر، على أن الحديث ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم استدلَّ بالآية كما قال السيوطي.

(5)

أي مقابلة وعياناً، كما قال سبحانه:{أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} أي: عياناً ومقابلة.

(6)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/ 266)، والطبراني في الكبير (7871)، بإسناد ضعيف، لكن روي من طرق أخرى صحيحة، وليس فيها الاستدلال بالآية.

ص: 44

وفي بقية الآية دليل على مزية العلم، وأنه شرط في الخلافة

(1)

، وفضل آدم على الملائكة

(2)

.

قال الإمام: لما أراد الله إظهار فضل آدم على الملائكة لم يظهره إلا بالعلم، فلو كان في الإمكان شيء أشرف العلم لكان إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم، وكذلك أمر الملائكة بالسجود له لأجل فضيلة العلم

(3)

.

قلت: ويؤخذ من هذا استحباب القيام للعالم

(4)

.

وقال الطيبي: أفادت هذه الآية أن علم اللغة فوق التحلي بالعبادة، فكيف علم الشريعة؟!

(5)

.

•‌

‌ قوله تعالى من الآية: {أَبَى} .

رد على الجبرية؛ إذ لا يوصف بالإباء إلَّا من هو قادر على المطلوب

(6)

.

(1)

وهو شرط صحة عند الجمهور إلّا عند فقد المجتهد، وأمّا الحنفيّة فهو شرط أولوية.

ولعل مأخذ الحكم: دلالة الإيماء، واقتران الحكم بجعله خليفة، بالوصف، وهو تعليمه الأسماء، فدّل على كونه شرطًا في الخلافة.

(2)

منها: اختصاصه بعلم الأسماء، وسجود الملائكة له، والسجود كان نوع من أنواع التّحية لمن يستحق التعظيم والإكرام في الأمم السابقة، ثم نسخ بجميع صوره لغير الله بقوله عليه السلام:«ما ينبغي لأحدٍ أن يسجد لأحدٍ، ولو كان أحدٌ ينبغي له أن يسجد لأمرت المرأة تسجد لزوجها لما عظم الله عليها من حقه» رواه أحمد وحسنه الألباني.

(3)

مأخذ الحكم: دلالة الإشارة؛ إذ إنّ فضل العلم لم يكن مقصودًا من القصة، وإنّما المقصود منها بيان فضل آدم.

(4)

قلت: لعله بالقياس على السجود بجامع كونهما وسيلة إكرام لمن له فضل.

ولذا فالمجيزون اشترطوا أن يكون له فضيلة ظاهرة من علم أو صلاح، أو ولادة، ويكون على وجه البر والإكرام، لا الرياء والإعظام.

(5)

فضل آدم عليه السلام بتعليمه الأسماء وهي من اللغات، على الملائكة أهل العبادة الذين يسبحون الله ليلًا ونهارًا لا يفترون، ثمّ استدل بمفهوم الموافقة الأولوي على تفضيل الشّريعة على العبادة؛ إذ علم اللغة، إنّما هو وسيلة لفهم الشّريعة.

(6)

قال محقق الكتاب ح (6): أي إن المطلوب هو السجود، فلما أبى أبليس أن يفعل المطلوب منه وهو السجود دلَّ على أنه قادر على السجود، ولكنَّه لم يفعل باختياره، بدليل أن الملائكة سجدوا وهم معه.

ص: 45

•‌

‌ قوله تعالى: {يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} إلى آخر القصة [35 - 38].

فيها دلالة على أن الجنة مخلوقة الآن

(1)

.

• قوله: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} .

قال ابن الفرس: هذا أَصل جيد في سد الذرائع؛ لأنه تعالى لما أراد النهي عن الأكل منها نهى عنه بلفظ يقتضي الأكل وما يدعو إليه وهو القرب

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} [40]

يستدل به على دخول أولاد الأولاد في الوقف على الأولاد

(3)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} الآية.

قال ابن الفرس: فيه دليل على أن لله على الكفار نعمة، خلافاً لمن قال لا نعمة لله عليه، وإنما النعمة على المؤمنين

(4)

.

(1)

قوله إلى آخر القصة يشير إلى مأخذ الحكم وهو سياق الآيات، وفيها الخبر بأنهما دخلا الجنة، وأكلا من الشجرة، ثم أخرجا منها.

(2)

المقصود بسد الذرائع، منع الفعل الذي ظاهره أنّه مباح، وهو وسيلة إلى محرم، والممنوع والمحرم هنا: هو الأكل، وحرم ما يؤدي إلى قربانه، وقربان الشجرة فعل ظاهره أنّه مباح، ولكنه لما كان وسيلة المحرم حرم.

(3)

قلت: المراد بإسرائيل يعقوب باتفاق، والخطاب في الآية لليهود الذين كانوا في المدينة زمن النبي صلى الله عليه وسلم فهم من أولاد الأولاد، وقد صحّ دخولهم في كونهم أبناء، ولذا يصح دخولهم حال الوقف على الأبناء أو الأولاد.

ومأخذ الحكم: كونه أسلوبًا من أساليب العرب، وهي حجة، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها

إلخ.

(4)

بإخباره سبحانه وتعالى، وتعداده لهم هنا في مواطن كثيرة من القرآن، فسياق الآية ونصها يدل على ذلك، ومن تلك النعم:{جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} وأنزل عليهم الكتاب، والمن والسلوى، وإخراج الماء لهم من الحجر، وظلل عليهم الغمام، ونجاهم من فرعون، وفلق لهم البحر، وأغرق فرعون.

ص: 46

•‌

‌ قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [43]

قال الرازي: يفيد إثبات فرض الركوع في الصلاة

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [45]

فيه استحباب الصلاة عند المصيبة، وأنها تعين صاحبها

(2)

.

أخرج سعيد بن منصور وغيره عن ابن عباس أنه كان في مسير فنعي إليه ابن له، فنزل فصلى ركعتين ثم استرجع، وقال: فعلنا كما أمرنا الله {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}

(3)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [47].

قال ابن الفرس: فيه ورود العام المراد به الخصوص

(4)

؛ لأن المراد عالمي زمانهم.

(1)

مأخذه: أن التعبير بالعبادة بمشروع فيها يدل على وجوب ذلك المشروع وفرضه، فالشيء لا يجعل دلالة على غيره، إلّا إذا كان مقصودًا بنفسه، ومنه:«الحجّ عرفة» {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} ، وقد جرت عادة العرب، أنّها لا تكنى عن الشيء إلّا بأهم ما فيه، كقولهم:(عندي مائة رقبة) أي: عبد.

(2)

قال السيوطي عند المصيبة «لأنّ المولى سبحانه قرن الصّلاة بالصبر، والصبر غالبًا يكون على المصائب» .

واستحباب الصّلاة من الأمر في قوله: {وَاسْتَعِينُوا} وهو مصروف، ولعل الصارف إجماعًا؛ إذ إنّ أعظم مصيبة هي مصيبة الأمة بموت نبيها صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل أنّهم فرغوا للصلاة.

ومأخذ الحكم: تفسير الصحابي، الذي ذكره السيوطي بعد ذلك، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهي من شرع من قبلنا، فهي شريعة موسى عليه السلام.

قال ابن كثير في تفسيره (1/ 254): «الظاهر أن الآية وإن كانت خطاباً في سياق إنذار بني إسرائيل، فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص، وإنما هي عامة لهم، ولغيرهم» .

قلت: وقد ورد في شرعنا ما يدل عليه كما في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} .

(3)

أخرجه سعيد بن منصور في التفسير (2/ 559) بنحوه، وأخرجه ابن جرير في تفسيره، وصححه أحمد شاكر، وكذا أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 269) وصححه، ووافقه الذهبي.

(4)

بيّن ابن الفرس وجه ورود العام المراد به الخصوص في القرآن، وذكره الطوفي في الإشارات (1/ 269)، وأشار إلى أنّه قد يكون من العام المخصوص، فخص منه أمة محمّد صلى الله عليه وسلم بالنّص كقوله:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} وبالإجماع.

قلت: وذهب بعض العلماء إلى أنّ قوله: {فَضَّلْتُكُمْ} مطلق، والمطلق يكفي في وقوعه صورة واحدة، فيكون بنو إسرائيل فضلوا بأمرٍ ما، لا في كل أمر.

ص: 47

•‌

‌ قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} الآيات [49 - 52].

في العجائب للكرماني استدل بها بعض من يقول بالتناسخ، وقالوا: إن القوم كانوا هم بأعيانهم فلما تطاولت عليهم مدة التلاشي والبلى نسوا فذكروا، قال وهذا محال وجهل بكلام العرب؛ فإن العرب تخاطب بمثل هذا وتعني الجد الأعلى والأب الأبعد

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا} [57]

استدل به على أن الضيف لا يملك ما قدم له، وأنه لا يتصرف فيه إلا بإذن، ذكره صاحب التحرير

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [59]

قال إلكيا: يدل على أنه لا يجوز تغيير الأقوال المنصوص عليها، وأنه يتعين اتباعها.

(1)

المقصود هنا: تناسخ الأرواح، وهو الاعتقاد بأن الأجساد تبلى وتفنى، وتبقى الأرواح لتنتقل من جسد إلى أخر.

ووجه رد الكرماني أن استدلالهم مبني على الجهل بكلام العرب، ففي كلامه توسع، ومنه إضافة الفعل إلى الحي الموجود، والمراد به السلف المعدوم، فتقول للرجل مفتخرًا عليه (أكرمناكم وأحسنا إليكم)، وأنت تقصد آباءك وأسلافك أكرموه.

ومنه قوله: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} للمخاطبين من اليهود زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ويُراد به نجينا آباءكم.

(2)

وصاحب التحرير في الفقه هو الجرجاني (ت 482 هـ)، ووجه الحكم هو: أنّ قوله تعالى: {كُلُوا} إذن من المالك سبحانه وتعالى، ولو كان الإنزال مع الامتنان كافيًا لما احيتج إلى الإذن {كُلُوا} . وأكل الضيف إباحة محضة، لا بجعل الملك به بحال، فلا يجوز له قسمته، ولا إعارته، وإن ما يهلك بالأكل على ملك صاحبه.

ص: 48

وقال الرازي: يحتج به فيما ورد من التوقيف في الأذكار والأقوال، وأنه غير جائز تغييرها

(1)

.

وربما احتج به علينا المخالف في تجويز تحريمه الصلاة بلفظ التعظيم والتسبيح، وفي تجويز القراءة بالفارسية، وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة وما جرى مجرى ذلك

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} إلى آخر القصة

[67 - 71] فيها أحكام:

الأول: استدل بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ}

على إن الآمر لا يدخل في عموم الأمر؛ فإن موسى لم يدخل في الأمر بدليل قوله: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} ولا يظن بموسى ذلك، ذكره الزركشي في شرح جمع الجوامع

(3)

.

(1)

مأخذ عدم الجواز: وصفهم بأنهم: {ظَلَمُوا} و {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} ، وكذا ترتب العقاب عليهم {رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} فذم الفعل أو الفاعل أو ترتب العقاب على الفعل من الأساليب الدالة على التحريم.

(2)

ثم قال الجصاص في أحكام القرآن (1/ 39): «وهذا لا يلزمنا» وبيّن ذلك.

1) أنّ الآية إنّما هي في القوم الذين قيل لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} .

2) أن استحقاق الذّم لتبديلهم القول إلى لفظ في ضد المعنى، وأمّا من غير اللفظ مع إتقان المعنى فلم تتناوله الآية

، وهذا صحيح؛ لذا جاز رواية الحديث بالمعنى، لكن يبقى الخلاف في كونها توقيفية.

(3)

الاستدلال صحيح فيما إذا كان الأمر لا يتناوله - هكذا، قيّده الزركشي-، كما في الآية؛ والدلالة على عدم تناوله سياق الآية، فيكون مخصوصًا بسياق الآية.

وبيانه في الآية: لو كان الآمر داخلًا لدخل موسى عليه السلام، في الاشتراك بالذبح، ولو دخل موسى عليه السلام لدخل في قوله:{وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} ..

ص: 49

الثاني: استدل به بكر بن العلاء على أن السنة في البقرة الذبح

(1)

.

الثالث: استدل به على جواز ورود الأمر مجملاً وتأخير بيانه

(2)

.

الرابع: استدل بقوله: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} ، وبقوله:{مُسَلَّمَةٌ} على جواز الاجتهاد واستعمال غالب الظن في الأحكام؛ لأن ذلك لا يعلم إلا من الاجتهاد.

الخامس: استدل بها على أن المستهزئ يستحق سمة الجهل.

وذكر محمد بن مسعد أن عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي مازحه فقال له: لا تجهل، قال: وأنى وجدت المزاح جهلاً فتلا عليه: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}

(3)

.

السادس: فيها الإرشاد إلى الاستثناء في الأمور في قوله: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} .

(1)

ومأخذ الحكم: شرع من قبلنا، فلم يقل:(أن تنحروا بقرة)، وامتثل بنو إسرائيل {فَذَبَحُوهَا} .

قلت: لو قال بكر بن العلا أن الأفضل في البقر الذبح لكان أولى، وقد نقل ابن بطال إجماع العلماء على جواز النحر والذبح في البقر. أمّا الذبح فللآية، وأمّا النّحر فلقول عائشة رضي الله عنها:«دخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلت: ماهذا؟، فقيل: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه البقرة» البخاري (1720).

(2)

المجمل: ما لا يفهم معناه عند الإطلاق.

وقيل: ما احتمل أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.

ونقل ابن الفرس في أحكام القرآن (1/ 69) خلاف العلماء في كون ذبح البقرة من قبيل المجمل الذي يفتقر إلى بيان، أو أنّه عام، ويقصد العموم البدلي، وهو المطلق، وكونها مطلقة، وهوالصحيح.

وغلط ابن القيم القائلين بأنّه مجمل، وقال:«فإنّ الآية غنية عن البيان المنفصل، مبيَّنة بنفسها، لكن لما تعنتوا وشدودا شدد عليهم» . إغاثة اللهفان (2/ 314).

(3)

قال ابن عطية في تفسيره (1/ 246) «

أن قول موسى عليه السلام: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، يحتمل معنيين: الأول: الاستعاذة من الجهل في أن يخبر عن الله تعالى مستهزئًا.

الثاني: الاستعاذة من الجهل كما جهلوا في قولهم: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} لمن يخبرهم عن الله تعالى».

ص: 50

السابع: فيها دليل لأهل السنة على المعتزلة؛ لأن الأمر لا يستلزم المشيئة، قاله الماتريدي

(1)

.

الثامن: استدل بالآية على حصر الحيوان بالوصف، وجواز السلم فيه

(2)

.

التاسع: قال المهدوي: في قوله: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} دليل على أن الأمر على الفور

(3)

.

قال ابن الفرس: ويدل على ذلك أنه استقصرهم حين لم يبادروا إلى فعل ما أمرهم به وقال: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} .

•‌

‌ قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} الآية [79].

استدل به النخعي على كراهة كتابة المصاحف بالأجرة

(4)

.

(1)

مقصوده بأهل السنة الأشاعرة، وهم قائلون بأن الأمر لا يستلزم المشيئة، فقد يأمر الله بما لا يشاء، كأمره إبراهيم بذبح ابنه، ولم يشأ منه ذبحه. وبنوا على هذا أن الطاعة موافقة الأمر لا الإرادة.

(2)

السلم: شراء آجل بعاجل، ويشترط ضبط صفته، وهنا أمكن ذلك، فضبط عمرها بقوله:{لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} ولونها: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} وعملها: {لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ}

قال القرطبي في جامعه (1/ 453): «في هذه الآية أدل دليل على حصر الحيوان بصفاته، وإذا ضبط بالصفة وحصر بها جاز السلم فيه» .

قلت: ونوع الدلالة هنا بالإشارة؛ إذ الحكم الثابت باللفظ غير مقصود.

(3)

مأخذ الحكم ما قاله ابن الفرس، ولو أنّه لا يقتضي الفور لما كان هناك داع إلى ذمهم، - كما هو السياق - بتأخرهم ومقصودهم في المسارعة.

(4)

سياق الآيات في بني إسرائيل، وسبب نزولها تغيير اليهود صفات النبي صلى الله عليه وسلم وبيعهم الكتاب للعرب، والنخعي نظر إلى ظاهر الآية دون السياق وسبب النزول.

ولعل من حجته أن كتابة المصاحف للعرب، ولا يجوز أخذ الأجرة عليها، والجمهور على جواز الاستئجار، وأخذ الأجرة على كتابته.

ص: 51

•‌

‌ قوله تعالى: {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} الآية [81].

استدل به على أن المعلق على شرطين لا يتنجز بأحدهما

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} الآية [102].

استدل بها على أن السحر كفر حيث قال: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} ، وقال:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}

(2)

.

قال بكر بن العلاء: وفي الآية أن الساحر يقتل، ووجهه أنه قال:{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} أي باعوا أنفسهم للقتل بالسحر الذي فعلوه

(3)

كما قال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} .

•‌

‌ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} الآية [104].

قال ابن الفرس: استدل بها على القول بسد الذرائع في الأحكام؛ لأن المؤمنين منعوا من وقول: راعنا له صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يجد اليهود بذلك السبيل إلى سبه.

(1)

أي: لا يصير ناجزًا.

وقال مقاتل بن سليمان في تفسيره (1/ 119): «لما قالوا: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} أكذبهم الله عز وجل فقال: {بَلَى} يخلد فيها {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} يعني الشرك، {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} حتى مات على الشرك» .

(2)

مأخذ الحكم من الآية الأولى، دلالة الإيماء؛ لاقتران الوصف التعليم بالحكم، وهو الكفر، فدل على أنّ تعليم السحر كفر.

والآية في تعلم السحر -كما هو ظاهر الآية- فصار تعليمه وتعلمه كفر.

(3)

وبيعه لنفسه يتضمن القتل، كما في الآية المذكورة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} .

والمعنى أنّ السحر ثمن بئيس للنفس، فدل على أنّ النفس تقتل به.

ص: 52

•‌

‌ قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [106]

فيها وقوع النسخ في هذه الملة، واستدل بقوله:{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} من قال إن النسخ إلى غير بدل لا يجوز

(1)

، ومن قال إنه لا يجوز إلى بدل أغلظ

(2)

، ومن قال إنه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة

(3)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [114].

(1)

قال المحقق ح (5)(1/ 309): «ووجه الاستدلال بالآية ظاهر حيث إن الله ربط بين نسخ أي آية وبين الإتيان بخير منها أو مثلها بأداة الشرط ربط الجزاء بشرطه، ومعلوم أن الشرطية إنما يتوارد فيها الصدق والكذب على نفس الربط، ولا شك أن هذا الربط الذي صرَّح الله به بين هذا الشرط والجزاء في هذه الآية صحيح لا يمكن تخلفه بحال» نقله عن الأمين الشنقيطي في مذكرة الأصول (79).

(2)

ذكر المحقق ح (9) وجه الاستدلال، وهو أن الله تعالى جعل البدل محصوراً في الخير والمثل؛ لأن الاقتصار في مقام البيان يفيد الحصر، والأشق والأغلظ ليس خيراً، ولا مِثلاً، فلا يكون بدلاً في النسخ، ولا يقع النسخ به.

يجاب عنه، يجاب عنه: أن الخيرية دائرة بينهما، فيكون في الأخف لسهولته، وتكون في الأثقل لكثرة الأجر فيه.

كما أن الوقوع خير دليل هنا، وذلك على القول بنسخ التخيير بين الصوم والإطعام، بقوله:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .

(3)

وجه الاستدلال ما ذكره المحقق ح (10) وهو: أن الله أسند الإتيان بالبدل إليه، والذي يأتي به سبحانه هو القرآن فقط، فكان الناسخ للقرآن هو القرآن لا السنة. وأيضاً فإن الله جعل البدل خيراً من المنسوخ أو مِثلاً له، والسنة ليست خيراً ولا مثلاً له فلا تكون السنة بدلاً عن الكتاب، ولا ناسخة له.

ويجاب عنه: بأن الناسخ حقيقة هو الله {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فالرسول صلى الله عليه وسلم مُظهِر له. وقال بعض العلماء: ليس الإتيان بنفس آية أخرى خيراً منها، بل المراد نأتي بعمل خير من العمل الذي دلَّت عليه الأولى أو مثله.

ص: 53

قال الرازي فيه دليل: على منع دخول أهل الذمة المساجد

(1)

.

وقال إلكيا: يدل أن للمسلمين إخراجهم منها إذا دخلوها، ولولا ذلك ما كانوا خائفين بدخولها

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} الآية [115].

روى مسلم عن ابن عمر أنها نزلت في صلاة التطوع على الراحلة في السفر

(3)

، وروى الترمذي وابن ماجة والدارقطني وغيرهم من حديث عامر بن ربيعة وجابر أنها نزلت فيمن صلى بالاجتهاد إلى القبلة ثم تبين له الخطأ

(4)

.

قال الرازي: لا يمتنع أن تكون نزلت في الأمرين معاً بأن وقعا في وقت واحد وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنهما، فأنزل الله الآيه مريداً بها حكم جميع ذلك

(5)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} الآية [116]

تدل على امتناع اجتماع المُلْك والولادة

(6)

.

(1)

مأخذه قوله: {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا} هو خبر عن الحكم الدال على المنع.

(2)

أخبر المولى في مقام الإقرار أن دخولهم للمساجد، إنمّا يكون على سبيل الخوف من طرد المسلمين لهم، فدل على أن الواجب على المسلمين طردهم ومنعهم.

(3)

أخرجه مسلم (700)، و (أين) من ألفاظ العموم، فتعمّ أي جهة توجه إليها المصلي، وقصرها على السفر دلَّ عليه سبب النزول، كما ذكر المصنف، وسبب النزول قطعي الثبوت، وهو مخصص لقوله:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أي: المسجد الحرام، كما سيأتي.

(4)

أخرجه الترمذي (323)، وابن ماجة (1016)، والدارقطني (916)، وحسنه الألباني بمجموع هذه الطرق في الإرواء (1/ 323).

(5)

ذكر الرازي المواضع التي يجوز فيها ترك شرط الاستقبال عمدًا، أو اجتهادًا، وقال: أي الرازي: «وإذا لم تتناف إرادة جميع ذلك وجب حمل الآية عليه» .

(6)

أي: لا يجوز للرجل أن يملك ابنه، فنفى البنوة لأجل العبودية، فقال:{سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} فدل على أنّه لا يجتمع بنوة ورق، وقانتون: مطيعون، ومقرّون له بالعبودية.

ص: 54

•‌

‌ قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} الآية [124].

أخرج ابن المنذر من طريق التميمي عن ابن عباس أنها مناسك الحج.

وأخرج الحاكم وغيره من طريق طاووس عنه أنها قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، وتقليم الأظافر، وحلق العانة والختان، ونتف الأبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء.

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق حنش الصنعاني عنه أنها المذكورات والمناسك وزاد فيها غسل يوم الجمعة، ففي الآية مشروعية جميع ذلك

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}

قال ابن الفرس: يؤخذ من هذا إباحة السعي في منافع الذرية والقرابة، وسؤال من بيده ذلك

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}

قال الرازي: فسَّر السدي العهد بالنبوة.

وعن مجاهد أنه أراد أن الظالم لا يكون إماماً.

وعن ابن عباس: أنه قال لا يلزم الوفاء لعهد الظالم، فإذا عقد عليك في

ظلم فانقضه.

قال: وجميع ذلك يحتمله اللفظ وجائز أن يكون جميعه مراداً لله،

(1)

مأخذه: تفسير ابن عباس رضي الله عنهما المذكور عند المصنف، وشرع من قبلنا، وقد ورد اتباع ملة إبراهيم عليه السلام بأدلة خاصة، ومن المآخذ: الثناء على الفاعل {فَأَتَمَّهُنَّ} .

(2)

مأخذه: دعاء الأنبياء، ودعاء الأنبياء يدل على مشروعية الفعل الدائر بين الوجوب والندب، وقول ابن الفرس (إباحة السعي) لم يظهر لي الصارف إلى الإباحة، إذا أراد بالإباحة: الإذن بالفعل، فيشمل الوجوب والندب، والمعبَّر عنها بالحلِّ أو الجواز.

ص: 55

وهو محمول على ذلك عندنا، فلا يجوز أن يكون الظالم نبياً ولا خليفة نبي، ولا قاضياً ولا من يلزم الناس قبول قوله في أمور الدين، من مفت أو شاهد أو مخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم خبراً

(1)

، فقد أفادت الآية أن شرط جميع من كان محل الإئتمام به أمور الدين العدالة والصلاح.

قال: وهذا يدل أيضاً على أن شرط أئمة الصلاة أن يكونوا صالحين غير فساق ولا ظالمين

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [125].

يحتج به في كون الحرم مأمناً

(3)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} .

فيه مشروعية ركعتي الطواف

(4)

، واستحبابهما خلف المقام

(5)

، واستدل

(1)

فُسِّر العهد بعدة تفسيرات محتملة اللفظ، فتحمل عليه، وما قاله الرازي -من القواعد التفسيرية- وهو مأخذه:«وجميع ذلك محتملة اللفظ وجائز أن يكون مراداً لله» .

(2)

مأخذه: دلالة مفهوم المخالفة، أنّ غير الظالم من أهل العدل والصلاح سينال الإمامة، لكن مع الإتيان بأسبابها.

وقال الطاهر ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير (1/ 706): «حكم أحد الضدين يثبت نقيضه للأخر عن طريق الإيجاز» .

(3)

مأخذه: خبر بمعنى الأمر، والمعنى: أمنوا من دخل البيت، وهو محل اتفاق، يعمّ التأمين كل داخل سواء كان إنسانًا أو حيوانًا، أو طيرًا؛ لقوله تعالى:{وَأَمْنًا} نكرة في سياق امتنان.

(4)

ورد بصيغة الأمر {وَاتَّخِذُوا} وكأنه سبحانه وتعالى جعلها جملة اعتراضية، وفيها تشريع الصلاة للمسلمين عند حجر المقام.

وورد بصيغة الخبر {وَاتَّخِذُوا} فقال بعضهم: لا تحتمل غير حكاية ما كان في زمن إبراهيم عليه السلام.

وقال غيره: هي خبر بمعنى الأمر، وذكر المصنف أنّها على سبيل الاستحباب، كما سيأتي.

(5)

الأصل في الأمر الوجوب، وقد قال به البعض؛ لظاهر الآية كما سيأتي، ومنهم من صرفها -كالمصنف- إلى الاستحباب لصارف، والصارف قوله عليه السلام لمعاذ رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن «فأعلمهم أنّ الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة» أخرجه البخاري (1395)، ومسلم (29) وغيره كحديث:«أفلح إن صدق» أخرجه البخاري (1891)، ومسلم (11)، وإنّما فرض عليه خمس صلوات.

ص: 56

الرازي بظاهر الأمر على وجوبهما.

•‌

‌ قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}

فيه أن الأعمال المتعلقة بالبيت ثلاثة: الطواف والاعتكاف والصلاة.

أخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء عن ابن عباس قال: إذا كان قائماً فهو من الطائفين، وإذا كان جالساً فهو من العاكفين، وإذا كان مصلياً فهو من الركع السجود.

وأخرج أيضاً من طريق حماد بن سلمة عن ثابت قال: قلت لعبد الله ابن عبيد بن عمير ما أراني إلا مكلم الأمير أن يمنع الذين ينامون في المسجد الحرام فإنهم يجنبون ويحدثون، قال: لا تفعل فإن ابن عمر سُئل عنهم فقال هم العاكفون

(1)

.

وفي الآية مشروعية طهارة المكان للطواف والصلاة

(2)

.

قال الرازي وإلكيا: وفيها دلالة على أن الطواف للغرباء أفضل، والصلاة للمقيم أفضل

(3)

.

(1)

دخل في العاكف: الجالس والنائم؛ بناء على تفسير الاعتكاف بأنّه اللبث.

(2)

للأمر في قوله: {أَنْ طَهِّرَا} وإذا أمر بتطهير المكان، فتطهير نفسه وملابسه أولى.

(3)

مبني على تفسير الطائفين بالغرباء، ولما خصهم بالطواف دلّ أنّ لهم به مزية اختصاص.

ورد: بأنّه صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل.

وتأوله الضحاك على الطائف الذي هو طارئ، كقوله:{فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} وقوله: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ}

وتوجيه آخر: الطواف للقريب أفضل؛ لأنّه لا يجد الطواف إلّا هنا، بخلاف الاعتكاف والصّلاة، وللمقيم الصّلاة أفضل؛ لأنّها أفضل الأعمال.

ص: 57

قلت: ولم يظهر لي وجه ذلك.

قالا: وفيها دلالة على جواز الصلاة في نفس الكعبة حيث قال: {بَيْتِيَ} ، خلافاً لمالك

(1)

.

قلت: يرده قوله: {لِلطَّائِفِينَ} ، والطواف لا يكون في نفس الكعبة

(2)

.

قال الرازي: وفيها دلالة على أن الطواف قبل الصلاة.

قلت: قد استدل بذلك ابن عباس

(3)

، فأخرج الحاكم من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال أبدأ بالصفا قبل المروة، أو أبدأ بالمروة قبل الصفا؟، وأصلي قبل أن أطوف أو أطوف قبل أن أصلي؟ أو أحلق قبل أن أذبح أو أذبح قبل أن احلق؟ فقال ابن عباس: خذ ذاك من كتاب الله فإنه أجدر أن يحفظ قال الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} فالصفا قبل المروة. وقال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ، فالذبح قبل الحلق، وقال:{أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فالطواف قبل الصلاة، وقال الحاكم صحيح الإسناد.

قال الرازي: وفيها دلالة على جواز المجاورة بمكة؛ لأن قوله:

(1)

إذ لا معنى للأمر بتطهير البيت إلّا لأجل جواز الصّلاة فيه، وفي ختم الآية قال:{وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} .

(2)

خرج الطواف من كونه مفعولًا خارج البيت بالاتفاق؛ ولأنّ الطواف بالبيت إنّما هو بأن يطوف حواليه خارجًا منه، ولا يسمى طائفًا بالبيت من طاف في جوفه، والله إنّما أمرنا بالطواف به، لا بالطواف فيه بقوله:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} .

(3)

وهذا مأخذه: وهو تفسير الصحابي، أو يقال: جاء ما يدل على أنّ الواو هنا: للترتيب، ولمراعاة النظم القرآني.

ص: 58

{وَالْعَاكِفِينَ} ، يحتمله مع أن عطاء وغيره قد تأولوه على المجاورين

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [127].

قال الرازي فيه إن بناء المساجد قربة

(2)

.

قلت: وفيه استحباب الدعاء بقبول الأعمال

(3)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [130]

فيه دلالة على لزوم اتباع ملته فيما لم يثبت نسخه، ذكره إلكيا وغيره

(4)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} الآية [133].

استدل به ابن عباس على أن الجد بمنزلة الأب، وعلى توريثه دون الأخوة

(5)

.

(1)

قال ابن جرير (2/ 536): «وأولى هذه التأويلات بالصواب ما قاله عطاء، وهو أن (العاكف) في هذا الموضع، المقيم في البيت مجاورا فيه بغير طواف ولا صلاة؛ لأن صفة (العكوف) ما وصفنا: من الإقامة بالمكان. والمقيم بالمكان قد يكون مقيما به وهو جالس ومصل وطائف وقائم، وعلى غير ذلك من الأحوال، فلما كان -تعالى ذكره- قد ذكر في قوله: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} المصلين والطائفين، عُلم بذلك أن الحال التي عنى الله -تعالى ذكره- من العاكف، غير حال المصلي والطائف، وأن التي عنى من أحواله، هو العكوف بالبيت، على سبيل الجوار فيه، وإن لم يكن مصليا فيه ولا راكعا ولا ساجدا» .

(2)

وبيّن الرازي المأخذ، وقال:«والتقبل: هو إيجاب الثواب على العمل، وقد تضمن ذلك كون بناء المساجد قربة؛ لأنهما بنياه لله تعالى، فأخذا باستحقاق الثواب» .

ولا خلاف في كونه قربة «من بنى مسجدًا، ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة» .

(3)

من أدلة المشروعية: دعاء الأنبياء بالفعل.

(4)

مأخذه: ذمّ من لم يتبعها {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} ، والذّم على ترك الفعل من أساليب الوجوب.

(5)

مأخذه: ما ذكره من قول ابن عباس، وسبب نزول الآية، وهو أنّ اليهود، قالوا: يا محمّد ألست تعلم أنّ يعقوب، يوم مات أوصى بنيه بدين اليهودية.

ص: 59

وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال سمعت ابن عباس يقول الجد أب ويتلو ابن عباس: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ} الآية.

ورد عليه من الآية بذكر إسماعيل فسمى العم أباً، ولا يقوم مقامه إجماعاً

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ} الآية [134].

قال الرازي: يدل على أن الأبناء لا يثابون على طاعة الآباء، ولا يعذبون على ذنوبهم

(2)

.

وفيه إبطال مذهب من يجيز تعذيب أولاد المشركين تبعاً لآبائهم

(3)

.

قال ابن الفرس: وفي قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} إثبات الكسب للعبد

(4)

.

(1)

أي: في حجب الإخوة الأشقاء، بخلاف الجد، ففيه خلاف.

والعرب تسمي العم أبًا، وفي الحديث عند مسلم (983):«أنّ عم الرجل صنو أبيه» ، أي: مثله، يستحق التعظيم والطاعة، وعدم العقوق، وهذا لا يعني أن كونه أبًا يأخذ جميع أحكامه.

لذا اعتبر الجصاص فأحكام القرآن (1/ 100) الاعتراض والرد الذي ذكره المصنف غير معتمد وقال: «لأنّ إطلاق اسم الأب إن كان يتناول الجد والعم في اللغة والشرع فجائز اعتبار عمومه في سائر ما أطلق فيه [كرام والطاعة]، فإن خصَّ العم بحكم دون الجد لا يمنع ذلك بقاء حكم العموم في الجد» أي يبقى إطلاق اسم الأب على الجد، والجد مساو للأب في معنى الولادة فجائز أن يتناوله اسم الأب، وأن يكون حكم الجد عند فقد الأب كحكم الأب.

(2)

لقوله {وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

(3)

يستدل بالعموم ما لم يرد دليل يخصصه، وفي المسألة أدلة خاصة، ففي البخاري من حديث سمرة رضي الله عنه أنّه عليه الصلاة والسلام رأى مع إبرهيم عليه السلام أولاد المسلمين وأولاد المشركين. وفي الصحيحين أنّه سئل عن أولاد المشركين، قال:«الله أعلم بما كانوا عاملين» أخرجه البخاري (1384)، ومسلم (2658)، وورد أنهم في النّار، كما في قصة قيس الأشجعي حين ذكر أن أمه ماتت في الجاهلية، وأنّها وأدت أختًا له، فقال:«الوائدة والموءودة في النار إلّا أن تدرك الوائدة الإسلام فيعفو الله عنها» أخرجه أحمد (15923)، والنسائي في الكبرى (11649)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1200).

(4)

كل الطوائف متفقة على الكسب مع اختلافهم في حقيقته: فعند الجبرية هو لفظ لا معنى له، ولا حاصل تحته؛ إذ لا كسب للعبد على الحقيقة، وما ينسب إليه فهو على المجاز؛ لأن العبد مجبور على أفعاله مقهور عليها، لا تأثير له في وجودها البتة، لذا قالوا: له قدرة غير مؤثرة وتسمى فعلاً مجازاً. وعند القدرية (المعتزلة) الكسب هو وقوع الفعل بإيجاد العبد وإحداثه ومشيئته من غير أن أن يكون الله شاءه أو أوجده؛ لأنهم يقولون أن العبد خالق لفعله. والكسب عند الأشاعرة هو مقارنة قدرة العبد الحادثة لفعله الذي يخلقه الله تعالى بقدرته وحده من غير أن يكون لقدرة العبد أي تأثير في الفعل، فإن الله سبحانه أجرى العادة بخلق عند قدرة العبد وإرادته، لا بهما فهذا الاقتران هو الكسب. وهم بذلك قاربوا قول الجبرية حتى وصف الخيالي في حاشيته على شرح العقائد النسفية ص (101) مذهب الأشعري في أفعال العباد بأنه جبر متوسط. وانظر: حاشية المحقق (3).

ص: 60

•‌

‌ قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} الآية [142].

فيه الرد على من أنكر النسخ

(1)

، ودلالة على جواز نسخ السنة بالقرآن؛ لأن استقبال بيت المقدس كان ثابتاً بالسنة الفعلية لا بالقرآن.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [143]

يستدل به على تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم

(2)

.

‌قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} .

قيل: أي لتكونوا حجة فيما تشهدون به كما أنه صلى الله عليه وسلم شهيد بمعنى حجة. قيل: ففيه دلالة حجية إجماع الأمة

(3)

.

(1)

لأنّه سبحانه وتعالى وصف الفاعل -المنكر- بالسفه.

(2)

لأن معنى {وَسَطًا} أي عدلاً وخِياراً، فهم بهذا أفضل الأمم؛ لأن الله تعالى خصها بالخيرية والعدالة والشهادة على جميع الخليقة يوم القيامة، كما جاء مًصرحاً في الأحاديث.

(3)

هذا أحد المأخذين، والمأخذ الأخر، وصف الله الأمة بأنّهم {وَسَطًا} بالعدالة، وأنّها خيار، وذلك يقتضي تصديقها، والحكم بصحة قولها، وناف لإجماعها على الضّلال.

ص: 61

•‌

‌ قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، استدل به على أن الإيمان قول وعمل

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [144]

فيه إيجاب استقبال الكعبة في كل صلاة فرضاً كانت أو نفلاً، في كل مكان حضراً أو سفراً

(2)

، وهو مخصوص بالآية المتقدمة في نافلة السفر على الراحلة

(3)

، وبالآية الآتية في حالة المسايفة

(4)

.

قال الرازي: والخطاب لمن كان معايناً للكعبة وغائباً عنها، والمراد لمن كان حاضرها إصابة عينها، ولمن كان غائباً عنها النحو الذي عنده أنه نحو الكعبة وجهتها في غالب ظنه دون العين يقيناً، إذ لا سبيل له إلى ذلك وهذا أحد الأصول الدالة على تجويز الاجتهاد

(5)

.

وقد يستدل بقوله: {شَطْرَهُ} ، على أن الفرض للغائب إصابة الجهة لا العين هو أحد قولي الشافعي.

وقد أخرج أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن ابن عباس أنه كان يقول: {شَطْرَهُ} نحوه، وأخرج الحاكم عن علي قال:{شَطْرَهُ} قبله.

وأخرج ابن أبي حاتم عن داود عن رفيع قال: {شَطْرَهُ} تلقاءه.

(1)

إذ الصلاة عمل، وجعلها الشارع من الإيمان

ووجه دخولها في مسمى الإيمان، أنّها صادرة عن إيمان، فلولا الإيمان ما تعبد الناس الله عز وجل.

(2)

الايجاب من الأمر في قوله: {فَوَلُّوا} والعموم من {وَحَيْثُ مَا} .

(3)

أي: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115].

(4)

أي: قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} أي: مستقبلي القبلة أو مستدبريها.

(5)

إذ إن كل شيء لا سبيل إلى القطع فيه فطريقه الاجتهاد، وهذا ما دلت عليه الآية.

ص: 62

وأخرج عن البراء قال: {شَطْرَهُ} وسطه. وهذا صريح في إرادة العين لا الجهة

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [148]

يدل على أن تعجيل الطاعات أفضل من تأخيرها

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} الآية [154].

فيها دلالة على حياة الشهداء بعد الموت.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} الآية [155 - 156].

فيه استحباب الاسترجاع عند المصيبة

(3)

وإن قلَّت؛ كما أشار إليه تنكير مصيبة

(4)

.

(1)

مأخذ ما سبق: هو تفسير الصّحابة للشطر، وتفسير البراء رضي الله عنه صريح؛ لأنّ الشطر يطلق عليه، وعلى الجهة على النصف، والأخير، مشترك بينه وبين الجهة.

وللخلاف أثر في هل فرض المجتهد القبلة: الإصابة أو الاجتهاد فقط، وعلى القول بأن فرضه الإصابة، فلو صلى وأخطأ فعليه إعادة الصّلاة، بخلاف لو قيل الاجتهاد، ذكره ابن رشد.

(2)

المقصود بالخيرات الأعمال الصالحة الواجبة والمندوبة، وهي أفضل من تأخيرها ما لم يقم دليل على فضيلة التأخير.

قال الجصاص في أحكام القرآن (1/ 111): «ويحتج به بأن الأمر على الفور، وأن جواز التأخير يحتاج إلى دلالة، وذلك أن الأمر إذا كان غير مؤقت فلا محالة عند الجميع أن فعله على الفور من الخيرات، فوجب لمضمون قوله تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} إيجاب تعجليه؛ لأنّه أمر يقتضي الوجوب.

(3)

الاسترجاع أن يقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ، ومأخذ الاستحباب: الدعاء للفاعل {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} والثناء عليه {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} و {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}

ويستحب إظهار الاسترجاع لقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} .

(4)

وهذه من الأغراض البلاغية للتنكير، ومنها: التعليل -كما ذكر المصنف- فتشمل المصيبة الصغيرة.

ص: 63

وقد أخرج الطبراني عن أبي أمامة، قال: انقطع قِبَال

(1)

النبي صلى الله عليه وسلم فاسترجع، فقالوا: مصيبة يا رسول الله؟ فقال: (ما أصاب المؤمن مما يكره فهو مصيبة)

(2)

، وله شواهد أوردتها في التفسير المسند.

•‌

‌ قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} الآية [158].

فهم منها جماعة عدم وجوب السعي، وبه قال الثوري وإسحاق.

قال اللخمي: ورد القرآن بإباحته بقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ} ، وتضمنت الآية الندب بقوله:{مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ، وقوله:{وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} .

قال ابن الفرس: وفيه نظر حيث جعله مباحاً مندوباً في آية واحدة، وقال قوم قوله:{مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} دليل على الوجوب؛ لأنه خبر بمعنى الأمر ولا دليل على سقوطه في قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ} ؛ لأنه ورد لرفع ما وقع في نفوسهم كما ثبت في سبب نزولها

(3)

.

وهذا ما ردت به عائشة على عروة في فهمه ذلك، وقالت:(لو كانت على ما أولتها عليه كانت فلا جناح عليه ألا يطوف بهما الحديث)، أخرجه الشيخان.

وقد فهم صلى الله عليه وسلم من الآية الوجوب حيث قال (إن الله كتب عليكم السعي) رواه

(1)

القِبال: بكسر القاف هو زمام النعل، وهو السير الذي يكون بين الأصبعين.

(2)

أخرجه الطبراني في الكبير (7688)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 334): رواه الطبراني بإسناد ضعيف، وكذا السيوطي في الدر المنثور (1/ 379)، والعقيلي في الضعفاء (2055).

(3)

وذكر الشاطبي في الموافقات (1/ 231) مأخذاً مهماً فقال يتعلق بهذا الأسلوب، يحسن ذكره:" إذا قال الشارع في أمر واقع (لا حرج فيه) فلا يؤخذ منه حكم الإباحة؛ إذ قد يكون كذلك، وقد يكون مكروهاً؛ فإن المكروه بعد الوقوع لا حرج فيه ".

ص: 64

أحمد والطبراني

(1)

.

واستدل بتقديم الصفا في الآية على وجوب الابتداء به حيث قال: (أبدأ بما بدأ الله به) رواه مسلم

(2)

، وفي لفظ (نبدأ) رواه الترمذي

(3)

، وفي لفظ (ابدءوا) رواه النسائي

(4)

وابن خزيمة.

قال ابن الفرس: واستدل بعموم الآية على صحة طواف الراكب والمحدث

(5)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} الآية [159].

فيه وجوب إظهار العلم وتبيينه وتحريم كتمانه

(6)

.

قال إلكيا والرازي: وعم ذلك المنصوص والمستنبط؛ لشمول اسم الهدى للجميع.

(1)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (27368)، والدارقطني في المعجم الكبير (2/ 256)، وإسناده ضعيف، وله طرق لا يخلو أحدها من مقال، وقد صححه الألباني بشواهده في الإرواء (4/ 269).

(2)

مسلم (2212).

(3)

أخرجه الترمذي في جامعه (862) وقال (3/ 216): "وهذا حديث حسن صحيح ".

(4)

أخرجه النسائي في الصغرى (2927)، ولم أجده عند ابن خزيمة، وقال الشيخ مصطفى العدوي في تحقيقه للإكليل ص (78):"وهو معلول بهذا ".

(5)

مأخذه: أن قوله: {أَنْ يَطَّوَّفَ} جملة فعلية تنحل لمصدر، وكأنه سبحانه قال:(لا جناح عليه تطوفًا بهما)، وإن قلنا: بأن (تطوفًا) نكرة في سياق النفي فهي للعموم.

وإن قيل: إنّ النكرة هي (جناح) أي ليس عليه أي: جناح.

فعلى الأول: عموم شمولي، وعلى الثّاني: عموم بدلي، وهو المطلق.

والطواف يصدق على الراكب وغير الراكب، وهنا وجه العموم، وكذا المحدث وغير المحدث؛ إذ إنّ الطواف اسم للدوران بالبيت، وذلك يتحقق من الراكب وغيره، ومن المحدث وغيره،

والله أعلم.

(6)

توعدهم المولى باللعنة، فدّل على تحريم الكتمان، وهو يدل على وجوب التبليغ.

ص: 65

قال إلكيا: فيه دليل على وجوب قبول قول الواحد؛ لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله.

قلت: وقد يستدل بالآية على عدم وجوب ذلك على النساء؛ بناء على أنهم لا يدخلن في خطاب الرجال.

•‌

‌ قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [160]

يدل على أنه لا يكتفي في صحة التوبة بالندم على ما سلف، بل لابد من تدارك ما فات في المستقبل حيث قال:{وَبَيَّنُوا} ذكره الرازي وإلكيا.

•‌

‌ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} الآية [161].

استدل به على جواز لعن الكافر بعد موته، خلافاً لمن قال إنه لا فائدة له

(1)

.

‌قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [163]

فيه إثبات الوحدانية له تعالى في ذاته وصفاته.

•‌

‌ قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} الآية [164].

فيه إثبات الاستدلال بالحجج العقلية.

واستدل بقوله: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} على جواز ركوب البحر تاجراً وغيره.

(1)

ذكر المحقق للكتاب في ح (10)(1/ 331) وجه الاستدلال وهو أن قوله {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} يقتضي أمرنا بلعنه بعد موته، وهذا اللعن ليس بطريق الزجر له عن الكفر؛ لأنه ميت، بل هو جزاء له على الكفر وإظهار قبح كفره، ولذا استوت حياته ومماته في جواز لعنه، فالآية عندهم عامة لا مخصِّص لها.

ص: 66

وقد سئل بعض الأكابر عن قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ، فأين الفلفل وكذا وكذا؟.

فقال في قوله: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ}

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [168]

يدل على أن من حرم طعاماً أو ثوباً أو غيره فهو لاغٍ ولا يحرم عليه

(2)

.

أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مسعود أن رجلاً قال له: إني حرمت أن آكل ضرعاً أبداً. فقال: هذا من خطوات الشيطان، أطعم وكفر عن يمينك.

وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: ما كان يمين أو نذر في غصب فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين.

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مجلز قال: خطوات الشيطان النذور في المعاصي

(3)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} الآية [170].

فيه إبطال التقليد

(4)

.

(1)

لعله لعموم قوله: {بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} لأنّه لم يرد الفلفل بذاته، بل ما قاله: و «كذا وكذا» .

(2)

لكونه من خطوات الشيطان، كما فسره ابن مسعود، وكذا تفسير ابن عباس بالمثال، وخطوات الشيطان منهي عنها، والنهي يقتضي الفساد.

(3)

واتباع خطوات الشيطان، حرام للنّهي، والمحرم لا ينعقد، بل يكفر عنه.

(4)

لأنّ الله عز وجل ذمهم على اتباع الأباء دون النظر في الدليل، والذم دليل المنع والإبطال.

ص: 67

•‌

‌ قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} [173].

عام في جميع أجزائها حتى الدهن واللبن والإنفحة، خلافاً لمن خالف

في ذلك.

واستدل بعمومه على تحريم ما لا نفس له سائلة، خلافاً لمن أباحه

من المالكية.

واستدل به أيضاً من حرم ميتة السمك الطافي، وما مات من الجراد بغير سبب، وعليه أكثر المالكية، والأجنة، وعليه أبو حنيفة

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَالدَّمَ} .

قيده في سورة الأنعام بالمسفوح وسيأتي

(2)

.

واستدل بعمومه على تحريم ونجاسة دم الحوت

(3)

وما لا نفس له سائلة.

(1)

وجه العموم (أل) في (الميتة) فتعمّ كل ميتة.

(2)

أي: مقيد بقوله: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} ، وتكلم في آية الأنعام عن مسألة إباحة الدم الباقي في العروق، وعلى إباحة الكبد والطحال، وكلها دماء غير مسفوحة.

(3)

فتقدير حرم عليكم استعمال الدم، فيعمّ الطهارة والأكل، من عموم المقتضى.

والعموم هنا: دون النظر إلى التقييد والتخصيص بالمسفوح في آية الأنعام، وهو يقتضي تحريم سائر الدماء قليلها وكثيرها.

وأمّا السمك فمخصوص عند الجمهور بقوله عليه السلام «أحلت لنا ميتتان ودمان» الحديث، أخرجه أحمد في المسند (2/ 97)، وابن ماجة (3314)، وصححه الألباني كما في الإرواء (8/ 164).

وورد في بعض النسخ: «واستدل بعمومه على تحريمه ونجاسة دم الحوت» ، فيكون الضمير في (تحريمه) يعود إلى الدم، ولعل المقصود تحريم دم السمك؛ لأنّه مسفوح.

ويجاب عليه: أنّه مخصوص بقوله: «أحلت لنا ميتتان» الحديث فلما أحل السمك بما فيه من الدم من غير إراقة دمه، تخصيص الآية في إباحة دم السمك.

ص: 68

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ}

استدل بعمومه من حرم خنزير البحر

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}

استدل به من حرم ما ذبحه أهل الكتاب لأعيادهم وكنائسهم أو على اسم المسيح

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} الآية.

فيه إباحة المذكورات للمضطر

(3)

بشرط أن لا يكون باغياً ولا عادياً، فلا يحل تناولها للباغي والعادي، كالعاصي بسفره.

أخرج سعيد بن منصور في سننه عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} قال: غير باغ على المسلمين، ولا معتد عليهم، من خرج يقطع الرحم أو يقطع السبيل، أو يفسد في الأرض فاضطر إلى الميتة لم تحل له.

ومن أباح ذلك قال: غير باغ ولا عاد في الأكل.

أخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية، قال: من أكل شيئاً من هذه وهو مضطر فلا حرج، ومن أكله غير مضطر فقد بغى

(1)

وجه العموم (أل) في الخنزير سواء كان خنزير بر أو بحر.

ويجاب عنه: أن خنزير الماء لا يطلق عليه الاسم إلّا مقيدًا، فلا يدخل في الاسم المطلق، كما أن القرآن نزل بلغة العرب، والعرب لا تعرف خنزيرًا للبحر.

(2)

لدخوله في اسم الإهلال، وهو الإظهار، فكل ما سُمي باسم غير الله دخل فيه.

(3)

عدم الإثم من الأساليب الدالة على الإباحة.

ص: 69

واعتدى.

وأخرج ابن المنذر من طريق عطية، عن ابن عباس، قال: غير باغ في الميتة ولا عاد في الأكل.

واستدل بعموم الآية على جواز أكل المضطر ميتة الخنزير والآدمي، خلافاً لمن منع ذلك

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية [174].

فيه تحريم أخذ الأجرة على الإفتاء

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} الآية [177].

فيها من شعب الإيمان: الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتب، والأنبياء، وصلة الأرحام، والأيتام والمساكين، وابن السبيل، والسائلين ولو أغنياء، والعتق، وفك الأسرى، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهود، والصبر على الفقر والضر، والجهاد.

وفي قوله: {عَلَى حُبِّهِ} دليل على أن أفضل الصدقة ما كان في حال الصحة، كما فسره ابن مسعود بقوله:"تؤتيه وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر" أخرجه الحاكم وغيره ..

(1)

حذف المعمول فمن اضطر إلى أكل ما يحتاجه، فلا إثم عليه، فتدخل المذكورات.

(2)

لذمهم كتمان ما أنزل الله، والوعيد بالنار، وتوبيخهم بعدم تكليمهم يوم القيامة، كلها أساليب، تدل على وجوب الإظهار، وتحريم الكتمان، وعدم جواز أخذ الأجرة على ذلك.

ص: 70

•‌

‌ قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} الآية [178].

فيه مشروعية القصاص

(1)

، واستدل به الليث على أن الرجل لا يقتص منه لامرأته

(2)

، كما استدل به غيره على أن الحر لا يقتل بالعبد

(3)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} الأية.

فيه مشروعية العفو على الدية

(4)

، والمطالبة برفق

(5)

، والأداء من غير مطل

(6)

.

وفي ذكر {أَخِيهِ} ترقيق مرغب في العفو، وفي تنكير {شَيْءٌ} إشارة إلى سقوط القصاص بالعفو عن بعضه

(7)

.

(1)

لفظ (كتب) من الألفاظ الدالة على الوجوب.

(2)

أخذًا من مفهوم قوله: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} لكن هذا المفهوم متروك، قال الطوفي في الإشارات (1/ 313)«لضعفه، ولزوم المفسدة العامة منه، وللإجماع» .

(3)

أخذًا من مفهوم {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} قال الطوفي في الإشارات (1/ 313): «مفهومه أنّه لا يقتل حر بعبد، وهو خاص (أي: المفهوم) فيخصص عموم {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} .. إلخ» .

وأخذ أبو حنيفة بعموم آية المائدة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ؛ لأن المفهوم ليس بحجة عنده، لذا قال يقتل الحر بالعبد، ولحديث:«المسلمون تتكافأ دماؤهم» أخرجه أبوداود (2751)، وابن ماجة (2683)، وصححه الألباني في الإرواء (7/ 265).

(4)

أي: مشروعية العفو عن القصاص على أن يأخذ الدية، ووجه المشروعية، أنّ المولى رتب عليها أحكامًا، الإتباع، والأداء، والسياق سياق مدح وثناء وحث، لذا قال سبحانه:{مِنْ أَخِيهِ} .

(5)

المأخذ: الإتيان بالمصدر أحد صيغ الايجاب، أي فالواجب من الولي اتباع بمعروف، أي: لا يشق عليه، ولا يضجره؛ لأنّه عفا عن القصاص.

(6)

المأخذ السابق من الإتيان بالمصدر (أداء)، ومن أعظم الإحسان هنا عدم المطل، لأنّ المطل ظلم، {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} .

(7)

ف {شَيْءٌ} نكرة في سياق شرط، فيعمّ العفو عن الشيء القليل والكثير، كما أن القصاص لا يتجزأ، وذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر كله، وإسقاط بعضه إسقاط لكله، كالطلاق.

ص: 71

•‌

‌ قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} الآية.

فيه أن العافي إذا قتل بعد العفو يقتص منه، وأخذ جماعة من الآية تحتم قتله وأنه لا يصح العفو عنه

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [180]

هذا منسوخ

(2)

كما تبين في كتاب الناسخ والمنسوخ، وقيل محكم خاص

(3)

بمن لا يرث من الوالدين كالكفار والأقربين المحجوبين، واختلف أصحاب هذا القول هل الوصية لهم واجبة لقوله:{كُتِبَ} و {حَقًّا} ، أو مندوبة لقوله:{بِالْمَعْرُوفِ}

(4)

.

(1)

لأنّ الله توعده بعذاب أليم، على القول بأن العذاب الأليم هو القتل، وورد في الحديث المرسل عن قتادة «لا أعافي أحدًا قتل بعد أخذ الدية» ، وهو يعتبر جانيًا عمدًا أو أشبه الجاني ابتداءًا.

(2)

واختلفوا في الناسخ، فقيل: آية المواريث {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} قاله ابن عباس وغيره، وقيل حديث «لا وصية لوارث» ورجحه الجصاص.

(3)

رجح الطوفي التخصيص؛ لأنّ التخصيص أيسر من النسخ، فكان التزامه أولى، وفيه جمع بين الأقوال، ويشترط في النسخ عدم إمكانية الجمع، وهنا ممكن.

(4)

قال ابن الفرس في أحكام القرآن (1/ 178): لأنّ الواجب لا يقال فيه أنه معروف

قلت: لعله نظر إلى أن المعروف يقع في الغالب على الزائد المتفضل من الأعمال، كقولهم:(اصنع معروفًا، واحمل عني) ومما يؤيد كون الوصية في الآية على الندب. كون الشارع قيدها بالمتقين {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} والواجبات لجميع الناس، ولا يختص المتقون فيها عن غيرهم.

وأجيب: بأنّه للتأكيد كما سيأتي.

ومما يؤيد كونها للندب في حق غير الورثة، أن الواجب إذا نسخ بقي الاستحباب، ذكره الموزعي في تيسير البيان (1/ 219).

وأما تأكيد الاستحباب من خارج الآية؛ فلأن أكثر الصحابة لم ينقل عنهم وصية، أي تركت من غير نكير، كما أنها عطية، لا تجب في الحياة، فلا تجب بعد الموت، كعطية الأحياء.

لكن العلماء لم يسلموا دلالة المعروف هنا على الندب؛ لأن المعروف معناه هنا العدل الذي لا شطط فيه، لقوله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ولا خلاف في وجوب الرزق والكسوة.

ذكر المعروف هنا ليؤكد وجوب الوصية، إذا كان جميع أوامر الله معروفًا غير منكر، فضد المعروف المنكر، وما ليس بمعروف منكر.

ص: 72

واستدل محمد بن الحسن بالآية على أن مطلق الأقربين لا يتناول الوالدين لعطفه عليه

(1)

.

قوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} الآية [181].

قال إلكيا: يدل على أن الفرض يسقط عن الموصي بنفس الوصية، فإن إثم التبديل لا يلحقه

(2)

وعلى أن من كان عليه دين فأوصى بقضائه يسلم من تبعته في الآخرة، وإن ترك الوصِي والوارث قضاءه

(3)

.

قال ابن الفرس: ومن أحكام الآية أن الموصى إليه بشيء خاص لا يكون وصياً في غيره خلافاً لأبي حنيفة، والحجة عليه:{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} وهذا من أعظم التبديل

(4)

.

‌قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} الآية [182].

قال إلكيا وغيره: أفادت الآية أن على الوصي والحاكم والوارث وكل من وقف على جور في الوصية من جهة العمد أو الخطأ ردها إلى العدل، وأن قوله:

(1)

لأن العطف يقتضي المغايرة، ويرى محمد بن الحسن أن الأقربين هم الذين يدلون للموصي بواسطة لا بأنفسهم بخلاف الوالدين، وكذا أولاد الصلب، فولد الولد عنده من الأقارب.

(2)

منطوق الآية {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} ومفهومه: عدم الإثم على من لم يبدله.

(3)

إن كان يعلم أنهم غير أمناء، فعليه توثيق وصيته، وإلّا فهو آثم؛ لأنّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

(4)

قال ابن الفرس في أحكام القرآن (1/ 181): «فإنه يكون عنده كالوكيل المفوَّض إليه، ينظر في ذلك وغيره» .

ص: 73

{بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} خاص بالوصية العادلة دون الجائرة

(1)

.

وفيها الدلالة على جواز الاجتهاد والعمل بغالب الظن؛ لأن الخوف من الميل يكون في غالب ظن الخائف.

وفيها رخصة في الدخول بينهم على وجه الإصلاح، مع ما فيه من زيادة أو نقصان عن الحق بعدما يكون ذلك بتراضيهم

(2)

.

قال ابن الفرس: ويؤخذ من الآية أيضاً أنه إذا أوصى بأكثر من الثلث لا تبطل الوصية كلها، خلافاً لزاعمه، وإنما يبطل منها ما زاد عليه؛ لأنه تعالى لم يبطل الوصية جملة بالجور فيها بل جعل فيها الوجه الأصلح.

•‌

‌ قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [183]

فيه فرض الصوم

(3)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [184]

استدل به من أباح الفطر بمجرد المرض وإن كان يسيراً، أو بمجرد السفر وإن

(1)

دليل التخصيص آية النساء {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} وسياق الآية {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي: لا يلحقه إثم التبديل المذكور.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «وإن كان أوصى في ضرار لم تجز وصيته، كما قال: {غَيْرَ مُضَارٍّ}» .

(2)

وهذا فيه تبديل لكنه مرخص فيه، وقال مقاتل بن سليمان في تفسيره (1/ 160):«إن جار الميت في وصيته عمدًا، أو أخطأ، فلم يعدل، فخاف الوصي أو الولي من جور وصيته {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} بين الورثة بالحق والعدل، {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} حين خالف جور الميت {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} للمصلح، {رَحِيمٌ} به؛ إذ رخص في مخالفته» .

(3)

مأخذه الإخبار بالحكم {كُتِبَ} الدال على الوجوب والفرضية.

ص: 74

كان قصيراً

(1)

، أو غير طاعة أو غير مباح

(2)

.

واستدل به أبو داود

(3)

على أنه لا يصح صوم المريض والمسافر؛ لأنه تعالى جعل الواجب عليه أياماً أخر فكان صائماً قبل الوقت.

واستدل به الكرخي على أن الواجب أيام أخر ورمضان عليهما غير واجب فإن قُدِّم صح وكان معجلاً كتعجيل الزكاة.

واستدل بقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} على جواز القضاء متتابعاً ومتفرقاً

(4)

.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إن شاء تابع وإن شاء فرق؛ لأن الله تعالى يقول: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .

(1)

لورود {مَرِيضًا} و {سَفَرٍ} نكرتان في سياق الشرط، فيعمّ المرض اليسير، والسفر القصير.

ومن المآخذ كذلك العمل بأقل ما ينطلق عليه الاسم، فالعبرة بأوائل الأسماء.

وقيّده الجمهور بالمرض الذي يعسر الصوم معه، تحصيلًا لمصلحة العبادة، وقيدوا السفر بما تقصر به الصلاة.

(2)

مأخذه: ما سبق من عموم السفر؛ لكونه نكرة في سياق الشرط،، فيعم سفر الطاعة وسفر المعصية أو غير المباح.

والمقصود بالسفر المعصية: ما كان السفر ذاته معصية، كسفر الآبق، والناشز، ومن سافر للحرام، وفيه وقع الخلاف بين العلماء، هل يترخص برخص السفر، وهل تناط الرخص به، بخلاف السفر المباح الذي وقعت فيه المعصية، فالمعصية بالسفر، لا السفر ذاته، فإنّ الرخص تناط به.

(3)

أي استدل أبو داود بقوله تعالى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، أي فعليه عدة، ولا حذف في الكلام ولا إضمار، وعضَّده بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم (ليس من البر الصيام في السفر) كما عند البخاري (1844)، ومسلم (1115). وأما الجمهور فقد قدروا في الكلام محذوفاً، أي من كان منكم مريضاً أو مسافراً فأفطر فعليه عدَّة من أيام أخر، وأيدوا ذلك بمثل قول أنس رضي الله عنه:(كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم) أخرجه البخاري (1947)، ومسلم (1118) واللفظ له.

(4)

مأخذه: تنكير {أَيَّامٍ أُخَرَ} فهو مطلق يصدق على المتابعة والمتفرقة، وكذا قول ابن عباس الذي ذكره المصنف.

ص: 75

واستدل به على أنه ليس على الفور، خلافاً لدواد

(1)

، وعلى أن من أفطر رمضان كله قضى أياماً بعدده، فلو كان تاماً لم يجزه شهر ناقص، أو ناقصاً لم يلزمه شهر كامل، خلافاً لمن خالف في الصورتين

(2)

.

قال ابن القصار: ويحتج به لمذهب مالك والشافعي في أن المسافر إذا أقام، أو شفي المريض أثناء النهار، لا يلزمهم الإمساك بقيته؛ لأنه تعالى إنما أوجب عدة من أيام أخر، وهؤلاء قد أفطروا، فحكم الإفطار لهم باقٍ، ومن حكمه أن لا يجب عليه أكثر من يوم، ولو أمرناه بالإمساك ثم القضاء لأوجبنا بدل اليوم أكثر منه.

ويستدل بالآية على أنه يجزيء صوم يوم قصير مكان يوم طويل

(3)

، ولا أعلم فيه خلافاً، وعلى أنه لا فدية مع القضاء

(4)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} .

هذا منسوخ

(5)

وقيل لا، والمراد لمن لا يطيق الصوم لهرم أو مرض أو نحوه،

(1)

الخلاف في الأمر في قوله: {فَعِدَّةٌ} أي: فعليه عدة، هل يقتضي الفور أو التراخي؟، ومن قال: بالفور صرفه بفعل عائشة رضي الله عنها، وتأخيرها القضاء، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لها، وفيه قولها كما عند مسلم «كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان» أخرجه البخاري (1950)، ومسلم (1146).

(2)

قال ابن الفرس (1/ 190 - 191)«لأنّ ظاهر الآية أن المفطر أيامًا، صام بعدد الأيام التي أفطرها، ومن لم يفرق بين أن تكون تلك الأيام شهرًا أولا تكون، فقال سبحانه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ولم يقل فشهر من أيام أخر» .

(3)

مأخذه: تنكير {أَيَّامٍ} فهو مطلق، فيدخل فيه اليوم الطويل والقصير، فيجرى على إطلاقه دون مراعاة زمنه.

(4)

لأن المقام مقام تشريع وبيان مع سكوت الشّرع، وما سكت عنه فهو عفو، ولا واجب إلّا ما أوجبه الله.

(5)

وناسخه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .

ص: 76

إما بتقدير لا النافية، أو أن يطيقونه بمعنى يتكلفونه كما قرئ يطوقونه، قال: يكلفونه، أي فلا يطيقونه.

وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس لأنه قرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}

قال: يكلفونه، وهو الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، يطعمون كل يوم مسكيناً ولا يقضون، وله طرق كثيرة عنه.

وأخرج الدارقطني عنه أنه قال لأم ولد له حبلى أو مرضع: أنتِ من الذين لا يطيقون الصيام، عليك الجزاء، وليس عليك القضاء.

قال الشافعي: ظاهر الآية أن الذين يطيقون الصوم إذ لم يصوموا أطعموا، ونسخ في غير حق الحامل والمرضع، وبقي في حقهما.

فالحاصل أنَّا إن جعلناها منسوخة فهي في الحامل والمرضع محكمة، وإن جعلناها محكمة ففيها دليل على إباحة الإفطار لمن لا يطيق لعذر لا يرجى برؤه، وأن عليه فدية بدل الصوم، وأنها عن كل يوم قدر طعام مسكين، وهو مُدُّ من حبّ، وأن من زاد على ذلك فهو أفضل

(1)

، وأن مصرفها طائفة المساكين بخلاف غيرهم من أهل الزكاة.

وقد يستدل بالآية على أن الصوم لا يقبل النيابة وإلا لذكرها

(2)

.

واستدل بها ابن عباس على أن الحامل والمرضع يفديان ولا قضاء عليهما

(3)

.

(1)

لقوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} أي: أخير.

(2)

أي: لذكر الإنابة بدل الإطعام؛ لأنّ المقام مقام تشريع لأصحاب الأعذار، فأوجب على المكلف أن يصوم بنفسه في قوله:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، أو يقضيه بنفسه بقوله:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} الآية، فانتفى أن يصوم غيره عنه.

(3)

سبق تفسيره لقوله (يطوقونه) باعتبار أنهما لا يطيقانه، وكما سيأتي من كلام المصنف ونقله.

ص: 77

قال أبو عبيد: اختلف الناس في الحامل والمرضع فقيل عليهما الفدية دون القضاء، وقيل: القضاء دون الفدية، وقيل الأمران وكل تأول الآية، من قال بالفدية فقط: رأى أنهما ممن لا يطيق وليستا من أهل السفر والمرض، وأهل هذا الوصف هم أهل الفدية، ومن رأى القضاء فقط: رأى الحمل والرضاع علتين من العلل كالمرض، ومن أوجبهما قال: إن الله حكم في تارك الصوم بعذر بحكمين القضاء في آية، والفدية في أخرى، فلما لم يجد لهما ذكراً في واحد منهما جمعهما عليهما، أخذاً بالأحوط

(1)

.

واستدل بالآية على أن المسافر والمريض يفديان ولا يقضيان، أخذاً من عموم اللفظ

(2)

.

ورد لأن قوله تعالى أولاً في حقهما: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} يمنع دلالة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} عليهما؛ لأن ما عطف على الشيء غيره لا محالة.

وفي الآية رد على من قال بإسقاط الصوم عن الشيخ ونحوه بلا فدية

(3)

، وعلى من جوز الفدية فيه بالعتق

(4)

.

(1)

يجاب عنه أنَّ الفدية ما قام مقام الشيء وأجزأ عنه، فغير جائز على هذا الوضع اجتماع القضاء والفدية؛ لأنّ القضاء إذا وجب فقد قام مقام المتروك، فلا يكون الإطعام فدية، وإن كانت فدية صحيحة فلا قضاء؛ لأنّ الفدية قد أجزأت عنه، وقامت مقامه. الجصاص (1/ 221).

(2)

اسم موصول في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ، قال الجصاص في أحكام القرآن (1/ 216):«فغير جائز أن يكون هؤلاء {الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} هم المرضى والمسافرين؛ إذ تقدم ذكر حكمهما، وبيان فرضهما بالاسم الخاص لهما، فغير جائز أن يعطف عليهما بكناية عنهما مع تقديمه ذكرهما منصوصًا معينًا» .

(3)

لقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ} و (على) من الصيغ الدالة على الوجوب، باعتبار أن الآية للجميع، فيدخل الشيخ ونحوه.

(4)

أي: رد عليه، وذلك لقوله (اطعام).

ص: 78

•‌

‌ قوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}

قال ابن الفرس: يحتج بها على جواز التطوع بصوم يوم الشك؛ لعموم قوله {خَيْرًا}

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}

قال ابن الفرس: يحتج بها على أن الصوم لمن أبيح له الفطر أفضل ما لم يجهده.

•‌

‌ قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [185]

استدل به من كره أن يقال رمضان، وإنَّما يقال شهر رمضان

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}

يستدل به مع قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} على أن ليلة القدر في رمضان ليست في غيره، خلافاً لمن زعم أنها ليلة النصف من شعبان.

•‌

‌ قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}

استدل به من قال من الأصوليين بوجوب الصوم على المسافر والمريض والحائض؛ لأنهم شهدوا الشهر

(3)

.

واستدل به من قال لا قضاء على من مر عليه رمضان وهو مجنون؛ بناء على

(1)

وجه العموم أن {خَيْرًا} نكرة في سياق الشرط، فتعمّ كل خير، والصوم خير فيدخل في العموم.

(2)

أي: كما في الآية، والكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل، كيف وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:«إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة» ، أخرجه مسلم (1079)، وحديث «من صام رمضان إيمانا واحتسابًا» أخرجه البخاري (2014)، ومسلم (760)، كل ذلك يدل على عدم الكراهية.

(3)

فالشهود علة الوجوب؛ لاقتران الحكم بالوصف {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وهؤلاء قد شهدوه.

ص: 79

أن {شَهِدَ} بمعنى: علم.

واستدل به من قال يقضي، وفسر:{شَهِدَ} بمعنى: أدرك.

واستدل به أبو حنيفة على أن من شهد بعض الشهر لزمه صوم الشهر كله، وإن سافر لم يبح له الفطر، ووجهه أنه لا يمكن أن يراد به شهود جميع الشهر؛ لأنه لا يكون شاهداً لجمعيه إلا بعد مضيه كله، ويستحيل أن يكون مضيه كله شرطاً للزوم صومه كله؛ لأن الماضي من الوقت يستحيل إيقاع الصوم فيه، فعلم أنه لم يرد شهود جمعيه، فالتقدير: من شهد منكم بعض الشهر فليصم ما لم يشهد منه.

وقد أخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر في قول: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} قال من أدركه رمضان في أهله ثمَّ أراد السفر فليصمه.

وأخرج ابن أبي حاتم عن علي قال: من أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر بعد لزمه الصوم؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} قال: هو إهلاله بالدار.

واستدل بالآية على إجزاء صوم الأسير إذا صام بالاجتهاد ووافق رمضان، خلافا للحسن بن صالح، وعدمه إذا صادف ما قبله

(1)

، وعلى أن من رأى الهلال

(1)

الأسير إن اجتهد وصام، إمّا يوافق اجتهاده الواقع، وإمّا أن يصادف ما قبله، أو يصادف ما بعده، فالاحتمالات ثلاث، وعلى القول بأن (شهد) بمعنى: أدرك، فإن صام بعده فإنّه يجزئه قولًا واحدًا، أداءً أو قضاءً، وإن صام قبله فإنّه لم يشهده -لم يدركه- فلا يجزئه كما قال المصنف؛ ويكون نافلة، ويلزمه الأداء أو القضاء بعد شهوده.

وأمّا إن صادف فإنّه يجزئه كما قال المصنف؛ لدخوله في عموم الآية؛ لأنّه مدرك له سواء بالحجة القاطعة، أو الاجتهاد.

ص: 80

وحده لزمه الصوم بنفسه

(1)

، خلافاً لمن قال لا يلزمه إلا بحكم الإمام

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .

هذا أصل لقاعدة عظيمة ينبني عليها فروع كثيرة، وهي أن المشقة تجلب التيسير، وهي إحدى القواعد الخمس التي ينبنى عليها الفقه، وتحتها من القواعد قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، وقاعدة إذا ضاق الأمر اتسع، ومن الفروع ما لايحصى كثرة، والآية أصل في جميع ذلك.

وقد يستدل بالآية على أحد الأقوال في مسألة تعارض المذاهب والروايات والاحتمالات، هل يؤخذ بالأخف أو بالأقوى أو بأيهما شاء؟.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}

فيه دليل على اعتبار العدد إذا لم ير الهلال، ولا يرجع فيه لقول الحساب والمنجمين

(3)

.

واستدل به أبو حنيفة على أن من صام تسعة وعشرين باعتبار رؤية بلده وقد صام أهل بلدة أخرى ثلاثين أنه يلزم أولئك قضاء يوم؛ لأنه ثبت برؤية تلك البلدة أن العدة ثلاثون، فوجب على هؤلاء إكمالها

(4)

.

(1)

لعموم (من) في الآية {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} .

(2)

لأن (الصوم حين يصوم الناس) كما في الحديث، وصوم الناس يكون بإخبار الإمام؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنه «تراءى الناس الهلال فأخبرت النّبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصامه وأمر الناس بصيامه» أخرجه أبو داود (2342)، وقال الألباني في صحيح أبي داود (2028):" إسناده صحيح ".

(3)

لأنّ اللام في قوله: {وَلِتُكْمِلُوا} فتحتمل أنّها لام الأمر، أي: لتكملوا عدد أيام الشهر، بقضاء ما أفطرتم في مرضكم وسفركم

ويؤيد ذلك قراءة التشديد (ولتكّملوا).

(4)

على القول بعدم اعتبار أثر اختلاف المطالع، وعند اتحادها فيجب عليهم الإكمال؛ لتحقق المشاهدة حكما لا حقيقة.

أمّا من يرى أن للاختلاف أثرًا، فإنّه يعتبر رؤية كل قوم في بلدهم، ويستدلون بعموم قوله عليه السلام «صوموا لرؤيته» وهؤلاء لم يروه، والحديث أخرجه البخاري (1909)، ومسلم (1081).

ص: 81

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ}

فيه مشروعية التكبير لعيد الفطر

(1)

، وأن وقته من إكمال العدة، وهو غروب شمس آخر يوم من رمضان.

أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: حقاً على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبروا الله حتى يفرغوا من عيدهم

(2)

؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} .

قال ابن الفرس: والآية حجة على من ذكر أثناء التكبير تهليلاً وتسبيحاً، وحجة لمن لا يرى إلا التكبير

(3)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} الآية [186].

فيه تنزيهه تعالى عن المكان

(4)

، وإجابته

(1)

سبق أن اللام تحتمل أن تكون لام الأمر، ويؤيده قول ابن عباس رضي الله عنهما الذي ذكره المؤلف.

(2)

قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (24/ 221): «وهو فراغ الإمام من الخطبة على الصحيح» .

(3)

لعدم ذكر التهليل والتسبيح في الآية، والاقتصار على التكبير المذكور في الآية.

لكن فُسر قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} بالتحميد؛ إذ القول: الحمد لله شكر لله بالقول، قال ابن تيمية (24/ 230 - 231) «فقرن بتكبير الأعياد الحمد. فقيل: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد؛ لأنه قد طلب فيه التكبير والشكر».

(4)

وجه هذا القول عند من يقول به هو أنه تعالى لو كان في المكان لما كان قريباً من الكل، بل كان قريباً من حملة العرش وبعيداً عن غيرهم، ولكان إذا كان قريباً من زيد الذي هو بالمشرق كان بعيداً من عمرو الذي في المغرب .. الخ نقله المحقق عن الفخر الرازي في تفسيره (5/ 96).

ومذهب أهل السنة والجماعة أن الله فوق سماواته مستو على عرشه، وهذا لا ينافي قربه ومعيته؛ فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو عليٌّ في دنوه، قريب في علوه. نقله المحقق بتصرف من الواسطية لابن تيمية مع شرح الهراسي وعفيفي (114 - 116)، وانظر: حاشية (11)(1/ 357 - 358).

ص: 82

الداعي

(1)

، والترغيب في الدعاء

(2)

، وأورد الصوفية هذه الآية في باب الأنس، وهو عبارة عن روح القرب

(3)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [187]

فيه إباحة الجماع وسائر أنواع الاستمتاع للصائم ليلاً

(4)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} .

قيل: إنه كناية عن المعانقة

(5)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} - إلى قوله - {مِنَ الْفَجْرِ} .

فيه إباحة الجماع وأنواع المباشرة والأكل والشرب إلى تبين الفجر

(6)

،

(1)

لأنّه علق الإجابة على الدعاء {إِذَا دَعَانِ} والمعلق على شرط يثبت بثبوته، وعلق كذلك بشروط أخرى في الآية {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} .

(2)

للأمر، والإخبار بالقرب، ويشمل الدعاء هنا، دعاء المسألة، ودعاء العبادة، كقوله:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

(3)

ومعناه عند الصوفية: نعيم القرب وراحته.

ولاشك أن قرب العبد من ربه موجب له الأنس، فكل مطيع مستأنس، وكل عاص مستوحش، فالأنس ثمرة الطاعة والمحبة، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} .

(4)

للإخبار عن الحكم بلفظ الحل {أُحِلَّ لَكُمْ} .

(5)

الكناية: لفظ أريد لازم معناه، وهنا يريد الجماع (المعانقة) وكنى باللباس الذي هو لازم للفظ

وذكر السيوطي في الإتقان (4/ 1556 - 1558) في النوع الرابع والخمسين في كنايات القرآن، أن الكناية أبلغ من التصريح، وأن من أسبابها: إن كان التصريح مما يستقبح ذكره، ككناية الله عن الجماع بالملابسة والمباشرة والإفضاء والرفث والدخول والسر في قوله:{وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} والغشيان في قوله: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} ثم قال: أو عن المعانقة باللباس في قوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} .

(6)

لأن قوله: {بَاشِرُوهُنَّ} أمر بعد حظر فيفيد الإباحة.

ص: 83

وتحريم المذكورات نهاراً

(1)

.

واستدل به على صحة صوم الجنب؛ لأنه يلزم من إباحة الجماع إلى تبين الفجر إباحته في آخر أجزاء الليل، ويلزم من ذلك بطريق الإشارة طلوع الفجر وهو جنب.

ومن منعه قال: إن الغاية متعلقة بكلوا واشربوا دون باشروهن.

وقد يستدل به بالطريق المذكورة على أنه لا يجب تجديد النية إذا جامع أو أكل بعدها

(2)

.

واستدل به على جواز لمن شك في طلوع الفجر؛ لأنه تعالى أباح الأكل إلى التبين ولا تبين مع الشك، خلافاً لمالك

(3)

.

واستدل به مجاهد على عدم القضاء والحالة هذه إذا بان أنه أكل بعد الفجر؛ لأنه أكل في وقت أذن له فيه

(4)

.

وأخرج سعيد ابن منصور عنه، قال: إذا تسحر الرجل وهو يرى أن عليه ليلاً وقد كان طلع الفجر فليتم صومه؛ لأن الله تعالى يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ

(1)

يؤخذ من مفهوم الغاية من قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} ومفهومه ما لم يتبين تحرم تلك المذكورات، وكذا يؤخذ من مفهوم قوله:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} .

(2)

لأنه لم يلتبس بالعبادة التي هي الصوم والإمساك. وقيل: يضُرُّ الأكل بعد النية، فيجددها تحرزاً عن تخلل المناقض بينها وبين العبادة، لما تعذر اقترانها بها. وكونه دلالة إشارة لأن هذا الحكم ليس مقصوداً من سوق اللفظ، بل كان تبعاً.

(3)

مفهوم الآية: أنه إن لم يتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود؛ فإنّه يحل لنا الأكل، وضد التبيين: الظن والشك.

وعليه يجوز الأكل لمن شك في طلوع الفجر، وصحّ عن ابن عباس رضي الله عنهما «كل ما شككت حتى يتبين لك» ، وكذا استصحابًا لليل.

(4)

أخذً بمفهوم الغاية، {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} وهذا لم يتبين له، وعلى استصحاب الليل.

ص: 84

لَكُمُ}، وإذا أكل وهو يرى أن الشمس قد غابت ولم تغب فليقضه؛ لأن الله تعالى يقول {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}

(1)

.

واستدل به اللخمي على إجزاء النية مع طلوع الفجر؛ لأنه إذا كان الأكل مباحاً إلى الفجر لم تجب النية إلا في الموضع الذي يجب فيه الإمساك

(2)

.

واستدل به قوم على صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو يجامع فنزع في الحال، أو في فيه طعام فلفظه، بطريق الإشارة السابقة

(3)

.

قلت: ويستدل بقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} على أن المراد بالفجر في الصوم ونحوه من الأحكام ما يظهر لنا لا ما في نفس الأمر

(4)

، وبقوله:{الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} على أن المراد بالفجر المعترض

(5)

دون المستطيل، بقرينة قوله:{الْخَيْطُ} كما لا يخفى.

وفي الآية رد على من جعل أول الصيام من طلوع الشمس

(6)

.

(1)

ومفهوم غايته: أنّه إذا لم يتمه فأكل وشرب، فإن عليه القضاء، وعلى استصحاب النهار.

واختلف أهل العلم هل علق الحكم على التبيين لنا، أو على ما في نفس الأمر؟

وما نقله المؤلف عن سعد بن منصور، يتجه نحو أن التعليق على التبيين لنا، لذا قال:«وهو يرى أن عليه ليلًا» .

(2)

بدلالة الإشارة؛ إذا الحكم ليس مسوقًا لحكم النية، بل مسوق لوقت الإفطار.

(3)

وهذا باعتبار أن النزع ليس بجماع، وهو للشافعية والحنفية، وأحد قولي المالكية، حتى لو خرج المني، فهو كالاحتلام، أمّا عند المالكية رواية والحنابلة فإنّ الصوم يفسد؛ لأنّ النزع جماع يتلذذ به.

(4)

لأنّه علق التبيين لنا بقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} .

(5)

وهو الفجر الثاني، الذي علق عليه الحكم، والخيط ضوء النهار بطلوع الفجر من ظلمة الليل وسواده.

(6)

لأن طلوع الشمس يجعل البياض ينتشر فلا يكون خيطًا، وقوله:{الْخَيْطُ} قرينة تمنع القول بأن المراد انتشار البياض، واستفاضته في السماء، حتى يملأ بياضه الطرق، فلم يصح خيطًا.

وسبب الخلاف: هو الاشتراك في اسم الفجر، فيقال: على الأبيض والأحمر

وذكر ابن الفرس (1/ 210) أن العلماء اختلفوا في أول النهار، فقيل: الفجر، وقيل: طلوع الشمس، ثم اختلفوا ما بينهما هل هو من النهار، فلا يجوز الأكل أو من الليل فيجوز.

ص: 85

وقوله: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} فسره ابن عباس في رواية بالولد

(1)

، وفي أخرى بليلة القدر، أخرجهما ابن أبي حاتم، ففيه استحباب طلب ليلة القدر

(2)

وأن ينوي بالجماع النسل ولإقامة السنة دون مجرد اللذة

(3)

.

وقال قتادة وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم، ففيه كراهية ترك الرخصة واستحباب فعلها

(4)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} .

استدل بعمومه على الإفطار باليسير وبما لا يغذي

(5)

.

(1)

لتفسير ابن عباس رضي الله عنهما؛ ولأنّ عقيب قوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} بمعنى: جامعوهن.

(2)

وهو قول ابن عباس وتفسيره حجة، قال ابن القيم في تحفة المودود (9): «

لكن يبقى أن يقال: فما تعلق ذلك بإباحة مباشرة أزواجهم؟ فيقال: فيه إرشاد إلى أن لا يشغلهم ما أبيح لهم من المباشرة عن طلب هذه الليلة التي هي خير من ألف شهر

إلخ».

(3)

قال ابن القيم: «أرشدهم سبحانه إلى أن يطلبوا رضاه في مثل هذه اللذة، ولا يباشروها بحكم مجرد الشهوة، بل يبتغوا بها ما كتب الله لهم من الأجر، والولد الذي يخرج من أصلابهم يعبد الله ولا يشرك به شيئا» .

(4)

المقصود بالرخصة هنا: التخفيف، لا المصطلح المعروف، والرخصة التي كتبها الله هي الأكل والجماع لمن نام ليلة رمضان بعد منعه، ومن لم ينم، واستحبابها دلّ عليه قوله عليه السلام، «إنّ الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته» . رواه أحمد وصححه الألباني.

(5)

ركن الصوم الإمساك وإتمامه ينتقض باليسير وبما لا يغذي.

وقال ابن رشد في بداية المجتهد (2/ 52): «وسبب اختلافهم في هذا قياس غير المغذي على المغذي، وذلك أن المنطوق به إنما هو المغذي، فمن رأى أن المقصود بالصوم معنى معقول لم يلحق غير المغذي بالمغذي، ومن رأى أنها عبادة غير معقولة، وأن المقصود منها إنما هو الإمساك فقط عما يرد الجوف سوى بين المغذي وغير المغذي» .

ص: 86

واستدل به على أنه لا يجوز الأكل لمن شك في الغروب

(1)

، وعلى تحريم الوصال

(2)

.

روى أحمد من طريق ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وقال:(يفعل ذلك النصارى، ولكن صوموا كما أمر الله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، فإذا كان الليل فأفطروا)

(3)

.

وروى الطبراني في الأوسط بسند لا بأس به عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واصل يومين فأتاه جبريل فقال: إن الله قبل وصالك ولا يحل لأحد بعدك، وذلك بأن الله قال:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ، فلا صيام بعد الليل

(4)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} .

فيه مشروعية الاعتكاف واختصاصه بالمسجد

(5)

، وعدم اختصاصه

(1)

باتفاق العلماء؛ لأنّ قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} أمر يقتضي الوجوب، و {إِلَى اللَّيْلِ} غايته، والليل الذي يتم به الصيام مغيب قرص الشمس.

(2)

لأنّ الصيام والإمساك مغيا إلى الليل، ومفهومه: عدم الصيام بالليل، فلا صيام بالليل، وأكدت ذلك السنة بتحريمه.

(3)

المسند (5/ 225)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 158) رجاله رجال الصحيح، وصحح إسناده ابن حجر في فتح الباري (4/ 254).

(4)

أخرجه الطبراني في الأوسط (3206)، وقال الشيخ مصطفى العدوي في تحقيقه للإكليل ص (99):"ضعيف وفيه رجل مجهول، قال الهيثمي في المجمع (3/ 158) ولم أعرف عبد الملك، وكذا الحافظ في الفتح (4/ 254) ".

(5)

لأنّ الواو في قوله: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} حالية، أي: حال كونكم عاكفين في المساجد، فدلت الآية ضمنًا على الحكمين مشروعية الاعتكاف، وكونه في المسجد.

وسبق الحديث عن مشروعية الاعتكاف عند قوله: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} .

والاختصاص بالمسجد دلت عليه السنة، فلم يعتكف الرسول صلى الله عليه وسلم إلّا في مسجد.

ص: 87

بالجامع

(1)

، أو المساجد الثلاثة

(2)

، وتحريم المباشرة فيه

جماعاً وغيره

(3)

.

واستدل به بعضهم على أنه إذا خرج من المسجد فجامع خارجاً لا يبطل اعتكافه؛ لأن حصر المنع من المباشرة حال كونه في المساجد

(4)

.

قال إلكيا: ويجاب بأن معناه لا تباشروهن حال ما يقال لكم إنكم عاكفون في المساجد، ومن خرج من المسجد لقضاء الحاجة فاعتكافه باقٍ.

استدل به بعضهم على أن الاعتكاف يصح في غير المسجد، وأن تحريم المباشرة خاص بمن اعتكف في المسجد فاعتبر مفهوم:{فِي الْمَسَاجِدِ} ، والجمهور اعتبروا مفهوم:{عَاكِفُونَ} .

(1)

لعموم قوله: {فِي الْمَسَاجِدِ} ومن خصه بالجامع، إمّا لقول صحابي، كعلي وابن مسعود، أوللمصلحة حتى لا يضطر إلى الخروج للجمعة.

(2)

لعموم قوله: {فِي الْمَسَاجِدِ} ومن خصه ببعض المساجد، إما لقول صحابي، أو لفضيلة في المسجد كالثلاثة التي تشد لها الرحال، أو لكونه معهودًا للشارع، كمن خصص الاعتكاف بالمسجد الحرام، وجعل الآية من العام المراد به الخصوص، كقوله:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} والمراد بها: المسجد الحرام، بحجة أن المسجد إذا أطلق فإن معهود الشارع يكون للمسجد الحرام.

(3)

لأنّ المباشرة تقع على الوقاع وعلى ما دونه بشهوة وبغير شهوة، إمّا اشتراكًا، وإمّا حقيقة ومجازًا.

وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن المباشرة بغير شهوة غير مرادة لله تبارك وتعالى، فقد كان يُدني رأسه غلى عائشة رضي الله عنها، فترجله.

ولا شك أن الوقاع مراد الله تبارك وتعالى. انظر: تيسير البيان للموزعي (1/ 270).

قلت: ولعل عمومه؛ لأنّ قوله: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} نكرة في سياق النهي، والتحريم مستفاد من النهي {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} .

(4)

أُخذاً من مفهوم الظرف {فِي الْمَسَاجِدِ} لكن مفهومه غير مراد؛ لأنّه خرج لبيان واقع الصحابة الذين نزلت عليهم الآية، فكانوا يجامعون إذا خرجوا لقضاء الحاجة.

ص: 88

واستدل به أبو حنيفة على صحة اعتكاف المرأة في غير المسجد دون الرجل؛ بناء على أنها لا تدخل في خطاب الرجال، وعلى اشتراط الصوم في الاعتكاف؛ لأنه قصر الخطاب على الصائمين فلو لم يكن الصوم من شرط الاعتكاف لم يكن لذلك معنى

(1)

، وعلى أنه لا يكفي فيه أقل من يوم كما أن الصوم لا يكون أقل من يوم

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الآية [188].

فيه تحريم أكل المال بغير وجه شرعي، وله صور كثيرة

(3)

.

روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان يكره أن يبيع الرجل الثوب ويقول لصاحبه إن كرهته فرد معه درهماً، فهذا مما قال الله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} .

(1)

أي: لم يكن للاقتران معنى، ودلالة الاقتران بين الصوم والاعتكاف يستأنس بها، والسنة بيان للقرآن، وكل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في اعتكافه فهو وارد مورد البيان، فيجب أن يكون على الوجوب؛ لأنّ فعله لبيان الشرعيات، فهو على الوجوب إلّا ما قام دليله، فلما ثبت عن النّبي صلى الله عليه وسلم قوله:«لا اعتكاف إلّا بصوم» وجب أن يكون الصيام من شروطه، قاله الجصاص (ا/ 298).، والحديث أخرجه أبو داود (1539) وصححه الألباني.

ومن العلماء من ذهب إلى عدم اشتراط الصوم، وهو مروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهم؛ استدلالًا بما أخرجه البخاري، أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله: «إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له: أوف بنذرك» أخرجه البخاري (6697). والليل ليس محلًا للصوم.

(2)

فهو مبني على القول باشتراط الصوم.

قال الجصاص في أحكام القرآن (2/ 297): «تحديد مدة الاعتكاف لا يصح إلّا بتوقيف، أو اتفاق، وهما معدومان» .

وعلى القول بأن اعتكافه عليه السلام بيان للآية، فأقله عشرة أيام.

وعامة الفقهاء: لا حد لأقله.

(3)

قيل: تنحصر في: جحد ما يجب على الانسان بذله من وديعة أو زكاة، ودعوى ما ليس من حقه. وقيل: إنّ أصول المعاملات المحرمة: الربا، والظلم، والغرر.

ص: 89

وفيه تحريم الرشوة كما فسر بها قوم. {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ}

(1)

وتحريم المخاصمة بغير حق

(2)

، قال مجاهد في الآية: لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم، أخرجه سعيد بن منصور.

وفيه: أن حكم الحاكم لا يحل باطلاً

(3)

، وأنه يحكم بالظاهر وهو مصيب في فعله لا في الواقع

(4)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [189].

فيه أن كل شهر اعتبره الشرع فهو هلالي لا عددي

(5)

.

واستدل به الحنفية على جواز الإحرام بالحج في كل السنة

(6)

، والآية في الحقيقة دليل عليهم لا لهم؛ لأنه لو كان كما قالوا لم يحتج إلى الهلال في ذلك،

(1)

فيكون التحريم للنهي، كما أن المولى وصف الفعل بالإثم في قوله:{لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ} ، فالسياق سياق ذم يقتضي التحريم.

والمعنى: تدلوا في الأموال إلى الحكام بإعطائهم إياها على سبيل الرشوة ليحكموا لكم بغير حق، أو يدلي بالأمر إلى الحكام فيأتي بدعوى باطلة، ويؤيدها بشهادة زور، وما أشبه ذلك.

(2)

لقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ففيها ذم من يخاصم وهو يعلم أنّه ظالم، والمخاصمة: الإدلاء للحكام. والتحريم لما سبق أن المولى وصف الفعل -وهو أكل المال - بالإثم.

(3)

وصف الفعل -الذي هو الإدلاء بها عند الحكام وحكمهم لهم بها- بأنّه أكل للمال بالإثم.

(4)

فقد يصيب الواقع وقد لا يصب، ووجهه من الآية: أن الآية حذرت المؤمنين من التحايل على أكل أموال الناس بالباطل عند الحكام؛ للدلالة على أنّ هذا يقع من الحكام، ولم تتعرض للحاكم؛ لأنّه حكم بما ظهر له.

ودلت السنة على هذا الحكم في قوله عليه السلام: «إنّكم تختصمون إلي، وإنّما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنّما أقطع له قطعة من النار» أخرجه البخاري (6967).

(5)

قوله: {هِيَ مَوَاقِيتُ} أي: الأهلة مواقيت، وهذا خبر بمعنى الأمر، أي: اتخذوها مواقيت.

(6)

لأنّ الأهلة مواقيت للحج، ولم يخص الهلال عن غيره.

ص: 90

وإنما احتيج إليه لكونه خاصاً بأشهر معلومة فاحتيج إليه ليميزها عن غيرها

(1)

.

وأخرج الحاكم وغيره من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً)

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} الآية.

فيه دليل على أن ما لم يشرعه الله قربة ولا ندب إليه لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [190].

فيه فرض الجهاد.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا} .

قال ابن عباس: يقول لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير، ولا من ألقى السلم وكف يده، فإن فعلتم فقد إعتديتم، أخرجه ابن أبي حاتم

(3)

.

(1)

أي: خاص بأشهر معلومة، وأهلة معلومة، كما قال:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فإذا أهلّت تلك الأشهر المعلومة، فقد جاز الإحرام بالحج.

أو يقال: أن قوله: {الْأَهِلَّةِ} مخصوص بقوله: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} .

(2)

أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 423) وصححه، ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن خريمة في صحيحه (1789)، قال الشيخ مصطفى العدوي في تحقيقه للإكليل (102):"صحيح بشواهد".

وما ذكره المصنف هو من التفسير بالمثال؛ لكون الأهلة مواقيت للناس في عباداتهم.

(3)

مأخذه تفسير ابن عباس رضي الله عنهما، وهو مأخوذ من مفهوم قوله:{الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} أي: عدم مقاتلة من لم يقاتل.

ص: 91

•‌

‌ قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [193].

حجة في عدم قبول الجزية من المشركين

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [194].

استدل به الشافعي على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد، أو خنق، أو حرق، أو تجويع، أو تغريق، حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في ماء ملح

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [195].

قال حذيفة: نزلت في النفقة في سبيل الله، أخرجه البخاري، وأخرج الفريابي عن ابن عباس مثله.

وأخرج الترمذي عن أبي أيوب الأنصاري أنها نزلت في ترك الغزو.

وأخرج الطبراني عن أبي جبير بن الضحاك أنها نزلت في ترك الصدقة.

وأخرج أيضاً عن النعمان بن بشير أنها نزلت في الرجل يذنب الذنب فيقول لا يغفر لي.

وأخرج الحاكم عن البراء مثله وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أنهم حاصروا دمشق فانطلق رجل إلى العدو وحده، فعاب ذلك المسلمون، ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص، فأرسل إليه فرده،

(1)

لأنّ الآية جعلت غاية القتال، الدخول في الإسلام، أو القتل.

لكن آية براءة أخرجت أهل الكتاب {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وألحقت السنة المجوس بهم «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» .

(2)

وهذا مقتضى الاعتداء بالمثل، والاعتداء من قبيل المقابلة.

والاعتداء بالمثل تفسير لما أجمل في الآية نفسها في قوله: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} ، وهو خبر بمعنى: الأمر.

ص: 92

وقال عمرو: قال الله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فكأنه فهم من الآية العموم

(1)

.

• قوله: {وَأَحْسِنُوا}

قال عكرمة وأحسنوا الظن بالله

(2)

أخرجه ابن جرير، ففيه شعبة من شعب الإيمان.

• قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [196].

استدل به على وجوب العمرة كالحج

(3)

.

وعلى منع فسخ الحج إلى العمرة، رداً على ابن عباس

(4)

.

(1)

كل ما سبق طرق إلى {التَّهْلُكَةِ} وهي لفظ عام، والأقوال غير متنافية، واللفظ يشملها، فيحمل عليها جميعا.

(2)

وقيل: أحسنوا الظن بالنصر.

وقيل: الإحسان بأداء الفرائض، وقيل: بالنفقة في سبيل الله، وقيل: غير ذلك.

واللفظ يشمل الجميع دون تنافي، ووجه العموم فيه أن المولى سبحانه وتعالى حذف الأمر المحسن فيه (المفعول به، أو المعمول) فيشمل جميع الوجوه، ومنها: الحرب -سياق الآية- وذلك بإتقان فنونها، وإحسان آلاتها، واتخاذ جميع الوسائل المؤدية إلى النجاح فيها لتكون سببًا لإعلاء كلمة الله، ذكره الشيخ العثيمين.

(3)

مأخذ الحكم: الأمر الوارد بقوله: {وَأَتِمُّوا} ومن معاني الإتمام المأمور به: الأداء والإتيان. قال القرطبي في جامعه (2/ 365): «اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج والعمرة لله، فقيل: أداؤهما والإتيان بهما، كقوله: {فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] وقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] أي ائتوا بالصيام، وهذا على مذهب من أوجب العمرة» . ومما يستدل به كذلك قراءة {وأقيموا الحجّ والعمرة لله} على أن القراءة الشّاذة حجة. وأما قراءة {والعمرةُ لله} بالضّم - وقد كان يقرأ بها من الصحابة ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما فتدل على وجوب العمرة خاصة، لأنها بذلك تكون خبرًا بمعنى الأمر.

(4)

مأخذه: أنّ الآية فيها الأمر بالإتمام، والذي أحرم بالحج مفردًا لم يتمه -على قوله- بل فسخه. وفيه إشكال؛ لأنّ مذهب ابن عباس رضي الله عنهما، وهو اختيار ابن حزم وابن القيم: وجوب فسخ الحج إلى عمرة للمفرد والقارن، سواء ساق الهدي أو لم يسقه.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: «من طاف باليت وسعى حلّ شاء أم أبى» .

ص: 93

وعلى وجوب إتمام الحج والعمرة فيه بعد الشروع

(1)

فرضاً أو نفلاً

(2)

، كما فسر به الإتمام، ويدل عليه قوله بعد {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} والإحصار إنما يمنع الإتمام بعد الشروع.

وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية قال: من أحرم بحج أو عمرة فليس له أن يحل حتى يتمهما، تمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة، وزار البيت فقد حلَّ، وتمام العمرة إذا طاف البيت وبالصفا والمروة.

واستدل به قوم على أن الإحرام من دويرة أهله أفضل

(3)

.

وروى الحاكم عن علي في قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} قال يحرم من دويرة أهله.

وقوم على أفضلية الإفراد

(4)

، روى عبد الرازق في تفسيره عن معمر عن الزهري قال بلغنا أن عمر قال في هذه الآية: من تمامهما أن تفرد كل واحد منهما عن

(1)

مأخذه: الأمر بالإتمام مع تفسير الإتمام بالإكمال، ودليل هذا التفسير الإكمال ويدل عليه.

1.

الظاهر به الإكمال، والظاهر لا يعدل عنه إلّا بدليل.

2.

السياق، قال السيوطي: «

ويدل عليه قوله بعده {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} والإحصار إنّما يمنع الإتمام بعد الشروع.

3.

تفسير الصحابي، وهو ما ذكره السيوطي عن ابن عباس رضي الله عنهما: «من أحرم بحج أو عمرة

إلخ ..

(2)

أي: وجوب إكمال الحج والعمرة، سواء كانا فرضًا أو نفلًا.

مأخذه: العموم في صيغة (أل) الداخلة على حج وعمرة، فيعمّ كل حج فرضًا أو نفلًا، وكذا العمرة.

(3)

مأخذه: تفسير الصحابي علي رضي الله عنه وهو ما ذكره المؤلف، وهنا يُفسَّر الإتمام على أن المراد به الكمال، كذا قال المصنف:(أفضل) ..

(4)

مأخذه: تفسير الإتمام بالكمال، ويؤيده تفسير الصحابي عمر رضي الله عنه الذي ذكره المصنف.

ص: 94

الآخر وأن تعتمر في غير أشهر الحج

(1)

.

وقيل إتمامهما: أن تخرج قاصداً لهما لا لتجارة ونحوها ويؤيده قوله: {لِلَّهِ}

(2)

.

وقيل: أن تكون النفقة حلالاً

(3)

.

وقيل: أن يقرن بينهما

(4)

.

وقيل: أن يستوعب المناسك كاملة

(5)

.

واحتج بعموم الآية على إتمام الإحرام إذا فسد بالجماع

(6)

، وأن القارن إذا خاف فوت عرفة فليس له رفض العمرة

(7)

، والمعتمرة إذا حاضت قبل الطواف لا ترفضها، والصبي والعبد إذا كملا قبل الوقوف لا يرفضانه

(8)

.

(1)

ذهب القاسم بن محمد وقتادة إلى أن العمرة في أشهر الحج ليست تامة. وانتقد هذا القول بشدة ابن كثير، وبيَّن أنه مخالف للسنة، وأن عُمَر النبي كلها في ذي القعدة، أي في أشهر الحج.

قال ابن عطية: وهذا مبني على أن الدم في الحج والعمرة جبر نقص. ينظر: موسوعة التفسير المأثور (3/ 474).

(2)

وهذا مبني على تفسير الاتيان بالكمال، ويؤيد الكمال هنا ما ذكره المؤلف؛ لأنّ الكمال في خلوصها لله، فلا حظ فيها للخلق.

(3)

مأخذه: ما سبق في أنّ كمالها بكمال وسيلتها، وهي النفقة.

(4)

مأخذه: تفسير الإتمام بالكمال؛ إذ إنّه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلّا الأكمل.

(5)

مأخذه: تفسير الإتمام بالكمال؛ إذ إن من كمال العبادة الاتيان بأركانها وواجباتها ومستحباتها.

(6)

مأخذه: أولًا: ما ذكره المصنف من العموم، وذلك بما سبق أن (أل) في العمرة والحج تقتضي العموم، فكما تقتضي العموم في الفرض والنافلة -كما سبق- فإنّها تقتضي العموم في الحال، سواء كان صحيحًا أو فاسدًا.

ثانيًا: الأمر بالإتمام في قوله: {وَأَتِمُّوا} مطلق، ولم يفرق بين صحيح وفاسدٍ.

(7)

مأخذه: لأنّ العمرة يمكن الاتيان بها، فوقتها متسع.

(8)

مأخذهم: دخولهم في الأمر بالإتمام؛ بدلالة ضمير الجمع في قوله: {وَأَتِمُّوا} .

ص: 95

•‌

‌ قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} .

فيه جواز التحلل بالإحصار

(1)

، وأن فيه دماً

(2)

، وأنه لا يحصل التحلل إلا بذبحه في محله

(3)

، وأنه لا يجوز الحلق قبله

(4)

، وأن حلق الرأس حرام على المحرم

(5)

.

واستدل به من لا يرى التحلل إلا من حصر العدو

(6)

، فأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: لا حصر إلا حصر العدو فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فلا. إنما قال الله: ({فَإِذَا أَمِنْتُمْ} .

(1)

أي: بسبب الإحصار، ودليله ظاهر الآية، حيث شرع له ما يجب عليه {فَمَا اسْتَيْسَرَ} جوابًا لشرط {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} فربط الجزاء بالشرط.

(2)

مأخذه: أنّ (ما) في قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ} في محل رفع، أي: فالواجب، أو فعليكم ما استيسر، أو تكون في محل نصب، على تقدير، فانحروا، أو فاهدوا.

(3)

مأخذه: منطوق الآية وظاهرها.

(4)

مأخذه: مفهوم الغاية (حتى) وإن لم يبلغ محله، فلا يجوز له التحلل.

(5)

مأخذه: النهي في قوله: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} ، وكذا ايجاب الفدية كما سيأتي والفدية تجب على ترك واجب، وترك الواجب حرام.

(6)

مأخذه: تفسير الصحابي ابن عباس الذي ذكره المصنف، وكونه واردًا في سبب الحصر من العدو؛ لأنّها نزلت في الحديبة.

والأخير يدل على دخول حصر العدو، لا أن الحصر فيه، والدليل على دخول حصر المرض، أو الخوف، اللغة، ومن التفسير -كما قال ابن عباس- ما تعرفه العرب من لغتها، ومن اللغة: الفعل الرباعي (أحصر) يقال في المرض، فيقال: أحصره المرض، أما الثلاثي (حصر) فإنه للعدو، فيقال: حصره العدو، وهو قول الأخفش وابن السكيت من علماء اللغة. وقال بعض أهل اللغة كالأزهري في تهذيب اللغة (4/ 232)، والزجاج في معاني القرآن (1/ 267): إن الرباعي (أحصر) يقال لمن منعه خوف أو مرض من التصرف فهو محصر، ويقال لمن حُبس: حُصِر، فهو محصور. وقال ثعلب والفراء في معاني القرآن (1/ 117): أحصر وحُصِر لغتان. انظر: تيسير البيان للموزعي (1/ 312)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 371)، وأضواء البيان للشنقيطي (1/ 77).

ص: 96

لكن قال مجاهد الحصر حبس كله، أخرجه ابن جرير فيعم العدو والمرض وغيرهما

(1)

.

وفي الآية رد على من منع التحلل من العمرة بالإحصار

(2)

، وعلى من لم يوجب الهدي على المحصر

(3)

.

واستدل بها الحنفية على وجوب ذبحه بالحرم لا حيث أحصر، لقوله تعالى:{حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ، مع قوله تعالى:{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}

(4)

. وسيأتي عن ابن عباس في تفسير الآية.

(1)

مأخذه: تفسير السلف، ومنه قول التابعين، وقد تكلم المرداوي في التحبير (8/ 3714) عن الخلاف في حجية قول التابعي، ونقل عن الإمام أحمد:"لا يكاد يجيء عن التابعين إلا يوجد عن الصحابة "، ثم نقل عن ابن تيمية قوله:"كلام أحمد يعم تفسيره وغيره ". قلت: وذلك لأن العلماء لا يزالون يحتجون بقولهم في التفسير، وهم في التفسير أوثق، وسبق بيان المأخذ من اللغة،، وأما من الخارج فلحديث ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، وفيه قولها:«ما أجدني إلّا وجعة» فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «حجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث حبستني» أخرجه البخاري (5089)، ومسلم (1207).

(2)

الذي منع التحلل من العمرة بالإحصار، ابن سيرين، وحجته أنّها غير مؤقتة.

وأجيب: بأنها وإن كانت العمرة غير مؤقتة لكن الصبر إلى زوال العذر ضرر.

أمّا مأخذ الرد من الآية: سبب نزولها؛ إذ إنّها نزلت في عمرة الحديبية، حيث منع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من دخول مكة، وسبب النزول قطعي الدخول.

(3)

مأخذه: ما سبق أن (ما) في قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ} يحتمل أن تكون في محل رفع أو نصب. قال القرطبي في تفسيره (2/ 378): " (ما) في موضع رفع، أي فالواجب، أو فعليكم ما استيسر من الهدي، ويحتمل أن يكون في موضع نصب، أي: فانحروا، أو فاهدوا ".

(4)

مأخذه: حمل مطلق قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} على المقيدين المذكورين.

وأجيب: أن المقيّد محمول في حق غير المحصر، أمّا المحصر فقد دلّ قوله تعالى:{وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم محله، فذبح في الحلِّ، مما يدل على أنّه لا يشترط كونه في الحرم.

ص: 97

واستدل بها من لم يجوز ذبحه قبل يوم النحر؛ لأن المحل يقع على الوقت والمكان جميعاً

(1)

، ومن لم يجوز التحلل لفاقده

(2)

، ومن لم ير له بدلاً، ومن لم يوجب عليه القضاء؛ لأنه تعالى لم يذكرهما

(3)

، ومن لم يكتف بالشاة لواجد البدنة والبقرة

(4)

؛ لأنه علقه بالاستيسار، ومن لم يجوز الاشتراك فيه؛ لأن مقتضى قوله:{مِنَ الْهَدْيِ} : هدي كامل، والمتقرب بمشترك فيه إنما تقرب ببعض هدي، ومن أباح التحلل للمكي

(5)

.

واستدل بقوله: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} ، على أن الحلق قبل الذبح في المحصر وغيره؛ بناء على أن النهي عن الحلق عام له ولغيره

(6)

، وقد تقدم عن ابن عباس

(7)

، وعلى أن الحلال إذا حلق رأس المحرم لا شيء عليه؛ لأن الخطاب مع المحرمين

(8)

.

(1)

ومحلّه الزماني يوم النحر، والجمهور حيث أُحصر.

(2)

لأنّ التحلل مشروط بالإتيان بالواجب عليه، وهو ما تيسر من الهدي {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ؟.

(3)

أي: البدل والقضاء، والمقام مقام تشريع، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

(4)

وهذا تيسرت له البدنة أو البقرة، فلا يجوز له العدول إلى الشاة.

(5)

لأنّ قوله {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} يشمل المكي وغيره، فيتحلل بذلك، وهذا على قول الجمهور، بأن قوله:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} اسم الإشارة يعود إلى الدم، والتمتع فيسقط منه دم الإحصار، فيتحلل منه.

(6)

وجه العموم ضمير الجمع.

(7)

لما سأله السائل .... : «

وأحلق قبل أن أذبح، أو أذبح قبل أن أحلق؟ فقال له: خذ ذاك من كتاب الله، فإنّه أجدر أن يحفظ ثم قرأ {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وقال: فالذبح قبل الحلق.

(8)

ذكر ابن الفرس (1/ 243) العكس وهو أليق؛ لأنّ الحديث عن المحظورات.

ص: 98

•‌

‌ قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} .

فيه الإباحة الحلق لعذر

(1)

، وأن فيه حينئذ فدية

(2)

، وأنها مخيرة إما الصوم أو الإطعام أو الدم وقدروا قبل {فَفِدْيَةٌ}: فحلق، وأحسن منه أن يقدر: ففعل ما حرم عليه في الإحرام، كما أخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس في قوله:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} قال: إذا أهل الرجل بالحج فأحصر بعث بما استيسر من الهدي فإن هو تعجل قبل أن يبلغ الهدي محله فحلق رأسه أو مس طيباً أو تداوى بدواء كان عليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك، والصيام ثلاثة أيام، والصدقة ثلاثة آصع على ستة مساكين كل مسكين نصف صاع، والنسك شاة إسناده صحيح.

وقال إلكيا: قوله تعالى: {أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} يفيد أنه لو كان به قروح في رأسه أو جراح واحتاج إلى شدِّه وتغطيته كان حكمه في الفدية حكم الحلق، وكذلك المرض الذي يحوجه إلى لبس الثياب؛ لأنه تعالى لم يخصص شيئاً من ذلك، فهو عموم في الكل

(3)

.

قال ابن الفرس: وظاهر الآية لا يقتضي تخصيص هذه الفدية بموضع، فيتحمل على عمومها في المواضع كلها

(4)

وهو مذهب مالك.

(1)

لأنها رخصة، والرخصة فيها استباحة للمحظور.

(2)

لقوله: {فَفِدْيَةٌ} أي: الواجب فدية، وكما قال السيوطي: «وقدروا قبل {فَفِدْيَةٌ} فحلق

إلخ.، ومأخذ التقديرين، ما ذكره المؤلف عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

وجه العموم ورد {مَرِيضًا} و {أَذًى} في سياق الشرط، فتعم كل مرض أو أذى، مما ذكره المصنف مما يحوج المحرم لارتكاب المحظور.

(4)

لأنّ الآية أطلقت الحكم، ولم تخصص موضعًا عن موضع، وكذا الإطلاق في حديث كعب بن عجرة، وللقياس على الصيام، فكما أنّه لا يختص بمكان بالاتفاق، فكذلك النسك؛ لأنّها إحدى خصال الكفارة.

ومن قيدها فقياسًا على جزاء الصّيد {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} أو دم المحصر {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ؛ إذ المقصود مساكين الحرم.

ص: 99

•‌

‌ قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} الآية

استدل بها من أباح التمتع للمحصر خاصة

(1)

، لقوله تعالى:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ} .

ومن أباح التمتع مطلقاً قال عمران بن حصين أنزلت آية المتعة في كتاب الله وفعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل قرآن يحرمها، ولم ينه عنها حتى مات قال رجل برأيه ما شاء، يعني عمر

(2)

، أخرجه البخاري ومسلم

(3)

.

واستدل بها من أوجب على المحصر بعد زوال الإحصار حجاً وعمرة

(4)

؛ فإن جمع بينهما في أشهر الحج فعليه دم وهو متمتع، وإلا فلا

(5)

.

وفي الآية أن صورة التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم يحج من عامه.

(1)

قاله ابن الزبير مخالفًا الجمهور، وصورة التمتع عنده: أن يحصر الرجل حتى يفوته الحج، ثم يصل إلى البيت، فيحل بعمرة، ويقضي الحج من قابل، فقال: فهذا قد تمتع بما بين العمرة إلى الحج.

أمّا صورة المحصر المتمتع عند غيره: أن يحصر فيحلّ دون عمرة، ويؤخرها حتى يأتي من قابل، فيعتمر في أشهر الحج، ويحج من قابل.

(2)

قال ابن حجر في فتح الباري (3/ 533): «محصل جواب عمر في منعه الناس من التحلل بالعمرة أن كتاب الله دال على منع التحلل؛ لأمره بالإتمام، فيقتضي استمرار الإحرام إلى فراغ الحج، وإن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً دالة على ذلك؛ لأنه لم يحل حتى بلغ الهدي محِله، لكن الجواب عن ذلك ما أجاب به هو صلى الله عليه وسلم حيث قال: (ولولا أن معي الهدي لأحللت) أخرجه البخاري (1651)، فدلَّ على جواز الإحلال لمن لم يكن معه هدي، وتبين من مجموع ما جاء عن عمر في ذلك أنه منع منه سداً للذريعة، وقال عنها ترغيباً في الإفراد الذي هو أفضل لا أنه يعتقد بطلانها» .

(3)

البخاري (4255)، ومسلم (2233).

(4)

أوجب الحنفية حجة وعمرة، إذا أحلّ بالدّم (الهدي) ثم لم يحج من عامه ذلك، فلو أنّه أحلّ من إحرامه قبل يوم النحر ثم زال الإحصار، فأحرم بالحج وحج من عامه لم يكن عليه عمرة؛ وذلك لأنّ هذه العمرة إنّما هي التي تلزم الفوات؛ لأنّ من فاته الحج فعليه أن يتحلل بعمل عمرة، فالعمرة للفوات، والدم (الهدي) الذي عليه في الإحصار، إنّما هو للإحلال، ولا يقوم مقام العمرة التي تلزم بالفوات.

(5)

أي: فلا دم عليه، إذا لم يجمع بينهما، ودليلها ظاهر الآية.

ص: 100

قال ابن عباس قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} ، يقول: فمن أحرم بالعمرة في أشهر الحج، أخرجه ابن أبي حاتم.

وفيها أن عليه دماً

(1)

، فإن لم يجده صام عشرة أيام، وأنه يجب تفريقها ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، فيندب الإحرام بالحج قبل يوم النحر بثلاثة أيام

(2)

.

واختلف في المراد بقوله: {رَجَعْتُمْ} فقيل: إلى أوطانهم، وقيل: من مِنى

(3)

.

وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}

قال أبو حنيفة: الإشارة بذلك إلى التمتع، فليس للمكي أن يتمتع، فمتى فعله أخطأ وعليه دم

(4)

.

وقال الشافعي إلى وجوب الدم على غير المكي، فلا دم على المكي

(5)

، وله التمتع

(6)

.

(1)

لقوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أي: فعليه ما استيسر.

(2)

لأنّ آخر أيام الحج يوم النحر، وهو عيد منهي عن صيامه باتفاق، فبقي الصيام في الأيام التي قبله، وهي السابع والثامن والتاسع، وقد أطلق عليها اسم الحج فبان بهذا أنه يندب الإحرام فيها بالحج، ذكره القرطبي في جامعه (2/ 400)، نقلها عنه محقق الكتاب في حاشية (10).

(3)

لأنّ الرجوع من العمل أي: الفراغ منه، ويفرغ إذا رجع من منى.

قال ابن العربي في أحكام القرآن (1/ 185): «وتحقيق المسألة أن قوله تعالى: {إِذَا رَجَعْتُمْ} إن كان تخفيفا ورخصة، فيجوز تقديم الرخص وترك الرفق فيها إلى العزيمة إجماعا، وإن كان توقيفًا، فليس فيه نص ولا ظاهر أنه أراد البلاد، وإنما المراد في الأغلب والأظهر فيه أنه الحج» .

(4)

ويسمونه دم جناية، لا يأكل منها.

(5)

لأنّ اسم الإشارة {ذَلِكَ} استثنى المكي من وجوبها عليه.

(6)

لدخوله في عموم {فَمَنْ تَمَتَّعَ} .

ص: 101

وقال أبو حنيفة لو كان راجعاً إليه لقال: ذلك على من

(1)

.

واختلف هل المراد بالمكي حاضر مكة ولو كان غريباً، أو شرطه الاستيطان على وجهين عندنا، مستند الثاني قوله:{أَهْلُهُ} .

واستدل بالآية من رأى وجوب الدم على من عاد لإحرام الحج

(2)

إلى الميقات لعمومها، ومن أوجب الجمع في هذا الدم بين الحل والحرم فلا يجوز شراؤه من الحرم ونحره فيه؛ لأن الهدى مأخوذ من الهدية فيجب أن يهدى من غير الحرم إليه، ومن جوز صوم أيام التشريق عن الثلاثة

(3)

.

وفي الآية رد على من أجاز صوم الثلاثة قبل الإحرام بالحج

(4)

في العمرة أو بعدها

(5)

، وعلى من أجاز صوم السبعة أيضاً في الحج.

(1)

الجمهور يقولون بذلك، وأنّ اللام في قوله:{لِمَنْ} بمعنى: (على).

(2)

أي: عاد بعد الانتهاء من الحج إلى عمرة في أشهر الحج، ذكره ابن الفرس (1/ 248).

ووجه العموم: «إنّ الآية لم تفرق بين أن تكون العمرة في سفرٍ واحدٍ أو سفرين، قال القرطبي في جامعه (2/ 396): «لم يستثن راجعًا إلى أهله وغير راجع» .

(3)

لأنّ أيام التشريق، أيام رمي للجمار، وهي أيام الحج؛ لأن الرمي عمل من أعمال الحج خالصًا، وإن لم يكن من أركانه -على خلاف- وعلى هذا يكون صيام أيام التشريق أداء.

ومن قال: أيام الحج تنتهي بيوم النحر، قال: بأن صيام التشريق قضاء.

(4)

أخذًا بقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ومن أشهره شوال، فجاز الصيام فيه.

(5)

أي: قبل عمرة المتمتع أو بعدها، وهذا إذا أريد بقوله:{فِي الْحَجِّ} الأفعال التي هي عمدة للحج، وما سماه النبي صلى الله عليه وسلم حجاً، وهو الوقوف بعرفة.

قلت: إلّا أن الصيام يكون أيام التشريق؛ لأنّ يوم عرفة يكون بعد الزوال، ويستحيل صوم الثلاثة الأيام في الحج، ولما كان مستحيلا كانت الآية ردًا عليهم.

وما ذكره من احتمال -وهو أن المقصود بقوله: {فِي الْحَجِّ} الأفعال التي هي عمدة للحج- أبطله الجصاص (1/ 356) للأمور الآتية:

1.

لعدم الخلاف في جواز الصوم قبل يوم عرفة.

2.

أن الاحتمال الثاني، وهو أن المراد {فِي الْحَجِّ} إحرام الحج (أي: متى ما أحرم)

أو المراد أشهر الحج؛ لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} . وذكر أن سبب الصيام التمتع لقوله {فَمَنْ تَمَتَّعَ} فإذا وجد الإحرام بالعمرة، فإنّه يجوز تقديم سببه، وهو الصيام عن وقت وجوبه، كتعجيل الزكاة في الوجوب عند ملك النصاب ووجوبها.

ص: 102

•‌

‌ قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [197].

اختلف الصحابة وغيرهم في الأشهر هل هي شوال وذو القعدة وذو الحجة كله؟ أو وعشر منه؟ قولان.

واستدل الأول بجمع أشهر في الآية

(1)

.

قال إلكيا: أفادت الآية أن الأشهر التي يصح فيها التمتع بالعمرة إلى الحج ويثبت فيها حكمه هي هذه الأشهر، وأن من اعتمر في غيرها ثم حج لم يكن متمتعاً

(2)

.

وفي الآية أن الحج لا يجوز الإحرام به في غير هذه الأشهر من السنة

(3)

.

روى ابن خزيمة والشافعي عن ابن عباس قال: لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج من أجل قول الله {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}

وورد من حديث جابر مرفوعاً أخرجه ابن مردويه.

(1)

و {أَشْهُرٌ} جمع قلة، وأقل الجمع ثلاثة عندهم.

ومن قال: بأن المراد شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة، بأنه من باب إطلاق الكل وإرادة البعض، كمن يقول: حججت عام كذا، وإنّما حج بعضه.

(2)

لأنّ فائدة التوقيت منع تجاوزها، فلو انعقد الإحرام في غيرها، لم يكن لتخصيصها فائدة، أو التقديم عليها، ولفعله عليه الصلاة والسلام.

(3)

لأنّ قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} خبر بمعنى: الأمر، أي: أشهر الحج معلومات، فمن أراد الحج، فليبدأ بالإحرام فيهن من شوال إلى عشر من ذي الحجة.

والمأخذ الأخر: أثر ابن عباس رضي الله عنهما الذي ذكره المصنف.

ص: 103

•‌

‌ قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} .

فيه مشروعية النية والتلبية

(1)

.

أخرج ابن المنذر عن ابن مسعود قال: الفرض الإحرام، وأخرج عن ابن الزبير مثله، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: الفرض الإهلال، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس مثله.

وأخرج سعيد بن منصور عن عطاء قال: فرض الحج التلبية.

•‌

‌ قوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}

فيه المنع من هذه الأشياء

(2)

، وفسر الرفت: بالجماع وبمقدماته، كالقبلة والغمز، وبالتعريض به. والفسوق: بالمعاصي. والجدال: بالمراء والخصومة.

قال إلكيا: فدلت الآية على تحريم أشياء لأجل الإحرام، وعلى تأكيد التحريم في أشياء محرمة في غير الإحرام تعظيماً للإحرام.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} .

فيه الحث على الإكثار من فعل الخيرات في الحج، صدقة وذكراً ودعاء، وغير ذلك

(3)

.

(1)

مأخذه قوله: {فَرَضَ فِيهِنَّ} ألزم نفسه، وبالنية تتحقق ذلك عند الشافعية والمصنف منهم، وكذا ما ذكره من تفسير الفرض، بأنّه الإحرام عند ابن مسعود وغيره من الصحابة، والمقصود بالإحرام: النية، وتفسير ابن عمر بأن الإهلال، أي: التلبية.

(2)

مأخذه: كونه خبراً بمعنى النهي.

(3)

مأخذه: الحض على فعل الخير، بكون الله يعلمه، وورد بصيغة الإطلاق؛ لكونه نكرة {خَيْرٍ} في سياق الإثبات، أي: إذا فعلتم أي خير فإن الله يعلمه.

{وَمَا تَفْعَلُوا} اسم شرط جازم، وجوابه {يَعْلَمْهُ} .

ص: 104

•‌

‌ قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}

فيه استجاب التزود

(1)

، وأنه لا ينافي التوكل وذم السؤال والتوكل على الناس

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [198].

فيه إباحة التجارة والإجارة وسائر أنواع المكاسب في الحج

(3)

، وأن ذلك لا يحبط أجراً ولا ينقص ثواباً، خلافاً لأبي حنيفة في منعه الإجارة

(4)

.

وروى أحمد وغيره عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا نكري فهل لنا من حج؟ فقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية فدعاه فقال: "أنتم حجُاَّج".

(1)

لم أقف على الصارف للأمر في قوله {وَتَزَوَّدُوا} إلى الاستحباب.

قال ابن الفرس في أحكام القرآن (1/ 261): «وجوب التزود حتى لا يتكل على سؤال الناس» ، وقال الموزعي في تيسير البيان (1/ 354):«فإن ترك الزاد واعتمد على المسألة؛ فإن كان غنياً، حرُم عليه، وإن كان فقيراً، أو لا كسب له، كره له ذلك، ولم يحرُم عليه فِعْلُه» .

(2)

دلّ عليه سبب النزول كما عند البخاري برقم (1451) أن أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة، سألوا الناس فأنزل الله سبحانه:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} .

(3)

مأخذه: رفع الجناح من الأساليب الدالة على الإباحة، وكونه في الحج قراءة ابن الزبير (أن تبتغوا فضلًا من ربكم في مواسم الحج)، وسبب النزول، كما في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج، أخرجه البخاري (1681)، (1770).

(4)

ذكر المصنف قول ابن عمر مأخذًا لهذا الحكم

وجعل بعضهم مأخذه قوله {لِلَّهِ} يقتضي خلوصه لله، لا الحظوظ النفسي، على أن نسبته إلى أبي حنيفة نظر، قال الجصاص في أحكام القرآن (1/ 375): «ولا نعلم أحدًا روي عنه خلاف ذلك إلا شيئاً رواه الثوري

الخ».

ص: 105

•‌

‌ قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ}

فيه مشروعية الوقوف بها

(1)

، والإفاضة منها

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} .

فيه مشروعية المبيت بمزدلفة

(3)

والوقوف بقزح والذكر عنده والدعاء.

روى الحاكم من طريق سالم عن ابن عمر قال: المشعر الحرام مزدلفة كلها، واخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر مثله، وروى سعيد ابن منصور من طريق نافع عن ابن عمر قال: المشعر الحرام الجبيل وما حوله.

وقال إلكيا: الذكر في قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} غير الذكر في قوله: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} فالمراد بالثاني المفعول عند الوقوف بمزدلفة غداة جمع.

قال: والصلاة تسمى ذكراً، فيجوز أن يفهم منه تأخير المغرب إلى أن تجمع مع العشاء بمزدلفة.

(1)

الوقوف ركن من أركان الحج باتفاق، وقوله:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ} أي: دفعتم، فأقرهم بالوقوف بعرفة قبل إفاضتهم فيها.

كما أنه مأمور بالوقوف في المشعر بقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} وهذا الوقوف مشروط بالإفاضة من عرفات بقوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ} فدَّل على مشروعية الوقوف به والإفاضة منه.

قال ابن تيمية في تفسيره (1/ 479): «من لم يفض من عرفات لم يكن مأمورًا بالوقوف بالمشعر الحرام

ومن لم يفض بعرفة لم يقض نسكه

» ..

(2)

للأمر {ثُمَّ أَفِيضُوا} وهو ظاهر.

(3)

لقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}

ذكر الموزعي في تيسير البيان (1/ 356) أن الذكر يقع: «على المبيت، وإن لم يصحبه ذكر؛ لأنّه من مناسك الحج، والمناسك ذكر؛ لأنّها انقياد وتسليم لله سبحانه وتعالى» .

ص: 106

•‌

‌ قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [200]

قال إلكيا وغيره: يحتمل أن يراد به الأذكار المشروعة في خلال المناسك

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} الآية [203].

فيه مشروعية الذبح والرمي

(2)

والتكبير أيام التشريق، وأنه يجوز النفر في اليوم الثاني

(3)

.

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه كان يكبر تلك الأيام بمنى ويقول: التكبير واجب، ويتأول هذه الآية {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}

قال ابن الفرس: ويحتج لمن قال ابتداء التكبير خلف الصلاة من ظهر يوم النحر

(4)

بقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} فإن الفاء للتعقيب وأول صلاة تلي قضاء النسك ظهر يوم النحر.

واستدل بعموم الآية من قال يكبر خلف النوافل

(5)

، ومن أباح التعجل للمعذور وغيره، القريب والبعيد

(6)

.

(1)

وهو أسلوب عربي كما يقال: (إذا حججت فطف البيت)، والطواف يكون أثناء الحج، و (إذا صليت فتوضأ).

(2)

ما سبق أنّ المناسك كلها ذكر، بالإضافة إلى ما يحصل عند الذبح والرمي من الذكر.

(3)

لقوله: {فَلَا إِثْمَ} دل على مشروعية الإقدام عليه.

(4)

على تقدير {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} في صلاتكم؛ لأنّ الذكر يأتي بمعنى الصلوات الخمس، {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} ، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} والجمعة خاصة، {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} .

(5)

على أن التكبير بمعنى الصلاة، والصلاة تعم الفريضة والنافلة.

ويدخل في العموم الفاعلون، قال ابن الفرس:(1/ 269): «التكبير في أدبار الصلوات لكل أحد من مسافر وحاضر، وامرأة، وحر وعبد، منفردين أو في جماعة خلافًا لأبي حنيفة.

(6)

عموم (من) في قوله {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} ، وكأنه قال: تعجلوا أو تأخروا فلا إثم في التعجيل، ولا إثم في التأخير.

ص: 107

وفسر ابن عباس وغيره قوله {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} فأنه خرج بالحج من ذنوبه كلها غفرت له إن اتقى في أداء حدود الحج وفرائضه.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} الآية [204].

قال إلكيا: فيه تنبيه على الاحتياط فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا واستبراء أحوال الشهود والقضاة انتهى

(1)

.

وفيه ذم اللدد في الخصومة، قال ابن عباس وهو الجدال في الباطل، وفي رواية عنه شدة الخصومة.

وفيه المنع من إضاعة المال، وعدُّه من الفساد

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [206].

قال ابن مسعود: إن من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله، فيقول: عليك بنفسك أخرجه ابن المنذر.

قال العلماء: إذا قال الخصم للقاضي: اعدل أو نحوه عزره، إلا أن يقول له اتق الله فلا يعزره لهذه الآية

(3)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} الآية [207].

استدل بها على جواز التغرير بالنفس في الجهاد.

(1)

وأخبر سبحانه أن من الناس من يُغتر بقوله وباطنه شر، فدل بدلالة الالتزام على الحذر والاحتياط منهم، واجتناب أعمالهم وسبر أحوالهم؛ إذ الباطن قد يخالف الظاهر.

(2)

قوله: «وعدُّه من الفساد» هو المأخذ؛ إذ هو ذم للفعل، ثم أكده بمأخذ آخر، وهوعدم محبة الله لذلك الفعل {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وهما دليل تحريم إضاعة المال في هذه الآية.

(3)

وإن كان معناهما واحد، لكنه التوقيف مع القرآن الكريم.

ص: 108

أخرج الفريابي وغيره عن المغيرة قال: كنا في غزاة فتقدم رجل فقاتل حتى قتل، فقالوا: ألقى هذا بيده إلى التهلكة، فكتب فيه إلى عمر، فكتب عمر: ليس كما قالوا، هو من الذين قال الله فيهم:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}

(1)

.

وأخرج ابن جرير عن أبي الخليل قال سمع عمر رضي الله عنه إنساناً يقرأ هذه الآية، فاسترجع، وقال: قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل.

•‌

‌ قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} الآية [213]

استدل به من قال: إن الأصل في الناس الكفر حتى آمنوا؛ لأنه ظاهر الآية، إذ بعث النبين لأجل كونهم كفاراً.

وقد أخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس في الآية قال: كانوا كفاراً.

واستدل به من قال: إن الأصل فيهم الإيمان حتى كفروا، بتقدير: فاختلفوا فبعث.

وقد أخرج أبو يعلى والطبراني من طريق عكرمة عن ابن عباس: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} قال على الإسلام كلهم، إسناده صحيح، وأخرج الحاكم وغيره أن في قراءة ابن مسعود: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث.

(1)

مأخذ الحكم هو تفسير وقول عمر بن الخطاب وحسبنا ذلك، ومما يؤيد متناول الآية له، أن الله عز وجل في عدد من الآيات اعتبر الجهاد والقتل في سبيل الله من بيع الأنفس له كقول تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} .

ص: 109

•‌

‌ قوله تعالى: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} الآية [215].

هي لبيان مصارف المال الذي يتعلق به الثواب، وقيل: في الزكاة.

واستدل بها من أباح صرفها للوالدين

(1)

.

• وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [216].

يستدل بها لمن قال: إن فرض الكفاية واجب على الكل ويسقط بالبعض

(2)

، وهو رأي الجمهور من الأصوليين.

واستدل بها من قال: إن الجهاد في عهده صلى الله عليه وسلم كان فرض عين

(3)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} الآية [217].

استدل بها على منع القتال في الشهر الحرام

(4)

، وادعى غيره نسخها

(5)

.

(1)

بناء على أن الآية لبيان صرفها في الزكاة، وقد نقل الإجماع ابن المنذر وابن قدامة على جواز صرفها لهما.

(2)

لأنّ ضمير الجمع في قوله: {عَلَيْكُمُ} يعم الجميع، ومثله {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} .

(3)

لعله بضميمة قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} ، أو بفعله عليه السلام حيث كان يستنفرهم، ومن استنفره تعين عليه.

لكن ثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان ينفر وقد يتخلف عنه بعض أصحابه.

ولعل المأخذ من الآية {عَلَيْكُمُ} فهو خطاب لهم، وفي حال وظروف معينة، فيبقى على الأصل عمومه على الجميع عينًا.

(4)

ومأخذه: قوله {كَبِيرٌ} أي: عظيم، ووصف الفعل بذلك في مقام الذم يدل على التحريم، والمنع عن المبادأة، وأمّا الدفاع فيجوز بلا خلاف، ويؤيد تحريم القتال، وكونه محكمًا غير منسوخ، قوله في المائدة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} والمائدة من آخر ما نزل من القرآن.

(5)

وهو قول الأكثر والأشهر، وجعلوا الناسخ قوله:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} أي: في أي زمان أو مكان.

ص: 110

•‌

‌ قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ} الآية.

استدل بها على أن الردة محبطة للعمل بشرط اتصالها بالموت

(1)

، فلو كان حج ثم ارتد وعاد إلى الإسلام لم يجب عليه إعادة الحج خلافاً لزاعمه

(2)

.

وكذا من ارتد من الصحابة بعد موته صلى الله عليه وسلم ثم عاد إلى الإسلام لا يزول عنه اسم الصحبة.

واستدل بالآية من قال إن المرتد يورث؛ لأنه سماه كافراً، يرث بعضهم بعض.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [219].

قد يستدل بها لمن أباح التداوي بالخمر، ولما يقوله الأطباء فيها من المنافع

(3)

، لكن الحديث الصحيح مصرح بتحريم التداوي بها.

قال السبكي: كل ما يقوله الأطباء وغيرهم في الخمر من المنافع فهو شيء كان عند شهادة القرآن بأن فيها منافع للناس قبل تحريمها، وأما بعد نزول آية التحريم فإن الله الخالق لكل شيء سلبها المنافع جملة فليس فيها شيء من المنافع. قال: وبهذا تسقط مسألة التداوي بالخمر، وعلى هذا يدل قوله صلى الله عليه وسلم:«إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها» .

(1)

لأنّ المعلق على شرطين (الردة والموت عليها) لا يثبت إلا بوجودهما.

(2)

وهو مالك؛ لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وكذا قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} ، وأجيب أنهما مطلقان، وتقيدهما آية البقرة هذه. ينظر: تيسير البيان للموزعي (1/ 378).

(3)

إذ الإخبار بوجود المنافع قرينة على جواز استباحة تلك المنافع، واقتران الإثم بها لا يزيل تلك المنافع.

وسياق الآية يدل على أن المقصود الإخبار بذلك حتى لا يغتر بها المسلم، وإلّا فإنّ {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فتلك المنافع مهدرة وملغاة من الشارع.

ص: 111

•‌

‌ قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} .

قال ابن عباس: الفضل عن العيال، أخرجه الطبراني وغيره، ففيه تحريم الصدقة بما يحتاج إليه لنفقة من تلزمه نفقته

(1)

.

واستدل به سحنون على منع أن يهب الرجل ماله بحيث لا يبقى له ما يكفيه.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} الآية [220].

قال إلكيا: فيه دلالة على جواز خلط الولي ماله بماله

(2)

، وجواز التصرف فيه بالبيع والشراء إذا وافق الإصلاح

(3)

، وجواز دفعه مضاربة إلى غيره.

وفيه دلالة على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث؛ لأن الإصلاح الذي تضمنته الآية إنما يعلم من طريق الاجتهاد، وغالب الظن.

وفيه دلالة على أنه لا بأس بتأديب اليتيم وضربه بالرفق لإصلاحه

(4)

انتهى. وفيه دلالة على جواز خلط أزواد الإخوان

(5)

.

(1)

لأنّ قوله: {قُلِ الْعَفْوَ} معناه: أنفقوا العفو، وهو أمر بعد سؤال عن أمر أخروي، فيحمل على الوجوب أو الندب، وهو مأمور بالنفقة على عياله؛ لتفسير ابن عباس، وهذا يقتضي تحريم الصدقة بما يحتاج عياله.

(2)

لأنّه سبحانه علل ذلك بكونهم إخواننا، ومن المتأكد مخالطة الإخوان.

(3)

لأنّه أمر بذلك بقوله: {إِصْلَاحٌ لَهُمْ} أي: أصلحوا لهم، وهو مصدر نائب عن فعل الأمر.

وهو وإن ورد بعد سؤال في أمر تتعلق مصلحته بالدنيا، مما يجعله مباحًا، إلّا أن وصف الفعل بأنّه {خَيْرٌ} ، والحث على مخالطتهم يرفعه إلى الوجوب أو الندب.

(4)

لم يقل سبحانه (إصلاحهم) وإنّما قال: {إِصْلَاحٌ لَهُمْ} حتى يشمل صلاح الدين، والبدن، والأدب، والخلق، وصلاح المال.

(5)

{فَإِخْوَانُكُمْ} أي: فإنهم إخوانكم، وهذه العلة ثابت بالإيماء، ولما علل مشروعية ذلك بأموال اليتامى، دلّ على أنّ الإخوان كذلك، وكما أن العلة التي جاز فيها الخلط بين الإخوان هي المشقة، جعل المولى الخلط مع مال اليتيم كذلك، لذات العلة.

ص: 112

•‌

‌ قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} .

أصل لقاعدة: الأمور بمقاصدها، فرب أمر مباح أو مطلوب لمقصد ممنوع باعتبار مقصد آخر

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [221].

فيه تحريم نكاحهن مطلقاً، وقد خص منه في سورة المائدة الكتابيات، وأخذ ابن عمر بعموم هذه الآية فحرم نكاح اليهودية والنصرانية

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} .

قال إلكيا وغيره: ظن قوم أنه يدل على جواز نكاح الأمة مع وجود طول الحرة وهو غلط؛ لأنه ليس في الآية نكاح الإماء، وإنما ذلك للتنفير عن نكاح الحرة المشركة؛ لأن العرب كانوا بطباعهم نافرين عن نكاح الأمة، فقال تعالى:{ذَلِكَ} أي إذا نفرتم عن الأمة فالمشركة أولى.

قلت لا غلط في ذلك فالآية تدل على جواز نكاح الأمة مع وجود الحرة المشركة إذا لم يجد سواها؛ لأن وجود الحرة المشركة كالعدم لعدم جواز نكاحها مطلقاً.

(1)

عُلِّق على علمه سبحانه، وهو يعلم القصود، والنوايا، ولعل المعنى: ربّ أمرٍ مباحٍ أو مطلوب، يكون بقصد آخر ممنوعًا، وإصلاح مال اليتامى مباح، وإذا قصد به أكله، فهو حرام.

(2)

أخذ بعموم (المشركات) وقال: «لا أعلم من الشرك شيئًا أكبر، أو قال: أعظم من أن تقول ربها عيسى» .

قيل: إنّه ذهب للكراهة فقط، وقيل: لم تصح رواية التحريم عنه، أو تحمل على الكتابيات الحربيات، كقول ابن عباس رضي الله عن الجميع. ينظر: تيسير البيان للموزعي (1/ 321).

ص: 113

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} .

فيه تقديم اعتبار الدين في النكاح على الشرف والجمال والمال ونحو ذلك.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} .

فيه تحريم نكاح الكافر للمسلمة مطلقاً وهو إجماع.

واستدل به على اعتبار الولي في النكاح.

فأخرج ابن جرير عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: النكاح بولي في كتاب الله ثم قرأ: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} ، برفع التاء

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} .

فيه جواز نكاح العبد الحرة.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [222].

فيه تحريم وطء الحائض

(2)

، ودليل لما يقوله الأطباء إن وطأها مضر

(3)

.

(1)

فأسند نكاح النساء إلى الرجال الأولياء

قال ابن العربي في أحكام القرآن (1/ 219) عن هذا الاستدلال: وهي مسألة بديعة، ودلالة صحيحة.

ورأى الألوسي في تفسيره روح المعاني (1/ 513) عدم دلالتها على المسألة؛ لأنّ المراد النهي عن اتباع هذا الفعل، والتمكين منه، وكل المسلمين أولياء في ذلك.

(2)

لقوله: {فَاعْتَزِلُوا} وهو أمر بمعنى: النهي، والنهي يقتضي التحريم.

(3)

إذ جعل علة التحريم كونه أذًى، بدلالة الإيماء {هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا} فاقترن الحكم بالوصف (العلة) ولو لم تكن هي العلة لكان الكلام معيبًا، وجلّ سبحانه عن ذلك.

ص: 114

واستدل بعضهم بعموم: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ} على وجوب اعتزال جميع بدنها أن يباشرها بشيء من بدنه

(1)

، أخرجه ابن جرير عن عبيدة السلماني.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} .

يستدل به على أنه يحرم الوطء دون الاستمتاع بما بين السرة والركبة

(2)

، ويؤيده قوله بعد:{فَأْتُوهُنَّ} فإنه يدل على أن المحرم قبله

(3)

الوطء فقط.

واستدل أبو حنيفة بقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتخفيف على إباحة الوطء بمجرد انقطاع الدم دون غسل.

واستدل الشافعي بقراءة التشديد وبقوله {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} على توقفه على الغسل

(4)

.

وحمل بعضهم التطهر في الآية على غسل الفرج فقط

(5)

، وبعضهم على الطهر الأصغر، وهو الوضوء

(6)

.

وقال قوم: نعمل بالقراءتين جميعاً فتحمل قراءة التخفيف على انقطاع الدم

(1)

لعموم لفظ {النِّسَاءَ} في شموله من حيث الاعتزال مكان الوطء أو غيره.

ويجاب عنه: أن المراد بالمحيض هنا: موضع الدم، ومفهوم الظرف جواز مباشرة غيره، ثم إنّه خلاف هدي النّبي صلى الله عليه وسلم فعلًا وقولًا، ومن قوله:«جامعوهن في البيوت، واصنعوا كل شيء إلّا النكاح» رواه مسلم (302)، وفعله لقوله عائشة رضي الله عنها «كان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض» رواه البخاري (300)، وفي حديث ميمونة:«كان يباشر نساءه فوق الإزار وهنّ حُيض» أخرجه البخاري (303)، ومسلم (294) واللفظ له.

(2)

لأنّ موضع الوطء هو الذي يحتاج للتطهير.

(3)

أي: قوله: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ} .

(4)

قال ابن عباس ومجاهد {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي: اغتسلن.

(5)

لأنّه مكان الأذى.

(6)

كل ذلك يسمى تطهرًا، وطُهورًا وطُهْرًا لغة وشرعًا.

ص: 115

أكثر الحيض

(1)

، وقراءة التشديد على انقطاعه لدونه، وهو بعيد جداً.

قلت: ويمكن إعمال القراءتين على وجه آخر وهو الإشارة بقراءة التخفيف إلى أن الغسل حال جريان الدم لا يصح ولا يبيح، فوقف حمل الوطء على الانقطاع بقوله {حَتَّى يَطْهُرْنَ} وعلى الاغتسال

(2)

بقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} .

ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم وغيره من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ} ، يقول: اعتزلوا نكاح فروجهن ولا تقربوهن حتى يطهرن من الدم فإذا تطهَّرن بالماء.

واستدل بعموم الآية من قال بإجبار الذمية على الغسل من الحيض

(3)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} .

قال ابن عباس من حيث أمركم أن تعتزلوهن في الحيض، وهو الفرج خاصة أخرجه ابن جرير.

ففيه اختصاص الوطء بالفرج وكذا قال مجاهد وغيره.

•‌

‌ قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [223].

قال ابن عباس: أي قائمة وقاعدة ومقبلة ومدبرة، أخرجه عبد في تفسيره

(4)

.

(1)

أي: فيمن كانت أيامها عشرًا، فيجوز للزوج وطئها بمضي العشر.

وقالوا: انقطاع الدم معتبر بأحد شيئين: الغسل، والآخر مضى وقت صلاة فيلزمها فرض صلاة، ولزوم فرضها مناف لبقاء حكم الحيض.

(2)

فتوقف الحل على غاية وشرط، ويكون الحل بهما، والحرمة بانتفاء أحدهما.

(3)

العموم إمّا بلفظ {النِّسَاءَ} ، وفي ضمير النسوة {يَطْهُرْنَ} فيعمّ المسلمة أو الذّمية. ولأن الحكم يدور مع علته، والتحريم لكون المحيض أذى، فلابد من إزالته.

(4)

قول ابن عباس هو المأخذ، ووجه العموم المأخوذ من قوله:{أَنَّى شِئْتُمْ} و {أَنَّى} تستعمل بمعنى: أين، وهي عامّة في المكان، فتشمل القبل والدبر.

وبمعنى: كيف، أي كيف شاء، مقبلة ومدبرة، قائمة ومضجعة، وهو الذي ذهب إليه ابن عباس هنا، والأوّل وهو المكان مشترط أن يكون في صمامٍ واحدٍ، كما سيأتي عن ابن عباس.

ص: 116

وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عنه قال: من حيث جاء الدم من ثمَّ أمرت أن تأتي، فقيل: كيف بالآية: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} ، قال ويحك وفي الدبر من حرث؟

(1)

لو كان ما تقول حقاً لكان المحيض منسوخاً إذا شغل من ههنا جئت من ههنا، ولكن {أَنَّى شِئْتُمْ} من الليل والنهار

(2)

.

وأخرج ابن جرير عنه قال يعني بالحرث الفرج ومن طريق عكرمة عنه قال: الحرث موضع الولد.

واستدل ابن عمر بالآية على إباحة الوطء في الدبر، وقال: إنما نزلت رخصة فيه

(3)

، أخرجه البخاري وغيره، وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري

(4)

.

وقال الطحاوي: روى أصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن ابن القاسم قال: ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال، ثم قرأ الآية، قال: أي شيء

(1)

استدل به بمفهوم جواز اتيان الحرث، عدم جواز إتيان الدبر؛ لأنّ الحرث والزرع مكانه القبل.

(2)

لأنّ {أَنَّى} أداة شرط تأتي للزمان كما تأتي للمكان.

(3)

ربما خصوا الرخصة حال كون المرأة حائضة

ومأخذه: ما سبق في عموم {أَنَّى} للمكان، لكن قول الصحابي، عُورض بقول ابن عباس فلا حجة فيه، وهي من اجتهاده لا روايته؛ لذا قال ابن عباس كما عند أبي داود «إنّ ابن عمر وهم، والله يغفر له» ، كيف وقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى النّبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله «هلكت: حولت رحلي البارحة، فأنزلت هذه الآية {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} أقبل وأدبر، واتق الدبر والحيضة» . أخرجه الإمام أحمد (1/ 297) والترمذي (5/ 200) من وجه صحيح.

(4)

يريد قول أبي سعيد الخدري: «أن رجلًا أصاب امرأته في دبرها، فأنكر الناس ذلك عليه، وقالوا: أبعرها، فأنزل الله عز وجل هذه الآية» .

والشاهد ضعيف، وهو معارض بما صحّ في سبب نزولها من قول جابر رضي الله عنه: «كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} رواه البخاري في كتاب التفسير.

ص: 117

أبين من هذا؟.

واستدل آخرون بها على إباحة العزل، أخرج الحاكم عن ابن عباس أنه سئل عن العزل فقال: إنكم قد أكثرتم، فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه شيئاً فهو كما قال، وإن لم يكن قال فيه شيئاً فأنا أقول:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فإن شئتم فاعتزلوا وإن شئتم فلا تفعلوا

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} .

قال ابن عباس يقول: بسم الله عند الجماع أخرجه ابن جرير.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} الآية [224].

قال ابن عباس: يقول الله لاتجعلني عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك وأصنع الخير

(2)

، أخرجه ابن أبي حاتم.

ففيه استحباب الحنث والتكفير لمن حلف يميناً فرأى غيرها خير منها

(3)

.

وقيل: أراد به النهي عن كثرة الحلف؛ لأنه نوع جراءة على الله وابتذال لاسمه في حق أو باطل

(4)

.

(1)

بناء على العموم في {أَنَّى} للمكان فيشمل وضعه ما بين الفخذين دون الفرج كذلك.

(2)

ومعنى: {عُرْضَةً} مانع، وقول ابن عباس مأخذ الحكم، وهو على أن قوله:{أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا} مفعول من أجله، فيقدر ما يقتضيه المعنى.

ونظم الآية: لأجل أن تبروا وتتقوا، ولا يكون ذلك إلّا بالحنث.

(3)

للمأخذ السابق، والإتيان بالخير، ولا يكون إلّا بالحنث -وهوعدم الوفاء بيمينه- فيكون الحنث مستحبًا حينئذ، وما لا يتم المندوب إلّا به فهو مندوب.

وفي الصحيح: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير» ..

(4)

ومن أكثر ذكر شيء فقد جعله عُرضة، وقد روى عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنّها نزلت في تكثير اليمين بالله، نهينا أن يحلف الرجل به بارًا، فكيف فاجرًا؟.

ص: 118

•‌

‌ قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [225].

قالت عائشة: هو قول الرجل: لا والله وبلى والله

(1)

، أخرجه البخاري، وفي لفظ عنها عند عبد الرزاق: هم القوم يتدارءون في الأمر فيقول هذا: لا والله وبلى والله، وكلا والله يتدارءون في الأمر لا تعقد عليه قلوبهم.

وأخرج ابن أبي حاتم عنها قالت: إنما اللغو في المزاحة والهزل، وهو قول الرجل: لا والله وبلى والله، فذاك لا كفارة فيه، إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ثم لا يفعله.

فعلى هذا في الآية دليل على اعتبار القصد في اليمين، وأن من سبق لسانه إليها بلا قصد لا ينعقد.

وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال: لغو اليمين حلف الإنسان على الشيء يظن أنه الذي حلف عليه فإذا هو غير ذلك.

وأخرج من طريق العوفي عن ابن عباس قال: هو أن يحلف الرجل على الشيء يراه حقاً وليس بحق، وأخرج عن جماعة من التابعين مثله.

فاستدل بها من قال: إن من حلف على غلبة ظنه لا إثم عليه ولا كفارة، قصد اليمين أو لم يقصدها.

وأخرج أيضاً عن مسروق وغيره: أنه الحلف على المعاصي، فبِّره ترك ذلك الفعل، ولا كفارة.

وأخرج عن ابن عباس وطاووس أنه اليمين في حالة الغضب، فلا كفارة فيها،

(1)

اختلف العلماء في المقصود بالمؤاخذة هل هي في الآخرة، أو في الدنيا وهي الكفارة؟

وبناء على الخلاف السابق وقع الخلاف في تفسير يمين اللغو، وساق المصنف ثمانية أقوال.

ص: 119

وأخرج عن النخعي أنه الذي يحلف على الشيء ثم ينساه، فلا كفارة.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن يحرِّم ما أحلَّ الله، فذلك ما ليس عليك فيه كفارة، يعني أن يقول: مالي علي حرام إن فعلت كذا مثلاً.

قال ابن الفرس: وبهذا أخذ مالك إلا في الزوجة.

وأخرج ابن جرير عن زيد ابن أسلم قال: هو كقول الرجل أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا ونحوه، وكقوله: هو كافر هو مشرك إن لم يفعل كذا، فلا يؤاخذ به حتى يكون من قلبه.

وقيل لغو اليمين: يمين المكره حكاه ابن الفرس ولم أره مسنداً

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} .

فيه انعقاد اليمين بالقصد وفسَّره قوم بأن يحلف وهو يعلم أنه كاذب.

وأسند ابن جرير من طريق علي عن ابن عباس أن ذلك اليمين الصبر الكاذبة، وأنه لا كفارة لها بل المؤاخذة في الآخرة

(2)

، وبه قال مالك وغيره.

(1)

قال ابن الفرس في أحكام القرآن (1/ 303): «إنّما يقوي بعض هذه الأقوال ويضعف بحسب ما ذكره الله في الآية من اللغو والكسب، وذلك أن اللغو ما لم يتعمد أن يسقط، وما حقه أن يسقط، وكسب ما قصده ونواه» .

(2)

يمين الصبر هي التي يكون فيها متعمدًا للكذب، قاصدًا لإذهاب مال المسلم، كأنّه يصبر النفس على تلك اليمين، أي: يحبسها عليها.

وفي الحديث المتفق عليه: «من حلف علي يمين صبر، وهو فيها فاجر، يقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله يوم القيامة، وهو عليه غضبان» أخرجه البخاري (6677)، ومسلم (220).

وقوله: «المؤاخذة في الآخرة» ؛ لأن اليمين التي تجب فيها كفارة هي المعقودة {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} ، ويمين الغموس محلولة غير منعقدة.

ص: 120

وأوجب الشافعي فيها الكفارة أخذاً من عموم المؤاخذة؛ ولأنها المنفية

(1)

في أول الآية بدليل قوله في المائدة {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ}

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} الآيتان [226].

قال إلكيا: ليس في نظم القرآن ما يدل على الجماع

(3)

ولا على الحلف على مدة معلومة فاختلف العلماء:

فمنهم من لم يفصل بين اليمين المانعة من الجماع والكلام والإنفاق فضرب له الأربعة أشهراً أخذاً من عموم الآية

(4)

.

ومنهم من خصها بالجماع سواء كان عن غضب أو لا

(5)

.

ومنهم من خصها بالجماع عن غصب

(6)

.

(1)

والأفعال نكرات، وورودها في سياق النفي {لَا يُؤَاخِذُكُمُ} يجعلها عامّة،، وتعمّ عدم المؤاخذة في الدنيا والآخرة.

(2)

عقد اليمين بمعنى كسب القلوب، وهو العقد عليه، ونيته، ولا خلاف في وجوب الكفارة والمؤاخذة في الدنيا.

(3)

أي: أنها مفتقرة عليه؛ لأن العلماء عرفوا الإيلاء بأنّه: الحلف على ترك وطء المرأة. فالمُولي: الذي يحلف بالله عز وجل ألا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهر كما سيأتي.

والجماع قطعًا داخل؛ لأنّه سبب نزول الآية حيث كان الإيلاء في الجاهلية السنة والسنتين، فوقت لهم الشارع أربعة أشهر.

وقد كان الرجل لا يريد المرأة، ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف ألّا يقربها أبدًا فيضر بها.

(4)

لعله يريد العموم البدلي (الإطلاق)؛ لأن الأفعال لا عموم فيها، وهي نكرة في سياق إثبات، والإيلاء والحلف، يعمّ الحلف على الجماع وغيره مما ذكره.

لكن الجمهور على إضمار الجماع، أي: يحلفون على عدم وطء زوجاتهم.

(5)

قصرها على الجماع هو من قصر العام على سببه، ومن سببه كذلك كونه لا يريدها، لكنه لا يريد أحدًا أن يتزوجها، ومن لم يقصر العام على سببه عمم.

(6)

كما سبق من قصر العام على سببه؛ ولأنّ العادة أن الحلف على امتناع الجماع إنما يكون عن غضب، والمقصود أنّه يكون موليًا إذا حلف لا يجامعها على وجه.

ص: 121

وفي الآية أنه يمهل أربعة أشهر من الإيلاء ثم يطالب بالفيئة أو الطلاق

(1)

.

واستدل الشافعي بها على من آلى أربعة أشهر فقط لا يكون مؤلياً، خلافاً لأبي حنيفة في قوله بوقوع طلقة

(2)

؛ لأن مدة أربعة أشهر حق خالص له فلا يفوت به حق، ولا يتوجه عليه مطالبة

(3)

.

وفي الآية رد على من خصص الإيلاء بالمؤبد، بخلاف المقيد بوقت، أو صفة لإطلاق الآية

(4)

.

وعلى القائل إن من حلف على دون أربعة أشهر ولو يوماً أن يتركها أربعة أشهر من غير جماع

(5)

.

وعلى من قال بوقوع الطلاق بمضي المدة لقوله: {فَإِنْ فَاءُوا} {وَإِنْ عَزَمُوا}

(6)

، وفي لفظ العزم ما يدل على قصد الطلاق وإنشائه. وكذا قوله:{سَمِيعٌ}

(1)

الطلاق حال امتناعه عن الفيئة وهي الرجوع عن موجب يمينه، فيطأ زوجته.

(2)

إذا تمت الأربع، ولا أثر لفيئته بعدها، ولا يتوقف على القاضي.

(3)

أي: فلا يفوت بالأربعة أشهر حق الخيار بين الفيئة والطلاق، ولا يتوجه عليه مطالبة بطلاق.

وسبب الخلاف: الخلاف في التقدير في قوله: {فَإِنْ فَاءُوا} ، فقيل:(فإن فاؤوا فيهن) أو (فيها) وهي قراءة أبي بن كعب، وهو مذهب الحنفية.

وقدَّر الشافعي (فإن فأوا بعدهن) وسيأتي ما يدل عليه من السياق.

وكذا وقع الخلاف في الفاء في قوله: {فَإِنْ فَاءُوا} هل هي للترتيب الزماني، أي: زمن المطالبة بالفيء أو الطلاق عقب الأجل المضروب.

أو للترتيب الذكري، فتفيد الترتيب المفصل (الفيء والطلاق) على المجمل، فيجوز أن يكون خلال الأجل المضروب، فإذا انقضى الأجل دون فيئة، وقع الطلاق.

(4)

فلم تقيد الآية الإيلاء بمؤبد أو غير مؤبد، والذي قصرها على المؤبد أراد قصر الآية على سبب نزولها، كفعل الجاهلية، وربما حلف ألا يطأ امرأته على التأبيد.

(5)

أي: رد عليه في كونه إيلاءً، فليس ذاك بإيلاء؛ لمفهوم العدد {أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} .

(6)

باعتبار أن الفاء للترتيب الزماني، كما سبق.

ص: 122

بمسموع وهو النطق بالطلاق ومضي المدة ليس بمسموع.

وعلى من قال بصحة الإيلاء من الأجنبية

(1)

؛ لقوله: {مِنْ نِسَائِهِمْ} .

واستدل بعموم الآية على صحة الإيلاء من الكافر

(2)

، وبأي يمين كان

(3)

، ومن غير المدخول بها، والصغيرة

(4)

والخصي

(5)

.

وأن العبد يضرب له الأربعة أشهر كالحر

(6)

.

واستدل بها محمد بن الحسن على امتناع تقديم الكفارة على الحنث

(7)

؛ لأنه

(1)

كأن يضيف الإيلاء إلى النكاح، فيقول: إن تزوجتك فوالله لا أقربك، وفي الآية رد من قال بصحة الإيلاء من الأجنبية؛ لمفهوم الصفة في قوله:{مِنْ نِسَائِهِمْ} وهي ليست من نساءه، فلا تكون محلًا للإيلاء.

وقد أجاز الحنفية إضافة الطلاق والإيلاء، وتعليقه على النكاح؛ لأنّ المعلق بالشرط كالمنجز عند وجود الشّرط.

أمّا الشافعية فلا يصح عندهم الإيلاء المضاف إلى النكاح (التعليق) حتى يقع، والمرأة التي عُلق إيلاؤها على نكاحها ليست زوجة عند حصول الإيلاء.

فالحنفية يجعلون التعليق يؤخر انعقاد الإيلاء حتى يوجد المعلق، والشافعية يمنعون ترتب الحكم عليه حتى يوجد الشرط المعلق عليه.

(2)

أي: الذمي إذا ترافع إلينا، والعموم لاسم الموصول {لِلَّذِينَ} وضمير الجمع:{يُؤْلُونَ} .

(3)

لإطلاق الآية فتدخل فيه كل يمين منعت جماعًا.

قال القرطبي في جامعه (3/ 103 - 104): «قال ابن عبد البر: وكل يمين لا يقدر صاحبها جماع امرأته من أجلها، إلّا بأن يحنث فهو مؤل، إذا كانت يمينه على أكثر من أربعة أشهر، فكل من حلف بالله، أو بصفة من صفاته، أو قال: أقسم بالله، أو على عهد الله وكفالته وميثاقه وذمته؛ فإنه يلزمه الإيلاء، فإن حلف بالصيام ألا يطأ امرأته، فقال: إن وطئتك فعلي صيام شهر، أو سنة فهو مؤل، وكذلك كل ما يلزمه من حج أو طلاق أو صلاة أو صدقة» .

(4)

لعموم الجمع المضاف {مِنْ نِسَائِهِمْ} .

(5)

والخصي هو الذي بقي من ذكره ما لا يمكن أن يفيئ به،.

(6)

لدخوله، وكذا الخصي في عموم {لِلَّذِينَ} ، وضمير الجمع {يُؤْلُونَ} وهو قد آل وحلف.

(7)

الحنث بأن يطأها قبل انتهاء المدة، فعليه كفارة يمين، فعلى قول محمد بن الحسن لا يجوز التكفير قبل الحنث بالوطء، وإنما يكفر بعدما يطأ.

ص: 123

حكم للمولى بأحد الحكمين الفيء أو الطلاق فلو جاز تقديم الكفارة لبطل الإيلاء بدونهما، ففيه إسقاط حكم الإيلاء بغير ما ذكر الله.

واستدل الحسن وبعض أصحابنا بقوله: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} على أنه لا يلزمه كفارة اليمين

(1)

.

واستدل بتخصيص هذا الحكم بالمولى على أن من ترك الوطء ضراراً بلا يمين لا يجري عليه هذا الحكم

(2)

.

واستدل بقوله: {وَإِنْ عَزَمُوا} من قال إن الحاكم لا يطلق عليه

(3)

؛ لأنه جعل الفيء والطلاق للمولي لا لغيره

(4)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [228].

فيه وجوب العدة على المطلقات طلاقاً رجعياً أو بائناً

(5)

بشرط الدخول كما

(1)

أي: قبل انقضاء الأربعة أشهر، إن رجع فيها؛ لأنّ الله قال:{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: لتلك اليمين.

وقيل: المراد: غفور لهم ما أتوه من ضرر المرأة بالحلف، أي: الإثم المترتب على هذا. وقيل: لأنّه لم يكن أنزلت الكفارة في المائدة، والحنث موجب للكفارة.

(2)

لظاهر الآية؛ لأنّ الله جعله للمولي، وهو الحالف، وهذا غير حالف. بل يعد صنيعه سوء عشرة يتيح لها طلب الفرقة عند بعض الفقهاء؛ لقوله:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، إذا لم يكن هناك عذر يمنعه من قربانها.

(3)

أي: حال امتناعه من الفيئة بعد التربص، وإنّما يضيق على الزوج ويحبس حتى يطلقها بنفسه، وهذا الإكراه معتبر؛ لأنّه إكراه بحق.

(4)

في حاشية المحقق (4)(1/ 415): «وهذا الاستدلال غير صحيح؛ لأن الله تعالى لم يترك له الأمر، وإنما خيَّره بين أمرين على الوجوب، أي يجب عليه فعل أحدهما: الفيء أو الطلاق، أما لا يفعلهما معاً فليس ذلك له، بل يطلق عليه الحاكم في هذه الحالة» .

(5)

والوجوب لكونه خبرًا بمعنى الأمر، أي: عليهن أن يتربصن.

وكونه عامًا للبائن الرجعي؛ لأنّه جمع معرف {وَالْمُطَلَّقَاتُ} فيعمّ كل مطلقة إلّا ما خصّ منه الدليل.

ص: 124

في سورة الأحزاب

(1)

، وأنها ثلاثة قروء لمن تحيض بخلاف الآيسة والصغيرة والحامل كما في سورة الطلاق

(2)

، والمستحاضة داخلة في العموم

(3)

.

قال الأصم: والأمة.

• قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} .

قال ابن عمر: لا يحل لها إن كانت حاملاً أن تكتم حملها، ولا يحل لها إن كانت حائضاً ان تكتم حيضها

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم وغيره.

وفيه دليل على أن قولها يقبل في الحيض

(5)

، وفي الحمل بلا مخيلة وإلا لم يحرم عليها الكتم

(6)

.

قال العلماء: وإنما نهين عن الكتم لئلا يبطل حق الزوج من الرجعة إن أراد رحعتها قبل الوضع أو الحيض، ولئلا تضر به في النفقة إن قالت لم أحض.

قال ابن الفرس: وعندي أن الآية عامة في جميع ما يتعلق بالفرج من بكارة وثيوبة وعيب؛ لأن كل ذلك مما خلق الله في أرحامهن فيجب أن يصدقن فيه

(7)

.

(1)

قوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49].

(2)

قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].

(3)

لعموم الجمع المعرّف في قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} ، وكذا الأمة كما ذكر المصنف.

(4)

مأخذ التحريم: الإخبار عن الحكم بقوله: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ} ، ولقوله:{إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} مما يدل على أن فعل ذلك فيه خلل بالإيمان، والخلل به محرم، ولتفسير ابن عمر رضي الله عنهما.

(5)

فلو قالت: حضت، وقد علق الطلاق على حيضها فإنّه يقع.

(6)

لأنّ النهي عن الشيء أمر بضده، فنهى عن الكتمان وضده الأمر بإظهاره، كما أنه لا يجب عليها الإظهار إلّا لأجل العمل به، وإلّا لما كان للإظهار فائدة.

(7)

لأنّ قوله: {مَا خَلَقَ اللَّهُ} عام بصيغة {مَا} الموصولة، فيتحقق المجتهد مناط ما خلق في الرحم، وما ذكره ابن الفرس إن قيل: إنّ العلة هي كون هذه الأمور مما لا يُعرف إلّا عن طريقها، فتدخل في عموم ما خلق الله.

ص: 125

•‌

‌ قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} .

قال ابن عباس في الآية: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة أو تطليقتين وهي حامل فهو أحق برجعتها ما لم تضع، أخرجه ابن جرير.

وقال بعضهم: أول الآية عام وآخرها خاص، وذلك أن أولها عام في كل مطلقة وآخرها خاص بالرجعية.

وأخرج ابن جرير عن النخعي {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} قال في العدة.

وفيه دليل على أن الزوج يستقل بالرجعة في العدة من غير ولي ولا رضا المرأة، وأنه بعد العدة بخلاف ذلك

(1)

.

واستدل الحنفية بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ} على بقاء الزوجية وإباحة الوطء.

واستدل خلافهم بقوله: {بِرَدِّهِنَّ} ، والرد لا يكون إلا لما ذهب من إباحة الوطء.

واستدل به من قال: إن لفظ الرد من صرائح الرجعة

(2)

.

واستدل به أيضاً من قال: إن للزوج نكاح المختلعة في عدتها برضاها لعمومه

(3)

.

(1)

لمفهوم قوله: {فِي ذَلِكَ} أي: في مدة التربص ثلاثة قروء، ومفهومه: إنّه بعد ذلك لا بدّ من رضاها وولي وعقد، وكونه أحق بنص القرآن، وتفسير ابن عباس السابق.

(2)

لوروده في القرآن لذلك.

(3)

لعله عموم قوله: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} وهي لا تريد الإصلاح، بل تريد الفراق خُلعًا، وإن حصل فليس هو {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} ومن ثمّ كانت بائنًا بالخلع كالأجنبية، وهي في العدة، لكن العدة لأجل استبراء رحمها من ماء زوجها الأوّل لتحل لغيره.

ص: 126

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .

فيه أن على المرأة ولها حقوقاً

(1)

.

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إني أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي؛ لأن الله يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، وما أحب أن أستوفي جميع حقي عليها؛ لأنّ الله يقول:{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} .

وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} قال: طاعة، قال: يطعن الأزواج الرجال ولا يطيعونهن.

•‌

‌ قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [229].

قال السدي: يعني الذي يملك فيه الرجعة، أخرجه ابن جرير؛ ويدل له قوله بعد:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} .

وفيه أن لفظ الإمساك من صرائح الرجعة، ولفظ التسريح من صرائح الطلاق

(2)

.

واستدل بقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} من قال: إنّ الرجعة تحصل بالوطء؛ لأنه أقوى مقاصد النكاح، فكان إمساكاً بالمعروف فتحصل به الرجعة.

قال إلكيا: وهذا غلط لأن قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} في الطلاق، ولا طلاق إلا بالقول

(3)

، وكذلك الإمساك لا يكون إلا بالقول.

(1)

الحقوق هي الواجبات، وفي الآية {وَلَهُنَّ} و {عَلَيْهِنَّ} فاللام وعلى من صيغ الوجوب، وقدّم المولى سبحانه حقوق المرأة على حقوق الرجل من باب الاهتمام والتأكيد.

(2)

لوروده في القرآن لذلك.

(3)

أي: لأجل المقابلة، فالطلاق لا يكون إلّا بالقول فكذا الإمساك، وهذا مذهب الشافعي، ويؤيده قوله:{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} والشهادة إنّما على القول لا الوطء قطعًا.

وأكثر العلماء على أنّ الرجعة تكون بالقول أو بالفعل، ولو كان أدون من الوطء كالقبلة، والنظر لشهوة للفرج.

ص: 127

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا} الآية.

فيه تحريم أخذ مال الزوجة على سبيل الإكراه والمضارة

(1)

، وجوازه إذا كان النشوز من جهتها

(2)

وذلك أصل الخلع.

واستدل بعموم قوله: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} على جواز الخلع بقدر ما أصدقها، وأكثر منه، خلافاً لمن منع الزيادة

(3)

.

وبقوله: {افْتَدَتْ} من قال: إن لفظ المفاداة من صرائح الخلع

(4)

.

واستدل بالآية من منع الخلع لغير الضر منها ومنه، ومن منعه لضرر أحدهما فقط لتعليقه بخوفهما معاً

(5)

.

واستدل بها من قال: إن الخلع فسخ لا طلاق؛ لأنه تعالى ذكر {الطَّلَاقُ

(1)

لقوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ} وهي من الألفاظ التي يخبر الشارع فيها عن أحكام التحريم.

(2)

لقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ونفي الجناح عن الفعل من الأساليب الدالة على الجواز.

(3)

للعموم الوارد بصيغة اسم الموصول {فِيمَا} فيعمّ القليل والكثير.

(4)

لوروده في القرآن لذلك.

(5)

لمفهوم قوله: {أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} .

قال ابن قدامة في المغني (7/ 326): «هذا صريح في التحريم إذا لم يخافا إلا يقيما حدود الله، ثم قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فدل بمفهومه على أن الجناح لاحق بهما إذا افتدت من غير خوف، ثم غلظ بالوعيد فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وفي الحديث: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق، من غير ما بأس فحرام عليها الجنة» .

ص: 128

مَرَّتَانِ}، ثم ذكر الخلع، ثم قال {فَإِنْ طَلَّقَهَا} فدلَّ على أن الخلع ملغى غير محسوب وإلا كان الطلاق أربعاً.

ورد: بأن ذكر المفاداة حكم على حياله

(1)

، فلا فرق بين ذكره بين الطلقتين والثلاثة وفي غير ذلك.

وفي الآية رد على من لم يجوز الخلع إلا عند السلطان

(2)

.

وقد يستدل بها من لا يجوز خلع الأجنبي؛ لأنه خص الافتداء بها

(3)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [230].

فيه تحريم المطلقة ثلاثاً

(4)

.

وعموم الآية دليل لمن قال بعدم الهدم

(5)

؛ إذ لا فرق بين أن يتخلل الطلاق

(1)

أي: مستقل، وعليه قد يكون فسخًا، وقد يكون طلاقًا؛ إذ القصد هنا الذكر فقط لا الترتيب.

(2)

للإطلاق في قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ولم تقيدها عند السلطان.

(3)

لقوله: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فلا يصح أن يكون العوض من أجنبي لا من الزوجة، كأن يقول رجل لآخر: طلق أو خالع أمرأتك ولك ألف درهم.

ولعل مفهوم الظرف {بِهِ} في قوله: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} لا حجة فيه؛ لأنّه خرح مخرج الغالب؛ إذ الغالب هي التي تفدي نفسها، وعليه فيقع الخلع، ويلزم الألف ذلك الرجل.

(4)

للإخبار عن الحكم بقوله: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ} وهو من أساليب التحريم.

(5)

المراد بعدم الهدم، أي: إذا طلقها طلقتين ثم تزوجت من غيره، ثم رجعت إليه، هل هذا الزواج يهدم ما سبق من الطلقتين بحيث لو طلقها مرة أخرى لا تحسب ثالثة أو لا يهدمه؟

ووجه العموم من الآية: أن قوله: {فَلَا تَحِلُّ} فعل في سياق النهي فيعمّ؛ إذ الأفعال كما سبق نكرات، والمعنى: عدم الإحلال بعد الثلاث.

والجمهور على عدم الهدم فالمرأة إذا عادت إلى زوجها، وقد بقي من طلاقها شيء؛ فإنّها ترجع على ما بقي من الطلاق.

أمّا إذا رجعت إلى زوجها الأوّل بعد أن أتم عدد الطلقات، وتزوجت بآخر بنكاح صحيح وجامعها ثم طلقها، ورجعت إلى الأوّل، فإنّها ترجع بالعدد الكامل من الطلقات، فله أن يطلق ويراجع، ويطلق ويراجع، ثم إذا طلق الثالثة بانت منه.

ص: 129

نكاح غيره أم لا.

•‌

‌ قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} الآية.

فيه أن المطلقة ثلاثاً إنما تحل بعد نكاح زوج آخر سواء كانت حرة، أم أمة ثم اشتراها

(1)

.

وينبغي أن يستفاد الوطء من لفظ: {تَنْكِحَ}

(2)

، والنكاح الصحيح من قوله:{زَوْجًا} فلابد من وطء زوج في نكاح صحيح، لا وطء سيد، ولا نكاح بلا وطء، ولا وطء في نكاح فاسد، ولا بشبهة

(3)

.

واستدل به سعيد بن المسيب على الاكتفاء بالعقد بلا وطء؛ بناء على أن النكاح حقيقة في العقد

(4)

.

وفي الآية رد على من أحل بوطء السيد

(5)

، وعلى من أباح الوطء بالملك إذا أشترى مطلقته ثلاثاً

(6)

، وعلى من لم يكتف بنكاح الكافر إذا كانت كافرة والمراهق والمجنون؛ لأنه يسمى زوجاً

(7)

.

(1)

لعموم قوله: {فَلَا تَحِلُّ} كما سبق، وكونها لا تحل إلّا بعد نكاح زوج أخر لمفهوم الغاية في قوله:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} .

(2)

اسم النكاح لا يطلق على الوطء إلّا في هذه الآية؛ لدلالة حديث رفاعة، وقوله عليه الصلاة والسلام:«لا حتى يذوق عُسيلتك وتذوقي عسيلته» كما في البخاري (5792)، ومسلم (1433).

(3)

النكاح الفاسد، كنكاح ذات محرم، أو نكاح بلا ولي ولا شهود، ووطء الشبهة، أن يطئها يظنها زوجته، وهذان الوطئان لا يصدق فيهما على الواطئ أنه زوج.

(4)

يعتذر له أنّه لم يطلع على حديث رفاعة، وإلّا لفظ النكاح يطلق على الوطء حقيقة.

(5)

لأنّه ليس زوجًا.

(6)

لأنّه ليس نكاحًا.

(7)

أي: الكافر والمراهق والمجنون.

وقد ذكر القرطبي (3/ 143) أن مدار التحليل عند المالكية على الزوج الناكح .... وفيه أن يكون بالغًا مسلمًا، وأمّا الشافعيون وأبو حنيفة فمداره على تغيب الحشفة في فرجها حتي يتحقق ذوق العُسيلة، وسواء كان من صبي أو مراهق، أو مجبوب بقي له ما يغيبه.

ص: 130

•‌

‌ قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية [231].

فيه وجوب الإمساك بمعروف

(1)

، وتحريم المضارة

(2)

.

واستدل به الشافعي على أن العاجز عن النفقة يفرق بينه وبين زوجته؛ لأن الله تعالى خير بين اثنين لا ثالث لهما: الإمساك بمعروف، والتسريح بإحسان، وهذا ليس ممسكاً بمعروف فلم يبق إلا الفراق

(3)

.

واستدل بقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} على أن الرجعة تنفذ على هذا الوجه ويكون ظالماً

(4)

.

(1)

أو التسريح بالإحسان، ووجه الوجوب المصدر النائب عن فعله في قوله:{فَإِمْسَاكٌ} أو {أَوْ تَسْرِيحٌ} ، أي: فالواجب إمساك أو تسريح.

(2)

للنهي في قوله: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} ، والمضارة تكون بأن يطلقها رجعيًا ثم كلما قارب انقضاء عدتها راجعها اضرارًا وعدونًا، أو يراجعها ويمسكها بغير المعروف ضرارًا أو عدونًا.

(3)

لأنّ الإمساك بمعروف يكون بالقيام بما يجب عليه من حق على زوجها، ومنها النفقة، أو فالواجب التسريح.

فإن قيل: العاجز عن النفقة غير مكلف بالإنفاق.

يقال: نعم غير مكلف لعجزه، لكنه مكلف بالتسريح؛ لأنّه مقدور عليه.

(4)

لتطويل العدة عليها بمراجعتها إذا شارفت العدة على الانتهاء، وذكر المولى سبحانه هنا اسم الإشارة {ذَلِكَ} ؛ ليدل على البعد تعظيمًا له وترهيبًا منه.

وكون الرجعة تنفذ عند من قال بأنّه لا مفهوم للشرط في قوله: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} ولعل القائل بمفهوم مؤيد بهذا النص الدال على تحريم هذا الفعل، ووصف فاعله بأنّه ظالم لنفسه، والنهي يقتضي الفساد، والله أعلم.

ص: 131

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا}

فيه وقوع طلاق الهازيء، وعتقه، ونكاحه، وجميع تصرفاته؛ لأن سبب نزول الآية ذلك

(1)

كما أخرجه ابن المنذر وغيره.

واستدل بها أيضاً على تحريم الطلاق زيادة على العدد المشروع، أخرج ابن المنذر عن ابن عباس أن رجلاً قال له: طلقت امرأتي ألفاً. قال: ثلاث تحرمها عليك، وبقيتهن وزر، أتخذت بها آيات الله هزؤا.

•‌

‌ قوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [232].

فيه تحريم العضل على الأولياء كما بينه سبب نزولها

(2)

.

واعتبار الولي في النكاح وإلا لم يلتفت إلى عضله

(3)

.

(1)

وقد أورد السيوطي في الدر المنثور (1/ 683) عن عبادة بن الصامت قوله: «كان الرجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقول للرجل زوجتك ابنتي ثم يقول: كنت لاعبًا ويقول: قد أعتقت، ويقول: كنت لاعبًا، فأنزل الله {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} فقال رسول الله: صلى الله عليه وسلم «ثلاث من قالهن لاعبًا أو غير لاعبٍ فهن جائزات: الطلاق، والعتاق، والنكاح» . وسبب النزول قطعي الدخول.

(2)

أي: بين حكم التحريم الثابت بالنّهي بقوله: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} سبب نزولها، وهو ما رواه البخاري عن معقل بن يسار قوله: إنّها نزلت فيه، فقال:«زوجت أختًا لي من رجل فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وأفرشتك وأكرمتك، فطلقتها، ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبدا، وكان رجلا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله هذه الآية: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} فقلت: الآن أفعل يا رسول الله، قال: «فزوجها إياه» .

(3)

قال السعدي في تفسيره (1/ 103): «لأنّه نهى الأولياء عن العضل، ولا ينهاهم إلّا عن أمر هو تحت تدبيرهم ولهم حق فيه» .

ولعل الدلالة هنا دلالة الالتزام؛ إذ يلزم من النهي عن العضل أن له حقاً فيه، وإلا لم يكن للنهي فائدة.

ص: 132

وفيه أن المرأة إذا اختارت كفؤاً، واختار الولي غيره يقدم ما اختارته هي

(1)

.

وفيه أن الزوج بعد انقضاء العدة ليس له الرجعة، بل إنما ينكح بولي ومهر جديد

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [233].

أمر للوالدات بإرضاع الأولاد، فقيل: هو للندب لا للوجوب، وقيل: للوجوب مطلقاً

(3)

، وقيل: ما دامت في العصمة

(4)

، وقيل: إن مات الأب أو كان معسراً، ولا مال للابن

(5)

.

واستدل به من قال: يمنع الأب من استرضاع غيرها إذا طلبت الأم أجرة ووجد متبرعة

(6)

.

قال إلكيا وغيره: ويؤخذ من قوله: {يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} أن الأم أحق

(1)

لأنه سبحانه أضاف النكاح في قوله: {أَنْ يَنْكِحْنَ} لهن، وشرط أن يكون كفئًا؛ لأجل إعفافها.

(2)

لقوله: {أَنْ يَنْكِحْنَ} ولفظ النكاح يطلق على العقد ولو لم يحصل مسيس، كما في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} .

(3)

قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} خبر بمعنى: الأمر، ومن العلماء من قال بالوجوب بناء على أصل الأمر، ومقتضاه.

ومنهم من قال: بالندب، وجعلوا الصارف آية سورة الطلاق؛ إذ هي مبينة لآية سورة البقرة، وآية الطلاق علّقت استحقاق الأجرة على الإرضاع {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فجعلت الأجرة مقابل الإرضاع، والخيرة ترجع للأم، ولا واجب مع الاختيار.

كما أنّهم قالوا: إنّ سياق آية البقرة لبيان مدة الإرضاع لا لبيان إيجابه وحكمه.

(4)

لسياق الآية لقوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} ومعلوم أنّ الرزق والكسوة يكون لمن كانت في العصمة.

(5)

لأنّ إرضاع الطفل واجب، ولا يتم إلّا بواسطة المرضعة الأم؛ لأجل إعسار الأب، وسيأتي قوله:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} أنّه لا يجوز للأم الامتناع، إذا لم يوجد غيرها، أو لم يقبل إلّا ثديها.

(6)

لقوله: {يُرْضِعْنَ} فلم يجعل المولى لغيرهن حظًا في الإرضاع، وسيأتي القول الثاني ومأخذه.

ص: 133

بالحضانة؛ لأن حاجة الولد إلى من يحضنه كحاجته إلى من يرضعه

(1)

.

وفي الآية أن منتهى الرضاع حولان

(2)

، وأنه لا رضاع بعدهما فلا يثبت التحريم

(3)

، وأنه يجوز فطمه قبل الحولين بشرط تشاور الأبوين في ذلك واتفاقهما

(4)

، وأنه لا يستقل أحدهما بالفطم قبلهما بخلاف ما بعدهما، وأن على الأب أجرة الرضاع للأم إذا طلبتها سواء كانت في عصمته أم لا

(5)

، وأن المراعى في ذلك حال الزوج يساراً وإعساراً وتوسطاً لا الزوجة ولا هُمَا، لقوله:{لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا}

(6)

.

(1)

قياس الحضانة على الرضاعة، فكما أنّها أحق بالرضاعة فهي أحق بالحضانة، ويؤيده {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} وفي انتزاع الصغير إضرار بالأم.

(2)

ولما كان الحول يطلق على الكامل وعلى معظم الحول، أكده سبحانه بقوله:{كَامِلَيْنِ} والمقصود تمام الرضاع يكون بالحولين، ومفهومه عدم جواز إفطامه، قبل ذلك، لكن هذا المفهوم غير مراد، كما سيأتي في سياق الآية.

(3)

أخذًا من مفهوم العدد، وهو أن ما زاد على الحولين ليس له حكم لبن الرضاع، فلا يثبت به التحريم.

ويؤكد هذا المفهوم قوله عليه الصلاة والسلام «إنّما الرضاعة من المجاعة» أخرجه البخاري (2647)، ومسلم (1455)، وورد مرفوعًا وموقوفًا عن ابن عباس -والموقوف أصح- «لا رضاع بعد الحولين» ، فهو إذا بعد الحولين لبن طعام فقط، كسائر الأغذية غير معتبر في التحريم.

(4)

لقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} وهي من الأساليب الدالة على الجواز، وقد علق على شرطين، ولا يثبت الحكم إلّا بثبوتهما، ومفهوم الشرط عدم جواز فطامه عند انتفاءها، أو انتفاء أحدهما.

(5)

لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} وإن كانت في عصمته، اكتفي بالإنفاق عليها باسم الزوجية، {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} ، فالزوجة تستحق النفقة والكسوة أرضعت أم لم ترضع؛ لأنّ النفقة والكسوة مقابل التمكين.

وإن كانت خارج عصمته فلها الانفاق على المولود من أجل الإرضاع، والأجرة كما في آية الطلاق:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} .

(6)

{نَفْسٌ} نكرة في سياق نفي فتعمّ، ويدخل فيها الزوج أصالة؛ لأنّه المقصود، وهو الذي تجب عليه النفقة. وحصر التكليف على الوسع، والمعتبر حال الزوج هنا؛ فإنّ كان فقيرًا، فإنّه لا يلزم إلّا بنفقة الفقير، وكذا إن كان غنيًا أو متوسطًا كل حسب حاله.

ص: 134

• وقوله: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} الآية.

فيه أن الأم إذا رضيت بما ترضى به الأجنبية فلا تضار بانتزاع الولد منها، وأن الأب إذا وجد متبرعة فلا يضار بإلزامه الأجرة للأم.

وقال مجاهد في الآية: لا تأبى أن ترضعه ليشق على أبيه، ولا يمنع الوالد أمه أن ترضعه، أخرجه ابن جرير.

• وقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} .

قيل: إنه منسوخ، وقيل: محكم، وأن الإشارة إلى قوله:{لَا تُضَارَّ} ؛ لأنه أقرب مذكور، فعلى الوارث أن لا يضار الأم، كما أن على الأب أن لا يضارها

(1)

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قال: ألَّا يضارَّ.

وقيل: إلى النفقة والكسوة.

فاستدل به من أوجب ذلك على الوارث من عصبة الميت، وقيل: عصبة المولود، وقيل: المراد به المولود نفسه؛ لأنه وارث أبيه؛ والمعنى أن ذلك واجب في ماله يعطي منه الأم الأجرة، بهذا فسره الضحاك وغيره واختاره ابن جرير وغيره.

(1)

وأكد مأخذه بقول ابن عباس.

وقيل: إنّ المراد بالنسخ هنا التخصيص؛ لأنّ الآية تضمنت الرضاع والنفقة والكسوة، وأن لا تضار الوالدة، ثم خصص الجميع من لفظ العموم عدا المضارة.

ويؤيده ما ذكره المصنف عن ابن عباس في الآية، وأنّه لو أراد الجميع لقال: وعلى الوارث مثل هؤلاء، فدلّ على أنّه معطوف على المنع من المضارة، كما قال المصنف: لأنّه أقرب مذكور.

ص: 135

• وقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ} الآية.

فيها جواز اتفاق الأبوين على استرضاع الولد من غير الأم

(1)

، وإباحة الاستئجار للرضاع

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} الآية [234].

فيه وجوب العدة على المتوفى عنها

(3)

مدخولاً بها أولاً

(4)

، وأنها أربعة أشهر وعشر

(5)

، وذلك في غير الحامل كما في سورة الطلاق

(6)

.

(1)

لتعليق سبحانه نفي الجناح على الإرادة، ونفي الجناح يدل على الجواز، وإن لم يعلق على الإرادة، فكيف وقد علق عليها، فقال سبحانه:{وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} .

(2)

لنفي الجناح الوارد في الآية وفي سورة الطلاق قال سبحانه: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فصرح بأن الأجرة مقابل الرضاعة.

(3)

لقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} ، وهو خبر بمعنى الأمر.

(4)

لقوله: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} و {أَزْوَاجًا} نكرة في سياق إثبات فهي مطلقة، فيصدق على أي زوج توفيت عنه زوجته، سواء كان داخلًا بها أو لا؟. والخطاب من أول الآية للنساء فهن المقصودات.

(5)

لنص الآية، وذكر بعض الفقهاء أن الحكمة من هذا العدد استبراء الرحم، وذلك لأن الولد يكون في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم أربعين يومًا علقة، ثم أربعين يومًا مضغة، ثم ينفخ فيه الروح في العشر، فأمرت بتربص هذه المدة ليستبين الحمل، إن كان بها حمل، والصواب أن الحكمة غير مقتصرة على استبراء الرحم، وقد قال ابن القيم في اعلام الموقعين (2/ 51): «

وليس المقصود بالعدة هنا مجرد استبراء الرحم كما ظنه بعض الفقهاء لوجوبها قبل الدخول، ولحصول الاستبراء بحيضة واحدة، ولاستواء الصغيرة والآيسة وذوات القروء في مدتها، فلما كان الأمر كذلك قالت طائفة: هي تعبد محض لا يعقل معناه،

وهذا باطل لوجوه» ثم ذكرها، وقال:«فالصواب أن يقال: هي حريم لانقضاء النكاح لما كمل» .

(6)

لقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فجعل أجلًا للمطلقة وللمتوفى عنها، ويؤيده حديث سبيع الأسلمية، «أنّها نفست بعد وفاة زوجها بليال، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتزوج» كما عند البخاري (5320)، ومسلم (1485).

ص: 136

وشملت الآية الكتابية والمستحاضة والصغيرة، خلافاً لمن خالف فيهن

(1)

، والأمة عند الأصم

(2)

.

واستدل بقوله: {وَعَشْرًا} من قال: إنها ليال، وأن اليوم العاشر ليس من العدة؛ لإسقاط الهاء

(3)

.

واستدل ابن عباس بإطلاق الآية على أنها تعتد حيث شاءت؛ لأنه قال: {يَتَرَبَّصْنَ} ولم يقل في بيوتهن

(4)

أخرجه الحاكم.

واستدل بقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} على أن العدة من الموت؛ لتعليقها عليه، فلو لم يبلغها موته إلا بعد مضي المدة حكم بانقضائها

(5)

.

(1)

قدّر العلماء في الآية مقدَّرا، فقالوا:(وأزواج الذين يتوفون) والمقدّر كالملفوظ، (وأزواج الذين) جمع مضاف يعمّ ما ذُكر.

(2)

للمأخذ والتقدير السابق، والجمهور، وقيل: إنّه إجماع للصحابة على أن عدتها على النصف من عدة الحرة، فتكون شهرين وخمسة أيام، وورد في الخبر:«طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان» أخرجه أبوداود (1182)، وضعفه الألباني في الإرواء (7/ 201).

(3)

لأنّ العدد يخالف المعدود؛ لكونه مفرداً، يقال عشرة أيام، وعشر ليال.

وقد ذهب الأوزعي والأصم إلى أن العشر تستعمل في الليالي دون الأيام، وإنّما دخلت الأيام تبعًا. وعلى ذلك لو تزوجت في اليوم العاشر جاز لها، أخذًا من تذكير العدد {وَعَشْرًا} فيكون المعدود الليالي، وإلا لأنثه (وعشرة).

وأجيب: أن العرب تغلب صيغة التأنيث في العدد خاصة على المذكر، فتطلق لفظ الليالي وتريد بأيامها، كقوله تعالى: لزكريا عليه السلام {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} يريد بأيامها، بدليل أنّ الله تعالى قال في آية أخرى {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} يريد بلياليها.

(4)

أي إن الفعل {يَتَرَبَّصْنَ} نكرة في سياق إثبات فيكون مطلقاً في التربص كما ذكر المصنف، أو يكون من حذف المتعلق المعمول فيه، فدل على العموم، والمقصود الاستدلال على عدم اشتراط التربص في بيت زوجها، وهذا الاستدلال يمنعه الوارد من استئذان أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة وفاة زوجها أن ترجع إلى أهلها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «امكثي حتى يبلغ الكتاب أجله» أخرجه الدارمي في سننه (2333).

(5)

ولعدم جواز الزيادة بغير دليل، والقول بانقضاء العدة في هذه الحالة هو قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهم، وخالفهم علي، وقال: يوم يأتيها الخبر في الموت بخلاف الطلاق؛ لقضاء حق الزوج، وإنّما يتحقق إذا علمت وتركت الزينة عن اختيار.

ص: 137

•‌

‌ قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}

أي من زينة وتطيب، فيفيد تحريم ذلك في العدة وهو الإحداد

(1)

.

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية يقول: إذا أنقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج فذلك المعروف.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} الآية [235].

فيه مشروعية الخطبة، وإباحة التعريض بها في العدة

(2)

، وتحريم التصريح فيها

(3)

وهو معنى: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} ، وتحريم العقد في العدة

(4)

.

قال إلكيا: وفي الآية دليل على نفي الحد بالتعريض في القذف؛ لأنه تعالى جعل حكمه مخالفاً لحكم التصريح

(5)

.

(1)

ومأخذ التحريم مفهوم الشرط، وهو أن الحرج قائم عليهن بالزينة إذا لم يبلغن أجلهن.

(2)

لنفي الجناح وهي من الأساليب الدالة على الإباحة، والتعريض: أن يضمن كلامه ما يصلح للدلالة على المقصود وغيره، إلّا أن أرشاده بالمقصود أتم.

أو هو: ما يحتمل الرغبة وغيرها، مثل: ورب راغب منك، إني أريد التزوج، وددت أنّه يتيسر لي امرأة صالحة.

(3)

أي في العدة؛ لأنّ الخاطب إذا صرح بالخطبة تحققت رغبته فيها، فربما تكذب في انقضاء العدة، فيكون التحريم سدًا للذريعة، أو يكون التحريم مستفادًا من مفهوم إباحة التعريض، فلا يباح غير ذلك.

(4)

وذلك من باب الأولى، فإذا كانت الخطبة حرامًا فالعقد أولى.

(5)

قال القرطبي في جامعه (3/ 190): «هذا ساقط» ، وذلك لأنّ الأعراض تصان لئلا يتعرض الفسقة بالتعريض الذي يفهم التصريح.

ص: 138

ويستدل بالآية على جواز نكاح الحامل من الزنا، إذ لا عدة لها

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية [236].

فيه جواز النكاح بلا تسمية مهر وبنفيه

(2)

وهو التفويض، وأنه لا يجب فيه المهر بالعقد بل بالفرض أو المسيس، وأنه يجوز الطلاق قبلهما، وأنه لا يجب بالطلاق حينئذ شيء سوى المتعة

(3)

، وأنها تراعى فيها حال الزوج يساراً وإعساراً.

وفيها رد على من قال يراعى فيها حال الزوجة أو حالهما

(4)

.

واستدل بقوله: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} من جعل المتعة مندوبة لا واجبة

(5)

.

(1)

لقوله: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} وهذه ليست زوجة، ليس لها عدة، فالزوجة من عُقد عليها بنكاح صحيح سواء دخل بها أولًا. وقالوا: إنّه لا حرمة لماء السفاح، بدليل أنّه لا يثبت به النسب؛

لقوله عليه السلام «الولد للفراش وللعاهر الحجر» أخرجه البخاري (2053)، ومسلم (1457). والقول الأخر عدم جواز نكاح الحامل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا توطأ حامل حتى تضع» أخرجه أبو داود (2157)، وصححه الألباني في الإرواء (1/ 200)، وقوله:«لا يحل لأمرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقى ماء زرع غيره» قال الألباني في الإرواء: "رواه أبو داود (2158)، وأحمد (108/ 4) وسنده حسن " ثم ذكر له طرقاً أخر وقال: "وبالجملة فالحديث بهذه الطرق صحيح "، وورد عن سعيد بن المسيب، أنّ رجلًا تزوج امرأة، فلما أصابها وجدها حبلى، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ففرق بينهما، أخرجه سعيد بن منصور في سننه (693)، والبيهقي في سننه (13891).

(2)

أي: بدون اشتراط نفيه، وإسقاطه، فإن اشتُرط ذلك كان النكاح باطلًا.

كما قال المصنف أن ذلك هو نكاح التفويض، وهو عقد بلا ذكر مهر، ولا اشتراط اسقاطه، وكون هذا النكاح جائزاً لترتب صحة الطلاق عليه، فنفى الجناح عن الزوج ما لم يمس أو يفرض لها مهرًا.

(3)

للأمر في قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} وسيأتي وجه من صرفها للندب.

(4)

فمن قال يراعى حال الزوجة استدل بقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} فإنّه إن لم يُعتبر ذلك، لزم منه أن تكون متعة الشريفة والدنيئة سواء، والعرف يغاير ذلك.

(5)

إذ الواجبات لا تختص بالمحسن دون غيره، ثم إنّ المحسن من غير المحسن لا يعلم ذلك إلّا الله، فلما علق المتعة على صفة لا يعلمها إلّا هو سبحانه، دلّ على أنّ الله لم يُوجب الحكم بها على العباد، إذ لم يجعل لهم طريقًا إلى تمييز المأمور بها من غيره.

وكذلك فإنّ المتعة غير مقدّرة ولا معلومة، والفرائض لابدّ أن تكون مقدّرة معلومة.

وأجيب: بأن تقييدها بالمحسنين تأكيد للوجوب؛ لأنّ كل واحد يجب أن يكون من المحسنين، وليس لأحد أن يقول: أنا لست بمحسن.

ثم إنّه لا يمنع الايجاب على المحسنين نفيه عن غيره، كما قال تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وهو هدى لهم ولغيرهم.

ص: 139

قال إلكيا وعموم قوله: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} يدل على جواز الطلاق في الحيض قبل الدخول

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} الآية [237].

فيه أن في الطلاق بعد الفرض وقبل الوطء يشطر المهر فيعود إلى الزوج نصفه سواء كان الفرض في العقد أم بعده

(2)

، وفيه أن المهر تملكه المرأة بمجرد العقد

(3)

.

واستدل بقوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ، على أنها لو اشترت به شيئاً لم يرجع الزوج في نصف ما اشترت، بل في نصف ما أخذت، وعلى أنه لو زاد زيادة متصلة لم يكن للزوج فيها نصيب

(4)

.

(1)

لأنّه أباح الطلاق من غير تفصيل منه بحال الطهر دون الحيض. ذكره الجصاص؛ ولأنّ النهي في طلاق الحائض خشية تطويل العدة، وهذه لا عدة عليها؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} .

(2)

أي: فعليكم نصف ما فرضتم، و (على) من ألفاظ الوجوب، لفظًا أو تقديرًا، أو المعنى: فالواجب نصف ما فرضتم، أو لهنّ نصف.

وقوله: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ} مطلق سواء كان الفرض في العقد أو بعده، و {فَرَضْتُمْ} فعل، والأفعال نكرات، وهي سياق إثبات فتكون مطلقة.

(3)

لقوله: {لَهُنَّ} وهي لام التمليك، وذلك حال الفرض لها -كما سبق- سواء دخل أو لا؟

(4)

لقوله {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فقيّد النصف في المفروض.

ص: 140

وبقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} على أن الخلوة لا تقرر المهر مطلقاً

(1)

.

وقوله: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} يفيد جواز هبة الزوجة النصف الذي ثبت لها للزوج

(2)

.

وقوله: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فسره عليٌّ بالزوج، وورد في حديث مرفوع عند الطبراني

(3)

، ففيه جواز ترك الزوج نصفه لها.

وفسره ابن عباس وغيره: بالولي

(4)

، فاستدل به من أجاز للولي العفو عن

(1)

لأنّ المسَّ في كتاب الله: الجماع، ومفهومه: أن غير الجماع لا يوجب المهر، والخلوة ليست جماعًا.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إن جلس بين رجليها ما لم يجامعها» وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، وذهب بعض العلماء إلى أن الخلوة تنزل منزلة المسّ؛ لأنّها مظنته.

وقال عمر رضي الله عنه: «ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم» ، وهو قول علي رضي الله عنه؛ ولأنّها مظنة الجماع، ولا يطلع عليه أحد.

(2)

لضمير النسوة في قوله: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} ، ويدل عليه قوله تعالى:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} ، وذلك شريطة أن تكون ممن يصح تبرعها، بأن تكون رشيدة بالغة، عاقلة تحسن التصرف.

(3)

الطبراني في الأوسط (6359)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 323):"رواه الطبراني في الأوسط، وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف ".

(4)

اختلف العلماء فيمن {بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ؛ لأنّ الزوج يملك عقد النكاح قبل الطلاق، والولي يملكها بعد الطلاق.

ومن قال بأنه الزوج أيّده أنه مقابل عفو الزوجة، فيكون العفو من الجانبين، ولو كان الولي لكان من جانب واحد، الزوجة ووليها.

كما أن الولي ليس له الحق في العفو عن مهرها.

ومن قال إنّ الذي بيده عقدة النكاح الولي، قال: لأنّه ذكر العفو بعد الطلاق، والذي يملك عقد النكاح بعد الطلاق هو الولي.

ص: 141

الصداق مطلقاً، أو للأب فقط

(1)

.

ويستدل به على أن المرأة لا تلي عقد النكاح بالكلية

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .

خطاب للأزواج ففيه جواز عفوهم إن كان ما قبله في الولي، وفيه أن عفو الزوج أولى من عكسه؛ لضعف جانب المرأة، وما حصل لها من الكسر بالطلاق.

وفي الآية دليل على جواز الهبة إن كان الصداق عيناً، والإبراء إن كان ديناً.

وجواز هبة المشاع فيما ينقسم وما لا ينقسم؛ لأنه أباح تمليك نصف الصداق ولم يفرق بين العين والدين، ولا ما لا يحتمل القسمة وغيره.

•‌

‌ قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [238].

فيه الأمر بالمحافظة على الصلوات المفروضات، والحث على الصلاة الوسطى وبيان فضلها وهي: الصبح، أو الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء، أو الخمس، أو الجمعة، أو الوتر، أو الضحى، أو صلاة عيد الفطر، أو عيد الأضحى، أو صلاة الليل، أو صلاة الجماعة، أو صلاة الخوف، أقوال

(3)

.

(1)

بُني هذا القول على القول بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، ودليل الجواز ظاهر التخيير في الآية {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وإذا جاز له العفو بعد الفرض، فإنّه يجوز قبله.

(2)

وهذا أيضا مبني على أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، وعليه فالمرأة لا تلي عقد النكاح؛ لأنها بيده وليست بيدها.

(3)

كونها الصلوات المفروضات حمل على أن أل في {الصَّلَوَاتِ} للعهد.

وأمّا سبب الخلاف في تعيينها، فإنّه يرجع إلى معنى {الْوُسْطَى} هل هو من التوسط بين الشيئين، أو الوسط الذي هو بمعنى: الخيار والفضل، وهنا ينظر في الفضائل الواردة في كل صلاة.

ص: 142

•‌

‌ قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} .

فيه وجوب القيام في الصلاة

(1)

.

واستدل به على تحريم الكلام فيها، روى الشيخان عن زيد بن أرقم قال كان الرجل يكلم صاحبه في الصلاة حتى نزلت:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام

(2)

، وروى الطبراني عن ابن عباس نحوه.

وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود. قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم سلمت عليه فلم يرد عليَّ فلما قضى الصلاة، قال:(إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنا أمرنا أن نقوم قانتين لا نتكلم في الصلاة)

(3)

.

وأخرج عن مجاهد قال: من القنوت طول الركوع، وغض البصر، والخشوع وأن لا يلتفت، ولا يقلب الحصا، ولا يعبت بشيء، ولا يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا.

واستدل بها آخرون على القنوت في صلاة الصبح، أخرج ابن جرير عن أبي رجاء قال: صليت مع ابن عباس الغداة فقَنَتَ فيها ثم قال: هذه الصلاة الوسطى التي قال: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، وفي لفظ عنه: التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين.

•‌

‌ قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [239].

فيه بيان صلاة شدة الخوف، وأنها تجوز ماشياً وراكباً

(4)

، مستقبلاً ومستدبراً،

(1)

للأمر في قوله: {وَقُومُوا} ، وهو أمر بالقيام على صفة القنوت والخشوع، فيستفاد منه وجوب القيام عند الحنابلة ..

(2)

أخرجه البخاري (1157)، ومسلم (870).

(3)

أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (2/ 570)، والطبراني في الأوسط (6359)، والكبير (5044)، وإسناده ضعيف، لكن ينجبر بما أخرجه الطبري بنحوه عن ابن مسعود كذلك بإسناد صحيح.

(4)

لقوله: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} أي: صلوا رجالًا أو ركبانًا، والأمر بشيئين أو أكثر على سبيل التخيير يدل على إباحة أحد الشيئين المخير فيهما، والراكب والراجل حال المسايفة لا يحكمان في الجهة؛ لأنّ العدو قد يكون من الخلف أو الأمام.

ص: 143

أو ومومئاً.

وعم الخوف خوف العدو والسيل والسبُع وغير ذلك

(1)

.

وفي الآية رد على من قال بتأخير الصلاة في هذه الأحوال

(2)

.

وإطلاق الآية يقتضي أنه لا إعادة

(3)

، ومن أوجبها استدل بقوله:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} أي فأعيدوا الصلاة.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} الآية [240]

ذهب مجاهد إلى أن هذه الآية غير منسوخة، وأنها معمول بها مع الآية السابقة، فأوجب على المعتدة أربعة أشهر وعشراً أن لا تخرج من بيتها، ثم جعل لها تمام الحول وصية لها إن شاءت أقامت وإن شاءت خرجت

(4)

أخرجه ابن جرير.

والأكثرون على أنها منسوخة، ثم قيل: نُسِخ كلها: الاعتداد حولاً بالآية

(1)

لأنّ قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ} فعل في سياق الشرط فيعمّ؛ لأنّ الأفعال نكرات.

(2)

وهو رد على الحنفية الذين قالوا: لا يصلي الخائف إلّا إلى القبلة، والصلاة حال المسايفة فيها مخالفة للأصول فلا تصح.

والجواب: بالآية كما قال المصنف للأمر {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} أي: تصلوا رجالًا ركبانًا، والأصول تجوز مخالفتها عند الضرورة.

(3)

لتحقق الإجزاء، والإجزاء هو الإتيان بالمأمور على الوجه الذي أمر به، أو الإجزاء ما أسقط القضاء، فلا حاجة للإعادة.

قال القرطبي في جامعه (3/ 224): لما رخص تبارك وتعالى في جواز ترك بعض الشروط، دلّ ذلك على أن القتال بالصّلاة لا يفسدها.

(4)

فيوصي لها بالنفقة والكسوة حولًا كاملًا ما لم تخرج: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} .

ص: 144

السابقة

(1)

، والوصية بالمتاع والسكنى بآية الميراث

(2)

.

وقيل: نسخت إلا السكنى فهي لها ثابتة

(3)

.

• قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [241].

فيه وجوب المتعة لكل مطلقة قبل الدخول وبعده، رجعية أو مختلعة أو بائنة بثلاث، حرة أو أمة

(4)

.

واستدل به من لم ير المتعة في الفسوخ واللِّعان؛ لأن الفسخ لا يسمى طلاقاً

(5)

.

واستدل بقوله: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} على وجوب المتعة؛ لما أخرج ابن جرير عن ابن زيد أنه لما نزل: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} قال رجل: إن أحسنت فعلت وإن لم أرد لم أفعل فنزلت: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} .

وذهب الزهري إلى متعة المفوضة غير واجبة لأنه نزل فيها: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} ومتعة غيرها واجبة لقوله فيها: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} ، أخرجه ابن جرير.

(1)

قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} .

(2)

أي: نسخت النفقة بها؛ لأنّ الله جعل لها نصيبًا مفروضًا، الربع، أو الثمن. واختلف في نسخ السكنى.

(3)

لقوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} .

(4)

الوجوب لكون قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} خبر بمعنى: الأمر، و {مَتَاعٌ} مصدر ناب عن فعله، أي: متعوا المطلقات متاعًا؛ ولأنّه ختم الآية بقوله: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} ولعموم من ذكر للجمع المعرَّف في قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ} .

(5)

ولأنّ المتعة فيه جبر لقلب المطلقة، ففي الطلاق كسر لقلبها، فتعطى ما يطيب به قبلها، أمّا في الفسوخ واللعان فهي مختارة ولا كسر لقلبها.

قال القرطبي في جامعه (3/ 229): «وقال أصحاب مالك: كيف يكون للمفتدية متعة وهي تُعطي؟! فكيف تأخذ متاعا؟! لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة أو مفتدية أو مبارئة أو مصالحة أو ملاعنة أو معتقة تختار الفراق، دخل بها أم لا، سمى لها صداقا أم لا» .

ص: 145

•‌

‌ قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [243].

أخرج الحاكم عن ابن عباس أنهم خرجوا فراراً من الطاعون، ففيه ذم الفرار منه

(1)

.

• وقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} الآية [245].

فيه الترغيب في أعمال البر والإنفاق في سبيل الخير

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [246].

فيه أن البعوث والسرايا لابد لهم من أمير يولى عليهم

(3)

يرجعون إليه ويقتدون به

(4)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} الآية [247].

فيه أن الإمامة ليست وراثة متعلقة بأهل بيت النبوة والملك، وإنما تستحق بالعلم والقوة دون المال، وأن النسب مع فضائل النفس والعلم لا عبرة به، بل هي مقدمة عليه

(5)

.

(1)

أي: إن كانوا في البلد، وقد ورد عند البخاري في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم:«إذا سمعتم بالطاعون فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها» .

(2)

للاستفهام الدال على الحض والطلب بقوة، وهو من أساليب طلب الفعل شرعًا.

كما أن المولى سبحانه شبّه البذل من أجله بالقرض؛ لأنّ المقرض يستوفي قرضة بكل حال، فكأن الله سبحانه جعل هذه الأعمال فرضًا عليه يوفيها لأصحابها، وفي هذا من الحث ما فيه.

(3)

البعوث للتعليم والدعوة، والسرايا للقتال.

(4)

لأنّهم طلبوا أن يجعل عليهم أميرًا أو ملكًا يقاتلون تحت أمره، وأقرّهم لمولى وبعث لهم ملكًا، فهم لم يطلبوا مجرد القتال، فلم يقولوا: إئذن لنا في القتال نقاتل.

(5)

لأنّ المولى سبحانه اختار لهم إمامًا ليس من بيت النبوة ولا بيت ملك، ثم قال:{وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} وبيّن صفات الإمامة.

ص: 146

•‌

‌ قوله تعالى: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} الآية [249].

استدل به الرازي على أن الشرب من النهر: الكرع فيه بالفم دون الاغتراف، فلو حلف لا يشرب من النهر حنث بالكرع دون الشرب بإناء؛ لأنه حظر الشرب إلا لمن اغترف، فدلَّ على أن الاغتراف منه ليس بشرب.

ورده إلكيا بأن استثناء الاغتراف منه يدل على أنه من الشرب؛ إذ المستثنى من جنس المستثنى منه

(1)

.

واستدل أصحابنا بقوله: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} على أن الماء ربوي مطعوم

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [250].

فيه استحباب هذا الدعاء عند القتال

(3)

.

(1)

الخلاف في نوع الاستثناء، فالذي ذهب إليه الرازي -وهو المذهب عند الحنفية- هو كونه منقطعًا، فيكون ليس من جنسه، ومن ثمّ لا يحنث من اغترف.

وذهب إلكيا -وهو مذهب الشافعية- إلى أن الاستثناء متصل، فالمستثنى من جنس المستثنى منه، ويدل عليه الجملة الثانية {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} ، والطعم في الكرع والاغتراف.

ووافق ابن العربي في أحكام القرآن (1/ 309) إلكيا، وقال عن قول الحنفية إنه فاسد؛ لأنّ شرب الماء يطلق على كل هيئة وصفة في لسان العرب من غرف اليد أو كرع بالفم.

ورجح القرطبي في جامعه (3/ 253) قول الحنفية لتفريق القرآن والسنة ولغة العرب فيرجع إليه، وذكر ابن الفرس في أحكام القرآن (1/ 381) أن حمله على الاتصال أولى ما أمكن.

(2)

بناء على أن العلة الربوية هي الطعم، كما هو مذهب الشافعية، وعليه، فلا يصح بيعه إلّا بما يصح به بيع الطعام، مثل بمثل ويد بيد.

وردَّ بأنّ المراد بالطعم هنا: الذوق، وإثبات الطعم أو نفيه عنه لا يثبت له إنّه طعام، قاله ابن الفرس في أحكام القرآن (1/ 382).

(3)

لدعاء الأنبياء، الدال على مشروعية الفعل واستحبابه.

ص: 147

•‌

‌ قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [253].

استدل به على جواز التفضيل بين الأنبياء والمرسلين، حيث لم يؤد إلى نقص في المفضَّل عليه

(1)

، والحديث الوارد في النهي عن ذلك محمول على ما إذا خشي منه نقص.

•‌

‌ قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [256].

فيه دليل على أن أهل الذمة لا يكرهون على الإسلام

(2)

، ولا يصح إسلامهم بالإكراه

(3)

؛ لأن الآية نزلت فيهم كما أخرجه أبو داود وغيره من حديث ابن عباس.

(1)

لظاهر الآية، والتفضيل هنا بالقرب، وبكثرة الأتباع وغير ذلك من جهات التفضيل.

(2)

لأنّ الآية خبر بمعنى: النهي

وذكر المؤلف أهل الذمة؛ لأنّ الآية نزلت فيهم كما ذكر المصنف، وسبب النزول: ما ذكره ابن عباس من أنّ المرأة تكون مقلاةً - أي: لا يعيش لها ولد- فتجعل على نفسها، إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجلبت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: «لا ندع أبناءنا، فأنزل الله عز وجل:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} أخرجه أبو داود (2682)، والنسائي في الكبرى (11049)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2404).

وفي بعض الروايات: إذ قد فعلنا ما فعلنا، ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه، وأمّا إذا جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه، ونقل عن مجاهد قوله: إنّه كان سبب كونهم في بني النضير: للاسترضاع.

ينظر: تفسير الطبري (4/ 547، 550)، والدر المنثور للسيوطي (3/ 196).

وأهل الذمة من يعيش تحت الحكم الإسلامي ويدفع الجزية من أهل الكتاب، والمجوس في مقابل بقائهم على دينهم، وتوفير الأمن لهم.

(3)

عند الشافعي خلافًا لأبي حنيفة، وقال ابن الفرس في أحكام القرآن (1/ 384): «والخلاف في المسألة مبني على أنّ النّهي هل يدل على فساد المنهي عنه أم لا؟ فإذا قلنا: يدل على الفساد، فليس إسلامهم بإسلام، وإذا لم يكن كذلك فكأنهم لم يسلموا فلهم الرجوع إلى ما كانوا عليه.

وإن قلنا: إنه يدل على الصحة كما قال بعضهم، فالإسلام منعقد تام، فإن رجع عنه قُتل.

وإن قلنا: إنه لا يدل لا على فساد، ولا على صحة كما يذهب إليه المحققون من الأصوليين، فليس في الآية على شيء من ذلك دليل».

ص: 148

•‌

‌ قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ} الآية [258].

هذه الآية أصل في علم الجدل والمناظرة

(1)

.

قال العلماء: لما وصف إبراهيم ربه بما هو صفة له من الإحياء والإماتة، لكنه أمر له حقيقة ومجاز، وقصد الخليل الحقيقة، فزع نمرود إلى المجاز تمويهاً على قومه حيث قتل نفساً وأطلق نفساً فسلَّم له إبراهيم تسليم الجدل، وانتقل معه في المثال، وجاءه بأمر لا مجاز فيه، فبهت وانقطع ولم يمكنه أن يقول أنا الآتي بها من المشرق؛ لأن ذوي الأسنان يكذبونه.

وقال إلكيا: في الآية جواز المحاجَّة في الدين

(2)

، وتسمية الكافر ملكاً.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [260].

قال مجاهد والنخعي: لأزداد إيماناً إلى إيماني، وأورده الصوفية في باب التحقيق

(3)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} الآية [264].

قال النووي في شرح المهذب يحرم المنُّ بالصدقة، فلو منَّ بها بطل ثوابه للآية.

(1)

لأنّه فعل نبي أمرنا بالاقتداء بهديه، والمقام مقام ثناء على إبراهيم.

وعلم الجدل هو معرفة القواعد والحدود والآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي أو هدمه، سواء كان ذلك الرأي حقًا أو باطلًا صحيحًا أو خطاءً، وهو علم طريقة تركيب الحجاج حتى لا تتشعب المسائل.

(2)

لما سبق من كونه شريعة من قبلنا، والمقام مقام ثناء ومدح.

(3)

قال ابن القيم في مدارج السالكين (3/ 405)«وجه تعلق التحقيق بإشارة الآية: أنّ إبراهيم صلى الله عليه وسلم طلب الانتقال من الإيمان بالعلم بإحياء الموتى إلى رؤية تحقيقه عيانًا» .

ص: 149

واستشكل ذلك ابن عطية بأن العقيدة: أن السيئات لا تبطل الحسنات.

وقال غيره: تمسك المعتزلة بهذه الآية في أصلهم أن السيئة تبطل الحسنة

(1)

، واستنبط العلم العراقي من هذه الآية دليلاً لقاعدة: أن المانع الطاريء كالمقارن؛ لأنه تعالى جعل طريان المنِّ والأذى بعد الصدقة كمقارنة الرياء لها في الابتداء، قال: ثم إن الله ضرب مثالين أحدهما للمقارن المبطل في الابتداء بقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} الآية، فهذا فيه أن الوابل الذي نزل قارنه الصفوان وهو الحجر الصلد وعليه التراب اليسير، فأذهبه الوابل، فلم يبق محل يقبل النبات، وينتفع بهذا الوابل، فكذلك الرياء وعدم الإيمان إذا قارن إنفاق المال.

والثاني الطاريء في الدوام، وأنه يفسد الشيء من أصله بقوله:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} فمعناها أن هذه الجنَّة لما تعطل النفع بها بالاحتراق عند كبر صاحبها وضعفه وضعف ذريته - فهو أحوج ما يكون إليها يوم فقره وفاقته - فكذلك طريان المنِّ والأذى يحبطان أجر المتصدق، وأحوج ما يكون إليه يوم فقره وفاقته انتهى

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} الآية [267].

أخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن مجاهد في قوله: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا

(1)

وما قاله المعتزلة بخصوص هذه المسألة حق لظاهر الآية؛ لذا قال ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 303)«والقرآن والسنة قد دلّا على الموازنة، وإحباط الحسنات بالسيئات، فلا يضرب كتاب الله بعضه ببعض، ولا يرد القرآن بمجرد كون المعتزلة قالوه - فعل أهل الهوى والتعصب - بل نقبل الحق ممن قاله، ونرد الباطل على من قاله» .

(2)

نقل السيوطي كلام علم الدين العراقي من كتاب العلائي المجموع المذهب (1/ 335)، وقال العلائي بعد ذكر كلامه، «وفي هذا الاستنباط مناقشة لسنا بصددها» .

ص: 150

كَسَبْتُمْ} قال من التجارة: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} قال من الثمار، وعن علي وغيره نحوه، ففيه وجوب زكاة التجارة والثمار

(1)

.

وفي الآية كراهة التصدق بالرديء واستحبابه بالجيد.

قال إلكيا: وأحتج بها أبو حنيفة على وجوب زكاة قليل ما تخرجه الأرض وكثيرة

(2)

، وآخرون على كل ما تخرجه الأرض من الحبوب والثمار وغيره حتى البقل

(3)

.

وقال ابن الفرس: قوله: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} يعم النبات والمعدن والركاز، وقال: وفيه أن من زرع في أرض اكتراها فالزكاة عليه لا على رب الأرض؛ لأن قوله: {أَخْرَجْنَا لَكُمْ} يقتضي كونه على الزارع.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} .

فيه أن صاحب الحق لا يجبر على أخذ المعيب، وله الرد وأخذ سليم بدله

(4)

.

(1)

للأمر في قوله: {أَنْفِقُوا} مع تفسير الصحابة والتابعين.

(2)

أخذًا من عموم قوله: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ} (ما) اسم موصول، وهو من صيغ العموم.

وقال ابن الفرس في أحكام القرآن (1/ 391) عن هذا الاستنباط «وهذا بعيد، فإن المراد بيان الجهات التي يتعلق حق الله تعالى بها، وليس ذكر النصاب فيها مقصودًا، ولا بيان ما لا زكاة فيه» .

ومثله قال ابن العربي وغيره، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم النصاب بقوله:«ليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة» .

(3)

رد بما سبق أن الآية لم تسق لهذا، ولو قيل: بالعموم فهي مخصوصة بقوله عليه الصلاة والسلام «ليس في الخضروات صدقة» .

(4)

لأنّ المولى أجاز لصاحب الحق الإغماض والتساهل، أو عدم الإغماض، والمطالبة بحقه من الجودة، والنهي عن الإغماض في الصدقة بنهيه عن إعطاء الردئ.

فلما أمرنا بالإنفاق من طيبات ما كسبنا، ونهانا عن تيمم الخبيث، استدللنا بهذا على أن كل خبيث معيب لمرض أو هزال أو غيره لا يجوز إنفاقه، ولا يصح ولا يجزئ للنهي، إلّا أن يكون جميع المال المزكى خبيثًا أو معيبًا، فإننا ننفق منه؛ لأنا لم نتيمم الخبيث للنفقة.

ص: 151

•‌

‌ قوله تعالى: {يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} الآية [269].

وأورده الصوفية في باب الحكمة، وفسروها بوضع الشيء موضعه، كأن يعطي كل شيء حقَّه ولا يعيديه حدَّه ولا يعجله وقته.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} الآية [270].

فيه مشروعية النذر والوفاء به

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الآية [271].

فيه أن إخفاء الصدقات أفضل من إظهارها

(2)

، وأنها حق للفقير

(3)

، وأن صدقة النفل عليه أفضل

(4)

، وأنه يجوز لرب المال تفريق الزكاة بنفسه

(5)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [272]

نزلت في إباحة التصدق على الكفار، كما أخرجه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس

(6)

.

(1)

لإقرار الله سبحانه وتعالى، وعدم إنكاره، وبياته بأنه:{يَعْلَمُهُ} ، وإنّه سيجازي عليها.

(2)

لأنه سبحانه وتعالى أثنى على الفاعل والمظهر بقوله: {فَنِعِمَّا هِيَ} ثم نص على أن الإخفاء أفضل بأفعل التفضيل، {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} فدل على أن الجميع خير، والإخفاء أخير في ذلك، وهذا في صدقة النافلة، أمّا الفريضة، فروى عن ابن عباس أن إظهارها أفضل لئلا تلحقه تهمة، وعموم قوله:{الصَّدَقَاتِ} يقتضي الإخفاء أفضل.

(3)

لأنّه حث على إعطاءها الفقير، ووصف الفعل بأنّه خير {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} .

(4)

أي جواز صدقة النفل للغني، ولكنها للفقير أفضل لوجود الحاجة.

(5)

لأن الخطاب متوجه لهم.

(6)

وفيه قوله رضي الله عنهما: «كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم وهو مشركون، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} قال: فُرخص لهم» .

وسبب أخر أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم» فنزلت هذه الآية. وهذا في صدقة التطوع، أمّا الفرض فقد بينت السنة عدم جواز ذلك؛ لقوله عليه الصلاة والسلام «أمرت أن آخذ الزكاة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم» متفق عليه، البخاري (1331)، ومسلم (19).

ص: 152

واستدل بعموم ذلك من أباح صرف صدقة الفرض إليهم

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} الآية [273].

فيه أن الفقير لا يخرج عن اسم الفقر بماله من ثياب وكسوة وسلاح

(2)

، وفيه ذم سؤال الناس ومدح التعفف

(3)

.

• وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [275].

أصل في إباحة البيع بأنواعه إلا ما دل دليل على تحريمه

(4)

، وتحريم الربا بأنواعه إلا ما خصه دليل

(5)

.

(1)

لقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} الآية، وما قبلها وهنا:{خَيْرٍ} نكرة سيقت ب {مِنْ} فيعمّ كل نفقة لمسلم أو لكافر قليله أو كثيره.

وسبق أن صدقة الفرض مخصوصة من العموم فلا تصرف إلا للفقراء من المسلمين، لما سبق، ولحديث معاذ:«فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم» أخرجه البخاري (1395)، ومسلم (29).

(2)

لأنّ الآية أثبتت لهم هذه الأشياء حتى حسبهم الجاهل أغنياء، ومع ذلك أطلقت عليهم اسم الفقير، ولأن الثياب والكسوة والسلاح للمجاهد مما تمسه حاجته، فهو غير غني، وإنّما الغنى ما فضل عن مقدار حاجته.

(3)

لثناء المولى على الفاعل وهو الفقير الصابر المتعفف، وبمفهومه يدل على ذم سؤال الناس.

(4)

الإباحة من إخباره سبحانه وتعالى عن الحكم المختص بها بقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ} والبيوع بأنواعه بدخول "أل" في لفظ {الْبَيْعَ} فيعمّ كل بيع إلّا ما دلّ الدليل على تحريمه.

(5)

التحريم من إخباره سبحانه وتعالى عن الحكم المختص به بقوله: {وَحَرَّمَ} وتحريم الربا بأنواعه لدخول "أل" في لفظ {الرِّبَا} .

ص: 153

•‌

‌ قوله تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .

فيه أن من أسلم وقد أربى فإن قبضه فهو له، وإن لم يقبضه لم يحل له أن يقبضه.

واستدل به على أن العقود الواقعة في دار الحرب لا تتبع بعد الإسلام بالنقض

(1)

.

‌قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} قال ابن عباس: من أقام على الربا فعلى إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلَّا ضرب عنقه أخرجه ابن جرير.

‌قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} الآية.

فيه دليل على أن الممتنع من أداء الدَّين مع القدرة ظالم فيعاقب بالحبس وغيره

(2)

.

(1)

وهذه العقود سواء كانت عقود بيع أو نكاح، وإن كانت معقودة على فساد، أي: إنّ عقود الأنكحة التي جرت في الشرك لا تتعقب بالنقض بعد إبرامها، كما في البيع بعد الإبرام.

(2)

ولكونه ظالمًا لقوله تعالى: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} أي: لا تظلمون بأخذ الزيادة، ولا تظلمون بالنقصان من رأس المال.

وفي كونه يحبس قال الجصاص في أحكام القرآن (1/ 575): «واتفق الجميع على أنّه لا يستحق العقوبة بالضرب، فوجب أن يكون حبسًا؛ لاتفاق الجميع أن ما عداه من العقوبات ساقط عنه في أحكام الدنيا» .

ص: 154

•‌

‌ قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [280].

فيه وجوب إنظار المعسر

(1)

، وتحريم حبسه وملازمته

(2)

.

ورد على من قال ببيع الحر في الدين

(3)

.

واستدل به على أن المديون لا يكلف الكسب لوفاء دينه؛ لأنه تعالى حكم بالإنظار ولم يوجب كسباً ولا غيره، ومن خالف في ذلك قال: إن الآية نزلت في الربا

(4)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} .

فيه حث على الإبراء وأنه مع كونه مندوباً أفضل من الإنظار الذي هو واجب. أخرج ابن المنذر عن الضحاك قال النظرة واجبة، وخير الله الصدقة على النظرة.

•‌

‌ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [282].

أخرج البخاري عن ابن عباس قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل

(1)

لقوله: {فَنَظِرَةٌ} أي: فعليكم إنظاره.

(2)

وهو مبني على وجوب إنظاره أي: وتحريم مطالبته؛ لأنّ الأمر بالشيء نهي عن ضده، وإذا حرمت مطالبته فحبسه أولى.

(3)

لأنّ المولى سبحانه جعل له الإنظار، وهذه الآية ناسخة لما كان من قبل من بيع الحر بالدين، وهذا إن ثبت أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم أمر به في صدر الإسلام، كما ذكر ابن عطية.

(4)

أي: خاصة بها دون سائر الديون، فأمر الذي يتعاملون به في الجاهلية أن يأخذوا رؤوس أموالهم بلا زيادة، وينظروا المعسر حتى يوسر، كما أن الأصل الوفاء بالدين، والوفاء به لا يتم إلّا بالكسب، فكان الكسب واجبًا.

قال ابن الفرس في أحكام القرآن (1/ 414): «قُرئ (وإن كان ذا عسرة) قال بعضهم: على هذا تختص الآية بالربا، ومن قرأ: {ذُو عُسْرَةٍ} فهي عامة في جميع مَنْ عليه الدين. وهذا الذي ذكروه غير لازم، بل القراءتان كل واحدة منهما محتملة للتأويلين» .

ص: 155

مسمى أن الله أحلَّه وأذن فيه ثم قرأ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قال: معلوم.

ففي الآية إباحة السلم، والاستدانة مطلقاً

(1)

.

واستدل بها مالك على جواز تأجيل القرض

(2)

.

وفيها أن الأجل المجهول لا يجوز، فيستدل بها على بطلان كل بيع وسَلَم وعقد جرى فيه ذلك

(3)

.

قال ابن الفرس: وفيها دليل على أن السلم لا يكون إلا مؤجلاً.

وفيها الأمر بالكتابة، فقيل: إنه للندب، وقيل: للوجوب، ويؤيد الأول قوله:

(1)

لعموم قوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ} وهي نكرة في سياق شرط، والعبرة بعموم اللفظ.

والبيوع الجائزة المتعلقة بالدين نوعان:

الأوّل: بيع السلعة في الذمة إلى أجل مسمى وهو السلم -الذي استدل به المؤلف بالآية على إباحته- وهو: تعجيل الثمن وتأخير المثمن، أو بيع الدين بالعين، أو بيع عاجل بآجل.

والنوع الثاني: بيع السلعة المعينة بثمن إلى أجل مسمى، ومنها: الاستدانة التي ذكرها المصنف، وهي: بيع العين بالدين، أو بيع آجل بعاجل.

(2)

لقوله تعالى: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} ولم يفصل بين القرض وسائر العقود في المداينات، فدخل في عموم المدانيات، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقبلهما ابن عمر وجماعة من السلف، وخالف في ذلك جمهور أهل العلم، ومحل الخلاف فيما إذا اتفق الطرفان على تأجيله، فهل يلزم التأجيل أو لا يكون ملزمًا؟

فقال الجمهور بعدم اللزوم؛ لأنّ القرض عبارة عن إرفاق وتبرع، والتأجيل عبارة عن وعد، والوعد ليس بملزم.

أمّا من قال باللزوم فاستدل بقوله عليه السلام: «المؤمنون على شروطهم» .

(3)

وهذا بالاتفاق؛ لما فيه من الغرر العظيم، وما يؤدي إليه من تنازع، وهذا الحكم مأخوذ من مفهوم قوله:{أَجَلٍ مُسَمًّى} ، وفسره ابن عباس بالمعلوم.

ص: 156

{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} الآية

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} .

استدل به بعضهم على أنه لا يكتب الوثائق إلا عارف بها عدل مأمون

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ}

فيه وجوب الكتابة

(3)

، فقيل: على الكفاية، وقيل: على العين.

وقيل هو للندب

(4)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}

فيه دليل على العمل بالإقرار

(5)

.

(1)

حيث أسقط المولى عز وجل الكتابة عند الأمن من ضياع الحق، ومن صوارف الأمر من الوجوب إلى الندب، كذلك فعله صلى الله عليه وسلم حيث ابتاع بلا كتابة ولا إشهاد، وكذلك من الصوارف جريان العمل على عدم الكتابة في جميع ديار المسلمين.

ويُنبه إلى أنّ الخلاف هنا يؤثر في المسائل القادمة من الإشهاد، وإملال المولى؛ لأنّه وسيلته.

(2)

للأمر الوارد في الآية على الصفة المذكورة، وهي أن يكون عارفًا فقيهًا بكتابة الوثائق وما يلزم فيها؛ لأنّه لا يقدر على العدل والتسوية في الأمور الخطرة إلا لعارف بها.

ومما يؤكد الوجوب تحقيق المقصد من الكتابة، وهو حفظ الحقوق، وحفظها واجب، ولا يتم الواجب إلا بالعدل، فوجب أن يكون كذلك.

(3)

الوجوب مستفاد من النهي عن الامتناع؛ لأنّه أمر بضده، وهو الكتابة؛ ولأنّ الإجابة للكتابة وسيلة للكتابة، ووسيلة الشيء تأخذ حكمه، وهو مبني على أنّ الكتابة واجبة للأمر بها في قوله:{فَاكْتُبُوهُ} {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} .

(4)

قال الجصاص في أحكام القرآن (1/ 587): «قد بينا أن الكتاب غير واجب في الأصل على المتداينين، فكيف يكون واجبًا على الأجنبي الذي لا حكم له في هذا العقد ولا سبب فيه؟ وعسى أن يكون من رآه واجبًا إلى أن الأصل واجب» .

(5)

لأنّ الشارع جعل ما يمليه المدين -الذي عليه الحق، وليس الدائن الذي له- إقرار منه واعتراف بالحق الذي عليه.

ولأنّ الكتب والشهادة إنّما هي بحسب إقراره، وما أُمر بذلك إلا ليعمل به.

ص: 157

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} .

فيه أن كل من عليه حق فالقول قوله فيه

(1)

؛ لأنه تعالى لما وعظه في ترك البخس دلَّ على أنه إذا بخس كان قوله مقبولاً

(2)

، وهذه قاعدة تحتها فروع لا تحصى.

•‌

‌ قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} .

فيه أن السفيه يحجرُ عليه وتلغي أقواله وتصرفاته وإقراره

(3)

، وأنه لابد له من ولي يلي أمره

(4)

، وأن الولي يقبل إقراره عليه

(5)

.

وفسر الضحاك والسدي السفيه هنا: بالصغير.

وفسر مجاهد الضعيف: بالأحمق وهو الناقص العقل، ففيه الحجر على المخبَّل والمجنون.

وفسر من لا يستطيع أن يمل بالأخرس، ومن لا يحسن اللغة.

واستدل بقوله: {وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} على أنه لا يجوز أن يكون الولي ذمياً ولا فاسقاً

(6)

، وأنه يجوز أن يكون عبداً أو امرأة؛ لأنه لم يشترط في الأولياء

(1)

وذلك حال عدم وجود بينة لمن يدعي الحق له؛ لذا كانت البينة على المدعي، ولو لم يكن كذلك لادعى أناس أموال أناس، فهذه قاعدة عظيمة؛ ولذا قالوا: الأصل براءة الذمة في الدائن فيما لو ادعى الدائن - الذي له الحق- شيئًا زائدًا على استحقاقه.

(2)

ولو لم يكن قوله هو المعتبر، لم يكن لنهيه هنا فائدة، فأرجع الله ذلك إلى تقواه وديانته، لا إلى حقيقة الأمر.

(3)

لأنّ الشارع جعل التصرف لوليه

(4)

لأنّ حفظ ماله واجب، ولا يتم حفظ ماله إلّا بولي، فالولي واجب.

(5)

لأنّ الله ما أمره أن يمل في قوله: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} إلّا ليقبل قوله.

(6)

خرجا بمفهوم الصفة.

ص: 158

إلا العدالة، ذكره ابن الفرس

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} .

فيه الأمر بالإشهاد، فقيل: هو للندب، وقيل: للوجوب.

وفيه إشتراط العدد في الشهادة، وأنه لا يقبل في الشهادة صبي ولا كافر لقوله:{مِنْ رِجَالِكُمْ}

(2)

.

واستدل بعمومه من يقبل شهادة العبيد، والأصول للفروع وعكسه، وأحد الزوجين للآخر، والصديق، والصِّهر، والعدو، والأعمى، والأخرس، وأهل الأهواء، وولد الزنا، والبدوي على الحضري، والقراء بالألحان، ولاعب الشطرنج، والبخيل المؤدي زكاته، والشاعر، والأغلف، وآكل الطين، والصيرفي، ومكاري الحمير، وناتف لحيته، والبائل قائماً

(3)

.

ومن رد الجميع أو بعضهم، قال: إنهم ممن لا ترضى، وقد قال: {مِمَّنْ

(1)

لسكوت الشارع في محل البيان والتشريع، فدلَّ على دخولهم في الولاية بالمال.

(2)

خرجا بمفهوم الصفة، وكذا بقوله تعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وهما غير مرضيين.

(3)

دخل هؤلاء تحت عموم قوله: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ} إذ {الشُّهَدَاءُ} جمع معرف فيعمّ ما يدخل تحت مسماه.

قال ابن الفرس في أحكام القرآن (1/ 424): «وأصل النزاع في هذه المسائل عموم الآية المتقدم ذكرها، والتخصيص بالتهمة لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين» ، أي:(متهم) فمن لم ير التهمة مؤثرة أخذ بعموم الآية فأجاز الشهادة، ومن رأى التهمة مؤثرة خصص عموم الآية بالحديث المذكور على اختلاف بين الأصوليين في مثل هذا التخصيص». والحديث المذكور قال عنه الألباني في الإرواء (8/ 292):" وأما حديث عمر فلم أقف على إسناده، ولا مرفوعاً، وقد ذكره مالك في الموطأ (2/ 720/ 4) أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: (لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين)، وهذا موقوف معضل " أ. هـ. ونقله محقق أحكام القرآن عن أبي داود في المراسيل (359)، ونقل عن ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 203) قوله:"ليس له إسناد صحيح، لكن له طرق يقوي بعضها بعضاً".

ص: 159

تَرْضَوْنَ}

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} .

فيه قبول شهادة النساء في الأموال ونحوها

(2)

، وقصرها الزهري ومكحول على الدَّين خاصة لظاهر الآية

(3)

.

وفيه شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، وأنه لا يقبل في المال النساء الخلص

(4)

.

واستدل بظاهر الآية من منع شهادة رجل وامرأتين مع وجود رجلين

(5)

.

وأجاب الأكثر بأن المعنى فإن لم يشهد صاحب الحق رجلين فليشهد ما ذكر

(6)

.

واستدل أبو حنيفة على منع قبول الشاهد واليمين؛ لعدم ذكره في الآية مع ذكره فيها أنواع التوثيق

(7)

.

(1)

ولكل شخص مسألة مستقلة، وأسباب رد الشهادة متعددة، وهي مذكور في كتب الأحكام.

(2)

كالمواريث والودائع والوكالات، وفي الوصايا خلاف، ومأخذه ظاهر الآية.

(3)

لقوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} ، وهذا الحكم محل إجماع إذا كان معهن رجل.

(4)

أمّا فيما يقع بينهن في الأعراس والمآتم والولائم، وكذا عيوب النساء والولادة، والاستهلال والرضاع فإنّها تقبل.

(5)

اختلف العلماء في الشرط في قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} فقيل هو للترتيب، وعليه لا يجوز شهادة النساء إلّا عند عدم الرجال.

وقيل للتقسيم، أي: فإنّ لم تستشهدوا رجلين، فلتستشهدوا رجلًا وامرأتين، وقالوا: بأنّه سبحانه وتعالى لم يقل: فإن لم تجدوا، الدّالة على الترتيب.

(6)

أي: إنّ الشّرط للتقسيم لا الترتيب.

(7)

لأنّها زيادة على مقتضى الآية، والزيادة على النص عنده نسخ، والقرآن لا ينسخ بخبر الآحاد، الذي أثبت قول الشاهد مع يمينه.

كما أنّ مفهوم الحصر في الآية يقتضي حصر الحجة في ذلك، والشاهد مع يمينه غير داخل فيها.

وأجاب الجمهور بأن الزيادة على النص لا تقتضي النسخ، كما أن النسخ يشترط منه المنافاة، ولا منافاة بين الحكمين، والمفهوم ليس بحجة -إن قيل به- لأنّه معارض بمنطوق حديث الأحاد.

ص: 160

•‌

‌ قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} .

فيه اشتراط العدالة

(1)

، وأنه لا يكفي مجرد الإسلام

(2)

، وأنه لا يقبل المجهول حاله

(3)

.

وفيه تفويض الأمر إلى اجتهاد الحكام، وجواز الاجتهاد في الأحكام الشرعيِّة

(4)

.

واستدل بالآية مع قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} على أنه لابد من التزكية أن يقول هو عدل رِضي؛ لأنهما الوصف المعتبر في الشاهد، فلا يكفي ذكر أحدهما، ومن أكتفى به قال: إنه تعالى ذكر كل لفظ على حدة ولم يجمعهما، فدلَّ على أن أحدهما يغني عن الآخر.

•‌

‌ قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} .

فيه أنه لا تجوز الشهادة لمن رأى خطه حتى يتذكر

(5)

، وأن الشاهد إذا قال

(1)

لأنّ لفظ الرضى يدل عليه، ومن العلماء من جعل الرضى والعدالة بمعنى واحد.

(2)

لأنّ الرضى أمر زائد على الإسلام.

(3)

وهو الذي لا يعرف بعدالة ولا فسق، والآية اشترطت معرفة عدالته.

(4)

لأنّ محل الرضى اجتهادي، فقد يرى البعض أنّ هذا رَضِي، وآخر لا يراه كذلك.

(5)

أي رأى خطه وعرفه ولم يشك فيه، ومع ذلك لم يعتبر المولى عز وجل نسيان المشهود عليه حتى يتذكر {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} .

واستدل من قال بالجواز بقوله: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} أي: لا تشكوا.

وقد علم سبحانه وتعالى أن النّاس ينسون وبهذا أمرهم، وأمره سبحانه بالكتابة والإشهاد ظاهره يدل على اعتبار الكتابة، حتى ولو نسي الكاتب، ولو كان الكتاب إذا رأه الشاهد لا يشهد حتى يعرف الشهادة لم يكن للكتاب معنى، وصار وجوده وعدمه سواء.

وقيل في هذا الاستدلال نظر؛ لأنّه لعله إنّما أراد بالكتاب لعله يتذكر به.

ص: 161

لا أذكر ثم ذكر يقبل قوله

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} .

قال قتادة: إلى تحمل الشهادة

(2)

، وقال مجاهد: إلى أدائها

(3)

، وقال الحسن: إليهما معاً، ففيه وجوب التحمل والأداء

(4)

.

ويستدل به على أن العبد لا مدخل له في الشهادة؛ لأنه غير متمكن من الإجابة إذا دعي إلا بإذن السيد

(5)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ}

قال إلكيا: يستدل به على أن يكتب صفة الدَّين وقدره؛ لأن الأجل بعض أوصافه فحكم سائر أوصافه بمنزلته

(6)

.

(1)

ويجوز له إقامة الشهادة؛ لأنّه سبحانه قبل شهادة المرأة التي نسيت إذا ذكرتها الأخرى.

(2)

قيل: إنّ الآية نزلت في الرجل يطوف على القوم الكثير يطلب من يشهد له، فيتحرجون من الشهادة.

(3)

لدخوله في معنى الشهادة ومؤكد بقوله: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} .

والشهداء حقيقة فيمن قد تحمَّل فيطلب منه الأداء، فيكون حقيقة فيمن طلب منه الأداء،

فجاز فيمن طلب منه التحمل باعتبار ما سيؤول إليه، ويحتمل أن يراد الجميع، فيكون من باب حمل المشترك على حقيقته ومجازه. انظر: تيسير البيان للموزعي (1/ 182).

(4)

لأنّ النّهي عن الشيء أمر بضده، فحرم الامتناع من الشهادة تحملًا وأداءًا ممن دُعي إليها؛ لما في ذلك من ضياع الحقوق.

(5)

أي: ليست واجبة عليه الشهادة تحملًا وأداءً؛ لأنّ الإجابة معلقة بإذن واختيار غيره.

(6)

أي: بالقياس على الأجل، وهو أحد الأوصاف.

ويفهم كذلك من كتْب الصغير والكبير، كتابة الأوصاف من الصفة والقدر.

ص: 162

•‌

‌ قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً} إلى آخره.

فيه الرخصة في ترك الكتابة في بيع الحاضر

(1)

، والأمر بالإشهاد فيه

(2)

.

• وفي قوله: {تُدِيرُونَهَا} ، الإشارة إلى القبض

(3)

.

• قوله: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} .

فيه النهي عن مضارتهما بأن يجبرا على الكتابة والشهادة ولهما عذر، وإن كان المرفوع فاعلاً ففيه النهي عن مضارتهما صاحب الحق بالامتناع أو تحريف الحق، ويؤيده قراءة عمر: ولا يضارِر بكسر الراء أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} الآية [283].

فيه مشروعية الرهن

(4)

، واشتراط القبض فيه

(5)

.

واستدل مجاهد بظاهر الآية على أن الرهن لا يجوز إلا في السفر

(6)

.

(1)

لقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} .

(2)

لقوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وهي عند الجمهور للإرشاد والندب؛ لقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} .

(3)

قال القرطبي في جامعه (3/ 402): {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض.

(4)

الرهن: مؤنثة، دين بعين، يمكن استيفاء الدين أو بعضه من تلك الدين أو من بعضها، وهو بدل الكتابة والشهادة، وهو هنا حال السفر وعدم وجود الكاتب، والبدل يأخذ حكم المبدل منه.

(5)

أي: قبض الرهن للمرتهن، والمعنى رهان تقبض.

وقوله: {مَقْبُوضَةٌ} صفة لرهان، وهل هذه الصفة تكون شرطًا للزوم أو الصّحة، أو لبيان حقيقة التوثيق التام، وأنّه يحصل بالقبض، وخاصة إذا كان العقد في السفر وليس ثمة كاتب.

(6)

لمفهوم الشرط: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} .

وعورض بالمنطوق من حديث أنس رضي الله عنه «لقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعًا بالمدينة عند يهودي وأخذ منه شعيراً لأهله» أخرجه البخاري (2069)، كما أن تخصيصه بالسفر؛ لأنّه مظنة عدم وجود الكاتب.

ص: 163

واستدل به الضحاك على أنه لا يجوز في السفر إلا عند فقد الكاتب لقوله: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا}

(1)

، أخرجه ابن المنذر عنه.

وفي الآية رد على من منع الرهن في السلم

(2)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ} إلى آخره.

استدل به على أن القابض أمين فيما قبضه، فيكون القول قوله

(3)

، وهذه قاعدة تحتها فروع كثيرة.

•‌

‌ قوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} الآية.

فيه تحريم كتم الشهادة وأنه من الكبائر

(4)

.

قال إلكيا: يستدل بآية الدَّين على وجوب حفظ المال والمنع من تضييعه.

•‌

‌ قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [286].

استدل به على منع تكليف ما لا يطاق

(5)

، ومنه حديث النفس، وعلى سقوط القيام في الصلاة ونحوه عن العاجز، ومن تلحقه مشقه شديدة، وكذا

(1)

لمفهوم الشرط، وكونه بدلًا.

(2)

قال ابن قدامة في المغني (4/ 222): «والحجة فيه قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ} إلى أن قال: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} واللفظ عامّ، فيدخل السلم في عمومه؛ لأنه أحد نوعي البيع.

(3)

المقصود بالقابض المدين الذي أخذ المال، وكونه أمينًا؛ لأنّ الله جعل الرهن بدلًا عن الكتابة والشهود، فكان الرهن ناطقًا بقدر الحق. ولم يكن وثيقة بالدين ولا بدلًا

فدلالة الحال أنّه إنّما رهنه على قيمة ما يقاربها. ولو كان القول قول الراهن لم يكن للرهن فائدة.

(4)

لقوله: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} يؤيده قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} .

(5)

ووجه العمل به في هذا الحكم والذي قبله كونه دعاء استُجيب لهذه الأمة، بقوله سبحانه وتعالى في الحديث:(قد فعلت) أخرجه الإمام مسلم (126).

ص: 164

الطهارة بالماء والصوم

(1)

.

•‌

‌ قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} .

هذا أصل قاعدة: أن الناسي والمخطيء غير مكلفين، ومن فروعها عدم حنث الناسي والجاهل وسائر أحكامها.

•‌

‌ قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} .

فيه دليل على منع تكليف ما لا يطاق

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

لإخباره سبحانه أنه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} .

(2)

ووجه العمل به في هذا الحكم والذي قبله كونه دعاءً استجيب لهذه الأمة بقوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (قد فعلت).

ص: 165