الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد اعتنى المسلمون في جميع تخصصاتهم بالقرآن الكريم أشد عناية، كيف لا وهو المصدر الأول من مصادر التشريع، وهو دستور هذه الأمة، وقد تنوعت أوجه العناية به، ومن تلك العناية ما قام به العلماء من جميع المذاهب بجمع أحكامه الفقهية بمؤلفات خاصة، مبسوطة ومتوسطة ومختصرة، وقد شرفني المولى الكريم بتأليف (بلوغ المرام من آيات الأحكام)، وقصدت به السير في ترتيب أبوابه ترتيب الحافظ ابن حجر في كتابه بلوغ المرام من أدلة الأحكام، وقد بدى لي خدمة القرآن وأحكامه ببيان مآخذ تلك الأحكام المستنبطة من آيات الأحكام الواردة في مؤلفي بلوغ المرام، وكتبت هذه التعليقة أرجو من الله أن تلقى قبولاً، وتكون نافعة في بابها، وأسميتها:(فتح العلام في بيان مآخذ الأحكام).
ثم إن المقصود بالمآخذ هنا: هي الأصول التي أخذت منها أحكام المسائل الجزئية، وهي تشمل القواعد الأصولية، والفقهية، والمقاصدية، وجُلُّ تلك المآخذ الواردة في هذا المؤلف محصورة في القواعد الأصولية، لضرورة إظهارها، وأهمية مكانها في الاستنباط، فإن كل فقه لم يبن على الأصول فليس بفقه.
والحديث عن أهمية معرفة مآخذ الأحكام مما يطول ذكره، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق، ودونك بعض ما قاله المحققون الأوائل في ذلك:
قال ابن السبكي في طبقاته: «فإن المرء إذا لم يعرف علم الخلاف والمآخذ لا يكون فقيهاً إلى أن يلج الجمل في سم الخياط، وإنَّما يكون رجلا ناقلا مخبطا حامل فقه إلى غيره لا قدرة له على تخريج حادث بموجود»
(1)
.
وقال في مقدمة الأشباه والنظائر: «حق على طالب التحقيق، ومن يتشوف إلى المقام الأعلى في التصور والتصديق أن يحكم قواعد الأحكام ليرجع إليها عند الغموض، وينهض بعبء الاجتهاد أتمَّ نهوض، ثُمَّ يؤكدها بالاستكثار من حفظ الفروع؛ لترسخ في الذهن مثمرة عليه بفوائد غير مقطوع فضلها ولا ممنوع»
(2)
.
وقال الزنجاني في مقدمة كتابه تخريج الفروع على الأصول: «ثم لا يخفى عليك أن الفروع إنما تبنى على الأصول، وأن من لا يفهم كيفية الاستنباط، ولا يهتدي إلى وجه الارتباط بين أحكام الفروع وأدلتها التي هي أصول الفقه، لا يتسع له المجال، ولا يمكنه التفريع عليها بحال»
(3)
.
وقال الإسنوي في مقدمة كتابه التمهيد: «ثمَّ إني استخرت الله تعالى في تأليف كتاب يشتمل على غالب مسائله، وعلى المقصود منه، وهو كيفية استخراج الفروع منها .... وحينئذ يعرف الناظر في ذلك مأخذ ما نص عليه أصحابنا وأصلوه، وأجملوه أو فصلوه، ويتنبه به على استخراج ما أهملوه، ويكون سلاحاً وعدة للمفتين، وعمدة للمدرسين»
(4)
.
ويقول القرافي في الذخيرة: «
…
وبيَّنت مذهب مالك رحمه الله في أصول الفقه؛ ليظهر علو شرفه في اختياره في الأصول كما ظهر في الفروع، ويطَّلع على موافقته لأصله أو
(1)
طبقات الشافعية (1/ 319).
(2)
الأشباه والنظائر (1/ 10).
(3)
تخريج الفروع على الأصول (24).
(4)
التمهيد (46).
مخالفته له، لمعارض أرجح منه فيطلبه حتى يطَّلع على مدركه، ويطلع المخالفين في المناظرات على أصله»
(1)
.
وقال الغزالي في المنخول: «ولا مطمع في الإحاطة بالفرع وتقريره والاطلاع على حقيقته إلا بعد تمهيد الأصل وإتقانه، إذ مثار التخبط في الفروع ينتج عن التخبط في الأصول»
(2)
.
وإني لأرجو أن تتحقق لطالب العلم المطَّلع على هذا المؤلف أمورٌ منها:
(1)
تنمية الملكة الفقهية، والتدرب على الاستنباط والترجيح، وتفريع المسائل وبنائها على الأدلة.
(2)
الكشف عن الأسس العلمية، والمناهج المختلفة في الاستنباط، التي أدت إلى اختلاف العلماء.
(3)
ربط الجزئيات الكثيرة بمآخذها، مما يساعد على فهم وحفظ المسائل الفقهية.
(1)
الذخيرة (1/ 39).
(2)
المنخول (59).
كتاب الطهارة
قسم العلماء كتب الأحكام إلى كتب وأبواب، أمّا الكتاب فهو كالجنس، والباب كالنوع، فكتاب الطهارة جنس، أنواعه باب المياه، باب الأنية، باب إزالة النجاسة وبيانها، باب الوضوء، باب المسح على الخفين، باب نواقض الوضوء، باب الغسل وحكم الجنب، باب التّيمم، باب الحيض، وهناك أنواع أخرى لم تذكر لعدم وقوفي على آيات أحكام تندرج تحتها.
والكتاب والطهارة في الأصل مصدران أضيفا وجعلا اسمًا لمسائل من مسائل الفقه تشتمل على مسائل خاصة. وأهم مسائل الفقه هي الصّلاة، ولما كانت الطهارة شرطا من شروطها بدأ بها، وحقها إدراجها تحت شروط الصلاة في كتاب الصّلاة، ولكن قدموها لكونها هي مفتاح الصلاة، كما أن مسائلها كثيرة.
والطهارة اسم مصدر، أي: طهّر تطهيرًا وطهارة، مثل كلّم تكليمًا وكلامًا.
وحقيقة الطهارة: استعمال المطهرين - أي الماء والتراب - أو أحدهما على الصّفة المشروعة في إزالة النجس، أو رفع الخبث. ولما كان الماء هو المأمور بالتطهر به أصالة قدمه فقال:
باب المياه
الباب لغة: ما يدخل ويخرج منه قال تعالى: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة: 23]، {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] وهو هنا مجاز، شبّه الدخول إلى الخوض في مسائل مخصوصة بالدخول في الأماكن المحسوسة، ثم أثبتت لها الباب.
والمياه: جمع ماء، وأصله موه؛ ولذا ظهرت الهاء في جمعه، وهو جنس يقع على القليل والكثير؛ إلّا أنّه جمع لاختلاف أنواعه باعتبار حكم الشّرع؛ فإنّ فيه ما ينهى عنه، وفيه ما يُكره.
قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] و [المائدة: 6].
استدل بالآية الكريمة على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: من شروط التّيمم - كما سيأتي - عدم وجود الماء، ويدخل فيه كل ما يطلق عليه ماء.
مأخذ الحكم: ورود لفظ (ماء) في الآية نكرةً في سياق نفي، وهو يعم لغة كل ماء، والماء اسم جنسٍ، فيكون عمومه في الجنس، فيدخل فيه كل ماء قليلًا كان أو كثيرًا، وسواء كان ماءً من سماءٍ أو نهرٍ، أو عين عذب أو ملح.
(1)
.
• الحكم الثاني: ذهب جمهور أهل العلم إلى تقسيم الماء إلى ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر، ونجس.
ومن العلماء من جعل القسمة ثنائية: طهور، ونجس، استدلالًا بالآية، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
(2)
وعلى هذا التقسيم سارت الفتيا عند كثير
(1)
أحكام القرآن (2/ 484).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (24/ 35)، (19/ 236)، الإنصاف (1/ 44).
من علماء هذا البلد، كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ العثيمين -رحمهما الله-
(1)
.
ووجه التقسيم ومأخذ الحكم من الآية: كون لفظ الماء جاء نكرة في سياق نفي فعمَّ كل ما يطلق عليه ماء، ويحمل اللفظ على إطلاقه، ولا يقيد إلا بالشرع، فما دام يسمى ماء ولم يغلب عليه أجزاء غيره كان طهورا.
يقول شيخ الإسلام: «إنّ الشّارع علق الطهارة بمسمى الماء في قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} ولم يفرق بين ماء وماء ولم يجعل الماء نوعين طاهرا وطهورا»
(2)
.
(3)
.
فمأخذه رحمه الله وقاعدته هي: أن الاسم الذي أطلقه الشرع لا يقيَّد إلا بالشرع.
وقد نصَّ على ذلك فقال: «والواجب أن يطلق ما أطلقه صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ويقيد ما قيده»
(4)
.
تنبيه: إلى أن تقسيم الماء إلى قسمين أو إلى أكثر هو بالنظر لمطلق الماء، أما الماء المطلق فلا يصدق إلا على الماء الطهور فقط.
فمطلق الشيء يراد به حقيقة الماهية فلا يقيد، أما الشيء المطلق فهو لبيان الماهية بقيد الإطلاق، وهو يفيد التجرد عن جميع القيود، وعليه فالعلاقة بينهما
(1)
انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز (10/ 14)، الشرح الممتع (1/ 54).
(2)
مجموع الفتاوى (24/ 35).
(3)
مجموع الفتاوى (19/ 236).
(4)
مجموع الفتاوى (24/ 13).
علاقة عموم وخصوص مطلق، فمطلق الشيء أعم، فمطلق الماء أعم، والماء المطلق أخص مطلقا فهو فرد من أفراد
(1)
.
• الحكم الثالث: استدل بقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} من قال بطهوريّة الماء المتغير بالدواء، شريطة أن يبقى اطلاق اسم الماء عليه
(2)
.
مأخذ الحكم: المأخذ السابق، أو القول إن لفظة {مَاءً} نكرة في سياق النّفي، فتعمّ كل ما يطلق عليه ماء، والماء المتغير بالدواء يطلق عليه اسم الماء، فلم يسلبه الدواء المخالط اسم الماء، وعليه لا يجوز العدول عنه إلى التيمم.
قال القرطبي: «فأما غير الجنس وهو المتغير فلا يدخل فيه، كما لا يدخل فيه ماء الباقلاء ولا ماء الورد»
(3)
.
وكلام القرطبي يشير إلى الفرق بين الماء غير المطلق، أي: الذي يطلق عليه اسم الماء ولكن بالإضافة، كماء الورد وماء الباقلاء، وبين المائعات الّتي لا يطلق عليها اسم الماء مطلقًا إلّا من حيث السيولة فقط، مثل: النّبيذ، والقهوة، والشّاي، واللّبن
…
، وسواء كان ماء تغير بمخالطة طاهر، أو طبخ فيه طاهر. فالأخير لا يجوز التّطهر به على خلاف في النّبيذ.
قال ابن قدامة: «فصل: فأمّا غير النّبيذ من المائعات، غير الماء، كالخل، والمرق، واللبن، فلا خلاف بين أهل العلم، فيما نعلم، أنه لا يجوز بها وضوء ولا غسل»
(4)
.
(1)
انظر: المنثور في القواعد للزركشي (3/ 181)، التحبير للمرداوي (2/ 605).
(2)
ينظر: فقه النوزال في العبادات للمشيقح (20).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 230).
(4)
المغني (1/ 10).
تنبيه: هذا الحكم مبني على أن الماء إذا خالطه شيء طاهر فغير أحد أوصافه؛ فإنّه يبقى على طهوريته، ما لم يسلبه اسم الماء المطلق، وهذا مذهب الحنفية، ورجحه كثير من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو رأي الشيخين عبد العزيز بن باز وابن عثيمين -رحمهما الله- كما سبق.
• الحكم الرابع: استدل بالآية على من قال بأن المياه المتغيرة بصدأ الأنابيب والخزانات باقية على طهوريتها، ولا يجوز التيمم مع وجود هذا الماء، ولا يؤثر تغير الصدأ فيها؛ لعدم القدرة عن الانفكاك عنه، ولا يمكن التحرز ولا صون الماء منه
(1)
.
مأخذ الحكم: ما سبق من كون لفظ {مَاءً} في الآية نكرة في سياق النفي فتعمّ كل ماءٍ، وهذا ماء فلا يجوز التيمم مع وجوده.
ومأخذ آخر: عموم النكرة في سياق الامتنان الواردة في قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]، وقوله:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48].
• الحكم الخامس: استدل بالآية من قال بطهورية مياه الصرف الصحي بعد تنقيتها، وعدم جواز التيمم مع وجودها
(2)
.
ومأخذ الحكم: ما سبق من كون لفظ {مَاءً} نكرة في سياق نفي، تعمّ كل ما يتعلق عليه ماء، ومياه الصّرف الصّحيّ بعد تنقيها يطلق عليها ماء، فيكون المتيمم
(1)
ينظر: فقه النوزال في العبادات للمشيقح (20 - 21).
(2)
ينظر: قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الحادية عشرة (258)، ورجحه مجلس هيئة كبار العلماء في قراره رقم (64)، وفتاوى اللجنة الدائمة (5/ 80 - 100)، وأبحاث الهيئة (6/ 216)، ومجلة البحوث الإسلامية (49/ 359 - 361)، ومجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز (10/ 404)، والشرح الممتع (1/ 47)، وفقه النوازل للمشيقح (57)، والفقه الميسر (9/ 7)،.
واجدًا، ولا يجوز له العدول عنه إلى التيمم عند وجوده.
وناقش البعض: صحة المأخذ السابق، بأنّ مياه الصّرف الصّحي لا يطلق عليها اسم الماء إلّا بالإضافة.
يقول الدكتور عبد الله بن بكر أبوزيد: وماء الصرف الصحي بعد تنقيته ليس ماءً مطلقاً باقياً على أصل خلقته بل مقيداً بوصف التنقية المشعر بالاستقذار والاستخباث
(1)
.
قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]
وقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]
استدل بالآية الكريمة على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: مشروعية الطهارة بالماء.
قال السيوطي عن الآية الأولى: «هذا أصل الطّهارة بالماء في الأحداث والنّجاسات»
(2)
.
مأخذ الحكم: ورود لفظ {مَاءً} في الآيتين منكرًا، والآيتان في سياق امتنان فيعم كل ماء نزل من السماء كالمطر، والثلج، والبرد، ونحو ذلك.
واللام في قوله: {لِيُطَهِّرَكُمْ} لام التّعليل، والباء في قوله:{به} للسّببية.
فامتن المولى سبحانه وتعالى على عباده بإنزال الماء لأجل أن يتطهروا بسببه، وهذا يؤيد أنّ معنى {طَهُورًا} في الآية الثانية: الّذي يفعل به التّطهير، أو خبرٌ عن التطهير به، فهو طاهر بنفسه ومطهر لغيره بالإجماع.
(1)
فقه القضايا المعاصرة في العبادات (117) رسالة دكتوراه غير منشورة.
(2)
الإكليل (2/ 782).
(1)
.
فالآيتان: «معناهما واحد، وإن اختلفت تراكيب الصّيغ، لكن الألفاظ غير مقصودة لذاتها، بل لإظهار المعنى» قاله الطّوفي
(2)
.
تنبيه: قوله: {مِنَ السَّمَاءِ} إشارة إلى أنقى ماء، وأطهره، إذا لم يختلط به شيء يكدره أو يقذره، والمعنى: أنّ الماء النازل من السماء هو بالغ نهاية الطهارة في جنسه من المياه.
وقد كان ماء المطر معظم شراب العرب المخاطبين حينئذ، ولذلك يقال لهم: بنو ماء السّماء، وفي البخاري في قصّة سارة:(تلك أمكم يا بني ماء السماء)
(3)
.
قال الحافظ ابن حجر: «كأنّه خاطب بذلك العرب؛ لكثرة ملازمتهم للفلوات التي بها مواقع القطر؛ لأجل رعي دوابهم»
(4)
.
مما يدل على أنه لا مفهوم له مخالف، أي إن ماء غير السماء مطهر أيضاً.
فائدة: اختلف العلماء هل جميع المياه مصدرها من ماء السّماء؟
فمنهم من ذهب إلى ذلك مستدلًا بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ
(1)
التحرير والتنوير (19/ 47 - 48).
(2)
شرح مختصر الروضة (1/ 124).
(3)
أخرجه البخاري كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} وقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} وقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} برقم (3179)، ومسلم كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، برقم (2371).
(4)
فتح الباري (6/ 394).
فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} [المؤمنون: 18]
وقوله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 21].
ذكر السيوطي أنه قد استدل بالآيتين من قال إنّ المياه كلها من السّماء وأنّه لا ماء من الأرض
(1)
.
وذهب آخرون إلى خلاف ما سبق. قال القرطبي: «توقف جماعة في ماء البحر، لأنه ليس بمنزل من السماء»
(2)
.
(3)
.
وسواء كان ماء الأرض من السماء أو لا، قفد اتفق العلماء على طهورية كل ماء سواء نزل من السماء أو نبع من الأرض.
(4)
.
فقد حكي عن ابن عمر كراهية الوضوء به، وأكثر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على
(1)
انظر: الإكليل (3/ 1151).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (13/ 53).
(3)
مجموع الفتاوى (16/ 16).
(4)
بداية المجتهد (1/ 29).
خلافه، وكذا العلماء
(1)
.
والكراهية لا تنافي الجواز؛ لذا قال ابن عبد البر: «وقد أجمع العلماء وجماعة أئمة الفتيا من الفقهاء: أن البحر طهور، وأنّ الوضوء جائز به»
(2)
.
• الحكم الثاني: اختلف العلماء في أقسام المياه.
فذهب الجمهور إلى تقسيمها إلى ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر، ونجس.
ومأخذ الحكم: أن قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} يدل على أنّ الطّاهر غير الطّهور، وإلّا لزم التّأكيد، والتأسيس أولى
(3)
.
ومن العلماء من جعل الماء قسمين:
ومأخذ الحكم: القول بأن الأسماء التي أطلقها الشّارع تبقى على إطلاقها، فأطلق الماء فكل طاهر منه فهو طهور، ولم يفرق بينهما.
قال شيخ الإسلام: «إنّ الشّارع علق الطهارة بمسمى الماء في قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ولم يفرق بين ماء وماء ولم يجعل الماء نوعين طاهرا وطهورا
…
»
(4)
.
وقال أيضا: «لا فرق بين المتغير بأصل الخلقة وغيره ولا بما يشق الاحتراز
(1)
قال ابن العربي في أحكام القرآن (1/ 447): «قال ابن عمر رضي الله عنه: إنه لا يجوز الوضوء به؛ لأنه ماء النار، أو لأنه طين جهنم، وكأنهم يشيرون إلى أنه ماء عذاب، فلا يكون ماء قربة» .
(2)
التمهيد (16/ 221)، وانظر الاستذكار (1/ 159)، وقد حكي عن ابن عمر كراهية الوضوء به، وأكثر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلافه، قال ابن العربي في أحكام القرآن (1/ 447):«قال ابن عمر رضي الله عنه: إنه لا يجوز الوضوء به؛ لأنه ماء النار، أو لأنه طين جهنم، وكأنهم يشيرون إلى أنه ماء عذاب، فلا يكون ماء قربة» .
(3)
انظر: مغني المحتاج للشربيني (1/ 29).
(4)
مجموع الفتاوى (21/ 35).
عنه؛ ولا بما لا يشق الاحتراز عنه، فما دام يسمى ماء ولم يغلب عليه أجزاء غيره كان طهورا
…
وهذا القول هو الصّواب»
(1)
.
تنبيه: هذا المأخذ كان سببًا في اختلاف العلماء في مسائل كثيرة متعلقة بالمياه، وذلك لأن في خفاء تناول اسم الماء المطلق لبعض المياه ولا سيما بسبب مخالطة الماء لغيره خلافاً في كثير من المسائل، بمعنى هل كان اسم الماء المطلق يتناوله فيصح الطهارة به أو لا؟
قلت: ويكاد يكون هذا المأخذ هو أصل هذا الباب؛ لكثرة ما يتفرع عليه،
ومن ذلك.
(1)
أن الماء لا تفسده النّجاسة الحالّة فيه قليلا كان أو كثيرا، إلا أن تظهر فيه النّجاسة وتغيّر منه طعما أو ريحا أو لونا. قال القرطبي:«وهو الصّحيح في النّظر وجيد الأثر»
(2)
.
وأورد في مسألة مستقلة أخرى الخلاف في الفرق بين ورود النّجاسة على الماء، وورود الماء على النّجاسة، ثم قال:«والماء لا يخلو تغيّره بنجاسة أو بغير نجاسة، فإن كان بنجاسة وتغير، فقد أجمع العلماء على أنّه غير طاهر ولا مطهر، وكذلك أجمعوا أنّه إذا تغير بغير نجاسة أنّه طاهرٌ على أصله. وقال الجمهور: إنّه غير مطهر إلا أن يكون تغيره من تربة وحمأة. وما أجمعوا عليه فهو الحق الذي لا إشكال فيه، ولا التباس»
(3)
.
(2)
أنّ الماء المتغير بقراره كزرنيخ أو جير يجري عليه، أو تغير بطحلب أو ورق شجر ينبت عليه لا يمكن الاحتراز عنه، فاتفق العلماء أن ذلك لا يمنع من الوضوء
(1)
مجموع الفتاوى (24/ 35).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (13/ 42).
(3)
المصدر السابق.
به، لعدم الاحتراز منه والانفكاك عنه، وأن هذا التَّغيُر لا يسلبه اسم الماء
(1)
.
(3)
ما نقله القرطبي عن علمائهم بأنّه يكره «سؤر النّصراني وسائر الكفار، والمدمن الخمر، وما أكل الجيف، كالكلاب وغيرها. ومن توضأ بسؤرهم فلا شيء عليه حتى يستيقن النّجاسة»
(2)
.
ثم ذكر في مسألة أخرى الخلاف في سؤر الكلب.
(4)
ما مات في الماء مما لا دم له، فلا يضرّ الماء إن لم يغيّر ريحه، فإن أنتن لم يتوضأ به. وكذلك ما كان له دم سائل من دواب الماء، كالحوت والضفدع، لم يفسد ذلك الماء موته فيه، إلا أن تتغير رائحته، فإن تغيرت رائحته وأنتن لم يجز التطهر به ولا الوضوء منه. قال القرطبي:«وليس بنجس عند مالك» ، ثم قال:«وأمّا ما له نفسٌ سائلة، فمات في الماء ونزح مكانه ولم يغير لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو طاهر مطهر، سواء كان الماء قليلًا أو كثيرًا عند المدنيين»
(3)
، يعني من أصحاب مالك، ثم ذكر الخلاف فيه.
• الحكم الثالث: المياه المنزلة من السماء والمودعة في الأرض طاهرة مطهرة على اختلاف ألوانها وطعومها وأرياحها حتى يخالطها غيرها.
ومأخذ الحكم: ما سبق من أن اسم الماء يتناولها فيصح التطهر بها.
تنبيه: المخالط للماء على ثلاثة أضرب:
ضربٌ يوافقه في صفتيه جميعًا - أي كونه طاهراً ومطهراً - فإذا خالطه فغيَّره لم يسلبه وصفا منهما لموافقته لهما وهو التراب.
(1)
انظر: المغني (1/ 22)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 386).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (13/ 44).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (13/ 46).
والضرب الثاني: يوافقه في إحدى صفتيه وهي الطهارة، دون التّطهير فإذا خالطه فغيَّره سلبه ما خالفه فيه وهو التطهير، كماء الورد وسائر الطاهرات.
والضرب الثالث: يخالفه في الصّفتين جميعًا، فإذا خالطه فغيَّره سلبه الصّفتين جميعًا لمخالفته له فيهما وهو النجس.
• الحكم الرابع: الماء المستعمل طاهر، إذا كانت أعضاء المتوضئ به طاهرة، وهل يكون مطهراً لغيره؟، من العلماء من قال إنَّه مطهر لغيره.
مأخذ الحكم: أنّه ماء طاهر لا ينضاف إليه شيء، فهو ماء مطلق، أي أنه يندرج تحت اسم الماء المطلق، فيصح التطهر به.
وقيل: بل هو مطلق لا عام، فلا يصح التطهر به.
مأخذ الحكم: ذكر القرافي في فروقه مدركاً وصفه بأنّه وجه قوي حسن، ومدرك جميل، فقال:«وأن قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} وقوله: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} مطلق في التطهير لا عامّ فيه، بل عامّ في المكلفين، إذا تطهّرنا بالماء مرّة حصل موجب اللفظ، فبقيت المرّة الثانية منه غير منطوق بها، فتبقى على الأصل غير معتبرة، فإنّ الأصل في الأشياء عدم الاعتبار في التّطهير؛ إذ الأصل أن لا يعتبر في التطهير وغيره إلّا ما وردت الشّريعة به»
(1)
.
وقال ابن العربي: «مسألة الماء المستعمل إنما تنبني على أصل آخر، وهو أن الآلة إذا أدّي بها فرض، هل يؤدى بها فرض آخر أم لا؟ فمنع ذلك المخالف قياسًا على الرقبة إذا أدّى بها فرض عتق، لم يصلح أن يتكرر في أداء فرض آخر، وهذا باطل من القول، فإنّ العتق إذا أتى على الرّق أتلفه فلا يبقى محل لأداء الفرض بعتق آخر. ونظيره من الماء ما تلف على الأعضاء فإنه لا يصح أن يؤدى به فرض آخر؛
(1)
الفروق (2/ 118).
لتلف عينه حسًّا كما تلف الرّق في الرّقبة بالعتق حكما، وهذا نفيس فتأملوه»
(1)
.
• الحكم الخامس: جواز التطهر بمياه الصرف الصحيّ بعد التنقية بالوسائل الحديثة.
استدل بالآية على جواز التطهر بمياه الصرف الصحيّ بعد التنقية بالوسائل الحديثة
(2)
.
مأخذ الحكم هو: ما سبق من كون لفظة {مَاءً} نكرة في سياق نفي، تعمّ كل ما يتعلق عليه ماء، ومياه الصّرف الصّحيّ بعد تنقيها يطلق عليها ماء، فيكون المتيمم واجدًا، ولا يجوز له العدول عنه إلى التيمم عند وجوده.
وناقش البعض: صحة الاستنباط السابق، بأنّ مياه الصّرف الصّحي لا يطلق عليها اسم الماء إلّا بالإضافة.
يقول الدكتور عبد الله بن بكر أبوزيد: وماء الصرف الصحي بعد تنقيته ليس ماءً مطلقاً باقياً على أصل خلقته بل مقيداً بوصف التنقية المشعر بالاستقذار والاستخباث
(3)
.
وقد حرم سبحانه وتعالى الخبيث بقوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، ولفظ (حرم) وما تصرف منه يفيد التحريم، وهي هنا إخبار عن الحكم شرعي، ومياه الصرف الصحي وإن حصل لها تنقية فإن علة الاستخباث والاستقذار باقية باعتبار أصلها، وكونه ماءً خارجاً ومعتصرًا من البول والغائط.
(1)
المصدر السابق، وانظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 438).
(2)
صدر به قرار المجمع الفقهي، وهيئة كبار العلماء في المملكة قرارها رقم (64). ينظر: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي (91 - 93، 258)، فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 80)، ومجلة البحوث الإسلامية (49/ 359 - 361)، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز (10/ 404).
(3)
فقه القضايا المعاصرة في العبادات (117) رسالة دكتوراه غير منشورة.
وقد ذكر الشيخ الدكتور بكر أبو زيد عضو المجمع في علة تحريمه ما سبق وقال: ( .... فتحصل أن مياه المجاري قبل التنقية معلة بأمور:
الأول: الفضلات النجسة باللون والطعم والرائحة.
الثاني: فضلات الأمراض المعدية، وكثافة الأدواء والجراثيم (البكتيريا).
الثالث: علة الاستخباث والاستقذار لما تتحول إليه باعتبار أصلها، ولما يتولد عنها في ذات المجاري من الدواب والحشرات المستقذرة طبعاً وشرعاً.
ولذا صار النظر بعد التنقية في مدى زوال تلكم العلل، وعليه:
فإن استحالتها من النجاسة بزوال طعمها ولونها وريحها لا يعني ذلك زوال ما فيها من العلل والجراثيم الضارة. والجهات الزراعية توالي الإعلام بعدم سقي ما يؤكل نتاجه من الخضار بدون طبخ فكيف بشربها مباشرة. ومن مقاصد الإسلام المحافظة على الأجسام؛ ولذا لايورد ممرض على مصح، والمنع لاستصلاح الأبدان كالمنع لاستصلاح الأديان.
ولو زالت هذه العلل لبقيت علة الاستقذار والاستخباث باعتبار الأصل لماء يعتصر من البول والغائط فيستعمل في الشرعيات والعادات على قدم التساوي
…
إلخ)
(1)
.
ونوقش: بأن العبرة في التحليل والتحريم للنصوص وليس لما تحسنه أو تقبحه النفوس.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: (من قال من العلماء أنه حَرَّم على جميع المسلمين ما تستخبثه العرب وأحل لهم ما تستطيبه، فجمهور العلماء على خلاف هذا
(1)
قرارات المجمع ص (91 - 93)، وفقه القضايا المعاصرة في العبادات د. عبد الله أبوزيد (111) رسالة دكتواره غير منشورة.
القول .... وما كان عليه الصحابة والتابعون: أن التحليل والتحريم لا يتعلق باستطابة العرب ولا باستخباثهم، بل كانوا يستطيبون أشياء حرمها الله: كالدم، والميتة، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وأكيلة السبع، وما أهل به لغير الله، وكانوا بل خيارهم يكرهون أشياء لم يحرمها الله حتى لحم الضب كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه، وقال:(لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه)
(1)
، وقال مع هذا:(أنه ليس بمحرم)، وأُكل على مائدته وهو ينظر وقال فيه:(لا آكله ولا أحرمه)
(2)
.
وقال جمهور العلماء: الطيبات التى أحلها الله ما كان نافعاً لآكلهِ في دينه، والخبيث ما كان ضاراً له في دينه)
(3)
.
باب الآنية
الأنية: جمع إناء، وهو معروف، وإنّما بُوِّب لها؛ لأنّ الشّارع قد نهى عن بعضها فتعلقت بها الأحكام.
قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]
قوله: {حُرِّمَتْ} لفظ «التّحريم» من الألفاظ الصّريحة الدّالة على المنع والّتي لا تحتمل معنى آخر، ولا يختلف في أن المراد بها في القرآن خاصّة هو الحظر والمنع، والمحظور: ما يذم فاعله، ويمدح تاركه.
والميتة هي: ما فارقه الرّوح من غير ذكاة مما يذبح، وما ليس بمأكولٍ فذكاته كموته، كالسّباع وغيرها.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد، باب الضب، برقم (5217)، ومسلم برقم (1945)، (1946).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد، باب الضب، برقم (5216).
(3)
مجموع الفتاوى (19/ 24).
استدل العلماء بالآية الكريمة على تحريم استعمال جلد الميتة في الأواني، وبالآية على جواز ذلك.
مأخذ من حرم استعمال جلد الميتة: التحريم الوارد بصيغة العموم {الْمَيْتَةُ} ، فهو مفرد محلى بأل، أو داخل على اسم جنس فيعم أجزاء الميتة من لحم أو جلد، ويعم الأكل والاستعمال.
ووجه ذلك: أن الحكم المضاف للأعيان - كإضافة التحريم هنا إلى عين الميتة - لا يصح، لأن الأعيان أنفسها لا توصف بحظر ولا إباحة؛ لأنّ الحظر منع، والإباحة إطلاق، والأعيان الموجودة لا يصح المنع والإطلاق في عينها، بل تتعلق الأحكام بأفعال، والتحريم حكم شرعي متعلق بأفعال المكلفين، فلا بد من تقدير فعل للمكلف، فقالوا إن الظاهر هو تحريم التّصرف فقالوا بعموم المضمرات هنا، فقدروا لفظ «التّصرف «أو «الاستعمال «أو «فعلكم «ليشمل جميع أفعال المكلفين من أكل أو بيع، أو شرب، أو استعمال واقتناء، وهو من عموم المعاني. ومن التصرف والاستعمال اتخاذ جلد الميتة آنية.
مأخذ من أباح استعمال جلد الميتة: هو المأخذ السابق، إلا أنهم قصروا التحريم على الأكل، والأكل فعلٌ من أفعال المكلفين، والتّقدير: حرم عليكم أكل الميتة.
وقالوا إن الكلام عن العموم مفروض إذا لم يقم على تعيين أحد المقدّرات، وهنا قد دلّ العرف على أن المراد بتحريم الميتة، تحريم أكلها، وهو الّذي يسبق إلى الفهم من تحريم الميتة، ويدل عليه القرينة اللفظية في سياق الآيات كقوله تعالى:{عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} وقوله {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} وقرينة خارجية، وهي قوله صلى الله عليه وسلم:(إنّما حرم من الميتة أكلها)
(1)
.
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه (1/ 58) برقم (100).
وعلى القول بكونها قاصرة على الأكل فإنّه يجوز استعمال الجلد في الأواني إذا دبغ على القول بأن الدبغ مطهر للجلد، كما أن الماء طهارة الأواني من غير الجلد كالنحاس وغيره.
قال الطوفي: «قوله سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ظاهرة في تحريم جلدها دبغ أو لم يدبغ، مع احتمال أن الجلد غير مراد بالعموم احتمالًا مترددًا له، من جهة أن إضافة التّحريم إلى الميتة يقتضي تحريم الأكل، والجلد غير مأكول فيقتضي عدم تناول الجلد، ومن جهة أن عموم اللفظ قوي متناول لجميع أجزائها يقتضي تناول الجلد في نظرنا في قوله صلى الله عليه وسلم:(أيّما إهاب دبغ قد طهر)
(1)
فهو عموم، وظاهره يتناول إهاب الميتة، فكان هذا الظّاهر مقويًا لاحتمال عدم إرادة جلد الميتة من الآية المذكورة في التّحريم»
(2)
.
تنبيه: من العلماء من قال بأن إضافة الحكم للعين يصيره مجملاً، والجمهور على أنّه لا إجمال في الآية؛ لأنّ المجمل ما لا يفهم المراد من ظاهره، والعرب فهمت المراد من ظاهر ما ورد في القرآن بهذا الأسلوب.
قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]
استدل المالكية بالآية على عدم وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب.
وبيان ذلك: أن الآية تتحدث عما يباح من صيد الجوارح، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا
(1)
أخرجه الترمذي كتاب اللباس، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت، برقم (1728)، والنسائي كتاب الفرع والعتيرة، باب جلود الميتة، برقم (4241)، وابن ماجه كتاب اللباس، باب لبس جلود الميتة إذا دبغت، برقم (3609) قال الشيخ الألباني: صحيح ..
(2)
شرح مختصر الروضة (1/ 566).
عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} والضّمير في قوله: {أَمْسَكْنَ} عامّ في جملة الجوارح، فيندرج فيه الكلب، فيجوز أكل موضع فمه عملًا بالظّاهر، ولم يرد أمرٌ بغسل ما مسه لعاب الكلب، وبنى عليه المالكية طهارة لعاب الكلب؛ إذ لو كان نجسًا لحرم الأكل حتى يغسل. ولهذا تكلم العلماء عن حكم غسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب.
ومأخذ الحكم من الآية: لمّا لم يرد أمر بغسل ما مسّه لعاب الكلب فيما إذا صاد صيداً، فإنه يدل على طهارة لعابه؛ إذ لو كان نجسًا لبينّه الشّارع، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
تنبيه: للمالكية أجوبة على حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب، منها: ما ذكره ابن العربي حيث قال: «إذا جاء خبر الواحد معارضًا لقاعدة من قواعد الشّرع، هل يجوز العمل به أم لا؟ فقال أبو حنيفة: لا يجوز العمل به، وقال الشافعي: يجوز العمل به، وتردد مالك في المسألة» ، ثم قال:«ومشهور قوله والذي عليه المعول أن الحديث إن عضدته قاعدة أخرى قال به، وإن كان وحده تركه» ، ثم ذكر مسألة مالك في ولوغ الكلب، قال: «لأنّ الحديث عارض أصلين عظيمين، أحدهما: قول الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]، قال مالك: يؤكل صيده فكيف يكره لعابه!
الثاني: أن علَّة الطّهارة هي الحياة، وهي قائمة في الكلب»
(1)
.
قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]
استنبط العلماء من الآية: جواز استعمال آنية الكفار بالأكل والشّرب والطّبخ.
قال القرطبي: «ولا بأس بالأكل والشرب والطبخ في آنية الكفار كلهم، ما
(1)
القبس في شرح موطأ مالك (1/ 812).
لم تكن ذهبًا أو فضة أو جلد خنزير بعد أن تغسل وتُغلى؛ لأنهم لا يتوقون النجاسات ويأكلون الميتات، فإذا طبخوا في تلك القدور تنجست، وربما سرت النجاسات في أجزاء قُدور الفخَّار، فإذا طبخ فيها بعد ذلك توقع مخالطة تلك الأجزاء النّجسة للمطبوخ في القدر ثانية، فاقتضى الورع الكف عنها»
(1)
.
ومأخذ الحكم: هو أن جواز أكل طعامهم يستلزم جواز استعمال آنيتهم الّتي طبخوا بها.
والحِل المقصود به في الآية الإباحة، وهو من أسماء المباح.
والأنعام هي: الإبل، والبقر، والغنم.
فقد أذن سبحانه وتعالى في هذه الآية باستعمال جلود الأنعام، وبصوف الغنم، ووبر الإبل، وشعر المعز، وفي الآية حكمان مستنبطان منها:
• الحكم الأول: مشروعية الانتفاع بجلود الأنعام، ولم يقيِّده سبحانه وتعالى بالذكاة قبل الموت، ولا بالدّباغ بعد الموت، فأخذ منها بعض العلماء جواز الانتفاع بجلد الميتة قبل الدّباغ.
مأخذ الحكم: ورد الإذن باستعمال جلود الأنعام، وبصوف الغنم، ووبر الإبل، وشعر المعز، في سياق الامتنان، ومقام الامتنان يعم الانتفاع بها، سواء كان لميتة أو مذكاة إلا أن يمنع منه دليل.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 78).
وقيَّدها عامّة أهل العلم بجلود الأنعام المذكاة، أو بما بعد الدباغ بما ورد من أحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم (أيّما إهاب دبغ قد طهر)
(1)
ودفعًا للتعارض بينها وبين قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وقد سبق أن البعض قدَّر محذوفاً يعم مقدرات ذلك المحذوف ك (استعمال أو انتفاع).
• الحكم الثاني: مشروعية الانتفاع بالأصواف والأوبار والأشعار على كل حال.
مأخذ الحكم: الامتنان الوارد في الآية، كما سبق.
مأخذ ثان: دليل الاستلزام، فإن مشروعية الانتفاع بالأصواف والأوبار والأشعار يستلزم طهارتها، وإنّما يغسل مخافة أن يكون علِقَ به وسخٌ، وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام: (لَا بَأْس بمسك الْميتَة
(2)
إِذا دبغ وصوفها وشعرها إِذا غسل)
(3)
.
واستدل بعضهم بقياس العكس. قال القرطبي: «ولأنّه كان طاهرًا لو أخذ منها في حال الحياة فوجب أن يكون كذلك بعد الموت، إلا أنّ اللحم لما كان نجسا في حال الحياة كان كذلك بعد الموت، فيجب أن يكون الصوف خلافه في حال الموت كما كان خلافه في حال الحياة استدلالاً بالعكس»
(4)
.
تنبيه: طهارة صوف مأكول اللحم ووبره وشعره حال حياته إذا جز، لا خلاف فيه بين العلماء وكذا إذا جز بعد ذكاته، والخلاف فيما إذا كان ميتة، أو كان غير مأكول اللحم.
ومأخذ الخلاف هل الصوف والوبر والشعر في حكم المتصل أو المنفصل؟ ومحل ذلك كتب الفقه.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أي جلدها. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (8/ 3940).
(3)
أخرجه الدارقطني في سننه (1/ 18) وضعفه الألباني رحمه الله في صفة الفتوى لابن حمدان (91).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 219).
تنبيه ثان: الصوف والوبر والشعر قد تستعمل كأوان وهذا قليل، وغالب الاستعمال فيها إنّما هو في اللباس والفرش، وقد يستعمل كخيوط في معالجة الكسر في الإناء أو خَرْج سواء في داخل البيوت لحفظ الأغراض أو على الدّواب لحمل الأغراض وحفظها.
باب إزالة النّجاسة وبيانها
النجاسة عين مستقذرة شرعاً، يجب على المسلم مجانبتها، والبعد عنها، ولها تقسيمات عدّة عند العلماء، يرجع لها في كتب الفقه.
قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] وكذا آية [الفرقان: 48].
استدل بالآية على عدد من الأحكام، منها:
• الحكم الأول: تزول النجاسة بالماء بلا خلاف.
قال ابن عبد البر: «وقد أجمعت الأمة أن الماء مطهر للنّجاسات، وأنّه ليس في ذلك كسائر المائعات الطاهرات»
(1)
.
وقال أيضا: «وقد أجمعوا معنا على أن ورود الماء على النجاسات لا يضره، وأنّه مطهر لها»
(2)
.
ومن العلماء من يفرق بين ورود الماء على النجاسة، وورود النجاسة على الماء
(3)
.
(1)
التمهيد (1/ 330).
(2)
المصدر السابق.
(3)
قال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 295): «إنّ القياس يقتضي أن الماء إذا لاقى نجاسة لا ينجس، كما أنه إذ لاقاها حال الإزالة لا ينجس، فهذا القياس أصح من ذلك القياس؛ لأنّ النجاسة تزول بالماء حِسًّا وشرعا، وذلك معلوم بالضرورة من الدّبن بالنّص والإجماع» .
ومأخذ الحكم: ما سبق وهو أن لفظ (ماء) نكرة في سياق امتنان، فيعم كما أن (اللام) في قوله:{لِيُطَهِّرَكُمْ} للتعليل، والباء في قوله (به) سببية.
وهذا يدل على أن الماء طهور، وهذا الوصف يختص به، ولا يتعدى إلى سائر المائعات.
• الحكم الثاني: استدل بها من قال بعدم إزالة النجاسة بالبخار.
مأخذ الحكم: أن الامتنان بالماء يقتضي اختصاصه بالتّطهر، فلو جعل التطهير بغيره لفات الامتنان به
(1)
. والبخار لا يسمى ماء على الإطلاق بل بخاراً أو رشحاً
(2)
.
نوقش: بعدم التسليم بأن الامتنان يفوت بمشاركة غير الماء للماء في التطهر؛ لأنّ الشّارع إنّما ذكر الماء وامتنّ به على عباده - هنا - لكونه أنفع المطهرات؛ ولكونه الغالب المتيسر في ذلك الوقت، وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له.
كما نوقش بعدم تسمية البخار ماء.
وفي ذلك يقول الروياني: «وهذا غير صحيح عندي؛ لأن رشح الماء ماء حقيقة، وينقص منه بقدره فهو ماء مطلق فيتطهر به»
(3)
.
أو يقال: إن البخار ماء باعتبار ما سيؤول إليه بعد جمعه فما جمع من البخار يسمى ماءً، ويسمى بخاراً حال تبخره.
(1)
ينظر: المجموع (1/ 96)، الشرح الممتع (1/ 423).
(2)
نقله الرافعي عن بعض الشافعية. ينظر: أسنى المطالب شرح روض الطالب لابن زكريا الأنصاري (1/ 6).
(3)
المجموع شرح المهذب للنووي (1/ 34).
تنبيه: يرى الحنفية جواز إزالة النجاسة بغير الماء، وهو رواية عند الحنابلة اختارها شيخ الإسلام ابن تيميّة
(1)
، والشيخ ابن عثيمين
(2)
.
وهؤلاء يرون أن إزالة النجاسة ليست مما يتعبد به قصداً، أي أنها ليست عبادة مقصودة، وإنما إزالة النجاسة هو التخلي من عين خبيثة نجسة، فبأي شيء أزال النجاسة وزالت وزال أثرها فإنه يكون ذلك الشيء مطهِّراً لها، سواء بالماء أو البنزين، أو أي مزيل يكون
(3)
.
قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]
من إزالة النجاسة الاستنجاء، والاستنجاء هو: غسل أثر النّجاسة بالماء.
وفي الآية مشروعية الاستنجاء بالماء، وقد حُكي الإجماع على ذلك، وفي الحديث المتفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه قال:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء، فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة، فيستنجي بالماء)
(4)
.
وفي الآية مشروعية الجمع بين الاستجمار والاستنجاء بالماء، فيشرع للمسلم أن يستجمر ثم يتبعه بالاستنجاء، وقد حُكي الاجماع على ذلك أيضًا، مع وجود المخالف فيها
(5)
.
(1)
ينظر: مجموع الفتاوى (21/ 476).
(2)
ينظر: مجموع فتاوى ابن عثيمين (11/ 86)، الشرح الممتع (1/ 424).
(3)
ينظر: الفقه الميسر (9/ 16)، ومجموع فتاوى ابن عثيمين (11/ 86)، إتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (16).
(4)
أخرجه مسلم كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالماء من التبرز، برقم (271) ..
(5)
نقل الإجماع الكاساني في بدائع الصنائع (1/ 21)، وانظر للخلاف قيه موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي (1/ 165).
ومأخذ المسألتين أن الآية سيقت مساق المدح، وأن الفعل محبوب للمولى سبحانه وتعالى، وذلك للحض على مثل فعلهم، وهو الاستنجاء بالماء بعد الاستجمار بالحجارة، ويدل عليه سبب نزول هذه الآية، حيث نزلت في أهل قباء، ولما سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شأنهم قالوا:(إنَّا نُتبع الحجارة الماء)
(1)
.
قال ابن القيم: «وكل فعل عظمه الله ورسوله
…
أو أحبه
…
فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب»
(2)
.
وقال شيخ الاسلام ابن تيمية: «وقوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} يدل على أن الاستنجاء مستحب يحبه الله، لا أنّه واجب»
(3)
.
قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]
استدل بالآية على وجوب غسل النجاسة وإزالتها من الثوب، وقد أجمع العلماء على ذلك.
قال ابن عبد البر: «وأجمع العلماء على غسل النجاسات كلها، من الثّياب والبدن، وألَّا يصلي بشيء منها في الأرض، ولا في الثياب»
(4)
. وسيأتي في باب شروط الصّلاة.
ومأخذ الحكم ظاهر حيث ورد بذلك الأمر في قوله {فَطَهِّرْ} والأمر يقتضي الوجوب.
(1)
أخرجه البزار في كشف الاستار برقم (247)، وذكره الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام برقم (104) في باب آداب قضاء الحاجة، وضعف سنده، وانظر: إرواء الغليل للألباني (1/ 83).
(2)
بدائع الفوائد (4/ 4).
(3)
مجموع الفتاوى (21/ 406).
(4)
الاستذكار (1/ 331).
واستدل الحنفية بالآية على عموم ما يطهر به، الماء وغير الماء، فقالوا: كل ما يقع به التطهير مندرج تحت مقتضى الأمر، وهو مطهر إذا كان طاهرًا.
وأجيب: بأن الغرض من الآية التعرض لأصل التطهير، لا التعرض لأصل التخصيص والتعميم في آلات التطهير، وهي الماء أو غيره، فلا عموم فيها في ذلك.
قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]
استدل بالآية على نجاسة دم الحيض، ونجاسته مجمع عليها.
ومأخذ الحكم: أولًا: كونه دمًا.
ثانيًا: أمرت بالاغتسال والطهارة منه بالآية، وقد ورد في حديث أسماء أنها قالت:(جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيض كيف تصنع به؟ قال: تحته، ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلى فيه)
(1)
.
وأمر المستحاضة بقوله: (فاغسلي عنك الدّم وصلي)
(2)
. هذا في دم الاستحاضة ودم الحيض أشد، ولا يؤمر بالغسل إلّا من النجس.
قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]
استدل العلماء بهذه الآية في هذا الباب على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: اتفق العلماء على نجاسة بعض الميتات.
قال ابن رشد: «وأمّا أنواع النجاسات، فإنّ العلماء اتفقوا من أعيانها على
(1)
أخرجه مسلم كتاب الطهارة، باب نجاسة الدم وكيفية غسله، برقم (291).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب الاستحاضة، برقم (300)، وكتاب الحيض، باب إذا رأت المستحاضة الطهر، برقم (324)، ومسلم في كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، برقم (333).
أربعة: ميتة الحيوان ذي الدّم الذي ليس بمائي، وعلى لحم الخنزير بأي سبب اتفق أن تذهب حياته، وعلى الدّم نفسه من الحيوان الذي ليس بمائي انفصل من الحي أو الميت، إذا كان مسفوحا أعني: كثيرا، وعلى بول ابن آدم ورجيعه
…
»
(1)
.
ويدخل في الميتة المنخنقة والموقوذة والمترديّة والنّطيحة، وما أكل السّبع، كما سبق من أن الميتة تطلق على ما فارقته الروح من غير ذكاة شرعية مما يذبح، وذكرها من باب عطف الخاص على العامّ.
ويدخل فيها حكمًا: ما أهل لغير الله به، وما ذبح على النّصب، كما سيأتي في كتاب الأطعمة.
ويبقى الاستقسام بالأزلام، وهي القداح، وقد وقع الإجماع على طهارتها كما سيأتي في الآية التي تلي هذه
ومأخذ الحكم هنا: يظهر بما بعده من آيات
(2)
، أمّا في هذه الآية فلا يكون إلّا على القول بأنّ كل محرم نجس، وقد علل بذلك بعض الفقهاء.
والصّواب أن كل نجس محرم، وليس كل محرم نجساً؛ إذ إنّ الذهب والحرير محرمان على الرّجال وليستا بنجسين.
• الحكم الثاني: استدل بالآية من حرّم استعمال المنظفات التي تستخدم فيها النجاسات ولم تستهلك
(3)
. أي: المنظفات التي يكون في تركيبها شيء من
(1)
بداية المجتهد (1/ 83).
(2)
كما سيأتي في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]، وقوله:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145].
(3)
قال ابن رجب في القاعدة الثانية والعشرين من قواعده: «أن العين التي تنغمر في غيرها وتستهلك لا حكم لها.
النجاسات؛ كدهن الخنزير، أو الكحول، كالصابون ونحوه
(1)
.
ومأخذ الحكم: أن ما حرم لعينه؛ فإنّه نجس، والميتة والدّم والخنزير حرمت لعينها فهي نجسة، وقد نصّ الشّارع على تحريمها بقوله:{حُرِّمَتْ} وهي صيغة إخبار عن الحكم ثم أتى بصيغة العموم (أل) غير العهدية؛ ليشمل التحريم جميع وجوه الانتفاع من أكل وبيع واستعمال للتنظيف، وغير ذلك، فلا يجوز الانتفاع بالنّجاسة مطلقًا.
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية [المائدة: 6]
استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن إزالة النجاسة ليست بواجبة.
مأخذ الحكم: لأنّه سبحانه وتعالى لم يذكر النجاسة في الآية وذكر الوضوء، فلو كانت إزالتها واجبة لكانت أوّل مبدوء به.
(2)
..
والصّحيح: وجوب إزالة النجاسة استدلالًا بقصة صاحبي القبرين حيث قال صلى الله عليه وسلم: (إنّهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أمّا أحدهما فكان لا يستتر من البول
(1)
ينظر: مجموع الفتاوى (24/ 270)، وفتاوى المنار (1631)، وفتاوى ابن عثيمين (1/ 254)، الفقه الميسر (9/ 15)، فقه النوازل في العبادات للمشيقح (66).
(2)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 388 - 389)، وبمثله قال ابن العربي في أحكام القرآن (2/ 581).
وأما الآخر فكان يمشي بالنّميمة)
(1)
.
(2)
.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]
استدل بالآية على عدد من الأحكام، منها:
• الحكم الأول: استدل العلماء بالآية على نجاسة الخمر، وحكي الإجماع على ذلك، واستدل آخرون بالآية على طهارتها.
ومأخذ من قال بنجاستها: قوله تعالى: {رِجْسٌ}
(3)
.
وأما من قال بطهارة الخمر فإنه يرى أن نجاستها نجاسة معنوية وليست حسية.
ومأخذ الحكم: اقتران الخمر بالميسر والأنصاب والأزلام، وهذه الثلاثة ليست نجسة فكذلك الخمر، ليست نجاستها نجاسة حسيّة حقيقية؛ لأنّها اقترنت
(1)
أخرجه البخاري كتاب الجنائز باب الجريدة على القبر، برقم (1361)، ومسلم في كتاب الطهارة باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه برقم (292)
(2)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 100).
(3)
أحكام القرآن (4/ 122).
بالميسر والأنصاب والأزلام، وليست أعيانها نجسة.
والميسر: هو القمار.
والأنصاب: هي الأصنام، وقيل: النرد والشطرنج.
والأزلام: القداح.
(1)
.
وقد قوى الشّيخ العثيمين كون الخمر نجاستها نجاسة معنويّة، وليست حسيّة بقوله:{مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} . حيث اعتبره رجسًا عمليًا وليس عينيًا، فلا تكن هذه الأشياء بذلك نجسة
(2)
.
واستدل ابن جزم على نجاسة الميسر والأنصاب والأزلام، وقال: هي نجسة، ومن صلى وهو حامل لها بطلت صلاته
(3)
.
ومأخذه: الأخذ بظاهر الآية.
• الحكم الثاني: استدل بالآية على عدم جواز الصّلاة فيما إذا وضع المصلي على يده أو ثوبه العطور المسماة بالكولونيا.
قال محمّد الأمين الشّنقيطي: «
…
وعلى هذا، فالمسكر الذي عمت البلوى اليوم بالتطيب به المعروف في اللسان الدارجي ب (الكولانيا) نجس لا تجوز الصلاة به»
(4)
.
(1)
المجموع (2/ 564).
(2)
انظر: الشرح الممتع (1/ 431).
(3)
انظر: المحلى (1/ 188).
(4)
أضواء البيان (2/ 154)، الجامع الأحكام القرآن (6/ 27).
ومأخذ الحكم: أن الأمر في قوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} يقتضي الاجتناب المطلق الذّي لا ينتفع معه بشيء من المسكر. وهو أمرٌ بمعنى النهي، فيقتضي تحريمه، وفساد الصلاة به؛ لأنّ النّهي يقتضي التحريم والفساد.
وقد دلت الآية على نجاسته بقوله: {رِجْسٌ} ، والرجس هو: النّجس.
نوقش: بأن النجاسة هنا حكمية لا حسية. ويؤيد ذلك قوله: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} .
(1)
.
والجواب: بل النجاسة حقيقية وليست حكمية؛ لأنّ التّحريم كان لذات الخمر، وما كان لذاته وعينه؛ فإنّه يدلّ على نجاسته. وهذا من القواعد التي يُخرَّج عليها هذا الحكم.
قال ابن قدامة: «الخمر نجسة في قول عامة أهل العلم؛ لأن الله حرمها لعينها، فكانت نجسة كالخنزير، وكل مسكر فهو حرام، نجس، لما ذكرنا»
(2)
.
(1)
مجموع فتاوى ابن عثيمين (11/ 254 - 256)، وينظر: مجموع فتاوى ابن باز (10/ 38) حيث يرى عدم نجاستها مع تحريم التطيب بالطيب المعمول من الكالونيا.
(2)
المغني (9/ 144). وقد ذكر النووي في المجموع شرح المهذب للنووي (2/ 584) هذا المعنى وهو أن الخمر يحرم تناوله من غير ضرورة فكان نجساً كالدم.
كما أن العلماء علقوا نجاسة الخمر على وصف الإسكار، وهذا الوصف موجود في الكالونيا.
قال ابن القيم: «الخمر علق بها حكم التنجيس ووجوب الحد لوصف الإسكار»
(1)
.
وقال القرافي: «نجاسة الخمر معللة بالإسكار»
(2)
.
ومما يؤيد نجاسته مفهوم قوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، حيث دلَّ منطوق الآية أن شراب الآخرة طهور، ومفهومه أن شراب الدنيا ليس بطهور.
تنبيه: يأخذ حكم الكالونيا كل المواد المشتملة على الكحول، كمستحضرات التجميل، والمسحات الطبية، ونحوها
(3)
في أثرها على الطهارة.
(1)
إعلام الموقعين (4/ 80). وانظر: مدارج السالكين (2/ 497).
(2)
الذخيرة (1/ 164).
(3)
استعملت الكحول بجميع أنواعه بشكلٍ واسعٍ مع التّطوّر الهائل في الصناعة، حتى دخلت في العديد من المنتجات الحديثة، مثل:
1.
العطورات ومستحضرات التجميل.
2.
محاليل الغسيل، ومستحضرات التنظيف، كالصابون، والشامبو، ونحوها.
3.
مستحضرات التطهير والتعقيم، كالمسحات والمحاليل الطبية المستخدمة لتطهير الجروح، أو للتعقيم قبل العمليات الجراحية أو قبل ضرب الإبر العلاجية، ونحو ذلك.
4.
الروائح والمنكهات التي تضاف إلى الأطعمة.
5.
وقود المحرّكات، والطلاء، والأصباغ، والمذيبات، ومنها مذيبات المواد الصمغية واللواصق، كالمحاليل الخاصة بإزالة طلاء الأظافر، والمعروفة باسم الراتينج.
6.
كما أنها تستخدم في تحضير كثير من الأدوية.
7.
ومنها ما يضاف للبترول، فيؤدي إلى تحسين المعدل الأوكتاني للبترول، ومنه ما يخلط مع البترول، فينتج عنهما وقود للمحركات، يسمى البترول الكحولي، إلى غير ذلك من الصناعات التي يصعب حصرها. انظر: الموسوعة العربية العالمية (19/ 152)، والكحول والمخدّرات في الغذاء والدواء، لمحمد البار.
ولذا تسامح بها بعضهم؛ لكونها مما عمَّت بها البلوى، وانتشرت، ولا يكاد يخلو منها بيت من بيوت المسلمين.
وقالوا: إن في القول بنجاستها حرجًا عظيمًا؛ لأن فيه تأثيماً للأمة، وإبطالاً لعباداتها من صلاة وطواف ونحوه
(1)
.
• الحكم الثالث: استدل بالآية على جواز استعمال السوائل الكحولية لأغراض الصّناعة والرسوم، والخرائط والمختبرات
(2)
.
مأخذ الحكم: إنّ الحكم يدور مع علته، حيث قالوا: إنّ علة تحريم الخمر هي ما ورد في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ} [المائدة: 91]، وهذه العلة لا تحصل فيما إذا استعمل في غير الشراب
(3)
.
تنبيه: هذا القول مبني على القول بعدم نجاسة الخمر من جهة، والقول بأن المحرم من الخمر هو الشرب فقط من جهة أخرى.
وقالوا: إن الخمر ليس هو الكحول، وإنما هو كلّ مادّة أعدّت للشرب، وهي تؤدّي إلى الإسكار، سواءٌ أكانتْ من الكحول أم من غيرها، وعلى هذا فالعطورات الكحولية لا تدخل في مسمّى الخمر؛ لأنها من الطيب المباح في عرف جميع الناس، فهي لم تعدّ لغرض الإسكار، مثلها مثل البنزين، ومذيب البوية، والصمغ، والأصباغ، وغيرها مما قد يسكر وهو لم يعدّ لذلك.
(1)
ينظر: فقه القضايا المعاصرة في العبادات (175) رسالة غير منشورة د. عبد الله بن بكر أبو زيد، والفقه الميسر (9/ 17).
(2)
ينظر: فتاوى ابن عثيمين (11/ 254).
(3)
المصدر السابق.
قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]
استدل بالآية على نجاسة الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير.
ومأخذ الحكم: أن معنى {رِجْسٌ} : نجس.
بالإضافة إلى ما سبق نقله من إجماع على أن المذكورات في الآية من أنواع النجاسات المتفق عليها.
قال ابن عبد البر: «وإذا لم يكن طاهرًا فهو نجس، والنّجس رجس محرم»
(1)
.
وفي هذه الآية تقييد الدّم بالمسفوح، وقد أطلق في آية المائدة، ويجب حمل المطلق على المقيد باتفاق العلماء؛ لاتحاد الحكم والسّبب، وبني عليه عدم نجاسة الدّم الذّي في العروق.
باب الوضوء
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: فرضية الوضوء ووجوبه.
ومأخذ الحكم: الأمر المطلق في قوله: {فَاغْسِلُوا} ، وقوله:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ، وهما يقتضيان الوجوب.
(1)
التمهيد (4/ 153)، والاستذكار (5/ 301).
تنبيه: كان الوضوء ثابتاً قبل نزول هذه الآية بالسّنة، وروي أنّه صلى في أوّل ما أوحي إليه وأتاه جبريل عليه السلام فعلّمه الوضوء
(1)
.
• الحكم الثاني: تكرار الوضوء لكل صلاة.
لا خلاف بين العلماء في وجوب الوضوء على من عليه حدث؛ لأنّ الوضوء من شروط الصّلاة، وقد قال عليه الصلاة والسلام:(لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)
(2)
.
ومأخذ الحكم من الآية هو أن العلماء قدّروا في الآية مضمرًا تقديره: إذا قمتم إلى الصّلاة محدثين فاغسلوا وجوهكم.
أمّا غير المحدث: فقد اختلف العلماء في الأمر بالوضوء عند كل صلاة في حقه، هل هو مُحكم أو منسوخ، وإذا كان محكمًا هل هو أمر ايجاب أو ندب؟
فذهب طائفة من العلماء إلى أن الآية محكمة، وهؤلاء اختلفوا في الأمر بالوضوء لكل صلاة، هل هو على الوجوب أو الندب؟.
ومأخذ الوجوب: هو ظاهر الأمر، وكونه يقتضي الوجوب، وهو كذلك يقتضي التكرار، ولاسيما وقد عُلق على شرط {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} فيتكرر الغسل عند تكرار القيام للصلاة وجوباً
(3)
، كما أن الفعل في قوله:{إِذَا قُمْتُمْ} ، فعل في سياق شرط يعم؛ لأن الأفعال نكرات، والنكرة في سياق الشرط تعم.
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 354).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب لا تقبل صلاة بغير طهور، برقم (135)، ومسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم (225).
(3)
انظر: المغني لابن قدامة (1/ 197)، التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي (1/ 368).
وذهب جمهور أهل العلم إلى الندب، ولهم طريقان في ذلك:
الطريق الأول: أن بعضهم ادعى النسخ، ومن القواعد المقررة في الأصول أن الوجوب إذا نُسخ بقي الجواز والندب. وقالوا: الناسخ فعله عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة، حيث صلى خمس صلوات بوضوء واحد
(1)
، وهذا عند من يقول بأنّ السّنة تنسخ القرآن.
الطريق الثاني: أنهم قالوا بأن الأمر للوجوب إلا أنه مصروف إلى الندب بما سبق من فعله صلى الله عليه وسلم، وفعله صلى الله عليه وسلم من صوارف الأمر عن الوجوب.
• الحكم الثالث: فرائض الوضوء المتفق عليها هي المذكورة في الآية وهي: غسل الوجه، واليدين، ومسح الرأس، وغسل الرِّجلين إلى الكعبين.
قال ابن عبد البر: «أجمعوا على أن غسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، والرِّجلين إلى الكعبين، ومسح الرأس فرض ذلك كله
…
لا خلاف علمته في شيء من ذلك إلّا في مسح الرجلين وغسلهما»
(2)
.
ومأخذ الحكم هو: الأمر الوارد في الآية {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} وهو يقتضي الوجوب.
• الحكم الرابع: أن ما لم يذكر في الآية اعتبره بعضهم سننًا وآدابًا.
ذهب بعض العلماء إلى اعتبار ما لم يذكر في الآية من السنن والآداب.
قال السيوطي: «وردٌ على ما أوجب التسمية والمضمضة والاستنشاق لحديث: (توضأ كما أمر الله)
(3)
وليس في الآية سوى الأعضاء الأربعة، وعلى ما أوجب
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب جواز الصلوات كلها بوضوء واحد، برقم (277)، وانظر: الإكليل (2/ 621).
(2)
التمهيد (4/ 31) وانظر: تيسير البيان (3/ 100)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 382)، الإكليل (2/ 620).
(3)
أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء في وصف الصلاة، برقم (302)، وحسنه.
غسل باطن العينين؛ لأنه ليس من الوجه، إذ لا يقع به المواجهة»
(1)
.
ومأخذ الحكم هو أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أحال السائل إلى كتاب الله فقال: (توضأ كما أمر الله)، فدَّل على أن غيره ليس بواجب.
تنبيه: ذهب آخرون إلى اعتبار بعضها من السنن، وبعضها من الفروض، وبعضها من الشروط، استدلالاً بأدلة أخرى خارجة عن الآية.
(2)
.
• الحكم الخامس: اشتراط النّية.
مأخذ الحكم: مفهوم قوله {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} أي: أردتم القيام مما يدل على أن الوضوء يراد للصّلاة، وأنّه شرط في صحتها، والإرادة هي النّية.
قال القرطبي: «احتج علماؤنا وبعض الشافعية بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} فلما وجب فعل الغسل كانت النية شرطا في صحة الفعل؛ لأن الفرض من قبل الله تعالى، فينبغي أن يجب فعل ما أمر الله به، فإذا قلنا: إن النية لا تجب عليه لم يجب عليه القصد إلى فعل ما أمره الله تعالى، ومعلوم أن
(1)
الإكليل (2/ 624 - 625).
(2)
انظر: المغني (1/ 33 - 154) .... والمجموع (1/ 362، 385).
الذي اغتسل تبردًا أو لغرض، ما قصد أداء الواجب، وصحّ في الحديث أن الوضوء يكفر، فلو صحَّ بغير نية لما كفَّر. وقال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]
(1)
.
قال ابن العربي في قوله: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} في آية [النساء: 43]: «ولفظ اغتسل يقتضي اكتساب الفعل، ولا يكون مكتسباً له إلا بالقصد إليه حقيقة، فمن أخرجه إلى المجاز فعليه البينة»
(2)
.
تنبيه: سبق القول بأن مالم يذكر في الآية، جعله بعضهم من المسنونات، وذهبت الحنفية إلى أن في اشتراط النية زيادة على النص بخبر الواحد وهو غير مقبول عندهم؛ لأنه نسخ عندهم، والنسخ لا يكون بخبر الواحد.
كما أن واو النسق في الآية لا تعطي رتبة، وإنما هي للجمع دون الاشتراك والترتيب، واسم الغسل ينتظم لمن رتب ولمن لم يرتب، قاله ابن الفرس
(3)
.
• الحكم السادس: اشتراط الموالاة.
الموالاة هي: اتباع المتوضئ الفِعْل الفِعل إلى آخره من غير تراخٍ بين أبعاضه، وفصل بفعل ليس منه.
وقال ابن قدامة: «أن لا يترك غسل عضو حتى يمضي زمن يجف منه العضو الذي قبله في الزمان المعتدل»
(4)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 84)، وانظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 361 - 362).
(2)
أحكام القرآن (1/ 440).
(3)
انظر: أحكام القرآن (2/ 383).
(4)
المغني (1/ 192)، وقال ابن العربي في أحكام القرآن (2/ 581):«إنها عبادة ذات أركان مختلفة فوجب فيها التوالي كالصلاة» .
وقد اختلف العلماء في حكم الموالاة في الوضوء:
فذهب طائفة من أهل العلم إلى أن الموالاة من فرائض الوضوء واستدلوا بالآية.
ومأخذ الحكم هو: أن الأمر بغسل الأعضاء الوارد في الآية مطلق، وهو هنا يقتضي الفور؛ «لأنّ الخطاب بصيغة الشرط والجزاء، ومن حق الجزاء أن لا يتأخر عن جملة الشرط. وتطهير جملة الأعضاء جزاء الشرط الذّي هو القيام للصّلاة، فوجب أن لا يتأخر شيء منه عنها»
(1)
.
وذهب جمهور أهل العلم إلى عدم اشتراط الموالاة.
وقال القرطبي مبينًا مأخذاً آخر: «إن الله سبحانه وتعالى أمر أمرًا مطلقا، فوالِ أو فرِّق، وإنما المقصود وجود الغسل في جميع الأعضاء عند القيام إلى الصلاة»
(2)
. ولكل قائل - بالموالاة وعدمها - استدلالات أخرى يرجع لها في كتب الفقه.
• الحكم السابع: اشتراط التّرتيب.
استدل بعض العلماء بالآية على كون الترتيب من فرائض الوضوء، ومنهم مَنْ استدل بها على عدم الترتيب.
أما القائلون بالترتيب فمأخذ الحكم عندهم هو: مراعاة ترتيب الآية حيث أدرج سبحانه الممسوح بين المغسولات، وهذا لا يكون إلّا عن قصد ترتيب الأشياء على النسق المذكور.
قال الموزعي: «ولأن الله سبحانه قطع النظير عن النظير، فأدخل ممسوحاً بين مغسولين، وقدم القريب على ما هو أقرب منه، فقدَّم اليدين على الرأس، وهو محلُّ
(1)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 98).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 97).
الوجه، فدلَّت هذه المقاصد والأمارات على وجوب الترتيب»
(1)
.
وهناك مأخذ آخر قاله بعض العلماء وهو: أن (الفاء) في قوله {فَاغْسِلُوا} تقتضي التعقيب، فإنها لما كانت جوابًا للشرط ربطت المشروط به، فاقتضت الترتيب في الجميع
(2)
.
وأجيب عنه: بأنّه اقتضت البداءة في الوجه؛ إذ هو جزاء الشّرط وجوابه، وإنما كانت تقتضي الترتيب في الجميع لو كان جواب الشّرط معنى واحدًا، فإذا كانت جملًا كلها جوابًا لم تبال بأيها بدأت، إذ المطلوب تحصيلها
(3)
. قاله القرطبي ثم قال: «والصّحيح أن يقال: إن التّرتيب متلقى من وجوه أربعة:
الأول: أن يبدأ بما بدأ الله به كما قال عليه الصلاة والسلام حين حجَّ: (نبدأ بما بدأ الله به)
(4)
»
(5)
. فجعل بداية الله سبحانه سببًا للتقدم، وأخذ بعض العلماء من هذا الحديث عموم لفظه دون خصوص السبب.
ثمّ ذكر الأوجه الأخرى وهي خارجة عن الآية فقال: «الثّاني: من إجماع السّلف فإنّهم كانوا يرتبون. الثّالث: من تشبيه الوضوء بالصّلاة. الرّابع: من مواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك»
(6)
.
(1)
تيسير البيان للموزعي (3/ 112).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 578)، تيسير البيان للموزعي (3/ 112)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 98).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 578) وقال عنه: «وهذا قول له رونق وليس بمحقق» .
(4)
أخرجه أبوداود في كتاب الحج، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، والنسائي في كتاب الحج، باب القول بعد ركعتي الطواف (2961)، والترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء أنه بدأ في الصفا قبل المروة، برقم (862) وقال:«هذا حديث حسن صحيح، وعليه العمل عند أهل العلم» . قلت: وفي مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (1218) بلفظ (أبدأ بما بدأ الله).
(5)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 98)، وانظر: تيسير البيان للموزعي (3/ 112).
(6)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 98).
ومن قال بعدم اشتراط الترتيب فمأخذ الحكم عندهم: أن العطف بين الأعضاء بالواو، وهي لا تقتضي الترتيب، إنّما تفيد مطلق الجمع.
وأجاب عنه بعضهم بأنّ نحاة الكوفة قائلون باقتضائها التّرتيب
(1)
.
قال الموزعي بعد أن ذكر المأخذ السابق: «وأحسن عندي من ذلك كلِّه في الاستدلال ما استدلَّ به الشافعي في الكتاب القديم من قوله صلى الله عليه وسلم في الصفا: (نبدأ بما بدأ الله به)
(2)
، فجعل بداية الله سبحانه سبباً للتقديم»
(3)
.
• الحكم الثامن: ذهب بعض العلماء إلى أن إجراء الماء على أعضاء الوضوء كاف في تحقق معنى الغسل المأمور به، وليس عليه دلكها بيده، واشترط بعضهم إمرار شيء مع الماء في الغسل كاليد ونحوها.
ومأخذ الحكم عند الفريقين: راجع إلى لفظ الغسل، وبم يتحقق، وهل يشترط فيه الدلك أو يكفي إمرار اليد على المغسول؟.
قال ابن الفرس: «الغسل عند أهل اللغة أن يمر الإنسان الماء على الشيء المغسول مع إمرار شيء منه معه كاليد ونحوها»
(4)
.
قال السيوطي: «قال ابن الفرس: وفي لفظ الغسل دليل على وجوب الدلك وإمرار اليد
…
»
(5)
.
وقال ابن حزم: «ومن غمس أعضاء الوضوء في الماء ونوى به الوضوء للصلاة، أو
…
أجزأه، برهان ذلك أن اسم (غسل) يقع على ذلك كله في اللغة التي
(1)
انظر: تيسير البيان للموزعي (3/ 112).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
تيسير البيان للموزعي (3/ 112).
(4)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 363) وانظر أحكام القرآن لابن العربي (1/ 439).
(5)
الإكليل (2/ 626).
نزل بها القرآن، ومن ادعى أن اسم الغسل لا يقع إلا على التدليك باليد فقد ادعى ما لا برهان له به»
(1)
.
تنبيه: هذا المأخذ ليس أصولياً، بل راجع للمعنى اللغوي.
استدل من قال بالدلك - المالكية- كذلك بالقياس على التيمم، فالتيمم يشترط فيه إمرار اليد فكذا هنا.
وهذا مأخذ من غير الآية - وهو القياس - والجمهور لهم مأخذ آخر على عدم الدلك، وهو ما ورد من حديث (فأفرغه عليك)
(2)
والسنة تبين القرآن.
• الحكم التاسع: يجب غسل الوجه بالاتفاق
(3)
- كما سبق - إلّا أن الخلاف واقع فيما يدخل في الوجه.
ومأخذ الحكم: يرجع إلى ما تكون به المواجهة التي تدخل في مفهوم الوجه، فالوجه مأخوذ من المواجهة، وهو اسم لبشرة الوجه التي تحصل بها المواجهة، والشعر ليس ببشرة
(4)
.
وحده من منابت شعر الرأس إلى آخر الذقن طولًا ومن الأذن إلى الأذن عرضًا، وقيل: من العارض إلى العارض.
وبناءً على مفهوم المواجهة وأن الأمر هل يكون للباطن كما يكون للظاهر؟ اختلفوا في دخول بعض الأفعال في غسل الوجه.
ومن ذلك: المضمضة والاستنشاق، وقد قال الشافعي عنهما: «ولم أعلم
(1)
المحلى (1/ 94).
(2)
أخرجه البخاري في باب باب: الصعيد الطيب وضوء المسلم، يكفيه من الماء، برقم (344).
(3)
انظر: المغني (1/ 161).
(4)
انظر: المغني (1/ 165)، تيسير البيان (3/ 116)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 363 - 364).
اختلافًا في أن المتوضئ لو تركها عامدًا أو ناسيًا، وصلى لم يعد»
(1)
. وهو مذهب مالك وخالفهما الإمام أحمد وغيره، فالإجماع غير متحقق
(2)
.
واختلف في اللحية هل هي من الوجه ويجب غسلها، أو ليست من الوجه؟ فمَن قال بأنها ليست منه علَّل ذلك بأنّ مَنْ طالت لحيته لا يقال طال وجهه، ومَن قال بأنها منه قال بأنها نبتت فيه فتأخذ حكمه، وفيها معنى المواجة.
(3)
.
تنبيه: هذا المأخذ ليس أصولياً، بل راجع للمعنى اللغوي.
• الحكم العاشر: دخول المرفق في غسل اليدين.
اتفق العلماء على وجوب غسل اليدين - كما سبق - واختلفوا في المرفقين هل تدخلان في الغسل أو لا؟
فذهب جمهور أهل العلم إلى دخولهما في الغسل.
ومأخذ الحكم: أن المغيا وهو ما دخل عليه حرف الغاية وهما - المرفقان هنا في الغسل - داخلان في الغاية عند الجمهور، ولاسيما أن الحد من جنس المحدود، فالمرفق من جنس اليد.
وبعضهم جعله من التخصيص بالغاية؛ إذ إن اليد عامّة تشمل الكف والذراع
(1)
الأم (1/ 39).
(2)
انظر: المغني (1/ 166)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 365).
(3)
التمهيد (30/ 121)، الاستذكار (20/ 121).
والمرفق والمنكب، فخصص بالغاية إلى المرفق، وخرج ما بعده.
(1)
.
ومأخذ آخر: وهو أن (إلى) بمعنى (مع).
قال السيوطي: «ومن أدخلهما قال: إلى بمعنى مع»
(2)
.
(3)
.
وذهب طائفة من أهل العلم إلى عدم دخول المرفقين في الغسل.
ومأخذ الحكم: أن (إلى) إنما هو لانتهاء الغاية، فما بعدها غير داخل فيما قبلها، فتخرج الغاية ب (إلى).
• الحكم الحادي عشر: الخلاف في مسح جميع الرأس أو بعضه، مع الاتفاق على وجوب مسحه
(4)
.
(1)
أحكام القرآن لابن العربي (2/ 567)، وقال الموزعي في تيسير البيان (3/ 103): «وحاول بعضهم دلالتها مع بقائها على أصل وضعها، فقال (إلى) هاهنا للإخراج لا للإدخال
…
» ثمَّ ذكر نحواً مما قاله ابن العربي.
(2)
الإكليل (2/ 625)، تيسير البيان (3/ 102).
(3)
أحكام القرآن لابن العربي (2/ 567).
(4)
انظر: المغني (1/ 175)، تيسير البيان للموزعي (3/ 104).
مأخذ الخلاف راجع إلى معنى (الباء) في قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} .
فالذين قالوا: بمسح جميع الرأس ذهبوا إلى أن (الباء) زائدة مؤكدة، فالمعنى: امسحوا رؤوسكم أنفسها، وعليه فيجب مسح جميع الراس على نص الآية.
وقال بعضهم: إنّ (الباء) على بابها للإلصاق، ليست بزائدة. والمعنى على ثبوت (الباء) أو سقوطها سواء، وذلك يوجب عموم المسح.
قال ابن الفرس: «وهذا الوجه أحسن؛ لأنّ زيادة (الباء) في هذا الموضع غير معروف في كلام العرب»
(1)
.
أمّا الذين ذهبوا إلى جواز مسح بعضه فقالوا: إنّ (الباء) للتبعيض، فيقتضي مسح بعض الرأس، وكونها للتّبعيض بيانه - عند من قال به - قالوا: إنّ الباء إذا دخلت على فعل يتعدى من غير (باء) اقتضت التبعيض فيه؛ وذلك لأنّ أهل اللسان فرقوا بين قولهم: (أخذت قميص فلان)، وبين قولهم:(أخذت بقميص فلان) فيحملون الأوّل على أخذ جميعه، والثّاني: على التعلق ببعضه، وكذا في الآية، فإذا قال:(مسحت يدي بالمنديل) و (مسحت يدي بالحائط) عقل من ذلك كله التبعيض، فدّل على أن ذلك مقتضاه.
وقد أنكر بعض أهل اللّغة - كابن جني، وابن برهان - هذا التّفريق، وقال ابن جني:«من قال: إن الباء للتبعيض فقد أتى أهل اللغة بما لا يعرفونه» ، ولذا أولوا ما استدل به على التضمين، أو أن التبعيض إنما استفيد من القرائن
(2)
.
نوقش: بأنها شهادة نفي لا تقبل.
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 369).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 571)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 369)، وانظر: سر صناعة الإعراب (1/ 123)، وشرح اللمع لابن برهان (1/ 174)، التحبير للمرداوي (2/ 670)، المغني (1/ 176).
وأجيب: بأنها ليست بشهادة نفي، وإنما هي إخبار عن ظن غالب يستند إلى الاستقراء ممن هو أهل لذلك مطلع على لسان العرب
(1)
.
وحمل بعضهم استعمال (الباء) للتبعيض على المجاز لقرائن ظاهرة في الأمثلة التي ذكروها، والأصل حمل اللفظ على حقيقته، حتى يقوم دليل المجاز.
وألزم القائلون بعدم التبعيض في (الباء) القائلين بالتبعيض بأية التّيمم في قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} حيث إنّ المسح يكون لجميع الوجه لا بعضه باتفاق
(2)
.
وأجيب عنه: بأن المسح في الرأس أصلٌ، أمّا المسح في التيمم فهو بدل، والبدل يأخذ حكم المبدل منه، ولما كان المبدل منه غسلاً للوجه كاملًا كذلك يكون البدل مسحاً للوجه كاملًا.
وهناك مأخذ آخر وهو لمن قال بمسح بعض الرأس وهو: أن الحكم إذا علق على اسم، فإنه يكتفي بأول ذلك الاسم، وأقل ما ينطلق عليه. وقد علق المسح هنا بالرأس فلا يشترط الاستيعاب بل يكتفى ببعضه.
• الحكم الثاني عشر: أن مسح الراس يكون مرة واحدة.
اتفق الجميع على مشروعية مسح الرأس
(3)
، وإنما الخلاف في مشروعية تكرار المسح.
فذهب جمهور أهل العلم إلى أنه لا يسن تكرار المسح، بل الواجب مسح الراس مرة واحدة.
ومأخذه: هو المأخذ السابق فيما إذا عُلِّق الحكم على اسم، فإنه ينطلق على أقل ما يتعلق به، وعلى هذا فإن المسحة الواحدة يقع بها المسح المأمور به، ويسقط
(1)
انظر: التحبير للمرداوي (2/ 671).
(2)
انظر: المغني (1/ 176)، تيسير البيان للموزعي (3/ 107)، أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 121).
(3)
انظر: الإفصاح لابن هبيرة (1/ 83)، والإشراف في مسائل الخلاف لابن نصر البغدادي (1/ 8).
الفرض، فالمرة يخرج بها عن العهدة.
وذكر ابن الفرس مأخذاً آخر فقال: «لا سيما وقد رجح حذاق الأصوليين أن الأمر لا يقتضي التكرار»
(1)
.
• الحكم الثالث عشر: وجوب مسح الأذنين.
ذهب جمهور أهل العلم إلى وجوب مسح الأذنين.
ومأخذه ظاهر: إذا ضمّ إليه قوله صلى الله عليه وسلم: (الأذنان من الرّأس)
(2)
، والرأس يجب مسحه لقوله:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} فهذا أمر يقتضي الوجوب فيجب مسحهما.
مأخذ آخر: أن الأذنين إما أن يكونا من الرأس أو الوجه، وليست من الوجه لعدم المواجهة بها، فبقيت من الرأس، والرأس يمسح كما في الأمر بالآية.
أما القائل إنهما لا يمسحان؛ فلأن المولى سبحانه قال: {بِرُءُوسِكُمْ} ولم يذكر الأذنين، ولولا أنهما داخلتان في حكم الرأس ما أهملهما، وما كان ربك نسيا، قاله ابن العربي
(3)
.
• الحكم الرابع عشر: ذهب طائفة من العلماء إلى عدم جواز المسح على العمامة.
مأخذه: أن الآية أمرت بالمسح على الرأس، ومن مسح على حائل لم يمسح على رأسه، بل مسح على ذلك الحائل.
(1)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 371).
(2)
أخرجه أبو داوود في الطهارة، برقم (134)، والترمذي في الطهارة، برقم (37)، وابن ماجة في الطهارة، برقم (443، 444، 445)، وصححه الألباني في تخريجه أحاديث ابن ماجة، وقال:«صحيح على كل رواية من الروايات الثلاث: عبد الله بن زيد، وأبي أمامة، وأبي هريرة» . انظر: صحيح سنن ابن ماجة برقم (357، 358، 359)، إرواء الغليل حديث رقم (84)، السلسلة الصحيحة (36).
(3)
انظر أحكام القرآن لابن العربي (2/ 575).
وهو محجوج بآثار وردت في جواز ذلك
(1)
.
• الحكم الخامس عشر: ذهب جمهور أهل العلم إلى أن المجزئ في عدد غسل الأعضاء واحدة.
مأخذ الحكم هو: أن أقل ما يقع عليه اسم الغسل مرة واحدة، واحتمل أكثر، فسن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء مرّة، فوافق ظاهره القرآن، وذلك أقل ما يقع عليه اسم الغسل، واحتمل أكثر، وسنه صلى الله عليه وسلم مرتين وثلاثًا
(2)
.
• الحكم السادس عشر: ذهب جمهور أهل العلماء إلى وجوب غسل الرجل إذا كانت مكشوفة، ومسحها إذا كانت بحائل، كالخف.
وذهب بعضهم -وقد روي عن بعض الصحابة- القول بالمسح على القدم، ونقل عن ابن جرير القول بالتخيير بين الغسل والمسح
(3)
.
وسبب الخلاف: تعدد القراءات، وتعددها بمنزلة تعدد الآيات.
وبيان ذلك: ورد في قوله {وَأَرْجُلَكُمْ} : النصب والجر.
فمن قال بوجوب غسلها - وهم الجمهور - فقد أخذوا بقراءة النّصب، وهي معطوفة على قوله:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} الأمر بغسل القدم مطلق يقتضي الوجوب، وللعلماء في وجه الإعراب وتوجيه القراءة خلاف، والمقطوع به من
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب المسح على الناصية والعمامة، برقم (247).
(2)
قال البخاري في صحيحه (1/ 39): باب ما جاء في الوضوء وقول الله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قال أبو عبد الله: «وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن فرض الوضوء مرة مرة، وتوضأ أيضا مرتين وثلاثا، ولم يزد على ثلاث، وكره أهل العلم الإسراف فيه، وأن يجاوزوا فعل النبي صلى الله عليه وسلم» .
(3)
انظر: جامع البيان للطبري (10/ 63 - 64)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 92).
السنة غسل القدمين، فهي بيان بقوله وفعله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
(2)
.
وحملوا قراء الجر - على القول بكونها معطوفة على قوله: {بِرُءُوسِكُمْ} ، على مسح القدم إذا كانت بحائل، كالخف والجورب.
ومن قال بأن الواجب أو الجائز في حق الرجلين المسح: فإنهم أخذوا بقراءة الجر وهي معطوفة على الرأس، وفرض الرأس المسح فكذا الرجلان.
• الحكم السابع عشر: ورد الأمر في الآية بغسل القدم إلى الكعبين، وهما العظمان النائيان في أسفل الساق من جانبي القدم، والأمر مغيا بغاية، فذهب الجمهور إلى دخول الكعبين مع القدمين في الغسل.
ومأخذ الحكم: هو أن المغيا يدخل في الغاية، كما سبق في اليد مع المرفق.
ومن العلماء من جعل معنى (إلى) في الآية بمعنى (مع).
• الحكم الثامن عشر: استدل بالآية على وجوب إزالة ما يعلق بأعضاء الوضوء، ويمنع وصول الماء إلى البشرة مما له جرم، كالدّهون والكريمات، وطلاء الأظافر، والأكحال التي تكون مادتها بلاستيكية، والأصابع المعدنيّة التي تحتوي على
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 373 - 377)، وورد بالنقل المستفيض من فعله صلى الله عليه وسلم، وأما القول فمنه قوله صلى الله عليه وسلم:(ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثاً)، أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين ولا يمسح القدمين، برقم (163)، ومسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما، برقم (241)، وهذا يوجب استيعابهما بالغسل؛ لأن الوضوء اسم للغسل، يقتضي إجراء الماء على الوضوء، والمسح لا يقتضي ذلك.
(2)
تيسير البيان (3/ 109).
الكبريت أو الرّصاص أو النحاس، وبيضات الشعر
(1)
.
مأخذ الحكم: يمكن استنباط الحكم السابق من الآية بواسطة قاعدة: ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب.
وبيانه: أنَّ غسل جميع أعضاء الوضوء واجب، ولا يتمّ هذا لواجب إلّا بإزالة ما يحول دون وصول الماء إليها، فيكون إزالة تلك الحوائل من الدّهون والكريمات ونحوها واجب.
• الحكم التاسع عشر: استدل بالآية من قال بوجوب غسل ما بقي من العضو إن كان القطع من المفصل فما دونه، سواء كان في اليد أو القدم، وتنزع الأطراف الصناعية لأجل ذلك
(2)
.
مأخذ الحكم: أن معنى (إلى) هنا بمعنى (مع)
(3)
ويفسرها فعل النبي صلى الله عليه وسلم الدائم في الوضوء.
نوقش: بأنّ (إلى) الأصل أنها للغاية، فلا يدخل ما بعدها إلى ما قبلها، وعليه فلا يدخل المرافق في الغسل مع الأيدي، ولا الكعب في الغسل مع الأرجل
(4)
.
وأجيب: بأنّ ورود (إلى) بمعنى (مع) شائع في اللسان
(5)
.
(1)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (5/ 218)، فتاوى ابن باز (10/ 49)، مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (4/ 140)، الفقه الميسر (النوازل في العبادات)(9/ 9)، فقه النوازل في العبادات للمشيقح (32، 42)، إتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (20).
(2)
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (11/ 106، 152)، الفقه الميسر (9/ 18)، إتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (25 - 26).
(3)
ينظر: المغني (1/ 172)، الشرح الممتع (1/ 213)، أثر اللغة في اختلاف المجتهدين، ص (252).
(4)
ينظر: تيسير البيان لأحكام القرآن (2/ 731).
(5)
لقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تَوَضَّأَ أَدَارَ المَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ) وقالوا: لفظ: «كان» في الحديث يدل على المداومة، ولم ينقل إلينا أنه صلى الله عليه وسلم اقتصر على ما دون المرفق، فدلّ على دخوله وجوبًا، وفي فعله صلى الله عليه وسلم بيانٌ للغسل المأمور به في الآية. ينظر: تيسير البيان (2/ 732)، أثر العربية في استنباط الأحكام الفقهية من السنة النبوي، ص (406).
• الحكم العشرون: استدل بالآية من قال بعدم جواز المسح على الشماغ والغترة والطاقية
(1)
والقبعات
(2)
.
مأخذ الحكم: أن الباء في قوله: {بِرُءُوسِكُمْ} للإلصاق، وهذا يقتضي عدم وجود الحائل بين الراس والماء.
تنبيه: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على العمامة
(3)
، ومن أجاز ذلك اشترط للمسح عليها شروطًا لا تنطبق على الشماغ وما ذكر معه. فالحنابلة يشترطون في جواز المسح على العمامة كونها محنّكة أو ذات ذؤابة
(4)
، والشماغ والغترة والطاقية ليست كذلك
ولعل ضابط ذلك ما ذكره الشيخ العثيمين: «ما كان بمعنى العمامة مما يشق نزعه، فإنه يلحق بها، وما لا فلا»
(5)
.
• الحكم الحادي والعشرون: استدل بالآية على عدم جواز المسح على الباروكة
(6)
.
(1)
ينظر: مجموع فتاوى ابن عثيمين (11/ 170)، الشرح الممتع (1/ 193)، إتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (24).
(2)
يرى الشيخ العثيمين جواز المسح على القبّعة التي تلبس على الرأس أيام الشتاء لتقية البرد؛ لأنّ نزعها قد يكون أشق من العمامة، ولأنها أشد تدفئة من العمامة فتأخذ حكمها. ينظر: شرح صحيح مسلم، لابن عثيمين (1/ 580)، مجموع فتاوى ابن عثيمين (11/ 170)، فتح ذي الجلال والإكرام (1/ 386).
(3)
كما في حديث عمرو بن أمية رضي الله عنه قال: (رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب المسح على الخفين، برقم:(205).
(4)
ينظر: كشاف القناع عن متن الإقناع (1/ 119)، الإنصاف (1/ 185)، الشرح الممتع (1/ 237).
(5)
ينظر: شرح صحيح مسلم، لابن عثيمين (1/ 579).
(6)
ينظر: فتاوى العثيمين (11/ 193)، إتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (22).
مأخذ الحكم: أن الباء في قوله: {بِرُءُوسِكُمْ} للإلصاق، وهذا يقتضي عدم وجود الحائل بين الراس والماء.
ويستصحب التنبيه السابق في المسألة الماضية.
كما ينبه: أن لبس الباروكة للرجال والنساء محرم، هذا هو الأصل فيها؛ لأنها داخلة في الوصل، وهي وإن لم تكن وصلاً إلا أنها تظهر شعر الرأس على وجه أطول من حقيقته فتشبه الوصل، فتأخذ حكم وصل الشعر، وقد أجاز الشيخ العثيمين رحمه الله لبس الباروكة للمرأة القرعاء التي لا شعر لها أصلاً؛ لأنه من باب إزالة العيب وهو جائز قياساً على إذن النبي صلى الله عليه وسلم باتخاذ أنف من ذهب لمن جدع أنفه
(1)
.
باب المسح على الخفين
الخفان: واحدهما خف، وهو: ما يلبسه الإنسان، ويجمع على خفاف.
ويدخل في حكم الباب الجورب، وهو لفافة الرِّجل، ولعله المصنوع من الصّوف أو القطن أو الحرير، أو مشترك بين اثنين فأكثر.
وفي وقتنا الحاضر تعددت المنسوجات فتصنع الجوارب من الأنواع السّابقة ومن النايلونات، وتسمى في وقتنا الحاضر بالشّراب.
ويدخل فيه الجرموق وهو: خفٌ يلبس فوق الخف، والموق وهو بالمعنى السّابق. وقيل غير ذلك.
قال تعالى: {وَأَرْجُلِكم} [المائدة: 6] بكسر اللام.
استدل بالآية على عدد من الأحكام، منها:
• الحكم الأول: مشروعية المسح على الرجلين إذا كان عليهما خف.
(1)
ينظر: فتاوى المرأة ص (166 - 183).
قال ابن قدامة: «والمسح على الخفين جائز عند عامة أهل العلم»
(1)
.
استدل العلماء بقوله: {وَأَرْجُلِكم} بكسر اللام على مشروعية المسح على الرجلين إذا كان عليهما خف، فعطفوا الأرجل على المسح على الرأس، في قوله:{وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم إلى الكعبين} .
ولما كانت القراءتان محتملتين وجائزتين لغة، حمل العلماء قراءة النّصب في قوله:{وَأَرْجُلَكُمْ} على العطف على المنصوب في قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} فعطف بالنّصب مغسولًا على مغسولٍ، وجعلوا فرض الرِجلين الغسل، وذلك إذا لم يكن على القدمين خف أو نحوه. وإن كان على القدمين خُفٌّ فجعلوا فرض الوضوء مسح القدمين، استدلالًا بالقراءة الثانية، وهو عطف الممسوح على الممسوح.
مأخذ الحكم: أن القراءتين إذا ظهر تعارضهما في آية واحدة؛ فإنّ لهما حكم الآيتين؛ ولذا حملوا فرض غسل القدم على قراءة النّصب، وفرض مسح القدم (الخف) على قراءة الخفض كما سبق.
قال السيوطي: «قُرئ النصب والجر، فالأولى للغسل، والثانية لمسح الخف؛ لأن تعدد القراءات بمنزلة تعدد الآيات»
(2)
.
• الحكم الثاني: استدلَّ بوجوب المسح على الجورب الملبوس على الأرجل الصناعية على قراءة: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} بكسر (أرجلِكم) وذلك إن كان القطع من الكعب فما دونه من جهة القدم.
فالقول في هذا المطلب كالقول في المطلب السابق، إلا أنّ الحكم -هنا-
(1)
المغني (1/ 359).
(2)
الإكليل (2/ 620).
متعلِّقٌ بالمسح على الجورب أو الخف الذي على الرّجل الصناعية
مأخذ الحكم: ما سبق في المسألة السابقة من دلالة معنى حرف (إلى) وأنه بمعنى (مع)، مع جواز الاحتجاج بالقراءة الأخرى، فيأخذ حكم الغسل في المسألة السابقة، فيمسح عليها، إن كان قطع الرِجل من الكعب فما دون جهة القدم.
تنبيه: الكلام في هذه المسألة هو نفس الكلام في المسألة السابقة.
باب نواقض الوضوء
النواقض: جمع ناقض، ونواقض الوضوء: مفسداته، أي: التي إذا طرأت عليه أفسدته. وأتى بلفظ: نواقض، بالجمع للإشارة إلى تعددها واختلافها.
ومناسبة وروده بعد الوضوء ظاهرة؛ إذ إن النقض لا يكون إلا بعد وقوعها.
وقال: نواقض الوضوء، ولم يقل نواقض الطهارة، لأجل الاقتصار على ما ينقض الطهارة الصغرى، دون الكبرى.
• الحكم الأول: من نواقض الوضوء: إتيان الغائط.
دلَّت الآية على أن الخارج من السبيلين من نواقض الوضوء، وعبَّر المولى سبحانه وتعالى عنه بلفظ {الْغَائِطِ} ، وهو كناية عن الحدث من النواقض الصغرى.
ومأخذ الحكم: الأول: الأمر الوارد بقوله {فَتَيَمَّمُوا} : أي إن جئتم من الغائط، مما يدلُّ على كونه ناقضاً. لأن الوضوء والتيمم رافعان لهذه الأحداث فأمر بهما.
ثانياً: مفهوم الشرط فيه وهو: إن لم يأت الغائط فهو غير مأمور بالتيمم أو الوضوء.
تنبيه: ذكر العلماء أن لفظ {الْغَائِطِ} في الآية يجمع بالمعنى جميع الأحداث الناقضة للطهارة الصغرى.
ويؤيد هذا ما قدَّره العلماء في صدر الآية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} حيث قدَّروا: (إذا قمتم محدثين) فيدخل فيه كل حدث. والأحداث منها ما هو متفق عليه ومنها ما هو مختلف فيه.
(1)
.
(2)
. وسيأتي ذكر بعضها، وهناك نواقض أخرى يرجع إليها في كتب الفقه.
• الحكم الثاني: من نواقض الوضوء ملامسة النساء.
أما ملامسة النساء. فقد اختلف العلماء في المراد منها في الآية.
فقيل: الجماع. وقيل: مجرد اللمس باليد. ورجَّح كل فريق ما ذهب إليه بأدلة وقرائن، وكل قول قال به نفر من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
فقال بكونه الجماع علي وابن عباس رضي الله عنهم، وقال بكونه اللمس باليد عمر وابنه وابن مسعود رضي الله عنهم.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 213).
(2)
فتح الباري (1/ 289).
وأرجع بعضهم الخلاف فيها للخلاف في القراءتين الواردتين فيهما، وهما:{أَوْ لَامَسْتُمُ} أو {لمستم} . فقيل: معناهما واحدٌ.
وقيل: إن قراءة {لمستم} بدون ألف: الجماع، ويحتمل أن يكون المراد مجرد اللمس باليد. أمّا قراءة {أَوْ لَامَسْتُمُ} بالألف فهي بمعنى الجماع.
ومأخذ الحكم: الأول: الأمر الوارد بقوله {فَتَيَمَّمُوا} : أي إن لمستم النساء، مما يدلُّ على كونه ناقضاً. لأن الوضوء والتيمم رافعان لهذه الأحداث فأمر بهما.
ثانياً: مفهوم الشرط فيه وهو: إن لم يلمس النساء فهو غير مأمور بالتيمم أو الوضوء.
تنبيه: على القول بأن قراءة {أَوْ لَامَسْتُمُ} بالألف بمعنى الجماع فإنّ الآية بالمعنى تكون شاملة للحدثين الأصغر والأكبر.
فالأصغر في قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} والأكبر في قوله تعالى: أو {لمستم} ، {أَوْ لَامَسْتُمُ} وهو الجماع.
وقيل: إنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر سبب الحدث، وهو المجيء من الغائط ذكر سبب الجنابة، وهو الملامسة، فبيّن حكم الحدث والجنابة عند عدم الماء، كما أفاد حكمهما عند وجود الماء، فلا يمنع حمل اللفظ على الجماع واللمس.
(1)
.
(1)
أحكام القرآن لابن العربي (1/ 444)، وانظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 224).
وأجيب بأنه: إن أريد منه اللمس باليد، فإنّه يكون قليل الفائدة؛ إذ المجيء من الغائط واللمس حينئذ من واد واحد، ولا تكون الآية حينئذ شاملة لحكم وجوب التّيمم للجنب إذا لم يجد الماء.
وحمل اللمس على الجماع قواه ابن تيمية معتمدًا على قاعدة: «إنّ الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا عامًّا ولا بد أن تنقلها الأمة فإذا انتفى هذا عُلم أن هذا ليس من دينه
…
وكذلك الناس لا يزال أحدهم يلمس امرأته بشهوة وبغير شهوة، ولم ينقل عنه مسلمٌ أنه أمر الناس بالتوضؤ من ذلك، والقرآن لا يدل على ذلك؛ بل المراد بالملامسة الجماع كما بسط في موضعه»
(1)
.
واستدل أصحاب هذا القول بفعل النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قبل امرأة من نسائه ثم خرج إلى الصّلاة ولم يتوضأ
(2)
.
تنبيه ثان: دلَّت الآية على أن الجنب يجب أن يغتسل، والعلماء يقولون: إن ما أوجب الغسل فإنه يوجب الوضوء، بمعنى يكون ناقضاً من نواقض الطهارة.
ومأخذ الحكم من الآية هو: أولاً: الأمر بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} .
ثانياً: اقتران الحكم وهو الطهارة، بالوصف وهو الجنابة، دلالة على كون الجنابة علّةً وسببًا للطهارة بدلالة الإيماء والتنبيه.
وإذا قلنا بأن ما أوجب الجنابة فإنه يوجب الوضوء فيدخل في النواقض ما توجبه الجنابة، كالجماع، ونزول المني، والحيض، والردة.
(1)
مجموع الفتاوى (25/ 236 - 238).
(2)
أخرجه أبو داوود في كتاب الطهارة، باب ما جاء في ترك الوضوء من القبلة، برقم (86)، والنسائي في كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من القبلة (1/ 104)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4/ 273).
تنبيه ثالث: يتفرع على القول بأن المقصود باللمس اللمس باليد أنه لا فرق بين اللمس بشهوة وبدون شهوة، ويشهد لذلك ظاهر القرآن.
ومأخذ الحكم: هو أن المطلق يجري على إطلاقه، فلا يقيد بشهوة إلا بدليل.
• الحكم الثالث: عدم النقض من مس الصغيرة.
استدل بعض العلماء بالآية على أن لمس الصّغيرة ليس بناقض.
ومأخذ الحكم: مفهوم قوله {لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} فإن الذي يفهم من تعليق الحكم على صفة من صفتي الذات الدلالة على نفيه عن الآخر. باعتبار أن الحكم علق على الأنثى، فتدخل النساء، وتدخل الصبية. أو الكبيرة والصغيرة، والنساء وصف للكبيرة، فتخرج الصغيرة، والله أعلم.
• الحكم الرابع: من نواقض الوضوء النوم.
ومن النواقض: النوم، على خلاف بين العلماء هل هو ناقض وحدث بذاته، أو أنه سبب للحدث.
وإن قلنا إنه حدث بذاته فإنّه ينقض الوضوء قليله وكثيره، ولم يخص نومًا من نومٍ.
وإن قيل: بأنّه ليس بحدث فالأصل أنه ليس بناقض إلّا بيقين خروج الحدث. إلا أن من العلماء الذين قالوا بأنه سبب للحدث وليس بحدث قالوا بنقض الوضوء من النوم الكثير أو المستغرق؛ لأنه مظنة للحدث، والمظنة تنزل منزلة المئنة
(1)
.
(1)
قالوا: إن حالة النوم المستغرق وما يماثله تجعل الأعضاء فيها مسترخية، وقد لا يقدر على دفع ما ينتقض به الوضوء؛ لذا قالوا: بأن المظنة تنزل منزلة المئنة، واعتبروا ذلك من النواقض الحكمية، وليس من النواقض الحقيقية، التي هي أحداث بذاتها.
ومأخذ كون النوم ناقضاً: ما قدَّره العلماء في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} حيث إنهم قدَّروا: (إذا قمتم إلى الصلاة وقد نمتم)
(1)
باعتبار أن المقدَّر عندهم كالمذكور.
قال ابن الفرس مؤيداً هذا التقدير، ومقدِّمًا إيّاه على تقدير (إذا قمتم محدثين) فقال:«لأنّ الأحداث مذكورة بعد هذا فأغنى ذلك عن ذكره، وأمّا النّوم فلم يقع له ذكر، وليس بحدث، وإنّما هو سبب للحدث على الأصح في ذلك، فحمل الكلام على زيادة فائدة أولى من حمله على التكرار بغير فائدة، فبهذا رجح جماعة من أهل العلم هذا القول»
(2)
.
وأشار بعض العلماء إلى سبب تقدير النوم، وهو بالنظر إلى سبب نزول الآية، حيث:«إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد فنزلت {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ}»
(3)
.
قلت: وذهب جمهور أهل العلم إلى أن المراد بالقيام هنا، القيام للصلاة، وليس من النوم، فهي عامة لمن قام من نوم أو غيره.
(4)
.
تنبيه: إن قلنا بأن الآية دلَّت على حكم النوم، فيدرج معه ما يكون في معناه
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 559)، تيسير البيان (3/ 100)، الإكليل (2/ 618).
(2)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 355)، وانظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 48)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 82).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ، برقم (4608).
(4)
المحرر الوجيز (2/ 161)
مما يؤدي إلى زوال العقل، كالإغماء، والسكر، كما سبق. وكون زوال العقل من نواقض الوضوء حكماً نُقل الإجماع عليه.
(1)
.
(2)
.
• الحكم الخامس: استدل بالآية من قال بعدم نقض الوضوء من الخارج من النجاسات غير البول والعذرة، سواء كان الخارج من المخرج المعتاد - السبيلين - أو من غيرهما
(3)
، لقوله تعالى:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}
مأخذ الحكم: يستنبط الحكم من مفهوم الآية، حيث دلت الآية بمنطوقها على النقض من الغائط. والخارج في الغائط: البول والعذرة. ومفهومه: أن غير ذلك ليس بناقض.
• الحكم السادس: استدل بالآية من قال بنقض الوضوء عن طريق خروج البول عن طريق القسطرة، أو الغائط عن طريق الشرج الصناعي
(4)
:
(1)
المغني (1/ 234).
(2)
المغني (1/ 234).
(3)
ينظر: الإنصاف (2/ 13)، مجموع فتاوى ابن تيمية (20/ 526)، الشرح الممتع (1/ 274).
(4)
ينظر: الشرح الممتع (1/ 274)، شرح عمدة الفقه للجبرين (1/ 124)، إتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (26). وخروج النجاسة من غير المخرج لا ينقض الوضوء إلا إذا كان بولاً أو غائطًا وهي رواية في المذهب الحنبلي كما في الإنصاف (2/ 13)، واختارها شيخ الإسلام في مجموع فتاوى ابن تيمية (20/ 526).
والقسطرة: أن يوضع للمريض في مجرى البول قِسْطار أي: (ماسور بلاستيكي) يخرج منه البول دون إرادة المريض
(1)
.
أمّا الشرج الصناعي: فهو فتحة يفتحها الطبيب في جدار البطن يخرج منها البراز دون إرادة المريض، وتجتمع في علبة وتزال بين فترة وأخرى
(2)
.
ومأخذ الحكم: ما سبق في المسألة السابقة من كون المطلق يجري على إطلاقه، وقد أطلق الشرع نقض الوضوء من خروج البول والغائط، ولم يقيّده بمخرجه المعتاد، فإن خرجا من أي مخرجٍ فإنهما ناقضان.
تنبيه: ذكر ابن رشد أن سبب اختلافهم في ذلك هو: «أنه لما أجمع المسلمون على انتقاض الوضوء مما يخرج من السبيلين من غائطٍ وبولٍ وريح ومذي؛ لظاهر الكتاب، ولتظاهر الآثار بذلك، تطرق إلى ذلك ثلاثة احتمالات:
أحدها: أن يكون الحكم إنما علّق بأعيان هذه الأشياء فقط، الاحتمال الثاني: أن يكون الحكم إنما علّق بهذه من جهة أنها أنجاسٌ خارجةٌ من البدن لكون الوضوء طهارة، والطهارة إنما يؤثر فيها النجس، والاحتمال الثالث: أن يكون الحكم -أيضًا- إنما علّق بها من جهة أنها خارجةٌ من هذين السبيلين»
(3)
.
• الحكم السابع: استدل بالآية من قال بنقض الوضوء بالغسيل الكلوي البروتيني والغسيل الكلوي
(4)
. البروتيني: هو عبارة عن أنبوب يوضع في جوف المريض، وهذا الأنبوب يوضع بين السّرة والعانة، ويُعطى المريض بعض السوائل والأدوية الخاصّة التي تساعد الجسم على التّخلص من السموم، والفضلات
(1)
ينظر: فقه النوزال للمشيقح (42)، الفقه الميسر (9/ 12).
(2)
ينظر: المصدر السابق.
(3)
بداية المجتهد (1/ 41).
(4)
ينظر: فقه النوزال للمشيقح (48 - 49)، الفقه الميسر (9/ 14).
السائلة، والأملاح الزائدة، ثم بعد ذلك تجتمع هذه الفضلات السائلة والسموم والأملاح الزائدة في هذا الأنبوب، ما يقارب من ثمان ساعات، ثمّ بعد اجتماعها يقوم المريض بتفريغ هذا الأنبوب في كيس خارجي
(1)
.
ومأخذ الحكم: أوجب المولى سبحانه وتعالى في الآية الوضوء أو التيمم عند خروج البول أو الغائط لمن أراد القيام للصلاة، وأطلق في المحل، ولم يقيده بالمخرج المعتاد؛ لذا ذهب الحنفية والحنابلة إلى نقض الوضوء بخروج البول والغائط من أي محل؛ وذلك لأنّ المطلق يجري على إطلاقه ما لم يرد التّقييد الشّرعيّ له
(2)
.
تنبيه: الخارج من الغسيل الكلوي فيه صفات البول من الفضلات والأملاح والسموم؛ لذا أخذ حكمه، ولم يأخذ حكم الدّم، ونُقل عن بعض الباحثين أن من استعمل الغسيل البرويتيني في الغالب أنه يستغني عن التبول الطبيعي
(3)
.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة: 217]
قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]
استدل بالآيتين على أن الردة ناقض من نواقض الوضوء، وعليه من ارتد وقد كان على طهارة، ثمَّ أسلم فإن عليه إعادة الوضوء.
مأخذ الحكم: أن قوله: {أَعْمَالُهُمْ} ، وقوله:{عَمَلُكَ} ، كلاهما معرفان بالإضافة، سواء كان جمعاً كما في الآية الأولى، أو مفرداً كما في الآية الثانية،
(1)
المصدر السابق.
(2)
حاشية ابن عابدين (11/ 260) والمبدع شرح المقنع (1/ 117).
(3)
ينظر: فقه النوزال للمشيقح (49 - 50)، الفقه الميسر (9/ 15).
والمعرف بالإضافة يفيد العموم، فتفيدان حبوط كل عمل، ومنه الوضوء والطهارة.
ومن العلماء من قال بعدم نقض الطهارة بالردة.
ومأخذه: أن حبوط العمل مقيَّد في الآية الأولى بقوله: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} ، ويقيَّد به المطلق الوارد في سورة الزمر.
كما أن في سورة الزمر قرينة تدل على هذا القيد، وهي ختم الآية بقوله:{لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وإنما يوصف بأنه من الخاسرين من مات على ردته، ولم يعد للإسلام.
باب الغسل وحكم الجنب
والجنابة في الاصطلاح: حدث أكبر يقوم بالبدن سببه التقاء الختانين، أو خروج المني.
قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]
قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]
دلت الآيتان على عدم مشروعية صلاة الجنب إلّا بعد الاغتسال، وأن الاغتسال شرط إباحة الصّلاة، ووجوب الغسل من الجنابة محل اتفاق بين أهل العلم
(1)
.
قال ابن العربي عن آية المائدة: «هذه الآية أصل في وجوب الطهارة من الجنابة»
(2)
.
(1)
انظر: المغني (1/ 265)، الإكليل (2/ 622).
(2)
أحكام القرآن (2/ 369).
ومأخذ الحكم من الآية الأولى ظاهر: حيث إنّه نهي مغيا بغايةٍ، والنّهي وارد في أوّل الآية بقوله:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} .
ومفهوم الغاية: أن الجنب إذا اغتسل حلّت له الصّلاة، وحلّ له اللبث في المسجد والمرور فيه.
والمقصود بعابر السبيل عند الجمهور: الخاطر المجتاز، ويوضحه سبب نزول الآية، وهو أن قومًا من الأنصار كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد، فإذا أصاب أحدهم الجنابة اضطر إلى المرور في المسجد، ثم أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يوجهوا بيوتهم عن المسجد
(1)
، وبقي الحكم أخذًا بعموم اللفظ دون سببه، فكان رخصة لغيرهم.
تنبيه: عاد الاستثناء في الآية إلى الأخير فقط، وهو الجنب ولم يعد للسكارى؛ لأنّ السكران ممنوع من دخول المسجد؛ إذا لا يؤمن تلويثه إياه وسيأتي في باب المساجد.
ومأخذ الحكم من الآية الثانية:
الأول: الأمر بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} .
الثاني: اقتران الحكم وهو الطهارة، بالوصف وهي الجنابة، دلالة على كون الجنابة علّةً وسببًا للطهارة. بدلالة الإيماء والتنبيه.
أو يقال: علق الأمر بشرط، والشرط هنا علة ثابتة وهي الجنابة، فيتكرر الأمر بتكررها اتفاقاً، فتكون الجنابة علة للتطهير.
(1)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (7/ 57)، والسيوطي في الدر المنثور (4/ 453)، ورجح هذا السبب ابن كثير في تفسيره (4/ 65).
قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]
استدل بالآية على أن الحيض يوجب الغسل، فإذا حاضت المرأة، ثم طهرت، فإن الغسل يجب عليها، ونقل عدد من العلماء الإجماع على ذلك.
قال ابن قدامة: «ولا خلاف في وجوب الغسل بالحيض والنفاس»
(1)
.
والمقصود بالتطهر في الآية الاغتسال، وقد منع الزوج من وطئها قبل الغسل، وهذا مما يدّل على وجوب الغسل عليها.
مأخذ الحكم من الآية: مفهوم الشرط في الآية، وهو أنّهن إن لم يتطهرن فيغتسلن لم يجز إتيانهن، فمفهوم الشرط يقتضي المنع قبل الغسل، وهذا - كما سبق - يدل على وجوبه عليها.
فائدة: وهذه الآية من أمثلة ورود الأمر {فَأْتُوهُنَّ} بعد الحظر، والجمهور على أنّه هنا للإباحة.
قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: عدم جواز مس الجنب للمصحف، وقد اتفقت المذاهب الأربعة على ذلك.
قال ابن قدامة: «ولا يمس المصحف إلا طاهر، يعني طاهرًا من الحدثين جميعا، وهو قول
…
مالك والشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم مخالفا لهم إلا داود فإنه أباح مسه»
(2)
.
(1)
المغني (1/ 154).
(2)
المغني (1/ 108).
وقال ابن عبد البر: «وأجمع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى، وعلى أصحابهم، بأنّ المصحف لا يمسه إلا الطاهر»
(1)
.
وقرّق العلماء بين الحدث الأكبر والحدث الأصغر، والمراد بالمسِّ، والمقصود بالطهرين، إلّا أن الجمهور قالوا: بحرمة مسِّه للمحث مستدلين أيضًا بقوله: صلى الله عليه وسلم (لا يمس القرآن إلّا طاهر)
(2)
.
ومأخذ الحكم من الآية: أن الآية خبر منفي، بمعنى النّهي عن قراءة القرآن ومسَّه، والنّهي يقتضي التّحريم.
تنبيه: فرّق العلماء بين الحائض وغيرها من أصحاب الجنابات، فأجازوا للحائض؛ إذ إن حيضتها ليست في يدها، فلا تستطيع رفعها، كما يفعل بقية الجنب إذا أرادوا مس المصحف.
ومأخذهم في ذلك العمل بالمصلحة، ولا سيما إذا كانت الحيضة تأخذ وقتًا والمرأة تريد مراجعة حفظها.
• الحكم الثاني: استدل بها من قال بعدم جواز مسح السّبورة الثّابتة بلا وضوء، إذا كتب فيها أية فأكثر؛ لأنها تلحق باللوح
(3)
مأخذ الحكم: يخرج الحكم على قاعدة النّهي يقتضي التّحريم، والفعل في قوله:{لَا يَمَسُّهُ} ينزل منزلة النكرة، فيكون عامّاً في أيّ مسٍّ سواء كان على
(1)
الاستذكار (2/ 472).
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 309)، ومالك في الموطأ (1/ 199)، وعبد الرزاق في مصنفه (1328)، والدارمي في سننه (2266)، وأبو داود في المراسيل (93)، والدارقطني في سننه (1/ 122)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (1/ 158) برقم (122)، وصحيح الجامع (7780).
(3)
وكان هذا اختياراً للشيخ العثيمين كما في الشرح الممتع (1/ 322، 333). وتوقّف في مجموع فتاوى ابن عثيمين (11/ 214)، وقال: هي عندي محلّ توقّفٍ
الورق أو السبورة.
تنبيه: وهذا القول مبني على أمرين:
الأول: على القول بتحريم مس المصحف، وإليه ذهب الجمهور
(1)
، واختاره ابن تيمية
(2)
، وتلميذه ابن القيم
(3)
، وهو الذي رجحه الشيخ ابن عثيمين أخيرًا
(4)
.
الثاني: أنَّ الضّمير في قوله: {لَا يَمَسُّهُ} يعود إلى القرآن؛ بقرينة: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} والمنزّل هو القرآن
(5)
.
ونوقش بما يأتي:
(1)
أنّ الضّمير في قوله: {لَا يَمَسُّهُ} لا يعود إلى القرآن، وإنما يعود إلى الكتاب المكنون؛ لأنّ الضّمير يعود إلى أقرب مذكور
(6)
، وأما قوله:{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فهو عائدٌ بلا شكّ إلى القرآن الكريم، ولا مانع من تداخل الضّمائر إذا كان ثمّة قرينة تدلّ على ذلك
(7)
، ثم إنّه على احتمال تساوي الأمرين فإنّ الاستدلال بهذه الآية يسقط؛ لأنّ الدليل إذا تطرّق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
(2)
ومما يدلّ على أنّ الضّمير لا يعود على القرآن قوله: {إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} ؛ لأنه لو أراد منع المحدث من مسّه لقال: «إلا المتطهِّرون» ؛ كما قال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ
(1)
ينظر: المبسوط (3/ 152)، وبدائع الصنائع (1/ 33)، وبداية المجتهد (1/ 55) والمجموع (2/ 67، 72)، والمغني (1/ 137).
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى (21/ 266).
(3)
ينظر: أعلام الموقعين (1/ 172).
(4)
ينظر: فتح ذي الجلال والإكرام (1/ 462)، الشرح الممتع (1/ 320).
(5)
ينظر: المغني (1/ 202)، المجموع (2/ 72)، إعلام الموقعين (1/ 172).
(6)
ينظر: نيل الأوطار (1/ 320)، فتاوى القنوجي (404).
(7)
انظر: الشرح الممتع (1/ 318).
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، فالمتطهّر: فاعل التطهير، والمطهّر: الذي طهّره غيره، فالمتوضِّئ متطهِّرٌ، والملائكة مطهَّرون
(1)
.
باب التّيمم
التيمم لغة: القصد. واصطلاحاً: استعمال الصعيد في عضوين مخصوصين على قصد التطهر بشرائط مخصوصة، وعلى صفة مخصوصة.
ومما روي في سبب شرعيتها، ما رواه البخاري ومسلم: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش - انقطع عقدٌ لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق، فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبوبكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضعٌ رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبوبكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير: ما هي أول بركتكم يا آل أبي بكر: قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فأصبنا العقد تحته)
(2)
.
قال ابن عبد البر «: فأنزل الله تعالى آية التيمم، وهي آية الوضوء المذكورة في سورة المائدة، أو الآية التي في سورة النساء. ليس التيمم مذكورا في غير هاتين الآيتين
(1)
ينظر: التبيان في أيمان القرآن لابن القيم (331). وقد ناقش ابن القيم في هذا الكتاب استدلال الجمهور بهذه الآية من عشرة أوجه.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب التيمم أول حديث من دون ترجمته، برقم (334)، ومسلم في كتاب الحيض، باب التيمم برقم (367).
وهما مدنيتان»
(1)
.
والتيمم من الخصائص التي خصَّ الله بها أمة الإسلام، وقد ورد في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أُعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً .. ) الحديث متفق عليه
(2)
. وعند مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه: (وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء)
(3)
.
وقد نصَّ المولى سبحانه على بعض الحِكم من شرعة التيمم بقوله سبحانه في آية المائدة: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
فذكر سبحانه من الحِكم: رفع الحرج، وإرادة التطهير، وإتمام نعمته سبحانه بإباحته لنا التيمم، مع سائر نعمه السابقة واللاحقة، جعلنا الله من الشاكرين.
وهذه الحِكم يلتفت إليها العلماء عند استنباط الأحكام.
قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] وفي [المائدة: 6]. {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} .
(1)
التمهيد (19/ 279).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب التيمم، وقول الله تعالى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} ، برقم (335)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب المساجد ومواضع الصلاة، برقم (521).
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب المساجد ومواضع الصلاة، برقم (521).
واستدل بالآيتين على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: يستنبط من الآية مشروعية التيمم بالصعيد الطيب عند عدم الماء، وهو طهور لكل مسلم، مريض، أو مسافر، سواء كان جنبًا، أو على حدث، وهذا الحكم مجمع عليه
(1)
.
ومأخذ الحكم بمشروعية التيمم: الأمر في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا} وهو هنا على أصله للوجوب، وهو بدل عن الماء ويأخذ حكمه.
تنبيه: اختلف العلماء في اشتراط الغبار في الصعيد:
فذهب طائفة من أهل العلم إلى عدم اشتراط الغبار.
وقالوا: والصعيد هو: وجه الأرض سواء كان عليه تراب أو لم يكن عليه تراب، فكل ما صعد على وجه الأرض فهو صعيد يجوز التيمم به.
ومأخذهم: أن قوله سبحانه: {صَعِيدًا} مطلق - لكونه نكرة في سياق إثبات -، والمطلق يجري على إطلاقه.
(2)
.
وذهب طائفة من أهل العلم إلى اشتراط الغبار في الصعيد.
ومأخذهم: أن المراد بالصعيد التراب ذو الغبار.
(1)
انظر: الإجماع لابن المنذر (36)، الإفصاح لابن هبيرة (1/ 156)، المغني (1/ 310)، شرح صحيح الإمام مسلم للنووي (4/ 279).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 487).
أما اختصاصه بالتراب فلقوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وتربتها طهوراً)
(1)
.
ونقل عن الشافعي قوله: لا يقع الصعيد إلّا على تراب ذي غبار
(2)
.
قال إلكيا الهراسي: «ولا شك أن لفظ الصعيد ليس نصاً فيما قاله الشافعي»
(3)
.
وأما اشتراط كونه ذا غبار، فهو استدلال بالآية، وذلك بقوله:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} فقالوا: {مِنْهُ} أي: من بعضه، وهذا يلزم منه علوق شيء من الصعيد، ولا يكون إلا بتراب ذي غبار.
ف (من) في قوله: {مِنْهُ} تبعيضية، وهذا يلزم منه اشتراط علوق شيء من التراب بيد المتيمم، ينقل إلى أعضاء المتيمم كما ينقل الماء إلى أعضاء المتوضئ.
نوقش: أن (من) في الآية لابتداء الغاية.
• الحكم الثاني: اتفق العلماء على اشتراط كون الصعيد طاهراً، لقوله:{طَيِّبًا} أي: طاهراً بالإجماع
(4)
.
ومأخذ الحكم: مفهوم الصفة الواردة في الآية، ومفهومه أن الأرض الخبيثة والنجسة، لا يشرع التيمم بها، وهذا بالإجماع أيضًا
(5)
.
(1)
أخرجه الإمام مسلم في كتاب الصلاة، باب المساجد مواضع الصلاة، برقم (521).
(2)
انظر: الشرح الكبير للرافعي (1/ 255)، مغني المحتاج (1/ 96)، الإكليل للسيوطي (2/ 623).
(3)
أحكام القرآن (3/ 57).
(4)
انظر: بدائع الصنائع (1/ 334)، بداية المجتهد (1/ 139)، المجموع (2/ 173)، المغني (1/ 334)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 448).
(5)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (4/ 30)، المغني (1/ 334).
قال ابن تيمية: «فإنّه لا خلاف أن الأرض الخبيثة ليست بطهور»
(1)
وهو يريد النجسة.
وقال ابن جرير الطبري: «وأمّا قوله: {طَيِّبًا} فإنّه يعني به طاهرًا من الأقذار والنجاسات»
(2)
.
تنبيه: قال ابن الفرس: «واختلف فيمن تيمم على أرض نجسة، فقال ابن القاسم إذا ذهب الوقت أجزأه، وقال ابن عبد الحكم وغيره: لا يجزؤه تعلقاً بظاهر قوله تعالى: {صَعِيدًا طَيِّبًا} والمراد بالطيب هنا هو الطاهر»
(3)
.
• الحكم الثالث: من شروط التيمم عدم وجود الماء باتفاق أهل العلم
(4)
.
ومأخذ الحكم: تعليق الأمر بالتيمم على شرط عدم وجود الماء، والمعلق على شرط يثبت بثبوته.
تنبيه: سبق في باب المياه بيان أن لفظ {مَاءً} في الآية نكرةً في سياق نفي، وهو يعم لغة كل ماء، والماء اسم جنسٍ، فيكون عمومه في الجنس، فيدخل فيه كل ماء قليلًا كان أو كثيرًا، وسواء كان ماءً من سماءٍ أو نهرٍ، أو عين عذب أو ملح.
• الحكم الرابع: استدل العلماء بالآية على جواز التّيمم عن الحدث الأكبر والحدث الأصغر
(5)
.
(1)
الفتاوى الكبرى (4/ 296)، مجموع الفتاوى (31/ 107).
(2)
جامع البيان (7/ 82).
(3)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 210).
(4)
انظر: المغني (1/ 314).
(5)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 493)، أحكام القرآن للهراسي (2/ 233)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 464)، تيسير البيان (3/ 122)، الإكليل للسيوطي (2/ 623).
مأخذ الحكم: تعليق الشارع الحكم وهو الأمر بالتيمم على شروط هنا، وذكر من الشروط {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} لبيان الحدث الأصغر، وقوله {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وهو الجماع لبيان الحدث الأكبر. والمعلق على شرط يثبت بثبوته، فظاهر القرآن عود قوله:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} إلى الحدث والجنب جميعاً.
ويلزم من وجود الشرط، وهو الحدث، وجود المشروط، وهو: التيمم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته.
• الحكم الخامس: مشروعية التيمم للمريض مطلقا سواء وجد الماء أو لم يجده.
أما عند عدم وجود الماء فباتفاق أهل العلم - كما سبق - في حكم العادم مطلقاً، سواء كان مريضاً، أو صحيحاً.
قال ابن رشد: «فأجمع العلماء أنها (أي طهارة التيمم) تجوز لاثنين للمريض وللمسافر إذا عدما الماء»
(1)
.
وقال ابن العربي: «ومطلق اللفظ يبيح التيمم لكل مريض إذا خاف من استعماله وتأذيه بالماء»
(2)
. وأما عند وجود الماء، فاستدل بعضهم بالآية على عدم جواز تيممه.
ومأخذ الحكم: مفهوم الشرط الوارد في الآية، حيث دلَّت الآية بمنطوقها على جواز التيمم عند عدم الماء، وبمفهوم شرطها على عدم جواز التيمم مع وجود الماء، ولم تفرق بين مريض وصحيح.
(1)
بداية المجتهد (1/ 130) وانظر: مراتب الإجماع لابن حزم (43).
(2)
أحكام القرآن (1/ 440).
وذهب جمهور أهل العلم إلى عدم اعتبار المفهوم هنا، وعليه فيجوز للمريض إذا عجز عن الماء أن يستعمل التراب ويتيمم.
ومأخذهم في عدم الأخذ بالمفهوم: كونه معارضاً بالمنطوق الوارد بالسنة، وهو ما روي عن بعض الصحابة أنّه أصابته جنابة، وكان به جراحة عظيمة، فسأل بعضهم فأمره بالاغتسال، فلما اغتسل مات، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال:(قتلوه قتلهم الله ألا سألوا فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم)
(1)
.
لذا يرى الرازي أنه ليس في الآية دلالة على منع المريض من التيمم عند وجود الماء، وإنما دلت السنة على جوازه
(2)
.
ومن العلماء من يستدل بدلالة معنى المرض في الآية على منع المريض من التيمم عند وجود الماء
(3)
، وهذا يشبه قول الأصوليين: يستنبط من النص معنى يخصصه، والله أعلم.
قال ابن عاشور: «وقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} عطف على فعل الشرط، وهو قيد في المسافر، ومن جاء من الغائط، ومن لامس النساء، أمّا المريض فلا يتقيد تيممه
(1)
أخرجه أبو داوود في كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمم برقم (336). قال أن ابن حجر:«رواه أبو داوود بسند فيه ضعف، وفيه اختلاف على روايته» ، وضعفه الألباني. انظر: بلوغ المرام (45)، وإرواء الغليل (1/ 142 - 143).
(2)
انظر: التفسير الكبير (10/ 88 - 89).
(3)
قال الرازي في تفسيره (11/ 309): «المرض على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يخاف الضرر والتلف، فههنا يجوز التيمم بالاتفاق. الثاني: أن لا يخاف الضرر ولا التلف، فههنا قال الشافعي: لا يجوز التيمم، وقال مالك وداود يجوز، وحجتهما أن قوله وإن كنتم مرضى يتناول جميع أنواع المرض. الثالث: أن يخاف الزيادة في العلة وبطء المرض، فههنا يجوز له التيمم على أصح قولي الشافعي رحمه الله. وبه قال مالك وأبو حنيفة -رحمهما الله-، والدليل عليه عموم قوله وإن كنتم مرضى الرابع: أن يخاف بقاء شين على شيء من أعضائه، قال في «الجديد» : لا يتيمم. وقال في «القديم» يتيمم وهو الأصح لأنه هو المطابق للآية»، وانظر كذلك تفسيره (10/ 88).
بعدم وجدان الماء؛ لأنه يتيمم مطلقا، وذلك معلوم بدلالة معنى المرض، فمفهوم القيد بالنسبة إليه معطل بدلالة المعنى»
(1)
.
والخلاصة: إن إباحة التيمم للمريض غير مضمنة بعدم الماء، بل هي مضمنة بخوف ضرر الماء، ولذا قالوا: إن كان المرض يسيراً لم يبح له التيمم.
وهناك مأخذ آخر ذكره بعض العلماء: وهو أن في الآية مقدراً، تقديره:(وإن كنتم مرضى فعجزتم أو خفتم من استعمال الماء فتيمموا). وقالوا: إن مرجع الضمير في قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} إنما يعود إلى المسافر فقط.
وذكر ابن الفرس مأخذاً في الخلاف في دخول المريض الواجد للماء، وكذا الحاضر العادم للماء هل هما من أهل التيمم أو لا؟ أنه راجع إلى معنى (أو) في قوله:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} فقال: «في (أو) هنا تأويلان: أنها على بابها من أن تكون لأحد شيئين. الثاني: أنها بمعنى الواو، وعلى هذين التأويلين ينبني اختلاف العلماء في المريض الواجد للماء والحاضر العادم للماء، هل هما من أهل التيمم أم لا؟ فمن أبقى (أو) على بابها رأهما من أهل التيمم
…
ومن رأى (أو) في الآية بمعنى الواو لم يرهما من أهل التيمم؛ لأنه بعيد
…
»
(2)
.
• الحكم السادس: مشروعية التيمم للمسافر العادم للماء.
ومأخذ الحكم: المأخذ السابق، وهو تعليق الحكم وهو الأمر بالتيمم على شرط عدم وجود الماء، والمعلق على شرط يثبت بثبوته.
مأخذه: أن المطلق يجري على إطلاقه.
تنبيه: هل لقوله تعالى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} مفهوم صفة مخالف، بحيث إنّ غير
(1)
انظر: التحرير والتنوير (5/ 67).
(2)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 196، 361).
المسافر لا يجوز له التيمم ولو أكثر المفسرين عدم الماء؟
على أن السفر ذكر في الآية لأنّه في الغالب يفقد معه الماء، وإذا كان كذلك فلا مفهوم له لخروجه مخرج الغالب، ويبنى عليه مشروعية التيمم في الحضر لمن عدم الماء، سواء عدم الماء حقيقة أو حكمًا.
قال ابن قدامة: «ومن حال بينه وبين الماء سبعٌ، أو عدو، أو حريق، أو لص، فهو كالعادم. ولو كان الماء بمجمع الفساق، تخاف المرأة على نفسها منهم، فهي عادمة»
(1)
.
ومن العلماء من أرجع سبب الخلاف في كون الحاضر العادم للماء يجوز له التيمم أولا، إلى الاختلاف في عود الضمير في قوله:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} ، هل يعود على الحاضرين والمسافرين، أو على المسافرين فقط، فمن رآه عائداً على المسافرين فقط أو على المرضى والمسافرين لم يُجز التيمم للحاضر العادم للماء.
• الحكم السابع: التيمم يكون بالوجه واليدين إجماعًا
(2)
.
وذهب جمهور أهل العلم إلى وجوب مسح جميع الوجه، ونقل بعضهم الإجماع على ذلك، كما سيأتي.
ومن العلماء من قال بعدم وجوب الاستيعاب.
أما مأخذ القائلين بوجوب مسح جميع الوجه:
أولاً: هو أن: (الباء) في الآية للإلصاق، أو أنها زائدة، والمعنى:(فامسحوا وجوهكم)، فيجب تعميمه.
(1)
انظر: بدائع الصنائع (1/ 310)، المغني (1/ 315).
(2)
انظر: المغني (1/ 331)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 210)، الإكليل (2/ 623).
الثاني: القياس، فكما يجب تعميمه بالغسل، فكذا بالمسح في التيمم، وذلك لأنّ التيمم بدل عن الوضوء، والاستيعاب في الأصل من تمام الرّكن، فكذا البدل وهو التيمم، فوجب استيعاب الوجه كله.
الثالث: الإجماع، كما سبق. قال القرطبي:«ولا خلاف في أن حكم الوجه في التيمم والوضوء الاستيعاب، وتتبع مواضعه»
(1)
.
أما مأخذ مَنْ قال بعدم وجوب الاستيعاب: فهو القياس على مسح الرأس والخف، بجامع كون الجميع مسحاً.
ونوقش: بأن حكم الأصل مختلف فيه، فلا يصح القياس.
قال ابن حزم: «والصحيح أن لفظة المسح لم تأت في الشريعة إلا في أربعة مواضع ولا مزيد: مسح الرأس، ومسح الوجه واليدين في التيمم، ومسحٌ على الخفين والعمامة والخمار، ومسح الحجر الأسود في الطواف، ولم يختلف أحد من خصومنا المخالفين لنا في أن مسح الخفين ومسح الحجر الأسود لا يقتضي الاستيعاب، وكذلك من قال منهم بالمسح على العمامة والخمار، ثم نقضوا ذلك في التيمم، فأوجبوا فيه الاستيعاب تحكماً بلا برهان
…
فمن أين وقع لهم تخصيص المسح بالاستيعاب بلا حجة، لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة، ولا من لغة، ولا من إجماع، ولا قول صاحب، ولا قياس»
(2)
.
• الحكم الثامن: اختلف العلماء في حد اليدين في التيمم.
فذهب بعض العلماء إلى القول بأن المسح يكون إلى الآباط، ومنهم من قال: إلى المرفقين، ومنهم من قال: إلى الكوعين، أو للكفين.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 230).
(2)
المحلى لابن حزم (1/ 376 - 377).
ومأخذ من قال للآباط: الإطلاق الواردة في الآية، فكل ما كان من أطراف الأصابع إلى الآباط فإنه يطلق عليه اسم اليد.
قال البيضاوي: «واليد اسم للعضو إلى المنكب»
(1)
.
وقال ابن الفرس: «ومن قال: الإبط بناه على تعلق الحكم بآخر الاسم؛ إذ ذاك أكثر ما ينطلق عليه اسم اليد»
(2)
.
نوقش: نسلم بأن اليد تطلق على ذلك، لكن دلَّت السنة وبينت المراد، وهو إلى الكوعين، أو الكفين كما في حديث عمار رضي الله عنه.
ومأخذ من قال إلى المرفقين: إمّا قياس التيمم على الوضوء، أو حمل المطلق الوارد في آية التيمم على المقيد بأية الوضوء، وقد اتحدا سببًا واختلفا حكمًا
(3)
.
فسببهما الطهارة ورفع الحدث. والحكم في الوضوء الغسل، وفي التيمم المسح.
نوقش: بأنه قياس فاسد؛ لأنه في مقابل النص، وحمل المطلق على المقيد يصح عند من يقول بالحمل مع اختلاف الحكم.
ومأخذ مَنْ قيّده بالكوع: حمل الأيدي المطلقة هنا على التقييد الوارد في آية القطع في السرقة، وهي مقيدة بفعله عليه الصلاة والسلام
(4)
.
(1)
أنوار التنزيل للبيضاوي (2/ 76).
(2)
أحكام القرآن (2/ 212).
(3)
انظر: تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي (4/ 591)، تيسير البيان (3/ 116).
(4)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 212)، والوار في فعله ما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم:(قطع سارقاً من المفصل)، والمراد بالمفصل كما يقول البيهقي هنا: مفصل الكف. والحديث فيه مقال، وله شواهد ذكرها الألباني. انظر: السنن الكبرى (8/ 270 - 271)، ونصب الراية للزيلعي (3/ 280)، إراوء الغليل للأباني (8/ 81 - 82).
نوقش: بأنهما اختلافا حكمًا، ففي السرقة قطع، وفي التيمم مسح، واختلفا سببًا ففي السرقة: السرقة، وفي التيمم: رفع الحدث، فلا يحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة بالاتفاق
(1)
.
ومأخذ من جعل المسح إلى الكوعين:
أولاً: أن اليدين عند الإطلاق يراد بها الكوعان فقط؛ لأنه لو أراد إلي الإبطين، أو إلى المرفقين، أو الذراعين لقيدها به، كما قيَّدها في الوضوء إلى المرفقين.
(2)
.
ثانياً: القياس على القطع؛ إذ هو حكم شرعي وتطهير، كما أن التيمم تطهير.
ونوقش: بأنه في القطع عقوبة، لا يؤخذ فيها إلا باليقين، والتيمم عبادة، والعبادات يؤخذ فيها بالاحتياط.
وهناك مأخذ آخر: ذكره ابن الفرس فقال: «فمن قال إلى الكوعين كان ذلك منه بناء على تعليق الحكم بأول الأسماء؛ لأن اليد هي من أطراف الأصابع إلى الإبط، وأقل ما ينطلق عليه اسم اليد إلى الكوعين»
(3)
.
ومأخذ مَنْ قال إلى الكفين: هو حديث عمّار كما عند البخاري أنّه أجنب فلم يجد الماء فتمرغ في الصعيد كما تمرغ الدَّابة، وفيه أنه قال: ثمّ أتيت الرسول فذكرت ذلك له، فقال: «إنما كان يكفيك أن تقول بيدك هكذا، ثم ضرب بالأرض ضربة
(1)
انظر: المنخول (177)، الإحكام للآمدي (3/ 4)، المطلق والمقيد د. حمد الصاعدي (236).
(2)
انظر: تفسير السعدي 233.
(3)
أحكام القرآن (2/ 112).
واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه»
(1)
.
• الحكم التاسع: اختلف العلماء في مشروعية تكرار المسح من عدمه.
وذهب الجمهور إلى عدم التكرار.
ومأخذ الحكم: إطلاق المسح في الآية، وهو يتحقق بالمرة الواحدة.
• الحكم العاشر: ذهب جمهور أهل العلم إلى وجوب طلب الماء.
مأخذ الحكم: أن قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} أمر يوجب التّكرار، ولا سيما أنه قد علق بشرط، فهو يوجب تكرار التيمم لكل صلاة، ويلزم منه طلب الماء لكل صلاة. ولم يجب في الوضوء لفعله عليه الصلاة والسلام، فيبقى التيمم
(2)
.
قال الموزعي: «وكنت قدَّمت أولاً أن مفهوم قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} لا يوجب تكرار الوضوء لكل صلاة، خلافاً لابن سيرين؛ لأجل فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يقتضي بمفهومه أنه يجب طلب الماء والتيمم لكلِّ صلاة عند القيام، أو لا يجب كالوضوء؟
فباقتضاء المفهوم قال الشافعي ومالك، فأوجبا الطلب والتيمم لكل فريضة، وبترك المفهوم قال أبو حنيفة، فلم يوجب ذلك»
(3)
.
• الحكم الحادي عشر: اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز للمكلف العادم للماء أن يعدل إلى التيمم مع قدرته على شراء الماء بثمن مثله، إن كان هذا الثمن فاضلاً عن حاجته ودينه.
(1)
أخرجه البخاري كتاب الطهارة، باب التيمم للوجه والكفين برقم (339).
(2)
حيث ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات الخمس كلها يوم الفتح بوضوء واحد، أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب جواز الصلوات كلها بوضوء واحد برقم (227).
(3)
تيسير البيان (3/ 122 - 123).
واختلفوا فيما إذا كانت الزيادة على ثمن المثل يسيرة، فهل يلزمه شراء الماء أو لا؟ وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يلزمه شراء الماء.
مأخذ الحكم: أن القادر على الشراء يعتبر واجداً للماء، فلا يجوز له العدول إلى التيمم.
فقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا} فعل في سياق نكرة، والأفعال نكرات، فيعم كل واجد، سواء كان بثمن المثل أو بزيادة.
• الحكم الثاني عشر: من وجد ماءً لكنه لا يكفي لطهارته اختلف العلماء في وجوب تطهره به، ثم تيممه للباقي.
فأوجب ذلك بعض العلماء.
ومأخذ الحكم: أولاً: أن كلمة (ماء) في الآية نكرة في سياق نفي تعم الماء القليل والكثير
(1)
.
ثانياً: أنه يصدق عليه أنه واجد للماء.
وقيل: لا يجب عليه استعمال هذا الماء.
ومأخذ الحكم: العرف الشرعي؛ لأن مطلق الماء ينصرف إلى المتعارف، والمتعارف من الماء في باب الوضوء والغسل هو الماء الذي يكفي للوضوء والغسل، فينصرف المطلق إليه، ومن لم يجد ماءً كافياً لطهارته، كان كمن لم يجد الماء أصلاً، فيكون حكمه الشرعي الانتقال إلى التيمم.
وعليه فيقال: إن الله سبحانه وتعالى أراد بالماء في قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ، الماء الكافي للأعضاء الذي أمر بغسلها في أول الآية.
(1)
انظر: المغني (1/ 315)، نهاية المحتاج (1/ 272).
(1)
.
• الحكم الثالث عشر: اختلف العلماء القائلون بوجوب طلب الماء والتيمم لكل صلاة في جواز فعل التيمم قبل دخول الوقت.
فقال بعض أهل العلم: يجوز التيمم قبل دخول الوقت.
مأخذ الحكم: أنّ المعلق بالشرط إنّما هو الوجوب - وهو دخول الوقت - والوجوب في وقت لا يمنع الجواز في غيره.
مأخذ آخر: وهو القول بأن المولى أقام التيمم مقام الماء عند فقده، ولم يفرق بين ما إذا كان قبل الوقت أو بعده
(2)
.
وذهب بعض أهل العلم إلى عدم الجواز.
مأخذ الحكم: القياس، وبيانه كما قال الموزعي:«ويجوز أن يقال: فيه دلالة على التقييد بالوقت وجوبًا وجوازًا، فإنّه عبادة وقد ورد توقيت وجوبها بوقت الصلاة، فلا يجوز في غيره، كسائر العبادات، وإنّما خرج الوضوء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات بوضوء واحد، أو لأنّه طهارة لا عبادة كما ذهب إليه أبو حنيفة والثوري؛ ولهذا لم يوجبا النّية في الوضوء، وأوجباها في التّيمم؛ لأنّه عبادة»
(3)
.
(1)
أحكام القرآن (1/ 447).
(2)
انظر: رؤوس المسائل للزممخشري (113).
(3)
تيسير البيان للموزعي (3/ 124)، وانظر: الإكليل للسيوطي (2/ 624).
ثم بيَّن مأخذاً آخر بقوله: «أو لأنّه طهارة لا عبادة كما ذهب إليه أبو حنيفة والثوري؛ ولهذا لم يوجبا النّية في الوضوء، وأوجباها في التّيمم؛ لأنّه عبادة»
(1)
.
(2)
.
• الحكم الرابع عشر: استدل بالآية من قال بعدم جواز التيمم على جدار الأسمنت أو البلاط، أو الجدار الذّي عليه دهان (بوية)
(3)
.
ومأخذ الحكم: أن (من) في قوله: {مِنْهُ} تبعيضية، وهذا يقتضي أن يكون هناك غبار يعلق باليد، وهذا لا يتحقق بجدار الأسمنت أو البلاط، فلا يتحقق المسح.
نوقش: أن التيمم غير مختص بالتراب، بل بكل ما تصاعد على وجه الأرض؛ لقوله سبحانه:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ، والصعيد: كل ما تصاعد على وجه الأرض
(4)
.
(1)
تيسير البيان للموزعي (3/ 124).
(2)
بداية المجتهد لابن رشد (1/ 134 - 135).
(3)
ينظر: مجموع فتاوى ابن عثيمين (11/ 240)، (15/ 412)، إتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (27).
(4)
ينظر: الشرح الممتع (1/ 392).
وحمل بعضهم (من) في قوله: {مِنْهُ} على كونها ابتدائية، أي لابتداء الغاية
(1)
، أي: مبدأ ذلك المسح كائن من الصعيد الطّيب، وعليه فلا يتعين ما له غبار، ويصحّ التيمم بجدار الأسمنت وغيره.
باب الحيض
قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]
الحيض والمحيض مصدران يقال: حاضت المرأة تحيض حيضًا ومحيضًا.
والمحيض أيضًا: اسم لموضع الدّم، فالمحيض الأوّل في الآية هو الدّم، وهو الأذى، والمحيض الثّاني قيل: هو موضع الدّم.
وقد استنبط العلماء من الآية عددًا من الأحكام منها:
• الحكم الأول: تحريم الوطء في الفرج حال الحيض، وهذا محل إجماعٍ.
قال ابن قدامة: «الاستمتاع من الحائض فيما فوق السُّرة ودون الركبة جائز بالنّص والإجماع، والوطء في الفرج محرم بهما»
(2)
، أي بالنصَّ والإجماع.
وقال النّووي: «أجمع المسلمون علي تحريم وطء الحائض للآية الكريمة والأحاديث الصحيحة»
(3)
.
ومأخذ الحكم: قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} فأمر باعتزالهن، وهذه الصّيغة وإن كان لفظها لفظ الأمر، إلّا أنّ معناها والمقصود منها النهي.
(1)
ينظر: أضواء البيان (2/ 45)(2/ 127)، إتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (19 - 20).
(2)
المغني (1/ 242).
(3)
المجموع (2/ 359).
قال ابن النّجار: «وكنهي في المعنى: دع، واترك، وكف، وأمسك نفسك عن كذا. ونحوه»
(1)
.
ومفهوم الغاية السابق جواز وطء الحائض إذا طهرت ثم اغتسلت وهذا لا خلاف فيه بين العلماء وهو على الإباحة؛ لأنّه أمر بعد حظر، وجميع الأوامر في القرآن بعد الحظر، فإنها على الإباحة.
أمّا قبل الاغتسال فقد أجازه بعض العلماء استدلالًا بقوله {حتى يطّهرهن} بالتّشديد، قالوا: معناه حتى يحصل لهن الطهر، الذّي هو عدم الحيض.
أمّا قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} فإنّه صفة لفعلهن، ويحصل التطهر بالغسل أو الوضوء أو غسل الفرج، فكل ذلك يسمى في الشّريعة وفي اللّغة تطّهرًا، وطُهورًا، وطهْرًا، فأي ذلك فعلت فقد طهرت.
أو بقراءة {حتى يطهرْن} بالتخفيف، فيكون انقطاع دم الحيض غاية النّهي عن قربانهن، وإن لم يغتسلن.
وأمّا الجمهور فقد ذهبوا إلى عدم جواز وطء الحائض إلّا إذا طهرت واغتسلت.
ومأخذهم في ذلك: أنّ الله سبحانه علق حِل الوطء بغايةٍ وشرطٍ، فيكون الحل بهما، والحرمة بانتفاء أحدهما، فالغاية قوله:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} والشّرط قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} فلا يستباح وطؤها إلّا بالغسل بعد انقطاع الدم، وتنتفي الاستباحة بعدمهما، أو عدم أحدهما من غاية أو شرط.
قال الموزعي: «وفي الآية دلالة على أن الحائض إذا انقطع دمها لا يحل
(1)
شرح الكوكب المنير (3/ 38).
غِشيانها، وهو قول مالك والشّافعي وجماهير أهل العلم. وقال أبو حنيفة: يحلُّ، وإن لم تغتسل، والمراد عنده صِرْنَ أهلًا للصّلاة، وهو خلاف الظّاهر من لفظ الآية؛ فإنها تدلّ لغيره من أربعة أوجهٍ:
أحدهما: قراءة من قرأ {حتى يطّهّرن} {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} كلتاهما بالتّشديد.
ثانيهما: قراءة أبي بن كعب {حتى يطْهرن} فلا يقدم الوقت مقام الفعل المنسوب إليهن.
ثالثهما: قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي: اغتسلن، وبهذا فسر ابن عباس ومجاهد وغيرهما»
(1)
.
قلت: لما كانت قراءة التخفيف في قوله {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} تدل على غاية النهي عن قربانهن، وهو انقطاع الدّم، وردت قراءة التّشديد {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} لرفع توهم جواز إتيان الحائض إذا ارتفع عنها الدّم وإن لم تطهر بالماء.
قال الموزعي: «رابعها: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}»
(2)
.
قلت: والرّابع إنّما يدل على مشروعية الفعل وطلبه، فيعمّ الواجب والمندوب، فلا يمنع منه من قال بعدم وجوب الاغتسال.
قال ابن القيم: «وكل فعل عظمه الله ورسوله
…
أو أحبه، أو أحب فاعله، أو رضي به عن فاعله
…
فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والنّدب»
(3)
.
(1)
تيسير البيان (1/ 399 - 400).
(2)
تيسير البيان (1/ 400).
(3)
بدائع الفوائد (4/ 4).
(1)
وقد سبق الحديث عنها.
• الحكم الثاني: جواز وطء الحائض في غير موضع الدّم.
مأخذ الحكم هو أن المراد بالمحيض في قوله {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} موضع الدّم ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام (جامعوهن في البيوت، واصنعوا كل شيء إلّا النّكاح)
(2)
على خلاف بين العلماء، إلّا أنهم اتفقوا على جواز الاستمتاع من الحائض فيما فوق السُّرة ودون الرّكبة كما سبق نقله عن ابن قدامة.
• الحكم الثالث: استدل بعضهم على عدم جواز وطء المستحاضة ما دام معها الدّم.
ومأخذه: أن قوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} يدل على أن علة اعتزال النّساء، هو كونه أذى، وذلك بطريق الإيماء والتنبيه، فأخذوا بعموم العلّة، وقاسوا المستحاضة على الحائض بكونه أذى.
والجمهور على جواز وطء المستحاضة، قياسًا على جواز صلاتها، مع دم الاستحاضة؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام (إنّما ذلك عرق وليس بحيض)
(3)
وفيه دليل على الفرق بين الدّمين.
(1)
تيسير البيان (1/ 400).
(2)
أخرجه مسلم، في كتاب الحيض، باب الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد، برقم (302).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب غسل الدم، برقم (228)، ومسلم في كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، برقم (333).
• الحكم الرابع: لا حدّ لأقل الحيض ولا لأكثره.
ومأخذهم: أن الآية علقت الحكم على المحيض، أي: الدّم، ولم تقدّره بمدة معينة، وما كان هذا سبيله، فإنّه يرجع فيه إلى العرف والعادة، واختلف العلماء في تقدير ذلك.
وختامًا لهذا الباب فسأذكر ما ذكره ابن قدامة من أحكام متعلقة بالحيض، حيث قال: «وقد علق الشّرع على الحيض أحكامًا؛ فمنها: أنه يحرم وطء الحائض في الفرج،
…
ومنها: أنه يمنع فعل الصلاة والصوم،
…
ومنها: أنه يسقط وجوب الصّلاة دون الصّيام،
…
ومنها: أنه يمنع قراءة القرآن،
…
ومنها: أنّه يمنع اللبث في المسجد والطواف بالبيت، .... ومنها: أنّه يُحرِّم الطّلاق،
…
ومنها: أنه يمنع صحة الطهارة
…
ومنها: أنه يوجب الغسل عند انقطاعه
…
وهو علَمٌ على البلوغ
…
، وأكثر هذه الأحكام مجمع عليها بين علماء الأمّة. وإذا ثبت هذا، فالحاجة داعية إلى معرفة الحيض، ليعلم ما يتعلق به من الأحكام»
(1)
.
(1)
المغني (1/ 223 - 224).
كتاب الصلاة
تدور الآيات الواردة تحت هذا الكتاب -دون أبوابه- حول مسألة حكم الصلاة، وحكم تاركها.
ولا خلاف بين العلماء في كون الصلاة أحد أركان الإسلام، وهذا الحكم من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، وإنكار المعلوم من الدين بالضرورة كفر، والعياذ بالله منه.
وقد أجمع العلماء على تكفير من أنكر وجوب الصلاة جحوداً أو عناداَ.
واختلفوا في كفر من تركها تهاوناً وكسلاً على ما سيأتي:
وقد تنوعت أساليب القرآن الكريم الدالة على الحكم السابق كما سيأتي:
قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب الصلاة.
مأخذ الحكم: الأمر الصريح الوارد بصيغة (افعل) الدالة على الوجوب، وهو أمر للحاضر.
ومنه قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ} [الإسراء: 78]، [لقمان: 17].
• الحكم الثاني: مقاتلة تارك الصلاة.
مأخذ الحكم: بدلالة اقتران الصلاة بالزكاة في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ}، فقالوا: أجمع الصحابة على قتال مانعي الزكاة، وكذا الصلاة يقاتل تاركها.
• الحكم الثالث: الصلاة واجبة على كل بالغ عاقل، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، مسلم أو غير مسلم، ما بقي عقلُه.
مأخذ الحكم: ضمير الجمع في قوله {وَأَقِيمُوا} يفيد العموم، فيدخل فيه الذكور المسلمون الأحرار بالإجماع، وكذا يدخل في عمومه: الإناث والعبيد، والكفار عند من يقول إنهم مخاطبون بفروع الشريعة.
تنبيه: في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] اختلف العلماء في الصلاة المأمور إقامتها هل هي لفظ مجمل أو لا؟
قال بعض العلماء لفظ الصلاة هنا مجمل، لأنه لا يُنبئ عن المراد منها، وهو: الأقوال والأفعال المبتدئة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، فلا يُنبئ عن الركوع والسجود وغير ذلك. ثم إن هذا الإجمال قد بينته السنة بقوله وفعله عليه الصلاة والسلام.
وقال الجمهور بل مصطلح الصلاة وغيرها من المسميات الشرعية إن وردت في سياق إثبات أو أمر فإنها تحمل على المعنى الشرعي، فنحمل معنى الصلاة في الآية {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} على الصلاة الشرعية ذات الركوع والسجود.
أما ما ورد من المسميات الشرعية في سياق النهي فتكون مجملة لترددها بين المعنى الشرعي أو اللغوي. ومنهم من حملها على المعنى الشرعي، ومنهم من حملها على المعنى اللغوي.
وهذه القاعدة يتفرع عليها فروع كثيرة، في سياق الأمر ما سبق في الآية الكريمة:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} ، وفي سياق الإثبات مثل اختلافهم في قوله عليه الصلاة والسلام: (الطواف بالبيت
صلاة)
(1)
فما المراد بالصلاة، منهم من حملها على القاعدة على الصلاة الشرعية، فاشترط بناءً على ذلك الطهارة في الطواف، لكونها شرط الصلاة الشرعية ذات الركوع والسجود.
أما سياق النهي فمثل قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] فحملها بعض العلماء على المعنى اللغوي وهو الدعاء، ومنهم من حملها على المعنى الشرعي، ومنهم من جعلها مجملة لترددها بين الأمرين. ومثلها قوله تعالى:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110] فقد فسرها ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم وغيرهم بأن الصلاة هي الدعاء.
قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البينة: 5].
استدل بالآية على وجوب الصلاة.
مأخذ الحكم:
أولاً: لفظ الأمر وما تصرف منه، وذلك في قوله تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} ، أي: وأمروا أن يقيموا الصلاة، وكذا لفظ الأمر في قوله:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} [طه: 132].
ثانياً: الأمر الوارد بصيغة (ليفعل)، وهي الأمر للغائب، ومن ذلك قوله سبحانه في صلاة الخوف {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] وإذا وجب عليهم إقامة الصلاة في الخوف فمن باب أولى حال الأمن.
(1)
أخرجه النسائي في كتاب مناسك الحج، باب إباحة الكلام في الطواف، برقم (2922) قال الشيخ الألباني: صحيح.
قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 31]
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب الصلاة.
مأخذ الحكم: الأمر الصريح الوارد بصيغة (افعل) الدالة على الوجوب.
• الحكم الثاني: كفر تارك الصلاة.
مأخذ الحكم: مفهوم قوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي أن من لم يحقق هذه الصفات كان من المشركين.
نوقش عند البعض: أن الآية محمولة على أن المراد أن ترك الصلاة من أفعال المشركين، فورود النهي عن التشبه بهم لا أن من وافقهم في الترك صار مشركاً.
استدل بالآية على عدد من الأحكام منها:
• الحكم الأول: وجوب الصلاة.
مأخذ الحكم: لأن المولى سبحانه وتعالى أمر بقتالهم إلا إن يتوبوا ويقيموا الصلاة، والواجب هو الذي يعاقب على تركه، وقتالهم عقوبة لهم على شركهم وتركهم الصلاة.
• الحكم الثاني: مقاتلة تارك الصلاة لكفره.
مأخذ الحكم: مفهوم الشرط في قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} ، أي: أنهم إن لم يتوبوا ويقيموا الصلاة فلا يخلى سبيلهم بل يقاتلوا.
ثم قال سبحانه وتعالى بعدها في آيات {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] ومفهوم الشرط: إن لم يقيموا الصلاة فلا يخلى سبيلهم وليسوا بإخوة، والمعلق بشرط ينعدم بعدمه.
نوقش عند بعضهم: أن ذكر الصلاة والزكاة في الآية لم يقصد منه جعلها شرطاً لترتيب حكم التخلية عليه، وإنما هو من باب الإشارة إلى أعظم الشعائر الإسلامية، وهما الصلاة التي هي أعظم العبادات البدنية، والزكاة التي هي أعظم العبادات المالية.
وقيل إن الآية نزلت في حق طوائف المشركين وقبائلهم المجتمعة، فلا يصح الاستدلال بها في قتال الأفراد الممتنعين.
قال ابن قدامة رحمه الله: (فإنا لا نعلم في عصر من الأعصار أحداً من تاركي الصلاة تُرك تغسيله والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ولا مُنع ورثته ميراثه، ولا منع هو ميراث مورثه، ولا فرّق بين الزوجين لترك الصلاة من أحدهما مع كثرة تاركي الصلاة، ولو كان كافراً لثبتت هذه الأحكام كلها .... )
(1)
.
ثم إن العرب تطلق اسم المتوقع من الشيء في النهاية لم حاله في البداية، ولما كان ترك الصلاة أول بداية الكفر، لأن المرء إذا ترك الصلاة واعتاده ارتقى منه إلى ترك غيرها من الفرائض، وإذا اعتاد ترك الفرائض أداه ذلك إلى التكذيب بالدين والردة عنه -عياذاً بالله- فأطلق صلى الله عليه وسلم اسم الكفر على البداية التي أول شعبها ترك الصلاة.
وهذا الأسلوب معهود في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (المراء في القرآن كفر)
(2)
، لأن
(1)
المغني (2/ 332).
(2)
أخرجه أبوداود في كتاب السنة، باب النهي عن الجدال في القرآن، برقم (4603)، وحسنه الألباني.
المرء إذا مارى في القرآن أداه ذلك -إن لم يعصمه الله- إلى أن يرتاب في الآي المتشابه منه، وإذا ارتاب في بعضه أداه ذلك إلى الجحد.
قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238].
الأمر بالمحافظة يفسر المراد بالإقامة، فإقامة الصلاة يعني: تأديتها في أوقاتها بأركانها على الدوام.
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب الصلاة.
مأخذ الحكم: الأمر الصريح الوارد بصيغة (افعل) الدالة على الوجوب في قوله: {حَافِظُوا} .
• الحكم الثاني: اختلف العلماء في الصلوات المأمور بالمحافظة عليها.
فقيل: الفرائض. وقيل: الفرائض والنوافل.
ومأخذ القولين: العموم الوارد بدخول (ال) على الجمع، فحملها الفريق الأول على عموم الصلوات المفروضة، ويؤيد قصرها عليها حمل جمهور أهل العلم على أن المراد بالوسطى، صلاة العصر، ويؤيد القراءة الشاذة الواردة فيها كما سيأتي.
أما الفريق الثاني: فحملوا العموم على الفرائض والنوافل.
تنبيه: إذا قيل: إن المراد بها الفرائض والنوافل فإن الأمر في قوله: {حَافِظُوا} يحمل على الوجوب في الواجبات، وعلى الندب في المندوبات.
وهذه طريقة بعض أهل العلم، أو يقال: إن الجميع يحمل على الوجوب، وتخرج النوافل، ويصرف الأمر الموجه إليها بدلالة السنة، بما روى البخاري في
قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام:(خمس صلوات في اليوم والليلة)، فقال: هل عليّ غيرها. فقال: (لا، إلا أن تطوع)
(1)
، فدل على أن ما عدا الفرائض تطوع ونفل.
• الحكم الثالث: اختلف العلماء في المراد بالصلاة الوسطى، وتعددت فيها الأقوال.
قال السيوطي في الإكليل: «وهي الصبح، أو الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء، أو الخمس، أو الجمعة، أو الوتر، أو الضحى، أو صلاة عيد الفطر، أو عيد الأضحى، أو صلاة الليل، أو صلاة الجماعة، أو صلاة الخوف، أقوال»
(2)
.
ومأخذ الخلاف وتعدد الأقوال عموماً هو الخلاف في المقصود بالوسطى في الآية، هل هو مأخوذ من التوسط أو الوسط وهو الفضل والخيار، فمن ذهب إلى الأخير تلمس النصوص الواردة في فضل بعض الصلوات، وحكم على بعض تلك الصلوات بأنها الوسطى أي الفضلى. ومن قال بالتوسط بالترتيب فلهم أنظار، من ذلك قولهم: إنها الصبح، لأن قبلها صلاتي الليل يجهر فيهما وبعدهما صلاتا النهار يسر فيهما، ومن قال العصر قال لأن قبلها صلاتي نهار بعدها صلاتي ليل .... وهكذا.
وعلى كون الوسطى الفجر أو العصر انحصرت المذاهب الأربعة، ومما استدلوا به من القرآن وهو محل دراستنا في هذا الكتاب ما يأتي:
استدل القائل بأنها الفجر بقوله سبحانه في ختم الآية {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، وقالوا المقصود به القنوت في صلاة الفجر، وهو مذهب الشافعية، وسيأتي أن سبب
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام، برقم (46)، وكتاب الشهادات، باب كيف يستحلف، برقم (2532)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، برقم (11).
(2)
الإكليل (1/ 433).
النزول لا يساعدهم على ذلك، إذ المقصود به السكوت وعدم الكلام في الصلاة.
وقالوا: عن العصر ليست هي الوسطى استدلالاً بقراءة أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنها: (والصلاة الوسطى وصلاة العصر)، وهي قراءة شاذة يحتج بها.
ففي عطف صلاة العصر على الصلاة الوسطى دلالة على أنها مغايرة لها، لأن العطف يقتضي المغايرة.
أما القائل بأن الوسطى هي العصر وهو مذهب الحنابلة والحنفية فقد استدل بالأحاديث الصحيحة، ومن ذلك ما رواه مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: نزلت «حافظوا على الصلوات وصلاة العصر» فقرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن نقرأها ثم إن الله نسخها، فأنزل {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}
(1)
، وقد فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة والوسطى بأنها العصر في قوله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق:(شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر)
(2)
، والسنة مبينة للقرآن، وهي قاطعة للاحتمالات الأخرى، والله أعلم.
تنبيه: على القول بأن الوسطى من الوسط في الترتيب أو لتوسطها بين شيئين، لو كان الوتر واجباً لكانت الصلوات ستاً، والست لا تصح أن يكون لها وسطى، فعُلم أنها خمس صلوات.
تنبيه: ذكر الخاص بعد العام لا يخصص العام، ولا يدل تخصيصه بالذكر على عدم دخوله في العام، بل يدلّ إفراده بالذكر على فوائد منها:
(1)
أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، برقم (627)، وفي كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، برقم (628).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (11/ 122).
الأول: مزيد اهتمام به، والتأكيد عليه، أي كأنه ذكر مرتين، مرة بالعموم، ومرة بالخصوص.
الثاني: وهو تابع للأول، وذلك أن من عادة العرب عند الاهتمام ببعض أنواع العام القيام بتخصيصه بالذكر، إبعاداً له عن المجاز.
قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]. وهو واد في جنهم.
استدل بالآية على وجوب الصلاة.
مأخذ الحكم: دلَّ على الحكم السابق الأساليب الشرعية الآتية:
أولاً: ترتب الوعيد على الترك يدل على وجوب المتروك.
ومن ذلك: أي من أساليب إطلاق الوعيد وترتيب الذم على الترك، الدالة على الوجوب قوله تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5] أي يؤخرونها حتى يخرج وقتها، فهدد بويل سواء قيل: واد في جهنم، أو كلمة تهديد، وهذا فيمن يصليها لكن مع تأخيرها فكيف بمن لا يصليها؟ فلا شك أنه من باب أولى يستحق العذاب، ولا يستحق العذاب إلا بترك الواجب.
ثانياً: ذم الفاعل بوصفهم أنهم أضاعوا الصلاة، يدل على حرمة الترك.
قال القرطبي: «قوله تعالى {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ}. وهو ذم ونص في أن إضاعة الصلاة من الكبائر التي يوبق صاحبها، ولا خلاف في ذلك»
(1)
.
ثالثاً: في قرن الفعل بالتوبة في قوله: «إلا من تاب» يشعر بأن الفعل معصية
(1)
الجامع لأحكام القرآن (11/ 122).
ومحرم، وذلك لأن التوبة والاستغفار لا يكونان في الأصل إلا من ذنب اقترفه العبد.
قال العز بن عبد السلام: «ولا توبة في الأغلب إلا عن ذنب، والذنب: هو المخالفة لاقتضاء الأمر أو النهي»
(1)
.
قلت: ومن الأساليب الدالة على الوجوب ويشترك معه الندب، بمعنى أنه يدل على المشروعية المشتركة من الوجوب والندب، مدح الفاعل على فعله، وقد مدح الشارع في آيات القائمين بالصلاة، ومن ذلك قوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11]
وقال في سورة البقرة: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 1 - 3]
ومن الأساليب: القسم بالفعل، والقسم بالفعل يدل على شرفه ومنزلته عند الله، وحكمه عند العلماء دائر بين الوجوب والندب، أي أن القسم به دليل على مشروعيته، ولذا استنبط العلماء وجوب صلاة الفجر، باعتبار أن المراد بالقسم في قوله:{وَالْفَجْرِ} [الفجر: 1] صلاة الفجر على أحد التفاسير، وعلى كون الوتر مشروعاً بقوله:{وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3]، أما الوتر فهو واجب عند الحنفية،
(1)
الإمام في بيان أدلة الأحكام (119).
ومندوب عند الجمهور، وصرفوا دلالة الأمر هنا وفي الأحاديث كقوله عليه الصلاة والسلام:(أوتروا يا أهل القرآن فإن الله وتر يحب الوتر)
(1)
، وغيره من الأحاديث صرفوا الوجوب إلى الندب بالأحاديث الدالة على أن ما فرضه الله على عباده خمس صلوات فقط في اليوم والليلة
(2)
.
باب المواقيت
المواقيت جمع ميقات، والميقات هو الوقت المضروب للفعل.
ويقال المواقيت جمع وقتٍ على غير القياس.
فالميقات ما وقّت به، أي حُدِّد من زمان كمواقيت الصلاة، أو مكان كمواقيت الإحرام.
فهي إذًا: مواضع وأزمنة معينة لعبادة مخصوصة. والمقصود بها هنا أزمنة الصلوات المفروضة.
قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}
استدل بها بعض من العلماء على استحباب تعجيل الصلاة لأول الوقت. وطرد بعضهم ذلك في جميع الصلوات حتى صلاة العشاء.
مأخذ الحكم: تفسير المحافظة عليها بتعجيلها في أول وقتها؛ إذ المقصود بالمحافظة عليها في الآية تأديتها في أوقاتها بأركانها على الدوام.
قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]
(1)
أخرجه الترمذي في أبواب الوتر، باب ما جاء أن الوتر ليس بحتم، برقم (453)، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الوتر، برقم (1170) قال الشيخ الألباني: صحيح.
(2)
متفق عليه، وسبق تخريجه.
دلّت الآية على أن المولى سبحانه وتعالى افترض على عباده الصلوات، وكتبها عليهم في أوقاتها المحددة، فلا يجوز لأحد أن يأتِيَ بها في غير ذلك الوقت إلا من عذر شرعي من نوم أو سهو ونحوهما.
ومأخذ الحكم: في قوله {كِتَابًا مَوْقُوتًا} فقوله {كِتَابًا} أي مكتوباً مفروضاً. وقوله: {مَوْقُوتًا} أي محدد الأوقات.
وسبق القول بأن لفظ (الكتب) وما تصرف منه من الألفاظ والصيغ دالة على الوجوب.
قال السيوطي: «هذه أصل مواقيت الصلاة فسّرها بذلك ابن مسعود وغيره»
(1)
.
ثم قد وردت آيات تدل دلالة إجمالية على أوقات الصلوات، - كما في آيات الباب القادمة - وجاءت السنة مبيّنة لها ومفصِّلة. ومن تلك الآيات ما ورد في سورة هود، والإسراء، وطه، والروم، وق.
أما آية سورة هود فهي قوله تعالى {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} وفيها الأمر بإقامة الصلاة، وقيل: إنها إحدى الآيات التي جمعت الصلوات الخمس، وبيان ذلك: أن قوله {طَرَفَيِ النَّهَارِ} : الغداة وهي الفجر والظهر والعصر، وقوله {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}: المغرب والعشاء.
وورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله: {طَرَفَيِ النَّهَارِ} صلاة المغرب وصلاة الغداة (الفجر)، وأن قوله:{وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} أنها صلاة العشاء، وكان رحمه الله يستحب تأخير العشاء، ويقرأ {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} .
(1)
الإكليل (2/ 588).
قوله تعالى في سورة الإسراء: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78].
قيل المراد بدلوك الشمس: زوالها وهو مروي عن ابن عباس وعدد من الصحابة، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عن الجميع أن دلوك الشمس: غروبها.
قال السيوطي في الإكليل: «والأول أولى فتكون الإشارة بدلوك الشمس إلى الظهر والعصر، وبغسق الليل إلى المغرب والعشاء، وقرآن الفجر إلى صلاة الصبح، وهذه إحدى الآيات التي جمعت الصلوات الخمس»
(1)
.
ذكر ابن الفرس أن المراد بالصلاة هنا الصلوات المفروضة باتفاق، ثم ذكر القولين السابقين فقال:«فقيل: يشتمل الصلوات الخمس، ودلوك الشمس زوالها، والإشارة إلى الظهر والعصر، وغسق الليل ظلمته، والإشارة به إلى المغرب والعشاء. وقرآن الفجر يريد به صلاة الصبح. وقيل: لا يشتمل على كل الصلوات الخمس، ولكن دلوك الشمس غروبها، والإشارة به إلى المغرب، وغسق الليل الإشارة به إلى العتمة، وقرآن الفجر صلاة الصبح، ولم تقع إشارة -على هذا القول- إلى الظهر والعصر»
(2)
.
وقوله تعالى في سورة طه {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130].
قال السيوطي في الإكليل: «هي إحدى الآيات التي تضمنت الصلوات
(1)
الإكليل (2/ 921).
(2)
أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 263).
الخمس»
(1)
، ثم بيّن ذلك، وبيانها أن قوله:{قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} صلاة الفجر، {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} صلاة العصر، {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} المغرب والعشاء، {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} صلاة الظهر، وقد نُقل عن قتادة بإسناد صحيح ونقل عن بعض المفسرين {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} صلاة العشاء، {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} المغرب والظهر. والمراد بالتسبيح في الآية الصلاة.
وقوله في سورة (ق){وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] المراد بالتسبيح الصلاة، وفسّر بصلاة الصبح والعصر، وقوله بعدها {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} فسّره مجاهد بقيام الليل، وقال غيره يجوز أن يراد به صلاة المغرب والعشاء.
وقيل المراد: ركعتان فبل المغرب.
وقوله تعالى في سورة الروم: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17 - 18]
أخرج الحاكم وغيره عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله فقال: الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم فقرأ {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} قال: صلاة المغرب وصلاة الصبح، {وَعَشِيًّا} صلاة العصر، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} صلاة الظهر، وقرأ {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58]
(2)
أي إن آية الروم ذكرت أربعة فروض، والفرض الخامس في سورة النور
(3)
.
قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]
(1)
الإكليل (2/ 956).
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 410 - 411) وصححه، ووافقه الذهبي.
(3)
انظر: الإكليل (3/ 1089).
استدل بالآية على أن من نسي صلاة فإن الواجب عليه صلاتها إذا ذكرها.
ومأخذ الحكم: الأمر الوارد بقوله {وَأَقِمِ} وقد بينت في الحديث المتفق عليه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصليها إذا ذكرها)، فإن الله قال:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}
(1)
واللام في قوله {لِذِكْرِي} تحمل على هذا القول أنها بمنزلة عند، كأنه قال: أقم الصلاة عند تذكرها.
واستدل بالآية على قضاء الصلاة في جميع الأوقات، حين يذكرها، ولو كان الوقت من الأوقات غيرها.
ومأخذ الحكم العموم الوارد في الآية.
قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5].
بعد ذكر وجوب إقامة الصلاة في وقتها بقوله {كِتَابًا مَوْقُوتًا} وبيان مجمل لأوقات الصلوات الخمس، ثم بيان حكم من نسي صلاة ونام عنها، بقي حكم من تعمد تأخير الصلاة عن وقتها: وقد استنبط العلماء من الآية تحريم تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها.
وقد فسّر النبي صلى الله عليه وسلم السهو في الآية بقوله: (هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها)
(2)
.
ومأخذ الحكم ظاهر، وهو أن ألفاظ الوعيد على الترك تحمل على وجوب
(1)
أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، برقم (684).
(2)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (30/ 313)، والطبراني في الأوسط برقم (2276)، وأبو يعلى في مسنده (2/ 140)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 143):«فيه عكرمة بن إبراهيم وهو ضعيف جداً» .
الإتيان بالمأمور به، وهو هنا الصلاة في وقتها، وحرمة تأخيرها عن وقتها.
باب الأذان
قال تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 58]
دلت الآية على مشروعية الآذان، وأن للصلاة أذاناً يدعى به الناس إليها؛ لأن المقصود بالنداء في الآية الأذان.
قال الإمام الطبري: «وإذا أذن مؤذنكم أيها المؤمنون بالصلاة سخر من دعوتكم إليها هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين ولعبوا من ذلك»
(1)
.
مأخذ الحكم: إخباره سبحانه عن فعلهم وأذانهم دون تكبير، بل وذم من أنكر عليهم باتخاذهم هزواً ولعباً.
قال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]
دلَّت الآية على مشروعية الأذان أيضاً، بل استدل بها على كون الأذان فرضاً، وذلك لأنه لما كان النداء سبباً للسعي، وكان السعي واجباً، كان النداء واجباً.
فمأخذ الحكم: هو القول بأن وسيلة الواجب واجبة، ولزيادة إيضاح يقال: إن السعي واجبٌ للأمر الوارد بقوله {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} والسعي من الوسائل التي نص الشارع على حكمها. فالسعي إلى صلاة الجمعة واجبٌ؛ لأن صلاة الجمعة واجبة، ولا يمكن أداؤها إلا بالسعي إليها في أماكن إقامتها.
(1)
تفسير الطبري (8/ 536).
أما بقية أحكام آية سورة الجمعة فسيأتي الحديث عنها -بإذن الله- في باب صلاة الجمعة.
باب شروط الصلاة
الشروط جمع شرط، والمقصود به هنا الشرط الشرعي، وهو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم.
ويتفق الشرط مع الركن في كونهما من أسباب تمام صحة العمل، فلا يجوز الإتيان بأي عبادة وطاعة تفتقر إلى أيّ من أركانها وشروطها، إلا بتمامها.
ويختلفان في كون الركن يقع في ماهية العمل نفسه، والشرط خارج عن الماهية، والشرط وإن كان متقدماً عن ماهية العبادة إلا أنه يستمر بعد ذلك في داخلها.
ومن القواعد المقررة أن الأصل في شروط العبادات الحظر والمنع، بخلاف المعاملات فإن الأصل فيها الحل.
وهذه الآيات التي بين أيدينا هي الناقل من البراءة الأصلية إلى شغل الذمة بها، وضمت الآيات ستة من الشروط وهي:
الشرط الأول: الإسلام، من خلال قوله تعالى:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217].
الشرط الثاني: النية، من خلال قوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البينة: 5]، وقوله تعالى:{وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29].
الشرط الثالث: استقبال القبلة، من خلال قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150] الآية، والآية التي قبلها قوله سبحانه:{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة: 149]، والاستثناء حال القتال والمسايفة بقوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239].
الشرط الرابع: ستر العورة، من خلال قوله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، وقوله تعالى:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31].
الشرط الخامس: دخول الوقت، من خلال قوله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103].
الشرط السادس: كون المصلي عاقلاً، من خلال قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43].
وسبق في الكتاب السابق وهو كتاب الطهارة، وقلنا إن حقه أن يكون الحديث عنه هنا في شروط الصلاة، لأن مقصوده - أي كتاب الطهارة- بيان كيفية رفع الحدث وإزالة النجس، وكلاهما شرطان من شروط الصلاة.
ورفع الحدث الأصغر يكون بالماء إن وجد، أو التيمم عند فقده، ودلّ على هذا قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]، والحق أنه يجب الإشارة إلى هذه هنا.
ومأخذ الشرطية هنا ظاهر وهو الأمر بقوله {فَاغْسِلُوا} وقوله {فَتَيَمَّمُوا} .
أما الحدث الأكبر فدلّ على شرطيته قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} .
ومأخذ الشرطية: الأمر المعلق على شرط، فيدل على وجوب رفع الحدث الأكبر بالغسل حال الجنابة.
أما ما يتعلق بإزالة النجاسة وكونها شرطاً من شروط الصلاة، فقد ورد من قبل ما يدل على وجوب إزالتها من البدن في باب إزالة النجاسة وبيانها.
ومن ذلك ما ورد في حكم الاستنجاء بقوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108].
وسيأتي من خلال الآيات القادمة، ما يدل على اشتراط طهارة الثوب، واشتراط طهارة البقعة والمكان الذي يُصلى فيه.
حيث دلَّ قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]، على اشتراط إزالة النجاسة من ثياب المصلي، ودلّ قوله تعالى:{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} على اشتراط إزالة النجاسة من البقعة التي يصلي فيها.
وعوداً إلى آيات هذا الباب وما ورد فيها من شروط أقول:
قال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217]
دلَّت الآية على شرط من شروط الصلاة وهو اشتراط الإسلام.
فيشترط لصحة الصلاة أن يكون مسلماً، والكافر إن قلنا بأنه مخاطب بفروع الشريعة، إلا أن صحة صلاته مشروطة بتقدم إسلامه.
ودلت الآية على أن عمل الكافر غير متقبل، ولو عمل ذلك وهو مؤمن، ما دام أنه مات على كفره، ومن فعلها وهو غير مؤمن كذلك، إذ علة عدم القبول، أو إحباط العمل هو الكفر.
ومأخذ الحكم: اقتران الحكم وهو حبوط العمل بالوصف، وهو الموت على الكفر، بالفاء، يدل على أن الوصف علة ذلك الحكم، فعلة إحباط العمل هو الكفر.
قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البينة: 5].
دلَّت الآية على شرط من شروط الصلاة وهو اشتراط استحضار النية
فاستدل بالآية على اشتراط ووجوب النية في العبادات، ومنها الصلاة، لأن الإخلاص لا يكون بدون النية، كما أن الإخلاص من عمل القلب، وهو الذي يراد به وجه الله تعالى لا غير.
مأخذ الحكم: ما سبق أن لفظ (الأمر) وما تصرف منه في قوله {وَمَا أُمِرُوا} هو حقيقة في الإيجاب، ولا يصرف إلى الندب إلا بقرينة.
كما استدل بالآية الشافعية وقول عند المالكية على وجوب مقارنة النية لكل التكبير.
ومأخذ الحكم: أن قوله: {مُخْلِصِينَ لَهُ} حال لهم وقت العبادة، فإن الحال وصف هيئة وقت الفعل. والإخلاص كما سبق هو النية، فدل على وجوب مقارنة النية للعبادة.
تنبيه: الصلاة عبادة، والعبادة تقتضي إخلاص العمل بكليته إلى الله، وهو ما أمرنا به الدين، والإخلاص لا يحصل بدون نية.
قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29].
استدل بها كذلك على شرط إحضار النية في كل صلاة، وذلك إذا أريد بالوجه هنا هو المعتقد وليس الجارحة، كما تقول وجهت وجهي لله.
ومأخذ الحكم: الأمر في قوله {وَأَقِيمُوا} وهو يقتضي الوجوب.
قال تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150] الآية، والآية التي قبلها قوله سبحانه:{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة: 149]
دلَّت الآية على شرط من شروط الصلاة وهو اشتراط استقبال القبلة.
ولا خلاف بين العلماء في وجوب استقبال الكعبة في كل صلاة فرضاً كانت أو نفلاً سفراً أو حضراً.
ومأخذ الوجوب والشرطية: الأمر الوارد في قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وهذا يقتضي وجوب استقبال القبلة والحكم مجمع عليه.
وفي الآية الأخرى قال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ} وهو من ألفاظ الوجوب، حتى قيل: ليس في ألفاظ الإيجاب آكد من قوله (حق عليه)
أما آية الأعراف وهي قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ، فقد فسّرها مجاهد رحمه الله بوجوب استقبال القبلة والتوجه إليها حيث صلينا.
ومأخذ الحكم: هو الأمر في قوله {وَأَقِيمُوا} وهو يقضي الوجوب.
ويُنبه إلى أن للمفسرين في هذه الآية أقوالاً أخرى منها: أن المراد بها إباحة الصلاة في كل موضع من الأرض، أي حيث كنتم فهو مسجدكم تلزمكم عند الصلاة
إقامة وجوهكم فيه.
وقال قوم: سببها أن قوماً كانوا لا يصلون إلا في مساجدهم في قبلتهم، فإذا حضرت الصلاة في غير ذلك من المساجد لم يصلوها فيها.
وسبق في اشتراط النية بيان أن مِنْ العلماء مَنْ حمل لفظ الوجه هنا على القصد لا على الجارحة والله أعلم.
ويستثنى من الحكم السابق وهو وجوب استقبال الكعبة في كل صلاة ما يأتي:
أولاً: صلاة النافلة على الراحلة في السفر، استدلالاً بقوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115].
ومأخذ الحكم: أن (أين) من ألفاظ العموم، فتعم أي جهة توجه لها المصلي، وقصرها على السفر دل عليه سبب نزولها، كما سيأتي في باب صلاة المسافر.
ثانياً: يستثنى من الحكم السابق كذلك الصلاة حال المسايفة في القتال، حيث يصلي على كل حال، استدلالاً بقوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239].
وهنا مسائل متعلقة بالآيات والشرط المذكور منها:
المسألة الأولى: اتفق العلماء على أن المراد بالشطر الوارد في قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} في حق المعاين للكعبة والقريب منها هو (العين)، وذهب جمهور أهل العلم إلى أن المراد بالشطر في حق البعيد عن الكعبة الغائب عنها هو الجهة.
ومأخذ الحكم: تفسير الصحابي وهو حجة وبه قال علي وابن عباس رضي الله عنهم، وهناك مأخذ أخر لهذا الحكم يهمنا مايتعلق بهذه الآية.
المسألة الثانية: اختلف العلماء في جواز صلاة الفريضة داخل الكعبة، فذهب المالكية والحنابلة إلى عدم جواز ذلك، استدلالاً بقوله:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} . وقالوا: الشطر: الجهة، ومن صلى فيها أو على سطحها غير مستقبل لجهتها.
ومأخذ الحكم: أن الاستقبال للكعبة مأمور به، ومن صلى داخلها أو على سطحها فقد أتى ببعض المأمور، وخالف بعضه باستدبارها، فلم يتحقق المأمور به.
وأشار ابن رشد إلى سبب الخلاف بقوله: «والاحتمال المتطرق لمن استقبل أحد حيطانها من داخل هل يسمى مستقبلاً للبيت، كما يسمى من استقبله من خارج أم لا؟»
(1)
.
وكذا اختلفوا في الصلاة على سطحها، والجمهور على عدم الجواز بناء على أنه لا يستقبل شيئاً منها، وقد أمر بالتوجه والتولي شطرها.
المسألة الثالثة: من صلى بالاجتهاد إلى غير القبلة، ذهب بعض العلماء إلى صحة صلاته فلا يلزم بإعادتها، وهو مذهب جمهور أهل العلم، استدلالاً بقوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115].
ومأخذ الحكم: قيل إنها نزلت فيمن صلى بالاجتهاد إلى القبلة ثم تبين له الخطأ.
وسبق القول بأنها نزلت في جواز صلاة النافلة على الراحلة في السفر.
(2)
.
(1)
بداية المجتهد (1/ 120).
(2)
نقله عنه السيوطي في الإكليل (1/ 311).
والشاهد هنا: أن سبب النزول قطعي الدخول في الآية إن ثبت ذلك. والواقع أنه لم يثبت، ففي إسناده ضعفٌ، ونص الحديث هو: عن عامر بن ربيعة قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حاله، فلمّا أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]
(1)
.
أما السبب الصحيح الوارد في الصحيح من حديث ابن عمر فهو قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجْهُهُ، قال: وفيه نزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]
(2)
، وفي رواية عنه قال: إنما نزلت هذه الآية: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]. أن تصلي أينما توجهت بك راحلتك في السفر)
(3)
فائدة: عند الشافعية قاعدة أو ضابط فقهي نصه: النادر إذا لم يَدُم فإنه يقتضي القضاء. ومثلوا لذلك بالمربوط على خشبة فإنه يصلي ثم يعيد صلاته إذا زال عذره، وكذا - وهو المقصود هنا- المشتبه عليه القبلة في سفره.
واستثنوا من ذلك: الصلاة في حال المسايفة، وإن اختلفت شروطها وأركانها،
(1)
أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم، برقم (345)، وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب من يصلي لغير القبلة وهو لا يعلم، برقم (1020)، وقال الترمذي:«هذا حديث ليس إسناده بذاك، ولا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وهو يضعف في الحديث» . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 313 - 314): «قد رواه أبوداود الطيالسي في مسنده عن أشعث بن سعيد، وعمر بن قيس، عن عاصم بن عبيد الله، وهو يقوي رواية أشعث، ويزيل تفرده به .... وبعض هذه الطرق مما يغلب على القلب أن الحديث له أصل وهو محفوظ» ، وانظر: إرواء الغليل للألباني (1/ 323) برقم (291).
(2)
أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، برقم (700).
(3)
أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (3/ 479)، برقم (2644) بإسناد ضعيف.
فإنها لا قضاء، فهي على خلاف القاعدة، أخذاً بالرخصة الواردة في قوله {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} .
قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239].
أجمع العلماء على سقوط وجوب استقبال القبلة عن المصلي حال شدة الخوف والتحام الصفوف للقتال.
{فَرِجَالًا} جمع راجل مثل صاحب وصحاب، وهو الماشي، يعني إذا خفتم العدو فصلوا قياماً على أرجلكم، فإن لم تستطيعوا فصلوا ركباناً على الدواب، حيث ما توجهت بكم بالإيماء.
ومأخذ الحكم: نصب {فَرِجَالًا} على الحالية، أي فصلوا رجالاً، ثم عطف عليها أو ركباناً. وعليه فهم مأمورون بالصلاة على مثل هذه الحال إن لم يستطيعوا استقبال القبلة. ولم يذكر المولى سبحانه وتعالى هنا التوجه إلى القبلة، مما يدل على سقوطها عنهم.
وورد في قراءة ابن عمر (فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها)
(1)
.
ويُروى أثرٌ عنه، قال الإمام مالك: قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري
(2)
.
وتبقى الإشارة إلى أن بعض العلماء جعل هذا الحكم شاملاً لكل خوف وليس خاصاً بالقتال.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} ، برقم (4261).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} ، برقم (4261).
مأخذ الحكم: {خِفْتُمْ} في قوله {فَإِنْ خِفْتُمْ} جملة فعلية تنزل منزلة النكرة وهي في سياق شرط، فتعم كل خوف.
أو يقال: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فيؤخذ بعمومها.
ما سبق هو بيان ارتباط الآيات الثلاث المذكورة في المتن بالشرط الثالث وهو استقبال القبلة.
قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31].
دلَّت الآية على شرط من شروط الصلاة وهو اشتراط ستر العورة، ووجوب سترها حكم متفق عليه بين أهل العلم؛ وذلك لأن المراد بالزينة في الآية: ما يواري السوءة في الصلاة.
ومأخذ الحكم: الأمر الوارد في قوله {خُذُوا زِينَتَكُمْ} والأمر يقتضي الوجوب، وهو يعم بضمير الجمع الرجال والنساء.
وأكد الجمهور أن المراد بالزينة المأمور بها هنا هو ستر العورة بالأمور الآتية:
أولاً: بتفسير الصحابي، وتفسيره حجة، وقد فسَّر الزينة في الآية بما يواري السوءة عدد من الصحابة منهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
ثانياً: سبب نزول الآية يدل على أن الزينة هي ستر العورة، فقد نزلت في النهي عن الطواف بالبيت من غير ستر للعورة.
فروى مسلم أن المرأة كانت تطوف بالبيت في الجاهلية وهي عريانة، على فرجها خرقة
(1)
.
(1)
أخرجه مسلم في كتاب التفسير، باب في قوله:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} برقم (3028)
وإذ كان المراد بالزينة هنا هو الثياب الساترة حال الطواف، فيقال وكذلك الصلاة؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال الشنقيطي: «{عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} سواء كان المسجد الحرام للطواف، أو غيره من المساجد للصلاة، وكون الزينة لبس اللباس للطواف والصلاة»
(1)
.
أو يقال: إن الستر لم يجب لذات المسجد، وإنما لما عُظِّم المسجد لأجله، وهو الطواف، وكذا الصلاة داخلة في ذلك، ويدل عليه كذلك سياق الآية.
قال تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31].
أمر الله سبحانه وتعالى النساء بإخفاء زينتهن عن الرجال الأجانب، واستثنى الظاهرة.
واختلف العلماء في المراد بالزينة الظاهرة، هل المقصود منها أعضاء محددة، أم المقصود بها ما لا يملك ظهوره، وهذا مأخذ الحكم وسبب الخلاف.
فقيل: المراد بها: الوجه والكفان، وهو مذهب الجمهور.
وقيل: إن المراد بها الثياب، وهذا مذهب الحنابلة.
وأيد الجمهور قولهم بحديث عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:(يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه)
(2)
.
وقالوا هذا تحديد لما يجوز كشفه من المرأة، وهو يدل على أنه ليس بعورة، فدلَّ على أنه هو المراد بالاستثناء في الآية.
(1)
العذب النمير (3/ 154)
(2)
أخرجه أبوداود في كتاب اللباس، باب فيما تُبدي المرأة من زينتها، برقم (4104)، وحسنه الألباني.
وكذلك أيدوه بتفسير عائشة وابن عباس رضي الله عنهم وتفسيرهم للقرآن حجة. ولهم أدلة أخرى يرجع لها في كتب الفقه.
أما الحنابلة القائلون بأن المراد ما ظهر من الزينة أنها الثياب فدليلهم: عموم الأدلة الدالة على كون المرأة عورة، كقوله عليه الصلاة والسلام:(المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان)
(1)
.
وكذلك استدلوا بتفسير الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بأن ما ظهر من الزينة هي الثياب
(2)
.
وقد تعارض هذا التفسير مع تفسير عائشة وابن عباس، لكن ينبه أن قول ابن عباس رضي الله عنهما كان بدلالة الاستلزام، حيث عبَّر عن الزينة الظاهرة بالكحل والخاتم. وفي رواية عنه قال:«هو خضاب الكف والخاتم»
(3)
، وإباحة إبداء هذه الزينة يستلزم منه إباحة إبداء موضعها.
تنبيه: استثنى الحنابلة كشف الوجه في الصلاة للإجماع على أنه ليس بعورة في الصلاة، وأن لها أن تصلي كاشفة وجهها، ويبقى ماعدا الوجه من جسدها على مقتضى العموم.
قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4].
دلَّت الآية على شرط من شروط الصلاة وهو اشتراط إزالة النجاسة، سواء من ثياب المصلي أو البقعة التي يصلي فيها.
(1)
أخرجه الترمذي كتاب الرضاع، باب، برقم (1173) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وصححه الشيخ الألباني.
(2)
انظر: موسوعة التفسير المأثور إعداد مركز الدراسات والمعلومات القرآنية (15/ 559).
(3)
المصدر السابق (15/ 560).
فاستدل بالآية على وجوب غسل النجاسة وإزالتها من الثوب، ولا خلاف بين العلماء أنه ليس هناك طهارة واجبة للثياب غير طهارة النجاسة.
والمقصود: أن طهارة ثوب المصلي شرط من شروط الصلاة.
مأخذ الحكم: أن الأمر في قوله {فَطَهِّرْ} يقتضي الوجوب.
تنبيه حول إشكال وجوابه: هذه الآية من أول ما نزل من القرآن، وهي قبل الأمر بالصلاة والوضوء، وإزالة النجاسة إنما هو لأجل الصلاة، فكيف يكون المراد طهارة الثوب من النجاسة؟
وهذا الإشكال يذكره من حمل معنى الثياب في الآية على غير معنى الثياب حقيقة، فحملت على طهارة القلب، فكنى بالثياب عن القلب، أو صلاح العمل، والأخير نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما.
والجواب هو أن يقال: الأصل حمل الكلام على حقيقته وظاهره، فيحمل معنى الثياب على معناها الظاهر المتبادر للذهن.
ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خُصّ بتطهير ثيابه أول الإسلام، وكان مفروضاً عليه دون أمته، ثم ورد الأمر بذلك لأمته.
أو يقال: إنه كان شرع من قبلنا، وهو شرع لنا، وتأخر الأمر به بنص شرعنا عن ذلك الوقت، فلا يمتنع أن يكون قد أمر على الوجهين بتطهير الثياب للصلاة في أول الأمر، ثم ورد عليه بعد ذلك نصًّا بالأمر بالصلاة.
ومن الأحكام المستنبطة من الآية ما ذهب إليه الجمهور من بطلان صلاة من صلى حاملاً نجاسة - غير معفو عنها - ولا يعلمها، أو نسيها.
ومأخذ الحكم: هو أن إزالة النجاسة، وتطهير الثوب منها شرط، والخطاب بالشرط من باب خطاب الوضع، فلا يؤثر فيه الجهل والنسيان.
قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب اشتراط طهارة المكان للطواف والصلاة.
ومأخذ الحكم: الأمر في قوله {طَهِّرَا} ، وهو يقتضي الوجوب.
ثمَّ أتى سبحانه وتعالى بلام التعليل {لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فدلَّ على وجوب إزالة النجاسة، وطهارة البقعة لأجل الطواف والاعتكاف والصلاة.
• الحكم الثاني: جواز الصلاة داخل الكعبة
ومأخذ الحكم: الأمر في قوله {طَهِّرَا بَيْتِيَ} ثم علل ذلك بقوله {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فدلّ على جواز الصلاة فيها.
نوفش: بأن قوله {لِلطَّائِفِينَ} في الآية وهو مأمور بتطهير البيت لهم، ولا يصح الطواف أن يكون في نفس الكعبة، وكذلك {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} .
قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103].
دلَّت الآية على شرط من شروط الصلاة وهو اشتراط دخول الوقت.
وقد أجمع العلماء - كما سبق - أن للصلوات أوقاتاً محدودة، لا يجوز تعمد تقديم الصلاة أو تأخير أدائها عنها.
مأخذ الحكم: {كِتَابًا مَوْقُوتًا} أي مفروضة على صفة التأقيت، وسبق أن التعبير بلفظ الكتب وما تصرف منه من الألفاظ دالة على الوجوب.
استدل بها من قال بسقوط الصّلاة عمن كان في بلاد يستمر فيها الليل والنهار أربعاً وعشرين ساعة فأكثر
(1)
.
مأخذ الحكم: إن الشرط الشرعي يقتضي أنّه يلزم من عدم الشرط عدم المشروط، وقد عدم شرط الصّلاة، وهو الوقت المؤقت لكل صلاة، فيعدم حكمها.
وبيانه: أنّه سبحانه وتعالى جعل للصّلاة أوقاتًا محدّدة، يوقع فيها المسلم صلاته، فإذا لم توجد هذه الأوقات لم تجب الصّلاة؛ وذلك بناء على قاعدة: الشرط الشرعي حجة.
نوقش: بوجوب الصلاة وعدم سقوطها، ويكون التقدير في حقهم بحسب وقت أقرب البلدان التي وقتها منتظم إليهم، بحيث يصلون في كل أربع وعشرين ساعة خمس صلوات
(2)
.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43].
وفيها بيان للشرط السابع وهو اشتراط كون المصلي عاقلاً، فدلَّت الآية على تحريم قربان الصلاة حال تغطية العقل بالسكر، فدلَّ على وجوب الصلاة مع حضور العقل.
والآية وإن نزلت في شارب الخمر إلا أنها مغياة بغاية العلم بما يقرأ المصلي، وفي السنة النهي عن الصلاة لمن غلبه النوم لذات السبب.
(1)
ينظر: الفقه الميسر: (9/ 48 - 49)، وإتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (36 - 37).
(2)
ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 105)، ومجموع فتاوى ابن عثيمين (12/ 206)، وفقه النوازل في العبادات للمشيقح (95)، والفقه الميسر (9/ 48).
مأخذ الحكم: النهي عن الشيء أمر بضده. ثم إن الأمر مغيا بحرف الغاية {حَتَّى} أي حتى يحصل حضور العقل.
أو يقال {حَتَّى} حرف تعليل، للدلالة على أن ما قبلها علَّة وسبب لما بعدها، بعكس اللام فإن ما بعدها علَّة لما قبلها.
والتعليل على أن المراد بالصلاة ذاتها، وليس موضعها.
باب الحث على الخشوع في الصّلاة
تبعت في ترتيب آيات الأحكام حسب ترتيب ابن حجر لأحاديث الأحكام في كتابه بلوغ المرام، ومن خلال تبويب ابن حجر رحمه الله يشعر القارئ باختياره في مسألة حكم الخشوع في الصلاة، وكونه من سنن الصلاة وليس من واجباتها فضلًا عن كونه شرطًا منها، وقد صرح بكونه سنة، ونقل في فتح الباري عن النووي الإجماع على أنه ليس بواجب
(1)
.
وهي مسالة خلافيّة، وأهم ما تمسك به القائلون بالسّنيّة بالإضافة إلى دعوى الإجماع السابقة، ما ثبت بالسنة من أمره عليه الصلاة والسلام من سها في صلاته بسجود السهو، وعدم أمره بإعادة صلاته.
ومن ذلك ما ثبت في الصّحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أذّن المؤذن بالصّلاة أدبر الشيطان، وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي التثويب اقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: أذكر كذا
…
أذكر كذا
…
، ما لم يكن يذكر، حتى يظل لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين وهو جالس)
(2)
.
(1)
انظر: فتح الباري (2/ 266).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب أبواب السهو، باب إذا لم يدر كم صلى ثلاثا أو أربعا سجد سجدتين وهو جالس، برقم (1174)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم (389).
فقالوا: فأمره النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة التي قد أغفله الشيطان فيها، حتى لم يدر كم صلى، بأن يسجد سجدتي السّهو، ولم يأمره بإعادتها، ولو كانت باطلة لأمره بإعادتها.
وهذا قد يلزم القائل بأنها شرط صحة، أمّا القائل بالوجوب فلا يلزمه، بل قد يكون أمره بسجود السّهو دليلًا على وجوبها؛ لأنّ السنن لا تجبر بسجود السهو، وسيأتي من خلال الآيات دليل القائل بالوجوب، وهو مذهب بعض المحققين، كابن تيمية وغيره.
وينبه هنا: أن كلام الفقهاء عن حكم الإجزاء، وعدم المطالبة بالقضاء، لا في حكم الثّواب؛ لأنّ الثواب ليس له فيه إلّا ما عقل، وقد ورد في السّنن مرفوعًا:(إنّ العبد ليصلي الصّلاة، وما كتب له إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها حتى بلغ عشرها)
(1)
.
قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]
استدل بالآية من قال بأن الخشوع واجب.
ومأخذ الحكم: الأمر الوارد في الآية بقوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} وقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}
فالأمر الأوّل: بالمحافظة على الصلوات، ومن المحافظة عليها أداؤها بالخشوع، وقد علم أن الخشوع هو روح الصلاة.
(1)
أخرجه أبوداود في، برقم (796)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2/ 447) برقم (529).
الأمر الثّاني: في قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فهو للوجوب، وقد فسر مجاهد رحمه الله القنوت هنا بالخشوع، وفُسِّر بتفسيرات أخرى، ومن أشهرها: السّكوت وبه نزلت الآية، فمنعوا من الكلام، وأمروا بالاستماع والإنصات كما في الآية اللاحقة، وما ذاك إلّا لقطع ما يُشغل القلب عن الإقبال والخشوع لله.
وعلى هذين التفسيرين للأمرين الواردين في الآية، يمكن حملها على الندب بما سبق في أوّل الباب من أن الشارع لم يأمر من سها في صلاته ولم يدر كم صلى بإعادة صلاته، بل أمره بسجود السهو فقط.
قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]
استدل بالآية على مشروعية الخشوع على الخلاف السّابق من الوجوب والندب.
ومأخذ الحكم: الأمر الدال على الطّلب في قوله: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} إذ إن الاستماع والإنصات إنّما شرعا؛ لأجل التأمل والتّدبر في معاني القرآن والذي به يحصل الخشوع.
قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}
وردت في القرآن مرتين، الأولى: في سورة النّساء في قوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
الثاني: في سورة محمّد في قوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
ودلت الآيتان على وجوب التدبر والتأمل في كلام الله؛ ليقف على معناه، وما
ذاك إلّا ليحصل مقصود التدبر، وهو الخشوع، وهذا الأمر عامّ سواء كان في الصّلاة، أو في غير الصّلاة.
(1)
.
وكلام القرطبي في حكم التدبر، أمّا الخشوع وهو: المقصود من التّدبر فقول من صرفه للنّدب، ما سبق أول الكلام من كون الصّارف عند بعض العلماء عدم أمر النّبي صلى الله عليه وسلم للسّاهي عن صلاته بإعادتها، بل أمره بسجود السّهو فقط.
ومأخذ القول بوجوب التّدبر:
أمّا في آية النّساء، فقد تكاد تجمع أقوال العلماء على كون الاستفهام في قوله:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ} استفهامًا إنكاريًّا، وهو في معناه يدل على النّهي عن فعلهم، وهو عدم التدبر، والنّهي عن الشّيء أَمْرٌ بضده.
أمّا آية سورة محمّد، فالجمهور على كون الأسلوب في قوله:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} للتحضيض والحث؛ فالاستفهام للحض والترغيب، وهو في أساليب الطلب المختلف فيها بين الوجوب والنّدب.
قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] الآية.
استدل بها العلماء على وجوب الخشوع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «أخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء هم الذين يرثون فردوس
(1)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 290).
الجنة، وذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم»
(1)
.
قلت: ومأخذ الحكم هنا: مفهوم الصّفة، بجميع تلك الصّفات والخصال الواجبة؛ لذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «إذ لو كان فيها ما هو مستحب لكانت جنة الفردوس تورث بدونها؛ لأنّ الجنة تنال بفعل الواجبات دون المستحبات؛ ولهذا لم يذكر في هذه الخصال إلا ما هو واجب، وإذا كان الخشوع في الصّلاة واجبًا فالخشوع يتضمن السّكينة والتّواضع جميعا.
ومنه حديث عمر رضي الله عنه: حيث رأى رجلًا يعبث في صلاته فقال: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه)
(2)
أي لسكنت وخضعت»
(3)
اه.
وقال ابن القيم في مدارج السالكين: «
…
ولو اعتدَّ له بها ثوابًا لكان من المفلحين»
(4)
.
قال السيوطي في الإكليل: «فيها من شعب الإيمان الخشوع في الصلاة واجتناب اللغو والمحافظة على الصلوات لأوقاتها»
(5)
.
قال الله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109]
ذكر العلماء استحباب البكاء في الصلاة، ولا خلاف في ذلك؛ وإنّه من الصفات المحمودة، ومعلوم أن البكاء ثمرة الخشوع وانكسار القلب بين يدي الله، والبكاء مما يزيد الخشوع، وقد ساق المولى سبحانه وتعالى هذا المدح والثّناء في صفات الذين أوتوا
(1)
مجموع الفتاوى (22/ 554).
(2)
قال الألباني في إرواء الغليل (2/ 92) برقم (373): «موضوع، أورده السيوطي في الجامع الصغير من رواية الحكيم عن أبي هريرة» ، وانظر: ضعيف الجامع الصغير (4821)، والسلسلة الضعيفة (110).
(3)
مجموع الفتاوى (22/ 554).
(4)
مدارج السالكين (1/ 522).
(5)
الإكليل (3/ 997).
ومأخذ الحكم هنا: هو ورود الخشوع في سياق مدحٍ له، وكل فعلٍ مُدح، أو مُدح فاعله لأجله، فهو مأمور به، وهو عند العلماء دائر بين الوجوب والندب.
وتبقى آية، وهي مما استدل بها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على وجوب الخشوع وهي قوله تعالى في شأن الصّلاة:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45].
ومن المعلوم أن الخشوع المذكور في الآية «لا بد أن يتضمن الخشوع في الصّلاة؛ فإنّه لو كان المراد الخشوع خارج الصّلاة لفسد المعنى؛ إذ لو قيل: إنّ الصّلاة لكبيرة إلّا على من خشع خارجها ولم يخشع فيها، كان يقتضى أنها لا تكبر على من لم يخشع فيها، وتكبر على من خشع فيها، وقد انتفى مدلول الآية، فثبت أن الخشوع واجب في الصّلاة»
(1)
.
ومأخذ الحكم: أن قول الله عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} يقتضي ذمّ غير الخاشعين.
وقد دلّ كتاب الله عز وجل على من كبُر عليه ما يحبه الله، أنّه مذموم بذلك في الدين مسخوط منه.
والذّم أو السّخط لا يكون إلّا لترك واجب، أو فعل محرّم، وإذا كان غير الخاشعين مذمومين، دلّ على وجوب الخشوع.
(1)
مجموع الفتاوى (22/ 552 - 553).
باب المساجد
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: وجوب تأمين الدّاخل للمسجد الحرام.
مأخذ الحكم: أن الحكم ورد بأسلوب الخبر والمراد به الأمر؛ إذ لو كان خبرًا متمحضاً لوجب أن يكون الأمن واقعًا غير متخلف، وإلّا لأدّى إلى كون الخبر كذبًا وهو محال.
فدلّ على أنّه خبر بمعنى الأمر، والأمر يقتضي الوجوب، فوجب على المسلمين حفظ الأمن فيه.
• الحكم الثاني: تطهير البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود:
وسبق في شروط الصّلاة أن من شروطها، طهارة البقعة للمصلي، والآية دالة على ذلك.
ومأخذ الحكم: الأمر الوارد بقوله: {طَهِّرَا بَيْتِيَ} مع بيان سبب التّطهير بلام التّعليل {لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وهذا يقتضي وجوب تطهير البيت لهذه الأمور، فيعمّ كل مسجد يكون فيه عكوف أو صلاة.
• الحكم الثالث: اشترط بعض المالكية لصلاة الجمعة أن يكون المسجد مسقوفاً، مستدلين بالآية في قوله:{طَهِّرَا بَيْتِيَ}
مأخذ الحكم: هو أن حقيقة البيتية أن يكون ذا حيطان ترفع.
وجمهور أهل العلم على عدم اشتراط ذلك؛ لعموم الأدلة ومنها: (وجعلت لي الأرض مسجداً وتربتها طهوراً)
(1)
.
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]
سبق دراسة هذه الآية في باب الغسل، وحكم الجنب، وتمت الإشارة إلى الخلاف في المراد بالصّلاة في صدر هذه الآية، هل هي العبادة المعروفة، أو المراد موضع الصّلاة، وهو المسجد، وكذلك رفع الخلاف في الشطر الثاني من الآية في المراد بعابر السبيل، هل هو المسافر، أو المجتاز العابر، وبيان ذلك:
إذا قلنا: الصّلاة العبادة المعروفة، فالنّهي عن قربان الصّلاة حال كونه سكرانًا، وكذلك هو منهي عن الصّلاة حال كونه جنبًا؛ إلّا إذا كان عابر سبيل. وفُسِّر العابر: بأنّه المسافر، وعليه فيجوز له قربان الصلاة، وإن لم يغتسل - بل يكتفي بالماء - وذلك؛ لأنّ السفر مظنة عدم الماء.
وقيل: الصّلاة هنا: موضع العابدة، وهي المساجد، فالنّهي عن دخول المسجد، والصّلاة من باب أولى.
كما أنّ النّهي في الشطر الثّاني، عن المكث في المسجد، إلّا أن يكون عابر سبيل إذا فُسِّر عابر السبيل بالمجتاز المار فيه.
وعلى كونها موضع الصّلاة ناسب ذكرها هنا، وترتب على هذا الخلاف مسائل:
المسألة الأولى: النهي عن قربان الصّلاة، سواء قلنا: المراد بالصّلاة العبادة، أو موضع الصلاة وهو المسجد، والعلة من منع السكران هو خشية تلويثه للمسجد،
(1)
أخرجه الإمام مسلم في كتاب الصلاة، باب المساجد مواضع الصلاة، برقم (521).
وكل ذلك صيانة وتعظيمًا لبيوت الله.
ومأخذ الحكم: النّهي الوارد بقوله: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} والنّهي يقتضي التّحريم، والتّحريم يقع على شرب المسكر أوّلًا، ثم على الفاعل أن يؤاخذ بأفعاله، فيما يفعله السكران من تلويث أو تشويش على المصلين، والخلاف في أقواله، وما يؤاخذ به منها، وما لا يؤاخذ، والأفعال أقوى من الأقوال.
تنبيه: رجّح الموزعي في كتابه «تيسير البيان» أنّ المراد بالصّلاة في شطر الآية الأولى، والذّي تعلق بها حكم قربان الصلاة للسكارى، المقصود بالصّلاة: عين الصّلاة، أي: العبادة ذاتها؛ نظرًا لسبب النزول الوارد فيها. وقد حكى المفسرون أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه صنع طعامًا، ودعا ناسًا من أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم فطعموا وشربوا، وحضرت صلاة المغرب، فتقدم بعض القوم، فصلى بهم المغرب، فقرأ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ولم يتمها، فأنزل الله تعالى:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فإذا حملنا الصّلاة في الآية على موضع الصلاة وهو المسجد، حملناها على غير سببها، وحمل اللفظ على غير سببه، إخراج لسببه، وإخراج سببه غير جائز، ويترتب على حمل الصلاة هنا: على حقيقتها التنبيه الآخر، وهو المتعلق بتحريم الخمر حال قربان الصّلاة
(1)
.
تنبيه آخر: إنّ تحريم الخمر حال قربان الصّلاة، لا يدل على جواز قربان الخمر في غير قربان الصّلاة، استدلالًا بمفهوم الحال؛ وذلك لأنّ هذه الآية كانت في مرحلةٍ من مراحل تحريم الخمر، ثم نُسخ إلى التّحريم على كل حال، وإذا نُسخ الأصل نسخ ما له من مفهوم.
(1)
تيسير البيان (2/ 396).
المسألة الثانية: عدم جواز لبث الجنب في المسجد، وجواز عبوره فيه، وهذا الحكم أيضًا باعتبار أن المقصود بعابر السبيل هو المار في المسجد، والمجتاز فيه، وسبق ذكر شيء من الخلاف في كونه المسافر.
ومأخذ الحكم: في جواز العبور في المسجد، لمن كان على جنابة وعدم جواز اللبث فيه ما يأتي:
أوّلاً: منطوق الآية دلّ على جواز عبور الجنب في المسجد، حيث إنّ المولى سبحانه استثنى
ثانيًا: تخصيص العابر بالاستثناء من النّهي الوارد في حق أصحاب الجنابة، ف {جُنُبًا} نكرة في سياق النّهي فتعم، فتعمّ كل جنب، سواء كان يريد العبور أو المكث، فخصت حالة العبور، وبقيت حال المكث على أصل النّهي.
ثالثًا: سبب نزول الآية، أن رجالًا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فتصيبهم جنابة ولا ماء عندهم، فيريدون الماء، ولا ممرّ لهم إلّا في المسجد، فأنزل الله هذه الآية
(1)
.
قال تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]
سبق الحديث عن الآية في شرط ستر العورة، وستأتي كذلك في باب اللباس، ودلت الآية هنا على مشروعية أخذ الزّينة للمسجد، ولما يقام فيه وهو الصّلاة، وقد سبق.
قال ابن الفرس: «وظاهر هذا أن أخذ الزّينة عند كل مسجد، إنّما هو للفعل الذي يتعلق بالمسجد، وللمسجد تعظيمًا لهما»
(2)
.
(1)
تيسير البيان (2/ 392 - 393).
(2)
أحكام القرآن (3/ 48).
وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن أخذ الزّينة للمسجد من الأمور المندوب إليها.
ومأخذ الحكم: أن الأمر في قوله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} مصروف من الوجوب إلى النّدب؛ لأنّه يدخل في باب الآداب ومكارم الأخلاق.
وقد جعل كثير من العلماء من صوارف الأمر عن الوجوب إلى النّدب؛ كونه من هذا الباب، أي: باب الآداب ومكارم الأخلاق.
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: مشروعية بناء المساجد، فكلمة {يَعْمُرُ} تدل على العمارة بالبناء كما تدل على العمارة بالعبادة.
ومأخذ الحكم: الفضل الوارد فيها، فجعل بناءها شعبة من شعب الإيمان، وترتيب الفضل على الفعل دلالة على مشروعيته.
وقد ورد في السّنة فضائل لمن بنى مسجدًا لله، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:(من بنى مسجداً بَنَى الله له مثله في الجنة)
(1)
كما ورد في السّنة كذلك الأمر ببناء المساجد حتى في الدور، كما روي عن
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب من بنى مسجداً، برقم (450)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل بناء المساجد والحث عليها، برقم (533).
عائشة رضي الله عنها (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد بالدور، وأن تنظف وتطيب)
(1)
.
ومن قال بوجوب الجماعة في المسجد، قائل بوجوب بناء المساجد؛ لأنّه وسيلة لتحقق الجماعة.
قال في الإكليل: «قال الرازي: فيه أن بناء المساجد قربة»
(2)
.
• الحكم الثاني: لا يتولى عمارة البيت إلّا من كان طاهرًا من الشّرك.
مأخذ الحكم: النهي في قوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ} ، وكذا مفهوم الحصر في قوله:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .
استدل بالآية على بيان حرمة المسجد الحرام، وتحريم الإلحاد فيه بظلم.
مأخذ الحكم: ترتيب العقوبة على الفعل، بقوله:{نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} مما يدل على تحريم الإلحاد فيه، والمقصود به: العدول عن الحق.
ويستحق العقاب بمجرد الإرادة، وإن لم يفعل، كما قرر ذلك كثير من العلماء بدلالة قوله:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ} .
(1)
أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب اتخاذ المساجد في الدور، برقم (455) قال الشيخ الألباني: صحيح، والترمذي في أبواب العيدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما ذكر في تطييب المساجد، برقم (594) قال الشيخ الألباني: صحيح.
(2)
الإكليل (1/ 320).
أمّا بقية أحكام الآية، فقد سبقت الإشارة إليها، مثل وجوب طهارة البيت للطائفين والعاكفين والرّكع السّجود بقوله:{طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} في البقرة {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} هنا في سورة الحجّ، وهو أمر يقتضي الوجوب.
كما سبق أن حقيقة البيتية من قوله: {بَيْتِيَ} هل يشترط فيها أن تكون مسقوفة، وبقية الأحكام تأتي بإذن الله في كتاب الحجّ.
قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36]
استدل بالآية على بعض الأحكام المتعلقة بالمساجد:
• الحكم الأول: الأمر بتعظيم المساجد وتنزيهها عن اللغو والقاذورات، وذلك من قوله:{أَنْ تُرْفَعَ} ورفعها يكون بتعظيمها والعناية بها عن كل ما يشينها سواء كان معنويًا كاللغو، أو الحسية كالقاذورات وغيرها.
وقوله: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} بيان للغاية والمقصد من بنائها.
ومأخذ الحكم هنا: هو قول {أَذِنَ اللَّهُ} والأصل أن لفظة الإذن وما تصرف منها أنها على الإباحة شريطة أن تكون مطلقة، بمعنى غير محتفة بمدح لأحد الطّرفين، أو ترتيب ثواب لأحدهما، أو نحو ذلك من القرائن التي تصرفها عن أصل معناها.
ولا شك أن الإذن هنا ليس مطلقًا، بل احتف به المدح للفاعلين بقوله:{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} .
وقد ورد في الآيات السابقة ما يدل على الوجوب، كتحريم إرادة الظّلم في المسجد الحرام أو الإلحاد فيه.
أمّا ما ورد في السّنة ففيه الكثير الدّال على وجوب تعظيم المساجد، وقد أورد الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه بلوغ المرام تحت هذا الباب، أي: باب المساجد جملة من ذلك فلتراجع.
• الحكم الثاني: استحباب ذكر الله والصّلاة في المساجد، وهذا ظاهر من الآية، وهو مستحب في كل مكان وزمان فاضل، ويزداد تأكيده في المساجد؛ لأجل ما ورد فيها، وقد ورد في السّنة الحث على الجلوس في المساجد لذات السبب.
الثّالثة: وفي الآية إشارة إلى أن الأفضل للنّساء الصّلاة في بيوتهن.
ومأخذ الحكم هنا: قوله {رِجَالٌ} ففيه إشارة إلى الحكم السابق، وقد دلت السّنة على ذلك، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها)
(1)
.
باب صفة الصّلاة
وفيها الحديث عن أحكام متعلقة بالصّلاة وصفتها، وما هو ركن أو واجب أو مسنون، وقبل الوقوف مع مأخذ الآيات المذكورة، تحت هذا الباب، أود بيان مأخذ وسبب كبير في اختلاف العلماء في كون تلك الصّفة من صفات الصلاة ركنًا فيه أو واجبةً أو مسنونةً، وقد حصل اضطراب في تحديد ضابط ما يدخل في الركن أو الوجوب.
وقد اعتمد المالكية والشّافعية وكذا الحنابلة في تحديد ما يدخل في الركن والواجب على حديث المسيء صلاته، وزاد الحنابلة كذلك كل ما أمر صلى الله عليه وسلم بفعله في الصّلاة، أو فعله صلى الله عليه وسلم في الصّلاة وداوم عليه، سواء ورد في حديث المسيء صلاته،
(1)
خرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب التشديد في ذلك، برقم (570) قال الشيخ الألباني: صحيح.
أو ورد في غيره، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي)
(1)
.
وهذان الحديثان، حديث المسيء لصلاته، وقوله صلى الله عليه وسلم:(صلوا كما رأيتموني أصلي) وردا في مقام التّعليم فالحديث الأول يقتضي تعريفه بما يلزم من الواجبات وإلا لزم منه تأخير البيان عن وقت الحاجة.
أمّا الحنفية: فإنّهم يرون أنّ أوامره صلى الله عليه وسلم في الصّلاة ومواظبته على فعل مّا فيها من غير تركٍ لا تدل على الفرضية في الأصل، ولكنها تدل على الوجوب، إلّا إن جاءت بيانًا لفرض مجمل، ولم يدل دليل على عدم الفرضية، ولم يلزم منه تقييد مطلق الكتاب.
ومعرفة الأركان تعرف عندهم في الجملة مما نص عليه القرآن أو السّنة المتواترة قطعية الدّلالة؛ لأنهم يشترطون في الفرضية، أن تثبت بدليل قطعي الثبوت والدّلالة.
أمّا إذا كانت قطعية الثّبوت ظنية الدلالة، أو ظنية الثّبوت قطعية الدّلالة وبهما يثبت الوجوب دون الفرضية.
فالآحاد يدل على الوجوب دون الفرضية، إن كان قطعي الدّلالة، أما إن كان ظني الثبوت والدلالة، فإنّه طريق إثبات السّنة والمستحب، وربما قوي الدليل الظني حتي يصير قريبًا عندهم من القطعي، فيطلقون عليه اسم الفرض، والمراد به الفرض العملي، أي: يعامل معاملة الفرض في وجوب العمل، وليس هو كالفرض القطعي.
وعودًا إلى ضابط الجمهور الذي سبق أن فيه اضطرابًا، وذلك أن في بعض
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة وكذلك بعرفة وجمع وقول المؤذن الصلاة في الرحال في الليلة الباردة أو المطيرة، برقم (605)، وفي كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، برقم (5662)، وفي كتاب التمني، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام، برقم (6819).
روايات حديث المسيء صلاته أفعالاً ليست من الأركان ولا الواجبات بالإجماع، كوضع اليدين على الركبتين في الركوع في قوله:(وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك وامدد ظهرك)
(1)
، وكهيئة الجلوس في التّشهد في قوله:(فإذا رفعت فاقعد على فخذك اليسرى)
(2)
.
وبالعموم هذا سبب في خلاف العلماء في تحديد الأركان والواجبات والسنن، وستأتي إشارة لأثر هذا الخلاف في دراسة الآيات.
قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15]
استدل العلماء بالآية على افتتاح الصّلاة بالتّكبير.
مأخذ الحكم: أن المولى سبحانه عقب الذكر باسمه بالصلاة بحرف يوجب التعقيب بلا فصل، والذكر الذي تتعقبه الصلاة بلا فصل هو تكبيرة الافتتاح.
وافتتاح الصّلاة بالتّكبير أمرٌ متفق عليه. واختلفوا في جواز افتتاحها بغير التّكبير.
وذكر ابن رشد في بداية المجتهد أن سبب خلافهم هو «هل اللفظ هو المتعبد به في الافتتاح أو المعنى»
(3)
، وهو من مآخذ المسألة.
فذهب الحنفية إلى جوزا افتتاح الصّلاة بكل ثناء خالصٍ يدل على تعظيم الله.
وقالوا: الآية دلت على أن المشروع في افتتاح الصّلاة مطلق ذكر اسم الرّب، وهذا يشمل لفظ (الله أكبر) وغيرها من الألفاظ، فلا يجوز تقييدها باللفظ المشتق من الكبرياء.
(1)
أخرجه أبوداود في، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، برقم (859).
(2)
هو الحديث السابق عند أبي داود.
(3)
بداية المجتهد (1/ 131).
وقالوا: إن تقييد اسم الرّب في الآية بلفظ (الله أكبر) زيادة على نص كتاب الله، والزّيادة عندهم نسخ، ولا يصح نسخ المتواتر بالآحاد. ولهم مآخذ أخرى يرجع لها في كتب الفقه.
وذهب جمهور أهل العلم إلى أنّ الصّلاة لا تنعقد إلّا بلفظ التّكبير.
ومأخذ الجمهور: في تقييد التكبير بلفظ (الله أكبر)، هو ما ورد في حديث المسيء صلاته، وفيه (إذا قمت إلى الصّلاة فكبر)
(1)
، وفعله وقوله عليه الصلاة والسلام بيان لما أجمل من القرآن؛ ولذا تعين التكبير دون غيره.
ويؤيده كذلك المعلوم قطعا من عادة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه افتتاحهم الصلاة بالتكبير.
قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]
أي: إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ فعبَّر بالفعل عن الإرادة لما بينهما من الملابسة، فالاستعاذة مكانها قبل القراءة، وهو هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
واستدل بالآية على مشروعية طلب العوذ بالله من الشّيطان عند إرادة قراءة القرآن سواء كان في الصّلاة أو خارجها.
وقيل بوجوب الاستعاذة.
ومأخذ الحكم هنا: الأمر، وظاهره أنّه للوجوب.
وأكدوا هذا الحكم بمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وقالوا: إنّ دفع شر الشيطان يكون بالاستعاذة، ودفع شر الشيطان واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فوجب أن تكون الاستعاذة كقراءة القرآن واجبة.
(1)
أخرجه أبوداود في، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، برقم (856).
وذهب جمهور أهل العلم إلى أن الاستعاذة مستحبة، وحكى ابن جرير وغيره الإجماع على ذلك
(1)
.
ومأخذ الحكم: أنّهم جعلوا الصّارف للوجوب إلى النّدب أحد الأمور الآتية:
الأوّل: الإجماع السّابق، وهذا فيما إذا ثبت؛ وذلك لوجود المخالف، والقائل بالوجوب من سلف الأمة، عطاء بن أبي رباح، والثوري وغيرهما.
الثاني: ما جاء في حديث المسيء في صلاته، وفيه:(إذا قمت إلى الصّلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا) الحديث
(2)
.
وسبق أن الحديث في مقام التّعليم، ولو كان واجبًا لعلمه النّبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز.
تنبيه: مشهور مذهب المالكية عدم مشروعية الاستعاذة بل كراهتها في صلاة الفريضة، وهناك رواية عن الإمام بمشروعيتها في صلاة القيام برمضان.
مستدلين بما رواه أنس بن مالك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهم كانوا يفتتحون الصّلاة ب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وحملها الجمهور على أنّهم ما كانوا يجهرون بها قبل القراءة، بل يسرونها؛ ولذلك لم يسمعها.
وأجاب ابن العربي المالكي عن هذا الدّليل بقوله: «
…
وتعلّق مَنْ أخذ بظاهر المدونة بما كان في المدينة من العمل»، ثم قال:«ولم يثبت عندنا أن أحدًا من أئمة الأمة ترك الاستعاذة فإنه أمر يفعل سرا، فكيف يعرف جهرا»
(3)
.
(1)
تفسير الطبري (14/ 357)، وانظر: موسوعة التفسير المأثور (12/ 678).
(2)
أخرجه أبوداود في، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، برقم (856).
(3)
أحكام القرآن (3/ 159).
قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]
استدل بالآية على أن القراءة ركن في الصّلاة، وقد نُقل الإجماع على ذلك ثم وقع خلاف في المجزئ الفاتحة أو غيرها، كما سيأتي.
ومأخذ كون القراءة ركنا: الأمر الوارد، وهو قطعي الثبوت والدّلالة وبمثله تثبت الأركان. وقيل: قراءة الفاتحة من واجبات الصّلاة وليست من أركانها عند الحنفية خلافًا للجمهور.
ومأخذ الحكم عند الحنفية: أن المولى سبحانه وتعالى أطلق القراءة من القرآن من غير تقييد بفاتحة ولا غيرها، فدل على أن قراءتها ليست ركنًا، ولم يأخذوا بدلالة السّنة الأحادية، كقوله عليه الصلاة والسلام:(لا صلاة لمَن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)
(1)
؛ لأنّ فيه زيادة على النّص، وهو نسخ، ولا يُنسخ المقطوع بالآحاد، فحملوا دلالة الحديث على الوجوب دون الفرضية.
أمّا الجمهور فقالوا: بأنّ الفاتحة ركن، بدلالة السّنة كما في الحديث السابق (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) فحملوا النفي في الألفاظ الشّرعيّة على نفي الصّحة؛ إذ لا يمكن هنا نفي الوجود؛ لوجود من يصلي ولا يقرأ الفاتحة، فوجب حملها على نفي الصحة.
قال العثيمين في منظومته
(2)
:
والنّفي للوجود ثم الصحة
…
ثم الكمال فارعين الرتبة
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها، برقم (394).
(2)
منظومة أصول الفقه وقواعده ص (24).
ومما استدل به الجمهور أيضا، ما ورد في بعض روايات حديث المسيء صلاته، وفيها (ثم أقرا بأم القرآن، وبما شاء الله أن تقرأ)
(1)
وسبق أن كل ما ورد فيه فإنّه يدل على الفرضية.
تنبيه: يذكر الفقهاء احتمالًا وهو كون آية المزمل قد نزلت قبل سورة الفاتحة؛ لأنّها نزلت بمكة.
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]
استدل بالآية من قال بأن قراءة القرآن بغير العربية لا تجوز، وهو قول الجمهور، خلافًا لما نُقل عن أبي حنيفة، ونقل أنّه رجع عنه.
ومأخذ الحكم: لعل من المآخذ كونه خبرًا بمعنى الأمر، أي:(إنا أنزلناه ليقرأ بالعربية).
أو يكون من المآخذ مفهوم الصفة في قوله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} فتدل على أن غير العربي لا يسمى قرآنا، ولا تصح الصلاة بغير القرآن.
قوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]
يستدل بها على أن المسألة السابقة وهي: عدم جواز القراءة بغير العربية.
ومأخذ الحكم: وصف المولى سبحانه وتعالى القرآن الذي انزله بكونه {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} حيث قال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195].
ومفهوم وصفه بأنّه (عربي) يدل على أن غير العرب لا يسمى قرآنًا، وما ليس بقرآن لا تصح الصلاة به.
(1)
أخرجه أبوداود في، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، برقم (859).
قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4]
الترتيل في القراءة هو: التأني فيها والتمهل وتبين الحروف والحركات.
واختلف العلماء في حكمه، فذهب الجمهور إلى استحبابه ونقل الإجماع على ذلك. وقيل: بالوجوب.
ومأخذ الحكم: الأمر الوارد في قوله: {وَرَتِّلِ} ، والأصل فيه أنّه للوجوب، وأجرى من قال بالوجوب الأمر على إطلاقه، وأكدّ الأمر للوجوب بالتّأكيد الوارد في الآية بقوله {تَرْتِيلًا} .
وذهب الجمهور هنا إلى أن تأكيد الأمر بالتّرتيل إنّما هو لإفادة تحقيق صفة الترتيل. وصرفوا الأمر من الوجوب بصوارف منها:
(1)
كون الإجماع وقع على كونه مستحبًا، وقد نقل البعض الإجماع على ذلك.
(2)
كون الترتيل من باب الكمالات، فحملوها على الآداب فهو من آداب التّلاوة، والحمل على مكارم الأخلاق والآداب يعتبر صارفًا للأمر من الوجوب إلى الندب عند كثير من العلماء.
(3)
لم يذكر الترتيل في حديث المسيء صلاته، وهو في مقام التعليم، ولو كان واجبًا لعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
فائدة: قال الحافظ ابن حجر العسقلاني «استحباب الترتيل لا يستلزم كراهة الإسراع، وإنّما الذي يكره الهذ، وهو: الإسراع المفرط بحيث يخفى كثير من الحروف أو لا تخرج من مخارجها»
(1)
وقال أيضا: «والتّحقيق أن لكل من الإسراع والترتيل جهة فضل، بشرط أن يكون المسرع لا يُخل بشيء من الحروف والحركات والسكون الواجبات،
(1)
فتح الباري (9/ 89).
فلا يمتنع أن يفضُل أحدهما الآخر وأن يستويا، فإنّ من رتل وتأمل كمن تصدق بجوهرة واحدة مُثمَّنة، ومن أسرع كمن تصدق بعدة جواهر، لكن قيمتها قيمة الواحدة وقد تكون قيمة الواحدة أكثر من قيمة الأخريات وقد يكون بالعكس»
(1)
.
قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: عدم جواز الكلام في الصّلاة.
ومأخذ الحكم: الأمر الوارد بالإنصات في قوله: {وَأَنْصِتُوا} والإنصات هو السّكوت، والأمر يقتضي الوجوب، وقد نقل الإجماع على كون الآية في الصّلاة الإمام أحمد وغيره
(2)
.
وقيل: في خطبة الجمعة أيضا. يدل عليهما سبب نزول الآية.
ويمكن القول بأن الآية دلت على عدم جواز الكلام، ووجوب السكوت بالأمر في قوله {وَأَنْصِتُوا} وبالاستلزام من الأمر في قوله:{فَاسْتَمِعُوا لَهُ} ؛ لأنّه يلزم من الاستماع السكوت.
• الحكم الثاني: الخلاف في قراءة المأموم خلف الإمام.
وفي المسألة ثلاثة أقوال:
الأول: عدم جواز القراءة مطلقًا، لا الفاتحة ولا غيرها، سواء كان في الجهرية، أو السّرية، وهو مذهب الحنفية.
(1)
المصدر السابق.
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (22/ 295)، (23/ 269).
الثاني: أن المأموم يقرأ مع الإمام فيما أسرّ فيه، ولا يقرأ معه فيما جهر به، أي: في السّريّة دون الجهرية، وهو مذهب المالكية والحنابلة.
الثالث: أن يقرأ المأموم فيما أسر الإمام الفاتحة وغيرها، ويقرأ فيما جهر الفاتحة فقط، وهو مذهب الشافعي في الجديد والظّاهرية. وكل واحد منهم استدل بالآية.
أمّا الفريق الأول: فقالوا: بعدم جواز القراءة مطلقًا، أمّا في حالة الجهر، فظاهر لوجود القراءة المأمور بالاستماع لها والإنصات، والأمر يقتضي الوجوب، وهو نهي عن ضده، وضد الإنصات القراءة، فتكون القراءة منهيًا عنها؛ لأنّه يلزم من الاستماع عدم القراءة.
أمّا في حالة الإسرار فعموم اللفظ، فهو يعم الأحوال، أي: سواء كان في حال الجهر، أو الإسرار فعلينا السكوت فبعموم القراءة، فالقراءة موجودة من الإمام وعلينا السكوت سمعناها أو لم نسمعها، وقد يكون مأخذه مفهوم الشّرط مع عموم اللفظ.
أمّا أصحاب القول الثّاني: فقالوا: الأمر في الآية بالاستماع، ولا يتحقق إلّا إذا كان مجهورًا به، وهذا لا يكون إلّا في صلاة الجهر؛ لأنّ السّر لا يستمع إليه.
قال ابن قدامة: «وهي مختصة بحال الجهر، وفيما عداه يبقى على العموم، وتخصيص حالة الجهر بامتناع الناس من القراءة فيها، يدل على أنهم كانوا يقرءون في غيرها»
(1)
.
أمّا أصحاب القول الثالث: القائلون أنّه يقرأ فيما أسر الفاتحة وغيرها، وفيما
(1)
المغني (1/ 406).
جهر الفاتحة فقط. فخصصوا الفاتحة من عموم الآية بالسّنة، وقد ورد في الصّحيح قوله صلى الله عليه وسلم:(لا صلاة لمن لم يقرا بأمّ القرآن)
(1)
.
وأدل منه ما رواه عبادة بن الصّامت (أن النّبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح، فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال: «إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم» قال:، قلنا: يا رسول الله، إي والله، قال: «لا تفعلوا إلا بأمّ القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها)
(2)
.
وأيدوا وجوب القراءة في السرية والجهرية بلحاق الآية حيث قال سبحانه بعدها {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ} [الأعراف: 205]
(3)
.
قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110]
اختلف العلماء في المراد بالصّلاة هنا، هل هي عين العبادة المعروفة أو الدعاء، وقال بكل قول قوم.
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها، برقم (394).
(2)
أخرجه الترمذي كتاب أبواب الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في القراءة خلف الإمام، برقم (311)، والإمام أحمد المسند (5/ 315)، برقم (22746) بتعليق شعيب الأرنؤوط وقال: صحيح لغيره وهذا إسناد حسن من أجل محمد بن إسحاق.
(3)
المحلى (2/ 269).
ومأخذ الحكم وسبب الخلاف فيه: ورود الاسم الشّرعي، وهو الصّلاة هنا في سياق النهي، وعند كثير من الأصوليين أنّه إن ورد في سياق النهي فإنّه مجمل، بخلاف ما لو ورد في سياق إثبات أو أمر فإنّه ينصرف إلى الصّلاة المعهودة المعروفة الشرعية، ولا يحمل على المعنى اللغوي، وهو الدعاء هنا.
ولما كان اللفظ عند البعض مجملًا تلمس كل قوم ما يؤيد ما ذهب إليه بأدلة أخرى.
فمن قال: بأنّها نزلت في القراءة بالصّلاة الشّرعية المعروفة أيدّ قوله بسبب نزول الآية، وقد روى الشيخان من حديث ابن عباس أنها نزلت في القراءة في الصّلاة
(1)
.
وعليه فاستنبط العلماء استحباب التوسط في القراءة في الصّلاة الجهرية بين المبالغة في رفع الصوت والإسرار.
وأيدوا قولهم بتفسير الصّحابي، وهو حجة، وقد فسّر ابن عباس الآية بذلك حيث قال:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} أي: لا تعلن الصّوت بقراءة القرآن إعلانًا شديدًا، {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} أي: لا تخفض صوتك حتى لا تسمع أذنيك.
أمّا من قال: بأن المراد بالصّلاة هنا المعنى اللغوي، وهو الدعاء، فأيدوا قولهم بسبب النزول - كذلك- وقد أخرج البخاري عن عائشة أنها نزلت في الدعاء
(2)
، وزاد ابن جرير في رواية في التشهد
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} ، برقم (4722)، ومسلم (446)، وذلك عندما كان صلى الله عليه وسلم بمكة متوار، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} ، برقم (4723).
(3)
تفسير الطبري (17/ 587) ت شاكر.
تنبيه: إذا قال الصحابي نزلت الآية في كذا فهل لها حكم الرفع؟ ويترتب على ذلك وقوع التعارض وكيف يدفع؟
يفرق بعض العلماء بين الصيغ الصريحة لأسباب النزول وغيرها، وما كان من الصيغ الصّريحة فإنّ له حكم الرّفع.
ومن الصيغ الصّريحة، إذا قال الراوي: سبب نزول هذه الآية كذا، أو يأتي بالفاء التعقيبية، كأن يقول حديث كذا، أو سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا، فنزلت الآية.
ومن الصيغ المحتملة، قول الراوي: نزلت هذه الآية في كذا، فهذا يراد به تارة أنّه سبب النزول، وتارة أنّه داخل في معنى الآية، وإن لم يكن السبب، كما تقول عني بهذه الآية كذا.
ذكر ذلك شيخ الإسلام ثم قال: «وقد تنازع العلماء في قول الصحابي نزلت هذه الآية في كذا، هل يجري مجرى المسند، كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند، فالبخاري يدخله في المسند، وغيره لا يدخله فيه
…
»
(1)
.
(2)
.
(1)
مجموع الفتاوى (13/ 340).
(2)
البرهان في علوم القرآن (1/ 31 - 32).
قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]
استدل بالآية الكريمة على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب القيام في الصلاة لمن استطاعه باتفاق.
ومأخذ الحكم: الأمر الوارد فيها بقوله: {وَقُومُوا} وهو يقتضي الوجوب.
المأخذ الثاني: ذهب الحنابلة إلى الأمر بالصفة على سبيل الندب (وهو هنا الأمر بالقيام على صفة القنوت والخشوع) فالأمر بالصفة على سبيل الندب يقتضي وجوب الفعل التي هي فيه، والفعل التي فيه الصفة هو القيام، فيكون واجبًا.
أمّا الشافعية فعندهم أن الأمر بالصفة على سبيل الندب لا يمكن الاستناد إليه في إيجاب الفعل التي هي فيه فقد يكون واجبًا أو مندوبًا.
• الحكم الثاني: تحريم الكلام بالصّلاة.
ومأخذ الحكم: ورد الأمر بالقيام لله قانتاً، والأمر بالشيء نهي عن ضده، ثمّ إنّ هذا النهي ورد بعد إباحة شرعية فيكون كالنّهي المطلق بلا خلاف، فهو للتّحريم.
يدل على النهي والتحريم سبب نزول الآية، كما في حديث زيد بن ابي الأرقم (كنا نتكلم في الصّلاة فيكلم الرجل صاحبه، وهو إلى جنبه بالصّلاة فنزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام)
(1)
.
قوله تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]
استدل بالآية على أن المرأة تخفض صوتها بحضرة الرجال الأجانب، وإن نابها شيء في الصلاة صفقت.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} مطيعين، برقم (4260)، ومسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، برقم (539).
قال الجصاص: «
…
والدلالة على أن الأحسن بالمرأة أن لا ترفع صوتها بحيث يسمعها الرجال»
(1)
.
وقال السيوطي: «فيه استحباب خفض المرأة صوتها»
(2)
.
مأخذ الحكم: النهي يقتضي المنع، وهو أمر بضده وهو استحباب خفضه، والله أعلم.
ومأخذ آخر: كونه من تفسير السلف، ومنه قول التابعين، وورد عن السدي قوله:«لا ترفعن بالقول»
(3)
وقد تكلم المرداودي في التحبير عن الخلاف في حجية قول التابعي، نقل عن الإمام أحمد:«لا يكاد يجيء عن التابعين إلا يوجد عن الصحابة» ، ثم نقل عن ابن تيمية قوله:«كلام أحمد يعم تفسيره وغيره» . قلت: وذلك لأن العلماء لا يزالون يحتجون بقولهم في التفسير، وهم في التفسير أوثق
(4)
.
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: وجوب الصّلاة، وقد سبق ذلك.
ومأخذ الحكم: كونه من إطلاق الجزء وإرادة الكل، فعبر عن الصلاة بجزئها، وهو الركوع والسجود؛ لكونهما أعظم أركانها، فكان ذكرهما جاريًا مجرى ذكر الصّلاة، وكأنه قال: صلوا الصّلاة التي شرعها لكم.
(1)
أحكام القرآن للجصاص (5/ 229)، وانظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي (4/ 346).
(2)
الإكليل (3/ 1107).
(3)
الدرر المنثور للسيوطي (12/ 28).
(4)
التحبير (8/ 3714).
• الحكم الثاني: كون الركوع والسجود ركنين من أركان الصّلاة، وهذا أمر متفق عليه.
ومأخذ الفرضية والركنية: الأمر الوارد بقوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} وكذا في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43].
• الحكم الثالث: الخلاف في تحديد ما يفترض على المصلي السجود عليه من أعضائه السّبعة.
أمّا الحنفية: فجعلوا الفرض، وضع الوجه على الأرض، والمراد بالوجه: الجبهة أو الأنف وما عداهما سنة، ورجح بعضهم أن وضع اليدين والركبتين والقدمين واجب.
ومأخذهم: أن الأمر في قوله: {وَاسْجُدُوا} متعلق بالسجود مطلقًا، من غير تعيين عضو، ثم انعقد الإجماع على تعيين بعض الوجه، فلا يجوز تعيين غيره، ولا يجوز تقييد مطلق الكتاب بخبر الواحد؛ لما سبق من أنّه زيادة على النّص فلا يجوز.
أمّا المالكية: فيرون وجوب السجود على الجبهة في تحصيل الفرض.
ومأخذهم: أولًا حديث الأعرابي، وقد جعلوه معيارًا لتحديد الفروض والأركان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (إذا سجدت فمكن جبهتك من الأرض)
(1)
.
ثانيًا: هذا الحديث مبين للقرآن، ولا خلاف في كون السنة مبينة للقرآن.
ثالثا: لعله من باب الأخذ بأقل ما ينطلق عليه الواجب، فأقل ما ينطلق عليه كونه ساجدًا، وهو وضع جبهته على الأرض.
(1)
أخرجه أبوداود في، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، برقم (859).
أمّا الشافعية: فمذهبهم وجوب السجود على هذه الأعضاء السبعة إلا الأنف، استدلالاً بالسنة من قوله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: اليدين والركبتين والقدمين والجبهة)
(1)
. وكذا الحنابلة إلّا أنّهم يرون الأنف والجبهة عضوًا واحدًا.
والأمر وما تصرف منه من ألفاظ الوجوب، وهذه من دلالات السنة وليست من القرآن.
أو يقال: إنّ السّنة بينت الإطلاق في السّجود الوارد في القرآن.
• الحكم الرابع: استدل العلماء بالآية على حكم الطمأنينة في أفعال الصّلاة. والطمأنينة هي: السكون بقدر الذكر الواجب، فذهب الحنفية إلى كونه واجبًا وليست بفرض.
ومأخذهم: أن الفرض إنّما يثبت بالدّليل القاطع، وأمّا الطمأنينة فقد ثبتت بخبر الواحد، كما في حديث المسيء (ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا)
(2)
.
وهذه زيادة على نص كتاب الله، ولا تجوز الزيادة عليه بخبر الواحد؛ لأنّه حينئذ يكون ناسخًا لكتاب الله، ولا يصلح أن يكون ناسخًا.
وقالوا: يصلح أن يكون مكملًا فنحمل أمره بالإعادة والطمأنينة على الوجوب، ونفيه للصّلاة في قوله:(فإنّك لم تصل)
(3)
على نفي الكمال.
أمّا مذهب جمهور أهل العلم، فعلى كون الطمأنينة ركنًا؛ لحديث المسيء
(1)
أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة، باب السجود على الأنف، برقم (779)، ومسلم كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر والثوب وعقص الرأس في الصلاة، برقم (490).
(2)
متفق عليه، وقد سبق تخريجه.
(3)
متفق عليه، وقد سبق تخريجه.
صلاته وغيره من الأحاديث، والأوامر تحمل على الوجوب والفرضية.
كما أن قوله صلى الله عليه وسلم (ارجع فصل، فإنّك لم تصل) دليل على نفي الصّحة والإجزاء.
ولما رأى حذيفة رضي الله عنه رجلاً يصلي ولا يتم الركوع ولا السجود فقال له: (ما صليت، ولو مت لمت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدًا صلى الله عليه وسلم
(1)
.
• الحكم الخامس: استدل بالآية على جواز الائتمام بالإمام الذي تنقل صلاته عن طريق المذياع
(2)
.
مأخذ الحكم: بناء على قاعدة: المطلق يجري على إطلاقه ما لم يرد دليل التقييد.
وبيانه: أن الأمر بالصلاة مطلق غير مقيد بمكان واحد يجتمع فيه، والصّلاة مع الإمام عبر التلفاز متحققة، فتدخل في الإطلاق المذكور في الأمر.
ويمكن مناقشة ما سبق، بأنّ الأصل حمل كلام الشارع على المعهود، وقت نزول الخطاب، ولا شك أن المعهود هو الاجتماع في مكان واحدٍ مع الإمام حقيقة، ولا سيما أن من مقاصد الصّلاة الاجتماع لها، وكل ما خالف مقصود العبادة فهو باطل.
يقول الشيخ العثيمين: «لا يجوز للإنسان أن يقتدي بالإمام بواسطة الراديو أو بواسطة التلفزيون؛ لأنّ صلاة الجماعة يقصد بها الاجتماع، فلا بدّ أن تكون في موضعٍ واحدٍ، أو تتّصل الصفوف بعضها ببعض، ولا تجوز الصلاة بواسطتهما،
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب إذا لم يتم الركوع، برقم (791).
(2)
ينظر: بواسطة فقه النوازل للمشيقح (101) المصادر التالية: رسالة الإقناع بصحة صلاة الجمعة بالمنزل خلف المذياع للغماري، وفقه المستجدات في باب العبادات (210 - 218)، والأجوبة النافعة (320)، وإتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (45).
وذلك لعدم حصول المقصود بهذا، ولو أننا أجزنا ذلك لأمكن كلّ واحدٍ أن يصلّي في بيته الصلوات الخمس، بل والجمعة أيضًا، وهذا منافٍ لمشروعية الجمعة والجماعة، وعلى هذا فلا يحلّ للنساء ولا لغيرهنّ أنْ يصلّي أحدٌ منهم خلف المذياع أو خلف التلفاز»
(1)
.
كما أن الصلاة قد تقع على أحوال لا تصح معها صلاته عند جماعة من أهل العلم، مثل كونه منفرداً خلف الصف مع إمكان دخوله في صفّ لو كان بالمسجد، وكونه أمام الإمام، وقد يعرض ما لا يمكنه معه الاقتداء بالإمام كخلل في جهاز الاستقبال أو الإرسال، أو انقطاع التيار الكهربائي، وهو في أمن من هذا؛ لو صلى في مكان يرى فيه الإمام والمأمومين
(2)
.
• الحكم السادس: استدل بالآية من قال بعدم جواز الصّلاة بالنّظارة
(3)
، إن أدّى إلى منع تمكين الأعضاء من السجود على الأرض، ومثلها بعض القبعات.
وبيانه: السجود فرض من فروض الصّلاة بلا خلاف، وإنّما الخلاف في كيفية تمكين أعضاء السجود على الأرض
(4)
، إن كان قادرًا عليه
(5)
، ولا شك أن المصلي قادر على خلع النظارة لتمكين نفسه من السجود.
(1)
مجموع فتاوى ابن عثيمين (15/ 213)، وينظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع (4/ 299).
(2)
ينظر: الفقه الميسر (النوازل في العبادات)(9/ 52).
(3)
ينظر: فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 256)، وإتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (43).
(4)
في المسألة أقوال: منها: أن الفرض في السجود هو جزء من الجبهة ولو قليلًا، وهو قول الحنفية والمالكية، وقيل: إن الفرض هو السجود على الأعضاء السبعة إلا الأنف، وهو مذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية، وقيل: وجوب السجود على جميع الأعضاء السبعة وهو المذهب عند الحنابلة. والخلاف يرد في مسألة الصلاة في النظارة على المذهب الثالث، وهو مذهب الحنابلة. ينظر: بدائع الصنائع (1/ 106) حاشية الدسوقي (2/ 390) المجموع للنووي (3/ 423) المغني (2/ 398) المحلى (3/ 355).
(5)
العاجز: لا يكلف بالفعل غير المقدور عليه، ويكفيه الإيماء إن قدر عليه.
قال الشيخ محمّد صالح العثيمين رحمه الله: «أمّا بالنّسبة للنّظارة فإن كانت تمنع من وصول طرف الأنف إلى الأرض، فإنّ السجود لا يجزئ، وذلك لأن الذي يحمل الوجه هما النظارتان، وهما ليستا على طرف الأنف بل هما بحذاء العينين، وعلى هذا فلا يصح السجود، ويجب على من عليه نظارة تمنعه من وصول أنفه إلى مكان السجود أن ينزعها في حال السجود»
(1)
.
مأخذ الحكم: يخرّج الحكم على قاعدة: ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب، ولما كان تمكين أعضاء السجود واجبًا، ولا يتمّ إلّا بإزالة ما يمنع من ذلك، فكان إزالة ما يمنع ذلك واجبًا، فيجب نزع النظارة، إن كانت تمنع تمكين الجبهة أو الأنف من الأرض.
تنبيه: يأخذ حكم ما سبق العقال، وبعض القبعات، وكل ما يمنع من تمكين الجبهة على الأرض، وكذا الفرش التي تحول دون تمكين الجبهة من السجود
(2)
.
قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} الآية
استدل بالآية من قال بمشروعية التّسبيح في الركوع.
مأخذ الحكم: بيان النبي صلى الله عليه وسلم لموضعها، كما في حديث عقبة بن عامر أنّه قال: لما نزلت {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (اجعلوها في ركوعكم)
(3)
.
(1)
مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (13/ 186 - 187).
(2)
مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (13/ 184)، وفتاوى اللجنة الدائمة (6/ 175)، وإتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (43).
(3)
أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم (869)، وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب التسبيح في الركوع والسجود، برقم (887) وقال الشيخ الألباني: ضعيف.
فتمسك القائلون بالوجوب بالأمر الوارد في الآية على الوجوب، وهو مذهب الحنابلة، ويؤيده أنّ هذا من فعله صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا أن نصلي كما صلى.
وصرفه الجمهور من المالكية والشافعية إلى الاستحباب، بحديث المسيء صلاته، حيث لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم التسبيح في صلاته، ولو كان واجبًا لبينه؛ لأنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
كما أنّه لم يواظب عليه الصلاة والسلام على التسبيح في الركوع بلفظ معين، والمواظبة طريق من طرق إثبات الواجبات.
ومن الأدلة على عدم مواظبته على التّسبيح قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي)
(1)
وغير ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم (فأما الركوع: فعظموا فيه الرّب عز وجل، وأمّا السّجود: فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم)
(2)
ولم يحد في ذلك حدًّاً معينًا.
قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]
استدل بالآية من قال بمشروعية التسبيح في السّجود.
مأخذ الحكم: بيان النبي صلى الله عليه وسلم لموضعها، كما في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه (
…
فلما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: اجعلوها في سجودكم)
(3)
.
وفي الآية أمرٌ بقوله: {سَبِّحِ} واختلف هل هو على أصله للوجوب، أو أنّه مصروف إلى النّدب، وما قيل في الآية السابقة يقال هنا.
(1)
أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، برقم (479).
(3)
أخرجه أبوداود، في كتاب الصلاة باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم (869)، وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب التسبيح في الركوع والسجود، برقم (887)، وضعفه الألباني كما في الإرواء (2/ 40) برقم (334).
باب صلاة التّطوع
قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]
التهجد: التيقظ بعد نومة من الليل.
وقد اختلف العلماء في قيام الليل في حق النّبي صلى الله عليه وسلم أكان فرضًا عليه أم لا؟
ومأخذ الخلاف: في معنى (النافلة) في قوله: {نَافِلَةً لَكَ} بعد الاتفاق على أن معناها اللغوي الزيادة.
فقيل: المعنى في الآية {نَافِلَةً لَكَ} أي: فريضة زائدة على ما فُرض على الأمة، وعليه فيكون قيام الليل في حقه واجبًا.
ثم اختلفوا في كونه منسوخًا كما سيأتي في آية المزمل، وهؤلاء أيدّوا قولهم بالوجوب بظاهر الأمر في قوله:{فَتَهَجَّدْ بِهِ} وقوله في آية المزمل {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} .
وقالوا: لو كان المراد بالنّافلة في الآية التطوع لم يخصه سبحانه وتعالى بكونه نافلة له؛ لأنّ التطوع له ولأمته.
ومن قال بأنّ التهجد مندوب إليه، حمل معنى (النافلة) على النّدب، وقالوا هي حقيقة فيه، وهي من مرادفاته، وجعلوا هذه اللفظة صارفة للأمر الوارد في الآية إلى النّدب؛ لأنّ الفريضة لا تُسمى ندبًا.
وأجابوا عن قولهم: لو كان المراد بالنّافلة التطوع لم يخصه الله سبحانه بذلك.
فقالوا: إنّ تخصيص الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما يعمله يكون نافلة، أي: زيادة في ثوابه وأجره، وهذا بخلاف غيره من الأمة؛ إذ إنّ النوافل تكون مكفرة وجابرة لما يحصل في الفرض من الخلل والنقص فهذا سرّ التّخصيص.
قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16]
استدل بها جمهور أهل العلم على استحباب التنفل بالليل.
ومأخذ الحكم: مدح المولى سبحانه وتعالى كما في سياق الآية فعلهم، ولا خلاف بين العلماء في أن المدح للفعل أو فاعله دائر بين الوجوب والنّدب.
ومعلوم أنّه لا واجب من الصّلوات إلّا الخمس، فبقي النّدب.
قال القرطبي: «وفي الصّلاة التي تتجافى جنوبهم لأجلها أربعة أقوال: أحدها: التّنفل بالليل، قاله الجمهور من المفسرين وعليه أكثر النّاس، وهو الذي فيه المدح
…
»
(1)
.
قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9]
استدل العلماء بالآية على استحباب القنوت بجميع ما تحمله من معنى، ومنها: وهو المراد هنا طول القيام، وقيل: الخشوع.
ومأخذ الحكم هنا: ورود الصّفة في سياق المدح والثناء، وهو كما سبق يدل على المشروعية، وكون الفعل دائرًا بين الوجوب والنّدب.
كما أن الآية دلت على نفي المساواة بين القانت لله والمطيع له وبين الكافر العاصي، بالاستفهام الاستنكاري بقوله:{أَمَّنْ} .
وسياق الآية قوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} إلى قوله {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} الآية.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (14/ 100).
يقول الزمخشري: «{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} كغيره، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه، وهو جرى ذكر الكافر قبله. وقوله بعده {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} .
ومعلوم أنّ نفي الاستواء بين الشيئين يقتضي نفي الاستواء من جميع الوجوه التي يمكن أن يدخلها النّفي
(1)
.
قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 2 - 4]
وقوله تعالى: في آخر السورة {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل: 20]
اختلف العلماء في الأمر بقيام الليل في هذه الآية هل هو للوجوب أو النّدب؟
فذهب الجمهور إلى أن قيام الليل واجب على النبي صلى الله عليه وسلم.
ومأخذ الحكم: الأمر الوارد بقوله: {قُمِ اللَّيْلَ} .
ثم اختلف هؤلاء على هذا الحكم باقٍ أو أنّه منسوخ؟
ومن قال بالنّسخ جعل الناسخ قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} الآية [المزمل: 20].
وورد عن عائشة رضي الله عنها قولها: (فإنّ الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السّورة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولًا، وأمسك خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة)
(2)
.
(1)
الكشاف (4/ 116).
(2)
أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، في جماع أبواب صلاة التطوع بالليل، باب ذكر خبر نسخ فرض قيام الليل بعدما كان فرضاً واجباً، برقم (1127).
أي: للنّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
أمّا القائلون بأن قيام الليل مندوب إليه، فإن كان قائلًا من قبل بالوجوب، فمأخذ الندب عنده: هو النّسخ السابق، وذلك لأنّ الوجوب إذا نسخ فإنّه يبقى النّدب، كما قرر ذلك كثير من العلماء.
وأمّا إن كان غير قائل بالوجوب، فإنّه يرى أن سياق الآية صارف له عن الوجوب وذلك في قوله:{نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ}
ومأخذ ذلك: هو أن تفويض التخيير للمكلف يدل على عدم الوجوب؛ إذ التخيير ينافي الوجوب.
وأجيب عنه: أن التخيير الذي ينافي الوجوب، هو التخيير بين الفعل والترك، أمّا التخيير بين خصال أو أفعال معينة، فلا ينافي الوجوب، فلا يبعد في العقل أن يقول: أوجبت عليك قيام الليل، وأمّا تحديد القدر الذي تقومه، فذاك مفوض إلى اختيارك.
وهذا الحكم في حق النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل أن ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم فإنّ أمته مخاطبة به، إلا ما دّل أنّه خاص به؛ ولذا كان الصحابة يقومون الليل حتى تورمت أقدامهم، والصارف للأمة من الوجوب إلى الندب، هو ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام للأعرابي الذي سأله عما يجب عليه في اليوم الليلة من الصلوات فأجابه صلى الله عليه وسلم بأنها خمس صلوات، ثم قال الأعرابي: والله لا أزيد عليها، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم وقال:(أفلح إن صدق)
(1)
.
(1)
سبق تخريجه.
باب صلاة الجماعة والإمامة
قال الله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]
استدل بالآية على مشروعية الجماعة، على خلاف في كونها سنة مؤكدة، أو فرض كفاية، أو فرض عين، والمعنى: صلوا مع المصلين.
ومأخذ الحكم: الأمر في قوله: {وَارْكَعُوا} مع لفظ {مَعَ} وهو من حروف المعاني الدّالة على الجماعة. والأصل حمل الأمر على بابه، وهو حجة لمن قال بوجوب صلاة الجماعة، وسيأتي مأخذ من قال بأنّه على الأعيان في الآية الآتية.
(1)
.
كما أن ضمير الجمع في قوله: {وَارْكَعُوا} يقتضي ذلك، وأقل الجمع ثلاثة.
تنبيه: أطلق المولى سبحانه وتعالى الجزء وهو الركوع وأراد الكل وهو الصلاة.
وأما تخصيص الركوع بالذكر فللعلماء أقوال:
فقيل: إنه خُصَّ تشريفاً له. وقيل: لأن صلاة بني إسرائيل لم يكن فيها ركوع. وقيل: لأن الصلاة تدرك به، فمن أدرك الركعة فقد أدرك السجدة، فأمر بما يدرك به الركعة.
وذكر ابن الفرس تساؤلاً عن الحكمة من تخصيص الركوع من جميع الصلاة بعد الأمر بالصلاة، حيث قال سبحانه:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} .
(1)
الجامع لأحكام القرآن (1/ 348).
وأجاب بما سبق من كون معنى الركوع: الصلاة، أو كون صلاة بني إسرائيل لم يكن فيها ركوع، ثم قال:«وفيه عندي جواب ثالث: أن يكون أراد بالركوع هنا التواضع لله تعالى والتذلل له والانقياد، فيكون ركوعاً لغوياً لا شرعياً»
(1)
.
وعليه فليس فيه دليل على المسألة.
أما القائلون بأن صلاة الجماعة مندوب إليها فجعلوا الأمر مصروفاً بصوارف منها: ما ورد في السّنّة من قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة)
(2)
وفي رواية (بسبع وعشرين درجة)
(3)
وكلاهما في الصّحيحين.
قالو: التّفاضل لا يكون إلّا بين شيئين اشتركا في معنى، وتفاضلا فيه، بحيث يكون لأحدهما مزّية على الآخر، وهذا يقتضي كون صلاة المنفرد فيها فضلٌ يقصر عن صلاة الجماعة، وإذا ثبت أن فيها فضلًا، ثبت إجزاؤها والاعتداد بها.
قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102]
استدل بها العلماء على وجوب صلاة الجماعة.
ومأخذ الحكم: الأمر الوارد بقوله: {فَلْتَقُمْ} مع حرف: «مع» في قوله: {مَعَكَ} الدّالة على المعيّة والجماعة -كما سبق - وكذا ضمير الجمع في قوله: {فَأَقَمْتَ لَهُمُ} .
(1)
أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 63 - 64).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الجماعة والإمامة، باب فضل صلاة الجماعة، برقم (619).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الجماعة والإمامة، باب فضل صلاة الجماعة، برقم (619)، وفي كتاب الجماعة والإمامة، باب فضل صلاة الفجر في جماعة، برقم (621)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها، برقم (650).
قال الشّيخ محمّد الأمين الشّنقيطي: «آية صلاة الخوف هذه من أوضح الأدلة على وجوب الجماعة; لأنّ الأمر بها في هذا الوقت الحرج دليل واضح على أنها أمرٌ لازم; إذ لو كانت غير لازمة لما أمر بها في وقت الخوف; لأنه عذر ظاهر»
(1)
.
وصلاة الخوف دلّت بطريق الأولى على وجوب الصلاة حال الأمن، فقد سنّ المولى سبحانه وتعالى صلاة الخوف جماعة، وسوّغ فيها ما لا يجوز لغير عذر بالاتفاق، كاستدبار القبلة، والعمل الكثير، وكذلك مفارقة الإمام قبل السّلام جاز عند الجمهور، وكذا تخلفه عن متابعة الإمام - كما يتأخر الصّف المؤخر بعد ركوعه مع الإمام إذا كانت العدو أمامهم-.
فقالوا: هذه الأمور تبطل الصّلاة لو فعلت لغير عذر، فلو لم تكن الجماعة واجبة بل مستحبة لكان قد التزم فعل محظور مبطل للصّلاة، وتركت المتابعة الواجبة في الصّلاة؛ لأجل فعل مستحب، مع أنّه قد كان من الممكن أن يصلوا وحدهم صلاة تامة، فعلم أنها واجبة
(2)
.
تنبيه: استدل العلماء بخصوص هذه الآية على أن صلاة الجماعة فرض على الأعيان؛ وذلك لأنّه سبحانه وتعالى أمره أولًا بالصّلاة في الجماعة بقوله: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} ثم أعاد هذا الأمر مرّة ثانيّة في حق الطائفة الثّانيّة بقوله: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} فلم يسقطها سبحانه وتعالى بفعل الطائفة الأولى.
استدل بالآية على عدم جواز الصّلاة خلف المذياع
(3)
.
(1)
أضواء البيان (1/ 263).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (23/ 227 - 239).
(3)
ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 213) فتوى رقم (2437)، ومجموع فتاوى ابن عثيمين (13/ 42)، (15/ 213)، والفقه الميسر (9/ 52)، فقه النوازل للمشيقح (101)، وإتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (45).
مأخذ الحكم: بناء على أن حرف (مع) في قوله: {مَعَكَ} يقتضي المعيّة والجمعيّة.
تنبيه: سبق في المسألة السابقة -عند مناقشة القول بالجواز- بيان وجه الجمع.
قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29]
استدل بها العلماء على وجوب صلاة الجماعة في المسجد، والمسجد هنا على ظاهره، وهو: المسجد المعروف.
وقد قيل في معنى الآية: «اقصدوا المسجد في وقت كل صلاة أمرًا بالجماعة لها ندباً عند الأكثرين، وحتماً عند الأقلين» ، قاله الماوردي
(1)
.
وقيل معناه: إذا كان جواركم مسجدًا فأقيموا الجماعة فيه، ولا تتجاوزوا إلى غيره، إذا حضرت الصلاة، فصلوا في كل مسجد، ولا يقل أحدكم: أصلي في مسجدي قاله ابن عباس.
ومأخذ الحكم: الأمر الوارد بقوله: {وَأَقِيمُوا} مع دلالة العندية في قوله: {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وهو ظرف مكان، ومنطوقه الأمر يدل على وجوب الصّلاة في المساجد.
قال تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]
استدل بها على وجوب صلاة الجماعة.
ومأخذ الحكم: أن الأمر بالسّعي إلى الشّيء لا يكون إلا لوجوبه، وكذا الأمر بترك البيع المباح لأجله، فهذا يدل على وجوبه، والجمعة لا تكون إلا جماعة، وفي بيوت الله كما سيأتي.
(1)
تفسير الماوردي المسمى بالنكت والعيون (2/ 217).
تنبيه: القول بالوجوب يتضمن المشروعية، وكل واجب فهو مشروع، وما سبق وهو مأخذ القائلين بالوجوب، وسبق في الآية الأولى {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] بيان مأخذ القائلين بصرف الأمر إلى الاستحباب، وعليه فصلاة الجماعة لا خلاف في مشروعيتها، وهي دائرة بين الوجوب والنّدب.
وختامًا: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «لا ينبغي له أن يترك حضور المسجد إلا لعذر، كما دلّت على ذلك السنن والآثار»
(1)
.
والصّلاة في المساجد من أكبر شعائر الدّين وعلاماته، وفي تركها بالكلّيّة أو في المسجد محو لآثار الصّلاة بحيث إنّه يفضي إلى تركها، ولو كان الواجب فعل الجماعة فقط، دون الفعل في المسجد لما جاز الجمع للمطر ونحوه، وترك الشّرط وهو لأجل السّنة، ومن تأمل الشّرع المطهر علم أن إتيان المسجد لها فرض عين إلّا لعذر
(2)
.
استدل بالآية من قال بوجوب حضور الجماعة على كل من سمع النداء، ولو بمكبر الصوت
(3)
.
مأخذ الحكم: أن الأمر في قوله: {فَاسْعَوْا} للوجوب وهو معلّق على شرط، وهو الأذان ليوم الجمعة، في قوله:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} ، والمقصود من النّداء هو إسماع غيرٍ؛ بدلالة قوله صلى الله عليه وسلم (من سمع النّداء فلم يجب، فلا صلاة له إلا من عذر)
(4)
، فيجري العام في قوله:{نُودِيَ} على عمومه، أي سواء كان السماع
(1)
الفتاوى الكبرى (5/ 349).
(2)
انظر: الصلاة وأحكام تاركها لابن القيم (1/ 118).
(3)
هذه المسألة تبنى على قول من قال بأن صلاة الجماعة فرض عين على الرجال، وهم الحنابلة. ينظر: المغني (2/ 130)، والإنصاف (2/ 210).
(4)
أخرجه ابن ماجة في سننه، كتاب المساجد والجماعات، باب التغليظ في التخلف عن الجماعة، برقم (793)، وابن حبان في صحيحه (5/ 415)، كتاب الصلاة، باب ذكر الخبر الدال على أن هذا الأمر حتم لا ندب، برقم (2064)، والدارقطني في سننه (2/ 293)، كتاب الصلاة، باب الحث لجار المسجد على الصلاة فيه إلا من عذر، برقم (1555)، والحاكم في المستدرك (1/ 373) وقال:«وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» . وقال الألباني في إرواء الغليل (2/ 337): «وهو كما قالا» .
بمكبر الصوت أو بدونه.
ووجه كونه عاماً: أن الفعل هنا ينزل منزلة النكرة، وهو مثبت وفي سياق شرط فيعم.
أما والوجوب على كل من سمع النداء فهو مأخوذ من دلالة ضمير الجمع في قوله: {فَاسْعَوْا} فيعم كل من سمع النداء.
نوقش: بأن الأمر في الآية محمول على الأذان المعتاد في زمن التشريع.
(1)
.
قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18]
استدل بالآية من قال بعدم صحة الصّلاة خلف الإمام الفاسق.
ومأخذ الحكم: نفي المساواة بين الشيئين يقتضي العموم، إلّا ما خصه الدّليل، فيقتضي نفي المساواة بينهما من جميع الوجوه، ومنها الإمامة؛ ولذا لو صحّ
(1)
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (15/ 27)، وإتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (49).
الإئتمام بالفاسق لكان مساويًا للمؤمن العدل.
وقد قيل: إنّ المراد بالفاسق هنا الكافر. لكن أجيب عنه: بأنّه عامّ في كل فاسق.
باب صلاة المسافر
قال الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: جواز صلاة النافلة في السّفر على الرّاحلة حيثما توجهت به.
مأخذ الحكم: تفسير الصّحابي، وقد ذهب ابن عمر رضي الله عنهما أن الآية نزلت في ذلك. ويستفاد من صيغة العموم (أين) عمومُ الجهات.
وروى البخاري عن ابن عمر أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي في السفر على راحلته حيثما توجهت به، يومئ إيماءً صلاة الليل، إلّا الفرائض ويوتر على الراحلة)
(1)
.
وقيل: إنّ الآية منسوخة، استدلالًا بعموم قوله تعالى:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} .
• الحكم الثاني: استدل بعضهم بالآية فيمن اجتهد في القبلة فأخطأ.
مأخذ الحكم: أن الآية وإن كانت صيغتها صيغة خبر، إلا أن معناها معنى الأمر، وجعلوا هذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} .
وجاء حديثٌ - وفيه كلام عند الحفاظ - يدل على الحكم السابق من حديث
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الوتر، باب الوتر في السفر، برقم (955).
عامر بن ربيعة قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ليلة مظلمة فتحرّى قوم القبلة، وعلَّموا علامات، فلما أصبحوا رأوا أنّهم قد أخطأوا ففرّقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فنزلت الآية {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}
(1)
.
(2)
.
ثم قال في نهاية الكلام على هذه الآية: «مجموع ما يتحصل من هذه الآية من الأقوال إحدى عشر قولا»
(3)
.
وذكر القرطبي أن العلماء اختلفوا في المعنى الذي نزلت فيه على خمسة أقوال. يُراجع لمن أراد المزيد
(4)
.
قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: أن المسافر فرضه أن يولي وجهه شطر المسجد، وهذا شأن كل من لم يعاين الكعبة، وكان بعيدًا عنها.
قال القرطبي: «وأجمعوا على أن كل من غاب عنها أن يستقبل ناحيتها وشطرها وتلقاءها
…
»
(5)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أحكام القرآن (1/ 103).
(3)
انظر: أحكام القرآن (2/ 79).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 160).
(5)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 160).
ومأخذ الحكم: الأمر بقوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وهو يقتضي أن هذا هو الواجب عليه وفرضه.
• الحكم الثاني: استدل بالآية من قال إن المسافر فرضه أن يتوجه إلى الكعبة.
ومأخذ الحكم: الأمر الوارد مع العموم في قوله {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} وهو يقتضي العموم في المكان.
وكذا على القول بأنّ الآية ناسخة للآية السّابقة وهي قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115].
قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: اتفق الفقهاء على مشروعية القصر للمسافر.
ومأخذ الحكم: رفع الجناح عن الفعل من الأساليب الشّرعيّة الدّالة على المشروعية.
(1)
.
وذهب الجمهور إلى أن القصر رخصة؛ إذ إن نفي الجناح فيه رفع الإثم، وعدم الحرج، وليس من معانيه الإلزام أو الإيجاب - كما سبق - وهذا يعني أن للمسافر إتمام الصّلاة، وترك الرخصة وأكدوا هذا الحكم بحديث يعلى بن أمية، قال: قلت
(1)
تيسير البيان (3/ 9).
لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد أمن النّاس، فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:(صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)
(1)
.
أمّا الحنفية فذهبوا إلى أن القصر عزيمة، وهو الواجب على المسافر، وتمسكوا بقول عائشة رضي الله عنها:(فرضت الصلاة ركعتين في الحضر والسفر، فأقرّت صلاة السفر، وزِيد في صلاة الحضر)
(2)
.
فدلّ على أن فرض المسافر هو ركعتان؛ فإنّ أداها فقد أدّاها أربعًا، وقد زاد في الصّلاة ما ليس منها، والزّيادة في الصّلاة تبطلها.
وكذا قول عمر بن الخطاب: (وصلاة السّفر ركعتان، تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم
(3)
.
وقالوا: إنّ معنى الرّخصة لا ينطبق عليه؛ لأنّ الرخصة اسم لما تغير عن الحكم الأصلي بعارض إلى تخفيف ويسر، ولم يوجد معنى التغيير في حق المسافر.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن القصر سنة، ليس برخصة ولا عزيمة، جمعًا بين الأدلة واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذهب بعضهم إلى أن القصر والإتمام فرضان، فأيهما فَعل فقد فعل الواجب، كالمخيَّر.
(1)
أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (686).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء، برقم (343)، ومسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (685).
(3)
أخرجه النسائي في كتاب تقصير الصلاة في السفر، باب تقصير الصلاة في السفر، برقم (1440)، وابن ماجه كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب تقصير الصلاة في السفر، برقم (1063)، قال الشيخ الألباني: صحيح.
• الحكم الثاني: استدل بالآية من قال بأن القصر يكون عندما يبرز من بيوت بلده، وهو باتفاق المذاهب الأربعة.
مأخذهم: إنّ معنى الضّرب في الأرض لا يتحقق إلّا بذلك.
وهل يشترط أن يكون السفر طويلًا أولًا؟ خلاف بين العلماء.
مأخذه: الإطلاق الوارد في الآية، فقد أطلق سبحانه وتعالى القصر على الضّرب ولم يقيده بكون طويلًا أو قصيرًا.
قال الموزعي: «فأخذ بإطلاقه آخرون، وهم أهل الظاهر، فجوزوا القصر، في كلِّ سفر، طويلًا أو قصيرًا، وقيده الجمهور من أهل العلم بالمعنى الذي أبيح له القصر، وهو المشقة الزائدة على مشقة الحضر، ثم اختلفوا
…
»
(1)
. أي في تقدير المسافة، يراجع في ذلك إلى كتب الفقه.
• الحكم الثالث: ذهبت الحنفية إلى جواز القصر في سفر المعصية.
ومأخذهم: العموم في الآية، والمعنى: لا جناح عليكم القصر في السفر.
أمّا الجمهور فقالوا: بعدم جواز القصر في سفر المعصية؛ استدلالا بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} وسفر المعصية فيه تعدٍّ على حرمات الله، وهو منهي عنه فلا يجوز لفاعله أن يتمتع برخصة السفر؛ ولذا قالوا: الرخص لا تناط بالمعاصي.
ولأنّ في التخفيف عن العصاة عونًا لهم على المعصيّة، والمولى سبحانه وتعالى يقول:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
(1)
تيسير البيان (3/ 13).
• الحكم الرابع: استدل بالآية من قال بأن القصر في السفر إنّما يكون للخائف، فمن كان آمنًا فلا قصر له، فسبب القصر: السفر والخوف.
ومأخذ الحكم: مفهوم الشرط في قوله: {إِنْ خِفْتُمْ} فدلّ بمفهومه المخالف أنّه لا قصر في حال الأمن.
وأيدّوا ما ذهبوا إليه بما روي عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنّها كانت تقول في السفر (أتموا صلاتكم، فقالوا: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر، فقالت: إنّه كان في حرب وكان يخاف وهل أنتم تخافون؟)
(1)
.
وذهب الجمهور إلى عدم اشتراط الخوف، وقد أجابوا عن الأثر المروي عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها بأنّه ضعيف، واستدلوا بما رواه مسلم من حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه، وقوله: قلت لعمر: ما لنا نقصر وقد أمنا، قال عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:(صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)
(2)
وهذا نص في المسألة؛ ولذا قالوا: لا عبرة بمفهوم المخالفة لهذا النّص، ولكونه خرج مخرج الغالب، إن كان الغالب على المسلمين الخوف في الأسفار، وما خرج مخرج الغالب لا حجة في مفهومه.
تنبيه: ذهب قوم إلى أن الشرط في قوله {إِنْ خِفْتُمْ} شرط للتّعليق بالحكم الذي بعده.
قال الموزعي: «فهو ابتداء كلام متصل بما بعده، منقطع عما قبله. وروي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: أنه قال: نزل قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
(1)
أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 127 - 128) برقم (10316)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (4141).
(2)
سبق تخريجه.
الصَّلَاةِ} هذا القدر، ثم بعد حول سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الخوف فنزل {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء: 101] {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} [النساء: 102].
ثم قال وروي مثله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال: إنّه روى نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا»
(1)
.
قال القرطبي: «فإن صحّ هذا الخبر فليس لأحد منه مقال، ويكون فيه دليل على القصر في غير الخوف بالقرآن»
(2)
.
خاتمة لباب صلاة المسافر
سبق القول في باب المواقيت عند قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أن هذه الآية هي أصل مواقيت الصلاة، وذكرنا أن قوله {مَوْقُوتًا} أي: محدود الأوقات، وأنه لا يجوز إخراجها عن وقتها متعمدًا في شيء من الأحوال، وطرد هذا الأصل الحنفية في حق المسافر.
فقالوا: بعدم جواز الجمع بين الصلاتين للمسافر في وقت إحداهما؛ لأنّ الآية دلّت على كون الصّلاة فرضًا مؤقتًا، فلا يجوز تركه إلا بما ورد الشرع به، كالوقوف بعرفة، وفي الجمع بين الصّلاتين تغيير للوقت المنهي عنه في وقت إحداهما.
ومأخذ الحنفية: أن لكل صلاة وقتًا محددًا ثبت بأدلة قطعية، كالقرآن والسّنّة المتواترة والإجماع، ولا يجوز تخصيص هذه الأدلة إلّا بأدلة مثلها، لا بضرب من الاستدلال، أو بخبر الآحاد.
(1)
تيسير البيان (3/ 7 - 8).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 362).
أما الجمهور فجاز عندهم تخصيص هذه الأدلة بما تبث في السنة، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاري قوله (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة الظهر والعصر، إذا كان على ظهر سير ويجمع بين المغرب والعشاء)
(1)
وغيرها من أحاديث.
ومن المسائل المتعلقة بالمسافر، وتستنبط من آيات المواقيت، ما نقل عن الحنفية أيضًا أنهم قالوا: إنّ المسافر إذا سافر بعد دخول الوقت جاز له قصر الصلاة.
ومأخذهم: أن المصلي أدّى الصّلاة في وقتها المحدد دون تفريط فهو ممتثل لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} وصلاة المسافر تمامها ركعتان.
أمّا الجمهور فقالوا: بل يصليها تامّة؛ لأنّه سبحانه وتعالى قال: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ} [الإسراء: 78] فعلّق الوجوب بدلوك الشمس، فالأمر بإقامة الصلاة هو للوجوب؛ فإذا وجبت الصّلاة أوّل الوقت، وجبت تامّة، وأداؤها قصرًا لا يصحّ، ولا يسقط التّمام الثّابت في الذّمة.
ومن المسائل المتعلقة بصلاة المسافر، ما ذهب إليه الحنفية من عدم جواز الجمع بين الصلاتين في وقت أحدهما للمسافر؛ استدلالا بقوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} .
مأخذ الحكم: أن المولى سبحانه وتعالى أوجب الصلاة في وقتها، وأمر بالمحافظة على ذلك.
(1)
أخرجه البخاري في أبواب تقصير الصلاة، باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء، برقم (1056).
وقالوا: في الجمع بين الصلاتين تفريط بوقت إحداهما، وهذا لا يجوز، وفيه مخالفة لأمر الله عز وجل.
وذهب الجمهور إلى الجواز، ومأخذهم: تخصيص الآية بالسّنة.
ولم يقبل الحنفية تخصيص الآية بما ورد من فعله وقوله عليه الصلاة والسلام؛ لكونها آحاد، والجمهور على جواز ذلك، وكونه من قبيل البيان، والمبيِّن لا يشترط أن يكون مساويًا أو أقوى من المبيَّن.
باب صلاة الجمعة
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9]
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: وجوب صلاة الجمعة، وقد حكى بعض العلماء الإجماع على كونها على الأعيان، وللوجوب مآخذ:
المأخذ الأول: وجوب المشي إليها، وما ذاك إلا للصلاة واستماع الخطبة، والأمر ظاهر في قوله:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وهو يقتضي الوجوب.
تنبيه: السعي صفة لما فوق المشي العادي، ما لم يصل إلى حدّ السّرعة المنهي عنها، والأمر بهذه الصّفة مندوب إليه، لكنه يقتضي إيجاب المشي؛ لأنّ الأمر بالصّفة على سبيل النّدب يقتضي وجوب الفعل التي هي فيه، وهذا مذهب الحنابلة، ومثله الأمر بالمبالغة في الاستنشاق، وتلك الصفة مندوب إليها، لكنها تقتضي إيجاب الاستنشاق.
ويرى عدد من العلماء أن المراد بالسّعي هنا: التسبب والعمل، لا السعي على
الأقدام، ونسبه القرطبي إلى الجمهور
(1)
، والمعنى: فاعملوا على المضي إلى ذكر الله، واشتغلوا بأسبابه من الغسل والتّطهر، والتوجه إليه؛ لأنّ السعي بالأقدام مكروه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام (إذا أقيمت الصّلاة، فلا تأتوها وأنتم تسعون)
(2)
.
قلت: ويؤيد هذا القراءة الشاذة (فامضوا إلى ذكر الله)
(3)
.
وقد ذكر ابن الفرس أن السعي في كلام العرب لفظ يحتمل الجري، كقوله عليه الصلاة والسلام (فلا تأتوها وأنتم تسعون) ويحتمل المشي من غير جري كالآية
(4)
.
واحتج ابن شهاب بما كان يقرأ به عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما من قراءة (فامضوا إلى ذكر الله)، ثم ذكر خلاف العلماء في حمل القراءة التي لم تثبت في المصحف هل تجري مجرى الخبر مطلقًا سواء أسندت أم لا؟ أو يشترط إسنادها إلى النّبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر أن البعض حمل احتجاج ابن شهاب بقراءة عمر على جهة التّفسير من عمر، وهو من أهل اللسان، ففسر السّعي بأنّه المضي، وقوله في ذلك حجة بلا خلاف بين العلماء
(5)
.
المأخذ الثّاني: النّهي عن البيع، بصيغة الأمر التي معناها النهي {وَذَرُوا} والأمر بترك البيع لأجل تحقيق السّعي لصّلاة الجمعة، ويقتضي الأمر هنا وجوب ما ترك من أجله، وهي: صلاة الجمعة.
قال القرطبي: «والدليل على وجوبها أنها تحرِّم البيع، ولولا وجوبها ما حرَّمته؛
(1)
الجامع لأحكام القرآن (18/ 101).
(2)
أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة والنهي عن إتيانها سعيا، برقم (602).
(3)
انظر: تفسير الطبري (23/ 381)، وتفسير عبد الرزاق (3/ 309).
(4)
انظر: أحكام القرآن (1/ 556 - 557).
(5)
انظر: أحكام القرآن (1/ 556).
لأنّ المستحب لا يُحرِّم المباح»
(1)
.
تنبيه: اتفق العلماء على تخصيص عموم ضمير الجمع في قوله {فَاسْعَوْا} بالمرأة والمريض والصّبي.
واختلفوا في المسافر والعبد هل يخرجان من العموم السابق؟ وتفصيل ذلك كتب الفقه.
تنبيه آخر: النّداء هنا لصلاة الجمعة، وهذا معلوم بالإجماع، واختلفوا بدل عليه اللفظ؟
(2)
.
تنبيه ثالث: حرّم بعض العلماء السّفر يوم الجمعة إذا زالت الشّمس، إذ إنّ ظاهر الآية أنّه ليس بين الزوال قدر يراعى، وقد أمر الله تعالى عند النّداء بالسّعي إلى الجمعة، وترك غير ذلك، فمن سافر في ذلك الوقت فقد خالف الأمر بالسّعي وعصى.
• الحكم الثاني: مشروعية الأذان لصّلاة الجمعة، وقد سبق في باب الأذان والإقامة.
• الحكم الثالث: وجوب السّعي للجمعة عند سماع النّداء للمقيم والرّاحل.
قال المهلب: نص كتاب الله يدل على أن الجمعة تجب على كل من سمع
(1)
الجامع لأحكام القرآن (18/ 107).
(2)
أحكام القرآن (4/ 247 - 248).
النّداء، وإن كان خارج المصر. قال ابن الفرس: وهو أصحّ الأقوال
(1)
.
ومأخذ الحكم: عموم قوله: {فَاسْعَوْا} يعمّ الرّاحل والمقيم وقد علق بالسّماع، والشّرط اللغويّ يثبت المشروط عند ثبوته؛ ولأنّه سبحانه جعل النداء علمًا لها.
تنبيه: لا يشترط في وجوب صلاة الجمعة سماع الندّاء على من كان في البلد، بلا خلاف؛ لأنّه سبحانه وتعالى أمر بالسّعي للجمعة بمجرد النّداء.
• الحكم الرابع: أنّ الأذان الذّي يتعلق به ترك البيع ووجوب السّعي، هو الأذان الثّاني، الذّي يرفع حين يجلس الإمام على المنبر، وهو قول الجمهور.
مأخذ الحكم: أنّ الأحكام تنزل على العرف الشّرعيّ أثناء التّنزيل، والنّداء الثّاني هو الذّي كان مشروعًا حين نزول الآية فتعلق الحكم به.
• الحكم الخامس: يجب إقامة الجمعة جماعة، واختلفوا في العدد الواجب.
ومأخذ القائل بأنهم ثلاثة: أن الجمع في قوله {فَاسْعَوْا} أقله ثلاث، وقيل: إنّ الآية تقتضي مناديًا، وذاكرًا وهو المؤذن والإمام والإثبات يسعون، فقوله:{فَاسْعَوْا} لا يتناول المثنى، بل هو خطاب للجمع الذّي يسمعون النّداء.
تنبيه: قال ابن القصار بعد ذكر الأقوال في العدد الواجب قال: «ليس أحد هذه الأقوال أولى من صاحبه، فيجب الرجوع إلى صفة من خوطب في الآية، وأمروا بالسّعي إليها، وهم قول لهم بيع وشراء، فيجب طلب قدم هذه صفتهم، وليسوا إلا من كان لهم مسجد وسوق يطلق عليهم اسم جماعة، فالجمعة واجبة عليهم، كانوا خمسة أو عشرة أو أربعين»
(2)
.
(1)
أحكام القرآن (3/ 559).
(2)
أحكام القرآن (3/ 560 - 561).
• الحكم السادس: وجوب الخطبة ووجوب السماع لها.
مأخذ الحكم: تفسير الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما {ذِكْرِ اللَّهِ} بخطبة الإمام والصّلاة معه، والأمر بالسّعي لها في الآية للوجوب، فتكون الخطبة واجبة أداءً على الإمام استماعًا على المأموم.
• الحكم السابع: تحريم البيع وقت الأذان للجمعة، وعدم صحته وسيأتي في كتاب البيع.
ومأخذه النّهي: وهو يقتضي التحريم والفساد.
قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11]
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: اشتراط قيام الإمام على المنبر إذا خطب ووجوب ذلك عليه.
مأخذ الحكم: قوله تعالى: {قَائِمًا} حال، أي: حال قيامه خطيبًا، وفيها بيان للهيئة التي يجب أن يكون عليها خطيب الجمعة أثناء خطبته. وبينت ذلك سنته عليه الصلاة والسلام ومواظبته على ذلك.
تنبيه: ظاهر الآية أن القيام للخطبة كلها، فلا يجلس بين الخطبتين، وبه أخذ قوم، والجمهور على الجلوس بينهما، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بيان للمراد بالآية.
• الحكم الثاني: اشترط الخطبة في انعقاد صلاة الجمعة، فلا تصح الصّلاة إلا بها، وهو قول الجمهور.
ومأخذ الحكم: ذمّ المولى سبحانه وتعالى من ترك الخطبة، والواجب هو الذي يذم تاركه شرعًا. كما أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها إلا بخطبة، ومواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك دليل وجوبها.
باب صلاة الخوف
سبق في باب صلاة المسافر، ذكر قول العلماء في أن قوله {إِنْ خِفْتُمْ} متعلقة بما بعدها لا بما قبلها، وسبب نزولها.
أمّا ما يتعلق بصلاة الخوف من أحكام مستنبطة من هذه الآية فمنها:
• الحكم الأول: أجمع العلماء على مشروعية صلاة الخوف؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] وقوله في آية البقرة {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] كما سيأتي في الآية الثانية.
ومأخذ الحكم من الآيتين: تعليق الصّلاة بالخوف، بأداة الشرط (إِنْ) والسياق في الخوف من العدو حال القتال، والمشروط يثبت عند ثبوت الشرط.
ومأخذ آخر: الأمر بصيغة (ليفعل) في قوله {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} ، وهذا أمر بأداء فريضة الصّلاة، في حال الشّدة والبأس وتشريع منه - سبحانه - لصلاة الخوف.
• الحكم الثاني: مشروعية إقامة صلاة الخوف باقية إلى يوم القيامة وهو قول
الجمهور، خلافًا لمن قال لا تشرع إلّا مع النّبي صلى الله عليه وسلم.
مأخذ القائل إنّها لا تشرع إلا مع النبي صلى الله عليه وسلم مفهوم الشرط في قوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} الآية، ومفهوم الشرط يقتضي تخصيصه صلى الله عليه وسلم.
وأجيب عنه: بأن اشتراط كونه صلى الله عليه وسلم فيهم إنّما ورد لبيان الحكم لا لوجوده، والتقدير: بيّن لهم بفعلك؛ لكونه أوضح من القول كما قاله ابن العربي وغيره.
قال الشّيخ الشنقيطي: «وردّ عليهم بإجماع الصحابة بعده صلى الله عليه وسلم وبقوله صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي)
(1)
وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم»
(2)
.
وقال رحمه الله قبل ذلك: «والاستدلال على خصوصها به صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} الآية، استدلال ساقط، وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم والمسلمون على ردّ مثله في قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103]» . وسيأتي شيء من التفصيل في هذا في كتاب الزكاة.
• الحكم الثالث: استدل بالآية على مشروعية إقامة صلاة الخوف جماعة، على خلاف بين العلماء، فمن قائل: إنّها واجبة، وقائل: إنّها مستحبة.
ومأخذ القائل بالوجوب هو: قوله {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} فالأمر في قوله {فَلْتَقُمْ} مع حرف المعية {مَعَكَ} الذي يقتضي الجمعية، وسبق ذكر شيء من ذلك في باب صلاة الجماعة.
(1)
أخرجه البخاري، وقد سبق.
(2)
أضواء البيان (1/ 264).
قال الشيخ محمد الأمين رحمه الله: «آية صلاة الخوف هذه من أوضح الأدلة على وجوب الجماعة; لأنّ الأمر بها في هذا الوقت الحرج دليل واضح على أنها أمر لازم; إذ لو كانت غير لازمة لما أمر بها في وقت الخوف; لأنه عذر ظاهر»
(1)
.
أمّا القائل بالاستحباب، فقالوا: ليست واجبة في الأمن، فمن باب أولى عدم وجوبها حال الخوف، والصارف عندهم لأوامر الشارع بإقامة الصّلاة جماعة، أحاديث منها قوله عليه الصلاة والسلام (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة)
(2)
.
• الحكم الرابع: دلّت الآية الكريمة على كيفية صلاة الخوف.
مأخذ الحكم: أمر الله المولى سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بكيفية معينة، بقوله:{فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} الآية، فدلّ الأمر {فَلْتَقُمْ} على مشروعية الصّلاة بصفة خاصّة، وجاءت السّنة وفعله عليه الصلاة والسلام بيانًا لها.
قال ابن العربي: «ثبت عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف مرارًا عدّة بهيئات مختلفة، فقيل في مجموعها أربع وعشرون صفة ثبت فيها ست عشر صفة»
(3)
.
قال الشيخ محمد الأمين: «وهيئات صلاة الخوف كثيرة، فإن العدو تارة يكون إلى جهة القبلة، وتارة إلى غيرها، والصلاة قد تكون رباعية، وقد تكون ثلاثية، وقد تكون ثنائية، ثم تارة يصلون جماعة، وتارة يلتحم القتال، فلا يقدرون على الجماعة بل يصلون فرادى رجالا وركبانا مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها، وكل هيئات صلاة الخوف الواردة في الصّحيح جائزة، وهيئاتها، وكيفياتها مفصّلة في كتب
(1)
أضواء البيان (1/ 420).
(2)
متفق عليه، وقد سبق تخريجه.
(3)
أحكام القرآن (1/ 618).
الحديث والفروع»
(1)
.
• الحكم الخامس: دلّت الآية على وجوب حمل السلاح.
مأخذ الحكم: الأمر الوارد بقوله: {وَلْيَأْخُذُوا} .
ومأخذ آخر: لم يرخص المولى سبحانه وتعالى وضع السلاح إلّا للمريض ومن كان به أذى، ونفي الحرج والإثم عن واضع السلاح دليل على أن الأصل هو وجوب حمله.
تنبيهان:
الأوّل: اختلف العلماء في الوجوب السابق في حمل السلاح على من يكون؟ هل هو على الطائفة التي تحرس، أو على المصلية أو عليهما جميعًا؟
وسبب الخلاف: في عود الضمير في قوله {وَلْيَأْخُذُوا} يعود على مَنْ؟
(2)
.
قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 239]
سبق ما يتعلق بمشروعية صلاة الخوف، ومن الأحكام المستنبطة من هذه الآية.
• الحكم الأول: لا يشترط التوجه للقبلة حال المسايفة وشدّة القتال.
مأخذ الحكم: لم يذكر المولى سبحانه وتعالى الشّرط في هذه الآية
(1)
أضواء البيان (1/ 254).
(2)
تيسير البيان (3/ 28).
ومأخذ آخر: القراءة الواردة عن عمر بن الخطاب وهي قوله: (فإن خفتم فرجالًا أو ركبانًا مستقبل القبلة أو غير مستقبليها)
(1)
، وهي قراءة شاذة، وهي حجة، إذا قرأها قارئها على أنها قرآن وحجة إذا قالها تفسيرًا؛ لأنّ تفسير الصّحابي حجة.
وقيل: إنّها ملحقة بخبر الآحاد على تفصيل عند الأصوليين، وجعلها الموزعي من تفسير ابن عمر رضي الله عنهما، وقال: بأنّ أكثر العلماء على العمل بهذا التّفسير
(2)
، ونقل عن نافع قوله: (لا أرى عبد الله ذكر ذلك إلّا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري عند تفسير الآية
(3)
.
• الحكم الثاني: جواز ترك الجماعة والصّلاة فردى، ورجالًا أو ركبانًا، حال شدّة الخوف.
رجالًا: أي: مشاة على أقدامكم. وركبانًا: على ظهور دوابكم.
ومأخذ الحكم: منطوق الآية، ومفهوم شرطها (إن خفتم) أن ذلك لا يجوز إلّا في حال الخوف وشدّته.
فوائد:
الأولى: ذهب بعض العلماء إلى أن صلاة الخوف لا تختص بخوف القتال بل تعمّ كل خوف؛ لأنّه سبحانه وتعالى علّق صلاة الخوف على مطلق الخوف فيؤخذ بعمومه.
(4)
.
(1)
عند البخاري، وسبق تخريجها.
(2)
تيسير البيان (2/ 128).
(3)
رواه البخاري في كتاب التفسير، باب {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} برقم (4261).
(4)
أحكام القرآن (1/ 375).
الثانية: استدل الأصوليون بالآية على جواز النسخ إلى الأثقل، وهو جواز نسخ القرآن للسّنّة.
وبيان ذلك: أنّ السّنّة بينت أن الصّلاة حال الخوف تؤخر، كما في تأخير النّبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق حتى غربت الشمس، والآية ناسخة لها عند من يقول ذلك، كما أن الجمع بين الصّلاتين، وتأخير الصّلاة الأولى أسهل من الصّلاة حال شدّة الخوف.
الثالثة: جعل بعض الشّافعية الصّلاة ركبانًا ورجالًا من مستثنيات قاعدة: النادر إذا لم يَدُم يقتضي الفساد، وحال المسايفة لن تدوم، ومن ثَمَّ الأصل فيها الخوف أنّها مفاد اختلاف أركانها، على أنّ الشّافعي رحمه الله كان يقول: إذا تابع الطعن والضرب فسدت الصّلاة؛ لأنّها لا تكون حينئذ صلاة، وإنّما تكون محاربة.
قال ابن العربي: «يا حبذا الفرضان إذا اجتمعا»
(1)
.
الرابعة: قال بعض العلماء لا يجوز لمن ولى دبره أن يترخص برخص المقبلين بأرواحهم للدّفاع عن الدّين؛ فالرخص لا تناط بالمعاصي.
باب صلاة العيدين
قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]
استدل بها أبو حنيفة على وجوب صلاة العيدين.
ومأخذ الحكم: الأمر بقوله: {فَصَلِّ} وهو يقتضي الوجوب
وذهب الجمهور أن الأمر بالصّلاة مطلق، فيدخل فيه فيتناول المكتوبة والنافلة، وللعلماء أقوال أخرى.
(1)
أحكام القرآن (1/ 623).
ويؤيد ما ذهب إليه الحنفية الأمر بالنّحر بقوله {وَانْحَرْ} ولا يستقيم تفسير النحر في الآية بغير الذّبح؛ لأنّ وقوع الأمر بعد الأمر بالصّلاة دلالة على أن المراد به نحر الأضحية بعد صلاة العيد.
(1)
. والحديث في الصحيح، وتمامه (ومن نسك قبل الصّلاة فلا نسك له)
(2)
.
قال تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]
استدل جمهور أهل العلم على التّكبير في آخر رمضان.
قال القرطبي: «ومعناه الحض على التّكبير في آخر رمضان في قول جمهور أهل التأويل»
(3)
.
ومأخذ الحكم: هو أن الحض من الأساليب الشّرعيّة الدّالة على الطّلب.
وقد نقل القرطبي قولًا فيه احتمال أن تكون اللام لام الأمر، والتقدير: فعل الله ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا العدّة
(4)
.
إذًا مأخذ المشروعية عطف الأمر على الأمر؛ ولذا ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: (حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبِّروا)
(5)
.
(1)
تفسير ابن كثير (8/ 503) ت السلامة.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب العيدين، باب الأكل يوم النحر، برقم (912).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 306).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 305).
(5)
البحر المحيط لأبي حيان (2/ 203)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 306).
قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]
وقوله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]
استدل به من قال بمشروعية التّكبير يوم العيد.
قال ابن العربي: «والحقيقة فيه أن يوم النّحر معدود بالرمي معلوم بالذبح»
(1)
. فأدخل يوم العيد في الأيام المعدودات، والأيام المعلومات الواردة في الآية.
ومأخذ الحكم: هو الأمر في قوله {وَاذْكُرُوا} وهو دليل المشروعية، ولا خلاف بين العلماء في أن يوم النّحر، وهو يوم عيد الأضحى من الأيام المعلومات، وهو المراد بآية الحجّ، وكذا بعده يومان، أمّا الرّابع فليس فيه ذبح، فلا يدخل في الأيام المعلومات الواردة في الآية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام (أيام منى ثلاثة)
(2)
فكانت هي المعلومة.
فائدة: والخلاف في المراد بالأيام المعدودات، والأيام المعلومات مذكور في كتب التّفسير مع الاتفاق على أن الأيام المعدودات في آية البقرة هي: أيام منى، وهي أيام التّشريق.
واختلفوا في يوم النحر هل هو معدود؟
قال القرطبي: «
…
وليس يوم النّحر منها؛ لإجماع النّاس أنّه لا ينفر أحدٌ يوم
(1)
أحكام القرآن (1/ 199).
(2)
أخرجه أبو داود أول كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة، برقم (1949)، والترمذي في كتاب الحج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، برقم (889)، والنسائي في كتاب مناسك الحج، باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة، برقم (3044)، وابن ماجه كتاب المناسك، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، برقم (3015) قال الشيخ الألباني: صحيح.
النفر، وهو ثاني يوم النحر، ولو كان يوم النحر في المعدودات لساغ أن ينفر من شاء متعجلا يوم النفر؛ لأنه قد أخذ يومين من المعدودات»
(1)
.
والآية ذكرت {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ونقل عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قوله: (أن الأيام المعدودات والأيام المعلومات، يجمعها أربعة أيام: يوم النحر، وثلاثة أيام بعده؛ فيوم النحر معلوم غير معدود، واليومان بعده معلومان معدودان، واليوم الرابع معدود لا معلوم).
باب صلاة الاستسقاء
الاستسقاء في اللغة هو: استفعال من طلب السُّقيا.
وفي الشّرع: طلب سقيا العباد من الله تعالى عند حاجتهم إليها
قال القرطبي: «الاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس القطر»
(2)
.
قال تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} [البقرة: 60]
مشروعية الاستسقاء، وهذا مما لا خلاف فيه، وإنّما الخلاف في هل تسنُّ له صلاة أم لا؟ أو يكتفى بالدّعاء فقط، كما سيأتي.
ومأخذ المشروعية: كونه شريعة من قبلنا، وجاء في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ما يدلّ على ذلك، وقد وقع الجماع على ذلك كما سبق.
كما أنّه سبحانه وتعالى نصّ استسقاء موسى عليه السلام، ولم يتعقبها بشيء، مما يدلّ على موافقتها لشرعنا؛ إذ لو كان فيها شيء غير موافق لشرعنا لبيّنه سبحانه وتعالى، وهي من حجج
(1)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 1).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (1/ 418).
من قال: بأنّ شريعة من قبلنا شريعة لنا.
يقول ابن القيم: في قصة موسى عليه السلام عند استدلال الشّاهد بقرينة قدِّ القميص من دبرٍ على صدقه وكذب المرأة: «
…
وحكاه الله سبحانه وتعالى حكاية مقرر له غير منكر، والتأسي بذلك وأمثاله في إقرار الله له، وعدم إنكاره، لا في مجرد حكايته؛ فإنه إذا أخبر به مقرًا عليه، ومثنيًا على فاعله ومادحًا له، دلّ على رضاه به وأنّه موافق لحكمه ومرضاته، فليتدبر هذا الموضع، فإنه نافع جدا»
(1)
.
قال تعالى: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [هود: 52] ونحوه في [نوح: 10 - 11] وهو قوله سبحانه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 10 - 11].
استدل أبو حنيفة بالآيتين على عدم سنية صلاة الاستسقاء، بل المشروع فيها الدعاء، مستدلين بعدم ذكر الصّلاة، بل الأمر بالاستسقاء فقط، وأيدوا ذلك
-أيضًا- بالأحاديث التي جاء فيها استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم بدون ذكر الصّلاة، ومنها ما أخرجه البخاري في باب الاستسقاء وخروج النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:(خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي وحوَّل رداءه)
(2)
وكذا استسقاؤه وهو على المنبر.
وأمّا الجمهور فقد استدلوا بما ورد في الصّحيحين من صلاته صلى الله عليه وسلم ركعتين، وفيه:(خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فتوجه إلى القبلة يدعو وحوَّل رداءه، ثمّ صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة)
(3)
.
ولذا قال العلماء لا تشترط الصّلاة في الاستسقاء، فقد يكتفى بالدّعاء فقط.
(1)
زاد المعاد (3/ 135 - 136).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء وخروج النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، برقم (960).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء، باب الجهر بالقراءة في الاستسقاء، برقم (978).
مأخذ الحكم: إذا علم بأنّ الدعاء استسقاء، فيكون مأخذ المشروعية الأمر بقوله {اسْتَغْفِرُوا} كما أن جعل الفعل -وهو الدّعاء والاستسقاء- سببًا في حصول مطلوب المكلف ومرغوبه، وهو -نزول الغيث- هذا الأسلوب من الأساليب الشّرعيّة الدّالة على المشروعية والدائرة بين الوجوب والنّدب.
قال العزّ بن عبد السّلام: «
…
أو وعد عليه بخير عاجل، أو أجل فهو مأمور به، لكنه مردد بين النّدب والايجاب»
(1)
.
فالواجب والمندوب هما اللذان يثاب عليهما المكلف، وقد جعل سبحانه وتعالى إرسال الماء سببًا من أسباب الاستغفار. وقد جُزِم الفعل (يرسلْ) في الآيتين؛ لكونه جواباً للأمر.
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
استدل بالآية على مشروعية الاستسقاء، وأن الإيمان والتقوى وأعمال الخير، سبب لنزول المطر، وأن المعاصي سبب للقحط.
ومأخذ الحكم: الجملة الشّرطية في الآية، وثبوت المشروط عند ثبوت الشّرط.
قال الهرري: «{وَلَوْ} الواو: استئنافية، (لو) حرف شرط
…
{لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ} اللام: رابطة لجواب (لو)»
(2)
.
قال القرطبي: «وهذا في أقوام على الخصوص جرى ذكرهم؛ إذ قد يمتحن المؤمنون بضيق العيش ويكون تكفيرًا لذنوبهم. ألا ترى أنه أخبر عن نوح إذ قال لقومه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 10 - 11] وعن
(1)
الإمام في بيان أدلة الأحكام (275).
(2)
حدائق الروح والريحان (10/ 34).
هود {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [هود: 52]. فوعدهم المطر والخصب على التّخصيص. يدلّ عليه {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي كذبوا الرسل. والمؤمنون صدقوا ولم يكذبوا»
(1)
.
قال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16]
قال القرطبي: «{مَاءً غَدَقًا} أي: واسعًا كثيرًا، وكانوا قد حبس عنهم المطر سبع سنين»
(2)
.
وقد استدل بالآية على مشروعية الاستسقاء، وأن الاستقامة على الطّريقة - طريق الحق والإيمان والهدى - سببٌ من أسباب نزول المطر.
ومأخذ الحكم: ما سبق في الآية السّابقة من ثبوت المشروط عند ثبوت شرطه.
وأداة الشّرط (لو) وجوابه (أسقيناهم).
فائدة: قيل: إنّ قوله: {لَأَسْقَيْنَاهُمْ} المراد به «لَوَسَّعْنَا عليهم الدّنيا، وضرب الماء الغدق الكثير لذلك مثلًا؛ لأنّ الخير والرزق كله بالمطر يكون، فأقيم مقامه» . قاله القرطبي
(3)
.
ونقل قبل ذلك عن عمر بن الخطاب قوله في هذه الآية: (أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة)
(4)
. اه.
وقد قال سبحانه وتعالى في الآية التي تليها {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي: لنختبرهم كيف شكرهم فيه على تلك النعم.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (7/ 253).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (19/ 18).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (19/ 18).
(4)
تفسير الطبري (23/ 663)، الجامع لأحكام القرآن (19/ 81).
باب اللباس
اللباس - بكسر اللام - ما يُلبس، وجمعه لُبُس، ككتاب، وكُتُب. ولباس كل شيء: غشاؤه.
قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]
استدل بالآية على مشروعية ستر العورة، والتّزين باللباس، والتّجمل به.
مأخذ الحكم: ورد لفظ {لِبَاسًا} منكرًا في سياق الامتنان، والامتنان دليل المشروعية، فلا يمتن سبحانه وتعالى على عباده إلا بما هو مشروع مباح لهم.
كما أن النكرة في سياق الامتنان تعمّ، فتعمّ كل ما يقصد به اللباس من منافع، وقد ذكرت الآية مقصدين وهما: ستر العورة، والتزين، وذكر في أية النّحل الوقاية من الحر.
كما قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، والمراد بالسرابيل هنا: القُمص، واحدها سرابيل.
(1)
.
تنبيه: ذكر سبحانه وتعالى في الآية نوعين من أنواع اللباس، اللباس الحسيّ، وهو: الثياب، واللباس المعنويّ وهو: التقوى.
(1)
التفسير الكبير (14/ 221 - 222).
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59]
استُدل بالآية على جواز كشف الأمة رأسها في الصّلاة، حيث أمر سبحانه وتعالى الحرائر بأن {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} وعلل ذلك بقوله سبحانه:{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} أي: لأجل أن يُعرف أنهن حرائر، ولسن إماء، فلا يتعرض لهن الفساق بالأذى.
ومأخذ الحكم: مفهوم ما سبق، ومفهومه أن الإماء لهن إلقاء الجلابيب وكشف شعورهن ووجوههن مطلقًا، أي: داخل الصّلاة وخارجها.
ونوقش: بأن هذا المفهوم يصحّ لو صح تخصيص قوله {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} بالحرائر، وتخصيصها بالحرائر ليس له دليل. والأصل دخول الإماء في الخطاب الموجه للحرائر.
ثمّ إنّ التعليل المذكور {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} يشمل الحرائر والإماء.
قال أبو حيان في تفسيره: «والظاهر أن قوله {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} يشمل الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر؛ لكثرة تصرُّفهن، بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح»
(1)
.
وقد حمل العلماء قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} أي: أن يعرفن بأنّهن من العفائف المحصنات الطيبات، ويتميزن عن سمات الجاهلية، فلا يتعرض لهن الفساق بالأذى.
ثمّ إنّه يلزم من المفهوم السابق، بحمل الآية على الحرائر دون الإماء، يلزم منه
(1)
البحر المحيط (8/ 504).
جواز إطلاق الفساق على إماء المسلمين، وتعرضهم لهن بالأذى، ولا خلاف بين العلماء أن تحريم الزّنا بالأمة كتحريمه بالحرّة، وأنّ الحدّ على الزّاني بالأمة كالحدّ على الزّاني بالحرّة، وأن تعرض الأمة بالأذى محرم كتعرض الحرّة بالأذى.
قوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]
استدل بالآية على جواز استعمال ما يرد إلينا من بلاد الكفار من الثياب والمفارش والأغطية والبسط وغيرها، مما يصنع من الصّوف أو الشّعر أو الريّش
(1)
.
مأخذ الحكم: أن السياق سياق امتنان، ولا يمتن سبحانه وتعالى إلّا بما هو طاهر وجائز الانتفاع به، كما أن سياق الامتنان يقتضي التّعميم، فيعم شعر المذكاة والميتة إلا ما منعه الدليل
(2)
.
والقول بأن الشعر والصوف والريش من الميتة طاهر إذا جُزَّ، هو قول الحنفية والمالكية والحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
(3)
؛ لكون الأصل طهارتها قبل الموت بإجماع، فيستصحب هذا الأصل، ومن زعم أنه انتقلت إليها النجاسة فعليه الدليل
(4)
.
وعلى هذا الأصل، وكون الأصل في الأشياء الإباحة يمكن استصحاب ما يرد إلينا من بلاد الكفر من الثياب والمفارش والأغطية والبسط وغيرها.
(1)
ينظر: شرح عمدة الفقه د. عبد الله بن عبد العزيز الجبرين (441)، إتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (16).
(2)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/ 155).
(3)
ينظر: البحر الرائق (1/ 115)، ومواهب الجليل (1/ 126)، والشرح الكبير (1/ 74)، والشرح الممتع (1/ 93).
(4)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/ 155).
قال تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: مشروعية أخذ الزّينة في الصّلاة، سواء كان في المسجد أو في بيته، وهذا مبني على أنّ الزينة بقوله {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي: عند كل موضع سجود، فالمراد إذًا عند كل صلاة؛ إذ الصلاة هي المقصود الأعظم من حضور المسجد، وقد ورد في الحديث:(إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإنّ الله أحق من تُزين له)
(1)
.
مأخذ الحكم: الأمر الوارد بقوله {خُذُوا} والأمر بأخذ الزّينة يتناول الأمر بستر العورة، وستر ما جرت العادة بستره من البدن.
تنبيه: اختلف العلماء في الزّينة المقصودة بالآية. فقيل: المراد بها ستر العورة، وحمل الأمر على الوجوب، وهذا ما سبق ذكره في شروط الصلاة.
وقيل: إنّ المراد بها الزّينة الظاهرة، من الرّداء والإزار، وما زاد على ستر العورة من اللباس، وحملوا الأمر في الآية على الوجوب، وبعضهم على النّدب، كما سيأتي.
تنبيه آخر: سبب قصر بعض العلماء الزّينة في الآية على ستر العورة؛ لأجل سبب النزول، وما كان من عادة العرب في الجاهلية من التّعري في الطّواف، كما أن الأصل في الأمر حمله على الوجوب، والواجب هو ستر العورة فقط.
وغيرهم: أخذ بعموم اللفظ، فالزّينة تشمل كذلك الملبس الحسن، ويجوز عند العلماء حمل الأمر الواحد على الوجوب والندب معًا، كقوله {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77]، والخير منه الواجب ومنه المندوب.
(1)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 221)، والطبراني في المعجم الأوسط (1/ 28/ 1)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 236)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 356 - 357) برقم (1369).
وهذا الأمر أريد به الواجب في الواجبات، والمستحب في المستحبات، فالأمر عامّ في كل ما يتناوله لقيام المقتضى للعموم - قاله ابن تيمية
(1)
.
• الحكم الثاني: على القول بأن لفظ الزينة في الآية يشمل ما زاد على ستر العورة في الصلاة - من الثياب الساترة، أو ما يتجمل به - فقد وقع الخلاف في حكم هذه الزينة.
فذهب قوم إلى وجوب أخذها، أي الثياب الساترة، أو ما يتجمل به، حتى أوجبوا على المرأة أن تصلي بالقلادة والقرطين.
ومأخذ القائلين بالوجوب: ظاهر الأمر في قوله {خُذُوا زِينَتَكُمْ} مع تفسير الصحابة للزينة بما يشمل ستر العورة وغيرها.
وذهب جمهور أهل العلم إلى كون ما زاد على ستر العورة مندوباً وليس بواجب.
ومأخذ الحكم: كون الأمر مصروفاً من الوجوب إلى الندب، والصارف في ذلك كونه من باب الحمل على الآداب ومكارم الأخلاق، وقد سبق.
• الحكم الثالث: ذهب جمهور أهل العلم إلى القول بأن أخذ الزينة الوارد في الآية مشروع، وجوباً أو ندباً للصلاة - على الخلاف السابق - سواء كان في مسجد أو غير مسجد.
ومأخذ الحكم: هو أن المراد بقوله {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي عند كل صلاة، فالأمر بأخذها للمسجد هو لأجل ما يقام فيه، ومنها الصلاة، وإذا وجبت الزينة للصلاة في المسجد وجبت لكل صلاة.
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (15/ 266)، (16/ 7).
قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]
استدل بها على وجوب تطهير الثياب، وسبق ذكر الخلاف في المقصود بالثياب، وكون طهارة الثياب الحسيّة من شروط الصّلاة في باب شروط الصّلاة.
ومأخذ الحكم: الأمر الوارد بقوله {فَطَهِّرْ} والأصل حمله على الوجوب.
كتاب الجنائز
قال تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80].
وقوله: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84].
والآيتان مرتبطتان ببعضهما حكمًا؛ لذا أحال القرطبي أحكام الأولى إلى الآية الثانية.
وقد ثبت في الصّحيحين (أنّه لما توفي عبد الله بن أبيّ بن سلول جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله تصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّما خيرني الله تعالى فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} ، وسأزيده على السبعين.
قال: إنه منافق، قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فترك الصلاة عليهم
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ، برقم (4393)، ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب، برقم (2774).
وقد استنبط العلماء من الآيتين أحكامًا:
• الحكم الأول: عدم جواز الصّلاة على الكافر.
مأخذ الحكم: النهي بقوله {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} والنهي يقتضي التّحريم، وفساد العبادة، وعدم جواز الصلاة عليهم حكم مجمع عليه.
تنبيه: يؤخذ من مفهوم النهي عن الصلاة على الكافر، جواز الصّلاة على المؤمن فتكون مشروعية صلاة الجنازة ثابتة بالقرآن، وذلك عند من يقول بحجية مفهوم المخالفة.
ولا خلاف بين العلماء في مشروعية الصّلاة على المؤمن، وهي ثابتة بالسّنة والإجماع.
• الحكم الثاني: أن صلاة الجنائز صلاة شرعية كسائر الصلوات؛ وهو مذهب الشافعية والحنابلة، بخلاف من قال: إنّها ليست صلاة شرعية، وإنّما هي الدعاء؛ وهو مذهب الحنفية والمالكية.
ومأخذ القائلين بأنّها صلاة شرعيّة: هو ورود المصطلح (صلاة) في سياق النهي، وما كان كذلك، فإنّه ينصرف إلى العبادة الشّرعية، بخلاف ورودها في سياق الإثبات، فيحتمل إرادة المعنى اللغوي وهو: الدعاء والاستغفار.
فصلاة الجنازة داخلة في عموم الصّلاة الشّرعية، فتكون كذلك.
ويترتب على هذا الخلاف مسائل: منها: اشتراط قراءة الفاتحة فيها.
قال ابن قدامة: «ثم هو داخل في عموم قوله عليه السلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأمّ القرآن)
(1)
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم، وقد سبق.
(2)
المغني (2/ 362).
ويترتب على الخلاف كذلك مشروعية التّسليم لها، سواء تسليمتان أو واحدة، وكذلك النهي عن صلاتها في أوقات النّهي، وأنّ المسبوق يُكبِّر حين يحضر ويكون مدركًا للتكبيرة التي أدركها الإمام عليها، ويصلي عليها في المسجد، وهل يشترط لها الطهارة الحقيقية والحكمية، واستقبال القبلة وستر العورة أو لا، كل ذلك قياسًا على سائر الصلوات.
كتاب الزكاة
قال تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: وجوب الزكاة، وكونها ركناً من أركان الإسلام، ومن الأمور المعلومة من الدّين بالضرورة.
مأخذ الحكم: الأمر الوارد بقوله {وَآتُوا} وهو يقتضي الوجوب اتفاقًا.
تنبيه: الإيتاء: الإعطاء. أتيته: أعطيته، قال تعالى:{لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75].
• الحكم الثاني: الأمر بالآية يعم جميع أنواع الزكوات من مال، ومن ذهب وفضة وعروض تجارة، وبهيمة أنعام سائمة، وزروع على تفصيل وشروط بينتها السنة، وعلى هذا فالزكاة في كتاب الله مجملة بينها النّبي صلى الله عليه وسلم.
ومأخذ الحكم: صيغة العموم، وهي التّعريف بأل غير العهدية في قوله:{الزَّكَاةَ} .
ويدخل في العموم أيضًا: صدقة الفطر، وقد حمل الإمام مالك الآية عليها.
والجمهور على أن المراد بها الزكاة لمقارنتها بالصّلاة قاله القرطبي
(1)
.
• الحكم الثالث: استدل بعض الحنفية بالآية على عدم وجوب الزكاة في مال الصّبي.
(1)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (1/ 343).
ومأخذ الحكم: دلالة الاقتران، حيث قرن المولى هنا بين الصّلاة والزّكاة، والصّلاة لا تجب على الصّبي فكذا الزّكاة.
وهذا القول مبني على القران بين الجملتين لفظًا يقتضي التّسويّة في غير المذكور حكمًا؛ لأنّ العطف يقتضي الشّركة.
والجمهور على أنّه لا يقتضي التّسويّة في غير المذكور حكمًا؛ كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ} [الأنعام: 141]، فعطف واجبًا على مباح.
تنبيه: الذّي في كتب الحنفية تخصيص ذلك بالجمل النّاقصة نحو قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فهما كجملة واحدة، والإشهاد في المفارقة غير واجبة، وكذا الإمساك والمفارقة بمعروف، بخلاف قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فإنّ كلًا من الجملتين مستقلة بنفسها، فلا يقتضي ثبوت الحكم في إحداهما ثبوته في الأخرى.
تنبيه: قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} مجمل من جهة مقدار المخرج، وقد بينه النّبي صلى الله عليه وسلم بقوله (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)
(1)
، وبقوله (ليس في أقل من خمس أواق صدقة)
(2)
، وبقوله (في كل أربعين شاة شاة)
(3)
، فبينت السنة أنصبة الزكاة، وسيأتي ذكر بعضها.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب زكاة الورق، برقم (1378)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب، برقم (979).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/ 59)، برقم (11588) بتعليق شعيب الأرنؤوط وقال: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(3)
أخرجه الترمذي في أبواب الزكاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب والغنم زكاة الإبل، برقم (621)، وأبو داود في كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، برقم (1568)، وصححه الألباني في الجامع الصغير (4261).
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267]
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: الانفاق منه ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب، وقد اختلف العلماء في المراد بالإنفاق الوارد في الآية.
فقيل: هو الزّكاة المفروضة. وقيل: صدقة التطوع. وقيل: لهما جميعًا.
ومأخذ الخلاف: يرجع في دلالة صيغة الأمر {أَنْفِقُوا} فمن قال بأنّها على أصلها وظاهرها، فقال بوجوب الإنفاق، والواجب هو الزّكاة المفروضة، وتحمل الآية عليها.
وأيدوا قولهم بالنّهي الوارد في سياق الآية عن الإنفاق من الرّديء -كما سيأتي- والنّهي خاص بالواجب، فنهى سبحانه وتعالى عن إنفاق الرّديء فيها بدل الجيد.
أمّا التّطوع فللمرء أن يتطوع بالنازل في القدر.
أمّا القائل بأنّ الأمر للنّدب، فصرفه عن الوجوب بسبب نزول الآية، -كما سيأتي-.
قال القرطبي: «والرّديء منهي في النفل كما هو منهي عنه في الفرض، والله أحق من اخْتِيرَ له»
(1)
.
ومأخذ القائل بأنّ الإنفاق للفرض والتّطوع: عموم اللفظ في قوله: {مَا كَسَبْتُمْ} و {مَا} اسم موصول دالّ على العموم، والعبرة به لا بسبب النّزول.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 321).
وما كسب العبد منه ما يجب فيه الزّكاة، ومنه ما لا يجب فيه الزكاة، وما لا يجب فيه الزّكاة، يستحب الإنفاق من الطيب منه.
• الحكم الثاني: إيجاب الزّكاة في عروض الكسب.
مأخذ الحكم: الأمر الوارد بقوله: {أَنْفِقُوا} وظاهره للوجوب.
• الحكم الثالث: وجوب الزكاة، مما أخرجت الأرض من غير المقتات وغيره، أي: من النّبات والمعادن والرّكاز.
مأخذ الحكم: العطف الوارد في قوله: {وَمِمَّا} وهي معطوفة على الأمر في قوله: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} والعموم في صيغة (ما) الموصولة.
• الحكم الرابع: أنّ الزّكاة تجب في الخارج القليل من الأرض والكثير، وفي سائر الأصناف.
مأخذ الحكم: ما سبق من العموم الوارد بصيغة (ما) الموصولة، ثم إنّ السّنة بيَّنت مقدار الزّكاة في الخارج، كما سيأتي في آية الأنعام.
• الحكم الخامس: وجوب الإنفاق من الطّيب، وحرمة الإنفاق من الخبيث.
وفُسِّر الطّيب بالجيد، والخبيث بالرّديء، وعليه الجمهور ويدلّ عليه سبب نزول الآية.
قال البراء بن عازب رضي الله عنه: (نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل، فكان الرّجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الرّجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصّفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط من البسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير، يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف وبالقنو قد انكسر فيعلقه، فأنزل الله تبارك وتعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} قالوا: لو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطى، لم يأخذه إلا على إغماض أو حياء. قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده)
(1)
.
مأخذ الحكم: أمّا وجوب الإنفاق من الطّيب فللأمر في قوله: {أَنْفِقُوا} مع مفهوم الصفة في قوله: {مِنْ طَيِّبَاتِ} وهو أنّه لا يجوز الإنفاق من غير الطّيب، وهو الرّديء على ما سبق تفسيره.
وأمّا حرمة إنفاق الخبيث، فللنهي الوارد بقوله {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} .
ومفهومه: أن المال إن كان جميعه رديئًا جاز الإنفاق منه؛ لعدم حصول التيمم في ذلك، أمّا إن كان بعضه جيدًا وبعضه رديئًا، فلا يجوز القصد للخبيث.
هذا إذا حُمِل النهي على أصله وهو التّحريم، وقيل: هو للكراهة؛ لأنّ الخبيث فيه الرديء لا الحرام.
وقيل: إنّ السياق يدلّ عليه؛ لأنّه سبحانه وتعالى حثهم على إنفاق أطيب أموالهم، لا أنه يحرم عليهم إنفاق الخبيث من التّمر أو الشّعير من القوت، وإن كانوا يقتاتون ما فوقه، وهذا إنما نزل في الأقناء التي كانت تعلق في المسجد فكانوا يعلقون، الحشف. قال الصيرفي: بعد أن ذكر ما سبق: فالمراد بالخبيث هنا الأردأ.
قلت: ولا يستبعد أن يكون الصارف هنا من التّحريم للكراهة؛ كونه من الآداب ومكارم الأخلاق.
(1)
أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ومن سورة البقرة، برقم (2987) قال الشيخ الألباني: صحيح.
(1)
.
• الحكم السادس: أنّ الزكاة على صاحب الزّرع، لا على ربّ الأرض.
مأخذ الحكم: قال السيوطي في الإكليل: «وفيه أن من زرع في أرض اكتراها، فالزكاة عليه لا على رب الأرض لأنّ قوله {أَخْرَجْنَا لَكُمْ} يقتضي كونه على الزّارع»
(2)
. ا. هـ.
قلت: وهذا - والعلم عند الله - مبني على كون اللام للملك أو الاختصاص.
وذهب جمع من المفسرين إلى: أنّ اللام هنا للتّعليل، وهي متعلق ب {أَخْرَجْنَا} ، أي: من أجل ما أخرجنا من الأرض.
استدل بالآية على وجوب زكاة أنواع التجارات؛ لأنّ التجارة نوع من الكسب. وقد روي من عدة طرق عن مجاهد في تفسير قوله: {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} ، أنه قال: من التجارة
(3)
.
وقال الرازي: «ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل ما يكتسبه الإنسان، فيدخل فيه زكاة التجارة، وزكاة الذهب
…
»
(4)
.
(1)
تيسير البيان (2/ 145).
(2)
الإكليل (1/ 444).
(3)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 556).
(4)
التفسير الكبير (7/ 52).
وعليه فيستدل على وجوب الزكاة في كثير من أنواع التجارات العصرية، كربح المحطات، والنفط الخارج بواسطة عقد الامتياز .... إلخ.
مأخذ الحكم: عموم الكسب الطيب، أو عموم الطيبات المكتسبة، والتي دلّت عليها صيغة العموم، وهي الإضافة في قوله:{طَيِّبَاتِ} بما بعدها، أو عموم (ما) الموصولة في قوله:{مَا كَسَبْتُمْ} ، وكل ما سبق مأمورون أن ننفق منه بالأمر في قوله:{أَنْفِقُوا} وهو يقتضي الوجوب.
قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]
دلّت الآية على تحريم البخل بمنع الزّكاة.
قال القرطبي: «والسّين في {سَيُطَوَّقُونَ} سين الوعيد، أي سوف يطوَّقون، قاله المبرد. وهذه الآية نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله، وأداء الزكاة المفروضة. وهذه كقوله:{وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية. ذهب إلى هذا جماعة من المتأولين، منهم ابن مسعود وابن عباس
…
»
(1)
.
ومأخذ الحكم: يؤخذ من كلام القرطبي السّابق بالتّفصيل الآتي:
الأوّل: أن الوعيد بسبب الفعل يقتضي التّحريم، بل جعلها كثير من العلماء من علامات الكبيرة، إذا لم يقرن به ما يصرفه عن التّحريم.
الثّاني: تفسير الصّحابي حجة، فقد جعل الوعيد بسبب الفعل، كالنّهي الوارد فيه، جماعة من الصحابة منهم: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (4/ 291).
قلت: ومأخذ ثالث: وهو أن وصف الفعل بأنّه شرّ لهم، من الأساليب الشّرعية الدّالة على التّحريم؛ وذلك لأنّه وصف لازمٌ، والذّم لا يكون إلا بسبب فعل المحرّم.
قال الله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]
قبل البدء في بيان مأخذ أحكام الآية، يحسن الوقوف على هذه المقدمة؛ لأجل تعلق الأحكام بها فأقول:
اختلف النّاس اختلافًا كثيرًا في هذه الآية، وسبب اختلافهم هو: اتفاقهم أن سورة الأنعام نزلت بمكة، وأنّ الزّكاة فرضت بالمدينة وأنّه لا حق في المال غير الزّكاة.
ولذا ذهب قوم إلى كون الآية منسوخة بالزكاة، وهو مذهب ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهم.
وقيل: بل هي محكمة، وهؤلاء اختلفوا:
فقيل: ليس المراد بالحق في الآية {وَآتُوا حَقَّهُ} الزكاة، بل المراد: ترك شيء للمساكين غير الزّكاة، أي: حق في المال سوى الزكاة، أمر الله به ندبًا.
قلت: وهذا يُشكل عليه القول بأنّه ليس هناك حق في المال سوى الزّكاة.
وقيل: بل المراد بالحق في الآية الزكاة، وهؤلاء منهم من ذهب أن ما وجب في مكة هو اعتقاد وجوبها، ووقت العمل بها على بيان الجنس والقدر والوقت.
ومنهم من ذهب إلى أن الآية بخصوصها مدنية، وإن كانت السورة مكية، وهو قول الزّجاج.
وهناك مناقشات، وردود حول هذه الأقوال، مبسوطة في كتب التفسير.
هذا وقد استنبط العلماء من الآيات أحكامًا متعلقة بالزّكاة:
• الحكم الأول: أن الزكاة تجب في كل زرع وثمر، وخصوصًا الزيتون والرّمان المنصوص عليها في الآية، واستثنت الحنفية: الحشيش والحطب والقصب.
وذهب جمهور أهل العلم إلى عدم الزّكاة في كل ثمر، ولا زكاة في الزّيتون والرّمان.
ولهم فيما تجب الزكاة من الخارج من الأرض من الزّرع ضوابط منها: أن يكون مقتاتاً مدّخراً، أمّا الزيتون فليس كذلك؛ لأنّه إدام.
ومأخذ الحكم: أمّا القائلون بوجوب الزكاة في كل ثمر وخصوصًا الزيتون والرمان، فقالوا: إنّ الضّمير في قوله {حَقَّهُ} يعود عليهما؛ لأنّ المذكور عقيب جملة ينصرف إلى الأخير بغير خلاف.
أمّا القائلون بعدم دخولهما، فمأخذهم من الآية: أن الحصاد يطلق على الحبوب حقيقة، ويدخل في حصاده الجذاذ في النّخل، أمّا الزّيتون والرّمان الواردان في الآية فلا يطلق عليهما الحصاد حقيقة، والأصل حمل الكلام على الحقيقة، فيكونان غير مرادين بالإيتاء.
تنبيه: قال الموزعي: «فإن قالوا: أصل الحصاد ذهاب الشّيء عن موضعه الذي هو فيه، بدليل قوله:{مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود: 100]، وقوله:{فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس: 24]، وقوله:{حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 15]، وذلك غير مختص بالزرع.
قلنا: عرف اللسان قاض باختصاص الزرع به، ولهذا يقال: حصادُ الزرع، وجُدادُ النخل -بالدَّال المهملة-، وجذاذ البقل -بالمعجمة- فتخصيصه بالزرع حقيقة عرفيّة، وتعميمه حقيقة لغوية، والعرفية أولى من اللغوية
…
»
(1)
.
• الحكم الثاني: استدل بالآية من قال: إنّ الزّكاة لا يجب أداؤها قبل الحصاد.
مأخذ الحكم: مفهوم ظرف الزّمان في قوله: {يَوْمَ حَصَادِهِ} فدلّ على أن الإيتاء المأمور لا يجب قبله.
وذهب الجمهور إلى أن وجوب التّعلق هو عند بدو الصّلاح؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرص النخل حين يبدو صلاحها، ويضمِّنها أربابها؛ ولأنّه وقت اقتياته الذي منّ الله به علينا، فهو واجب موسّع كالصلاة، والإيتاء يوم الحصاد بيان لما قد وجب يوم الحصاد.
فائدة: قال السيوطي في الإكليل: «واستدل بالآية على أن الاقتران لا يفيد التّسوية في الأحكام لأنّ الله تعالى قال: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فقرن - الأكل وليس بواجب اتفاقاً - بالإتيان وهو واجب اتفاقًا»
(2)
.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35]
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: وجوب الزكاة في الذهب والفضة، وتفصيل مقدار ذلك بينته
(1)
تيسير البيان (3/ 241).
(2)
الإكليل (2/ 719).
السّنة، ومبسوط في كتب التّفسير والفقه.
مأخذ الحكم: التوعد بالعذاب على التّرك، وهذا من خاصة الواجب؛ إذ لا يعاقب على ترك شيء إلا إذا كان واجبًا.
تنبيه: الآية محكمة، وأمّا القائلون بالنّسخ فباعتقاد عموم الإنفاق في جميعهما، والصّواب أن الواجب الإنفاق منها، ولم يرد إنفاق جميعها.
(1)
. اه.
• الحكم الثاني: استدل قوم بالآية على وجوب زكاة الحلي.
ومأخذ الحكم: العموم الوارد في الآية، فيشمل عموم الذهب وعموم الفضة، وأيدّوا قولهم بما رُوي (أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنتها، وفي يدها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال صلى الله عليه وسلم: «أتؤدين زكاة هذا؟» قالت: لا، قال عليه الصلاة والسلام: «أيسرك أن يسورك الله عز وجل بسوارين من نار؟»، فخلعتهما فألقتهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: هما لله ولرسوله)
(2)
.
ومنع الشّافعي رحمه الله التمسك بعموم الآية في وجوب زكاة الحلي.
ومأخذه: أن العامّ إذا تضمن مدحًا أو ذمًا فلا يتمسك بعمومه، وقال بأنّ القصد إيجاب الذّم بالكنز دون العموم، أي: إنّ العموم لم يقع مقصودًا في الكل بل للذّم فقط. واللفظ إذا سبق لمعنى فلا يستدل به في غير ذلك المعنى؛ لأنّ المتكلم
(1)
الجام لأحكام القرآن (8/ 128).
(2)
أخرجه النسائي في كتاب الزكاة، باب زكاة الحلي، برقم (2479) قال الشيخ الألباني: حسن.
لم يتوجه عليه.
وقالوا: القصد: المبالغة في الحث والزّجر.
والأكثرون على جواز التّمسك بالعموم فيما سبق للمدح أو الذّم؛ إذ لا منافاة فيحمل الذهب والفضة على العموم؛ إذ لا صارف عنه، ولا تنافي بين العموم والذّم. وإذا كان القصد المبالغة في الحث والزّجر فالعموم أبلغ في ذلك.
قال أبو الحسين: «اعلم أن بعض الشافعية يمنع من عموم قول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} وأحالوا التّعلق به في ثبوت الزكاة في الحلي.
قالوا: لأنّ المقصد بذلك إلحاق الذم بمن يكنز الذهب والفضة، وليس القصد به العموم. والجواب: أن الذم إنما كان مقصودا بالآية؛ لأنه مذكور فيها، وهذه العلة قائمة في العموم؛ لأن اللفظ عامّ فوجب كونه مقصودا، وليس يمنع القصد إلى ذم من كنز الذهب والفضة من القصد إلى عموم ذم كل من كنزهما
…
»
(1)
.
استدل بالآية من قال بوجوب الزكاة في الأوراق النّقديّة
(2)
.
مأخذ الحكم: استنباط كون العلّة فيما يزكى (النّقديّة) أي: كونها نقودًا، والأوراق تكون نقودًا فتجب فيها الزكاة.
(1)
المعتمد لأبي الحسين (1/ 279).
(2)
وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، وصدر قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي. ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة المجموعة الأولى (13/ 444)، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، ع 3، ج 3، ص (1950)، (1893)، ومجلة البحوث الإسلامية (31/ 376) ومجموع فتاوى ابن عثيمين (18/ 173)، والشرح الممتع على زاد المستقنع (6/ 93)، ومجموع فتاوى ابن باز (14/ 333، 79)، والفقه الميسر (9/ 81)، وفقه النوازل للشيقح (163)، شرح عمدة الفقه للجبرين (1/ 509)، وإتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (66).
ووجه استنباط العلّة من الآية: هو أن قوله: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا} إيماء إلى أنّ المراد بالذهب والفضة في الآية نقودهما؛ لأنها المعدّة للإنفاق، والآلة المباشرة له، والضّمير عائد عليهما باعتبارهما دراهم ودنانير، أي: باعتبارهما نقودًا؛ ولهذه الخاصيّة نصّ عليها في الآية لا لنفاستهما في نفسيهما
(1)
؛ لأنّه وجدت معادن لا تقل غلاء ونفاسة عن الذهب والفضة، بل قد تزيد كالألماس، واليورانيم، ولا زكاة فيهما؛ لأنّها ليست نقودًا
(2)
.
ثمّ إنّ كون الزّكاة واجبة دلّ عليه قوله: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ولا عقاب إلا على ترك واجب، فدلّ على أن الانفاق واجب.
قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: وجوب الزكاة.
ومأخذ الحكم: إذا فُسرت الزكاة هنا بزكاة الفرض، وبه قال عكرمة.
وقيل: المراد بالصّدقة: الطّهارة من الذّنوب؛ وبه قال الحسن رحمه الله.
(1)
ينظر: الفتاوى السعدية، ص 314، مختصر فقه الزكاة، ص 92، توضيح الرؤية القاصرة، ص 73.
(2)
وسبب اختلافهم راجع إلى اختلافهم في حقيقة الأوراق النقدية فمن رأى أنها أسناد بدين على جهة إصدارها لم يوجب الزكاة قبل قبض هذه الأسناد أو بعبارة أدق جعلها في حكم زكاة الدين، ومن قال بأنها عرض من العروض لها ما للعروض من الخصائص والأحكام لم يوجب الزكاة فيها إلا إذا أعدت للتجارة، ومثله من ألحقها بالفلوس مع ملاحظة أصل الفلوس وهو العرضية وأما من لحظ عامل ما انتقلت إليه وهو الثمنية فإنه أوجب الزكاة فيها، ومن نظر إلى أن هذه الأوراق بدل لما استعيض بها عنه وهما النقدان أو أنها نقد قائم بنفسه كالذهب والفضة فإنه أوجب الزكاة فيها. انظر: أبحاث هيئة كبار العلماء 1/ 35.
ومأخذه: سبب نزول الآية، وهو قطعي الدّخول، وقد ورد في سبب نزول الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله:(لما تخلف عشرة من المسلمين بلا نفاق، منهم أبو لبابة، ومرداس، وأبو قيس، واعتذروا، فلم يُعذورا حتى أوثقوا أنفسهم بسواري المسجد باكين متضرعين، وحلف أبو لبابة لا يُحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزل قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] فلما نزلت الآية، أطلقهم، فقالوا: هذه أموالنا التي خلفتنا، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، فنزلت: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] فأخذ الثلث)
(1)
.
وذهب الجمهور إلى عموم الصدقتين؛ لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب، ويدلّ على العموم قوله:{تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] فقوله: {تُطَهِّرُهُمْ} إشارة إلى الصدقة المطهِّرة من الذنوب، وقوله:{وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} إشارة إلى الصدقة الواجبة المزكيّة.
تنبيه: الدعاء للفاعل المدلول عليه بقوله {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} من الأساليب الشّرعيّة التي يستند إليها إلى إثبات مشروعية الأحكام - والصدقة هنا - دائرة بين الوجوب والنّدب. فتحتاج الفرضية إلى دليل آخر يعتمد عليه.
• الحكم الثاني: استدل بالآية من قال: بأنّ الزّكاة يجب أن تدفع إلى الإمام؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} ؛ ولذا لو فرّق المالك زكاته دون الإمام ضمن، وهو مذهب الإمام مالك.
وذهب الشّافعي في الجديد إلى أن ربّ المال مخيّر بين أن يفرقها بنفسه، أو يدفعها إلى الإمام فيفرقها.
(1)
رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (10303)، وانظر: موسوعة التفسير المأثور (10/ 609) وما بعدها.
ومأخذ الحكم: أن قوله {خُذْ} خطاب للنّبي صلى الله عليه وسلم، ويقتضي بظاهره اقتصاره عليه، فلا يأخذ الصّدقة سواه، وينزل الحاكم منزلته في ذلك.
وقيل: لا يأخذها إلا النّبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينزل أحد منزلته، وتسقط بموته صلى الله عليه وسلم.
ومأخذهم: أن الخطاب موّجه له، واستدلوا كذلك بسياق الآية في قوله {إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} .
وقالوا: لم تكن الزكاة إلّا مع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت سكنًا لنا، وصلاة غيره ليست كذلك، وبهذا استدل مانعوا الزّكاة على أبي بكر الصّديق رضي الله عنه.
قال ابن العربي في رده على من قال بأنّ الخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم: «أمّا قولهم: إنّ هذا خطاب للنّبي صلى الله عليه وسلم فلا يلتحق غيره فيه به، فهذا كلام جاهل بالقرآن غافل عن مأخذ الشريعة، متلاعب بالدّين، متهافت في النظر؛ فإنّ الخطاب في القرآن لم يرد بابا واحدا، ولكن اختلفت موارده على وجوه، منها في غرضنا هذه ثلاثة:
الأول: خطاب توجه إلى جميع الأمة، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] وكقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] ونحوه.
الثاني: خطاب خُصَّ به النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79].
الثالث: خطاب خُصَّ به النبي صلى الله عليه وسلم قولاً ويشركه فيه جميع الأمة معنى وفعلًا؛ كقوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] الآية. وقوله {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] وقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102]، فكل من دلكت عليه الشمس مخاطب بالصلاة، وكذلك كل من قرأ القرآن مخاطب بالاستعاذة، وكذلك كل
من خاف يقيم الصلاة بتلك الصفة، ومن هذا القبيل قوله:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فإنه صلى الله عليه وسلم الآمر بها والداعي إليها، وهم المعطون لها، وعلى هذا المعنى جاء قوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ}
(1)
.
• الحكم الثالث: استدل بالآية من قال بوجوب الدعاء لدافع الصدقة.
ومأخذ الحكم: الأمر الوارد بقولهم: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} وهو على ظاهره للوجوب.
وذهب الجمهور إلى عدم وجوب الدعاء للدافع، وجعلوا الصّارف له هو ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام عندما بعث معاذًا أو غيره؛ لأخذ الزّكاة، ولم يأمرهم بالدّعاء.
وأيدّوا ذلك أيضَا بأنّ لدعاء النّبي صلى الله عليه وسلم خصوصية يتحقق بها السّكن والطّمأنينة.
تنبيهان:
الأوّل: قوله تعالى: {مِنْ أَمْوَالِهِمْ} لفظ عامّ في الأموال المأخوذ منها الصّدقة، وعامّ فيمن تؤخذ منه العباد من المكلفين وغير المكلفين، وقد خصّ منها بالسّنّة والإجماع، وتفاصيل ذلك كتب التفسير والفقه.
الثّاني: قوله تعالى: {صَدَقَةً} لفظ مجمل في القدر المأخوذ، بينتها السّنة.
المطلب الأول: الزكاة في جميع ما يملكه الإنسان من مال.
استدل بها من قال: بأن الزكاة تجب في جميع ما يملكه الإنسان من مال، كالراتب الشّهري، وأجرة العمل، والمهن الحرّة، وكذا المستغلات، كأجرة الدور، وغلة المصانع سواء كان في يده أو في يد غيره.
(1)
أحكام القرآن (2/ 576 - 577).
ومن ذلك المال المودع في الحساب الجاري، وكذا الحقوق المعنوية للأسهم التجاري، إذا عرضت للبيع، ومواد الخام، - على القول بأنّها من عروض التجارة، والمواد المصنعة، وجمعيات الموظفين، ومحطات الوقود - من قال بأنها: من العروض.
أمّا ربحها فلا خلاف في ذلك. ويدخل في عموم الآية المنافع على اعتبار كونها مالًا، كما يدخل الدّين المقسَّط.
تخرج الأحكام السابقة: كلها يعود إلى عموم قوله: {أَمْوَالِهِمْ} وهي جمع مضاف، يفيد العموم، فكل ما يطلق عليه مال، فتجب فيه الصّدقة، ومأمورون بالأخذ منه، والأمر يقتضي الوجوب، فتجب الزكاة في جميع ما سبق.
وكونه مالاً أو غير مال مرجعه للعرف؛ إذ إن المال من المسميات التي علَّق الشرع بها حكماً، ولم يرد لها حدٌّ لها في الشرع أو اللغة، فيكون مرجعه للعرف.
• الحكم الرابع: استدل بالآية على عدم زكاة المال العامّ.
والمقصود بالمال العامّ: المال الذّي رصد للنّفع العامّ دون أن يكون مملوكاً لشخص أو جهة معيَّنة
(1)
.
وعُرِّف بأنه: كل مال ثبتت عليه اليد في بلاد المسلمين، ولم يتعين مالكه بل هو لهم جميعا
(2)
.
وبذلك أفتى كثير من المعاصرين بعدم الزّكاة في أموال الجمعيات الخيرية،
(1)
وهو تعريف الندوة الثامنة لقضايا الزكاة المعاصرة (139)، ينظر: فقه النوازل (178)، والفقه الميسر (9/ 110)، ونوازل الزكاة للغفيلي (ص: 214).
(2)
الموسوعة الفقيّة الكويتية (8/ 242).
والأوقاف الخيريّة
(1)
، وريعها حتى لو استثمرت
(2)
، وأدخل فيها البعض أموال التأمين التّعاوني
(3)
، أو الاجتماعي
(4)
، كالضّمانات العمالية، ومعاشاة التقاعد.
ووجه كون المال العامّ لا زكاة فيه: هو كونها ليست مملوكة لمعين، ومن شرط الزّكاة تمام الملك للمال، وكونه مملوكًا لمعين
(5)
.
وبيان ذلك: أن المولى سبحانه وتعالى أضاف الأموال إليهم بقوله: {مِنْ أَمْوَالِهِمْ} وهذه
(1)
ينظر: اللجنة الدائمة للإفتاء (9/ 294)، وأفتت به الندوة الثالثة عشر لقضايا الزكاة المعاصرة بالأكثرية. ينظر: أبحاث الندوة (414)، ونوازل الزكاة للغفيلي (ص: 243)، والفقه الميسر (9/ 110)، وفقه النوازل (178 - 179).
(2)
لكون الربح تابع لأصله، وأصله لا زكاة فيه فكذا التابع؛ لأنّ التابع تابع. ينطر: أبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة (3/ 424 - 425)، نوازل الزكاة للغفيلي (243) وأفتت به الندوة الثالثة عشرة لقضايا الزكاة المعاصرة بالأكثرية.
(3)
التأمين التّعاوني: هو تعاون مجموعة من النّاس؛ لدفع الأخطار المحتملة عن بعضهم البعض، وذلك بتبرع كل منهم بقدر من المال لصندوق تعاوني، على أسس علمية رياضية إحصائية، بحيث يكفي لإقالة عثرة المتضررين من الأخطار المحتملة، وتحديد مقدار قدرة الصندوق على تعويض المشترك عند وقوع الخطر الذّي قد يتعرض له، فإنّ تحقق فائض سنوي من الإشتراكات بعد دفع التعويضات والمصروفات وخصم الاحتياطات أعيد الفائض دون إلتزام على المتبرع، أو ينفق فيما يحقق الخير للإسلام والمسلمين. ينظر: التأمين التعاوني وتطبيقاته المعاصرة (ص: 38).
(4)
التأمين الاجتماعي: هو نظام إجباري غالبًا، تشرف عليه الدولة، وغالبًا ما تقوم به لا بقصد تحقيق الأرباح المالية، يموله المؤَمَن عليه، وصاحب العمل، والحكومة، أو بعضهم بمساهمات دوريّة موحدة أو مختلفة في المقدار أو النّسبة؛ ليحصل المستحق من المؤمن عليه، أو من يعوله كلهم أو بعضهم على مبلغ جملي ومعاش وبدل دوريين، يتناسب مع دخله ومدّة الاشتراك، أو من غير تناسب عند انقطاعه، أو قيام ما يستلزم نفقات ماليّة، وعلى غيرها من الخدمات، كالعلاج والتّدريب والتأهيل عند الحاجة إليها، أو بعض ذلك.
وللتأمين الاجتماعي عنصران أساسيان هي: 1 - الضمانات العماليّة؛ كتأمين إصاباة العمل، والتأمين ضد البطالة، والتأمين الصّحيّ، والتأمين ضد الشيخوخة، والعجز والوفاة.
2 -
معاشاة التقاعد. ينظر: أبحاث هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعوديّة (4/ 45) ومعالم التأمين الاسلامي د. صالح العلي وسميح الحسن (ص: 33 - 34) نوازل الزكاة (ص: 269 - 270).
(5)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (ص: 235 - 236).
الإضافة تدلّ على ملكهم إيّاها، واختصاصهم بالتّصرف والانتفاع بها، والمال العامّ ليس كذلك، فلا تجب فيه الزّكاة.
فالإضافة المذكورة استنبط منها العلماء كون الملك المعيَّن شرطًا في المال الذي هو وعاء الزكاة، والمال العامّ ليس ملكًا لمعين فلا زكاة فيه.
ومأخذ الحكم: كان على أصل حجية الشّرط الشّرعيّ، والشّرط الشّرعي يلزم من عدمه العدم، فيلزم من عدم الملك المعيَّن عدم الزكاة.
• الحكم الخامس: استدل بالآية من قال لا زكاة في المال المحرم كالسّيجارة
(1)
.
مأخذ الحكم: أن المال إذا أطلق فإنّه ينصرف إلى الكامل وهو الحلال بخلاف مطلق المال فإنّه يدخل فيه الحلال والحرام. عليه فلا يدخل المحرم فيما أمر بزكاته من الأموال.
كما أنّ المولى سبحانه وتعالى جعل الزّكاة من المال؛ لأجل الطّهرة والتّزكية به، والحرام خبيث فلا يطهر
(2)
.
تنبيه: السيجارة محرَّمة لذاتها، والمحرَّم لذاته لا يعتبر مالاً زكوياً، ويجب التخلص منه بإتلافه، والإمساك به إثم وعصيان، وأما المحرم لغيره، كالمغصوب أو المسروق، فهذه يتعين ردُّها إلى أصحابها، وهم يقومون بإخراج زكاتها بعد قبضها
(3)
.
(1)
وهو قول عامة الفقهاء المتقدمين، وأكثر الفقهاء المعاصرين، وصدرت به فتوى الندوة الرابعة لقضايا الزكاة المعاصرة. ينظر: فتاوى وتوصيات ندوات قضايا الزكاة المعاصرة (67)، ونوازل الزكاة (210).
(2)
ينظر: نوازل الزكاة (212).
(3)
ينظر: فقه النوازل (173 - 174)، وفتاوى وتوصيات ندوةقضايا الزكاة المعاصرة (68)، ونوازل الزكاة (210).
ويقول د. عبد الله الغفيلي: «
…
وإن كان المال حراماً بوصفه لا بأصله كالأموال الربوية فيده عليه يدُ تمليك، فيجب عليه إخراج زكاته؛ لأنه مال منسوب إلي مسلم متعبد بجميع أحكام الإسلام
…
الخ»
(1)
.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}
[المعارج: 24 - 25]
وقوله: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19]
السورتان مكيتان، والزكاة إنّما فرضت بالمدينة؛ لذا اختلف العلماء في الحق المعلوم، هل هو في الزكاة المفروضة أو في غير الزّكاة.
(2)
.
قال ابن العربي: والأقوى في هذه الآية أنها الزكاة، لقوله تعالى في سورة سأل سائل:{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ، والحق المعلوم هو الزكاة التي بيَّن الشرع قدرها وجنسها ووقتها، فأما غيرها لمن يقول به فليس بمعلوم؛ لأنّه غير مقدر ولا مجنس ولا مؤقت»
(3)
. اه.
ومأخذ الحكم: أولًا: مدح الفاعل على الفعل، وهو من الأساليب الدّالة على مشروعية الفعل، الدائر بين الوجوب والنّدب.
(1)
نوازل الزكاة (211).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (17/ 38).
(3)
أحكام القرآن (4/ 166).
ثانيًا: قوله: {حَقٌّ} وهو مطلق لغة بمعنى: الشيء الثّابت. ويطلق شرعًا على ما ثبت به الحكم، والحكم الثّابت أعمّ من أن يكون واجبًا أو مندوبًا.
فالحق يطلق على ما لا ينبغي تركه، ويكون فعله إمّا واجبًا أو مندوبًا ندبًا مؤكدًا شبيهًا بالواجب الذّي لا ينبغي تركه.
باب صدقة الفطر
قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية زكاة الفطر، وقد فُسِّرت الآية بتفسيرات عدّة، منها: تفسير ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم بأنّ المقصود: أدّى زكاة الفطر.
وورد في السّنة - بأحاديث فيها كلام في صحتها - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه كان يأمر بزكاة الفطر قبل أن يصلي العيد، ويتلو هذه الآية
(1)
.
ومأخذ المشروعية من الآية: ورود المدح للفاعل، ووصفه بالفلاح، ولا يمدح إلّا فاعل الواجب أو المندوب. وثبوت أحدهما هنا يتوقف على أدلة أخرى من السّنة.
تنبيه: حكم الآية على القول بأنها محكمة، وقيل: إنّها منسوخة بالزّكاة المفروضة، وهؤلاء الذين لا يرون زكاة الفطر واجبة.
• الحكم الثاني: على القول بمشروعية زكاة الفطر، فهل يجب أو يندب دفعها ممن تحل له الصّدقة كالفقير؟ ذهب الإمام مالك والشّافعي أنّها على الفقير.
مأخذ الحكم: العموم الوارد في الآية بصيغة {مَنْ} الموصولة، وظاهر تعمُّ من
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3418) برقم (19233) وضعفه.
تحل له.
• الحكم الثالث: مشروعية تقديم زكاة الفطر على صلاة العيد.
مأخذ الحكم: تقديمها ذكراً في الآية، وفعله عليه الصلاة والسلام بيانًا للقرآن، حيث إنّه كان يُقدم صدقة الفطر حين يغدو، ثم يتلو هذه الآية.
باب صدقة التّطوع
استدل بالآية من قال: إنّ في المال حقًا سوى الزكاة، وبها كمال البرّ.
وأيدّوا صحة هذا المعنى بسياق الآية، في قوله تعالى:{وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} فذكر الزّكاة مع الصّلاة، وذلك دليل على أنّ المراد بقوله {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} ليس الزكاة المفروضة، فإنّ ذلك يكون تكرارًا والله أعلم، قاله القرطبي
(1)
.
ومأخذ الحكم: مدح الفعل بوصفه من البر، ومدح الفعل من الأساليب الشّرعيّة الدّالة على الأحكام، والأصل فيه أنه دائر بين الوجوب والنّدب.
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة: 215]
استدل بالآية من قال: بإباحة صرف الزكاة للوالدين والأقربين، وهذا على القول بأنّ الآية نزلت في الزّكاة المفروضة مع الإحكام وعدم النّسخ، وقيل: بالنّسخ،
(1)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 242).
وقيل: بأنّ الآية إنّما هي لبيان مصارف المال الذّي يتعلق به الثّواب، فتدخل صدقة التطوع فيها.
ومأخذ الحكم: فيمن قال بجواز صرف الزّكاة للوالدين هو: كون السؤال معاد في الجواب، فكأنه قيل لهم:(أنفقوا على الوالدين والأقربين).
وهذا أمر بعد سؤال، والأمر بعد السؤال، كالأمر بعد الحظر، وفيه الخلاف في حمله على الوجوب أو النّدب أو الإباحة.
وقسَّم بعض أهل العلم الأمر بعد الاستئذان إلى قسمين:
الأوّل: ما كان متعلقًا بمصلحة أخروية، أو دنيوية متعديّة - مثل مسألتنا هنا - وهذا لا يكون إلا واجبًا أو مندوبًا، والقرائن هي التي تفصل في ذلك.
ويمكن أن يقال بالحمل هنا على النّدب؛ لأنّه المتيقن، وما زاد عليه فهو مشكوك فيه يحتاج إلى قرينة.
الثّاني: ما كان متعلقًا بمصلحة دنيوية عادية قاصرة، وهذا يحمل على الإباحة.
تنبيه: السّؤال في هذه الآية عن مصرف النّفقة، فكان الجواب على وفق السؤال للوالدين والأقربين
…
إلخ. فهي مبينة لمصارف صدقة التّطوع، فالواجب على الرجل الغني أن ينفق على أبويه المحتاجين ما يصلحهما في قدر حالهما من حاله، من طعام وكسوة وغير ذلك، قاله القرطبي
(1)
.
وقد قيل: إنّها نزلت في عمرو الجموح، وكان شيخًا كبيرًا، وعنده مال عظيم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما ذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت الآية.
(1)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (3/ 37).
قال الموزعي: «قال كثير من أهل التفسير: هذا كان قبل أن تفرض الزكاة، فلما فرضت الزكاة بالآية التي في (براءة)، نسخت هذه الآية»
(1)
.
والمقصود بآية براءة قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ الدُّنْيَا .. } [التوبة: 60]
قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]
استدل بالآية على تحريم الصدقة بما يحتاج إليه لنفقة من تلزمه نفقته، أو على منع أن يهب الرجل ماله بحيث لا يبقى له ما يكفيه.
مأخذ الحكم هو: أن السؤال معاد في الجواب، فكأنّه قيل لهم: أنفقوا ما فضل عن الأولاد، وهذا أحد تفاسير كلمة {الْعَفْوَ} وعليه كثير من العلماء، وحملوا الأمر - المقدّر- هنا على النّدب.
ومنهم من فسَّر {الْعَفْوَ} بأنّه الزكاة المفروضة، وهؤلاء ممن لا يرون في المال حق سوى الزكاة المفروضة.
تنبيه: السؤال في هذه الآية عن قدر الإنفاق، فجاء الجواب مطابقًا له، {قُلِ الْعَفْوَ} .
وقيل في سبب نزولها: أن عمرو بن الجموح لما نزل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة: 215] قال: كم أنفق؟ فنزل قوله {قُلِ الْعَفْوَ}
قال القرطبي: «العفو: ما سهل وتيسر وفضل، ولم يشق على القلب
(1)
تيسير البيان (1/ 368).
إخراجه
…
، فالمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة، هذا أَوْلى ما قيل في تأويل الآية
…
»
(1)
.
قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245]{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11]
دلّت الآيتان على التّرغيب والنّدب في أعمال البرّ والإنفاق في سبيل الخير.
مأخذ الحكم: ورود الحكم بأسلوب الاستفهام الدّال على التّخصيص والتّرغيب. كما أن ترتيب الثواب على الفعل - وذلك بمضاعفة الأجر أضعافًا كثيرة - من الأساليب الدائرة بين الوجوب والنّدب، وتحمل هنا على النّدب؛ لأنّ الإقراض للمولى سبحانه وتعالى مندوب إليه في كل وقت.
قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271].
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: إنّ إخفاء الصّدقات أفضل من إظهارها، وفي كل خير.
مأخذ الحكم: مدح الفعل بقوله {فَنِعِمَّا هِيَ} دليل على المشروعية الدائرة بين الوجوب والنّدب، ثم قوله {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} فهو مدح للفعل بأنّه خير مع التّفضيل بدلالة {خَيْرٌ} أي: أخير، والأصل في وصف {خَيْرٌ} أخير: الحمل على النّدب.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 61).
تنبيه: ذهب جمهور أهل العلم إلى أن المراد بالصّدقة هنا: صدقة التّطوع، أمّا صدقة الفرض فإظهارها أفضل، وحكى الطبري الإجماع على ذلك، والخلاف موجود.
قال القرطبي: «قال ابن العربي: وليس في تفضيل صدقة العلانية على السّر، ولا تفضيل صدقة السّر على العلانية حديث صحيح ولكنه الإجماع الثابت، فأما صدقة النّفل فالقرآن ورد مصرحا، بأنها في السِّر أفضل منها في الجهر، بَيْد أن علماءنا قالوا: إنّ هذا على الغالب مخرجه، والتحقيق فيه أن الحال في الصدقة تختلف بحال المُعطِي لها، والمُعطَى إياها والناس الشاهدين لها. أما المعطي فله فيها فائدة إظهار السُّنة وثواب القدوة.
قلت: هذا لمن قويت حاله وحسنت نيَّته وأَمِنَ على نفسه الرياء، وأما من ضعف عن هذه المرتبة فالسر له أفضل. وأما المُعطَى إياها فإنّ السّر له أسلم من احتقار الناس له، أو نسبته إلى أنه أخذها مع الغنى عنها وترك التعفف، وأما حال الناس فالسر عنهم أفضل من العلانية لهم، من جهة أنهم ربما طعنوا على المُعطِي لها بالرِّياء وعلى الآخذ لها بالاستغناء، ولهم فيها تحريك القلوب إلى الصدقة، لكن هذا اليوم قليل»
(1)
.
• الحكم الثاني: صدقة النّفل على الفقير أفضل.
مأخذ الحكم: الإتيان ب (أفعل) التّفضيل {خَيْرٌ لَكُمْ} وأصلها (أخير) و {خَيْرٌ} لفظها ومعناها يدل على المراد، وسبق القول: إنّ من الأساليب الدّالة على الوجوب والنّدب وصف الفعل بأنه خير، والجمهور على أن الأصل فيه النّدب.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 332 - 333)، وانظر أحكام القرآن لابن العربي (1/ 315).
• الحكم الثالث: يجوز لربّ المال تفريق الزكاة بنفسه؛ لأنّ الآية تدل على أنّه إذا أعطاها الفقراء وأخفاها فهو خير له.
مأخذ الحكم: ما سبق من وصف الفعل بالخيرية، وهو صفة مدح تدل على المشروعية والجواز.
تنبيه: قيل: لا تمنع دلالة الآية من أنّ للإمام أخذها، فيكون معنى قوله:{خَيْرٌ لَكُمْ} أي: خير لكم لحصول الصّدقة مرتين.
• الحكم الرابع: استدل بالآية ربيعة شيخ الإمام مالك على كراهة إظهار جميع أعمال البرّ، وأجاز ذلك الإمام مالك دون كراهة.
مأخذ القائل بالكراهة: لعله لسد ذريعة الرياء، أو لتعارضها مع الأدلة الأخرى كقوله صلى الله عليه وسلم في الصّدقة (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)
(1)
.
ومأخذ القائل بالجواز دون الكراهة: ثناء المولى سبحانه وتعالى على الفعل بقوله {فَنِعِمَّا هِيَ} والثناء والمدح للفعل يدلّ على مشروعيته بلا خلاف، وهو من الأساليب الدائرة بين الوجوب والندب.
• الحكم الخامس: استدل بالآية على جواز التّصدق على الأغنياء في صدقة التّطوع. ونقل بعضهم الإجماع على ذلك.
قال النووي: «تحل صدقة التطوع للأغنياء بلا خلاف، فيجوز دفعها إليهم، ويثاب دافعها عليها»
(2)
.
ولعل ذلك لأن الخيرية {خَيْرٌ لَكُمْ} في الأمرين: إيتاءها وإخفاءها، وكما أنه
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب الصدقة باليمين، برقم (1357).
(2)
المجموع (6/ 236).
يجوز له إظهارها فكذلك يجوز إعطاءها للغني، ومقتضى الخيرية أن في كل خيرًا، لكن كونها للفقراء أخير.
قال تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 280]
استدل بالآية على التّرغيب والنّدب بالتّصدق أو إبراء المعسر، وكونه أفضل من إنظاره.
مأخذ الحكم: جعل ابن حزم الاستثناء من الواجب يدل على النّدب، وجعله من القرائن التي تصرف الأمر عن مقتضاه.
(1)
.
والمثال الذي ذكره ابن حزم رحمه الله وإن لم يشتمل على أداة الاستثناء، إلّا أنّه يفهم بالتّقدير، وتقديره:(فنظرة إلى ميسرة إلّا أن تصدقوا فذلك خير لكم).
ومما يؤيد كونه محمولًا على النّدب هنا سياق الآية، وقوله:{خَيْرٌ} ، وسبق أن الأصل في هذا الأسلوب حمله على الندب.
(1)
الإحكام في أصول الأحكام (3/ 38).
قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]
استدل بعض العلماء بالآية على جواز تصدق الرجل بجميع ما يملكه.
قال القرطبي: «فإن قيل: وردت أخبار صحيحة في النّهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء.
قيل له: إنما كره ذلك في حق من لا يوثق منه الصبر على الفقر، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه. فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على أنفسهم، فلم يكونوا بهذه الصفة، بل كانوا كما قال الله تعالى:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177]. وكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك. والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار»
(1)
.
ومأخذ الجواز هو: ثناء المولى سبحانه وتعالى على الفعل، والثناء على الفعل من الأساليب الشّرعية الدّالة على الجواز والمشروعية، والأصل فيه أنّه دائر بين الوجوب والنّدب، وهو هنا محمول على النّدب فيمن يصبر على البأساء والضراء.
قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]
استدل بالآية على استحباب إطعام المسكين واليتيم والأسير الكافر، وأن إطعام الأخير مما يتقرب به إلى الله، وذلك مخصوص بصدقة التّطوع.
مأخذ الحكم: مدح المولى سبحانه وتعالى الفعل، ووصفه أنّه من أفعال الأبرار كما قال تعالى:{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 5 - 8].
(1)
الجامع لأحكام القرآن (18/ 27 - 28).
ويمكن القول بأنّه سبحانه وتعالى جعل الفعل سببًا في حصول مطلوب المكلف وهو هنا أن يكون من الأبرار وارثي الجنان، أو جعله من ترتب الثواب على الفعل، أي: هذه الأفعال ومنها الإطعام رُتِّب عليها دخول الجنّة، وكل ما سبق من الأساليب الشّرعيّة الدّالة على مشروعية الفعل، وكونه دائرًا بين الوجوب والنّدب؛ وهو هنا على النّدب؛ لكون الصّدقة على الكافر، لا تكون إلّا من صدقة التّطوع، وصدقة التّطوع مندوب إليه.
ومن قال بجواز إطعام الأسير الكافر، أيدّوا قولهم بقوله عليه الصلاة والسلام (في كل كبد رطب صدقة)
(1)
.
قوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 14 - 16]
في الآية الحض على إطعام الأيتام والمساكين والحنو عليهم، وقيّد المولى تعالى الأيتام بالقرابة؛ لتجتمع فيها الصّدقة وصلة الرحم.
ويرجع في تفسير معانيها، والخلاف في ذلك إلى كتب التّفسير.
ومأخذ الحكم: إذا حُمل قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} على معنى الاستفهام الاستنكاري، وتقديره: أفلا اقتحم العقبة؛ أو هلا اقتحموا العقبة، أي هلا أنفق ماله في فك الرقاب وإطعام المساكين؛ ليجاوز به العقبة فيكون خيرًا له من إنفاقه في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم، والاستفهام الانكاري هنا على تركه للإنفاق بالخير، وإذا كان كذلك فيدل على مشروعيته وطلب الشّارع له.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب المساقاة الشرب، باب فضل سقي الماء، برقم (2234)، ومسلم في كتاب الآداب، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، برقم (2244).
قال العزّ بن عبد السّلام: «التّوبيخ والانكار إن تعلقا بفعل دلّا على النّهي عنه، وإن تعلقا بترك دلّا على الأمر بالمتروك»
(1)
.
وهذا الأسلوب قد يحمل فيه الإنكار على ترك الفعل على وجوب الفعل؛ إذ لا إنكار إلّا في ترك الواجب.
وقيل: لا يتعين الإنكار في ترك الواجب، بل يقع على ترك السّنة كذلك، قاله جمع من العلماء.
وقد يكون الوجوب هنا مصروفاً إلى النّدب بقرينة، وهي هنا: كون استنكار ترك الفعل ليس هو المقصود، بل المقصود إنّما هو الإنكار على الفعل، وهو إنفاقه المال على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومأخذ آخر لحكم المسألة وهو: أن يحمل قوله {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} على الدعاء؛ أي: فلا نجا ولا سَلِم من لم ينفق ماله في كذا وكذا.
والدعاء للفاعل من الأساليب الشرعيّة التي يستند إليها في مشروعية الأحكام، وهو دائر بين الوجوب والنّدب، وهو هنا كما سبق يحمل على النّدب في حق الأسير للإجماع.
قال أبو العباس القرطبي في المفهم: «قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم أعط منفقًا خلفًا)
(2)
…
وهذا يعم الواجبات والمندوبات»
(3)
.
(1)
الإمام في بيان أدلة الأحكام (135).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب قول الله تعالى {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} اللهم أعط منفق مال خلفا، برقم (1374)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب في المنفق والممسك، برقم (1010).
(3)
المفهم لما أشكل من كتاب تلخيص مسلم لأبي العباس أحمد بن عمر القرطبي (3/ 55).
فائدة: قال القرطبي: «وقيل: شبّه عظم الذنوب وثقلها وشدّتها بعقبة، فإذا أعتق رقبة وعمل صالحًا، كان مثله كمثل من اقتحم العقبة، وهي الذنوب التي تضره وتؤذيه وتثقله»
(1)
.
باب قسم الصدقات
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: إباحة الصّدقات لهؤلاء الأصناف.
ومأخذ الحكم: إضافة المولى سبحانه وتعالى الزّكاة لهم بلام التّمليك، أو لام الاختصاص، واللتان تقتضيان إباحته لمن أضيفت له.
قال السيوطي: «
…
ملكوا قدر الزكاة بمجرد حولان الحول، وصاروا شركاء للمالك لإتيانه تعالى بلام التمليك»
(2)
.
• الحكم الثاني: أن المستحق للزّكاة هم الأصناف الثمانية.
مأخذ الحكم: مفهوم الحصر يدل على عدم إباحة الزكّاة لغيرهم.
• الحكم الثالث: اختلف العلماء في اشتراط استيعاب الأصناف الثمانية بالزّكاة.
وسبب الخلاف هو: هل المقصود من الآية بيان كونها لا تخرج عنهم، أو لبيان المصرف والاستيعاب معًا، أي: هل هي لبيان محل الصّدقات فقط؛ لحقيقة
(1)
الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (20/ 66).
(2)
الإكليل (2/ 812).
الاستحقاق مع التّعيين. قال بالأوّل الإمام أبو حنيفة، وبالثّاني الإمام الشّافعي.
مأخذ القول الأوّل: لعله الالتفات إلى المعنى الذي شرعت له الزكاة، وهو أن المقصود بها سدّ الخُلة، ودفع حاجة الفقير، وهذا المعنى موجود في الصنف الواحد، قاله الموزعي، ثم رجح مذهب الشافعي، وبعدها بيَّن أن مأخذ القول الثاني مبني من ثلاثة أوجه
(1)
:
«قال: أحدها: اتباع موضوع الخطاب، فاللام موضوعة للتّمليك حقيقة، والواو موضوعة للتّشريك حقيقة، وحملهما على التّخصيص والتخيير (أي: على صنف واحد) مجاز، والحقيقة خير من المجاز.
وأجاب عن هذا بأنّ اللام ليست للاستحقاق؛ لأنها لو كانت حقيقة في التمليك لوجب إذا فُقد صنف من هذه الأصناف أن يكون نصيبه لبيت المال، ولا يرد على بقية الأصناف؛ لأن لهم حظًا معلومًا، فلا يعطون شيئا لا يملكونه، وَلَوَجَبَ إن فضل على صنف سهمهم، ونقص على الآخرين سهمهم ألا يردّ عليهم، وهم لا يقولون بجميع ذلك.
أمّا المأخذ والوجه الثّاني: لمذهب الشافعي، فهو قوله تعالى:{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} والفرض هو التّقدير، قالوا: وهذا يدلّ على التقدير بين الأصناف.
وأجاب عنه الموزعي بأنّه يجوز أن يكون فريضة تفسيرًا لحصر الصدقات في المذكورين في الآية دون غيرهم، فقد حصرها الله سبحانه لهم، وفيهم، لا بينهم
(2)
.
أمّا المأخذ والوجه الثّالث: فهو من السّنة، وفيه: أن رجلًا سأل النّبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه من الصّدقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في
(1)
تيسير البيان (3/ 349).
(2)
تيسير البيان (3/ 351).
الصّدقات، حتى حكم هو فيها، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك)
(1)
.
قال الموزعي: «ولكنه يدخله التأويل، فلقائل أن يقول: إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جزأ الصدقات إلى ثمانية أجزاء، حتى يخرج من الصدقة من ليس من تلك الأجزاء، فيقطع طمعهم فيها كما قطع طمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:(لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي)
(2)
»
(3)
. ا. هـ
تنبيه: على القول الأوّل والذّي فيه النّظر؛ لسدّ خلة المحتاج، لو اجتمع في شخص واحد معان من الأصناف الثمانية، كأن كان فقيرًا مجاهدًا؛ فإنه لا يستحق إلا على معنى أو صنف واحد.
• الحكم الرابع: استدل بالآية من قال بوجوب إعطاء ثلاثة من كل صنف.
ومأخذ الحكم: مراعاة للفظ الجمع في الآية، وأقله ثلاثة.
• الحكم الخامس: فرّق العلماء بين الفقير والمسكين، وموضع ذلك كتب التّفسير.
ومأخذ الحكم: هو كون العطف يقتضي المغايرة.
• الحكم السادس: استدل بالآية من أجاز دفع الزّكاة للفقير القادر على الاكتساب، والذّي لا تلزمه نفقته، ولسائر القرابة، وللزوج، ولآله صلى الله عليه وسلم، وكذا العامل - الساعي
(1)
أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب من يعطى من الصدقة وحد الغني، برقم (1630) قال الشيخ الألباني: ضعيف.
(2)
أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب من يعطى من الصدقة وحد الغني، برقم (1634)، والترمذي في كتاب الزكاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء من لا تحل له الصدقة، برقم (652)، والنسائي في كتاب الزكاة، باب إذا لم يكن له دراهم وكان له عدلها، برقم (2597)، وابن ماجة في كتاب الزكاة، باب من سأل عن ظهر غنى، برقم (1839) قال الشيخ الألباني: صحيح.
(3)
تيسير البيان (3/ 351).
لجمع الزّكاة - والغزاة، وأبناء السّبيل، والمؤلفة قلوبهم، وإن كانوا أغنياء.
مأخذ الحكم: العموم الوارد في الآية بالجمع المحلى {لِلْفُقَرَاءِ} فالفقير وإن كان قادرًا أو زوجًا
…
إلخ، وكذا بقية الأصناف.
خُصَّ عموم {لِلْفُقَرَاءِ} بالسنة من ألا يكون من بني هاشم، أو ألا يكون ممن تلزم المقصود نفقته. قال القرطبي: «وهذا لا خلاف فيه، وشرط ثالث: ألا يكون قوياً على الاكتساب
…
»
(1)
.
• الحكم السابع: استدل بالآية على جواز صرف الزّكاة لكل ما يتعلق بالجهاد من مصالحة عدو.
مأخذ الحكم: العموم في قوله {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهو التّعريف بالإضافة.
• الحكم الثامن: استدل بالآية في مقام -التعضيد- من قال بجواز نقل الزكاة عن موضعها.
مأخذ الحكم: أنّه سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} ولم يفصل بين فقير بلدٍ وفقير آخر.
• الحكم التاسع: استدل بالآية من قوله: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} جواز إعطاء كل ما كان من فروض الكفاية من الصّدقات.
• الحكم العاشر: وجوب الزكاة؛ لقوله سبحانه وتعالى في ختم الآية {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} بالنّصب على المصدر عند سيبويه.
قال القرطبي: «أي: فرض الله الصدقات فريضة»
(2)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (8/ 191).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (8/ 192).
ومأخذ الحكم: الإتيان بالمصدر، وهو من صيغ الوجوب، كما أن لفظ (الفرض) يدلّ على الإيجاب في كلام الشّارع.
تنبيه: العموم الوارد في صرف الزكاة للفقراء مخصوص بما ورد في السّنة من: ألّا يكون من بني هاشم، أو ألّا يكون المتصدق عليه ممن تلزم المتصدق نفقته.
قال القرطبي: «وهذا لا خلاف فيه، وشرط ثالث: ألّا يكون قويًا على الاكتساب
…
»
(1)
.
• الحكم الحادي عشر: استدل بالآية من قال بعدم جواز الإقراض من مال الزكاة
(2)
، أي: لمن ليس من أهل الزكاة.
مأخذ الحكم ما يأتي:
أولًا: أن المال هو مال للفقير والمسكين يملكونه بنص الآية، حيث أضاف المولى سبحانه الصّدقات لهم بلام الملك، وهذا يقتضي عدم جواز التّصرف بغير إذن مالكه.
ثانيًا: صدرت الآية بأداة الحصر {إِنَّمَا} ومفهوم الحصر عدم جواز أخذها لغير الأصناف الثمانية
(3)
.
ثالثًا: إنّ لفظ {الصَّدَقَاتُ} جمع محلى ب (أل)، وهو يفيد العموم، وهذا يقتضي أن جميع الصّدقات تعطى لهؤلاء المذكورين في الآية، وإذا كان جميعها يعطى لهم، فلا يجوز إقراض غيرهم منها
(4)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (8/ 191).
(2)
وبه أفتت لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت، بفتواها رقم (4/ 316). ينظر: الإقراض من أموال الزكاة لنايف حجاج العجمي (13 - 14).
(3)
ينظر: الإقراض من أموال الزكاة (51).
(4)
ينظر: المصدر السابق.
• الحكم الثاني عشر: استدل بالآية من قال بعدم جواز استثمار أموال الزكاة من قبل المالك أو وكيله
(1)
.
ومأخذ الحكم: ما سبق من كون اللام للتّمليك، فهي خرجت من ملكه إلى ملك الفقير، ومن ثمَّ لا يجوز له التّصرف بها.
وأيدوا قولهم: بأنّ الأصل دفع الزّكاة للفقير على الفور؛ لقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} والأمر يقتضي الفور
(2)
.
تنبيه: إذا تأخر المالك عن إخراج الزكاة واستثمرها مع ماله، هل يشاركه الفقير والمسكين في الربح والخسارة أو لا؟ خلاف يتوقف على كون الزكاة متعلقة بالعين (المال) أو الذّمة؟
(3)
.
• الحكم الثالث عشر: استدل بالآية من قال بعدم جواز صرف الزكاة في حفر الآبار العامّة للفقراء
(4)
.
مأخذ الحكم: أن اللام في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ} لام الملك والاختصاص، وتقتضي التمليك، والآبار يردها الفقير والغني، فليس فيها تمليك خالص للفقراء.
كما أن مفهوم التمليك هو أن يخلي بين المالك - الفقير هنا - وماله، يتصرف
(1)
وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، وبه صدر قرار من المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة والمنعقدة بمكة، ومن مجمع الفقه الإسلامي من الهند في ندوته الثالثة عشرة. ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (9/ 454 - 455)، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، ع 3، ج 1، ص (334)، وفتاوى ابن عثيمين (18/ 478)، والفقه الميسر (9/ 125)، النوازل في الزكاة للغفيلي (475)، وإتحاف البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (71 - 72).
(2)
ينظر: المغني (4/ 146)، ووفقه النوازل للشيقح (218)، والنوازل في الزكاة (471).
(3)
ينظر: مصرف {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} بين العموم والخصوص د. سعود الفنيسان (97).
(4)
ينظر: الفقه الميسر (9/ 125)، وفقه النوازل للشيقح (205).
به كيف شاء، ويؤيده قوله سبحانه:{وَآتُوا الزَّكَاةَ} والإيتاء الإعطاء.
ولذا رأت الهيئة الشرعيّة في بيت الزكاة الكويتي إنّه يجوز شرعًا تمليك مال الزكاة لأهل المنطقة الفقراء، ثم يوجهون إلى وضعه في حفر بئر يبيحون الانتفاع بها لهم ولغيرهم
(1)
.
ويرى بعض المفسرين
(2)
أن الفقير والمسكين والعامل والمؤَّلف قلبه، الذين دخلت عليهم لام التّمليك في الآية، إنّما هو تمليك لما عساه أن يدفع إليهم، ويأخذونه تملكًا؛ لذا كان دخول اللام لائقًا بهم.
أمّا الأصناف الأربعة الأواخر، الذين دخل عليهم حرف (في) في قوله:{وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فلا يملكون لما يصرف نحوهم، بل ولا يصرف إليهم، ولكن يصرف في مصالح تتعلق بهم.
تنبيه: أمّا حفر بئر في ملك فقير معين، فحكمه يتخرج على مسألة مقدار ما يُعطاه الفقير والمسكين؛ فإن قيل لا يعطى أكثر من كفاية السنة فإنّه يمنع ذلك، أمّا على القول يُعطى كفاية العمر فيجوز، كما يجوز شراء بيت ومسكن له
(3)
.
وينبه - أيضاً -: أن بعض المتأخرين استثنى إذا لم يمكن حفر الآبار إلا بمال الزكاة فإنه يجوز حفرها به؛ للضرورة، والضرورة تبيح المحظور
(4)
.
• الحكم الرابع عشر: استدل بها من أجاز شراء الكتب المدرسيّة ونفقة الزواج للفقراء من مال الزكاة
…
إلخ
(5)
، مما يحتاجه الفقير والمسكين.
(1)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (ص: 360).
(2)
الألوسي في روح المعاني (10/ 124).
(3)
ينظر: نوازل الزكاة (ص: 361).
(4)
ينظر: الفقه الميسر (9/ 125)، وفقه النوازل للشيقح (205).
(5)
ينظر: الفقه الميسر (9/ 125)، وفقه النوازل (209).
(1)
.
مأخذ الحكم: أن المولى سبحانه حدد المصرف، وأطلق في وجوه الصّرف، والمطلق يجري على إطلاقه، فيشمل كل ما يحتاجه.
ثمّ إنّ المقصد هو سد حاجة الفقير والمسكين، والفقر قد يكون في الطعام أو المسكن أو غير ذلك، فيشمل جميع الحاجات من جهة المعنى
(2)
.
قال الشيخ العثيمين رحمه الله: «وإذا كان رجل عنده ما يكفيه، لأكله، وشربه، وسكنه، وكسوته، ولكنه طالب علم يحتاج إلى كتب تُشترى له، فإننا نعطيه ما يحتاج إليه فقط من الكتب؛ لأنه إذا كان يعطى لغذائه البدني، فيعطى أيضاً لغذائه الروحي والقلبي، ولكن لا يعطى ليؤثث مكتبة كبيرة، بل لسد حاجته في طلب العلم فقط»
(3)
.
تنبيه: هذه المسألة مبنية على مقدار ما يُعطاه الفقير والمسكين، والجمهور على أن مقدار ما يُعطاه هو كفاية السنة، وعليه فإنه لا يجوز صرف الزكاة لبناء أو شراء بيت للفقير والمسكين. وأما على القول بجواز إعطائه كفاية العمر فيجوز ما سبق
(4)
.
(1)
الشرح الممتع (6/ 221).
(2)
قال الشيخ العثيمين في الشرح الممتع (6/ 220).: «وسمي الفقير فقيراً؛ لأنه خالي اليد، وأصلها من القفر - وهو مطابق للفقر في الاشتقاق الأصغر بموافقة الحروف مع اختلاف الترتيب- وهي الأرض الخالية من السكان» .
(3)
الشرح الممتع (6/ 221).
(4)
ينظر: النوازل في الزكاة للغفيلي (353، 361).
• الحكم الخامس عشر: استدل بقوله: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} من قال بأن الموظفات في المؤسسات الزكوية
(1)
لا يدخلن في مصرف العاملين عليها
(2)
.
ومأخذ الحكم: أن لفظ {وَالْعَامِلِينَ} لفظ مذكر يصرف على الذكور دون الإناث، وأكدّوا ما ذهبوا إليه من كونها نوعًا من أنواع الولايات، فلا يجوز أن تتولاها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة)
(3)
.
نوقش: بعدم التسليم بأن اللفظ يختص بالذكور، بدليل ألفاظ باقي المصارف، كالفقراء، والمساكين، والعاملين، وهي شاملة للمذكر والمؤنث
(4)
.
يقول القرضاوي: «والحق أنّه ليس في المسألة دليل خاص يمنع المرأة من الاشتغال بالعمالة على الزّكاة، لكن القواعد العامّة التي توجب
…
»
(5)
.
• الحكم السادس عشر: استدل بالآية على جواز صرف سهم العاملين للموظفين في المؤسسات الخيريّة
(6)
؛ والأصل في العامل هو: الذّي يعينه الإمام لجباية الزكاة وصرفها، وهذا أمر متفق عليه. ولا شك في دخول المرخص لهم من قبل الإمام من المؤسسات.
ومأخذ الحكم: يمكن أن يكون على قاعدة: المطلق يجري على إطلاقه ما لم يرد دليل التقييد، وذكر سبحانه وتعالى:{وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} مطلقة دون أن يقيد ذلك بنوع من العمل.
(1)
ينظر: فقه النوازل للمشيقح (212 - 213)، ونوازل الزكاة للغفيلي (383).
(2)
هذه المسألة حاجتها اليوم أظهر من ذي قبل؛ لذا أعاد المعاصرون النّظر فيها. ومن حيث القواعد الشّرعيّة المرعيّة، فإنّ لفظ الذكور في خطابات الشّرع يطلق أيضًا على المرأة؛ لذا وقع الخلاف في هذا الأصل. وعدم جواز صرف سهم العاملين على النساء هو مذهب المالكية والشافعية وقول عند الحنابلة. ينظر: التاج والإكليل (3/ 230)، وإعانة الطالبين (1/ 190)، والإنصاف (3/ 266).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، برقم (4163).
(4)
ينظر: فقه الزكاة د. القرضاوي (2/ 630)، والي إدارة الزكاة د. سليمان الأشقر (2/ 741).
(5)
فقه الزكاة د. القرضاوي (2/ 58).
(6)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (377).
كما يخُرَّج على قاعدة تحقيق المناط. وبيانه: أن تعليق الاستحقاق بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} ، وهو الحكم، على وصف العمل في قوله:{وَالْعَامِلِينَ} ، إيماء بأن علة الاستحقاق هي كونه عاملاً عليها، وهذه العلة متحققة في الموظفين في المؤسسات الخيرية، فيدخل فيه العاملون على الزكاة في المؤسسات الخيرية الزّكويّة على اختلاف أنواع أعمالهم
(1)
.
تنبيهان:
الأول: لا يحق للموظفين الجمع بين الأخذ من المؤسسة الخيرية - من سهم العاملين عليها - ومن بيت المال
(2)
.
الثاني: ذكر العلماء ضوابط في استحقاق الموظفين في المؤسسات الخيرية من مصرف العاملين عليها، ومن تلك الضوابط:
(1)
أن يكون العمل الذي يقوم به الموظف مما يحتاج إليه في جمع الزكاة وتوزيعها.
(2)
أن يراعى في ذلك إعطاء العامل بقدر عمله
(3)
.
• الحكم السابع عشر: إعطاء الكافر من سهم المؤلفة قلوبهم؛ ليدفع المخاطر عن المسلمين
وقد استدل بعض العلماء بقوله: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} على جواز إعطاء الكافر من سهم المؤلفة قلوبهم؛ ليدفع المخاطر عن المسلمين
(4)
.
المؤلفة قلوبهم: «قوم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسلموا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (379).
(2)
ينظر: المغني (6/ 327)، نوازل الزكاة للغفيلي (378).
(3)
ينظر لها بشء من البسط في: نوازل الزكاة للغفيلي (379 - 380).
(4)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (405).
يرضخ لهم من الصدقات، فإذا أعطاهم من الصدقات فأصابوا منها خيرًا، قالوا: هذا دين صالح، وإن كان غير ذلك عابوه وتركوه»
(1)
، قاله ابن عباس رضي الله عنه تفسيرًا للآية.
واستدل العلماء بالعموم السابق على مسائل أخرى منها
(2)
:
(1)
إيجاد مؤسسات لرعاية المسلمين الجدد يصرف لها من سهم المؤلفة قلوبهم.
ومن منع ذلك احتج بعدم وجود التّمليك للأفراد، والذي دلّت عليه لام التمليك في قوله:{لِلْفُقَرَاءِ} وما عطف عليها، ومنها {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} .
(2)
إعطاء رؤساء الدول الفقيرة والقبائل الكافرة لتأليف قلوبهم للإسلام.
وقد جاء في قرار الندوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة، في بيان أهم المجلات التي يصرف عليها هذا السهم «تأليف من يرجى إسلامه، وبخاصة أهل الرأي والنفوذ ممن يظن أن له دورًا كبيرًا في تحقيق ما فيه صلاح المسلمين»
(3)
.
(3)
القيام بحملات دعائية؛ لتحسين صورة الإسلام والمسلمين، يُصرف لها من هذا السهم؛ لكونه من معاني تأليف القلوب على الإسلام، فيدخل في العموم، ومن منع ذلك احتج بعدم وجود التمليك لمعينين.
وبعضهم: جعله من مصرف {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} لكونه نصرة للإسلام.
ومأخذ الحكم: عموم قوله: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} وكلام ابن عباس رضي الله عنهما، وإن كان في قوم قد أسلموا، إلا أن عموم النّص يشمله.
(1)
رواه ابن جرير بإسناده في تفسيره (6/ 399)، قال الألباني في إرواء الغليل (3/ 369):«لم أقف على إسناده الآن» . ونقله صاحب التحجيل في تخريج ما لم يخرج من الأحاديث والآثار في إرواء الغليل ص (141) عن ابن جرير وضعف إسناده.
(2)
أبحاث الندوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة، مصرف المؤلفة قلوبهم. ينظر: فتاوى وتوصيات ندوة قضايا الزكاة المعاصرة (54)، نقلاً عن نوازل الزكاة للغفيلي (407 - 413).
(3)
ينظر: فتاوى وتوصيات ندوة قضايا الزكاة المعاصرة (54)، نقلاً عن نوازل الزكاة للغفيلي (407 - 413).
فائدة: ذكرت الندوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة ضوابط لصرف سهم المؤلفة قلوبهم
(1)
، وتلك الضوابط هي:
(1)
أن يراعى في الصرف المقاصد ووجوه السياسة الشرعية، بحيث يتوصل به إلى الغاية المنشودة شرعاً.
(2)
أن يكون الإنفاق بقدر لا يضر بالمصارف الأخرى، وألا يتوسع فيه إلا بمقتضى الحاجة.
(3)
توخي الدِّقة والحذر في أوجه الصرف؛ لتفادي الآثار غير المقبولة شرعاً، أو ما قد يكون له ردود فعل سيئة في نفوس المؤلفة قلوبهم، وما قد يعود بالضرر على الإسلام والمسلمين.
• الحكم الثامن عشر: استدل بقوله: {وَفِي الرِّقَابِ} بعض العلماء على جواز فك الأسرى، وهو مذهب الحنابلة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
.
مأخذ الحكم: عموم اللفظ، والأسير رقبته مقيدة بالأسر، فيصرف عليه من هذا السهم؛ لفكاكها.
نوقش: بأن المقصود فك الرِّقاب، وليس من ذلك فكاك الأسرى؛ لأنهم أحرار، فالمراد بالرِّقاب: الأرقاء
(3)
.
وأجيب: بأن النص جاء بلفظ {وَفِي الرِّقَابِ} ، ولم ينص فيه على الأرقاء، أو العبيد، وهذا يدل على عموم اللفظ وشموله للعبيد، والمكاتب، والأسير، والأخير -كما سبق- رقبته مُقيَّدة بالأسر، ويكون الصرف عليها بفكاكها من الأسر
(4)
.
(1)
ينظر: فتاوى وتوصيات ندوة قضايا الزكاة المعاصرة (54)، نقلاً عن نوازل الزكاة للغفيلي (413).
(2)
ينظر: المغني (9/ 322)، نوازل الزكاة للغفيلي (423)، وفقه النوازل للمشيقح (233).
(3)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (424).
(4)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (425).
(1)
.
• الحكم التاسع عشر: استدل بها بعض المعاصرين على جواز فكاك الشعوب المسلمة المحتلة من الكافرين
(2)
.
ومأخذ الحكم: النظر إلى المقصد والمعنى؛ إذ إن استرقاق الشعوب في عقائدها وأموالها وسلطانها وحرياتها أشدّ وأخطر من استرقاق الفرد في حريته. وإن شئت قلت بقياس الأولى.
جاء في فتيا الشيخ محمود شلتوت رحمه الله وبعد ذكره انقراض الرِّق قال: «ولكن حلَّ محلَّه الآن رقٌّ هو أشد خطراً منه على الإنسانية، ذلكم هو رق الشعوب في أفكارها، وأموالها، وسلطانها، وحريتها في بلادها .... فهو رقٌّ عام دائم، وهو أجدر وأحق بالعمل على التخلص منه، ورفع ذله عن الشعوب، لا بمال الصدقات فقط، بل بكل المال والأرواح»
(3)
.
نوقش: بأن احتلال الكافرين لبلاد المسلمين ليس داخلًا في دلالة لفظ الرقاب لغة ولا شرعًا
(4)
.
فالرقبة لغة وشرعاً تحمل على المعروف في العهد النبوي، وهو الرِّق الفردي، وهو الذي كان سائداً قبل الإسلام. وجاء الإسلام متشوفاً للتخلص منه، وألفاظ
(1)
المغني (9/ 321 - 322).
(2)
ينظر: تفسير المنار (10/ 598)، وفتاوى الشيخ محمود شلتوت (118)، بواسطة كتاب نوازل الزكاة للغفيلي (427).
(3)
فتاوى الشيخ محمود شلتوت (118).
(4)
ينظر: فقه الزكاة للقرضاوي (2/ 664)، نوازل الزكاة (428).
الشارع تحمل على عرفه
(1)
.
كما أن المقصود المذكور يتحقق بالموارد الأخرى للزكاة، كمصرف {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}
(2)
.
• الحكم العشرون: استدل بقوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} من قال بصرف الزكاة للمقاتلين في سبيل الله دون غيرهم
(3)
، وصرفه لهم لا خلاف فيه بين العلماء.
ويخرج الحكم: على قاعدة: تقديم الحقيقة الشرعيّة على الحقيقة اللغويّة، إذا تعارضتا، فإن لفظ {سَبِيلِ اللَّهِ} يعني لغة: كل طريق يؤدي إلى مرضات الله، وهذا عامّ في كل معروف، لكن الشارع نقل هذا اللفظ العامّ على معنى خاص وقصره على الجهاد، فقدمت الحقيقة الشّرعية؛ لأنها مقصود الشارع في خطابه غالبًا.
تنبيه: من مصارفه العصريّة: إنشاء وتمويل المصانع الحربيّة، التي تصنع مختلف أنواع الأسلحة الثّقيلة والخفيفة، وشراء تلك الأسلحة عند الاحتياج، وإنشاء معاهد التّدريب على الأسلحة، والقتال للمؤهلين للدّفاع عن ديار الإسلام، وطبع الكتب والمجلات العسكريّة والتّوجيهيّة للمقاتلين المسلمين مما يحتاجونه في جهادهم، وإنشاء مراكز للدّراسات المختصّة بمواجهة خطط الأعداء
(4)
.
قال الدكتور عبد الله بن منصور الغفيلي: «وهذه الصور المذكورة إنّما يجوز صرف الزكاة فيها، إذا قرر علماء الأمّة انطباق الوصف الشّرعيّ عليها»
(5)
.
(1)
ينظر: بحث مصرف الزكاة د. نزيه حماد، ضمن أبحاث الندوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة (320)، بواسطة نوازل الزكاة للغفيلي (428) حاشية (1).
(2)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (428).
(3)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (431).
(4)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (445 - 446).
(5)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (446).
الحكم الحادي والعشرون: استدل بالآية على تعميم هذا المصرف في وجوه البر والخير، سواء كان جهاداً بالنّفس أو المال أو الحج والعمرة، أو الوقف، أو طلب العلم، أو بناء المساجد والقناطر، وتعبيد الطرق، وتكفين الموتى، وكفالة الأيتام والأرامل، والدّعوة إلى الله بنشر الكتب العلميّة وبناء المدارس والمستشفيات ومراكز الإغاثة
…
إلخ
(1)
.
ومأخذ الحكم السابق: وهو توسيع مفهوم {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} على أعمال البرّ ووجوهه.
أولاً: تحقيق مناط المصرف، باعتبار انطباق الوصف الشّرعيّ عليها.
ثانيًا: تفسير بعض الصّحابة لهذا المصرف؛ منهم: أنس بن مالك، وعبد الله بن عمرو، وابن عباس، وحذيفة
(2)
.
ثالثًا: ويمكن القول بعموم اللفظ، في كل تلك الوجوه؛ لأنها داخلة في معنى سبيل الله.
رابعاً: المقصد الشّرعيّ، أو تعميم الحكم لتعميم علته، وبيان ذلك: أن القصد من الجهاد في سبيل الله في الإسلام هو: أن تكون كلمة الله هي العليا، وهذا القصد يتحقق بإعداد الدعاة، وفتح المدارس والمعاهد .... إلخ.
الحكم الثاني والعشرون: استدل بقوله: {وَابْنِ السَّبِيلِ} صرف الزكاة على المهاجرين الفارين بدينهم، ومنهم من قصره على المسافر المنقطع.
(1)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (445 - 446)، مصرف {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} للفنيسان (106).
(2)
ينظر: مصرف {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} للفنيسان (107).
والأصل أن ابن السبيل: هو المسافر، مهما كانت مسافة سفره الذي طرأت عليه الحاجة؛ بسبب ضياع ماله، أو نفاد نفقته، وإن كان غنيًا في بلده
(1)
.
مأخذ الحكم: يرجع إلى تحقيق معنى {وَابْنِ السَّبِيلِ} ، فمن عممّه جعله شاملاً للمهاجر الفارين بدينهم وغيرهم
(2)
، ومن قصره على حقيقته الشرعية، وهو المسافر المنقطع الغريب. بناء على تقديم الحقيقة الشرعية على اللغوية.
وأدخل بعض المعاصرين في هذا المصرف المبعدون عن بلادهم التي بها أموالهم، مع رجاء عودتهم لبلادهم، بخلاف من لا يرجو ذلك فهو في حكم الفقير
(3)
.
وأدخل بعضهم في هذا المصرف: المغتربين عن أوطانهم لطلب العلم أو العمل، إن لم يستطيعوا أن يصلوا إلى أموالهم التي في بلادهم، ولم يقصدوا الإقامة والاستقرار في بلد الغربة، وغلب على الظن رجوعهم قريباً، حتى لا يدخلوا في مصرف الفقراء
(4)
.
الحكم الثالث والعشرون: استدل بالآية من أجاز صرف الزكاة على المحرومين من المأوى في بلادهم لظروفهم المعيشية الصعبة
(5)
.
مأخذ الحكم: يرجع إلى تحقيق معنى ومناط {وَابْنِ السَّبِيلِ} ، وقالوا يدخل هؤلاء فيه بمعنى السؤال، كما نص عليه بعض الحنابلة
(6)
.
(1)
فتاوى وتوصيات ندوات قضايا الزكاة المعاصرة، المتعلقة ببيان مصرف ابن السبيل (152) بواسطة كتاب نوازل الزكاة للغفيلي (454).
(2)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (454).
(3)
فلا يدخل في مصرف ابن السبيل. ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (457).
(4)
ينظر: نوازل الزكاة للغفيلي (459 - 460).
(5)
ينظر: فقه الزكاة للقرضاوي (2/ 729)، ونوازل الزكاة للغفيلي (458).
(6)
ينظر: الإنصاف للمرداوي (7/ 252)، ونوازل الزكاة للغفيلي (458).
أو لكونهم أبناء الطريق؛ لسكنهم في الطرقات والتجائهم إليها، فيأخذون حكم المسافر المنقطع عن ماله
(1)
.
نوقش: بعدم التسليم بأن ابن السبيل بمعنى السؤال لا لغة ولا شرعاً.
وكما سبق فإن ألفاظ الشارع تحمل على عرفه، وعرفه في ابن السبيل هو المسافر المنقطع عن ماله كما سبق.
الحكم الرابع والعشرون: استدل بالآية من أجاز صرف الزكاة على المسافرين لمصلحة عامة يعود نفعها للمسلمين.
مأخذ الحكم: يرجع إلى تحقيق معنى ومناط {وَابْنِ السَّبِيلِ} ، على القول بجواز إعطاء من يريد سفراً ولا يجد نفقة، فإنه يعطى من هذا المصرف
(2)
.
(3)
.
(1)
ينظر: فقه الزكاة للقرضاوي (2/ 729)، ونوازل الزكاة للغفيلي (458).
(2)
وهذا على مذهب الشافعية. ينظر: فقه الزكاة للقرضاوي (2/ 721)، ونوازل الزكاة للغفيلي (461).
(3)
نوازل الزكاة للغفيلي (462)، وأحال إلى مصرف ابن السبيل وتطبيقاته المعاصرة، ضمن أبحاث الندوة التاسعة لقضايا الزكاة المعاصرة (401).
كتاب الصيام
استدل بالآيات الكريمة على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: استدل بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} على فرضية الصيام، وهوأمر مجمع عليه، ومعلوم من الدين بالضرورة.
مأخذ الحكم: هو الإخبار بالحكم، ويُراد به الطّلب، وهو نصٌ في الوجوب مأخوذ من (كتب الشيء) إذا حتمه وألزم به، ولذا سميت الصلوات الخمس بالمكتوبات.
وأكّد الوجوب بقوله {عَلَيْكُمُ} ولا خلاف بين العلماء أن «على» من الألفاظ الدّالة على الوجوب، واعتبرها البعض من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب.
تنبيه: قوله: {الصِّيَامُ} اختلف هل هو مجمل أم من العامّ؟
فذهب بعضهم إلى أنه مجملٌ لكن السّنة بينته.
وذهب بعضهم إلى أنّه عامّ؛ لأنّ الصوم الإمساك، لكن الشرع قد خصصه بإمساك مخصوص عن أشياء مخصوصة، في أوقات مخصوصة على وجه مخصوص، ورجّح كل فريق مذهبه.
وسبق بيان القاعدة والأصل الذي بسببه ويقع الخلاف في حمل الأسماء الشّرعيّة التي علق الشارع عليها أحكامًا على الإجمال وعدمه.
تنبيه ثان: قوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} اختلف العلماء في معنى التشبيه في الآية أي: في الذي كان مفروضا، ثم فرض علينا كما فرض عليهم، وذكر أهل التفسير عددًا من الاحتمالات، وادعى بعضهم عدم ترجح أحد الاحتمالات، وعليه فهذا لفظ مجمل عنده، ومن تلك الاحتمالات:
(1)
المقصود بالذي كتب علينا كما كتب عليهم، صفة الصيام في الامتناع من الأكل أو الجماع بعد النوم، أو أن من صلى العتمة لم يأكل، ولم يقرب النساء بقية ليلته ويومه حتى يمسي، وقد كتب علينا هذا في أول الإسلام ثم نسخ بقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} الآية.
(2)
ويحتمل أن الذين كتب: العدد، أي: صيام شهر. وهذا محكم غير منسوخ إن أريد به شهر، وقيل: غير ذلك.
(3)
ويحتمل أن يريد به: العدد والوقت، أي: شهر رمضان وهذا محكم غير منسوخ.
(4)
ويحتمل أن يريد به جميع ما سبق.
(5)
ويحتمل أن يريد به تعَيُّن الصيام خاصّة، أي: الإمساك، لا على الصّفة، ولا على العدة، وإن اختلف الصيامان بالزيادة أو النقصان.
قال ابن الفرس: «وقد ذكر أهل التفسير هذه الاحتمالات، فذهب كل فريق
منهم إلى ما هو الأظهر منها عنده»
(1)
.
وقال ابن العربي: «وجه التّشبيه فيه محتمل لثلاثة أوجه: الزمان، والقدر، والوصف، ومحتمل لجميعها، ومحتمل لاثنين منها»
(2)
.
ثم قال: «والمقطوع به أن التشبيه في الفرضية خاصة؛ وسائره محتمل»
(3)
.
تنبيه ثالث: مما سبق عُلِم ما نسخ وما لم ينسخ، وتبقى أمور متعلقة بالنسخ منها:
الأوّل: على القول بالنسخ في الصفة، اختلف أهل العلم هل يكون ذلك نسخا لبقية الآية، بناء على اختلافهم في العبادة إذا نُسخ شرطٌ من شروطها هل يقال: إنّه نسخ لبعض العبادة لا لأصلها؟ أم يقال إنّه نسخ لأصلها؟ فمن رأها نسخًا لأصلها أطلق القول بأن الآية كلها منسوخة، ومن لم ير ذلك لم يطلق القول بذلك.
الثاني: ذهب بعض أهل العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة لصيام يوم عاشوراء، أو ناسخة لما كان كتب عليهم قبل أن يفرض رمضان وهو صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وكلاهما من نسخ السنة بالقرآن.
وقد فُسّر قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} بأنّه: ثلاثة أيام، وقيل: الأيام البيض، وقد روي عن معاذ أن ذلك كان واجبًا ثم نسخ، وقيل: المراد بها رمضان.
أمّا قوله: {عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} دلّ بعمومه الوارد في اسم الموصول {الَّذِينَ} والمعرَّف بالإضافة {قَبْلِكُمْ} أن الصيام كان مفروضا على الناس كلهم، وقيل المراد بهم أهل الكتاب، وقيل النصارى. والله أعلم.
(1)
أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 184).
(2)
أحكام القرآن لابن العربي (1/ 107).
(3)
المصدر السابق (1/ 108).
• الحكم الثاني: استدل بقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وجوب الصوم على المريض والمسافر.
مأخذ الحكم: قوله: (مَنْ) وهي شرطية تفيد العموم، فيدخل فيه كل مريض ومسافر.
وقوله: {مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} نكرات في سياق الشرط، فتعم كل مريض ومسافر.
وقد تعلق في المريض والمسافر بمقتضى هذه الآية أحكام:
• الحكم الثالث: اختلف العلماء في المراد بالمسافر والمريض الذي يبيح لهما الفطر.
مأخذ الخلاف يرجع إلى أصول منها:
إذا تعارض اللفظ والقصد، فأيهما المقدم؟، واللفظ هو السفر والمرض، والقصد من إباحة الفطر هو دفع المشقة اللاحقة بهما.
ومن العلماء من علق الحكم الذي هو إباحة الفطر هنا بالعلة في السّفر، في كونه سفرًا، وعلقها بالحكمة دون العلة في المرض، بالمشقة، ولم يعلقها بالمرض لكونه لا ضابط له.
قال ابن قدامة: «والمرض لا ضابط له؛ فإن الأمراض تختلف، منها ما يضر صاحبه الصومُ، ومنها ما لا أثر للصوم فيه، كوجع الضرس، وجُرح في الإصبع،
…
فلم يصلح المرض ضابطا، وأمكن اعتبار الحكمة، وهو ما يخاف منه الضرر، فوجب اعتباره»
(1)
.
(1)
المغني (3/ 156).
ثمّ إنّ للخلاف في قاعدة: العبرة بأوائل الأسماء أو بأواخرها؟ ارتباطاً هنا فمن قال بأن كل ما يطلق عليه سفرًا أو مرضًا فإنه يبيح الفطر، ولو كان سفرًا قصيرًا أو مرضًا يسيرًا، وحُكي عن ابن سيرين.
ومما سبق يُعلم أن من العلماء من فرّق بين السفر والمرض، ويمكن اعتبار ضابط السفر، هو ما تقصر به الصلاة، إمّا بالتحديد كما عند بعضهم، أو بالعرف، والله أعلم.
وعموم الآية حملها بعضهم على جميع أنواع السفر سواء كان لطاعة أو مباح أو معصية، وخص بعضهم بالقياس المباح والمعصية.
أمّا بالنسبة للمرض فإن كان يخشى من الصوم هلاك المريض أو تفويت منفعة من منافعه، أو أذى شديدًا، فهذا يجب عليه الفطر، وقد نقل بعض العلماء الإجماع على ذلك، ويعبَّر عنها الأصوليون بالرخصة الواجبة.
أمّا إن كان الصّوم يشق على المريض فالجمهور على جواز الفطر، وكونه أولى وأفضل، ومنهم من أوجب عليه الفطر.
أمّا إن كان الصوم لا يلحق المريض بسببه ضررًا، ولا مشقة كبيرة، فالجمهور على أنّه لا أثر للمرض في الصوم، فيجب عليه الصوم؛ لأنّ تحصيل مصالح العبادة أولى من دفع مثل هذه المشقة الني لا يؤبه لها.
ومعلومٌ أنّه ما من تكليف إلا وفيه مشقة محتملة، فلو كان مجرد وجود المشقة مانعًا لخلت التكاليف عنها.
تنبيه: ويلحق بالمريض هنا الصّحيح إذا غلب على ظنه المرض بصومه عند بعض العلماء.
قال ابن قدامة: «والصّحيح الذي يخشى المرض بالصيام، كالمريض الذي
يخاف زيادته في إباحة الفطر؛ لأن المريض إنما أبيح له الفطر خوفا مما يتجدد بصيامه، من زيادة المرض وتطاوله، فالخوف من تجدد المرض في معناه»
(1)
.
وإذا عرفت المآخذ السابقة، وتمهدت فسنتعرض هنا لمعرفة أهم معرفة أحكام الصوم والقضاء للمريض والمسافر فأقول:
• الحكم الرابع: اختلف العلماء في صوم المريض والمسافر هل يجزئهما عن فرضهما أم لا؟
فذهب الجمهور إلى الإجزاء، وذهب أهل الظّاهر إلى أنّه لا يجزئهما بل فرضهما أيام أخر.
مأخذ الحكم وسبب الخلاف: يرجع إلى الخلاف في وجوب التقدير في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . فقدّر الجمهور «فأفطر» فعدة من أيام أخر.
وقالوا: إنّما فرضه عدّة من أيام أخر إذا أفطر.
وهنا لا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يكون الاعتماد على كون الآية على المجاز، والعلاقة علاقة النّقصان، وهو كالموجود للافتقار إليه.
أو أنّه من دلالة الاقتضاء، لتوقف صحة الحكم عقلًا على المقدّر «فأفطر» مقدرة من أيام أخر، حيث إنّه دلالة المنطوق غير الصّريح، وهو مقصود للمتكلم، ويتوقف عليه صحة الحكم عقلًا وهو من أقسام الاقتضاء.
أمّا الظاّهرية فحملوا الكلام على حقيقته دون مجازه، ولم يروا توقف صحة الحكم عقلًا على المقدّر، وبناء عليه قالوا: ليس هناك محذوف، أو مقدر.
(1)
المغني (3/ 156).
وفرض المسافر والمريض عدة أيام أخر، وليست هي رمضان.
قال السيوطي: «واستدل به داود على أنه لا يصح صوم المريض والمسافر؛ لأنّه تعالى جعل الواجب عليه أيامًا أخر، فكان صائمًا قبل الوقت»
(1)
.
ثم إنّ الإتيان بما وجب عليهم في العدة من أيام أخر هو المسمى بالقضاء؛ لأنّه يدل عن الفعل في الوقت الأوّل، ويتقدر بمقداره، إذْ لو لم يكن عوضًا عن تلك، ولا بدلًا عنها لما تقدّرت بها. ويترتب على القضاء أحكام منها:
• الحكم الخامس: ذهب داود الظاهري أنه على الفور.
مأخذ الحكم: كون الأمر يقتضي الفور، وأنّه إذا لم يصم اليوم الثّاني من شوال أثم وإن مات عصى.
وذهب الجمهور أنّه على التّراخي، وأن الأمر مصروف في قضاء رمضان لما ثبت عن عائشة رضي الله عنها.
• الحكم السادس: ذهب جمهور أهل العلم إلى عدم اشتراط التتابع.
مأخذ الحكم: هو أنّ الأصل في المطلق أنّه يبقى على إطلاقه، إذا لم يرد المقيد المعتبر، والإطلاق في تنكير (أيامًا).
ويذكر أهل الأصول هذه المسألة في مسألة إذا وجد نصان مقيدان بقيدين مختلفين، كتقييد صوم الظهار بالتتابع بقوله تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} .
والتفريق في صوم المتعة بقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} ووجد نصٌ مطلق - كالوارد هنا -
(1)
الإكليل (1/ 344).
قالوا هنا في قضاء رمضان فلم يرد به تتابع، ولا تفريق فأطلق القضاء، وجنس الجميع واحد وهو الصوم.
أمّا من حيث اللغة، فلا خلاف أنّه لا يلحق بواحد منهما لغة، إذ لا مدخل للغة في الأحكام الشرعية، والخلاف إنّما في جواز حمله قياسًا إذا وجد جامع معتبر، وفي مسألتنا لا يوجد الجامع بين المطلق وأحد القيدين إذ لا شبة بين صيام القضاء وبين صيام الظهار، وعليه فيبقى المطلق على إطلاقه، فلا يجب في صوم قضاء رمضان تتابع ولا تفريق.
أمّا إذا قال قائل بوجود علة بين المطلق والمقيد تقتضي الإلحاق، فإن المسالة تعود للخلاف في مسألة حمل المطلق على المقيد إذا اتحد الحكم واختلف السبب.
وقال الطوفي وغيره تبعًا للموفق ابن قدامة بحمل المطلق على أشبههما به أي: من المقيدين بقيدين مختلفين
(1)
.
• الحكم السابع: إذا شرع في قضاء الصوم فهل يلزمه بالشروع فيه، ويحرم خروجه منه؟
مأخذ المسألة عند الأصوليين، أنّ ما كان وقته موسعًا من فرائض الأعيان فإنّه يلزم بالشروع، ويحرم الخروج منه بلا عذر، ونُسب للأئمة الأربعة
(2)
.
ونقل بعضهم عدم الخلاف. والخلاف موجود ومنقول عن الشافعي أيضًا.
وقال المجد بن تيمية معللًا للقول الأول: «لا نعلم فيه خلافًا؛ لأنّ الخروج من عهدة الواجب متعين، ودخلت التوسعة في وقته رفقًا ومظنة الحاجة، فإذا شرع
(1)
التحبير للمرداوي (6/ 2735).
(2)
التحبير (6/ 886).
تعينت المصلحة في إتمامه»
(1)
.
• الحكم الثامن: من أفطر في رمضان كله قضى أيامًا بعدده، فلو كان تامًا لم يجزه شهر ناقص، أو ناقصًا لم يلزمه شهر كامل، خلافًا لمن خالف في الصورتين:
مأخذ الحكم: قال ابن الفرس: «لأنّ ظاهر الآية أنّ على المفطر أيامًا بعدد الأيام التي أفطرها، ولم يفرّق بين أن تكون تلك الأيام شهرًا أو لا تكون
…
»
(2)
.
فقوله: {فَعِدَّةٌ} أي فالواجب عليه أياماً معدودة بقدر ما أفطر.
• الحكم التاسع: يجزئ صوم يوم قصير مكان يوم طويل.
قال السيوطي: «ولا أعلم فيه خلافًا»
(3)
.
مأخذ الحكم: أطلقت الآية الأيام في قوله: {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، واليوم يصدق على الطويل والقصير، والمطلق يجري على إطلاقه.
• الحكم العاشر: لا فدية مع القضاء على المسافر والمريض
مأخذ الحكم: عدم النص على ذلك، ولا واجب بغير دليل.
• الحكم الحادي عشر: ظاهر قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} تدل على أن المطيق للصوم، دون تكلف ولا مشقة يباح له الفطر، والفدية.
مأخذ الحكم: باعتبار أنه مخير بين الصّوم أو الفطر والفدية، وهذا الحكم منسوخ في حقه بإجماع والناسخ كما سيأتي {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
(1)
المصدر السابق (6/ 887).
(2)
أحكام القرآن (1/ 190 - 191).
(3)
الإكليل (1/ 346).
ويحتمل أن يراد بالآية المطيق عامًا وإن كان عن تكلف ومشقة، فيدخل أصحاب الأعذار كالمسافر والمريض، ثم رفع منها حكم المطيق دون تكلف ولا مشقة بوجوب الصوم عليه كما سبق.
وقيل بأن العموم هنا لا يدخل فيه المسافر والمريض، بل يجب عليهم القضاء لقوله تعالى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
ويحتمل المراد بالآية المطيقون للصوم بالتكلف والمشقة من غير أهل الأعذار، كالشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، وعلى هذا فالآية محكمة غير منسوخة، وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا بناء على تقدير لا النافية، أي:(على الذين لا يطيقونه) أو على تأويل (يطيقونه) على معنى يتكلفون، وفي البخاري عن عطاء سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ (وعلى الذين يُطوّقونه فلا يطيقونه فدية طعام مسكين)، قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، وهو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما، فيطعما مكان كل يوم مسكينا»
(1)
.
وهذا قول صحابي ثابت عنه في تفسير آية، فهو حجة، ووجه هذا القول: هو اعتبار أن الفدية معادلة للصوم في مقام التخيير لما كان في أول الأمر مخيَّراً بين الصوم أو الفدية، فلما تعذر أحد البدلين في الشيخ الكبير وهو الصوم ثبت الآخر وهو الفدية.
• الحكم الثاني عشر: يلحق بالشيخ الكبير: الحامل والمرضع.
وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: (وكانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما
(1)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} برقم (4505).
يطيقان الصيام يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكينًا، والمرضع والحبلى إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا»
(1)
.
وروى عن ابن عمر رضي الله عنهما، ولم يوجبا عليهما القضاء، وهذا مأخذ هذا القول، وهو قول الصحابي وكذا القياس على الشيخ بجامع العجز وعدم القدرة وقوعاً أو تقديراً.
قال السيوطي: «قال أبو عبيد: اختلف الناس في الحامل والمرضع. فقيل: عليهما الفدية دون القضاء. وقيل: القضاء دون الفدية، وقيل: الأمران. وكلّ تأول الآية.
فمن قال بالفدية فقط رأى أنهما ممن لا يطيق، وليستا من أهل السفر ولا المرض، وأهل هذا الوصف هم أهل الفدية.
ومن رأى القضاء فقط رأى الحمل والرضاع علتين من العلل كالمرض
ومن أوجبهما قال: إن الله حكم في تارك الصوم بعذر بحكمين، القضاء في أية، والفدية في أخرى، فلما لم يجد لهما ذكرًا في واحدة منهما جمعهما عليهما أخذًا بالأحوط»
(2)
أ. هـ.
• الحكم الثالث عشر: يلحق بالشيخ الكبير والمرأة العجوز: المريض الذي لا يرجى برؤه.
قال السيوطي: «وإن جعلناها محكمة ففيها دليل على إباحة الإفطار لمن لا يطيق لعذر لا يرجى برؤه وأنّ عليه فدية بدل الصوم»
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود في أول كتاب الصوم، باب من قال: هي مُثبَتَة للشيخ والحبلى برقم (2318)، والدر المنثور للسيوطي (1/ 431).
(2)
الإكليل (1/ 349 - 350).
(3)
الإكليل (1/ 348).
ومأخذه: القياس كما سبق.
• الحكم الرابع عشر: استدل بقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ، من ذهب إلى وجوب الفدية على الشيخ الكبير والعجوز باعتبار أن الآية محكمة، وأن الشيخ داخل تحت عمومها.
مأخذ الحكم والوجوب: قوله: {وَعَلَى} الدّالة على الوجوب كما سبق، وهذا مذهب أكثر أهل العلم، وذهب بعضهم: إلى أن الإطعام غير واجب وإنّما هو مستحب؛ لكونه مفطرًا بعذر، موجود، فلم يلزمه كالمريض والمسافر.
فائدة: مقدار الفديّة: مُدّ بر أو نصف صاع من غير البر، وهو بالخيار إن شاء فدى عن كل يوم بيومه، وإن شاء أخر إلى آخر يوم فيصنع طعامًا بحسب الأيام التي عليها، ويدعو المساكين إليه كما فعل أنس رضي الله عنه لما كبر. وإن أطعمهم طعامًا غير مطبوخ.
قال بعضهم: ينبغي أن يجعل معه ما يؤدمه من لحم أو نحوه، حتى يتم قوله تعالى:{طَعَامُ مِسْكِينٍ} .
وبيَّن الموزعي مأخذ الذين قدروا الفدية فقال: «فإن قلتم فما مقدار طعام مسكين؟.
قلت: مُدٌّ عند أهل الحجازي، ونصف صاع عند أهل العراق.
ومستند فقهاء الحجاز أنهم وجدوا أقلَّ شيء أُخرج وأُطعم فجعلوه حدَّاً مقدَّراً، ويستأنسون بما ورد في بعض طرق حديث الكفارة على المجامع في نهار رمضان: أن العَرَقَ الذي أُتي به النبي صلى الله عليه وسلم كان فيه خمسة عشر صاعاً، فقال له:(خذه وتصدق به) بعد أن ندبه إلى إطعام ستين مسكيناً. ومستند أهل العراق: فدية الأذى، رأوها أقرب الأشياء شبهاً به، من حيث إنه يحرم فعلهما من غير عذر،
ويجوز فعلهما مع العذر، فدلَّ على أنه مثله»
(1)
.
أمّا مصرف الزكاة فهم المساكين كما نصت الآية.
• الحكم الخامس عشر: استدل بقوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} من أجاز التطوع بصوم يوم الشك.
مأخذ الحكم: العموم داخل على المتطوع بصيغة (من) الشّرطية، وداخل على المتطوع به في تنكير {خَيْرًا} في سياق الشرط، فيعم كل خيرٍ.
قال ابن الفرس: «وهذا الاحتجاج يدل على أن الخير في الآية يدُلّ عند من احتج بها عام في جميع أنواع الخير»
(2)
.
• الحكم السادس عشر: استدل بقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} على أن الصوم لمن أبيح له الفطر أفضل ما لم يجتهد.
مأخذ الحكم: الخيرية الواردة في الآية؛ إذ المعنى: وأن تصوموا أيها المرخصون لكم في الإفطار من المرضى والمسافرين، والذين يقدمون على الصوم مع المشقة {خَيْرٌ لَكُمْ} من الإفطار والفدية، أو تطوع الخير، أو منهما ومن التأخير للقضاء.
• الحكم السابع عشر: استدل بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، على وجوب الصوم على كل من شهد الشهر.
مأخذ الحكم: أولاً: قوله {فَمَنْ} شرطية تعم كل من شهد الشهر، فإنّه يجب عليه الصوم، ويحمل العامّ على عمومه إلّا ما خصه الدّليل، وقد دلّ الدليل على
(1)
تيسير البيان (1/ 244 - 245).
(2)
أحكام القرآن (1/ 197).
إخراج الصّغير.
ثانياً: قوله: {فَلْيَصُمْهُ} مضارع مجزوم بلام الأمر، وهو أحد الصّيغ الصّريحة للأمر، والدالة.
ثالثاً: اقتران الحكم وهو وجوب الصوم على شهود الشهر، فيكون شهود الشهر سبباً أو علّة للصوم، ويؤخذ من مفهومها أن من لم يشهد الشهر فإنه لا يجب عليه.
• الحكم الثامن عشر: اختلف العلماء في معنى الشهود للشهر، والمقصود منه:
فقيل: هو رؤية الهلال أو العلم برؤيته قاله كثيرٌ من أهل العلم، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:(إذا رأيتموه فصوموا)
(1)
ثم لما شهد عنده من رآه، أمر جميع الناس بصيامه، ولم يشترط على الجميع رؤيته.
وقيل: شهد بمعنى أدرك، كما يقال: شهد زمان النبي صلى الله عليه وسلم أي: أدركه.
وهذا مأخذ كثير من المسائل، ومن المسائل المترتبة عليه:
المسألة الأولى: دخول الرؤية عبر المراصد الفلكية، إذ إنّه يقال عمن رآه بواسطتها أنّه رآه.
أمّا الحساب فقد يدخل في معنى الشهود بأنّه العلم برؤية الهلال بأي طريق كان، والجمهور على عدم اعتباره، ونقل بعضهم الإجماع على عدم اعتباره - والله أعلم - والخلاف محله عندما تتعذر رؤية الهلال لمانع الغيم أو قتر، أو تقدم للشمس على القمر إلى غير ذلك.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان، برقم (1801)، ومسلم في كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوما، برقم (1080).
المسألة الثانية: عدم اعتبار اختلاف المطالع، بل إن رؤي في بلد ما، وجب على جميع المسلمين الصيام، وهي مسألة خلافية منذ القدم.
ومن قال باعتبار اختلاف المطالع استدل بأدلة أخرى. أمّا إذا اتحدت المطالع فقد لزم الصوم؛ إذ إنهم يعتبرون في حكم المشاهد أي: حكمًا لا حقيقة.
المسألة الثالثة: إذا شهد الشهر أثناء النهار، فإنه يلزمه الإمساك، واختلفوا هل يلزمه القضاء، فذهبت الحنفية إلى أنّه قد صام بعد شهوده الشهر، فخرج من عهدة الأمر، أخذًا بعموم الآية. وحمل الجمهور الصيام هنا على الصيام الشّرعي، ولا يُعلم أن من صام بنيةٍ من النهار، قد أتى بصوم شرعي، فلا يخرج من عهدة الأمر.
المسألة الرابعة: إنّ من شهد الشهر ورآه لوحده، ورُد قوله، فإنّه يلزمه الصوم لعموم الآية.
ومنها: أن من شهد أوّل الشهر، أو آخره فليصم ما دام مقيمًا، بخلاف من قال إن من حضر دخول الشهر وكان مقيمًا في أوله فليكمل صيامه سافر بعد ذلك أو لا، وإنّما يفطر في السّفر من دخل عليه رمضان وهو في سفره، وهذا القول وإن قال به علي وابن عباس وغيرهم إلّا أنّه مردود بسفر النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان وإفطاره فيه وهو بالكديد
(1)
.
ومأخذ القولين من الآية القول بأن الشهر في الآية منصوب على الظرف، وأن المفعول محذوف، والتقدير: فمن شهد منكم المِصْرَ في الشهر فليصم.
المسألة الخامسة: أن المجنون إذا تمادى به الجنون طول الشهر، فلا قضاء عليه؛ لأنّه لم يشهد الشهر بصفة يجب بها الصيام. ومن جُن أوّل الشهر أو آخره فإنّه يقضي أيام جنونه، وهو مذهب أبي حنيفة.
وقال الشافعي: إن أفاق بعد انقضاء الشهر فلا قضاء عليه، وإن أفاق في بعضه
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الصيام، باب إذا صام أياماً من رمضان ثم سافر، برقم (1944).
لم يقض ما فات، وصام ما بقي منه.
وذهب مالك إلى أنّه يلزمه القضاء، أفاق قبل انقضاء الشهر أو بعده، واعتمد على عموم قوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وهذا شهد الشهر مريضًا فيلزمه عدة من أيام أخر. فحمل الشهود والإدراك بالإقامة وترك السفر، وغيره شهوده بشروط التكليف.
أو {شَهِدَ} بمعنى أدرك، فتحمل على مطلق الإدراك، والمجنون قد أدرك ذلك الزمان فلزمه الصوم لزومًا في الذّمة.
المسألة السادسة: إذا التبست الشهور على أسيرٍ أو تاجرٍ في بلاد العدو، أو غيره، فاجتهد فصام فوافق رمضان، فإنّه يجزئه عند الجمهور؛ لعموم الآية، فهذا قد شهده وصامه.
أمّا إن لم يوافق رمضان بل كان قبله فإنه لا يجزئه الصيام؛ لأنّه لم يشهد الشهر، فلم يلزمه أن يصومه. وأمّا إن كان بعده، فإنّه يجزئه قولًا واحدًا.
المسألة السابعة: عدم جواز النيابة في الصيام، فلا يجوز أن يصوم أحدٌ عن أحد لقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
فأوجب على المكلف أن يصومه، أو يقضيه بنفسه، فانتفى بذلك أن يصوم غيرُه عنه.
المسألة الثامنة: من سافر بعد طلوع الفجر فليس له أن يفطر؛ لكونه شهد الشهر فعليه صومه، نسبه ابن الفرس للجمهور استدلالًا بالآية، ونُسب للإمام أحمد جواز الفطر
(1)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 201).
فائدة: قال بعض العلماء في فائدة تكرار حكم الفطر للمريض والمسافر، في قوله:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أن التكرار لأجل التأكيد بأنهما باقيان على حكمهما، لما كان يتطرق الظن على نسخ حكمها عند نسخ حكم قرينتيهما، وهما التخيير بين الصيام أو الفطر مع الفدية، وترك الذين لا يطيقونه الصوم ولم يكررهم؛ لعدم تطرق الظن إلى نسخ حكمهم؛ فإنّه معلوم أن الله سبحانه لم يحتّم عليهم الصيام؛ لأنّهم لا يطيقونه، وقد قال في آخر الآية {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .
• الحكم التاسع عشر: استدل بقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} ، على وجوب اعتبار العدد.
قال السيوطي: «وفيه دليل على اعتبار العدد إذا لم ير الهلال، ولا يرجع فيه لقول الحُسَّاب والمنجمين»
(1)
.
مأخذ الحكم: باعتبار أن (اللام) هنا يجوز أن تكون لام الأمر؛ أي: لتكملوا عدد أيام الشهر بقضاء ما أفطرتم في صومكم وسفركم.
• الحكم العشرون: استدل به أبو حنيفة على أن من صام على أن من صام تسعة وعشرين باعتبار رؤية بلده، وقد صام أهل بلدة أخرى ثلاثين أنّه يلزم أولئك قضاء يوم، وهذا باعتبار عدم الأثر لاختلاف المطالع، وقد سبقت الإشارة إليها.
مأخذ الحكم: أنّه قد ثبت برؤية تلك البلدة أن العدة ثلاثون، فوجب على هؤلاء إكمالها، لما سبق من جواز كون اللام في الآية للأمر.
(1)
الإكليل (1/ 356).
• الحكم الحادي والعشرون: استدل بقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} على مشروعية التكبير لعيد الفطر، وأن وقته من إكمال العدّة، وهو غروب شمس آخر يوم من رمضان، وقيل: عند الخروج للمصلى؛ لفعله عليه الصلاة والسلام.
مأخذ الحكم: تفسير حبر الأمة للآية بذلك، حيث قال: «حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبروا الله حتى يفرغوا من عيدهم؛ لأنّ الله يقول: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}
تنبيه: الآية حجة على أبي حنفية الذي قال بأنه يكبر في الأضحى، ولا يكبر في الفطر، وذهب داود إلى وجوبها، وذهب الجمهور، إلى أنها مستحبة، ولعل الصّارف لها اتفاق أهل العلم على ما حكاه النووي، حيث قال: «
…
دليل على استحباب التكبير لكل أحد في العيدين، وهو مجمع عليه»
(1)
.
• الحكم الثاني والعشرون: استدل بالآية من قال بوجوب الصيام في البلاد التي يستمر فيها الليل أو النّهار، ويقدِّرون صومهم بصوم أقرب البلاد المعتدلة إليهم؛ وبه أفتت اللجنة الدّائمة، وصدر قرار مجمع الفقه الإسلامي
(2)
.
مأخذ الحكم: عموم الأدلة الواردة على وجوب الصيام على المسلمين.
ومنها: قوله: في هذه الآية {كُتِبَ} وهو إخبار عن حكم الشّارع، والكتب
(1)
شرح النووي على مسلم (6/ 179). وذكر في المجموع (5/ 40 - 41) الخلاف فقال: «هو مستحب عندنا وعند العلماء كافة إلا ما حكاه الشيخ أبو حامد وغيره عن ابن عباس أنه لا يكبر إلا أن يكبر إمامه، وحكى الساجي وغيره عن أبي حنيفة أن لا يكبر مطلقاً، وحكي العبدري وغيره عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وداود أنهم قالوا: التكبير في عيد الفطر واجب، وفي الأضحى مستحب» .
(2)
ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 133 - 134)، و (9/ 342 - 343) فتوى رقم (12756)، وقرارات المجمع الفقهي الإسلامي (93)، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز (15/ 293)، فتاوى إسلامية لابن عثيمين (2/ 124)، وإتحاف رب البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (76 - 77).
معناه الإيجاب
(1)
.
وأكد الوجوب بقوله: {عَلَيْكُمُ} وهي نص في الوجوب أيضا، وضمير الجمع يدلّ على العموم، فيشمل البلاد والزمن المعتاد، وغير المعتاد.
• الحكم الثالث والعشرون: استدل بها من أجاز دخول الشّهر بالاعتماد على الحساب الفلكي
(2)
؛ حيث فسر معنى شهود الشهر بالعلم بوجوده، ومن علم بوجود هلال الشهر بعد غروب شمس آخر يوم من شعبان، بأي طريق من طرق العلم، - ومنها الحساب الفلكي - وجب عليه الصّوم.
قال ابن عبد البر: «إنَّ شهوده رؤيته أو العلم برؤيته»
(3)
.
مأخذ الحكم هو: أن قوله {شَهِدَ} جملة فعلية تنزل منزلة النكرات، وهي في سياق الشّرط، فتعمّ أي: شهود، وقد فسر الشهود بالعلم، أي: بأي علم كان.
نوقش: بأن المراد ب {شَهِدَ} في الآية حضر لا شاهد بدليل قوله بعده: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ} ؛ لأن قوله: {عَلَى سَفَرٍ} يقابل حضر
(4)
.
(1)
وقد جعلها بعض الأصوليين نصَّاً في الوجوب. ينظر: المختصر في أصول الفقه (115)، وشرح الكوكب المنير (1/ 181).
(2)
وبهذا قال بعض الحنفية، والمالكية، والشافعية،، وقال به جمعٌ من المعاصرين: كمحمد رشيد رضا، ومحمد نجيب المطيعي، وأحمد شاكر، ومصطفى الزرقا، ويوسف القرضاوي، وأحمد الغماري. ينظر: العلم المنشور في إثبات الشهور، ص (20)، و إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (3/ 327)، ومجموع فتاوى ابن تيمية (25/ 121)، وإحكام الأحكام مع العدة (3/ 326)، وتفسير المنار (2/ 151)، وإرشاد أهل الملة في إثبات الأهلة، ص (258)، والعقل والفقه في فهم الحديث النبوي، ص (84، 85)، وتيسير الفقه في ضوء القرآن والسنة «فقه الصيام» ، ص (30، 31)، و توجيه الأنظار، ص (52، 53) وأوائل الشهور العربية، ص (13، 14).
(3)
التمهيد (2/ 39).
(4)
ينظر تفسير القرآن الكريم، لابن عثيمين (2/ 334).
وبهذا التفسير استدل من قال بعدم جواز الاعتماد على الحساب الفلكي بالآية نفسها.
تنبيه: القائلون بجواز الاعتماد على الحساب الفلكي اختلفوا في حدود العمل به: فمنهم من قصر العمل بالحساب الفلكي في الحالة التي يكون فيها الجوّ غائمًا، أو يحول دون رؤية الهلال قتر ونحوه، ومنهم من جعل الحكم خاصًّا بالحاسب دون غيره، ومنهم من أجاز الاعتماد عليه في النفي لا الإثبات، ومنهم من قال بجواز الاعتماد عليه مطلقًا
(1)
.
• الحكم الرابع والعشرون: استدل بها على جواز الاستعانة (بالدربيل) لرؤية الهلال
(2)
.
مأخذ الحكم: أن {شَهِدَ} هنا بمعنى شاهد، والمشاهدة في الآية عامّة -كما سبق - فتشتمل ما إذا رؤي بالعين المجردة أو بواسطة (الدربيل) والمراصد، فيحمل العام على عمومه
ووجه كون {شَهِدَ} عامة؛ لأنّها فعل فتنزل منزلة النكرة، وهي في سياق الشرط فتعم، وتشمل كذلك المشاهدة بواسطة المراصد (الدربيل)
(3)
؛ لأنّ العام يجري على عمومه مالم يرد دليل التّخصيص.
(1)
ينظر: إثبات هلال رمضان، ص (40)، ومجموع فتاوى ابن تيمية (25/ 208)، والفتاوى الكبرى (2/ 464)، تيسير الفقه، ص (31، 32)، أقوال الشيخ ابن عثيمين في المستجدات الفقهية (584) رسالة علمية آلة.
(2)
ينظر: أبحاث هيئة كبار العلماء (3/ 47)، مجلة البحوث الإسلامية، ع 29، عموم البلوى (432، 433)، وأثر التقنية الحديثة في الخلاف الفقهي (236، 237)، المستجدات في وسائل الإثبات (202، 203)، مجموع فتاوى ابن باز (15/ 70)، فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية (10/ 99)، مجموع فتاوى ابن عثيمين (19/ 36، 37)، الفقه الميسر (9/ 134).
(3)
ينظر: أبحاث هيئة كبار العلماء 3/ 47، فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 10/ 99.
• الحكم الخامس والعشرون: استدل بالآية على القول بأنّه لا عبرة باختلاف المطالع، فمتى ما رأى الهلال أهل بلد، وجب الصّيام على جميع البلاد الإسلاميّة
(1)
.
مأخذ الحكم: دلّت الآية على ثبوت الشّهر بنفسه، من أي مطلع كان؛ إذ علق سبحانه الصيام بشرط ثبوت الشهر والعلم به، والشرط هنا لغوي، فهي أسباب شرعيّة، والمعلق على سبب يثبت بثبوته، والشهود عامّ على ما سبق، ويبقى على عمومه ما لم يرد تخصيصه.
• الحكم السادس والعشرون: استدل بالآية على وجوب الصوم على السّاكنين في المناطق التي يستمر فيها الليل والنهار، بعموم الأوامر الدّالة على وجوب صيام رمضان على المسلمين عامّة
(2)
.
مأخذ الحكم: أن قوله سبحانه {مَنْ} شرطيّة تعمّ كل من شهد الشهر وهؤلاء أمروا بالصّيام بقوله: {فَلْيَصُمْهُ} وهو فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، يقتضي وجوب الصيام على جميع المسلمين.
(1)
ينظر: اللجنة الدائمة (10/ 96، 100، 102، 110)، والفقه الميسر (9/ 132)، وإتحاف رب البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (80).
(2)
ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 133 - 134)، وقرارات المجمع الفقهي الإسلامي (93)، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز (15/ 293)، فتاوى إسلامية لابن عثيمين (2/ 124).
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: جواز الرفث إلى النساء في الليل، وتقييده بالليلة كناية عن الجماع، ويطلق الرّفث على كل ما يأتيه الرجل مع المرأة من قبلة ولمس وجماع، أو كلام في هذه المعاني.
مأخذ الحكم: قوله: {أُحِلَّ} وهو من الألفاظ الخبرية الدّالة على الحكم،، والحل يرد في الكتاب والسّنة مقابل الحرمة، ويدخل فيه كل ما ليس محرمًا من واجب ومندوب ومكروه ومباح، وهنا يراد به الإباحة.
كما أن قوله تعالى: {بَاشِرُوهُنَّ} يدخل في المباشرة جميع أنواعها، ومن ذلك الجماع، وهو أمر بعد حظر فيحمل على الإباحة.
قال ابن الفرس: «والمراد بالأمر الإباحة لا الايجاب ولا الندب، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}»
(1)
.
فائدة: قال ابن الفرس: «وقوله تعالى: {أُحِلَّ} يقتضي أنّه كان محرمًا قبل ذلك»
(2)
وبيّن أنّ العلماء اتفقوا على كون هذه الآية ناسخة، وقد نسخت صفة الصوم في أوّل الإسلام، فيما إذا نام أحدهم ليلة الصيام لم يحل له الأكل ولا الجماع بعد ذلك، والمنسوخ وارد في قوله:{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183]، إذا حمل التشبيه في الصفة، وكذا المنسوخ ثابت بالسنة، فتكون الآية مثالاً لنسخ الكتاب بالكتاب، أو نسخ السنة بالكتاب.
• الحكم الثاني: جواز الأكل والشرب ليلاً.
مأخذ الحكم: قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} أمرٌ بعد حظر فهو على الإباحة.
(1)
أحكام القرآن (1/ 204).
(2)
أحكام القرآن (1/ 203).
• الحكم الثالث: استدل بقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} على تحريم الوصال.
مأخذ الحكم: أولاً: هو رأي أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وأنّه يقتضي النهي عن الوصال.
ثانياً: لعل ذلك - من الآية - لأن المأمور مغيا إلى الليل، فيقتضي المخالفة لما بعده، فيجب الأكل ليلاً.
وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن الوصال مباح كيف كان، وأنّ النهي الوارد فيه إنّما هو من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، أمّا من قدر عليه فلا حرج عليهم.
وقيل: إنّ الوصال يكون من سحر إلى سحر لقوله عليه الصلاة والسلام (لا تواصلوا، وأيّكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر)
(1)
، وقيل: مكروه، وقيل: حرام، وفي السنة بيان أحكامه.
فائدة: يتكلم أهل الأصول عن حروف الغاية ك (إلى) هنا في قوله {إِلَى اللَّيْلِ} وينظر إليها من جهة كونه حرف غاية موضوع لانتهاء الغاية، والخلاف في دخول الغاية فيها، وما يدّل عليه من مفهوم، والتخصيص بالغاية، وهل الغاية تدخل في المغيا؟
غاية الشّيء: طرفه ومنتهاه، ثم تطلق تارة على الحرف كقوله {إِلَى اللَّيْلِ} فإذا قيل الغاية هل تدخل في المغيا أولا تدخل؟ فيقال: إن أريد بالمعنى الأول - وهو طرف الشيء ومنتهاه - فداخلة قطعًا، وإن أريد ما بعد الذي دخل عليه الحرف فلا خلاف في عدم دخوله، وإن أريد نفس ما دخل عليه حرف الغاية فهو محل الخلاف، المعبر عنه بما بعد الغاية هل يدخل فيما قبلها؟ فإنّ الغاية هنا نفس الحرف
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب الوصال، برقم (1862).
وما دخل عليه هو ما بعد الغاية قاله المرداوي بتصرف
(1)
.
وهنا لا يدخل شيءٌ من الليل في الإمساك، وذكر الرازي عدم دخوله؛ لأنّه تميَّز أو انفصل عما قبله بالحس.
أمّا بيان كون الغاية مخصصة، هو بالنّظر إلى أن المراد بالصوم هنا الصوم اللغوي، هو شامل الليل والنهار، فخصصتِ الغاية الصوم بالنهار.
أمّا كون الغاية له مفهوم هنا بالنّظر إلى أن الصوم الشرعي مختص بالنهار، كما أن العموم في الصوم إنّما هو في أفراد الصوم لا لأوقاته.
• الحكم الرابع: استدل بقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ، على جواز الأكل والشرب حتى يتبين لنا الخيط الأبيض من الأسود.
مأخذ الحكم: علّق الشارع الحكم على التبيين بحرف {حَتَّى} ومفهومه: إن لم يتبين لنا الخيط الأبيض فيحل لنا الأكل، وضد التّبين الظّن والشّك، ويبنى على هذا المأخذ مسائل:
المسألة الأولى: جواز الأكل والشّرب لمن شك في طلوع الفجر، خلافًا لمالك.
المسألة الثانية: استدل بعضهم بعدم القضاء ولو بان له أنّه أكل بعد الفجر؛ لأنّه أكل في وقت أُذن له فيه؛ لأنّ الله علّق الحكم على التّبيُّن لنا، لا على التبين في نفس الأمر.
وقال قوم: الحكم معلّق على التبيُّن نفسه من غير تعليق بنا، فلا يجوز له الأكل، وإن أكل لزمه القضاء. وعليه فالحكم معلّق بالفجر الثّاني المستطيل الأبيض
(1)
انظر: التحبير (6/ 2629).
لا الأحمر وهو قول عامّة أهل العلم. وذلك بقرينة {الْفَجْرِ} وهو ضوء النّهار بطلوع الفجر من ظلمة الليل وسواده، وهو يمنع القول بأن المراد انتشار البياض واستفاضته في السماء، حتى يملأ بياضه الطرق، فلم يصح خيطًا.
المسألة الثالثة: استدل بالآية على بطلان من أكل أو شرب، وهو يشك في غروب الشمس؛ لأنّه لم يتيقن إتمام الصيام إلى الليل، وهو مستصحب حال النّهي عن الأكل والشرب، وسواء تبين له الغروب أو لم يتبين.
المسألة الرابعة: بطلان من أكل أو شرب معتقدًا دخول الليل، ثم ظهرت الشمس؛ لأنّه لم يتم الصيام إلى الليل، وبهذا قال أكثر أهل العلم، ومنهم من ألحقه بالناسي.
• الحكم الخامس: استدل بعضهم بعدم وجوب الإمساك قبيل طلوع الفجر.
مأخذ الحكم: مفهوم الغاية؛ إذ إنّ الغاية في قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} يدل على أنّ الليل كلها محل أكل وشرب وجماع.
وذهب مالكٌ إلى وجوب الإمساك قبيل طلوع الفجر؛ لأنّه لا يتم الواجب إلّا بذلك فهو واجب.
• الحكم السادس: استدل به اللخمي على إجزاء النّية مع طلوع الفجر.
مأخذ الحكم عنده: أنّه إذا كان الأكل مباحًا إلى الفجر لم تجب النّية إلّا في الموضع الذي يجب فيه الإمساك.
فائدة: من قال بأنّه متعلق بالتبين لنا، لا على التبيُّن في نفس الأمر، قال: بأنّ الشّرع علّق أحكام المواقيت بالإدراك الحسيّ لا الإدراك العقلي، وذلك لأنّ وقت الفجر يدخل قبيل التبيُّن قطعًا ويقينًا، ولم يعلق الله - سبحانه- الحكم به، وإنّما علّقه بالتبيُّن لنا لطفًا بعباده.
• الحكم السابع: قال السيوطي: «استدل بعمومه على الإفطار باليسير، وبما لا يغذي»
(1)
.
قلت: ولعل مقصوده باليسير الذي لا يصل إلى كونه مغذيًا من الأكل والشرب، وما لا يغذي.
مأخذ الحكم: كونه ليس في معنى الأكل والشرب الذين ورد فيهما النص.
وقد اختلف العلماء في الصيام هنا هل له معنى معقول أولا؟.
(2)
.
• الحكم الثامن: استدل بقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] من قال بعدم جواز وضع وقت للإمساك في التقاويم قبل وقت الفجر احتياطًا، بل ببدعية وضعها.
يقول الشيخ العثيمين: «هذا من البدع، وليس له أصلٌ من السنة، بل السنة على خلافه، لأنّ الله تعالى قال في كتابه العزيز {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ بِلَالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فُكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ)
(3)
،
(1)
الإكليل (1/ 362).
(2)
بداية المجتهد (2/ 52).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره، برقم:(617)، ومسلم، كتاب الصيام، باب بيان أنّ الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، برقم:(1091). أخرجه مسلم، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، برقم:(2670).
وهذا الإمساك الذي يصنعه بعض الناس زيادة على ما فرض الله عز وجل فيكون باطلاً، وهو من التنطّع في دين الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)
(1)
(2)
.
مأخذ الحكم: يخرَّج الحكم على مفهوم الغاية في قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} ومنطوقه: له الأكل والشرب إلى الفجر، فهذه هي الغاية الشّرعيّة، ووضع الإمساك قبل ذلك مخالف لهذا المنطوق، فهو لا يجوز، وهو بدعة لما فيه من ابتداع وقت للإمساك غير مشروع.
• الحكم التاسع: استدل بها من قال إن من أفطر ثم سافر بطائرة إلى بلد لم تغرب فيه الشمس، فإنّه قد أتمّ صيامه ذلك اليوم
(3)
، ولا يلزمه الإمساك لقوله:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وقد أتم صومه.
• الحكم العاشر: استدل بها من قال إنّ من أفطر في الطائرة، وبعد الإقلاع رأى الشمس؛ فإنّه لا يلزمه الإمساك لقوله تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ، وهذا قد أتمّ
(4)
.
مأخذ الحكم للحكمين السابقين: أن المأمور يخرج من عهدته بفعله ولو بمرة- وعند من يقول بعدم التكرار- وقد أمر بالإتمام، فأتمه فسقطت المطالبة به.
(1)
أخرجه مسلم، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، برقم:(2670).
(2)
مجموع فتاوى ابن عثيمين (19/ 292).
(3)
ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (10/ 296، 137)، ومجموعة فتاوى ابن عثيمين (15/ 331 - 333)، (19/ 332)، إتحاف رب البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (77).
(4)
ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (10/ 296)، ومجموعة فتاوى ابن عثيمين (15/ 438)، (19/ 332)، وإتحاف رب البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (77 - 78).
يقول الشيخ العثيمين لما سئل عن من أفطر في الطائرة، وبعد الإقلاع رأى الشمس:«جوابنا على هذا أنه لا يلزمهم الإمساك؛ لأنه حان وقت الإفطار وهم في الأرض .... فإذا كانوا قد أفطروا فقد انتهى يومهم، وإذا انتهى يومهم فإنه لا يلزمهم الإمساك إلا في اليوم الثاني، وعلى هذا فلا يلزمهم الإمساك في هذه الحالة، لأنهم أفطروا بمقتضى دليل شرعي، فلا يلزمهم الإمساك إلا بدليل شرعي»
(1)
.
• الحكم الحادي عشر: استدل بها من قال إنّ من سافر بالطّائرة من الشرق إلى الغرب فطال عليه النهار؛ فإنّه يلزمه الإمساك، أي: حتى تغرب الشمس.
مأخذ الحكم: دلَّ منطوق الآية على وجوب الإتمام والإمساك إلى الليل، ومفهومه عدم جواز الإفطار ما لم تغرب الشمس، ويخل الليل.
• الحكم الثاني عشر: استدل بها من قال بأنّ الصائم الذّي في داخل الطائرة، لا يفطر، إذا علم بإفطار البلد الذي تحلق الطائرة فوقها أو قريب منها، عن طريق الإذاعة أو الجوالات، وهو يرى الشمس؛ وبه أفتت اللجنة الدّائمة
(2)
.
ومأخذ الحكم: ما سبق في منطوق الغاية {إِلَى اللَّيْلِ} ومفهومه أن ما قبله داخل في الأمر، ويجب عليه الإمساك، ولا يجوز له الإفطار.
كما أن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن يبين ذلك، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:(إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم)
(3)
.
(1)
مجموعة فتاوى ابن عثيمين (19/ 332).
(2)
ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (10/ 296، 137)، ومجموعة فتاوى ابن عثيمين (15/ 331 - 333)، (19/ 332)، إتحاف رب البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (77).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب متى فِطر الصائم؟، برقم (1100)، ومسلم في كتاب الصيام، باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، برقم (1954).
• الحكم الثالث عشر: استدل بالآية من قال بأن منظار المعدة مفطر
(1)
، باعتبار أن الأكل في الآية يشمل ما هو مطعوم وغير مطعوم
(2)
..
مأخذ الحكم: أنّ الإطلاق في الآية {وَكُلُوا} يحمل على إطلاقه حتى يرد الدليل على تقييده، وكونه مطلقا؛ لأنّها جملة فعلية فهي نكرة، وفي سياق إثبات، فهي مطلق.
أو يقال: قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. والصوم هو الإمساك، وقد حصل منه بلع شيءٍ يمكن الاحتراز منه فيفطر بذلك
(3)
.
نوقش: بأن المعنى والقصد مقيد له، فيحمل الأكل على المغذي للبدن من الطعام والشراب عادة، فالعبرة بالحقائق والمعاني، لا بالصور والمباني، والغرض من الأكل هو نفع البدن، وهذا ينحصر بالغذاء والدواء
(4)
.
تنبيه: فصَّل بعضهم وقال بأن المنظار إن كان معه سائل، فإنه يُعدَّ مفطراً، لدخول سائل إلى جوف الإنسان
(5)
.
يقول الشيخ العثيمين: «
…
فلو أنّ إنسانًا أدخل منظارًا إلى المعدة حتى وصل
(1)
وبه أفتى المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ينظر: قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي، ص (136).
(2)
القول بأن دخول الشيء إلى المعدة يعتبر مفطراً، سواء كان مغذياً أم غير مغذ هو المذهب عند المالكية والشافعية والحنابلة، ومقتضى هذا القول أن منظار المعدة مفطر. ينظر: بداية المجتهد (3/ 162)، مغني المحتاج (1/ 626)، المغني (4/ 353).
(3)
ينظر: الإشراف على نكت مسائل الخلاف (1/ 438).
(4)
ينظر: فقه النوازل للمشيقح (247)، واختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية الفقهية (4/ 169)، ذكره في مسألة بلع الخيط ونحوه، وأنه غير مؤثر في الصوم، وهذه النازلة مخرَّجة عند البعض على هذه المسألة ما إذا ابتلع طرف خيطٍ وطرفه الآخر بارزٌ.
(5)
ينظر: فقه النوازل للمشيقح (247)، والفقه الميسر (9/ 137).
إليها، فإنه يكون ذلك مفطِرًا
(1)
، والصحيح أنه لا يفطر إلا أنْ يكون في هذ االمنظار دهنٌ أو نحوه يصل إلى المعدة بواسطة هذا المنظار، فإنه يكون بذلك مفطرًا، ولا يجوز استعماله في الصوم الواجب إلا للضرورة»
(2)
.
• الحكم الرابع عشر: استدل بالآية من قال بأن الدخان مفطر
(3)
.
مأخذ الحكم: أنّه سبحانه أطلق الشرب في الآية، وأمرنا بعد ذلك بالإمساك إلى الليل، فيدخل في الإطلاق كل مشروب، والدخان مشروب؛ لأنّ شرب كل شيء بحسبه، وشرب الدخان باستنشاقه وإدخاله للجوف.
ويؤيد هذا الحكم بعضهم ما ورد في الحديث أن الصائم (يدع شهوته من أجلي)
(4)
، والشهوة هنا: مفرد مضاف، فيعمّ أي: شهوة يشتهيها المكلَّف، ومنها: الدخان للشارب له.
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]
استدل بها جمهور أهل العلم على وجوب الاعتماد على الحول القمري، الذي يعتمد على السّنة القمرية، دون الحول الشّمسي
(5)
.
وكذا قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]، فاعتبر سبحانه
(1)
أي عند الحنابلة.
(2)
الشرح الممتع (6/ 371).
(3)
ينظر: مجموعة فتاوي ابن عثيمين (19/ 202)، فقه النوازل للمشيقح (265).
(4)
أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب فضل الصيام، برقم (579).
(5)
ينظر: المغني (8/ 84)، رؤية الهلال الفلكي لشيخ الإسلام (48)، أحكام الأهلة والآثار المترتبة عليها لأحمد ابن عبد الله الفريح (28).
التوقيت بالهلال؛ إذ إنّ الحول القمريّ هو المكون من اثني عشر شهرًا.
(1)
.
(2)
.
ومأخذ الحكم للآيتين: هو أن المعتبر في الأحكام الشرعية حقائقها؛ إذ الشارع يخاطبنا بعرفه، كيف وقد نصّ في الآية الأولى على كون الأهلة {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} وبلفظه العامّ؛ ليشمل الصّيام وغيره.
وفي الآية الثانية: حصرها بالعرف الشّرعي بقوله {عِنْدَ اللَّهِ} وعليه فوجب تعليق العبادات وغيرها بها.
باب الاعتكاف وقيام رمضان
قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، وكذا في سورة الحج، في قوله تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]
استدل بالآيتين على مشروعية الاعتكاف.
ومأخذ الحكم: الأمر في قوله {طَهِّرَا} ، وهو يقتضي الوجوب.
(1)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن (8/ 133).
(2)
ينظر: التفسير الكبير (16/ 23).
ثمَّ أتى سبحانه وتعالى بلام التعليل {لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فدلَّ على وجوب إزالة النجاسة، وطهارة البقعة لأجل الطواف والاعتكاف والصلاة.
قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} .
اشتملت الآية على أحكام:
• الحكم الأول: إن المباشرة التي نهينا عنها تقع حال الاعتكاف على الوقاع، وعلى ما دونه بشهوة أو بغير شهوة، إمّا اشتراكًا وإمّا حقيقةً ومجازًا.
مأخذ الحكم: أنّ الجملة الفعلية تنحل إلى مصدر مفرد، وكأنه قال: لا مباشرة وأنتم عاكفون، وتكون بمنزلة المفرد في سياق النّهي فيعم كل أنواع المباشرة، إلّا أنّ السّنة خصصت وبينت أن المباشرة بغير شهوة غير مرادة لله تبارك وتعالى فقد كان يُدني رأسه إلى عائشة فترجله
(1)
، ولا شك أن الوقاع مراد لله تبارك وتعالى.
• الحكم الثاني: أنّ النهي عن المباشرة ينتفي بانتفاء الاعتكاف، وهو ظاهر.
مأخذ الحكم: اعتبار مفهوم المخالفة من جملة الحال في قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ، وهو معتبر باتفاق.
• الحكم الثالث: أن المعتكف منهي عن المباشرة في المسجد وغيره.
مأخذ الحكم: ذهب أكثر المفسرين إلى عدم اعتبار مفهوم الجار والمجرور في قوله {فِي الْمَسَاجِدِ} ، وكونه غير معتبر لأنّ الآية نزلت لبيان واقع الصّحابة رضي الله عنهم الذين كانوا يجامعون زوجاتهم وهم معتكفون إذا خرجوا إلى الغائط، وما خرج لبيان الواقع لا مفهوم له.
(1)
أخرجه ابن ماجة في كتاب الطهارة وسننها، باب الحائض تتناول الشيء من المسجد، برقم (633) قال الشيخ الألباني: صحيح.
وذهب قوم إلى اعتبار المفهوم، وقالوا: إنّ المعتكف إذا خرج وجامع خارج المسجد فاعتكافه صحيح.
وبناءً على صحة المفهوم، ذهب بعضهم إلى صحة الوقاع لمن اعتكف خارج المسجد، وأن تحريم المباشرة خاص بمن اعتكف في المسجد.
والجمهور على أنّه لا يجوز الاعتكاف إلا في المسجد لقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ولبيان النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فلم يعتكف إلّا في المسجد.
• الحكم الرابع: ذهب الحنفية إلى صحة اعتكاف المرأة في مسجد بيتها.
مأخذ الحكم: ما قاله السيوطي، حيث قال:«واستدل به أبو حنيفة على صحة اعتكاف المرأة في غير المسجد دون الرجل، بناء على أنّها لا تدخل في خطاب الرجال»
(1)
.
• الحكم الخامس: أن الاعتكاف يصح في جميع المساجد.
مأخذ الحكم: عموم اللفظ، حيث لم يخص مسجدًا بعينه، بخلاف من خصّه ببعض المساجد.
فخصّه بعضُهم بالمسجد الذي تقام فيه الجمعة، أخذً بقول بعض الصّحابة كابن مسعود وعلي رضي الله عنهما.
وخصَّه بعضهم بالمسجد الحرام، وهو محكيٌ عن علي رضي الله عنه، فيكون لفظ {الْمَسَاجِدِ} في الآية من العامّ الذي أريد به الخاص، وهو معهود الشرع، وقالوا: بدليل قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وأراد المسجد الحرام.
(1)
الإكليل (1/ 365).
• الحكم السادس: اشترط بعضهم الصوم في الاعتكاف.
مأخذ الحكم: الاستئناس بكونه مقرونًا بذكر الصّوم، ولأنّ النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف صائمًا، وقد روي عن عائشة وابن عباس وابن عمر.
قال السيوطي: «لأنّه قصر الخطاب على الصّائمين، فلو لم يكن الصّوم من شرط الاعتكاف لم يكن لذلك معنى»
(1)
.
وبُني عليه: أن أقلّ الاعتكاف يوم، كما أن الصّوم لا يكون أقل من يوم.
وذهب بعض العلماء إلى عدم اشترط الصوم في الاعتكاف، وهو مروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما، استدلالًا بما أخرجه البخاري أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله: إني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية، فقال له:(أوف بنذرك)
(2)
والليل ليس محلًا لصيام.
قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]
دلَّت الآية على فضيلة قيام ليلة من ليالي رمضان، وهي ليلة القدر.
وقد ورد في سبب نزولها أحاديث تدور حول قصة رجل في بني إسرائيل كان يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي، ففعل ذلك ألف شهراً؛ فأنزل الله:{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ، قيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل ألف شهر
(3)
.
(1)
الإكليل (1/ 365).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف ليلا، برقم (1927)، ومسلم في كتاب الأيمان، باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم، برقم (1656).
(3)
انظر: الدرر المنثور للسيوطي (15/ 535)، موسوعة التفسير المأثور (23/ 423).
وتفاسير السلف متوافقة على ما يدل عليه ظاهر الآية، ومن ذلك قول ابن عباس:«العمل في ليلة القدر خير من العمل في ألف شهر لا توافق ليلة القدر»
(1)
، وعن أنس بن مالك:«العمل في ليلة القدر، والصدقة، والصلاة، والزكاة أفضل من ألف شهر»
(2)
.
(1)
انظر: موسوعة التفسير المأثور (23/ 424).
(2)
انظر: موسوعة التفسير المأثور (23/ 425).
كتاب الحج
باب فضله وبيان من فرض عليه
قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125]
استدل بالآية على وجوب العمرة على الأفاقي.
ومأخذ الحكم: ورود الأمر بأسلوب الخبر، حيث أخبر المولى سبحانه وتعالى أنّه جعل البيت مثابة للناس، أي: معادًا يرجعون ويعودون إليه، وهذا يستلزم عدم خلو البيت منهم سواء كان في الحج أو العمرة في جميع أيام السنة، ولا يمكن إجراء الآية على هذا المعنى إلا بحملها على الوجوب، فيكون الأسلوب في الآية أسلوب خبر، بمعنى الأمر؛ لأنّ كونه مثابة للنّاس صفة تتعلق باختيار الناس، وما يتعلق باختيار الناس لا يمكن تحصيله بالجبر والإلجاء، فوجب حمل الآية على الوجوب؛ لأنّ الحمل على الوجوب، يفضي إلى صيروته مثابًا أكثر من حمله النّدب
(1)
.
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وفي قراءة شاذة: {وأقيموا الحجّ والعمرة لله} وفي قراءة: {والعمرةُ لله} .
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية الحجّ والعمرة ووجوب إتمامهما لمن بدأ بهما، وسواء كانت فرضًا أو تطوعًا، وهذا الحكم متفق عليه.
ومأخذ الحكم: الأمر الوارد بقوله: {وَأَتِمُّوا} فيدل على المشروعية ويقتضي وجوب إتمام الحجّ والعمرة لمن بدا بهما، وكونه شاملًا للفرض والتطوع للعموم
(1)
انظر: التفسير الكبير (4/ 46).
الوارد بدخول الألف واللام على الحجّ والعمرة.
• الحكم الثاني: وجوب الحجّ والخلاف في وجوب العمرة.
أمّا الحجّ فوجوبه أمر متفق عليه ومعلوم من الدّين بالضرورة، وسيأتي في قوله:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].
أمّا العمرة فمأخذ من قال بالوجوب ما يأتي:
أولًا: إن من معاني الإتمام المأمور به: الأداء والإتيان.
(1)
.
ثانيًا: قراءة {والعمرةُ لله} بالضّم، وقد كان يقرأ بها من الصحابة ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وهي بذلك تكون خبرًا بمعنى الأمر.
ثالثًا: قراءة {وأقيموا الحجّ والعمرة لله}
(2)
على أن القراءة الشّاذة حجة.
رابعًا: إذا كان الإتمام واجبًا؛ فإنّ الأداء واجب.
وهذا المأخذ فيه نظر، قال ابن القصار: «فيقال لهم هذا غلط؛ لأنّه من أراد أن يفعل السنة فواجب أن يفعلها تامّة، كمن أراد أن يصلي تطوعًا، فيجب أن يكون على طهارة
…
»
(3)
.
قال القرطبي: «في هذه الآية دليل على وجوب العمرة؛ لأنه تعالى أمر بإتمامها
(1)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 365).
(2)
انظر: تفسير البغوي (1/ 241)، حدائق الروح والريحان للهرري (3/ 200).
(3)
أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 234).
كما أمر بإتمام الحج
…
»
(1)
. ثم ساق آثارًا تدل على وجوب العمرة، ثم قال: «وأمّا الآية فلا حجة فيها للوجوب، لأنّ الله سبحانه إنما قرنها في وجوب الإتمام لا في الابتداء
…
»
(2)
.
خامسًا: استأنس الشافعي على وجوب العمرة بدليل الاقتران؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: (والذّي نفسي بيده إنّها لقرينتها في كتاب الله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
(3)
.
أمّا القائل بأنّ الآية لا تدل على الوجوب ابتداء، وإنّما تدل على وجوب الإتمام بعد الشروع فيهما فقط. فمأخذه نص الآية، فإنّ الأمر بالإتمام، فلا يتعدى لغيره كما سبق في قول القرطبي.
ويشهد أنها للإتمام لا للابتداء ورودها بعد حكم المحصر، الذي لم يتمّ الحجّ والعمرة، كما أنّهم أيدوا عدم وجوبها بأدلة أخرى مثل قوله عليه الصلاة والسلام (بني الإسلام على خمس)
(4)
وذكر منها حج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلًا، ولم يذكر العمرة.
تبقى الإشارة إلى مسائل مأخذ أحكامها يعود للخلاف في معنى الإتمام، فمن معانيها غير ما تقدم، الإتيان بها خالصة لله، ويقوي هذا المعنى قوله سبحانه {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} وبني عليه الخلاف في التجارة في الحج وسيأتي حكمهما عند قوله:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} .
ومن معاني الإتمام: الإتيان بها كاملة؛ ولذا اختلف الصحابة في كيفية ذلك،
(1)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 368).
(2)
المصدر السابق (2/ 369).
(3)
انظر: تفسير الشافعي (1/ 484)، التفسير الكبير للرازي (5/ 297)، الدر المنثور (1/ 504).
(4)
أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الإيمان، برقم (8)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، برقم (16).
ففسر علي وغيره من الصحابة أن الإتمام أن تحرم بهما من دويرة أهلك
(1)
.
وقال عمر: إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما من غير تمتع وقران
(2)
…
إلى غير ذلك،
• الحكم الثالث: من قال بأن من بلغ قبل الوقوف بعرفة يجب عليه إتمام حجه وعمرته، وتكونان نافلة.
وذهب أبو حنيفة إلى جواز رفضها وعدم إتمامها، وتجديد الإحرام بعد البلوغ ويكون الحج فريضة.
ومأخذ الخلاف: ما سبق في الخلاف في معنى الإتمام.
• الحكم الرابع: استدل بها من قال بأن من حجّ بدون تصريح، فمُنع فإن حكمه حكم المحصر
(3)
.
حيث إن ظاهر الآية الكريمة أن الإحصار عامّ لكل ما يكون به المنع من إتمام النّسك، فلم يخصصه سبحانه بحصر العدو.
مأخذ الحكم: العموم الوارد في الإحصار، يعمّ كل ما يكون به المنع من إتمام النّسك، ووجه العموم أن الفعل {أُحْصِرْتُمْ} ينزل منزلة النكرة، وهو في سياق الشرط فيعمّ.
ووروده على سبب وهو حصر العدو لا يقصر به عموم اللفظ.
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير، (2/ 276). وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال ابن حجر: إسناده قويّ. انظر: التلخيص الحبير (4/ 1527).
(2)
نسب تخريجه السيوطي في الإكليل (1/ 373) إلى عبد الرزاق في تفسيره، ولم أجده فيه، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 437)، والقرطبي في جامعه للأحكام (3/ 366)، وفيه انقطاع بين الزهري وعمر رضي الله عنه.
(3)
ينظر: فتاوى ابن عثيمين (21/ 356)(23/ 433)، وإتحاف البرية (100).
تنبيه: هذا القول مبني على القول بأن الإحصار يكون بكلّ ما يمنع من الوصول إلى البيت، سواءٌ أكان بعدوّ أم غيره، وبهذا قال الحنفية
(1)
، والظاهرية
(2)
، ورواية عند الحنابلة
(3)
، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية
(4)
، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية
(5)
. وأما إذا أحصر بعدوّ فإنه يحلّ بعد أنْ يذبح هديه بلا خلاف
(6)
.
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: وجوب الحج، وهو أمر متفق عليه، ومعلوم من الدّين ضرورة.
ومأخذ الحكم: ورد في الآية لام الإيجاب، ولفظ:«على» الدّالة على الوجوب أيضًا.
(7)
.
(1)
ينظر: فتح القدير (3/ 124).
(2)
ينظر: المحلى بالآثار (5/ 219).
(3)
ينظر: المغني (5/ 203).
(4)
الاختيارات، للبعلي، ص (120).
(5)
ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (11/ 351).
(6)
ينظر: المغني (5/ 194).
(7)
الجامع لأحكام القرآن (4/ 142).
• الحكم الثاني: أن من جحد وجوبه فهو كافر؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} .
ومأخذ الحكم: تفسير الصحابي، قال ابن عباس رضي الله عنهما:(من كفر بفرض الحج، فلم يره واجبًا)
(1)
.
ووسّع العلماء الحكم ليشمل كل من جحد حكمًا معلومًا من الدّين ضرورة فهو كافر.
• الحكم الثالث: وجوب الحج على المستطيعين، ثم اختلف العلماء في ضبط الاستطاعة، ويرجع فيها إلى كتب الفقه.
ومأخذ الحكم: أن قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ} بدل من النّاس، وهو بدل بعض من كل، وكأن المولى سبحانه وتعالى قال:(ولله على المستطيعين حجّ البيت).
والبدل نوع من المخصصات المتصلة، وهو مخصص لعموم (النّاس) المتقدم.
• الحكم الرابع: وجوب الحج على الكافر والعبد والمرأة الحرّة المستطيع منهم.
مأخذ الحكم: عموم لفظ (النّاس) حيث إنّه اسم جنس معرف، يفيد العموم.
• الحكم الخامس: الخلاف في وجوب الحجّ كل سنة أو في العمر مرّة واحدة؟
مأخذ الحكم والخلاف: الخلاف في الأمر المطلق هل يقتضي التكرار؟ وعلى القول بأنّه يقتضي التكرار، أي: يجب الحجّ كل عام فإنّه لا يجب في الحج؛ لكونه غير مطلق في الشرع بل مقيد في السّنة، فلا يجب في العمر إلا مرّة واحدة.
(1)
انظر: تفسير الماودري المسمى بالنكت والعيون (1/ 411).
• الحكم السادس: أن كل من استطاع على الحج فإنّه يجب عليه المبادرة، ولا يجوز تأخيره عند بعض العلماء.
مأخذ الحكم: كون الأمر المطلق يقتضي الفور.
• الحكم السابع: استدل بها على عدم وجوب الحجّ على من لم يحصل على التّصريح بالحجّ
(1)
؛ إذ إنّ إخلاء الطريق له شرط في الوجوب.
مأخذ الحكم: يخرج على قاعدة الشّرط الشّرعي حجة، ويلزم من عدم الشّرط عدم المشروط، إذ إن الشرط الشرعي يلزم من عدمه العدم. والاستطاعة من شرائط الوجوب.
والسّبيل في الأصل هو: الطريق والسبب، وكل ما يوصل إلى الشيء فهو طريق إليه وسبب فيه، فمن استطاع إليه سبيلًا، فقد وجب عليه الفعل وإلّا فلا
(2)
.
ويمكن استنباط الحكم: على قاعدة وجوب حمل الأمر على ظاهره، ما لم يعارضه ما هو أقوى منه؛ إذ إنّ ظاهر الآية دلّ على سقوط الحجّ عمن لا يجد سبيلًا إليه.
• الحكم الثامن: استدل بالآية على وجوب الحجّ لمن لم يأذن له مرجعه أو كفيله، وكان حجه حجّ الفرض
(3)
.
مأخذ الحكم: الأمر في الآية يقتضي الإيجاب والفور، وكونه مستطيعًا يوجب
(1)
ينظر: فتاوى نور على الدرب لابن باز (6/ 191)، وفتاوى العثيمين (23/ 432)، وفقه النوازل (270)، والفقه الميسر (9/ 9/ 151)، والنوازل في الحج للشلعان (48 - 49).
(2)
ينظر: النوازل في الحج للشلعان (49).
(3)
ينظر: اللجنة الدائمة (11/ 116)، ومجلة البحوث الإسلامية (13/ 67)، وفتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (5/ 189)، وفتاوى ابن باز (17/ 122 - 123)، فتاوى ابن عثيمين (21/ 163)، والنوازل في الحج للشلعان (74)، إتحاف البرية (90).
عليه الحجّ؛ إذا توفرت شروطه وانتفت موانعه.
• الحكم التاسع: استدل بالآية من قال بعدم جواز تحديد نسبة الحجاج من الخارج، حيث إنّ كل من تحققت فيهم شروط الحجّ، يجب ألّا يمنعوا من الحجّ إذا أرادوا
(1)
.
مأخذ الحكم: ورود الأمر على جهة العموم، فالأمر بصيغة (على) الدّالة عليه في قوله:{عَلَى النَّاسِ} ، وعموم {النَّاسِ} يقتضي دخول جميع النّاس، إلّا أنّه مخصوص ببدل البعض في قوله:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فالواجب عدم منع من وجب عليه الحجّ وهو مستطيع.
نوقش: بأن العموم الوارد في الآية معارض بعمومات أخر، كالعمومات الواردة في رفع الحرج عن الأمة، في قوله:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وكذا في تحريم إلقاء النفس بالتهلكة، كقوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وفي تحديد نسبة الحجاج رفع للحرج عن الحجاج، ومنع للتهلكة بسبب الزحام، وعليه فتخصص هذه العمومات عموم ما قد يحتج به على المنع والصَّد، جمعاً بين النصوص. وقد أفتت اللجنة الدائمة بجواز تحديد نسبة الحجاج نظراً للمصالح العظمى المتحققة في ذلك، ودفعاً للمفاسدة المتحققة من عدم جواز التحديد
(2)
.
• الحكم العاشر: استدل بالآية من قال بعدم وجوب الحج لمن لا يستطيع الحج عن طريق الحملات
(3)
.
(1)
ينظر: أحكام الاستطاعة في الحج في ضوء المستجدات المعاصرة (182).
(2)
ينظر: قرار هيئة كبار العلماء رقم (187)، وقرار رقم (224)، والنوازل في الحج للشلعان (46 - 47).
(3)
ينظر: فتاوى ابن عثيمين (21/ 118، 355)، وإتحاف رب البرية (91).
قال الشيخ العثيمين: «إذا كان مفهوم النظام أنّ الإنسان يجب أن يعقد مع الحملة من بلده، حتى يرجع، وهذا يكلّفه ما لا يستطيعه، فإنّه لا يجب عليه الحجّ؛ لأنّه غير مستطيعٍ»
(1)
.
مأخذ الحكم: ورود الأمر على جهة العموم، فالأمر بصيغة (على) الدّالة عليه في قوله:{عَلَى النَّاسِ} ، وعموم {النَّاسِ} يقتضي دخول جميع النّاس، إلّا أنّه مخصوص ببدل البعض في قوله:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ، ومن لا يستطع الحج عن طريق حملة فهو غير مستطيع.
قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 27 - 28]
استدل بالآية الكريمة على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: وجوب الحج.
مأخذ الحكم: ورد الأمر من المولى سبحانه وتعالى بالأذان بالحج، والمعنى: أعلمهم أن عليهم الحج، وسواء قلنا إنّ المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، والواو {وَأَذِّنْ} للاستئناف، أو أن المخاطب بذلك إبراهيم عليه السلام، وشرعه شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه.
قال القرطبي: «لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، وقيل له:{أذن في الناس بالحج} .. وقيل: إنّ الخطاب لإبراهيم عليه السلام تمّ عند قوله {السُّجُودِ} ثم خاطب الله عز وجل محمّدًا عليه الصلاة والسلام فقال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} ؛ أي: أعلمهم أن عليهم الحج. وقول ثالث: إنّ الخطاب من قوله: {لَا تُشْرِكْ} مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا قول أهل النظر؛ لأنّ القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فكل ما فيه من المخاطبة فهي له إلّا أن
(1)
مجموع فتاوى ابن عثيمين (21/ 118).
يدل دليل قاطع على غير ذلك، وهاهنا دليل آخر يدل على أن المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو:{أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي} بالتاء، وهذا مخاطبة لمشاهد، وإبراهيم عليه السلام غائب»
(1)
.
• الحكم الثاني: استدل بعض العلماء بالآية بسقوط فرض الحج بالبحر.
ومأخذ الحكم: عدم ذكره في الآية.
(2)
، يعني إلى مكّة.
• الحكم الثالث: جواز التجارة في الحجّ، من قوله:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} .
واللام للتعليل، وفسِّرت المنافع بالتجارة، وأكثر المفسرين على أنّها تشتمل منافع الدّين والدّنيا، وتدخل التّجارة تبعًا.
(3)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (12/ 38).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (12/ 40).
(3)
أحكام القرآن (5/ 66).
قلت: ولا خلاف بين العلماء في أن المراد بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} التجارة، وقد سبق.
ومأخذ الحكم: يتعلق الأمر والإذن السابق، أي: فأذن بالحج ليشهدوا منافع لهم، والأمر يقتضي هنا الإباحة، كما دلت عليه آية البقرة.
• الحكم الرابع: تفضيل المشي على الركوب في الحجّ، وهو قول كثير من أهل العلم.
مأخذ الحكم: لتقديم الله سبحانه له في الذكر، واستدلوا على ذلك ببعض الأثار لقوله صلى الله عليه وسلم:(إنّ للحاجِّ الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبيعين حسنة، والماشي بكل خطوة).
باب المواقيت
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]
استدل بعض الحنفية بهذه الآية أن شهور السنة كلها مواقيت للحج، كما كانت بأسرها مواقيت للنّاس، ويلزمهم أن يكون الحج المطلق على هذا القول يراد به الإحرام فقط دون سائر أفعال الحج، مع أن الإحرام عندهم ليس من الحج، بل هو شرط الحج.
ومأخذ الحكم: إن الظّاهر من الآية جعل المراد بالأهلة جميع الشّهور، وهي عامّة؛ لأنّه جمع معرّف، وعمومها في المعطوف والمعطوف عليه.
وأجيب: بأنّ الصّحيح من التأويل أن المراد بالآية: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} والحج في أشهر الحج، أي: إنّ أفعال الحج من السّعي والطّواف وغيره تكون في أشهره.
ومأخذ الجواب: جمعًا بين هذه الآية والآية التي تليها {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وإن لم يكن كذلك لزم أن يكون لفظ {الْأَهِلَّةِ} لفظًا واحدًا عامًّا خاصًا في حالة واحدة، وهذا لا يصح.
قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} الأصل إن الحجّ والعمرة مشروعان في كل وقت بدلالة الإطلاق في الآية، إلا أن الحج مخصوص بقوله:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} -كما سيأتي - فتبقى العمرة على الأصل، فتكون مشروعة في جميع السنة، وتكرارًا لمن أراد؛ لأنّ الآية عامّة في جميع الأوقات.
قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: أن الحج في زمن مخصوص، وهذا حكم متفق عليه.
ومأخذ الحكم: أن العلماء قدروا محذوفًا ومضمرًا في الآية، فقالوا:(وقت الحج في أشهر معلومات) أي: إنّ الحج في أشهر معلومات.
ثم اختلفوا في تحديد أشهره، والجمهور على أنّه: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحج، ثم اختلفوا في يوم النحر هل هو منها؟ يرجع في ذلك إلى كتب الخلاف.
ومن العلماء من جعل لفظ {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} خبر بمعنى الأمر، أي: أشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، فمن أراد الحج فليبدأ بالإحرام من شوال إلى عشرة ذي الحجة.
• الحكم الثاني: لا يجوز الإحرام بالحج إلّا في أشهره عند الشافعي، فلا يجوز فرضه قبل أشهره.
ومأخذ الحكم: أن الإحرام من جملة الحج، ووقت الحج أشهر معلومات.
• الحكم الثالث: جواز الاعتمار في جميع السنة، وهذا حكم متفق عليه.
ومأخذ الحكم: هو إن تخصيص الله سبحانه وتعالى الحج بالتوقيت يفهم أن العمرة ليست مثله بدلالة مفهوم الظرف الزّماني في الآية، فليس للعمرة وقت مخصوص، أمّا الحج فهو في أشهر معلومات.
باب الإحرام وما يتعلق به
قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: جواز الإحرام قبل الميقات.
مأخذ الحكم: سبق أن من معاني الإتمام: القيام بالحج والعمرة كاملة، ومن ذلك: الإحرام بها من دويرة أهلك، حيث فسِّر عن البعض بالإحرام بهما من عند أهله وداره، وهذا يقتضي جواز الإحرام قبل الميقات.
والإحرام قبل الميقات أجازه العلماء، بل نقل بعضهم كابن المنذر وابن قدامة الإجماع على جوازه.
قال ابن قدامة: «لا خلاف في أن من أحرم قبل الميقات يصير محرمًا، تثبت في حقه أحكام الإحرام»
(1)
.
وإنّما الخلاف في أيهما أفضل الإحرام من قبل الميقات أو من الميقات، والجمهور على أنّه من الميقات.
• الحكم الثاني: من أفسد حجه أو عمرته؛ فإنّه يمضي عليهما ثم يقضي.
(1)
المغني (3/ 250).
ومأخذه: أن الله أمر بالإتمام، والأمر يقتضي الوجوب، ولم يفرق بين الصّحة والفساد.
وقد بني على معنى الإتمام مسائل كثيرة.
• الحكم الثالث: من قال إنّ القارن إذا خاف فوات الوقوف بعرفة ليس له رفض العمرة؛ لأنّ الأمر بالآية يقتضي وجوب إتمامها.
• الحكم الرابع: من قال بأن المعتمرة إذا حاضت قبل الطواف، وضاق عليها وقت الحج، فإنّ الواجب عليها، أن تردف الحج ولا ترفض العمرة، وتصير قارنة، وبذلك يتحقق لها معنى إتمام العمرة الوارد في الآية.
• الحكم الخامس: من قال بمشروعية التحلل من الحج الفاسد إلى عمرة؛ لأنّ الله تعالى أمر بإتمام الحج، ولم يمكن إتمامه، فانقلب عمرة، وهي العبادة التي يمكن إتمامها.
وأجيب: بأن الله سبحانه وتعالى: إنّما أمر بإتمام ما دخل فيه، ولم يأمره أن يتم غيره، وعليه فلا يصح الاستدلال بالآية.
• الحكم السادس: استدل بالآية على جواز الإحرام قبل الميقات في الطائرة.
مأخذ الحكم: ما ورد عن الصحابي من تفسيره للآية، وتفسيره حجة، وقد روي عن علي رضي الله عنه، أنّ الإتمام هو الإحرام من دويرة أهله، فقال:(تُحْرِمُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ)
(1)
، وهذا يعني جواز كونه قبل الميقات، بل هو الإتمام المراد بالآية.
ويناقش: إنْ صحّ هذا عن عليّ رضي الله عنه فهو مخالفٌ لما روي عن عمر
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير، (2/ 276). وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال ابن حجر: إسناده قويّ. انظر: التلخيص الحبير (4/ 1527).
وعثمان رضي الله عنهم إذْ ثبت عنهما كراهة الإحرام قبل الميقات
(1)
، وليس قول علي رضي الله عنه بأولى من قوليهما.
لكن على القول بكراهة الإحرام قبل الميقات
(2)
، إلا أن الكراهة تزول عند الحاجة، كما هو مقرّرٌ عند الأصوليين.
(3)
. وهذا محمول منه عند عدم إعلان القائمين على الطائرة، أو الخوف من عدم ذلك، أما إذا كان يعلم أو يظن بأنّ ملاحي الطائرة يعلنون عن المحاذاة بوقتٍ كافٍ للإحرام وأراد أن يحرم قبل الصعود أو الميقات، فقد قال الشيخ:«هذا ليس بحسنٍ، والعلماء قالوا: يكره أنْ يحرم قبل الميقات، ولا داعي للاحتياط هنا»
(4)
.
قال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: أن حلق الرأس من محظورات الإحرام، وهذا حكم متفق عليه.
(1)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الحج، باب كيف التلبية؟ (5/ 44).
(2)
اتفق الفقهاء على صحّة إحرام من أحرم قبل الميقات، واختلفوا في كراهة ذلك، وذهب الجمهور إلى الكراهية. ينظر: الإجماع لابن المنذر، ص (51)، وحاشية الدسوقي (2/ 22)، والمجموع شرح المهذب (7/ 105، 206)، والإنصاف (8/ 127).
(3)
مجموع فتاوى ابن عثيمين (21/ 387).
(4)
المرجع السابق (21/ 388).
ومأخذ الحكم: النّهي الوارد في الآية، وهو يقتضي التحريم، ثم ايجاب الفدية عليه؛ إذ التقدير (فحلق فعليه فدية)، والفدية لا تجب إلّا على من ارتكب محظورًا من محظورات الإحرام، ولو كان جائزًا لما وجبت الفدية إذ «الجواز الشرعي ينافي الضّمان» .
• الحكم الثاني: يلحق بحلق شعر الرأس في كونه محظورًا غيره من شعور البدن، كشعور اليدين والرجلين
…
الخ.
مأخذ الحكم: أن تخصيص الشعر عن غيره يصح لو لم يكن مفهوم لقب، ومفهوم اللقب لا حجة فيه. وعليه فالآية ساكتة عن غيره.
فائدة: نقل الموزعي: خلاف العلماء في التخصيص بالرأس هل هو تخصيص للتقييد أو للتعريف وعلى الثاني يدخل سائر الشعور
(1)
.
• الحكم الثالث: وجوب الفدية على من حلق شعر رأسه وهو محرم لأجل مرض أو أذًى في رأسه.
ومأخذ الحكم: تقدير لفظ (على) الدال على الوجوب في الآية، قال القرطبي:«فإنّ معنى قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} فحلق {فَفِدْيَةٌ} أي فعليه فدية»
(2)
.
وهذه الفدية أطلقها المولى سبحانه وتعالى في كتابه، وبيّنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع)
(3)
.
أمّا النسك فأقله شاة عند أهل العلم، وهو مجمع عليه.
(1)
انظر: تيسير البيان (1/ 328 - 329).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 382).
(3)
أخرجه البخاري في أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب الإطعام في الفدية نصف صاع، برقم (1721).
• الحكم الرابع: أن كفارة الفدية على التّخيير.
ومأخذ الحكم: الإتيان بحرف (أو) المقتضي للتخيير، {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} .
• الحكم الخامس: إن الفدية يدفعها المفتدي حيث شاء من البلاد.
مأخذ الحكم: إن الآية أطلقت الحكم ولم تخصص موضع عن موضع فتحمل الآية على عمومها في المواضيع حتى يأتي ما يخصصها.
• الحكم السادس: جواز تقديم الفدية على الحلق، قاله الأوزعي.
ومأخذ الحكم: تقدير إن أراد أن يحلق» بعد ذكر الفدية، أي:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} إن أراد أن يحلق، على قاعدة أن المقدّر كالملفوظ. وأجيب بأن هذا لا يوجب ذلك إذ إن الأصل الفدية تكون بعد الحلق.
مأخذ آخر: القياس على كفارة اليمين؛ فإنه يجوز أن يكفر ثم يفعل ما حلف عليه.
(1)
.
قال تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: وجوب الحج.
(1)
تيسير البيان (1/ 332).
مأخذ الحكم: التصريح بلفظ الفرض بأسلوب الخبر، أي: ألزم نفسه.
قال القرطبي: «قوله تعالى {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} ؛ أي: ألزم نفسه بالشروع فيه بالنية قصداً باطناً، وبالإحرام ظاهراً
…
»
(1)
.
• الحكم الثاني: تحريم الجماع وهو المعبر عنه بالرّفث، وكونه محظوراً من محظورات الإحرام.
ومأخذ الحكم: ورود النهي بصيغة الخبر، فهو خبر بمعنى النّهي، وهي أبلغ من صيغة النهي كما يذكره أهل الأصول والبلاغة.
• الحكم الثالث: إفساد الحج بالرفث.
مأخذ الحكم: هو أن مقتضى النهي الفساد، ووجوب الكفارة فيه، والمضي في فاسده، وتفصيل ذلك في كتب الفقه والخلاف.
• الحكم الرابع: إذا فرض الحج في غير أشهره فله أن يرفث، وذلك يستلزم صحة فرضه.
ومأخذ الحكم: مفهوم ظرف الزّمان في قوله {فِيهِنَّ} أي: في أشهر الحج المعلومات.
• الحكم الخامس: أن من وطئ ناسيًا بطل حجه.
مأخذ الحكم: أنّ الشّارع أطلق النّهي في كل من رفث، ولم يفرق بين عمده وخطئه، والنهي يقتضي الفساد.
• الحكم السادس: النّهي عن الفسوق فسّرها ابن عباس بأنها: المعاصي كلها لا يختص بشيء دون شيء. وفسّرها ابن عمر بالمثال، فقال: كقتل الصيد وغيره
(1)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 406).
وقيل: غير ذلك.
مأخذ الحكم: ما سبق أنه خبر بمعنى النهي، والأصل فيه التحريم والفساد، وقد فُسِّر بقول الصحابي، وتفسير الصحابي حجة.
• الحكم السابع: النّهي عن الجدال، وفسر بالسّباب، أو مماراة المسلم حتى يغضب وفُسِّر بغير ذلك.
ومأخذ الحكم: كونه محظورًا من محظورات الحج لورود النهي عنه بصيغة الخبر كما سبق.
تنبيه: النهي عن الفسوق والجدال لا يختص بحالٍ، وإنّما خصّه الله سبحانه بمن فرض الحج تعظيمًا وتفخيمًا لشأن الحج.
قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: مشروعية وإباحة الاصطياد بعد التحلل، مما يدل على كونه محظورًا حال الإحرام.
ومأخذ الحكم: مفهوم الشرط إذ يدل على أننا إذا لم نحلل، أي: كنا حُرُمًا؛ فإنّه يحرم علينا الصّيد.
• الحكم الثاني: وجوب الهدي على من أراد التحلل بسبب الإحصار.
مأخذ الحكم: قال القرطبي: «
…
«ما» في موضع رفع، أي فالواجب أو فعليكم ما استيسر من الهدي. ويحتمل أن يكون في موضع نصب، أي فانحروا أو فاهدوا»
(1)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 378).
وبه يتضح دلالة وجوب الهدي على من أراد التحلل من الإحصار.
• الحكم الثاني: الواجب على المحصر ما تيسر من الهدي.
مأخذ الحكم: ما سبق من إعراب ل (ما) وتقديرات، والمستيسر من الهدي، إمّا بدنة، أو سُبُعها، أو بقرة أو سُبُعها، أو شاة فما سهل على المخرج وتيسر عليه، وهو لفظ يستعمل في التخفيف والتّيسير.
تنبيه: اختلف العلماء في جواز الاشتراك في الهدي الواجب، فأجازه الشافعي وأحمد، وكذا أبو حنيفة، إذا أراد جميعهم الفدية وممنوع إذا أراد بعضهم اللحم، ومنع الاشتراك الإمام مالك، واحتج بأن ظاهر الآية يقتضي هديًا كاملًا، والجماعة إذا اشتركوا في هدي لم يتقرب كل واحدٍ منهم إلّا ببعض هدي.
• الحكم الثالث: أن لذبح الهدي مكانًا وزمانًا إلّا أنهم اختلفوا فيهما؛ نظرًا للخلاف في المراد بقوله: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}
مأخذ الحكم: إنّ لفظ (المحل) يقع على الوقت والمكان جميعًا.
أمّا الوقت بالنسبة للعمرة فهي في أي وقت شاء، وكذا الحج عند الجمهور، وذهب بعض العلماء أنّه لا يحل قبل يوم النحر.
أمّا المكان فاختلفوا هل يذبح في مكانه أو بمكة؟ فذهب الجمهور إلى أنّه ينحره أو يذبح حيث حبس من حلٍ أو حرمٍ.
وذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا ينحره إلا بالحرم استدلالًا بقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] ووافقه مالك فيما إذا كان الإحصار بسبب المرض.
فالقائلون بأن الذّبح أو النحر يكون في الحرم، قالوا: إنّ مطلق المحل في قوله
تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} يحمل على المقيّد في قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ولقوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95].
وأجيب: بأن المقيد محمولٌ في حق غير المحصر، أمّا المحصر فقد دلّ قوله تعالى:{وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]. وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم محله فذبح في الحل
(1)
مما يدل على أنّه لا يشترط أن يبلغ الحرم.
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]
استدل العلماء بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: حرمة الاصطياد حال الإحرام، فهو محظور من محظورات الإحرام.
ومأخذ الحكم يتضح بالوجوه الآتية:
* أولاً: صيغة النّهي الصريحة {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} والنهي يقتضي التحريم.
* ثانيًا: وجوب الكفارة على من فعل ذلك.
* ثالثًا: عفو الله ومغفرته لمن فعل ذلك، ولا يكون العفو إلّا من ذنب.
* رابعًا: التهديد بقوله: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}
* خامسًا: ختم الآية بقوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}
* سادسًا: قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} بلفظ التّحريم وهو صريح ونصَّ في التّحريم.
(1)
رواه البيهقي في السنن الكبرى (5/ 356)، نقلاً عن الشافعي، وكذا في معرفة السنن والآثار (7/ 487). وانظر: تفسير الشافعي (3/ 1265)، وحدائق الروح والريحان للهرري (27/ 297).
قال ابن القيم: في الفصل المعقود للألفاظ الدّالة على التحريم قال: «
…
وكل فعل طلب الشرع تركه
…
، أو جعل سببًا لنفي الفلاح أو لعذاب عاجل أو آجل،
…
أو حلول نقمة
…
فهذا ونحوه يدل على المنع من الفعل، ودلالته على التّحريم أطرد من دلالته على مجرد الكراهة»
(1)
.
• الحكم الثاني: وجوب الفدية على من قتل الصيد، وهو محرم متعمداً.
ومأخذ الحكم: التقدير الوارد على الآية، قال القرطبي:«التقدير فعليه جزاء مماثل أو لازم من النعم»
(2)
ومعلوم أن لفظ «على» في الشارع تدلُّ على الوجوب، والمقدَّر كالملفوظ.
باب صفة الحج ودخول مكة
قال تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] وفي قراءة {واتخذوا} بفتح الحاء
استنبط العلماء من الآية عدداً من الأحكام:
• الحكم الأول: مشروعية الصلاة خلف مقام إبراهيم.
وقد اختلف المفسرون في المراد بمقام إبراهيم، والأكثر أنّه: الموضع المخصوص للصلاة، والمعهود، ويؤيده سبب نزول الآية، حين طلب عمر بن الخطاب رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت الآية
(3)
،
(1)
بدائع الفوائد (4/ 4 - 6).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 309).
(3)
انظر: تفسير الطبري (2/ 30)، وتفسير ابن أبي حاتم (1/ 226)، وتفسير ابن كثير (1/ 414).
وبيّن المراد منها: النبي صلى الله عليه وسلم بفعله حين قرأ بالآية ثم صلى خلف المقام المعهود ركعتي الطواف
(1)
.
مأخذ الحكم: ورود الطلب بصيغة الأمر الدّالة على الوجوب، وهو مذهب طائفة من أهل العلم، كما أن القراءة الأخرى - بفتح الحاء - تكون خبرًا بمعنى الأمر، وتأخذ حكمه.
وذهب طائفة من أهل العلم إلى أن الصّلاة خلف مقام إبراهيم سنة، وصرفوا الأمر من الوجوب إلى الندب بصارف خارجي، وهو السنة الدّالة على أن الواجب على العبد من الصلوات هو الصلوات الخمس لا غير، وما عداها فهو سنة.
ومن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ (فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فقال: هل عليّ غيرها. فقال: صلى الله عليه وسلم لا إلّا أن تتطوع)
(2)
إجابة لمن سأله هل عليّ غيرها؟ أي: من الصّلوات الخمس. وغير ذلك من الأحاديث.
وذهب قوم غلى أنّها تابعة للطواف، فتجب بعد الطواف الواجب، وتسن بعد الطواف المسنون.
ومأخذهم كونها تابعة، والتابع تابع، فيتبع الأصل في حكمه.
• الحكم الثاني: استدل بالآية من قال بجواز نقل مقام إبراهيم من مكانه لأجل التوسعة
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري كتاب التفسير، باب قوله {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} برقم (4213).
(2)
متفق عليه وسبق تخريجه.
(3)
ينظر: فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (5/ 15)، والشرح الممتع على زاد المستقنع (7/ 265)، ومقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ص (7)، والنوازل في الحج للشلعان (290)، والفقه الميسر (9/ 169).
مأخذ الحكم: أن الأمر في قوله: {أَنْ طَهِّرَا} جاء مطلقًا، والمطلق يجري على إطلاقه، وإطلاق التّطهير يشمل التطهير من الشّرك بلا ريب، ومن معاني التّطهير: إزالة كل ما يمنع من أداء هذه العبادة، أو يعسرها أو يخل بها، وخاصة الطائفين لاختصاصهم بهذا المكان دون مشارك، خاصّة إذا تزاحمت الاستحقاقات، فوجب إعطاؤهم حقهم، وعدم الحيلولة بينهم وبينه في حال تزاحم الحقوق لا لحجر ولا لغيره
(1)
.
وكونه مطلقًا لأنّ الفعل {طَهِّرَا} نكرة وهو في سياق إثبات.
• الحكم الثالث: استدل بالآية من قال بجواز توسعة المطاف
(2)
.
مأخذ الحكم: هو ما سبق من كون الأمر جاء على جهة الإطلاق، والمطلق يجري على إطلاقه، فيشمل التطهير إزالة كل ما يمنع من أداء العبادة.
قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] وفي قراءة {أن لا يطوف}
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: مشروعية السعي بين الصفا والمروة، وهو أمر مجمع عليه، وإنّما الخلاف في كونه حكمًا واجبًا أو سنة.
ومأخذ القائلين بالوجوب: كونه واردًا بصيغة الخبر، والمراد به الأمر. وذلك في قوله:{مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ففيه الأمر بإقامة شعائر الله؛ لأنّ شعائر الله عظيمة لا يجوز
(1)
ينظر: النوازل في الحج للشلعان (305).
(2)
ينظر: فقه النوازل (296)، والفقه الميسر (9/ 164 - 165).
التهاون بها؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة: 2] وقوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] فدلّ ذلك على وجوب إقامة شعائر الله، ومنها السعي بين الصفا والمروة.
قال السيوطي: «وقال قوم: قوله {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} دليل على الوجوب؛ لأنّه خبر بمعنى الأمر، ولا دليل على سقوطه»
(1)
.
ثم اختلف القائلون بحتمية السعي هل هو ركن في الحج، أو واجب فيه؟ على قولين، ومرجع ذلك إلى كتب الفقه.
ومأخذ القائلين بكونه سنة، قوله سبحانه وتعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ونفي الجناح عن الفاعل يدل على عدم وجوبه، بل هو في رتبة المباح؛ إلّا أن جعل السعي من شعائر الله قرينة تدل على أنه لا يراد بذلك الإباحة، وإنّما يراد به النّدب والسنية.
قال شيخ الإسلام: «ورفع الجناح وإن كان لإزالة الشبهة التي عرضت لهم في الطواف بهما -كما سيأتي - إن شاء الله فإن هذه الصيغة تقتضي إباحة الطواف بهما، وكونهما من شعائر الله يقتضي استحباب ذلك
(2)
.
• الحكم الثاني: أنّ بداية السعي تكون بالصفا، والبدء بالصفا واجب.
ومأخذ الحكم: كون الله بدأ به فيقدم، وقوله عليه الصلاة والسلام (نبدأ بما بدأ الله به)
(3)
مع ضميمة قوله: (لتأخذوا عني مناسككم)
(4)
.
(1)
الإكليل (1/ 328).
(2)
شرح العمدة (3/ 625).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً، برقم (1297).
قال ابن الفرس: «ليس فيها ما يستدل به على أن البداءة من الصفا والمروة، ولا عكسه، سوى التقديم اللفظي، ولم يعتبره أكثر الفقهاء في مسألة الوصية، ولم يروا للتقديم اللفظي حكمًا، ولكنهم قد راعوه في هذه الآية فرأوا البداية بالصفا، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حين خرج من المسجد، وهو يريد الطواف (نبدأ بما بدأ الله به)
(1)
فبدأ بالصفا فهذا يدل على اعتبار التقديم اللفظي ما لم يعارضه معنى آخر يقتضي التقديم، وهذا كله على المشهور من أن الواو لا تقتضي ترتيبًا»
(2)
.
• الحكم الثالث: أن السعي لا يفعله إلّا من حجّ البيت أو اعتمر، وأنّه لا يفعله ابتداء، وهذا حكم متفق عليه، وأنّ السعي لا يكون إلّا بعد الطواف.
ومأخذ الحكم: كون السعي جواب شرط من حج البيت أو اعتمر.
• الحكم الرابع: جواز السعي راكبًا.
مأخذ الحكم: عموم قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ولم يخص راكبًا من غيره، والمسالة محل خلاف على أقوال يرجع فيها إلى كتب الفقه.
ووجه العموم: أن الفعل المنصوب ينحل مصدرًا، والتقدير:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ الطواف بهما}
• الحكم الخامس: يجزئ السعي دون طهارة، وإليه ذهب الجمهور.
ومأخذ الحكم: عموم الآية، وقد سبق.
• الحكم السادس: استدل بالآية من أجاز، أو منع توسعة المسعى بين الصفا والمروة، وذلك للخلاف في حقيقة حجم جبلي الصفا والمروة التي أمرنا بالسعي بينهما.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أحكام القرآن (1/ 125).
فمن قال إنه أكبر من حجمه الظاهر لنا الآن أجاز التوسعة، ومن قال بأن هذا حجمه لم يجز التوسعة عليه.
ومأخذ الحكم: يرجع إلى تحقيق مناط البينونة بينهما، وهو يعود لحقيقة حجم الجبلين.
جاء في الفقه الميسر: «والذي نراه أن الخلاف في ذلك ليس راجعاً في حكم واحد لحقيقة واحدة، بل هو اختلاف في حكم لحقيقتين مختلفتين.
فالعلماء متفقون على أنه لا يجوز السعي خارج الحد الذي ينتهي إليه الصفا والمروة، ومتفقون على أنه يجوز ويصح لما كان واقعاً بين حدود الصفا والمروة، ولكنهم يختلفون هل التوسعة داخلة بحيث تكون بين الصفا والمروة، أم أنها خارجة عن حد الصفا والمروة.
فمن رآها داخلة أجاز السعي فيها، ومن رآها خارجة عن الحد الذي ينتهي إليه الصفا والمروة منع ذلك»
(1)
.
ومما استدلَّ به القائل بعدم صحة التوسعة، قوله:{مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ، وقالوا: ظاهر المعنى اللغوي للمشعر يدل على الإشعار والإعلام، فالعلم به من الواضحات التي لا تخفى على أحد، وعليه فيبعد أن يجهل المسعى طيلة هذه القرون، ويكتشف سعته هذه الأزمان
(2)
.
ونوقش: بأن عرضه كان ظاهراً - كما نصت الآية - ولم تكن الحاجة لبيانه، ولما زاحمت البيوتات المكان احتيج لبيانه
(3)
.
(1)
الفقه الميسر (9/ 164 - 165).
(2)
حسن المسعى في الرد على القول المحدث في عرض المسعى (38).
(3)
ينظر: نبل المسعى في مشروعية توسعة المسعى للسديس (63).
• الحكم السابع: استدل بالآية من قال بصحة السعي في التّوسعة الجديدة.
ومأخذ حكم من قال بالصحة: هو أن المولى سبحانه وتعالى أطلق الطّواف بالصّفا والمروة، والمطلق يجري على إطلاق، ويقع على أي وجه كان شريطة أن يكون مبتدأه الصفا ومنتهاه المروة. وهذا مبني على المسألة السابقة، وهي جواز توسعة الصفا والمروة.
ثم إنَّ القول بتحديد المسعى - على القول بأنه كذلك - ليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا فعله عليه الصلاة والسلام، والفعل المجرد ليس له مفهوم، فلا يفهم منه سوى المكان الذي سعى فيه فقط، ولا يدل على عدم جواز السّعي في غيره.
قال السعدي: وكذلك المسعى منهم من قال: إن عرضه لا يحد بأذرع معيَّنة؛ بل كان بين الصفا والمروة، فإنه داخل في المسعى كما هو ظاهر النصوص من الكتاب والسنة، وكما هو ظاهر النصوص من الكتاب والسنة، وكما هو ظاهر فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن بعدهم
…
(1)
..
نوقش: بأنّه ليس مجرد فعل، بل فعل لبيان مجمل الآية، مقرونًا بالأمر باتباعه في قوله:(لتأخذوا مناسككم)
(2)
.
• الحكم الثامن: استدل بالآية على جواز السعي في الدورين والسطح
(3)
. وكذا استدل بها من قال بعدم جواز ذلك
(4)
.
(1)
الأجوبة النافعة في المسائل الواقعة للشيخ ابن سعدي (293).
(2)
أخرجه مسلم، وقد سبق.
(3)
ينظر: فتاوى ابن عثيمين (22/ 437 - 438)، وفقه النوازل (294)، والفقه الميسر (9/ 162)، النوازل في الحج للشلعان (364)، وعليه فتوى هيئة كبار العلماء، ينظر: أبحاث هيئة كبار العلماء (1/ 16)(2/ 388) قرار رقم (3)، وإتحاف رب البرية فيما جدَّ من المسائل الفقهية (102 - 103).
(4)
ينظر: الرحلة إلى أفريقيا -القسم الأول- (71)، وفقه النوازل (294)، والفقه الميسر (9/ 162)، النوازل في الحج للشلعان (364).
مأخذ الحكم: أما القائل بالجواز فلأن السّعي في الآية ورد مطلقًا - كما سبق تقريره في الحكم السابق - والمطلق يجري على إطلاقه، والسعي فوق السقف، لا يخرج عن مسمى السعي فيدخل في إطلاق الآية.
نوقش: بمنع دخولها في الآية، بل الآية جعلت للمسعى حدًّا، والمكان الذّي حددّه الشارع لعبادة معينة لا يجوز الزيادة عليه، أو النقص منه إلّا بنص من الكتاب والسّنة.
وهذه الأمكنة المحددة شرعًا لنوع من أنواع العبادة ليست محلًا للقياس؛ لأنه لا قياس ولا اجتهاد مع النّص الصّريح المقتضي تحديد المكان المعين للعبادة
(1)
.
ويفهم من النقاش السابق وجه القائل بالجواز، ووجه القائل بالمنع.
ومن المآخذ التي خرَّج عليها الشيخ محمد الأمين رحمه الله القول بعدم جواز السعي في الدورين، ما يأتي:
الأول: فعله صلى الله عليه وسلم كان بياناً لمجمل القرآن، ولا يجوز العدول عن بيانه صلى الله عليه وسلم، يقول الأمين رحمه الله:«وقوله: {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} إجمال يحتاج إلى بيان كيفية الطواف ومكانه ومبدئه ومنهاه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالسعي بين الصفا والمروة مبيناً فعله المذكور واقع لبيان القرآن المذكور لقوله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم) وعليه فلا يجوز العدول عن كيفيته ولا عدده ولا مكانه ولا مبدئه ولا منتهاه إلا بدليل من كتاب وسنة»
(2)
.
والمأخذ الثاني: كون الآية نصًّا في تحديد مكان السعي، ولا اجتهاد مع النص، فقال: «
…
إن الأمكنة المحددة شرعاً لنوع من أنواع العبادات ليست محلاً للقياس؛
(1)
أبحاث هيئة كبار العلماء (1/ 43).
(2)
الرحلة إلى إفريقيا (71).
لأنه لا قياس ولا اجتهاد مع النص الصريح المقتضي تحديد المكان المعين للعبادة»
(1)
.
استدل بالآية على عدد من الأحكام في هذا الباب:
• الحكم الأول: وجوب النّية.
مأخذ الحكم: الخلاف في معنى الإتمام، وقد سبق.
(2)
.
• الحكم الثاني: مشروعية نسك التمتع ووجوب الهدي عليه، وقد اتفق العلماء على أن التمتع الذي هو الاعتمار في أشهر الحج، ثم الحج من عامه أنّه مراد في الآية.
مأخذ الحكم: دلّ إيجاب الهدي - وهو دم شكران لا جبران، على مشروعية التمتع، ووجوب الهدي بتقدير: فالواجب عليكم ما تيسر، أو فعليكم ما تيسر من الهدي، كما سبق المقصود بالمتيسر من الهدي.
(1)
أبحاث هيئة كبار العلماء (1/ 43).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 369).
• الحكم الثالث: أن العمرة في أشهر الحج متعة عند الحسن البصري، وإن لم يحج.
مأخذ الحكم: أن (إلى) في قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} بمعنى (في).
قال الموزعي: «وهو جائز في اللسان»
(1)
ثم أورد شواهد من شعر العرب تدل على ذلك.
• الحكم الرابع: أن من اعتمر ثم رجع إلى أهله ثم حجّ من عامه فهو متمتع.
مأخذ الحكم: ظاهر الآية وإطلاق الحكم فيها، فلم يفرق بين أن يكون نسك العمرة والحج في سفرٍ واحدٍ، أو في أكثر من سفر.
(2)
.
• الحكم الخامس: كفارة من لم يجد الهدي على الترتيب بلا خلاف.
ومأخذ الحكم: مفهوم الشرط في قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} ومفهومه أن من كان واجدًا للهدي فليس له أن ينتقل للصيام.
• الحكم السادس: أن من لم يجد الهدي، فيجب عليه صيام ثلاثة أيام في الحج.
ومأخذ الحكم:
أولاً: وجوب الصيام في التقدير الوارد في الآية، أي: فعيله صيام ثلاثة أيام و (على) من ألفاظ الوجوب.
(1)
تيسير البيان (1/ 341).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 396).
وثانيًا: كونها في الحج، دلّ عليه مفهوم ظرف الزمان، ومفهومه أنها لا تصح، ولا تجزئ قبل أن يحرم بالحج.
قال القرطبي: «فإن قوله: {أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} يحتمل أن يريد موضع الحج، ويحتمل أن يريد أيام الحج؛ فإن كان المراد أيام الحج فهذا القول صحيح
(1)
؛ لأنّ آخر أيام الحج يوم النحر، ويحتمل أن يكون آخر أيام الحج أيام الرمي؛ لأن الرمي عمل من عمل الحج خالصًا وإن لم يكن من أركانه. وإن كان المراد موضع الحج صامه ما دام بمكة في أيام منى، كما قال عروة، ويقوى جدًا»
(2)
.
• الحكم السابع: اختلف العلماء في اشتراط التتابع في صيام الأيام الثلاث.
ومأخذ الحكم: أما من لم يشترط التتابع؛ فلأن ظاهر إطلاق الآية يدل على عدم اشتراطه.
وأمّا من اشترطه فلحجة القراءة الشاذة الواردة فيه، وقد ورد في قراءة شاذة (فصيام ثلاثة أيام متتابعات)
(3)
.
• الحكم الثامن: اختلف العلماء فيمن صام ثم وجد الهدي قبل إكمال صومه، وهل يكمل صومه، ويكون ذا فرضه أو يقطعه ويلزمه الهدي؟
ومحل الخلاف إذا لم يكمل الثلاثة أيام.
• الحكم التاسع: وجوب صيام سبعة إذا رجع إلى أهله.
ومأخذ وجوب الصوم ما سبق، في تقدير (فعليكم صيام)، كما أن في قراءة زيد ابن علي {وسبعةً} بالنصب، دلالة على الوجوب؛ إذ التقدير: وصوموا سبعة.
(1)
يقصد قول الشافعية أن الصيام ما بين أن يُهِلّ بالحج إلى يوم عرفة يعتبر أداء، وأيام منى قضاء.
(2)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 400).
(3)
انظر: تفسير عبد الرزاق (2/ 24)، والطبري (10/ 559)، والدر المنثور (1/ 519).
أمّا كونه إذا رجع إلى أهله، فمفهوم الشرط {إِذَا رَجَعْتُمْ} ومفهومه أنّها لا تصام في الحج، أي: إذا رجعتم فصوموا.
قال ابن عثيمين رحمه الله: «إن صام السبعة لا يجوز في أيام الحج؛ لقوله تعالى {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}
(1)
.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، والخلاف في مفهوم الرجوع هل هو إلى بلادكم، أو يجوز في الطريق، أو الرجوع إلى الإحلال بعد الإحرام، أو الرجوع من منى
…
وجعل ابن العربي مأخذ الجواز وعدمه راجعًا إلى الخلاف في كونه رخصة أو عزيمة، فقال:«إن كان تخفيفًا ورخصة فيجوز تقديم الرخص وترك الرفق فيها إلى العزيمة إجماعا، وإن كان ذلك توقيتًا فليس فيه نص ولا ظاهر أنه أراد البلاد، وإنما المراد في الأغلب والأظهر فيه أنه الحج»
(2)
.
• الحكم العاشر: أن الأيام عشرة لا تنقص ولا يزاد عليها.
ومأخذ الحكم: مفهوم العدد في قوله تعالى: {عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} .
قال الشوكاني: «وقوله: {كَامِلَةٌ} توكيد أخر بعد الْفَذْلَكَةِ لزيادة التوصية بصيامها، وأنه لا ينقص من عددها»
(3)
.
وقال بعض أهل العلم إن لفظ قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} خبر بمعنى الأمر، أي: أكملوها ولا تنقصوها، ذلك وهذا الحكم متفق عليه، وإنّما الخلاف فيما إذا فات المتمتع صيام الأيام الثلاثة في الحج، فهل يجب عليه صيام السبعة الباقية أم تسقط عنه ويتعين عليه الدّم؟ وبسط هذا في كتب الفقه.
(1)
تفسير القرآن الكريم، سورة البقرة (2/ 409).
(2)
أحكام القرآن لابن العربي (1/ 185).
(3)
فتح القدير (1/ 227).
• الحكم الحادي عشر: أن الحلق أفضل من التقصير، وهو محل اتفاق.
ومأخذه: وروده في كتاب الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} الآية ولم يقل تقصروا.
• الحكم الثاني عشر: عدم جواز تقديم الحلق على الهدي.
(1)
.
ومأخذ الحكم: النّهي ومفهوم الغاية فيه أنّه إذا بلغ الهدي محله، فللمحرم أن يحلق رأسه.
وقد ورد في السّنة من حديث عبد الله بن عمرو جواز تقديم الحلق على الهدي، وعدم وجوب الدم للناسي والجاهل، ففي الحديث: (
…
فما سمعته سئل يومئذ عن أمر شيء، مما ينسى المرء ويجهل، من تقديم بعض الأمور قبل بعض، وأشباهها، إلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«افعلوا ذلك، ولا حرج» )
(2)
.
قال الموزعي: «وأمّا حديث عبد الله بن عمرو فإنّه وإن ورد في الناسي والجاهل، فلا يدل على منعه في العامد، والله أعلم»
(3)
.
قلت: وذلك أن ما خرج مخرج الجواب عند سؤال لا مفهوم له كما هو مقرر في علم أصول الفقه، كما أن الحديث يكون صارفًا للنّهي الوارد في الآية عن التّحريم وربما كان للكراهة هنا.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 382).
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي، برقم (1306).
(3)
تيسير البيان (1/ 328).
قال الشاطبي: «
…
فلذلك إذا قال الشارع في أمر واقع: «لا حرج فيه» ؛ فلا يؤخذ منه حكم الإباحة، إذ قد يكون كذلك، وقد يكون مكروها، فإن المكروه بعد الوقوع لا حرج فيه؛ فليتفقد هذا في الأدلة»
(1)
.
أمّا الدّم فلو كان واجبًا لبيّنه النّبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه وقت الحاجة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز.
• الحكم الثالث عشر: أن المكي هل له متعة.
فذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا متعة له، وذهب الجمهور إلى أن له متعة.
ومأخذ الحكم: الخلاف في رجوع اسم الإشارة في قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فقال أبو حنيفة: إنّ الإشارة تعود إلى صحة التمتع المترتب عليه هذه الكفارة، فلا يصح لحاضري المسجد الحرام تمتع ولا قران.
ومأخذ الجمهور ظاهر عموم الآية، في قوله:{فَمَنْ تَمَتَّعَ} و (من) من ألفاظ العموم - وأما اسم الإشارة فإنه يعود للدم وليس للتمتع كما سيأتي - فالآية لم تفرق بين المكي وغيره.
• الحكم الرابع عشر: أن المكي المتمتع لا هدي عليه عند الجمهور.
ومأخذ الحكم: رجوع اسم الإشارة في قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يرجع إلى الهدي، وجعلوا اللام في قوله:{لِمَنْ} بمعنى (على)، أي: وجوب الدّم على من لم يكن من أهل مكة، كما أن الجمهور يرون أن دم المتمتع دم جبران؛ لترك الإحرام بالحجّ من الميقات.
تنبيه: الحنفية كما سبق يرون أن المكر له لا مشقة له، ولا قران، فإنّ تمتع
(1)
الموافقات (1/ 231).
وجب عليه الدّم، وهو دم جناية لا يأكل منه.
قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]
استدل العلماء بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: أن فرض الحج والعمرة ينعقدان بالنّية دون النطق.
ومأخذه: أن معنى {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ} ألزم نفسه، وبالنية يتحقق ذلك وعليه لا يشترط معها نطق أو سوق هدي.
• الحكم الثاني: وجوب أخذ الزاد للحج، حتى لا يحتاج إلى سؤال الناس.
مأخذ الحكم: سبب النزول قطعي الدخول، وقد نزلت الآية في طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد، ويقول بعضهم: نحن المتوكلون، ويقول بعضهم: كيف يحج بيت الله ولا يطعمنا؟ فكانوا يبقون عالة على الناس فنهوا عن ذلك وأمروا بالتزود.
استدل بالآيات على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: جواز التجارة في الحج، وقد قرأ ابن الزبير رضي الله عنهما:(في مواسم الحجّ).
مأخذ الحكم: يدل عليه نفي الحرج في الفعل - وقد سبق في حكم الطواف بين الصفا والمروة - ويؤكده جوازه ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول الآية حيث قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في الموسم فنزلت:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في مواسم الحج} أخرجه البخاري
(1)
.
• الحكم الثاني: وجوب الوقوف بعرفة، وهو ركن من أركان الحج باتفاق.
دلّ عليه قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} ثم قوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} . وفيها دليل أن المولى سبحانه وتعالى قد أمرهم بالوقوف بعرفة قبل إفاضتهم منها.
وقال الموزعي: عن قوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} «وهذه الآية أصرح وأبين في الدّلالة على الوجوب من التي قبلها؛ فإنّ الله سبحانه وتعالى أمرنا بالإفاضة من حيث أفاض الناس، فأوجب الحصول في مكان ابتداء الإفاضة الذي يفيض منه النّاس، وهو عرفات»
(2)
.
مأخذ الحكم: هو الأمر الوارد بقوله: {أَفِيضُوا} وهو يقتضي الوجوب، والمراد بالإفاضة هنا: الإفاضة من عرفات، وهو قول جماهير المفسرين، بل حكى فيه الطبري الإجماع، ولم يخالف فيه إلّا الضّحاك، وهو محجوج بالإجماع، وكان الناس، وهم العرب ما خلا قريشًا تتجاوز المزدلفة، وتقف بعرفات، وتفيض منها.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} ، برقم (4519).
(2)
تيسير البيان (1/ 363).
تنبيه: لم يذكر المولى سبحانه وتعالى في كتابه وقت الوقوف، ولا وقت الإفاضة، وبيّنه صلى الله عليه وسلم بفعله، فوقف بها إلى أن غربت الشمس، ثم دفع فجمع بين الليل والنهار.
تنبيه آخر: قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} بعد قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} يدل عند بعضهم أن (ثمّ) في الآية ليست لترتيب الحكم، بل هي للتّرتيب الذّكري، وعليه فلم تخرج (ثم) هنا عن موضوعها.
وقيل: ليست (ثمّ) في هذه الآية للترتيب، وإنّما هي لعطف جملة كلام على جملة كلام، هي منقطعة منها. ففي الكلام تقديم وتأخير.
وذكر ابن العربي أجوبة منها: «أن معناه ثم ذكرنا لكم أفيضوا من حيث أفاض الناس، فيرجع التعقيب ب (ثم) إلى ذكر وجود الشيء لا إلى نفس وجوده»
(1)
. ويرجع إلى تفاصيل ذلك في كتب التفسير.
• الحكم الثالث: مشروعية النزول بالمزدلفة باتفاق إلّا أن الخلاف في كونه المبيت بها ركنًا أو واجبًا أو سنة، بل حُكِيَ عن بعض السّلف أنّه ليس بنسك، وإنّما هو منزلٌ إن شاء نزله، وإن شاء تركه، والأخير ضعيف جدًا، بل غلط ظاهر؛ لمخالفة الكتاب والسنة.
قال الموزعي ورجّح كونه واجبًا قال: «لموافقته القرآن، ولحديث عروة بن مضرس رضي الله عنه»
(2)
. وتفصيل ذلك في كتب الفقه.
مأخذ الحكم: الأمر الوارد بقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} والعندية هنا لبيان الظرف المكاني.
(1)
أحكام القرآن (1/ 196).
(2)
تيسير البيان (1/ 360).
• الحكم الرابع: مشروعية الذّكر في المشعر الحرام، وهو أمر مجمع عليه.
(1)
.
ومأخذ الحكم الوارد في قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} ودار الأمر هنا بحسب تفسير الذكر إلى واجب وهو الأصل، وذلك كالصلاة، والمبيت عند أكثر أهل العلم.
وأمّا التلبية: فهي مشروعة نطقًا ولا تختص بمكان دون مكان، إلّا أن أكثر أهل العلم على كونها سنة، وكذا الدعاء صبيحة يوم العيد بالمزدلفة قطعاً.
تنبيه: ورد الأمر بذكر الله أيضًا عند انقضاء المناسك بقوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} ونقل ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزولها أن العرب كانت إذا قضت مناسكها، أقاموا بمنى يقوم الرجل فيقول:(اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة، عظيم القُبة، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيت لأبي فنزلت الآية، وأمروا بذكر الله عوضًا من ذلك)
(2)
وورد الذكر مقيدًا في أيام معدودات وسيأتي في الآية الآتية.
قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]
استدل بالآية على عدد من الأحكام:
(1)
تيسير البيان (1/ 356).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 266).
• الحكم الأول: مشروعية ذكر الله في الأيام المعدودات، وهي: ثلاثة أيام بعد يوم النحر على خلاف بين أهل العلم، وتسمى أيام التّشريق، وأيام منى. وأمر الله جل جلاله بذكره فيها لشرفها.
مأخذ الحكم: صيغة الطلب {وَاذْكُرُوا} وهي هنا دائرة بين الوجوب والنّدب.
فإذا فسر الذكر في هذه الأيام بالرّمي فهي للإيجاب، وإن كان مطلق الذكر كالتّكبير فهو للنّدب.
• الحكم الثاني: مشروعية التعجل في يومين للمكي وغيره.
ومأخذ الحكم: قوله: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ونفي الإثم من الأساليب الدالة على الإباحة.
وكونه للمكي وغيره: أخذًا من عموم (من) في قوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ} وهي من ألفاظ العموم.
• الحكم الثالث: مشروعية ذكر الله في الأيام المعلومات؛ لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} وهي معطوفة على قوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} وسبق القول أنّ اللام هنا للتعليل.
والمعنى: فأذن بالنّاس لأجل أن يشهدوا منافع لهم؛ ولأجل أن يذكروا اسم الله في هذه الأيام على ما رزقهم من بهيمة الأنعام.
ومأخذ المشروعية: ما سبق أن الأمر بالإذن للناس يدل على المشروعية، والتي من ثمرتها ومنافعها ذكر الله.
واختلف العلماء في المراد بذكر الله هنا، قال ابن الفرس: «واختلف في ذكر اسم الله ما هو؟ فقيل: هو بمعنى حمده وشكره على نعمته في الرزق، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام (إنها أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى)
(1)
وقيل: المراد ذكر الله على النحر والذبح»
(2)
.
كما أنهم اختلفوا في المراد بالأيام المعلومات، فقيل: أيام العشر، وقيل: أيام الحج، وهو يوم عرفة والنّحر وأيام التّشريق، وقيل: يوم التّروية وعرفة، ويوم النحر، وقيل: يوم النحر ويومان بعده، وكل يستدل لقوله ببعض الآثار.
• الحكم الرابع: الذّبح والنحر لا يكون إلّا في هذه الأيام، وأجمعوا على أنّه لا يجوز الذبح في هذه الأيام حتى يكون النحر.
ومأخذ الحكم: مفهوم الظرف حيث دلّ اختصاص هذه الأيام المعلومات بالذكر على ما رزقهم من بهيمة الأنعام بمفهومه على أنّه لا يكون في غيرها. وسيأتي مزيد في باب الأضحية.
• الحكم الخامس: ذهب بعض العلماء إلى أن الليالي لا تدخل، فلا يجوز الذّبح بالليل؛ لقوله تعالى:{فِي أَيَّامٍ}
ومأخذ الحكم: مفهوم اليوم، يدل على عدم دخول الليل، إذا قيل إنّ اليوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذا يعتبر مفهوم ظرف زمان.
ومن قال: بأن الليل يدخل في اليوم أجاز الذبح فيها.
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق، برقم (1141)، وأخرجه أبو داود - واللفظ له - في أول كتاب الضحايا، باب في حبس لحوم الأضاحي، برقم (2813) قال الشيخ الألباني: صحيح.
(2)
أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 300).
• الحكم السادس: مشروعية الأكل من الهدي والأضاحي والإطعام.
ومأخذ الحكم: الأمر الوارد بقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} وهو أمر ندبٍ عند الجمهور.
قال القرطبي: «أمر معناه الندب عند الجمهور
…
وشذت طائفة فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية»
(1)
.
وقال ابن الفرس: «قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} أمر إباحة بالأكل من الهدايا» . ثم ذكر خلاف العلماء فيما يؤكل من الهدي الواجب مما لا يؤكل، ثم نقل عن مالك قوله: أنه يؤكل منها كلها، إذا بلغت محلها إلّا من ثلاثة أنواع: جزاء الصيد، ونسك الأذى، ونذر المساكين، ثم قال: «واحتج ابن القصار لمالك بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} ولم يخص واجبًا من واجب ولا تطوع فهو عامّ في جواز الأكل إلّا ما قام الدّليل عليه من الثلاثة الأشياء المذكورة؛ لأنّها وجبت للمساكين، فلا يجوز له الرجوع ولا الأكل منها كالكفارات
(2)
.
• الحكم السابع: أن الهدي والأضاحي لا يكون إلّا من بهيمة الأنعام، وقد أجمع العلماء على ذلك.
ومأخذ الحكم: مفهوم قوله: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} أن غير بهيمة الأنعام لا تجزئ، وهو مفهوم صفة، - وسيأتي مزيد أحكام في باب الأضاحي بإذن الله - كالتسمية عند الذّبح، وقد قيل: إنّ المراد بذكر الله في الآية هو: التّسمية عند الذبح، وكالإجزاء من بعد الفجر، أي: قبل طلوع الشمس؛ لإضافة التّحريم إلى اليوم، ومقدار ما يطعم ويأكل ويتصدق إلى غير ذلك من أحكام.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (12/ 44).
(2)
أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 300).
• الحكم الثامن: مشروعية قضاء التفث، كالحلق ورمي الجمار وإزالة الشعث ونحوه، وغير ذلك على خلاف في التّعميم والتّخصيص ببعضها.
ومأخذ الحكم: الطلب الوارد بصيغة الأمر {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} والطلب دليل المشروعية.
• الحكم التاسع: أن الحلق نسك.
مأخذ الحكم: على التفسير بأنّه التفث الوارد بالآية، فيكون مأموراً به.
• الحكم العاشر: مشروعية الحلق بعد الذبح، وقد اختلف العلماء في ذلك، فمنهم: من يرى وجوب ذلك. ومنهم: من يرى استحبابه.
ومأخذ الحكم: ترتيب قضاء التّفث في الآية على الذّبح.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]
تضمنت الآية منع المشركين - ككفار مكة وغيرهم - من الحجّ بعد هذا العام الذي بعث فيه النّبي صلى الله عليه وسلم أبابكر ثم أردف صلى الله عليه وسلم بعليٍّ فأمره أن يؤذن بسورة براءة؛ لإعلام النّاس بألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان
(1)
.
مأخذ الحكم: النهي الوارد بقوله: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} ووصفهم بالنّجس مما يدل على وجوب اجتنابهم للمسجد الحرام.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك، برقم (1543)، ومسلم كتاب الحج، باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وبيان يوم الحج الأكبر، برقم (1347).
سبق الحديث عن أحكام هذه الآيات المتعلقة بالحج وبقي الحديث عن آيتين منهما:
الأولى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25].
وقد استدل بعض المعاصرين بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: استدل بها من قال بأن تحديد نسبة الحجاج الصدّ عن سبيل الله؛ لما فيه من منع بعض المسلمين الذين يريدون أداء الفريضة مع الاستطاعة
(1)
.
مأخذ الحكم: قرن المولى سبحانه وتعالى الصدَّ عن المسجد الحرام بالكفر، ودلالة السياق تقتضي المشاركة في الإثم، واستحقاق العذاب الأليم، الذي ختمت به الآية، ولا يستحق العقاب إلّا على ترك واجب، أو ارتكاب محرّم، فدلّ على عدم جواز تحديد النّسبة لما فيها من صدّ بعض المستطعين عن فريضة حجهم.
تنبيه: سبق مناقشة هذا القول في المطلب الثالث، من المبحث السابق (الرابع).
(1)
ينظر: أحكام الاستطاعة في الحج في ضوء المستجدات المعاصرة (180).
• الحكم الثاني: استدل بالآية على عدم جواز تأجير المخيمات بمنى
(1)
.
مأخذ الحكم: أنّ تأجير المخيمات يتسبب في الصدّ عن المسجد الحرام، وما أدّى إلى الصدّ عن المسجد الحرام فهو حرام؛ وذلك لأنّ وسيلة الحرام محرّمة.
ثمَّ إنه عز وجل جعل المسجد الحرام {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]، ومثله بقية المشاعر.
تنبيه: رأت هيئة كبار العلماء في المملكة بالأغلبية: أنه يجوز للدولة أنْ تؤجّر هذه الخيام بقيمة متناسبة مع ما كلّفه هذا المشروع حتى تحصل على قيمة التكلفة، وبعد ذلك لا يجوز الأخذ إلا بقدر تكاليف الصيانة فحسب، مع وجوب مراعاة الأسبقية في تأجيرها؛ لأنّ منى مناخ من سبق، فإنْ تعذّر مراعاة الأسبقية فيرجع إلى الاقتراع؛ لأنّ القرعة يلجأ إليها عند التزاحم ولا مميّز لأحدهم، أو إذا علمنا أنّ الشيء لأحدهم وجهلناه
(2)
.
ولعل القول به مبني على الاستحسان، واعتبروا التأجير معدولًا به عن الأصل للمصلحة المترتبة على المشروع من سلامة الحجاج، وحفظ أرواحهم. وإلا فالأصل أن حكم منى حكم نظائرها من أراضي المشاعر، فيشملها الحكم العام، وهو حكم المساجد - الوارد في الآية - في قوله:{وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25].
• الحكم الثالث: استدل بالآية على عدم جواز إلزام الناس الحج عن طريق الحملات.
مأخذ الحكم: أنّ إلزام الناس الحج عن طريق الحملات يتسبب في الصدّ عن
(1)
ينظر: النوازل في الحج للشلعان (452).
(2)
انظر: قرار هيئة كبار العلماء رقم (185)، بتاريخ 9/ 2/ 1418 هـ.
المسجد الحرام، وما أدّى إلى الصدّ عن المسجد الحرام فهو حرام؛ وذلك لأنّ وسيلة الحرام محرّمة.
ويقال هنا ما قيل في المطلب السابق - تأجير المخيمات - من التنبيه.
يقول الشيخ العثيمين: «أنّ لوليّ الأمر أنْ يلزم الناس بالحجّ عن طريق الحملات إذا رأى أنّ المصلحة تقتضي ذلك»
(1)
.
وأما الآية الثانية فهي قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، وقد استدل بالآية على عدد من الأحكام:
• الحكم الأول: ذهب جمهور أهل العلم أن المراد بالطواف في هذه الآية، طواف الإفاضة، ويسمى بطواف الزّيارة، بل ونقل بعض العلماء الإجماع على كونه هو المراد.
واستنبط العلماء من الآية كون طواف الإفاضة ركنًا من أركان الحجّ، وهذا الحكم مجمع عليه.
ومأخذ الحكم من الآية: الأمر الوارد بصيغة (ليفعل) وهو الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر، والأمر يقتضي الوجوب.
تنبيه: ذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالطواف هنا: طواف الوداع، ويرده ما قاله الجصاص في أحكامه حيث قال:«ظاهره يقتضي الوجوب; لأنه أمر والأوامر على الوجوب. ويدل عليه أنه أَمَرَ به معطوفا على الأمر بقضاء التفث، ولا طواف مفعول في ذلك الوقت - وهو يوم النحر بعد الذبح - إلا طواف الزيارة، فدل على أنه أراد طواف الزيارة»
(2)
.
(1)
مجموع فتاوى ابن عثيمين (21/ 118).
(2)
أحكام القرآن للجصاص (5/ 74).
ثم إنّه على القول بأنّه طواف الإفاضة، أو الوداع فكلاهما واجب، فالأوّل: باتفاق، والثاني: عند من قال بأنّه المراد بالآية؛ إذ إنّ الأمر غير مصروف.
• الحكم الثاني: لا يصح الطواف بغير طهارة عند الجمهور، وهي شرط في صحة الطواف. وذهب الحنفية: إلى كونها واجبة وليست شرطًا في صحة الطواف، والواجب يمكن جبره بالدّم في الحجّ؛ ولذا قالوا: بصحة الطواف بدون طهارة.
وقالوا: إنّ الطّواف اسم للدوران بالبيت، وذلك يتحقق من المحدث والطاهر.
مأخذ الحكم: يتكلم أهل الأصول عن هذا الفرع تحت قاعدة: مطلق الأمر هل يتناول المكروه أم لا؟
فعند الجمهور: لا يتناول المكروه خلافًا للحنفية.
وذكر ابن السمعاني أن فائدة الخلاف تظهر في قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فلا يتناول عندنا الطواف بغير طهارة، وعلى مذهبهم يتناوله؛ فإنهم وإن اعتقدوا كراهة هذا الطواف ذهبوا إلى أنّه دخل في الأمر، حتى يتصل به الإجزاء الشّرعي، ونحن لا نقول إنّه طواف مكروه، بل لا طواف أصلًا؛ لقيام الدليل على أن الطّهارة شرط فيه كالصّلاة
(1)
.
• الحكم الثالث: استدل بها من قال بعدم جواز الطواف في الطّابق العلوي؛ لأنّ ظاهر الآية لزوم كون الطواف بنفس البيت لا بفضائه
(2)
.
الاستنباط: على المعنى اللغوي، واللغة حجة، حيث إنّ معنى الطواف جعل المكان في وسطه، لا فوقه لا تحته.
(1)
انظر: قواطع الأدلة (1/ 238 - 239).
(2)
ينظر: النوازل في الحج للشلعان (272).
يمكن أن يناقش بأنّ الهواء له حكم القرار
(1)
، فيتحقق الطواف حكماً، وحقيقة شرعية، لا حقيقة لغوية، والحقيقة الشرعية مقدَّمة، وسبق أن قوله:{وَلْيَطَّوَّفُوا} مطلق؛ لأن الأفعال نكرات، وهو في سياق إثبات، والمطلق يجري على إطلاقه، سواء كان أسفل أو في الهواء، فيجري على إطلاقه ما لم يأت دليل التقييد.
• الحكم الرابع: استدل بها على جواز الطواف من المحدث
(2)
.
مأخذ الحكم: أخذ من المعنى اللغوي؛ إذ إنّ الطواف هو الدوران حول الكعبة، وهذا يتحقق من المحدث والطّاهر.
أو يقال بأن الطواف مطلق، والمطلق يجري على إطلاقه، فلا يتقيد بكونه على طهارة أو على غير طهارة، إلّا بدليل يقيد ذلك.
• الحكم الخامس: يستدل بالآية على جواز الطواف على العربة أو السير
(3)
.
ومأخذ الحكم: على ما سبق من أن المطلق يجري على إطلاقه.
تنبيه: هذا الحكم مبني على القول بأن المشي في الطواف مع عدم العذر سنّةٌ، وبهذا قال الشافعية
(4)
، واختاره المجد
(5)
، وابن قدامة
(6)
، والشنقيطي
(7)
، وابن باز
(8)
.
(1)
ينظر: الفقه الميسر (9/ 155)، وبه أفتت اللجنة الدائمة كما في فتاويها (11/ 232).
(2)
ينظر: المبسوط (4/ 38)، وبدائع الصنائع (2/ 129)، والنوازل في الحج للشلعان (315).
(3)
ينظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (5/ 272)، و الحلل الإبريزية من التعليقات البازية (2/ 36)، والنوازل في الحج للشلعان (276).
(4)
ينظر: المجموع شرح المهذب (8/ 27).
(5)
ينظر: الشفا الشافيات (1/ 236).
(6)
ينظر: المغني (5/ 251).
(7)
ينظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (5/ 272).
(8)
ينظر: الحلل الإبريزية من التعليقات البازية (2/ 36).
(1)
.
• الحكم السادس: يستدل بالآية على جواز الانتقال من طابق إلى طابق أثناء الطواف والسعي.
ومأخذ الحكم: على ما سبق من كونه مطلقًا، والمطلق يجري على إطلاقه، فيتحقق الطواف والسعي في جميع الحالات السابقة، فدلَّ على جواز ذلك
(2)
.
قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27]
استنبط من الآية وجوب الأخذ من شعر الرأس كله حلقًا، أو بعضه تقصيرًا.
ومأخذ الحكم: تكنية الشارع عن العبادة ببعض ما شرع فيها يدل على وجوبه، وعليه فيدل قوله:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} على فرضية الحلق أو التقصير في الحج؛ لأنّ العرب لا تكني إلّا بالأخص بالشّيء.
(1)
شرح صحيح مسلم، لابن عثيمين (4/ 423).
(2)
ينظر: المغني (5/ 250).
قال المجد: إذ عبر عن العبادة بمشروع فيها دلّ على وجوبه، مثل تسمية الصلاة قرآنًا بقوله:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] وتسبيحًا بقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] وكالتعبير عن الإحرام والنسك بأخذ الشعر، بقوله:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} ذكره القاضي وابن عقيل ولم يحك خلافًا»
(1)
.
باب الفوات والإحصار
قال الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196].
قال الله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25].
قال ابن العربي عن آية البقرة إنّها: «مشكلة عُضْلةٌ من العُضْلِ»
(2)
وقد استدل العلماء بالآيتين على بعض الأحكام:
• الحكم الأول: أنّ الإحصار يكون بالعدو وبالمرض.
ومأخذ الحكم: كونه راجعًا إلى الإحصار بالعدو الراجع إلى سبب نزول الآية حيث إنّها نزلت بالحديبية حين أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، وحلق ورجع ولم يصل إلى البيت، ويؤيده من الآية قوله بعد ذلك {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} ثم ذكر المرض بعد ذلك بحكم مستقل {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} الآية.
(1)
المسودة (60)، التحبير (2/ 945).
(2)
أحكام القرآن لابن العربي (1/ 170).
أمّا كون الحصر يكون بالمرض فمأخذه: اللغة حيث إنّ الفعل الرباعي (أحصر) يقال في المرض، فيقال:«أحصره المرض» أمّا الثّلاثي (حصر) فإنّه للعدو، فيقال: حصره العدو، وهو قول الأخفش وابن السِّكيت من علماء اللغة
(1)
.
وقال بعض أهل اللغة كالأزهري
(2)
والزجاج
(3)
: إن الرباعي «أحصر» يقال لمن منعه خوف أو مرض من التصرف فهو محصر، ويقال لمن حُبس: حُصر، فهو محصور.
وقال ثعلب والفراء: أُحصر وحُصر لغتان
(4)
.
إذا تبين ما سبق فقد حمل بعض العلماء الإحصار في الآية على العدو، مؤيدين قولهم من خارج الآية - أيضًا -:(لا حصر إلّا حصر العدو)
(5)
.
ومن العلماء من حمل على الجميع لما سبق، ويؤيده من خارج الآية حديث ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب عند ما قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني امرأة ثقيلة، وإني أريد الحج، فما تأمرني؟ قال:(أهلي بالحج، واشترطي أن محلي حيث حبستني)
(6)
.
• الحكم الثاني: أن الإحصار يكون في الحج والعمرة.
(1)
انظر: اصلاح المنطق لابن السكيت (230)، والمصادر القادمة.
(2)
انظر: تهذيب اللغة للأزهري (4/ 232).
(3)
انظر: معاني القرآن للزجاج (1/ 267).
(4)
انظر: معاني اللغة للفراء (1/ 117)، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير (1/ 395).
(5)
أخرجه الشافعي في مسنده (1/ 381) برقم (984)، قال ابن حجر في التلخيص الحبير (2/ 548):«بإسناد صحيح» ، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5/ 358) برقم (10091).
(6)
أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب الأكفاء في الدين، برقم (4801)، ومسلم في كتاب الحج، باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه، برقم (1207).
(1)
.
فمأخذ الحكم: أن الإحصار في العمرة كان سبباً لنزول الآية، وسبب النزول قطعي الدّخول، وقاس العلماء الحجّ عليه؛ لأنّه بمعناه.
• الحكم الثالث: أن المحصر ممنوع من حلق شعره حتى يبلغ الهدي محله، ومفهومه أنه: إذا بلغ الهدي محله فللمحرم أن يحلق رأسه.
مأخذ الحكم: مفهوم الغاية الوارد في الآية بحرف (حتى).
قال أبو حيان رحمه الله: «هذا نهي عن حلق الرأس مغيا ببلوغ الهدي محله، ومفهومه: إذا بلغ الهدي فاحلقوا رؤوسكم»
(2)
.
• الحكم الرابع: الخلاف في المحصر المكي هل يجب عليه الهدي كالأفاقي.
قيل: إنّه كغيره، فيجب عليه الهدي.
ومأخذ الحكم: عموم الضمير في قوله {أُحْصِرْتُمْ} يشمل المكي وغيره.
وقيل: ليس عليه هدي، استدلالًا في الظاهر بقوله تعالى:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
قلت: وهذا الاستثناء يرجع الإشارة فيه إلى صحة التمتع المترتب عليه هذه الكفارة أو راجع إلى سقوط الدّم عن المتمتع كما سبق.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 377).
(2)
البحر المحيط (2/ 258).
• الحكم الخامس: أن المحصر إذا تحلل بالهدي؛ فإنّه لا يجب عليه قضاء حجه أو عمرته.
ومأخذ الحكم: أن الله سبحانه وتعالى لم يذكر قضاء، والقضاء لا يجب إلّا بأمر ثانٍ عند الأكثرين من أهل العلم بالنظر وشرائط الاستدلال قاله الموزعي
(1)
.
(1)
انظر: تيسير البيان (1/ 316).
كتاب البيوع
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [198].
يستدل بالآية على إباحة التجارة والإجارة وسائر أنواع المكاسب
(1)
.
وقد ورد في سبب نزول الآية ما نقله البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال: «كانت عكاظ ومجنَّة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فتأثموا أن يتَّجروا في المواسم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج)
(2)
.
مأخذ الحكم: رفع الجناح من الأساليب الدالة على الإباحة. والآية وإن كانت في الحج إلا أن جوازها في خارجه أولى.
قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}
ويستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: إباحة البيع بأنواعه إلا ما دل دليل على تحريمه، والآية أصل في ذلك
(3)
.
مآخذ الحكم: إخباره سبحانه وتعالى عن الحكم المختص بالحل والإباحة بقوله: {وَأَحَلَّ} ويشمل حِلَّ البيوع بأنواعها لدخول «أل» غير العهديَّة على المفرد
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 384)، تيسير البيان (1/ 355)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 262).
(2)
أخرجه البخاري برقم (1681)، (1770).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 446)، وتيسير البيان (2/ 148)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 402).
المشتق
(1)
، في لفظ {الْبَيْعَ} فيعمّ الحِلّ كل بيع إلّا ما دلّ الدليل على تحريمه.
واشترط بعض الشافعية للعموم في «أل» الداخلة على المفرد المشتق، عدم مخالفته لأصل، فعمَّ في البيع؛ لأنه موافق للأصل من حيث إن الأصل في المنافع الحل، فمهما حرم البيع فهو على خلاف الأصل.
• الحكم الثاني: كون الحل الوارد في عموم البيع مخصوصاً ببيوعات محرمة، أي أنَّه من العام المخصوص.
مأخذ الحكم: تخصيص الكتاب بالسنة - ولو كانت آحادية - هو قول جمهور أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة
(2)
.
قال السيوطي: «ومن أمثلة ما خُصَّ بالحديث: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} خُصَّ منه البيوع الفاسدة، وهي كثيرة في السنة»
(3)
.
قال الجصاص: «{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} عموم في إباحة سائر البياعات
…
ثُمَّ منه جائز، ومنه فاسد
…
وقد كان لفظ الآية يوجب جواز هذه البياعات، وإنما خُصَّ منها بدلائل»
(4)
.
• الحكم الثالث: جواز بيع المعاطاة
(5)
.
مأخذ الحكم: عموم الآية، فيدخل بيع المعاطاة
(6)
في عمومها.
(1)
انظر: روضة الناظر (2/ 665)، شرح مختصر الروضة (2/ 465)، التحبير (5/ 2363).
(2)
انظر: البحر المحيط (4/ 242)، شرح الكوكب (3/ 359).
(3)
الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (4/ 1419).
(4)
أحكام القرآن (2/ 189).
(5)
ينظر: المغني لابن قدامة (6/ 7)، والمجموع للنووي (9/ 192).
(6)
المعاطاة: حقيقته: وضع الثمن وأخذ المثمن عن تراض منهما من غير لفظ المناولة.
ينظر: المطلع على أبواب المقنع (228).
فائدة: الأسماء التي علق عليها الشارع أحكاماً - كالبيع علَّق عليه الحِلَّ - إذا لم يبين الشارع له لفظاً، فإنَّ المرجع فيها إلى العرف، وقد جرى العرف على جواز بيع المعاطاة.
قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]
يستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب الإشهاد على البيع، على ما ذهب إليه بعض العلماء
(1)
.
مأخذ الحكم: حمل الأمر في قوله {وَأَشْهِدُوا} على الوجوب، لعدم الصارف عندهم.
وذهب الجمهور إلى أن حكم الإشهاد على البيع هو الندب
(2)
، وحكى بعضهم الإجماع على ذلك، وجعلوا من صوارف الأمر عن الوجوب إلى الندب القرائن الآتية:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، فدلَّ سياق الإشهاد على الدين والبيع أن الرهن كاف في ذلك؛ لأجل الائتمان، فيكون الإشهاد دلالة على الحث، لا أنه واجب.
الثانية: فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين اشترى فرساً من أعرابي ولم يشهد عليه
(3)
، وفعله
(1)
روي هذا القول عن بعض الصحابة كابن عباس، وابن عمر، وكذا بعض التابعين، وهو اختيار ابن حزم. ينظر: المغني لابن قدامة (6/ 381)، والجامع لأحكام القرآن (4/ 458)، المحلى لابن حزم (8/ 80 و 344 و 350)، وتيسير البيان (2/ 170)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 416).
(2)
ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 342)، والجامع لأحكام القرآن (4/ 459)، والمغني لابن قدامة (6/ 381)، وتيسير البيان (2/ 165).
(3)
وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: (بلى قد ابتعته منك) فطفق الأعرابي يقول: هلُمَّ شهيداً، فقال خزيمة بن ثابت رضي الله عنه أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة، فقال:(بم تشهد؟) فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل شهادة خزيمة شهادة رجلين.
أخرجه: أبو داود في كتاب الأقضية، باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به، برقم (3607)، والنسائي في كتاب البيوع، باب التسهيل في ترك الإشهاد على البيع، برقم (4647)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2/ 399)، وإرواء الغليل (5/ 127)، برقم (1286).
من صوارف الأمر من الوجوب إلى الندب؛ إذ لو كان واجباً لأشهد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولما تركه
(1)
.
الثالثة: لقيام الإجماع السكوتي، أو الإجماع العملي على جواز ترك الإشهاد، فالناس على مر العصور يتبايعون من غير إشهاد مع علم الناس من غير نكير، ولو كان واجباً لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به.
• الحكم الثاني: كون الإشهاد يشمل البيع والشراء، فالبائع مأمور بأن يشهد على بيعه، والمشتري مأمور بأن يشهد على شرائه، على جهة الوجوب أو الندب كما سيأتي.
مأخذ الحكم: حمل المشترك - وهو لفظ (البيع) في قوله: {تَبَايَعْتُمْ} - على معنييه وهما: البيع والشراء.
باب شروطه وما نُهي عنه
قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الآية [البقرة: 188].
يستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: تحريم أكل المال بغير وجه شرعي، وله صور كثيرة
(2)
.
(1)
تيسير البيان للموزعي (2/ 167).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 365)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 218)، وتيسير البيان (1/ 276).
قيل: تنحصر في: جحد ما يجب على الانسان بذله من وديعة أو زكاة، ودعوى ما ليس من حقه.
وقيل: إنّ أصول المعاملات المحرمة: الربا، والظلم، والغرر
(1)
.
والمقصود هو: أن من صور البيوع المنهي عنها والمحرمة شرعاً، أكل المال بالباطل، بالظلم أو الغرر، وغير ذلك.
مأخذ الحكم: النهي الوارد بقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا} ، والعموم في قوله:{بِالْبَاطِلِ} ، بدخول الألف واللام على اسم الجنس، فيعم كل باطل، وجماعها ما ذكر.
• الحكم الثاني: تحريم الرشوة
(2)
.
وهذا الحكم وإن كان داخلاً في العموم السابق إلا أن في قوله: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، حاجة لتخصيصها بالذكر؛ إذ إن الإدلاء هنا فُسِّر بالرشوة
(3)
.
مأخذ الحكم: عطف الإدلاء بها على النهي في قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، أي: ولا تدلوا بها إلى الحكام.
كما أن في وصف الفعل بالإثم في قوله: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، دليلاً على التحريم؛ إذ هو أسلوب من أساليب التحريم، وفيه ذمٌ للفعل بوصف كونه إثماً.
(1)
ينظر: تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن للسعدي (117).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 366)،، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 219)، وتيسير البيان (1/ 276).
(3)
ينظر: المصدر السابق.
قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6].
يستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: اشتراط البلوغ وإيناس الرشد، لصحة البيع
(1)
.
وفُسِّر الرشد بأنه: حسن التصرف بالمال. وإنما يحصل من العاقل دون السفيه.
وعليه فلا يصح بيع ولا شراء الصبي غير المميز، ولا المجنون.
مأخذ الحكم: تعليق المولى سبحانه دفع المال لليتامى بشرطين: بلوغ النكاح، وذلك بالبلوغ، وإيناس الرشد. والمعلَّق على شرطين لا يثبت إلا بثبوتهما
(2)
.
تنبيه: قال ابن الفرس: «والفاء في قوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ} للشرط لا للتعقيب»
(3)
.
قلت: وهو مقيِّد للشرط الأول، وهو البلوغ.
• الحكم الثاني: جواز بيع وشراء الصبي المميِّز فيما أذن له الولي فيه.
مأخذ الحكم: الحكم بظاهر الآية، وهو أن الاختبار يكون قبل البلوغ
(4)
.
قال ابن قدامة للدلالة على هذا الحكم: «لوجهين: أحدهما: أنَّه سمَّاهم يتامى، وإنَّما يكونون يتامى قبل البلوغ. والثاني: أنَّه مدَّ اختبارهم إلى البلوغ بلفظ (حتى)
(1)
ينظر: المجموع للنووي (9/ 182 - 183)، والإنصاف للمرداوي (4/ 267).
(2)
ينظر: المغني (6/ 596)، والتفسير الكبير (9/ 194).
(3)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 61).
(4)
ينظر: تيسير البيان (2/ 234).
فدلَّ على أنَّ الاختبار قبله .. »
(1)
.
ومأخذ آخر: كون الاختبار واجبًا قبل دفع المال، ولا يتم إلَّا بالإذن لهم بالبيع والشراء، فدلَّ على مشروعية ذلك وجوازه؛ لأن ما لايتم الواجب إلا به فهو واجب، وكل واجب فهو جائز.
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29].
يستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: اشتراط رضا المتعاقدين في صحة عقود المعاوضات المالية
(2)
، وفساد بيع المكره
(3)
.
مأخذ الحكم:
أولاً: دلالة الاستثناء المنقطع في الآية؛ حيث إن {إِلَّا} بمعنى لكن، وهو استثناء من النفي
(4)
، فيدلّ على جواز الأكل حال التراضي. والتقدير: إلَّا أن تكون تجارة عن تراض منكم فيكون الأكل جائزاً.
قال الرازي: «قوله: {إِلَّا} فيه وجهان: الأول: أنه استثناء منقطع؛ لأن التجارة عن تراض ليس من جنس أكل المال بالباطل، فكان {إِلَّا} ههنا بمعنى (بل)،
(1)
المغني (4/ 351).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 549)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 160).
(3)
ينظر: المجموع 9/ 188، ومجموع فتاوى (8/ 504)، و (29/ 200).
(4)
والمعنى: لكن يحل أكله بالتجارة عن تراض.
الثاني: أن من الناس من قال: الاستثناء متصل، وأضمر شيئاً، فقال: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، وإن تراضيتم، كالربا وغيره، إلا أن تكون تجارة عن تراض»
(1)
.
ثانياً: مفهوم الشرط في قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، ومفهومه ما لم تكن عن تراض فالبيع فاسد، وبيع المكره عن غير رضا.
تنبيه: لا يرى الحنفية وابن حزم مفهوم المخالفة حجة، وقد استدلُّوا بقول الله تعالى:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} على فساد بيع المكره، وليس هذا احتجاجاً منهم بدليلِ الخطابِ من الآية، بل بِمَنطوقها، وذلك أنهم رأوا أن صدر الآية -وهو النهي عن أكل الْمَالِ بالباطل- عامٌّ، استُثْنِيَ منه البيع عن تراض، والبَيعُ مع الإكراه خَالٍ عن التراضي، فبقي داخلاً في عموم الْمُسْتَثْنَى منه، أي في عموم النهي عن أكل المال بالباطل
(2)
.
• الحكم الثاني: عدم اشتراط الصيغة (القبول والإيجاب) في البيع
(3)
.
مأخذ الحكم: أن قوله: {عَنْ تَرَاضٍ} مطلق، والمطلق يجري على إطلاقه، أي لا يتقيد بالألفاظ التي ذكرها الفقهاء: بعت، وقبلت، ونحوها.
قال الشوكاني: «أما كون المعتبر مجرد التراضي، ولو بإشارة من قادر على النطق فلكونه لم يرد ما يدل على ما اعتبره بعض أهل العلم من ألفاظ مخصوصة،
(1)
التفسير الكبير للرازي (4/ 57).
(2)
ينظر: المحلى 9/ 21، وبدائع الصنائع (7/ 28)، والبناية شرح الهداية (10/ 45 - 46).
(3)
الإكليل (2/ 549).
وأنه لا يجوز البيع بغيرها، ولا يفيدهم ما ورد في الروايات من نحو: بعتك، وبعت منك، فإنَّا لا ننكر أنَّ البيع يصح بذلك، وإنَّما النزاع في كونه لا يصح إلا بها، ولم يرد في ذلك شيء، وقد قال الله تعالى:{تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} ، فدلَّ على أنَّ مجرد التراضي هو المناط، ولابد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كناية، بأي لفظ وقع، وعلى أيِّ صفة كان، وبأيِّ إشارة مفيدة حصل»
(1)
.
تتمة: من قال: لا ينعقد بيع المعاطاة، وإنما يحتاج في البيع إلى الصيغة؛ قالوا:«لما كان الرضا أمر يتعلق بالباطن، ولا يطلع عليه أحد في الظاهر إلا ببيان اللسان، اشترطنا النطق، واكتفينا به دليلاً على الرضا، صريحاً كان النطق أو كناية؛ لقيام الكناية بالدلالة على الرضا»
(2)
.
• الحكم الثالث: عدم اعتبار خيار المجلس
(3)
.
قال السيوطي: «لأنه اعتبر التراضي في تمام التجارة، دون التفرق»
(4)
.
مأخذ الحكم: شرط التراضي في جواز التجارة، وأطلقه - سبحانه - والمطلق يبقى على إطلاقه، وبيَّن ذلك ابن العربي بقوله: « .. إنما يدل مطلق الآية على التجارة على الرضا، وذلك ينقضي بالعقد وينقطع بالتواجب، وبقاء التخاير
(5)
في المجلس لا تشهد له الآية لا نطقاً ولا تنبيهاً، وكل آية وردت في ذكر البيع والشراء
(1)
الدراري المضية (2/ 350).
(2)
تيسير البيان (2/ 364)، وينظر: الإكليل (2/ 549).
(3)
ينظر: المغني (6/ 15 - 16)، والمجموع (9/ 211 - 212)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 160).
(4)
الإكليل (2/ 549).
(5)
التخاير: هو أن يقول المتبايعان: تخايرنا، أو اخترنا إمضاء العقد، أو أمضيناه، أو أجزناه، أو ألزمناه وما أشبهها، ففي حقيقته أنه قطع للخيار- أي: خيار المجلس-، ومنع من أن يرجع أحدهما عن العقد بعد حصول الإيجاب والقبول. ينظر: المجموع (9/ 212).
والمداينة والمعاملة إنما هي مطلقة لا ذكر للمجلس فيها، ولا لافتراق الأبدان»
(1)
.
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].
قال السيوطي عن المراد {بِالْعُقُودِ} : «وقيل: ما عقده الإنسان على نفسه من بيع وشراء
…
فيدخل تحتها من المسائل ما لا يحصى»
(2)
.
ومما يستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: جواز خيار الشرط
(3)
، ولو طالت مدَّته
(4)
.
مأخذ الحكم: لعموم قوله: {بِالْعُقُودِ} ، فهو جمع محلى بأل فيعم كل عقد، ومنه العقد الذي اشترط فيه الخيار.
• الحكم الثاني: نفي خيار البيع والمجلس، وعدم صحتهما
(5)
.
مأخذ الحكم: حمل الأمر في قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} على الوجوب، فيجب الإيفاء بعقد البيع، والعقد هو الإيجاب والقبول، فدلَّ على أنَّ خيار المجلس لا يثبت؛ لأن إثباته ينافي الإلزام بوفاء العقود، وهو خلاف مقتضى الآية، وسبق قول ابن العربي.
(1)
أحكام القرآن (1/ 523).
(2)
الإكليل (2/ 604)، وتيسير البيان (3/ 57 - 58).
(3)
ويسمى شرط الخيار، وخيار البيع، وبيع الخيار، وهو:"أن يشترط أحد المتبايعين خيار ثلاثة أيام أو أقل"، أو "أن يشترط في العقد خيار مدة معلومة"، وعُرِّفَ بأنه "بَيْعٌ وُقِّفَ بَتُّه على إمضاء يُتَوَقَّع"، فهو خيار في البيع يثبت بالشرط ولولا الشرط لما ثبت.
ينظر: الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي ص/ 288، والممتع في شرح المقنع 3/ 76، والبناية شرح الهداية 7/ 74، وشرح حدود ابن عرفة 1/ 365 - 367، وحاشية ابن عابدين 7/ 106 - 107.
(4)
ينظر: المغني (6/ 15 - 16)، والمجموع (9/ 211 - 212).
(5)
ينظر: المغني (6/ 15 - 16)، والمجموع (9/ 211 - 212).
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
يستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: من شروط البيع المتعلقة بالمبيع أن يكون مالاً، ويعبر عنه بعض الفقهاء بالنفع أو الانتفاع. والخمر والأنصاب والأزلام لا نفع فيها، فلا تكون مالاً، وما ليس بمال لا تجوز المبادلة به
(1)
.
مأخذ الحكم: في الآية أساليب دالة على التحريم: {رِجْسٌ} ، و {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ، و {فَاجْتَنِبُوهُ} ، فهو نهي بصيغة الأمر.
والتحريم هنا لأجل كونها {رِجْسٌ} ، سواء كان ذلك حسياً أو معنوياً، فيدل على عدم النفع بها، ومعلوم أنَّ النهي إنما يكون لحسم مادة الفساد، لذا قيل إنه يقتضي الفساد.
• الحكم الثاني: تحريم بيع الخمر والأنصاب والأزلام
(2)
.
قال السيوطي: «أصل في تحريم الخمر»
(3)
.
مأخذ الحكم: سبقت الإشارة إليه في المأخذ الأول.
تنبيه: التحريم -هنا- مضاف إلى عين -الخمر والأنصاب- والتحريم لا يضاف إليها، وإنما يضاف إلى فعل المكلَّف، لذا لا بد من تقدير فعل للمكلَّف، فيقدَّر لفظ: التصرف، أو الاستعمال، أو الفعل. أي: تصرفكم وفعلكم بالخمر والميسر رجس فاجتنبوه، ويشمل التصرف والفعل: الأكل، أو الشرب، أو البيع،
(1)
ينظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 14 - 15).
(2)
ينظر: المغني (6/ 358).
(3)
الإكليل (2/ 658 - 659).
أو الاتخاذ.
• الحكم الثالث: تحريم الميسر، وهو القمار، وهو الذي لا يخلو الداخل فيه من أن يكون غانماً إن أخذ، أو غارماً إن أعطى، ويدخل فيه صور كثيرة، منها: بيع الملابسة، واللعب بالشطرنج والنرد، .... الخ
وذكر السيوطي أنَّ الآية أصل في تحريم القمار بأنواعه
(1)
.
مأخذ الحكم: ما سبق في مأخذ الآية، ومنه قوله:{فَاجْتَنِبُوهُ} وهو أمر بمعنى النهي، مثل: دع، وذر، واترك
…
الخ
قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119].
يستنبط من الآية: إباحة جميع ما سكت عنه الشرع، ولم يرد فيه نص بالتحريم
(2)
.
مأخذ الحكم: يؤخذ ويستنبط من العموم الوارد بصيغة اسم الموصول (ما) في قوله: {مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} ، ويدلُّ على أنَّ جميع المحرمات قد فصَّل الشارع حكمها وبيَّنه. ومفهومه أن ما لم يفصل تحريمه فهو حلال.
قلت: ما لم يفصَّل يبقى كذلك تحت عموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} .
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 658).
(2)
يستدل بعض العلماء بهذه الآية في إباحة ما سكت عنه الشرع، كاستدلال ابن حزم بها على جواز بيع المدبر والمدبرة، فقال:" فصح أن بيع كل متملَّك جائز، إلا ما فصَّل لنا تحريم بيعه، ولم يفصل لنا تحريم بيع المدبَّر والمدبَّرة، فبيعهما حلال". وقوله في جواز بيع الحيوان باللحم مطلقا -أي من جنسه أو من غير جنسه، متفاضلا أو متماثلاً، نقداً أو نسيئة، وقال:" فهذا كله بيع لم يُفَصّل تحريمه .. " ولا يُعْتَرض عليه بأن بيع الحيوان باللحم مما فَصَّل لنا تحريمه حديثُ النهي عن بيع اللحم بالحيوان؛ لكونه ضَعيفاً عنده. ينظر: المحلى (8/ 515 - 517)، و (9/ 37 - 38).
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9].
يستنبط من الآية: تحريم وعدم صحة البيع والشراء ممن تلزمه الجمعة بعد الشروع في ندائها الثاني
(1)
.
مأخذ الحكم يتبيَّن بالمآخذ الآتية:
المأخذ الأول: دلَّ النهي على التحريم وفساد البيع بقوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} ، وهو أمر بمعنى النهي
(2)
.
المأخذ الثاني: كون التحريم للبيع والشراء؛ إذا حمل المشترك على معنييه؛ إذ إن لفظ {الْبَيْعَ} مشترك يتناول المعنيين البيع والشراء.
ولما كان علَّة تحريم البيع -وهي: الاشتغال عن صلاة الجمعة- موجودةً في الشراء أيضاً. استدلَّ بعضهم بدليل سد الذرائع لذات المعنى؛ لأنه وإن كان مباحاً في أصله إلا أنه قد يكون ذريعة إلى فوات الخطبة، أو الصلاة أو بعضها.
المأخذ الثالث: في قصر الحكم على من تلزمه الجمعة؛ لأن الحكم معللٌ بما يحصل به الاشتغال عن الجمعة، وهذه العلة معدومة في حق من لم تلزمه الجمعة.
تنبيه: من العلماء من جعل المخاطب بالآية الجميع؛ لعموم النهي.
وذهب قوم إلى أن «البيع جائز في ذلك الوقت، وأن الآية على الندب لا على الإلزام، واستدلوا بقوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}»
(3)
.
(1)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 562، 563).
(2)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 563).
(3)
أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 562).
تكملة: الأمر بعد ذلك في قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] للإباحة؛ لكونه أمراً بعد حظر. أو يقال: يرجع إلى حكمه قبل الحظر، وفيه الخلاف في حكم البيع.
باب الرِّبا
يستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: أن الآية أصل في تحريم الربا بأنواعه إلا ما خصه دليل
(1)
مأخذ الحكم: ورود التحريم على جهة العموم.
وقد ورد التحريم بأساليب متنوعة، منها:
(1)
إخباره سبحانه وتعالى عن الحكم المختص بالتحريم بقوله: {وَحَرَّمَ} وهو صريح في الدلالة على التحريم.
(2)
وبالوعيد لمن عاد عليه بالنار، بقوله {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
(3)
وبالإخبار بمحق الربا، بقوله:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} وهو نوع عقوبة، لا تكون إلا على فعل محرم.
(4)
وبعدم محبة الله لفاعله، وذم فاعله بأنه كفَّار أثيم، كما في ختم الآية.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 446)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 402)، وتيسير البيان (2/ 149).
أما العموم فهو المستفاد من دخول «أل» غير العهدية على المفرد المشتق، وهو لفظ {الرِّبَا} في الآية، ومن ثمَّ يعم حرمة كل ربا إلا ما خصَّه الدليل.
المأخذ الثاني: العمل بظاهر الآية، والعمل بالظاهر حجة.
ولما قيل بأن لفظ {الرِّبَا} متردد بين معنييه الشرعي واللغوي، حمل على المعنى الشرعي؛ لأن شأن الشرع أن يبين أحكام الشرع لا أحكام اللغة.
المأخذ الثالث: كون العبرة بعموم اللفط، حيث قيل في سبب نزول الآية إن ثقيفًا كانوا أكثر العرب ربًا، فلما نهوا عنه قالوا: كيف ننهى عن الربا وهو مثل البيع، فحكى الله تعالى ذلك عنهم، ثم أبطل ما ذكروه من التشبيه بالبيع، فقال تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}
(1)
.
فيقال العبرة بعموم اللفظ، فيحرم جميع أنواع الربا، ومنها الربا الذي يعامل به أهل الجاهلية، إذا حَلَّ دينُهُ على غريمه طالبة، فيقال: زدني في الأجل وأزيدك في المال، وهو ربا النسأ، واللفظ يعمه ويعم ربا الفضل.
• الحكم الثاني: أن العقود الواقعة في دار الحرب لا تُتْبَع بعد الإسلام بالنقض، سواء كانت عقود بيع أو نكاح
(2)
.
مأخذ الحكم: لقوله تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} ، فأضاف المولى المال له بلام التمليك، وبصيغة العموم (ما) في قوله {مَا سَلَفَ} ، وذلك مشروط بالانتهاء {فَانْتَهَى} ، الواقع في جواب الشرط {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} .
أما المسلم فلا يدخل في هذا الحكم؛ لأن الموعظة قد جاءته من قبل، وعصى، وكان الواجب عليه الامتثال.
(1)
ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 240).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 447).
(1)
.
• الحكم الثالث: أنَّ من استحلَّ ما حرم الله سبحانه مما اتفقت عليه الأمة، وشاع تحريمه فيها، أنه يكفر بذلك، بخلاف الجاهل
(2)
.
ومأخذ هذا: أنَّ المولى - سبحانه - لما علَّق استحقاق النار على من عاد بعد مجيء الموعظة - ففيه نوع استحلال منه - ثم ختم المولى حكم الربا بعد ما سبق بقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} ، وأما الجاهل فلا يكفر؛ لأن الخطاب يدل على أنَّ ما لم يأته موعظة من ربه فلا حرج
(3)
.
وقال القرطبي: «قال كثير من المفسرين: وهذا وعيد لمن استحل الربا، ومن استحل فإنَّه يكفُر، ويكفَّر»
(4)
.
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة: 278 - 279].
يستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: تحريم ربا الجاهلية وإبطاله
(5)
.
(1)
أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 401).
(2)
ينظر: تيسير البيان (2/ 156).
(3)
ينظر: تيسير البيان (2/ 156)
(4)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن (4/ 199)
(5)
تيسير البيان (2/ 157).
وهذه الآية تتحدث عن ربا الجاهليَّة، وقد اتفق المسلمون على إبطال هذا الربا، تبعاً لإبطال المولى سبحانه وتعالى له
(1)
.
وربا الجاهلية هو ما كانت العرب تفعله من تأخير الدَّين بزيادة منه، فيقول أحدهم لغريمه: أتقضي أم تربي؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال، ويصير الطالب عليه
(2)
.
مأخذ الحكم من الآية: ورود النهي الدال على التحريم والإبطال بأساليب، وهي:
الأول: النهي بقوله: {وَذَرُوا} ، وهو أمر بمعنى النهي.
الثاني: نصب المولى سبحانه للمرابي العداوة، في قوله:{فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، وفيه إخبار بعظم معصيته، وأنَّه يستحق بها المحاربة عليها.
وبيَّن العز بن عبد السلام أنه راجع إلى الذم والوعيد، والذم والوعيد لا يكونان إلا على محرم
(3)
.
الثالث: وصف التارك بأنه تائب، والتوبة لا تكون في الأصل إلا من الذنب
(4)
.
قال العز بن عبد السلام: «ولا توبة في الأغلب إلا عن ذنب»
(5)
.
• الحكم الثاني: أن المقيم على الربا يستتاب وإلا يقتل.
(1)
ينظر: تيسير البيان (2/ 158).
(2)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 400)، وتيسير البيان (2/ 158).
(3)
ينظر: الإمام (105 - 106).
(4)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3/ 363)، والإكليل (1/ 447).
(5)
الإمام (119).
مأخذ الحكم: قول ابن عباس: (من أقام على الربا فعلى إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلَّا ضرب عنقه)
(1)
، استدلالا بقوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} . أخرجه ابن جرير.
• الحكم الثالث: أن مجرد العقد الفاسد لا يوجب فوات التدارك إلا بعد القبض.
(2)
.
والمقصود بالفوات: تضييع منفعة العين المملوكة، كإمساك عين لها منفعة، يستأجر لها.
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130].
يستنبط من الآية تحريم رِبا الفضل.
قال السيوطي: «فيه النهي عن ربا الفضل، وآية البقرة عامة في ربا الفضل والنسيئة»
(3)
.
(1)
ذكره السيوطي في الإكليل (1/ 447).
(2)
التحرير والتنوير (3/ 95).
(3)
الإكليل (2/ 488).
مأخذ الحكم: من الأساليب الدالة على التحريم:
الأول: ورد الحكم بصيغة النهي الصريحة، وهي قوله:{لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا}
الثاني: ذم الفعل وبيان شناعته. يقول القرطبي «
…
فدلَّت العبارة على شُنعة فعلهم وقبحه، ولذلك ذكرت حالة التضعيف خاصَّة»
(1)
.
فوائد: الأولى: قال ابن الفرس: «وخصت لفظة الأكل؛ لأنها أقوى مقاصد الإنسان في المال؛ ولأنها دالة على الحرص والجمع، فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كلَّه، فاللباس والسكنى والإدخار، والإنفاق على العيال، وغير ذلك، كلُّه داخل تحت قوله {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} [البقرة: 275]»
(2)
.
الثانية: قال القرطبي: « .. وإنما خصَّ الربا من بين سائر المعاصي؛ لأنه الذي أذن الله فيه بالحرب»
(3)
.
تنبيه: نقل العلماء الإجماع على تحريم الربا، كثيره وقليله، وهما في التحريم سواء، ولا حجة لبعض المعاصرين الذين أجازوا الربا اليسير الذي ليس فيه مضاعفة، احتجاجاً بمفهوم الآية.
وذلك لأن من شرط المفهوم: (ألا تظهر فائدة من تخصيص الشيء بالذكر غير نفي الحكم عما عداه)، وقد تخلف هذا الشرط هنا؛ لوجود ف
وائد أخرى من تقييد النهي عن الربا غير نفي الحكم حال المضاعفة، ومن تلك الفوائد:
الأولى: إنَّما خُصَّ حال المضاعفة بالذِّكر؛ لبيان شناعة فعلهم؛ لأن الواحد منهم كان يستزيد في الدَّين مرَّة بعد أخرى، فيبلغ الحال به إلى أن يستغرق بالنزر
(1)
الجامع لأحكام القرآن (4/ 119).
(2)
أحكام القرآن (1/ 400 - 401)
(3)
الجامع لأحكام القرآن (4/ 199).
اليسير مال المَدين كلَّه، وكأن الله تعالى يقول لهم موبِّخاً ومُشَهِّراً بسوء صنيعهم: لقد بلغ بكم الأمر في استحلال أكل الربا أنكم تأكلونه أضعافاً مضاعفة، فلا تفعلوا ذلك
(1)
.
الثانية: إنما خُصَّ الأضعاف المضاعفة بالذِّكر؛ لبيان حادثة واقعة، أي نزلت الآية بياناً لحكم حالة جرى التعامل بها وانتشر آنذاك، وما كان كذلك لا مفهوم له؛ لأن من موانع المفهوم كون المنطوق ذُكر لبيان الواقع.
قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 160 - 161].
يستنبط من الآية: تحريم الربا.
مأخذ الحكم يتبين بالأساليب الآتية:
الأول: ورود الحكم في سياق بيان الظلم الذي فعلوه، واستحقوا به تحريم طيبات ما أحل الله لهم.
قال القرطبي: «كله تفسير للظلم الذي تعاطوه، وكذلك ما قبله من نقضهم الميثاق وما بعده»
(2)
.
الثاني: وصف الفعل بأنه ظلم من الأساليب الدالة على التحريم.
قال ابن القيم في مقام سرده للأساليب الدالة على التحريم: «أو وصفه بصفة ذم، مثل كونه ظلماً، أو بغياً، أو عدواناً»
(3)
.
(1)
ينظر: المحرر الوجيز لابن عطية (3/ 228)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 80)، والقرطبي (5/ 310 - 311)، والتحرير والتنوير للطاهر بن عاشور (4/ 85 - 86)
(2)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 14).
(3)
بدائع الفوائد (4/ 5).
الثالث: التعبير بالنهي عنه في قوله: {وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} ، وهو من الأساليب الصريحة في التحريم.
تنبيه: هذا الحكم مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا، ولا خلاف في الحكم هنا لدلالة شرعنا عليه، كما سبق في الأدلة السابقة.
أبواب السَّلَم والقرْض والرَّهن
يستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: إباحة السلم، والاستدانة مطلقاً؛ لأن الله أجاز التداين إلى أجل بشرط الإشهاد
(1)
.
قال الموزعي: «والمداينة من الدَّين، مفاعلة، وهي اسم لكل دين في الذمة، فيدخل في ذلك بيع السلعة المعيَّنة بثمن إلى أجل مسمَّى، وبيع السلعة في الذمة إلى
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 449)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 416)، وتيسير البيان (2/ 162).
أجل مسمَّى، وهو السلم والسلف»
(1)
.
وعليه فمعنى قوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ} «أي: تعاملتم بالدين، وهو يعم كل دين من قرض، أو بيع (السلم)، أو غير ذلك» ، فتتناول «جميع المداينات إجماعاً» . كما قاله ابن عطية
(2)
.
مأخذ الحكم: عموم قوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ} ، وهي نكرة في سياق شرط؛ لأن الفعل ينزل منزلة النكرة، والنكرة في سياق الشرط تعم، فتعم كل دين على ما سبق، والعبرة بعموم اللفظ لا خصوص سبب نزولها، حيث إن الآية نزلت فيما كان يتعامل به أهل المدينة من السلم خاصة، لحديث: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يسلفون السنة والسنتين
…
)
(3)
.
نقل ابن الفرس عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في السلم خاصة، ثمَّ قال:«يعني سلم أهل المدينة كان سبب الآية، وقد اختلف الأصوليون في الكلام المستقل بنفسه، الوارد على سبب، هل يقصر على سببه، أو يحمل على عمومه؟، وقد قال مالك في الآية: وهذا يجمع الدَّين كله أ. هـ. أي: حمل اللفظ على عمومه»
(4)
.
تتمة إيضاح: البيوع الجائزة المتعلقة بالدين نوعان:
الأوّل: بيع السلعة في الذمة إلى أجل مسمى وهو السلم وهو: تعجيل الثمن وتأخير المثمن، أو بيع الدين بالعين، أو بيع عاجل بآجل.
والنوع الثاني: بيع السلعة المعينة بثمن إلى أجل مسمى، ومنها: الاستدانة،
(1)
تيسير البيان (2/ 162 - 163).
(2)
المحرر الوجيز (1/ 378).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب السلم، باب السلم في وزن معلوم، برقم (2241)، ومسلم في كتاب المساقاة، باب السلم، برقم (4094).
(4)
أحكام القرآن (1/ 416 - 417).
وهي: بيع العين بالدين، أو بيع آجل بعاجل.
• الحكم الثاني: استدل بها مالك على جواز تأجيل القرض
(1)
.
مأخذ الحكم: قال سبحانه: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} ولم يفصل بين القرض وسائر العقود في المداينات، فدخل في عموم المداينات، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقبلهما ابن عمر وجماعة من السلف.
تتمة: خالف في ذلك جمهور أهل العلم، ومحل الخلاف فيما إذا اتفق الطرفان على تأجيله، فهل يلزم التأجيل أو لا يكون ملزمًا؟
فقال الجمهور بعدم اللزوم؛ لأنّ القرض عبارة عن إرفاق وتبرع، والتأجيل عبارة عن وعد، والوعد ليس بملزم.
أمّا من قال باللزوم فاستدل بقوله عليه السلام: (المؤمنون على شروطهم)
(2)
.
• الحكم الثالث: بطلان كل بيع وسَلَم وعقد كان الأجل فيه مجهولاً
(3)
مأخذ الحكم:
أولاً: تفسير الصحابي، وهو ظاهر قوله:{أَجَلٍ مُسَمًّى} ، وفسَّره ابن عباس بالمعلوم.
ثانياً: لما فيه من غرر عظيم، وما يؤدي إليه من تنازع.
• الحكم الرابع: قال ابن الفرس: وفيها دليل على أن السلم لا يكون إلا مؤجلاً،
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 449)، و أحكام القرآن (1/ 417)
(2)
أخرجه البخاري معلقاً: كتاب الإجارة، باب أجر السمسرة، وأبو داود: كتاب الأقضية، باب في الصلح برقم (3594)، والترمذي: كتاب الأحكام عن رسول الله «، باب ما ذكر عن رسول الله «في الصلح بين الناس، برقم (1352)، وصححه الألباني كما في الإرواء (5/ 142).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 449)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 3).
ولا يجوز أن يكون حالاً
(1)
.
مأخذ الحكم: مفهوم الشرط في قوله {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ} . حيث علَّق الله الحكم إلى الأجل بصيغة الشرط.
• الحكم الخامس: يشترط أن يكتب صفة الدَّين وقدره
(2)
.
قال ابن الفرس: «فالآية دليل لمن أجاز السلم في كل ما يضبط بالصفة على الشروط المعروفة»
(3)
.
مأخذ الحكم: القياس على الأجل، وهو أحد الأوصاف؛ فحكم سائر أوصافه بمنزلته.
كما يفهم كذلك من كتْب الصغير والكبير، كتابة الأوصاف من الصفة والقدر.
• الحكم السادس: مشروعية كتابة الدَّين
(4)
.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله {فَاكْتُبُوهُ} .
فقيل: للوجوب على أصله، وقيل: للندب
(5)
.
أما الصارف فقالوا: قوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، حيث أسقط المولى عز وجل الكتابة عند الأمن من ضياع الحق. ومن صوارف الأمر من الوجوب إلى الندب، كذلك فعله صلى الله عليه وسلم حيث ابتاع بلا كتابة ولا إشهاد، وكذا جريان العمل على عدم الكتابة في جميع ديار المسلمين
(6)
.
(1)
أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 417)، وينظر: الإكليل (1/ 449).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 454).
(3)
أحكام القرآن (1/ 417).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 449).
(5)
ينظر: أحكام القرآن (1/ 418)، وتيسير البيان (2/ 168).
(6)
سبق بيانه في شروط البيع.
• الحكم السابع: الرخصة في ترك الكتابة في بيع الحاضر.
مأخذ الحكم: قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} ، ونفي الجناح من الأساليب الدالة على الإباحة.
• الحكم الثامن: اشتراط التقابض في البيع الحاظر
(1)
.
قال القرطبي: {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض
(2)
.
مأخذ الحكم: بدلالة الإشارة؛ إذ نظم الآية غير مساق لهذا الحكم، بل مساق إلى الكتابة في البيع، وذلك بعد قوله:{وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} فاستثنى من ذلك التجارة الحاضرة بينهم، فقال:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا}
قوله تعالى: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20].
يستنبط من الآية استحباب القرض.
ذكر الرازي أن من العلماء من حمل القرض في الآية على إنفاق المال، ثمَّ ذكر أن لهم ثلاثة أقوال، والأول: أنَّ المراد من الآية ما ليس بواجب من الصدقة. ثمَّ بين دليله، وهو مأخذ الحكم.
مأخذ الحكم: قال الرازي في دليل الحكم السابق بعد أن نسبه للأصم: «واحتج عليه بوجهين: الأول: أنَّه تعالى سمَّاه بالقرض، والقرض لا يكون إلا تبرعاً.
والحجة الثانية: سبب نزول الآية، قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت الآية في أبي
(1)
ينظر: أحكام القرآن (1/ 435).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 42)، والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 383).
الدحداح، قال: يا رسول الله إن لي حديقتين، فإن تصدقت بإحداهما فهل لي مثلاها في الجنَّة؟ قال: نعم»، وذكر القصة، ثمَّ قال الرازي:«إذا عرفت سبب نزول هذه الآية ظهر أن المراد بهذا القرض ما كان تبرعاً لا واجباً» .
ثمَّ نقل القول الثاني: في حمل القرض على الإنفاق الواجب. والقول الثالث: في الحمل على الجميع، وقال بأنه الأقرب
(1)
.
قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283].
يستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية الرهن، وكونه مندوباً إليه، حال السفر وعدم وجود الكاتب
(2)
.
والرهن: مؤنثة،، وهو بيعٌ، دين بعين، يمكن استيفاء الدين أو بعضه من تلك الدين أو من بعضها.
مأخذ الحكم: الأمر بقوله: {فَرِهَانٌ} ، وهو مصدر مقرون بالفاء في محل الجزاء، والمعنى: ارهنوا رهناً، وصُرِف الأمر من الإيجاب إلى الندب بالإجماع.
قال ابن قدامة: «والرهن غير واجب، لا نعلم فيه مخالفاً
…
وقوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} إرشاد لنا لا إيجاب، بدليل قوله:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]»
(3)
.
كما أن الرهن بدل الكتابة والشهادة - وهما غير واجبين - والبدل يأخذ حكم المبدل منه.
(1)
ينظر: التفسير الكبير (2/ 499)
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 456)، وتيسير البيان (2/ 166، 186)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 437).
(3)
المغني (8/ 444).
• الحكم الثاني: اشتراط القبض في الرهن. أي: قبض الرهن للمرتهن، والمعنى رهان تقبض
(1)
.
(2)
.
مأخذ الحكم: قوله: {فَرِهَانٌ} مصدر مقرون بالفاء في محل الجزاء، وهو من صيغ الأمر، وقوله:{مَقْبُوضَةٌ} صفة لرهان، ولما كان الرهن غير واجب؛ لصرف الأمر عن الوجوب بالإجماع - كما سبق - بقي الوجوب متعلقاً بوصفه الذي هو القبض، ومن ثمَّ كان القبض شرطاً في لزوم الرهن.
(3)
.
(4)
.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 456)
(2)
تيسير البيان (2/ 187 - 188).
(3)
تبين الحقائق (7/ 139).
(4)
أحكام القرآن (1/ 438).
تتمة: استدل بعضهم بمفهوم قوله: {مَقْبُوضَةٌ} أنَّ الرَّهن الذي لم يقبض لا يلزم، بمعنى عدم ترتب أحكامه عليه حتى يقبض
(1)
.
ونوقش المفهوم: بعدم حجيته؛ لوجود مانع من ذلك، وهو ظهور فائدة أخرى غير نفي الحكم عن المذكور.
ولذا قال بعضهم: إنه شرط للصّحة، أو لبيان حقيقة التوثيق التام، وأنّه يحصل بالقبض، وخاصة إذا كان العقد في السفر وليس ثمة كاتب
(2)
.
وقال ابن الفرس: «{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فجعل القبض من صفاتها، فدلَّ على أنها تكون رهناً قبل القبض؛ لأن وصف الشيء بصفة يجب أن يكون معنى زائداً على وجوده»
(3)
.
• الحكم الثالث: استدل بظاهر الآية على أن الرهن لا يجوز إلا في السفر
(4)
.
مأخذ الحكم: مفهوم الشرط في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} ومفهومه إن لم يكن على سفر فلا رهن.
وعورض بالمنطوق من حديث أنس رضي الله عنه: (لقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعًا بالمدينة عند يهودي وأخذ منه شعيراً لأهله)
(5)
، كما أن تخصيصه بالسفر؛ لأنّه مظنة عدم وجود الكاتب.
تتمة: استدل بالآية الضحاك على أنه لا يجوز الرهن في السفر إلا عند فقد
(1)
ينظر: المغني (6/ 336).
(2)
ينظر: تيسير البيان للموزعي (2/ 188).
(3)
أحكام القرآن (1/ 438).
(4)
ينظر: المغني لابن قدامة (6/ 444)، الإكليل (1/ 456).
(5)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب البيوع، باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة، برقم (2069).
الكاتب لقوله: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا}
(1)
.
قلت: ومأخذه: أن الحكم عُلِّق الحكم على شرطين: السفر وعدم وجود الكاتب، والمعلَّق على شرطين لا يثبت إلا بثبوتهما.
(2)
. ثمَّ ذكر الحديث السابق من رهنه عليه الصلاة والسلام درعه.
• الحكم الرابع: مشروعية الرَّهن في السفر، والرد على من منع ذلك
(3)
.
مأخذ الحكم: قال ابن قدامة: «والحجة فيه قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ} إلى أن قال: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} واللفظ عامّ، فيدخل السلم في عمومه؛ لأنه أحد نوعي البيع
(4)
.
• الحكم الخامس: استدل بالآية على أن القابض أمين فيما قبضه، فيكون القول قوله، وهذه قاعدة تحتها فروع كثيرة
(5)
. والمقصود بالقابض: المدين الذي أخذ المال.
مأخذ الحكم: أنّ الله جعل الرهن بدلًا عن الكتابة والشهود، فكان الرهن ناطقًا
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 456).
(2)
أحكام القرآن (1/ 437).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 456)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 437).
(4)
في المغني (4/ 222)
(5)
ينظر: الإكليل (1/ 456)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 439).
بقدر الحق. ولم يكن وثيقة بالدين ولا بدلًا
…
فدلالة الحال أنّه إنّما رهنه على قيمة ما يقاربها. ولو كان القول قول الراهن لم يكن للرهن فائدة.
(1)
.
باب التَّفليس والحجْر
قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)} [البقرة: 280].
يستنبط من الآية أحكام التَّفليس الآتية:
• الحكم الأول: وجوب إنظار المعسر
(2)
.
مأخذ الحكم: الأمر بقوله: {فَنَظِرَةٌ} أي: فعليكم إنظاره. أو لكونه مصدراً، أي فانظروه نظرة.
• الحكم الثاني: تحريم حبسه وملازمته
(3)
.
مأخذ الحكم: وهو مبني على وجوب إنظاره أي: وتحريم مطالبته؛ لأنّ الأمر بالشيء نهي عن ضده، وإذا حرمت مطالبته فحبسه أولى.
• الحكم الثالث: يجوز مطالبة الموسر بالدين الحال.
(1)
تيسير البيان (2/ 189).
(2)
ينظر: المغني لابن قدامة (6/ 585)، والإكليل (1/ 447)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 414).
(3)
ينظر: المصادر السابقة.
مأخذ الحكم: مفهوم الشرط المخالف، حيث أثبتت الآية بمنطوقها أنَّ من ثبت إعساره وجب إنظاره إلى حين يصير موسراً، في قوله:{ذُو عُسْرَةٍ} ، ومفهوم المخالفة إذا لم يكن معسراً بل كان موسر الحال لا يجب إنظاره، بل يجوز لغرمائه مطالبته.
(1)
.
• الحكم الرابع: لا يجوز بيع الحر في الدين
(2)
.
مأخذ الحكم: أنّ المولى سبحانه جعل له الإنظار، وهذه الآية ناسخة لما كان من قبل من بيع الحر بالدين، وهذا إن ثبت أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم أمر به في صدر الإسلام، كما ذكر ابن عطية وغيره
(3)
.
• الحكم الخامس: لا يكلف المديون الكسب لوفاء دينه
(4)
.
مأخذ الحكم: أنَّ الله تعالى حكم بالإنظار ولم يوجب كسباً ولا غيره.
تنبيه: من خالف في ذلك قال: إن الآية نزلت في الربا. أي: خاصة بها دون سائر الديون، فأمر الذي يتعاملون به في الجاهلية أن يأخذوا رؤوس أموالهم بلا زيادة، وينظروا المعسر حتى يوسر.
كما أن الأصل الوفاء بالدين، والوفاء به لا يتم إلّا بالكسب، فكان الكسب
(1)
البيان للعمراني (6/ 133).
(2)
ينظر: المغني (6/ 359)، والإكليل (1/ 447).
(3)
ينظر: المحرر الوجيز (1/ 378)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 371)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 413).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 448)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 414).
واجبًا. وحملوا الآية على من لا صنعة له
(1)
.
(2)
.
• الحكم السادس: الحث على الإبراء وأنه مع كونه مندوباً أفضل من الإنظار الذي هو واجب
(3)
.
مأخذ الحكم: ظاهر قوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} بعد الحكم بوجوب الإنظار. ولا خلاف بأن التصدق والإبراء ليس واجباً، وكيف يجب والوجوب ينافي التخيير الوارد في الآية، ومع الحث عليه لم يبق إلا الندب.
قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282].
يستنبط من الآية الحكم الآتي من أحكام الحجر: أن السفيه يحجرُ عليه وتلغي أقواله وتصرفاته وإقراره، وأنه لابد له من ولي يلي أمره
(4)
.
مأخذ الحكم: جعل الشارع التصرف لوليه، وهذا يفيد الحجر عليه
(5)
.
ولأنّ حفظ ماله واجب، ولا يتم حفظ ماله إلّا بولي، فالولي واجب.
(1)
ينظر: المغني (6/ 582).
(2)
أحكام القرآن (1/ 414).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 448)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 415).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 450)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 420)، وتيسير البيان (2/ 169).
(5)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 85).
تتمة: فسر الضحاك والسدي السفيه هنا: بالصغير.
وفسر مجاهد الضعيف: بالأحمق وهو الناقص العقل، ففيه الحجر على المخبَّل والمجنون
(1)
.
يستنبط من الآية أحكام الحجر الآتية:
• الحكم الأول: يجوز الحجر على من بلغ سفيهاً، أو عاوده السفه، فصار مبذراً لماله
(2)
.
مأخذ الحكم: العموم في قوله: {السُّفَهَاءَ} ؛ لأنه جمع معرف ب (أل) فيشمل كل سفيه، بالغاً أو دون ذلك.
وإن ثبت الحجر على السفيه، فالمجنون من باب أولى.
• الحكم الثاني: لا يدفع المال إلى الصبي حتى يختبر. فللولي أن يدفع إلى موليه شيئاً من ماله، ويأذن له في التصرف فيه؛ لاختباره والوقوف على رشده
(3)
.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} ، والابتلاء هو الاختبار.
• الحكم الثالث: يختبر اليتيم قبل بلوغه
(4)
.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 456)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 419).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 507)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 57)، وتيسير البيان (2/ 232).
(3)
ينظر: الإكليل (2/ 507)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 59)، وتيسير البيان (2/ 234).
(4)
ينظر: المغني (6/ 582).
مأخذ الحكم: دلَّ منطوق الآية أن الاختبار قبل البلوغ إلى البلوغ، ومفهوم الغاية المخالف: أن ما بعد البلوغ لا يكون محلاً للاختبار، وسيأتي قول ابن قدامة في الحكم الآتي.
تنبيه: اعتبر بعضهم قوله: {الْيَتَامَى} مجازاً، باعتبار ما كان، ولا مفهوم له.
• الحكم الرابع: يدفع المال للصبي إذا أنسَ منه الرشد وبلغ، ولا يدفع له إذا بلغ غير راشد
(1)
.
مأخذ الحكم: المعلق على شرطين لا يثبت بدونهما، وقد عُلِّق دفع المال على شرطين: البلوغ، وإيناس الرشد، فلا يدفع المال حتى يحصل الشرطان.
قال ابن قدامة للدلالة على هذا الحكم: «لوجهين: أحدهما: أنَّه سمَّاهم يتامى، وإنَّما يكونون يتامى قبل البلوغ. والثاني: أنَّه مدَّ اختبارهم إلى البلوغ بلفظ (حتى) فدلَّ على أنَّ الاختبار قبله .. »
(2)
.
• الحكم الخامس: يدفع المال للجارية بعد بلوغها وإيناس الرشد منها.
مأخذ الحكم: أنَّ قوله: {الْيَتَامَى} جمع معرَّف ب (أل) فيعم الذكر والأنثى.
• الحكم السادس: الحجر على الفاسق
(3)
.
ذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالرشد المانع من الحجر: هو الصلاح في الدين والمال، حتى يحجر على الفاسق، وقالوا: إن إفساده لدينه يمنع الثقة به في حفظ ماله.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 507)، وتيسير البيان (2/ 239).
(2)
المغني (6/ 596).
(3)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 62).
ومأخذ الحكم: أنَّ قوله {رُشْدًا} نكرة في سياق الشرط فتعم الرشد في المال والدين.
ومن قال عمومها بدلي، أي أنها مطلقة لا عامة - وهو رأي بعض الأصوليين - قال بأن المطلق يصدق بأي فرد، وحملوه على المال؛ لسياق الآية، فسقط الاستدلال فيما عداها.
قال العيني: «قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} فإنه ذكر الرشد نكرة، والنكرة في موضع الإثبات تخص ولا تعم»
(1)
.
باب الصلح
قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35].
يستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب بعث الحكمين للإصلاح؛ لأجل دفع الظلم، وإزالة الشقاق.
(2)
.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله {فَابْعَثُوا} ، والأصل حمله على الوجوب.
(1)
البناية شرح الهداية (10/ 124).
(2)
الأم (5/ 194)
كما أنَّ الظلم والشقاق حرام، ولا يتم تركه إلا ببعث الحكمين للإصلاح، وترك الحرام واجب، فكان البعث للإصلاح واجباً.
• الحكم الثاني: أن يكون الحكمان من أهلهما.
قال الموزعي: «والتقييد بكونهما من أهلهما يقتضي أنه لا يجوز أن يكون من غير أهلها، وهو كذلك عند المالكية» ، ثمَّ ذكر أنه مستحب غير واجب عند الشافعية
(1)
.
مأخذ الحكم: تقييد المطلق {حَكَمًا} ، بأن يكون {مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} .
قوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114].
يستنبط من الآية: مشروعية الصلح والحث عليه
(2)
.
مأخذ الحكم:
أولاً: كون الاستثناء من النفي إثبات، فنفى المولى سبحانه الخيرة عن كثير من نجواهم، وأثبت بالاستثناء أموراً، وهي الصدقة والأمر بالمعروف والإصلاح بين الناس.
ثانياً: قرن المولى سبحانه الإصلاح بالأعمال الصالحة المتفق على صلاحها بواو العطف، ودلالة الاقتران تقوى - هنا - فيكون حكم الإصلاح حكمها من حيث الحث والطلب فيها.
(1)
تيسير البيان (2/ 384)
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 589).
تنبيه: الاستثناء في قوله {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} ، اختلف فيه هل هو منقطع أو متصل؟
قال الدكتور محمد عبد الخالق عضيمة: «إن كانت النجوى مصدراً كان الاستثناء منقطعاً، ويمكن اتصاله على حذف مضاف من الأول، أي ذوي نجوى، أو من الثاني، أي: إلَّا نجوى من أمر.
وإن كانت النجوى جمع نجى، فيكون الاستثناء متَّصلاً من غير تقدير حذف»
(1)
.
قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128].
يستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: جواز الإصلاح بين المتخاصمين من الزوجين أو غيرهما.
قال السيوطي: «وهو عام في كل صُلح، أصل فيه»
(2)
.
مأخذ الحكم:
أولاً: إذن المولى سبحانه بذلك، بقوله:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} .
ثانياً: العموم في قوله: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} ، حيث عُرِّف الصلح بأل غير عهدية فيعم كل صلح.
(1)
دراسات لأسلوب القرآن الكريم لعضيمة (1/ 310).
(2)
الإكليل (2/ 592).
• الحكم الثاني: جواز الصلح على الإنكار أو المجهول.
قال السيوطي: «
…
واستدل بعموم الآية من أجاز الصلح على الإنكار أو المجهول»
(1)
.
والصلح على الإنكار: أن يدعي شخص على شخص آخر عيناً، أو ديناً، أو منفعة، فينكر المدعى عليه، وكل منهما يعلم صدق نفسه، ثم يصطلحان
(2)
.
مأخذ الحكم: العموم الذي سبق بيانه في الحكم الأول؛ لأن ما فعلاه - على الإنكار أو المجهول - يسمى صلحاً.
قوله تعالى: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1].
يستنبط من الآية: الحث على إصلاح ذات البين.
مأخذ الحكم: الأمر في الآية بقوله {وَأَصْلِحُوا} . مع ما ورد في سبب نزولها؛ إذ هي نازلة في الإصلاح بين الصحابة، حين اختلفوا في بعض الغنائم يوم بدر، فيمن هو أحق بها، من حازها، أو من تبع آثار العدو المنهزم، أو من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يصيبه العدو منه غِرَّة، فنزلت الآية
(3)
.
(1)
الإكليل (2/ 592).
(2)
ينظر: الشرح الكبير مع الإنصاف (13/ 149).
(3)
أخرجه الإمام أحمد في المسند (37/ 410 - 411)، برقم (22747)، والحاكم في المستدرك (2/ 148)، برقم (2608)، وقال الحاكم:» صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه»، وقال الشوكاني في الدراري المضيئة (2/ 449):» أحمد برجال الصحيح».
يستنبط من الآيتين الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب الصلح بين أهل العدل والبغي
(1)
.
قال السيوطي: «فيه وجوب الصلح بين أهل العدل والبغي»
(2)
.
مأخذ الحكم: الأمر بقوله: {فَأَصْلِحُوا} ، وقد وردت ثلاث مرات.
فائدة: ذكر العلماء فائدة تكرار الأمر بالإصلاح، وأن لكل موضوع فائدة مقصودة.
فقالوا: الأمر الأول: بعد اقتتالهم لوأد تلك الفتنة. والثاني: بعد امتناع الباغية وقتالها، وقرن الصلح فيها بالعدل {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} ؛ إذ هو مظنة للتحامل عليهم. والأمر الثالث، وهو قوله:{فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} ، أمر عام في الإصلاح في كل فتنة، مع بيان العلة باقترانها بالحكم، وتلك العلَّة لكونهم إخوة في الدين، تأكيداً لهذه الرابطة الإيمانية، وبيان لحقوقها.
• الحكم الثاني: سقوط تباعات الجراح والدماء.
مأخذ الحكم: إطلاق الآية، وعدم ذكر شيء يترتب على الصلح.
(3)
.
قلت: وسيأتي مزيد تفصيل في أحكامها في باب قتال أهل البغي.
(1)
ينظر: الإكليل (3/ 1195)، وتيسير البيان (4/ 167).
(2)
الإكليل (3/ 1195).
(3)
تيسير البيان (4/ 167).
باب [الكفالة] والضمان [والجعالة]
قوله تعالى: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66].
الكفالة هي إحضار المدين، والضمان إحضار الدَّين. والجعالة
…
يستنبط من الآية من أحكام الكفالة: جواز الكفالة والحمالة بالنفس.
(1)
.
وقال الماوردي: {مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} : «الموثق الكفيل، فامتنع يعقوب من إرسال ولده مع إخوته إلا بكفيل يكفل به»
(2)
.
وتقدير الكلام كما يقول القرافي: «لتأتني به في كل حالة من الحالات إلا في حالة الإحاطة بكم، فإنني لا ألزمكم به فيها لقيام العذر»
(3)
.
مأخذ الحكم: ثبت في شرع من قبلنا، وهو شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يمنعه، وقد ورد في شرعنا ما يدل على جوازه، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (الزعيم
(4)
غارم)
(5)
.
(1)
أحكام القرآن (3/ 223 - 224)، وينظر: المغني (4/ 415).
(2)
الحاوي (6/ 462)
(3)
الفروق (3/ 68).
(4)
الزعيم لغة أهل المدينة، والحميل لغة أهل العراق، والكفيل لغة أهل مصر. ينظر: نصب الراية للزيلعي (4/ 117). وفي تحفة الأحوذي (4/ 393 - 394): غارم: غرم يغرم غرماً، بمعنى ضامن، والغرم: أداء شيء لازم. والمعنى: أن الكفيل ضامن ".
(5)
أخرجه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في أن العارية مؤداة، برقم (1265)، وأبو داود في كتاب البيوع، برقم (3565)، وابن ماجة في كتاب الصدقات، باب الكفالة، برقم (2405)، وصححه الألباني. ينظر: إرواء الغليل (5/ 425)، برقم (1412).
(1)
.
قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72].
يستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية الضمان - الكفالة على المال -؛ لأن الزعيم في الآية: الكفيل.
قال السيوطي: «قوله تعالى: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}: أصل في الضمان والكفالة»
(2)
.
(3)
.
وقال ابن عطيَّة: «
…
وقوله: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} حمالة، وذلك أنَّه لما كان الطعام لا يوجد إلا عند الملك فهم من المؤَذِن أنَّه إنَّما جُعل عن غيره، فلخوفه ألا يوْثَق بهذه الجعالة - إذ هي عن الغير - تحمَّل هذه بذلك»
(4)
.
(1)
أحكام القرآن (3/ 224).
(2)
الإكليل (2/ 878).
(3)
أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 223).
(4)
المحرر الوجيز (3/ 264).
مأخذ الحكم: كونه شرعاً لمن قبلنا، ولم يرد في شرعنا ما ينسخه، بل ورد في شرعنا ما يقرر هذا الحكم.
ذكر الموزعي ورده في شريعتنا، وذكر حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: أُقبِل بجنازة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:(هل على صاحبكم من دين؟)، فقالوا: عليه ديناران، فقال صلى الله عليه وسلم:(صلوا على صاحبكم)، فقال أبو قتادة: هما عليَّ يارسول الله، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
قال الموزعي: «هذا في الميت، وقسنا عليه الحي»
(2)
.
نوقش: بأن يوسف عليه السلام لم يكن يومئذ ذا شرع.
قال الطاهر بن عاشور: «وهذه الآية قد جعلها الفقهاء أصلا لمشروعية الجعل والكفالة. وفيه نظر، لأن يوسف عليه السلام لم يكن يومئذ ذا شرع حتى يستأنس للأخذ ب (أن شرع من قبلنا شرع لنا): إذا حكاه كلام الله أو رسوله.
ولو قدر أن يوسف عليه السلام كان يومئذ نبيئا فلا يثبت أنه رسول بشرع، إذ لم يثبت أنه بعث إلى قوم فرعون، ولم يكن ليوسف عليه السلام أتباع في مصر قبل ورود أبيه وإخوته وأهليهم. فهذا مأخذ ضعيف»
(3)
.
والجواب: كونها من القصص التي قصها المولى سبحانه، ولم يتعقبها.
قال الشنقيطي عند ذكره لحجة الجمهور في حجية شرع من قبلنا: «ما ذكر لنا في شرعنا إلا لنعمل به، سواء علينا أكان شرعاً لمن قبلنا أم لا، وقد دلت على ذلك
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الكفالة، باب الكفالة في القرض والديون بالأبدان وغيرها، برقم (2290)، ومسلم في كتاب الفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته، برقم (1619).
(2)
تيسير البيان (3/ 388).
(3)
ينظر: التحرير والتنوير لابن عاشور (13/ 29).
آيات كثيرة كتوبيخه تعالى لمن لم يعقل وقائع الأمم الماضية كما في قوله تعالى {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137 - 138]، وقد صرح تعالى بأن الحكمة في قصِّ أخبارهم إنما هي الاعتبار بأحوالهم في قوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111] وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]»
(1)
.
• الحكم الثاني: يصح ضمان المجهول، إذا كان مآله إلى العلم، وضمان ما لم يجب إذا كان مآله إلى الوجوب
(2)
.
مأخذ الحكم: المأخذ السابق من كون شرع مَنْ قبلنا شرعًا لنا، حيث دلَّت الآية على ضمان حمل بعير، وحمل البعير غير معلوم؛ لأنه يختلف باختلاف البعير، ولم يكن قد وجب حينئذ، لكنه يؤول إلى الوجوب.
وقيل: إن الحمل كان معلوماً عندهم، كما سيأتي في حكم الجعالة الآتي.
(3)
.
• الحكم الثالث: مشروعية الجعالة
(4)
.
(1)
المذكرة في أصول الفقه (193).
(2)
ينظر: المغني (7/ 72 - 73)، شرح الزركشي (4/ 117)
(3)
مجموع الفتاوى (29/ 549).
(4)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 222)، والمغني (8/ 323)، والحاوي (8/ 29).
قال السيوطي: «قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ}: أصل في الجعالة»
(1)
.
فهي أصل من أصول جواز الجعالة، حيث التزم القائل فيها بجعل حمل بعير لمن يأتي بصاع الملك. وكان الحمل عندهم معلوماً كالوسق.
مأخذ الحكم: شرع من قبلنا شرع لنا، وورد في شرعنا ما يقرِّره.
قال الموزعي: «اشتملت هذه الآية على حكمين: الأول: جواز عقد الجعالة عند من كان قبلنا، وكذا جاءت به شريعتنا»
(2)
.
ثمَّ حديث اللديغ، وهو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوا حيَّاً من أحياء العرب، فلم يَقْروهُم، فبينما هم كذلك إذ لُدِغ سيِّدُ أولئك، فقالوا: هل فيكم راق؟.
فقالوا: لم تقْرونا، فلا نفعل، أو تجعلوا لنا جُعلاً، فجعلوا لهم قطع شاء، فجعل يقرأ رجلٌ بأم القرآن، ويجمع بُراقه ويتفل، فبرأ الرجل، فأتوهم بالشاء، فقالوا: لا نأخذها حتى نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، وقال:(وما أدراك أنها رقية! خُذوها واضربوا لي فيها بسهم)
(3)
.
• الحكم الرابع: لا يشترط حضور المتعاقدين؛ لأن يوسف عليه السلام لما قال ذلك لم يكن العامل في عقد الجعالة حاضراً.
مأخذ الحكم: العموم بصيغة (من) الشرطيَّة في قوله: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ} ، فيعم الحاضر وغير الحاضر.
(1)
الإكليل (2/ 878).
(2)
تيسير البيان (3/ 387).
(3)
أخرجه البخاري، في كتاب الطب، باب الرقى بفاتحة الكتاب، برقم (5404)، ومسلم، في كتاب السلام، باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار، برقم (2201).
• الحكم الخامس: جواز ضمان الجعل قبل تمام العمل
(1)
.
مأخذ الحكم: كون شرع من قبلنا شرعاً لنا، وقد قال سبحانه:{وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} ، ولم يبدأ بالعمل.
• الحكم السادس: عدم اشتراط الأجل في العمل
(2)
.
مأخذ الحكم: كون شرع من قبلنا شرعاً لنا، مع السكوت عن الحكم في معرض البيان، حيث لم يقدر في الآية أجلاً.
قال ابن الفرس: «
…
لأنه تعالى قال: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} فسمَّى الجعل، ولم يقدِّر المدة»
(3)
.
باب الشركة والوكالة
قوله تعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220].
يستنبط من الآية من أحكام الشركة:
• الحكم الأول: مشروعية مخالطة الأولياء لليتامى، والمخالطة هي المشاركة.
قال الموزعي: «وأباح الله تعالى خلطتهم ومشاركتهم مخالفة لتحريج الجاهلية بذلك»
(4)
.
مأخذ الحكم: إخبار المولى في مقام الإقرار، ويدل عليه قوله:{فَإِخْوَانُكُمْ} .
(1)
ينظر: تيسير البيان (3/ 388).
(2)
ينظر: أحكام القرآن (3/ 223).
(3)
أحكام القرآن (3/ 223).
(4)
تيسير البيان (1/ 387).
• الحكم الثاني: مشروعية الشركة في الطعام، كما يفعل المسافرون، يخلطون طعامهم، وإن اختلف المقدار.
مأخذ الحكم: مفهوم الموافقة؛ لأنه لما جاز في مال اليتيم فهو في مال البالغ بطيب نفسه أولى بالجواز
(1)
.
قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12].
يستنبط من الآية: مشروعية الشركة بمعناها العام، وعلى شركة الأملاك على وجه الخصوص؛ إذ إنه سبحانه وتعالى جعل التركة شركة بين الورثة فقال:{فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} ، وهذه الشركة إنما كان بسبب الاجتماع في استحقاق، وما كان كذلك يسمى تركة أملاك
(2)
.
مأخذ الحكم: ربط سبحانه الشرط بالجزاء، فقال:{فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} ، وهو جواب لما تقدمه من الشرط.
يستنبط من الآية: مشروعية الشركة بوجه عام؛ إذ إن {الْخُلَطَاءِ} هم الشركاء
(3)
.
مأخذ الحكم: وردت في القصص القرآني مع عدم المنع رغم وجود البغي من
(1)
ينظر: البحر المحيط لأبي حيان (2/ 413)، وأحكام القرآن للجصاص (2/ 14).
(2)
ينظر: فقه السنة للمطلق (2/ 297).
(3)
ينظر: المغني (5/ 3)، والإكليل (3/ 1143).
الكثير منهم، واستثنى القليل في مقام مدح لهم وإقرار {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} .
أما عموم أنواع الشركة، فمن قوله:{الْخُلَطَاءِ} ، حيث إنه يشمل شركة الملك، كشركة الماشية التي ورد الخطاب فيها، أو شركة العقد، أو غيرها من أنواع الشركة.
قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282].
يستنبط من الآية: جواز الوكالة في إملال الحق الذي عليه، وبيَّن المولى سبحانه هنا أنه يشرع قيام وليِّه بذلك نيابة عنه.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} .
(1)
.
تتمة: يؤخذ من قوله: {بِالْعَدْلِ} عدم صحة وصاية الذمي والفاسق؛ لأنه لا يؤمر أن يمُل بالعدل إلا العدل
(2)
.
قوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35].
يستنبط من الآية: مشروعية الوكالة.
مأخذ الحكم: استنبط الحكم بدلالة الإشارة؛ إذ بَعْث الحكمين لا يحصل إلا بطريق الوكالة، والآية وإن لم تسق إليه، لكن يلزم من بعث الحكمين للإصلاح أن
(1)
تيسير البيان (2/ 168)، وينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 419).
(2)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 420).
يكونا في حكم الوكيلين، وإلا لم يكن لفعلهما فائدة.
لذا قال السيوطي: إنَّ الاستدلال بهذه الآية على الوكالة على القول بأن المأمور بالبعث هما الزوجان، ويشترط رضاهما بما يفعلانه من طلاق وغيره
(1)
.
قوله تعالى: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)} [النساء: 105].
يستنبط من الآية: عدم جواز التوكيل عن المتهم بدعوى الباطل.
قال السيوطي: «وفي الآية: أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق»
(2)
.
مأخذ الحكم: النهي المقتضي للتحريم، وكون النكرة في قوله:{خَصِيمًا} ، في سياق النفي، فتعم كل من خاصم عن خائن.
قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} [النساء: 141].
يستنبط من الآية: عدم جواز أن يوكل المسلم ذميَّاً
(3)
.
مأخذ الحكم: خبر بمعنى النهي، وكون النكرة في قوله:{سَبِيلًا} في سياق النهي فتعم؛ لأن الوكالة نوع ولاية وسبيل.
قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142].
يستنبط من الآية: جواز ومشروعية الوكالة، حيث استخلف موسى هارون عليهما السلام في قومه بالقيام بما يقوم به.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 555)، وتيسير البيان (2/ 384 - 385).
(2)
الإكليل (2/ 589).
(3)
ينظر: الإكليل (2/ 596).
قال ابن عطية في معنى الآية: «معناه كن خليفتي، وهذا استخلاف في حياة، كالوكالة التي تنقضي بعزل الموكل أو موته»
(1)
.
مأخذ الحكم: شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه، ولم يرد ما يمنع ذلك، بل ورد ما يدل على مشروعيتها، كما في الآية الآتية وغيرها.
قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60].
يستنبط من الآية: مشروعية الوكالة؛ إذ العاملون هم الذين يقومون بتحصيلها، ويوكلَّون على جمعها.
قال ابن قدامة: «فجواز العمل عليها يفيد حكم النيابة عن المستحقين في تحصيل حقوقهم»
(2)
.
وقال الشنقيطي: «فإنه توكيل على جباية»
(3)
.
مأخذ الحكم: استنبط بدلالة الإشارة؛ إذ الآية لم تسق إليه، وإنَّما سيقت لبيان مستحقي الزكاة، ويلزم من عملهم بها توكيلهم على أخذها.
قوله تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].
يستنبط من الآية: جواز الوكالة عن الكافر أو الظالم
(4)
.
مأخذ الحكم: شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يخالف شرعنا، وليس هو بمخالف له.
تتمة: قال ابن الفرس: «وذهبت طائفة أخرى إلى المنع من ذلك؛ لما فيها من
(1)
المحرر الوجيز (2/ 450).
(2)
المغني (7/ 196).
(3)
أضواء البيان (3/ 231) ط. دار الفكر.
(4)
ينظر: الإكليل (2/ 876).
إعانة الظالمين وتزكيتهم بالتقليد لأوامرهم. وأجابوا على ولاية يوسف برأيين:
أحدهما: أن فرعون يوسف كان صالحاً، وإنما الطاغي فرعون موسى.
الثاني: أنه نظر له في أملاكه دون أعماله»
(1)
.
قوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19].
يستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية الشركة.
وبيانه: أنَّ الآية تضمنت جواز الشركة؛ لأن الوَرِق كان لجميعهم
(2)
.
مأخذ الحكم: ما قصَّه الشارع لنا، ولم يتعقبه بمنع وإبطال دليل جوازه، وسبق النقل عن المأخذ من كلام محمد الأمين الشنقيطي، في قوله: «أنه ما ذكر لنا في شرعنا إلا لنعمل به، سواء علينا أكان شرعاً لمن قبلنا أم لا، وقد دلت على ذلك آيات كثيرة كتوبيخه تعالى لمن لم يعقل وقائع الأمم الماضية
…
»
(3)
.
وقال ابن القيم في قصة قدِّ قميص يوسف من قبل امرأة العزيز: « .. وحكاه الله عز وجل حكاية مقرر له غير منكر، والتأسي بذلك وأمثاله في إقرار الله له، وعدم إنكاره، لا في مجرد حكايته؛ فإنه إذا أخبر به مقِراً عليه، ومثنياً على فاعله، ومادحاً له، دلَّ على رضاه به، وأنه موافق لحكمه، ومرضاته»
(4)
.
وعليه فإقراره عز وجل يعرف من السياق، وما كان منكراً فإنه يتعقبه - سبحانه - بالذم أو الوعيد، وقد يعرف من سباق الآية أو لحاقها.
(1)
أحكام القرآن (3/ 222).
(2)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن (10/ 377).
(3)
مذكرة في أصول الفقه (193).
(4)
زاد المعاد (3/ 135 - 136).
كما قال ابن تيمية: «تأمل ما قبل الآية وما بعدها يطلعك على حقيقة المعنى»
(1)
.
• الحكم الثاني: مشروعية الوكالة.
قال السيوطي: «هذا أصل في الوكالة والنيابة»
(2)
.
وقال ابن العربي: «هذا يدل على صحة الوكالة، وهو عقد نيابة، أذن الله فيه للحاجة إليه، وقيام المصلحة به، إذ يعجز كل أحد عن تناول أموره إلا بمعونة من غيره، أو بترفه فيستنيب من يريحه» ، ثمَّ قال:«وهو أقوى آية في الغرض»
(3)
.
والمقصود أنه سبحانه لما أضاف الوَرِق إلى جميعهم، وحلَّ لهم استنابة أحدهم دلَّ على جواز الوكالة.
مأخذ الحكم: ما قصَّه الشارع لنا، ولم يتعقبه بمنع وإبطال، بل ورد شرعنا بها.
باب الإقرار
قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256].
يستنبط من الآية: نفي إقرار المكره.
مأخذ الحكم: دخول أفعال المكره، وأقواله ومنها الإقرار في عموم الآية، حيث ورد لفظ {إِكْرَاهَ} نكرة - وهي مبنية على الفتح - في سياق النفي، فيعم نفي ما يترتب على كل قول أو فعل للمكرَه، ومنه الإقرار.
(1)
مجموع الفتاوى (15/ 196).
(2)
الإكليل (3/ 927).
(3)
أحكام القرآن (3/ 220).
مع التنبيه إلى أن النهي فيه ورد بصيغة الخبر، والنهي يقتضي الفساد، فيقتضي عدم الاعتداد بما أكره عليه فيها، ومنه الإقرار
(1)
.
قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282].
يستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: العمل بالإقرار
(2)
.
مأخذ الحكم: جعل الشارع ما يمليه المدين -الذي عليه الحق، وليس الدائن الذي له- إقرار منه واعتراف بالحق الذي عليه.
فالكتب والشهادة إنّما هي بحسب إقراره، وما أُمر بذلك إلا ليعمل به، وإلا لما كان لإملاله معنى.
• الحكم الثاني: أن الولي يقبل إقراره عليه
(3)
.
قال ابن الفرس: «وهذا يدلّ على أن كل من أقرَّ بشيء لغيره، فالقول قوله فيه»
(4)
.
مأخذ الحكم: لأنّ الله ما أمره أن يمل في قوله: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} إلّا ليقبل قوله.
تتمة: قال الطاهر بن عاشور: «ومعنى {بِالْعَدْلِ} : أي بالحق، وهذا دليل على أن إقرار الوصيِّ والمقدَّم في حق المولّى عليه ماض إذا ظهر سببه،
(1)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 384، 385).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 450)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 418، 419).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 450)
(4)
أحكام القرآن (1/ 419).
وإنَّما لم يعمل به المتأخرون من الفقهاء سداً للذريعة، وخشية التواطؤ على إضاعة أموال الضعفاء»
(1)
.
يستنبط من الآية: جواز الإقرار.
مأخذ الحكم: الاستدلال بفعل المولى سبحانه؛ حيث أوقف الأنبياء على إقرارهم بهذا الميثاق، والتزامهم له، وأخذهم عهد الله فيه.
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135]
يستنبط من الآية: جواز إقرار المقِرِّ على نفسه، ووجوب ذلك إذا طالبه صاحب الحق.
وقال السيوطي: «قوله تعالى {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}، قال سعيد بن جبير: هو الإقرار»
(2)
.
(1)
التحرير والتنوير (3/ 105).
(2)
الإكليل (2/ 593)
مأخذ الحكم: الأمر بالشهادة بقوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} ، ثمَّ عطف عليها قوله:{وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} ، والمعطوف {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} متعلق ب {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} ، قال القرطبي:«هذا هو الظاهر الذي فَسَّر عليه الناس، وأنَّ الشهادة المذكورة هي في الحقوق، فيقرُّ بها لأهلها»
(1)
.
قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106].
يستنبط من الآية: عدم صحة إقرار المكرَه.
قال السيوطي في الإكليل: «واستدل العلماء بالآية على نفي طلاق المكره وعتاقه، وكل قول أو فعل صدر منه إلا ما استثني»
(2)
.
مأخذ الحكم: مفهوم الموافقة الأولي.
قال القرطبي: «لما سمح الله عز وجل بالكفر به، وهو أصل الشريعة عند الإكراه، ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به، ولم يترتب عليه حكم، وبه جاء الأثر المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم:(رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه) الحديث
(3)
، والخبر وإن لم يصح سنده فإن معناه صحيح باتفاق من العلماء»
(4)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 412)، والمحرر الوجيز لابن عطية (2/ 122).
(2)
الإكليل (2/ 909).
(3)
أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، برقم (2043)، بلفظ «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، والحديث صححه الألباني في مشكاة المصابيح رقم (6284) ..
(4)
الجامع لأحكام القرآن (10/ 182)، وينظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 163)، وتيسير البيان (3/ 400)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 252).
باب العارية
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].
يستنبط من الآية: وجوب رد العارية.
قال السيوطي: «فيه وجوب رد كل أمانة، من وديعة، أو قِراض، وقرْض، وغير ذلك»
(1)
.
مأخذ الحكم: كون العارية أمانة قبضت بإذن صاحبها، فتدخل في عموم قوله:{الْأَمَانَاتِ} ؛ لأنه جمع معرف، والوجوب مستفاد: من إخبار الله بالحكم بقوله: {يَأْمُرُكُمْ} .
قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 7].
يستنبط من الآية: مشروعية العارية، والحث عليها.
قال السيوطي: «فيه الحث على العارية»
(2)
. ثمَّ نقل آثاراً.
مأخذ الحكم: ذم الله من منع الماعون وتوعده، وهو عدم إعارته،؛ إذ الآية معطوفة على قوله:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} ، والتوعد على الفعل دلالة على تحريمه والنهي عنه، والنهي عن الشيء أمر بضده.
كما أنه ورد في سبب نزولها أن المسلمين كانوا يستعيرون من المنافقين الدَّلو، والقدر، والفأس، وشبهه، فيمنعونهم، فنزلت الآية
(3)
، وسبب النزول قطعي الدخول.
(1)
الإكليل (2/ 566)
(2)
الإكليل (3/ 1344)، وينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 626).
(3)
ينظر: موسوعة التفسير بالمأثور (23/ 609).
تنبيه: فُسِّر منع الماعون بالزكاة
(1)
؛ لأنها في سياق صفات المنافقين، والتحريم للوعيد، وهو ظاهر.
باب الغصب
قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} البقرة، ومثلها آية [النساء: 29].
يستنبط من الآية: تحريم الغصب.
قال ابن الفرس: «ذهب قوم إلى أنه نهى الله عز وجل عنه في هذه الآية عن أكل المال بالباطل على كل وجه، من غصب وسلب، وخيانة، وقمار، وغير ذلك»
(2)
.
مأخذ الحكم: ورود التحريم بصيغته الصريحة بقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، ففيه تحريم أكل المال بغير وجه شرعي وله صور كثيرة
(3)
، منها الغصب؛ لأنه أخذ للمال بغير طيب نفس من مالكه، كالسرقة والخيانة
(4)
.
قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283].
يستنبط من الآية: وجوب رد المغصوب.
مأخذ الحكم: بدلالة مفهوم الموافقة، وبيانه كما يقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «وإذا كان الله قد أوجب أداء الأمانات التي قبضت بحق، ففيه تنبيه على وجوب أداء
(1)
ينظر: موسوعة التفسير بالمأثور (23/ 611).
(2)
أحكام القرآن (1/ 218).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 365). قيل أكل المال بالباطل تنحصر في: جحد ما يجب على الانسان بذله من وديعة أو زكاة، ودعوى ما ليس من حقه. وقيل: إنّ أصول المعاملات المحرمة: الربا، والظلم، والغرر.
(4)
ينظر: الإكليل (2/ 549).
الغصب والسرقة والخيانة، ونحو ذلك من المظالم، وكذا أداء العارية»
(1)
.
قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79].
يستنبط من الآية: تحريم الغصب
(2)
.
مأخذ الحكم: وردت الآية جواباً على إنكار موسى للخضر عليهما السلام لخرقه السفينة، كما في قوله:{قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف: 71]، وظاهره إفساد لها، والإفساد محرم، فأقره الخضر على هذا، ثمَّ بيَّن له إنما أراد أن يرتكب أخف المفسدتين، لأن ثمَّة مفسدة أخرى غير كون السفينة مخروقة، وهي غصب السفينة، وهي أعظم حرمة لعظم مفسدتها.
باب الإجارة
قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233].
يستنبط من الآية: مشروعية الإجارة على الرضاع، واستئجار الظئر - المرضع غير ولدها
(3)
- للرضاع.
قال ابن الفرس: «ولا خلاف أنه يجوز إجارة الظئر بشيء معلوم»
(4)
.
مأخذ الحكم: نفى سبحانه وتعالى الجناح، والمؤاخذة عن الذي يسترضع لولده بالأجرة، فدلَّ على جواز ذلك. ولأن الخطاب فيه بقوله:{آتَيْتُمْ} للرجال
(5)
.
(1)
مجموع الفتاوى (28/ 266).
(2)
ينظر: الإكليل (3/ 932).
(3)
ينظر: الدر النقي (3/ 537).
(4)
أحكام القرآن (1/ 345).
(5)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 345).
قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24].
يستنبط من الآية: أن المهر أجرة الاستمتاع بالمرأة.
قال الجصاص: «وإنّما سمي المهر أجراً؛ لأنه بدل المنافع وليس ببدل عن الأعيان»
(1)
. والمنفعة هنا هي الاستمتاع.
ونقل ابن العربي عن مالك قوله: «النكاح أشبه بالبيوع؛ لما فيه من أحكام البيوع، وهو وجوب العوض
…
الخ»
(2)
.
وقال القرطبي: «الاستمتاع: التلذذ. والأجور: المهور، وسمي المهر أجراً لأنه أجر الاستمتاع. وهذا نصّ على أنَّ المهر يُسمّى أجراً»
(3)
.
مأخذ الحكم: الأمر بإتيان الأجرة، بقوله:{فَآتُوهُنَّ} جزاء الاستمتاع.
فائدة: اختلف العلماء في المعقود عليه في النكاح ما هو؟ هل هو بدن المرأة أو منفعة البضع أو الكلُّ؟ ثلاثة أقوال، والظاهر المجموع، فإن العقد يقتضي كل ذلك.
قوله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77].
يستنبط من الآية: مشروعية الإجارة
(4)
.
مأخذ الحكم: كونه شرع من قبلنا، ولم يرد في شرعنا نسخه، بل ورد في شرعنا ما يقرِّره.
(1)
أحكام القرآن للجصاص (2/ 184).
(2)
أحكام القرآن لابن العربي (1/ 499)، وينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (13/ 274).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 129)، وينظر: تيسير البيان (2/ 344).
(4)
ينظر: الإكليل (3/ 932).
قال ابن عطيَّة: «{لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} وإن لم يكن سؤلاً ففي ضمنه الإنكار لفعله، والقول بتصويب أخذ الأجر»
(1)
.
أي في ضمنه الإنكار على الخضر عليه السلام ألا يأخذ الأجرة، مع عدم استضافة القرية لهم، كما أنَّ في ضمنه تصويباً من موسى عليه السلام لأخذ الأجرة، وهذا يدلُّ على جوازه في شريعته.
قوله تعالى: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94].
يستنبط من الآية: مشروعية الإجارة
(2)
.
مأخذ الحكم: كونه مما قصَّه الشارع لنا، وإقرار المولى وعدم التعقيب بما يدل على عدم الاعتبار بها، وسبق بيان هذا المأخذ في استنباط الأحكام.
قوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 26 - 27].
يستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعيَّة الإجارة
(3)
.
حيث قصَّ سبحانه أنَّ نبياً من أنبيائه آجر نفسه حججاً مسمَّاة، فدلّ على جواز الإجارة.
مأخذ الحكم: كونه شرع من قبلنا، ولم يرد في شرعنا نسخه، بل ورد في شرعنا
(1)
التحرير والتنوير (3/ 534).
(2)
ينظر: الإكليل (3/ 936).
(3)
ينظر: الإكليل (3/ 1078)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 406).
ما يقرِّره، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم.:(أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)
(1)
.
تتمة: قال ابن الفرس عن المدَّة في الإجارة: «وأمَّا المدة فليس في ألفاظ الآية ما يدل على ترك مراعاتها، بل الأمر مسكوت عنه، فإما أن يكون معلوماً عندهم، ولم يذكر في الآية، وإما أن يكون مسكوتاً عنه عندهم أيضاً، كما وقع في الآية، وإذا كان كذلك فهو من يوم العقد كسائر عقود الإجارات والأكرية، وذلك في شريعتنا محكم معمول به. أو لعله كان في تلك الشريعة إسقاط تعيين وقت الإجارة جائزاً ثمَّ رفع في شريعتنا»
(2)
.
• الحكم الثاني: صحة استئجار الراعي بطعامه وكسوته
(3)
.
مأخذ الحكم: ما سبق من كونه شرعاً لمن قبلنا، بالإضافة إلى دلالة سياق الآية؛ إذ لم يكن لصالح مدين إلا رعيه الغنم، فكان ما علم من حاله قائماً مقام التعيين.
تنبيه: اختلف العلماء في معنى (على) في قوله: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ، فقيل بمعنى الشرط، فشرط صاحب مدين على موسى عليه السلام تزويجه شرط أن يعمل أجيراً له لمدة معلومة، لا أنَّه جعل منفعة التزويج عوضاً للإجارة.
وقيل إنَّ معنى (على) الباء؛ لأنها استعملت هنا في معاوضة، و (على) إذا استعملت في المعاوضات، كالبيع والإجارة والنكاح تكون بمعنى (الباء) إجماعاً، والعوض منفعة البضع، وهو الاستمتاع بالمرأة، كما سبق في آية النساء.
(1)
أخرجه ابن ماجة في سننه، في كتاب الرهون، باب أجر الأجراء، برقم (2443) وصححه الألباني في إرواء الغليل (5/ 320) برقم (1498).
(2)
أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 406).
(3)
ينظر: الإكليل (3/ 1081).
• الحكم الثالث: ليس لمدة الإجارة تقدير محدود، فتجوز لأكثر من سنة خلافاً لبعض العلماء.
مأخذ الحكم: قال ابن قدامة: «قول الله تعالى إخباراً عن شعيب أنَّه قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يقم على نسخه»
(1)
.
قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور: 33].
يستنبط من الآية: تحريم إجارة الإماء على الزنا.
مأخذ الحكم: التحريم بصيغته الصريحة {وَلَا تُكْرِهُوا} ، ويؤيده سبب نزول الآية حيث كان عبد الله بن أبي سلول يقول لجارية له: اذهبي فأبغينا شيئاً
(2)
.
تنبيه: قال ابن الفرس: «وقوله تعالى: اختلف إلى ما رجع هذا الشرط. فقيل: لأنه لا يتصور إكراههن إلا إذا لم يردن الزنا، وهو التحصن، وأما إذا أردنه فلا يتصور الإكراه. وقيل: هو متعلق بقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]. وقيل: الشرط ملغي، والأول أظهر وأحسن"» ، ثمَّ قال:«وهذه الآية تدل بإطلاقها على تحريم الإكراه على الزنا، وعلى تحريم أخذ العقد، وهو المراد بنهيه عليه الصلاة والسلام عن مهر البغي»
(3)
.
قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]
يستنبط من الآية: مشروعية إجارة الظئر -المرضعة غير ولدها- للرضاع.
(1)
المغني (8/ 10)
(2)
ينظر: تفسير السعدي (5/ 418)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 381).
(3)
أحكام القرآن (3/ 382).
قال ابن الفرس: «{فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي جميع ما يعان به الصبي، وذلك نفقته، وكسوته، والأجرة على إرضاعه باتفاق»
(1)
.
(2)
.
تتمة: قال شيخ الإسلام: «وليس في كتاب الله إجارة منصوص عليها في شريعتنا إلا هذه الإجارة»
(3)
.
ولعله يقصد فيما يقع على الأعيان، إذ الإجارة لا يعقد على العين، وإنّما يعقد على المنفعة، واللبن عين من الأعيان، والأصل عدم جواز العقد عليه، إلا أنه جاز رخصة.
(4)
.
وقيل: إن الأجرة على الإرضاع هي مقابل خدمة الصبي، وحمله ووضع الثدي في فيه، واللبن تبع؛ لأن المولى سبحانه علَّق الأجرة بفعل الإرضاع لا باللبن.
تتمة: الأصل أن استجار الظئر - المرضع - يجوز إذا كان بأجر معلوم، ووقت معلوم، وصبي معلوم، وقدر معلوم.
(1)
أحكام القرآن (3/ 584).
(2)
تيسير البيان (4/ 272).
(3)
مجموع الفتاوى (30/ 198)، (20/ 531)
(4)
المغني (8/ 74)
ولما كان قدر الحلب أمر لا يُقدَّر، أو لا يمكن معرفة المقدار، وليس فيه قصدٌ للغرر ولا القمار جاز.
قال ابن عبد البر: «فصار كالمتعارف عند الناس»
(1)
.
باب الهبة
قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237].
يستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: جواز هبة الزوجة النصف الذي ثبت لها للزوج، شريطة أن تكون ممن يصح تبرعها، بأن تكون رشيدة بالغة، عاقلة تحسن التصرف
(2)
.
مأخذ الحكم: لأن العفو عن حقها وتمليكه للزوج بلا عوض، هو معنى الهبة.
فقد أثبت الشارع في الآية للمطلقة التي فُرِض لها مهر مسمَّى، ثمَّ طُلِّقت من غير مسيس: نصف المهر، ثمَّ أجاز لها هبته والعفو عنه.
• الحكم الثاني: جواز الهبة إن كان الصداق عيناً، والإبراء إن كان ديناً
(3)
.
• الحكم الثالث: جواز هبة المشاع فيما ينقسم وما لا ينقسم؛ لأنه أباح تمليك نصف الصداق ولم يفرق بين ما يحتمل القسمة، وما لم يحتمل
(4)
.
مأخذ الحكمين: العموم، بصيغة (ما) الموصولة، في قوله:{فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ، فيشمل العين والدين، وما يحتمل القسمة وما لا يحتمل، فأباح تمليك
(1)
الكافي (2/ 755).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 432)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 364).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 432)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 365).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 432)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 366).
نصف الصداق ولم يفرق بين العين والدين.
قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4].
يستنبط من الآية: مشروعية الهبة
(1)
.
قال السيوطي: «فيه جواز هبة الزوجة الصداق للزوج، وقبوله ذلك»
(2)
.
مأخذ الحكم: علَّق المولى سبحانه جواز الأكل بالشرط، وهو طيب النفس، تعليق الجزاء بشرطه، فدلَّ على أنه سبب له. وهو حكم معلّق على وصف مشتق مناسب فدلَّ على أنَّ ذلك الوصف سبب لذلك الحكم
(3)
.
تتمة: إذا كان طيب النفس هو المبيح لأكل الصداق، فكذلك سائر التبرعات قياساً عليه.
قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92].
يستنبط من الآية: مشروعية التصدق بالدِّية، والإبراء منها
(4)
.
(5)
، أي يعود إلى الأخير فقط، وهو وجوب أداء الدية.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 506)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 56)، وتيسير البيان (2/ 232).
(2)
الإكليل (2/ 506).
(3)
ينظر: مجموع الفتاوى (29/ 155).
(4)
ينظر: الإكليل (2/ 578).
(5)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 323).
وفي بيان العلاقة بين الهبة - الواردة في عنوان الباب - والتصدق الوارد في الآية، يقول ابن حجر: «والهبة - بكسر الهاء وتخفيف الباء الموحدة - تطلق بالمعنى الأعم على أنواع الإبراء، وهو هبة الدين ممن عليه، والصدقة هي هبة ما يتمحض به طلب ثواب الآخرة
…
وتطلق الهبة بالمعنى الأخص على ما لا يقصد له بدل، وعليه ينطلق من عرف الهبة بأنها تمليك بلا عوض»
(1)
.
وعليه فالآية تدل على مشروعية الهبة بمعنييه العام والخاص جميعاً، فهو إبراء، وهبة الدين ممن عليه، وهي كذلك تمليك للحق (الدية) بلا عوض، وإن كان ظهورها بالمعنى العام أظهر.
مأخذ الحكم: دلالة الاستثناء، حيث دلّت الآية على وجوب الدية على من قتل خطأ بقوله {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ} ، وهو أمر بصيغة المصدر، وتقدير الآية: وعليه أداء دية، ثمَّ استثنى من هذا الوجوب حال التصدق والإبراء، فلا يجب الأداء حال الإبراء.
باب الفرائض
قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ
(1)
فتح الباري (5/ 197).
مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)} [النساء: 11 - 12].
ذكرت الآية سببين من أسباب الميراث: الرحم بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} . والسبب الثاني: النكاح، بقوله {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} الآية.
ويستنبط من الآية أحكام الفرائض: نصيب الذكر والأنثى حال التعصيب بالغير {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ، ونصيب البنتين أو الأختين الثلثان، وإن كانت واحدة فالنصف
…
الخ بشروط مفصلة نصاً واستنباطاً في كتاب الله.
مأخذ أحكام الفروض المذكورة في الآية:
أولاً: الأمر بلفظ (الوصية)، وبلفظ (الفرض) وهي من أساليب أخبار الشارع عن هذا الحكم، الذي هو الوجوب.
قال ابن عطيَّة: «وقوله: {يُوصِيكُمُ} يتضمن الفرض والوجوب، كما تتضمنه لفظ (أمر) كيف تصرفت .. »
(1)
وقال القرطبي: «{فَرِيضَةً} نُصب على المصدر المؤَكد، إذ معنى {يُوصِيكُمُ} يفرض عليكم
…
»
(2)
.
(1)
المحرر الوجيز لابن عطية (2/ 15)
(2)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 75).
ثانياً: بيان كون هذه القسمة هي من حدود الله {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} ، والقيام بحدوده واجب، لذا قال سبحانه بعدها {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} ، وهذه أساليب تهديد ووعيد لا تقال إلا على من فعل محرماً، ومنها ترك الواجب، فدلَّ على كونها واجبة.
ثالثاً: ربط الجزاء بالشرط، وهو متعدد في الآية، كقوله:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} ، مما يوجب ربط الجزاء بشرطه.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33].
يستنبط من الآية: ثبوت الإرث بالمحالفة والمؤاخاة عند عدم وجود ورثة
(1)
.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله: {فَآتُوهُمْ} .
تنبيه: قيل نسخت هذه الآية وحكمها بآية الأنفال الآتي ذكرها، فصار الميراث بالرحم
(2)
.
(1)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 172)، وتيسير البيان (2/ 377 - 478).
(2)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 171)، وتيسير البيان (2/ 378).
يستنبط من الآية الأحكام الآتية:
قال الموزعي: «وتسمَّى آية الصيف؛ لأن الله سبحانه أنزل في الكلالة آيتين: آية في الشتاء، وهي الأولى
(1)
، وآية في الصيف وهي هذه.
والمراد بالكلالة في الآية الأولى هو من لا ولد له ولا ولد ابن، ولا أب ولا جد، أو من عدا الولد وولد الابن والأب والجد.
وما أعلم في ذلك خلافاً بين أهل العلم.
وأما المراد بها في هذه الآية، فقد اختلفوا فيها اختلافاً عظيماً، وعظم شأن ذلك عليهم .... وهذه الكلالة هي التي عظم على الصحابة أمرها .. »
(2)
.
ومن الأحكام المستنبطة منها، ما ذكره السيوطي بقوله: «فيها: أن من مات عن أخت لأبوين، أو لأب، ولا ولد له، ولا والد فلها النصف.
وأنَّ للأختين الثلثين. وأنَّ الأخ كذلك يستغرق المال.
وأنَّ الإخوة إذا اجتمعوا رجالاً ونساء فللذكر منهم مثل حظ الإنثيين.
وأنَّ الولد والوالد يحجب الإخوة والأخوات»
(3)
.
مأخذ الأحكام:
أولاً: كونها بيان الحكم من الله وفتياه سبحانه {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} .
(1)
إشارة إلى قوله: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12].
(2)
تيسير البيان (3/ 42 - 53).
(3)
الإكليل (2/ 601)، وتيسير البيان (3/ 46 - 47).
ثانياً: ربط الجزاء بشرطه كما سبق.
ثالثاً: بيان أنَّ من خالف هذا فهو من الضالين، {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} وفيه ذم للمخالفين، وهذا يقتضي وجوب العمل بما قسمه الله.
قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75].
يستنبط من الآية: توريث ذوي الأرحام
(1)
.
قال الموزعي: «قال المفسرون أو أكثرهم في قوله: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} في الميراث، فكانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث قريبه المهاجر، فنسخ الله ذلك، بقوله:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}
…
وقد أعلمنا سبحانه وتعالى بانقطاع الموالاة بين المؤمنين والكافرين، فلا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر، فقال:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} »
(2)
.
(3)
.
مأخذ الحكم: بيّنت الآية بمنطوقها أولوية بعضهم ببعض، على جهة الإطلاق، والمطلق يجري على إطلاقه، فيدخل الأولوية بالإرث على غيرهم.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 796)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 110 - 111).
(2)
تيسير البيان (3/ 298).
(3)
أحكام القرآن (3/ 110 - 111).
باب الوصايا
يستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: جواز الوصية للوالدين.
اختلف العلماء في الحكم المذكور
(1)
:
فقيل: منسوخ، واختلفوا في ناسخه
(2)
.
وقيل: محكم خاص بمن لا يرث من الوالدين، كالكفار والأقربين المحجوبين.
واختلف أصحاب القول بأنه محكم، هل الوصية لهم واجبة، أو مندوبة؟.
مأخذ الحكم: من قال واجبة لقوله: {كُتِبَ} و {حَقًّا} ، وهما من أساليب الإخبار عن الواجب
(3)
.
ومن قال مندوبة لقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} . قال ابن الفرس: «لأنّ الواجب لا يقال
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 341)، أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 174).
(2)
واختلفوا في الناسخ آية المواريث {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} قاله ابن عباس وغيره، وقيل حديث «لا وصية لوارث» ورجحه الجصاص. ورجح الطوفي التخصيص؛ لأنّ التخصيص أيسر من النسخ، فكان التزامه أولى، وفيه جمع بين الأقوال، ويشترط في النسخ عدم امكانية الجمع، وهنا ممكن. وينظر: تيسير البيان (1/ 218).
(3)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 178).
فيه أنه معروف، ويستوي فيه المتقي وغيره»
(1)
.
قلت: لعله نظر إلى أن المعروف يقع في الغالب على الزائد المتفضل من الأعمال، كقولهم:«اصنع معروفًا، واحمل عني» .
لكن العلماء لم يسلموا دلالة المعروف هنا على الندب؛ لأن المعروف معناه هنا العدل الذي لا شطط فيه، لقوله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ولا خلاف في وجوب الرزق والكسوة.
وذكر المعروف هنا ليؤكد وجوب الوصية، إذا كان جميع أوامر الله معروفًا غير منكر، فضد المعروف المنكر، وما ليس بمعروف منكر.
ومن قال بالندب أكدوه بتقييد الشارع الحق بالمتقين {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} والواجبات لجميع الناس، ولا يختص المتقون فيها عن غيرهم.
وأجيب: بأنّه للتأكيد.
• الحكم الثاني: تستحب الوصية للأقربين من غير الورثة
(2)
.
مأخذ الحكم: أن الواجب إذا نسخ بقي الاستحباب، ذكره الموزعي في تيسير البيان
(3)
، وهذا على القول بكون الآية منسوخة.
وأما تأكيد الاستحباب من خارج الآية؛ فلأن أكثر الصحابة لم ينقل عنهم وصية، أي تركت من غير نكير، ولو كانت واجبة لأنكر على تاركه.
كما أنها عطية، لا تجب في الحياة، فلا تجب بعد الموت، كعطية الأحياء.
(1)
ينظر: أحكام القرآن (1/ 178).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 341)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 177 - 178).
(3)
ينظر: تيسير البيان (1/ 219).
• الحكم الثالث: أن الفرض يسقط عن الموصي بنفس الوصية، فإن إثم التبديل لا يلحقه
(1)
.
• الحكم الرابع: أن من كان عليه دين فأوصى بقضائه يسلم من تبعته في الآخرة، وأن ترك الوصِي والوارث قضاءه
(2)
.
قلت: إن كان يعلم أنهم غير أمناء، فعليه توثيق وصيته، وإلّا فهو آثم؛ لأنّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
مأخذ الحكمين: منطوق الآية {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} ومفهومه: عدم الإثم على من لم يبدله.
• الحكم الخامس: أن الموصى إليه بشيء خاص لا يكون وصياً في غيره
(3)
.
مأخذ الحكم: لقوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} فإن زاد فقد بدَّل، بل اعتبره ابن الفرس: من أعظم التبديل
(4)
.
• الحكم السادس: أن على الوصي والحاكم والوارث وكل من وقف على جور في الوصية من جهة العمد أو الخطأ ردها إلى العدل، وأن قوله:{بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} خاص بالوصية العادلة دون الجائرة
(5)
.
مأخذ الحكم: دليل التخصيص آية النساء {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} ، وسياق الآية {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 341)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 181).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 341)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 181).
(3)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 181)، والإكليل (1/ 342).
(4)
ينظر: حكام القرآن لابن الفرس (1/ 181).
(5)
ينظر: الإكليل (1/ 342)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 182).
عَلَيْهِ} أي: لا يلحقه إثم التبديل المذكور.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «وإن كان أوصى في ضرار لم تجز وصيته، كما قال: {غَيْرَ مُضَارٍّ}»
(1)
.
• الحكم السابع: إذا أوصى بأكثر من الثلث لا تبطل الوصية كلها خلافاً لزاعمه، وإنما يبطل منها ما زاد عليه
(2)
.
مأخذ الحكم: أن الله تعالى لم يبطل الوصية جملة بالجور فيها بل جعل فيها الوجه الأصلح
(3)
.
يستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية الوصية وتقديمها على قسمة التركة
(4)
.
مأخذ الآية: أما المشروعيَّة فمن دلالة الإشارة، وأما تقديمها على التركة فمن دلالة العبارة، ومنطوق الآية الصريح.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 342).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 343).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 343)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 182).
(4)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 84).
فائدة: قال ابن الفرس: «فليس في الآية دليل على تبدية الوصية على الدين، أو الدين على الوصية، ولكنه فهم بالسنة أن الدين أولى بالتقديم؛ لأن أداء الدين فرض، والوصية إنما هي تطوع، والفرض أولى من التطوع، ولو قال تعالى:(من بعد وصية يرصِي بها ودين) لتوهم أنَّ ذلك يجب باجتماعهما، فعدل إلى لفظ (أو).
ويحتمل أن يقال: ذكر الله الوصية قبل الدين؛ لأن الوصية أغلب وأكثر من الدين، فإنه يموت كثير من الناس ولادين عليهم، ولا يموت الإنسان غالباً إلا وقد وصى بوصية.
ويحتمل أن يقال: إن بيان الوصية كانت الحاجة إليه أكثر؛ لأن قضاء الدين من التركة مشهور، وقدَّم ذكر الوصيَّة لذلك»
(1)
.
• الحكم الثاني: عدم جواز الإضرار بالوصية، وعدم نفوذها
(2)
.
مأخذ الحكم: مفهوم الحال من قوله في آخر الآية: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} ، فهو تقييد للوصية بعدم الإضرار بالورثة، أي جائزة حال كونها غير مضار بالورثة
(3)
.
والتحريم يؤخذ من سياق الآيات التاليات، حيث بيَّن سبحانه أن تلك القسمة وما يتبعها من أحكام الوصيَّة والدين {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} ثمَّ قال:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} ، وهذه أساليب تهديد ووعيد لا تقال إلا على من ارتكب محرماً.
(1)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 84 - 85).
(2)
ينظر: تيسير البيان للموزعي (2/ 272).
(3)
ينظر: تفسير الرازي (9/ 182).
(1)
.
وقال الموزعي: وقوله تعالى: {غَيْرَ مُضَارٍّ} :
يحتمل أن يريد غير مضار في الوصيَّة والدَّين، فلا يزيد على الثلث، ولا يوصي بدين ليس عليه، فيكون دليلاً على تحريم الوصية بما زاد على الثلث.
ويحتمل أن يريد غير مضار في الدين فقط.
وهذا يرجع إلى قاعدة أصوليَّة، وهي الصفة إذا تعقبت جملاً، فهل تعمُّها، أو تختص بالأخير؟
والأول مذهب مالك والشافعي وأصحابهما، والثاني مذهب أبي حنيفة وأصحابه، ولكن قد دلَّ حديث سعد على رجوعه إلى الوصية أيضاً»
(2)
.
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106].
نقل السيوطي وغيره عن مكي قوله: هذه الآية أشكل ما في القرآن إعراباً وحكماً
(3)
.
(1)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 85).
(2)
تيسير البيان (3/ 272 - 273).
(3)
ينظر: الإكليل (2/ 675 - 676)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 541)، وتكلم الموزعي في تيسير البيان (3/ 222 - 227) عن سبب صعوبتها، وبيان وجه مخالفة ظاهر الآية لقواعد شرعيَّة مقرَّرة، ثمَّ بيَّن أن الآية جارية على قوانين القياس، غير مخالفة له في شيء ..
وقال ابن العربي عند استنباط أحكامها: «وقد كنت أردت بسطه، فلما ذكرت طوله قبضت عنه العنان، وأحلت على مسائل الفقه بالبيان»
(1)
.
قلت: ويسعني ما وسعه، واكتفي بما ذكره، وهو أنه يستنبط من الآية: بيان وقت الوصيَّة - غير وقت البدار إلى السنية
(2)
، وهي عند الموت؛ لأنه رائد المنيّة ومظنتها، وعند السفر للمخافة فيه
(3)
.
قال الطريفي: نزلت الآية في الوصية لمن حضره الموت وهو في أرض غير أرضه، وبين سكان ليسوا من أهله، ومعه ماله ونفقته ومركبه، ومن خلفه مال وعيال، فيحتاج إلى أن يوصي، بأن يدفع ذلك إلى عدلين من المسلمين أو من غيرهم»
(4)
.
مأخذ الحكم: الأمر بصيغة المصدر في قوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} .
تنبيه: قوله: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} ، لا مفهوم له عند بعض العلماء؛ لأنه خرج مخرج الغالب، ولذا فالحكم يكون لكل من حضره الموت لسبب مرض أو غيره، فله أن يوصي من عنده.
فائدة: قال الموزعي: «ووقَّت الله سبحانه ليمين الوصِيين اللذين ارتيب منهما بعد الصلاة، وهي صلاة العصر عند أكثر أهل العلم؛ لاتفاق أهل الملل على
(1)
أحكام القرآن لابن العربي (2/ 239).
(2)
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» ، أخرجه البخاري في كتاب الوصايا، باب الوصايا وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وصية الرجل مكتوبة عنده)، برقم (2738). ومسلم في كتاب الوصية، برقم (1627).
(3)
ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 239).
(4)
التفسير والبيان لأحكام القرآن (3/ 1242).
تعظيمها، والتغليظ بالوقت مشروع، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من حلف على يمين كاذبة بعد العصر، لقي الله وهو عليه غضبان)
(1)
»
(2)
.
قوله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)} [يس: 49 - 50].
يستنبط من الآية: مشروعية الوصية.
مأخذ الحكم: مفهوم الحال، وهو أن قبل ذلك يستطيعون التوصية، وفي ضمنه مشروعية ذلك.
باب الوديعة
قوله تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283].
يستنبط من الآية: وجوب رد الوديعة.
وبيان ذلك: أنَّ الأمانة ترد لمعان عدَّة منها: ما افتراضه الله على عباده من صلاة وزكاة وصوم .. الخ، ومنها: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] وترد ويراد بها أداء الودائع والديون، ومنها قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وهذا هو المراد، وإن كان داخلاً في عموم الأول
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب المساقاة والشرب، باب من رأى أن صاحب الحوض والقرابة أحق بمائه، برقم (2240)، بلفظ: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة
…
ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم).
(2)
تيسير البيان (3/ 229 - 230).
(3)
ينظر: نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر لابن الجوزي (104 - 105).
مأخذ الحكم: قوله: {فَلْيُؤَدِّ} لام أمر، ومعنى الآية كما يقول ابن العربي:«إن أسقط الكتاب والإشهاد والرَّهن، وعَوَّل على أمانة المعامل، فليؤد الذي ائتمن الأمانة، وليتق الله ربه»
(1)
.
وأداء الأمانات واجب غير مصروف، وقد تضافر على تأكيد وجوبه الكتاب والسنة والإجماع.
يقول القرطبي: «
…
وهذا أمر معناه الوجوب، بقرينة الإجماع على وجوب أداء الديون
…
»
(2)
.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].
يستنبط من الآية: وجوب رد الوديعة
(3)
.
قال السيوطي: «فيه وجوب رد كل أمانة من وديعة، وقِراض، وقرْض، وغير ذلك»
(4)
.
مأخذ الحكم: إخبار المولى بالحكم، في قوله:{يَأْمُرُكُمْ} ، والأمر للوجوب.
قال ابن كثير في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] الآية، قال: «يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وفي حديث الحسن، عن سمرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)، رواه الإمام أحمد وأهل السنن
(5)
، وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان،
(1)
أحكام القرآن (1/ 345).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 394).
(3)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 217).
(4)
الإكليل (2/ 566).
(5)
أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/ 414)، وأبو داوود في كتاب الإجارة، باب في الرجل يأخذ حقَّه من تحت يده، برقم (3534)، والترمذي في كتاب البيوع، باب إذا أفلس للرجل غريم فيجد متاعه، برقم (1264)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داوود برقم (3018).
من حقوق الله عز وجل على عباده، من الصلوات والزكوات، والصيام والكفارات والنذور، وغير ذلك، مما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض، كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به بعضهم على بعض من غير اطلاع بيِّنة على ذلك. فأمر الله عز وجل بأدائها، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة»
(1)
.
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27].
يستدل بالآية على رد الوديعة.
(2)
.
مأخذ الحكم: ذكر الرازي قبل كلامه السابق ستة أسباب قيلت في نزول الآية، ثم ذكر كلامه السابق، وختمه بقوله: «وأما الوجوه المذكورة في سبب نزول الآية فهي داخلة فيها، لكن لا يجب قصر الآية عليها؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
(3)
.
(1)
تفسير القرآن العظيم (3/ 143).
(2)
التفسير الكبير (5/ 475).
(3)
التفسير الكبير (5/ 475).
ويؤخذ من كلامه السابق: أن الوديعة أمانة، فدخلت في عموم وجوب رد الأمانة؛ لأن النهي عن الخيانة أمر بأداء الأمانة؛ إذ الخيانة ضد الأمانة، والنهي عن الشيء أمر بضده.
كتاب النكاح
قال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} البقرة: 221
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: اعتبار الولي في النكاح
(1)
.
مأخذ الحكم: أسند نكاح النساء إلى الرجال الأولياء، وذلك برفع التاء في قوله:{وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}
(2)
.
قال ابن العربي عن هذا الاستدلال: وهي مسألة بديعة، ودلالة صحيحة
(3)
.
تنبيه: يرى بعض المفسرين عدم دلالتها على المسألة؛ لأنّ المراد النهي عن اتباع هذا الفعل، والتمكين منه، وكل المسلمين أولياء في ذلك.
قال الموزعي: " وربَّما استدلَّ بهذه الآية من يقول باشتراط الولي في النكاح؛ اعتقاداً منه أن الخطاب مع الأولياء، ولا دلالة فيه؛ لأن الخطاب مع المؤمنين، وإن سلم فالخطاب وارد بالمنع للأولياء من إنكاح المشرك، ومنع الوليِّ لا يوجب له ولاية "
(4)
.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 398)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 285، 288)، وتيسير البيان للموزعي (1/ 388).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 397 - 398).
(3)
أحكام القرآن (1/ 219).
(4)
تيسير البيان للموزعي (1/ 394).
• الحكم الثاني: تحريم نكاح المشركات
(1)
.
مأخذ الحكم: النهي في قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا} ، وهو يقتضي التحريم، وضمير الجمع يفيد العموم، فلا يحل للمسلم حرًا كان أو عبداً أن ينكح المشركات.
و {الْمُشْرِكَاتِ} لفظ جمع عرف بالألف واللام فهو يفيد العموم، فيعم كل مشرك سواء كانت كتابية أو غير كتابية.
ويدخل في عموم المشركات، الحرائر والإماء، والآية وإن كان لها سبب نزول إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وسبب النزول ما ورد في قصة أبي مرثد الغنوي عندما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة سراً، ليخرج رجلاً من أصحابه، وكانت له امرأة يحبها في الجاهلية، يقال لها عناق، فجاءته فقال لها: إن الإسلام حرم ما كان في الجاهلية، قالت: فتزوجني، قال: حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها، لأنها مشركة، ومعلوم أن كفار مكة الذين يعبدون الأصنام وثنيون
(2)
.
تنبيهان:
الأول: يخرج من تعريف المشركة من كانت تؤمن بنبيٍّ، ومقرون بكتاب سماوي، وهم أهل الكتاب، وهو قول جمهور أهل العلم
(3)
، وقد نصّ القرآن على حل نسائهم، في قوله:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5].
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 397)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 286)، وتيسير البيان للموزعي (1/ 398).
(2)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 285).
(3)
ينظر: تيسير البيان (1/ 391)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 286).
ومما يؤيد عدم تناول تحريم المشركات لأهل الكتاب قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1] وغيرها من الآيات مما خالف سبحانه وتعالى بين المشركين وأهل الكتاب.
يقول ابن قدامة: «وسائر آي القرآن يفصل بينهما»
(1)
. ثم إن الاستدلال بعموم الآية على تحريم أهل الكتاب باعتبار أنّهم مشركون يقولون (عزير ابن الله) و (المسيح ابن الله) وكذا بعموم قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] معارض بخصوص الآية المحللة لنكاح أهل الكتاب، والخاص يجب تقديمه.
أو يقال إن عموم النصّ يقتضي حرمة نكاح جميع المشركات إلا أنه خص منهن الحرائر من الكتابيات بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وهن الحرائر، وبقيت الإماء منهن على ظاهر العموم.
ويؤيد عدم حل إماء أهل الكتاب، مفهوم الصفة في قوله تعالى:{فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} النساء: 25 فإن لم تكن مؤمنة فلا يحل نكاحها.
الثاني: دلّ مفهوم الغاية في قوله: {حَتَّى يُؤْمِنَّ} على حل نكاح المشركات إن آمنّ وهو ظاهر.
قال الموزعي: " وأجاب الحنفية بأن المراد بالمحصنات العفائف، وقد فسره بذلك غيرُ ابنِ عمر رضي الله عنهما. وبأن المفهوم ليس بدليل عندهم. وبأن التقييد للاستحباب؛ لأنها خيرٌ من الحُرَّة الكتابية، وقد أبيح نكاحها، وإن كانت دونها. وبأن الخطاب واردٌ على التغلييب، لا على التقييد، والغالب على الإماء الإسلام.
(1)
المغني (7/ 130).
وبقول مالك والشافعي أقول؛ لما فيه من الاحتياط، والتحريم أولى؛ لظهور التقييد على التغليب في سائر آي القرآن "
(1)
.
قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: تحريم العضل على الأولياء. والعضل: المنع من الزوج
(2)
.
مأخذ الحكم: سبب النزول بيَّنَ حكم التحريم الثابت بالنّهي بقوله: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} ، وقد روى البخاري عن معقل بن يسار قوله: إنّها نزلت فيه، «قال: زوجت أختاً لي من رجل فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وفرشتك وأكرمتك، فطلقتها، ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبدا، وكان رجلا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله هذه الآية:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} فقلت: الآن أفعل يا رسول الله، قال: فزوجها إياه»
(3)
.
• الحكم الثاني: اشتراط الولاية في النكاح
(4)
.
مأخذ الحكم: دلت الآية على اشتراط الولي في النكاح بدلالة الإشارة.
وبيان ذلك: أن خطاب النهي في قوله: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} للأولياء بإجماع المفسرين، وإنما يؤمر بألا يعضل المرأة -لأن النهي عن شيء أمر بضده- من له سبب إلى العضل، فدل على أنه لا يتم نكاحها إلا بالولي.
(1)
تيسير البيان للموزعي (1/ 393 - 394).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 425)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 335).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب من قال: لا نكاح إلا بولي، برقم (5130).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 425)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 335).
يقول الشافعي: «وهذا أبين ما في القران أن للولي مع المرأة في نفسها حقاً»
(1)
.
فالآية إذاً لم تسق لاشتراط الولي، بل لتحريم عضل الأولياء لمولياتهم، ودل بطريق الإشارة إلى أن للولي حقاً في نفس المرأة.
قلت: وربما كانت من دلالة الالتزام؛ إذ يلزم من النهي عن العضل أن له حقاً فيه، وإلا لم يكن للنهي فائدة.
قال السعدي: «لأنّه نهى الأولياء عن العضل، ولا ينهاهم إلّا عن أمر هو تحت تدبيرهم ولهم حق فيه»
(2)
.
• الحكم الثالث: المرأة إذا اختارت الولي غيره ما اختارته هي
(3)
.
مأخذ الحكم: لأنه سبحانه أضاف النكاح في قوله: {أَنْ يَنْكِحْنَ} لهن، وهو فعل مضاف إليهن، وإذا نُهي عن المنع وجب ألا يكون له حق فيما نهى عنه من منع المرأة
(4)
. وشرط أن يكون كفئًا؛ لأجل إعفافها.
استدل بالآية على جواز استقلال المرأة بعقد النكاح على نفسها، دون حاجة إلى ولي إلا أن تفعل بغير المعروف من تزوج غير الأكفاء
(5)
.
(1)
الأم (5/ 13).
(2)
تفسير السعدي (1/ 103).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 425)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 336).
(4)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 336).
(5)
ينظر: تيسير البيان للموزعي (2/ 93).
مأخذ الحكم: الأخذ بظاهر الآية ومنطوقها، ويبينه ما يأتي:
قوله: {فَلَا جُنَاحَ} رفع الإثم والمؤاخذة عن هذا الفعل، وهو هنا الاستقلال بعقد النكاح.
وقوله: {فِيمَا فَعَلْنَ} ف (ما) اسم موصول يعم كل فعل، ومنه الاستقلال بعقد النكاح.
وقوله: {فِي أَنْفُسِهِنَّ} قيد أول، يدل بمفهوم صفته أن المرأة لا تلي عقد غيرها من النساء.
وقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} دل بمفهوم صفته - أيضا - ما سبق ذكره من أن المرأة إن تصرفت في عقدها بغير المعروف فهي آثمة، ومؤاخذة عليه، فعليها الجناح في ذلك.
وهذا مفهوم لا حجة فيه لمخالفته النص الصريح القاطع في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا نكاح إلا بولي)
(1)
. وكذا ما سبق في قوله: قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232].
(2)
.
(1)
أخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب في الولي، برقم (2085)، والترمذي في كتاب النكاح باب ما جاء لا نكاح إلا بولي،، برقم (1101)، وابن ماجه في كتاب النكاح باب لا نكاح إلا بولي برقم (1881)، والحديث صححه الألباني في الإرواء برقم (1839).
(2)
تيسير البيان للموزعي (2/ 93 - 94).
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية الخطبة وإباحة التعريض بها في العدة قولاً أو فعلاً
(1)
.
والتعريض: أن يضمن كلامه ما يصلح للدلالة على المقصود وغيره، إلّا أن إرشاده بالمقصود أتم.
أو هو: ما يحتمل الرغبة وغيرها، مثل: ورب راغب منك، إني أريد التزوج، وددت أنّه يتيسر لي امرأة صالحة
(2)
.
قلت: أما الأفعال فكأن يرسل لها هدية، أو يرسل لها من يتفقد أحوالها من نسائه
…
الخ.
مأخذ الحكم: رفع الجناح على من فعل ذلك، في قوله {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي: لا إثم ولا حرج، وهو أسلوب خبري عن الحكم الشرعي.
وكونه شاملاً للقول والفعل مأخوذمن العموم في قوله {فِيمَا عَرَّضْتُمْ} ، و (ما) اسم موصول يفيد العموم في جميع أنواع التعريض، من أقوال أو أفعال.
تنبيه: قوله {مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} {مِنْ} تبعيضية، و {النِّسَاءِ} اسم جمع عرف بالألف واللام فهو عام، ويراد به هنا خصوص المعتدات.
ويرى الشافعي أن المراد به المعتدة من وفاة زوجها.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 430)، وتيسير البيان (2/ 96)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 354).
(2)
ينظر: تيسير البيان (2/ 98).
يقول الموزعي: «ولعله استأنس بتعقيب ذكر الخطبة بعد ذكر عدتهن»
(1)
أي: المتوفى عنهن أزواجهن.
وقال: «وذلك عام فيهن ما خلا الرجعية؛ فإنه لا يجوز التعريض بخطبتها؛ لأنها في معنى الرجعية»
(2)
• الحكم الثاني: لا يجوز التصريح بخطبة المعتدة بأي قول، حال العدة
(3)
.
مأخذ الحكم:
أولاً: دلت الآية على ذلك بمفهوم المخالفة، وعليه فإن الجناح والإثم مرفوع عمن عرَّض في ذلك، ومفهومه أن الإثم لا يرفع عمن صرح بخطبة المعتدة، ويؤكد هذا المفهوم تفسير بعض أهل العلم قوله تعالى {سِرًّا} بالتصريح بالخطبة.
(1)
تيسير البيان (2/ 97).
(2)
تيسير البيان (2/ 96).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 430)، وتيسير البيان (2/ 98).
وعليه فمفهوم قوله: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} : جواز المواعدة جهرًا.
وهذا المفهوم غير مراد لأمرين:
الأول: لمعارضته المفهوم السابق من حل التعريض ورفع الجناح عنه، فمفهومه كما سبق أن التصريح غير جائز.
الثاني: أن المواعدة على النكاح سرًا إنما خرجت مخرج الغالب.
ثانياً: قوله {سِرًّا} نكرة أتت في سياق النهي فتعم جميع أقوال التصريح بالخطبة.
تنبيه: قوله {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} الاستثناء متصل وذلك بناء على أن السر في الآية معناه المواعدة على النكاح، فيكون من جنس الكلام والقول المعروف وهو التعريض الذي أحله الله تعالى.
ثالثاً: دلَّ مفهوم قوله {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} أنه إذا بلغ الكتاب أجله - وهو انتهاء العدة وهي قوله {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} - فإنَّ المعتدة تحل للخُطَّاب، تصريحاً وتعريضاً.
فائدة: ذكر العلماء من علل تحريم التصريح بالخطبة: أنّ الخاطب إذا صرح بالخطبة تحققت رغبته فيها، فربما تكذب في انقضاء العدة، فيكون التحريم سدًا للذريعة، أو يكون التحريم مستفادًا من مفهوم إباحة التعريض، فلا يباح غير ذلك
(1)
.
• الحكم الرابع: تحريم العقد في العدة، سواء كانت حرّة أو أمة
(2)
.
مأخذ الحكم: النهي في قوله: {وَلَا تَعْزِمُوا} ، وهو يقتضي التحريم. وضمير الجمع للعموم، فيعم كل طالب للنكاح في حال عدة المرأة، والآية في سياق عدة المتوفى عنها زوجها.
وقول: {عُقْدَةَ النِّكَاحِ} اسم جنس مضاف، فيعم أي عقد، سواءً كان على حرة أو أمة.
ودلت الآية بمفهوم الموافقة الأولوي على حرمة عقد النكاح حال العدة، لأنه سبحانه لما نهي عن العزم دلنا على تحريم النكاح.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 430)، وتيسير البيان (2/ 100).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 430).
قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} دلّت الآية بمفهوم الغاية على أنه إذا بلغ الكتاب أجله، وهو قوله:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} البقرة: 234 فإنها تحل للخُطاب، ويجوز نكاحها.
• الحكم الخامس: جواز نكاح الحامل من الزنا إذ لا عدة لها
(1)
.
مأخذ الحكم: مفهوم قوله: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} وهذه ليست زوجة، ليس لها عدة، فالزوجة من عُقد عليها بنكاح صحيح سواء دخل بها أو لا.
قلت: والله أعلم هذا المفهوم خرج مخرج الغالب لا حجة فيه.
يستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: عدم وجوب النكاح مع الترغيب فيه.
مأخذ الحكم: قال ابن الفرس: «ووجه الدليل من الآية أن ملك اليمين ليس بواجب بالإجماع، وقد خيَّر الله تعالى بين النكاح وبين ملك اليمين، ولا يصح التخيير بين الواجب وما ليس بواجب؛ لأن ذلك مخرج للواجب عن الواجب»
(2)
.
• الحكم الثاني: مشروعية نكاح اليتامى، وأن للولي إذا أقسط في اليتيمة أن ينكحها من نفسه
(3)
.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 431).
(2)
أحكام القرآن (2/ 52 - 53).
(3)
ينظر: الإكليل (2/ 503)، وتيسير البيان (2/ 217).
مأخذ الحكم:
أولاً: دلَّ مفهوم الشرط في قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} على جواز تجويز اليتيمة عند حصول القسط، بمعنى إن لم يخف ألا يقسط، بأن يوفيها حقها، فله التزوج باليتيمة.
والخطاب في قوله {وَإِنْ خِفْتُمْ} للأولياء بحسب سبب نزول الآية، وهو عام بحسب ضمير الجمع في قوله {تُقْسِطُوا} فيعم الأولياء وغيرهم؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص سببه.
و {الْيَتَامَى} جمع معرف بال غير عهدية فيعم كل يتيمة.
ثانياً: دلَّ مفهوم الموافقة على الحكم السابق؛ إذ لو كان لغير الولي أن ينكح اليتيمة إذا أقسط إليها، فكذلك الوالي إذ ليس لنهيه عما هو إلى غيره معنى.
تنبيه: في الآية مفهوم شرط آخر، وهو أنه إن لم يخف ألا يقسط في اليتامى - بأن يعدل بينهن - فليس له أن ينكح غيرهن مما طاب له من النساء. وهذا المفهوم غير معتبر بالإجماع.
يقول ابن العربي: «فإن كل من علم أنه يقسط لليتيمة جاز له أن يتزوج سواها، كما يجوز ذلك له إذا خاف ألا يقسط»
(1)
.
ويقول القرطبي مبينًا سبب عدم اعتبار هذا المفهوم: «فدل على أن الآية نزلت جوابًا لمن خاف ذلك، وأن حكمها أعم»
(2)
، وما كان جوابًا لسبب لا مفهوم له.
وبيَّن الموزعي سبب عدم اعتبار المفهوم بقوله: «لو كان كذلك لما جاز لنا أن
(1)
أحكام القرآن (1/ 405).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 13).
ننكح ما طاب لنا من النساء مثنى وثلاث ورباع عند عدم خوف الجور، ولا يجوز القول بذلك، بل ذلك إرشاد من الله سبحانه وتعالى للمتصفين بذلك إلى ما فيه صلاحهم من فراق اليتيمة والتزوج بسواها»
(1)
.
• الحكم الثالث: مشروعية نكاح ما طاب من النساء إلى أربع، وعند الخوف من الجور والظلم فالمشروع واحدة
(2)
.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله تعالى {فَانْكِحُوا} ، وحُمِل على الوجوب، وحمله البعض على الاستحباب. والنكاح تختلف أحكامه بحسب حال الناكح، وتفصيلات ذلك في الفقه.
(3)
• الحكم الرابع: مشروعية نكاح العبد إلى أربع نسوة
(4)
.
مأخذ الحكم: ضمير الجمع في قوله {فَانْكِحُوا} يدل على العموم، ويدخل فيه العبيد.
قال الموزعي: «فالخطاب عام في الأحرار والعبيد، وقد قدمت اندراج العبيد في خطاب الأحرار في قول أكثر أهل العلم»
(5)
(1)
تيسير البيان (2/ 220).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 502)، وتيسير البيان (2/ 221).
(3)
تيسير البيان (2/ 221).
(4)
ينظر: الإكليل (2/ 504)، وتيسير البيان (2/ 225).
(5)
تيسير البيان (2/ 225).
وقال بعضهم: لا يجوز له أن ينكح أكثر من اثنتين، وعارضوا العموم بالقياس، فقالوا بتشطير العدد على العبد في النكاح قياسًا على تشطير الحد، فلا يجوز للعبد نكاح أكثر من اثنتين.
• الحكم الخامس: لا يجوز نكاح المشركة والزانية وغيرهما من المحرمات.
مأخذ الحكم: أنَّ {مَا} في قوله {مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} اسم موصول، وهو من صيغ العموم، فتعم ما دخلت عليه، وهو كل ما حلَّ من النساء.
ومفهومه يدل على تحريم ما حرم علينا كالمشركة والزانية، أو المحرمات من النسب والرضاع والمصاهرة - كما سيأتي - وهو من مفهوم الصفة.
يقول ابن جرير: «يعني: فانكحوا ما حل لكم منهن، دون ما حرم عليكم منهن»
(1)
.
• الحكم السادس: لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع
(2)
.
مأخذ الحكم: دلَّ منطوق قوله {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} على جواز نكاح ثنتين وثلاث وأربع.
ودلَّ بمفهوم العدد عدم جواز الزيادة على الأربع، فيحرم ما زاد على الرابعة.
وجاءت السنة مبينة ومؤيدة لهذا المفهوم في قوله صلى الله عليه وسلم لغيلان لمّا أسلم وتحته عشرة نسوة: «أمسك أربعًا وفارق سائرهن»
(3)
.
(1)
جامع البيان (6/ 369).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 503)، وتيسير البيان (2/ 222).
(3)
أخرجه الترمذي في باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشر نسوة، من كتاب النكاح، برقم (1128)، وابن ماجه، في باب الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، من كتاب النكاح، برقم (1953). وصححه الألباني رحمه الله انظر: الإرواء (6/ 29)، برقم (1883) وصحيح ابن ماجة (1/ 330).
• الحكم السابع: لا يجوز للرجل التعداد إن خاف ألا يعدل
(1)
.
مأخذ الحكم: دلَّ عليه منطوق قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} .
(2)
ودلَّ مفهوم الشرط أنه إن لم يخف العدل، وذلك إذا استطاع أن يعدل بينهن جاز له التعداد، وقوله {فَوَاحِدَةً} جواب شرط أي فتزوج واحدة.
• الحكم الثامن: جواز وطء ما شاء ممن يملك من الإيماء.
مأخذ الحكم: {مَا} في قوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، اسم موصول يفيد العموم فيعم كل ما يملك من الإيماء، فيجوز له وطء ما شاء دون تحديد العدد.
وقوله {أَيْمَانُكُمْ} جمع مضاف يعم كل أمة سواء كانت مشتراه أو مسترقة بالسبي.
قال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 503)، وتيسير البيان (2/ 225).
(2)
تيسير البيان (2/ 225 - 226).
فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء: 22 - 25].
وفي قراءة شاذّة: {فما استمتعتم به منهن إلى أجلٍ مسمى فآتوهن أجورهن} .
استدلَّ بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: تحريم منكوحة الأب وإن علا، وسواء كانت حرة أو أمة على الأبناء وابناءهم
(1)
.
مأخذ الحكم: النهي في قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا} ، والنهي يقتضي التحريم، كما أنه يقتضي فساد العقد.
وأكد سبحانه التحريم بما يدل على كونه للتحريم بقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا}
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 533)، وتيسير البيان (2/ 313).
وضمير الجمع في قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا} يفيد العموم، فيشمل جميع الأبناء، وأبناءهم وإن نزلوا.
و (مَا) الموصولة في قوله: {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} تفيد عموم صلته، فيشمل المنكوحة الحرة أو الأمة بملك اليمين، لأن النكاح حقيقة في الوطء عند بعضهم، ومجاز يمكن حمل الكلام عليه عند بعضٍ آخر.
وقوله: {آبَاؤُكُمْ} جمع مضاف فيعم آباء الآباء ومن فوقهم من الأجداد من النسب والرضاعة.
• الحكم الثاني: تحريم منكوحة الآباء بنكاح الشبهة الذي وقع من أبيه.
مأخذ الحكم: مفهوم الموافقة الأولوي.
قال الموزعي: «ونكاح الشبهة بطريق التنبيه والأولى.»
(1)
.
ولعل الأولوية، لأن النكاح يطلق على الوطء كحقيقة لغوية، وبه دخلت الأمة في التحريم، أما نكاح الشبهة ففيه الوطء والعقد أيضاً فكان أولى بالتحريم لدخوله في معنى النكاح بلا خلاف.
تتمة: قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} قيل: المراد بالنكاح هنا: الوطء، لأن النكاح حقيقة شرعية فيه، ومجاز شرعي في الوطء، وحمله بعض العلماء على الوطء دون العقد للقرينة المتصلة بالآية نفسها {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} وقوله:{إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} والفاحشة: الوطء.
والأصل حمل الكلام على حقيقته إلا إذا ورد ما يصرفها عنه، والصارف هنا القرينة المتصلة بهذا اللفظ.
(1)
تيسير البيان (2/ 313).
(1)
.
قلت: ويمكن هنا حمل لفظ النكاح على محتملاته من حقيقة ومجاز، وهذا مذهب المعممين، وعليه فتحرم على الابن زوجة الأب غير المدخول بها، وكذا التي وطؤها من غير عقد صحيح، أو من غير عقد أصلاً.
• الحكم الثالث: تحريم نكاح النساء المذكورات، على جهة الإجمال، وسيأتي تفصيل المحرمات، في الأحكام الآتية
(2)
.
مأخذ الحكم: ورود التحريم بلفظه الصريح {حُرِّمَتْ} ، وهو خبر عن الحكم، وهو نص صريح لا إجمال فيه.
(3)
.
وسب الخلاف يرجع إلى إضافة التحريم لأعيان النساء، والتحريم المضاف إلى الأعيان يكون المراد منه تحريم ما يتعلق بالأعيان من أفعال، لأن الأعيان ليست
(1)
مفتاح الوصول (517 - 518)، وينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 117).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 534)، وتيسير البيان (2/ 314).
(3)
أحكام القرآن (2/ 124).
مورداً للتحليل والتحريم، وإنما يتعلق الحل والحرمة بأفعال المكلفين.
فقال قوم: إن الفعل في هذه الآية لا يُدرى ما هو؟ هل النظر أو المضاجعة، أو الوطء، فلا يُدرى أي ذلك حرِّم، ولولا تبيينها بغيرها لما عُلم المرد منه، فهي إذاً مجملة.
وذهب جمهور أهل العلم إلى أن المحرم هو نكاحهن، ولهم على ذلك العرف كما سبق
(1)
.
ونقل ابن الفرس عن قوم قولهم: «إن الآية من قبيل المحذوف، كقوله:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} يوسف: 82
(2)
.. وسيأتي بيان هذا عند تفصيل المحرمات.
• الحكم الرابع: تحريم نكاح الأم، وأم الأب، وأم الأم، وجدتي الأب، وجدتي الأم وإن علون، وارثات كنّ أو غير وارثات
(3)
.
مأخذ الحكم: إضافة التحريم إلى عموم قوله: (أُمَّهَاتُكُمْ)، وهو جمع مضاف يعم كل أم شرعاً، وهي: كل أنثى لها عليك ولادة، أو انتهى نسبك إليها بالولادة، سواء وقع عليها اسم الأم حقيقة وهي التي كانت فيها الولادة المباشرة، أو مجازاً وهي التي منها الولادة بواسطة وإن علت، فيدخل فيه أم الأب، وأم الأم، وجدتي
(1)
ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 371)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 123).
(2)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 124 - 125).
(3)
ينظر: الإكليل (2/ 534)، وتيسير البيان (2/ 314).
الأب، وجدتي الأم وإن علون، وارثات كنّ أو غير وارثات، كلهن محرمات.
وهذا على قول من يرى أن اللفظ العام يشمل الحقيقة والمجاز، أو أن اللفظ العام يجوز أن يقصد به كلًّا من الحقيقة والمجاز في مكانين مختلفين.
أما القائلون بأن اللفظ الواحد لا يقصد به الحقيقة والمجاز فإن تحريم الجدات -الأمهات مجازاً- إنما كان عندهم بدليل الإجماع.
وقد يتبادر إلى الذهن أن الجمع المضاف يعم، فما وجه العموم في الآية إذا حملت على الأم حقيقة؟
قلت: لعل هذا داخل تحت قاعدة مقابلة الجمع بالجمع، فبيَّن الشارع حكم نكاح كل رجل لأمه، والله أعلم.
• الحكم الخامس: تحريم نكاح البنات، وهنَّ كل أنثى انتسبت إليك بالولادة
(1)
.
مأخذ الحكم: إضافة التحريم إلى عموم قوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ} ، وهو جمع مضاف، فيعم كل أنثى انتسبت إليك بالولادة، كابنة الصلب، وبنات البنين والبنات وإن نزلت درجتهن، وارثات أو غير وارثات، على القول-كما سبق- بأن اللفظ الواحد يجوز أن يقصد به كلا الحقيقة والمجاز، أو على القول بأن المحرمات من البنات مجازا إنما كان بالإجماع.
وعلى كلا القولين فإن البنات داخلات في التحريم بلا خلاف، وإنما الخلاف واقع في تحريم البنت إن كانت من الزنا.
فذهب فريق من العلماء إلى أنها داخلة في عموم الآية، لأنها أنثى مخلوقة من
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 534)، وتيسير البيان (2/ 314).
مائه، وهذه حقيقة كونها ابنته، ولا تختلف هذه الحقيقة بالحل والحرمة، وقاسوها على المخلوقة من وطء الشبهة.
وذهب فريق آخر إلى عدم حرمة نكاح الرجل ابنته من الزنا، لعدم دخولها في الآية، بحجة أنها لا تسمى بنتاً شرعاً
(1)
، بدليل أن نسبها لا يثبت في الوارثين، ولا تستحق النفقة، فليست داخلة في قوله:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} النساء: 11، ولا في قوله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} البقرة: 233، وإذا لم تكن داخلة في عموم الآية المحرمة، فهي داخلة في قوله:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} النساء: 24
وذكر ابن الفرس وجهاً من الآية للقائلين بعدم حرمتها فقال: «واحتج من لم يحرم بأن الله تعالى إنما حرم على الإنسان البنت المضاف إليه، لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} فأضاف التحريم إلى هذا الاسم المشتق، فكأنه قال: حرمت البنت لبنوتها، وهي الصبية الحاصلة من الزنا غير مضافة إلى الزاني، فلم تدخل في آية التحريم.»
(2)
.
قلت: لعل هذا على القول بأن مفهوم اللقب إن كان مشتقاً فإنه حجة
(3)
.
واستدل كل واحد من الفريقين بالسنة باعتبارها مبينة للقرآن، وبأدلة أخرى ليس هذا مجال الاستطراد بها
(4)
.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 534) نقلاً عن ابن الفرس.
(2)
أحكام القرآن (2/ 125).
(3)
ينظر: التحبير للمرداوي (6/ 2945 - 2946).
(4)
ينظر: الأنكحة الفاسدة للدكتور عبد الرحمن الأهدل (74)، والأنكحة الفاسدة للدكتور أمير عبد العزيز (1/ 131).
• الحكم السادس: تحريم الأخوات من الجهات الثلاث، من الأبوين، أو من الأب، أو من الأم
(1)
.
مأخذ الحكم: إضافة التحريم إلى عموم قوله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ} ، وهو جمع معرف بالإضافة، فيعم الأخوات من الجهات الثلاث، من الأبوين، أو من الأب، أو من الأم، فإن اسم الأخت حقيقة يتناول الأصناف الثلاثة، لأن الأختية تعني المجاورة، إما في الرحم وإما في الصلب.
• الحكم السابع: تحريم نكاح العمات، وهن أخوات الأب من الجهات الثلاث حقيقة، وأخوات الأجداد من قبل الأب، ومن قبل الأم، قريباً كان الجد أو بعيداً مجازاً
(2)
.
مأخذ الحكم: إضافة التحريم إلى قوله: {وَعَمَّاتُكُمْ} ، وهو جمع معرف بالإضافة فيعم العمات وهن كل من ولده جدك أو جدتك من قبل الأب وإن علو، كما سبق.
• الحكم الثامن: تحريم نكاح الخالات وهن كل من ولده جدك أو جدتك من قبل الأم وإن علو- فيدخل فيها أخوات الأم من الجهات الثلاث حقيقة، وأخوات الجدات وإن علون مجازاً
(3)
.
مأخذ الحكم: إضافة التحريم إلى قوله تعالى: {وَخَالَاتُكُمْ} ، وهو جمع معرف بالإضافة، فيعم الخالات - على ما سبق - فكلهن محرمات.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 534)، وتيسير البيان (2/ 315).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 534)، وتيسير البيان (2/ 315).
(3)
ينظر: الإكليل (2/ 534)، وتيسير البيان (2/ 315).
• الحكم التاسع: تحريم نكاح بنت الأخ
(1)
.
مأخذ الحكم: إضافة التحريم إلى قوله تعالى: {وَبَنَاتُ الْأَخِ} ، وهو جمع معرف بالإضافة، فيعم كل من لأخيك عليه ولادة، فيعم جهات الأخ الثلاثة.
• الحكم العاشر: تحريم نكاح بنت الأخت
(2)
.
مأخذ الحكم: إضافة التحريم إلى قوله تعالى: {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} جمع معرف فيعم كل من لأختك عليه ولادة، فيعم جهات الأخت الثلاثة.
• الحكم الحادي عشر: تحريم الأم بالرضاعة
(3)
.
مأخذ الحكم: إضافة التحريم إلى قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} . فقوله: (وَأُمَّهَاتُكُمُ) جمع مضاف-كما سبق- فيعم اللواتي أرضعننا وأمهاتهن وإن علون.
• الحكم الثاني عشر: تحريم نكاح الأخوات من الرضاعة
(4)
.
مأخذ الحكم: إضافة التحريم إلى قوله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ} جمع مضاف فيعم الأخوات، ويدخل في الأخوات وهي كل امرأة أرضعتك أمها، أو أرضعتها أمك، أو أرضعتك وإياها امرأة واحدة، أو ارتضعت أنت وهي من لبن رجل واحد، كرجل له امرأتان لهما منه لبن، أرضعتك إحداهما، وأرضعتها الأخرى.
وأطلق سبحانه الإرضاع في الآية ولم يقيده بصفة، فظاهر الآية أن مطلق
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 534)، وتيسير البيان (2/ 315).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 534)، وتيسير البيان (2/ 315).
(3)
ينظر: الإكليل (2/ 534)، وتيسير البيان (2/ 315).
(4)
ينظر: الإكليل (2/ 534)، وتيسير البيان (2/ 315).
الإرضاع يحرم، وعليه يحصل التحريم برضاع الكبير، كما سيأتي في باب الرضاع.
• الحكم الثالث عشر: أمهات الزوجات
(1)
.
مأخذ الحكم: إضافة التحريم إلى قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} ، وهو جمع مضاف فيعم، فتحرم على الزوج أم زوجته، وجدتها، سواء كانت من جهة الأب أو من جهة الأم من نسب أو رضاع، لقوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} عطفا على قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} وتحريم الجدات كما سبق، إما أن يكون بعموم اللفظ لحقيقته ومجازه، أو أن تحريمهن كان بالإجماع.
وقد يكون التحريم بمفهوم الموافقة المساوي، إذا قلنا: إن الأم في الآية بمعنى الأصل.
تنبيه: أطلق سبحانه وتعالى تحريم أمهات الزوجات ولم يقيده بالدخول كما فعل مع البنت الربيبة -كما سيأتي -، وقد وقع خلاف العلماء هل يحرمن بالعقد على البنات أو بالدخول عليهن؟، ومن قال بالدخول فكان مأخذه القياس على البنت، فكما أن البنت لا تحرم إلا بالدخول على أمها فكذلك الأم لا تحرم إلا بالدخول على بنتها. وأخذ جمهور أهل العلم بمقتضى الإطلاق، ولم يشترطوا الدخول بهن.
ونقل الموزعي عن بعض المتأخرين أن منشأ اختلاف الفريقين هو الأصل المشهور في الصفة إذا تعقبت جُملاً عطف بعضها على بعض هل يعود إلى الجميع أو يختص بالأخيرة؟.
وأعتقد أن قوله تعالى: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} -وهي الصفة هنا- عائد إلى الجميع على قول. وغير عائد على قول.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 535)، وتيسير البيان (2/ 326).
ثم قال، أي الموزعي:«وليس كذلك، بل تقييد الصفة خاص بالربائب.»
(1)
ومما يؤيد ما رجحه الموزعي ما قرره أهل اللغة وهي من القواعد التفسيرية أن الضمير يعود-وذلك في قوله: {بِهِنَّ} - إلى أقرب مذكور وهن الربائب.
• الحكم الرابع عشر: تحريم نكاح الربيبة
(2)
.
مأخذ الحكم: إضافة التحريم إلى قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ} ، وهو جمع مضاف فيعم، كل ربيبة سواء كانت في حجر الزوج، أو ليست في حجره، وسواء دخل بأمها أولا. كما أن اللفظ يشمل بنات الربيبة، وبنات الربيب، وانعقد الإجماع على تحريمهن.
فقوله: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} قيد يدل مفهوم صفته على أنّهن إذا لم يكن في الحجور لا يحرمن.
وذهب جمهور أهل العلم على أنه لا مفهوم له في هذه الآية، لخروجه مخرج الغالب، فإن الغالب الموجود من أحوال الناس أن الربائب لا يكن إلا في حجور أزواج أمهاتهن
(3)
.
قوله: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} قيد يدل بمفهوم صفته أنه إن لم يكن دخل بأمها فله أن ينكحها فلا جناح ولا إثم عليه، وهذا مفهوم معمول به، وجاءت تكملة الآية منطوقة به فقال سبحانه:{فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}
(4)
.
(1)
تيسير البيان (2/ 327 - 328)، وينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 102).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 536)، وتيسير البيان (2/ 328).
(3)
ينظر: الإكليل (2/ 536)، وتيسير البيان (2/ 328).
(4)
ينظر: الإكليل (2/ 535).
• الحكم الخامس عشر: تحريم زوجات الأبناء
(1)
.
مأخذ الحكم: إضافة التحريم إلى عموم قوله تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ} ، وهو جمع مضاف فيعم زوجة الابن، وابن الابن، وابن البنت من النسب وإن نزلوا، سواء دخل الفرع بزوجته أو لم يدخل.
وقوله: {وَحَلَائِلُ} مفهومه بالصفة يقتضي عدم تحريم ما وطئه الابن بملك اليمين، لأن لفظ الحليلة مخصوص بالمنكوحة، لكن الإجماع دل على عدم اعتبار هذا المفهوم، وألحق ما وطئها الابن بملك اليمين بالمنكوحة
(2)
.
وقوله: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} قيد دل بمفهوم صفته على أن زوجة الابن من التبني لا تحرم
(3)
.
ويؤيد هذا المفهوم الإجماع
(4)
، والنص كما في قوله تعالى:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37].
كما أن الآية قيدت بمفهوم الصفة - أيضاً - حليَّة زوجة الابن من الرضاع.
يقول ابن القيم: «ومعلوم أن لفظ الابن إذا أطلق لم يدخل فيه ابن الرضاع، فكيف إذاً قُيِّد بكونه ابن الصلب؟ وقَصْد إخراجِ التبني بهذا لا يمنع إخراج ابن الرضاع»
(5)
.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 537).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 537).
(3)
ينظر: الإكليل (2/ 537)، وتيسير البيان (2/ 329).
(4)
ينظر: تيسير البيان (2/ 329).
(5)
زاد المعاد (5/ 557 - 564).
قلت: واعتبار هذا المفهوم خلاف بين أهل العلم، وقد نقل كثير من أهل العلم الاتفاق والإجماع على تحريم حليلة ابن الرضاع، واستدلوا لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:(يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)
(1)
.
وبهذا الحديث يدفع المفهوم الدال على حليلة ابن الرضاع، ومعلوم أن المفهوم إنما يكون حجة إذا لم يعارضه منطوق.
(2)
.
• الحكم السادس عشر: تحريم الجمع بين الأختين
(3)
.
مأخذ الحكم: قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} عطفاً على قوله في أول الآية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}
قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا} تنحل الجملة إلى مصدر، وهو (الجمع) فيحرم الجمع بين الأختين، و (الجمع) اسم جمع معرف بأل غير عهدية فيعم، ويشمل نكاحهن معاً أو مترتبات.
وضمير الجمع في قوله: {تَجْمَعُوا} يشمل كل ناكح سواء كان حراً أو عبداً.
وقوله: {الْأُخْتَيْنِ} مثنى عرف بأل وهو يفيد العموم، فتشمل الحرائر بالاتفاق سواء كن شقيقتين أو لأب أو الأم، واختلفوا في الأختين بملك اليمين هل
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب الشهاد على الأنساب، برقم (2645)، ومسلم في كتاب الرضاع، باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، برقم (1447).
(2)
معالم السنن (2/ 245).
(3)
ينظر: الإكليل (2/ 538)، وتيسير البيان (2/ 329).
يجوز الجمع بينهما في الوطء.
تتمة: تفيد الآية بمفهومها المخالف عدم دخول غير الأختين، أما بمفهومها الموافق فدلت على حرمة الجمع بين سائر المحارم.
ويرى بعضهم أن تحريم الجمع بين سائر المحارم إنما كان بالقياس
(1)
.
وقد وردت السنة بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وورد في مراسيل أبي داود:(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة)
(2)
.
وتكاد تكون العلة أو الحكمة المذكورة في الحديث محل اتفاق، وقد وردت في أحاديث آخر منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج الرجل المرأة على العمة أو على الخالة، وقال: إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم)
(3)
، وهذه العِلَّة توجد عند الجمع بين ذوات الرحم.
وقوله تعالى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} الاستثناء في الآية راجع إلى الجملة الأخيرة، ومعلوم أن الاستثناء المتعقب جملاً يعود إلى الجميع عند الجمهور إلا إذا دلّ دليل على قصره على الجملة الأخيرة.
ومما يستدل على رجوع الاستثناء للجملة الأخيرة قول ابن عباس رضي الله عنهما: «كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين»
(4)
.
(1)
ينظر: تيسير البيان (2/ 330).
(2)
أخرجه أبوداود في المراسيل ص (182)، باب في النكاح، برقم (208).
(3)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 337)، برقم (11931)، وذكر الضياء المقدسي في كتابه الأحاديث المختارة (12/ 118) أن له شاهداً في الصحيحين من رواية الشعبي عن أبي هريرة.
(4)
رواه ابن جرير في تفسيره (4/ 318)، وينظر: تيسير البيان (2/ 330).
• الحكم السابع عشر: تحريم نكاح ذوات الأزواج
(1)
.
قال السيوطي: «فيها تحريم المحصنات، وهنَّ ذوات الأزواج»
(2)
.
مأخذ الحكم: إضافة التحريم إلى قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24].
حيث ذكر المولى سبحانه وتعالى المحرمات من النساء بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية. ثم عطف عليهم {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} .
(وَالْمُحْصَنَاتُ) جمع عرف بالألف واللام غير العهدية فيعم جميع المحصنات، وهن الزوجات، ويدخل في ذلك الحرائر والإماء.
• الحكم الثامن عشر: جواز نكاح ملك اليمين
(3)
.
مأخذ الحكم: أن الاستثناء من الحرام حلال.
وبيانه: أن (إِلَّا) في قوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} استثناء متصل فأخرج الإماء من الحكم السابق فيحل نكاحهن.
وقوله: {أَيْمَانُكُمْ} جمع مضاف، فيشمل كل من دخلت تحت ملك اليمين، سواء كانت مسبية، أو مشتراة، أو غير ذالك، وثنية كانت أو كتابية، وسواء كن أخوات أو غير أخوات
والآية نزلت في المسبيات فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
الإكليل (2/ 539).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 539)، وتيسير البيان (2/ 330).
(3)
ينظر: الإكليل (2/ 539).
يوم حنين بعث جيشاً إلى أوطاس فلقي عدواً، فقاتلوهم، فظهروا عليهم، فأصابوا لهم سبايا، فكأن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرَّجوا من غشيانهن من أجل أزواجهنَّ من المشركين، فأنزل عليه في ذلك:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
(1)
، أي فهن لهم حلال إذا انقضت عدتهن
(2)
، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
• الحكم التاسع عشر: جواز نكاح المتعة
(3)
.
مأخذ الحكم: نص قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 24]، وهذا مبني على القول بأن الآية نزلت في نكاح المتعة، حيث أباح سبحانه المتعة مقابل إتيانهن أجرة الاستمتاع، ويؤيد هذا الحكم -جواز المتعة - القراءة الشاذة (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن)
(4)
.
القول الثاني: إن الآية محكمة، ولا علاقة لها بالمتعة، وتأويلها بمعنى: ما استمتعتم به منهن، فآتوهن أجورهن، أي مهورهن فريضة، وهو قول جمهور المفسرين.
أما القراءة الشاذة فهي لا تثبت قرآناً، ولا تبلغ بيان السنة، لكن إن حملناها على أنها تفسير صحابي محتمل لبيان المتعة، وتفسير الصحابي حجة إلا أن سباق
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الرضاع، باب جواز وطء المسبية بعد الاستبراء، وإن كان لها زوج انفسخ نكاحها بالسبي، برقم (1456).
(2)
ينظر: تيسير البيان (2/ 332 - 333).
(3)
ينظر: الإكليل (2/ 542)، وتيسير البيان (2/ 342).
(4)
ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 389)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 125)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 144)، وتيسير البيان (2/ 342).
الآية وسياقها يمنع هذا الاحتمال، وذلك لأن سياق الآية بيان المحرمات، وكان آخر المحرمات المتزوجات من النساء إلا ما ملكت اليمين، ثم قال سبحانه:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] أي تلذذتم به منهن في النكاح الصحيح {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي: مهورهن.
ثم قال بعدها {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] إلى آخر الآيات التي تبين أن المعنى بهذه الآيات إنما هو النكاح الدائم لا المتعة.
فائدة: على القول بأن الآية في حكم المتعة، فإن الحكم منسوخ بالاتفاق، واختلف العلماء في الناسخ لهذه الآية:
فقال قوم: إن الناسخ لها ما جعله الله سبحانه وتعالى بين الزوجين من الطلاق كما في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} الآيتان [البقرة: 228 - 229].
كما نسخت بما فرضه الله من الميراث بين الزوجين، والعدة والصداق للمرأة، وذلك باعتبار وقوع التعارض الذي هو شرط النسخ بين ما يكون في النكاح الصحيح من وقوع الطلاق، وفرض الميراث، ووجوب العدة، وبين خصائص المتعة، التي يتزوج فيها الرجل المرأة على كذا وكذا، إلى أجل كذا وكذا، على أن لا ميراث بينهم، ولا طلاق ولا عدة وهذه لوازم الزوجية، فإذا انتفت تلك اللوازم علمنا بأنها ليست بزوجة، لأن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم، وإذا لم تكن زوجة كان وطؤها سفاحاً، واعتداءً، لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)} [المؤمنون: 5 - 7].
وقال قوم: إن الناسخ لها السنة، لقوله صلى الله عليه وسلم:(ألا إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة، ومن كان أعطى شيئا فلا يأخذه)
(1)
وفي رواية ما يفيد أن إباحتها بالسنة، لقوله صلى الله عليه وسلم:(أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا)
(2)
.
(3)
.
• الحكم العشرون: إباحة نكاح الحر للإيماء بثلاثة شروط
(4)
.
عند عدم استطاعة الطول. ومأخذه: مفهوم الشرط في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} .
(1)
نكاحها بإذن سيدها. ومأخذه: الأمر بقوله: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}
(2)
عند خشية العنت، وفسر بالزنا. ومأخذه: منطوق قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ}
تنبيه: شدَّد الشارع في نكاح الإيماء، فمنع من وجد طولاً، بقوله:{لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} ، و {طَوْلًا} نكرة في سياق النفي، تفيد العموم، فتدخل فيها معاني الطول، ويحمل اللفظ الشامل هنا عليها. و (من) في قوله {مِنْكُمْ} ، تبعيضية،
(1)
أخرجه مسلم في كتاب النكاح، في باب نكاح المتعة، وبيان أنه أبيح ثم نسخ، ثم أبيح ثم نسخ، واستقر تحريمه إلى يوم القيامة، برقم (1406).
(2)
أخرجه مسلم في كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، برقم (1406).
(3)
تيسير البيان (2/ 348).
(4)
ينظر: الإكليل (2/ 543 - 544)، وتيسير البيان (2/ 351).
وقيدت بضمير خطاب الجمع هنا، والمراد به المسلمون. ثمَّ قال سبحانه:{الْمُحْصَنَاتِ} ، وهو جمع مضاف بأل غير عهدية يعم كل محصنة عفيفة من الحرائر، سواء كانت بكرًا أو ثيبًا، شريفة في نسبها أو ضعيفة. كل ذلك إن لم يستطع نكاح الحرة، كما في المسألة الآتية.
• الحكم الحادي والعشرون: من استطاع أن ينكح الحرة فليس له أن ينكح الأمة
(1)
.
مأخذ الحكم: مفهوم الشرط، وهو أن من استطاع أن ينكح الحرة فليس له أن ينكح الأمة.
• الحكم الثاني والعشرون: لو استطاع أن ينكح الحرة الكتابية، فإنه يجوز له - أيضاً - نكاح الأمة المسلمة
(2)
.
مأخذ الحكم: مفهوم الوصف في قوله {الْمُؤْمِنَاتِ} ، فإنه صف للمحصنات، ومفهومه أنه لو استطاع أن ينكح الحرة الكتابية، فإنه يجوز له - أيضاً - نكاح الأمة المسلمة. ويعضد هذا المفهوم قوله تعالى:{وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} [البقرة: 221].
يقول الموزعي: «ومفهوم تقييد المحصنات بالمؤمنات يقتضي أيضًا أنه لو قدر على نكاح حرة كتابية أنه لا يحل له نكاح الأمة. وفي ذلك وجهان لأصحاب الشافعي، والصحيح عندهم، وهو مذهب أبي حنيفة عدم الجواز؛ لأنه لا يخاف العنت بنكاح الحرة الكتابية، فغلب بالقياس على المفهوم. والمختار عندي الجواز، تقديمًا للمفهوم المعضود من قوله تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 545).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 545)، وتيسير البيان (2/ 355 - 356).
مُشْرِكَةٍ} [البقرة: 221] على القياس»
(1)
.
قلت ولعل قصده بالمفهوم من تقييد المحصنات الذي يقتضي عدم جواز نكاح الأمة المسلمة، بجامع سد حاجة الرجل على مفهوم المخالفة بصفة المحصنات بالمؤمنات، والقاضي بحل الأمة المسلمة، ولو استطاع نكاح الحرة الكتابية.
• الحكم الثالث والعشرون: جواز نكاح ما شاء مما ملكت يمينه من المؤمنات، إن لم يستطع إلى الحرة.
مأخذ الحكم: عموم قوله {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ} ، {مَا} اسم موصول يفيد العموم، فيعم ما دخل عليه، ووصف بصلته وهو ما كان بملك اليمين.
وعموم قوله {أَيْمَانُكُمْ} ، فهو جمع مضاف، فيعم جميع ما يملك المسلم من إماء سواء كن مسلمات، أو كافرات، مسشتراة أو مسترقات.
وخُصَّ منه المؤمنات بقوله {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} {فَتَيَاتِكُمُ} ، أنه ليس له أن ينكح أمته الكافرة، بمفهوم الصفة. ومن باب أولى أمة غير المسلم.
(2)
.
(1)
تيسير البيان (2/ 355 - 356)، وينظر: الإكليل (2/ 545).
(2)
أضواء البيان (1/ 238).
• الحكم الرابع والعشرون: يشترط ويجب إذن السيد في نكاح الأمة
(1)
.
(2)
.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله تعالى {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} ، وحمله الجمهور على الوجوب، فيشترط في نكاح الأمة إذن سيدها.
وهذا الشرط محل اتفاق - كما سبق - فلا يحل نكاح أمة إلا بإذن سيدها، والأمر بالشيء نهي عن ضده، فلو نكحت الأمة بغير إذن سيدها فنكاحها فاسد وباطل.
يقول القرطبي: «والأمة إذا تزوجت بغير إذن أهلها فسخ، ولم يجز بإجازة السيد، لأن نقصان الأنوثة في الأمة يمنع من انعقاد النكاح البتة»
(3)
.
ويؤيد هذا الحكم بدلالة الإشارة من قوله تعالى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور: 32] إذ لو لم يكن لإذن سيده فائدة لما أمر الله سبحانه السيد بإنكاحه.
تتمة: قد يؤخذ حكم فساد النكاح من مفهوم المخالفة بتقييد نكاحهن بإذن أهلهن، وهو مفهوم صفة معتبر بالإجماع كما سبق.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 546)، وتيسير البيان (2/ 357).
(2)
تيسير البيان (2/ 357).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 141).
قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} الآية [النور: 30].
أجمع المسلمون على تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية الحرة التي تشتهى فيما عدا الوجه والكفين، وعلى تحريم النظر إليهما - الوجه والكفين - عند خوف الفتنة
(1)
. ومما خصوه من هذا التحريم بالسنة الإباحة أو الندب لرؤية الخاطب من أراد نكاحها.
مأخذ الحكم: أمر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بقوله {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، والمأمور به: غض البصر، وحفظ الفرج.
ثمَّ خُصَّ غض البصر، بقوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة لما أراد أن يتزوج:(اذهب فانظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)
(2)
.
وخُصَّ حفظ الفرج، بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5 - 6]
قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32].
واستنبط من الآية الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: الأمر بنكاح الأيامى
(3)
.
وقال السيوطي: «فيه الحث على النكاح، وأنه مجلبة للرزق»
(4)
.
(1)
ينظر: الإكليل (3/ 1021)، وتيسير البيان (4/ 73).
(2)
أخرجه الترمذي في أبواب النكاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة، برقم (1087)، وابن ماجة في كتاب النكاح، باب النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها، برقم (1865)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 198)، برقم (96).
(3)
ينظر: الإكليل (3/ 1030)، وتيسير البيان (4/ 83).
(4)
الإكليل (3/ 1030).
والأيامى جمع أيم، وهو من لا زوج له، وهو جمع معرف بأل فيشمل الذكر والأنثى. وقيل من لا زوج لها من النساء.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله تعالى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} ، والأمر على الوجوب، فأوجب الله علينا أن ننكح الأيامى.
وقد أكدت السنة وبينت هذا الوجوب بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)
(1)
.
تنبيه: قوله {مِنْكُمْ} يفيد أن الأيامى هنا وصف مختص بالأحرار، ولا يدخل في ذلك العبيد والإماء بدليل ذكر الله لهم بعد ذلك، فاصلاً بينهم وبين الأيامى بالضمير {مِنْكُمْ} .
• الحكم الثاني: للسلطان إجبار من يمتنع من الأولياء من إنكاح أمته.
مأخذ الحكم: بمقتضى الأمر والإيجاب السابق، فإذا توقف الولي عن إقامة هذا الواجب، فإن للسلطان القيام به، لأنه مما لا يتم الواجب إلا به، وهو مقدور للسلطان، فيجب على السلطان إجبار الولي. والله أعلم.
كما أن ضمير الجمع في قوله {وَأَنْكِحُوا} يفيد العموم وهو خطاب لجميع الأولياء والسادة، ولعله يدخل السلطان حال امتناع أحدهما من القيام بموجب هذا الأمر.
• الحكم الثالث: إنكاح الصالحين من العبيد والإماء
(2)
.
(1)
أخرجه الترمذي في أبواب النكاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاءكم من ترضون دينه، برقم (1084)، وابن ماجة في كتاب النكاح، باب الأكفاء، برقم (1967)، وقال الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجة (3/ 141):"حسن لغيره".
(2)
ينظر: تيسير البيان (4/ 84).
مأخذ الحكم: عطف المولى سبحانه وتعالى الصالحين من العبيد والإماء على الأيامى بخطاب الأمر {وَأَنْكِحُوا} ، فقال:{وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} واختلف العلماء في مقتضى هذا الأمر.
فقيل: يحتمل أن يكون الأمر للوجوب، فيجب على السادات تزويج العبيد الصالحين إذا طلبوا النكاح، استدلالاً بظاهر الأمر، ودلالة الاقتران مع الأيامى.
وقيل: يحتمل أن يكون الأمر للندب، لقوة الصارف في المملوكات.
وذكر الموزعي أن من الصوارف هنا القياس فقال: «ولأنه لا فرق بينهم وبين الإماء، ولا يجب على السادات إنكاح إمائهم اتفاقًا، فكذلك العبيد»
(1)
.
(2)
.
• الحكم الرابع: إثبات الولاية للأولياء
(3)
.
مأخذ الحكم: دلَّت الآية على الحكم بدلالة الإشارة.
وبيان ذلك: أن الآية سيقت لبيان حكم إنكاح الأيامى، على خلاف سبق - في مشروعيه النكاح - في قوله {وَأَنْكِحُوا} هل هو أمر إيجاب أو ندب، وأخذ من هذا السياق بدلالة الإشارة إثبات الولاية للأولياء؛ لأن الله سبحانه «لم يأمرهم
(1)
تيسير البيان (4/ 84 - 85).
(2)
تيسير البيان (4/ 85).
(3)
ينظر: تيسير البيان (4/ 84).
أن يفعلوا شيئاً لا يستحقونه، ولو كانت عقدة النكاح بيد النساء لما ورد الأمر مضافاً إلا لهن»
(1)
.
تنبيه: دلالة الإشارة تنسحب أيضاً على منع أن ينكح العبد بغير إذن سيده؛ لأنه سبحانه أمر السيد بإنكاح العبيد، بينما سياق الآية كان لبيان ما يتوجه على السادات للعبيد، وهو وجوب أو ندب إنكاح العبيد والإماء الصالحين.
• الحكم الخامس: لا ولاية للمؤمن على الأيم الكافر
(2)
.
مأخذ الحكم: مفهوم الحصر، في قوله:{مِنْكُمْ} من قوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} ، فإنه يدل الحكم المذكور، ويؤيده قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73].
هكذا قرره بعض العلماء، والذي يظهر أنه لا مفهوم له، لظهور فائدة أخرى غير نفي الحكم عما عداه، وتلك الفائدة هي احتمال كون التقييد مختصاً بوصف الأحرار، بدليل ذكر الله سبحانه للعبيد والإماء بعد هذا التقييد، فكان فاصلاً بينهما
(3)
.
قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب أن يستعف كل من لم يستطع النكاح
(4)
.
(1)
تيسير البيان (4/ 84).
(2)
ينظر: تيسير البيان (4/ 84).
(3)
ينظر: تيسير البيان (4/ 84).
(4)
ينظر: الإكليل (3/ 1031)، وتيسير البيان (4/ 87).
مأخذ الحكم:
أولاً: الأمر في قوله تعالى {وَلْيَسْتَعْفِفِ} ، وهو يقتضي الوجوب.
ثانياً: العموم الوارد بقوله {الَّذِينَ} ، وهو اسم موصول يفيد العموم بصلته على دخول جميع من لم يجد نكاحاً. فيشمل الأحرار والعبيد.
وسواء كان بالعقد، أو ملك اليمين، لقوله:{نِكَاحًا} ، وهي نكرة في سياق النهي فتعم كل نكاح.
تنبيه: ذهب بعض العلماء إلى أن الاستعفاف مستحب؛ باعتبار أن {حَتَّى} في قوله: {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ، للتعليل.
قال الموزعي: «يحتمل أن تكون {حَتَّى} للتعليل، والمعنى: وليطلب العفة الذين لا يجدون نكاحاً بالاكتساب؛ لكي يغنيهم الله من فضله، فحينئذ يحصل الوعد من الله بالغنى في طلب النكاح للعفة، ويكون الأمر على الاستحباب والظاهر أن الأمر للوجوب وأن {حَتَّى} للغاية
…
»
(1)
.
• الحكم الثاني: مشروعية النكاح
(2)
.
مأخذ الحكم: دلالة المفهوم في قوله: {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ؛ إذ هو بيان الغاية التي يستعفف بها، فأمر الله سبحانه عباده المؤمنين الذين لا يجدون نكاحًا أن يستعففوا، فيحفظوا فروجهم عن الزنا إلى أن يغنيهم الله من فضله، ويكون مفهوم الغاية: أن الله سبحانه إذا أغناه، فلا يستعفف، بل يطلب النكاح. وهذا هو الشاهد هنا على مشروعية النكاح.
(1)
تيسير البيان (4/ 87).
(2)
ينظر: تيسير البيان (4/ 87).
وقد جاءت السنة مبينة لهذا المفهوم بقوله عليه الصلاة والسلام: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء»
(1)
.
قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10].
استدلَّ بالآية على مشروعية النكاح، بشرط إيتاء الصداق.
مأخذ الحكم: الإخبار بالحكم الدال على الجواز والإباحة بقوله {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} .
وسيأتي حكم الصداق في بابه.
باب الكفاءة والخيار
قال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: تحريم نكاح المشركات مطلقاً، وقد خص منه في سورة المائدة الكتابيات
(2)
.
مأخذ الحكم: أخذ بعموم {الْمُشْرِكَاتِ} .
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة، برقم (1806)، ومسلم في كتاب الحج، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، برقم (1400).
(2)
ينظر: الإكليل للسيوطي (1/ 397)، وتيسير البيان (4/ 389).
وأخذ ابن عمر بعموم هذه الآية فحرم نكاح اليهودية والنصرانية. وقال: «لا أعلم من الشرك شيئًا أكبر، أو قال: أعظم من أن تقول ربها عيسى»
(1)
.
قيل: إنّه ذهب للكراهة فقط، وقيل: لم تصح رواية التحريم عنه، أو تحمل على الكتابيات الحربيات، كقول ابن عباس رضي الله عن الجميع
(2)
.
• الحكم الثاني: جواز نكاح الأمة مع وجود طول الحرة المشركة، وجواز نكاح العبد الحرَّة.
مأخذ الحكمين: دلالة التفضيل في الآية.
نكاح الأمة مع وجود الحرة المشركة إذا لم يجد سواها، لأن وجود الحرة المشركة كالعدم لعدم وجود حواز نكاحها مطلقاً، قاله السيوطي، ونقل عن الكيا وغيره قوله:«ظن قوم أنه يدل على جواز نكاح الأمة مع وجود طول الحرة وهو غلط؛ لأنه ليس في الآية نكاح الإماء وإنما ذلك للتنفير عن نكاح الحرة المشركة؛ لأن العرب كانوا بطباعهم نافرين عن نكاح الأمة، فقال تعالى ذلك، أي: إذا نفرتم عن الأمة فالمشركة أولى»
(3)
، ثمَّ غلطه بما سبق.
• الحكم الثالث: تقديم اعتبار الدين في النكاح على الشرف والجمال والمال ونحو ذلك.
مأخذ الحكم: دلالة التفضيل في الآية {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} ، مع تأكيد ذلك بقوله تعالى:{وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} .
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب قوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} عن نافع، برقم (4981).
(2)
ينظر: تيسير البيان للموزعي (1/ 321).
(3)
الإكليل (1/ 397).
• الحكم الرابع: تحريم نكاح الكافر للمسلمة مطلقاً وهو إجماع
(1)
.
مأخذ الحكم: النهي، وهو يقتضي التحريم، وفساد العقد.
قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25].
استدل بالآية على: عدم جواز نكاح الأمة إلا عند عدم وجود طول الحرَّة
(2)
.
مأخذ الحكم: مفهوم الشرط، وهو أن من استطاع أن ينكح الحرة فليس له أن ينكح الأمة.
قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32].
استدلَّ بالآية على: عدم اشتراط الكفاءة في النسب، ووجوب إنكاح الصالح من العبيد إذا تقدم للخطبة
(3)
.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله {وَأَنْكِحُوا} وهو يقتضي الوجوب، مع عموم قوله {الْأَيَامَى} ، وهو جمع عرِّف ب (أل) غير عهدية فيعم، جميع الأيامى، فيعم كل من ليس له زوج من الرجال والنساء، والعبيد والأحرار.
فصورة مسألة الكفاءة هنا كما ذكر الموزعي رحمه الله: ما إذا حمل لفظ الأيامى في الآية على الرجال والنساء، وقلنا بوجوب إنكاحهم، فجاءنا عبد من العبيد الصالحين خاطباً بإذن سيده، فإن الآية تدل على وجوب إجابته، وأن الكفاءة غير
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 398).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 543).
(3)
ينظر: تيسير البيان (4/ 86).
معتبرة إلا في التقوى، وبهذا قال مالك
(1)
.
ودلالة الآية ظاهرة على الصورة المذكورة.
ومنطوق الآية على هذا التفسير وجوب إنكاح الصالح من العبيد والنساء.
ومفهومها عدم وجوب إنكاح من ليس صالحاً منهم.
ويؤيد هذا الحكم وهو عدم اعتبار الكفاءة ما ورد في سبب نزول قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
بحسب ما نقل الزهري أنهم قالوا: يا رسول نزوج بناتنا موالينا؟ فأنزل الله الآية.
وقد عمل الصحابة رضي الله عنهم بذلك، ومما ورد ذكره في القرآن زواج زيد بن حارثة بزينب بنت جحش، في قوله تعالى:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)} [الأحزاب: 37].
أما ما يتعلق في حكم إنكاح الإيماء فقد سبق بيان حكمة بشروطه عند قوله تعالى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25].
استدل بالآية على: عدم جواز إنكاح الكافر.
(1)
ينظر: تيسير البيان (4/ 86).
مأخذ الحكم: التصريح بالحكم الشرعي بقوله: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ، ونفي الحل من الأساليب والألفاظ الشرعية الدالة على التحريم.
باب عشرة النساء
قال تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 223].
ومن العشرة المعاشرة، وبيَّن الشارع ما يحل من ذلك بالآية.
فاستدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: جواز إتيان الحرث، على أي صفة
(1)
.
مأخذ الحكم: أولاً: تفسير الصحابي.
(2)
.
ووجه العموم مأخوذ من قوله: {أَنَّى شِئْتُمْ} و {أَنَّى} تستعمل بمعنى: أين، وهي عامّة في المكان، فتشمل القبل والدبر.
وبمعنى: كيف، أي كيف شاء، مقبلة ومدبرة، قائمة ومضجعة، وهو الذي ذهب إليه ابن عباس هنا، والأوّل وهو المكان مشترط أن يكون في صمامٍ واحدٍ، كما سيأتي عن ابن عباس.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 402)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 296)، وتيسير البيان للموزعي (1/ 401 - 402).
(2)
الإكليل (1/ 402).
• الحكم الثاني: تحريم إتيان الدبر
(1)
.
مأخذ الحكم: استدل بمفهوم جواز إتيان الحرث: عدم جواز إتيان الدبر؛ لأنّ الحرث والزرع مكانه القُبل.
ويؤكد هذا المفهوم ما ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى النّبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله «هلكت: حولت رحلي البارحة، فأنزلت هذه الآية {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} فقال صلى الله عليه وسلم:(أقبل وأدبر، واتق الدبر والحيضة)
(2)
.
تنبيه: استدل ابن عمر بالآية على إباحة الوطء في الدبر. وقال إنما نزلت رخصة فيه
(3)
.
قال السيوطي: «وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري
(4)
، وقال الطحاوي: روى أصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن ابن القاسم قال ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال ثم قرأ الآية قال أي شيء أبين من هذا؟»
(5)
. وربما خصوا الرخصة حال كون المرأة حائضة.
ومأخذه: ما سبق في عموم {أَنَّى} للمكان، فتشمل القبل والدبر.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 403)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 296)، وتيسير البيان للموزعي (1/ 402).
(2)
أخرجه الإمام أحمد (1/ 297) والترمذي في أبواب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ومن سورة البقرة، برقم (2980)، وحسنه الألباني في آداب الزفاف، باب تحريم الدبر، ص (103)، وغاية المرام، برقم (236).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 403).
(4)
يريد قول أبي سعيد الخدري: «أن رجلًا أصاب امرأته في دبرها، فأنكر الناس ذلك عليه، وقالوا: أبعرها، فأنزل الله عز وجل هذه الآية» . والشاهد ضعيف، وهو معارض بما صحّ في سبب نزولها من قول جابر رضي الله عنه: «كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}: رواه البخاري في كتاب التفسير.
(5)
الإكليل (1/ 404).
تتمة: وتأتي {أَنَّى} بمعنى كيف، أي كيف شاء، مقبلة ومدبرة، قائمة ومضجعة، وهو الذي ذهب إليه ابن عباس هنا، والأوّل وهو المكان مشترط أن يكون في صمامٍ واحدٍ، كما فسَّره ابن عباس.
ثمَّ إن قول الصحابي -ابن عمر- عُورض بقول ابن عباس فلا حجة فيه، وهي من اجتهاده لا روايته؛ لذا قال ابن عباس كما عند أبي داود «إنّ ابن عمر وهم، والله يغفر له»
(1)
.
• الحكم الثالث: إباحة العزل
(2)
.
مأخذ الحكم: تفسير الصحابي. قال السيوطي: «أخرج الحاكم عن ابن عباس أنه سئل عن العزل، فقال: إنكم قد أكثرتم فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه شيئاً فهو كما قال، وإن لم يكن قال فيه شيئاً فأنا أقول: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فإن شئتم فاعتزلوا وإن شئتم فلا تفعلوا»
(3)
.
مأخذ آخر: بناء على العموم في {أَنَّى} للمكان فيشمل وضعه ما بين الفخذين دون الفرج كذلك.
• الحكم الرابع: التسمية عند الجماع
(4)
.
مأخذ الحكم: تفسير الصحابي، حيث ورد عن ابن عباس قوله في تفسير قوله تعالى:{وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} : قال: بسم الله عند الجماع أخرجه ابن جرير
(5)
.
(1)
ينظر: سنن أبي داوود (2/ 249).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 405)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 298) ..
(3)
الإكليل (1/ 405).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 406)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 297).
(5)
ينظر: الإكليل (1/ 406).
قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228].
استدلَّ بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: للمرأة حقوق وواجبات، وعليها حقوق وواجبات
(1)
.
مأخذ الحكم:
أولاً: تفسير الصحابي. قال السيوطي: «أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إني أحب أ، أزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي، لأن الله يقول:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .
وما أحب أن أستوفي جميع حقي عليها لأنّ الله يقول: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} »
(2)
.
ثانياً: اللام في قوله: {وَلَهُنَّ} و (على) في قوله: {عَلَيْهِنَّ} من صيغ الوجوب.
فائدة: قدّم المولى سبحانه حقوق المرأة على حقوق الرجل من باب الاهتمام والتأكيد.
• الحكم الثاني: وجوب طاعة المرأة للرجل
(3)
.
مأخذ الحكم: تفسير التابعي، قال السيوطي:«وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}. قال طاعة يطعن الأزواج الرجال ولا يطيعونهن»
(4)
.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 419)، وتيسير البيان (2/ 30).
(2)
الإكليل (1/ 419).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 419)، وتيسير البيان (2/ 30).
(4)
الإكليل (1/ 419).
قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الآية: 231].
استدلَّ بالآية على وجوب الإمساك بمعروف
(1)
.
مأخذ الحكم: الأمر بصيغة في قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ، و {سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} .
ثمَّ النهي عن الإمساك على جهة الإضرار، بقوله:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ، مع وصف الفاعل بكونه ظالماً لنفسه بهذا الفعل.
والإمساك بمعروف يكون بالقيام بما يجب عليه من حق على زوجها، أو فالواجب التسريح.
قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3].
استدلَّ بالآية على أن من خاف الجور في العدل ألَّا يزيد على زوجة واحدة أو يعود إلى التسري
(2)
.
مأخذ الحكم: جواب الشرط والأمر بقوله: {فَوَاحِدَةً} ، أي: فعليه أن ينكح واحدة.
ومفهوم الشرط أنه إن لم يخف الجور جاز له أخذ أكثر من واحدة.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 423).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 503).
قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب المعاشرة بالمعروف
(1)
.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .
(2)
.
• الحكم الثاني: استحباب الإمساك بالمعروف، وإن كان على خلاف هوى النفس
(3)
.
مأخذ الحكم: الحث على الإمساك بقوله: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} ؛ إذْ رتب الخبير العليم الخير الكثير على الإمساك، والمعاشرة بالمعروف الصبر على ما تكرهه النفس بعد ذلك.
وقد ذكر المفسرون أن «عسى» من الله واجبة، وفسِّرت بأنها واقعة.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 530)، وتيسير البيان (2/ 306).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 530).
(3)
ينظر: الإكليل (2/ 530).
استدلَّ بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب رعاية المرأة، وحفظها، وتأديبها
(1)
.
مأخذ الحكم: ورود الأمر بصيغة الخبر، في قوله:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} .
(2)
.
تتمة: ومن التأديب ما ذكر في الآيات من وعظ الزوجات عند خوف نُشُوزهن، والأمر بهجرهن وضربهن عند ظهور النشوز وتحققه والإصرار عليه، لا عند خوفه.
(3)
.
• الحكم الثاني: وجوب طاعة المرأة لزوجها.
مأخذ الحكم: ورود الأمر بصيغة الخبر في قوله: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} .
(1)
الإكليل (2/ 552).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 162).
(3)
تيسير البيان للموزعي (2/ 380 - 381).
قال القرطبي: «هذا كله خبر، ومقصوده الأمر بطاعة الزوج والقيام بحقه في ماله وفي نفسها، في حال غيبة الزوج»
(1)
.
وقال الرازي: «وأصل القنوت دوام الطاعة، فالمعنى: أنهن قيمات بحقوق أزواجهن، وظاهر هذا إخبار، إلا أن المراد منه الأمر بالطاعة» ، ثمَّ قال:«واعلم أنَّ المرأة لا تكون صالحة إلا إذا كانت مطيعة لزوجها؛ لأن الله تعالى قال: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ}، والألف واللام في الجمع يفيد الاستغراق، فهذا يقتضي أن كل امرأة تكون صالحة، فهي لا بد وأن تكون قانتة مطيعة»
(2)
.
• الحكم الثالث: مشروعية التدرج في تأديب الزوجة.
مأخذ الحكم: الأمر بقوله: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} ، وقد صرح بعض العلماء بأن الأوامر في الرتب الثلاث للندب، والصارف من الوجوب نهيه صلى الله عليه وسلم عن الضرب بقوله صلى الله عليه وسلم:(لا تضربوا إماء الله)
(3)
ثم ترخيصه بذلك
(4)
.
قال الدكتور عبد اللطيف الصرامي: «وأيضاً هل الصارف له في جميعها: أن كلاً منها فيه إرشاد وتأديب لحق الزوج فله اسقاطه، ولا يلزم باستيفائه»
(5)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 162).
(2)
التفسير الكبير للرازي (10/ 71).
(3)
أخرجه أبو داود (2146) والنسائي في الكبرى (9167)، وابن ماجه (1985)، وصححه النووي في رياض الصالحين (279)، والألباني في تخريج هداية الرواة (3197).
(4)
ورد عند أبي داوود (2146) أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تضربوا إماء الله» فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئرن النساء على أزواجهن، فرخص في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم). وينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 181)
(5)
محمول صيغة الأمر (افعل) ص (198).
باب الصداق
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: جواز النكاح بغير صداق
(1)
.
مأخذ الحكم: لما أجاز المولى طلاق الزوجة، بقوله {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} ، وأوجب لها المتعة، فدلَّت «الآية بطريق التضمن والالتزام على أن النكاح بغير صداق جائز؛ لأنه لا يصح الطلاق إلا من زوج، ولا تجب المتعة إلا لزوجة» ، كما قاله الموزعي
(2)
.
ونبَّه الموزعي إلى أن (أو) في قوله: {أَوْ تَفْرِضُوا} بمعنى الواو، وقال:«وإنما حملوا {أَوْ} على غير حقيقتها، لأنّ الله سبحانه جعل تعليق الحكم على أحدهما بخلافه هنا، فقال: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237]»
(3)
.
تنبيه: مفهوم الشرط يقتضي أن الإثم والمؤاخذة واقع إن طلق المرأة، وقد مسَّها وفرض لها، وامتنع من إعطائها ما فرض لها.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 431)، و تيسير البيان للموزعي (2/ 104).
(2)
ينظر: تيسير البيان للموزعي (2/ 104).
(3)
تيسير البيان للموزعي (2/ 104).
(1)
.
قلت: ويستثنى من ذلك حال الخلع، باعتبار كونه طلاقاً.
ويستدل بتخصيص حكم المفوضة هنا -وهي التي تزوجها شخص بدون مهر- بوجوب المتعة، وبتخصيص المطلقة المفروض لها قبل المسيس بنصف الفرض، استدللنا بمخالفة تخصيص أحكامهن على اختلاف أحكامهن، وعليه فلا مهر للمفوضة، فيسقط مهرها إن كان قبل المسيس، ولعلة يدخل في مفهوم التقسيم.
• الحكم الثاني: وجوب المهر بالفرض أو المسيس.
مأخذ الحكم: يستدل بمفهوم الشرط في قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، لأنه لو كان واجباً بالعقد-كما يقول الشافعي في أحد قوليه- لما سقط بالطلاق، أي: لو وجب المهر بالعقد لما سقط كله بالطلاق، بل يتنصّف، ولقوله:{فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ولم يقل فنصف المهر.
• الحكم الثالث: جواز النكاح بلا تسمية مهر وبدون اشتراط نفيه، وإسقاطه
(2)
.
فإن اشتُرط ذلك كان النكاح باطلًا، وهذا المسمى بنكاح التفويض.
(1)
البحر المحيط (3/ 573).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 431)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 361/ 362)، وتيسير البيان (2/ 104).
مأخذ الحكم: لترتب صحة الطلاق عليه، فنفى الجناح عن الزوج عن الطلاق ما لم يمس أو يفرض لها مهرًا.
• الحكم الرابع: لا يجب بالطلاق فبل الفرض والمسيس شيء سوى المتعة
(1)
.
مأخذ الحكم: للأمر في قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} ، والأصل في الأمر أنه للوجوب، إلا أن ذلك محمول على الاستحباب عند جمع من العلماء.
وذكر السيوطي أنَّ الصارف عن الوجوب قوله: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236]
(2)
.
قلت: وبيانه: أن الواجبات لا تختص بالمحسن دون غيره، ثم إنّ المحسن من غير المحسن لا يعلم ذلك إلّا الله، فلما علق المتعة على صفة لا يعلمها إلّا هو سبحانه، دلّ على أنّ الله لم يُوجب الحكم بها على العباد، إذ لم يجعل لهم طريقًا إلى تمييز المأمور بها من غيره.
وكذلك فإنّ المتعة غير مقدّرة ولا معلومة، والفرائض لابدّ أن تكون مقدّرة معلومة
(3)
.
وأجيب: بأن تقييدها بالمحسنين تأكيد للوجوب؛ لأنّ كل واحد يجب أن يكون من المحسنين، وليس لأحد أن يقول: أنا لست بمحسن.
ثم إنّه لا يمنع الإيجاب على المحسنين نفيه عن غيره، كما قال تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وهو هدى لهم ولغيرهم.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 431)، وتيسير البيان (2/ 105، 108 - 109).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 431).
(3)
ينظر: تيسير البيان (2/ 109).
قال الموزعي: «وأما المحسنون والمتقون فأراد بهم المؤمنين، المحسنين بالإيمان، المتقين للشرك»
(1)
.
• الحكم الخامس: يراعى في المتعة حال الزوج يساراً وإعساراً
(2)
.
مأخذ الحكم: قال السيوطي بعد أن ذكر الحكم السابق: «وفيها رد على من قال يراعي فيها حال الزوجة أو حالهما»
(3)
.
قلت: من قال يراعى حال الزوجة استدل بقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} فإنّه إن لم يُعتبر ذلك، لزم منه أن تكون متعة الشريفة والدنيئة سواء، والعرف يغاير ذلك.
• الحكم السادس: كون الطلاق بعد الفرض وقبل الوطء يشطر المهر. فيعود الزوج نصفه سواء كان الفرض في العقد أم بعده
(4)
.
مأخذ الحكم: تقدير لفظ (على)، والمعنى: فعليكم نصف ما فرضتم، و (على) من ألفاظ الوجوب، لفظًا أو تقديرًا، أو المعنى: فالواجب نصف ما فرضتم، أو لهنّ نصف.
وقوله: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ} مطلق سواء كان الفرض في العقد أو بعده، وكونها مطلقة؛ لأن قوله:{فَرَضْتُمْ} فعل، والأفعال نكرات، وهي سياق إثبات فتكون مطلقة.
• الحكم السابع: تملك المرأة المهر بمجرد العقد
(5)
.
(1)
تيسير البيان (2/ 110).
(2)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 360)، وتيسير البيان (2/ 111).
(3)
الإكليل (1/ 431).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 431)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 361)، وتيسير البيان (2/ 112).
(5)
ينظر: الإكليل (1/ 432)، وتيسير البيان (2/ 104).
مأخذ الحكم: قوله: {لَهُنَّ} وهي لام التمليك، وذلك حال الفرض لها -كما سبق- سواء دخل أو لا؟
• الحكم الثامن: لو اشترت المرأة بالمهر شيئاً، لم يرجع الزوج في نصف ما اشترت، بل في نصف ما أخذت
(1)
.
مأخذ الحكم: لظاهر قوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ، والظاهر لا يعدل عنه إلا بدليل.
• الحكم التاسع: لو زاد المهر زيادة متصلة، لم يكن للزوج فيها نصيب
(2)
.
مأخذ الحكم: لظاهر قوله {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ، حيث قيّد النصف في المفروض.
• الحكم العاشر: لا تقرر الخلوة المهر مطلقاً
(3)
.
مأخذ الحكم: لظاهر قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} ، فإنَّ المسَّ في كتاب الله: الجماع، ومفهومه: أن غير الجماع لا يوجب المهر، والخلوة ليست جماعًا.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: «لها نصف الصداق ما لم يجامعها وإن جلس بين رجليها»
(4)
وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، وذهب بعض العلماء إلى أن الخلوة تنزل منزلة المسّ؛ لأنّها مظنته.
قلت: وقد ورد عن عمر رضي الله عنه قوله: «ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم»
(5)
،
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 432)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 362).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 432).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 432)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 361 - 362)، وتيسير البيان (2/ 116) ..
(4)
ينظر: تيسير البيان (2/ 116)، والأثر رواه ابن أبي شيبة في المصنف (16704)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 255)، وابن حزم في المحلى (9/ 484)، نقلاً عن محقق كتاب تيسير البيان.
(5)
ينظر: تيسير البيان (2/ 115)، والأثر رواه عبد الرزاق في المصنف (10873)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 256)، نقلاً عن محقق كتاب تيسير البيان.
وهو قول علي رضي الله عنه؛ ولأنّها مظنة الجماع، ولا يطلع عليه أحد.
• الحكم الحادي عشر: جواز هبة الزوجة النصف الذي ثبت لها للزوج
(1)
.
مأخذ الحكم: لضمير النسوة في قوله: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} ، ويدل عليه قوله تعالى:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} ، وذلك شريطة أن تكون ممن يصح تبرعها، بأن تكون رشيدة بالغة، عاقلة تحسن التصرف. وسبق الحكم في باب الهبة.
• الحكم الثاني عشر: جواز ترك الزوج نصفه لها
(2)
.
مأخذ الحكم: تفسير الصحابي، حيث فسَّر عليٌّ قوله:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} بالزوج
(3)
.
• الحكم الثالث عشر: جواز عفو الولي عن الصداق مطلقاً، أو الأب فقط
(4)
.
مأخذ الحكم: تفسير الصحابي، حيث فسره ابن عباس وغيره بالولي
(5)
، فهو مبني على القول بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، ودليل الجواز ظاهر التخيير في الآية {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ، وإذا جاز له العفو بعد الفرض، فإنّه يجوز قبله.
وسبب الخلاف هو فيمن {بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} إذ إنّ الزوج يملك عقد النكاح قبل الطلاق، والولي يملكها بعد الطلاق.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 432)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 363).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 432)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 363)، وتيسير البيان (2/ 118).
(3)
ينظر: تيسير البيان (2/ 117).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 432 - 433)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 364).
(5)
ينظر: تيسير البيان (2/ 118).
ومن قال بأنه الزوج أيّده أنه مقابل عفو الزوجة، فيكون العفو من الجانبين، ولو كان الولي لكان من جانب واحد، الزوجة ووليها.
كما أن الولي ليس له الحق في العفو عن مهرها.
ومن قال إنّ الذي بيده عقدة النكاح الولي، قال: لأنّه ذكر العفو بعد الطلاق، والذي يملك عقد النكاح بعد الطلاق هو الولي.
• الحكم الرابع عشر: عفو الزوج أولى من عكسه
(1)
. إن كان ما قبله في الولي في قوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}
مأخذ الحكم: لضعف جانب المرأة وما حصل لها من الكسر بالطلاق.
قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب الصداق
(2)
.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله {وَآتُوا} وهو للوجوب، ويؤكده تفسير {نِحْلَةً} بفرضية وقد سمى المولى سبحانه الصداق فريضة كما سبق في قوله تعالى:{وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237].
ومن المآخذ: تفسير الصحابي، وقد فسَّرت عائشة رضي الله عنها قوله {نِحْلَةً} بالواجبة
(3)
، وتفسير الصحابي حجة.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 433)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 365)، وتيسير البيان (2/ 118 - 119).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 504).
(3)
ينظر: الإكليل (2/ 505).
وخصَّ بعض العلماء من وجوب إيتاء الصداق للمرأة النبي صلى الله عليه وسلم بقولة تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50].
تنبيه: ضمير الجمع في {وَآتُوا} يفيد العموم، والخطاب للأزواج وسياق الخطاب يؤيده، وهو الظاهر، وقيل: للأولياء، لبيان ما كانت تعتاده العرب.
والأمر على كل التقديرات، سواء كان الخطاب للأزواج أو الأولياء فإنه يقتضي الوجوب كما سبق، فلا يجوز المواطأة على ترك الصداق بالاتفاق.
وقولة {النِّسَاءَ} اسم جمع معرف بأل يفيد العموم، سواء كانت تثيباً أو بكراً، وسواء كانت حرة أو أمة.
• الحكم الثاني: جواز كون الصداق منفعة
(1)
.
مأخذ الحكم: عموم قوله: {صَدُقَاتِهِنَّ} ، فهو جمع مضاف يعم كل صداق سواء كان مالاً، أو منفعة، كما سيأتي.
• الحكم الثالث: إباحة الله لنا ما طابت عنه نفوسهن من الصداق
(2)
.
مأخذ الحكم: كون الأمر في قوله {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} ، وارداً بعد حظر. والمقصود بالحظر هنا ما كان حقه التحريم، وإن لم يرد به التحريم، وأخذ مال غيرٍ حقه التحريم والمنع.
قال الزركشي: «ليس المراد بالحظر في هذه المسألة أن يكون محرما فقط بل
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 505).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 506).
المراد ذلك، أو أنه كان من حقه التحريم»
(1)
.
وكذا وصف المأكول بكونه {هَنِيئًا مَرِيئًا} ، يدل على حلِّه.
قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20].
استدلَّ بالآية على الأحكام الآتية:
استدل بالآية على جواز المغالاة في المهور
(2)
.
قال ابن الفرس: «فأجاز الجمهور، ومنعه قوم»
(3)
.
مأحذ الحكم: أن الله مثل بقنطار، ولا يمثل تعالى إلا بمباح
(4)
.
نوقش: إن التمثيل جاء على جهة المبالغة، كأنه قال: وإن أتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد.
قال تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24].
استدلَّ بالآية على أن الصداق لا يكون إلا مالاً، فلا يصح كونه منفعة
(5)
.
مأخذ الحكم: تقييد الابتغاء بالأموال يقتضي أنه لا يجوز بغير أموال، وقد أخذ بهذا المفهوم بعض أهل العلم.
(1)
البحر المحيط (3/ 318).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 530).
(3)
ينظر: أحكام القرآن (2/ 114).
(4)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 114).
(5)
ينظر: الإكليل (2/ 541)، وتيسير البيان (2/ 337).
وذهب بعضهم إلى عدم اعتباره لما ورد في شرع من قبلنا وهو شرع لنا من جواز جعل الصداق منفعة، في قول شعيب عليه السلام لموسى عليه السلام:{قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27].
قُرن الأجور هنا: بالمهور
(1)
.
استدل بالآية على عدم جواز دخول الرجل على امرأته قبل أن يقدم لها من المهر شيئاً.
(2)
.
مأخذ الحكم: مفهوم الشرط، أنه إذا أتاها الأجر، فإنها تحل له.
فائدة: قال ابن الفرس: «واختلفوا هل له أن يدخل بالهدية والرهن والحمالة والحوالة أم لا؟
وظاهر الآية: أنه لا يجوز الدخول إلى بإتيان الأجور؛ وذلك كله ليس من الأجور، فلم يجز الدخول»
(3)
.
(1)
ينظر: أحكام القرآن (2/ 351).
(2)
ينظر: أحكام القرآن (2/ 351).
(3)
ينظر: المصدر السابق (2/ 351).
قال تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27].
استدل الفقهاء بهذه الآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: جواز عرض الرجل ابنته للرجل الصالح
(1)
.
مأخذ الحكم: كون شريعة من قبلنا هل هي شريعة لنا، ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه.
وقد جاء في شرعنا ما يدل عليها في المرأة التي عرضت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50].
وقد استحب الفقهاء عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح، اقتداء بهذه الواهبة وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم وقد أصبح عرض الرجل ابنته للرجل الصالح سنة قائمة، فقد عرض عمر بن الخطاب ابنته على أبي بكر، وعثمان رضي الله عنهم.
الحكم الثاني: جواز جعل الصداق منفعة
(2)
.
مأخذ الحكم: كون شرع من قبلنا شرعًا لنا، وقد ثبت في شرعنا وقد سبق في باب الإجارة.
مع دلالة حرف (على) على الحكم، وقد اختلف العلماء في معنى (على) في قوله:{عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ، فقيل بمعنى الشرط، فشرط صاحب مدين على موسى عليه السلام تزويجه شرط أن يعمل أجيراً له لمدة معلومة، لا أنَّه جعل منفعة
(1)
ينظر: الإكليل (3/ 1078).
(2)
ينظر: الإكليل (3/ 1078).
التزويج عوضاً للإجارة.
وقيل إنَّ معنى (على) بمعنى (الباء)؛ لأنها استعملت هنا في معاوضة، و (على) إذا استعملت في المعاوضات، كالبيع والإجارة والنكاح تكون بمعنى (الباء) إجماعاً، والعوض منفعة البضع، وهو الاستمتاع بالمرأة.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50].
يستدل بالآية على وجوب المهر.
وقال الموزعي: «وقد اتفق أهل العلم على أن الصداق لا تجوز المواطأة على تركه»
(1)
مأخذ الحكم: دلَّ منطوق الآية على أن الحل مشروط بإيتاء أجورهن، وهو الصداق، ومفهوم شرطها عدم الإحلال عند عدم المهر. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته تشاركه فيه، لأن الخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم يكون له ولأمته، إلا ما ورد دليل الخصوص.
وخصَّ الله -جل وعلا- الزواج له بغير صداق حالاً ومآلاً، أي لا يجب المهر عليه لا بموت ولا بدخول، ولعل هذا داخل في تخصيص آخر الآية لأولها، إذ إن المخصص هنا قوله في آخر الآية {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} .
ومن المآخذ لفظ الفرض في قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} ، وقد نقل السيوطي عن قتادة قوله في تفسير الآية: «من الولي والصداق
(1)
تيسير البيان (4/ 122).
والشاهدين، وألا يزاد على الأربع»
(1)
.
قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10].
استدلَّ بالآية على وجوب الصداق
(2)
.
مأخذ الحكم: شرط المولى سبحانه لجواز نكاح نساء المشركين المهاجرات، دفع ما أنفق المشركون عليهن من صداق، بقوله {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، ومفهوم الشرط عدم جواز نكاحهن إذا لم يعط الكافر ما أنفق من مهر.
قال تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11].
استدلَّ بالآية على وجوب دفع مهر المرأة المسلمة المهاجرة لزوجها الكافر
(3)
.
مأخذ الحكم: الأمر في الآية الأولى بقوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} ، والأمر يقتضي الوجوب، وفي الآية الثانية بقوله:{فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} .
قال الموزعي في قوله: {فَعَاقَبْتُمْ} : «كأنه- والله أعلم- يريد فلم يعفو عنهم إذا لم يعفوا عنكم مهور نسائكم، {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} ، يعني: من مهورهن، إذا فاتت امرأة مشركة أتتنا مسلمة قد أعطاها مئة من مهرها، وفاتت امرأة مسلمة إلى الكفار، وقد أعطاها مئة، حسبت مئة المسلم بمئة المشرك، فقيل:
(1)
الإكليل (3/ 1114).
(2)
ينظر: الإكليل (3/ 1246)، وتيسير البيان (4/ 237).
(3)
ينظر: الإكليل (3/ 1246)، وتيسير البيان (4/ 237).
تلك العقوبة، ونكتب بذلك إلى أصحاب عهود المشركين، حتى يعطى المشرك ما قصصناه من مهر امرأته بالمسلم الذي فاتته امرأته إليهم، ليس له غير ذلك».
واختلف العلماء في كون هذا الحكم عاماً، أو خاصاً بصلح الحديبية، وعلى القول بكونه خاصاً فلا يجب في زمننا أن يُدفع إليهم شيء، ولا يجب أن يدفعوا إلينا شيئا.
ووجه من قال بأنه خاص بصلح الحديبية، لأن الله جعله عوضاً لما شُرط من ردِّ النساء، فلمَّا ردَّ الله سبحانه هذا، أوجب ردَّ ما أنفقوا في مهورهن
(1)
.
باب القَسْم
قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3].
استدلَّ بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب القسم والتسوية فيه
(2)
.
مأخذ الحكم:
الأول: الأمر بالواحدة عند خوف عدم العدل، بقوله:{فَوَاحِدَةً} ، أي: فانكحوا واحدة، والعدل في التعدد يقتضي التسوية.
ثانيا: تعليل المولى سبحانه وتعالى بالواحد بقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} ، أي: تجوروا
(1)
ينظر: الإكليل (3/ 1247).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 503)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 52)، وتيسير البيان (2/ 244)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (32/ 70).
وتظلموا، يقال: عال يعول إذا جار، ويأتي مزيد بسط في باب النفقات.
قال الموزعي: «ولا شك أن العدل بين الأزواج واجب بالإجماع، وتفاصيله مذكورة في كتب الفقه»
(1)
.
• الحكم الثاني: القسم والتسوية خاص بالزوجات دون ملك اليمين
(2)
.
مأخذ الحكم: لأن العطف في قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إنما هو على قوله: {فَوَاحِدَةً} أي: إن حاف ألا يعدل فواحدة، فجعل ملك اليمين كله بمنزلة واحدة، فانتفى بذلك أن يكون للإيماء حق الوطء، أو في القسم؛ إلا أن حق ملك اليمين في العدل قائم بوجوب حسن الملكة والرفق بالرفيق
(3)
.
قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129].
استدلَّ بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: جواز تنازل المرأة عن حقها في القسم وغيره لزوجها
(4)
.
مأخذ الحكم: لما ورد في سبب النزول، ومن ذلك يقول بأنها:«نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وسودة بنت زمعة؛ وذلك إذا أسنَّت سودة فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها، فقالت: لا تطلقني واحبسني مع نسائك، ولا تقسم لي، ففعل، فنزلت الآية»
(5)
.
(1)
ينظر: تيسير البيان (2/ 226).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 503).
(3)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 23).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 591)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 282).
(5)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 282).
• الحكم الثاني: وجوب العدل في القسم والتسوية بالكون عندهن والمبيت
(1)
.
مأخذ الحكم: لأن الله نهى عن الميل لإحداهما، وهذا يقتضي التسوية بينهن؛ لأن النهي عن الشيء أمرٌ بضده، والنهي عن الميل أمرٌ بالعدل، ولا يتصور العدل إلا مع متعدد كما سبق، فيكون أمراً بذلك.
قال ابن الفرس: «والأمر بالعدل بين النساء في جميع الأشياء المقدور عليها، فعلى الإنسان أن يعدل بينهن بالكون عندهن»
(2)
.
باب الخلع
قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: تحريم أخذ مال الزوجة على سبيل الإكراه والمضارة
(3)
.
مأخذ الحكم: لقوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ} ، وهي من الألفاظ التي يخبر الشارع فيها عن أحكام التحريم.
• الحكم الثاني: جواز أخذ مال الزوجة إذا كان النشوز من جهتها
(4)
.
مأخذ الحكم: لقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ، ونفي الجناح عن الفعل من الأساليب الدالة على الجواز.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 593)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 284).
(2)
ينظر: أحكام القرآن (2/ 284).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 421)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 44).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 421)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 46).
• الحكم الثالث: جواز الخلع بقدر ما أصدقها وأكثر منه
(1)
.
مأخذ الحكم: العموم الوارد بصيغة اسم الموصول {فِيمَا} في قوله: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ، فيعمّ القليل والكثير.
وقال الموزعي: "لا يجوز الخلع بأكثر من المهر المسمى؛ لتخصيص الأخذ بالذي آتيناهن في المواضع كلها"
(2)
.
• الحكم الرابع: لفظ المفاداة من صرائح الخلع
(3)
.
مأخذ الحكم: لورده في القرآن في قوله: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} .
• الحكم الخامس: منع الخلع لغير الضر منها ومنه، أو لضرر أحدهما فقط
(4)
.
مأخذ الحكم: لمفهوم قوله: {أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} .
(5)
.
وأما منعه لضرر أحدهما فقط؛ لتعليق الحكم بخوفهما معاً.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 421)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 324)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 53).
(2)
تيسير البيان للموزعي (2/ 52 - 53).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 421).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 421).
(5)
المغني (7/ 326).
• الحكم السادس: القول بأن الخلع فسخ لا طلاق
(1)
.
مأخذ الحكم: قال السيوطي: «لأنه تعالى ذكر الطلاق مرتان، ثم ذكر الخلع، ثم قال فإن طلقها فدلَّ على أن الخلع ملغى غير محسوب وإلا كان الطلاق أربعاً» .
ثمَّ قال: «ورد: بأن ذكر المفاداة حكم على حياله فلا فرق بين ذكره بين الطلقتين والثلاثة وفي غير ذلك»
(2)
.
قلت: وقوله: «على حياله» ، أي: مستقل - وعليه قد يكون فسخًا، وقد يكون طلاقًا؛ إذ القصد هنا الذكر فقط لا الترتيب.
• الحكم السابع: لا يقتصر الخلع على السلطان
(3)
.
مأخذ الحكم: للإطلاق في قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ولم تقيدها عند السلطان.
• الحكم الثامن: عدم جواز خلع الأجنبي
(4)
.
مأخذ الحكم: لأن المولى خصَّ الافتداء بالزوجة، في قوله:{فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ، فلا يصح أن يكون العوض من أجنبي لا من الزوجة، كأن يقول رجل لآخر: طلق أو خالع امرأتك ولك ألف درهم.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19].
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 421)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 325).
(2)
الإكليل (1/ 421).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 421)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 326)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 48).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 421).
استدلَّ بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: تحريم الإضرار بالزوجة ليلجئها إلى الافتداء
(1)
.
مأخذ الحكم: النهي عن عضل المرأة من قبل الزوج، والنهي يقتضي التحريم.
كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول في هذه الآية {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} ، «النشوز، وسوء الخلق» .
• الحكم الثاني: إباحة الإضرار والتضييق على المرأة إن كان النشوز منها
(2)
.
مأخذ الحكم: الاستثناء من النفي إثبات، ومن التحريم الحل.
قال الموزعي: «لأن المستثنى نقيض المستثنى منه، فيكون المعنى: إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فاعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن»
(3)
.
(4)
.
وحمل تفسير الفاحشة على النشوز، وقيل: الزنا، وقيل: غير ذلك.
ونبَّه الموزعي إلى الموضع الآخر الذي يجوز فيه أخذ الزوج بعض ما أتاها وهو عند ما يخافا ألا يقيما حدود الله، كما في سورة البقرة، {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229]، ثم قال -أي الموزعي-: «وأما إذا لم يأتين الفاحشة، ولم يخافا ألا يقيما حدود الله، فلا يحل
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 528)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 113).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 528).
(3)
ينظر: تيسير البيان (2/ 310).
(4)
ينظر: الإكليل (2/ 529).
للأزواج الأخذ؛ كما بينه سبحانه في قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا
فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}، فحرمه الله تحريما مطلقا
…
»
(1)
.
قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)} [النساء: 20].
استدل بالآية على منع الخلع مطلقاً
(2)
.
مأخذ الحكم:
أولاً: كون الآية ناسخة لآية البقرة.
ووجه النسخ: أنَّ قوله: {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} ، نكرة في سياق النهي، فيعم حال الخلع؛ لأنه أخذ له.
تتمة: وذكر السيوطي أنَّ هناك من عكس، وقال بأن آية البقرة ناسخة لآية النساء في حكم الخلع. «وقال آخرون: لا ناسخ ولا منسوخ، بل هو الأخذ بطيب نفسها»
(3)
.
وذكر كثير من العلماء أنَّ الآية محكمة؛ لإمكان الجمع، وعدم تعذره، فآية النساء تحريم الأخذ من مال الزوجة مطلقاً، فيعم الأخذ بطيب النفس وبغير طيب نفس، لكنه مخصوص بتحريم ما لم تطب بها نفسه، بقوله:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4].
(1)
ينظر: تيسير البيان (2/ 310 - 311).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 532).
(3)
ينظر: الإكليل (2/ 532).
تنبيه: ليس لمفهوم الشرط في قوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} مفهوم معتبر؛ لأنه إنَّما خُصَّ الاستبدال «لأنها حالة قد يتوهم فيها أنَّه لمكان الاستبدال وقيام غيرها مقامها له أن يأخذ مهرها، ويعطيه الثانية، وهي أولى به من المفارقة، فبيَّن الله أنَّه لا يأخذ منها شيئاً إذا كانت هذه التي استبدل مكانها لم يبح له أخذ شيء مما أتاها مع سقوط حقه عن بضعها، فأحرى أن لا يباح له ذلك مع بقاء حقه، واستباحة بضعها»
(1)
.
باب الطلاق
قال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229].
استدل بالآية على أن لفظ التسريح من صرائح الطلاق
(2)
.
مأخذ الحكم: لوروده في القرآن، قال تعالى:{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} .
استدلَّ بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: تحريم المطلقة بالطلقة الثالثة
(3)
.
مأخذ الحكم: للإخبار عن الحكم بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} وهو من أساليب التحريم.
(1)
ينظر: البحر المحيط لأبي حيان (3/ 25).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 420)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 54، 55).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 422).
• الحكم الثاني: أن الرجل إذا طلق زوجته طلقتين ثم تزوجت من غيره، ثم رجعت إليه، فإن هذا الزواج يهدم ما سبق من الطلقتين، بحيث لو طلقها مرة أخرى فإنها لا تحسب طلقة ثالثة
(1)
.
مأخذ الحكم: عموم الآية إذ لا فرق بين أن يتخلل الطلاق نكاح غيره أم لا.
ووجه العموم من الآية: أن قوله: {فَلَا تَحِلُّ} فعل في سياق النهي فيعمّ؛ إذ الأفعال كما سبق نكرات، والمعنى: عدم الإحلال بعد الثلاث.
والجمهور على عدم الهدم فالمرأة إذا عادت إلى زوجها، وقد بقي من طلاقها شيء؛ فإنّها ترجع على ما بقي من الطلاق.
أمّا إذا رجعت إلى زوجها الأوّل بعد أن أتم عدد الطلقات، وتزوجت بآخر بنكاح صحيح وجامعها ثم طلقها، ورجعت إلى الأوّل، فإنّها ترجع بالعدد الكامل من الطلقات، فله أن يطلق ويراجع، ويطلق ويراجع، ثم إذا طلق الثالثة بانت منه.
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
الحكم: الأول: وقوع طلاق الهازيء وعتقه ونكاحه وجميع تصرفاته
(2)
.
مأخذ الحكم: سبب نزول الآية ذلك.
أورد السيوطي في الدر المنثور عن عبادة بن الصامت قوله: «كان الرجل على
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 422).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 424)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 334، 335).
عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقول للرجل زوجتك ابنتي ثم يقول: كنت لاعبًا ويقول: قد أعتقت، ويقول: كنت لاعبًا، فأنزل الله {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} فقال رسول الله: صلى الله عليه وسلم (ثلاث من قالهن لاعبًا أو غير لاعبٍ فهن جائزات: الطلاق، والعتاق، والنكاح)
(1)
. وسبب النزول قطعي الدخول.
• الحكم الثاني: تحريم الطلاق زيادة على العدد المشروع
(2)
.
مأخذ الحكم: قول الصحابي وتفسيره، فقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس أن رجلاً قال له: طلقت امرأتي ألفاً. قال ثلاث تحرمها عليك، وبقيتهن وزر أتخذت آيات الله هزؤا
(3)
.
استدلَّ بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: جواز الطلاق في الحيض قبل الدخول.
قال السيوطي: «قال إلكيا: وعموم قوله: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} يدل على جواز الطلاق في الحيض قبل الدخول»
(4)
.
(1)
ينظر: الدر المنثور (1/ 683)، والحديث أخرجه أصحاب السنن بلفظ:(ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة)، أبوداود برقم (2194)، وقال محققه الأرناؤوط (3/ 516):"حسن لغيره "، والترمذي برقم (1184)، وابن ماجة، برقم (2039).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 424).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 424).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 431).
مأخذ الحكم: أباح سبحانه الطلاق من غير تفصيل منه بحال الطهر دون الحيض. ذكره الجصاص؛ ولأنّ النهي في طلاق الحائض خشية تطويل العدة، وهذه لا عدة عليها؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} ..
• الحكم الثاني: يجوز الطلاق قبل الفرض والمسيس.
مأخذ الحكم: الإخبار عن الحكم بعدم الجناح، الدال على الجواز.
• الحكم الثالث: وجوب المتعة للمطلقة، وتكون بحسب الوسع.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} . وقوله: {حَقًّا} ، والحق الواجب.
قال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)} [البقرة: 241].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب المتعة لكل مطلقة قبل الدخول وبعده، رجعية أو مختلعة، أو بائنة بثلاث، حرة أو أمة
(1)
.
مأخذ الحكم: الوجوب لكون قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} خبر بمعنى: الأمر، و {مَتَاعٌ} مصدر ناب عن فعله، أي: متعوا المطلقات متاعًا؛ ولأنّه ختم الآية بقوله: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} ، وفيهما من الأساليب الدالة على الوجوب {حَقًّا} ، و {عَلَى} ، وكلاهما يدلان على الوجوب، ودخلت الرجعيَّة والمختلعة والبائنة في العموم من صيغة العموم في الجمع المعرَّف في قوله:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ} .
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 436)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 377)، وتيسير البيان (2/ 140).
• الحكم الثاني: ليس في الفسوخ واللعان متعة
(1)
.
مأخذ الحكم: لأن الفسخ لا يسمى طلاقاً، ولأنّ المتعة فيه جبر لقلب المطلقة، ففي الطلاق كسر لقلبها، فتعطى ما يطيب به قبلها، أمّا في الفسوخ واللعان فهي مختارة ولا كسر لقلبها.
(2)
.
استدل بالآيتين على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: الطلاق للعدة
(3)
.
وفسّره النبي صلى الله عليه وسلم بأن تطلق في طهر لم تجامع فيه، وهو بيان لطلاق السنة.
قال ابن الفرس في تفسير لعدتهن: «معناه لاستقبال عدتهن وقوامها وتقريبها عليهن
…
، والمعنى: في ذلك كله أن لا يطلقها وهي حائض، فهو منهي عنه بالآية؛ لأنه إذا فعل ذلك لم يقع طلاقه في الحال التي أمر الله تعالى بها، وهو استقبال العدة،
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 437).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 229).
(3)
ينظر: الإكليل (3/ 1257)، وتيسير البيان للموزعي (4/ 259 - 260).
فالعدة التي أمر الله تعالى بالطلاق فيها هي الطهر، إلا أنه يستحب أن يكون طهراً لم يجامع فيه؛ لئلا يُلبس على المرأة العدة، فلا تدري بم تعتد هل بالوضع أو بالقرء؟ وقيل: ليكون هو على يقين من نفي حملٍ إن أتت به، فأراد أن ينفيه»
(1)
.
مأخذ الحكم: أمر الشارع بقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} مع بيان السنة للقرآن.
(2)
.
وذكر ابن الفرس أن الحامل تطلق «متى شاء؛ لأنه متى طلقها فهي تستقبل عدتها، لا تنتظر طهراً، كما تصنع التي تحيض، فطلاقها موافق لما أمر الله تعالى به»
(3)
.
• الحكم الثاني: لفظ «الإمساك» من صرائح الرجعة، والفراق من صرائح الطلاق
(4)
.
مأخذ الحكم: لوروده في القرآن بهذه المعاني، وهي ظاهرة فيه، قال الموزعي عن الإمساك «لأنه عُرف في الإمساك ورد به القرآن»
(5)
.
(1)
ينظر: أحكام القرآن (3/ 570).
(2)
ينظر: تيسير البيان (4/ 263).
(3)
ينظر: أحكام القرآن (3/ 571).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 1259).
(5)
ينظر: تيسير البيان (4/ 266).
كتاب الرجعة
استدلَّ بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: إذا طلَّق الرجل امرأته تطليقة أو تطليقتين وهي حامل فهو أحق برجعتها ما لم تضع
(1)
.
مأخذ الحكم: قول الصحابي ابن عبَّاس، حيث استنبط الحكم المذكور من الآية
(2)
.
قال السيوطي: «وقال بعضهم أول الآية وآخرها خاص، وذلك أن أولها عام في كل مطلَّقة، وآخرها خاص بالرجعية»
(3)
.
• الحكم الثاني: يستقل الزوج بالرجعة في العدة، من غير ولي ولا رضا المرأة، وأنه بعد العدة بخلاف ذلك
(4)
.
مأخذ الحكم: ظاهر قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} .
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 417)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 323).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 417).
(3)
الإكليل (1/ 417)، وينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 322).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 418).
ومفهوم قوله: {فِي ذَلِكَ} أي: في مدة التربص ثلاثة قروء، ومفهومه: أنّه بعد ذلك لا بدّ من رضاها وولي وعقد، وكونه أحق بنص القرآن، وتفسير ابن عباس السابق، المذكور في الحكم الأول.
• الحكم الثالث: بقاء الزوجية في حال بقاء الرجعة، وإباحة الوطء
(1)
.
مأخذ الحكم: لقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ} ، فلم ينف المولى وصف الزوجية عنه.
فائدة: قال السيوطي: «واستدل خلافهم بقوله: {بِرَدِّهِنَّ}، والرد لا يكون إلا لما ذهب من إباحة الوطء»
(2)
.
• الحكم الرابع: لفظ الرد من صرائح الرجعة
(3)
.
مأخذ الحكم: لوروده في القرآن لهذا المعنى، في قوله:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} .
• الحكم الخامس: للزوج نكاح المختلعة في عدتها بشرط رضاها
(4)
.
مأخذ الحكم: قال السيوطي: «لعمومه»
(5)
.
قلت: لعله عموم قوله: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} ، وهي لا تريد الإصلاح، بل تريد الفراق خُلعًا، وإن حصل فليس هو {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} ، ومن ثمّ كانت بائنًا بالخلع كالأجنبية، وهي في العدة، لكن العدة لأجل استبراء رحمها من ماء زوجها الأوّل لتحل لغيره.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 418).
(2)
الإكليل (1/ 418).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 418).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 418)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 327).
(5)
الإكليل (1/ 418).
قال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229].
استدلَّ بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: لفظ الإمساك من صرائح الرجعة
(1)
.
مأخذ الحكم: لوروده في القرآن لهذا المعنى، في قوله:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} .
• الحكم الثاني: تحصل الرجعة بالوطء
(2)
.
مأخذ الحكم: لأنه أقوى مقاصد النكاح فكان إمساكاً بالمعروف فتحصل به الرجعة.
(3)
.
قلت: وذلك لأجل المقابلة، فالطلاق لا يكون إلّا بالقول، فكذا الإمساك، وهذا مذهب الشافعي، ويؤيده قوله:{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، والشهادة إنّما على القول لا الوطء قطعًا.
وأكثر العلماء على أنّ الرجعة تكون بالقول أو بالفعل، ولو كان أدون من الوطء كالقبلة، والنظر لشهوة للفرج.
استدلَّ بالآيتين على الأحكام الآتية:
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 420).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 420).
(3)
الإكليل (1/ 420).
• الحكم الأول: تحل المطلقة ثلاثاً بعد نكاح زوج آخر، سواء كانت حرة أم أمة ثم اشتراها
(1)
.
مأخذ الحكم: لعموم قوله: {فَلَا تَحِلُّ} ، وكونها لا تحل إلّا بعد نكاح زوج آخر لمفهوم الغاية في قوله:. {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}
• الحكم الثاني: يشترط في التحليل والرجعة لزوجها الأول: الوطء
(2)
.
مأخذ الحكم: لقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ} ، واسم النكاح لا يطلق على الوطء إلّا في هذه الآية؛ لدلالة حديث رفاعة، وقوله عليه الصلاة والسلام:(لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته)
(3)
.
قال السيوطي: «واستدل به سعيد بن المسيب على الاكتفاء بالعقد بلا وطء؛ بناء على أن النكاح حقيقة في العقد»
(4)
.
قلت: يعتذر له أنّه لم يطلع على حديث رفاعة، وإلّا لفظ النكاح يطلق على العقد.
• الحكم الثالث: يشترط في التحليل والرجعة لزوجها الأول أن يكون في النكاح الصحيح
(5)
.
مأخذ الحكم من قوله: {زَوْجًا} ، فلابد من وطء زوج في نكاح صحيح، لا وطء سيد، ولا نكاح بلا وطء، ولا وطء في نكاح فاسد ولا بشبهة.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 422)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 333)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 55، 58).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 422)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 328 - 329)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 55).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب من أجاز طلاق الثلاث، برقم (5260).
(4)
الإكليل (1/ 422 - 423).
(5)
ينظر: الإكليل (1/ 422)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 330)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 57).
والنكاح الفاسد، كنكاح ذات محرم، أو نكاح بلا ولي ولا شهود، ووطء الشبهة، أن يطئها يظنها زوجته، وهذان الوطآن لا يصدق فيهما على الواطئ أنه زوج.
كما أن وطء السيد لا يحل؛ لأنّه ليس زوجًا. وكذا الوطء بالملك فيما إذا اشترى مطلقته ثلاثاً، لأنّه ليس نكاحًا.
تتمة: قال السيوطي: أن في الآية رد «على من لم يكتف بنكاح الكافر إذا كانت كافرة، والمراهق، والمجنون؛ لأنه يسمى زوجاً. أي: الكافر والمراهق والمجنون»
(1)
.
• الحكم الرابع: نفاذ الرجعة بالإمساك حال نيَّة الإضرار، مع كونه ظالماً
(2)
.
(3)
مأخذ الحكم: لقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ، ظاهره صحة الرجعة مع حصول الإثم بفعله.
وكونه ظالماً: لتطويل العدة عليها بمراجعتها إذا شارفت العدة على الانتهاء، وذكر المولى سبحانه هنا اسم الإشارة (ذلك)؛ ليدل على البعد تعظيمًا له وترهيبًا منه.
(1)
الإكليل (1/ 423).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 424).
(3)
تيسير البيان للموزعي (2/ 58).
قلت: ولعل نفاذ الرجعة يكون عند من قال بأنّه لا مفهوم للشرط في قوله: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} .
ولعل القائل بالمفهوم مؤيد بهذا النص الدال على تحريم هذا الفعل، ووصف فاعله بأنّه ظالم لنفسه، والنهي يقتضي الفساد، والله أعلم.
• الحكم الخامس: لا رجعة للمطلقة قبل الدخول.
مأخذ الحكم: قال الموزعي: «لأنه لا عدة عليها، فلا أجل لها تبلغه، والله أعلم»
(1)
باب الإيلاء والظهار والكفارة
قال تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} [البقرة: 226 - 227].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: لا بد في الإيلاء من الحلف ألا يطأ زوجته
(2)
.
لذا عرف العلماء الإيلاء بأنّه: الحلف على ترك وطء المرأة
(3)
.
فالمُولي هو: الذي يحلف بالله عز وجل ألا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهر كما سيأتي.
مأخذ الحكم: لأن الجماع داخلٌ في الآية؛ لأنّه سبب نزول الآية.
(1)
تيسير البيان للموزعي (2/ 62).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 413)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 13).
(3)
ينظر: تيسير البيان للموزعي (2/ 13).
ولذا ذهب الجمهور على إضمار الجماع، أي: يحلفون على عدم وطء زوجاتهم.
وإلَّا فإنَّ الإطلاق في الآية يشمل الحلف على الجماع وغيره؛ لكون {يُؤْلُونَ} ، فعل في سياق الإثبات.
(1)
.
• الحكم الثاني: يمهل المولي أربعة أشهر من الإيلاء ثم يطالب بالفيئة، وهي الرجوع عن موجب يمينه، فيطأ زوجته، أو الطلاق، ويكون الطلاق حال امتناعه عن الفيئة
(2)
.
وقد كان الإيلاء في الجاهلية السنة والسنتين، فوقت لهم الشارع أربعة أشهر
(3)
.
مأخذ الحكم: لعله اللام في قوله: {لِلَّذِينَ} بمعنى (على)، فتدل على وجوب المأمور به وهو قوله:{تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} .
أو يقال: إنها لام الاستحقاق؛ لوقوع اللام بين معنى، وهو التربص، وذات تملك، وهو اسم الموصول في قوله:{لِلَّذِينَ} ، ويكون مأخذ الحكم: كونه خبراً باستحقاق المولين من نسائهم التربص أربعة أشهر، ويكون الخبر هنا بمعنى الأمر.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 413).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 413)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 12).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 413)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 12).
تنبيه: مفهوم قوله: {أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} ، أن من حلف على دون أربعة أشهر ولو يوماً، فإنه لا يكون إيلاءً.
وقال السيوطي: «وفي الآية رد على من خصص الإيلاء بالمؤبد بخلاف المقيد بوقت أو صفة لإطلاق الآية»
(1)
.
ومأخذه: ما ذكره السيوطي من الإطلاق، فلم تقيد الآية الإيلاء بمؤبد أو غير مؤبد، والذي قصرها على المؤبد أراد قصر الآية على سبب نزولها، كفعل الجاهلية، وربما حلف ألا يطأ امرأته على التأبيد.
• الحكم الثالث: استدل الشافعي بأن من آلى أربعة أشهر فقط لا يكون مولياً
(2)
.
قال السيوطي: «لأن مدة أربعة أشهر حق خالص له فلا يفوت به حق ولا يتوجه عليه مطالبة»
(3)
.
أي: أي: فلا يفوت بالأربعة أشهر حق الخيار بين الفيئة والطلاق، ولا يتوجه عليه مطالبة بطلاق.
وقال السيوطي: «خلافاً لأبي حنيفة في قوله بوقوع طلقة»
(4)
.
أي: إذا تمت الأربع، ولا أثر لفيئته بعدها، ولا يتوقف على القاضي.
ومأخذ الحكم: الخلاف في التقدير في قوله: {فَإِنْ فَاءُوا} ، فقيل:(فإن فاؤوا فيهن) أو (فيها) وهي قراءة أبي بن كعب، وهو مذهب الحنفية.
(1)
الإكليل (1/ 414).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 413)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 10، 11).
(3)
الإكليل (1/ 413 - 414).
(4)
الإكليل (1/ 413)، وتيسير البيان (2/ 12).
وقدَّر الشافعي (فإن فأوا بعدهن) وسيأتي ما يدل عليه من السياق.
وكذا وقع الخلاف في الفاء في قوله: {فَإِنْ فَاءُوا} هل هي للترتيب الزماني، أي: زمن المطالبة بالفيء أو الطلاق عقب الأجل المضروب.
أو للترتيب الذكري، فتفيد الترتيب المفصل (الفيء والطلاق) على المجمل، فيجوز أن يكون خلال الأجل المضروب، فإذا انقضى الأجل دون فيئة، وقع الطلاق.
• الحكم الرابع: اشترط العزم، والتلفظ بالطلاق، لا مجرد انتهاء المدة
(1)
.
مأخذ الحكم: قال السيوطي: «وفي لفظ العزم
(2)
، ما يدل على قصد الطلاق وإنشائه. وكذا قوله {سَمِيعٌ} بمسموع، وهو النطق بالطلاق، ومضي المدة ليس بمسموع»
(3)
.
(4)
• الحكم الخامس: عدم صحة الإيلاء من الأجنبية. كأن يضيف الإيلاء إلى النكاح، فيقول: إن تزوجتك فوالله لا أقربك
(5)
.
مأخذ الحكم: مفهوم الصفة في قوله: {مِنْ نِسَائِهِمْ} وهي ليست من نساءه،
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 414)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 314)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 12).
(2)
وذلك في قوله: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} .
(3)
الإكليل (1/ 414)، وينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 314).
(4)
تيسير البيان للموزعي (2/ 12).
(5)
ينظر: الإكليل (1/ 414)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 314).
فلا تكون محلًا للإيلاء.
تنبيه: أجاز الحنفية إضافة الطلاق والإيلاء، وتعليقه على النكاح؛ لأنّ المعلق بالشرط كالمنجز عند وجود الشّرط.
أمّا الشافعية فلا يصح عندهم الإيلاء المضاف إلى النكاح (التعليق) حتى يقع، والمرأة التي عُلق إيلاؤها على نكاحها ليست زوجة عند حصول الإيلاء.
فالحنفية يجعلون التعليق يؤخر انعقاد الإيلاء حتى يوجد المعلق، والشافعية يمنعون ترتب الحكم عليه حتى يوجد الشرط المعلق عليه.
• الحكم السادس: صحة الإيلاء من الكافر، وبأي يمين كان، ومن غير المدخول بها، والصغيرة، والخصي، وأن العبد يضرب له الأربعة أشهر كالحر
(1)
.
مأخذ الحكم: لعموم قوله: {لِلَّذِينَ} ، فهو اسم موصول، وكذا ضمير الجمع في قوله:{يُؤْلُونَ} ، فدخل الكافر والخصي والعبد.
وأما كونه بأي يمين فللإطلاق في الآية، فتدخل فيه كل يمين منعت جماعًا، ودخلت الصغيرة في عموم {نِسَائِهِمْ} .
قال الموزعي: «وعموم الآية أيضاً يقتضي صحة الإيلاء من الرتقاء، والقرناء، والصغيرة، والمريضة المضناة، وفي ذلك خلاف بين الفقهاء»
(2)
تنبيه: قال الموزعي «وأجمعوا على أن المراد بالنساء الأزواج دون الإماء»
(3)
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 414).
(2)
تيسير البيان للموزعي (2/ 17 - 18).
(3)
تيسير البيان للموزعي (2/ 19).
• الحكم السابع: امتناع تقديم الكفارة على الحنث
(1)
.
مأخذ الحكم: ذكر السيوطي أن محمد بن الحسن هو المستدل بالآية على الحكم المذكور، ثُمَّ بيَّن مأخذه فقال:«لأنه حَكَم للمولى بأحد الحكمين: الفيء أو الطلاق، فلو جاز تقديم الكفارة لبطل الإيلاء بدونها، ففيه إسقاط حكم الإيلاء بغير ما ذكر الله»
(2)
.
• الحكم الثامن: لا يلزم المولي كفارة إن رجع قبل انقضاء الأشهر الأربع
(3)
.
قال السيوطي: «واستدل الحسن وبعض أصحابنا بقوله: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} على أنه لا يلزمه كفارة اليمين»
(4)
.
مأخذ الحكم: أن قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يقتضي عفوه عن تلك اليمين.
تتمة: قيل: المراد غفور لهم ما أتوه من ضرر المرأة بالحلف، أي: الإثم المترتب على هذا. وقيل: لأنّه لم يكن أنزلت الكفارة في المائدة، والحنث موجب للكفارة.
• الحكم التاسع: من ترك الوطء ضراراً بلا يمين لا يجري عليه هذا الحكم، وأن الحكم خاص بالمولي
(5)
.
مأخذ الحكم: لظاهر الآية؛ لأنّ المولى جعله للمولي، وهو الحالف، وهذا غير حالف.
(1)
الإكليل (1/ 414)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 314).
(2)
الإكليل (1/ 414).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 415).
(4)
الإكليل (1/ 415).
(5)
ينظر: الإكليل (1/ 415).
وصنيعه لا يسمى إيلاءً، بل يعد من سوء العشرة، ويتيح لها طلب الفرقة عند بعض الفقهاء؛ لقوله:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، إذا لم يكن هناك عذر يمنعه من قربانها.
• الحكم العاشر: الحاكم لا يطلق على الزوج، حال امتناعه من الفيئة بعد التربص، وإنّما يضيق عليه ويحبس حتى يطلقها بنفسه، وهذا الإكراه معتبر؛ لأنّه إكراه بحق
(1)
.
مأخذ الحكم: لأن الله جعل الفيء والطلاق للمولى لا لغيره، كما في ظاهر نص الآية.
قال الموزعي: «والظهار أن يقول لزوجته: أنتِ عليَّ كظهر أمي، كما ذكر الله تعالى
…
فكنوا بالظهار عمَّا يستهجن ذكره، وأضافوا الظهر إلى الأم؛ لأنها أم المحرمات»
(2)
.
واستدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: تحريم الظهار
(3)
.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 415).
(2)
تيسير البيان (4/ 196)، وينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 523).
(3)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (17/ 279)،، والإكليل (3/ 1235)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 524)، وتيسير البيان (4/ 196)، وأضواء البيان للشنقيطي (6/ 515).
مأخذ الحكم:
الأول: ذمَّ الشارع له، ووصفه بأنه منكر من القول وزوراً.
الثاني: ختم الآية بقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} مشعر بقيام سبب الإثم، فدلّ على التحريم.
قال ابن الفرس: «إخباره تعالى أنه معفو عنه، ويغفر، ولا يعفي ويغفر إلا على المذنبين»
(1)
.
الثالث: ايجاب الكفارة يدل على التحريم، وكونه كبيرة.
قال ابن القيم: «ومنها: أن الظهار حرام لا يجوز الإقدام عليه؛ لأنه كما أخبر الله عنه منكر من القول وزور، وكلاهما حرام
…
، وختم سبحانه الآية بقوله تعالى:{وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} وفيه إشعار بقيام سبب الإثم، الذي لولا عفو الله ومغفرته لآخذ به»
(2)
.
• الحكم الثاني: لا يختص الظهار بقوله: «كظهر أمي» بل يشمل تشبيه الزوجة بظهر من تحرم عليه على التأبيد، كجدته، وعمته، وخالته، وأخته، ونحو ذلك
(3)
.
مأخذ الحكم: أطلقت الآية تحريم المظاهرة من نساء الزوج، ولم تخص الأم دون غيرها، ومن قصره على الأم فقد خصَّ بلا دليل.
وكونه منكراً وزوراً، سواء كان على الأم أو على كل ذات محرم.
قال ابن القيم: «والفرق بين جهة كونه منكراً، وجهة كونه زوراً، أن قوله: أنتِ
(1)
أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 524).
(2)
ينظر: زاد المعاد (5/ 525).
(3)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (17/ 279)، والإكليل (3/ 1236)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 524)، وتيسير البيان (4/ 196، 197)، وأضواء البيان للشنقيطي (6/ 515).
عليَّ كظهر أمي، يتضمن إخباره عنها بذلك، وإنشاءه تحريمها، فهو يتضمن إخباراً وإنشاء، فهو خبر زور، وإنشاء منكر، فإن الزور هو: الباطل خلاف الحق الثابت، والمنكر: خلاف المعروف»
(1)
.
• الحكم الثالث: عدم صحة الظهار من الأمة
(2)
.
مأخذ الحكم: أن الله عز وجل أناط حكم الظهار بالنساء في قوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} ومطلقه ينصرف إلى الزوجات. قال الموزعي: «لأنها من جماعة النساء كالزوجة»
(3)
. وقال ابن الفرس: «لأن لفظ النساء يعم الحرائر والإماء»
(4)
.
• الحكم الرابع: صحة ظهار العبد والكافر
(5)
.
مأخذ الحكم: لعموم قوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ} فيشمل الكافر، وكونه مخاطباً مكلفاً.
(6)
.
قال السيوطي: «واستدل مالك بقوله {مِنْكُمْ} على أن الكافر لا يدخل في هذا الحكم»
(7)
.
(1)
ينظر: زاد المعاد (5/ 525).
(2)
ينظر: المغني (11/ 56)، والإكليل (3/ 1235)، وتيسير البيان (4/ 197).
(3)
تيسير البيان (4/ 197).
(4)
تيسير البيان (3/ 525 - 526).
(5)
ينظر: المغني (11/ 56).
(6)
تيسير البيان (4/ 197)، وينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 526).
(7)
الإكليل (3/ 1235).
• الحكم الخامس: وجوب الكفارة على المظاهر بالإجماع
(1)
.
مأخذ الحكم: قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي: فعليه تحرير رقبة، والمقدَّر كالملفوظ، وكذا قوله:{فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} وقوله: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} .
وكذا ختم الآية: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي: محارمه، فأمر باجتنابها.
تتمة: قال الموزعي: «وقد أجمع أهل العلم على أنها على الترتيب، كما بينها الله تعالى»
(2)
.
• الحكم السادس: تحريم الوطء إلى ما بعد أداء الكفارة بالإجماع
(3)
.
مأخذ الحكم: ظاهر النص؛ لقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} فاشترط سبحانه العتق قبل الوطء، وكذا صيام الشهرين المتتابعين.
وقيل الإطعام مفهوم الأولى، حيث إنه سبحانه اشترط عدم الوطء مع الصيام الذي يطول زمنه، فاشتراطه مع الإطعام الذي لا يطول زمنه أولى
(4)
.
ومأخذ من قال بجواز الوطء قبل الإطعام خاصة: سكوت الآية عن ذلك، وما سكت الله عنه فهو عفو، بل وتقييده العتق والصيام قبل المسيس، وسكوته عن الإطعام لفائدة مقصودة، ولا فائدة إلا تقييد ما قيَّده، وإطلاق ما أطلقه.
• الحكم السابع: تجب الكفارة بالعود لا بنفس الظهار
(5)
.
(1)
ينظر: تيسير البيان (4/ 200).
(2)
تيسير البيان (4/ 203)، وينظر: الإكليل (3/ 1235).
(3)
ينظر: المغني (11/ 66)،، والإكليل (3/ 1235)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 530)، وتيسير البيان (4/ 205).
(4)
ينظر: زاد المعاد (5/ 338).
(5)
ينظر: الإكليل (3/ 1235)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 527)، وتيسير البيان (4/ 200).
مأخذ الحكم: تعليق الله عز وجل الكفارة بالعود بقوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} ، وهو قول الجمهور.
(1)
.
تتمة: اختلف الجمهور في العود، بم يكون:
فقيل: بالعزم على الجماع، وقيل: بالعزم على الإمساك، وقيل: عليهما، فمتى انفرد أحدهما دون الآخر لم تجب الكفارة، وقيل: العود هو الوطء نفسه
(2)
.
تنبيه: من قال تجب الكفارة بمجرد الظهار، قالوا: المراد بالعود في الآية هو العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية من التظاهر، أي: من عاد إلى الظهار بعد تحريمه في الإسلام فعليه الكفارة.
باب اللعان
قال السيوطي في الإكليل: «هذه أصل اللعان»
(3)
.
(1)
تيسير البيان (4/ 201).
(2)
ينظر: تيسير البيان (4/ 201 - 202)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 527 - 528).
(3)
الإكليل (3/ 1010).
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: شرط اللعان سبق قذف
(1)
.
مأخذ الحكم: ظاهر الآية وسياقها أنها في معنى الشرط؛ لذا جاء الجواب مقترناً ب «الفاء» {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ}
• الحكم الثاني: لا يكون اللعان إلا بين زوجين
(2)
.
(3)
.
وقال الموزعي: «فيدخل فيها كل من كان يصلح له الخطاب من ذوي التكليف، فيصح من كل زوج يصح طلاقه ويمينه، سواء كانا حرين، أو عبدين، مسلمين أو كافرين، أو أحدهما حراً والآخر عبداً، أو أحدهما كافراً، والآخر مسلماً
…
»
(4)
.
مأخذ الحكم: العموم في صيغة اسم الموصول في قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} وكذا ضمير الجمع في قوله: {يَرْمُونَ} .
• الحكم الثالث: لا يقام اللعان مع وجود البينة
(5)
.
قال السيوطي: «واستدل بقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} من قال: لا لعان
(1)
ينظر: الإكليل (3/ 1010)، وتيسير البيان للموزعي (1/ 149).
(2)
ينظر: الإكليل (3/ 1010)، وتيسير البيان للموزعي (. . .).
(3)
الإكليل (3/ 1010).
(4)
ينظر: تيسير البيان (4/ 58).
(5)
ينظر: الإكليل (3/ 1011).
إذا أقام البينة على زناها»
(1)
.
مأخذ الحكم: مفهوم الحصر، وهو إن كان لهم شهداء غير أنفسهم فلا لعان.
• الحكم الرابع: للعان صيغة، وهي أن يقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين أربعاً، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين
(2)
.
مأخذ الحكم: الأمر بذلك كما هو نص الآية بقوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} .
وقوله: {فَشَهَادَةُ} كالجواب للشرط -كما سبق- أو على تقدير «عليه» أي: فعليه أن يشهد أربع شهادات.
• الحكم الخامس: اللعان شهادة لا يمين
(3)
.
مأخذ الحكم: تسمية الشارع له بالشهادة في قوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} .
قال السيوطي: «فاستدل به من لم يجز إبدال (أشهد) ب (أحلف) أو (أقسم) ونحوه»
(4)
.
ولم يقبل أبو حنيفة لعان الكافرين أو العبيد؛ لأن المراد بالآية من تجوز شهادته من الأزواج، وهم مستثنون من الشهادة بقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} .
قال ابن الفرس: «فسماهم شهداء بذلك؛ إذ المستثنى من جنس المستثنى منه،
(1)
ينظر: الإكليل (3/ 1011).
(2)
ينظر: الإكليل (3/ 1011)، وتيسير البيان للموزعي (3/ 349).
(3)
ينظر: الإكليل (3/ 1011).
(4)
الإكليل (3/ 1011).
وقال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} فدل على أن اللعان شهادة، والعبد لا تجوز شهادته، وليس ذلك بصحيح؛ لأن الاستثناء منقطع، والمعنى فيه: ولم يكن لهم شهداء غير قولهم الذي ليس بشهادة، كما قالوا الصبر حيلة من لا حيلة له، والجوع زاد من لا زاد له. فاللعان يمين وليس بشهادة، وإنما أخذ من باب الشهادة بالعين والقلب، فسمي شهادة لهذه العلة، فالخلاف يرجع إلى أن اللعان هل هو يمين أو شهادة؟» ا. هـ
(1)
.
واستدل ابن العربي بالاستقراء على أنها يمين، فقال:«والفيصل في أنه يمين، لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواها، وتخليصه من العذاب؛ وكيف يجوز لأحد أن يدعي في الشريعة لنفسه بما يوجب حكماً على غيره؟ هذا بعيد في الأصل، معدوم في النظر»
(2)
.
ذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في كونها شهادة أو يمين، والخلاف المبني على ذلك من كون القائل يكون اللعان شهادة لا يصح عنده اللعان إلا ممن تجوز شهادته، ثم قال: «وأظهر الأقوال عندي: أنها أيمان مؤكدة بالشهادة، وأن لفظ الشهادة ربما أطلق في القرآن، مراداً بها اليمين، مع دلالة القرائن على ذلك، وإنما استظهرنا أنها أيمان لأمور:
الأول: التصريح في الآية بصيغة اليمين في قوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} ؛ لأن لفظة {بِاللَّهِ} يمين، فدلَّ قوله {بِاللَّهِ} على أن المراد بالشهادة اليمين؛ للتصريح بنص اليمين، فقوله: أشهد بالله في معنى: أقسم بالله.
الثاني: أن القرآن جاء في إطلاق الشهادة، وأراد اليمين في قوله:{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة: 10]، ثمَّ بيَّن أن المراد بتلك الشهادة اليمين في
(1)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 346).
(2)
ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 353).
قوله {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 108]، فقوله:{أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} دليل على أن المراد بلفظ الشهادة في الآية اليمين، وهو واضح كما ترى
…
الثالث: ما قاله ابن العربي: قال: والفيصل أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه، وتخليصه من العذاب، وكيف يجوز لأحد أن يدعي في الشريعة أن شاهداً يشهد لنفسه بما يوجب حكماً على غيره. هذا بعيد في الأصل، معدوم في النظر أ. هـ. بواسطة نقل القرطبي»
(1)
أ. هـ.
وقد أشار الموزعي لبعض ما ذكره الشيخ الأمين، وقال مؤكداً؛ لكونها يمين: «وقد ورد في بعض ألفاظ حديث هلال بن أمية: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن) اه
(2)
.
(3)
.
• الحكم السادس: لعان الرجل زوجته يوجب عليها حد الزنى ما لم تدفعه
(4)
.
مأخذ الحكم: بيان الشارع ما يدرأ به العذاب، بقوله:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8]، ومفهومه إن لم تشهد فإن العذاب حال عليها.
قال الشيخ محمد الأمين: «ومفهوم مخالفة الآية يدل على أنها لو نكلت عن شهاداتها، لزمها الحد بسبب نكولها مع شهادات الزوج، وهذا هو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه»
(5)
.
(1)
أضواء البيان (5/ 466 - 447).
(2)
أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب اللعان، برقم (2256).
(3)
ينظر: تيسير البيان للموزعي (4/ 60).
(4)
ينظر: الإكليل (2/ 1110)، وتيسير البيان للموزعي (4/ 61).
(5)
ينظر: أضواء البيان (5/ 464).
(1)
.
• الحكم السابع: لا يجوز تقديم لعانها على لعانه
(2)
.
مأخذ الحكم: البدء بما بدأ به الله، كما أن في قوله:: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} الآية، ما يقضي أن يكون لعانها بعد أن يحق عليها العذاب بلعان الزوج حتى يدرأ.
• الحكم الثامن: من رمى زوجته برجل مخصوص سماه مع لعانه لزوجته لم يحد حد القذف
(3)
.
مأخذ الحكم: قال ابن الفرس: «وقال الشافعي لا يحد؛ لأن الله تعالى قد صدقه في نفس الواقعة مع أيمانه، فصار ذلك شبهة في درء الحد عنه»
(4)
.
• الحكم التاسع: لا يقع باللعان فراق، وإنما يسقط به النسب والحد، وهما على الزوجية كما كانا.
مأخذ الحكم: لسكوت الآية عن ذلك.
قال ابن الفرس: «وهذا القول أضعف الأقوال؛ لما جاء في ذلك من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في ذلك ما يعارض القرآن، والجمع بين القرآن والحديث ما
(1)
ينظر: أضواء البيان (5/ 464 - 465).
(2)
ينظر: الإكليل (3/ 1011)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3، 351)، وتيسير البيان للموزعي (4/ 64).
(3)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 348).
(4)
ينظر: أحكام القرآن (3/ 348).
أمكن أولى من الأخذ بأحدهما والإطراح للآخر
(1)
.
وقال إسماعيل القاضي: إنما وقت الفرقة بتمام اللعان من أجل أن الغضب واللعنة قد حقَّت على أحدهما، واللعن للكفار، فهما وإن لم يكونا بذلك كافرين ولا أحدهما، وهو كاذب وهي كاذبة فقد حقَّت اللعنة، فلا يجوز أن تكون مسلمة تحت ملعون، ولا ملعونة تحت مسلم، إذا وقع التشبيه بين الكافر وبين الملاعن باللعن، قال الله عز وجل:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، والظالمون هنا: الكافرون، قال ذلك ترجمان القرآن ابن عباس» اه
(2)
.
باب العِدّة والإحداد
قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 228].
استدلَّ بالآية على الأحكام الآتيَّة:
• الحكم الأول: وجوب العدة على المطلقات طلاقاً رجعياً أو بائناً
(3)
، بشرط الدخول كما، لقوله تعالى:{ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49].
مأخذ الحكم: والوجوب لكونه خبرًا بمعنى الأمر، أي: عليهن أن يتربصن.
وكونه عامًا للبائن والرجعي؛ لأنّه جمع معرف {وَالْمُطَلَّقَاتُ} ، فيعمّ كل مطلقة إلّا ما خصّ منه الدليل.
(1)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 352).
(2)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 352).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 415).
• الحكم الثاني: عدَّة المطلَّقة: ثلاثة قروء لمن تحيض
(1)
.
مأخذ الحكم: نصّ الآية، إذ الأعداد نصوص في دلالتها.
• الحكم الثالث: عِدَّة المستحاضة ثلاثة قروء
(2)
.
مأخذ الحكم: لعموم الجمع المعرّف في قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} ، فتدخل المستحاضة في عمومه؛ لأنها مطلَّقة.
• الحكم الرابع: لا يحل للحامل أن تكتم حملها، ولا يحل لها إن كانت حائضاً أن تكتم حيضها
(3)
.
مأخذ الحكم: ورود التحريم بأسلوب الخبر عنه في قوله: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ} ، ولقوله:{إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} مما يدل على أن فعل ذلك فيه خلل بالإيمان، والخلل به محرم، ولقول ابن عمر رضي الله عنهما فقد ذكر الحكم المذكور والمستنبط من الآية
(4)
.
• الحكم الخامس: قبول قول الحائض بالحيض، فيما لو قالت: حضت، وقد علق الطلاق على حيضها فإنّه يقع.، وكذا الحامل بالحمل
(5)
.
مأخذ الحكم: كون النهي عن الشيء أمراً بضده، فنهى عن الكتمان وضده الأمر بإظهاره.
كما أنه لا يجب عليها الإظهار إلّا لأجل العمل به، وإلّا لما كان
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 415)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 321).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 415 - 416)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 321).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 416)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 319).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 416).
(5)
ينظر: الإكليل (1/ 416)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 320، 321).
للإظهار فائدة.
قال السيوطي: «قال العلماء وإنما نهين عن الكتم لئلا يبطل حق الزوج من الرجعة لمن أراد رجعتها قبل الوضع، ولئلا تضر به في النفقة إن قالت لم أحض.
قال ابن الفرس: وعندي أن الآية عامة في جميع ما يتعلق بالفرج، من بكارة وثيوبة وعيب؛ لأن كل ذلك مما خلق الله في أرحامهن، فيجب أن يصدقن فيه»
(1)
.
قلت ومأخذ كلامه من قوله: {مَا خَلَقَ اللَّهُ} فهو عام بصيغة {مَا} الموصولة، فيتحقق المجتهد مناط ما خلق في الرحم، وما ذكره ابن الفرس إن قيل: إنّ العلة هي كون هذه الأمور مما لا يُعرف إلّا عن طريقها، فتدخل في عموم ما خلق الله.
• الحكم السادس: عدم جواز خطبة المعتدة من طلاق رجعي مطلقًا
(2)
.
مأخذ الحكم: دلت الآية على الحكم بإشارتها؛ لأن الله سبحانه أثبت للزوج الحق في الرجعة، وما دامت في عدتها فهي زوجته، فلا يجوز الاعتداء على حقه بخطبتها.
تنبيه: سيقت الآية لبيان أحقية الزواج باسترجاع زوجته، إن أراد ذلك وأبتها المرأة، فيجب إيثار قوله على قولها، فهو أحق منها، لا أن لها حقًا في الرجعة.
(1)
الإكليل (1/ 417).
(2)
ينظر: تيسير البيان للموزعي (2/ 100).
استدل بالآية على أحكام خطبة المعتدَّة والعقد عليها، وسبق بيانها ومآخذها، عند الحديث عن أحكام الخطبة، من كتاب النكاح.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49].
استدلَّ بالآية على الأحكام الآتية على أنَّ المطلَّقة قبل الوطء لا عدَّة عليها
(1)
.
قال الموزعي: «وأما العدة من الطلاق فلا تجب عليها بإجماع المسلمين»
(2)
.
مأخذ الحكم: نفى سبحانه العدَّة عنها فقال: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} ، وأكد ذلك بورود {عِدَّةٍ} نكرة مسوقة ب (مِنْ)، وبقوله:{تَعْتَدُّونَهَا} ، وهي كذلك فعل، والأفعال نكرات، أي: أي عدة يمكن الاعتداد بها.
استدلَّ بالآية على أنَّ المطلَّقة الرجعية تعتد وتلزم بيتها التي طلقت فيه، ولا تخرج منه.
قال ابن الفرس: «وهو لازم للمطلَّقة الرجعية؛ بإجماع العلماء»
(3)
.
(1)
ينظر: الإكليل (3/ 1112)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 427)، وتيسير البيان للموزعي (4/ 119).
(2)
تيسير البيان للموزعي (4/ 120).
(3)
أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 573).
مأخذ الحكم: نهى المولى سبحانه الأزواج من إخراجهن، ونهين عن الخروج، بصيغة النهي الصريحة.
قال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].
استدلَّ بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: أنَّ عدة الآيسة من الحيض والصغيرة التي لم تحض ثلاثة أشهر.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله: {فَعِدَّتُهُنَّ} ، إذ هو كجواب الشرط المتضمن في الاسم الموصول في قوله {وَاللَّائِي} ، أي: إن كانت آيسة فعدتها ثلاثة أشهر.
قال الشيخ محمد الأمين الهرري في إعراب الآية: «قوله {وَاللَّائِي} مبتدأ، وخبره قوله {فَعِدَّتُهُنَّ}، وقوله {إِنِ ارْتَبْتُمْ} اعتراض، وجواب الشرط محذوف تقديره: أي إن ارتبتم فيها فاعلموا أنها ثلاثة أشهر، كذا قالوا»
(1)
.
والمقصود أن قوله {فَعِدَّتُهُنَّ} على الإعراب السابق ليست جواباً للشرط في قوله {إِنِ ارْتَبْتُمْ} ، والله أعلم.
• الحكم الثاني: عِدَّة الحامل بالوضع.
مأخذ الحكم: قوله ا {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} خبر بمعنى الأمر.
• الحكم الثالث: يشمل الحمل: الولد، والعلقة، والمضغة.
(1)
تفسير حدائق الروح والريحان (29/ 418).
• الحكم الرابع: لا تنقضي العدة بوضع أول التوأمين.
مأخذ الحكمين: إن الحمل اسم لما في البطن، فيشمل الولد والعلقة والمضغة، كما أن وضع أحد التوأمين وضع لبعض الحمل لا للحمل؛ فإن الباقي يصدق عليه حملاً، فلا تنقضي العدة إلا بوضعه.
وقد ورد في قراءة بلفظ: (أحمالهن).
قال الرازي: «وقرئ (أحمالهن)
…
الحمل اسم لجميع ما في بطنهن، ولذا لم يقل سبحانه (أن يلدن)»
(1)
.
جمهور أهل العلم على أن الآية الأولى منسوخة بالآية الثانية، ونُقِل عن مجاهد أنها غير منسوخة، وأنها معمول بها مع الآية الثانية، وأنَّ الله أوجب على المعتدّة أربعة أشهر وعشراً لا تخرج من بيتها، ثمَّ جعل لها تمام الحول وصية لها إن شاءت أقامت، وإن شاءت خرجت
(2)
.
قال السيوطي: «والأكثرون على أنها منسوخة. ثمَّ قيل: نُسخ كلها، الاعتداد حولاً بالآية السابقة، والوصية بالمتاع والسكنى بآية الميراث. وقيل: نُسخت إلا
(1)
التفسير الكبير (10/ 563).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 436).
السكنى فهي لها ثابتة»
(1)
. أ. هـ
قلت: ويستدل بالآية على عدم جواز عقد النكاح حتى تنتهي العدة.
مأخذ الحكم: دلت الآية بمفهوم شرطها المخالفة أن على المرأة الجناح إذا فعلت في نفسها قبل بلوغ الأجل ولاشك في ذلك، وقد ذكره الله سبحانه بعد هذا بلفظ أوضح من هذا فقال:{وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235].
باب الرضاع
استدلَّ بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب إرضاع الأم لولدها
(2)
.
مأخذ الحكم: كون قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} خبر بمعنى: الأمر، فقيل بالوجوب بناء على أصل الأمر، ومقتضاه.
وقال بعض العلماء: بالندب، وجعلوا الصارف آية سورة الطلاق؛ إذ هي مبينة لآية سورة البقرة، وآية الطلاق علّقت استحقاق الأجرة على الإرضاع {فَإِنْ أَرْضَعْنَ
(1)
الإكليل (1/ 436).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 426)، وأحكام القرآن (1/ 337)، وتيسير البيان (2/ 74، 79).
لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فجعلت الأجرة مقابل الإرضاع، والخيرة ترجع للأم، ولا واجب مع الاختيار.
كما أنّهم قالوا: إنّ سياق آية البقرة لبيان مدة الإرضاع لا لبيان إيجابه وحكمه.
تنبيه: أوجب بعض العلماء الرَّضاع على الأم ما دامت في العصمة، لسياق الآية لقوله:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} ومعلوم أنّ الرزق والكسوة يكون لمن كانت في العصمة.
وقيل إذا مات الأب أو كان معسراً ولا مال للابن؛ لأنّ إرضاع الطفل واجب، ولا يتم إلّا بواسطة المرضعة الأم؛ لأجل إعسار الأب، وسيأتي قوله:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} أنّه لا يجوز للأم الامتناع، إذا لم يوجد غيرها، أو لم يقبل إلّا ثديها.
• الحكم الثاني: يمنع الأب من استرضاع غيرها إذا طلبت الأم أجرة ووجد متبرعة
(1)
.
مأخذ الحكم: لقوله: {يُرْضِعْنَ} ، فلم يجعل المولى لغيرهن حظًا في الإرضاع.
• الحكم الثالث: منتهى الرضاع حولان، فلا يجوز فطمه قبل الحولين
(2)
.
مأخذ الحكم: لما كان الحول يطلق على الكامل وعلى معظم الحول، أكده سبحانه بقوله:{كَامِلَيْنِ} والمقصود تمام الرضاع يكون بالحولين، ومفهومه عدم جواز إفطامه، قبل ذلك، لكن هذا المفهوم غير مراد، كما سيأتي في سياق الآية
• الحكم الرابع: لا رضاع بعدهما مثبت للتحريم
(3)
.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 426)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 338)، وتيسير البيان (2/ 84).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 426)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 339، 340)، وتيسير البيان (2/ 76).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 426)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 338، 340)، وتيسير البيان (2/ 77).
مأخذ الحكم: مفهوم العدد، وهو أن ما زاد على الحولين ليس له حكم لبن الرضاع، فلا يثبت به التحريم.
ويؤكد هذا المفهوم قوله عليه الصلاة والسلام: (إنّما الرضاعة من المجاعة)
(1)
، وورد مرفوعًا وموقوفًا عن ابن عباس -والموقوف أصح- (لا رضاع بعد الحولين)
(2)
، فهو إذا بعد الحولين لبن طعام فقط، كسائر الأغذية غير معتبر في التحريم. وسيأتي مزيد بيان في مسألة رضاع الكبير.
• الحكم الخامس: يشترط في فطمه تشاور الأبوين في ذلك واتفاقهما، وأنه لا يستقل أحدهما بالفطم قبلهما بخلاف ما بعدهما
(3)
.
مأخذ الحكم: قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} من الأساليب الدالة على الجواز، وقد علق على شرطين، ولا يثبت الحكم إلّا بثبوتهما، ومفهوم الشرط عدم جواز فطامه عند انتفائها، أو انتفاء أحدهما.
وقال الموزعي: «ومفهوم الخطاب يقتضي أن الوالدة إذا فصلت ولدها غير مشورة على الأب أنه لا يجوز، وهو كذلك، والله أعلم»
(4)
.
• الحكم السادس: جواز اتفاق الأبوين على استرضاع الولد من غير الأم
(5)
.
مأخذ الحكم: لتعليق سبحانه نفي الجناح على الإرادة، ونفي الجناح يدل على الجواز، وإن لم يعلق على الإرادة، فكيف وقد علق عليها، فقال سبحانه:
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الشهادة، باب الشهادة على الأنساب، برقم (2504)، ومسلم في كتاب الرضاع، باب إنما الرضاعة من المجاعة، برقم (1455).
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1/ 271)، في باب ما جاء في ابنة الأخ من الرضاعة، برقم (987).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 426)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 344)، وتيسير البيان (2/ 76، 83).
(4)
تيسير البيان (2/ 83 - 84).
(5)
ينظر: الإكليل (1/ 428)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 345).
{وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} .
• الحكم السابع: إباحة الاستئجار للرضاع
(1)
.
مأخذ الحكم: لنفي الجناح الوارد في الآية وفي سورة الطلاق قال سبحانه: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فصرح بأن الأجرة مقابل الرضاعة.
قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: تحريم نكاح الأمهات والأخوات من الرضاعة
(2)
.
مأخذ الحكم: ورود التحريم بلفظه الصريح {حُرِّمَتْ} ، وهو خبر عن الحكم، ثمَّ عطف على المحرمات الأمهات والأخوات من الرضاعة بقوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} ، والعطف يقتضى الجمع بينهما في الحكم.
ثمَّ إنَّ التحريم المضاف إلى الأعيان يكون المراد منه تحريم ما يتعلق بالأعيان من أفعال، لأن الأعيان ليست مورداً للتحليل والتحريم، وإنما يتعلق الحل والحرمة بأفعال المكلفين، وعليه فالمحرَّم هنا نكاح الأمهات والأخوات من الرَّضاعة.
تنبيه: قوله: (وَأُمَّهَاتُكُمُ) جمع مضاف فيعم اللواتي أرضعننا وأمهاتهن وإن علون. وقوله: {وَأَخَوَاتُكُمْ} جمع مضاف فيعم الأخوات، فيعم كل امرأة
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 428)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 345)، وتيسير البيان (2/ 84).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 534)، وتيسير البيان (2/ 315).
أرضعتك أمها، أو أرضعتها أمك، أو أرضعتك وإياها امرأة واحدة، أو ارتضعت أنت وهي من لبن رجل واحد، كرجل له امرأتان لهما منه لبن، أرضعتك إحداهما، وأرضعتها الأخرى.
• الحكم الثاني: التحريم برضاع الكبير
(1)
.
مأخذ الحكم: أطلق سبحانه الإرضاع في الآية ولم يقيده بصفة، فظاهر الآية أن مطلق الإرضاع يحرم، سواء كان في الحولين أو بعدها، والظاهر لا يعدل عنه إلا بدليل.
نوقش: بأن العلماء عدلوا عن ظاهر هذا الإطلاق إلى تقييده بالقرآن والسنة.
أما القرآن فقد استنبط بعض أهل العلم من قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} البقرة: 233 أن الرضاع المحرِّم ما كان في مدة الحولين، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم:(إنما الرضاعة من المجاعة)
(2)
، والمجاعة إنما تثبت في حق من يقوم له الرضاع مقام الغذاء عند الجوع، وهذا إنما يكون في الحولين.
تتمة: عدل العلماء كذلك عن ظاهر الآية وقيدوا إطلاق الرضاع بقيد آخر، وهو العدد، واختلفوا في قدر ما يحرم من الرضاع، فقيل المصة الواحدة تحرّم، وقيل الثلاث، وقيل الخمس، وقيل: العشر
(3)
.
• الحكم الثالث: لا يحرم الرضاع من البهيمة
(4)
.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 535).
(2)
سبق تخريجه قريباً.
(3)
ينظر: تيسير البيان (2/ 315 - 325)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 127).
(4)
ينظر: الإكليل (2/ 535).
(1)
.
مأخذ الحكم: مفهوم الصفة في قوله: (وَأُمَّهَاتُكُمُ)، فأضاف الرضاع إلى الأم المرضعة من بني آدم.
قال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14].
وقال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15].
استدلَّ بالآيتين على مدَّة الرَّضاع. والفصال هو الفطام.
قال ابن الفرس عن آية سورة لقمان: «فيه إشارة إلى تقدير مدَّة الحمل، فعبَّر عنه بغايته»
(2)
.
وقال عن آية سورة الأحقاف: «وإنَّما ذكر الله تعالى في هذه الآية أقلَّ مدَّة الحمل والرضاع، فيجب من هذا أنَّ أقلَّ مدَّة الحمل ستة أشهر، وأقلَّ ما يرضع الطفل عام وتسعة أشهر، وإكمال العامين هو لمن أراد أن يتم الرَّضاعة»
(3)
.
مأخذ الحكم: يمكن بيانه بالأمور الآتية:
أولاً: تقدير محذوف في الآية.
(4)
.
(1)
الإكليل (2/ 535).
(2)
أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 415).
(3)
أحكام القرآن (3/ 479).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (14/ 61).
وقال ابن الفرس: «النَّاس متفقون على تحديد العامين في مدَّة الرَّضاع في باب النفقات والأحكام المتعلقة به، أمَّا تحريم اللبن فقد مر الكلام عليه مستوعباً»
(1)
، أي في سورة البقرة.
وقال القرطبي بعد أن ذكر مثل كلام ابن الفرس: «فحدَّدت فرقة بالعام، لا زيادة ولا نقص. وقالت فرقة: العامان وما اتصل بهما من الشهر ونحوه إذا كان متصل الرَّضاع. وقالت فرقة: إن فُطِم الصبي قبل العامين وترك اللبن، فإن ما شرب بعد ذلك في الحولين لا يحرَّم، وقد مضى هذا في البقرة مستوفى»
(2)
.
ثانياً: تفسير الصحابي، وقد روي أنَّ ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال:(إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع واحدٌ وعشرون شهراً، وإذا وضعت لسبعة أشهر كفاه من الرَّضاع ثلاثة وعشرون شهراً، وإذا وضعت لستة أشهر فحولين كاملين؛ لأن الله تعالى قال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا})
(3)
.
قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]
استدلَّ بالآية على أنَّ الأم إذا طلبت إرضاع الطفل بأجرة مثل، وجب على الأب دفعها إليها
(4)
.
مأخذ الحكم: تعليق الأجرة على الشرط وهو الإرضاع، فإن تحقق الشرط فليس من حق الأب البحث عن مرضعة بديلة عنها، وتكون الأم هي الأحق بذلك.
(1)
أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 415).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (14/ 61).
(3)
ينظر: الإكليل (3/ 1183).
(4)
ينظر: الإكليل (3/ 11264).
باب النفقات
قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]
(1)
.
مأخذ الحكم: ما ذكره السيوطي، وبيانه: أنّ الإمساك بمعروف لا يكون إلا بالقيام بما يجب عليه من حق على زوجها، ومنها النفقة، والواجب تسريح بإحسان عند العجز، قوله:{فَإِمْسَاكٌ} أو {أَوْ تَسْرِيحٌ} مصدران نابا عن فعلهما، والمصدر النائب عن فعله من صيغ الوجوب.
فإن قيل: العاجز عن النفقة غير مكلف بالإنفاق.
يقال: نعم غير مكلف لعجزه، لكنه مكلف بالتسريح؛ لأنّه مقدور عليه.
تنبيه: ذكر السيوطي استنباطاً يقتضي عدم فسخ النكاح في موضعين آخرين، فقال في قوله:{إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ} [النور: 32]: «قال ابن الفرس: واحتج بعضهم بهذه الآية على أنه لا يفسخ النكاح بالعجز عن النفقة؛ لأنه قال: {يُغْنِهِمُ اللَّهُ}، ولم يفرق بينهم»
(2)
.. أ. هـ.
(3)
.
(1)
الإكليل (1/ 423)، وينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 334).
(2)
الإكليل (3/ 1031)، وينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 376).
(3)
الإكليل (3/ 1265 - 1266).
استدلَّ بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: على الأب أجرة الرضاع للأم إذا طلبتها سواء كانت في عصمته أم لا
(1)
.
مأخذ الحكم: أن لفظ (على) في قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} من الألفاظ الدالة على الوجوب.
وعليه فإن كانت في عصمته، اكتفي بالإنفاق عليها باسم الزوجية، {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} ، فالزوجة تستحق النفقة والكسوة أرضعت أم لم ترضع؛ لأنّ النفقة والكسوة مقابل التمكين.
وإن كانت خارج عصمته فلها الإنفاق على المولود من أجل الإرضاع، والأجرة كما في آية الطلاق:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} .
• الحكم الثاني: أن المراعَى في ذلك حال الزوج يساراً وإعساراً وتوسطاً، لا الزوجة ولا هما
(2)
.
مأخذ الحكم: أنَّ قوله {نَفْسٌ} ، في قوله:{لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} نكرة في سياق نفي فتعمّ، ويدخل فيها الزوج أصالة فيعتبر حاله؛ لأنّه المقصود، وهو الذي
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 426)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 340، 341)، وتيسير البيان (2/ 78).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 426)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 340).
تجب عليه النفقة. فحصر الشارع التكليف على الوسع،؛ فإنّ كان فقيرًا، فإنّه لا يلزم إلّا بنفقة الفقير، وكذا إن كان غنيًا أو متوسطًا كل حسب حاله.
• الحكم الثالث: أن الأم إذا رضيت بما ترضى به الأجنبية فلا تضار بانتزاع الولد منها، وأن الأب إذا وجد متبرعة فلا يضار بإلزامه الأجرة للأم، وكذا على الوارث أن لا يضار الأم كما أن على الأب أن لا يضارها
(1)
.
مأخذ الحكم: النهي الوارد بصيغته.
تنبيه اختلف في عود اسم الإشارة في قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} . هل تعود على الرَّضاع والنفقة والكسوة وعدم المضارَّة، أو تعود للمضارَّة فقط؟
فقيل على المضارَّة، أي: «ألا يضار. وقيل: إلى النفقة والكسوة، فاستدل به من أوجب ذلك على الوارث من عصبة الميت. وقيل: عصبة المولود نفسه؛ لأنه وارث أبيه. والمعنى أن ذلك واجب في ماله يعطي منه الأم الأجرة، بهذا فسره الضحاك وغيره واختاره ابن جرير وغيره، كما ذكره السيوطي
(2)
.
وقيل: لو أراد الجميع لقال: وعلى الوارث مثل هؤلاء،، فدلّ على أنّه معطوف على المنع من المضارة؛ ولأنّه أقرب مذكور.
استدلَّ بالآية على وجوب نفقة الزوجة على الرجل
(3)
.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 427).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 427).
(3)
ينظر: الإكليل (2/ 504)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 53).
مأخذ الحكم: حمل قوله {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} على معنى: أن لا تكثر عيالكم، وبه قال الشافعي، وقيله هو حجة في اللغة؛ لذا استنبط السيوطي الحكم من كلامه
(1)
.
وقالوا: {أَلَّا تَعُولُوا} ، أي: ألا تفتقروا. يقال: رجل عائل، أي: فقير؛ لأنه إذا قلَّ عياله قلَّت نفقاته، وإذا قلَّت نفقاته لم يفتقر
(2)
.
وذكر الموزعي أنَّ المعروف في اللغة أن معنى {أَلَّا تَعُولُوا} أي: لا تميلوا، ولا تجوروا، ثمَّ دافع عن الشافعي، ورد على من وصف قوله بالشذوذ، أو أنه خارق اللغة، وحمل كلام الشافعي على أنه من باب التعبير عن الشيء بسببه؛ فإن من كثر عياله كثر عوله، أي نفقته
(3)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وظن طائفة من العلماء أنَّ المراد أن لا تكثر عيالكم، وقالوا: هذا يدل على وجوب نفقة الزوجة، وغلَّط أكثر العلماء من قال ذلك لفظاً ومعنى.
أما اللفظ فلأنه يقال: عال يعول إذا جار. وعال يعيل إذا افتقر. وأعال يعيل إذا كثر عياله، وهو سبحانه قال {تَعُولُوا} لم يقل: تعيلوا. أمَّا المعنى فإن كثرة النفقة والعيال يحصل بالتسري كما يحصل بالزوجات، ومع هذا فقد أباح مما ملكت اليمين ما شاء»
(4)
.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 504).
(2)
ينظر: التفسير الكبير للرازي (3/ 489).
(3)
ينظر: تيسير البيان (2/ 224).
(4)
مجموع الفتاوى (32/ 70 - 71).
قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]
استدلَّ بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب الإنفاق على الزوجات
(1)
.
(2)
.
مأخذ الحكم: ورد الأمر بصيغة الخبر في قوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} .
قال القرطبي: «{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} ابتداء وخبر، أي: يقومون بالنفقة عليهن، والذبِّ عنهنَّ»
(3)
.
• الحكم الثاني: يجوز للمرأة فسخ النِّكاح عند الإعسار بالنَّفقة والكسوة
(4)
.
قال ابن الفرس: «
…
فذهب الشافعي ومالك إلى أنَّ لها ذلك؛ لأنه إذا خرج عن كونه قوَّاماً عليها، وحابساً لها، فقد خرج عن الغرض المقصود بالنِّكاح، فكان لها الفسخ لأجل ذلك، فنزلت الآية دلالة ظاهرة من هذا الوجه على أنَّ لها الفسخ عند الإعسار بالنَّفقة والكسوة»
(5)
.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 552).
(2)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 175).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 161).
(4)
ينظر: الإكليل (2/ 552).
(5)
أحكام القرآن (2/ 175).
مأخذ الحكم: أنَّ القوامة وجبت بما عُلِل به الحكم، وهو لأجل الإنفاق، وثبتت علته بطريق النقل نصَّاً أو ظاهراً، بحسب الخلاف في دلالة الباء السببية على التعليل، في قوله:{وَبِمَا أَنْفَقُوا} ، والحكم يدور مع علته، فإذا زال الإنفاق زالت القوامة.
استدلَّ بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب النفقة للمطلقة الرجعيَّة.
(1)
.
مأخذ الحكم: دلالة الالتزام؛ إذ التابع يستلزم وجود المتبوع.
• الحكم الثاني: وجوب الإنفاق على الحامل البائن حتى تنقضي عدتها
(2)
.
مأخذ الحكم: الأمر في جواب الشرط، بقوله {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} ، مع مفهوم الغاية في قوله:{حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} .
(1)
تيسير البيان (4/ 269).
(2)
ينظر: الإكليل (3/ 1264)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 175).
ومفهوم الشرط المخالف أنَّ البائن غير الحامل لا نفقة لها.
تتمة: قال الموزعي: «وإذا وجبت لها النفقة فقد وجبت لها السكنى؛ لأن النفقة تابعة للسكنى
(1)
، والتابع يستلزم وجود المتبوع»
(2)
وقال السيوطي في قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ} : «فيه وجوب السكنى للمطلقات كلهن، أو للبوائن لتقدم سكنى الرجعيات، ولقوله بعده: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} فإنه خاص بالبوائن .. »
(3)
• الحكم الثالث: نفقة الأبناء على الآباء.
وقد صرح عدد من العلماء بأن الآية أصل في وجوب النفقة للولد على والده
(4)
.
مأخذ الحكم:
الأول: أمر المولى الأب بإعطاء الأجرة على رضاع الطفل، فقال {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} .
قال ابن الفرس: «{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، أي: جميع ما يعان به الصبي، وذلك نفقته، وكسوته والأجرة على إرضاعه باتفاق»
(5)
.
(1)
هكذا في المطبوع، ولعله:«لأن السكنى تابعة للنفقة» .
(2)
تيسير البيان (4/ 269).
(3)
الإكليل (3/ 1264).
(4)
ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (4/ 1843)، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (18/ 153)، الإكليل (3/ 1265)
(5)
أحكام القرآن (3/ 584).
الثاني: صيغة الأمر في قوله: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «يجب على الرجل أن ينفق على ولده، وبهائمه، وزوجته بإجماع المسلمين»
(1)
.
• الحكم الرابع: يراعى في النفقة حال المنفق يساراً وإعساراً
(2)
.
فذكرت الآية مقدار النفقة، آمرة الوالد بأن تكون نفقته على حسب حاله، فإن كان موسراً فليوسع على أولاده، وإن كان معسراً فبحسب وسعه وطاقته.
مأخذ الحكم: ما ذكر في الحكم السابق، والأمر هنا بيان لكيفية النفقة، والمبيِّن يأخذ حكم المبيَّن، فيكون للوجوب، فتجب التوسعة على الأبناء حال اليسر، وبحسب الطاقة حال العسر، والمرجع في ضبطها عند الاختلاف إلى العرف.
تنبيه: في الآية الأولى: وجوب النفقة على الأم الحامل لأجل ولدها، وبعد الوضع تكون النفقة لأجل إرضاع الولد، فالنفقة في الحالين للولد.
باب الحضانة
قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233]
وقال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6].
استدلَّ بالآيتين على أنَّ الأم أحق بالحضانة
(3)
.
(1)
مجموع الفتاوى (8/ 535).
(2)
ينظر: الإكليل (3/ 1265).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 426)، و (3/ 1264 - 1265).
مأخذ الحكم: قياس الحضانة على الرضاعة، فكما أنّها أحق بالرضاعة فهي أحق بالحضانة، ويؤيده {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} وفي انتزاع الصغير إضرار بالأم.
قال السيوطي: «قال إلكيا وغيره: ويؤخذ من قوله: {يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} أن الأم أحق بالحضانة؛ لأن حاجة الولد إلى من يحضنه كحاجته إلى من يرضعه
(1)
.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 426).
كتاب الجنايات
الجنايات: جمع جناية.
(1)
.
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية ووجوب القصاص
(2)
.
مأخذ الحكم: الوجوب بلفظ {كُتِبَ} ، وهي خبر عن الحكم بالوجوب، و {كُتِبَ} ، بمعنى فرض.
• الحكم الثاني: لا يقتص من الرجل في قتل المرأة
(3)
.
مأخذ الحكم: دلالة مفهوم قوله: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} .
قال الموزعي: «فدلَّ الخطاب بفحواه على أن العبد يقتل بالحر، وأن الأنثى تقتل بالأنثى بالذكر؛ لأنه إذا قُتل الحر بالحر فأولى أن يُقتل به العبد، وإذا قُتلت الأنثى
(1)
المغني (11/ 443).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 339)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 153).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 339)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 154)، وتيسير البيان للموزعي (1/ 205).
بالأنثى فأولى أن تُقتل بالذكر، ولكن تخصيص هذه الأفراد الثلاثة، وهي الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى يدلُّ بطريق المفهوم على أن الحر لا يقتل بالعبد، وأن الذكر لا يقتل بالأنثى، ولكن عموم آية المائدة تقتضي أن يقتلا بهما، فهل نقضي بالمفهوم على العموم؟ أو نقضي بالعموم ويترك المفهوم؟ هذا محل نظر المجتهد، فحينئذ يفزع المجتهد إلى دلائل السنة والأصول والترجيحات عند التعارض»
(1)
، ثمَّ خاض فيها خوض المجتهدين.
نوقش: بأن هذا المفهوم متروك.
قال الطوفي: «لضعفه، ولزوم المفسدة العامة منه، وللإجماع»
(2)
.
• الحكم الثالث: الحر لا يقتل بالعبد
(3)
.
مأخذ الحكم: مفهوم قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} .
قال الطوفي: «مفهومه أنّه لا يقتل حر بعبد، وهو خاص (أي: المفهوم) فيخصص عموم: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}
…
إلخ.
وأبو حنيفة ليس المفهوم حجة عنده، وأخذ بعموم آية المائدة:{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} فقال يقتل الحر بالعبد، ولحديث:«المسلمون تتكافأ دماؤهم»
(4)
(5)
.
• الحكم الرابع: أن العافي إذا قتل بعد العفو يقتص منه
(6)
.
(1)
تيسير البيان للموزعي (1/ 206).
(2)
الإشارات (1/ 313).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 339)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 159)، وتيسير البيان (1/ 205).
(4)
أخرجه أبوداود (2751)، وابن ماجة (2683)، وصححه الألباني في الإرواء (7/ 265).
(5)
الإشارات (1/ 313)
(6)
ينظر: الإكليل (1/ 340)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 173).
قال السيوطي: «فيه أن العافي إذا قتل بعد العفو يقتص منه، وأخذ جماعة من الآية تحتم قتله وأنه لا يصح العفو عنه»
(1)
.
مأخذ الحكم: توعد الله له بعذاب أليم، على القول بأن العذاب الأليم هو القتل.
قال السيوطي: «وورد في الحديث المرسل عن قتادة (لا أعافي أحدًا قتل بعد أخذ الدية)، وهو يعتبر جانيًا عمدًا أو أشبه الجاني ابتداءًا»
(2)
.
• الحكم الخامس: سقوط القصاص بالعفو عن بعضه
(3)
.
قال الموزعي: «وفي الآية دليل على أنه إذا عُفي عن بعض الدم سقط القصاص»
(4)
مأخذ الحكم: بدلالة الإشارة.
بيَّن الموزعي المأخذ فقال: «بطريق الإشارة، فقال في آخر الآية {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]، يعني: القصاص، وشريعة بني إسرائيل لا تصدق فيها بالدم، ولا عفو، بل القصاص عليهم متحتم»
(5)
وقال السيوطي: «وفي تنكير {شَيْءٌ} إشارة إلى سقوط القصاص بالعفو عن بعضه»
(6)
.
قلت: لأنَّ {شَيْءٌ} نكرة في سياق شرط، فيعمّ العفو عن الشيء القليل والكثير،
(1)
الإكليل (1/ 340).
(2)
الإكليل (1/ 368 - 369).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 340)، وتيسير البيان للموزعي (1/ 216).
(4)
تيسير البيان للموزعي (1/ 216).
(5)
تيسير البيان للموزعي (1/ 204 - 205)، وينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 159 - 160).
(6)
الإكليل (1/ 340).
كما أن القصاص لا يتجزأ، وذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر كله، وإسقاط بعضه إسقاط لكله، كالطلاق.
قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
استدل بالآية على اعتبار المماثلة في القصاص
(1)
.
(2)
.
مأخذ الحكم: كونه مقتضى الاعتداء بالمثل،، والاعتداء من قبيل المقابلة.
تنبيه: الاعتداء بالمثل تفسير لما أجمل في الآية نفسها في قوله: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} ، وهو خبر بمعنى الأمر.
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].
استدل بالآيتين على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: تحريم قتل المؤمن بغير الحق.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 368 - 369)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 165)، وتيسير البيان للموزعي (1/ 300).
(2)
الإكليل (1/ 368 - 369).
قال ابن قدامة: «وأجمع المسلمون على تحريم القتل بغير الحق، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع»
(1)
. ثم ذكر آيتي النساء، وهذه منها.
وقال الموزعي: «وقد أجمعت الأمة على تعظيم شأن القتل؛ كما عظمه الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو أكبر الكبائر بعد الشرك»
(2)
.
مأخذ الحكم: من الآية الأولى: نفي ايقاع هذا الفعل من المؤمن، بقوله:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} ، وقيل: في تأويلها: «معناه: ما كان في إذن الله وأمره لمؤمن أن يقتل مؤمناً. وقيل: معناه: ما كان ذلك له في عهد الله تعالى. وقيل: معناه: ما كان له فيما سلف كما ليس له الآن»
(3)
.
قال الرازي بعد أن ذكر شيئاً من التأويل السابق: «والغرض منه بيان أن حرمة القتل كانت ثابتة من أول زمان التكليف»
(4)
.
ومأخذ الحكم من الآية الثانية: الوعيد بالخلود في النار مع غضب الله، ولعنة الله على فاعله، وتهديده بما أُعدَّ له من العذاب.
قال الموزعي: «فحرم الله سبحانه قتل المؤمن تحريما مغللظاً لا يوجد في سائر المحرمات»
(5)
.
تنبيهان:
الأول: تقييد الحكم بقتل المؤمن بغير الحق، لماسيأتي في آيتي الأنعام والإسراء من التقييد بذلك.
(1)
المغني (11/ 443).
(2)
تيسير البيان (2/ 457).
(3)
أحكام القرآن (2/ 228 - 229).
(4)
التفسير الكبير للرازي (4/ 175).
(5)
تيسير البيان (2/ 444).
الثاني: تذكر كتب الفقه وأحكام القرآن الخلاف في قبول توبة القاتل عمداً، وخلوده في النار.
(1)
.
• الحكم الثاني: ذهب بعض أهل العلم إلى نفي ما يسمى بقتل شبه العمد.
قال السيوطي: «فاستدل به من قال لا واسطة بينهما، ونفي القتل المسمى شبه العمد»
(2)
.
ومأخذ الحكم: سكوت الشارع، حيث إنه سبحانه ذكر الخطأ المحض في قوله:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} ، وذكر العمد المحض، فقال:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} ، ولم يذكر قسماً ثالثاً
(3)
.
قال ابن قدامة: «وأنكر مالك شبه العمد، وقال ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ، فأما شبه العمد فلا يعمل به عندنا، وجعله من قسم العمد» ، ثمَّ قال: «وهو الصواب؛ لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن دية
(1)
المغني (11/ 443 - 444). وينظر: الإكليل (2/ 582)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 247) تيسير البيان للموزعي (2/ 457 - 458).
(2)
الإكليل (2/ 583).
(3)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 230).
الخطأ شبه العمد، ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها) رواه أبو داود
(1)
، وفي لفظ:(قتيل خطأ العمد)
(2)
أ. هـ»
(3)
.
(4)
.
وضابط شبه العمد مختلف فيه يرجع فيه إلى كتب الفقه والخلاف
(5)
.
• الحكم الثالث: لا قصاص في قتل الخطأ
(6)
.
مأخذ الحكم: عدم ذكر الله ذلك في مقام البيان، بل ذكر الواجب في حقِّه، وهو الدية.
(1)
أخرجه أبوداود في سننه، في كتاب الديات، باب دية الخطأ شبه العمد، برقم (4588)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (7/ 355 - 257)، برقم (2197).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند، (24/ 108)، برقم (15388)، والنسائي في السنن، في كتاب القسامة، باب من قتل بحجر أو سوط، برقم (4796)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (7/ 262)، برقم (2204).
(3)
لمغني (11/ 445).
(4)
المصدر السابق (11/ 462 - 463).
(5)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 232)، وتيسير البيان (2/ 472).
(6)
ينظر: المغني (11/ 414)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 232)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 472).
• الحكم الرابع: لا قصاص في الجروح في الخطأ
(1)
.
مأخذ الحكم: مفهوم الموافقة الأولوي؛ إذ إنه سبحانه أوجب الكفارة والدية دون القصاص في النفس، فما دون النفس من الجراحات أولى، قاله ابن الفرس، وقال:«فخرج بهذا الخطاب في الجراحات من عموم قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، فلا قصاص فيها في الخطأ، وبقي العمد كله تحت العموم»
(2)
.
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية القصاص في النفس والأعضاء.
قال السيوطي: «فيها مشروعية القصاص في النفس والأعضاء والجروح بتقرير شرعنا كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث: السِّن (كتاب الله القصاص)
(3)
»
(4)
.
مأخذ الحكم: الإخبار عن الحكم بالكتب، وكونه شرعًا لمن قبلنا، وأقرَّه شرعُنا، فهو شرع لنا بالاتفاق
(5)
. والتحذير من مخالفة حكمه سبحانه بذم الفاعل بقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
(1)
ينظر: المغني (11/ 414).
(2)
أحكام القرآن (2/ 436).
(3)
أخرجه البخاري في سورة البقرة، باب {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، برقم (4499)
(4)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 432)، والمغني (11/ 36).
(5)
ينظر: المغني (11/ 36)، والإكليل (2/ 620)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 432).
• الحكم الثاني: مشروعية القصاص في الجروح.
قال ابن الفرس: «عامٌّ في كلِّ جرح في الرأس أو في الجسد»
(1)
.
مأخذ الحكم: كون قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} خبراً بمعنى الأمر، أو يكون عطفاً على قوله:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} .
تنبيهان:
الأول: أن العلماء خصَّصوا من عموم (الجراح) جراحات، منها:
ما يخاف التلف منه بقصاصه، وكذا مما لا يمكن القصاص منه، مثل ذهاب بعض البصر والسمع والعقل
…
إلخ
(2)
.
قال ابن قدامة: «وإذا جرحه جرحاً يمكن الاقتصاص منه بلا حيف، اقتص منه، وجملة ذلك أن القصاص يجري فيما دون النفس من الجروح، إذا أمكن»
(3)
.
وقال الموزعي: «وضابطه: أن كل جرح أمكن فيه القصاص والمماثلة، ولم يخش منه الموت، فقد وجب فيه القصاص»
(4)
.
الثاني: مفهوم قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ، أن ما ليس بجرح لا قصاص فيه، مثل: نتف شعر من رأس الرجل أو لحيته، أو حاجبيه، أو أشفار عينيه
(5)
.
• الحكم الثالث: يقتل المسلم بالكافر، والحر بالعبد، والرجل بالمرأة
(6)
.
(1)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 435).
(2)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 436).
(3)
المغني (11/ 530).
(4)
يتيسير البيان (3/ 152).
(5)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 439)، والإكليل (2/ 641).
(6)
ينظر: المغني (11/ 530).
مأخذ الحكم: العموم في قوله: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} .
نوقش بما سبق في آية البقرة في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178].
قال ابن الفرس عند هذه الآية: «فأما ما في النفس فالجمهور على أنَّ القصاص بينهما واجب؛ لعموم هذه الآية، وتأولوا آية البقرة على ما قد ذكرناه فيها»
(1)
.
وقد ذكر في آية البقرة أنها وردت لما ورد في التعدي في القصاص في الجاهلية، حتى «كانوا إذا قَتل حرٌّ من القبيلة العزيزة حُراً من القبيلة المعزوزة، لم يُسلِّموه للقصاص، وبذلوا موضعه عبداً أو امرأةً
…
»
(2)
، فنزلت الآية؛ لإبطال ما كانوا عليه.
(3)
، ثم خاض فيها خوض المجتهدين وفصَّل أحكامها.
• الحكم الرابع: استحباب العفو عن القصاص
(4)
.
قال ابن قدامة: «أجمع أهل العلم على إجازة العفو عن القصاص، وأنه أفضل،
(1)
أحكام القرآن (2/ 432)، وينظر: المغني (11/ 500)، والإكليل (2/ 640).
(2)
المصدر السابق (1/ 156 - 157).
(3)
تيسير البيان (1/ 206).
(4)
ينظر: الإكليل (2/ 642).
والأصل فيه الكتاب والسنة»
(1)
، ثم ذكر آية البقرة وهذه الآية.
مأخذ الحكم هنا: قوله: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} ، أي: تصدَّق بالقصاص فعفا عنه.
قال القرطبي: «قوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} شرط، وجوابه، أي: تصدَّق بالقصاص فعفا فهو كفارة له، أي لذلك المتصدق. وقيل: هو كفارة للجارح، فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة
…
»
(2)
.
• الحكم الخامس: أن الجماعة لا تقتل بالواحد.
مأخذ الحكم: أن الله عز وجل قابل النفس القاتلة بالنفس المقتولة.
قال في المغني: «فمقتضاه أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة»
(3)
.
قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126].
استدل بها العلماء على وجوب المماثلة في القصاص والجروح.
قال السيوطي: «قال ابن العربي: فيه جواز المماثلة في القصاص خلافاً لمن قال: (لا قود إلا بالسيف)
(4)
»
(5)
.
وقال ابن قدامة فيما إذا قطع يديه ورجليه، ثم عاد فضرب عنقه قبل أن تندمل
(1)
المغني (11/ 580).
(2)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (6/ 196)، وينظر: المغني (11/ 580).
(3)
المغني (11/ 490).
(4)
أخرجه ابن ماجة في أبواب الديات، باب لا قود إلا بالسيف، برقم (2667)، وضعفه الألباني في إرواء الغليل (7/ 285)، برقم (2229).
(5)
الإكليل (2/ 910).
(1)
، واستدل بآيتي البقرة والنحل.
وقال في الجروح أن من شروط وجوب القصاص في الجروح ثلاثة أشياء: «الثالث: إمكان الاستيفاء من غير حيف ولا زيادة؛ لأن الله تعالى قال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}»
(2)
.
قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: تحريم قتل النفس إلا بالحق.
وورد هذا الحكم كذلك في آية الأنعام في الوصايا العشر، في قوله:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151].
وورد في آية الفرقان في قوله: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68]، في صفات المؤمنين.
وسبق الحديث عن الحكم، وبيان تشديد الشارع وتغليظه، وتعظيم حق النفس المعصومة.
ومأخذ الحكم في الآيات السابقة:
أولاً: النهي الصريح بقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا} في آيتي الإسراء والأنعام، ولعله خبر بمعنى النهي في آية الفرقان، والنهي يقتضي التحريم.
(1)
المغني (11/ 508).
(2)
المصدر السابق (11/ 531).
ثانياً: وصف الله للفعل، وإخباره بالتحريم في قوله:{حَرَّمَ اللَّهُ} .
ثالثاً: وجوب الحد عليه؛ للدلالة على كونه ذنباً كبيراً.
قال السيوطي في آية الأنعام: «فيها من الكبائر
…
وقتل النفس إلا بحقِّها
…
وفُسِّر في الحديث
…
أو قتل نفس بغير نفس»
(1)
.
• الحكم الثاني: للمرأة مدخل في القصاص.
(2)
.
مأخذ الحكم: جعل الله عز وجل لها ذلك، مع بيان وجه اندراجها في الولاية بما ذكره السيوطي، باعتبار أن الولي هنا هو الوارث.
(3)
.
ومن قال: إنها لا مدخل لها، استدل بأن لفظ (الولي) في الآية مذكر
(4)
.
قال القرطبي: «وأما ما ذكروه من أن الولي في ظاهره على التذكير وهو واحد، كأن ما كان بمعنى الجنس يستوي المذكر والمؤنث فيه، وتتمته في كتب
(1)
الإكليل (2/ 728).
(2)
المصدر السابق (2/ 918).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (10/ 223).
(4)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 260)، والإكليل (2/ 918).
الخلاف»
(1)
.
• الحكم الثالث: تحريم الإسراف في القتل.
(2)
.
مأخذ الحكم: النهي الوارد بصيغة: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} ، وهو يقتضي التحريم.
• الحكم الرابع: للولي أن يقتل بنفسه في القصاص.
(3)
.
قلت: وقد عرَّف من قبل السلطان بقوله: «فُسِّر السلطان بالحجة والبرهان على قتل القاتل» ؛ وعليه إن باشر ذلك فقد حصل له هذا بلا ريب.
أما الخلاف في الجروح فقد سبق أن منها: ما يمكن الاستيفاء بالمثل، ومنه: ما لا يمكن، عند قوله:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} .
مأخذ الحكم: عود الضمير في قوله: {يُسْرِفْ} على الولي، وما فُسِّر به الاسراف في الحكم السابق
(4)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (10/ 223).
(2)
تيسير البيان (3/ 260).
(3)
المصدر السابق (3/ 410).
(4)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن (10/ 223).
• الحكم الخامس: لا يستوفى في القصاص إذا كان الولي صغيرا حتى يبلغ.
قال الموزعي: «وفي الآية دلالة على أنه لا يستوفى القصاص إذا كان الولي صغيراً أو مجنوناً حتى يبلغ هذا، ويفيق هذا»
(1)
ثم بيَّن المأخذ.
مأخذ الحكم: قال الموزعي: «لأنه هو الولي، والسلطان ثابت له، فلا يجعل لغيره، سواء كان منفرداً بالولاية، أو مشاركاً»
(2)
.
باب الديات
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية العفو على الدية
(3)
.
أي: مشروعية العفو عن القصاص على أن يأخذ الدية.
مأخذ الحكم: أنّ المولى رتب عليها أحكامًا، الإتباع، والأداء، والسياق سياق مدح وثناء وحث لقوله:{مِنْ أَخِيهِ} ، فدلَّ على المشروعيَّة.
قال السيوطي: «وفي ذكر {مِنْ أَخِيهِ} ترقيق مرغب في العفو»
(4)
.
(1)
تيسير البيان (3/ 411).
(2)
تيسير البيان (3/ 411).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 339)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 167)، وتيسير البيان للموزعي (1/ 213).
(4)
الإكليل (1/ 340).
ثمَّ قال في ختم الآية: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}
• الحكم الثاني: مشروعية كون المطالبة تكون برفق
(1)
.
مأخذ الحكم: الإتيان بالمصدر، وهو أحد صيغ الإيجاب، أي: فالواجب من الولي اتباع بمعروف، أي: لا يشق عليه، ولا يضجره؛ لأنّه عفا عن القصاص.
• الحكم الثالث: أن يكون الأداء من غير مطل
(2)
.
مأخذ الحكم: هو المأخذ السابق من الإتيان بالمصدر (أداء)، ومن أعظم الإحسان هنا عدم المطل؛ لأنّ المطل ظلم، {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} .
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية الدية والكفارة في قتل المؤمن خطأ، وهو محل اتفاق
(3)
.
قال ابن قدامة: «الأصل في وجوب الدية الكتاب والسنة والإجماع، أما
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 339)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 167، 172).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 339).
(3)
ينظر: تيسير البيان (2/ 444)، الإكليل (2/ 578).
الكتاب، فقوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} »
(1)
.
(2)
.
مأخذ الحكم: الحكم المقدَّر في الآية، أي: فعليه تحرير رقبة ودية، أو الواجب عليه تحرير رقبة ودية، والمقدَّر كالملفوظ.
• الحكم الثاني: تجب الدية في قتل الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحر والعبد بالإجماع.
سبق النقل عن ابن قدامة، وقال الموزعي مبيِّناً المأخذ:«وعلَّق الله سبحانه هذه الأحكام بقتل المؤمن، وأطلقه، فوقع على الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحر والعبد، والحكم كذلك بإجماع المسلمين، إلا في العبد»
(3)
.
مأخذ الحكم: العموم حيث ورد قوله {مُؤْمِنًا} ، في سياق الشرط {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا} .
تتمة: اختلف العلماء في قتل العبد.
قال الموزعي: «فقال طائفة من أهل الكوفة: تجب فيه الدية؛ لظاهر الآية، ولايبلغ بها دية الحر، بل ينقص منها شيء؛ اعتباراً بنقصانه عن درجة الحُرِّ في الحد
(1)
المغني (12/ 5)، وينظر: الإكليل (2/ 578).
(2)
المصدر السابق (12/ 223).
(3)
تيسير البيان (2/ 448).
وغيره، وقال الشافعي، ومالك، وأبو يوسف: تجب فيه القيمة بالغة ما بلغت؛ قياساً على سائر الأموال، فقيدوا إطلاق الآية بالقياس. وقال أبو حنيفة: تجب فيه القيمة، ولا يُزاد بها على دية الحرِّ»
(1)
.
قلت: والقياس هنا: قياس الشبه، إذا تردد العبد بين إلحاقه بالحرِّ أو المال، ويسميه بعضهم قياس غلبة الأشباه.
• الحكم الثالث: جواز الإبراء عن الدية.
قال السيوطي: «وأن الدية مسلَّمة إلى أهل المقتول، إلَّا أن يصدقوا بها، أي: يبرئوا منها، ففيه جواز الإبراء من أهل الديه»
(2)
.
مأخذ الحكم: دلالة الاستثناء، ومعناه: فهي إخراج ما لولاه لدخل.
فأخرجت الإبراء من الوجوب، والاستثناء من الإثبات نفى، فنفت الوجوب حال الإبراء، والتصدق من قبل أهل الدية.
• الحكم الرابع: المؤمن الذي أهله كفار، تجب الكفارة بقتله دون الدية
(3)
.
مأخذ الحكم: سكوت الشارع عن الدية، حيث قال سبحانه:{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، والمقام مقام بيان فدَّل على عدم وجوب الدية.
قال ابن الفرس معللاً للحكم: «مخافة أن يتقوى بها الكفار»
(4)
.
(1)
تيسير البيان (2/ 448).
(2)
الإكليل (2/ 578).
(3)
ينظر: تيسير البيان (2/ 450).
(4)
أحكام القرآن (2/ 243).
• الحكم الخامس: الذي له ميثاق، فتجب الكفارة والدية في قتله، فتجب للذمي والمعاهد.
مأخذ الحكم: الإطلاق الوارد في الآية، حيث إنه سبحانه أطلق صفته ولم يقيده بصفة الإيمان، كما قيَّد غيره.
قال الموزعي: «ومنهم من قيَّده بصفة الإيمان، وأعاد الضمير على المؤمنين، ولم يوجب الكفارة في قتله»
(1)
.
• الحكم السادس: دية الخطأ تكون على عاقلة القاتل.
مأخذ الحكم: ذكره السيوطي بقوله: «وفي قوله: {مُسَلَّمَةٌ} دون يُسْلِّمها، إشارة إلى أنها على عاقلة القاتل»
(2)
.
تنبيه: قال الموزعي: «ولا إلتفات إلى خلاف الأصم وابن علية والخوارج في منع تحمُّل العاقلة، وتمسكوا بالآية، والقياس، ولا دليل لهم مع قيام النص والإجماع»
(3)
، وقد بيّن قبل النص والإجماع فقال: «وظاهر الخطاب أن وجوب الكفارة والدية متعلق بالقاتل، والمعنى: فعليه تحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله.
ويحتمل أن يكون التقدير: فالواجب تحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلَّمة إلى أهله، وقد أجمع المسلمون على تعلّق الكفارة بالقاتل وجوباً وفعلاً، وأما الدية، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجوبها على العاقلة، وكذا فعل عمر وعلي، ولم يخالفهما أحد من الصحابة، فهو إجماع، ودليله مخصص لعموم قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
(1)
تيسير البيان (2/ 451).
(2)
الإكليل (2/ 578).
(3)
تيسير البيان (2/ 441).
أُخْرَى} [الإسراء: 15]»
(1)
.
• الحكم السابع: ليس للمقتول العفو عن الدية
(2)
.
مأخذ الحكم: أن الضمير في قوله: {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} يعود إلى الأولياء.
نسب القول السابق ابن الفرس إلى قوم من أهل الظاهر، ثم قال:«وهذا عند أهل القول الأول، إنما هو إذا لم يعف القتيل أو مات ولم يسمع منه عفو»
(3)
.
• الحكم الثامن: تجب في قتل العمد كفارة
(4)
.
مأخذ الحكم: بدلالة الأولى.
قال الموزعي: «وأوجب الشافعي الكفارة في قتل العمد، وشبه العمد؛ لأنه أولى وأحرى بالوجوب من الخطأ»
(5)
.
ثم بيَّن مأخذ من قال بعدم وجوبها -وهو أبو حنيفة وأصحابه- وذكر أنهم على أصلهم من منع القياس في الكفارات.
• الحكم التاسع: لا كفارة بقتل الكافر المضمون.
مأخذ الحكم: مفهوم قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا} .
قال ابن قدامة: «وقال الحسن ومالك لا كفارة فيه؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، فمفهومه: أن لا كفارة في غير المؤمن.
(1)
تيسير البيان (2/ 445 - 446)، وينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 233).
(2)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 238)، والإكليل (2/ 578).
(3)
أحكام القرآن (2/ 238 - 239).
(4)
المغني (12/ 223).
(5)
ينظر: تيسير البيان (2/ 444).
ولنا: قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، والذمي له ميثاق، وهذا منطوق يُقدَّم على دليل الخطاب»
(1)
.
• الحكم العاشر: من قتل نفسه خطأ وجبت الكفارة في ماله
(2)
.
مأخذ الحكم: عموم قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا} ، و «من» من ألفاظ العموم، ويصدق على قاتل النفس، أنه قتل مؤمناً.
(3)
.
• الحكم الحادي عشر: تلزم المشتركين في القتل كل واحد كفارة.
قال ابن قدامة: «ومن شارك في قتل يوجب الكفارة، لزمته كفارة، ويلزم كل واحد من شركائه كفارة»
(4)
.
(5)
.
(1)
المغني (12/ 222).
(2)
ينظر: المغني (12/ 225).
(3)
ينظر: المصدر السابق (12/ 225 - 226).
(4)
المغني (12/ 226).
(5)
الإكليل (2/ 579).
مأخذ الحكم: العموم في قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا} ، وقالوا:«من» تعمُّ الواحد والأكثر.
قال ابن الفرس: «ودليلنا قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} فعمَّ الاشتراك والانفراد»
(1)
.
تنبيه: واستدل من قال: كفارة واحدة بذات الآية.
قال ابن قدامة: «و «من» يتناول الواحد والجماعة، ولم يوجب إلَّا كفارة واحدة، ودية، والدية لا تتعدد، فكذلك الكفارة»
(2)
.
• الحكم الثاني عشر: تلزم الإمام الدية إذا قتل خطأ
(3)
.
مأخذ الحكم: قال السيوطي: «وعموم الآية شامل للإمام إذا قتل خطأ، خلافاً لمن قال: لا شيء عليه، ولا على عاقلته»
(4)
.
• الحكم الثالث عشر: على الصبي والمجنون المسلم إذا قتلا حُراً خطأ الكفارة
(5)
.
مأخذ الحكم: عموم الآية لعموم «مَنْ» فتشتمل كل بني آدم.
قال ابن الفرس: «وذلك على عمومه في بني آدم»
(6)
.
• الحكم الرابع عشر: في قتل العبد المؤمن، الدية والكفارة
(7)
.
(1)
أحكام القرآن (2/ 246).
(2)
المغني (12/ 226).
(3)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 240).
(4)
الإكليل (2/ 579).
(5)
ينظر: الإكليل (2/ 579).
(6)
أحكام القرآن (2/ 245).
(7)
ينظر: الإكليل (2/ 579).
مأخذ الحكم: عموم الآية؛ لأنه مؤمن، وهي نكرة في سياق الشرط، تعمُّ الأحرار والعبيد.
قال السيوطي: «واستدل بعمومها أيضاً من قال: إن في قتل العبد الدية والكفارة»
(1)
.
• الحكم الخامس عشر: من عجز عن الإعتاق أو الصوم، فإن الكفارة تبقى في ذمته ولا ينتقل إلى الإطعام.
(2)
، أي: لا واجب غير ذلك.
وبيَّن الموزعي أن الله أوجب الكفارة: «ولم يذكر الإطعام في حق العاجز، فدلَّ على أنَّه لا يجب» ، ثم قال:«وللشافعي قول ضعيف، أنَّه يجب إطعام ستين مسكيناً؛ قياساً على الظهار»
(3)
.
مأخذ الحكم: هو سكوت الشارع عن الإطعام في مقام البيان، فدلّ على أنه لا يجب.
• الحكم السادس عشر: ينتقل إلى الصيام من لم يجد الدية تحرير رقبة.
مأخذ الحكم: عود الضمير في قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} الآية إلى العتق.
قال ابن الفرس: «وقيل: فمن لم يجد العتق والدية فصيام شهرين يجزئه، وهو
(1)
الإكليل (2/ 579).
(2)
أحكام القرآن (2/ 245).
(3)
تيسير البيان (2/ 451 - 452).
قول الشافعي. وقال الطبري: وأولى القولين أن الصوم عن الرقبة خاصة؛ لأن دية الخطأ على عاقلة القاتل، والكفارة على القاتل بإجماع، فلا يقضي صوم صائم عمّا لزم غيره في ماله»
(1)
.
• الحكم السابع عشر: يشترط في الرقبة أن تكون كاملة.
(2)
.
مأخذ الحكم: الإطلاق المذكور وما يقتضيه، أي: لم يقل سبحانه: (بعض رقبة).
تنبيه: الخلاف في هذا المأخذ في مسائل تتعلق بالناقص من حيث العقد كالمدبر، وأمِّ الولد، والناقص في جسده كما مثل ابن الفرس.
• الحكم الثامن عشر: لا يجوز عتق غير الرقبة المؤمنة في الكفارة، ولا الصيام بغير التتابع.
مأخذ الحكم: العمل بالوصف المقيد، بحسب نص الآية.
قال ابن الفرس: «وقوله تعالى: {مُؤْمِنَةٍ} تقييد الرقبة بمؤمنة، يقتضي أنه لا يجوز عتقُ غير المؤمنة في كفارة قتل الخطأ، وهو إجماع»
(3)
.
وقال: «قوله: {مُتَتَابِعَيْنِ} شرط تعالى التتابع»
(4)
.
(1)
أحكام القرآن (2/ 245).
(2)
أحكام القرآن (2/ 235).
(3)
المصدر السابق (2/ 235).
(4)
المصدر السابق (2/ 246).
باب قتال أهل البغي
أهل البغي: هم الخارجون من المسلمين عن طاعة الإمام الحق بتأويل، ولهم شوكة.
ويعتبر بمنزلة الخروج: الامتناع من أداء الحق الواجب الذي يطلبه الإمام كالزكاة.
لذا ذكر ابن قدامة من فوائد الآية: جواز قتال كل من منع حقاً عليه، ذكره من فوائد الآية الآتي ذكرها.
وأكثر الفقهاء يرون أنَّ الخوارج من البغاة، ولا يرون تكفيرهم.
وذكر ابن قدامة فوائد للآية: «أحدها: أنهم لم يخرجوا بالبغي عن الإيمان، فإنه سمّاهم مؤمنين»
(1)
وباقي الفوائد هي أحكام الآية الآتية.
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب قتال الفئة الباغية
(2)
.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} ، والأمر يقتضي الوجوب.
قال القرطبي: «قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أمرٌ بالقتال،
(1)
المغني (8/ 533).
(2)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 491)، والإكليل (3/ 1195).
وهو فرض على الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين؛ ولذلك تخلف قومٌ من الصحابة رضي الله عنهم عن هذه المقامات، كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو، ومحمد بن سلمة وغيرهم، وصوَّب ذلك علي بن أبي طالب لهم، واعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله منه»
(1)
.
تنبيه: ذهب أكثر أهل العلم إلى أن حكم الآية شامل لأهل مكة كغيرهم، فيجب قتالهم إن بغوا، وحمل الجمهور الآية على عمومها
(2)
.
• الحكم الثاني: يسقط قتالهم إذا فاءوا إلى الله
(3)
.
قال السيوطي: «من رجع منهم وأدبر لا يقاتل»
(4)
.
(5)
.
مأخذ الحكم: مفهوم الغاية في قوله: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ، ومفهومه: إن فاءوا، فإنه يجب الكف عنهم
(6)
.
• الحكم الثالث: سقوط المطالبة بالدم والنفس.
ذكر ابن قدامة من فوائد الآية: «أنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم»
(7)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (16/ 269).
(2)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 493)، والإكليل (3/ 1195).
(3)
المغني (12/ 237).
(4)
ينظر: الإكليل (3/ 1195).
(5)
تيسير البيان (4/ 168)، وينظر: الجامع لأحكام القرآن (16/ 272).
(6)
ينظر: الإكليل (3/ 1195).
(7)
المغني (8/ 523).
مأخذ الحكم: سكوت الشارع عن ذلك في مقام البيان.
قال الموزعي: «وأطلق الله سبحانه الصلح، ولم تُذكر تباعة في دم ولا مال.
قال الشافعي: فأشبه هذا -والله أعلم- أن تكون التباعات في الجراح والدماء، وما كان من الأموال ساقطاً بينهم»
(1)
.
ومن قال بالضمان أخذ ذلك من قوله: {بِالْعَدْلِ} ، والعدل أخذ الحق لبعض الناس من بعض، وكونه إتلافاً بعدوان فيلزم الضمان
(2)
.
(3)
.
(4)
.
(5)
.
(1)
تيسير البيان (4/ 168).
(2)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (16/ 272).
(3)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (16/ 271)، وبنظر: تيسير البيان (4/ 168).
(4)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (16/ 271).
(5)
أحكام القرآن (3/ 493).
باب قتال الجاني
قال تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: جواز قتال الجاني المعتدي في أي وقت، وأي مكان حتى في الشهر الحرام، وفي البلد الحرام
(1)
.
(2)
.
وقال ابن الفرس: «
…
وذهب مجاهد إلى أن الآية محكمة، وأن المعنى: فمن اعتدى عليكم في الحرم فاعتدوا عليه، وهذا أولى ما حملت عليه الآية»
(3)
.
مأخذ الحكم: المجازاة والسببية في قوله: {بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} ، والأمر وجواب الشرط في قوله:{فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} .
وحمل الأمر على الإباحة كما أشار إليه الموزعي في كلامه، ولعل الصارف أحد الأمرين أو كليهما.
الأول: كونه أمراً بعد حظر، وقد أشار إلى ذلك الموزعي، حيث قدم ذكر الآيات الدالة على الحظر، ثم أردفها بهذه الآية، فقال: «حرم الله سبحانه علينا في
(1)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 353).
(2)
تيسير البيان (1/ 299).
(3)
أحكام القرآن (1/ 227).
غير هذه الآية القتال في الشهر الحرام، فقال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2]
…
، وأباح لنا في هذه الآية أن نقاتلهم»
(1)
.
الثاني: النصوص الواردة في جواز العفو عن الظالم وترك معاقبته، قال تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]، وقوله:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].
تنبيه: يدخل الجاني في الصائل، فكلاهما معتد، لا يجوز دفعه.
قال الرافعي: «الشطر الثاني: في دفع الصائل
…
وأما المرفوع: فكل ما يخاف منه، فدُفع فهو هدر، حتى الصبي والمجنون، وكذا البهيمة،
…
استؤنس عن الباب بقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} »
(2)
.
رتبوا على ذلك أن الصائل إذا قتل على المال، فلا ضمان عليه بقصاص، ولا دية، ولا كفارة، ولا قيمة؛؛ لأن الإنسان مأمور بقتاله، وبين الأمر بالقتال والضمان منافاة.
• الحكم الثاني: مشروعية المماثلة في القصاص
(3)
.
قال السيوطي: «استدل به الشافعي على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد، أو خنق، أو حرق، أو تجويع، أو تغريق، حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في
(1)
تيسير البيان (1/ 299).
(2)
شرح العزيز (19/ 422).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 368 - 369)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 165، 227)، وتيسير البيان (1/ 300).
ماء ملح»
(1)
.
مأخذ الحكم: كونه مقتضى الاعتداء بالمثل،، والاعتداء من قبيل المقابلة. وسبق في باب الجنايات.
• الحكم الأول: تحريم قطع الطريق، ووجوب قتال قطاع الطريق المحاربة.
قال السيوطي: «هي في قطاع الطريق»
(2)
.
والمحاربة: كل من أشهر السلاح وقطع السبيل.
(3)
.
وقال رحمه الله: «وإنما كانت المحاربة عظيمة الضرر؛ لأن فيها سدَّ سبيل الكسب على الناس؛ لأن أكثر المكاسب وأعظمها التجارات، وركنها وعمادها الضرب في الأرض»
(4)
.
(1)
الإكليل (1/ 368 - 369).
(2)
الإكليل (2/ 630).
(3)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (6/ 155).
(4)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (6/ 150).
مأخذ الحكم: يبنى تحريم قطع الطريق من الأساليب الآتية:
أولاً: تعظيم الأمر بإضافة المحاربة له: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} .
قال ابن الفرس: «وقوله: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} تغليظ على ارتكاب نهيه
…
، وإنما ذكر على جهة المبالغة في إظهار المخالفة
…
، وقيل: التقدير يحاربون عباد الله
…
، وكأنه أراد بذلك تعظيم المحاربة وإكبار قدر المعصية»
(1)
.
ثانياً: ذم فعلهم وتسميته فساداً.
ثالثاً: ترتيب العقوبة في الدنيا بإقامة الحد -كما سيأتي- وفي الآخرة الخزي، {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
رابعاً: الوعد بالمغفرة لمن تاب، ولا توبة إلا من معصية، كما قال العز بن عبد السلام في كتابه الإمام.
وأما وجوب قتالهم: إخبار المولى سبحانه وتعالى أنه جزاءهم، لا جزاء غيره بصيغة الحصر.
• الحكم الثاني: يقاتل المحاربة سواء قاتلوا في المصر أو خارجه.
مأخذ الحكم: لعموم الآية، وإطلاق اسم المحاربة على الجميع.
قال القرطبي: «المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو برية» ، ثم نقل عن ابن المنذر قوله:«لأن كلا يقع عليه اسم المحاربة، والكتاب على العموم، وليس لأحد أن يخرج من جملة الآية قوما بغير حجة»
(2)
.
(1)
أحكام القرآن (2/ 396).
(2)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (6/ 144).
وذكر الموزعي: أن العلماء اتفقوا على أن المحاربة إشهار السلاح وقطع السبيل خارج المصر، ثم قال:«وهذا هو الواقع على المحاربة في العُرف»
(1)
.
أما وجه العموم في الآية فهو ضمير الجمع في قوله: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ} ، والعام في الأشخاص عام أو مطلق في الأحوال، والله أعلم.
(1)
تيسير البيان (3/ 125).
كتاب الحدود
(باب الزنا)
الزنا: فعل الفاحشة في قُبلٍ أو في دُبرٍ.
وقيل: إيلاج حشفة أو قدرها في فرج محرم لعينه مشتهى طبعاً بلا شبهة.
ويدخل في معناه اللواط، فهو صنف من أصناف الزنا، كما أشار القرطبي؛ ولذا يدخل في هذا الباب الآيات الدالة على حكم اللواط.
(1)
.
استدل بالآيتين على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: تحريم الزنا.
قال ابن قدامة: «الزنا حرام، وهو من الكبائر العظام»
(2)
.
(1)
أحكام القرآن (3/ 324).
(2)
المغني (12/ 307).
مأخذ الحكم: ذم الفعل، وتسميته بالفاحشة، وترتيب الحد عليه، وتشريع التوبة منه {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5].
• الحكم الثاني: أن حد الزنا الإمساك في البيوت حتى الموت أو الأذى.
وهذا الحكم منسوخ، قال السيوطي:«الأكثرون على أنها والآية التي بعدها منسوخة بآية الجلد من سورة النور»
(1)
.
وقال ابن قدامة: «وكان حد الزنا في صدر الإسلام الحبس للثيب، والأذى بالكلام من التقريع والتوبيخ للبكر»
(2)
.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ} وقوله: {فَآذُوهُمَا} .
وقيل: إن الآية زال حكمها لا بالنسخ، بل لانتهاء الغاية؛ إذ قيَّد سبحانه الحكم السابق بغاية، وهي:{حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} ، وقد جعل الله لهن سبيلا، كما في حديث عبادة:(خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب، والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة، ثم رجم بالحجارة، والبكر جلد مائة، ثم نفي سنة)
(3)
.
(4)
.
(1)
الإكليل (2/ 521).
(2)
المغني (2/ 307).
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب حد الزنى، برقم (1690).
(4)
تيسير البيان (2/ 298).
• الحكم الثالث: تحريم السِّحاق واللواط، وأن فيهما التعزير.
وهذا الحكم على القول بأن الآيتين محكمتان، وأن الأولى في إتيان المرأة المرأة، والثانية إتيان الرجل الرجل.
ومأخذ الحكم: يوضحه السيوطي بقوله: «ويؤيده قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} فاقتضى ذلك فاحشة مخصوصة بالنساء، ثم قال: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ}، فاقتضى ذلك فاحشة مخصوصة بالرجال»
(1)
.
ثم ناقش كون الآية في السحاق فقال: «ولو أريد بالآية الأولى السِّحاق لأتى بصيغة الاثنتين كما في الثانية» .
• الحكم الرابع: إذ تاب الزاني وأصلح فإن الحد يسقط عنه.
قال الموزعي: «وفي الآية دليل على أن الزاني إذا تاب سقط عنه الحد؛ لأن الله سبحانه أمرنا بالإعراض، ولو كان واجباً لم يسقط، ولما أمرنا بالإعراض
…
، وظاهر إطلاق الآية أن التوبة تسقط الحد، سواء تاب قبل الوصول إلى القاضي، أو بعده، وفيه خلاف، واتباع الظاهر أولى وأليق بباب الحد»
(2)
.
ويوضح الحد المسقوط ابن الفرس بقوله: «قوله: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} أمر بكف الأذى عنهما بعد التوبة»
(3)
.
ومأخذ الحكم: ما أشار إليه الموزعي، من أن الله أمرنا بالإعراض، فدلَّ على سقوطه، وهو جواب شرط التوبة {فَإِنْ تَابَا} .
(1)
الإكليل (2/ 523).
(2)
تيسير البيان (2/ 300 - 303).
(3)
أحكام القرآن (1/ 103).
وهذا الأمر بالإعراض معلق على شرطين: والمعلق على شرطين لا يثبت إلا بثبوتهما.
تنبيه: قال الموزعي: «وينبغي أن يعلم أن الإصلاح شرط لمسقط الحد، لا أنه مسقطٌ للحد بنفسه، وقد وهم بعض الشافعية، فجعل نفس الإصلاح مسقطا للحد، وليس كذلك»
(1)
.
خاتمة: اختلف العلماء في كيفية الأذى، وضابط الإصلاح، يرجع إليه في كتب التفسير.
قال تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: عدم وجوب حد الزنا على الأمة حتى تتزوج.
مأخذ الحكم: مفهوم الشرط في قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ، فعلَّق حدها في الآية على الإحصان.
ونوقش: بأن قيد الإحصان، ذكر لئلا يتوهم زيادة عقوبتها بالنكاح، كما زاد في حق الحرة، وعليه لا مفهوم له معتبر.
قال الشنقيطي: «والحكمة في التعبير بخصوص المحصنة، دفع توهم أنها ترجم كالحرة، فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما، عن أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما قالا: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأمة إذا زنت، ولم تحصن قال: (إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت
(1)
تيسير البيان (2/ 302).
فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير)
…
، فمفهوم هذه الآية هو بعينه الذي سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وأجاب فيه بالأمر بالجلد في هذا الحديث المتفق عليه
(1)
…
»
(2)
.
(3)
.
• الحكم الثاني: حد الأمة على النصف من حد الحرة.
قال الموزعي: «وأجمعوا على أن جلدها لا يزيد على خمسين جلدة»
(4)
.
مأخذ الحكم: الأمر في جواب الشرط {فَعَلَيْهِنَّ} ، أي: فالواجب عليهن من العقوبة المقدرة نصف ما على المحصنات.
• الحكم الثالث: لا رجم على الأمة المحصنة.
مأخذ الحكم: كون الحد لا يتنصف، فلا يمكن أن يكون نصف رجم.
قال السيوطي: «
…
وأنه لا رجم عليها؛ لأنه لا يتنصف، ففيها رد على من
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب إذا زنت الأمة، برقم (6837)، ومسلم في كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، برقم (1703).
(2)
أضواء البيان (1/ 386).
(3)
التفسير الكبير للرازي (4/ 52).
(4)
تيسير البيان (2/ 360).
قال يرجم»
(1)
.
وقال الموزعي: «اتفق جمهور العلماء أنه لا رجم على الأمة
…
، والرجم لا يتنصف، فاختص بالجلد»
(2)
.
وقال ابن الفرس: «لأن الرجم ليس بمحدود معلوم، فيتنصف، وإنما أراد تعالى ما يمكن فيه التنصيف»
(3)
.
• الحكم الرابع: لا حد على العبد مطلقاً سواء كان محصناً أو غير محصن.
مأخذ الحكم: كون الآية، وردت في الإماء، والضمير فيها لا يشمل الذكور.
(4)
.
قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32].
يستدل بالآية على تحريم الزنا.
ومأخذ الحكم: النهي عن قربانه، وهو أولى من فعله وإتيانه، ثم وصفه بوصفين: أنه فاحشة، وساء سبيلا، وهو ذم للفعل موجب تحريمه واجتنابه.
وقد بيَّن الرازي وجه كونه فاحشة بوجهين، وكذا كونه ساء سبيلا بوجهين، بكلام متين يرجع إليه
(5)
.
(1)
الإكليل (2/ 547 - 548).
(2)
تيسير البيان (2/ 359).
(3)
أحكام القرآن (2/ 154).
(4)
الإكليل (2/ 548).
(5)
التفسير الكبير (7/ 332).
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: تحريم الزنا.
مأخذ الحكم: ترتب العقوبة عليه، وجعل الزنا علة ذلك، بدلالة الإيماء، حيث اقترن الوصف {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} ، بالحكم {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} ، ولو لم يكن الوصف علَّة لكان الكلام معيباً في كلام العرب.
• الحكم الثاني: وجوب حد الزاني والزانية البكرين الحُرَّين مائة جلدة، سواء كانا مسلمين أو كافرين.
قال الموزعي: «أجمع أهل العلم على تخصيص عمومها بالبكرين الحرين، وأن الزاني إذا كان محصناً، فحده الرجم»
(1)
.
مأخذ الحكم: الأمر بوجوب الجلد {فَاجْلِدُوا}
(2)
، مع العموم في قوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} ، فيشتمل الكافر والمسلم، ويشمل العموم غيرهم، «والمرأة العاقلة إذا زنى بها مجنون، أو الكبيرة، إذا زنى بها صبي أو عكسه، أو حربية أو مسلمة في بلاد الحرب، أو في عسكر أهل البغي، أو بنصرانية مطلقاً، أو بأمة امرأته، أو مَحْرم، أو من استدخلت ذكر نائم»
(3)
.
(1)
تيسير البيان (4/ 39).
(2)
قال القرطبي (12/ 444): «دخلت الفاء؛ لأنه موضع أمر، والأمر مضارع للشرط، وقال المبرد: فيه معنى الجزاء، أي: إن زنى زانٍ فافعلوا به كذا، ولهذا دخلت الفاء» .
(3)
الإكليل (3/ 106).
• الحكم الثالث: وجوب الحد على الزاني والزانية البكرين العبد والأمة خمسون جلدة.
مأخذ الحكم: تخصيص عموم قوله: {الزَّانِيَةُ} بقوله في الإماء {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ، ثم قياس العبد على الأمة في نظير الحد، وهذا القياس مخصص لعموم قوله:{وَالزَّانِي} .
• الحكم الرابع: يقام الحد على الزناة في كل حال، سواء كانا صحيحين أو مريضين في البرد أو الحر.
مأخذ الحكم: يبينه الموزعي بقوله: «وأمر الله سبحانه بجلد الزناة مطلق في جميع الأحوال
…
، فذهب قوم إلى حمل الأمر على إطلاقه، فأقاموا الحد في جميع الأحوال؛ لأنه فريضة واجبة، فلا تؤخر عن وقتها؛ ولأن عمر رضي الله عنه، أقام الحد على قدامة وهو مريض
…
(1)
.
وكونه مطلقاً؛ لأن قوله {فَاجْلِدُوا} فعل، والأفعال نكرات، وهو في سياق إثبات.
• الحكم الخامس: يجرد المحدود عن ملابسه.
وذلك بعد الاتفاق على أن المرأة لا تجرد، وتستر بما لا يقيها الضرب
(2)
.
مأخذ الحكم: كون الجلد يقتضي مباشرة أبدانهما، ذكره ابن الفرس
(3)
.
(1)
تيسير البيان (4/ 44).
(2)
ينظر: أحكام القرآن (3/ 327).
(3)
ينظر: المصدر السابق.
• الحكم السادس: لا يكتفي بالضرب بها مجموعة ضربة واحدة، صحيحاً كان أو مريضاً.
مأخذ الحكم: مفهوم العدد في قوله: {مِائَةَ جَلْدَةٍ} ، وهذه جلدة واحدة.
ومن قال: بالإجزاء قاسه على الحنث الوارد في شرع من قبلنا: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]؛ وذلك عند من يقول بجواز القياس في الحدود.
• الحكم السابع: الرجل والمرأة في كيفية الضرب سواء، فيضرب قاعدين.
مأخذ الحكم: لإطلاق الله عز وجل ذلك، في قوله:{فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} ولم يفرق بين الرجل والمرأة.
• الحكم الثامن: تضرب الأعضاء كلها عدا المقاتل والوجه، والعورة للاتفاق على ذلك.
قال القرطبي: «قال ابن عطية: والإجماع في تسليم الوجه والعورة والمقاتل»
(1)
.
مأخذ الحكم: للإطلاق في قوله: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} ، ولم يخص جزء من الأخر.
• الحكم التاسع: يسقط الحد بالتوبة.
مأخذ الحكم: يحمل المطلق في هذه الآية على المقيد في قوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 16].
(1)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 145 - 146).
قال الموزعي: «وهذا مقيد بالتوبة، والمقيد قاض على المطلق باتفاق أهل العلم بشروط الاستدلال، وهذا عندي أقوى دليلا، وبه أقول؛ للنص المذكور في الآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم في ماعز: «هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه» لما أخبروه، أنه قال: ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مسَّه ألم الحجارة»
(1)
،
(2)
.
وفي النمل: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [النمل: 58].
وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود: 82].
ومثله في قوله: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر: 74].
استدل بالآيات السابقة على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: تحريم اللواط، وهو إتيان الرجل الرجل في دبره.
قال ابن الفرس: «الفاحشة هنا: إتيان الرجال في أدبارهم
…
، ولا اختلاف بين الأمة في تحريم هذا الفعل»
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك، برقم (4419).
(2)
تيسير البيان (2/ 301).
(3)
أحكام القرآن (3/ 56).
مأخذ الحكم: يظهر من خلال الأساليب الآتية:
* منها: الاستفهام في قوله: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} ، «وهذا استفهام يجمع الأئمة أنه استفها مجازي، المراد منه شدة الإنكار، والاستقباح» قاله المطعني
(1)
.
* ومنها: ذم الفعل وتسميته فاحشة، وهذ اسم لما يستقذر.
* ومنها: ترتب الحد الآتي عليه، وكونهم أنذروا ونهوا عنه:{فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} .
• الحكم الثاني: حد اللواط الرجم بالحجارة.
قال ابن الفرس: «وذهب مالك رحمه الله في المشهور عنه إلى أنهما يرجمان أحصنا أو لم يحصنا، والحجة لمالك أنه تعالى عاقبهم بأن أمطر عليهم حجارة من سجيل
…
، فإذا كان الله تعالى عاقبهم بالرجم بالحجارة في ذلك الوقت، ولم يكن بد من حد في ذلك، كان العقاب الذي عاقب به تعالى في ذلك الوقت أولى من إحداث عقاب آخر. ويؤيد هذا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم:«من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فارجموا الفاعل والمفعول» »
(2)
.
مأخذ الحكم: ما سبق في تقرير حجة مالك.
وذهب بعض العلماء إلى أن الحد أن يلقى من شاهق، أو موضع عال؛ استدلالاً بقوله تعالى:{جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} ، وقد ذكر جمع من المفسرين أن جبريل عليه السلام صعد بقرية لوط عليه السلام فصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم قلبها
(3)
.
(1)
التفسير البلاغي للاستفهام في القرآن الحكيم (1/ 388).
(2)
أحكام القرآن (3/ 57).
(3)
ينظر: موسوعة التفسير المأثور (11/ 384 - 386).
باب حد القذف
قال ابن الفرس: «القذف الرمي، وأصله من الرمي بالحجارة والسهام، ثم استعير للقذف لما بينهما من الشبهة
…
، إلا أنه قد خص في إطلاق أهل الشرع بالرمي في الزنا»
(1)
.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23].
واستدل العلماء بالآيتين على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: تحريم القذف.
مأخذ الحكم: ترتيب الحد عليه -كما سيأتي-، وذم الله الفاعل وتسميته له بالفاسق ولعنه، وعدم قبول شهادته إلا إذا تاب، ولا توبة إلا من معصية.
قال الموزعي: «ثم حكم الله سبحانه في القاذف، بأنه لا تقبل شهادته أبداً، وسماه فاسقا، ولعنه»
(2)
.
• الحكم الثاني: يجلد القاذف ثمانين جلدة، إذا قذف محصنة أو محصن.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ، إذا رمى محصنة كما في
(1)
أحكام القرآن (3/ 334).
(2)
تيسير البيان (4/ 52).
نص الآية.
والمحصنة: هي العفيفة باتفاق.
قال السيوطي: «ومفهومه أنه إذا قذف من عرفت بالزنا لا يحد القذف»
(1)
.
وقال الموزعي: «واقتضى الخطاب بمفهومه، ألا يجلد قاذف غير المحصنات، وعلى العمل بهذا المفهوم أجمع أهل العلم»
(2)
.
وفي مفهومه الموافق يدخل قذف الرجال المحصنين.
قال الموزعي: «والقرآن ورد في قذف المحصنات من النساء، والمحصنون من الرجال في معناهم بإجماع أهل العلم بالقرآن»
(3)
.
• الحكم الثالث: يحد قاذف الكافر والرقيق، وغير البالغ، والمجنون والمجبوب حد القذف.
مأخذ الحكم: الألف واللام الداخلة على الجمع في قوله: {الْمُحْصَنَاتِ} .
قال ابن الفرس: «وظاهر الآية العفاف في المسلمين والكافرين، وأنه من قذف أهل الكفر فعليه الحد
…
، والذي عليه الجمهور أن المراد بالآية المقذوفون من المسلمين، وأن الكفار مُخصصون من عمومها بالقياس على الفاسق المليء، وهذا إذا جعلنا الإحصان في الآية العفة خاصة، وأما إن جعلنا العفة والإسلام فليس للآية عموم يحتج به في ذلك»
(4)
.
(1)
الإكليل (3/ 108).
(2)
تيسير البيان (4/ 49).
(3)
المرجع السابق (4/ 52).
(4)
أحكام القرآن (3/ 377).
باب حد السرقة
قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38].
وفي قراءة شاذة: {فاقطعوا أيمانهما} .
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: تحريم السرقة.
مأخذ الحكم: ترتب الحد على فعله، وأكد ذلك سبحانه بقوله:{جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} ، وقوله:{نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} ، أي: به على سبيل التنكيل والاستخفاف بفاعله.
قال القرطبي: قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا} دخلت الفاء؛ لأنه موضع أمر، والأمر مضارع للشرط.
وقال المبرد: فيه معنى الجزاء، أي إن زنى زان فافعلوا به كذا، ولهذا دخلت الفاء، وهكذا {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}
(1)
.
• الحكم الثاني: وجوب قطع يد السارق والسارقة.
قال السيوطي في الآية: «أصل في قطع السارق والسارق»
(2)
.
مأخذ الحكم: بدلالة الإيماء، حيث اقترن الحكم {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} بالوصف {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} ب «الفاء» ، وهذا يدل على أن القطع وجب جزاءً على تلك السرقة، وأن السرقة هي: علة وجوب القطع.
• الحكم الثالث: تقطع يد السارق في القليل والكثير، وما كان في حرز، وما لم
(1)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن (12/ 444).
(2)
الإكليل (2/ 632).
يكن، فيعمُّ كل مسروق، سواء كان مالاً عاماً أو خاصاً.
مأخذ الحكم: الإطلاق والعموم الوارد في الآية، فيجري في كل ما يقع عليه سرقة إلا ما خصه الدليل. وسبق أن العلة هي السرقة بدلالة الإيماء.
قال الموزعي: «أوجب الله سبحانه علينا في هذه الآية قطع يد السارق والسارقة، وأطلق ذلك في جميع الأحوال والصفات، وقد اتفق أهل العلم على وجوب قطعهما، واتفقوا على تخصيص هذا الإطلاق ببعض الأحوال، فاشترطوا أشياء تعارض العموم، منها: إذا سرق ما له فيه شبهة
…
، ومنها: اشتراط النصاب، فلم يعتبره أهل الظاهر، وأوجبوا القطع في القليل والكثير
…
، ومنها: أعني الشروط المعارضة للعموم- الحرز
…
، ولم يعتبره أهل الظاهر لظاهر الآية»
(1)
.
وفي بيان المخصصات يرجع إلى كتب التفسير.
• الحكم الرابع: تقطع يد السارق اليمنى فقط.
قال ابن الفرس: «وذهب قومٌ إلى أنه لا تقطع من السارق إلى يده اليمنى خاصة، ثم إن سرق بعد ذلك عزر وحبس»
(2)
.
مأخذ الحكم: قراءة: {فاقطعوا أيمانهما} ، ذكره ابن الفرس، وقال السيوطي «قرأ ابن مسعود:{أيمانهما} ، وهي مبيِّنة للمراد»
(3)
.
قال ابن حجر في الفتح: «وأجمعوا على أن المراد اليمنى إن كانت موجودة»
(4)
.
ثم إن اليد تقع على الكف وحده، وعليه مع الساعد، وعليهما مع العضد، وجاءت السنة بفعله صلى الله عليه وسلم بيان موضع القطع، وأنه للكف فقط.
(1)
تيسير البيان (3/ 136).
(2)
أحكام القرآن (2/ 420).
(3)
الإكليل (2/ 633).
(4)
فتح الباري (12/ 116).
باب بيان المسكر
قال تعالى: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219].
استدل بالآية على إباحة التداوي بالخمر.
قال السيوطي: «قد يستدل بها لمن أباح التداوي بالخمر، ولما يقوله الأطباء فيها من المنافع»
(1)
.
مأخذ الحكم: كون الأخبار بوجود المنافع قرينة على جواز استباحة تلك المنافع، واقتران الإثم بها لا يزيل تلك المنافع.
نوقش: بأن سياق الآية يدل على أن المقصود الإخبار بذلك حتى لا يغتر بها المسلم، وإلّا فإنّ {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فتلك المنافع مهدرة وملغاة من الشارع.
(2)
(3)
.
(1)
الإكليل (1/ 394).
(2)
أخرجه أبو يعلى (12/ 402)، وصححه ابن حبان (2/ 335) قاله ابن حجر في فتح الباري (10/ 98)[الأشربة -15]، وعلقه البخاري موقوفاً على ابن مسعود (6/ 248)، ووصله ابن أبي شيبة. قال ابن حجر في الفتح (10/ 98):" وسنده صحيح على شرط الشيخين".
(3)
الإكليل (1/ 394 - 395)، وينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 231).
باب قطاع الطريق وحد المحاربة
سبق تعريف المحاربة في باب قتال الجاني، ويستدل بالآية على مسائل الحدود بما يأتي:
• الحكم الأول: حد الحرابة هو المنصوص في الآية، إلا أن الخلاف هل هي على التخيير للإمام أو هي للتنويع؟
مأخذ الحكم: دلالة «أو» في الآية: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} ، فقيل: هي للتخيير، وقيل: للتنويع.
قال الموزعي: «وقد حصر الله سبحانه جزاءها في أربعة أنواع، ونسقها بلفظ «أو» الموضوعة للتخيير حقيقة، وللتنويع مجازاً»
(1)
.
وقال الرازي: «للعلماء في لفظ: «أو» في هذه الآية قولان: الأول: أنها للتخيير، وهو قول ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة، وقول الحسن وسعيد بن المسيب ومجاهد، والمعنى: أن الإمام إن شاء قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء قطع الأيدي والأرجل، وإن شاء نفى، أي واحد من هذه الأقسام شاء فعل.
(1)
تيسير البيان (3/ 127).
وقال ابن عباس في رواية عطاء: كلمة: «أو» هاهنا ليست للتخيير، بل هي لبيان أن الأحكام تختلف باختلاف الجنايات، فمن اقتصر على القتل قتل، ومن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن اقتصر على أخذ المال، قطع يده ورجله من خلاف، ومن أخاف السبل ولم يأخذ المال، نفي من الأرض، وهذا قول الأكثرين من العلماء
…
»، ثم ضعف القول الأول، وقال: «فثبت أنه لا يجوز حمل الآية على التخيير، فيجب أن يضمر في كل فعل على حدة، فعلا على حدة، فصار التقدير: أن يقتلوا إن قتلوا، أو يصلبوا إن جمعوا بين أخذ المال والقتل، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، إن اقتصروا على أخذ المال، أو ينفوا من الأرض إن أخافوا السبل
…
»
(1)
.
• الحكم الثاني: الصلب حد قائم بذاته.
مأخذ الحكم: ظاهر الآية في تنويع الحد، أو تقسيمه إلى أربعة أجزاء.
(2)
.
ثم تكلم عن الخلاف في كونه يصلب أولاً، ثم يقتل أو القتل أولاً، ثم قال:«والجمهور على أنه لا يترك حتى تأكله السباع والكلاب، ولا يترك أهله لدفنه، ولا يتركون أن ينزلوه، وهو ظاهر الآية»
(3)
.
• الحكم الثالث: يكون القطع للأيدي والأرجل على خلاف.
(1)
التفسير الكبير للرازي (4/ 346 - 347).
(2)
أحكام القرآن (2/ 397)
(3)
المصدر السابق (2/ 298).
مأخذ الحكم: ظاهر الآية.
(1)
.
• الحكم الرابع: لا حد لقليل المال أو لكثيره فيما يوجب القطع.
مأخذ الحكم: عدم تحديد الشارع نصاب ما يوجب القطع هنا، فأطلق القطع.
وسبق من كلام الرازي تقدير: «أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال» .
(2)
.
ثم بيَّن أن الشافعي «اعتبر النصاب احتياطاً لحدود الله، والله أعلم» ا. هـ.
• الحكم الخامس: تقبل توبة المحارب قبل القدرة عليه.
وذكر الموزعي أن عليه كافة أهل العلم
(3)
.
مأخذ الحكم: استثناء الشارع من خزي الدنيا، وهي الحدود من تاب قبل القدرة، وختم الآية بأنه:{غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34].
(1)
تيسير البيان (3/ 129).
(2)
تيسير البيان (3/ 132).
(3)
ينظر: تيسير البيان (3/ 133).
تنبيه: قال الموزعي نقلاً عن الشافعي ومالك وأحمد: «تسقط عنه حقوق الله تعالى فقط، أما حقوق الآدميين، فلا تسقط، وبه قال الحنفية» ، ثم قال:«وهو أصح الأقوال؛ لأن الله تعالى لم يذكر إلَّا جزاءه، وحظه من العقوبة فقط، ثم عقبه بذكر التوبة، وأما حقوق الآدميين فقد تظافرت النصوص على أنها لا تسقط إلا بإسقاط صاحبها، وليس في الآية تعرض لها»
(1)
.
• الحكم السادس: أن المحارب إذا قتل، وعفا عنه ولي الدم لا يفيده العفو.
مأخذ الحكم: دلالة الإشارة، بكونه حقًّا لله، لا يسقط بإسقاط العباد؛ وذلك بقوله:{يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} .
(1)
المرجع السابق (3/ 134).
كتاب الجهاد
قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216].
استدل بالآية على أن الجهاد فرض كفاية، واجب على الكل ويسقط ببعضٍ
(1)
.
مأخذ الحكم: لأنّ ضمير الجمع في قوله: {عَلَيْكُمُ} يعم الجميع، ومثله {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} .
واستدل بها من قال: إن الجهاد في عهده صلى الله عليه وسلم كان فرض عين
(2)
.
ولعل مأخذ الحكم: بضميمة قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} ، أو بفعله عليه السلام حيث كان يستنفرهم، ومن استنفره تعين عليه.
لكن ثبت أنّه صلى الله عليه وسلم كان ينفر وقد يتخلف عنه بعض أصحابه.
أو يكون مأخذه من الآية {عَلَيْكُمُ} فهو خطاب لهم، وفي حال وظروف معينة، فيبقى على الأصل عمومه على الجميع عينًا.
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217].
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 393)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 272)، وتيسير البيان للموزعي (1/ 370 - 371).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 393)، وتيسير البيان للموزعي (1/ 372).
استدل بالآية على منع القتال في الشهر الحرام
(1)
.
المقصود منع ابتداء القتال في الشهر الحرام، وأمّا الدفاع فيجوز بلا خلاف.
مأخذ الحكم: قوله: {كَبِيرٌ} أي: عظيم، ووصف الفعل بذلك في مقام الذم يدل على التحريم، والمنع عن المبادأة، ويؤيد تحريم القتال، وكونه محكمًا غير منسوخ، قوله في المائدة:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} ، والمائدة من آخر ما نزل من القرآن.
تنبيه: ادعي نسخ الآية. وهو قول الأكثر والأشهر، وجعلوا الناسخ قوله:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} أي: في أي زمان أو مكان.
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب مصابرة الضعف من العدو، وعدم جواز الفرار.
قال السيوطي: «فيها مصابرة الضعف من العدو، وتحريم الفرار ما لم يزد عدد الكفار»
(2)
.
وقال الموزعي: «وعلى مصابرة أهل الضعف أجمع أهل العلم»
(3)
.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 393)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 273 - 275)، وتيسير البيان للموزعي (1/ 374 - 375).
(2)
الإكليل (2/ 795).
(3)
تيسير البيان (3/ 296).
مأخذ الحكم: تعليق الحكم وخروجه مخرج الشرط، {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66]، فعلق عليه الغلبة والنصرة؛ للدلالة على كونه في قدرة العبد ولا عذر له في الفرار.
ومفهوم العدد يدل على أن عدد العدو إن زاد على الضعف جاز الفرار.
• الحكم الثاني: المعتبر بالضعف العدد لا القوة.
قال السيوطي: «وفيها الرد على من اعتبر الكثرة في السلاح دون العدد»
(1)
.
(2)
.
مأخذ الحكم: ظاهر القرآن، حيث إن الظاهر النظر إلى عدد المقاتلين، لا إلى صفاتهم.
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: جواز الأسر بدل القتل، والتخيير بينهما، قاله السيوطي
(3)
.
(1)
الإكليل (2/ 795).
(2)
تيسير البيان (3/ 297).
(3)
ينظر: الإكليل (2/ 798).
وقال ابن الفرس في الآية: «معناه: وخذوهم أسرى للقتل أو للمن أو للفداء» ، ثم بيَّن ذلك بقوله تعالى:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4]
(1)
.
مأخذ الحكم: تفسير القرآن بالقرآن، وهو أعلى وجوه البيان.
• الحكم الثاني: جوزا حصارهم والإغارة عليهم وبياتهم
(2)
.
مأخذ الحكم: الأوامر الواردة في الآية. وهو مقتضى قوله: {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} .
• الحكم الثالث: جوزا قتلهم بأي وجه كان.
قال ابن الفرس: «دليل على جواز قتلهم بأي وجه كان إلا أن الأخبار وردت بالنهي عن المثلة»
(3)
.
مأخذ الحكم: إطلاق الآية صفة القتل. فقوله: {فَاقْتُلُوا} فعل، والأفعال نكرات، وإذا وردت في سياق الإثبات تكون مطلقة، وعليه يكون القتل على أي صفة.
(4)
.
• الحكم الرابع: يقتل أهل الكتاب كغيرهم من المشركين.
قال الموزعي: «يحتمل أن تكون هذه الآية متناولة لأهل الكتاب بلفظها؛ لأنهم
(1)
أحكام القرآن (3/ 121).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 313).
(3)
أحكام القرآن (3/ 123).
(4)
المصدر السابق (3/ 123).
مشركون بقولهم: عزيز: ابن الله، والمسيح: ابن الله
…
، ويحتمل أن تكون غير متناولة لهم؛ لاختصاصهم باسم يخصهم، فلا يحتاج إلى دليل يخرجهم من عموم هذه الآية»
(1)
.
مأخذ الحكم: عموم قوله: {الْمُشْرِكِينَ} بكونه جمع معرف، مع التوجيه المذكور في كلام الموزعي.
• الحكم الخامس: وجوب الكف عن قتل المشرك إذا تاب وأقام الصلاة وأتى الزكاة.
قال الموزعي: «وأما حكم الكف عنهم، فإن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة شرط فيه، لا خلاف في ذلك علمته بين أهل العلم»
(2)
.
مأخذ الحكم: مفهوم الشرط الوارد في الآية، أنهم إذا فعلوا ذلك خُليَّ سبيلهم.
• الحكم السادس: دلت الآية على قتل المشرك في أي مكان.
مأخذ الحكم: العموم في قوله: {حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} و «حيث» عامة في أفراد الأمكنة.
(3)
.
تنبيه: ويخصص من أفراد المشركين في الآية: النساء والصبيان، وغير المقاتلة كما في سورة البقرة.
(1)
تيسير البيان (3/ 311).
(2)
المصدر السابق (3/ 313).
(3)
المصدر السابق (3/ 311).
وقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41].
استدل بالآيتين على وجوب النفرة للجهاد عند الاستنفار.
مأخذ الحكم من الآية الأولى: العتاب في قوله: {مَا لَكُمْ} وترتب العقاب في قوله: {يُعَذِّبْكُمْ} على من تخلف.
ومأخذ الحكم من الآية الثانية: الأمر في قوله: {انْفِرُوا} .
من العلماء من خصَّ الوجوب على كافة المؤمنين إذا نفر النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل واجب على بعضهم إذا لم ينفر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بدليل قوله تعالى:{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120]، قاله الموزعي
(1)
.
قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
(1)
ينظر: تيسير البيان (3/ 347).
استدل بالآية على أن الجهاد فرض كفاية
(1)
.
مأخذ الحكم: لم يجعل النفر للقتال واجباً على الجميع، بقوله:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} ، فدلَّ أنه على طائفة، ولو كان فرض عين لكان على الجميع.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123].
استدل بالآية على وجوب الابتداء في القتال بالأقرب فالأقرب إلى بلد المقاتلين
(2)
.
قال ابن الفرس: «فأمر الله تعالى بغزو الأدنى فالأدنى»
(3)
.
مأخذ الحكم: الأمر بمقاتلة الذين يلونهم بقوله: {الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ} ، حيث قيَّد سبحانه المقاتلة بالذين يلونهم وهم الأقرب فالأقرب.
قال تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: بيان كيفية القتال، وأنه لا يجوز الأسر قبل الإثخان.
قال السيوطي: «فيها بيان كيفية الجهاد، فعند اللقاء تضرب الرقاب، وعند الإثخان وإزالة الامتناع بشد الوثاق بالأسر، ثم يتخير فيهم الإمام إما منّاً أو فداء
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 837).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 838).
(3)
أحكام القرآن (3/ 202).
بمال أو أسرى من المسلمين»
(1)
.
(2)
.
مأخذ الحكم: ظاهر الآية وبحسب ما ذكره السيوطي والموزعي.
• الحكم الثاني: عدم جواز قتل الأسير
(3)
.
قال السيوطي: «وظاهر الآية امتناع القتل بعد الأسر»
(4)
.
مأخذ الحكم: الحصر في صفة العمل به: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} .
استدل بالآية على وجوب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم في الغزو قبل الانصراف عنه.
لا خلاف بين العلماء في دخول الغزو في الأمر الجامع الوارد في الآية
(5)
.
وذكر السيوطي عن أبي مليكة في معنى الأمر الجامع، قال:«هي في الجهاد والجمعة والعيدين»
(6)
.
(1)
الإكليل (3/ 1185).
(2)
تيسير البيان (4/ 148).
(3)
ينظر: تيسير البيان (4/ 148).
(4)
الإكليل (3/ 1185).
(5)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 349).
(6)
الإكليل (3/ 1048).
وقال ابن الفرس: والأمر الجامع يريد به ما للإمام حاجة إلى جمع الناس فيه المصلحة»
(1)
.
مأخذ الحكم: مفهوم الحصر في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} ، ومفهومه أنه ليس على طريقة المؤمنين من ينصرف عنه دون حاجة، كما يفعل المنافقون.
وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
استدل بالآيتين على تحريم الفرار يوم الزحف والتقاء الجمعين
(2)
.
مأخذ الحكم من الآية الأولى: النهي المقتضي للتحريم بقوله: {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} . والوعيد والذم بكونه قد: {بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ،
ومأخذ الحكم من الآية الثانية: الأمر بالثبات، وهذا يقتضي عدم جوا الفرار.
تتمة: تكلم كثير من العلماء في الخلاف في تخصيص الآية الأولى بيوم بدر؛ لأن الله أشار إليه بقوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} ، وأجيب: بأن الإشارة تعود إلى يوم الزحف
(3)
.
(1)
أحكام القرآن (3/ 393).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 782).
(3)
ينظر: الإكليل (2/ 782)، وتيسير البيان (3/ 275)، أحكام القرآن لابن القرآن (3/ 79).
قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91].
وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61].
استدل بالآيتين على رفع الجهاد عن الضعيف والمريض، ومن لا يجد نفقته ولا أهبة للجهاد ولا محملاً
(1)
.
وجعل الموزعي الآية الثانية، مبينة لصفة الضعيف في الآية الأولى، ثم قال:«وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن النساء والصبيان من الضعفاء»
(2)
.
مأخذ الحكم: رفع الحرج في الآية وهو من الأساليب الشرعية الدالة على رفع التكليف.
فائدة: اختلف المفسرون في الحرج المرفوع في الآية الثانية، قيل: المراد به: ترك الغزو، وقيل: في الأكل مع غيرهم، وقيل: غير ذلك
(3)
.
(4)
.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 826).
(2)
تيسير البيان (3/ 370).
(3)
ينظر: الإكليل (3/ 1043).
(4)
أحكام القرآن (3/ 387).
قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب إجارة المشرك، والكف عنه إذا دخل دار الإسلام؛ ليسمع كلامه
(1)
.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله: {فَأَجِرْهُ} ، وهو على ظاهره يقتضي الوجوب.
قال الموزعي: «وهذا الحكم متفق عليه، والأمر في هذا للوجوب؛ إذ يجب إقامة حجة الله وإزالة الشبهة عن عباده، وإعانة طالب الحق»
(2)
.
وقال السيوطي: «ولا تجب الإجارة لغير ذلك»
(3)
.
• الحكم الثاني: يجب أن يكون مع المجاهدين عالم يقوم بالمناظرة وإقامة الأدلة.
قال ابن الفرس: «لأنه لا يؤمن أن يكون في الكفار من يطلب ذلك، والأمر في هذه الآية على الوجوب»
(4)
.
مأخذ الحكم: أن إجابة المشرك، وإجارته تجب لأجل إزالة الشبهة كما سبق في الحكم الأول، ولا يتحقق ذلك إلا بوجود عالم قادر على المناظرة، فوجب وجوده؛ لأن ما لا يتم الواجب إلَّا به فهو واجب.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 799).
(2)
تيسير البيان (3/ 316).
(3)
الإكليل (2/ 799).
(4)
أحكام القرآن (3/ 125).
• الحكم الثالث: يجوز لآحاد المسلمين إجارة المشرك للغرض المذكور.
مأخذ الحكم: أن الخطاب، وإن كان موجهاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن أمته تدخل معه؛ فيما لاختصاص فيه.
قال الموزعي: «الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به جميع الأمة، فيجوز لآحادهم أن يجيروا آحاد المشركين»
(1)
.
• الحكم الرابع: وجوب الدعوة قبل القتال
(2)
.
مأخذ الحكم: بدلالة الإشارة؛ إذ المقصود إزالة الشبهة عن عباده؛ إذ إن إجازة إجارة آحاد المشركين لذلك ودعوتهم للإسلام لأجل ذلك.
قال السيوطي: «وفي الآية إشارة إلى وجوب الدعوة قبل القتال»
(3)
.
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: تفضيل المجاهدين على غيرهم، وأن المعذورين في درجة المجاهدين
(4)
.
مأخذ الحكم: نفي المساواة يقتضي وجود التفاضل، ثم استثناء أولي الضرر،
(1)
تيسير البيان (3/ 316).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 799).
(3)
الإكليل (2/ 799).
(4)
ينظر: الإكليل (2/ 584).
من نفي التفاضل بدل على إثبات المساواة لهم، والاستثناء من النفي إثبات
(1)
.
• الحكم الثاني: تفضيل المجاهد بمال نفسه على المجاهد بمال يعطاه من الديوان ونحوه.
مأخذ الحكم: تخصيص ذكر المال -مع الاستواء في تقديم النفس- له فائدة وفضل، وليس من جاء بنفسه وماله، كمن جاء بنفسه فقط.
• الحكم الثالث: فرض الجهاد على الكفاية.
قال الموزعي: «وفيها دليل على أن الجهاد لا يجب على جميع أعيان المسلمين؛ إذ قد وعد الله القاعدين بالحسنى، كما وعد المجاهدين»
(2)
.
مأخذ الحكم: ما ذكره الموزعي وزاد عليه الرازي بقوله: «ولو كان الجهاد واجباً على التعيين، لما كان القاعد أهلاً لوعد الله تعالى إياه بالحسنى»
(3)
.
دلت الآية على فضل الجهاد.
مأخذ الحكم: سياق الآية وما ورد فيه من وعد.
قال الرازي في تفسيره: «واعلم أن هذه الآية مشتملة على أنواع من التأكيدات:
(1)
ينظر: التفسير الكبير للرازي (4/ 193).
(2)
تيسير البيان (2/ 478).
(3)
التفسير الكبير للرازي (4/ 194).
فأولها: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} فيكون المشتري هو الله المقدس عن الكذب والخيانة، وذلك من أدل الدلائل على تأكيد هذا العهد. والثاني: أنه عبر عن إيصال هذا الثواب بالبيع والشراء، وذلك حق مؤكد. وثالثها: قوله: {وَعْدًا} ووعد الله حق. ورابعها: قوله: {عَلَيْهِ} وكلمة: «على» للوجوب. وخامسها: قوله: {حَقًّا} وهو التأكيد للتحقيق. وسادسها: قوله: {فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} وذلك يجري مجرى إشهاد جميع الكتب الإلهية، وجميع الأنبياء والرسل على هذه المبايعة. وسابعها: قوله: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} وهو غاية في التأكيد. وثامنها: قوله: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} وهو أيضا مبالغة في التأكيد. وتاسعها: قوله: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ} . وعاشرها: قوله: {الْعَظِيمُ} فثبت اشتمال هذه الآية على هذه الوجوه العشرة، في التأكيد والتقرير والتحقيق»
(1)
.
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].
يطلق النفل ويراد به معنيان:
أحدهما: جملة الغنيمة؛ لأنها زيادة على ما بأيدي الغانمين من المال.
الثاني: ما يرغب به الإمام بعض الغزاة على فعل يفعله زيادة على السهم المقسوم له، وهذا الذي عليه عرف الفقهاء، قاله الموزعي
(2)
.
وقال ابن الفرس بعد أن ساق المعنيين السابقين: «ولكن المفسرين ساقوه على
(1)
المصدر السابق (6/ 152).
(2)
ينظر: تيسير البيان (3/ 265 - 267).
أن المراد بالأنفال: الغنائم»
(1)
.
واستدل بالآية على جواز تنفيل الإمام شيئا من الغنيمة لمن رآه أهلاً لذلك.
مأخذ الحكم: بناء على تفسير الأنفال بالمعنى الثاني، وهو ما ينفله الإمام
(2)
.
(3)
.
ذكر ابن الفرس أن المولى ذكر حكم أموال الكفار المأخوذة منهم باسم الغنيمة في سورة الأنفال، وباسم الفيء في سورة الحشر، وذكر أن أقوال المفسرين قد اضطربت في تعريفهما
(4)
.
وذكر الموزعي أن الجمهور ذهبوا إلى أن الغنيمة هي المأخوذ من الكفار قهراً أو قسراً سواء كان منقولاً أو غير منقول.
والفيء: ما أخذ بغير قتال ولا إيجاف خيل وركاب.
وقيل: هما بمعنى واحد
(5)
.
(1)
أحكام القرآن (3/ 75).
(2)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 76).
(3)
المصدر السابق (3/ 76 - 77).
(4)
ينظر: أحكام القرآن (3/ 86).
(5)
ينظر: تيسير البيان (3/ 282 - 283).
واستدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب تقسيم الغنيمة أخماساً: أربعة منها للغانمين، والخمس الباقي يقسم خمسة أسهم: لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذي القربى سهم، ولليتامى سهم، وللمساكين سهم، ولابن السبيل سهم.
مأخذ الحكم: الأمر بالإيجاب المقدّر. وبيانه كما يقول الرازي: «{فَأَنَّ لِلَّهِ}: خبر مبتدأ محذوف تقديره: فحق أو فواجب أن لله خمسه» ، وبيَّن أن ذلك آكد وأثبت للإيجاب؛ «لأنه إذا حذف الخبر واحتمل وجوهاً كثيرة من المقدرات، كقولك ثابت: واجب، حق، لازم، كان أقوى لإيجابه»
(1)
.
ومما يدل على الإيجاب كذلك قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} «يعني: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} فاحكموا بهذه القسمة، وهو يدل على أنه متى لم يحصل الحكم بهذه القسمة، لم يحصل الإيمان بالله» ، والإيمان بالله واجب، ولا يتم إلا بهذه القسمة، فتكون واجبة.
• الحكم الثاني: تقسيم جميع الغنائم بين الغانمين.
(2)
.
مأخذ الحكم: عموم «ما» في قوله: {أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} ، فهي موصولة تفيد العموم.
ثم قوله: {مِنْ شَيْءٍ} يعنى: أي شيء كان حتى الخيط والمخيط،
(1)
تفسير الرازاي (5/ 484).
(2)
الإكليل (2/ 789).
قاله الرازي
(1)
.
(2)
.
تنبيه: قال صاحب اللباب في علوم الكتاب: «أجمع العلماء على أن قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} ليس على عمومه، وأنه مخصوص باتفاقهم على أن سلب المقتول لقاتله إذا نادى به الإمام، وكذلك الأسارى الإمام فيهم مخير، وكذلك الأراضي المغنومة»
(3)
.
قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 69].
استدل بالآية على جواز الأكل من الغنيمة قبل القسمة
(4)
.
وقد أحل الله عز وجل بهذه الآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وما كان محظوراً على غيرهم من الغنائم
(5)
.
مأخذ الحكم: إطلاق المولى سبحانه وتعالى إباحة الأكل من غير تقييد بالقسمة.
وكونها مطلقة؛ لأن قوله: {فَكُلُوا} فعل، والأفعال نكرات، وهي في سياق إثبات.
(1)
ينظر: التفسير الكبير للرازي (5/ 484).
(2)
تيسير البيان (3/ 292).
(3)
اللباب (9/ 521).
(4)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 109 - 110)، والإكليل (2/ 795).
(5)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 109).
قال ابن الفرس: «وفي الآية دليل على جواز الأكل من الغنيمة قبل القسمة؛ لأن إباحة الأكل منها مطلقة لم يخص قبل القسمة أو بعدها»
(1)
.
قال تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5].
استدل بالآية على جواز قطع شجر المشركين وتخريب بيوتهم
(2)
.
مأخذ الحكم: إقرار المولى ورسوله لتخريب نخلهم، ومدح الفعل وتعليله بكونه يخزي الفاسقين ويغيضهم.
قال ابن الفرس: «والحجة لقول الجمهور ظاهر الآية، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم على تحريق نخل بني النضير»
(3)
.
وقال الموزعي: «لبيان النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بفعله»
(4)
.
قال السيوطي: «استدل به على أن الفيء: ما أخذ من الكفار بلا قتال وإيجاف خيل وركاب، ومنه ما جلوا عنه خوفاً. والغنيمة: ما أخذ منهم بقتال كما تقدَّم في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41]؛ خلافاً لمن زعم أنهما بمعنى واحد،
(1)
أحكام القرآن (3/ 110).
(2)
ينظر: تيسير البيان (4/ 213)، والإكليل (3/ 1241).
(3)
أحكام القرآن (3/ 540).
(4)
تيسير البيان (4/ 213).
أو فرق بينهما بغير ذلك»
(1)
.
(2)
.
وذكر أن «الغنيمة والفيء يجتمعان في أن فيهما الخمس في جميعهما، لمن سماه الله تعالى له في الآيتين معاً، ثم يفترق الحكم في الأربعة الأخماس، كما بيَّن الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وفي فعله؛ فإنه قسم أربعة أخماس الغنيمة، والغنيمة: هي الموجف عليه بالخيل والركاب لمن حضر من غني وفقير.
والفيء: هو ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فكانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرى التي أفاء الله عليه أن أربعة أخماسها لرسول الله دون المسلمين، يضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أراد الله عز وجل»
(3)
.
ثم بيَّن أن هذا الاستنباط لا يدل عليه لفظ القرآن، وإنما الذي يدل أنه صلى الله عليه وسلم كان يملك لكل؛ وذلك بتسليط الله عز وجل ذلك لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما في قوله:{وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} ، وذكر ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل معه في الذكر لبيان المصرف لا حقيقة التملك والتشريك، وإنما خصَّهم الله بالذكر؛ ليقطع طمع المقاتلين، هكذا ذكر الموزعي
(4)
، والله أعلم.
(1)
الإكليل (8/ 1242).
(2)
تيسير البيان (4/ 215).
(3)
تيسير البيان (4/ 215).
(4)
ينظر: تيسير البيان (4/ 218 - 219).
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161].
استدل بالآية على تحريم الغلول.
والغلول: هي الخيانة في المغنم أو السرقة منها.
قال ابن قتيبة: «وسُمي بذلك؛ لأن آخذه يغُلُه في متاعه، أي: يخفيه فيه»
(1)
.
مأخذ الحكم: التهديد وترتيب العقوبة عليه في الآخرة، بأن يأت بما غل، يدل على تحريم هذا الفعل.
باب الجزية والهدنة
الجزية: كما في تهذيب الأسماء واللغات: «بكسر الجيم، جمعها جِزى -بالكسر- أيضاً، كقربة، وقِرب ونحوه، وهي مشتقة من الجزاء، كأنها جزاء إسكاننا إياه في دارنا، وعصمتنا دمه، وماله، وعياله.
وقيل: هي مشتقة من جزى يجزي إذا قضى، قال تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 123]، أي: لا تقضي»
(2)
ا هـ.
وعُرِّفت اصطلاحاً بأنها: مال يؤخذ من أهل الذمة على وجه الصغار كل عام، بدلاً عن قتلهم، وإقامتهم بدارنا
(3)
.
والهدنة: عقد إمام أو نائبه على ترك القتال مع غير المسلمين مدة معلومة بقدر الحاجة
(4)
.
(1)
فتح الباري (6/ 228).
(2)
تهذيب الأسماء واللغات للنووي (3/ 51).
(3)
ينظر: كشاف القناع (3/ 117).
(4)
ينظر: المصدر السابق (3/ 111).
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية الجزية وقبولها من أهل الكتاب.
قال السيوطي: «هذه أصل في قبول الجزية من أهل الكتاب
…
، وعلى من لم يوجب قبولها منهم، وفيها رد على من قبلها من غيرهم أيضاً»
(1)
.
مأخذ الحكم: مفهوم الآية ودليل خطابها أنهم يقاتلون حتى يعطوا الجزية، وفيها أمرهم بذلك وإلا استحقوا العذاب والمقاتلة، ثم إنهم لم يؤمروا بالإعطاء إلا لأجل قبولها وأخذها منهم.
قال ابن الفرس في الآية: «هذا هو الدليل على قبول الجزية؛ لأن دليل خطابه: فإذا أعطوا الجزية فكفوا عنهم ونحو ذلك»
(2)
.
وعوداً إلى ما ورد من كلام السيوطي في هذه الآية في صدر المسألة، فأقول:
أولاً: من لم يوجب قبول الجزية من أهل الكتاب نظراً لكون الآية عنده منسوخة.
ثانياً: من قبلها من أهل الكتاب لمفهوم الصفة في الآية، فيقتضي ألا تؤخذ من غيرهم
(3)
.
قال الموزعي: «ومن أجله قصر الشافعي رحمه الله قبول الجزية على أهل الكتاب؛
(1)
الإكليل (2/ 802).
(2)
أحكام القرآن (3/ 128).
(3)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 132 - 133)، وتيسير البيان (3/ 329).
لمفهوم هذه الآية، ولمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: في المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ؛ وهذا يقتضي تخصيص سنة الجزية بأهل الكتاب»
(1)
.
• الحكم الثاني: يترك أهل الذمة في بلد أهل الإسلام إذا أدوا الجزية.
مأخذ الحكم: دليل الخطاب السابق؛ إذ يقتضي الكف عنهم إذا أدوا الجزية.
(2)
.
وقبله ذكر ابن الفرس هذا المأخذ وزاد «وتأويل ما جاء في الأحاديث يخالف ذلك»
(3)
، وذكر منها حديث:(اخرجوا المشركين من جزيرة العرب)
(4)
.
• الحكم الثالث: تؤخذ الجزية بإهانة.
قال السيوطي: «فاستدل بها من قال: إنها تؤخذ بإهانة»
(5)
ثم بيَّن وجه ذلك.
مأخذ الحكم: أمر الشارع بأخذها بالصفة المذكورة.
قال الموزعي: «ومتى وجب قبول الجزية، فلا بد من اقترانها بالصغار والهوان، كما أمر الله. والصغار عند الشافعي هو: التزامهم لجريان أحكام الإسلام عليهم في عقد الذمة. وقال بعضهم: هو أن تؤخذ منهم الجزية من قيام، والآخذ قاعد
…
»
(6)
.
(1)
تيسير البيان (3/ 329).
(2)
الإكليل (2/ 805).
(3)
أحكام القرآن (3/ 129).
(4)
أخرجه البخاري في كتاب الجزية، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب، ومسلم في كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه.
(5)
الإكليل (2/ 804).
(6)
تيسير البيان (3/ 330).
فائدة: قال القرافي: «إن قاعدة الجزية من باب التزام المفسدة الدنيا لدفع المفسدة العليا، وتوقع المصلحة، وذلك هو شأن القواعد الشرعية.
بيانه: أن الكافر إذا قتل انسد عليه باب الإيمان، وباب مقام سعادة الإيمان، وتحتم عليه الكفر والخلود في النيران، وغضب الدَّيان، فشرع الله تعالى الجزية رجاء أن يسلم في مستقبل الأزمان، لا سيما باطلاعه على محاسن الإسلام»
(1)
.
• الحكم الرابع: لا حدَّ لأقل الجزية
(2)
.
مأخذ الحكم: إطلاق الشارع لمقدار الجزية.
قال الموزعي: «وأطلق سبحانه الجزية ولم يحدَّها بحد» .
ثم ذكر مذاهب العلماء في التحديد، وبيَّن في ختمها أن قوماً أخذوا «بظاهر الكتاب، وقالوا: لا حدَّ فيه، بل الحد مصروف إلى اجتهاد الإمام، وبهذا قال الثوري وهو مذهب قوي الدليل»
(3)
.
قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: أن المرتد إذا نصب للحرب راية فقَتَل وأتلف مالاً، ثم تاب لم يؤاخذ بشيء من ذلك
(4)
.
مأخذ الحكم: هو إطلاق الآية وعدم التفريق في المغفرة بين حقوق الله
(1)
الفروق (3/ 23).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 805).
(3)
تيسير البيان (3/ 333).
(4)
ينظر: الإكليل (2/ 787).
وحقوق الآدميين، والمطلق يجري على إطلاقه ما لم يرد دليل تقييده.
قال ابن الفرس بعد أن ذكر أنهم احتجوا بالآية: «ولم يفرق فيها بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لم يضمن أحداً من أهل الردة»
(1)
.
• الحكم الثاني: تسقط الجزية عن الذمي إذا أسلم
(2)
.
قال الموزعي: «وقد اتفق المسلمون على اسقاط الحقوق المعلّقة بالمشرك الحربي بالإسلام مطلقا»
(3)
، ومن ذلك الجزية.
مأخذ الحكم: هو المأخذ السابق، حيث أطلق سبحانه المغفرة بعد إسلامه، فتشمل ما وجب عليه قبل إسلامه.
قال تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة: 2].
استدل بالآية على تأجيل الكافرين أربعة أشهر وعشر، وحملت الآية على محامل وأحوال وبحسبها تختلف الأحكام، ومما حملت عليه كون التأجيل للمشركين الذين لا عهد لهم ألبتة، وقيل لذوي العقود المطلقة، وقيل: من نقض عهد يضرب لهم ذلك وغير ذلك
(4)
.
مأخذ الحكم: للأمر الدال على المشروعية والإباحة؛ إذا المقصود الإعلام بحصول الأمان من القتل والقتال المدة المضروبة.
(1)
أحكام القرآن (3/ 43)
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 788).
(3)
تيسير البيان (3/ 278 - 279).
(4)
ينظر: تيسير البيان (3/ 305)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 116).
قال تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4].
استدل بالآية على عدم جواز نقض العهد إلا بناقض ظاهر أو توقعه
(1)
.
مأخذ الحكم: أمره سبحانه وهو على ظاهره للوجوب، فيجب الوفاء بالعهد لهم إلا أن ينقض بما ذكر في الآية.
(2)
.
قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61].
وقوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35].
استدل بالآيتين على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: حمل الآية الأولى فيما إذا التمس المشركون الصلح. والآية الثانية: النهي عن ابتدائهم بالصلح.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 797)، وينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 119).
(2)
أحكام القرآن (3/ 118 - 119).
مأخذ الحكم: لما كان بين ظاهر الآيتين تعارض، ذهب بعض العلماء إلى كون آية محمد ناسخة لآية الأنفال، وحكي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذهب بعضهم إلى أنها منسوخة بآية السيف، ذكر ذلك الموزعي ثم قال:«والصواب عدم النسخ؛ لفقدان التعارض، وإمكان الجمع بين الآيات كلها، فليس بينها اختلاف»
(1)
، ثم ذكر الجمع المذكور في حكم الآية.
وقال ابن الفرس: «وأما قول ابن عباس: فضعيف؛ لأن الآيتين ليس بينهما تعارض، وعلى الاختلاف في هذه الآية، اختلفوا في جواز مهادنة الكفار
…
»
(2)
.
• الحكم الثاني: إباحة الهدنة لغير ضرورة.
قال السيوطي: «فاستدل بها من أباح الهدنة لغير ضرورة»
(3)
.
مأخذ الحكم: جواب الشرط في قوله: {فَاجْنَحْ لَهَا} وهو أمر دال على المشروعية، وفيه أطلق المولى لهم الجنوح والميل إلى السلم، ولم يقيد بحالة دون حالة.
تنبيه: قيّد كثير من العلماء الجنوح إلى السلم في حال ضعف المسلمين، وذكر ابن الفرس محل الخلاف، فقال:«وهذا الخلاف عندي إنما هو ما لم يخف على المسلمين أن يصطلحوا، فأما إذا خيف ذلك فجائز مصالحتهم على مال أو على غير مال، فأما على أن يؤخذ من الكفار فلا خلاف في جوزاه -وسيأتي الكلام عليه-، وإنما الخلاف إذا كان على أن لا يأخذ منهم شيئاً، أو على أن يعطيهم شيئاً، وهذا كله مع الذين يجوزون أخذ الجزية منهم»
(4)
.
(1)
تيسير البيان (3/ 295).
(2)
أحكام القرآن (3/ 105)، وتفسير ابن كثير (4/ 117).
(3)
الإكليل (2/ 793).
(4)
أحكام القرآن (3/ 106).
• الحكم الثالث: لا يعقد الهدنة إلا الإمام أو نائبه.
(1)
. وسبقه إلى ذلك ابن الفرس
(2)
.
مأخذ الحكم: كون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأئمة المسلمين وولاتهم تبع له في الحكم.
• الحكم الرابع: جواز مهادنة المشركين إلى مدة وغير مدة
قال ابن الفرس: «وهذا القول أليق بظاهر الآية إذا قلنا بأنها محكمة»
(3)
، ويقصد بالقول الذي حكاه ابن حبيب عن مالك أنه قال: تجوز مهادنتهم السنة والسنتين والثلاث وإلى غير مدة.
مأخذ الحكم: إطلاق الآية وعدم الإشارة إلى مدة معين، وهو في مقام البيان والتشريع.
قال تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7].
استدل بالآية على وجوب لزوم الوفاء مع الاستقامة، وجواز النبذ مع عدم الاستقامة
(4)
.
(1)
الإكليل (2/ 793).
(2)
ينظر: أحكام القرآن (3/ 107).
(3)
أحكام القرآن (3/ 107).
(4)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 126).
مأخذ الحكم: الأمر، وهو على ظاهره هنا فيقتضي الوجوب، ومفهوم الشرط إن لم يستقيموا فلا عهد لهم.
قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب نبذ العهد لمن توقع منهم خيانة
(1)
.
(2)
.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله: {فَانْبِذْ} وهو على ظاهره للوجوب؛ لئلا يوقع التمادي عليه في الهلكة والإضرار بالمسلمين.
(3)
.
• الحكم الثاني: إعلامهم بنقض العهد.
قال السيوطي: «وأن يعلمهم بذلك؛ لئلا يشنعوا عليه بنصب الحرب مع العهد»
(4)
.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 792)، وتيسير البيان (3/ 293).
(2)
أحكام القرآن (3/ 102).
(3)
تيسير البيان (3/ 293).
(4)
الإكليل (2/ 792).
وقال الموزعي: «ليكونوا معه على سواء عدل، واستواء من العلم»
(1)
.
مأخذ الحكم: المأخذ السابق مع تفسير قوله: {عَلَى سَوَاءٍ} ، واعتبارها صفة مقيدة للحكم السابق، أو كاشفة له، والله أعلم.
قال تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12].
استدل بالآية على أن من نواقض العهد: نكث العهد، والطعن في الدين.
قال الموزعي: «إذا نكث المعاهدون أيمانهم، ونقضوا عهدهم، وجب قتالهم
…
، وإذا طعنوا في ديننا؛ كطعنهم في القرآن العزيز، وسبهم النبي صلى الله عليه وسلم، انتقض عهدهم»
(2)
.
ثم بيَّن هو وغيره أن قتالهم إنما عُلِّق على أمرين: نكث اليمين، والطعن في الدين، ولكن لا على سبيل الجمع، فقال:«قلنا: لما قام الإجماع على أن المعاهد إذا نكث اليمين بما عاهد عليه، انتقض عهده، ولا يحتاج إلى اشتراط شيء آخر، دلَّنا على أن الطعن في الدين بمجرده كاف في نقض العهد؛ كالنكث في اليمين، وأن التعليق بالأمرين على سبيل الانفراد، لا على سبيل الجمع، وذلك شائع في اللسان»
(3)
.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله: {فَقَاتِلُوا} ، وهو يقتضي نقض العهد.
قال الهروي: «وعطف: {وَطَعَنُوا} على ما قبله مع أن نقض العهد كاف في إباحة القتل لزيادة تحريض المؤمنين على قتالهم، وقيل: معناه: وإن نكثوا أيمانهم بطعنهم في دينكم، فيكون عطف تفسير {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} أي: قاتلوا رؤساء
(1)
تيسير البيان (3/ 293).
(2)
تيسير البيان (3/ 318).
(3)
تيسير البيان (3/ 319)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 129)، والإكليل (2/ 799).
المشركين وقادتهم، والمراد: قاتلوا الكفار بأسرهم؛ فإنهم صاروا بذلك ذوي تقدّم في الكفر أحقاء بالقتل والقتال»
(1)
. ا هـ.
باب السبق والرمي
يذكر الفقهاء باب السبق والرمي بعد باب الجهاد؛ لجواز المسابقة بالخيل والإبل والرمي بعوض وبغير عوض، أما السبق بغير عوض فهذا شأن جميع المسابقات المباحة.
قال ابن قدامة: «وأجمع المسلمون على جواز المسابقة في الجملة، والمسابقة على ضربين: مسابقة بغير عوض، ومسابقة بعوض.
فأما المسابقة بغير عوض: فتجوز مطلقاً من غير تقييد بشيء معين، كالمسابقة على الأقدام، والسفن، والطيور، والبغال
…
، وأما المسابقة بعوض: فلا تجوز إلَّا بين الخيل، والإبل، والرمي؛ لما سنذكره -إن شاء الله-»
(2)
.
قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60].
استدل بالآية على جواز المسابقة.
قال السيوطي: «هذا أصلٌ في المناضلة والمسابقة، أخرج مسلم عن عقبة بن عامر أنه صلى الله عليه وسلم قال: في الآية (ألا إن القوة الرمي)
(3)
ثلاثاً»
(4)
.
ذكر القرطبي سبب تخصيص الرمي والخيل بالذكر؛ وذلك لأن «الخيل لما
(1)
تفسير حدائق الروح والريحان للهرري (11/ 141).
(2)
المغني (9/ 466).
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب فضل الرمي والحث عليه، برقم (1917).
(4)
الإكليل (2/ 792).
كانت أصل الحروب وأوزارها التي عقد الخير في نواصيها، وهي أقوى القوة، وأشد العدة، وحصون الفرسان، وبها يجال في الميدان، خصَّها بالذكر تشريفاً، وأقسم بغبارها تكريماً، فقال:{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات: 1] الآية، ولما كانت السِّهام من أنجع ما يتعاطى في الحروب والنكاية في العدو، وأقربها تناولاً للأرواح، خصَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر، والتنبيه عليها، ونظير هذا في التنزيل، {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]، ومثله كثير»
(1)
.
مأخذ الحكم: أن العدة واجبة؛ لأن الله أمر بإعدادها وهي أن القوة لا تحصل إلا بالتدرب والمسابقة، فكانت المسابقة بها جائزة، وقد تكون واجبة.
قال ابن قدامة: بعد أن ذكر أن المسابقة بعوض لا تجوز إلَّا بين الخيل والإبل والرمي، قال:«واختصت هذه الثلاثة بتجويز العوض فيها؛ لأنها من آلات الحرب المأمور بتعلمها، وإحكامها، والتفوق فيها، وفي المسابقة بها مع العوض مبالغة في الاجتهاد في النهاية لها، والإحكام لها، وقد ورد الشرع بالأمر بها، والترغيب في فعلها»
(2)
. ثمَّ ذكر الآية.
قال تعالى: {قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا} [يوسف: 17].
استدل بها على جواز المسابقة بالأقدام والرمي بالسهام.
قال السيوطي: «فيه مشروعية المسابقة»
(3)
.
مأخذ الحكم: كون شرع من قبلنا شرعاً لنا؛ لأنهم أخبروا أباهم فأذن لهم، ولم
(1)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (8/ 39).
(2)
المغني (9/ 466).
(3)
الإكليل (2/ 870).
يثبت في شرعنا نسخه، وظاهر الآية أن السبق كان بالسعي على الأقدام.
وجاز السبق بالسهم والنضل؛ لقرءاة ابن مسعود {إنا ذهبنا ننتضل} ، والمناضلة المسابقة بالرمي بالنضل، وهو السهم التام وبالقولين فُسِّرت الآية.
كتاب الأطعمة
الأطعمة: جمع مفرده طعام، وهو في اللغة: اسم جامع لكل ما يؤكل، وما به قوام البدن.
والفقهاء يطلقون لفظ الأطعمة على كل ما يؤكل ويشرب مما ليس بمسكر، يقصدون بذلك ما يمكن أكله أو شربه على سبيل التوسع، ولو كان مما لا يستساغ ولا يتناول عادة كالمسك وقشر البيض
(1)
.
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: تحريم جميع أجزاء الميتة حتى الدهن واللبن والإنفحة
(2)
.
مأخذ الحكم: العموم في تحريم الميتة؛ لدخول (أل) الجنسية على المفرد، فيعم جميع أجزائها.
• الحكم الثاني: تحريم ما لا نفس له سائلة
(3)
.
مأخذ الحكم: العموم في تحريم الميتة، فيشمل ما له نفس سائلة، وما ليس له نفس سائلة.
• الحكم الثالث: تحريم ميتة السمك الطافي، وما مات من الجراد بغير سبب.
(1)
ينظر: أحكام الأطعمة للطريفي (ص 63).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 334)، وتيسير البيان للموزعي (1/ 192 - 193).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 334)، وتيسير البيان للموزعي (1/ 192 - 193).
قال السيوطي: «وعليه أكثر المالكية، والأجنة، وعليه أبو حنيفة»
(1)
.
مأخذ الحكم: المأخذ السابق.
تنبيه: الآية: السمك والجراد مخصوص عند الجمهور من عموم الميتة، بقوله صلى الله عليه وسلم:(أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال)
(2)
.
• الحكم الرابع: تحريم الدم المسفوح
(3)
.
مأخذ الحكم: حمل المطلق في هذه الآية في قوله: {وَالدَّمَ} ، بالمقيَّد في سورة الأنعام بالمسفوح، بقوله:{أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} ، كما سيأتي في آية الأنعام.
• الحكم الخامس: تحريم لحم خنزير البحر
(4)
.
مأخذ الحكم: استدل بعموم قوله تعالى: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} ، سواء بإضافة اللحم للخنزير، أو دخول (أل) في الخنزير، أي: سواء كان خنزير بر أو بحر.
ويجاب عنه: أن خنزير الماء لا يطلق عليه الاسم إلّا مقيدًا، فلا يدخل في الاسم المطلق، كما أن القرآن نزل بلغة العرب، والعرب لا تعرف خنزيرًا للبحر.
• الحكم السادس: تحريم أكل ما ذبحه أهل الكتاب لأعيادهم وكنائسهم أو على اسم المسيح
(5)
.
(1)
الإكليل (1/ 334 - 335).
(2)
أخرجه أحمد في المسند (2/ 97)، وابن ماجة (3314)، وصححه الألباني كما في الإرواء (8/ 164).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 335)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 130، 131، 136)، وتيسير البيان للموزعي (1/ 191).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 335).
(5)
ينظر: الإكليل (1/ 336).
مأخذ الحكم: لدخوله في اسم الإهلال في قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} ، وهو الإظهار، فكل ما سُمي باسم غير الله دخل فيه.
• الحكم السابع: إباحة المذكورات للمضطر بشرط أن لا يكون باغياً ولا عادياً، فلا يحل تناولها للباغي والعادي كالعاصي بسفره
(1)
.
مأخذ الحكم: لأن عدم الإثم في قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} من الأساليب الدالة على الإباحة.
تنبيه: نقل السيوطي في الإكليل تفسيرَ البغي والعدوان عن مجاهد قوله: «غير باغ على المسلمين، ولا معتد عليهم، من خرج يقطع الرحم أو يقطع السبيل، أو يفسد في الأرض فاضطر إلى الميتة لم تحل له، ومن أباح ذلك قال: غير باغ ولا عاد في الأكل» ، ثمَّ نقل عن ابن عباس قوله:«من أكل شيئاً من هذه وهو مضطر فلا حرج، ومن أكله غير مضطر فقد بغى واعتدى» ، وقوله - أيضاً-:«غير باغ في الميتة ولا عاد في الأكل»
(2)
.
• الحكم الثامن: جواز أكل المضطر ميتة الخنزير والآدمي
(3)
.
مأخذ الحكم: عموم الآية، ففيها حذف المعمول فمن اضطر إلى أكل ما يحتاجه، فلا إثم عليه، فتدخل المذكورات.
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219].
استدل بالآية من أباح التداوي بالخمر. وسبق في باب بيان المسكر.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 336)، وتيسير البيان للموزعي (1/ 197 - 198).
(2)
الإكليل (1/ 336 - 338).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 338).
قال تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: جواز أكل بهيمة الأنعام.
قال السيوطي: «هي الإبل والبقر والغنم»
(1)
.
وقال الموزعي: «هي الثمانية الأزواج ذكر تفصيلها في كتابه العزيز»
(2)
.
وذكر الجصاص أن الإضافة للبيان، أي: أحل لكم البهيمة التي هي: الأنعام
(3)
.
مأخذ الحكم: الإخبار عن الحكم بالحلِّ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ} .
وكون الذي أحلِّ هنا: الأكل دون الركوب أو البيع أو غير ذلك، مأخوذ من عُرف الاستعمال، فهو المخصص للعموم كما ذكره ابن الفرس
(4)
.
وتفسير الأنعام بما سبق هو المشهور، وفيه جواز أكل الأجنة التي في بطون الأمهات دون تذكية -كما قال الموزعي
(5)
- ومن العلماء من فسَّرها بالأجنة أو الوحوش
(6)
.
قال ابن الفرس: «فمن جعل بهيمة الأنعام في الآية الجنين، لم يحتج في الآية تقدير الذكاة، ومن جعلها الوحش أو الماشية -كما قدمنا- احتاج في الآية إلى تقدير الذكاة؛ لأن أكلها لا يجوز إلا بذكاة، وكأنه قال: (أحلت لكم ذكية بهيمة
(1)
الإكليل (2/ 605).
(2)
تيسير البيان (3/ 60).
(3)
ينظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 287).
(4)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 302 - 303).
(5)
ينظر: تيسير البيان (3/ 60).
(6)
ينظر: الإكليل (2/ 605)، وتيسير البيان للموزعي (3/ 60).
الأنعام) أو نحوه»
(1)
.
تنبيه: في قوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}
قال الموزعي: «ثم أحلَّها الله سبحانه حلالاً مطلقاً، واستثنى منها شيئاً مبهماً موعوداً، ببيانه حتى يعظم موقعه في النفوس، فتتوفر الدواعي على علمه ومعرفته، فقال:{إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} ، ثم بيَّنه وتلاه في هذه السورة بقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 3]، الآية.
ثم أحلَّ الله سبحانه غير الأنعام من الصيد بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]»
(2)
.
• الحكم الثاني: تحريم أكل صيد البر للمحرم.
قال الموزعي: «فإن قلت: فما قولك في قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ، هل المراد به الصيد، أو الاصطياد؟
قلت: يحتمل أن يراد به الصيد؛ استدلالاً بهذه الآية»
(3)
يقصد قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، ثم قال:«ويحتمل أن يراد به الاصطياد؛ استدلالاً بالآية التي بعدها: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]»
(4)
.
(1)
أحكام القرآن (2/ 302).
(2)
ينظر: تيسير البيان (3/ 60 - 61).
(3)
تيسير البيان (3/ 220).
(4)
المصدر السابق.
مأخذ الحكم: ظاهر، حيث نهاهم المولى عن إحلال الصيد على التفسير الأول، فقال:{غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} .
قال ابن الفرس: «وكأنه تعالى يقول إذ أحللنا لكم بهيمة الأنعام فلا تستحلوا أنتم الصيد وأنتم حرم»
(1)
. والصيد يحتمل ما صيد أو الاصطياد على ما سبق.
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: تحريم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، وسبق ذكرها في سورة البقرة
(2)
.
ومأخذ التحريم هنا: الإخبار عن الحكم بلفظ: {حُرِّمَتْ} ، وهي من الألفاظ الصريحة التي تفيد معناه نصاً، ولا اختلاف في معناها والمراد بها في القرآن.
• الحكم الثاني: تحريم ما مات من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة.
ومأخذ الحكم: ما سبق من كونه إخباراً عن الحكم بلفظ: {حُرِّمَتْ} ، وتفيد الحكم بالموت؛ لقوله تعالى:{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} ، فما أدرك بالذكاة قبل موته، فإنه يباح؛ لأن الاستثناء من المحرم حلال.
(1)
أحكام القرآن (2/ 304).
(2)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 410).
(1)
.
تنبيه: اختلف العلماء في الاستثناء على ما ذا يعود.
قال السيوطي: راجع إلى الموقوذة وما بعدها
(2)
، وسيأتي زيادة بسط عند الاستدلال بالآية في باب الصيد والذبائح.
قال الموزعي: «رجوع الاستثناء على الجملة الأخيرة، وهي ما أكل السبع مُتصل؛ لصدق اسم الأكيل عليه عند حصول التذكية، وإن لم يزهق روحه.
وأما الأمور الأربعة فمن لاحظ وقوع اسم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة عليها قبل الموت مجازا، كان الاستثناء مُتَّصلًا أيضا، وهذا هو الأقرب إن شاء الله.
ومن لاحظ صدق الأسماء حقيقة؛ إذا لا تُسمى هذه المحرمات قبل الموت منخنقة ولا موقوذة، ولا متردية، ولا نطيحة، إلا على سبيل التجوز، منع عود الاستثناء إلى هذه الجمل الأربع، اللهم إلا أن يجوِّز حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين، فيحمل الاستثناء على الاتصال في أكيل السبع، وعلى الانفصال في الذي قبله، وفي ذلك خلاف عند أهل النظر.
وأما عوده إلى الخنزير فلا يجوز قطعاً؛ لأن الذكاة لا تعمل فيه شيئاً، وكذا لا يجوز عوده إلى ما أهل لغير الله؛ لأنه استثناء منقطع؛ لاختلاف الحكم فيه»
(3)
.
(1)
تيسير البيان (3/ 80).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 610).
(3)
تيسير البيان (3/ 81 - 82).
تبقى فوائد وأحكام متعلقة بهذه الآية:
الأول: أن تحريم الميتة يخص منه ميتة البحر، وما لا دم له.
قال الموزعي: «واتفق أهل العلم على أن هذا اللفظ ليس على عمومه، واختلفوا في المخصص له .... »
(1)
. ثم ذكر الخلاف في هذا.
الثاني: أطلقت الآية هنا: «الدم» ، وقيده سبحانه في موضع آخر بكونه دماً مسفوحاً، والمسفوح، هو المصبوب، وقد أجمع المسلمون على تحريم المسفوح
(2)
.
الثالث: ذكر الموزعي أن: ما أهل لغير الله، هو {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} ، وأن الله كرر تحريمها في أوّل الآية ووسطها، «وإنما كرره الله سبحانه تأكيدا لتحريمه، فذكره بلفظي الحقيقة والمجاز» ، وذكر قبل أن أصل الإهلال في اللسان، رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم أطلق على رفع الصوت مطلقاً، ثم أطلق على رفع الصوت في اسم الصنم عند الذبح، ثم أطلق على الذبح؛ لملازمته رفع الصوت في عادتهم، ثم قال:«وهو المراد في كتاب الله تعالى حيث ورد كما بيَّنه الله سبحانه هنا، فقال: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}»
(3)
ا. هـ.
وقال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5].
(1)
تيسير البيان (3/ 73).
(2)
ينظر: تيسير البيان (3/ 77).
(3)
تيسير البيان (3/ 78 - 79).
وقال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51].
استدل بالآيات السابقة على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: إباحة الطيبات من الأطعمة، وتحريم الخبائث منها.
قال السيوطي في الآية الأولى: «فيها إباحة الطيبات، ومفهومه تحريم الخبائث، وهي أصل في باب الأطعمة»
(1)
.
مأخذ الحكم: وقوع الإخبار بالحل، جواباً عن سؤال بالآية الأولى، ومن غير سؤال في الثانية والثالثة، وأمراً في الآية الرابعة:{كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} .
ولا شك أن كل ما أحله الله من المآكل فهو طيب، وما حرمه فهو خبيث، ويبقى الإشكال فيما لم ينص الشارع على حكمه، فما الضابط في معرفة كونه طيباً أو خبيثاً، ذهب جمهور أهل العلم إلى أن اعتبار ذلك راجع إلى العُرف.
(2)
.
وأنكر شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك، وقال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يحرم أحدٌ منهم ما كرهته العرب، ولم يبح كل ما أكلته العرب
…
، ثم بيَّن أن الآية تخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم سيفعل ذلك، {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} ،
(1)
الإكليل (2/ 614).
(2)
أضواء البيان (2/ 267).
(1)
.
• الحكم الثاني: إباحة طعام أهل الكتاب.
قال السيوطي: «فيها إباحة ذبائح أهل الكتاب وسائر أطعمتهم»
(2)
.
وذكر ابن الفرس أن في الآية إباحة سائر أطعمتهم مما يمكن استعمال النجاسة فيه كالخمر والخنزير، وقال:«فذهب الأكثر إلى أن ذلك من أطعمتهم داخل تحت قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}، الآية، وأن كل ذلك جائز»
(3)
.
مأخذ الحكم: إخبار المولى سبحانه بالحكم في قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} .
قلت: وما سبق محمول على أن المقصود بطعام الذين أوتوا الكتاب في الآية العموم لا خصوص الذبائح، على ما سيأتي بإذن الله، على أن ذبائحهم من طعامهم.
• الحكم الثالث: تباح المحظورات السابقة للمضظر.
مأخذ الحكم: التخصيص المتصل ب (إلا)، والاستثناء من المحرم مباح.
(1)
مجموع الفتاوى (17/ 179 - 180)، وينظر: تيسير البيان (3/ 84)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 334).
(2)
الإكليل (2/ 614).
(3)
أحكام القرآن (2/ 345).
استدل بالآية على تحريم الخمر.
قال السيوطي: «أصل في تحريم الخمر، وكل مسكر قليلاً كان أو كثيراً»
(1)
.
(2)
.
مأخذ الحكم: الأمر الذي هو بمعنى النهي، في قوله:{فَاجْتَنِبُوهُ} ، مع ما في الآية من قرائن ودلالات على التحريم.
قال ابن الفرس: «هذه الآية أبين آية في القرآن في تحريم الخمر
…
؛ لأنه تعالى أمر باجتنابها، وتوعد على استباحتها، وقرنها بالميسر والأنصاب والأزلام»
(3)
.
(4)
.
فائدة: من العلماء من قصر الخمر على عصير العنب أو غيره. ومنهم: من عمّه على كل مسكر، وهو الصحيح.
ويؤيد كونه يعم كل مسكر أن من العلماء من استخرج من قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} الآية، علّة تحريم الخمر:
(1)
الإكليل (2/ 658 - 659).
(2)
تيسير البيان (3/ 186).
(3)
أحكام القرآن (2/ 473).
(4)
المصدر السابق (2/ 475).
قال ابن الفرس: «وهذا يسميه الأصوليون التنبيه على العلّة، فنبَّه تعالى على أن علة تحريم الخمر كونها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتوقع العداوة والبغضاء، وهذا المعنى بعينه موجود في كلِّ مسكر على حد سواء، لا تفاضل بين الأشربة فيه، فوجب أن يكون حكم جميعها واحدًا
…
، فليست الخمر محرمة لعينها، وليست خاصة بعصير العنب»
(1)
.
قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: إباحة حيوان البحر.
قال السيوطي: «واستدل بعموم الآية على إباحة كل حيوان البحر؛ سواء أكل مثله في البر أم لا، وسواء أخذ منه حياً أو ميتاً»
(2)
.
مأخذ الحكم: الإخبار عن الحكم بلفظ: {أُحِلَّ لَكُمْ} ، وهي من الأساليب الدالة على الإباحة، والإباحة عامّة لوردها بصيغة الإضافة في قوله:{صَيْدُ الْبَحْرِ} ، أي: جميع صيده، فيشمل ما ذكره السيوطي.
واختلف في معنى: {وَطَعَامُهُ} : «فقال قوم: طعامه ما طفا عليه ميتاً، وقال قوم: ما حُسر عنه الماء، وأخذه الناس،
…
والصحيح تحليلها مطلقا»
(3)
.
• الحكم الثاني: تحريم صيد البر على المحرم.
(1)
أحكام القرآن (2/ 480).
(2)
الإكليل (2/ 667).
(3)
تيسير البيان (3/ 220).
مأخذ الحكم: الإخبار عن الحكم بلفظ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ} ، وتقييده حال الإحرام {مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} .
قال الموزعي: «أما صيد البر فحرم على المحرم أكله؛ لقوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} ، وهذا مطلقٌ في جميع الأحوال، سواء صاده محرم أو حلال.
وقد حُكي عن جماعة من السلف العمل بظاهر الإطلاق
…
، وذهب أكثر الناس إلى تقييد هذا الإطلاق، فقال بعضهم -وأظنه أبا حنيفة-: يحرم عليه إن صاده، أو صيد بإذنه، أو دلالته، وإن صيد بغير إذنه ودلالته، حلَّ
…
»
(1)
.
تنبيه: وردت الآية لبيان تحريم لحم الصيد لا الاصطياد، قال الموزعي:«لأنه مسوق لبيان الأكل، لا للاصطياد» ، وبيَّن ذلك بأن الله لما وصف «صيد البحر وطعامه بأنه متاع لنا وللسيارة، ثم عطف عليه صيد البر، فله حكمه، والاصطياد ليس بمتاع»
(2)
، ثم ذكر بيان النبي صلى الله عليه وسلم عموم هذه الآية، فقال:(صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه، أو يُصد لكم)
(3)
.
(1)
تيسير البيان (3/ 216).
(2)
تيسير البيان (3/ 219).
(3)
أخرجه أبو داود في السنن، في كتاب المناسك، باب لحم الصيد للمحرم، برقم (1851)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، برقم (320).
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: حصر المحرمات في الأربع المذكورة، وإباحة ما عدا المذكور.
قال السيوطي: «احتج به كثير من السلف في إباحة ما عدا المذكور، من ذلك الحُمُر الأهلية»
(1)
.
مأخذ الحكم: دلالة الحصر في الآية على حصر المحرمات، ومفهومه ما عداه مباح.
قال ابن الفرس: «اقتضت أن المحرمات هي المذكورات، واقتضت عند قومٍ تحليل ما عداها وهم الجمهور؛ لأن دليل خطابها أقوى أدلة الخطاب»
(2)
. يقصد مفهوم الحصر.
ولم يرتض كثير من العلماء كون كل ما عداها حلالا، وحصر المحرمات في الأربع المذكورة في الآية، وأجابوا عن ظاهر الآية بأجوبة:
الأول: ذهب قوم إلى أنها منسوخة بالسنة؛ وذلك لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من تحريم أشياء، كأكل الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع ونحو ذلك
(3)
.
الثاني: ذهب من قال: بأنها محكمة إلى التأويل بما يأتي:
قال بعضهم: إن الآية تقتضي الحصر، وأن كل ما حرم الله تعالى محصور فيها، وأن ما عدا ذلك إنما تحريمه تحريم كراهة وتنزيه
(4)
.
وقال قوم: إن الآية خرجت على سبب؛ لأنها جواب لقوم سألوا عن أشياء، فاخبروا عنها، فقد لا تقتضي الحصر، وما جاء من سائر المحرمات مضموم إليها.
(1)
الإكليل (2/ 721).
(2)
أحكام القرآن (3/ 28).
(3)
ينظر: أحكام القرآن (3/ 29).
(4)
ينظر: تيسير البيان (3/ 240).
ويحتمل أن يكون تعالى إنما أخبر بأنه لا يجد محرماً في وقت ما ذكر.
• الحكم الثاني: أن المحرّم من الميتة هو أكلها؛ لقوله تعالى: {عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} ، وعليه فإن جلدها غير محرم، ويطهر إذا دُبغ
(1)
.
مأخذ الحكم: قوله عليه الصلاة والسلام عندما مر بشاة ميتة فقال لأهلها: (هلَّا استمتعتم بإهابها؟ قالوا: إنها ميتة، قال: إنما حرم أكلها)
(2)
، والسنة تبيَّن القرآن.
• الحكم الثالث: إباحة الدم الباقي في العروق، والكبد، والطحال
(3)
.
مأخذ الحكم: تقييد الدم المحرم النجس بكونه مسفوحاً، لقوله:{أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} .
والدم الذي في العروق ليس مسفوحاً، وعليه: فخرج بمفهوم قوله {أَوْ دَمًا} ، ما كان في العروق.
• الحكم الرابع: من حلف لا يأكل الشحم حنث بأكل ما على الظهر.
قال السيوطي: «استدل به الشافعي على أن من حلف لا يأكل الشحم، حنث بأكل ما على الظهر؛ لأنه تعالى استثناه من جملة الشحوم»
(4)
.
مأخذ الحكم: إن الاستثناء هنا متصل، فهو من جنس المستثنى منه، فدّل على كونه شحماً، وإلا لما صح استثناؤه في الآية.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 724).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد، برقم (5531)، ومسلم في كتاب الطهارة، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ، برقم (363).
(3)
ينظر: الإكليل (2/ 725).
(4)
الإكليل (2/ 736).
قال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5].
وقال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر: 79].
استدل بالآيتين على جواز الأكل من الأنعام.
مأخذ الحكم: سياق الامتنان في الآيتين، وكونه خلقها لنا، وجعلها لنا، والامتنان لا يكون إلا بمباح.
قال تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67].
استدل بالآية على إباحة الأكل من ثمر النخيل والأعناب، وما يتخذ منه من شراب غير مسكر.
مأخذ الحكم: امتنان المولى بها علينا، ولا يمتن إلا بحلال.
باب الصيد والذبائح
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67].
استدل العلماء بالآية على أن الأولى في البقر: الذبح.
مأخذ الحكم: أمر الله بذبحها، فهو الذي ذكره المولى في الآية.
(1)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/ 483).
قال تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1].
استدل بالآية على تحريم الاصطياد للمحرم؛ أخذاً من قوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} .
(1)
.
ومأخذ الحكم: كونه استثناءاً من الحلال، فيكون حراماً.
قال تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2].
استدل بالآية على إباحة الاصطياد للمحرم بعد تحلله.
قال الموزعي: «وقد أجمع العلماء على أن الأمر في ذلك للإباحة، وعلى تحليل الاصطياد بعد التحلل»
(2)
.
مأخذ الحكم: كونه أمراً بعد حظر، والأمر بعد الحظر للإباحة عند كثير من العلماء.
وناقش ابن الفرس هذا المأخذ، وقال: «ومن يقول بتأثير الحظر يحتج بهذه الآية
…
، ولا حجة في ذلك؛ لأن ما اقترن بهذا الأمر من القرائن دلَّ على أنه على الإباحة، وإنما كلامنا فيما لم تقترن به قرينة، ونص هذه الآية إباحة الصيد لغير المحرم، ودليل خطابها منعه للمحرم، فأما إباحته لغير المحرم، فلا خلاف فيه؛ إذ
(1)
تيسير البيان (3/ 220).
(2)
المصدر السابق (3/ 71).
اصطياده لحاجة إليه
…
»
(1)
.
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب التذكية واشتراطها فيما له دم سائلة.
وقسَّم الشارع المحرمات في هذه الآية «إلى ثلاثة أقسام: ما حرم لعدم الذكاة، وهي الميتة وحدها، أو الميتة والمنخقة وأخواتها على ما يأتي من الخلاف في ذلك.
ومنها: ما حرم لوصم من الذكاة، وهي ما أهل به لغير الله، وما ذبح على النصب، ومنها: ما حرم لعينه لا لعدم الذكاة ولا لوصم فيها، وهو الدم ولحم الخنزير»
(2)
.
مأخذ الحكم: الاستثناء في قوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} استثناء من التحريم، فيكون حلالاً، أي: ما ذكي. فجعل علّة تحليله الذكاة، فتكون واجبة لأجل ذلك.
قال الموزعي: «ولما حرم الله سبحانه الدم، وحرم هذه الأشياء، عقبها بذكر الذكاة، وجعل الذكاة علة التحليل، علمنا أن علة التحليل خروج الدم بالذكاة، وأن عدم خروج الدم علة التحريم، فاستدللنا بذلك على أن كل حيوان حلال لا دم فيه؛
(1)
أحكام القرآن (2/ 315).
(2)
أحكام القرآن (2/ 318).
كالجراد لا يحتاج إلى ذكاة
…
، واستدللنا أيضا بذلك على أن كل حيوان تحل ميتته، لا يحتاج إلى ذكاة؛ كصيد البحر، وهذا إجماع بين المسلمين أيضاً»
(1)
.
تنبيه: اختلف العلماء في رجوع الاستثناء في قوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} ، وبسط شيئاً من ذلك، الموزعي قال: «رجوع الاستثناء على الجملة الأخيرة، وهي ما أكل السبع متصل؛ لصدق اسم الأكيل عليه عند حصول التذكية، وإن لم يزهق روحه.
وأما الأمور الأربعة، فمن لاحظ وقوع اسم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة عليها قبل الموت مجازاً، كان الاستثناء عنده متصلاً أيضاً، وهذا هو الأقرب - إن شاء الله - ومن لاحظ صدق الأسماء حقيقة؛ إذ لا تسمى هذه المحرمات قبل الموت منخنقة ولا موقوذة ولا متردية ولا نطيحة إلا على سبيل التجوُّز، منع عود الاستثناء إلا هذه الجمل الأربع، اللهم إلا أن يجوز حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين، فيحمل الاستثناء على الاتصال في أكيل السبع، وعلى الانفصال في الذي قبله، وفي ذلك خلاف عند أهل النظر.
وأما عوده إلى الخنزير، فلا يجوز قطعاً؛ لأن الذكاة لا تعمل فيه شيئاً، وكذا لا يجوز عوده إلى ما أهل به لغير الله؛ لأنه استثناء منقطع؛ لاختلاف الحكم فيه»
(2)
.
• الحكم الثاني: عدم جواز ذبيحة الكتابي إذا ذبحها باسم الكنيسة أو اسم المسيح، وهي حرام لا يجوز أكلها.
مأخذ الحكم: العموم في قوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} ، و «ما» اسم موصول يعمُّ.
قال الموزعي: «
…
وذهب الشافعي إلى التعميم؛ عملاً باللفظ والمعنى، أما اللفظ: فلعمومه. وأما المعنى: فلوجود التعظيم الذي هو علَّة التحريم حتى أطلق
(1)
تيسير البيان (3/ 80).
(2)
تيسير البيان (3/ 81 - 82).
أصحابه التحريم على ما يذبح للسلطان عند استقباله؛ إذ المقصود بذلك التعظيم لا التكريم»
(1)
.
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية الصيد بالجوارح المعلَّمة.
(2)
.
وعليه: فيحل صيد المعلَّم، ويحرم صيد غير المعلَّم.
مأخذ الحكم: العطف على حل الطيبات، والعطف يقتضي المشاركة في الحكم.
وذكر ابن الفرس أن في الكلام مقدّرا محذوفا وهو «اتخاذ» ، أي: اتخاذ ما علمتم من الجوارح على تقدير أن سبب الآية السؤال عما يحل من الكلاب، لا عما يحل من الصيد
(3)
.
وقال الموزعي: «ثمّ لما خصص الله سبحانه تحليل صيدها بكونه ممسكا علينا، فهمنا تحريم ما أمسكته الجائعة على غيرنا، وقد بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك، فقال لعدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله: «إذا أرسلت كلبك، وذكرت اسم الله، فكل، فإن أكل
(1)
تيسير البيان (3/ 79).
(2)
الإكليل (2/ 614).
(3)
ينظر: أحكام القرآن (2/ 385).
منه، فلا تأكل منه؛ فإنما أمسك على نفسه»
(1)
»
(2)
.
ويبقى الإشارة إلى مأخذ التعميم في الجوارح؛ ليشمل الكلب وغير الكلب.
(3)
.
ثم ذكرنا مأخذاً آخر ومفسراً لما سبق من تفسيرات الصحابة.
قال الموزعي: «ثم اختلف أهل العلم في اختصاص الجوارح بالكلاب، فقال فريق منهم: بالتخصيص، ومنعوا الصيد بغيرها من جوارح السباع والطيور، وبه قال مجاهد، وتمسكوا بظاهر قوله تعالى:{مُكَلِّبِينَ} ، واعتقدوه للتقييد لا للتعريف ....
وقال جمهور العلماء: بالتعميم
…
، وتمسكوا: إما بالقياس على الكلاب، فكل ما قبل التعليم فهو آلة لذكاة الصيد، وإما بأنه مشتق من الكلب الذي هو الشدة، لا من اسم الكلب، فيكون معناه: مُغْرين للجوارح على الصيد، وبهذا فسَّره ابن عباس رضي الله عنهما»
(4)
.
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد، باب إذا وجد مع الصيد كلباً آخر، برقم (5168)، ومسلم في كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلَّمة، برقم (1929).
(2)
تيسير البيان (3/ 85).
(3)
الإكليل (2/ 614 - 615).
(4)
تيسير البيان (3/ 87 - 88).
(5)
أحكام القرآن (2/ 338).
خاتمة نقل السيوطي: مسائل متعلقة بالحكم السابق.
الأولى: ما يفيد اشتراط أن يكون الكلب من تعليم المسلم؛ أخذاً من ضمير الخطاب في قوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ} ؛ استدلالاً بتفسير ابن عباس رضي الله عنهما عندما سُئل عن المسلم يأخذ كلب المجوسي، أو بازه أو صقره أو عقابه فيرسله، قال ابن عباس:«لا تأكله، وإن سميت؛ لأنه من تعليم المجوسي وإنما قال الله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ}»
(1)
.
الثانية: قال: «وفيها جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة؛ لأن التعليم قد يحتاج إلى ذلك» .
الثالثة: قال: «واستدل بعموم الآية على إباحة صيد الأسود البهيم»
(2)
، أي: الخالص السواد.
• الحكم الثاني: مشروعية التسمية عند الإرسال.
قال السيوطي: «وفي الآية مشروعية التسمية عند الإرسال
…
، واستدل قوم بالأمر بالتسمية على أن ما لا يسمى عليه من الصيد لا يحل، واستدل بالاقتصار عليها، على أنه لا يذكر معها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم»
(3)
.
مأخذ الحكم: في مشروعية التسمية الأمر في قوله: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} ، أي: على الاصطياد؛ إذْ لا يجوز عود الضمير على الأكل، قاله الموزعي مستدلاً بقوله عليه الصلاة والسلام:«إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم الله عليه فكل»
(4)
.
(1)
الإكليل (2/ 617).
(2)
الإكليل (2/ 614 - 617)، وكذا أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 338).
(3)
الإكليل (2/ 614 - 617)، وكذا أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 344).
(4)
أخرجه أبو داود في كتاب الصيد، باب في الصيد برقم (2852).
ثم قال الموزعي: «وقد أجمع المسلمون على مشروعية التسمية عند الإرسال على الصيد، وعند الرمي، وعند الذبح، وإنما اختلفوا هل ذلك على الوجوب أو على الندب؟»
(1)
.
أما القائل بالوجوب فلظاهر الأمر، أما القائل بالندب فقد نقل ابن الفرس عن ابن القصار توجيه ذلك، وأن الضمير في قوله:{وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} يعود إلى أقرب مذكور، هو: الأكل لا الإرسال، ثم ختم توجيهه بقوله:«وإنما أراد تعالى نسخ أمر الجاهلية التي كانت تذكر اسم طواغيتها على صيدها وذبائحها»
(2)
.
قلت: فيكون الأمر للتوجيه والإرشاد لا الوجوب، والله أعلم.
ثم جواز الأكل مما لا يسمى عليه من الصيد، ينبني على كون التسمية واجبة وشرطاً لصحة الذبح، وسيأتي بيانه بإذن الله عند آيتي الأنعام.
وأما الاقتصار على ذكر الله دون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتخصيص المولى واقتصاره عليه في مقام البيان.
• الحكم الثالث: إباحة الصيد لو أكل منه الكلب
(3)
.
مأخذ الحكم: عموم قوله: {مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} .
قال ابن الفرس: «ظاهره: أكلت الجوارح منه أو لم تأكل، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه»
(4)
.
(1)
تيسير البيان (3/ 89)، أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 343).
(2)
أحكام القرآن (2/ 344).
(3)
ينظر: الإكليل (2/ 617).
(4)
أحكام القرآن (2/ 339).
تنبيه: خصص العلماء الآية بحديث: «قلت: فإن أكل؟ قال: فلا تأكل؛ فإنه لم يمسك عليك، إنّما أمسك على نفسه»
(1)
.
استدل بالآية على لأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية ذبائح أهل الكتاب.
مأخذ الحكم: الإخبار بالحكم في قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} مع تفسير الصحابي.
قال الموزعي: «قال ابن عباس رضي الله عنهما: طعامهم: ذبائحهم»
(2)
.
(3)
.
• الحكم الثاني: مشروعية الأكل من ذبائحهم، وإن لم يسموا الله عليها.
مأخذ الحكم: إطلاق الشارع جواز الأكل في الآية دون اشتراط التسمية.
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الصيد، باب صيد المعراض، برقم (5476).
(2)
تيسير البيان (3/ 90).
(3)
المصدر السابق (3/ 90).
(4)
تيسير البيان (3/ 91).
قلت: وذكر احتمال تقييدها بآية الأنعام {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، وقوله:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 118]. وسياتي بيانه بإذن الله.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94].
يستدل بالآية على جواز الاصطياد بالآلات المحددة كالرمح والسهم
(1)
.
مأخذ الحكم: بيَّن المولى سبحانه وسيلة الصيد الذي في أصله مباح، والأصل في وسيلة المباح، تكون مباحة، لا سيما مع عدم إنكار المولى لهذه الوسيلة وذمها، والله أعلم.
استدل بالآية على تحريم الصيد على المحرم، وعلى من دخل الحرم
(2)
.
مأخذ الحكم: النهي في قوله: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} ، مع قوله:{وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} .، كما أن ترتيب الجزاء دلالة على كونه محرماً، وكذا التهديد والذم بقوله {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} ، وفي قوله {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} يدل على ما سبق؛ إذ العفو لا يكون إلا عن ذنب، وكذا التهديد.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 663)، وتيسير البيان (3/ 84).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 664)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 424).
قال ابن الفرس: في قوله: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ، قال:«وقد استدل أصحاب مالك بهذه الآية على أن صيد الحلال في الحرم يوجب عليه الجزاء؛ بناء على أن معنى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}، وأنتم محرمون، أي: داخلون في الحرم، يقال: أحرم الرجل إذا دخل في الحرم»
(1)
.
قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96].
استدل بالآية على إباحة صيد البحر للمحرم والحلال، وأن الحرام على المحرم صيد البر خاصة
(2)
.
مأخذ الحكم: الإخبار عن الحكم بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ} ، بالنسبة لصيد البحر، وبقوله:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ} بالنسبة لصيد البر ما دام محرماً
(3)
.
ومفهومه: أن غير المحرم يباح له صيد البر، وهو الأصل لما سبق.
قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 119].
وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121].
وقال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28].
وقال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36].
(1)
أحكام القرآن (2/ 494).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 666).
(3)
ينظر: تيسير البيان للموزعي (3/ 230).
قال القرطبي: «المراد بذكر اسم الله: ذكر التسمية عند الذبح والنحر»
(1)
.
دلت الآيات على مشروعية التسمية عند الذبح، على خلاف في جعلها شرط صحة.
قال السيوطي: في الآية الأولى: «وذهب عطاء إلى أن المراد بها التسمية على كل ما يؤكل من طعام وشراب وذبح، وكل مطعوم»
(2)
.
وقال في الثانية: «استدل بها من حرّم ما لم يسم عليه من الذبائح، عمداً تركت التسمية أو نسياناً»
(3)
.
ومأخذ المشروعية: الأمر في قوله: {فَكُلُوا} في الآية الأولى، والنهي عن عدم الذكر في الآية الثانية، والنهي عن الشيء أمر بضده.
قال ابن الفرس عن الآية الأولى: «ودليل خطابه: النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، وفي القول بدليل الخطاب اختلاف، إلَّا أنه تعالى قد صرح بدليل الخطاب بعد هذا فقال: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فقوى ذلك الدليل»
(4)
.
أما من قال بعدم اشتراط التسمية، فمأخذه أن قوله: في الآية الثانية: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} ، وقوله: بعدها {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وتارك التسمية من المسلمين لا يسمى فاسقاً ولا مشركاً، بل المراد تحريم ما سمَّى عليه غير الله، وأيدوا ذلك بالسبب الذي نزلت فيه الآية، وهو مجادلتهم في تحريم الميتة، قاله ابن الفرس نقلاً عن ابن عباس، ونقل عن عطاء قوله: «نزلت في ذبائح كانت تذبحها قريش عن الأوثان،
(1)
المصدر السابق (12/ 41).
(2)
الإكليل (2/ 710).
(3)
الإكليل (2/ 712).
(4)
أحكام القرآن (3/ 16).
وذبائح المجوس»
(1)
.
فائدة: أطلق الله سبحانه وتعالى في آية المائدة حل ذبائح أهل الكتاب، ولم يقيده بذكر التسمية، فقال سبحانه:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، وسبق أن المراد بطعامهم: ذبائحهم.
وقيّد سبحانه حل الأكل في آيتي الأنعام بذكر اسم الله عليها، كما أن آيتي الأنعام مطلقة في أهل الكتاب وغيرهم.
قال الموزعي: «فيحتمل أن يقيد إطلاقه في المائدة بتقييده هناك، فلا تحل ذبائح أهل الكتاب إلا إذا سمَّوا الله عليها.
ويحتمل أن يقيد إطلاقه في الأنعام بتقييده هنا، ويكون المعنى: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه من غير ذبائح أهل الكتاب. فقال فريقٌ بالأول، فجعل آية المائدة مقيدة بآية الأنعام، فلا تحل لنا ذبائح أهل الكتاب، إلَّا إذا علمنا أنهم سمّوا الله عليها
…
، والذي عليه جمهور أهل العلم العمل بآية المائدة، وأن ذبائحهم حلال مطلقاً؛ كما أطلقه الله سبحانه، سمَّوا الله عليها أم لا. وادَّعى بعضهم الاتفاق عليه، ونسبه إلى علي رضي الله عنه»
(2)
.
قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2].
دلت الآية على مشروعية النحر لِما ينحر، وفُسِّر النحر في الآية بعموم الذبح، وفُسِّر بخصوص نحر البدن، والإبل، وفُسِّر بغير ذلك
(3)
.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله: {وَانْحَرْ} مع اعتبار أنه من الفعل «نحر» ، ويؤيده
(1)
أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 712 - 713).
(2)
تيسير البيان (3/ 90 - 91).
(3)
ينظر: موسوعة التفسير بالمأثور (23/ 631).
القول بأن الآية كانت يوم الحديبية حين حُصر النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه جبريل، فقال: انحر، وارجع، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب خطبة الأضحى ثم ركع ركعتين، ثم انصرف إلى البدن فنحرها، قال سعيد بن جبير:«فذلك حين يقول: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}»
(1)
.
خاتمة: قال القرطبي: «لا خلاف بين العلماء أن الذبح أولى في الغنم، والنحر أولى في الإبل، والتخيير في البقر
…
، قال ابن المنذر: لا أعلم أحداً حرَّم أكلَ ما نُحر مما ذبح، أو ذُبح مما ينحر»
(2)
.
باب الأضاحي
الأضاحي بتشديد الياء، وهي جمع، مفردها: أُضحية، بضم الهمزة أو كسرها، وتشديد الياء.
ويقال لها: الضَّحية بفتح الضاد وتشديد الياء، وجمعها الضحايا، والمقصود بها شرعاً:«ما يذكى تقرباً إلى الله تعالى في أيام النحر بشرائط مخصوصة»
(3)
.
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].
استدل بالآية على وجوب الذبح لله عز وجل، وقد فسر قتادة قوله:{وَنُسُكِي} ، بضحيتي
(4)
.
وقيل: إن النسك: كل ما تقرب به إلى الله تعالى، إلا أن الغالب عليه في العرف الذبح.
(1)
ينظر: موسوعة التفسير بالماثور (23/ 628).
(2)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/ 483).
(3)
الموسوعة الفقهية الكويتية (5/ 74).
(4)
ينظر: موسوعة التفسير بالمأثور (8/ 750).
(1)
.
مأخذ الحكم: قوله: {لِلَّهِ} ، وهذا اللام لام الاستحقاق، لوقوعها بين معنى (النسك)، وذات، بالإضافة إلى ما قاله الرازي في نقله السابق.
ويدل عليه فعل صلى الله عليه وسلم حين كان يقرأ الآية حين يوجه أضحيته للذبح
(2)
.
قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: استدل من قال بإجزاء ذبح الأضاحي من بعد الفجر الثاني، ولا يشترط انتظار انقضاء الصلاة والخطبة أو ذبح الإمام، وخصّها بعضهم لأهل القرى والبوادي؛ ذلك لقوله:{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ} .
مأخذ الحكم: أضاف الشارع الحكم (النحر والذبح) إلى اليوم، واليوم يبدأ من طلوع الفجر
(3)
.
تنبيه: وهناك من يقول: إن اليوم يبدأ من طلوع الشمس.
قال الموزعي: «فمنهم من اعتبر وقت الأضحية بالزمان، وهم الشافعي،
(1)
التفسير الكبير للرازي (5/ 190).
(2)
ينظر: موسوعة التفسير بالمأثور (8/ 751 - 752).
(3)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن (12/ 42).
وداود، وابن المنذر، وآخرون، وقالوا: يدخل وقتها إذا طلعت الشمس، ومضى قدر صلاة العيد والخطبتين، سواء صلّى المضحي أم لا، وسواء صلى الإمام أم لا، وسواء ذبح الإمام أم لا، واعتبر الباقون وقتها بفعل الإمام»
(1)
.
• الحكم الثاني: عدم دخول ليالي النحر مع الأيام، وعليه؛ فلا يجوز الذبح فيها.
مأخذ الحكم: أن الحكم وهو الذبح علق على الأيام
(2)
.
ومفهومه: أن الليل لا يدخل فيه.
قال القرطبي: «فذكر الأيام، وذكر الأيام دليل على أن الذبح في الليل لا يجوز»
(3)
.
وقال الموزعي: «لأن اسم اليوم لا يتناول الليل؛ بدليل قوله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7]
(4)
.
ثم ذكر من خالف في ذلك، ومأخذه منها: أن تعليق الحكم على اليوم مفهوم لقب، وهي دلالة ضعيفة، مع عدم التسليم بأن اسم اليوم لا يتناول الليل، بل يتناوله بدليل قوله تعالى:{تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65].
• الحكم الثالث: لا يجوز الأضحية بغير بهيمة الأنعام.
مأخذ الحكم: مفهوم الصفة حيث خصَّ جواز الذبح ببهيمة الأنعام، فدلّ على أن غيرها من البهائم لا يجوز، ولا يجزئ بها.
(1)
تيسير البيان (4/ 162).
(2)
ينظر: تيسير البيان (4/ 20)، والإكليل (3/ 974)، والجامع لأحكام القرآن (12/ 43).
(3)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 43).
(4)
ينظر: تيسير البيان (4/ 20).
قال ابن قدامة: «ولا يجزئ في الأضحية غير بهيمة الأنعام»
(1)
.
وقال الموزعي: «خصَّ الله سبحانه بهيمة الأنعام بالذكر دون غيرها من البهائم، وقد أجمع المسلمون على ذلك»
(2)
.
• الحكم الرابع: مشروعية الأكل والإطعام من الأضحية
(3)
.
مأخذ الحكم: أمره سبحانه وتعالى بالأكل والإطعام منها.
قال الموزعي: «فأما الأكل فحمله جمهور أهل العلم على الاستحباب، وحكي عن بعض السلف أنه واجب الأكل منها؛ حملا للأمر على حقيقته
…
»
(4)
.
وبيَّن السيوطي صارف الأمر عن الوجوب، فقال:«حيث لم يكن الدم واجباً»
(5)
، أي: ليست الأضحية في أصلها واجب.
قلت: وقد يقال إن الأكل إنما ورد لحكمة، قال الموزعي:«الحكمة فيه مخالفة الجاهلية في تحرجهم من أكل ذبائحهم»
(6)
.
• الحكم الخامس: استحباب تقسيم الأضحية إلى قسمين
(7)
:
مأخذ الحكم: أن الأمر في الآية شرع للأكل وإطعام البائس الفقير، وهما صنفان، فتقسم الأضحية بينهما نصفين، فأخذ هؤلاء بظاهر الآية.
(1)
المغني (13/ 368).
(2)
تيسير البيان (4/ 21).
(3)
ينظر: الإكليل (3/ 974)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 301)، والجامع لأحكام القرآن (12/ 43).
(4)
تيسير البيان (4/ 22).
(5)
الإكليل (3/ 974).
(6)
تيسير البيان (4/ 22).
(7)
ينظر: المغني (13/ 379).
قال ابن الفرس: «الجمهور وسعوا في ذلك، فله أن يأكل ما شاء، ومما شاء»
(1)
.
قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية الأضحية من قوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} .
قال القرطبي: «والمنسك: الذبح وإراقة الدم»
(2)
.
وقال الموزعي: «المنسك ها هنا: -والله أعلم- هو المصدر، من نسك ينسك، إذا ذبح القربان»
(3)
.
مأخذ الحكم: بإخبار المولى سبحانه وتعالى وامتنانه علينا بأن شرع ذلك لنا.
قال الموزعي: «فأخبر الله سبحانه أنه مشروع لكل أمة، وليس من خصائص هذه الأمة، وقد أجمع العلماء على مشروعية التقرب بالهدي والأضحية»
(4)
.
قلت: وفي إحلال ما كان محرماً عليهم في الجاهلية امتنان لهم بذلك، ولا منّةَ إلَّا بمشروع.
• الحكم الثاني: لا يجزئ في الأضحية غير بهية الأنعام.
قال ابن قدامة في كتاب الأضاحي: «ولا يجزئ في الأضحية غير بهيمة الأنعام
…
، ولنا قوله تعالى:{لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} ، وهي: الإبل والبقر والغنم»
(5)
.
(1)
أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 302).
(2)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 57).
(3)
تيسير البيان (4/ 33).
(4)
المصدر السابق.
(5)
المغني (13/ 368).
وسبق ذكر مأخذ الحكم في الآية السابقة.
قال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: استحباب التضحية بالسمين.
يستدل بالآية على الحكم المذكور من قوله: {وَالْبُدْنَ} [الحج: 36].
قال القرطبي: «والبدانة السمن، وقيل: إن هذا الاسم خاص بالإبل، وقيل: البُدن جمع «بدن» بفتح الباء والدال، ويقال: بَدُن الرجل، بضم الدال، إذا سمن»
(1)
.
مأخذ الحكم: مأخوذ من اللغة كما سبق، وعليه فلا تختص الآية على التأويل الأخير بالإبل؛ وقد نقل القرطبي بعد هذه المسألة الخلاف في إطلاق «البدن» على غير الإبل من البقر.
تنبيه: ذكر القرطبي قرائن من الآية وخارجية تؤيد أن المقصود بالبدن، هي الإبل، ومن الآية نفسها، قوله:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} ، وقال: إنه وصف خاص بالإبل
(2)
، أي: هي التي تنحر قائمة، ويتحقق فيها معنى السقوط كما سيأتي.
• الحكم الثاني: استحباب نحر الإبل قياماً، معقولة الركب.
ذكر المفسرون أن معنى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} ، أي: انحروها، فصار ذكر الله كناية عن النحر والذبح.
(1)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 59).
(2)
ينظر: المصدر السابق (12/ 60).
(1)
.
قال الجصاص: «إذا كانت باركة لا يقال أنها تسقط»
(2)
.
مأخذ الحكم: يدل عليه ما سبق من معنى الوجوب في قوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} والسقوط للقائم، كما يدل عليه، وعلى عقل الركب أو الأيدي قوله:{صَوَافَّ} .
قال السيوطي في الإكليل: «وقُرئ {صوافن}، قال قتادة: أي صوافن بالحبال معقولة، و {صواف} كما في القراءة المتواترة، أي: كونها قائمان قد صففن أيديهن وأرجلهن» ، ثم نقل عن ابن عمر أنه كان يلي نحر بُدنه بيده، يصف أيديها بالقيود، وهي قائمة، ويتلو هذه الآية، ثم قال: فالقراءتان بمنزلة آيتين، كل واحدة تفيد حكماً»
(3)
.
فدلّ قوله: {صَوَافَّ} مع قوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} ، على نحرها، وهي قائمة معقولة.
• الحكم الثالث: مشروعية الأكل منها والإطعام.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} .
قال الموزعي: «أمر الله بالأكل والإطعام منها، فمن الفقهاء من حمل الأمرين
(1)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 62).
(2)
أحكام القرآن (3/ 244).
(3)
ينظر: (3/ 985).
على الوجوب، ومنهم من حملهما على الاستحباب، ومنهم من استحب الأكل، وأوجب الإطعام»
(1)
.
أما القائل بالوجوب، فلظاهر الأمر، والقائل بالاستحباب؛ لكونه مصروفا، وسبق بيان الصارف.
(2)
.
قلت: وسبق قول القرطبي: «قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا}، يريد إذا سقطت على جنوبها ميتة، كنَّى عن الموت بالسقوط على الجنب»
(3)
.
• الحكم الرابع: مشروعية تثليث لحم الأضحية إما وجوباً أو استحباباً
(4)
.
قال ابن قدامة: «والاستحباب أن يأكل ثلث أضحيته، ويهدي ثلثها، ويتصدق بثلثها» ، ثم قال في دليل هذا القول: «ولأن الله تعالى قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} ، والقانع: السائل، يقال: قنع قنوعاً، إذا سأل، وقنع قناعة إذا رضي
…
، والمعتر: الذي يعتريك، أي: يتعرض لك لتطعمه، ولا يسأل، فذكر ثلاثة أصناف، فينبغي أن يقسم بينهم أثلاثا»
(5)
.
مأخذ الحكم: ما ذكره ابن قدامة مما يؤخذ من ظاهر تفسير الآية.
(1)
تيسير البيان (4/ 35)، وينظر: الجامع لأحكام القرآن (12/ 62).
(2)
تيسير البيان (4/ 36).
(3)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 62).
(4)
ينظر: تيسير البيان (4/ 35).
(5)
المغني (13/ 379)، وينظر: الجامع لأحكام القرآن (12/ 63).
(1)
.
قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107].
استدل بالآية من قال: إن الأضحية بالغنم أفضل.
قال القرطبي: «في هذه الآية دليل على أن الأضحية بالغنم أفضل من الإبل والبقر، وهذا مذهب مالك وأصحابه»
(2)
.
مأخذ الحكم: تفسير الصحابي ب «الذبح العظيم» بأنه كبش، منهم: علي رضي الله عنه، وابن عباس، وكونه اختاره سبحانه فداء لنبيه
(3)
.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1].
استدل بالآية على عدم جواز الأضحية قبل أن يضحي الإمام
(4)
.
وقيل: في تفسيرها: لا تذبحوا قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن الفرس: «نزلت في قوم، ذبحوا قبل أن ينحر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يصلي، فأمرهم أن يعيدوا»
(5)
.
مأخذ الحكم: العموم المأخوذ من حذف المفعول، والمقدَّر بالقول: «لا تقدموا
(1)
تيسير البيان (4/ 35).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (15/ 96).
(3)
ينظر: موسوعة التفسير بالمأثور (18/ 666).
(4)
ينظر: تيسير البيان (4/ 161).
(5)
أحكام القرآن (3/ 628).
الذبح أو غيره»، أو الفعل في قول:{لَا تُقَدِّمُوا} في سياق النفي، فيعمّ أي تقديم، ومنه: الذبح، وكون سبب النزول قطعي الدخول، فلا تصح الأضحية قبل الإمام.
قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية الأضحية
(1)
.
(2)
.
مأخذ الحكم: الأمر بقوله: {وَانْحَرْ} .
قال الفرس: «{وَانْحَرْ}، أمرٌ بنحر الهدي والنسك والضحايا»
(3)
.
وسبق الإشارة إلى الخلاف في كونه للوجوب لظاهر الأمر أو الاستحباب؛ لوجود الصارف.
• الحكم الثاني: كون وجوب الأضحية للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
قال السيوطي: «واستدل بالآية من قال بأن الأضحية كانت واجبة عليه صلى الله عليه وسلم»
(4)
.
مأخذ الحكم: كون الخطاب موجهاً للنبي صلى الله عليه وسلم بكاف الخطاب، {لِرَبِّكَ} .
وفي كونه يعم أمته، قال ابن الفرس: «والأمر في الآية محتمل للوجوب،
(1)
ينظر: الإكليل (3/ 1347)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 627).
(2)
المغني (13/ 360).
(3)
أحكام القرآن (3/ 627).
(4)
الإكليل (3/ 1347).
وللندب، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رفع احتمال الوجوب، قال صلى الله عليه وسلم:(أمرت بالنحر وهو لكم سنة)
(1)
»
(2)
.
• الحكم الثالث: وقت الأضحية يكون يوم النحر، وبعد مضي وقت الصلاة خاصة.
قال ابن الفرس في كونها يوم النحر ضمن تعداده للأقوال: «وقيل: هي مخصوصة بصلاة العيد ثم النحر بعدها، وأن الآية نزلت بالمدينة، وفي الآية على هذا القول الأمر بالضحية يوم النحر»
(3)
.
وقال السيوطي عن الحكم الأخر: «واستدل بالآية
…
من قال إن وقتها بعد مضي قدر الصلاة خاصة، ولم يعتبر الخطبتين»
(4)
.
ومأخذ الحكم: أشار إليه ابن الفرس، فقال: «وفي الآية، أيضا على هذا القول - على قول من رأى أن الواو ترتيب- أن النحر لا يكون إلا بعد الصلاة، وإن لم ينقل بأن الواو ترتيب -وهو المشهور عن العرب- فقد بيّن ذلك بالإجماع على أنه لا يجوز النحر قبل الصلاة
…
»
(5)
قلت: ودلالة كونه لا يعتبر الخطبتين لظاهر الآية.
(1)
ذكره القاضي عياض في إكمال المعلم بفوائد مسلم (6/ 399)، وقال محقق الكتاب الدكتور يحيى إسماعيل: رواه الدارقطني في سننه (4/ 282)، في كتاب الأشربة وغيرها، باب الصيد والذبائح والأطعمة، برقم (41) عن جابر الجعفي، وهو ضعيف جداً عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت بالنحر وليس بواجب).
(2)
أحكام القرآن (3/ 627).
(3)
المصدر السابق.
(4)
الإكليل (3/ 1347).
(5)
أحكام القرآن (3/ 628).
• الحكم الرابع: التضحية بالإبل أفضل.
مأخذ الحكم: للأمر به في الآية.
قال السيوطي: «واستدل بالآية
…
ومن قال: إن التضحية بالإبل أفضل، من البقر والغنم؛ لأنه تعالى أمر بالنحر، والنحر إنما يكون في الإبل ذكره ابن الفرس»
(1)
.
قلت: والذي ذكره ابن الفرس هو قوله: «وفي ظاهر الآية أن الإبل والبقر أفضل من الغنم في الضحايا، وهو قول الشافعي؛ لأنه تعالى أمر بالنحر، والنحر إنما يكون فيهما»
(2)
.
(1)
الإكليل (3/ 1347).
(2)
أحكام القرآن لاب الفرس (3/ 629).
كتاب الأيمان والنذور
الأيمان: جمع يمين.
قال الرازي في تفسيره: «والأيمان جمع يمين، بمعنى الحلف والقسم. وقيل: للحلف يمين، وهو اسم اليد؛ لأنهم كانوا يبسطون أيمانهم إذا حلفوا أو تحالفوا. وقيل: سمي القسم يمينا ليمين البر فيه»
(1)
.
والنذر: جمع نذر، وله تعاريف متعددة منها:«إلزام مكلف مختار نفسه لله تعالى بالقول شيئاً غير لازم عليه بأصل الشرع»
(2)
.
ويلحق النذر باليمين، قال في المغني:«ولنا، أن النذر يمينٌ، فينعقد في الواجب موجباً للكفارة، كاليمين بالله تعالى»
(3)
.
وفي بدائع الصنائع: «ولأن النذر يمينٌ، وكفارته كفارة يمين»
(4)
.
قال الرازي في تفسيره عن النذر: «واختُصَّ هذا اللفظ في عرف الشرع بأن يقولَ لله علي كذا وكذا من الصدقة، أو يعلق ذلك بأمر يلتمسه من الله تعالى، مثل أن يقول: إن شفى الله مريضي، أو رد غائبي فعلي كذا كذا
…
»
(5)
.
قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 224 - 225].
(1)
التفسير الكبير للرازي (5/ 534).
(2)
كشاف القناع (6/ 274).
(3)
المغني (10/ 21).
(4)
بدائع الصنائع (7/ 185).
(5)
التفسير الكبير (10/ 744 - 745).
• الحكم الأول: النهي عن كثرة الحلف
(1)
.
قال السيوطي: «لأنه نوع جراءة على الله وابتذال لاسمه في حق أو باطل»
(2)
.
مأخذ الحكم: النهي الوارد عن جعل اسم الله عرضة للأيمان، ومن أكثر ذكر شيء فقد جعله عُرضة، وقد روى عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنّها نزلت في تكثير اليمين بالله، نهينا أن يحلف الرجل به بارًا، فكيف فاجرًا؟
• الحكم الثاني: استحباب الحنث والتكفير لمن حلف يميناً فرأى غيرها خيرًا منها
(3)
.
نقل السيوطي عن ابن عباس قوله: «يقول الله لاتجعلني عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك وأصنع الخير، أخرجه ابن أبي حاتم» ، ثمَّ قال: ومعنى: {عُرْضَةً} مانع.
مأخذ الحكم: قول ابن عباس، وتفسيره.
وبيانه: أن قوله: {أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا} مفعول من أجله، فيقدر ما يقتضيه المعنى.
ونظم الآية: لأجل أن تبروا وتتقوا، ولا يكون ذلك إلّا بالحنث.
أي: إنَّ الإتيان بالخير، لا يكون إلّا بالحنث -وهو عدم الوفاء بيمينه- فيكون الحنث مستحبًا حينئذ، وما لا يتم المندوب إلّا به فهو مندوب.
وفي الصحيح: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليكفر عن يمينه،
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 407)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 299)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 6).
(2)
الإكليل (1/ 407).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 407).
وليفعل)
(1)
.
• الحكم الثالث: اعتبار القصد في اليمين، وأن من سبق لسانه إليها بلا قصد لا ينعقد
(2)
.
واستدل بقوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} من قال: إن من حلف على غلبة ظنه لا إثم عليه ولا كفارة قصد اليمين أو لم يقصدها
(3)
.
مأخذ الحكم: رفع المؤاخذة باللغو؛ بناء على التفسيرات الواردة عن الصحابة لمعنى اللغو
(4)
.
فورد عن عائشة رضي الله عنها أن اللغو: «قول الرجل لا والله وبلى والله» ، أي دون قصد وعقد للقلب.
وورد عن ابن عباس في تفسيره للغو: أن يحلف الرجل على الشيء يراه حقاً وليس بحق.
وغير ذلك من التفسيرات، وقد اختلف العلماء في المقصود بالمؤاخذة هل هي في الآخرة، أو في الدنيا وهي الكفارة؟ بناء على الخلاف في تفسير يمين اللغو
(5)
.
(6)
.
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها، برقم (1650).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 408)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 301)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 6).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 409).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 408 - 409).
(5)
ينظر: الإكليل (1/ 412).
(6)
أحكام القرآن (1/ 303).
• الحكم الرابع: انعقاد اليمين بالقصد
(1)
.
مأخذ الحكم: الاستدراك بقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ، مع تفسير الصحابة لمعنى كسب القلب. والكسب ما قصده ونواه.
• الحكم الخامس: عدم وجوب الكفارة باليمين الكاذبة الغموس
(2)
.
قال السيوطي: «وفسَّره قوم بأن يحلف وهو يعلم أنه كاذب»
(3)
.
مأخذ الحكم: بُني على من فسَّر اليمين المكتسبة بالقلب باليمين الكاذبة، وأن المؤاخذة في الآخرة.
ونقل عن ابن عباس قوله: «أن ذلك اليمين الصبر الكاذبة» ، وأنه لا كفارة لها بل المؤاخذة في الآخرة؛ لأن اليمين التي تجب فيها كفارة هي المعقودة {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]، ويمين الغموس محلولة غير منعقدة.
ويمين الصبر هي التي يكون فيها متعمدًا للكذب، قاصدًا لإذهاب مال المسلم، كأنّه يصبر النفس على تلك اليمين، أي: يحبسها عليها.
وفي الحديث المتفق عليه: (من حلف علي يمين صبر، وهو فيها فاجر، يقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله يوم القيامة، وهو عليه غضبان)
(4)
.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 412).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 412)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 304).
(3)
الإكليل (1/ 412).
(4)
أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب قوله الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77]، برقم (6677)، ومسلم، في كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، برقم (220).
قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7].
• الحكم الأول: دلَّت الآية على وجوب الوفاء بالنذر.
مأخذ الحكم:
(1)
.
قلت: ولعل من المأخذ كذلك كونها: خبراً بمعنى الأمر، أي: ليوفوا نذورهم وليخافوا يوما كان شره مستطيراً. والله أعلم.
• الحكم الثاني: أن الوفاء بالنذر يجب وجوبا عاماً مطلقاً من غير فصل بين المطلق والمعلق بشرط.
وبيانه: أن نذر الطاعة الذي يجب الوفاء به على قسمين: نذر مطلق، كقوله:«لله عليَّ أن أصلي الضحى» .
ونذر معلق على حصول منحة، أو زوال كربة، كقوله:«إن شُفي مريضي، فلله عليَّ أن أصلي ركعتين»
(2)
.
مأخذ الحكم: دخول الألف واللام المقرّر في قوله: {بِالنَّذْرِ} فيعمُّ أنواع
(1)
التفسير الكبير (10/ 745).
(2)
ينظر: الجامع لأحكام الأيمان والنذور للدكتور خالد المشيقح (2/ 99).
وأقسام نذر الطاعة، وغير الطاعة يخرج بأدلة أخرى، على خلاف في وجوب الكفارة فيها.
قال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 2].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية حل اليمين بالكفارة.
قال السيوطي: «عدم التحريم مع لزوم كفارة اليمين»
(1)
.
مأخذ الحكم: فرض الله وقدر التحلة للأيمان، والمراد بالتَّحلة، هي: الكفارة مثل الحنث؛ لأنها تحل اليمين.
• الحكم الثاني: الحلف بالتحريم فيه كفارة، كما أن الحلف بالإيجاب فيه كفارة.
مأخذ الحكم: سبب النزول قطعي الدخول، وقد ورد في سبب نزول الآية قول أمنا عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم:«كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا، فتواصيتُ أنا وحفصة: أنَّ أَيَّتَنَا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريحَ مغافير، أكلت مغافير، فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال: (لا، بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش، ولن أعود له) فنزلت: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم: 4] لعائشة وحفصة {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3]؛ لقوله: «بل شربت عسلاً» ، وقال إبراهيم بن موسى: عن هشام: (ولن أعود له، وقد حلفت، فلا تخبري بذلك أحدا)»
(2)
.
(1)
الإكليل (3/ 1268).
(2)
أخرجه البخاري في الأيمان والنذور، باب إذا حرَّم طعامه، برقم (6691)، ومسلم في الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرَّم امرأته، برقم (1474). وفي زيادة الحلف خلاف في كونه من تصرف بعض الرواة بالمعنى. ينظر: إعلاء السنن (1/ 379)،
(1)
.
• الحكم الثالث: تحريم الزوجة هل يُعدُّ يمينا أو ظهاراً؟
صورته: أن يقول الزوج: إن فعلتِ كذا، فأنتِ عليَّ حرامٌ، يقصد الحنث، أو المنع، اختلف العلماء في هذه المسألة على مذاهب متعددة.
ومنهم: من ذهب إلى أنها يمين يكفِّرها كفارة يمين؛ مستدلاً بالآية.
مأخذ الحكم: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فتعمُّ الآيةُ كلَّ ما حرَّمه الانسانُ على نفسه مما أباحه الله، ولا عبرة بخصوص السبب الوارد في سبب نزولها.
قال تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12].
استدل بها الحنفية على أن يمين الكافر لا يكون يميناً.
ويشترط عند الحنفية والمالكية في الأيمان، أن يكون الحالف مسلماً
(2)
، والمخاطَب بآيات الأيمان: المؤمنون
(3)
.
(1)
أحكام القرآن (3/ 364).
(2)
ينظر: الجامع لأحكام الأيمان والنذور للدكتور خالد المشيقح (1/ 237).
(3)
ينظر: بدائع الصنائع (3/ 11).
مأخذ الحكم: قلت لعل مأخذهم هو: أن النفي الداخل على الأسماء الشرعية يحمل على نفي الصحة، والله أعلم، وقد نفى الله الأيمان عنهم بقوله:{إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} .
قال الرازي مبيِّناً الحكم عند الحنفية، ويتمسَّك الشافعي بالآية على خلاف قول الحنفية فقال:«به تمسك أبو حنيفة رحمه الله في أنَّ يمين الكافر لا يكون يميناً، وعند الشافعي رحمه الله يمينهم يمين، ومعنى هذه الآية عنده [أي: أبي حنفية]، أنهم لَمَّا لم يفوا بها، صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان، والدليل على أنَّ أيمانهم أيمان، أنه تعالى وصفها بالنكث في قوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} ولو لم يكن منعقداً، لما صحَّ وصفها بالنكث»
(1)
.
قلت: ويؤيد مذهب الشافعي القراءاة {لا إيمان لهم} .
قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91].
استدل بالآية بالأحكام الآتية:
• الحكم الأول: أن إضافة العهد ونحوه، كالميثاق إلى الله يعتبر يمينا، وتلزم الكفارة، إذا حنث.
مأخذ الحكم: سمَّاه الله أيماناً، ونهى نقضه.
ويؤيد كونه يميناً قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [آل عمران: 77].
(1)
التفسير الكبير للرازي (5/ 535).
وكذا سبب نزولها، وقد روى البخاري «أنَّ رجلاً أقام سلعة وهو في السوق، فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعط؛ ليوقع فيها رجلاً من المسلمين، فنزلت الآية»
(1)
.
• الحكم الثاني: وجوب الوفاء بالعهد، والبر في الأيمان
(2)
.
مأخذ الحكم: الأمر بالوفاء في قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} ، والنهي عن نقض الأيمان في قوله:{وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} والنهي عن النقض أمرٌ بالبر والوفاء.
قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5].
دلّت الآية على أن الخطأ مرفوع، ولا إثم على المخطئ
(3)
.
(4)
.
مأخذ الحكم: الإخبار برفع الجناح عن الخطأ في ذلك، ثم التصريح بموطن المؤاخذة {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} .
(1)
أخرجه البخاري في البيوع، باب ما يكره من الحلف في البيع، برقم (2088).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 907).
(3)
ينظر: الإكليل (3/ 1101).
(4)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (14/ 109).
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: عدم الكفارة في لغو اليمين، وقد أجمع العلماء على ذلك
(1)
.
مأخذ الحكم: نفي المؤاخذة عليها، وهذا يقتضي رفع حكمها، وعدم لزوم الكفارة فيها، فالآية صريحة في الحكم المذكور في قوله:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} .
ولغو اليمين: ما جمعت أمرين: ما يجري على لسان المتكلم بلا قصد، واليمين التي يحلفها يظن صدق نفسه، سواء كان ذلك في الماضي أو الحال، أو المستقبل، وهو مذهب الحنابلة.
وقيل: هي الأمر الأوّل كما عند الشافعية، أو الأمر الثاني كما عند الحنفية والمالكية
(2)
.
• الحكم الثاني: وجوب الكفارة في الحنث في اليمين المنعقدة.
مأخذ الحكم: قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} وهو استدارك من نفيٍ، فيكون إثباتاً للكفارة، وهو شبيه بالاستثناء من النفي في كونه إثباتا.
قال القرافي: «لكن للاستدراك بعد النفي، وتوجب للنافي ما في الأول، وإلا
(1)
ينظر: المحلى (8/ 40) المغني (8/ 687).
(2)
ينظر: الجامع لأحكام الأيمان والنذور للدكتور خالد المشيقح (1/ 179 - 180).
كذلك فتشابها؛ لأنَّ كليهما يجمع بين النفي والإثبات»
(1)
.
قال ابن هبيرة موضحاً اليمين المنعقدة وحكمها: «وأجمعوا على أنَّ اليمين المنعقدة، هو أن يحلف على أمر من المستقبل أن يفعله أو لا يفعله، فإذا حنث وجبت عليه الكفارة»
(2)
.
وقد تردد العلماء في دخول اليمين الغموس في اليمين المنعقدة، فيجب فيها الكفارة، أو لا تدخل فلا تجب الكفارة فيها.
فمن قال: لا يجب فيها الكفارة.
قالوا: إنَّ عقد اليمين ما التزم فعلاً مستقبلاً، يتردَّد بين حنث وبرٍّ، فخرجت اليمين الغموس من الأيمان المعقودة؛ إذِ الحلف فيها، يكون على أمر ماض كاذباً عالماً
(3)
.
كما أنَّ الأيمان أمرنا بحفظها في قوله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} ، واليمين الغموس لا يتصوَّر حفظها؛ لعدم الحنث فيها، وعليه فلا تجب الكفارة فيها.
ومن قال: تجب الكفارة فيها، قال: هي يمين منعقدة؛ لأنها مكتسبة بالقلب، معقودة بخبر، مقرونة باسم الله تعالى
(4)
.
• الحكم الثالث: عدم انعقاد اليمين بما لم يقصده، وإنَّما سبق لسانُه إليه.
مأخذ الحكم: كون معنى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} أي: قصدتم، ويُفسِّره قوله:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، كما في
(1)
الاستغناء (363).
(2)
الإفصاح (2/ 321).
(3)
ينظر: الجامع لأحكام الأيمان والنذور للدكتور خالد المشيقح (1/ 196).
(4)
ينظر: الجامع لأحكام الأيمان والنذور للدكتور خالد المشيقح (1/ 206).
الأخرى، والقرآن يفسر بعضه بعضا.
• الحكم الرابع: صحة يمين الكافر
(1)
.
وعلى القول بصحة يمينه يترتب عليها آثارها، ومن ذلك الكفارة.
مأخذ الحكم: العموم في ضمير الجمع {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} ، وظاهره استواء المسلم والكافر.
• الحكم الخامس: وجوب الكفارة باليمين المحرّمة، كما لو حلف على شرب خمر ونحوه بالكفارة
(2)
.
مأخذ الحكم: لعموم قوله: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} ، «والأيمان» جمع معرَّف، فيعمُّ اليمين على بِرٍّ، واليمين على إثمٍ.
• الحكم السادس: كفارة اليمين، هي: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، وهي على التخيير هنا، فإن لم يجد أو عجز عنها، فصيام ثلاثة أيام
(3)
.
مأخذ الحكم: نص الآية وهو ظاهر، وسيأتي تفاصيل أحكامها.
تنبيه: ورد في قراءة شاذة {أو كإسوتهم} .
قال الهروي في تفسيره: «وقرأ سعيد بن جبير، وأبو العالية، ومعاذ بن الحارث القارئ وأبو نهيك {أو كإسوتهم}، بكاف الجر الداخلة على إسوة؛ أي: قرؤوا بفتح الكاف، وكسر الهمزة وكسر التاء والهاء»
(4)
.
(1)
ينظر: الجامع لأحكام الأيمان والنذور للدكتور خالد المشيقح (1/ 237).
(2)
ينظر: الجامع لأحكام الأيمان والنذور للدكتور خالد المشيقح (1/ 250).
(3)
ينظر: الإكليل (3/ 653).
(4)
تفسير حدائق الروح والريحان (8/ 28).
وقرأ محمد ابن السميقع اليماني، وأبو عمران الجوزي مثلهم إلا أنهما فتحا الهمزة.
قال ابن الجوزي: «ولا أرى هذه القراءة جائزة؛ لأنها تسقط أصلاً من أصول الكفارة» .
• الحكم السابع: لا يجزئ إخراج القيمة في الكفارة
(1)
.
مأخذ الحكم:
(1)
أن الله عز وجل جعل الواجب في عين الإطعام والكسوة، فلو دفع غيرهما لم يؤد الواجب المأمور به؛ لأن الواجب المخير لا يخرج من عهدة إلا بأداء أحدهما.
(2)
أن الله عز وجل حصر الكفارة في هذه الأنواع، ولو جاز دفع القيمة لم يعد للحصر في التخيير في أحد هذه الأوصاف الثلاثة معنى.
ولعل ذلك داخل في مفهوم الحصر، فلما جعل سبحانه الكفارة محصورة في المذكور دلَّ أن غيرها لا يجزئ، والله أعلم.
• الحكم الثامن: يجود دفع الكفارة للحرِّ والرقيق والمسلم والكافر.
مأخذ الحكم: لأن لفظ: «مساكين» مطلقٌ، والمطلق يجري على إطلاقه ما لم يقيد، والله أعلم.
فيدخل فيه ما ذكر، فدخل الرقيق عند الحنفية، وكذا الكافر عندهم مع وجه عند الحنابلة
(2)
.
• الحكم التاسع: يكون الإطعام من أوسط ما يطعم به الأهل قدراً ونوعاً
(1)
ينظر: الجامع لأحكام الأيمان والنذور للدكتور خالد المشيقح (1/ 429 - 430).
(2)
ينظر: الجامع لأحكام الأيمان والنذور للدكتور خالد المشيقح (1/ 447)، (1/ 450).
بحسب العرف
(1)
.
مأخذ الحكم: كون الآية أطلقت ولم تقدر الإطعام، وما لم يقدرِّه الشارع ولا اللغة التي نزل بها كلامه عز وجل فيرجع في تقديره إلى العُرف.
• الحكم العاشر: يجب استيعاب العشرة، ولا يكون الإطعام على بعضهم
(2)
.
مأخذ الحكم: مفهوم العدد المضاف إلى المساكين، يدل على عدم الإجزاء إن نقص عن ذلك، ومن أطعم واحداً أو اثنين لم يطعم عشرة، فلم يكن ممتثلا للأمر، فلا تجزئ الكفارة.
• الحكم الحادي عشر: عدم اشتراط التمليك للطعام بل يكفي التمكين، وهو: ما يسمى بالتغذية والتعشية
(3)
.
مأخذ الحكم: إن اسم الإطعام يطلق ويتناول إباحة الطعام لهم للأكل من غير تمليك.
(4)
.
• الحكم الثاني عشر: عدم اشتراط الإيمان في الرقبة المكفّر بها.
مأخذ الحكم: لأن الآية أطلقت الرقبة ولم تقيدها بشيءٍ.
ومن قال باشتراط كون الرقبة مؤمنة بما يكفره، حمل المطلق الوارد في هذه الآية على المقيد في كفارة القتل السابقة، في قوله:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}
(1)
ينظر: مجموع الفتاوى (35/ 350).
(2)
ينظر: الجامع لأحكام الأيمان والنذور للدكتور خالد المشيقح (1/ 475 - 476).
(3)
ينظر: الإكليل (2/ 657).
(4)
أحكام القرآن (2/ 457).
[النساء: 92]، وقد اتَّحد الحكم، وهو موجب الحمل المطلق على المقيد عند كثير من الأصوليين، وان اختلف في السبب
(1)
.
• الحكم الثالث عشر: الخلاف في التكفيير بالمكاتب، وأمِّ الولد، والمدبَّر، لأنَّ عتقهم مستحق بسبب آخر
(2)
.
وذكر السيوطي الخلاف فيمن أجاز التكفير في كفارة الخطأ، بعتق كتابي صغير، أو مجوسي كبير أو صغير، وولد الزنى، وقال:«لدخوله في مسمى الرقبة»
(3)
.
ومأخذ من أجاز: كون الآية أطلقت الرقبة المحرّرة، والمطلق يجري على إطلاقه.
ويدخل في هذا المأخذ: ما يُذكر في بعض العيوب غير المضرة بالعمل ككون العبد، خُصي أو أعور
…
إلخ
(4)
.
• الحكم الرابع عشر: وجوب عتق رقبة كاملة، لشخص واحد، فإذا اعتق نصفي رقبتين لم يجزئه.
مأخذ الحكم: أن المأمور به في ظاهر الآية، إعتاق رقبة كاملة لشخص واحد، ومن أعتق نصف رقبة من شخص، لا يقال: إنه أعتقه، والظاهر لا يُعدل عنه.
• الحكم الخامس عشر: وجوب التكفير بالصيام عند عدم وجود ما يطعم، أو يكسو، أو يُعتَق به.
(1)
ينظر: الجامع لأحكام الأيمان والنذور للدكتور خالد المشيقح (1/ 536).
(2)
ينظر: المغني (4/ 187).
(3)
الإكليل (2/ 581).
(4)
ينظر: الجامع لأحكام الأيمان والنذور للدكتور خالد المشيقح (1/ 569).
مأخذ الحكم: اللفظ المقدر في قوله: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} أي: فعليه صيام ثلاثة أيام، أو الواجب عليه صيام ثلاثة أيام، والمقدر كالملفوظ.
وكونه بعد الإطعام أو الكسوة، أو العتق بنص الآية، بقوله:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} .
• الحكم السادس عشر: وجوب التتابع في صيام الكفارة
(1)
.
مأخذ الحكم:
أولاً: حمل المطلق الوارد هنا في كفارة اليمين {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} على المقيَّد في كفارة القتل والظهار في قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92]، وقوله:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4]؛ لاتحاد الحكم.
ثانياً: لحجية القراءة الشاذة في الأحكام، وهي قراءة ابن مسعود:{فصيام ثلاثة أيّام متتابعات} .
• الحكم السابع عشر: عدم سقوط الكفارة بالعجز عنها، بل تستقر في ذمته إلى أن يقدر عليها
(2)
.
مأخذ الحكم: عموم أدلة وجوب الكفارة، فهي تشمل المعسر والموسر.
(1)
ينظر: الجامع لأحكام الأيمان والنذور للدكتور خالد المشيقح (1/ 602).
(2)
ينظر: الجامع لأحكام الأيمان والنذور للدكتور خالد المشيقح (1/ 603).
كتاب القضاء
القضاء: هو تبيين الحكم الشرعي، والإلزام به، وفصل الخصومات
(1)
.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].
استدل بالآية على مشروعية الحكم بين الناس، ووجوب العدل فيه
(2)
.
مأخذ الحكم: الإخبار عن الحكم الشرعي بقوله: {يَأْمُرُكُمْ} الدال على المشروعية والوجوب.
وكذا الوعد والوعيد المستفاد من ختم الآية: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} .
(3)
.
قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
(1)
شرح منتهى الإرادات (3/ 459)، وكشاف القناع (6/ 285).
(2)
ينظر: الإكليل (2/ 568)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 218).
(3)
التفسير الكبير للرازي (4/ 111).
استدل بالآية على وجوب التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم مع التسليم لحكمه وقضائه.
قال ابن قدامة: «الأصل في القضاء ومشروعيته الكتاب والسنة والإجماع»
(1)
، وذكر الآية المذكورة ضمن أدلة المشروعية.
مأخذ الحكم: أن نفي الإيمان لا يكون إلا على ترك واجب، وقد علق في الآية على أمرين: التحاكم إليه والتسليم بالقضاء، والمعلق على أمرين لا يخرج المكلف من عهدتهما إلا إذا أتى بهما جميعاً.
والحكم عام: والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ إذ سبب نزولها في مخاصمة الزبير بين العوام مع الأنصاري، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير، فقال الأنصاري -غفر الله له- «أن كان ابن عمك» ، فغضب النبيُّ صلى الله عليه وسلم ثم قال:«اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك»
(2)
.
والعموم في الآية مستفاد من ضمير الجمع في قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} و {يُحَكِّمُوكَ} ويعمُّ جميع شؤونهم لعموم قوله: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ، و «ما» اسم موصول من ألفاظ العموم.
قال الرازي في الآية: «تصريح بأنه لا يحصل الايمان، إلا بأن يستعينوا بحكم النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما اختلفوا فيه
…
»
(3)
.
وقال في قوله: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} : «واعلم أن
(1)
المغني (10/ 32).
(2)
أخرجه البخاري، سورة النساء، باب {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ، برقم (4585)، ومسلم في كتاب الفضائل، باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم، برقم (2357).
(3)
التفسير الكبير للرازي (4/ 128).
ميل القلب ونفرته شيء خارج عن وسع البشر، فليس المراد من الآية ذلك، بل المراد أن يحصل الجزم واليقين في القلب، بأن الذي يحكم به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق والصدق»
(1)
.
ثم قال: «{وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} والمراد منه: الانقياد في الظاهر والله أعلم» أ. هـ.
استدل بالآية على وجوب الحكم بالعدل في الشهادة.
مأخذ الحكم: كون قوله: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} خبراً بعد خبر، وليست نعتاً ل:{قَوَّامِينَ} ولا حالاً.
أي: كونوا قوامين، وكونوا شهداء، فهو خبر ثانٍ ل «كان» منصوب.
قال ابن عطية: «والحال ضعيفة في المعنى؛ لأنها تخصيص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط»
(2)
.
أي: كونوا قوامين بالقسط في شهادتكم ولو على أنفسكم.
وسيأتي في باب الشهادة زيادة بيان لهذه الآية.
(1)
المصدر السابق.
(2)
تفسير ابن عطية (2/ 122).
استدل بالآية على وجوب العدل في القضاء.
مأخذ الحكم: حذف المفعول في قوله: {أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا} ، يدل على العموم، أي: يعمُّ القضاء وغير القضاء، والله أعلم.
قال الرازي في تفسير الآية: «أي: لا يحملنكم بغض قومٍ على أن لا تعدلوا، وأراد: أن لا تعدلوا فيهم، ولكنه حُذف للعلم، وفي الآية قولان: الأول: أنها عامة
…
، والثاني: أنها مختصة بالكفار، فإنها نزلت في قريش لما صدوا المسلمين عن المسجد الحرام
…
، فنهاهم أولاً عن أن يحملهم البغضاء على ترك العدل، ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيدا وتشديداً»
(1)
.
استدل بالآية على أحكام الآتية:
• الحكم الأول: أنه لا يجب على المسلم الحكم بين الكفار إلا أن تكون الخصومة قد ارتبطت بينهم وبين مسلم.
مأخذ الحكم: للتخيير الوارد بلفظ «أو» بقوله: {أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} ، وهي نازلة في اليهود، بل وقد وادعهم النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، فيدخلون دخولاً قطعياً.
أما أهل الذمة: فيدخلون باعتبار عموم اللفظ لا خصوص السبب، والخطاب الموجَّه للنبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته، ودخول الجميع مبني على كون الآية محكمة غير منسوخة.
(1)
التفسير الكبير للرازي (4/ 320).
أما إذا ارتبطت الخصومة بمسلم فيجب الحكم فيها باتفاق
(1)
.
(2)
.
• الحكم الثاني: إذا حكم بين الكفار يجب أن يحكم بالعدل.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} ، أي: بالعدل، وثناء الله على الفاعل بقوله:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .
قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].
وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45].
(1)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 176).
(2)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (6/ 177)، وينظر: التفسير الكبير للرازي (4/ 361).
وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].
دلت الآيات على تغليظ الحكم بخلاف المنصوص
(1)
.
قال الرازي: «قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} إنما يتناول من أنكر بقلبه، وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله، وأقرَّ بلسانه كونه حكم الله، إلَّا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله تعالى، ولكنه تارك له، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية» ، ونسبَ هذا القول لعكرمة واختاره»
(2)
.
وقال القرطبي: «وقيل: فيه إضمار، أي:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} رداً للقرآن، وجحداً لقول الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر، قاله ابن عباس ومجاهد، فالآية عامَّة على هذا.
وقال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار، أي: معتقداً ذلك ومستحلاً له.
فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه راكب محرماً، فهو من فساق المسلمين، وأمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له
…
»
(3)
.
مأخذ الحكم: جواب الشرط بقوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، وقوله:{فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، وقوله:{فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، وهي وصف للفاعل بما فيه تغليظ بسبب عدم الإتيان بالمشروط، وهو الحكم بما أنزل الله.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 425).
(2)
التفسير الكبير للرازي (4/ 368).
(3)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (6/ 180).
قال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 48].
وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49].
دلت الآيتان على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية القضاء.
قال ابن قدامة: «الأصل في القضاء ومشروعيته الكتاب والسنة والإجماع»
(1)
، وذكر منها آية المائدة الثانية، كذا القرطبي جعلها أصلاً في الأقضية
(2)
.
مأخذ الحكم: الأمر الوارد فيها بصيغة: «افعل» {فَاحْكُمْ} ، {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} ، وهو على الوجوب، وكونه للوجوب مما لا خلاف فيه، وفيه دلالة أخرى من الآية، وهو تعقيب المولى سبحانه الحكم بالنهي عن اتباع أهوائهم بقوله:{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} .
(3)
.
• الحكم الثاني: وجوب الحكم بين الكفار بحكم الإسلام، إذا تحاكموا إلينا
(4)
.
وهذه الآية ناسخة للتخيير الوارد في قوله: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]، وسبق الحديث عن نسخها في الآية المنسوخة، والخلاف في كون النسخ ثابتاً.
(1)
المغني (14/ 5).
(2)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (15/ 167).
(3)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (6/ 199).
(4)
ينظر: أحكام القرآن (2/ 442)، والإكليل (2/ 463).
ومما يقوي إحكام الآية وعدم النسخ، وهو أن النسخ إنَّما يصار إليه عند عدم إمكان الجمع، وهنا أمكن الجمع، وفي ذلك يقول القرطبي:«وقيل: ليس هذا وجوباً، والمعنى: فاحكم بينهم إن شئت»
(1)
.
أي: فاحكم بينهم بما أنزل الله، إن شئت الحكم بينهم، وعليه فله الإعراض عن الحكم بينهم.
وفي فائدة تكرار الأمر بالحكم بينهم بما أنزل الله كما في الآيتين.
(2)
.
دلت الآيات على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب الحضور على من دُعي لحكم الشرع، وتحريم الامتناع
(3)
.
مأخذ الحكم: الذّم الوارد على ترك الحضور في قوله: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} ،
(1)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (6/ 210).
(2)
التفسير الكبير للرازي (4/ 374).
(3)
ينظر: الإكليل (3/ 1037).
والاستفهام للإنكار والاستقباح لإعراضهم المذكور
(1)
، وختم الآية بذم الفاعل بقوله:{بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، فدلّ على تركهم للواجب عليهم.
• الحكم الثاني: استحباب أن يقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} .
مأخذ الحكم: مدح الفاعل لذلك، ووصفه بالإيمان وبالفلاح.
قال تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: جواز طلب الولاية كالقضاء ونحوه، لمن وثق من نفسه القيام بحقوقها
(2)
.
مأخذ الحكم: كونه فعل نبي، وهو من شرع من قبلنا، فيكون شرعاً لنا.
وعورض بكونه شرعاً لنا ما لم يرد في شرعنا خلافه، وقد ورد في حديث عبد الرحمن بن سمرة النهي عن سؤال الإمارة، وللعلماء أجوبة في ذلك:
قال القرطبي: «فالجواب
…
، الرابع: أنه رأى ذلك [أي: يوسف عليه السلام فرضاً متعيناً عليه؛ لأنه لم يكن هنالك غيره، وهو الأظهر، والله أعلم»
(3)
. أ. هـ.
وقال الرازي: «التصرف في أمور الخلق كان واجباً عليه، فجاز له أن يتوصل إليه بأيِّ طريق» ، ثم قال:«وما لا يتم الواجب إلَّا به، فهو واجب، فكان هذا الطريق واجباً عليه»
(4)
ا. هـ. وهذا هو المأخذ لهذا الحكم.
(1)
ينظر: التفسير البلاغي للاستفهام في القرآن للمطعني (3/ 42).
(2)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (9/ 183 - 184)، والإكليل (2/ 876).
(3)
الجامع لأحكام القرأن (9/ 183 - 184).
(4)
التفسير الكبير للرازي (6/ 473).
• الحكم الثاني: جواز التولية عن الكافر والظالم.
(1)
.
مأخذ الحكم: كونه فعل نبي، وهو شرع من قبلنا، فيكون شرعاً لنا.
قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] إلى قوله: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].
قدّم ابن قدامة هذه الآية الثانية على جميع الآيات التي جُعلت أصلًا للقضاء، من الكتاب، وكذا القرطبي عند حديثه عن الأصل في الأقضية من الكتاب، واستدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية القضاء في المسجد، حيث تسوروا المحراب عليه وقضى بينهم.
مأخذ الحكم: كونه من شرع من قبلنا، وهو شرع لنا.
قال الطاهر ابن عاشور: «وأُخِذ من الآية مشروعية القضاء في المسجد، قالوا: وليس في القرآن ما يدل على ذلك، سوى هذه الآية؛ بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكاه الكتاب أو السنة»
(2)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (9/ 183).
(2)
التحرير والتنوير (23/ 238)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (15/ 168).
• الحكم الثاني: وجوب الحكم بين الناس بالعدل.
مأخذ الحكم: الأمر بالحكم بالحق، وهو العدل.
(1)
.
ثم تكلَّم عن سياق الآية بما يؤكد الحكم السابق، فقال: «{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} ، أي: لا تعقد بهواك المخالف لأمر الله {فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ، أي: عن طريق الجنة، {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: يحيدون عنها ويتركونها {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} في النار
…
»
(2)
.
ولا شك أنَّ هذا ذم ووعيد، ولا يكون إلَّا على من ترك واجباً، وهو هنا: العدل في الحكم.
باب الشهادات
الشهادات: جمع شهادة، والشهادة: هي الإخبار بحق للغير في مجلس القضاء
(3)
.
قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ
(1)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (15/ 167).
(2)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (15/ 168).
(3)
ينظر: الموسوعة الكويتية (26/ 215 - 216).
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282].
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية الإشهاد عند البيع
(1)
.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا} ، فقيل: هو للندب، وقيل: للوجوب. وسبق في كتاب البيع بيان ذلك.
• الحكم الثاني: اشتراط العدد في الشهادة
(2)
.
مأخذ الحكم: النص على العدد في قوله: {شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} .
• الحكم الثالث: لا يقبل في الشهادة صبي ولا كافر
(3)
.
مأخذ الحكم: مفهوم قوله: {مِنْ رِجَالِكُمْ} ، فلا يدخل الصبي ولا الكافر، وكذا بقوله تعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وهما غير مرضيين.
• الحكم الرابع: بيان من تقبل شهادة من العبيد وغيرهم
(4)
.
قال السيوطي: «واستدل بعمومه من يقبل شهادة العبيد، والأصول للفروع وعكسه، وأحد الزوجين للآخر، والصديق، والصِّهر، والعدو، والأعمى، والأخرس، وأهل الأهواء، وولد الزنا، والبدوي على الحضري، والقراء بالألحان،
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 451)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 165 - 170).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 451)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 179، 180).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 451)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 421، 425)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 170، 171).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 451)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 420، 421)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 177).
ولاعب الشطرنج، والبخيل المؤدي زكاته، والشاعر، والأغلف، وآكل الطين، والصيرفي، ومكاري الحمير، وناتف لحيته، والبائل قائماً»
(1)
.
مأخذ الحكم: دخولهم تحت عموم قوله: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} ؛ إذ {الشُّهَدَاءُ} جمع معرف فيعمّ ما يدخل تحت مسماه.
تنبيه: قال ابن الفرس في: «وأصل النزاع في هذه المسائل عموم الآية المتقدم ذكرها، والتخصيص بالتهمة لقوله صلى الله عليه وسلم:(لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين)
(2)
، أي:(متهم) فمن لم ير التهمة مؤثرة أخذ بعموم الآية فأجاز الشهادة، ومن رأى التهمة مؤثرة خصص عموم الآية بالحديث المذكور على اختلاف بين الأصوليين في مثل هذا التخصيص»
(3)
.
والحديث المذكور قال عنه الألباني في الإرواء: «وأما حديث عمر فلم أقف على إسناده، ولا مرفوعاً، وقد ذكره مالك في الموطأ أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين» ، وهذا موقوف معضل»
(4)
أ. هـ.
ونقل عن ابن حجر في التلخيص الحبيرقوله: «ليس له إسناد صحيح، لكن له طرق يقوي بعضها بعضا»
(5)
وقال السيوطي: «ومن رد الجميع أو بعضهم قال إنهم ممن لا ترضى وقد قال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ}»
(6)
.
(1)
الإكليل (1/ 451 - 452).
(2)
أخرجه البيهقي في سننه (10/ 201)، والدارقطني في سننه (2/ 244)، وضعفه الألباني في إرواء الغليل (8/ 292)، برقم (2675) وقال:"موقوف معضل".
(3)
أحكام القرآن (1/ 424).
(4)
إرواء الغليل (8/ 292).
(5)
التلخيص الحبير (4/ 203).
(6)
الإكليل: (1/ 452).
ولكل شخص منهم مسألة مستقلة، وأسباب رد الشهادة متعددة، وهي مذكور في كتب الأحكام والفقه.
• الحكم الخامس: قبول شهادة النساء في الأموال ونحوها، كالمواريث والودائع والوكالات
(1)
.
مأخذ الحكم: ظاهر الآية، في قوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} ، حيث شرع سبحانه البديل عند عدم وجود الرجلين من الشهداء.
قال السيوطي: «وقصرها الزهري ومكحول على الدَّين خاصة لظاهر الآية»
(2)
.
قلت: لقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} .
• الحكم السادس: منع شهادة رجل وامرأتين مع وجود رجلين
(3)
.
مأخذ الحكم: ظاهر الآية، كما قال السيوطي.
وهذا -المأخذ- مبني على اختلاف العلماء في الشرط في قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} فقيل هو للترتيب، وعليه لا يجوز شهادة النساء إلّا عند عدم الرجال.
وقيل للتقسيم، أي: فإنّ لم تستشهدوا رجلين، فلتستشهدوا رجلًا وامرأتين، وقالوا: بأنّه سبحاته وتعالى لم يقل: فإن لم تجدوا الدّالة على الترتيب.
قال الموزعي: «والحق الذي عليه الجمهور أن الشرط للتقسيم لا للترتيب. والمعنى: فإن لم تستشهدوا رجلين، فليستشهدوا رجلاً وامرأتين، فقال {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 452)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 426).
(2)
الإكليل (1/ 452).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 452)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 426 - 427)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 176).
رَجُلَيْنِ}، ولم يقل: فإن لم تجدوا، ولو كان الترتيب مراداً لقال: فإن لم تجدوا»
(1)
.
تنبيه: إن كان معهن رجل فقبول الشهادة محل إجماع.
• الحكم السابع: منع قبول الشاهد واليمين
(2)
.
مأخذ الحكم: لعدم ذكره في الآية مع ذكره فيها أنواع التوثيق، قاله السيوطي.
قلت: ولأنّها زيادة على مقتضى الآية، والزيادة على النص عنده نسخ، والقرآن لا ينسخ بخبر الآحاد، الذي أثبت قول الشاهد مع يمينه.
كما أنّ مفهوم الحصر في الآية يقتضي حصر الحجة في ذلك، والشاهد مع يمينه غير داخل فيها.
وأجاب الجمهور بأن الزيادة على النص لا تقتضي النسخ، كما أن النسخ يشترط منه المنافاة، ولا منافاة بين الحكمين، والمفهوم ليس بحجة -إن قيل به- لأنّه معارض بمنطوق حديث الآحاد.
• الحكم الثامن: يشترط في الشاهد أن يكون عدلاً
(3)
.
مأخذ الحكم: كون لفظ الرضى في قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} يدل عليه، ومن العلماء من جعل الرضى والعدالة بمعنى واحد.
وعليه: لا يقبل الشاهد المجهول حاله، وهو الذي لا يعرف بعدالة ولا فسق؛ لعدم معرفة عدالته
(4)
.
(1)
تيسير البيان للموزعي (2/ 176).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 453).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 453)، تيسير البيان للموزعي (2/ 172).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 453).
• الحكم التاسع: لا يكفي في الشاهد مجرد الإسلام
(1)
.
مأخذ الحكم: لأنّ الرضى أمر زائد على الإسلام.
• الحكم العاشر: لابد من التزكية أن يقول هو عدل رِضي
(2)
.
قال السيوطي مبيناً الحكم والمأخذ: «واستدل بالآية مع قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] على أنه لابد من التزكية أن يقول هو عدل رِضي؛ لأنهما الوصف المعتبر في الشاهد، فلا يكفي ذكر أحدهما، ومن أكتفى به قال: إنه تعالى ذكر كل لفظ على حدة ولم يجمعهما، فدلَّ على أن أحدهما يغني عن الآخر»
(3)
.
• الحكم الحادي عشر: لا تجوز الشهادة لمن رأى خطه حتى يتذكر، أي: رأى خطه وعرفه ولم يشك فيه، ومع ذلك
(4)
.
مأخذ الحكم: حيث لم يعتبر المولى عز وجل نسيان المشهود عليه حتى يتذكر {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} .
واستدل من قال بالجواز بقوله: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} أي: لا تشكوا.
قلت: وقد علم سبحانه وتعالى أن النّاس ينسون وبهذا أمرهم، وأمره سبحانه بالكتابة والإشهاد ظاهره يدل على اعتبار الكتابة، حتى ولو نسي الكاتب، ولو كان الكتاب
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 453)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 422)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 173).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 453)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 432).
(3)
الإكليل: (1/ 453).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 453)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 434)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 183).
إذا رآه الشاهد لا يشهد حتى يعرف الشهادة لم يكن للكتاب معنى، وصار وجوده وعدمه سواء.
وقيل في هذا الاستدلال نظر؛ لأنّه لعله إنّما أراد بالكتاب لعله يتذكر به.
• الحكم الثاني عشر: أن الشاهد إذا قال لا أذكر، ثم ذكر يقبل قوله، ويجوز له إقامة الشهادة
(1)
.
مأخذ الحكم: أنّه سبحانه قبل شهادة المرأة التي نسيت إذا ذكرتها الأخرى.
• الحكم الثالث عشر: تحريم المنع من تحمل الشهادة، أو أدائها
(2)
.
مأخذ الحكم: النهي مع الخلاف في تفسير قوله: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} ، قال قتادة: إلى تحمل الشهادة، وقال مجاهد: إلى أدائها. والأداء يدخل في معنى الشهادة ويؤكده قوله: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283].
وقال الحسن: إليهما معاً، ففيه وجوب التحمل والأداء
(3)
.
قلت: لأنّ النّهي عن الشيء أمر بضده، فحرم الامتناع من الشهادة تحملًا وأداءًا ممن دُعي إليها؛ لما في ذلك من ضياع الحقوق.
وقيل: إنّ الآية نزلت في الرجل يطوف على القوم الكثير يطلب من يشهد له، فيتحرجون من الشهادة.
والشهداء حقيقة فيمن قد تحمَّل فيطلب منه الأداء، فيكون حقيقة فيمن طلب منه الأداء.
(1)
ينظر: الإكليل (1/ 453).
(2)
ينظر: الإكليل (1/ 454)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 433)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 182).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 454).
فجاز فيمن طلب منه التحمل باعتبار ما سيؤول إليه، ويحتمل أن يراد الجميع، فيكون من باب حمل المشترك على حقيقته ومجازه
(1)
.
• الحكم الرابع عشر: لا مدخل للعبد في الشهادة.
مأخذ الحكم: قال السيوطي: «لأنه غير متمكن من الإجابة إذا دعي إلا بإذن السيد»
(2)
.
أي: ليست واجبة عليه الشهادة تحملًا وأداءً؛ لأنّ الإجابة معلقة بإذن واختيار غيره.
• الحكم الخامس عشر: تحريم مضارة الشاهد
(3)
.
مأخذ الحكم: للنهي الوارد بقوله: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} .
قال تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} الآية [البقرة: 283].
استدل بالآية على تحريم كتم الشهادة وأنه من الكبائر
(4)
.
مأخذ الحكم: النهي، وهو على أصله للتحريم؛ لعدم الصارف، ويؤيده لقوله:
(1)
ينظر: تيسير البيان للموزعي (1/ 182).
(2)
الإكليل (1/ 454).
(3)
ينظر: الإكليل (1/ 455)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 437)، وتيسير البيان للموزعي (2/ 184).
(4)
ينظر: الإكليل (1/ 457)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 433).
{وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} ، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 140].
قال تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15].
المراد بالفاحشة في هذه الآية الزنا، قال الموزعي:«مقتصٌّ من قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]، ومن قوله: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]»
(1)
.
واستدل بالآية على أن نصاب الشهادة على هذه الفاحشة أربعة رجال مؤمنين عدول، فهذه ثلاثة أحكام:
الأول: نصاب شهادة الزنا أربعة.
الثاني: أن يكونوا رجالاً.
الثالث: أن يكونوا عدولاً.
(2)
.
مأخذ الحكم الأول: الأمر في قوله: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} ، والأعداد نصوص لا تقبل التأويل، فدلّ على أنه لا يجزئ أقل من هذا العدد.
(1)
تيسير البيان (2/ 290).
(2)
الإكليل (2/ 522).
ومأخذ الحكم الثاني: لقوله: {مِنْكُمْ} ، أي: من رجالكم، فدل على الضمير المختص بالذكور
(1)
.
ومأخذ الحكم الثالث: وهو اشتراط العدالة في الشهود؛ وذلك بحمل المطلق في هذه الآية على التقييد في الشهادة على البيع، والوصية والرجعة
(2)
.
(3)
، أي: بدليل مفهوم الموافقة الأولوي.
(4)
.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 522)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 81)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 103).
(2)
ينظر: تيسير البيان (2/ 291).
(3)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 81).
(4)
تيسير البيان (2/ 291).
استدل بالآيتين على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: وجوب القيام بالقسط والعدل في الشهادة.
مأخذ الحكم: الأمر في قوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ} مع المبالغة في ذلك من وجهين:
الأولى: من حيث اللفظ والصيغة، وفي هذا يقول القرطبي:«{قَوَّامِينَ}؛ بناء مبالغة، أي: ليتكرر منكم القيام بالقسط، وهو العدل في شهادتكم»
(1)
.
قلت: وقد بيَّن القرطبي أن {شُهَدَاءَ} ، نصبت إما على النعت ل:{قَوَّامِينَ} ، وهذا يؤيد ما سبق، أو أنها خبر ثان ل «كان» ، «كونوا قوامين، وكونوا شهداء» .
فقال رحمه الله: «قوله تعالى: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ}، نصب على النعت ل «قوامين» ، وإن شئت كان خبراً بعد خبر»
(2)
.
الثاني: قيام القسط والعدل حتى على النفس أو الوالدين أو الأقربين، فالأجنبي أولى بذلك؛ لعدم المانع القلبي أو العاطفي أن يقام عليه ذلك.
(3)
.
ومن مأخذ الحكم قول الرازي: «ونهاهم عن العدول عن القسط، واتباع الهوى، والإعراض عن القيام بأدائها، سواء كان المشهود عليه غنياً أو فقيراً، قريباً أو بعيداً، وهذا أمر مجمع عليه بين المسلمين»
(4)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 390).
(2)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 390).
(3)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 390 - 391).
(4)
التفسير الكبير للرازي (3/ 41).
وقال السيوطي: «ووجوب العدل في الشهادة بين القريب والبعيد والغني والفقير، واجتناب الهوى»
(1)
.
• الحكم الثاني: جواز الشهادة على النفس، وعلى الوالدين لا الشهادة لهما، فإنَّ الآية لم تتعرض لذلك.
قال السيوطي: «فيه قبول شهادة الرجل على والديه وأقاربه، ووجوب العدل في الشهادة»
(2)
.
ومأخذ الحكم: مشروعية ما سبق، شريطة أن يكون بالعدل، و «لو» هنا شرطية بمعنى:«إن» .
قال أبو حيان: «ومجيء «لو» هنا؛ لاستقصاء جميع ما يمكن فيه الشهادة، لما كانت الشهادة من الإنسان على نفسه بصدد أن لا يقيمها لما جبل عليه المرء من محاباة نفسه ومراعاتها، فنبَّه على هذه الحال، وجاء هذا الترتيب في الاستقصاء في غاية من الحسن والفصاحة، و «لو» شرطية بمعنى:«إن» وقوله: {عَلَى أَنْفُسِكُمْ} متعلق بمحذوف، وحذف «كان» بعد «لو» كثير»
(3)
.
• الحكم الثالث: لا يلزم العبد تحمل الشهادة وأدائها.
مأخذ الحكم: عدم دخوله في القوامة بها؛ لنقصه في ذلك.
قال السيوطي: «استدل به على أن العبد لا مدخل له في الشهادة؛ إذ ليس قوَّاماً بذلك؛ لكونه ممنوعاً من الخروج إلى القاضي»
(4)
.
(1)
الإكليل (2/ 593).
(2)
الإكليل (2/ 593).
(3)
البحر المحيط (3/ 369 - 370)، ودراسات لأسلوب القرآن لعضيمة (2/ 563).
(4)
الإكليل (2/ 593).
فائدة: شهادة النفس على نفسه، هي: الإقرار
(1)
.
واختلف العلماء في شهادة المرء على نفسه في الزنا، فهل يشترط فيها أربع شهادات كسائر الأصول المختصة بالزنا؟ أو يكفي مرة واحدة كسائر الأصول في الإقرار بالحقوق؟
(2)
، ثم بيَّن ذلك.
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: يشترط في الشهادة على الوصية اثنان ذوا عدل.
مأخذ الحكم: الأمر الوارد في الآية بصيغة المصدر: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} مع التنصيص على العدد {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ} .
• الحكم الثاني: جواز شهادة الكافر على وصية المسلم في السفر إذا لم يكن غيرهم
(3)
.
(1)
ينظر: الإكليل (2/ 593)، وتيسير البيان (3/ 40)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 390).
(2)
تيسير البيان (2/ 291 - 292).
(3)
ينظر: المغني (14/ 171).
مأخذ الحكم: سبب نزول الآية، وهي قطعية الدخول، وقد ورد في سبب نزولها روايات، ومنها ما رواه ابن عباس أن رجلاً من بني سهم خرج مع تميم الداري وعدي بن بدَّاء، وكانا نصرانيين، فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم، فأوصى إليهما، فلما قدما بتركته فقدوا جاماً من فضة مخوصاً بالذهب، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله ما كتمتماها .. الخ
(1)
.
وقيَّد بعضهم جواز شهادة الكافر في هذه الآية فيما إذا كان وصياً، أمَّا إذا كان غير وصي فلا تُقبل شهادته؛ بدليل قوله:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وللخلاف في معنى الشهادة في الآية اختلاف كبير في أثر حكمها.
قال القرطبي: «وشهد بمعنى: «وصى» ، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} ، وقيل: معناها هنا: الحضور للوصية، يقال: شهدت وصية فلان، أي: حضرتها»
(2)
.
• الحكم الثالث: أجاز أبو حنيفة شهادة الكفار من أهل الذمة فيما بينهم
(3)
.
مأخذ الحكم: لقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ، أي: من غير أهل دينكم.
وذهب آخرون إلى أن معنى: {مِنْ غَيْرِكُمْ} ، أي: من غير عشيرتكم.
قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30].
وقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72].
(1)
ينظر: موسوعة التفسير المأثور (8/ 186).
(2)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (6/ 322).
(3)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 325 - 326).
استدل بالآيتين على تحريم شهادة الزور.
قال القرطبي عن آية الحج: «هذه الآية تضمنت الوعيد على الشهادة بالزور»
(1)
.
مأخذ الحكم: من الآية الأولى: النهي الوارد بصيغة الأمر في قوله: {وَاجْتَنِبُوا} ، وهو يقتضي تحريم ما نُهي عنه.
وفي الآية الثانية: ورد النهي بصيغة الخبر، والمعنى:«لا تشهدوا الزور إن كنتم تتصفون بصفات المؤمن» .
تنبيه: «الزور» لفظٌ عامٌّ في كل باطل، فيدخل فيه الكذب في الشهادة.
قال ابن الفرس: «الزور لفظ عام في كلِّ باطل من كذب وكفر وغيرهما»
(2)
.
ومثله السيوطي
(3)
، ومثَّل له في آية الفرقان فقال:«هو شامل لكل باطل، فمنه الشرك، وبه فسره الضحاك، واللهو والغناء، وبه فسره ابن الحنفية، والكذب، وبه فسره قتادة، والنياحة، وبه فسر الحسن»
(4)
.
وقال القرطبي: «والزور: الباطل والكذب؛ وسمي زورا؛ لأنه أميل عن الحق
…
وكل ما عدا الحق، كذب وباطل وزور»
(5)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 54).
(2)
أحكام القرآن (3/ 306).
(3)
ينظر: الإكليل (3/ 977).
(4)
الإكليل (3/ 1057).
(5)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 54).
وقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13].
استدل بالآيتين على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: يشترط في الشهادة على الزنا أربعة رجال عدول، لا مرأة معهم، ولا يقبل أقل من ذلك.
قال ابن قدامة: «أجمع العلماء على أنَّه لا يقبل في الزنا أقل من أربعة شهود للنص»
(1)
.
وقال القرطبي: «الذي يفتقر إلى أربعة شهداء دون سائر الحقوق هو: الزنا، رحمة بعباده وستراً لهم»
(2)
.
مأخذ الحكم: سبق في آية النساء: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15].
• الحكم الثاني: تقبل شهادة الشهود مجتمعين ومتفرقين.
مأخذ الحكم: لإطلاق الآية القبول دون ذكر للاجتماع أو الافتراق.
• الحكم الثالث: قبول شهادة المحدود بالقذف إذا تاب
(3)
.
مأخذ الحكم: رجوع الاستثناء المتعقب جملاً إلى جميع تلك الجمل، فيعود الاستثناء في قوله:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} إلى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} وهذا استثناء من النفي فيكون إثباتاً، أي: إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم.
(1)
المغني (14/ 125).
(2)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 158).
(3)
ينظر: الإكليل (3/ 1008)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 240).
قال القرطبي: «وقال الجمهور: الاستثناء عامل في ردِّ الشهادة، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته»
(1)
.
(2)
.
ومأخذ الحكم من الآية الثانية: توبيخ المولى سبحانه وتعالى لمن لم يأت بهذا العدد في قذفه بالفاحشة، ولا يُوبخ الله إلا على ترك واجب أو فعل محرم، فدلّ على أن الأربعة شرط في إثبات حد القذف.
ويدل عليه في سياق الآية: ذم من رمى إنساناً، وليس عنده أربعة شهود، حيث سمّاه المولى كاذباً {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ، والذم على فعل أو ترك واجب كما سبق.
قال القرطبي: «{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}، هذا توبيخ لأهل الإفك، و «لولا» بمعنى: «هلّا» ، أي: هلّا جاءوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء»
(3)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 160).
(2)
المصدر السابق.
(3)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 181).
استدل بالآية على أن شهادة أحد الزوجين على الآخر بالزنا أربع شهادات عند الملاعنة.
مأخذ الحكم: نص الآية مع اعتبار المقدّر.
قال القرطبي: «والتقدير: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات، أو فالأمر أن يشهد أحدهم أربع شهادات»
(1)
.
أو يقال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} هو مصدر نائب عن فعله، وهو أحد صيغ الأمر الصريحة.
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية الشهادة على الطلاق أو الرجعة والنكاح
(2)
.
مأخذ الحكم: للأمر في قوله: {وَأَشْهِدُوا} ، وسياق الآية في الطلاق أو الرجعة أو فيهما.
(3)
.
(1)
المصدر السابق (12/ 163).
(2)
ينظر: الإكليل (3/ 1259)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 575).
(3)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (18/ 141).
وقال أيضًا: «والاشهاد عند أكثر العلماء على الرجعة ندب
…
، أوجب الإشهاد في الرجعة أحمد بن حنبل في أحد قوليه، والشافعي كذلك لظاهر الأمر. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في القول الآخر: إنَّ الرجعة لا تفتقر إلى القبول، فلم تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق»
(1)
.
قلت: والقياس المذكور هو الصارف للأمر من الوجوب إلى الندب عندهم.
أما مشروعية النكاح، فقال السيوطي في الإكليل «واستدل بالآية من أوجب الإشهاد على الرجعة، وإذا وجب فيها، ففي أصل النكاح من باب أولى»
(2)
.
فبيَّن مأخذ الاستدلال من الآية بدلالة مفهوم الموافقة الأولوي.
• الحكم الثاني: يشترط في الإشهاد على ما سبق أن يشهد به مسلمان عدلان
(3)
.
قال السيوطي في الإكليل: «وفي الآية أنه لا يقبل في النكاح والطلاق إلا الرجال المحضُ»
(4)
.
ومأخذ الحكم: في قوله: {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، فدلّ على العدد، ومفهومه عدم الإجزاء عن الإثنين.
ومفهوم الوصف بالعدالة، أن غير العدل لا يقبل.
وأما كونهم رجالاً، فيؤخذ من الآية بطريقتين:
الأول: لأن {ذَوَيْ} مذكر، كما قال القرطبي، ثم قال «ولذلك لا مدخل للنساء فيما عدا الأموال»
(5)
.
(1)
المصدر السابق (18/ 141).
(2)
الإكليل (3/ 1259)
(3)
ينظر: الإكليل (3/ 1259)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 576).
(4)
الإكليل (3/ 1259).
(5)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (18/ 159).
الثاني: مأخوذ من ضمير الجمع {مِنْكُمْ} ، كما نبَّه عليه ابن الفرس
(1)
.
• الحكم الثالث: عدم جواز أخذ الأجرة على أداء الشهادة إذا تعينت
(2)
.
مأخذ الحكم: لعل ذلك لأجل «اللام» في قوله: {لِلَّهِ} في قوله: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} ، وما كان لله فلا يجوز أخذ الأجرة عليه، أو لكونه واجبا متعينا، يجب عليه القيام به.
• الحكم الرابع: وجوب تحمل الشهادة وأدؤها.
ماخذ الحكم: للأمر في قوله: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ} ، وإقامتها بتحملها ثم أداؤها.
قال ابن الفرس عن الآية: «أمرٌ بالشهود بأن يشهدوا إذا استشهدوا، وهو عند أهل العلم أمر وجوب»
(3)
.
(1)
ينظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 576).
(2)
ينظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (/ 237).
(3)
أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 576).
كتاب العتق
قال ابن قدامة: «وهو في الشرع: تحرير الرقبة، وتخليصها من الرق»
(1)
.
قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].
وقال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3].
هذه الآيات الثلاث سبق الحديث عن أحكامها، الأولى: في كتاب الجنايات، وباب الديات. والثانية: في كتاب الأيمان والنذور. والثالث: في باب الظهار.
والشاهد منها هنا في هذا الكتاب قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92]، و [المجادلة: 3]، وقوله:{أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89].
(2)
.
وفي هذه الآيات مشروعية العتق، وأن الواجب في كفارة القتل الخطأ أو اليمين، أو الظهار، تحرير رقبة، إما على التعيين أو التخيير كما مضى في أحكامها.
(1)
المغني (14/ 344).
(2)
المصدر السابق (14/ 344).
قال ابن قدامة: «والعتق من أفضل القرب إلى الله تعالى؛ لأنَّ الله تعالى جعله كفَّارة للقتل، والوطء في رمضان، والأيمان
…
»
(1)
.
مأخذ الحكم: الأمر المقدّر في الكلام.
وبيانه القول: «فعليه تحرير رقبة» ، أو «فالواجب عليه تحرير رقبة» ، والمقدَّر كالملفوظ.
قال تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ}
[البلد: 11 - 13].
استدل العلماء بالآية على جواز العتق والندب إلى إيقاعه
(2)
.
قال ابن الفرس: «وذلك يكون إِمّا بالإخراج من الرق، أو من الأسر»
(3)
.
مأخذ الحكم: ترتب الثواب على الفعل، وهو اقتحام العقبة في فك الرقبة، أي: إنها من الأعمال التي يُسهل عليه سلوك العقبة في الآخرة، أي: عقبة جهنم
(4)
.
باب المكاتب
قال ابن حجر: «المكاتبة: تعليق عتق بصفة على معاوضة مخصوصة»
(5)
.
فهو معاقدة بين العبد وسيده، يكاتب الرجل عبده أو أمته على مال منجَّم، ويكتب العبد عليه أنه مُعتَقٌ إذا أدى النجوم
(6)
.
(1)
المصدر السابق.
(2)
ينظر: الإكليل (3/ 1314)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 619).
(3)
أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 619).
(4)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (20/ 61).
(5)
فتح الباري (5/ 184).
(6)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن (12/ 244).
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]
استدل بالآية على الأحكام الآتية:
• الحكم الأول: مشروعية الكتابة، فقيل: على الوجوب، وقيل: بالندب
(1)
.
مأخذ الحكم: من قال بالوجوب للأمر في قوله: {فَكَاتِبُوهُمْ} ، وهو على ظاهره وأصله: الوجوب.
ومن قال بالندب والاستحباب فجعله مصروفاً، واختلفوا في الصارف، ومن ذلك:
(1)
كون الأمر عُلِّق على أمر باطن في قوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} ، وعلم السيد بالخير باطن، والواجبات لا تعلق بمثله.
(2)
كون الأمر بعد حظر.
قال ابن الفرس: «وقال بعضهم: الكتابة غدر ومخالفة لقياس الأصول، فالأصل فيها الحظر، والأمر إذا صدر بعد الحظر فهو محمول على الإباحة» . ثمَّ ضعف هذا القول، وقال:«لأنَّا لا نعلم قط أن الكتابة محظورة ثمَّ أبيحت»
(2)
.
قلت: توارد التمثيل بالآية على الحكم المذكور في كتب الأصول، وبيَّنوا سبب كون المكاتبة أمرًا بعد حظر، ومن ذلك قول الزركشي: «ليس المراد بالحظر في هذه المسألة أن يكون محرَّماً فقط، بل المراد ذلك، أو أنه كان من حقه التحريم؛ فإن الشافعي رضي الله عنه مَثَّلَهَا بقوله:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} ، وجوازُ الكتابةِ على
(1)
ينظر: الإكليل (3/ 1032)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 377).
(2)
أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 377 - 378).
خلاف القياس
…
»
(1)
أي: أن القياس يقتضي أن الكتابة كان من حقه التحريم فجاءت الآية بإباحتها -والله أعلم-.
(3)
قياس الكتابة على البيع، فكما لو سأله العبد البيع لم يلزمه، فكذلك إن سأله الكتابة؛ لأنه بيع.
(4)
ورد عن بعض الصحابة الامتناع عن المكاتبة، وعللوا ذلك بما يقتضي عدم الوجوب، ومن ذلك ما روي عن ابن عمر وسلمان رضي الله عنهما أنهما أبيا من كتابة عبدين رغبا في الكتابة، فقال كل واحد منهما لعبده: أتريد أن تطعمني أوساخ الناس
(2)
.
وقد عورض بفعل عمر وقوله لأنس بن مالك لما تلكأ في مكاتبة عبده سيرين: «لتكاتبنه أو لأوجعتك بالدُّرة»
(3)
.
قلت: وفي كون المطعوم من أوساخ الناس نظر - والله أعلم - لأن سبب ملك الصحابي له غير سبب ملك عبده، وتبدل سبب الملك قائم مقام تبدل الذات، وقصة اللحم الذي تُصدق به على بريرة، وأهدت لعائشة رضي الله عنها وأكل النبي صلى الله عليه وسلم منه
(4)
دليل ذلك.
• الحكم الثاني: لا يُلزم العبد بالمكاتبة.
مأخذ الحكم: أن الحكم عُلِّق على شرطين، والمعلَّق على شرطين لا يثبت إلا بثبوتهما.
(1)
البحر المحيط (3/ 308).
(2)
أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 378).
(3)
أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 377).
(4)
أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة، باب الأدْم، برقم (5430)، ومسلم في كتاب العتق، باب بيان أنما الولاء لمن أعتق، برقم (1504).
قال السيوطي: «وأنَّ لندبها أو لوجوبها شرطين: طلب العبد لها، وعلم الخير فيه»
(1)
.
أو بالنظر لمفهوم الشرط ودليل الخطاب في قوله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} .
(2)
.
• الحكم الثالث: إعانة المكاتب على مكاتبة نفسه. على خلاف في وجوبها أو استحبابها
(3)
.
مأخذ الحكم: من قال بالوجوب فمأخذه ظاهر الأمر في الآية.
وقالوا: لا يمنع أن تكون الكتابة ندباً، والإيتاء واجباً، كما في النكاح، فهو غير واجب، وإذا نكح الرجل وجب عليه أشياء بنسبة ذلك.
ومأخذ من قال بالندب: ظاهر عند من قال: إن الأصل وهو المكاتبة ندب، فكذا الفرع وهو الإيتاء، فكما لا يجب على السيد الكتابة، لا يجب عليه الوضع لعبده.
قال ابن الفرس عن كونها للندب أنه الأظهر؛ «لتكون الآية متشاكلة، فيكون أولها ندباً، وآخرها ندباً»
(4)
.
(1)
الإكليل (3/ 1032).
(2)
أحكام القرآن (3/ 378).
(3)
ينظر: الإكليل (3/ 1033)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 379).
(4)
أحكام القرآن (3/ 380).
تنبيه: اختلف في المخاطب بقوله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} ، فقيل: للناس عموماً، وقيل: للولاة، وقيل: للسيد
(1)
.
تمَّ بحمد الله، وتوفيقه، وكرمه، صبيحة يوم الأربعاء 26/ 9/ 1443 هـ، في المسجد النبوي على صاحبه أفضل صلاة وتسليم.
(1)
ينظر: الإكليل (3/ 1033)، وأحكام القرآن (3/ 379).