الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة الناشر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، الذي أرسله الله بالهدى والنور المبين، القائل "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" وعلى آله وأصحابه الذين تلقوا عنه القرآن الكريم والسنة من الأحاديث النبوية والأحكام الشرعية، فتلقفتها عنهم. الأمة المحمدية قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل، فجزاهم الله عن الأمة خيرا.
وبعد: فإن الله سبحانه وتعالى وفق علماء الصحابة من لدن عصر صدر الإسلام إلى يومنا هذا إلى نقل أحكام الشريعة الإسلامية، وهداهم لفهم علومها وعلى الأخص علم الفقه، فقد كشفوا الغامض من معانيه، واستنبطوا المسائل الفقهية وبينوها للناس.
ثم جاء بعدهم علماء التابعين فنهجوا نهجهم وسلكوا مسلكهم ومنهم الأئمة المجتهدون. فقد فتحوا المغلق من معاني علم الفقه وغيره من علوم الشريعة، ورتبوا كتبها وأبوابها. وما وصل إلينا وتناقلناه هو نتيجة أبحاثهم، وقدح ذهنهم، ومنخول فكرهم، وغوصهم على عويص المسائل، والبحث عن حل رموز أسرارها، وقتلها بحثا ودرسا، من حين بداية الإسلام، وهدايتهم إلى سبيله.
فهم مصابيح الدجى، وكواكب أنوار يضيئون للناس، ويكشفون غوامض الفهم، ودقائق حكم الشريعة الغراء، يخرجون المسلمين من كل دجنة، ويبينون الناس سننا تتبع، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا.
ومن أشرف ما امتاز به الإنسان العقل، ثم العلم والمعرفة اللذين ألفهما ونشرهما أبناء جنسه، والعمل على مدهم بما يحتاجون إليه من أمور الدنيا والدين.
وإن ممن كرسوا حياتهم لخدمة العلم ونشره في آفاق الأرض، وبثه بين الأنام، لينهل منه الخاص والعام، خصوصا المجتمع الإسلامي والأسرة العربية، وتغذيتهم بأنواع العلوم والمعارف على كافة أنواعها؛ من: فقهية، وعربية، وعلوم حديثة. السادة أصحاب [مكتبة ومطبعة السيد مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر].
فقد طبعوا الكتب العظيمة، والمجلدات الضخمة التي لم يتسنّ لكثير من أصحاب المكتبات الأخرى طبعها، ونشروها في أنحاء المعمورة وربوعها وأصقاعها.
فهي الآن ومن عهد بعيد تغذى بمطبوعاتها وكتبها الجميلة الطبع على اختلاف أنواعها كل تلميذ متعلم، وعالم جهبذ، وحبر نحرير.
ولا يستغنى عن مطبوعاتها كل من يريد الاطلاع على العلوم بأنواعها، ويغذي روحه ونفسه ويثقفها، ويجيل النظر في رياضها وينابيعها المتشعبة في كل المسائل.
ولقد شاءت إرادة أصحاب المكتبة المذكورة آنفا أن تقوم إن شاء الله بطبع الكتاب الذي هو كاسمه في فقه الحنفية، ألا وهو (فتح القدير على الهداية، على بداية المبتدى) الذي طبقت شهرته الآفاق، وعرفه الخاص والعام، وعليه عدّة شروح لعلماء الحنفية الأفاضل، ممن لهم باع طائل في الفقه واستنباط المسائل، وقد انتفع بتآليفهم كثير من المتعلمين والمتفقهين.
والكتاب غزير في مادته العلمية، ليس بالمعقد في تراكيبه فيجهد الذهن في فهم مسائله بل سهل العبارة؛ لا يستغنى عنه العالم في درسه، ولا المتعلم في مذاكرته وبحثه، عديم النظير في الاستدلال على أحكامه ومسائله؛ فيستدل بالقرآن تارة وبالسنة أخرى، وبإجماع الصحابة، ثم بالقياس والاستنتاج في الأشباه والنظائر من الأحكام والمسائل.
فهو جدير بأن يقتنى كتراث من العلماء الأوائل، وثروة علمية يرجع إليه إذا أشكلت النوازل وطرقت أمور حارت فيها العقول والأفهام.
وقد رتب هكذا:
1 -
الهداية شرح بداية المبتدى في أعلى الصفحة.
2 -
شرح فتح القدير على الهداية أسفل منه.
3 -
شرح العناية على الهداية تحتهما
[*]
.
4 -
حاشية سعد الله بن عيسى المفتى على الهداية في نهاية الصفحة.
وذلك تسهيلا على القارئ والمطلع والعالم حتى يتسنى لهم الفهم وسهولة المأخذ من كل منها من غير جهد في تصعيد النظر وتصويبه فيكل المطالع ويمل، وفقهم الله لخدمة العلم والإنسانية جمعاء، وجزاهم الله في الدارين خير الجزاء على هذا العمل الجليل الشريف.
[*](تعليق الشاملة): هذه النسخة (الإلكترونية) مقتصرة على «فتح القدير» فقط، أما «شرح العناية» ، فمنشور (في الشاملة) مستقلًا
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى مَا أَلْهَمَ وَعَلَّمَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ نَعْلَمْ،
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعْلَى مَعَالِمَ الْعِلْمِ وَأَعْلَامَهُ،
وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ
وَأَظْهَرَ شَعَائِرَ الشَّرْعِ وَأَحْكَامَهُ،
النَّبِيِّ الْأَكْرَمِ، الْمَبْعُوثِ إلَى سَائِر الْأُمَمِ بِالشَّرْعِ الْأَقْوَمِ وَالْمَنْهَجِ الْأَحْكَمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ -[وَبَعْدُ] فَهَذَا تَعْلِيقٌ عَلَى كِتَابِ الْهِدَايَةِ لِلْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ بُرْهَانِ الدِّينِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْجَلِيلِ الرِّشْدَانِيِّ الْمَرْغِينَانِيِّ
وَبَعَثَ رُسُلًا وَأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - إلَى سُبُلِ الْحَقِّ هَادِينَ، وَأَخْلَفَهُمْ عُلَمَاءَ إلَى سُنَنِ سُنَنِهِمْ دَاعِينَ، يَسْلُكُونَ فِيمَا لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُمْ مَسْلَكَ الِاجْتِهَادِ،
شَيْخِ الْإِسْلَامِ، أَسْكَنَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ دَارَ السَّلَامِ، شَرَعْت فِي كِتَابَتِهِ فِي شُهُورِ سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي إقْرَائِهِ لِبَعْضِ الْإِخْوَانِ، أَرْجُو مِنْ كَرَمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَهْدِيَنِي فِيهِ صَوَابَ الصَّوَابِ،
مُسْتَرْشِدِينَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ وَلِيُّ الْإِرْشَادِ، وَخَصَّ أَوَائِلَ الْمُسْتَنْبِطِينَ بِالتَّوْفِيقِ حَتَّى وَضَعُوا مَسَائِلَ مِنْ كُلِّ جَلِيٍّ وَدَقِيقٍ غَيْرَ أَنَّ الْحَوَادِثَ مُتَعَاقِبَةُ الْوُقُوعِ، وَالنَّوَازِلُ يَضِيقُ عَنْهَا نِطَاقُ الْمَوْضُوعِ، وَاقْتِنَاصُ الشَّوَارِدِ بِالِاقْتِبَاسِ مِنْ الْمَوَارِدِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْأَمْثَالِ مِنْ صَنْعَةِ الرِّجَالِ، وَبِالْوُقُوفِ عَلَى الْمَأْخُوذِ يُعَضُّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَقَدْ جَرَى عَلَى الْوَعْدِ فِي مَبْدَإِ بِدَايَةِ الْمُبْتَدِي أَنْ أَشْرَحَهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى شَرْحًا أَرْسُمُهُ بِكِفَايَةِ الْمُنْتَهِي، فَشَرَعْت فِيهِ
وَأَنْ يَجْمَعَ فِيهِ أَشْتَاتَ مَا تَفَرَّقَ مِنْ لُبِّ اللُّبَابِ، لِيَكُونَ عُدَّةً لِطَالِبِي الرِّوَايَةِ، وَمَرْجِعًا لِصَارِفِي الْعِنَايَةِ فِي طَلَبِ الْهِدَايَةِ، وَإِيَّاهُ سُبْحَانَهُ أَسْأَلُ أَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَمُوجِبًا لِرِضَاهُ الْمُوصِلِ إلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ. هَذَا، وَإِنَى كُنْت قَرَأْت تَمَامَ الْكِتَابِ سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ أَوْ تِسْعَ عَشْرَةَ عَلَى وَجْهِ الْإِتْقَانِ وَالتَّحْقِيقِ عَلَى سَيِّدِي الشَّيْخِ الْإِمَامِ بَقِيَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَخَلَفِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ سِرَاجِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ الْكِنَانِيِّ الشَّهِيرِ بِقَارِئِ الْهِدَايَةِ، تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَأَسْكَنَهُ بُحْبُوحَةَ جَنَّتِهِ، وَهُوَ قَرَأَهُ عَلَى مَشَايِخَ عِظَامٍ مِنْ جُمْلَتِهِمْ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ السِّيرَامِيُّ، وَهُوَ
وَالْوَعْدُ يُسَوِّغُ بَعْضَ الْمَسَاغِ، وَحِينَ أَكَادُ أَتَّكِي عَنْهُ اتِّكَاءَ الْفَرَاغِ، تَبَيَّنْتُ فِيهِ نُبَذًا مِنْ الْإِطْنَابِ وَخَشِيت أَنْ يُهْجَرَ لِأَجْلِهِ الْكِتَابُ، فَصَرَفْت الْعِنَانَ وَالْعِنَايَةَ إلَى شَرْحِ آخَرِ مَوْسُومٍ بِالْهِدَايَةِ، أَجْمَعُ فِيهِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ عُيُونِ الرِّوَايَةِ وَمُتُونِ الدِّرَايَةِ، تَارِكًا لِلزَّوَائِدِ فِي كُلِّ بَابٍ، مُعْرِضًا عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْإِسْهَابِ، مَعَ مَا أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أُصُولٍ يَنْسَحِبُ عَلَيْهَا فُصُولٌ، وَأَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَنِي لِإِتْمَامِهَا، وَيَخْتِمَ لِي بِالسَّعَادَةِ بَعْدَ اخْتِتَامِهَا،
عَنْ شَيْخِهِ السَّيِّدِ الْإِمَامِ جَلَالِ الدِّينِ شَارِحِ الْكِتَابِ، وَهُوَ عَنْ شَيْخِهِ قُدْوَةِ الْأَنَامِ، بَقِيَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَاءِ الدِّينِ عَبْدِ الْعَزِيزِ النَّجَّارِيِّ صَاحِبِ الْكَشْفِ وَالتَّحْقِيقِ، وَهُوَ عَنْ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ أُسْتَاذِ الْعُلَمَاءِ حَافِظِ الدِّينِ النَّسَفِيِّ، وَهُوَ عَنْ شَيْخِهِ
حَتَّى إنَّ مَنْ سَمَتْ هِمَّتُهُ إلَى مَزِيدِ الْوُقُوفِ يَرْغَبُ فِي الْأَطْوَلِ وَالْأَكْبَرِ، وَمَنْ أَعْجَلَهُ الْوَقْتُ عَنْهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْأَقْصَرِ وَالْأَصْغَرِ. وَلِلنَّاسِ فِيمَا يَعْشَقُونَ مَذَاهِبُ وَالْفَنُّ خَيْرٌ كُلُّهُ.
ثُمَّ سَأَلَنِي بَعْضُ إخْوَانِي أَنْ أُمْلِيَ عَلَيْهِمْ الْمَجْمُوعَ الثَّانِيَ، فَافْتَتَحْتُهُ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي تَحْرِيرِ مَا أُقَاوِلُهُ مُتَضَرِّعًا إلَيْهِ فِي التَّيْسِيرِ لِمَا أُحَاوِلُهُ، إنَّهُ الْمُيَسِّرُ لِكُلِّ عَسِيرٍ وَهُوَ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
الْإِمَامِ شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ السِّتَارِ بْنِ مُحَمَّدِ الْكَرْدَرِيِّ، وَهُوَ عَنْ شَيْخِهِ شَيْخِ مَشَايِخِ الْإِسْلَامِ حُجَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْأَنَامِ الْمَخْصُوصِ بِالْعِنَايَةِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ، فَهَذَا طَرِيقُ الْعَبْدِ الضَّعِيفِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَقَرَأْته قَبْلَهُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى فَصْلِ الْوَكَالَةِ بِالنِّكَاحِ أَوْ نَحْوِهِ عَلَى قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالِ الدِّينِ الْحُمَيْدِيِّ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَبِهَا قَرَأْت بَعْضَهُ أَيْضًا عَلَى الشَّيْخِ زَيْنِ الدِّينِ الْمَعْرُوفِ بِالْإِسْكَنْدَرِيِّ الْحَنَفِيِّ بَقِيَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْمُحَقِّقِينَ تَغَمَّدَهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ أَجْمَعِينَ.
كِتَابُ الطَّهَارَاتِ
وَلَمَّا جَاءَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ أَكْبَرَ مِنْ قَدْرِي بِمَا لَا يَنْتَسِبُ بِنِسْبَةٍ، عَلِمْت أَنَّهُ مِنْ فَتْحِ جُودِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَسَمَّيْته وَلِلَّهِ الْمِنَّةُ [فَتْحَ الْقَدِيرِ] لِلْعَاجِزِ الْفَقِيرِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
كِتَابُ الطَّهَارَاتِ
جَمَعَهَا عَلَى إرَادَةِ الْأَنْوَاعِ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلَّقِهَا مِنْ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ، وَآلَتُهَا مِنْ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا قِيلَ الْحَدَثُ وَالْخَبَثُ. وَرُدَّ بِأَنَّهُمَا يَنْقُضَانِهَا فَكَيْفَ يُوجِبَانِهَا وَقَدْ يُقَالُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ نَقْضِهِمَا شَرْعًا الصِّفَةَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةَ.
الْحَاصِلَةَ عَنْ تَطْهِيرٍ سَابِقٍ وَإِيجَابِ تَطْهِيرٍ آخَرَ مُسْتَأْنَفٍ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: السَّبَبِيَّةُ إنَّمَا تَثْبُتُ بِدَلِيلِ الْجَعْلِ لَا بِمُجَرَّدِ التَّجْوِيزِ، وَهُوَ مَفْقُودٌ، وَاخْتَارُوا أَنَّهُ إرَادَةُ مَا لَا يَحِلُّ إلَّا بِهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِرَادَةِ لَا يُظْهِرُ وَجْهَ إيجَابِهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَلْزِمُ لُحُوقَ الشُّرُوعِ الْمُسْتَلْزِمِ عَدَمَ الطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ لَوْ لَمْ تُقَدَّمْ، فَحَقِيقَةُ سَبَبِهَا وُجُوبُ مَا لَا يَحِلُّ إلَّا بِهَا لِمَا عُرِفَ أَنَّ إيجَابَ الشَّيْءِ يَتَضَمَّنُ إيجَابَ شَرْطِهِ لَا لَفْظًا لُغَةٌ، وَكَوْنُ الْإِرَادَةِ مُضْمَرَةً فِي قَوْله تَعَالَى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} يُقَيِّدُ تَعْلِيقَ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ بِالْإِرَادَةِ الْمُسْتَلْحِقَةِ لِلشُّرُوعِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ مَشْرُوطٌ بِهَا، فَآلَ الْأَمْرُ إلَى أَنَّ وُجُوبَهَا بِسَبَبِ فِعْلِ مَشْرُوطِهَا، إلَّا أَنَّ وُجُوبَهَا بِوُجُوبِهِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا بِنَقْلِهِ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا الْإِرَادَةُ، إذْ لَا وُجُوبَ إلَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ عِنْدَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، وَلَا نَعْلَمُ قَائِلًا بِوُجُوبِ الطَّهَارَةِ بِمُجَرَّدِ إرَادَةِ النَّافِلَةِ حَتَّى يَأْثَمَ بِتَرْكِهَا وَإِنْ لَمْ يُصَلِّهَا، وَجَعْلُهَا سَبَبًا بِشَرْطِ الشُّرُوعِ يُوجِبُ تَأَخُّرَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ وَفِيهِ الْمَحْذُورُ، فَإِنَّ
(فَفَرْضُ الطَّهَارَةِ: غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَمَسْحُ الرَّأْسِ) بِهَذَا النَّصِّ،
إيجَابَهُ شَرْطًا بِإِيجَابِ تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ. وَيُمْكِنُ كَوْنُ إرَادَةِ النَّافِلَةِ سَبَبَ وُجُوبِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا الْوُضُوءُ، وَإِمَّا تَرْكُ النَّافِلَةِ عَلَى مَعْنَى عَدَمِ الْخُلُوِّ فَيَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا، فَهِيَ حِينَئِذٍ سَبَبُ وُجُوبٍ وَاجِبٍ مُخَيَّرٍ فَيَصْدُقُ أَنَّهَا سَبَبُ وُجُوبِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا سَبَبَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ، أَمَّا إذَا جُعِلَتْ سَبَبَ أَصْلِ الْوُجُوبِ فَالْإِشْكَالُ أَخَفُّ.
وَأَرْكَانُهَا فِي الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ أَرْبَعَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي الْكِتَابِ، وَفِي الْأَكْبَرِ غَسْلُ ظَاهِرِ الْبَدَنِ وَالْفَمِ وَالْأَنْفِ، وَفِي الْخَبَثِ إزَالَةُ الْعَيْنِ بِالْمَائِعِ الطَّاهِرِ وَاسْتِعْمَالُهُ ثَلَاثًا فِيمَا لَا يُرَى (قَوْلُهُ بِهَذَا النَّصِّ) لِنَفْيِ أَنَّ وُجُوبَ غَسْلِ الرِّجْلِ بِالْحَدِيثِ فَقَطْ، وَوَجْهُهُ أَنَّ قِرَاءَةَ نَصْبِ الرِّجْلِ عَطْفٌ عَلَى الْمَغْسُولِ، وَقِرَاءَةُ جَرِّهَا كَذَلِكَ وَالْجَرُّ لِلْمُجَاوِرَةِ.
وَعَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ بَلْ هُوَ عَطْفٌ عَلَى الْمَجْرُورِ، وَقِرَاءَةُ النَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى مَحَلِّ الرُّءُوسِ وَهُوَ مَحَلٌّ يَظْهَرُ فِي الْفَصِيحِ، وَهَذَا أَوْلَى
وَالْغَسْلُ هُوَ الْإِسَالَةُ وَالْمَسْحُ هُوَ الْإِصَابَةُ. وَحَدُّ الْوَجْهِ مِنْ قِصَاصِ الشَّعْرِ إلَى أَسْفَلِ الذَّقَنِ وَإِلَى شَحْمَتَيْ الْأُذُنِ؛ لِأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ تَقَعُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْهَا (وَالْمِرْفَقَانِ وَالْكَعْبَانِ يَدْخُلَانِ فِي الْغَسْلِ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رحمه الله،
لِتَخْرِيجِ الْقِرَاءَتَيْنِ بِهِ عَلَى الْمُطَّرَدِ، بِخِلَافِ تَخْرِيجِ الْجَرِّ عَلَى الْجِوَارِ.
وَقَوْلُ ابْنِ الْحَاجِبِ إنَّ الْعَرَبَ إذَا اجْتَمَعَ فِعْلَانِ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى وَلِكُلٍّ مُتَعَلَّقٌ جَوَّزَتْ حَذَفَ أَحَدِهِمَا وَعُطِفَ مُتَعَلَّقُ الْمَحْذُوفِ عَلَى مُتَعَلَّقِ الْمَذْكُورِ كَأَنَّهُ مُتَعَلَّقُهُ كَقَوْلِهِمْ: مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا، وَتَقَلَّدْت بِالسَّيْفِ وَالرُّمْحِ، وَعَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا، وَالْحَمْلُ عَلَى الْجِوَارِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ إذْ لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا كَلَامٍ فَصِيحٍ انْتَهَى
إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَ إعْرَابُ الْمُتَعَلِّقَيْنِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي عَلَفْتهَا وَسَقَيْتهَا، وَهُنَا الْإِعْرَابُ مُخْتَلِفٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَا قَالَ يَكُونُ الْأَرْجُلُ مَنْصُوبًا؛ لِأَنَّهُ مَعْلُولُ اغْسِلُوا الْمَحْذُوفُ فَحِينَ تُرِكَ إلَى الْجَرِّ لَمْ يَكُنْ إلَّا لِمُجَاوِرَةِ إعْرَابِ الرُّءُوسِ، فَمَا هَرَبَ مِنْهُ وَقَعَ فِيهِ.
فَإِنْ قُلْت: حَاصِلُ هَذَا تَجْوِيزُ أَنْ يُرَادَ بِالنَّصِّ هَذَا الْوَجْهُ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ، وَتَجْوِيزُهُ لَا يُوجِبُ وُقُوعَهُ بَلْ حَتَّى تُوجِبَهُ قَرِينَةٌ كَتَعْيِينِ بَعْضِ مَفَاهِيمِ الْمُشْتَرَكِ، وَذَلِكَ مُنْتَفٍ هُنَا.
فَالْجَوَابُ: بَلْ ثَابِتٌ، وَهُوَ إطْبَاقُ رُوَاةِ وُضُوئِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِكَايَةِ الْغُسْلِ لَيْسَ غَيْرُ، فَكَانَتْ السُّنَّةُ قَرِينَةً مُنْفَصِلَةً تُوجِبُ إرَادَةَ اسْتِعْمَالِ الْمُوَافِقِ لَهَا بِالنَّصِّ، هَذَا. وَقَدْ وَرَدَ الْحَمْلُ عَلَى الْجِوَارِ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ.
فَإِنْ صَحَّتْ وَقُلْنَا بِجَوَازِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ فِي الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ وَلَا كَلَامٌ فَصِيحٌ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: الْإِطْلَاقُ، وَالْمَنْعُ، وَالتَّفْصِيلُ بَيْنَ كَوْنِ الرَّاوِي عَرَبِيًّا فَنَعَمْ أَوْ عَجَمِيًّا فَلَا.
وَحَلَّ النَّصْبُ عَلَى حَالَةِ ظُهُورِ الرِّجْلِ وَالْجَرِّ عَلَى الْمَسْحِ حَالَةَ اسْتِتَارِهَا بِالْخَلْفِ حَمْلًا لِلْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْحَالَتَيْنِ.
قَالَ فِي شَرْحِ الْمَجْمَع: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَاسِحَ عَلَى الْخُفِّ لَيْسَ مَاسِحًا عَلَى الرِّجْلِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا، لِأَنَّ الْخُفَّ اُعْتُبِرَ مَانِعًا سِرَايَةَ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ فَهِيَ طَاهِرَةٌ، وَمَا حَلَّ بِالْخُفِّ أُزِيلَ بِالْمَسْحِ فَهُوَ عَلَى الْخُفِّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا (قَوْلُهُ: وَالْغَسْلُ الْإِسَالَةُ) يُفِيدُ أَنَّ الدَّلْكَ لَيْسَ مِنْ حَقِيقَتِهِ خِلَافًا لِمَالِكٍ فَلَا يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقُهُ عَلَيْهِ، وَمَرْجِعُهُمْ فِيهِ قَوْلُ الْعَرَبِ غَسَلَتْ الْمَطَرُ الْأَرْضَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا الْإِسَالَةُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِأَنْ وَقَعَهَا مِنْ عُلُوٍّ خُصُوصًا مَعَ الشِّدَّةِ وَالتَّكْرَارِ: أَيْ دَلَكَ وَهُمْ لَا يَقُولُونَهُ إلَّا إذَا نُظِّفَتْ الْأَرْضُ، وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِدَلْكٍ، وَبِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِلْمَعْنَى الْمَعْقُولِ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْغُسْلِ وَهُوَ تَحْسِينُ هَيْئَةِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ الْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ الرَّبِّ سبحانه وتعالى تَخْفِيفًا، وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ الْكُلُّ، وَالنَّاسُ بَيْنَ حَضَرِيٍّ وَقَرَوِيٍّ خَشِنِ الْأَطْرَافِ لَا يُزِيلُ مَا اسْتَحْكَمَ فِي خُشُونَتِهَا إلَّا الدَّلْكُ، فَالْإِسَالَةُ لَا تُحَصِّلُ مَقْصُودَ شَرْعِيَّتِهَا، ثُمَّ حَدُّ الْإِسَالَةِ الَّتِي هِيَ الْغُسْلُ: أَنْ يَتَقَاطَرَ الْمَاءُ وَلَوْ قَطْرَةً عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُجْزِئُ إذَا سَالَ عَلَى الْعُضْوِ، وَإِنْ لَمْ يَقْطُرْ
(قَوْلُهُ مِنْ قِصَاصِ الشَّعْرِ) خَرَجَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ، وَإِنَّمَا طُولُهُ مِنْ مَبْدَإِ سَطْحِ الْجَبْهَةِ إلَى أَسْفَلِ اللَّحْيَيْنِ حَتَّى لَوْ كَانَ أَصْلَعَ لَا يَجِبُ مِنْ قِصَاصِهِ، وَيُجْزِئُ الْمَسْحُ عَلَى الصَّلْعَةِ فِي الْأَصَحِّ وَالْقِصَاصُ مُثَلَّثٌ الْقَافِ
(قَوْلُهُ وَإِلَى شَحْمَتَيْ الْأُذُنِ) يُعْطِي ظَاهِرُهُ وُجُوبَ
هُوَ يَقُولُ: الْغَايَةُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمُغَيَّا كَاللَّيْلِ فِي بَابِ الصَّوْمِ. وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ لِإِسْقَاطِ مَا وَرَاءَهَا إذْ لَوْلَاهَا لَاسْتَوْعَبَتْ الْوَظِيفَةُ الْكُلَّ، وَفِي بَابِ الصَّوْمِ لِمَدَّ الْحُكْمِ إلَيْهَا إذْ الِاسْمُ يُطْلَقُ عَلَى الْإِمْسَاكِ سَاعَةً،
إدْخَالِ الْبَيَاضِ الْمُعْتَرَضَ بَيْنَ الْعَذَارِ وَالْأُذُنِ بَعْدَ نَبَاتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ هُوَ النَّابِتُ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ، وَيُعْطِي أَيْضًا وُجُوبَ الْإِسَالَةِ عَلَى شَعْرِ اللِّحْيَةِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ غَسْلَ الْوَجْهِ وَحْدَهُ بِذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَتْ فِيهِ الرِّوَايَاتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَعَنْهُ يَجِبُ مَسْحُ رُبْعِهَا، وَعَنْهُ مَسْحُ مَا يُلَاقِي الْبَشَرَةَ، وَعَنْهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ اسْتِيعَابُهَا.
وَأَشَارَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْأَصْلِ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ كُلِّهِ، قِيلَ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَفِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْبَشَرَةِ فَتَحَوَّلَ الْفَرْضُ إلَيْهِ كَالْحَاجِبِ.
وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ عَنْ ابْنِ شُجَاعٍ: إنَّهُمْ رَجَعُوا عَمَّا سِوَى هَذَا، كُلُّ هَذَا فِي الْكَثَّةِ، أَمَّا الْخَفِيفَةِ الَّتِي تُرَى بَشَرَتُهَا فَيَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى مَا تَحْتَهَا، وَلَوْ أَمَرَّ الْمَاءَ عَلَى شَعْرِ الذَّقَنِ ثُمَّ حَلَقَهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ الذَّقَنِ.
وَفِي الْبَقَّالِيِّ: لَوْ قَصَّ الشَّارِبَ لَا يَجِبُ تَخْلِيلُهُ، وَإِنْ طَالَ يَجِبُ تَخْلِيلُهُ وَإِيصَالُ الْمَاءِ إلَى الشَّفَتَيْنِ، وَكَأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّ قَطْعَهُ مَسْنُونٌ فَلَا يُعْتَبَرُ قِيَامُهُ فِي سُقُوطِ غَسْلِ مَا تَحْتَهُ، بِخِلَافِ اللِّحْيَةِ فَإِنَّ إعْفَاءَهَا هُوَ الْمَسْنُونُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَبَتَتْ جِلْدَةٌ لَا يَجِبُ قَشْرُهَا وَإِيصَالُ الْمَاءِ إلَى مَا تَحْتَهَا، بَلْ لَوْ أَسَالَ عَلَيْهَا أَجْزَأَ؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي قَشْرِهَا؛ إذْ لَمْ يُنْقَلْ فِيهِ سُنَّةٌ
وَالْأَصْلُ الْعَدَمُ فَلَمْ يُعْتَبَرْ قِيَامُهَا مَانِعًا مِنْ الْغُسْلِ، وَالْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ بَعْدَ إيصَالِ الْمَاءِ إلَى مَنَابِتِ شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ وَالشَّارِبِ مِنْ الْآدَابِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَأَمَّا الشَّفَةُ فَقِيلَ تَبَعٌ لِلْفَمِ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: مَا انْكَتَمَ عِنْدَ انْضِمَامِهِ تَبَعٌ لَهُ وَمَا ظَهَرَ فَلِلْوَجْهِ.
وَفِي الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ: إنْ كَانَ وَافِرَ الْأَظْفَارِ وَفِيهَا دَرَنٌ أَوْ طِينٌ أَوْ عَجِينٌ أَوْ الْمَرْأَةُ تَضَعُ الْحِنَّاءَ جَازَ فِي الْقَرَوِيِّ وَالْمَدَنِيِّ.
قَالَ الدَّبُوسِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَقَالَ الْإِسْكَافُ: يَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى مَا تَحْتَهُ إلَّا الدَّرَنَ لِتَوَلُّدِهِ مِنْهُ.
وَقَالَ الصَّفَّارُ فِيهِ: يَجِبُ الْإِيصَالُ إلَى مَا تَحْتَهُ إنْ طَالَ الظُّفْرُ، وَهَذَا حَسَنٌ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ وَإِنْ كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الظَّوَاهِرِ لَكِنْ إذَا طَالَ الظُّفْرُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ عَرُوضِ الْحَائِلِ كَقَطْرَةِ شَمْعَةٍ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ عَارِضٌ.
وَفِي النَّوَازِلِ يَجِبُ فِي الْمِصْرِيِّ لَا الْقَرَوِيِّ؛ لِأَنَّ دُسُومَةَ أَظْفَارِ الْمِصْرِيِّ مَانِعَةٌ وُصُولَ الْمَاءِ بِخِلَافِ الْقَرَوِيِّ، وَلَوْ لَزِقَ بِأَصْلِ ظُفْرِهِ طِينٌ يَابِسٌ وَنَحْوُهُ أَوْ بَقِيَ قَدْرُ رَأْسِ الْإِبْرَةِ مِنْ مَوْضِعِ الْغَسْلِ لَمْ يَجُزْ، وَلَا يَجِبُ نَزْعُ الْخَاتَمِ وَتَحْرِيكُهُ إذَا كَانَ وَاسِعًا، وَالْمُخْتَارُ فِي الضَّيِّقِ الْوُجُوبُ، وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ الْمِرْفَقِ وَالْكَعْبِ شَيْءٌ يَسْقُطُ الْغُسْلُ، وَلَوْ بَقِيَ وَجَبَ، وَلَوْ طَالَ أَظْفَارُهُ حَتَّى خَرَجَتْ عَنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ وَجَبَ غَسْلُهَا قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَوْ خُلِقَ لَهُ يَدَانِ عَلَى الْمَنْكِبِ فَالتَّامَّةُ هِيَ الْأَصْلِيَّةُ يَجِبُ غَسْلُهَا، وَالْأُخْرَى زَائِدَةٌ فَمَا حَاذَى مِنْهَا مَحَلَّ الْفَرْضِ وَجَبَ غَسْلُهُ وَمَا لَا فَلَا (قَوْلُهُ: هُوَ يَقُولُ الْغَايَةُ لَا تَدْخُلُ) أَيْ هَذِهِ الْغَايَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمُغَيَّا، فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ غَايَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَهُ.
وَالْكَعْبُ هُوَ الْعَظْمُ النَّاتِئُ هُوَ الصَّحِيحُ وَمِنْهُ الْكَاعِبُ. قَالَ (وَالْمَفْرُوضُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ مِقْدَارُ النَّاصِيَةِ وَهُوَ رُبْعُ الرَّأْسِ) لِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ وَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَخُفَّيْهِ» وَالْكِتَابُ مُجْمَلٌ فَالْتَحَقَ بَيَانًا بِهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي التَّقْدِيرِ بِثَلَاثِ شَعْرَاتٍ، وَعَلَى مَالِكٍ فِي اشْتِرَاطِ
وَقَوْلُهُ كَاللَّيْلِ فِي الصَّوْمِ تَنْظِيرٌ لَا قِيَاسٌ لِعَدَمِ الْجَامِعِ، فَانْدَفَعَ مَا قِيلَ: الْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ لِزُفَرَ الِاسْتِدْلَال بِتَعَارُضِ الْأَشْبَاهِ وَهُوَ أَنَّ مِنْ الْغَايَاتِ مَا يَدْخُلُ وَمِنْهَا مَا لَا فَاحْتَمَلَتْ هَذِهِ كُلًّا مِنْهُمَا فَلَا تَدْخُلُ بِالشَّكِّ، وَأَيْضًا مَا بَعْدَ الْمِرْفَقِ وَالْكَعْبِ فِي دُخُولِهِ فِي مُسَمًّى الْيَدِ وَالرِّجْلِ اشْتِبَاهٌ، فَبِتَقْدِيرِ دُخُولِهِ تَدْخُلُ وَبِعَدَمِهِ لَا لِلْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ، وَهُوَ أَنَّ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ إنْ دَخَلَ فِي الْمُسَمَّى لَوْلَا ذِكْرُهَا دَخَلَ وَإِلَّا فَلَا تَدْخُلُ بِالشَّكِّ، وَمَا أَوْرَدَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا إلَى غَدٍّ لَا يَدْخُلُ مَعَ أَنَّهُ يَدْخُلُ لَوْ تُرِكَتْ لِلْغَايَةِ غَيْرُ قَادِحٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي مُقْتَضَى اللُّغَةِ، وَالْأَيْمَانُ تُبْنَى عَلَى الْعُرْفِ، وَجَازَ أَنْ يُخَالِفَ الْعُرْفُ اللُّغَةَ، وَكَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم أَدَارَ الْمَاءَ عَلَى مَرَافِقِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ الِافْتِرَاضَ لِجَوَازِ كَوْنِهِ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ كَالزِّيَادَةِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ إلَى أَنْ اسْتَوْعَبَهُ، وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِنَقْلِ دُخُولِهَا فِي الْمُسَمَّى لُغَةً وَهُوَ أَوْجَهُ الْقَوْلَيْنِ بِشَهَادَةِ غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَال بِهِ، وَكَوْنِهِ إذَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَكُونُ الْغَايَةُ دَاخِلَةً لُغَةً، وَأَيْضًا عَلَى تَقْدِيرِ مَا قَالَ يَثْبُتُ الْإِجْمَالُ فِي دُخُولِهَا فَيُلْتَحَقُ بِهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنْ النَّارِ» بَيَانًا لِلتَّوَعُّدِ عَلَى تَرْكِهِ فَيَكُونُ اقْتِصَارُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَرَافِقِ وَقَعَ بَيَانًا لِلْمُرَادِ مِنْ الْيَدِ فَيَتَعَيَّنُ دُخُولُ مَا أَدْخَلَهُ.
وَقَوْلُهُ: اغْسِلْ يَدَك لِلْأَكْلِ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازًا عَمَّا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ الَّذِي فِي وَسَطِ الرِّجْلِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ، فَإِنَّ مُرَادَ مُحَمَّدٍ بِذَلِكَ الْكَعْبُ الَّذِي يَقْطَعُ الْمُحْرِمُ أَسْفَلَهُ مِنْ الْخُفَّ إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ
(قَوْلُهُ وَالْكِتَابُ مُجْمَلٌ) أَيْ فِي حَقِّ الْكَمْيَّةِ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله يَمْنَعُهُ وَيَقُولُ: هَذَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مُطْلَقٌ لَا مُجْمَلٌ، وَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إلَى كَمِّيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ أَجْمَلَ فِيهَا، بَلْ إلَى الْإِطْلَاقِ لِيَسْقُطَ بِأَدْنَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ مَسْحُ الرَّأْسِ عَلَى أَنَّ الَّذِي فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ مَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ لَا يَقْتَضِي اسْتِيعَابَ النَّاصِيَةِ لِجَوَازِ كَوْنِ ذِكْرِهَا لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْفَوْدِ أَوْ الْقَذَالِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبِكُمْ، وَلَوْ نَظَرْنَا إلَيْهِ عَلَى مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ الْمُغِيرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ» كَانَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فِي الْبَاءِ كَالْآيَةِ أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لَا، وَلَوْ قُلْنَا إنَّهَا لِلْإِلْصَاقِ لَزِمَ التَّبْعِيضُ بِصَرِيحِ تَقْرِيرِكُمْ فِي قَوْله تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} لِدُخُولِهَا عَلَى الْمَحَلِّ كَمَا سَنَذْكُرُ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ قِطْرِيَّةٌ، فَأَدْخَلَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْعِمَامَةِ فَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ» وَسَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد فَهُوَ حُجَّةٌ، وَظَاهِرُهُ اسْتِيعَابُ تَمَامِ الْمُقَدَّمِ، وَتَمَامُ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ هُوَ الرُّبْعُ الْمُسَمَّى بِالنَّاصِيَةِ.
وَقِطْرِيَّةٌ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ: ثِيَابٌ حُمْرٌ لَهَا أَعْلَامٌ مَنْسُوبَةٌ إلَى قَطَرَ مَوْضِعٌ بَيْنَ عُمَانَ وَسَيْفِ الْبَحْرِ عَنْ الْأَزْهَرِيِّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: ضَرْبٌ مِنْ الْبُرُودِ فِيهِ حُمْرَةٌ وَلَهَا أَعْلَامٌ فِيهَا بَعْضُ الْخُشُونَةِ، وَمِثْلُهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَطَاءٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ فَحَسَرَ الْعِمَامَةَ وَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ، أَوْ قَالَ نَاصِيَتَهُ» فَإِنَّهُ حُجَّةٌ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا عِنْدَنَا كَيْفَ وَقَدْ اُعْتُضِدَ بِالْمُتَّصِلِ.
بَقِيَ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ ثُبُوتَ الْفِعْلِ كَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ جَوَازِ الْأَقَلِّ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ ضَمِّ الْمُلَازَمَةِ الْقَائِلَةِ لَوْ جَازَ الْأَقَلُّ لِفِعْلِهِ مَرَّةً تَعْلِيمًا لَجَازَ وَتُسَلَّمُ، وَقَدْ تُمْنَعُ بِأَنَّ الْجَوَازَ إذَا كَانَ مُسْتَفَادًا مِنْ غَيْرِ الْفِعْلِ لَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ فِيهِ، وَهُنَا كَذَلِكَ نَظَرًا إلَى الْآيَةِ فَإِنَّ الْبَاءَ فِيهَا لِلتَّبْعِيضِ.
وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ نَفْيَ جَوَازِ الْأَقَلِّ فَيَرْجِعُ الْبَحْثُ إلَى دَلَالَةِ الْآيَةِ، وَنَقُولُ فِيهِ إنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ لَهَا، بِخِلَافِ التَّبْعِيضِ فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ يَنْفُونَ كَوْنَهُ مَعْنًى مُسْتَقِلًّا لِلْبَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَاءَ فِي ضِمْنِ الْإِلْصَاقِ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ إلْصَاقَ الْآلَةِ بِالرَّأْسِ الَّذِي هُوَ الْمَطْلُوبُ لَا يَسْتَوْعِبُ الرَّأْسَ، فَإِذَا أَلْصَقَ فَلَمْ يَسْتَوْعِبْ خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِذَلِكَ الْبَعْضِ لَا لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفَادُ بِالْبَاءِ.
وَتَمَامُ تَحْقِيقِهِ فِيمَا كَتَبْنَاهُ عَلَى الْبَدِيعِ فِي الْأُصُولِ، وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ الرُّبُعُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ إنَّمَا تَسْتَوْعِبُ قَدْرَهُ غَالِبًا فَلَزِمَ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ جَوَازِ قَدْرِ الثَّلَاثِ الْأَصَابِعِ، وَإِنْ صَحَّحَهَا بَعْضُ الْمَشَايِخِ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ إلْصَاقُ الْيَدِ وَالْأَصَابِعِ أَصْلُهَا؛ وَلِهَذَا يَلْزَمُ كَمَالُ دِيَةِ الْيَدِ بِقَطْعِهَا
الِاسْتِيعَابِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: قَدَّرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِثَلَاثِ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي آلَةِ الْمَسْحِ.
وَالثَّلَاثُ أَكْثَرُهَا، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله لِمَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مِقْدَارُ النَّاصِيَةِ، وَرَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.
وَيُفِيدُ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَنْصُورِ رِوَايَةُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَدْرُهُ وَدِرَايَةٌ أَنَّ الْمُقَدَّمَةَ الْأَخِيرَةَ فِي حَيِّزِ الْمَنْعِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْمُقَدَّرِ الشَّرْعِيِّ بِوَاسِطَةِ تَعَدِّي الْفِعْلِ إلَى تَمَامِ الْيَدِ فَإِنَّ بِهِ يَتَقَدَّرُ قَدْرُهَا مِنْ الرَّأْسِ وَفِيهِ يُعْتَبَرُ عَيْنُ قَدْرِهِ، وَقَوْلُنَا عَيْنُ قَدْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَصَابَ الْمَطَرُ قَدْرَ الْفَرْضِ سَقَطَ، وَلَا تُشْتَرَطُ إصَابَتُهُ بِالْيَدِ؛ لِأَنَّ الْآلَةَ لَمْ تُقْصَدْ إلَّا لِلْإِيصَالِ إلَى الْمَحَلِّ فَحَيْثُ وَصَلَ اُسْتُغْنِيَ عَنْ اسْتِعْمَالِهَا، وَلَوْ مَسَحَ بِبَلَلٍ فِي يَدِهِ لَمْ يَأْخُذْهُ مِنْ عُضْوٍ آخَرَ جَازَ لَا إنْ أَخَذَهُ وَلَوْ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ مَدَّهَا قَدْرَ الْفَرْضِ جَازَ عِنْدَ زَفَرَ وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ، وَعَلَّلُوا بِأَنَّ الْبِلَّةَ صَارَتْ مُسْتَعْمَلَةً، وَهُوَ مُشْكِلٌ بِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا قَبْلَ الِانْفِصَالِ، وَمَا قِيلَ الْأَصْلُ ثُبُوتُ الِاسْتِعْمَالِ بِنَفْسِ الْمُلَاقَاةِ لَكِنَّهُ سَقَطَ فِي الْمَغْسُولِ لِلْحَرَجِ اللَّازِمِ بِإِلْزَامِ إصَابَةِ كُلِّ جُزْءٍ بِإِسَالَةِ غَيْرِ الْمُسَالِ عَلَى الْجُزْءِ الْآخَرِ، وَلَا حَرَجَ فِي الْمَسْحِ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْإِصَابَةِ فَبَقِيَ فِيهِ عَلَى الْأَصْلِ، دُفِعَ بِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِمَا عَلَّلَ بِهِ لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله فِي مَسْأَلَةِ إدْخَالِ الرَّأْسِ فِي الْإِنَاءِ فَإِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ عِنْدَهُ، فَقَالُوا: الْمَسْحُ حَصَلَ بِالْإِصَابَةِ، وَالْمَاءُ إنَّمَا يَأْخُذُ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ وَالْمُصَابُ بِهِ لَمْ يُزَايِلْ الْعُضْوَ حَتَّى عَدَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى التَّعْلِيلِ بِلُزُومِ انْفِصَالِ بِلَّةِ الْأُصْبُعِ بِوَاسِطَةِ الْمَدِّ فَيَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمُصَابِ فِي إدْخَالِ الرَّأْسِ الْإِنَاءَ، وَهَذَا كُلُّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ مَدَّ أُصْبُعَيْنِ لَا يَجُوزُ وَقَدْ صَرَّحُوا بِهِ، وَكَذَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ جَوَازِ مَدِّ الثَّلَاثِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ الرُّبُعِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَخَذَ الِاسْتِعْمَالَ بِالْمُلَاقَاةِ أَوْ انْتَقَلَتْ الْبِلَّةُ لَزِمَ ذَلِكَ، لَكِنِّي لَمْ أَرَ فِي مَدِّ الثَّلَاثِ إلَّا الْجَوَازَ
وَاخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْمَنْعَ فِي مَدِّ الْأُصْبُعِ وَالِاثْنَتَيْنِ غَيْرُ مُعَلَّلٍ بِاسْتِعْمَالِ الْبِلَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ لَا يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ شَيْءٍ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا خُصُوصًا إذَا تَيَمَّمَ عَلَى الْحَجَرِ الصَّلْدِ، بَلْ الْوَجْهُ عِنْدَهُ أَنَّا مَأْمُورُونَ بِالْمَسْحِ بِالْيَدِ وَالْأُصْبُعَانِ مِنْهَا لَا تُسَمَّى يَدًا، بِخِلَافِ الثَّلَاثِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهَا، وَهُوَ حَسَنٌ لَكِنَّهُ يَقْتَضِي تَعْيِينَ الْإِصَابَةِ بِالْيَدِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ بِمَسْأَلَةِ الْمَطَرِ.
وَقَدْ يُدْفَعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ تَعْيِينُهَا أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ الْآلَاتِ عِنْدَ قَصْدِ الْإِسْقَاطِ بِالْفِعْلِ اخْتِيَارًا، غَيْرَ أَنَّ لَازِمَهُ كَوْنُ تِلْكَ الْآلَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الْيَدِ مَثَلًا قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ مِنْ الْيَدِ، حَتَّى لَوْ
قَالَ (وَسُنَنُ الطَّهَارَةِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ
كَانَ عُودًا مَثَلًا لَا يَبْلُغُ ذَلِكَ الْقَدْرَ قُلْنَا بِعَدَمِ جَوَازِ مَدِّهِ.
وَقَدْ يُقَالُ عَدَمُ الْجَوَازِ بِالْأُصْبُعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْبِلَّةَ تَتَلَاشَى وَتَفْرُغُ قَبْلَ بُلُوغِ قَدْرِ الْفَرْضِ، بِخِلَافِ الْأُصْبُعَيْنِ فَإِنَّ الْمَاءَ يَنْحَمِلُ فِيهِ بَيْنَ الْأُصْبُعَيْنِ الْمَضْمُومَتَيْنِ فَضْلُ زِيَادَةٍ تَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ إلَى قَدْرِ الْفَرْضِ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ أَوْ مَظْنُونٌ فَوَجَبَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِهِ، فَعَلَى اعْتِبَارِ صِحَّةِ الِاكْتِفَاءِ بِقَدْرِ ثَلَاثِ أَصَابِعَ يَجُوزُ مَدُّ الْأُصْبُعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمَاءِ يَمْتَدُّ قَدْرَ أُصْبُعٍ ثَالِثٍ، وَعَلَى اعْتِبَارِ تَوَقُّفِ الْإِجْزَاءِ عَلَى الرُّبْعِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِمَّا لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ إيعَابُهُ الرُّبُعَ، إلَّا أَنَّ هَذَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ عَدَمُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِأُصْبُعَيْنِ.
وَأَمَّا الْجَوَازُ بِجَوَانِبِ الْأُصْبُعِ فَإِنَّهُ بِنَاءً عَلَى رِوَايَةِ الِاكْتِفَاءِ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَلَوْ أَدْخَلَ رَأْسَهُ إنَاءَ مَاءٍ نَاوِيًا لِلْمَسْحِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ عَنْ الْفَرْضِ.
وَالْمَاءُ طَهُورٌ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وَالْمَاءُ مُسْتَعْمَلٌ.
وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ إلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ، وَاَلَّذِي لَاقَى الرَّأْسَ مِنْ أَجْزَائِهِ لَصِقَ بِهِ فَطَهَّرَهُ وَغَيْرُهُ لَمْ يُلَاقِهِ فَلَمْ يُسْتَعْمَلْ وَفِيهِ نَظَرٌ، ثُمَّ مَحَلُّ الْمَسْحِ مَا فَوْقَ الْأُذُنَيْنِ، فَلَوْ مَسَحَ عَلَى شَعْرِهِ أَجْزَأَهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ ذُؤَابَتَاهُ مَشْدُودَتَيْنِ عَلَى رَأْسِهِ فَمَسَحَ عَلَى أَعْلَاهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالْمَسْنُونُ فِي كَيْفِيَّةِ الْمَسْحِ أَنْ يَضَعَ كَفَّيْهِ وَأَصَابِعَهُ عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ آخِذًا إلَى قَفَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَوْعِبُ، ثُمَّ يَمْسَحُ أُذُنَيْهِ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ، وَأَمَّا مُجَافَاةُ السَّبَّاحَتَيْنِ مُطْلَقًا لِيَمْسَحَ بِهِمَا الْأُذُنَيْنِ وَالْكَفَّيْنِ فِي الْإِدْبَارِ لِيَرْجِعَ بِهِمَا عَلَى الْفَوْدَيْنِ فَلَا أَصْلَ لَهُ فِي السُّنَّةِ، لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الِانْفِصَالِ وَالْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ حَتَّى جَازَ اتِّحَادُ بِلَتِّهِمَا، وَلِأَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ حَكَى وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ الْمَسْنُونَةِ وَهُمْ شَارِعُونَ فِي حِكَايَتِهَا لِتُرْتَكَبَ وَهِيَ غَيْرُ مُتَبَادِرَةٍ لَنَصُّوا عَلَيْهَا.
وَفِي فَتَاوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ: إذَا دَهَنَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَأَمَرَّ الْمَاءَ عَلَى رِجْلَيْهِ وَلَمْ يَقْبَلْ الْمَاءَ لِلدُّسُومَةِ جَازَ الْوُضُوءُ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ الْمُغِيرَةَ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ تَمَامُ مَتْنَيْنِ رَوَاهُمَا الْمُغِيرَةُ أَحَدُهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْهُ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ عَلَى الْخُفَّيْنِ» وَالْآخَرُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا» فَجَمَعَ الْقُدُورِيُّ بَيْنَ مَرْوِيَّيْ الْمُغِيرَةَ وَوَهَمَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ إذْ جَعَلَهُ مُرَكَّبًا مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَخُفَّيْهِ» ، وَمِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ فِي السُّبَاطَةِ وَالْبَوْلِ قَائِمًا وَهُوَ يَقْتَضِي تَخْطِئَةَ الْقُدُورِيِّ فِي نِسْبَةِ حَدِيثِ السُّبَاطَةِ إلَى الْمُغِيرَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ قَدْ رَوَاهُ أَيْضًا الْمُغِيرَةُ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ
(قَوْلُهُ وَسُنَنُ الطَّهَارَةِ) إضَافَةُ الشَّيْءِ إلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ مِنْ وَجْهٍ لِصِدْقِ السُّنَّةِ مَعَ الطَّهَارَةِ فِي طَهَارَةٍ مَسْنُونَةٍ،
إذَا اسْتَيْقَظَ الْمُتَوَضِّئُ مِنْ نَوْمِهِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسَنَّ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» وَلِأَنَّ الْيَدَ آلَةُ التَّطْهِيرِ فَتُسَنُّ الْبُدَاءَةُ بِتَنْظِيفِهَا، وَهَذَا الْغَسْلُ إلَى الرُّسْغِ لِوُقُوعِ الْكِفَايَةِ بِهِ فِي التَّنْظِيفِ.
قَالَ (وَتَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا وُضُوءَ
وَسُنَّةٌ بِلَا طَهَارَةٍ فِي سُنَّةٍ مَثَلًا صَلَوِيَّةٍ، وَطَهَارَةٌ بِلَا سُنَّةٍ فِي طَهَارَةٍ وَاجِبَةٍ فُعِلَتْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ السُّنَّةِ.
وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ: يَعْنِي الطَّهَارَةَ الْمَذْكُورَةَ وَهِيَ الْوُضُوءُ، فَانْدَفَعَ لُزُومُ كَوْنِ السُّنَنِ الْمَذْكُورَةِ سُنَنًا لِغَيْرِ الْوُضُوءِ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّهَارَةِ.
وَالسُّنَّةُ: مَا وَاظَبَ صلى الله عليه وسلم مَعَ تَرْكِهِ أَحْيَانًا (قَوْلُهُ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ إذَا اسْتَيْقَظَ إلَخْ) الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِغَيْرِ نُونِ التَّوْكِيدِ، وَأَمَّا بِهَا فَفِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ وَلَفْظُهُ «فَلَا يَغْمِسَنَّ يَدَهُ فِي طَهُورِهِ حَتَّى يُفْرِغَ عَلَيْهَا ثَلَاثًا» ثُمَّ غَسْلُهُمَا هَذَا يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ فَهُوَ فَرْضٌ تَقْدِيمُهُ سُنَّةٌ، وَلِذَا قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْأَصْلِ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ: ثُمَّ يَغْسِلُ ذِرَاعَيْهِ.
وَأَمَّا تَعْلِيقُهُ بِالِاسْتِيقَاظِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَهُ بِمَا إذَا نَامَ مُسْتَنْجِيًا بِالْأَحْجَارِ أَوْ مُتَنَجِّسَ الْبَدَنِ، أَمَّا لَوْ نَامَ مُتَيَقِّنًا طَهَارَتَهُمَا مُسْتَنْجِيًا بِالْمَاءِ فَلَا يُسَنُّ لَهُ.
وَقِيلَ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ مُطْلَقًا لِلْمُسْتَيْقِظِ وَغَيْرِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ، وَهُوَ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ مَنْ حَكَى وُضُوءَهُ عليه الصلاة والسلام قَدَّمَهُ، وَإِنَّمَا يُحْكَى مَا كَانَ دَأْبُهُ وَعَادَتُهُ لَا خُصُوصُ وُضُوئِهِ الَّذِي هُوَ عَنْ نَوْمٍ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ اطِّلَاعَهُمْ عَلَى وُضُوئِهِ عَنْ غَيْرِ النَّوْمِ، نَعَمْ مَعَ الِاسْتِيقَاظِ وَتَوَهُّمِ النَّجَاسَةِ السُّنَّةُ آكَدٌّ، أَمَّا الْوُجُوبُ فَإِنَّمَا يُنَاطُ بِتَحَقُّقِ النَّجَاسَةِ.
(قَوْلُهُ وَتَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى) لَفْظُهَا الْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ، وَقِيلَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: بِاسْمِ
لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ» وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَإِنْ سَمَّاهَا فِي الْكِتَابِ سُنَّةً،
اللَّهِ الْعَظِيمِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ الْأَفْضَلُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَعْدَ التَّعَوُّذِ، وَفِي الْمُجْتَبَى يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَفِي الْمُحِيطِ: لَوْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَوْ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا لِلسُّنَّةِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَفْظَ بِسْمِ أَعَمُّ مِمَّا ذَكَرْنَا.
وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ، وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» وَضُعِّفَ بِالِانْقِطَاعِ، وَهُوَ عِنْدَنَا كَالْإِرْسَالِ بَعْدَ عَدَالَةِ الرُّوَاةِ وَثِقَتِهِمْ لَا يَضُرُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ رَبِيحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» وَأُعِلَّ بِأَنَّ رَبِيحًا لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ. وَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ: رَبِيحٌ شَيْخٌ، وَقَالَ ابْنُ عَمَّارٍ: ثِقَةٌ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: رَوَى عَنْهُ فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ وَكَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ، قَالَ: الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ التَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ فَقَالَ: أَحْسَنُ مَا فِيهَا حَدِيثُ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهَا حَدِيثًا ثَابِتًا، وَأَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُ الْوُضُوءُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ أَحْكُمُ بِهِ اهـ.
(قَوْلُهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ إلَخْ) يَجُوزُ كَوْنُ مُسْتَنَدِهِ فِيهِ ضَعْفَ الْأَحَادِيثِ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُ بِحَدِيثِ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ قَالَ:«أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَسَلَّمَتْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلِيَّ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ إلَّا أَنِّي كُنْتُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ الْعَبْدِيِّ حَدَّثَنَا نَافِعٌ قَالَ: انْطَلَقْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي حَاجَةٍ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ كَانَ مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ «مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سِكَّةٍ مِنْ سِكَكِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ إذْ سَلَّمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ إنَّهُ ضَرَبَ بِيَدِهِ الْحَائِطَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ مَسْحًا ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً فَمَسَحَ ذِرَاعَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثُمَّ كَفَّهُ وَقَالَ: إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْك إلَّا أَنِّي لَمْ أَكُنْ عَلَى طَهَارَةٍ» وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ رَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ السَّلَامَ» . وَرَوَى الْبَزَّارُ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَجُلٌ مِنْ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَزَادَ وَقَالَ: «إنَّمَا رَدَدْتُ عَلَيْك خَشْيَةَ أَنْ تَقُولَ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلِيَّ، فَإِذَا رَأَيْتَنِي هَكَذَا فَلَا تُسَلِّمْ عَلِيَّ فَإِنِّي لَا أَرُدُّ عَلَيْكَ» وَأَبُو بَكْرٍ هَذَا هُوَ ابْنُ عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنَ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَهُ عَبْدُ الْحَقِّ وَلَا بَأْسَ بِهِ، وَوَقَعَ مُصَرَّحًا بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ هَذَا فِي مُسْنَدِ السِّرَاجِ.
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبُولُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ: إذَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
رَأَيْتَنِي عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ إلَخْ» وَلِيُنْظَرْ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ وَكَيْفَ كَانَ فَهِيَ مُتَظَافِرَةٌ عَلَى عَدَمِ ذِكْرِهِ صلى الله عليه وسلم اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، وَمُقْتَضَاهُ انْتِفَاؤُهُ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ الْكَائِنِ عَنْ حَدَثٍ، وَمَا أُعِلَّ بِهِ غَيْرُ قَادِحٍ لِلْمُتَأَمِّلِ فَهِيَ مُعَارِضَةٌ لِخَبَرِ التَّسْمِيَةِ بَعْدَ الْقَوْلِ بِحُسْنِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ طُرُقِ الضَّعِيفِ تُرَقِّيهِ إلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَوْجُهُ الْقَوْلَيْنِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، بَلْ بَعْضُهَا بِخُصُوصِهِ حَسَنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَ أَهْلِ الشَّأْنِ عَلَيْهَا فَيُخْرِجُهُ مِنْ السُّنَّةِ كَمَا أَخْرَجَهُ عَنْ الْإِيجَابِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُهُ، وَكَذَا عَدَمُ نَقْلِهَا فِي حِكَايَةِ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الضَّعْفَ مُنْتَفٍ لِمَا قُلْنَا، وَالْمُعَارَضَةُ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ؛ لِأَنَّ كَرَاهَةَ ذِكْرِ اللَّهِ لَا يَكُونُ مِنْ مُتَمِّمَاتِ الْوُضُوءِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَرَاهَةَ مَا جُعِلَ شَرْعًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَكْمِيلًا لَهُ بَعْدَ ثُبُوتِ جَعْلِهِ كَذَلِكَ بِالْحَدِيثِ الْحَسَنِ، فَذَلِكَ الذِّكْرُ ضَرُورِيٌّ لِلْوُضُوءِ الْكَامِلِ شَرْعًا فَلَا تَعَارُضَ لِلِاخْتِلَافِ، وَعَدَمُ نَقْلِهَا فِي حِكَايَتَيْهِمَا إمَّا؛ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا حَكَيَا الْأَفْعَالَ الَّتِي هِيَ الْوُضُوءُ وَالتَّسْمِيَةُ لَيْسَتْ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ ذِكْرٌ يَفْتَتِحُ هُوَ بِهَا، وَصِدْقُ هَذَا التَّرْكِيبِ يُفِيدُ خُرُوجَهَا عَنْ مُسَمَّاهُ، وَإِمَّا لِعَدَمِ نَقْلِ الرُّوَاةِ عَنْهُمَا، وَإِنْ قَالَاهَا؛ إذْ قَدْ يَنْقُلُ الرَّاوِي بَعْضَ الْحَدِيثِ اشْتِغَالًا بِالْمُهِمِّ بِنَاءً عَلَى اشْتِهَارِ الِافْتِتَاحِ بِالتَّسْمِيَةِ بَيْنَ السَّلَفِ فِي كُلِّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ، كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ» وَفِي رِوَايَةٍ «أَجْذَمُ» وَفِي رِوَايَةٍ «لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» رَوَاهَا ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِينَ وَحَسَّنَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قُرَّةٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ عَدَمُ النَّقْلِ لَا يَنْفِي الْوُجُودَ فَكَيْفَ بَعْدَ الثُّبُوتِ بِوَجْهٍ آخَرَ، أَلَا يَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يَنْقُلُوا مِنْ حِكَايَتِهِمَا التَّخْلِيلَ، وَلَا شُبْهَةَ فِي اعْتِقَادِي أَنَّهُ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَكَذَا لَمْ يَنْقُلُوا السِّوَاكَ وَهُوَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، وَبَعْضُ مَنْ حَكَى لَمْ يَحْكِ غَسْلَ الْيَدَيْنِ أَوَّلًا وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي ثُبُوتِهَا إذَا ثَبَتَ بِطُرُقٍ.
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ فَإِذَا سَلِمَ خَبَرُ التَّسْمِيَةِ عَنْ الْمُعَارِضِ مَعَ حُجِّيَّتِهِ فَمَا مُوجِبُ الْعُدُولِ بِهِ إلَى نَفْيِ الْكَمَالِ وَتَرْكِ ظَاهِرِهِ مِنْ الْوُجُوبِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ حَدِيثُ «إذَا تَطَهَّرَ أَحَدُكُمْ فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ جَسَدُهُ كُلُّهُ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَهُورِهِ لَمْ يَطْهُرْ إلَّا مَا مَرَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ» فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، إنَّمَا يَرْوِيهِ عَنْ الْأَعْمَشِ يَحْيَى بْنِ هَاشِمٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ.
وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ حَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ «إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ» وَفِي لَفْظٍ «إنَّهَا لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَيَمْسَحَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُكَبِّرَ اللَّهَ تَعَالَى وَيَحْمَدَهُ» الْحَدِيثُ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ تَسْمِيَةً فِي مَقَامِ التَّعْلِيمِ، فَقَدْ أَعَلَّهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِأَنَّ يَحْيَى بْنَ عَلِيِّ بْنِ خَلَّادٍ لَا يُعْرَفُ لَهُ حَالٌ وَهُوَ مِنْ رُوَاتِهِ، فَأَدَّى النَّظَرُ إلَى وُجُوبِ التَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ، غَيْرَ أَنَّ صِحَّتَهُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَاطِعِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ نَسْخُ آيَةِ الْوُضُوءِ بِهِ: يَعْنِي الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ بِتَقْدِيرِ الِافْتِرَاضِ لَا الْوُجُوبِ.
وَمَا قِيلَ إنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْوُجُوبِ فِي الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ تَابِعٌ، فَلَوْ قُلْنَا بِالْوُجُوبِ فِيهِ الْمُسَاوِي التَّبَعِ الْأَصْلِ غَيْرُ لَازِمٍ إذْ اشْتِرَاكُهُمَا بِثُبُوتِ الْوَاجِبِ فِيهِمَا لَا يَقْتَضِيهِ لِثُبُوتِ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بِوَجْهٍ آخَرَ نَحْوَ إنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ الْحُكْمِ بِأَنَّ وَاجِبَهُ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْ وَاجِبِ الصَّلَاةِ كَفَرْضِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى فَرْضِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ الْأَدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ.
الرَّابِعُ مِنْهَا مَا هُوَ ظَنِّيُّ الثُّبُوتِ وَالدَّلَالَةِ وَأَعْطَوْا حُكْمَهُ إفَادَةَ السُّنِّيَّةِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَجَعَلُوا مِنْهُ خَبَرَ التَّسْمِيَةِ، وَصَرَّحَ
وَيُسَمِّي قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ وَبَعْدَهُ هُوَ الصَّحِيحُ.
قَالَ (وَالسِّوَاكُ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُوَاظِبُ عَلَيْهِ وَعِنْدَ فَقْدِهِ
بَعْضُهُمْ بِأَنَّ وُجُوبَ الْفَاتِحَةِ لَيْسَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» بَلْ بِالْمُوَاظَبَةِ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ لِذَلِكَ، فَالْجَوَابُ إنْ أَرَادُوا بِظَنِّيِّ الدَّلَالَةِ مُشْتَرَكَهَا سَلَّمْنَا الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ وَمَنَعْنَا كَوْنَ الْخَبَرَيْنِ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ نَفْيُ الْكَمَالِ فِيهِمَا احْتِمَالٌ يُقَابِلُهُ الظُّهُورُ فَإِنَّ النَّفْيَ مُتَسَلِّطٌ عَلَى الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ فِيهِمَا.
فَإِنْ قُلْنَا: النَّفْيُ لَا يَتَسَلَّطُ عَلَى نَفْسِ الْجِنْسِ بَلْ يَنْصَرِفُ إلَى حُكْمِهِ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الصِّحَّةُ فَإِنَّهُ الْمَجَازُ الْأَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ قُلْنَا يَتَسَلَّطُ هُنَا؛ لِأَنَّهَا حَقَائِقُ شَرْعِيَّةٌ فَيَنْتَفِي شَرْعًا لِعَدَمِ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا، وَإِنْ وُجِدَتْ حِسًّا فَأَظْهَرُ فِي الْمُرَادِ، فَنَفْيُ الْكَمَالِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ احْتِمَالٌ هُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ مَا فِيهِ احْتِمَالٌ، وَلَوْ مَرْجُوحًا مَنَعْنَا صِحَّةَ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ وَأَسْنَدْنَاهُ بِأَنَّ الظَّنَّ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ مُتَعَلَّقِهِ، وَعَلَى هَذَا مَشَى الْمُصَنِّفُ رحمه الله فِي خَبَرِ الْفَاتِحَةِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِهِ مِنْ طَرَفِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا تَجُوزُ لَكِنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ فَعَمَلنَا بِوُجُوبِهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.
[فَرْعٌ]
نَسِيَ التَّسْمِيَةَ فَذَكَرَهَا فِي خِلَالِ الْوُضُوءِ فَسَمَّى لَا يُحَصِّلُ السُّنَّةَ، بِخِلَافِ نَحْوِهِ فِي الْأَكْلِ.
كَذَا فِي الْغَايَةِ مُعَلَّلًا بِأَنَّ الْوُضُوءَ عَمَلٌ وَاحِدٌ بِخِلَافِ الْأَكْلِ، وَهُوَ إنَّمَا يَسْتَلْزِمُ فِي الْأَكْلِ تَحْصِيلَ السُّنَّةِ فِي الْبَاقِي لَا اسْتِدْرَاكَ مَا فَاتَ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ قَبْلَهُ فَقَطْ وَمَا قِيلَ بَعْدَهُ فَقَطْ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ حَالَ الِانْكِشَافِ، وَالْأَصَحُّ قَبْلَهُ أَيْضًا لَا حَالَ الِانْكِشَافِ، وَلَا فِي مَحَلِّ النَّجَاسَةِ، وَمِنْ الثَّابِتِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ دُخُولِ الْخَلَاءِ «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ» وَالْمُرَادُ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ ذُكْرَانِ الشَّيَاطِينِ وَإِنَاثِهِمْ.
(قَوْلُهُ وَالسِّوَاكُ) أَيْ الِاسْتِيَاكُ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ (لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُوَاظِبُ عَلَيْهِ) الْمَطْلُوبُ مُوَاظَبَتُهُ عِنْدَ الْوُضُوءِ، وَلَمْ أَعْلَمْ حَدِيثًا صَرِيحًا فِيهِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ» وَفِي لَفْظٍ «إذَا قَامَ لِيَتَهَجَّدَ» وَفِي مُسْلِمٍ «كَانَ صلى الله عليه وسلم إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ بَدَأَ بِالسِّوَاكِ» وَفِي أَبِي دَاوُد «كَانَ صلى الله عليه وسلم لَا يَسْتَيْقِظُ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إلَّا تَسَوَّكَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ» وَفِي الطَّبَرَانِيِّ «مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ لِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ حَتَّى يَسْتَاكَ» وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مُحَافَظَتِهِ عَلَى السِّوَاكِ اسْتِيَاكُهُ بِسِوَاكِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ وَفَاتِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِيهِمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ أَوْ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» وَعِنْدَ النَّسَائِيّ فِي رِوَايَةٍ «عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ» وَرَوَاهَا
يُعَالِجُ بِالْأُصْبُعِ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام فَعَلَ كَذَلِكَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُسْتَحَبُّ.
قَالَ (وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام فَعَلَهُمَا عَلَى الْمُوَاظَبَةِ. وَكَيْفِيَّتُهُ أَنْ يُمَضْمِضَ ثَلَاثًا يَأْخُذُ لِكُلِّ مَرَّةٍ مَاءً جَدِيدًا ثُمَّ يَسْتَنْشِقَ كَذَلِكَ
ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَصَحَّحَهَا الْحَاكِمُ وَذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَلَا دَلَالَةَ فِي شَيْءٍ عَلَى كَوْنِهِ فِي الْوُضُوءِ إلَّا هَذِهِ، وَغَايَةُ مَا يُفِيدُ النَّدْبُ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ سِوَى الِاسْتِحْبَابِ، إذْ يَكْفِيهِ إذَا نَدَبَ لِشَيْءٍ أَنْ يَتَعَبَّدَ بِهِ أَحْيَانَا.
وَلَا سُنَّةَ دُونَ الْمُوَاظَبَةِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ مِنْ ذَلِكَ، وَاسْتِدْلَالُهُ فِي الْغَايَةِ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «صَلَاةٌ بِسِوَاكٍ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً بِغَيْرِ سِوَاكٍ» يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِمَّا ظَاهِرُهُ النَّدْبُ عِنْدَ نَفْسِ الصَّلَاةِ كَوْنُهُ عِنْدَ الْوُضُوءِ فَالْحَقُّ أَنَّهُ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْوُضُوءِ، وَيُوَافِقُهُ مَا فِي الْهِدَايَةِ الْغَزْنَوِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: وَيُسْتَحَبُّ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ: اصْفِرَارُ السِّنِّ، وَتَغَيُّرُ الرَّائِحَةِ، وَالْقِيَامُ مِنْ النَّوْمِ، وَالْقِيَامُ إلَى الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ الْوُضُوءِ وَالِاسْتِقْرَاءُ يُفِيدُ غَيْرَهَا، وَفِيمَا ذَكَرْنَا أَوَّلَ مَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ.
وَيُسْتَحَبُّ فِيهِ ثَلَاثٌ بِثَلَاثِ مِيَاهٍ وَأَنْ يَكُونَ السِّوَاكُ لَيِّنًا فِي غِلَظِ الْأُصْبُعِ وَطُولِ شِبْرٍ مِنْ الْأَشْجَارِ الْمُرَّةِ، وَيَسْتَاكُ عَرْضًا لَا طُولًا.
(قَوْلُهُ يُعَالِجُ بِالْأُصْبُعِ) قَالَ فِي الْمُحِيطِ: قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: التَّشْوِيصُ بِالْمُسَبَّحَةِ وَالْإِبْهَامِ سِوَاكٌ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ «يُجْزِي مِنْ السِّوَاكِ الْأَصَابِعُ» وَتَكَلَّمَ فِيهِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَذْهَبُ فُوهُ يَسْتَاكُ؟ قَالَ نَعَمْ، قُلْتُ: كَيْفَ يَصْنَعُ؟ قَالَ: يُدْخِلُ أُصْبُعَهُ فِي فِيهِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ
(قَوْلُهُ وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ) وَالسُّنَّةُ فِيهِمَا الْمُبَالَغَةُ لِغَيْرِ الصَّائِمِ وَهُوَ فِي الْمَضْمَضَةِ إلَى الْغَرْغَرَةِ، وَفِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَى مَا اشْتَدَّ مِنْ الْأَنْفِ، وَلَوْ شَرِبَ الْمَاءَ عَبًّا أَجْزَأَ عَنْ الْمَضْمَضَةِ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ مَجَّهُ لَيْسَ مِنْ حَقِيقَتِهَا، وَقِيلَ لَا يُجْزِئُهُ، وَمَصًّا لَا يُجْزِئُهُ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام فَعَلَهُمَا عَلَى الْمُوَاظَبَةِ) جَمِيعُ مَنْ حَكَى وُضُوءَهُ عليه الصلاة والسلام فِعْلًا وَقَوْلًا اثْنَانِ وَعِشْرُونَ نَفَرًا، وَلَا بَأْسَ بِإِفَادَةِ حَصْرِهِمْ تَكْمِيلًا وَإِسْعَافًا: الْأَوَّلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ فِعْلًا، وَفِيهِ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا بِثَلَاثِ غَرْفَاتٍ، وَفِيهِ فَمَسَحَ رَأْسَهُ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، رَوَاهُ السِّتَّةُ عَنْهُ، وَالْمُرَادُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ، وَوَهَمَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي جَعْلِهِ إيَّاهُ ابْنَ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ رَاوِيَ الْأَذَانِ. وَفِي قَوْلِهِ مَسَحَ مَرَّتَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَوَاهُ بِمَعْنَى أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ. الثَّانِي عُثْمَانُ فِعْلًا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ عَدَدَ غَرْفَاتٍ، وَلَا فِي الْمَسْحِ إقْبَالًا وَلَا غَيْرَهُ. الثَّالِثُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِعْلًا فِي الْبُخَارِيِّ وَفِيهِ «أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَتَمَضْمَضَ بِهَا وَاسْتَنْشَقَ» وَفِيهِ «ثُمَّ أَخَذَ
هُوَ الْمَحْكِيُّ مِنْ وُضُوءٍ صلى الله عليه وسلم
غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُمْنَى ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُسْرَى ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ». الرَّابِعُ الْمُغِيرَةُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ. الْخَامِسُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِعْلًا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ، وَفِيهِ «فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً» ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ قَالَ بِمَاءٍ وَاحِدٍ. السَّادِسُ الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ قَوْلًا دُونَ تَنْصِيصٍ عَلَى عَدَدٍ فِي شَيْءٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. السَّابِعُ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ فِعْلًا كَاَلَّذِي قَبْلَهُ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ. الثَّامِنُ أَبُو بَكْرَةَ قَوْلًا كَاَلَّذِي قَبْلَهُ، رَوَاهُ الْبَزَّارُ التَّاسِعُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَوْلًا كَاَلَّذِي قَبْلَهُ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى، وَزَادَ " أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَضَحَ تَحْتَ ثَوْبِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا إسْبَاغُ الْوُضُوءِ. الْعَاشِرُ وَائِلُ بْنُ حُجْرٌ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ قَوْلًا، وَفِيهِ «ثُمَّ مَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا وَظَاهِرِ أُذُنَيْهِ ثَلَاثًا وَظَاهِرِ رَقَبَتِهِ» ، وَأَظُنُّهُ قَالَ وَظَاهِرِ لِحْيَتِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى وَفَصَلَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، أَوْ قَالَ خَلَّلَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَرَفَعَ الْمَاءَ حَتَّى جَاوَزَ الْكَعْبَ ثُمَّ رَفَعَهُ إلَى السَّاقِ، ثُمَّ فَعَلَ بِالْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ مَاءٍ فَمَلَأَ بِهَا يَدَهُ ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى انْحَدَرَ الْمَاءُ مِنْ جَوَانِبِهِ وَقَالَ: هَذَا إتْمَامُ الْوُضُوءِ، وَلَمْ أَرَهُ يُنَشِّفُ بِثَوْبٍ ". قَالَ الْإِمَامُ: يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُجْرٌ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ نَظَرٌ.
الْحَادِيَ عَشَرَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ دُونَ تَنْصِيصٍ عَلَى عَدَدٍ فِي الرَّأْسِ وَغَرْفَاتِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ. الثَّانِي عَشَرَ أَبُو أُمَامَةَ فَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ. الثَّالِثَ عَشَرَ أَنَسٌ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ هَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دُونَ ذَلِكَ التَّنْصِيصِ.
الرَّابِعَ عَشَرَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ قَالَ:«كَانَ صلى الله عليه وسلم إذَا تَوَضَّأَ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَأَدْخَلَ أَصَابِعَهُ مِنْ تَحْتِ لِحْيَتِهِ فَخَلَّلَهَا» . الْخَامِسَ عَشَرَ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو الْيَمَانِيُّ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْهُ قَالَ:«دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، وَالْمَاءُ يَسِيلُ مِنْ وَجْهِهِ وَلِحْيَتِهِ عَلَى صَدْرِهِ، فَرَأَيْتُهُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ» اهـ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفَصَّلَ مَعْنَى التَّفْصِيلِ وَسَنَذْكُرُهُ عَنْ قَرِيبٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّادِسَ عَشَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى قَوْلًا، رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى دُونَ ذَلِكَ التَّنْصِيصِ. السَّابِعَ عَشَرَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فِعْلًا، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ كَذَلِكَ. الثَّامِنَ عَشَرَ أَبُو كَاهِلٍ قَيْسُ بْنُ عَائِذٍ قَوْلًا، وَفِيهِ «فَغَسَلَ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ ثَلَاثًا وَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَلَمْ يُوَقِّتْ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ وَلَمْ يُوَقِّتْ» ، وَلَعَلَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ هُوَ الْوَجْهُ لِلْقَائِلِينَ بِعَدَمِ سُنِّيَّةِ التَّثْلِيثِ فِي غَسْلِ الرِّجْلِ، وَقَدْ ضُعِّفَ بِالْهَيْثَمِ بْنِ جَمَّازٍ، وَحَدِيثُ الرَّبِيعِ بَعْدَهُ صَرِيحٌ فِي تَثْلِيثِ الرِّجْلَيْنِ. التَّاسِعَةَ عَشَرَ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْهَا قَوْلًا قَالَتْ فِيهِ: فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا وَوَضَّأَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مَرَّةً وَوَضَّأَ يَدَهُ ثَلَاثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّتَيْنِ يَبْدَأُ بِمُؤَخَّرِ رَأْسِهِ ثُمَّ بِمُقَدَّمِهِ، وَفِيهِ: وَضَّأَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا. الْعِشْرُونَ عَائِشَةُ رضي الله عنها فِعْلًا، رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى، وَفِيهِ: مَسَحَتْ رَأْسَهَا مَسْحَةً وَاحِدَةً إلَى مُؤَخَّرِهِ ثُمَّ مَرَّتْ بِيَدَيْهَا بِأُذُنَيْهَا، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرُ التَّسْمِيَةِ إلَّا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا مَسَّ طَهُورًا سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى» .
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ فِعْلًا، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ: مَسَحَ بِرَأْسِهِ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا وَمَسَّ أُذُنَيْهِ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَسَنَذْكُرُهَا قَرِيبًا، وَقَدْ أَشَرْنَا فِيهَا إلَى الْأَطْرَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي كَيْفِيَّةِ الْمَسْحِ وَغَرْفَاتِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ؛ لِأَنَّهُمَا مَوْضِعَا خِلَافٍ فَتَتَيَسَّرُ الْإِحَالَةُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَيْهِمَا، وَكُلُّهَا نَصَّ عَلَى الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِمَا (قَوْلُهُ هُوَ الْمَحْكِيُّ) تَقَدَّمَ مِنْ حِكَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ
(وَمَسْحُ الْأُذُنَيْنِ) وَهُوَ سُنَّةٌ بِمَاءِ الرَّأْسِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ»
فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا بِثَلَاثِ غَرْفَاتٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِنْثَارَ لَيْسَ أَخْذَ مَاءٍ لِيَكُونَ لَهُ غَرْفَاتٍ، وَالْمُرَادُ بِثَلَاثِ غَرْفَاتٍ مِثْلُ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ ثَلَاثًا، فَكَمَا أَنَّ الْمُرَادَ كُلٌّ مِنْ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ ثَلَاثًا فَكَذَا كُلٌّ مِنْ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ بِثَلَاثِ غَرْفَاتٍ. وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا فِي حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْكِنْدِيُّ، حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، حَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ مُشَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الْيَامِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ فَمَضْمَضَ ثَلَاثًا وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا، يَأْخُذُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مَاءً جَدِيدًا، وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، فَلَمَّا مَسَحَ رَأْسَهُ قَالَ هَكَذَا، وَأَوْمَأَ بِيَدَيْهِ مِنْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى بَلَغَ بِهِمَا إلَى أَسْفَلِ عُنُقِهِ مِنْ قِبَلِ قَفَاهُ» وَقَدَّمْنَا رِوَايَةَ أَبِي دَاوُد مُخْتَصَرًا وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ بَعْدَهُ. وَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ سُئِلَ: أَلِكَعْبٍ صُحْبَةٌ؟ فَقَالَ: الْمُحَدِّثُونَ يَقُولُونَ إنَّهُ رَآهُ صلى الله عليه وسلم، وَأَهْلُ بَيْتِ طَلْحَةَ يَقُولُونَ لَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ غَيْرُ قَادِحٍ، فَإِذَا اعْتَرَفَ أَهْلُ الشَّأْنِ بِأَنَّ لَهُ صُحْبَةً تَمَّ الْوَجْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مِقْسَمٍ الْبَرِّيِّ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ الْيَامِيِّ عَنْ جَدِّهِ قَالَ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ هَكَذَا، وَوَصَفَ فَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ جَرَّ يَدَيْهِ إلَى قَفَاهُ»
وَمَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ بِمَاءٍ وَاحِدٍ لَا يُعَارِضُ الصَّحِيحَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ زَيْدٍ وَكَعْبٍ، وَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ يَجِبُ صَرْفُهُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ تَجْدِيدُ الْمَاءِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُسْرَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ الْيَدَيْنِ ثَلَاثَ غَرْفَاتٍ لَا غَرْفَةٌ وَاحِدَةٌ، فَكَانَ الْمُرَادُ أَخَذَ مَاءً لِلْيُمْنَى ثُمَّ مَاءً لِلْيُسْرَى، إذْ لَيْسَ يَحْكِي الْفَرَائِضَ فَقَدْ حَكَى السُّنَنَ مِنْ الْمَضْمَضَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَوْ كَانَ لَكَانَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ أَدْنَى مَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْمَضْمَضَةِ بِهِ، كَمَا أَنَّ ذَلِكَ أَدْنَى مَا يُقَامُ فَرْضُ الْيَدِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَحْكِيَّ إنَّمَا هُوَ وُضُوءُهُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ لِيَتَّبِعَهُ الْمَحْكِيُّ لَهُمْ، وَمَا رُوِيَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ فَلِنَفْيِ كَوْنِهِ بِكَفَّيْنِ مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ، كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمَضْمَضَةَ بِالْيُمْنَى وَالِاسْتِنْشَاقَ بِالْيُسْرَى
(قَوْلُهُ وَمَسْحُ الْأُذُنَيْنِ) عَنْ الْحَلْوَانِيِّ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ: يُدْخِلُ الْخِنْصِرَ فِي أُذُنَيْهِ وَيُحَرِّكُهُمَا كَذَا فَعَلَ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى.
وَاَلَّذِي فِي ابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ أُذُنَيْهِ فَأَدْخَلَهُمَا السَّبَّابَتَيْنِ، وَخَالَفَ إبْهَامَيْهِ إلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ فَمَسَحَ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا» وَقَوْلُ مَنْ قَالَ يَعْزِلُ السَّبَّابَتَيْنِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ مِنْ مَشَايِخِنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَهُ إدْخَالُهُمَا وَهُوَ الْأَوْلَى (قَوْلُهُ خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ) قِيلَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَجْمُوعِ مِنْ سُنَّةٍ بِمَاءِ الرَّأْسِ، وَلَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ تَعْلِيقَهُ بِمَاءِ الرَّأْسِ لَيْسَ إلَّا مِنْ حَيْثُ اتِّصَالُهُ بِسُنَّةٍ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ» ) يَعْنِي فَلَا حَاجَةَ إلَى أَخْذِ مَاءٍ
وَالْمُرَادُ بَيَانُ الْحُكْمِ دُونَ الْخِلْقَةِ. قَالَ (وَتَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَمَرَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام بِذَلِكَ،
مُنْفَرِدٍ لَهُمَا، كَمَا لَا يُؤْخَذُ فِي السُّنَّةِ مَاءَانِ لِعُضْوٍ وَاحِدٍ فِي غَيْرِ التَّكْرَارِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَشْهَرُ إسْنَادٍ لِلْحَدِيثِ هَذَا يَعْنِي رِوَايَةَ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سِنَانِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ «تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَيَدَيْهِ ثَلَاثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ قَالَ: الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ» ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَكَانَ حَمَّادُ يَشُكُّ فِي رَفْعِهِ فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي أَمِنَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ مِنْ قَوْلِ أَبِي أُمَامَةَ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ يَرْوِيهِ عَنْ حَمَّادٍ وَيَقُولُ: هُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي أُمَامَةَ انْتَهَى. وَقَدْ ضُعِّفَ شَهْرٌ أَيْضًا. وَأُجِيب بِأَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى حَمَّادٍ، فَأَبُو الرَّبِيعِ رَفَعَهُ عَنْهُ وَمَنْ سَمِعَتْ عَلَى مَا عَلِمْت. وَاخْتَلَفَ عَلَى مُسَدَّدٍ عَنْ حَمَّادٍ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، وَإِذَا رَفَعَ ثِقَةٌ حَدِيثًا وَوَقَّفَهُ آخَرُ أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ شَخْصٌ وَاحِدٌ قُدِّمَ الرَّفْعُ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ، وَالصَّحِيحُ فِي شَهْرٍ التَّوْثِيقُ وَثَّقَهُ أَبُو زُرْعَةَ وَأَحْمَدُ وَيَحْيَى وَالْعِجْلِيُّ وَيَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ وَسِنَانُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَقَدْ تَوَهَّمَ فِي الْبَيْهَقِيّ التَّحَامُلَ بِسَبَبِ اقْتِصَارِهِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ وَالِاشْتِغَالُ بِالتَّكَلُّمِ فِيهِ
، وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سُوَيْد بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ» وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي كَامِلٍ الْجَحْدَرِيِّ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ» وَهُمَا ثَابِتَانِ لِلِاتِّصَالِ وَثِقَةِ الرِّجَالِ، وَقَوْلُ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الثَّانِي إسْنَادُهُ وَهَمٌ إنَّمَا هُوَ مُرْسَلٌ مُحْتَجًّا بِمَا أَخْرَجَهُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ بَعْدَ حُكْمِهِ بِصِحَّتِهِ ثُمَّ نَقَلَ كَلَامَ الدَّارَقُطْنِيِّ: لَيْسَ بِقَدْحٍ فِيهِ، وَمَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَدِيثَانِ مُسْنَدٌ وَمُرْسَلٌ.
وَلَنَا أَحَادِيثُ أُخَرُ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِوُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ» . وَفِيهِ: ثُمَّ غَرَفَ غَرْفَةً فَمَسَحَ بِهَا رَأْسَهُ وَأُذُنَيْهِ. وَبَوَّبَ عَلَيْهِ النَّسَائِيّ بَابَ مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ مَعَ
وَقِيلَ هُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّ السُّنَّةَ إكْمَالُ الْفَرْضِ فِي مَحَلِّهِ وَالدَّاخِلُ لَيْسَ بِمَحَلِّ الْفَرْضِ.
الرَّأْسِ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ لِأُذُنَيْهِ مَاءً جَدِيدًا فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ لِفَنَاءِ الْبِلَّةِ قَبْلَ الِاسْتِيعَابِ تَوْفِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَا، وَإِذَا انْعَدَمَتْ الْبِلَّةُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْأَخْذِ كَمَا لَوْ انْعَدَمَتْ فِي بَعْضِ عُضْوٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ رَجَّحْنَا كَانَ مَا رَوَيْنَاهُ أَكْثَرَ وَأَشْهَرَ، فَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ كَمَا ذَكَرْنَا، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم بِطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
(قَوْلُهُ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) فِي غَيْرِ نُسْخَةٍ مِنْ كُتُبِ الرِّوَايَةِ سُنَّةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَهُمَا، وَأَمْثَلُ حَدِيثٍ فِيهِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ شَقِيقٍ الْأَسَدِيِّ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عُثْمَانَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ». وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: تَوَضَّأَ وَخَلَّلَ لِحْيَتَهُ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: احْتَجَّا بِجَمِيعِ رُوَاتِهِ إلَّا عَامِرَ بْنَ شَقِيقٍ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ طَعْنًا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَلَهُ شَاهِدٌ صَحِيحٌ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَنَسٍ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم، ثُمَّ أَخْرَجَ أَحَادِيثَهُمْ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ وَخَلَّلَ لِحْيَتَهُ» ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ:«بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي» . وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ عَامِرًا ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَحَاصِلُ الْأَوَّلِ طَعْنٌ مُبْهَمٌ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ لَمْ يَقْبَلْهُ التِّرْمِذِيُّ. وَالثَّانِي: لَا يُخْرِجُهُ إلَى الضَّعْفِ، وَلَوْ سُلِّمَ، فَغَايَةُ الْأَمْرِ اخْتِلَافٌ فِيهِ لَا يَنْزِلُ بِهِ عَنْ الْحَسَنِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي عِلَلِهِ الْكَبِيرِ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ: يَعْنِي الْبُخَارِيَّ أَصَحُّ شَيْءٍ عِنْدِي حَدِيثُ عُثْمَانَ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ انْتَهَى. وَكَيْفَ وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ جِدًّا مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ وَأَنَسٍ كَمَا رَوَاهُمَا الْحَاكِمُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ رَأَيْتُهُ عليه الصلاة والسلام يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ، وَإِنْ ضُعِّفَ بِالِانْقِطَاعِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ قَالَ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا تَوَضَّأَ خَلَّلَ لِحْيَتَهُ» . رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ مَاجَهْ وَحَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ نَحْوُهُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: «دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ (وَتَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «خَلِّلُوا أَصَابِعَكُمْ كَيْ لَا تَتَخَلَّلَهَا نَارُ جَهَنَّمَ» وَلِأَنَّهُ إكْمَالُ
وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، وَقَالَ فِيهِ: فَخَلَّلَ لِحْيَتَهُ. وَفِيهِ: فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ هَكَذَا الطَّهُورُ؟ قَالَ: هَكَذَا أَمَرَنِي رَبِّي». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ. وَرُوِيَ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ: «كَانَ إذَا تَوَضَّأَ خَلَّلَ لِحْيَتَهُ» . وَضُعِّفَ بِخَالِدِ بْنِ إلْيَاسَ الْعَدَوِيِّ. وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ وَخَلَّلَ» . وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّهُ وَضَّأَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثٍ، فَرَأَيْتُهُ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ بِأَصَابِعِهِ كَأَنَّهَا أَسْنَانُ الْمُشْطِ» . وَفِيهِ أَضْرَمُ بْنُ غِيَاثٍ النَّيْسَابُورِيُّ مَتْرُوكٌ، وَمَا فِي الْهِدَايَةِ مِمَّا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ خَلِّلْ لِحْيَتَكَ» وَهُوَ مَعْلُولٌ بِالْهَيْثَمِ بْنِ جَمَّازٍ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا فِي أَبِي دَاوُد عَنْ أَنَسٍ:«كَانَ صلى الله عليه وسلم إذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ تَحْتَ حَنَكِهِ فَخَلَّلَ بِهِ لِحْيَتَهُ وَقَالَ: بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي» وَسَكَتَ عَنْهُ، وَكَذَا الْمُنْذِرِيُّ بَعْدَهُ، وَأَعَلَّهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِأَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ زَرْوَانَ مَجْهُولٌ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامِ: وَهُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِ مِنْ طَلَبِ زِيَادَةِ التَّعْدِيلِ مَعَ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ عَنْ الرَّاوِي. وَقَدْ رَوَى عَنْ الْوَلِيدِ هَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. فَهَذِهِ طُرُقٌ مُتَكَثِّرَةٌ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم لَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهَا ضَعِيفًا ثَبَتَتْ حُجِّيَّةُ الْمَجْمُوعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. فَكَيْفَ وَبَعْضُهَا لَا يَنْزِلُ عَنْ الْحَسَنِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله يَقُولُ: لَمْ يَثْبُتْ مِنْهَا الْمُوَاظَبَةُ بَلْ مُجَرَّدُ الْفِعْلِ، إلَّا فِي شُذُوذٍ مِنْ الطُّرُقِ فَكَانَ مُسْتَحَبًّا لَا سُنَّةً، لَكِنَّ مَا فِي أَبِي دَاوُد مِنْ قَوْلِهِ: بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي، لَمْ يَثْبُتْ ضَعْفُهُ، وَهُوَ مُغْنٍ عَنْ نَقْلِ صَرِيحِ الْمُوَاظَبَةِ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ تَعَالَى حَامِلٌ عَلَيْهَا
، فَيَتَرَجَّحُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ كَمَا رَجَّحَهُ فِي الْمَبْسُوطِ، وَيَتَضَاءَلُ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ مِنْ أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْوُضُوءِ مَا كَانَ إكْمَالًا لِلْفَرْضِ فِي مَحَلِّهِ، وَدَاخِلُ اللِّحْيَةِ لَيْسَ بِهِ بَعْدَ سَلَامَتِهِ فِي نَفْسِهِ مِمَّا نُقِضَ بِهِ مِنْ أَنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ سُنَّةٌ وَلَيْسَا فِي مَحَلِّهِ؛ إذْ لَيْسَ فِي الْوَجْهِ بِالْمَنْعِ، وَادِّعَاءِ أَنَّ مَحَلَّيْهِمَا مِنْهُ حُكْمًا إذْ لَهُمَا حُكْمُ الْخَارِجِ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَا يَفْسُدَ الصَّوْمُ بِإِدْخَالِهِمَا شَيْئًا.
(قَوْلُهُ وَتَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ) صِفَتُهُ فِي الرِّجْلَيْنِ أَنْ يُخَلِّلَ بِخِنْصِرِ يَدِهِ الْيُسْرَى خِنْصِرَ رِجْلِهِ الْيُمْنَى، وَيَخْتِمَ بِخِنْصِرِ رِجْلِهِ الْيُسْرَى فِي الْقُنْيَةِ، كَذَا وَرَدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِثْلُهُ فِيمَا يَظْهَرُ أَمْرٌ اتِّفَاقِيٌّ لَا سُنَّةٌ مَقْصُودَةٌ.
(قَوْلُهُ حَكَى لَا تَتَخَلَّلُهَا نَارُ جَهَنَّمَ) مُؤَدَّيْ التَّرْكِيبِ أَنَّ التَّخْلِيلَ يُرَادُ لِعَدَمِ التَّظَلُّلِ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّ عَدَمَ التَّخْلِيلِ مُسْتَلْزِمٌ تَخَلُّلَ النَّارِ إلَّا لَوْ كَانَتْ عِلَّةٌ مُسَاوِيَةٌ، وَهُوَ مُنْتَفٍ وَإِلَّا كَانَ التَّخْلِيلُ وَاجِبًا بَعْدَ اعْتِقَادِهِمْ حُجِّيَّةَ الْحَدِيثِ، لَكِنَّ الْمَعْدُودَ فِي السُّنَنِ التَّخْلِيلُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِوُصُولِ الْمَاءِ إلَى مَا بَيْنَهَا وَهُوَ لَيْسَ وَاجِبًا، وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ هُوَ مَقْرُونًا بِالْوَعِيدِ بِتَقْدِيرِ التَّرْكِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ضَمِّهِ فِي السُّؤَالِ الْقَائِلِ خَلِّلُوا يُفِيدُ الْوُجُوبَ فَكَيْفَ وَهُوَ مَقْرُونٌ بِالْوَعِيدِ ثُمَّ تَكَلَّفَ الْجَوَابَ بِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنْهُ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ، وَأَحَادِيثِ حِكَايَةِ وُضُوئِهِ صلى الله عليه وسلم، إذْ لَيْسَ فِيهَا التَّخْلِيلُ، وَالْوَعِيدُ مَصْرُوفٌ إلَى مَا إذَا لَمْ يَصِلْ الْمَاءُ بَيْنَ الْأَصَابِعِ، هَذَا وَمَتْنُ الْأَحَادِيثِ عَلَى مَا فِي الدَّارَقُطْنِيِّ: خَلِّلُوا أَصَابِعَكُمْ لَا يُخَلِّلُهَا اللَّهُ بِالنَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهُوَ ضَعِيفٌ بِيَحْيَى بْنِ مَيْمُونٍ التَّمَّارِ، نَعَمْ الْمُصَرَّحُ فِيهِ بِالْوَعِيدِ مَا فِي الطَّبَرَانِيِّ: مَنْ لَمْ يُخَلِّلْ أَصَابِعَهُ بِالْمَاءِ خَلَّلَهَا اللَّهُ بِالنَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَأَمْثَلُ أَحَادِيثِ التَّخْلِيلِ مَا فِي سُنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ. قَالَ: قَالَ صلى الله عليه وسلم «إذَا تَوَضَّأْتَ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى هُوَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
الْفَرْضِ فِي مَحَلِّهِ.
قَالَ (وَتَكْرَارُ الْغَسْلِ إلَى الثَّلَاثِ)«لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَقَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ، وَتَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ: هَذَا وُضُوءُ مَنْ يُضَاعِفُ اللَّهُ لَهُ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ، وَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَقَالَ: هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ قَبْلِي، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ تَعَدَّى وَظَلَمَ» . وَالْوَعِيدُ لِعَدَمِ رُؤْيَتِهِ سُنَّةٌ.
- رضي الله عنهما. قَالَ صلى الله عليه وسلم «إذَا تَوَضَّأْت فَخَلِّلْ أَصَابِعَ يَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ» وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ
، وَعِنْدِي أَنَّهَا كُلَّهَا لِلْوُجُوبِ
وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ بِإِيصَالِ الْمَاءِ إلَى مَا بَيْنَهَا إفَادَةُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا خَفِيَ مِمَّا هُوَ بَيْنَهَا كَمَا هُوَ فِي دَاخِلِ اللِّحْيَةِ، وَالتَّخْلِيلُ بَعْدَ هَذَا مُسْتَحَبٌّ لِعَدَمِ ثُبُوتِ الْمُوَاظَبَةِ مَعَ كَوْنِهِ إكْمَالًا فِي الْمَحَلِّ.
(قَوْلُهُ وَتَكْرَارُ الْغَسْلِ إلَى الثَّلَاثِ) قُيِّدَ بِهِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ لَا يُسَنُّ التَّكْرَارُ فِي الْمَسْحِ، ثُمَّ قِيلَ الْأَوَّلُ فَرِيضَةٌ وَالثَّانِي سُنَّةٌ وَالثَّالِثُ إكْمَالٌ، وَقِيلَ الثَّانِي وَالثَّالِثُ سُنَّةٌ، وَقِيلَ: الثَّانِي سُنَّةٌ وَالثَّالِثُ نَفْلٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْنَى الْأَوَّلِ، وَقِيلَ عَلَى عَكْسِهِ.
وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ الثَّلَاثُ تَقَعُ فَرْضًا كَإِطَالَةِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَنَحْوِهِ.
وَعِنْدِي أَنَّهُ إنْ كَانَ مَعْنَى الثَّانِي أَنَّ الثَّانِيَ مُضَافٌ إلَى الثَّالِثِ سُنَّةً: أَيْ الْمَجْمُوعَ فَهُوَ الْحَقُّ فَلَا يُوصَفُ الثَّانِي بِالسُّنِّيَّةِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ، فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لَا يُقَالُ فَعَلَ السُّنَّةَ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ لَيْسَ بِالشَّيْءِ، وَلَا الثَّالِثُ إذَا لَمْ يُلَاحَظْ مَعَ مَا قَبْلَهُ (قَوْلُهُ: وَالْوَعِيدُ لِعَدَمِ رُؤْيَتِهِ سُنَّةٌ) أَيْ هَذَا الْعَدَدُ وَهَذَا أَحَدُ مَا قِيلَ، فَلَوْ رَآهُ وَزَادَ لِقَصْدِ الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ أَوْ لِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ عِنْدَ الشَّكِّ أَوْ نَقَصَ لِحَاجَتِهِ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَقِيلَ أُرِيدَ بِهِ مُجَرَّدُ الْعَدَدِ.
وَقِيلَ: الزِّيَادَةُ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَالنَّقْصُ مِنْهَا وَتَعَدَّى يَرْجِعُ إذَا زَادَ وَظَلَمَ يَرْجِعُ إلَى نَقْصٍ، وَأَصْلُ الظُّلْمِ النَّقْصُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} أَيْ لَمْ تَنْقُصْ هَذَا.
وَالْحَدِيثُ بِمَجْمُوعِ هَذَا اللَّفْظِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، بَلْ صَدْرُهُ رُوِيَ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ يَرْفَعُونَهُ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ، وَضُعِّفَ بِالْمُسَيِّبِ بْنِ وَاضِحٍ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ يَرْفَعُهُ، وَضُعِّفَ بِزَيْدِ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ غَرَائِبِ مَالِكٍ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَضُعِّفَ بِعَلِيِّ بْنِ حَسَنٍ الشَّامِيِّ. وَأَمَّا عَجُزُهُ فَإِنَّمَا هُوَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الطَّهُورُ؟ فَدَعَا بِمَاءٍ فِي إنَاءٍ غَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ، وَبِالسَّبَّاحَتَيْنِ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ». وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ مَاجَهْ «تَعَدَّى وَظَلَمَ». وَلِلنَّسَائِيِّ:«أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ» . قَالَ فِي الْإِمَامِ: الْحَدِيثُ صَحِيحٌ عِنْدَ مَنْ يُصَحِّحُ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
قَالَ (وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُتَوَضِّئِ أَنْ يَنْوِيَ الطَّهَارَةَ) فَالنِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ فَلَا تَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ كَالتَّيَمُّمِ. وَلَنَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ قُرْبَةً إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَلَكِنَّهُ يَقَعُ مِفْتَاحًا لِلصَّلَاةِ لِوُقُوعِهِ طَهَارَةً بِاسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ،
لِصِحَّةِ الْإِسْنَادِ إلَى عَمْرٍو اهـ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمُحَدِّثُونَ فِيهِ وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى صِحَّتِهِ، فَجَمَعَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام وَنَسَبَهَا إلَيْهِ، وَلَا عَتْبَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْسُبُهُ إلَى صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ.
(قَوْلُهُ: وَيُسْتَحَبُّ إلَخْ) لَا سَنَدَ لِلْقُدُورِيِّ فِي الرِّوَايَةِ وَلَا فِي الدِّرَايَةِ فِي جَعْلِ النِّيَّةِ وَالِاسْتِيعَابِ وَالتَّرْتِيبِ مُسْتَحَبًّا غَيْرَ سُنَّةٍ، أَمَّا الرِّوَايَةُ فَنُصُوصُ الْمَشَايِخِ مُتَظَافِرَةٌ عَلَى السُّنِّيَّةِ، وَلِذَا خَالَفَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الثَّلَاثَةِ وَحَكَمَ بِسُنِّيَّتِهَا بِقَوْلِهِ فَالنِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ وَنَحْوُهُ فِي الْآخَرَيْنِ، وَأَمَّا الدِّرَايَةُ فَسَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقِيلَ أَرَادَ يُسْتَحَبُّ فِعْلُ هَذِهِ السُّنَّةِ لِلْخُرُوجِ عَنْ الْخِلَافِ فَإِنَّ الْخُرُوجَ عَنْهُ مُسْتَحَبٌّ، لَكِنَّ قَوْلَهُ بِالْمَيَامِنِ عَطْفًا عَلَى تَفْسِيرِ يُرَتِّبُ الْوُضُوءَ قَدْ يُعَكِّرُهُ، فَإِنَّ الْحَاصِلَ حِينَئِذٍ يُسْتَحَبُّ التَّرْتِيبُ، وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ وَبِالْمَيَامِنِ، وَالتَّيَامُنُ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَهُمْ بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ، وَقَدْ أَوْقَعَهُ فِي تَفْسِيرِ التَّرْتِيبِ فَيَكُونُ التَّرْتِيبُ بِذَلِكَ الْوَصْفِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ فَمِنْهُ أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَقَعُ بِلَا نِيَّةٍ إلَّا بِالْفِعْلِ مَعَ الْغَفْلَةِ وَالذُّهُولِ؛ إذْ الْفِعْلُ الِاخْتِيَارِيُّ لَا بُدَّ فِي تَحْقِيقِهِ مِنْ الْقَصْدِ إلَيْهِ، وَهُوَ إذَا قَصَدَ الْوُضُوءَ أَوْ رَفْعَ الْحَدَثَ أَوْ اسْتِبَاحَةَ مَا لَا يَحِلُّ إلَّا بِهِ كَانَ مَنْوِيًّا حَتَّى إنَّ صُورَةَ الْخِلَافِ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ فِي نَحْوِ مَنْ دَخَّلَ الْمَاءَ مَدْفُوعًا أَوْ مُخْتَارًا لِقَصْدِ التَّبَرُّدِ أَوْ مُجَرَّدِ قَصْدِ إزَالَةِ الْوَسَخِ، وَوُقُوعِ مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَاتِ لَهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ لَا يَتَحَقَّقُ، وَلَوْ تَحَقَّقَ فِي بَعْضِهَا لَا يَنْفِي السُّنِّيَّةَ؛ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِالتَّرْكِ أَصْلًا كَانَ وَاجِبًا، وَسَنَذْكُرُ الْوَجْهَ الْعَامَّ لِلثَّلَاثَةِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ فَلَا تَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: أَيْ صِحَّتُهَا وَاعْتِبَارُهَا شَرْعًا بِالنِّيَّاتِ، وَالْمُرَادُ الْعِبَادَاتُ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُبَاحَاتِ تُعْتَبَرُ شَرْعًا بِلَا نِيَّةٍ كَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ (قَوْلُهُ وَلَنَا) قَوْلٌ بِالْمُوجِبِ: أَيْ سَلَّمْنَا أَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ بِنِيَّةٍ، وَالْوُضُوءُ لَا يَقَعُ عِبَادَةً بِدُونِهَا وَبِذَلِكَ قَضَيْنَا عُهْدَةَ الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي هَذَا بَلْ فِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ حَتَّى لَمْ تَقَعْ عِبَادَةٌ سَبَبًا لِلثَّوَابِ فَهَلْ يَقَعُ الشَّرْطُ الْمُعْتَبَرُ لِلصَّلَاةِ حَتَّى تَصِحَّ بِهِ أَوْ لَا لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِهِ وَلَا إثْبَاتِهِ، فَقُلْنَا نَعَمْ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَقْصُودُ التَّحْصِيلِ لِغَيْرِهِ لَا لِذَاتِهِ فَكَيْفَ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَصَارَ كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَبَاقِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ لَا يَفْتَقِرُ اعْتِبَارُهَا إلَى أَنْ تُنْوَى،
بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ لِأَنَّ التُّرَابَ غَيْرُ مُطَهِّرٍ إلَّا فِي حَالِ إرَادَةِ الصَّلَاةِ، أَوْ هُوَ يُنْبِئُ عَنْ الْقَصْدِ (وَيَسْتَوْعِبُ رَأْسَهُ بِالْمَسْحِ) وَهُوَ سُنَّةٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ التَّثْلِيثُ بِمِيَاهٍ مُخْتَلِفَةٍ اعْتِبَارًا بِالْمَغْسُولِ. وَلَنَا أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَاحِدَةً وَقَالَ: هَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الشَّرْطَ وُضُوءٌ هُوَ عِبَادَةٌ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ.
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ) لِأَنَّ التُّرَابَ لَمْ يُعْتَبَرْ شَرْعًا مُطَهِّرًا إلَّا لِلصَّلَاةِ لَا فِي نَفْسِهِ فَكَانَ التَّطْهِيرُ بِهِ تَعَبُّدًا مَحْضًا، وَفِيهِ يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ، أَوْ هُوَ: أَيْ التَّيَمُّمُ يُنْبِئُ لُغَةً عَنْ الْقَصْدِ فَلَا يَتَحَقَّقُ دُونَهُ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ فَفَسَدَ قِيَاسُهُ عَلَى التَّيَمُّمِ، وَفِي كُلٍّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ نَظَرٌ نَذْكُرُهُ فِي التَّيَمُّمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالصَّوَابُ إفْسَادُهُ بِمَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ أَنْ لَا تَكُونَ شَرْعِيَّةُ حُكْمِ الْأَصْلِ مُتَأَخِّرَةً عَنْ حُكْمِ الْفَرْعِ، وَإِلَّا لَثَبَتَ حُكْمُ الْفَرْعِ بِلَا دَلِيلٍ، وَشَرْعِيَّةُ التَّيَمُّمِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ الْوُضُوءِ فَلَا يُقَاسُ الْوُضُوءُ عَلَى التَّيَمُّمِ فِي حُكْمِهِ لَكِنْ هَذَا إذَا قَصَدَ الْقِيَاسَ، أَمَّا إذَا قَصَدَ الِاسْتِدْلَالَ بِمَعْنَى لَمَّا شُرِعَ التَّيَمُّمُ بِشَرْطِ النِّيَّةِ ظَهَرَ وُجُوبُهَا فِي الْوُضُوءِ فَهُوَ بِمَعْنَى لَا فَارِقَ فَلَيْسَ جَوَابٌ إلَّا بِهِ كَمَا فِي الْكِتَابِ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ أَنَسًا إلَخْ) غَرِيبٌ، وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إلَى مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ رَاشِدٍ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحِمَّانِيُّ قَالَ:«رَأَيْتُ أَنَسًا بِالزَّاوِيَةِ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ كُنْتَ تُوَضِّئُهُ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، غَيْرَ أَنَّهُ أَمَرَّهُمَا عَلَى أُذُنَيْهِ فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا» . قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَهَذَا لَمْ أَجِدْهُ فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ، وَيُضَعِّفُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا
وَاَلَّذِي يُرْوَى مِنْ التَّثْلِيثِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ بِمَاءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ عَلَى مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلِأَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْمَسْحُ وَبِالتَّكْرَارِ يَصِيرُ غُسْلًا، وَلَا يَكُونُ مَسْنُونًا فَصَارَ كَمَسْحِ الْخُفِّ، بِخِلَافِ الْغُسْلِ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّكْرَارُ.
قَالَ (وَيُرَتِّبُ الْوُضُوءَ فَيَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَكَرِهِ
إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ عَلَى الرَّأْسِ ثَلَاثًا يَأْخُذُ لِكُلِّ مَسْحَةٍ مَاءً جَدِيدًا. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَآهُ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَمَسَحَ رَأْسَهُ وَأُذُنَيْهِ مَسْحَةً وَاحِدَةً. وَفِيهِ عِبَادَةُ بْنُ مَنْصُورٍ فِيهِ مَقَالٌ وَتَقَدَّمَتْ رِوَايَةُ أَصْحَابِ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ مَسَحَ مَرَّةً وَاحِدَةً وَفِيهِ ضَعْفٌ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُثْمَانَ فِي حِكَايَتِهِ مَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَقَوْلُ الزَّيْلَعِيِّ فِي الْمَعْزُوِّ إلَى مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ لَمْ أَجِدْهُ فِيهِ سَهْوٌ عَنْهُ، أَوْ كَانَ سَاقِطًا فِي نُسْخَتِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ وُجِدَ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ مُسْنَدِ إبْرَاهِيمَ الْبَغَوِيّ (قَوْلُهُ وَاَلَّذِي يُرْوَى) بِالتَّمْرِيضِ يُشْعِرُ بِضَعْفِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ شَقِيقٍ، وَفِيهِ ذَلِكَ الْمَقَالُ الْمُتَقَدِّمُ، قَالَ أَبُو دَاوُد: وَرَوَاهُ وَكِيعٌ عَنْ إسْرَائِيلَ فَقَالَ: تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا فَقَطْ.
قَالَ: وَأَحَادِيثُ عُثْمَانَ الصِّحَاحُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسْحَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا الْوُضُوءَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَقَالُوا: وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ لَمْ يَذْكُرُوا عَدَدًا انْتَهَى.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَلِيٍّ فِي حِكَايَتِهِ الْمَسْحَ ثَلَاثًا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ أَوْجُهٍ غَرِيبَةٍ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه تَكْرَارُ الْمَسْحِ، إلَّا أَنَّهُ مَعَ خِلَافِ الْحُفَّاظِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ (قَوْلُهُ وَهُوَ مَشْرُوعٌ) رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُجَرَّدِ إذَا مَسَحَ ثَلَاثًا بِمَاءٍ وَاحِدٍ كَانَ مَسْنُونًا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ تَقْرِيرِ الْكِتَابِ
وَبِالْمَيَامِنِ) فَالتَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فَرْضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةَ، وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ. وَلَنَا أَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا حَرْفُ الْوَاوِ وَهِيَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَتَقْتَضِي إعْقَابَ غَسْلِ جُمْلَةِ الْأَعْضَاءِ وَالْبُدَاءَةُ بِالْمَيَامِنِ فَضِيلَةٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّ اللَّه تَعَالَى يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى التَّنَعُّلِ وَالتَّرَجُّلِ» .
غَنِيٌّ عَنْ الْبَيَانِ.
(قَوْلُهُ وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ) فَيُفِيدُ وُجُوبَ تَعْقِيبِ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ بِغَسْلِ الْوَجْهِ فَيَلْزَمُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْوَجْهِ وَغَيْرِهِ فَيَلْزَمُ فِي الْكُلِّ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ إفَادَتَهَا تَعْقِيبَ الْقِيَامِ بِهِ بَلْ جُمْلَةَ الْأَعْضَاءِ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمُعَقَّبَ طَلَبُ الْغَسْلِ وَلَهُ مُتَعَلِّقَاتٌ وَصَلَ إلَى أَوَّلِهَا ذِكْرًا بِنَفْسِهِ، وَالْبَاقِي بِوَاسِطَةِ الْحَرْفِ الْمُشْرِكِ فَاشْتَرَكَتْ كُلُّهَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ إفَادَةِ طَلَبِ تَقْدِيمِ تَعْلِيقِهِ بِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْوُجُودُ، فَصَارَ مُؤَدَّى التَّرْكِيبِ طَلَبَ إعْقَابِ غَسْلِ جُمْلَةِ الْأَعْضَاءِ، وَهَذَا عَيْنُ مَا فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ عَيْنُ نَظِيرِ قَوْلِكَ اُدْخُلْ السُّوقَ فَاشْتَرِ لَنَا خُبْزًا وَلَحْمًا حَيْثُ كَانَ الْمُفَادُ إعْقَابَ الدُّخُولِ بِشِرَاءِ مَا ذُكِرَ فَكَيْفَ وَقَعَ، وَدَعْوَى الْمُصَنِّفِ إجْمَاعَ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ تَبَعٌ لَلْفَارِسِيِّ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ أَوْ لِلْقُرْآنِ (قَوْلُهُ وَالْبُدَاءَةُ بِالْمَيَامِنِ فَضِيلَةٌ) أَيْ مُسْتَحَبٌّ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ» وَهُوَ مَعْنَى مَا رَوَى السِّتَّةُ عَنْ عَائِشَةَ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ فِي طَهُورِهِ وَتَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَشَأْنِهِ كُلِّهِ» وَهُوَ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ اسْتِلْزَامِ الْمَحْبُوبِيَّةِ الْمُوَاظَبَةَ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُسْتَحَبَّاتِ مَحْبُوبَةٌ لَهُ صلى الله عليه وسلم، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ
(فَصْلٌ فِي نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ)
لَمْ يُوَاظِبْ عَلَى كُلِّهَا، وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَبَّةً بَلْ مَسْنُونَةً، لَكِنْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «إذَا تَوَضَّأْتُمْ فَابْدَءُوا بِمَيَامِنِكُمْ» وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا قَالَ فِي الْإِمَامِ: وَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُصَحَّحَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ حَكَى وُضُوءَهُ صلى الله عليه وسلم صَرَّحُوا بِتَقْدِيمِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى مِنْ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ الْمُوَاظَبَةَ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَحْكُونَ وُضُوءَهُ الَّذِي هُوَ دَأْبُهُ وَعَادَتُهُ فَيَكُونُ سُنَّةً، وَبِمِثْلِهِ ثَبَتَتْ سُنِّيَّةُ الِاسْتِيعَابِ؛ لِأَنَّهُمْ كَذَلِكَ حَكَوْا الْمَسْحَ.
وَفِي الْقُنْيَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ: إذَا دَاوَمَ عَلَى تَرْكِ اسْتِيعَابِ الرَّأْسِ بِغَيْرِ عُذْرٍ يَأْثَمُ كَأَنَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِظُهُورِ رَغْبَتِهِ عَنْ السُّنَّةِ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْكُلَّ سُنَّةٌ.
وَمَسْحُ الرَّقَبَةِ مُسْتَحَبٌّ بِظَهْرِ الْيَدَيْنِ لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِ بِلَتِّهِمَا، وَالْحُلْقُومُ بِدْعَةٌ.
وَقِيلَ مَسْحُ الرَّقَبَةِ أَيْضًا بِدْعَةٌ، وَفِيمَا قَدَّمْنَا مِنْ رِوَايَةِ الْيَامِيِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ الرَّقَبَةَ مَعَ مَسْحِ الرَّأْسِ.
وَفِي حَدِيثِ وَائِلِ الْمُقَدَّمِ: وَظَاهِرُ رَقَبَتِهِ. .
وَقِيلَ إنَّ مَسْحَ الْأُذُنَيْنِ أَدَبٌ.
وَمِنْ السُّنَنِ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، وَالْبُدَاءَةُ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ وَمِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَوَجْهُهُ عَلَى مَا عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْمَرَافِقَ وَالْكَعْبَيْنِ غَايَةَ الْغَسْلِ فَتَكُونُ مُنْتَهَى الْفِعْلِ.
[الْآدَابُ] تَرْكُ الْإِسْرَافِ وَالتَّقْتِيرِ وَكَلَامِ النَّاسِ وَالِاسْتِعَانَةِ.
وَعَنْ الْوَبَرِيِّ لَا بَأْسَ بِصَبِّ الْخَادِمِ، كَانَ عليه الصلاة والسلام يَصُبُّ الْمَاءُ عَلَيْهِ، وَالتَّمَسُّحِ بِخِرْقَةٍ يَمْسَحُ بِهَا مَوْضِعَ الِاسْتِنْجَاءِ.
وَمِنْهَا اسْتِقَاءُ مَائِهِ بِنَفْسِهِ، وَالْمُبَادَرَةُ إلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ، وَنَزْعُ خَاتَمٍ عَلَيْهِ اسْمُهُ تَعَالَى أَوْ اسْمُ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم حَالَ الِاسْتِنْجَاءِ، وَكَوْنُ آنِيَتِهِ مِنْ خَزَفٍ، وَأَنْ يَغْسِلَ عُرْوَةَ الْإِبْرِيقِ ثَلَاثًا وَوَضْعُهُ عَلَى يَسَارِهِ، وَإِنْ كَانَ إنَاءً يَغْتَرِفُ مِنْهُ فَعَنْ يَمِينِهِ، وَوَضْعُ يَدِهِ حَالَةَ الْغَسْلِ عَلَى عُرْوَتِهِ لَا رَأْسِهِ، وَالتَّأَهُّبُ بِالْوُضُوءِ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَذِكْرُ الشَّهَادَتَيْنِ عِنْدَ كُلِّ عُضْوٍ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الْوُضُوءِ، وَاسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَتَعَاهُدُ الْمُوقَيْنِ وَمَا تَحْتَ الْخَاتَمِ، وَالذِّكْرُ الْمَلْفُوظُ عِنْدَ كُلِّ عُضْوٍ، وَأَنْ لَا يَلْطِمَ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ، وَإِمْرَارُ الْيَدِ عَلَى الْأَعْضَاءِ الْمَغْسُولَةِ، وَالتَّأَنِّي، وَالدَّلْكُ خُصُوصًا فِي الشِّتَاءِ، وَتَجَاوُزُ حُدُودِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِيَسْتَيْقِنَ غَسَلَهُمَا، وَيُطِيلَ الْغُرَّةَ، وَقَوْلُ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ التَّوَّابِينَ إلَخْ، وَأَنْ يَشْرَبَ فَضْلَ وُضُوئِهِ قَائِمًا مُسْتَقْبِلًا، قِيلَ وَإِنْ شَاءَ قَاعِدًا، وَصَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ عَقِيبَهُ، وَمِلْءُ آنِيَتِهِ اسْتِعْدَادًا، وَحِفْظُ ثِيَابِهِ مِنْ الْمُتَقَاطَرِ، وَالِامْتِخَاطِ بِالشِّمَالِ عِنْدَ الِاسْتِنْشَاقِ وَيُكْرَهُ بِالْيَمِينِ، وَكَذَا إلْقَاءُ الْبُزَاقِ فِي الْمَاءِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ثَلَاثِ فِي غَسْلِ الْأَعْضَاءِ، وَبِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ
[تَتِمَّةٌ] شَكَّ فِي بَعْضِ وُضُوئِهِ قَبْلَ الْفَرَاغِ فَعَلَ مَا شَكَّ فِيهِ إنْ كَانَ أَوَّلَ شَكٍّ وَإِلَّا فَلَا عَلَيْهِ وَإِنْ شَكَّ بَعْدَهُ فَلَا مُطْلَقًا.
(فَصْلٌ فِي نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ)
الْمَعَانِي النَّاقِضَةُ لِلْوُضُوءِ كُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} «وَقِيلَ لِرَسُولِ صلى الله عليه وسلم مَا الْحَدَثُ؟ قَالَ: مَا يَخْرُجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ» وَكَلِمَةُ مَا عَامَّةٌ فَتَتَنَاوَلُ الْمُعْتَادَ وَغَيْرَهُ
النَّقْضُ فِي الْأَجْسَامِ: إبْطَالُ تَرْكِيبِهَا، وَفِي الْمَعَانِي: إخْرَاجُهَا عَنْ إفَادَةِ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْهَا (قَوْلُهُ كُلُّ مَا يَخْرُجُ) قِيلَ يَعْنِي خُرُوجَ مَا يَخْرُجُ لِيَصِحَّ الْإِخْبَارُ عَنْ الْمَعَانِي، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ النَّاقِضَ هُوَ النَّجَسُ الْخَارِجُ لَا خُرُوجُ الْمُخْرَجِ لِلنَّجَسِ عَنْ كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا لِلنَّقْضِ، مَعَ أَنَّ الضِّدَّ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي رَفْعِ ضِدِّهِ.
وَصِفَةِ النَّجَاسَةِ الرَّافِعَةِ لِلطَّهَارَةِ إنَّمَا هِيَ قَائِمَةٌ بِالْخَارِجِ، وَغَايَةِ الْخُرُوجِ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً تُحَقِّقُهَا صِفَةٌ شَرْعِيَّةٌ: أَعْنِي صِفَةَ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهَا شَرْعِيَّةٌ وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ إذْ بَعْدَ تَحَقُّقِهَا عَنْ عِلَّتِهَا هِيَ الْمُؤَثِّرَةِ لِلنَّقْضِ.
ثُمَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الَّذِي يَرْوِيهِ «مَا الْحَدَثُ؟ قَالَ: مَا يَخْرُجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ» ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُوجِبُ صَرْفَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ لَا إصْلَاحَ عِبَارَةِ بَعْضِ الْمُصَنِّفِينَ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ؛ إذْ الْمَعْنَى قَدْ لَا يُقَابِلُ الْجَوْهَرَ، فَإِنَّهُ يُقَالُ عَلَى الْمُرَادِ بِاللَّفْظِ جَوْهَرًا كَانَ أَوْ عَرَضًا، وَإِنَّمَا يُقَابِلُهُ الْعَرَضُ.
فَالنَّاقِضُ الْخَارِجُ النَّجَسُ، وَالْخُرُوجُ شَرْطُ عَمَلِ الْعِلَّةِ وَعِلَّةٌ لَهَا نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ عِلَّةُ تَحَقُّقِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ النَّجَاسَةُ وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ طَهَارَةٌ، فَإِضَافَةُ النَّقْضِ إلَى الْخُرُوجِ إضَافَةٌ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى) وَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ فِي عُمُومِ مَا يَخْرُجُ دُودَةً كَانَتْ أَوْ حَصَاةً أَوْ رِيحًا إلَّا مَا اسْتَثْنَى مِنْهُ، وَهُوَ الرِّيحُ الْخَارِجُ مِنْ الْقُبُلِ، وَالدُّودَةُ مِنْهُ.
وَأَمَّا
(وَالدَّمُ وَالْقَيْحُ إذَا خَرَجَا مِنْ الْبَدَنِ فَتَجَاوَزَا إلَى مَوْضِعٍ
الرِّيحُ مِنْ الذَّكَرِ فَهُوَ اخْتِلَاجٌ لَا رِيحٌ فَلَا يَنْقُضُ كَالرِّيحِ الْخَارِجَةِ مِنْ جِرَاحَةٍ فِي الْبَطْنِ أَنَّ الْغَائِطَ الْمُطْمَئِنَّ مِنْ الْأَرْضِ يُقْصَدُ لِلْحَاجَةِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ نَفْسُ الْمَجِيءِ مِنْهُ نَاقِضًا بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ الْخَارِجِ، وَإِذَا لَزِمَ فِيهِ كَوْنُهُ فِي لَازِمِهِ فَحَمَلَهُ عَلَى أَعَمِّ اللَّوَازِمِ وَهُوَ الْخَارِجُ النَّجَسُ أَوْلَى خُصُوصًا مَعَ مُنَاسَبَةِ النَّجَسِ مُطْلَقًا لِهَذَا الْحُكْمِ، كَذَا فِي شَرَحَ الْجَمْعِ.
وَقَدْ يُقَالُ: إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى إرَادَةِ أَعَمِّ اللَّوَازِمِ لِلْمَجِيءِ، وَالْخَارِجُ النَّجَسُ مُطْلَقًا لَيْسَ مِنْهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْغَائِطَ لَا يُقْصَدُ قَطُّ لِمُجَرَّدِ الرِّيحِ فَضْلًا عَنْ جُرْحِ إبْرَةٍ وَنَحْوِهِ، فَالْأَوْلَى كَوْنُهُ فِيمَا يَحِلُّهُ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى الرِّيحِ بِالْإِجْمَاعِ وَغَيْرِهِ بِالْخَبَرِ وَهُوَ مَا ذُكِرَ.
رَوَى مَعْنَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ وَلَيْسَ مِمَّا دَخَلَ» وَضُعِّفَ بِشُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ فِي الْكَامِلِ: بَلْ بِالْفَضْلِ بْنِ الْمُخْتَارِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: إنَّمَا يُحْفَظُ هَذَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ قَوْلِهِ، وَبِهَذَا «وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْمُسْتَحَاضَةِ: تَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ» عَيَّنَا حِينَئِذٍ أَصْلَ قِيَاسِ الْخَارِجِ النَّجَسِ السَّبِيلَيْنِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الِاعْتِيَادِ، وَفَرْعُهُ الْخَارِجُ النَّجَسُ مِنْ غَيْرِهِمَا فَيُحْتَجُّ عَلَى مَالِكٍ فِي نَفْيِ نَاقِضِيَّةِ غَيْرِ الْمُعْتَادِ وَالْخَارِجِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الِاعْتِيَادِ بِهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ الْخُرُوجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ يَتَحَقَّقُ بِالظُّهُورِ، فَلَوْ حُشِيَ الذَّكَرُ فَالِانْتِقَاضُ بِمُحَاذَاةِ بِلَّةِ الْحَشْوَةِ رَأْسُ الذَّكَرِ لَا بِنُزُولِهِ إلَى الْقَصَبَةِ وَإِلَى الْقُلْفَةِ فِيهِ خِلَافٌ.
وَالصَّحِيحُ النَّقْضُ فِيهِ: قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ إذَا خَرَجَ مِنْ فَرْجِهَا بَوْلٌ وَلَمْ يَظْهَرْ.
وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَجِبُ عَلَى الْجُنُبِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ خِلْقَةٌ كَقَصَبَةِ الذَّكَرِ اهـ.
لَكِنْ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ إنَّمَا عَلَّلَهُ بِالْحَرَجِ لَا بِالْخِلْقَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فَلَا يُرَدُّ الْإِشْكَالُ، وَلَوْ احْتَشَتْ فِي الْفَرْجِ الدَّاخِلِ فَالنَّقْضُ بِمُحَاذَاةِ حَرْفِهِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ إذَا عَلِمَتْ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تُحْشِهِ لَخَرَجَ نَقَضَ، وَلَوْ أَدْخَلَتْ أُصْبُعَهَا فِيهِ نَقَضَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ بِلَّةٍ، وَكَذَا الْعُودُ فِي الدُّبُرِ كَالْمِحْقَنَةِ وَغَيْرِهَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْبِلَّةُ إذَا كَانَ طَرَفٌ مِنْهُ خَارِجًا وَلَوْ غَيَّبَهُ نَقَضَ إذَا أَخْرَجَ بِلَا تَفْصِيلٍ فِي الْفَتَاوَى وَالتَّجْنِيسِ.
وَكَذَا الْقُطْنَةُ إذَا غَيَّبَهَا فِي الْإِحْلِيلِ ثُمَّ خَرَجَتْ وَلَوْ ابْتَلَّتْ بِالْبَوْلِ، وَلَمْ تُجَاوِزْ رَأْسَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَوْلَاهَا خَرَجَ لَمْ يَنْقُضْ، وَالْمَجْبُوبُ إذَا ظَهَرَ بَوْلُهُ بِمَوْضِعِ الْجَبِّ إنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إمْسَاكِهِ مَتَى شَاءَ نَقَضَ، وَإِلَّا فَحَتَّى يَسِيلَ؛ لِأَنَّهُ كَالْجُرْحِ، وَلَوْ كَانَ بِهِ حَصَاةٌ فَبَطَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ وَأَخْرَجَهَا فَاسْتَمَالَ الْبَوْلُ إلَيْهِ فَكَالْجُرْحِ، وَإِنْ كَانَ بِذَكَرِهِ بَطٌّ، أَيْ شَقٌّ لَهُ رَأْسَانِ أَحَدُهُمَا يَخْرُجُ مِنْهُ مَاءٌ يَسِيلُ فِي مَجْرَى الذَّكَرِ وَالْآخَرُ فِي غَيْرِهِ، فَفِي الْأَوَّلِ يَنْقُضُ بِالظُّهُورِ وَفِي الثَّانِي بِالسَّيَلَانِ، وَإِذَا تَبَيَّنَ الْخُنْثَى أَنَّهُ امْرَأَةٌ فَذَكَرُهُ كَالْجُرْحِ أَوْ رَجُلٌ فَفَرْجُهُ كَالْجُرْحِ وَيَنْتَقِضُ فِي الْآخَرِ بِالظُّهُورِ، وَلَوْ أَقْطَرَ فِي إحْلِيلِهِ دُهْنًا فَسَالَ مِنْهُ لَا يُنْقَضُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، بِخِلَافِ مَا إذَا احْتَقَنَ بِالدُّهْنِ ثُمَّ سَالَ حَيْثُ يُعِيدُ الْوُضُوءَ لِاخْتِلَاطِهِ بِالنَّجَاسَةِ، بِخِلَافِ الْإِحْلِيلِ لِلْحَائِلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَوْ احْتَشَتْ فِي فَرْجِهَا الْخَارِجَ فَمَا لَمْ تَبْتَلَّ أَوْ تَصِلْ الْبِلَّةُ إلَى حَرْفِ الدَّاخِلِ لَا يَنْقُضُ، أَوْ فِي الدَّاخِلِ فَسَدَ الصَّوْمُ وَلَا يَنْقُضُ (قَوْلُهُ فَتَجَاوَزَا) عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ، فَإِنَّ
يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ)، (وَالْقَيْءُ مِلْءَ الْفَمِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَاءَ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ» وَلِأَنَّ غَسْلَ غَيْرِ مَوْضِعِ الْإِصَابَةِ أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ
الْخُرُوجَ فِي غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ هُوَ تَجَاوُزُ النَّجَاسَةِ إلَى مَوْضِعِ التَّطْهِيرِ، فَالْمَعْنَى إذَا خَرَجَا بِأَنْ تَجَاوَزَا إلَّا أَنْ يُحْمَلَ الْخُرُوجُ عَلَى الظُّهُورِ فَلَيْسَ بِهِ، وَالْمَعْنَى إذَا ظَهَرَا فَتَجَاوَزَا، فَلَوْ خَرَجَ مِنْ جُرْحٍ فِي الْعَيْنِ دَمٌ فَسَالَ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنْهَا لَا يُنْتَقَضُ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ حُكْمٌ هُوَ وُجُوبُ التَّطْهِيرِ أَوْ نَدْبُهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَزَلَ مِنْ الرَّأْسِ إلَى مَا لَانَ مِنْ الْأَنْفِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْجَنَابَةِ وَمِنْ النَّجَاسَةِ فَيُنْقَضُ، وَلَوْ رَبَطَ الْجُرْحَ فَنَفَذَتْ الْبِلَّةُ إلَى طَاقٍ لَا إلَى الْخَارِجِ نَقَضَ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَوْلَا الرَّبْطُ سَالَ؛ لِأَنَّ الْقَمِيصَ لَوْ تَرَدَّدَ عَلَى الْجُرْحِ فَابْتَلَّ لَا يَنْجُسُ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ، وَلَوْ بَزَقَ فَخَرَجَ فِيهِ دَمٌ قَدْرَ الرِّيقِ نَقَضَ لَا إنْ كَانَ الرِّيقُ غَالِبًا، وَلَوْ أَخَذَهُ مِنْ رَأْسِ الْجُرْحِ قَبْلَ أَنْ يَسِيلَ مَرَّةً فَمَرَّةً إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ تَرَكَهُ سَالَ نَقَضَ وَإِلَّا لَا.
وَفِي الْمُحِيطِ: حَدُّ السَّيْلَانِ أَنْ يَعْلُوَ وَيَنْحَدِرَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ إذَا انْتَفَخَ عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ وَصَارَ أَكْبَرَ مِنْ رَأْسِهِ نَقَضَ، وَالصَّحِيحُ لَا يُنْقَضُ.
وَفِي الدِّرَايَةِ جَعَلَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ أَصَحَّ، وَمُخْتَارُ السَّرَخْسِيِّ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَوْلَى.
وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ: تَوَرَّمَ رَأْسُ الْجُرْحِ فَظَهَرَ بِهِ قَيْحٌ وَنَحْوُهُ لَا يَنْقُضُ مَا لَمْ يُجَاوِزْ الْوَرَمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ مَوْضِعِ الْوَرَمِ فَلَمْ يَتَجَاوَزْ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ، ثُمَّ الْجُرْحُ وَالنُّقْطَةُ وَمَاءُ الثَّدْيِ وَالسُّرَّةُ وَالْأُذُنُ إذَا كَانَ لِعِلَّةٍ سَوَاءٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: مَنْ رَمِدَتْ عَيْنُهُ وَسَالَ الْمَاءُ مِنْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ.
فَإِذَا اسْتَمَرَّ فَلِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ.
وَفِي التَّجْنِيسِ الْغَرَبُ فِي الْعَيْنِ إذَا سَالَ مِنْهُ مَاءٌ نَقَضَ؛ لِأَنَّهُ كَالْجُرْحِ وَلَيْسَ بِدَمْعٍ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْ سُرَّتِهِ مَاءٌ أَصْفَرُ وَسَالَ نَقَضَ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ قَدْ نَضِجَ فَاصْفَرَّ وَصَارَ رَقِيقًا.
وَالْغَرَبُ بِالتَّحْرِيكِ: وَرَمٌ فِي الْمَآقِي، وَفِي الْمُحِيطِ: مَصَّ الْقُرَادَ فَامْتَلَأَ إنْ كَانَ صَغِيرًا لَا يُنْقَضُ كَمَا لَوْ مَصَّ الذُّبَابُ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا نَقَضَ كَمَصِّ الْعَلَقَةِ (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إلَخْ) حَاصِلُ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ لَا يُنْقَضُ مُطْلَقًا، وَيَنْقُضُ عِنْدَ زُفَرَ مُطْلَقًا سَالَ أَوْ لَا، امْتَلَأَ الْفَمُ مِنْ الْقَيْءِ أَوْ لَا، وَعِنْدَنَا يَنْقُضُ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ وَكُلٌّ رَوَى لِمَذْهَبِهِ مَا يُؤَيِّدُهُ وَلْنَتَكَلَّمْ عَلَيْهَا.
أَمَّا حَدِيثُ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَاءَ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ» فَلَمْ يُعْرَفْ.
وَأَمَّا حَدِيثُ «الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ» فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفَةٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ أُخْرَى وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ أَحْمَدَ بْنِ فَرُّوخَ، وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ وَلَكِنَّهُ يَكْتُبُ، فَإِنَّ النَّاسَ مَعَ ضَعْفِهِ قَدْ احْتَمَلُوا حَدِيثَهُ اهـ لَكِنْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ: قَدْ كَتَبْنَا عَنْهُ وَمَحَلُّهُ عِنْدَنَا
وَهُوَ الْمَخْرَجُ الْمُعْتَادُ، وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ»
الصِّدْقُ، وَقَدْ تَظَافَرَ مَعَهُ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ:«جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ لَا: إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ» قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: قَالَ أَبِي: «ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ» وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ كَلَامُ عُرْوَةَ، وَدُفِعَ بِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ لَقَالَ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، فَلَمَّا قَالَ تَوَضَّئِي عَلَى مُشَاكَلَةِ الْأَوَّلِ الْمَنْقُولِ لَزِمَ كَوْنُهُ مِنْ قَائِلِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا لِأَنَّ لَفْظَ اغْسِلِي خِطَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِفَاطِمَةَ وَلَيْسَ عُرْوَةُ مُخَاطِبًا لَهَا لِيَكُونَ قَوْلُهُ ثُمَّ تَوَضَّئِي خِطَابًا مِنْهُ لَهَا فَلَزِمَ كَوْنُهُ مِنْ الْمُخَاطِبِ بِالْأَوَّلِ، وَهُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ كَذَلِكَ وَلَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَفْظُهُ «وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ» وَصَحَّحَهُ.
وَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى غَسْلِ مَحَاجِمِهِ» فَضَعِيفٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ» إلَى آخِرِهِ فَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلَسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ» . وَلَفْظُ ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَالَ الْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ جُرَيْجٍ: يَرْوُونَهُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا انْتَهَى. وَقَدْ تُكَلِّمَ فِي ابْنِ عَيَّاشٍ. وَجُمْلَةُ الْحَاصِلِ فِيهِ أَنَّهُ يُحْتَجُّ مِنْ حَيْثُ الشَّامِيِّينَ لَا الْحِجَازِيِّينَ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ جِهَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا وَقَالَ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، ثُمَّ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ بِتَقْدِيرِ الصِّحَّةِ يُحْمَلُ عَلَى غَسْلِ الدَّمِ لَا وُضُوءِ الصَّلَاةِ، وَدُفِعَ بِأَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِلَّا لَبَطَلَتْ الصَّلَاةُ فَلَمْ يَجُزْ الْبِنَاءُ. وَابْنُ عَيَّاشٍ قَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَزَادَ فِي الْإِسْنَادِ عَنْ عَائِشَةَ وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَالْمُرْسَلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ حُجَّةٌ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةٌ فِيهِ مِنْ الْآثَارِ فِي بَابِ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ أَعَادَهُ فِيهِ، وَالْأَفْصَحُ فِي رَعَفَ الْفَتْحُ، وَالْقَلْسُ: الْخَارِجُ مِنْ الْغَثَيَانِ.
وَالْقَيْءُ مَعَ سُكُونِ النَّفَسِ يَكُونُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ بِسَنَدِهِ إلَى مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَاءَ فَتَوَضَّأَ، قَالَ: فَلَقِيت ثَوْبَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: صَدَقَ أَنَا صَبَبْتُ لَهُ وَضُوءَهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ. وَأَعَلَّهُ الْخَصْمُ بِالِاضْطِرَابِ. فَإِنَّ مَعْمَرًا رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ يَعِيشَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْأَوْزَاعِيَّ. وَأُجِيبَ أَنَّ اضْطِرَابَ بَعْضِ الرُّوَاةِ لَا يُؤَثِّرُ
وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ»
فِي ضَبْطِ غَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَحْمَدَ قَدْ اضْطَرَبُوا فِي هَذَا الْحَدِيثِ. فَقَالَ: قَدْ جَوَّدَهُ حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، وَقَدْ قَالَ الْحَاكِمُ: هُوَ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ.
وَفِي مُصَنِّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: إذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ رُزْءًا أَوْ رُعَافًا أَوْ قَيْئًا فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ، فَإِنْ تَكَلَّمَ اسْتَقْبَلَ وَلَا اعْتَدَّ بِمَا مَضَى وَالْحَارِثُ ضُعِّفَ، وَمِثْلُهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عُمَرَ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا عَنْهُ صلى الله عليه وسلم وَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمُضِيِّ فِي الصَّلَاةِ لِذَلِكَ الصَّحَابِيِّ الَّذِي جُرِحَ فِي الصَّلَاةِ بِلَا مِرْيَةٍ
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: لَمْ يَصِحَّ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ وَعَدَمِهِ بِالدَّمِ وَالْقَيْءِ وَالضَّحِكِ حَدِيثٌ إنْ سَلِمَ لَمْ يَقْدَحْ؛ لِأَنَّ الْحُجِّيَّةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الصِّحَّةِ بَلْ الْحَسَنُ كَافٍ عَلَى أَنَّهُ رَأَى هَذَا الْقَائِلَ، فَأَمَّا مُجْتَهِدٌ عَلِمَ بِالِاخْتِلَافِ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ وَغَلَبَ عَلَى رَأْيِهِ صِحَّتُهُ فَهُوَ صَحِيحٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، إذْ مُجَرَّدُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّرْجِيحِ وَثُبُوتِ الصِّحَّةِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْقَلَسِ حَدَثَ فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَفِي الْإِطْلَاقِ الْكَائِنِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَيَّاشٍ غُنْيَةً عَنْهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ «لَيْسَ فِي الْفِطْرَةِ» إلَى آخِرِهِ فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَطِيَّةَ وَفِي الْآخَرِ حَجَّاجُ بْنُ نُصَيْرٍ وَقَدْ ضُعِّفَا، وَلَفْظَةُ الْقَطْرَةِ وَالْقَطْرَتَيْنِ كِنَايَةٌ عَلَى الْقِلَّةِ، وَلَفْظُ سَائِلًا كِنَايَةٌ عَنْ الْكَثْرَةِ، فَإِنَّ لَفْظَةَ الْقَطْرَةِ فِي الْعُرْفِ يُرَادُ بِهِ الْقِلَّةُ وَضِدُّهُ مَاءٌ سَائِلٌ، وَإِلَّا فَحَقِيقَةُ الْقَطْرَةِ إذَا وُجِدَتْ نُقِضَ اتِّفَاقًا فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِطَرِيقٍ صِنَاعِيٍّ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ أَوْ دَسْعَةٌ تَمْلَأُ الْفَمَ فَلَمْ يُعْرَفْ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْخِلَافِيَّاتِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: «يُعَادُ الْوُضُوءُ مِنْ سَبْعٍ: مِنْ إقْطَارِ الْبَوْلِ وَالدَّمِ السَّائِلِ وَالْقَيْءِ، وَمِنْ دَسْعَةٍ تَمْلَأُ الْفَمَ، وَنَوْمِ الْمُضْطَجِعِ، وَقَهْقَهَةِ الرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ، وَخُرُوجِ الدَّمِ» . وَفِيهِ سَهْلُ بْنُ عَفَّانَ وَالْجَارُودُ بْنُ يَزِيدَ وَهُمَا ضَعِيفَانِ، فَحَصَلَ لَنَا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ حُجِّيَّةُ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ وَحَدِيثِ ابْنِ عَيَّاشٍ وَحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءَ فَلَا يُعَارِضُهَا غَيْرُهَا مِمَّا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَلَوْ أَرْخَيْنَا الْعِنَانَ وَجَعَلْنَاهَا تَتَعَارَضُ فَإِنْ جَمَعْنَا، وَهُوَ أَوْلَى عِنْدَ الْإِمْكَانِ كَانَ مَحْمَلُ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى الْقَلِيلِ فِي الْقَيْءِ وَمَا لَمْ يَسِلْ، وَمَا رَوَاهُ زُفَرُ عَلَى الْكَثِيرِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَإِنْ أَسْقَطْنَاهَا صِرْنَا إلَى الْقِيَاسِ وَهُوَ مَا ذُكِرَ بِقَوْلِهِ: إنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ مُؤَثِّرٌ فِي زَوَالِ الطَّهَارَةِ شَرْعًا، وَهَذَا الْقَدْرُ فِي الْأَصْلِ مَعْقُولٌ: أَيْ عُقِلَ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْخَارِجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ أَنَّ زَوَالَ الطَّهَارَةِ عِنْدَهُ وَهُوَ الْحُكْمُ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ أَنَّهُ نَجَسٌ خَارِجٌ مِنْ الْبَدَنِ إذْ لَمْ يَظْهَرْ لِكَوْنِهِ مِنْ خُصُوصِ السَّبِيلَيْنِ تَأْثِيرٌ، وَقَدْ وُجِدَ فِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِهِمَا فَيَتَعَدَّى الْحُكْمُ إلَيْهِ، فَالْأَصْلُ الْخَارِجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ، وَحُكْمُهُ زَوَالُ طَهَارَةٍ يُوجِبُهَا الْوُضُوءُ، وَعِلَّتُهُ خُرُوجُ النَّجَاسَةِ مِنْ الْبَدَنِ، وَخُصُوصُ الْمَحَلِّ مُلْغَى.
وَلِأَنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ مُؤَثِّرٌ فِي زَوَالِ الطَّهَارَةِ، وَهَذَا الْقَدْرُ فِي الْأَصْلِ مَعْقُولٌ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ غَيْرُ مَعْقُولٍ لَكِنَّهُ يَتَعَدَّى ضَرُورَةَ تَعَدِّي الْأَوَّلِ، غَيْرَ أَنَّ الْخُرُوجَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالسَّيَلَانِ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ، وَبِمِلْءِ الْفَمِ فِي الْقَيْءِ لِأَنَّ بِزَوَالِ الْقِشْرَةِ تَظْهَرُ النَّجَاسَةُ فِي مَحَلِّهَا فَتَكُونُ بَادِيَةً لَا خَارِجَةً، بِخِلَافِ السَّبِيلَيْنِ
وَالْفَرْعُ الْخَارِجُ النَّجَسُ مِنْ غَيْرِهِمَا وَفِيهِ الْمَنَاطُ فَيَتَعَدَّى إلَيْهِ زَوَالُ الطَّهَارَةِ الَّتِي يُوجِبُهَا الْوُضُوءُ فَثَبَتَ أَنَّ مُوجِبَ هَذَا الْقِيَاسِ ثُبُوتُ زَوَالِ طَهَارَةِ الْوُضُوءِ، وَإِذَا صَارَ زَائِلُ طَهَارَتِهِ فَعِنْدَ إرَادَةِ الصَّلَاةِ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ خِطَابُ الْوُضُوءِ وَهُوَ تَطْهِيرُ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ تَعْدِيَةِ الِاقْتِصَارِ ضِمْنًا أَصْلًا كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَالِاشْتِغَالِ بِتَقْرِيرِهِ كَمَا فِي الشُّرُوحِ، وَإِذَا صَارَ خُرُوجُ النَّجَاسَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ كَخُرُوجِهَا مِنْ السَّبِيلَيْنِ يَرِدُ أَنْ يُقَالَ: فَلِمَ اشْتَرَطْتُمْ لِلنَّقْضِ فِي غَيْرِهِمَا السَّيَلَانَ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِمَا؟ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: غَيْرَ أَنَّ الْخُرُوجَ إلَى آخِرِهِ:
لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَضْعَ لَيْسَ بِمَوْضِعِ النَّجَاسَةِ فَيُسْتَدَلُّ بِالظُّهُورِ عَلَى الِانْتِقَالِ وَالْخُرُوجِ، وَمِلْءُ الْفَمِ أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ إلَّا بِتَكَلُّفٍ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ ظَاهِرًا فَاعْتُبِرَ خَارِجًا. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: قَلِيلُ الْقَيْءِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ، وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ
أَيْ النَّقْضَ بِالْخُرُوجِ، وَحَقِيقَتُهُ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ وَذَلِكَ بِالظُّهُورِ فِي السَّبِيلَيْنِ يَتَحَقَّقُ لَا بِالظُّهُورِ فِي غَيْرِهِمَا وَبَيَانُهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ، وَاشْتِرَاطُ مِلْءِ الْفَمِ بِأَنْ لَا يُمْكِنَهُ ضَبْطُهُ إلَّا بِتَكَلُّفٍ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَخْرُجُ ظَاهِرًا فَاعْتُبِرَ خَارِجًا مُلَاحَظَةً
السَّيَلَانُ عِنْدَهُ اعْتِبَارًا بِالْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ، وَلِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْقَلَسُ حَدَثٌ». وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ فِي الْقَطْرَةِ وَالْقَطْرَتَيْنِ مِنْ الدَّمِ وُضُوءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ سَائِلًا» وَقَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه حِينَ عَدَّ الْأَحْدَاثَ جُمْلَةً: أَوْ دَسْعَةً تَمْلَأُ الْفَمَ. وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْأَخْبَارُ يُحْمَلُ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله عَلَى الْقَلِيلِ، وَمَا رَوَاهُ زُفَرُ رحمه الله عَلَى الْكَثِيرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْلَكَيْنِ قَدْ بَيَّنَّاهُ.
وَلَوْ قَاءَ مُتَفَرِّقًا بِحَيْثُ لَوْ جُمِعَ يَمْلَأُ الْفَمَ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يُعْتَبَرُ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ،
لِبُطُونِ الْفَمِ فَإِنَّ لَهُ بُطُونًا مُعْتَبَرًا شَرْعًا، حَتَّى لَوْ ابْتَلَعَ الصَّائِمُ رِيقَهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ، كَمَا لَوْ انْتَقَلَتْ النَّجَاسَةُ مِنْ مَحَلٍّ إلَى آخَرَ فِي الْجَوْفِ وَظُهُورًا حَتَّى لَا يَفْسُدَ الصَّوْمُ بِإِدْخَالِ الْمَاءِ فِيهِ فَرَاعَيْنَا الشَّبَهَيْنِ، فَلَا يَنْقُضُ الْقَلِيلُ مُلَاحَظَةً لِلْبُطُونِ وَيَنْقُضُ الْكَثِيرُ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ ظَاهِرًا إذَا لَمْ يَضْبِطْهُ إلَّا بِتَكَلُّفٍ، وَقِيلَ: أَنْ يَزِيدَ عَلَى نِصْفِ الْفَمِ.
وَقِيلَ: أَنْ يَعْجَزَ عَنْ إمْسَاكِهِ، وَقِيلَ: أَنْ يَمْنَعَهُ الْكَلَامَ، وَقِيلَ أَنْ يُجَاوِزَ الْفَمَ، وَالْأَصَحُّ مَا فِي الْكِتَابِ (قَوْلُهُ بَيْنَ الْمَسْلَكَيْنِ)
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله يُعْتَبَرُ اتِّحَادُ السَّبَبِ وَهُوَ الْغَثَيَانُ، ثُمَّ مَا لَا يَكُونُ حَدَثًا لَا يَكُونُ نَجَسًا، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجَسٍ حُكْمًا حَيْثُ لَمْ تَنْتَقِضْ بِهِ الطَّهَارَةُ
يَعْنِي السَّبِيلَيْنِ وَغَيْرَهُمَا (قَوْلُهُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: إنَّهُ نَجِسٌ، وَكَانَ الْإِسْكَافُ وَالْهِنْدُوانِيُّ يُفْتِيَانِ بِقَوْلِهِ، وَجَمَاعَةٌ اعْتَبَرُوا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ رِفْقًا بِأَصْحَابِ الْقُرُوحِ حَتَّى لَوْ أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ
(وَهَذَا إذَا قَاءَ مُرَّةً أَوْ طَعَامًا أَوْ مَاءً، فَإِنْ قَاءَ بَلْغَمًا فَغَيْرُ نَاقِضٍ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله نَاقِضٌ إذَا كَانَ مِلْءَ الْفَمِ، وَالْخِلَافُ فِي الْمُرْتَقِي مِنْ الْجَوْفِ. أَمَّا النَّازِلُ مِنْ الرَّأْسِ فَغَيْرُ نَاقِضٍ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ لَيْسَ بِمَوْضِعِ النَّجَاسَةِ.
لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ نَجِسٌ بِالْمُجَاوَرَةِ، وَلَهُمَا أَنَّهُ لَزِجٌ لَا تَتَخَلَّلُهُ النَّجَاسَةُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ قَلِيلٌ وَالْقَلِيلُ فِي الْقَيْءِ غَيْرُ نَاقِضٍ (وَلَوْ قَاءَ دَمًا وَهُوَ عَلَقٌ) (يُعْتَبَرُ فِيهِ مِلْءُ الْفَمِ
الدِّرْهَمِ لَا تَمْتَنِعُ الصَّلَاةُ فِيهِ، مَعَ أَنَّ الْوَجْهَ يُسَاعِدُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْخَارِجَ بِوَصْفِ النَّجَاسَةِ حَدَثٌ، وَأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ قَبْلَ الْخُرُوجِ لَا يَثْبُتُ شَرْعًا وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ لِإِنْسَانٍ طَهَارَةٌ، فَلَزِمَ أَنَّ مَا لَيْسَ حَدَثًا لَمْ يُعْتَبَرْ خَارِجًا شَرْعًا، وَمَا لَمْ يُعْتَبَرْ خَارِجًا لَمْ يُعْتَبَرْ نَجِسًا، فَلَوْ أَخَذَ مِنْ الدَّمِ الْبَادِي فِي مَحَلِّهِ بِقُطْنَةٍ وَأَلْقَى فِي الْمَاءِ لَمْ يَتَنَجَّسْ (قَوْلُهُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ قَلِيلٌ وَالْقَلِيلُ فِي الْقَيْءِ غَيْرُ نَاقِضٍ) وَعَلَى هَذَا يَظْهَرُ مَا فِي الْمُجْتَبَى عَنْ الْحَسَنِ لَوْ تَنَاوَلَ طَعَامًا أَوْ مَاءً ثُمَّ قَاءَ مِنْ سَاعَتِهِ لَا يُنْتَقَضُ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ حَيْثُ لَمْ يَسْتَحِلْ، وَإِنَّمَا اتَّصَلَ بِهِ قَلِيلُ الْقَيْءِ فَلَا يَكُونُ حَدَثًا فَلَا يَكُونُ نَجِسًا، وَكَذَا الصَّبِيُّ إذَا ارْتَضَعَ وَقَاءَ مِنْ سَاعَتِهِ.
قِيلَ: هُوَ الْمُخْتَارُ، وَمَا فِي الْقُنْيَةِ: لَوْ قَاءَ دُودًا كَثِيرًا أَوْ حَيَّةً مَلَأَتْ فَاهُ لَا يُنْقَضُ، وَلَوْ قَاءَ بَلْغَمًا وَطَعَامًا إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلطَّعَامِ وَكَانَ بِحَالٍ لَوْ انْفَرَدَ يَبْلُغُ مِلْءَ الْفَمِ تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ انْفَرَدَ الْبَلْغَمُ مَلَأَهُ فَعَلَى الْخِلَافِ.
وَإِنْ كَانَا سَوَاءً لَا يُنْقَضُ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ.
وَفِي صَلَاةِ الْمُحْسَنِ قَالَ: الْعِبْرَةُ لِلْغَالِبِ، وَلَوْ اسْتَوَيَا يُعْتَبَرُ كُلٌّ عَلَى حِدَةٍ.
وَعَجْزُ هَذَا أَوْلَى مِنْ عَجْزِ مَا فِي الْخُلَاصَةِ.
هَذَا وَكَانَ الطَّحَاوِيُّ يَمِيلُ إلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ الْأَرْكَانِ كَالدَّمِ وَالصَّفْرَاءِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِطَرَفِ كُمِّهِ.
وَأُلْحِقَ بِالْقَيْءِ مَاءُ فَمِ النَّائِمِ إذَا صَعِدَ
لِأَنَّهُ سَوْدَاءُ مُحْتَرِقَةٌ) وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله اعْتِبَارًا بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ، وَعِنْدَهُمَا إنْ سَالَ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا لِأَنَّ الْمَعِدَةَ لَيْسَتْ بِمَحَلِّ الدَّمِ فَيَكُونُ مِنْ قُرْحَةٍ فِي الْجَوْفِ
(وَلَوْ)(نَزَلَ) مِنْ الرَّأْسِ (إلَى مَا لَانَ مِنْ الْأَنْفِ)(نَقَضَ بِالِاتِّفَاقِ) لِوُصُولِهِ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ فَيَتَحَقَّقُ الْخُرُوجُ (وَالنَّوْمُ مُضْطَجِعًا أَوْ مُتَّكِئًا أَوْ مُسْتَنِدًا إلَى شَيْءٍ لَوْ أُزِيلَ عَنْهُ لَسَقَطَ) لِأَنَّ الِاضْطِجَاعَ سَبَبٌ لِاسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ فَلَا يَعْرَى عَنْ خُرُوجِ شَيْءٍ عَادَةً، وَالثَّابِتُ عَادَةً كَالْمُتَيَقَّنِ بِهِ، وَالِاتِّكَاءُ يُزِيلُ مَسْكَةَ الْيَقَظَةِ لِزَوَالِ الْمَقْعَدِ عَنْ الْأَرْضِ، وَيَبْلُغُ الِاسْتِرْخَاءُ
مِنْ الْجَوْفِ بِأَنْ كَانَ أَصْفَرَ أَوْ مُنْتِنًا عَنْ أَبِي نَصْرٍ، وَعَنْ أَبِي اللَّيْثِ هُوَ كَالْبَلْغَمِيِّ، وَقِيلَ نَجِسٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي اللَّيْثِ: وَلَوْ نَزَلَ مِنْ الرَّأْسِ فَطَاهِرٌ اتِّفَاقًا.
[فَرْعٌ]
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَاءَ طَعَامًا أَوْ مَاءً فَأَصَابَ إنْسَانًا شِبْرًا فِي شِبْرٍ لَا يَمْنَعُ، قَالَ الْمُحْسِنُ: مَا لَمْ يَفْحُشْ اهـ.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ نَجَاسَةَ الْقَيْءِ مُخَفَّفَةٌ، وَلَا يَعْرَى عَنْ إشْكَالٍ؛ إذْ لَا خِلَافَ وَلَا تَعَارُضَ فِيهِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا قَاءَ مِنْ سَاعَتِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إذَا فَحَشَ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ كَوْنُ الْمُتَّصِلِ بِهِ الْقَدْرَ الْمَانِعَ، وَبِمَا دُونَهُ مَا دُونَهُ.
(قَوْلُهُ وَيَبْلُغُ الِاسْتِرْخَاءُ إلَخْ) ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَمُ النَّقْضِ بِهَذَا الِاسْتِنَادِ مَا دَامَتْ الْمَقْعَدَةُ مُسْتَمْسِكَةً لِلْأَمْنِ مِنْ الْخُرُوجِ، وَالِانْتِقَاضُ مُخْتَارُ الطَّحَاوِيِّ اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْقُدُورِيُّ؛ لِأَنَّ مَنَاطَ النَّقْضِ الْحَدَثُ لَا عَيْنُ النَّوْمِ، فَلَمَّا خَفِيَ بِالنَّوْمِ أُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَى مَا يَنْتَهِضُ مَظِنَّةً لَهُ، وَلِذَا لَمْ يُنْقَضُ نَوْمُ الْقَائِمِ وَالرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ، وَنُقِضَ فِي الْمُضْطَجِعِ؛ لِأَنَّ الْمَظِنَّةَ مِنْهُ مَا يَتَحَقَّقُ مَعَهُ الِاسْتِرْخَاءُ عَلَى الْكَمَالِ وَهُوَ فِي الْمُضْطَجِعِ لَا فِيهَا، وَقَدْ وُجِدَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الِاسْتِنَادِ إذْ
غَايَتَهُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الِاسْتِنَادِ، غَيْرَ أَنَّ السَّنَدَ يَمْنَعُهُ مِنْ السُّقُوطِ، بِخِلَافِ النَّوْمِ حَالَةَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ بَعْضَ الِاسْتِمْسَاكِ بَاقٍ، إذْ لَوْ زَالَ لَسَقَطَ فَلَمْ يَتِمَّ الِاسْتِرْخَاءُ،
لَا يُمْسِكُهُ إلَّا السَّنَدُ، وَتَمَكُّنِ الْمَقْعَدَةِ مَعَ غَايَةِ الِاسْتِرْخَاءِ لَا يَمْنَعُ الْخُرُوجَ، إذْ قَدْ يَكُونُ الدَّافِعُ قَوِيًّا خُصُوصًا فِي زَمَانِنَا لِكَثْرَةِ الْأَكْلِ فَلَا يَمْنَعُهُ إلَّا مَسْكَةُ الْيَقَظَةِ، وَلَوْ كَانَ مُحْتَبِيًا وَرَأْسُهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ لَا يَنْقُضُ (قَوْلُهُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا) هَذَا إذَا نَامَ عَلَى هَيْئَةِ السُّجُودِ الْمَسْنُونِ خَارِجَ الصَّلَاةِ بِأَنْ جَافَى، أَمَّا إذَا لَصِقَ بَطْنُهُ بِفَخِذَيْهِ فَيَنْقُضُ، ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الْقُمِّيُّ.
وَفِي الْأَسْرَارِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا يَكُونُ النَّوْمُ حَدَثًا فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ.
وَكَذَا قَاعِدًا خَارِجَ الصَّلَاةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَوَرِّكًا؛ لِأَنَّهَا جِلْسَةٌ تَكْشِفُ عَنْ الْمَخْرَجِ انْتَهَى.
وَلَا يُخَالِفُهُ مَا فِي الْخُلَاصَةِ مِنْ عَدَمِ نَقْضِ الْمُتَوَرِّكِ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَهُ بِأَنْ يَبْسُطَ قَدَمَيْهِ مِنْ جَانِبٍ وَيُلْصِقَ أَلْيَتَيْهِ بِالْأَرْضِ.
وَفِي الْأَسْرَارِ عَلَّلَهُ بِأَنْ يَكْشِفَ عَنْ الْمُقْعَدَةِ فَهَذَا اشْتِرَاكٌ فِي اسْتِعْمَالِ لَفْظِ التَّوَرُّكِ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ: مَنْ نَامَ وَاضِعًا أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ وَصَارَ شَبَهَ الْمُنْكَبِّ عَلَى وَجْهِهِ وَاضِعًا بَطْنَهُ عَلَى فَخِذَيْهِ لَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ.
وَفِي غَيْرِهَا لَوْ نَامَ مُتَرَبِّعًا وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذَيْهِ نَقَضَ، وَهَذَا خِلَافُ مَا فِي الذَّخِيرَةِ: ثُمَّ أَطْلَقَ فِي الْكِتَابِ قَوْلَهُ فِي الصَّلَاةِ فَشَمَلَ مَا كَانَ عَنْ تَعَمُّدٍ وَمَا عَنْ غَلَبَةٍ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إذَا تَعَمَّدَ النَّوْمَ فِي الصَّلَاةِ نَقَضَ، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ.
وَفِي فَصْلٍ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ مِنْ فَتَاوَى قَاضِي خَانَ: لَوْ نَامَ فِي رُكُوعِهِ أَوْ سُجُودِهِ إنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ لَا تَفْسُدُ، وَإِنْ تَعَمَّدَ فَسَدَتْ فِي السُّجُودِ دُونَ الرُّكُوعِ اهـ كَأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى قِيَامِ الْمَسْكَةِ حِينَئِذٍ فِي الرُّكُوعِ دُونَ السُّجُودِ.
وَمُقْتَضَى النَّظَرِ أَنْ يُفَصَّلَ فِي ذَلِكَ السُّجُودِ إنْ كَانَ مُتَجَافِيًا لَا يُفْسِدُ لِلْمَسْكَةِ وَإِلَّا يُفْسِدُ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ ابْنِ شُجَاعٍ: إنَّهُ إنَّمَا لَا يَكُونُ حَدَثًا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي الصَّلَاةِ.
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا فَرْقَ.
وَلَوْ نَامَ قَاعِدًا فَسَقَطَ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ انْتَبَهَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ جَنْبُهُ الْأَرْضَ أَوْ عِنْدَ الْإِصَابَةِ بِلَا فَصْلٍ لَمْ يُنْتَقَضْ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُنْتَقَضُ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ إنْ انْتَبَهَ قَبْلَ أَنْ يُزَايِلَ مَقْعَدُهُ الْأَرْضَ لَمْ يُنْتَقَضْ، وَإِنْ زَالَ قَبْلَهُ نُقِضَ.
وَالْفَتْوَى عَلَى رِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ: ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ قِيلَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَسَوَاءٌ سَقَطَ أَوْ لَمْ يَسْقُطْ، وَإِنْ نَامَ جَالِسًا يَتَمَايَلُ رُبَّمَا يَزُولُ مَقْعَدُهُ وَرُبَّمَا لَا.
قَالَ الْحَلْوَانِيُّ:
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا وُضُوءَ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، إنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا، فَإِنَّهُ إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ»
ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ اهـ.
وَيَشْهَدُ لَهُ مَا فِي أَبِي دَاوُد «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ» وَأَمَّا مَا فِي سُنَنِ الْبَزَّارِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ فَيَضَعُونَ جَنُوبَهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَنَامُ ثُمَّ يَقُومُ إلَى الصَّلَاةِ» فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى النُّعَاسِ.
وَقَدْ قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: لَا ذِكْرَ لِلنُّعَاسِ مُضْطَجِعًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ؛ لِأَنَّهُ نَوْمٌ قَلِيلٌ.
وَقَالَ الدَّقَّاقُ: إنْ كَانَ لَا يَفْهَمُ عَامَّةَ مَا قِيلَ حَوْلَهُ كَانَ حَدَثًا، وَإِنْ كَانَ يَسْهُو حَرْفًا أَوْ حَرْفَيْنِ فَلَا وَأَمَّا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «نِمْتُ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ اللَّيْلِ إلَى أَنْ قَالَ: فَتَأَمَّلْتُ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، فَأَتَاهُ بِلَالٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» فَهُوَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ صلى الله عليه وسلم.
فِي الْقُنْيَةِ: نَوْمُهُ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِحَدَثٍ، وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ (قَوْلُهُ: وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم إلَخْ) أَقْرَبُ الْأَلْفَاظِ إلَى اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ مَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ جَالِسًا أَوْ قَائِمًا أَوْ سَاجِدًا حَتَّى يَضَعَ جَنْبَهُ، فَإِنَّهُ إذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ» وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّالَانِيُّ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي خَالِدٍ يَزِيدَ الدَّالَانِيِّ هَذَا عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَامَ وَهُوَ سَاجِدٌ حَتَّى غَطَّ أَوْ نَفَخَ ثُمَّ قَامَ وَصَلَّى، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّكَ قَدْ نِمْتَ، قَالَ: إنَّ الْوُضُوءَ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا، فَإِنَّهُ إذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ» وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قَوْلُهُ إنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا مُنْكَرٌ لَمْ يَرْوِهِ إلَّا يَزِيدُ الدَّالَانِيُّ. وَرَوَى أَوَّلَهُ جَمَاعَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَذْكُرُوا شَيْئًا، مِنْ هَذَا اهـ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الدَّالَانِيِّ: كَثِيرُ الْخَطَأِ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ إذَا وَافَقَ الثِّقَاتِ، فَكَيْفَ إذَا انْفَرَدَ عَنْهُمْ؟ وَقَالَ غَيْرُهُ: صَدُوقٌ لَكِنَّهُ يَهِمُ فِي الشَّيْءِ وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: فِيهِ لَيِّنُ الْحَدِيثِ، وَمَعَ لِينِهِ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى رِوَايَتِهِ مَهْدِيُّ بْنُ هِلَالٍ ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا وُضُوءٌ حَتَّى يَضْطَجِعَ جَنْبُهُ إلَى الْأَرْضِ» وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ بَحْرِ بْنِ كَثِيرٍ السَّقَّاءِ عَنْ مَيْمُونٍ الْخَيَّاطِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ «كُنْتُ جَالِسًا فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ
(وَالْغَلَبَةُ عَلَى الْعَقْلِ بِالْإِغْمَاءِ وَالْجُنُونِ) لِأَنَّهُ فَوْقَ النَّوْمِ مُضْطَجِعًا فِي الِاسْتِرْخَاءِ، وَالْإِغْمَاءِ حَدَثٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي النَّوْمِ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَاهُ بِالْأَثَرِ، وَالْإِغْمَاءُ فَوْقَهُ فَلَا يُقَاسَ عَلَيْهِ
أَخْفِقُ، فَاحْتَضَنَنِي رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَجَبَ عَلِيَّ وُضُوءٌ؟ قَالَ: لَا حَتَّى تَضَعَ جَنْبَكَ عَلَى الْأَرْضِ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ بَحْرُ بْنُ كَثِيرٍ السَّقَّاءِ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَأَنْتَ إذَا تَأَمَّلْت فِيمَا أَوْرَدْنَاهُ لَمْ يَنْزِلْ عِنْدَكَ الْحَدِيثُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فَالْحَدِيثُ الَّذِي عَيَّنَّاهُ سَابِقًا مِنْ أَنَّ عَيْنَ النَّوْمِ لَيْسَ حَدَثًا فَاعْتُبِرَتْ مَظِنَّتُهُ إلَخْ يَسْتَقِلُّ بِالْمَطْلُوبِ، هَذَا وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فِي هَذَا كَالصُّلْبِيَّةِ، وَكَذَا سَجْدَةُ الشُّكْرِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ كَذَا قِيلَ، وَقِيَاسُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ كَوْنِهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَهَا يَقْتَضِي عَدَمَ الْخِلَافِ فِي عَدَمِ الِانْتِقَاضِ بِالنَّوْمِ فِيهَا.
نَعَمْ يُنْتَقَضُ عَلَى مُقَابِلِ الصَّحِيحِ وَخِلَافُ الْمَشَايِخِ الْمَنْقُولُ فِي الِانْتِقَاضِ بِهِ فِي سُجُودِ السَّهْوِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ عَلَى الْخِلَافِ بِالْخَطَأِ؛ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَقَعُ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يُنْقَضُ، وَلَوْ صَلَّى الْمَرِيضُ مُضْطَجِعًا فَنَامَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، وَصُحِّحَ النَّقْضُ.
(قَوْلُهُ وَالْجُنُونُ) بِالرَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَطْفًا عَلَى الْإِغْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ غَلَبَةً عَلَى الْعَقْلِ بَلْ زَوَالُهُ.
وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ: لَمْ يَنْقُضْ لِغَلَبَةِ الِاسْتِرْخَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ أَقْوَى مِنْ الصَّحِيحِ، بَلْ لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِ الْحَدَثَ مِنْ غَيْرِهِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: السُّكْرُ حَدَثٌ إذَا لَمْ يَعْرِفْ بِهِ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ.
وَفِي الْمُجْتَبَى: إذَا دَخَلَ فِي مِشْيَتِهِ تَمَايُلٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ (قَوْلُهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي النَّوْمِ) قَدْ يُمْنَعُ بِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ غَيْرَ الْخَارِجِ نَاقِضٌ، وَثُبُوتُ النَّاقِضِ بِالنَّوْمِ لَيْسَ إلَّا إقَامَةٌ لِلسَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ لِخَفَائِهِ، وَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ فِيهِ لَيْسَ إلَّا إقَامَةَ الْمُفْضِي الَّذِي يَتَحَقَّقُ مَعَهُ الْخُرُوجُ غَالِبًا، وَذَلِكَ مَا يَتِمُّ بِهِ الِاسْتِرْخَاءُ، وَهُوَ لَا يَتِمُّ بِكُلِّ نَوْمٍ،
(وَالْقَهْقَهَةُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ ذَاتِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ) وَالْقِيَاسُ أَنَّهَا لَا تَنْقُضُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ نَجَسٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ حَدَثًا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَخَارِجِ الصَّلَاةِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَلَا مَنْ ضَحِكَ مِنْكُمْ قَهْقَهَةً فَلْيُعِدْ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ جَمِيعًا» وَبِمِثْلِهِ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ.
فَلَيْسَ الْقِيَاسُ فِي كُلِّ نَوْمٍ النَّقْضَ.
(قَوْلُهُ أَلَا مَنْ ضَحِكَ إلَخْ) حَدِيثُ الْقَهْقَهَةِ رُوِيَ مُرْسَلًا وَمُسْنَدًا. وَاعْتَرَفَ أَهْلُ الْحَدِيثِ بِصِحَّتِهِ مُرْسَلًا، وَمَدَارُ الْمُرْسَلِ عَلَى أَبِي الْعَالِيَةِ وَإِنْ رَوَاهُ غَيْرُهُ كَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمِ النَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِمَا. قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَأَخْرَجَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ حَفْصِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: أَنَا حَدَّثْت بِهِ الْحَسَنَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَعَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ قَالَ: أَنَا حَدَّثْت بِهِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَنَّهُ قَرَأَ فِي كِتَابِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ عَنْ الْحَسَنِ اهـ. يَعْنِي وَالْحَسَنُ يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ الْوَاسِطِيِّ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «بَيْنَمَا هُوَ فِي الصَّلَاةِ إذْ أَقْبَلَ أَعْمَى يُرِيدُ الصَّلَاةَ، فَوَقَعَ فِي زُبْيَةٍ فَاسْتَضْحَكَ الْقَوْمُ فَقَهْقَهُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ قَهْقَهَ فَلْيُعِدْ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ» قِيلَ وَمَعْبَدٌ هَذَا لَا صُحْبَةَ لَهُ فَهُوَ مُرْسَلٌ أَيْضًا، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ مَعْبَدًا الَّذِي لَا صُحْبَةَ لَهُ هُوَ مَعْبَدٌ الْبَصْرِيُّ الْجُهَنِيُّ كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ فِيهِ: إيَّاكُمْ وَمَعْبَدًا فَإِنَّهُ ضَالٌّ مُضِلٌّ، وَمَعْبَدٌ هَذَا هُوَ الْخُزَاعِيُّ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا شَكَّ فِي صُحْبَتِهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ مَنْدَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الصَّحَابَةِ، وَرَوَيَا لَهُ أَيْضًا حَدِيثَ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ «لَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه مَرَّا بِخِبَاءِ أُمِّ مَعْبَدٍ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعْبَدًا وَكَانَ صَغِيرًا فَقَالَ لَهُ: اُدْعُ هَذِهِ الشَّاةَ» الْحَدِيثَ، وَلَوْ سُلِّمَ، فَإِذَا صَحَّ الْمُرْسَلُ، وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْقَوْلِ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ اسْمُهُ رُفَيْعٌ مِنْ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ. وَأَمَّا رِوَايَتُهُ مُسْنَدًا فَعَنْ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَجَابِرٍ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، وَأَغْرَبُهَا طَرِيقٌ عَنْ أَنَسٍ رَوَاهَا أَبُو الْقَاسِمِ حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ فِي تَارِيخِ جُرْجَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ
وَالْأَثَرُ وَرَدَ فِي صَلَاةِ مُطْلَقَةٍ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهَا. وَالْقَهْقَهَةُ مَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لَهُ وَلِجِيرَانِهِ، وَالضَّحِكُ مَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لَهُ دُونَ جِيرَانِهِ وَهُوَ عَلَى مَا قِيلَ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ دُونَ الْوُضُوءِ.
(وَالدَّابَّةُ تَخْرُجُ مِنْ الدُّبُرِ نَاقِضَةٌ، فَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ رَأْسِ
حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ شِهَابِ بْنِ طَارِقٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ فُورَكٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْأَشْعَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ يَزِيدَ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هِلَالٍ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَهْقَهَ فِي الصَّلَاةِ قَهْقَهَةً شَدِيدَةً فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَالصَّلَاةُ» وَأَسْلَمُهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ حَدِيثِ عَطِيَّةَ بْنِ بَقِيَّةَ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ السَّكُونِيُّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ ضَحِكَ فِي الصَّلَاةِ قَهْقَهَةً فَلْيُعِدْ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ» وَمَا طُعِنَ بِهِ مِنْ أَنَّ بَقِيَّةَ مُدَلِّسٌ فَكَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ بَعْضِ الضُّعَفَاءِ فَحَذَفَ اسْمَهُ، دُفِعَ بِأَنَّ بَقِيَّةَ صَرَّحَ فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ، وَالْمُدَلِّسُ إذَا صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ وَكَانَ صَدُوقًا زَالَتْ تُهْمَةُ التَّدْلِيسِ، وَبَقِيَّةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ (قَوْلُهُ وَالْأَثَرُ وَرَدَ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ) أَمَّا الْوَارِدُ عَلَى وَاقِعَةِ الْحَالِ فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا نَحْوُ حَدِيثِ بَقِيَّةَ هَذَا فَلِانْصِرَافِ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا إلَى ذَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
وَهُوَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ النَّقْضُ عَلَيْهَا.
وَالْمُرَادُ مَا أَصْلُهَا الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، فَإِنَّهُ لَوْ قَهْقَهَ فِيمَا يُصَلِّيهِ بِالْإِيمَاءِ لِعُذْرٍ أَوْ رَاكِبًا يُومِئُ بِالنَّفْلِ أَوْ الْفَرْضِ لِعُذْرٍ انْتَقَضَ، وَكَذَا أَيْضًا لَا تَنْقُضُ قَهْقَهَةُ النَّائِمِ فِي الصَّلَاةِ وَلَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ.
وَقِيلَ تَنْقُضُ وَتُبْطِلُ.
وَعَنْ شَدَّادٍ: تَنْقُضُ وَلَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَقِيلَ عَكْسُهُ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا جُعِلَتْ حَدَثًا بِشَرْطِ كَوْنِهَا جِنَايَةً، وَلَا جِنَايَةَ مِنْ النَّائِمِ، بِخِلَافِ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ فَيُؤَاخَذُ بِهِ، وَلَا يَغْلِبُ وُجُودُ الْقَهْقَهَةِ سَاهِيًا؛ لِأَنَّ حَالَةَ الصَّلَاةِ مُذَكِّرَةٌ فَلَا يُعْذَرُ، وَأَمَّا قَهْقَهَةُ الصَّبِيِّ فَقِيلَ تُبْطِلُهُمَا، وَقِيلَ لَا تَنْقُضُ.
وَفِي قَهْقَهَةِ الْبَانِي فِي الطَّرِيقِ بَعْدَ الْوُضُوءِ رِوَايَتَانِ وَلَوْ نَسِيَ.
وَتَنْقُضُ بَعْدَ الْعُقُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَلَوْ قَهْقَهَ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ثُمَّ قَهْقَهَ الْقَوْمُ بَطَلَ وُضُوءُهُ دُونَهُمْ لِخُرُوجِهِمْ بِقَهْقَهَتِهِ
الْجُرْحِ أَوْ سَقَطَ اللَّحْمُ لَا تَنْقُضُ) وَالْمُرَادُ بِالدَّابَّةِ الدُّودَةُ وَهَذَا لِأَنَّ النَّجَسَ مَا عَلَيْهَا وَذَلِكَ قَلِيلٌ وَهُوَ حَدَثٌ فِي السَّبِيلَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا، فَأَشْبَهَ الْجُشَاءَ وَالْفُسَاءَ، بِخِلَافِ الرِّيحِ الْخَارِجَةِ مِنْ قُبُلِ الْمَرْأَةِ وَذَكَرِ الرَّجُلِ لِأَنَّهَا لَا تَنْبَعِثُ عَنْ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ مُفْضَاةً يُسْتَحَبُّ لَهَا الْوُضُوءُ لِاحْتِمَالِ خُرُوجِهَا مِنْ الدُّبُرِ
بِخِلَافِ سَلَامِهِ فَلَوْ قَهْقَهُوا بَعْدَ سَلَامِهِ، بَطَلَ وُضُوءُهُمْ، وَجَعَلَ الْأَصَحَّ فِي الْخُلَاصَةِ أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ هَلْ هُوَ فِي الصَّلَاةِ إلَى أَنْ يُسَلِّمَ بِنَفْسِهِ أَوْ لَا.
مُحْدِثٌ غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَفَنِيَ الْمَاءُ فَتَيَمَّمَ وَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فَقَهْقَهَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَغْسِلُ بَاقِيَ الْأَعْضَاءِ وَيُصَلِّي، وَعِنْدَهُمَا يَغْسِلُ جَمِيعَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَهْقَهَةَ هَلْ تُبْطِلُ مَا غُسِلَ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ؟ عِنْدَهُ لَا وَعِنْدَهُمَا نَعَمْ.
وَلَوْ اغْتَسَلَ جُنُبٌ وَصَلَّى فَقَهْقَهَ هَلْ تَبْطُلُ وَيُعِيدُ الْوُضُوءَ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ لَا يُعِيدُ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ فِي ضِمْنِ الْغُسْلِ فَإِذَا لَمْ يَبْطُلُ الْمُتَضَمِّنُ، لَا يَبْطُلُ الْمُتَضَمَّنُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعِيدُ الْوُضُوءَ؛ لِأَنَّ إعَادَتَهُ وَاجِبَةٌ عُقُوبَةً كَذَا فِي الْمُحِيطِ، وَلَوْ قَهْقَهَ بَعْدَ كَلَامِ الْإِمَامِ مُتَعَمِّدًا فَسَدَتْ كَسَلَامِهِ عَلَى الْأَصَحِّ عَلَى خِلَافِ مَا فِي الْخُلَاصَةِ بِخِلَافِهِ بَعْدَ حَدَثِهِ عَمْدًا.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّجَسَ مَا عَلَيْهَا) الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ مَا بِحَيْثُ يَكُونُ نَجِسًا هُوَ مَا عَلَيْهَا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى اعْتِبَارِهِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ (قَوْلُهُ حَتَّى لَوْ كَانَتْ مُفْضَاةً إلَخْ) الْمُفْضَاةُ الَّتِي اخْتَلَطَ سَبِيلَاهَا، وَقِيلَ مَسْلَكُ الْبَوْلِ وَالْحَيْضِ.
وَفِي التَّعْلِيلِ وَهُوَ قَوْلُهُ لِاحْتِمَالِ خُرُوجِهِ مِنْ الدُّبُرِ إشَارَةٌ إلَى الْأَوَّلِ، وَالْوُضُوءُ مُسْتَحَبٌّ فِي حَقِّهَا لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ، وَظُهُورُ أَثَرِهِ أَيْضًا فِيمَا لَوْ طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ مَا لَمْ تَحْبَلْ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْوَطْءَ كَانَ فِي دُبُرِهَا.
وَفِي حُرْمَةِ جِمَاعِهَا عَلَى الزَّوْجِ.
قَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ:
(فَإِنْ قُشِرَتْ نَفْطَةٌ فَسَالَ مِنْهَا مَاءٌ أَوْ صَدِيدٌ أَوْ غَيْرُهُ إنْ سَالَ عَنْ رَأْسِ الْجُرْحِ نَقَضَ، وَإِنْ لَمْ يَسِلْ لَا يَنْقُضُ) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله يَنْقُضُ فِي الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لَا يَنْقُضُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ نَجِسَةٌ لِأَنَّ الدَّمَ يَنْضَجُ فَيَصِيرُ قَيْحًا ثُمَّ يَزْدَادُ نُضْجًا فَيَصِيرُ صَدِيدًا ثُمَّ يَصِيرُ مَاءً، هَذَا إذَا قَشَرَهَا فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ، أَمَّا إذَا عَصَرَهَا فَخَرَجَ بِعَصْرِهِ لَا يَنْقُضُ لِأَنَّهُ مُخْرَجٌ وَلَيْسَ بِخَارِجٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ إتْيَانُهَا فِي قُبُلِهَا مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ وُجُوبُ الْوُضُوءِ.
وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَفْصٍ لِلِاحْتِيَاطِ، وَمَنَعَ أَنَّهَا مُتَوَضِّئَةٌ بِيَقِينٍ وَكَوْنُ الرِّيحِ مِنْ الدُّبُرِ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ.
وَقَدْ يُدْفَعُ بِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الرِّيحِ كَوْنُهَا مِنْ الدُّبُرِ، بَلْ لَا نِسْبَةَ لِكَوْنِهَا مِنْ الْقُبُلِ بِهِ فَيُفِيدُ غَلَبَةَ ظَنٍّ تَقْرُبُ مِنْ الْيَقِينِ وَهُوَ خُصُوصًا فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ لَهُ حُكْمُ الْيَقِينِ فَيَتَرَجَّحُ الْوُجُوبُ.
[فَرْعٌ]
شَكَّ فِي الْوُضُوءِ أَوْ الْحَدَثِ وَتَيَقَّنَ سَبْقَ أَحَدِهِمَا بَنَى عَلَى السَّابِقِ إلَّا إنْ تَأَيَّدَ اللَّاحِقُ، فَعَنْ مُحَمَّدٍ عَلِمَ الْمُتَوَضِّئُ دُخُولَهُ الْخَلَاءَ لِلْحَاجَةِ وَشَكَّ فِي قَضَائِهَا قَبْلَ خُرُوجِهِ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، أَوْ عَلِمَ جُلُوسَهُ لِلْوُضُوءِ بِإِنَاءٍ وَشَكَّ فِي إقَامَتِهِ قَبْلَ قِيَامِهِ لَا وُضُوءَ.
وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْوَجْهِ فِي وُجُوبِ وُضُوءِ الْمُفْضَاةِ، وَلَوْ شَكَّ فِي السَّائِلِ مِنْ ذَكَرِهِ أَمَاءٌ هُوَ أَمْ بَوْلٌ، إنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْمَاءِ أَوْ تَكَرَّرَ مَضَى وَإِلَّا أَعَادَهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ أَحَدُهُمَا وَلَوْ تَيَقَّنَ تَرْكَ عُضْوٍ وَشَكَّ فِيهِ فَفِي النَّوَازِلِ يَغْسِلُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ إذَا كَانَ الشَّكُّ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ يَغْسِلُ الْأَخِيرَ مَثَلًا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَغْسِلْ رِجْلَيْهِ عَيْنًا وَعَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَ فَرْضًا مِمَّا قَبْلَهُمَا وَشَكَّ فِي أَنَّهُ مَا هُوَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ، وَلَا يُظَنُّ أَنَّ هَذَا خِلَافُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي التَّتِمَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَيَقُّنَ بِتَرْكِ شَيْءٍ هُنَاكَ أَصْلًا.
(قَوْلُهُ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ نَجِسَةٌ) يَعْنِي الْمَاءَ وَالْقَيْحَ وَالصَّدِيدَ (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ مُخْرَجٌ وَلَيْسَ بِخَارِجٍ) لَا تَأْثِيرَ يَظْهَرُ لِلْإِخْرَاجِ وَعَدَمِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، بَلْ النَّقْضُ لِكَوْنِهِ خَارِجًا نَجِسًا، وَذَاكَ يَتَحَقَّقُ مَعَ الْإِخْرَاجِ كَمَا يَتَحَقَّقُ مَعَ عَدَمِهِ فَصَارَ كَالْفَصْدِ وَقَشْرِ النَّفْطَةِ فَلِذَا اخْتَارَ السَّرَخْسِيُّ فِي جَمَاعَةٍ النَّقْضَ.
وَفِي الْكَافِي: وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُخْرَجَ نَاقِضٌ انْتَهَى.
وَكَيْفَ وَجَمِيعُ الْأَدِلَّةِ الْمُورَدَةِ مِنْ السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ تُفِيدُ تَعْلِيقَ النَّقْضِ بِالْخَارِجِ النَّجَسِ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْمُخْرَجِ.
[فُرُوعٌ]
يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ الْفَاحِشَةِ.
وَهِيَ أَنْ يَتَجَرَّدَا مَعًا مُتَعَانِقَيْنِ مُتَمَاسِّي الْفَرْجَيْنِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا إلَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ خُرُوجَ شَيْءٍ.
قُلْنَا يَنْدُرُ عَدَمُ مَذْيٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالْغَالِبُ كَالْمُتَحَقِّقِ فِي مَقَامِ وُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ وَفِي الْقُنْيَةِ: وَكَذَا الْمُبَاشَرَةُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْغُلَامِ، وَكَذَا بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ يُوجِبُ الْوُضُوءُ عَلَيْهِمَا، وَلَا يَجِبُ مِنْ مُجَرَّدِ مَسِّهَا وَلَوْ بِشَهْوَةٍ وَلَوْ فَرْجَهَا، وَلَا مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ.
خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْأُولَى مُطْلَقًا، وَفِي الثَّانِيَةِ إذَا مَسَّ بِبَاطِنِ
(فَصْلٌ فِي الْغُسْلِ)
الْأَصَابِعِ، وَلِمَالِكٍ فِي الثَّانِيَةِ مُطْلَقًا، وَفِي الْأُولَى إذَا مَسَّ بِشَهْوَةٍ.
لَنَا فِي الْأُولَى عَدَمُ دَلِيلِ النَّقْضِ بِشَهْوَةٍ وَبِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَيَبْقَى الِانْتِقَاضُ عَلَى الْعَدَمِ، وقَوْله تَعَالَى {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} مُرَادٌ بِهِ الْجِمَاعُ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَكَوْنُهُ مُرَادًا بِهِ الْيَدُ قَوْلُ جَمَاعَةٍ آخَرِينَ، وَرَجَّحْنَا قَوْلَ الطَّائِفَةِ الْأُولَى بِالْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَفَاضَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْحَدَثَيْنِ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} إلَى قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فَبَيَّنَ أَنَّهُ الْغُسْلُ، ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْحَالِ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلَى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} إلَى آخِرِهِ، وَلَفْظُ لَامَسْتُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْجِمَاعِ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ لِيَكُونَ بَيَانًا لِحُكْمِ الْحَدَثَيْنِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ كَمَا بَيَّنَ حُكْمَهُمَا عِنْدَ وُجُودِهِ فَيَتِمُّ الْغَرَضُ، بِخِلَافِ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ بِالْيَدِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ السُّنَّةِ مَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ «مَسِّ عَائِشَةَ قَدَمَيْهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ طَلَبَتْهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَقَدَتْهُ لَيْلًا، وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ فِي السُّجُودِ وَلَمْ يَقْطَعْ صَلَاتَهُ لِذَلِكَ» ، وَعَنْهَا «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ فَلَا يَتَوَضَّأُ» ، رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
وَلَنَا فِي الثَّانِيَةِ مَا رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ، عَنْ مُلَازِمِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدْرٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَمَسُّ ذَكَرَهُ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: هَلْ هُوَ إلَّا بَضْعَةٌ مِنْكَ» وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَحْسَنُ شَيْءٍ يُرْوَى فِي هَذَا الْبَابِ. وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَيُّوبُ بْنُ عُتْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ عَنْ أَبِيهِ. وَأَيُّوبُ وَمُحَمَّدٌ تَكَلَّمَ فِيهِمَا بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَحَدِيثُ مُلَازِمِ بْنِ عَمْرٍو أَصَحُّ وَأَحْسَنُ، وَبِهِ رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُسْتَقِيمُ الْإِسْنَادِ غَيْرُ مُضْطَرِبٍ فِي إسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ انْتَهَى. فَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ الطَّعْنِ مَرَّةً فِي بُسْرَةَ بِالْجَهَالَةِ، وَمَرَّةً بِأَنَّ عُرْوَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ بُسْرَةَ بَلْ مِنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَوْ الشَّرْطِيِّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَمَرَّةً بِالتَّكَلُّمِ فِي مُلَازِمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْحَقُّ أَنَّهُمَا لَا يَنْزِلَانِ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، لَكِنْ يَتَرَجَّحُ حَدِيثُ طَلْقٍ بِأَنَّ حَدِيثَ الرِّجَالِ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُمْ أَحْفَظُ لِلْعِلْمِ وَأَضْبَطُ، وَلِهَذَا جُعِلَتْ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ. وَقَدْ أَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ إلَى ابْنِ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ: حَدِيثُ مُلَازِمِ بْنِ عَمْرٍو أَحْسَنُ مِنْ حَدِيثِ بُسْرَةَ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْقَلَّاسِ أَنَّهُ قَالَ: حَدِيثُ طَلْقٍ عِنْدَنَا أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ. وَمَا رُجِّحَ بِهِ حَدِيثُ بُسْرَةَ مِنْ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِأَنَّ طَلْقًا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَّلِ سِنِي الْهِجْرَةِ وَهُوَ يَبْنِي الْمَسْجِدَ وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «قَرِّبُوا الْيَمَانِيَّ مِنْ الطِّينِ فَإِنَّهُ مِنْ أَحْسَنِكُمْ لَهُ مَسًّا» وَمَتْنُ حَدِيثِ بُسْرَةَ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُوَ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ فَغَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ وُرُودَ طَلْقٍ إذْ ذَاكَ ثُمَّ رُجُوعَهُ لَا يَنْفِي عَوْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُمْ قَدْ رَوَوْا عَنْهُ حَدِيثًا ضَعِيفًا
(فَصْلٌ فِي الْغُسْلِ)
(وَفَرْضُ الْغُسْلِ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَغَسْلُ سَائِرِ الْبَدَنِ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله هُمَا سُنَّتَانِ فِيهِ لِقَوْلِهِ
«مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» وَقَالَ سَمِعَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مُضَعَّفٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِي سَنَدِهِ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى انْقِطَاعِ حَدِيثِ بُسْرَةَ بَاطِنًا أَنَّ أَمْرَ النَّوَاقِضِ مِمَّا يَحْتَاجُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ إلَيْهِ
، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ النَّقْضَ مِنْهُ وَإِنْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِهِمْ كَعُمَرَ وَابْنِهِ وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ، عَلَى أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ عُمَرَ نَظَرًا لِمَا سَنَذْكُرُهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ سَلَكْنَا طَرِيقَ الْجَمْعِ جُعِلَ مَسُّ الذَّكَرِ كِنَايَةً عَمَّا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَهُوَ مِنْ أَسْرَارِ الْبَلَاغَةِ يَسْكُتُونَ عَنْ ذِكْرِ الشَّيْءِ وَيَرْمِزُونَ عَلَيْهِ بِذَكَرِ مَا هُوَ مِنْ رَوَادِفِهِ، فَلَمَّا كَانَ مَسُّ الذَّكَرِ غَالِبًا يُرَادِفُ خُرُوجَ الْحَدَثِ مِنْهُ وَيُلَازِمُهُ عَبَّرَ بِهِ عَنْهُ كَمَا عَبَّرَ تَعَالَى بِالْمَجِيءِ مِنْ الْغَائِطِ عَمَّا يَقْصِدُ الْغَائِطَ لِأَجْلِهِ وَيَحِلُّ فِيهِ، فَيَتَطَابَقُ طَرِيقَا الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي التَّعْبِيرِ فَيُصَارُ إلَى هَذَا الدَّفْعِ التَّعَارُضُ.
(فَصْلٌ فِي الْغُسْلِ)
(قَوْلُهُ الْمَضْمَضَةُ إلَخْ) وَلَوْ شَرِبَ الْمَاءَ عَبًّا أَجْزَأَ عَنْهَا لَا مَصًّا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا إلَّا أَنْ يَمُجَّهُ، وَلَوْ كَانَ سِنُّهُ مُجَوَّفًا أَوْ بَيْنَ أَسْنَانِهِ طَعَامٌ أَوْ دَرَنٌ رَطْبٌ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الْمَاءَ لَطِيفٌ يَصِلُ إلَى كُلِّ مَوْضِعٍ غَالِبًا، كَذَا فِي التَّجْنِيسِ ثُمَّ قَالَ: ذَكَرَ الصَّدْرَ الشَّهِيدُ حُسَامُ الدِّينِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إذَا كَانَ فِي أَسْنَانِهِ كُوَّاتٌ يَبْقَى فِيهَا الطَّعَامُ لَا يُجْزِئُهُ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ وَيُجْرِي الْمَاءَ عَلَيْهَا.
وَفِي فَتَاوَى الْفَضْلِيِّ وَالْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ خِلَافُ هَذَا، فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَفْعَلَ انْتَهَى. وَالدَّرَنُ الْيَابِسُ فِي الْأَنْفِ كَالْخُبْزِ الْمَمْضُوغِ وَالْعَجِينِ يَمْنَعُ، وَلَا يَضُرُّ مَا انْتَضَحَ مِنْ غَسْلِهِ فِي إنَائِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قُطِرَ كُلُّهُ فِي الْإِنَاءِ. وَيَجُوزُ نَقْلُ الْبِلَّةِ فِي الْغُسْلِ مِنْ عُضْوٍ إلَى عُضْوٍ إذَا كَانَ يَتَقَاطَرُ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ، وَيَجُوزُ لِلْجُنُبِ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى وَيَأْكُلَ وَيَشْرَبَ إذَا تَمَضْمَضَ وَيُعَاوِدَ أَهْلَهُ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ، قَالَ فِي الْمُبْتَغَى: إلَّا إذَا احْتَلَمَ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِ أَهْلَهُ مَا لَمْ يَغْتَسِلْ (قَوْلُهُ وَغَسْلُ سَائِرِ الْبَدَنِ) فَيَجِبُ تَحْرِيكُ الْقُرْطِ وَالْخَاتَمِ الضَّيِّقَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ
عليه الصلاة والسلام «عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ» أَيْ مِنْ السُّنَّةِ وَذَكَرَ مِنْهَا الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ وَلِهَذَا كَانَا سُنَّتَيْنِ فِي الْوُضُوءِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وَهُوَ أَمْرٌ بِتَطْهِيرِ جَمِيعِ الْبَدَنِ، إلَّا أَنَّ مَا يَتَعَذَّرُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ خَارِجٌ عَنْ النَّصِّ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ غَسْلُ الْوَجْهِ وَالْمُوَاجِهَةُ فِيهِمَا مُنْعَدِمَةٌ، وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ حَالَةَ الْحَدَثِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّهُمَا فَرْضَانِ فِي الْجَنَابَةِ سُنَّتَانِ فِي الْوُضُوءِ» .
قَالَ (وَسُنَّتُهُ أَنْ يَبْدَأَ الْمُغْتَسِلُ فَيَغْسِلَ يَدَيْهِ وَفَرْجَهُ وَيُزِيلَ نَجَاسَةً إنْ كَانَتْ عَلَى بَدَنِهِ،
قُرْطٌ فَدَخَلَ الْمَاءُ الثَّقْبَ عِنْدَ مُرُورِهِ أَجْزَأَ كَالسُّرَّةِ وَإِلَّا أَدْخَلَهُ، وَيُدْخِلُهُ الْقُلْفَةَ اسْتِحْبَابًا، وَفِي النَّوَازِلِ لَا يُجْزِئُهُ تَرْكُهُ، وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ لِلْحَرَجِ لَا لِكَوْنِهِ خِلْقَةً، وَتَغْسِلُ فَرْجَهَا الْخَارِجَ لِأَنَّهُ كَالْفَمِ، وَلَا يَجِبُ إدْخَالُهَا الْأُصْبُعَ فِي قُبُلِهَا وَبِهِ يُفْتَى.
وَدَرَنُ الْأَظْفَارِ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الْوُضُوءِ، وَلَا يَجِبُ الدَّلْكُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَكَانَ وَجْهُهُ خُصُوصَ صِيغَةِ اطَّهَّرُوا، فَإِنَّ (فَعُلَ) لِلْمُبَالَغَةِ وَهُوَ أَصْلُهُ وَذَلِكَ بِالدَّلْكِ (قَوْلُهُ عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ) رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِفَاضُ الْمَاءِ» قَالَ مَصْعَبُ بْنُ شَيْبَةَ: وَنَسِيت الْعَاشِرَةَ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ. وَانْتِفَاضُ الْمَاءِ: الِاسْتِنْجَاءُ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ عَمَّارٍ، وَذَكَرَ الْخِتَانَ بَدَلَ إعْفَاءِ اللِّحْيَةِ، وَذَكَرَ الِانْتِضَاحَ بَدَلَ انْتِفَاضِ الْمَاءِ (قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وَهُوَ أَمْرٌ بِتَطْهِيرِ جَمِيعِ الْبَدَنِ) لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّطْهِيرَ إلَى مُسَمَّى الْوَاوِ وَهُوَ جُمْلَةُ بَدَنِ كُلِّ مُكَلَّفٍ فَيَدْخُلُ كُلُّ مَا يُمْكِنُ الْإِيصَالُ إلَيْهِ إلَّا مَا فِيهِ حَرَجٌ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ يَتَعَذَّرُ، وَذَلِكَ كَدَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ وَالْقُلْفَةِ بِالنَّافِي لِلْحَرَجِ وَلَا حَرَجَ فِي دَاخِلِ الْفَمِ وَالْأَنْفِ فَشَمِلَهُمَا نَصُّ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ كَمَا شَمِلَهُمَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ، فَبُلُّوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ، إذْ كَوْنُهُمَا مِنْ الْفِطْرَةِ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ لِأَنَّهَا الدِّينُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْهُ فَلَا يُعَارِضُهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» وَالْمُرَادُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ عَلَى مَا هُوَ أَعْلَى الْأَقْوَالِ، وَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى حَمْلِ الْمَرْوِيِّ عَلَى حَالَةِ الْحَدَثِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّهُمَا فَرْضَانِ فِي الْجَنَابَةِ سُنَّتَانِ فِي الْوُضُوءِ» كَأَنَّهُ يَعْنِي مَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ لِلْجُنُبِ ثَلَاثًا فَرِيضَةً» ، لَكِنْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خُرُوجِ اثْنَتَيْنِ مِنْهُمَا وَهُوَ ضَعِيفٌ
(قَوْلُهُ وَسُنَّتُهُ إلَخْ) ظَاهِرٌ، وَهَلْ يَمْسَحُ رَأْسَهُ فِي هَذَا الْوُضُوءِ؟ نَعَمْ فِي الصَّحِيحِ، وَفِي
ثُمَّ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ إلَّا رِجْلَيْهِ، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ يَنْتَحِي عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَيَغْسِلَ رِجْلَيْهِ) هَكَذَا حَكَتْ مَيْمُونَةُ رضي الله عنها اغْتِسَالَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُ غَسْلَ رِجْلَيْهِ لِأَنَّهُمَا فِي مُسْتَنْقَعِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَلَا يُفِيدُ الْغَسْلُ حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَى لَوْحٍ لَا يُؤَخِّرُ، وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ كَيْ لَا تَزْدَادَ بِإِصَابَةِ الْمَاءِ (وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَنْقُضَ ضَفَائِرَهَا فِي الْغُسْلِ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ أُصُولَ
رِوَايَةِ الْحَسَنِ لَا، وَلَمْ يَذْكُرْ كَيْفِيَّةَ الصَّبِّ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ: يُفِيضُ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ ثَلَاثًا ثُمَّ الْأَيْسَرِ ثَلَاثًا ثُمَّ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ. وَقِيلَ يَبْدَأُ بِالْأَيْمَنِ ثُمَّ بِالرَّأْسِ ثُمَّ بِالْأَيْسَرِ.
وَقِيلَ يَبْدَأُ بِالرَّأْسِ، وَهُوَ ظَاهِرُ لَفْظِ الْكِتَابِ وَظَاهِرُ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ الَّذِي سَيُذْكَرُ وَلَوْ انْغَمَسَ الْجُنُبُ فِي مَاءِ جَارٍ إنْ مَكَثَ فِيهِ قَدْرَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فَقَدْ أَكْمَلَ السُّنَّةَ وَإِلَّا فَلَا (قَوْلُهُ هَكَذَا حَكَتْ مَيْمُونَةُ) رَوَى الْجَمَاعَةُ عَنْهَا قَالَتْ «وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَاءً يَغْتَسِلُ بِهِ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ، ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ رَأْسَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى عَنْ مَقَامِهِ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ» (قَوْلُهُ وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَنْقُضَ ضَفَائِرَهَا) هَذَا فَرْعُ قِيَامِ الضَّفِيرَةِ، فَلَوْ كَانَتْ ضَفَائِرُهَا مَنْقُوضَةً فَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ يَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ، وَفِي وُجُوبِ نَقْضِ ضَفَائِرِ الرَّجُلِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ وَالْمَشَايِخِ.
الشَّعْرِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها «أَمَا يَكْفِيكِ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ أُصُولَ شَعْرِكِ» وَلَيْسَ عَلَيْهَا بَلُّ ذَوَائِبِهَا هُوَ الصَّحِيحُ، بِخِلَافِ اللِّحْيَةِ لِأَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي إيصَالِ الْمَاءِ إلَى أَثْنَائِهَا.
وَالِاحْتِيَاطُ الْوُجُوبُ، وَثَمَنُ مَاءِ غُسْلِ الْمَرْأَةِ وَوُضُوئِهَا عَلَى الرَّجُلِ وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِأُمِّ سَلَمَةَ) فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْهَا «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ لَا إنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِيَ عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ» وَمُقْتَضَى هَذَا عَدَمُ وُجُوبِ إيصَالِ الْمَاءِ إلَى الْأُصُولِ، وَكَذَا مَا فِيهِ مِنْ «أَنَّهُ بَلَغَ عَائِشَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كَانَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ إذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُؤْسَهُنَّ فَقَالَتْ: يَا عَجَبًا لِابْنِ عَمْرٍو يَأْمُرُ النِّسَاءَ إذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُؤْسَهُنَّ أَفَلَا يَأْمُرُهُنَّ أَنْ يَحْلِقْنَ رُؤْسَهُنَّ لَقَدْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ، وَمَا أَزِيدُ أَنْ أُفْرِغَ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ إفْرَاغَاتٍ».
وَكَذَا مَا فِي أَبِي دَاوُد «أَنَّهُمْ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَمَّا الرَّجُلُ فَلْيَنْشُرْ رَأْسَهُ فَلْيَغْسِلْهُ حَتَّى يَبْلُغَ أُصُولَ الشَّعْرِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا عَلَيْهَا أَنْ لَا تَنْقُضَهُ لِتَغْرِفْ عَلَى رَأْسِهَا ثَلَاثَ غَرَفَاتٍ بِكَفَّيْهَا» وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِيهِ. قَالَ فِي الْإِمَامِ: وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَنْقُضُ رَأْسَهَا فِي الْحَيْضِ، وَذَكَرَ مَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الْحَجِّ «أَهْلَلْتُ مَعَ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم اللَّهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَكُنْت مِمَّنْ تَمَتَّعَ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ وَلَمْ تَطْهُرْ حَتَّى دَخَلَتْ لَيْلَةُ عَرَفَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ لَيْلَةُ عَرَفَةَ وَإِنَّمَا كُنْتُ تَمَتَّعْتُ بِعُمْرَةٍ، فَقَالَ لَهَا صلى الله عليه وسلم: اُنْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَمْسِكِي عَنْ عُمْرَتِكِ» الْحَدِيثَ.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا اغْتَسَلَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ حَيْضِهَا نَقَضَتْ شَعْرَهَا نَقْضًا وَغَسَلَتْهُ بِخَطْمِيٍّ وَأُشْنَانٍ، فَإِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ الْجَنَابَةِ صَبَّتْ عَلَى رَأْسِهَا الْمَاءَ وَعَصَرَتْهُ» اهـ وَلَا أَعْلَمُ هَذَا التَّفْصِيلَ فِي الْمَذْهَبِ وَأَجَابَ مُتَأَخِّرٌ بِمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ السَّابِقِ، فَإِنَّ فِيهِ فِي رِوَايَةٍ «أَفَأَنْقُضُهُ لِلْحَيْضَةِ وَالْجَنَابَةِ؟ قَالَ لَا» الْحَدِيثَ. وَهُوَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مِنْ حَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَإِنَّ ذَلِكَ الْغُسْلَ كَانَ لِلتَّنْظِيفِ لِأَجْلِ الْوُقُوفِ لَا لِلتَّطْهِيرِ مِنْ حَدَثِ الْحَيْضِ لِأَنَّهَا كَانَتْ حَائِضًا، هَذَا وَأُورِدَ أَنَّ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ مُعَارِضٌ لِلْكِتَابِ. وَأُجِيبَ تَارَةً بِالْمَنْعِ، فَإِنَّ مُؤَدَّى الْكِتَابِ غَسْلُ الْبَدَنِ، وَالشَّعْرُ لَيْسَ مِنْهُ بَلْ مُتَّصِلٌ بِهِ نَظَرًا إلَى أُصُولِهِ، فَعَمِلْنَا بِمُقْتَضَى الِاتِّصَالِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَبِمُقْتَضَى الِانْفِصَالِ فِي النِّسَاءِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ إذْ لَا يُمْكِنُهُنَّ حَلْقُهُ، وَتَارَةً بِأَنَّهُ خُصَّ مِنْ الْآيَةِ مَوَاضِعُ الضَّرُورَةِ كَدَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ فَيُخَصُّ بِالْحَدِيثِ بَعْدَهُ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ يَجِبُ
قَالَ (وَالْمَعَانِي الْمُوجِبَةُ لِلْغُسْلِ إنْزَالُ الْمَنِيِّ عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ وَالشَّهْوَةِ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ حَالَةَ النَّوْمِ وَالْيَقِظَةِ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله خُرُوجُ الْمَنِيِّ كَيْفَمَا كَانَ يُوجِبُ الْغُسْلَ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» أَيْ الْغُسْلُ مِنْ الْمَنِيِّ، وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّطْهِيرِ يَتَنَاوَلُ الْجُنُبَ، وَالْجَنَابَةُ فِي اللُّغَةِ خُرُوجُ الْمَنِيِّ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ، يُقَالُ أَجْنَبَ الرَّجُلُ إذَا
بَلُّهَا ثَلَاثًا مَعَ كُلِّ بَلَّةٍ عَصْرَةٌ.
وَفِي صَلَاةِ الْبَقَّالِيِّ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ الذَّوَائِبِ وَإِنْ جَاوَزَتْ الْقَدَمَيْنِ، وَفِي مَبْسُوطِ بَكْرٍ فِي وُجُوبِ إيصَالِ الْمَاءِ إلَى شُعَبِ عِقَاصِهَا اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ اهـ.
وَالْأَصَحُّ نَفْيُهُ لِلْحَصْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ
(قَوْلُهُ وَالْمَعَانِي الْمُوجِبَةُ لِلْغُسْلِ) قِيلَ هِيَ تَنْقُضُهُ فَكَيْفَ تُوجِبُهُ. وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ: سَبَبُ وُجُوبِ الْغُسْلِ إرَادَةُ مَا لَا يَحِلُّ فِعْلُهُ بِالْجَنَابَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ.
وَقِيلَ هِيَ مُوجِبَةٌ لِلْغُسْلِ بِوَاسِطَةِ الْجَنَابَةِ كَقَوْلِنَا شِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ سَبَبُهُ وُجُوبُ مَا لَا يَحِلُّ مَعَ الْجَنَابَةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فِي الْمَعَانِي الْمُوجِبَةِ لِلْوُضُوءِ. وَحَاصِلُ مَا يُوجِبُ الْجَنَابَةَ خُرُوجُ الْمَنِيِّ عَنْ شَهْوَةٍ وَالْإِيلَاجُ فِي الْآدَمِيِّ الْحَيِّ لَا الْمَيِّتِ وَالْبَهِيمَةِ مَا لَمْ يُنْزِلْ. لَكِنْ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ: بَال فَخَرَجَ مِنْهُ مَنِيٌّ إنْ كَانَ ذَكَرُهُ مُنْكَسِرًا لَا غُسْلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُنْتَشِرًا فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ.
وَهَذَا بَعْدَ مَا عُرِفَ مِنْ اشْتِرَاطِ وُجُودِ الشَّهْوَةِ فِي الْإِنْزَالِ فِيهِ نَظَرٌ. بِخِلَافِ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي مُسْتَيْقِظٍ وَجَدَ مَاءً وَلَمْ يَتَذَكَّرْ احْتِلَامًا، إنْ كَانَ ذَكَرُهُ مُنْتَشِرًا قَبْلَ النَّوْمِ لَا يَجِبُ وَإِلَّا فَيَجِبُ لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّهُ مَنِيٌّ عَنْ شَهْوَةٍ لَكِنْ ذَهَبَ عَنْ خَاطِرِهِ، وَمَحْمَلُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ وَجَدَ الشَّهْوَةَ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلُهُ فِي التَّجْنِيسِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: يَعْنِي حَالَةَ الِانْتِشَارِ وُجِدَ الْخُرُوجُ وَالِانْفِصَالُ عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ وَالشَّهْوَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مُطْلَقَ الْإِيلَاجِ فِي الْآدَمِيِّ يَتَنَاوَلُ إيلَاجَ الذَّكَرِ فِي الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ وَإِيلَاجُ الْأُصْبُعِ.
وَفِي إدْخَالِ الْأُصْبُعِ الدُّبُرَ خِلَافٌ فِي إيجَابِ الْغُسْلِ فَلْيُعْلَمْ ذَلِكَ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّطْهِيرِ يَتَنَاوَلُ الْجُنُبَ) وَالْجَنَابَةُ فِي اللُّغَةِ إنَّمَا تُقَالُ مَعَ الشَّهْوَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُ مَنْ خَرَجَ مِنْهُ بِلَا شَهْوَةٍ فَلَا يُوجِبُ فِيهِ حُكْمًا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ. وَالْحَدِيثُ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مَحْمُولٌ عَلَى
قَضَى شَهْوَتَهُ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى خُرُوجِ الْمَنِيِّ عَنْ شَهْوَةٍ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ انْفِصَالُهُ عَنْ مَكَانِهِ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله ظُهُورُهُ أَيْضًا اعْتِبَارًا لِلْخُرُوجِ بِالْمُزَايَلَةِ إذْ الْغُسْلُ
الْخُرُوجِ عَنْ شَهْوَةٍ لِأَنَّ اللَّامَ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ: أَيْ الْمَاءُ الْمَعْهُودُ وَاَلَّذِي بِهِ الْعَهْدُ لَهُمْ هُوَ الْخَارِجُ عَنْ شَهْوَةٍ كَيْفَ وَرُبَّمَا يَأْتِي عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ جَمِيعَ عُمُرِهِ وَلَا يَرَى هَذَا الْمَاءَ مُجَرَّدًا عَنْهَا، عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْمَنِيِّ عَنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ عَائِشَةَ أَخَذَتْ فِي تَفْسِيرِهَا إيَّاهُ الشَّهْوَةَ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ مُوسَى عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ عَنْ الْمَذْيِ فَقَالَتْ: إنَّ كُلَّ فَحْلٍ يَمْذِي، وَإِنَّهُ الْمَذْيُ وَالْوَدْيُ وَالْمَنِيُّ، فَأَمَّا الْمَذْيُ فَالرَّجُلُ يُلَاعِبُ امْرَأَتَهُ فَيَظْهَرُ عَلَى ذَكَرِهِ الشَّيْءُ فَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ وَلَا يَغْتَسِلُ وَأَمَّا الْوَدْيُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ الْبَوْلِ يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ وَلَا يَغْتَسِلُ، وَأَمَّا الْمَنِيُّ فَإِنَّهُ الْمَاءُ الْأَعْظَمُ الَّذِي مِنْهُ الشَّهْوَةُ وَفِيهِ الْغُسْلُ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ قَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ نَحْوَهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ مَنِيٌّ إلَّا مِنْ خُرُوجِهِ بِشَهْوَةٍ، وَإِلَّا يَفْسُدُ الضَّابِطُ الَّذِي وَضَعَتْهُ لِتَمْيِيزِ الْمِيَاهِ لِتُعْطَى أَحْكَامَهَا (قَوْلُهُ ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ إلَخْ) لَا يَجِبُ الْغُسْلُ إذَا انْفَصَلَ عَنْ مَقَرِّهِ مِنْ الصُّلْبِ بِشَهْوَةٍ إلَّا إذَا خَرَجَ عَلَى رَأْسِ الذَّكَرِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ تُشْتَرَطُ مُقَارَنَةُ الشَّهْوَةِ لِلْخُرُوجِ؟ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ نَعَمْ، وَعِنْدَهُمَا لَا، فَافْهَمْ مَقْصُودَ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ مَزْلَقَةٌ.
وَقَدْ أَخْطَأَ بَعْضُ الطَّلَبَةِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ مِنْ خَارِجٍ، وَلَوْ تَأَمَّلَ قَوْلَهُ فِي دَلِيلِ أَبِي يُوسُفَ إذْ الْغُسْلُ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا لَزَالَ الرَّيْبُ عَنْهُ، وَمِنْ فُرُوعِ تَعَلُّقِهِ بِهِمَا لَوْ احْتَلَمَ فَوَجَدَ اللَّذَّةَ وَلَمْ يُنْزِلْ حَتَّى تَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَنْزَلَ اغْتَسَلَ وَلَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ، وَكَذَا لَوْ احْتَلَمَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يُنْزِلْ حَتَّى أَتَمَّهَا فَأَنْزَلَ لَا يُعِيدُهَا وَيَغْتَسِلُ.
وَقَوْلُهُمَا أَحْوَطُ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ بِالْإِنْزَالِ، فَإِذَا وُجِدَتْ مَعَ
يَتَعَلَّقُ بِهِمَا وَلَهُمَا أَنَّهُ مَتَى وَجَبَ مِنْ وَجْهٍ فَالِاحْتِيَاطُ فِي الْإِيجَابِ.
الِانْفِصَالِ صَدَقَ اسْمُهَا، وَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا ثُبُوتَ حُكْمِهَا وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ، لَكِنْ لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ إلَّا بِالْخُرُوجِ، فَيَثْبُتُ بِذَلِكَ الِانْفِصَالُ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَقْوَى مِمَّا بَقِيَ، وَالِاحْتِيَاطُ وَاجِبٌ وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْأَقْوَى مِنْ الْوَجْهَيْنِ فَوَجَبَ، وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ فِي صُوَرٍ اسْتَمْنَى بِكَفِّهِ أَوْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ أَوْ احْتَلَمَ، فَلَمَّا انْفَصَلَ أَخَذَ إحْلِيله حَتَّى سَكَنَتْ فَأَرْسَلَ فَخَرَجَ بِلَا شَهْوَةٍ يَجِبُ عِنْدَهُمَا لَا عِنْدَهُ.
وَمِنْهَا اغْتَسَلَ بَعْدَ الْجِمَاعِ قَبْلَ النَّوْمِ أَوْ الْبَوْلِ أَوْ الْمَشْيِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ الْمَنِيُّ بِلَا شَهْوَةٍ يُعِيدُ عِنْدَهُمَا لَا عِنْدَهُ، وَبَعْدَ أَحَدِهَا يُعِيدُ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّاهَا بَعْدَ الْغُسْلِ الْأَوَّلِ قَبْلَ خُرُوجِ مَا تَأَخَّرَ مِنْ الْمَنِيِّ اتِّفَاقًا.
قِيلَ وَمِنْهَا مُسْتَيْقِظٌ وَجَدَ بِثَوْبِهِ أَوْ فَخِذِهِ بَلَلًا وَلَمْ يَتَذَكَّرْ احْتِلَامًا وَشَكَّ فِي أَنَّهُ مَذْيٌ أَوْ مَنِيٌّ يَجِبُ عِنْدَهُمَا لِاحْتِمَالِ انْفِصَالِهِ عَنْ شَهْوَةٍ ثُمَّ نَسِيَ وَرَقَّ هُوَ بِالْهَوَاءِ خِلَافًا لَهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ ثَابِتٌ فِي الْخُرُوجِ كَذَلِكَ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الِانْفِصَالِ كَذَلِكَ فَالْحَقُّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَاءً عَلَيْهِ بَلْ هُوَ يَقُولُ لَا يَثْبُتُ وُجُوبُ الْغُسْلِ بِالشَّكِّ فِي وُجُودِ الْمُوجِبِ وَهُمَا احْتَاطَ لِقِيَامِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ، وَقِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ تَذَكَّرَ الِاحْتِلَامَ وَرَأَى مَاءً رَقِيقًا حَيْثُ يَجِبُ اتِّفَاقًا حَمْلًا لِلرِّقَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَقَوْلُهُ أَقْيَسُ وَأَخَذَ بِهِ خَلْفُ بْنُ أَيُّوبَ وَأَبُو اللَّيْثِ، وَلَوْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ مَذْيٌ لَا يَجِبُ اتِّفَاقًا لَكِنَّ التَّيَقُّنَ مُتَعَذِّرٌ مَعَ النَّوْمِ. وَقَوْلُهُمَا أَحْوَطُ قَالَ فِي التَّجْنِيسِ: لِأَنَّ النَّوْمَ مَظِنَّةُ الِاحْتِلَامِ فَيُحَالُ بِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ مَنِيًّا فَرَقَّ بِوَاسِطَةِ الْهَوَاءِ.
وَفِي التَّجْنِيسِ: أُغْشِيَ عَلَيْهِ فَأَفَاقَ فَوَجَدَ مَذْيًا أَوْ كَانَ سَكْرَانَ فَأَفَاقَ فَوَجَدَ مَذْيًا لَا غُسْلَ عَلَيْهِ، ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ، وَلَا يُشْبِهُ النَّائِمَ إذَا اسْتَيْقَظَ فَوَجَدَ عَلَى فِرَاشِهِ مَذْيًا حَيْثُ كَانَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ إنْ تَذَكَّرَ الِاحْتِلَامَ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَنِيَّ وَالْمَذْيَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ، وَقَدْ ظَهَرَ فِي النَّوْمِ تَذَكُّرٌ أَوْ لَا لِأَنَّ النَّوْمَ مَظِنَّةُ الِاحْتِلَامِ فَيُحَالُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَنِيٌّ رَقَّ بِالْهَوَاءِ، وَلِلْغِذَاءِ فَاعْتَبَرْنَاهُ مَنِيًّا احْتِيَاطًا، وَلَا كَذَلِكَ السَّكْرَانُ وَالْمَغْشِيُّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِمَا هَذَا السَّبَبُ، وَلَوْ تَذَكَّرَ الِاحْتِلَامَ وَالشَّهْوَةَ وَلَمْ يَرَ بَلَلًا لَا يَجِبُ اتِّفَاقًا، وَلَوْ وَجَدَ الزَّوْجَانِ بَيْنَهُمَا مَاءً دُونَ تَذَكُّرٍ وَلَا مُمَيَّزٌ بِأَنْ لَمْ يَظْهَرْ غِلَظُهُ وَرِقَّتُهُ وَلَا بَيَاضُهُ وَصُفْرَتُهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْغُسْلُ، صَحَّحَهُ فِي الظَّهِيرِيَّةِ وَلَمْ يَذْكُرُوا الْقَيْدَ فَقَالُوا يَجِبُ عَلَيْهِمَا.
وَقِيلَ إذَا كَانَ غَلِيظًا أَبْيَضَ فَعَلَيْهِ، أَوْ رَقِيقًا أَصْفَرَ فَعَلَيْهَا فَيُفِيدُونَهُ بِصُورَةِ نَقْلِ الْخِلَافِ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ تَقْيِيدُ الْوُجُوبِ عَلَيْهِمَا بِمَا ذَكَرْنَا فَلَا خِلَافَ إذًا. وَلَوْ احْتَلَمَتْ وَوَجَدَتْ لَذَّةَ الْإِنْزَالِ لَكِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَاؤُهَا إلَى فَرْجِهَا الظَّاهِرِ لَا غُسْلَ عَلَيْهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: وَبِهِ يُؤْخَذُ. وَقِيلَ يَجِبُ بِخِلَافِ الرَّجُلِ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ حَدِيثُ أُمِّ سُلَيْمٍ قَالَتْ «يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ، هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ قَالَ: نَعَمْ إذَا رَأَتْ الْمَاءَ» وَجْهُ الثَّانِي مَا رُوِيَ عَنْهَا «أَنَّهَا سَأَلَتْهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمَرْأَةِ تَرَى
(وَالْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَتَوَارَتْ الْحَشَفَةُ وَجَبَ الْغُسْلُ، أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ» وَلِأَنَّهُ سَبَبُ الْإِنْزَالِ وَنَفْسُهُ يَتَغَيَّبُ عَنْ بَصَرِهِ وَقَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ لِقِلَّتِهِ فَيُقَامُ مَقَامَهُ، وَكَذَا الْإِيلَاجُ فِي الدُّبُرِ لِكَمَالِ السَّبَبِيَّةِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ احْتِيَاطًا،
فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم إذَا رَأَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ» وَالْأَوَّلُ أَصْرَحُ فِي تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِالْخُرُوجِ، وَيَحْتَمِلُ كَوْنَ الْمُرَادِ بِمَا يَرَى الرَّجُلُ الِاحْتِلَامَ وَالْمَاءَ فَيُوَافِقُ الْأَوَّلَ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ إذْ الْغَالِبُ رُؤْيَةُ الْمَاءِ مَعَ الِاحْتِلَامِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى تَعَلُّقِ وُجُوبِ الْغُسْلِ بِوُجُودِ الْمَنِيِّ فِي احْتِلَامِهَا، وَالْقَائِلُ بِوُجُوبِهِ فِي هَذِهِ الْخِلَافِيَّةِ إنَّمَا يُوجِبُهُ بِنَاءً عَلَى وُجُودِهِ وَإِنْ لَمْ تَرَهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَعْلِيلُهُ فِي التَّجْنِيسِ احْتَلَمَتْ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا الْمَاءُ إنْ وَجَدَتْ شَهْوَةَ الْإِنْزَالِ كَانَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ، وَإِلَّا لَا لِأَنَّ مَاءَهَا لَا يَكُونُ دَافِقًا كَمَاءِ الرَّجُلِ، وَإِنَّمَا يَنْزِلُ مِنْ صَدْرِهَا، فَهَذَا التَّعْلِيلُ يُفْهِمُك أَنَّ الْمُرَادَ بِعَدَمِ الْخُرُوجِ فِي قَوْلِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا لَمْ تَرَهُ خَرَجَ.
فَعَلَى هَذَا الْأَوْجَهُ وُجُوبُ الْغُسْلِ فِي الْخِلَافِيَّةِ، وَالِاحْتِلَامُ يَصْدُقُ بِرُؤْيَتِهَا صُورَةَ الْجِمَاعِ فِي نَوْمِهَا وَهُوَ يَصْدُقُ بِصُورَتَيْ وُجُودِ لَذَّةِ الْإِنْزَالِ وَعَدَمِهِ، فَلِذَا لَمَّا أَطْلَقَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ السُّؤَالَ عَنْ احْتِلَامِ الْمَرْأَةِ قَيَّدَ صلى الله عليه وسلم جَوَابَهَا بِإِحْدَى الصُّورَتَيْنِ فَقَالَ «إذَا رَأَتْ الْمَاءَ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمُ مُطْلَقًا فَإِنَّهَا لَوْ تَيَقَّنَتْ الْإِنْزَالَ بِأَنْ اسْتَيْقَظَتْ فِي فَوْرِ الِاحْتِلَامِ فَأَحَسَّتْ بِيَدِهَا الْبَلَلَ ثُمَّ نَامَتْ فَمَا اسْتَيْقَظَتْ حَتَّى جَفَّ فَلَمْ تَرَ بِعَيْنِهَا شَيْئًا لَا يَسَعُ الْقَوْلُ بِأَنْ لَا غُسْلَ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّهُ لَا رُؤْيَةَ بَصَرٍ بَلْ رُؤْيَةُ عِلْمٍ (وَرَأَى) يُسْتَعْمَلُ حَقِيقَةً فِي مَعْنَى (عَلِمَ) بِاتِّفَاقِ اللُّغَةِ.
قَالَ: رَأَيْت اللَّهَ أَكْبَرَ كُلِّ شَيْءٍ وَلَوْ جُومِعَتْ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَسَبَقَ الْمَاءُ إلَى فَرْجِهَا، أَوْ جُومِعَتْ الْبِكْرُ لَا غُسْلَ عَلَيْهَا إلَّا إذَا ظَهَرَ الْحَبَلُ لِأَنَّهَا لَا تَحْبَلُ إلَّا إذَا أَنْزَلَتْ، وَلَوْ جُومِعَتْ فَاغْتَسَلَتْ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا مَنِيُّ الرَّجُلِ لَا غُسْلَ عَلَيْهَا. امْرَأَةٌ قَالَتْ مَعِي جِنِّيٌّ يَأْتِينِي فِي النَّوْمِ مِرَارًا وَأَجِدُ مَا أَجِدُ إذَا جَامَعَنِي زَوْجِي لَا غُسْلَ عَلَيْهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ تَرَ الْمَاءَ، فَإِنْ رَأَتْهُ صَرِيحًا وَجَبَ كَأَنَّهُ احْتِلَامٌ. .
(قَوْلُهُ وَالْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ) الْخِتَانَانِ مَوْضِعُ الْقَطْعِ مِنْ الذَّكَرِ وَالْفَرْجِ وَهُوَ سُنَّةٌ لِلرَّجُلِ مَكْرُمَةٌ لَهَا، إذْ جِمَاعُ الْمَخْتُونَةِ أَلَذُّ، وَفِي نَظْمِ الْفِقْهِ سُنَّةٌ فِيهِمَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ يُجْبَرُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ خَشْيَةِ الْهَلَاكِ، وَلَوْ تَرَكَتْهُ هِيَ لَا، وَالتَّعْبِيرُ بِغَيْبُوبَةِ الْحَشَفَةِ أَوْلَى لِتَنَاوُلِهِ الْإِيلَاجَ فِي الدُّبُرِ، وَلِأَنَّ الثَّابِتَ فِي الْفَرْجِ مُحَاذَاتُهُمَا لَا الْتِقَاؤُهُمَا (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام) مَعْنَى الْحَدِيثِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ
بِخِلَافِ الْبَهِيمَةِ وَمَا دُونَ الْفَرْجِ لِأَنَّ السَّبَبِيَّةَ نَاقِصَةٌ.
قَالَ (وَالْحَيْضُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بِالتَّشْدِيدِ وَ) كَذَا
وَالسُّنَنِ كَثِيرًا، وَبِهَذَا اللَّفْظِ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ «إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَتَوَارَتْ الْحَشَفَةُ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» .
وَلَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ أَنَّ الْفُتْيَا الَّتِي كَانُوا يُفْتُونَ إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ كَانَتْ رُخْصَةً رَخَّصَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَمَرَ بِالِاغْتِسَالِ فَصَرَّحَ بِالنَّسْخِ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ: الْوُجُوبُ بِالْإِيلَاجِ فِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ، وَالْمَيْتَةِ الْآدَمِيَّةِ، وَأَصْحَابُنَا مَنَعُوهُ إلَّا أَنْ يُنْزِلَ، لِأَنَّ وَصْفَ الْجَنَابَةِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى خُرُوجِ الْمَنِيِّ ظَاهِرًا أَوْ حُكْمًا عِنْدَ كَمَالِ سَبَبِهِ مَعَ خَفَاءِ خُرُوجِهِ لِقِلَّتِهِ وَتَكَسُّلِهِ فِي الْمَجْرَى لِضَعْفِ الدَّفْقِ لِعَدَمِ بُلُوغِ الشَّهْوَةِ مُنْتَهَاهَا كَمَا يَجِدُهُ الْمَجَامِعُ فِي أَثْنَاءِ الْجِمَاعِ مِنْ اللَّذَّةِ بِمُقَارَبَةِ الْمُزَايَلَةِ فَيَجِبُ حِينَئِذٍ إقَامَةُ السَّبَبِ مَقَامَهُ، وَهَذَا عِلَّةُ كَوْنِ الْإِيلَاجِ فِيهِ الْغُسْلُ فَيَتَعَدَّى الْحُكْمُ إلَى الْإِيلَاجِ فِي الدُّبُرِ، وَعَلَى الْمُلَاطِ بِهِ إذْ رُبَّمَا يَلْتَذُّ فَيُنْزِلُ وَيَخْفَى لِمَا قُلْنَا، وَأَخْرَجُوا مَا ذَكَرْنَا لَكِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَخْصِيصَ النَّصِّ بِالْمَعْنَى ابْتِدَاءً.
وَحَكَى فِي الْوُجُوبِ عَلَى مَنْ غَابَتْ الْحَشَفَةُ فِي فَرْجِهِ خِلَافًا فِي الْمُبْتَغَى
(قَوْلُهُ وَالْحَيْضُ) أَيْ انْقِطَاعُهُ، وَكَذَا فِي النِّفَاسِ قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ، إذْ انْقِطَاعُهُ طَهَارَةٌ وَإِنَاطَةُ الْغُسْلِ بِالْحَدَثِ: أَعْنِي النَّجَسَ الْخَارِجَ أَنْسَبُ، فَالْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَالْحَيْضُ نَفْسُهُ سَبَبٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ حَالَ قِيَامِهِ كَحَالِ جَرَيَانِ الْبَوْلِ، فَإِذَا انْقَطَعَ أَفَادَ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْحَيْضَ مُوجِبٌ بِشَرْطِ انْقِطَاعِهِ، وَالْأُولَى مِنْهُمَا وِزَانُ مَا قَدَّمْنَا فِي الْمَعَانِي الْمُوجِبَةِ لِلْغُسْلِ وَبِهِمَا تَمَّتْ الِاغْتِسَالَاتُ الْمَفْرُوضَةُ وَشَرَعَ فِي الْمَسْنُونَةِ وَهِيَ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ، بَقِيَ غُسْلٌ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ غُسْلُ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ غَيْرَ جُنُبٍ، فَإِنْ أَسْلَمَ جُنُبًا اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ لَا يَجِبُ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ جَنَابَةٌ، وَالْأَصَحُّ وُجُوبُهُ لِبَقَاءِ صِفَةِ الْجَنَابَةِ السَّابِقَةِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَلَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الْمَشْرُوطِ بِزَوَالِهَا إلَّا بِهِ
(النِّفَاسُ) لِلْإِجْمَاعِ.
قَالَ «وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْغُسْلَ لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَعَرَفَةَ وَالْإِحْرَامِ» ) نَصَّ عَلَى السُّنِّيَّةِ، وَقِيلَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، وَسَمَّى مُحَمَّدٌ الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَسَنًا فِي الْأَصْلِ. وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: هُوَ
فَيُفْتَرَضُ.
وَلَوْ حَاضَتْ الْكَافِرَةُ فَطَهُرَتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: لَا غُسْلَ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الْجُنُبِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ صِفَةَ الْجَنَابَةِ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَكَأَنَّهُ أَجْنَبَ بَعْدَهُ، وَالِانْقِطَاعُ فِي الْحَيْضِ هُوَ السَّبَبُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ بَعْدَهُ، فَلِذَا لَوْ أَسْلَمَتْ حَائِضًا ثُمَّ طَهُرَتْ وَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ. وَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ بِالِاحْتِلَامِ أَوْ هِيَ بِالْحَيْضِ قِيلَ يَجِبُ عَلَيْهَا لَا عَلَيْهِ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ.
قَالَ قَاضِي خَانْ: وَالْأَحْوَطُ وُجُوبُ الْغُسْلِ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا اهـ وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ إذَا أَسْلَمَ مُحْدِثًا. وَقَدْ يُقَالُ: لَا مَعْنَى لِلْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ، فَإِنَّهُ إنْ اُعْتُبِرَ حَالُ الْبُلُوغِ أَوَانَ انْعِقَادَ أَهْلِيَّةِ التَّكْلِيفِ فَهُوَ كَحَالِ انْعِقَادِ الْعِلَّةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا، وَإِنْ اُعْتُبِرَ أَوْ إنْ تَوَجَّهَ الْخِطَابُ حَتَّى اتَّحَدَ زَمَانُهُمَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا. وَالْحَيْضُ إمَّا حَدَثٌ أَوْ يُوجِبُ حَدَثًا فِي رُتْبَةِ حَدَثِ الْجَنَابَةِ لِمَا سَنُحَقِّقُهُ فِي بَابِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَّحِدَ حُكْمُهُ بِاَلَّذِي أَسْلَمَ جُنُبًا.
وَجَوَابُهُ أَنَّ السَّبَبَ فِي الْحَيْضِ الِانْقِطَاعُ وَثُبُوتُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِتَحَقُّقِ الْبُلُوغِ بِابْتِدَاءِ الْحَيْضِ كَيْ لَا يَثْبُتَ الِانْقِطَاعُ إلَّا وَهِيَ بَالِغَةٌ، بِخِلَافِ الْجَنَابَةِ
(قَوْلُهُ وَقِيلَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ) وَهُوَ النَّظَرُ، فَإِنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ لَا مَرَدَّ لِشَرْعِيَّتِهِ، وَكَانَ وَاجِبًا عَلَى مَا يُفِيدُهُ دَلِيلُ مَالِكٍ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم
وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ» . وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنْ اغْتَسَلَ فَهُوَ أَفْضَلُ» وَبِهَذَا يُحْمَلُ مَا رَوَاهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ أَوْ عَلَى النَّسْخِ، ثُمَّ هَذَا
قَالَ «غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» فَإِنْ عُوِّلَ فِي الْجَوَابِ عَلَى النَّسْخِ مَعَ مَا دُفِعَ بِهِ مِنْ أَنَّ النَّاسِخَ وَإِنْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ لَا يَقْوَى قُوَّةَ حَدِيثِ الْوُجُوبِ وَلَيْسَ فِيهِ تَارِيخٌ أَيْضًا، فَعِنْدَ التَّعَارُضِ يُقَدَّمُ الْمُوجِبُ، فَإِذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ لَا يَبْقَى حُكْمٌ آخَرُ بِخُصُوصِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ يُفِيدُ الِاسْتِحْبَابَ، وَكَذَا إنْ عُوِّلَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ انْتِهَاءِ الْحُكْمِ بِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ، كَمَا يُفِيدُهُ مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عِكْرِمَةَ «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ جَاءُوا فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَتَرَى الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبًا؟ فَقَالَ لَا، وَلَكِنَّهُ طَهُورٌ، وَخَيْرٌ لِمَنْ اغْتَسَلَ وَمَنْ لَمْ يَغْتَسِلْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ بِوَاجِبٍ، وَسَأُخْبِرُكُمْ كَيْفَ بَدْءُ الْغُسْلِ: كَانَ النَّاسُ مَجْهُودِينَ يَلْبَسُونَ الصُّوفَ وَيَعْمَلُونَ عَلَى ظُهُورِهِمْ، وَكَانَ مَسْجِدُهُمْ ضَيِّقًا مُقَارِبَ السَّقْفِ إنَّمَا هُوَ عَرِيشٌ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمٍ حَارٍّ وَعَرِقَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الصُّوفِ حَتَّى صَارَتْ مِنْهُمْ رِيَاحٌ حَتَّى آذَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمَّا وَجَدَ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الرِّيَاحَ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إذَا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ فَاغْتَسِلُوا، وَلْيَمَسَّ أَحَدُكُمْ أَمْثَلَ مَا يَجِدُهُ مِنْ دُهْنِهِ وَطِيبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُمَّ جَاءَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ وَلَبِسُوا غَيْرَ الصُّوفِ وَكُفُوا الْعَمَلَ وَوُسِّعَ مَسْجِدُهُمْ وَذَهَبَ بَعْضُ الَّذِي كَانَ يُؤْذِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ الْعَرَقِ».
وَإِنْ عُوِّلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ النَّدْبُ وَبِالْوُجُوبِ الثُّبُوتُ شَرْعًا عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ بِالْقَرِينَةِ الْمُنْفَصِلَةِ: أَعْنِي قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «وَمَنْ اغْتَسَلَ فَهُوَ أَفْضَلُ» فَدَلِيلُ النَّدْبِ يُثْبِتُ الِاسْتِحْبَابَ، إذْ لَا سُنَّةَ دُونَ الْمُوَاظَبَةِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ ذَلِكَ لَازِمُ النَّدْبِ، ثُمَّ يُقَاسُ عَلَيْهِ بَاقِي الِاغْتِسَالِ، وَإِنَّمَا يَتَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ حُكْمُ الْأَصْلِ وَهُوَ الِاسْتِحْبَابُ. وَأَمَّا مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ «كَانَ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْعِيدَيْنِ» وَعَنْ الْفَاكِهِ بْنِ سَعْدٍ الصَّحَابِيِّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَيَوْمَ الْفِطْرِ» فَضَعِيفَانِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَأَمَّا مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَجَرَّدَ لِإِهْلَالِهِ وَاغْتَسَلَ» فَوَاقِعَةُ حَالٍ لَا تَسْتَلْزِمُ الْمُوَاظَبَةَ، فَاللَّازِمُ الِاسْتِحْبَابُ، إلَّا أَنْ يُقَالَ إهْلَالُهُ اسْمُ جِنْسٍ مُضَافٌ فَيَعُمُّ لَفْظُهُ كُلَّ إهْلَالٍ صَدَرَ مِنْهُ فَيُثْبِتُ سُنِّيَّةَ هَذَا الْغُسْلِ، هَذَا وَمِنْ الْأَغْسَالِ الْمَنْدُوبَةِ: الِاغْتِسَالُ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَالْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ وَدُخُولِ مَدِينَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ، وَلِلْحِجَامَةِ لِشُبْهَةِ الْخِلَافِ، وَلِلَيْلَةِ الْقَدْرِ إذَا رَآهَا، وَلِلْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ، وَالصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ بِالسِّنِّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْغَايَةِ، وَكَذَا يُسْتَحَبُّ لِلْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ.
قَالَ فِي التَّجْنِيسِ: بِذَلِكَ أَمَرَ صلى الله عليه وسلم مَنْ جَاءَهُ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ، وَظَاهِرُهُ وَكَذَا وَاقِعَةُ ابْنِ أُثَالٍ تُفِيدُ أَنَّ الْغُسْلَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لِلْإِسْلَامِ، وَيَكْفِي غُسْلٌ وَاحِدٌ لِسُنَّتَيْ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ إذَا اجْتَمَعَا كَمَا لِفَرْضَيْ جَنَابَةٍ وَحَيْضٍ.
وَبَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ نَقَلَ الْخِلَافُ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ مِنْهُمَا أَوْ أَنَّهُ يَقَعُ مِنْ السَّابِقِ مِنْهُمَا، وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ
الْغُسْلُ لِلصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله هُوَ الصَّحِيحُ لِزِيَادَةِ فَضِيلَتِهَا عَلَى الْوَقْتِ وَاخْتِصَاصِ الطَّهَارَةِ بِهَا، وَفِيهِ خِلَافُ الْحَسَنِ، وَالْعِيدَانِ بِمَنْزِلَةِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ فِيهِمَا الِاجْتِمَاعُ فَيُسْتَحَبُّ الِاغْتِسَالُ دَفْعًا لِلتَّأَذِّي بِالرَّائِحَةِ. وَأَمَّا فِي عَرَفَةَ وَالْإِحْرَامِ فَسَنُبَيِّنُهُ فِي الْمَنَاسِكِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ (وَلَيْسَ فِي الْمَذْيِ وَالْوَدْيِ غُسْلٌ وَفِيهِمَا الْوُضُوءُ)
كُلًّا مِنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ يُوجِبُ الْغُسْلَ، فَإِذَا اجْتَمَعَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيُوجِبَانِهِ فَيَكُونُ مِنْهُمَا، وَجْهُ الثَّانِي أَنَّ وُجُوبَهُ لِلنَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ الْكَائِنَةِ بِالْحَدَثِ، وَإِذَا جَاءَتْ بِالسَّبَبِ الْأَوَّلِ لَا يُؤَثِّرُ السَّبَبُ الثَّانِي إيَّاهَا، وَهَذَا لِأَنَّهَا وَاحِدَةٌ تَثْبُتُ بِأَسْبَابٍ لَا مُتَعَدِّدَةٌ بِتَعَدُّدِ الْأَسْبَابِ، فَإِذَا ثَبَتَتْ بِأَحَدِهِمَا اسْتَحَالَ أَنْ تَثْبُتَ بِالثَّانِي حَالَ قِيَامِهَا، وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ فِي امْرَأَةٍ حَلَفَتْ لَا تَغْتَسِلُ مِنْ زَوْجِهَا مِنْ جَنَابَةٍ فَحَاضَتْ ثُمَّ جَامَعَهَا ثُمَّ اغْتَسَلَتْ تَحْنَثُ عَلَى الْأَوَّلِ لَا الثَّانِي (قَوْلُهُ لِلصَّلَاةِ إلَخْ).
تَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ فِيمَنْ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ هَلْ يُسَنُّ لَهُ الْغُسْلُ أَوْ لَا، وَفِيمَنْ اغْتَسَلَ ثُمَّ أَحْدَثَ وَتَوَضَّأَ وَصَلَّى بِهِ الْجُمُعَةَ لَا يَكُونُ لَهُ فَضْلُ غُسْلِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَفِيمَنْ اغْتَسَلَ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَفِي الْكَافِي لَوْ اغْتَسَلَ قَبْلَ الصُّبْحِ وَصَلَّى بِهِ لِلْجُمُعَةِ نَالَ فَضْلَ الْغُسْلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُف، وَعِنْدَ الْحَسَنِ لَا.
وَاسْتَشْكَلَهُ شَارِحُ الْكَنْزِ لِأَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ وُجُودَ الِاغْتِسَالِ فِيمَا سُنَّ الِاغْتِسَالُ لِأَجْلِهِ، بَلْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُتَطَهِّرًا بِطَهَارَةِ الْغُسْلِ فَلَا يَحْسُنُ نَفْيُ الْحَسَنِ
(قَوْلُهُ وَفِيهِمَا الْوُضُوءُ) أُورِدَ: لَا يُتَصَوَّرُ الْوُضُوءُ مِنْ الْوَدْيِ لِأَنَّهُ يَتَعَقَّبُ الْبَوْلَ فَيَكُونُ الْوُضُوءُ مِنْ النَّاقِضِ السَّابِقِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ لَوْ فُرِضَ خُرُوجُهُ ابْتِدَاءً كَانَ فِيهِ الْوُضُوءُ، وَبِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِيمَا لَوْ تَوَضَّأَ عَلَى إثْرِ بَوْلِهِ بِلَا مُهْلَةٍ ثُمَّ مَشَى فَتَحَلَّلَ وَدْيٌ وَخَرَجَ حَتَّى لَوْ كَانَ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ فَوَجَدَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الْوَقْتِ كَانَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَبِأَنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ بِالْبَوْلِ لَا يُنَافِي وُجُوبَهُ بِالْوَدْيِ بَلْ يَجِبُ بِهِمَا، حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ الرُّعَافِ فَبَالَ ثُمَّ رَعَفَ ثُمَّ تَوَضَّأَ حَنِثَ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ. فَعُلِمَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُوجِبٌ إلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، وَأَنْتَ إذَا حَقَّقْتَ أَنَّ النَّاقِضَ يُثْبِتُ الْحَدَثَ ثُمَّ تَجِبُ إزَالَتُهُ عِنْدَ وُجُوبِ الْمَشْرُوطِ وَأَنَّ الْحَدَثَ مَانِعِيَّةٌ اُعْتُبِرَتْ قَائِمَةٌ بِالْأَعْضَاءِ شَرْعًا إلَى غَايَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُزِيلِ، أَوْ وَصْفٌ اعْتِبَارِيٌّ شَرْعًا يَمْنَعُ إلَى الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا أَمْرٌ وَاحِدٌ لَا تَعَدُّدَ إلَّا فِي أَسْبَابِهِ.
فَالثَّابِتُ بِكُلِّ سَبَبٍ هُوَ الثَّابِتُ بِالْآخَرِ، إذْ لَا دَلِيلَ يُوجِبُ خِلَافَ ذَلِكَ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ الْحُكْمِ بِكَوْنِ الْوُضُوءِ فِي مِثْلِهِ عَنْ الْحَدَثِ السَّابِقِ عَلَى السَّبَبِ الثَّانِي، وَأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ شَيْئًا لِاسْتِحَالَةِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ.
نَعَمْ لَوْ وَقَعَتْ الْأَسْبَابُ دُفْعَةً كَأَنْ رَعَفَ وَبَالَ وَفَسَا مَعًا أُضِيفَ ثُبُوتُهُ إلَى كُلِّهَا فَلَا يَنْفِي ذَلِكَ كَوْنُ كُلٍّ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِقْلَالِ كَوْنُ الْوَصْفِ يَحْدُثُ لَوْ انْفَرَدَ أَثَرٌ وَهَذِهِ الْحَيْثِيَّةُ ثَابِتَةٌ لِكُلٍّ فِي حَالِ الِاجْتِمَاعِ، كَذَا قَرَّرَ فِي فُصُولِ الْآمِدِيِّ، وَهُوَ مَعْقُولٌ يَجِبُ قَبُولُهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُرْجَانِيِّ مِنْ مَشَايِخِنَا وَإِنْ كَانَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْهُمَا يَقْتَضِي أَنَّ الثَّانِيَ أَثَرُ الْحَدَثِ أَيْضًا كَالْأَوَّلِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَحْوُهُ.
وَالْحَقُّ أَنْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ كَوْنِ الْحَدَثِ بِالسَّبَبِ الْأَوَّلِ فَقَطْ وَبَيْنَ الْحِنْثِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِنَاؤُهُ عَلَى تَعَدُّدِ الْحَدَثِ بَلْ عَلَى الْعُرْفِ، وَالْعُرْفُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ تَوَضَّأَ بَعْدَ بَوْلٍ
لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «كُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي وَفِيهِ الْوُضُوءُ» وَالْوَدْيُ: الْغَلِيظُ مِنْ الْبَوْلِ يَتَعَقَّبُ الرَّقِيقَ مِنْهُ خُرُوجًا فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا بِهِ، وَالْمَنِيُّ: خَاثِرٌ أَبْيَضُ يَنْكَسِرُ مِنْهُ الذَّكَرُ، وَالْمَذْيُ: رَقِيقٌ يَضْرِبُ إلَى الْبَيَاضِ يَخْرُجُ عِنْدَ مُلَاعَبَةِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ. وَالتَّفْسِيرُ مَأْثُورٌ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -. .
بَابُ الْمَاءِ الَّذِي يَجُوزُ بِهِ الْوُضُوءُ وَمَا لَا يَجُوزُ
(الطَّهَارَةُ مِنْ الْأَحْدَاثِ
وَرُعَافٍ تَوَضَّأَ مِنْهُمَا. وَعَنْ الْحَلْوَانِيِّ تَفْصِيلٌ بَيْنَ كَوْنِ الثَّانِي مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ الْوُضُوءُ عَنْ الْأَوَّلِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَمِنْهُمَا (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «كُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي وَفِيهِ الْوُضُوءُ») أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ نَحْوَهُ، وَأَصْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ فِي الصَّحِيحَيْنِ شَهِيرٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالتَّفْسِيرُ مَأْثُورٌ عَنْ عَائِشَةَ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ.
[فَرْعٌ]
الْجُنُبُ أَوْلَى بِالْمَاءِ الْمُبَاحِ إذَا وَجَدَهُ هُوَ وَحَائِضٌ أَوْ وَمَعَهُ مَيِّتٌ وَيُيَمَّمُ الْمَيِّتُ وَالْحَائِضُ وَكَذَا مِنْ الْمُحْدِثِ
بَابُ الْمَاءِ الَّذِي يَجُوزُ بِهِ الْوُضُوءُ
جَائِزٌ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْعُيُونِ وَالْآبَارِ وَالْبِحَارِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «وَالْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ» وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِي الْبَحْرِ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَنْطَلِقُ عَلَى هَذِهِ الْمِيَاهِ.
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بِمَا اُعْتُصِرَ مِنْ الشَّجَرِ وَالثَّمَرِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَاءٍ مُطْلَقٍ وَالْحُكْمُ عِنْدَ فَقْدِهِ مَنْقُولٌ إلَى التَّيَمُّمِ
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى عُمُومِ الدَّعْوَى إنْ كَانَتْ كُلُّ الْمِيَاهِ أَصْلُهَا مِنْ السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا سَلَكَتْ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} وَعَلَى بَعْضِهَا إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّعْوَى هِيَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوَضِّي بِهَذِهِ الْمِيَاهِ، وَلَيْسَ فِي النَّصِّ الْمَذْكُورِ وَلَا الْأَحَادِيثِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ، بَلْ إنَّمَا أَفَادَتْ وَصْفَ الْمَاءِ بِالطَّهُورِيَّةِ، وَالْأَصْحَابُ مُصَرِّحُونَ بِأَنْ لَيْسَ مَعْنَى الطَّهُورِ لُغَةً مَا يُطَهِّرُ غَيْرَهُ، بَلْ إنَّمَا هُوَ الْمُبَالَغُ فِي طَهَارَتِهِ، أَيْ طَهَارَتُهُ قَوِيَّةٌ وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كَوْنَهُ يُطَهِّرُ غَيْرَهُ، وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ مَعَ مَالِكٍ رضي الله عنه، وَكَوْنُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِلَفْظِ طَهُورٍ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ مَا يُطَهِّرُ غَيْرَهُ دَلِيلٌ آخَرُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ.
وَأَمَّا النَّصُّ الْمَذْكُورُ بِاسْتِقْلَالِهِ لَا يُوجِبُهُ، فَكَانَ الْوَجْهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} وَحَدِيثُ «الْمَاءُ طَهُورٌ» حَاصِلُ كَلَامِهِمْ فِيهِ أَنَّهُ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ ضَعِيفٌ بِرِشْدِينِ بْنِ سَعْدٍ وَبِدُونِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْخُدْرِيِّ «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ تُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْقَطَّانِ وَإِنْ ضَعَّفَهُ بِسَبَبِ الْخِلَافِ فِي تَسْمِيَةِ بَعْضِ أَهْلِ السَّنَدِ، وَقَدْ قَالَ: وَلَهُ إسْنَادٌ صَحِيحٌ
وَالْوَظِيفَةُ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ تَعَبُّدِيَّةٌ فَلَا تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي يَقْطُرُ مِنْ الْكَرْمِ فَيَجُوزُ التَّوَضِّي بِهِ لِأَنَّهُ مَاءٌ يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ عِلَاجٍ، ذَكَرَهُ فِي جَوَامِعِ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله.
فَذَكَرَهُ، وَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ
، فَحِينَئِذٍ يُسْتَدَلُّ بِالْقَدْرِ الصَّحِيحِ عَلَى طُهُورِيَّةِ الْمَاءِ، وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى تَنَجُّسِهِ بِتَغَيُّرِ وَصْفِهِ بِالنَّجَاسَةِ. وَأَمَّا إنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ إلَّا إذَا تَغَيَّرَ كَمَا قَالَ مَالِكٌ إذًا لَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى تَنَجُّسِهِ بِالتَّغَيُّرِ يُفِيدُ أَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ. نَعَمْ لَهُ طَرِيقٌ نَذْكُرُهَا عِنْدَ الْكَلَامِ مَعَ الْإِمَامِ مَالِكٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَحَدِيثُ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَفَتَتَوَضَّأُ مِنْ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: سَأَلْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ هَذَا. وَأَمَّا مَا أُعِلَّ بِهِ مِنْ جَهَالَةِ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ وَالِاخْتِلَافِ فِي سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ هَلْ هُوَ هَذَا أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ فَمَدْفُوعَانِ بِإِظْهَارِ مَعْرِفَتِهِمَا، وَإِقَامَةِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّإِ السَّنَدَ عَنْ صَفْوَانِ بْنِ سُلَيْمٍ وَتَابَعَهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ الْجُلَاحِ بْنِ كَثِيرٍ وَابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ الْجُلَاحِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ أَخْرَجَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فَلَا يَضُرُّ الْخِلَافُ بَعْدَ هَذَا. وَأَمَّا الْإِعْلَالُ بِالْإِرْسَالِ لِأَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ رَوَاهُ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ أَنَّ نَاسًا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَحْفَظُ مِنْ صَفْوَانِ بْنِ سُلَيْمٍ وَأَثْبَتُ مِنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ اللَّذَيْنِ رَوَيَاهُ عَنْ ابْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ إرْسَالَ الْأَحْفَظِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصْلِ مِنْ الثِّقَةِ دُونَهُ، وَهُوَ غَيْرُ الْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَكَذَا الْإِعْلَالُ بِاضْطِرَابِ هُشَيْمٍ مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ اتَّفَقَ عَلَيْهِ فِيهِ، فَأَمَّا وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ هُشَيْمٍ عَلَى الصَّوَابِ فَلَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ السُّنَّةُ وَرَدَتْ بِغَسْلِ الْمَيِّتِ بِالْمَاءِ الَّذِي أُغْلِيَ فِيهِ السِّدْرُ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَاَلَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» الْحَدِيثُ لَيْسَ فِيهِ غَلْيٌ
(قَوْلُهُ وَالْوَظِيفَةُ فِي هَذِهِ) جَوَابُ سُؤَالٍ هُوَ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُعْتَصَرَ مِنْ الشَّجَرِ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ لَكِنْ لِمَ لَمْ يَلْحَقْ بِالْمُطْلَقِ فِي إزَالَةِ
وَفِي الْكِتَابِ إشَارَةٌ إلَيْهِ حَيْثُ شَرَطَ الِاعْتِصَارَ.
قَالَ (وَلَا) يَجُوزُ (بِمَاءٍ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَأَخْرَجَهُ عَنْ طَبْعِ الْمَاءِ كَالْأَشْرِبَةِ وَالْخَلِّ وَمَاءِ الْبَاقِلَّا وَالْمَرَقِ وَمَاءِ الْوَرْدِ وَمَاءِ الزَّرْدَجِ) لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مَاءً مُطْلَقًا، وَالْمُرَادُ بِمَاءِ الْبَاقِلَّا وَغَيْرِهِ مَا تَغَيَّرَ بِالطَّبْخِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ بِدُونِ الطَّبْخِ يَجُوزُ التَّوَضِّي بِهِ.
قَالَ (وَتَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِمَاءٍ خَالَطَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ فَغَيَّرَ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، كَمَاءِ الْمَدِّ وَالْمَاءِ الَّذِي اخْتَلَطَ بِهِ اللَّبَنُ أَوْ الزَّعْفَرَانُ أَوْ الصَّابُونُ أَوْ الْأُشْنَانُ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ: أَجْرَى فِي الْمُخْتَصَرِ مَاءَ الزَّرْدَجِ مَجْرَى الْمَرَقِ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله بِمَنْزِلَةِ مَاءِ الزَّعْفَرَانِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، كَذَا اخْتَارَهُ النَّاطِفِيُّ وَالْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ رحمه الله.
الْحُكْمِيَّةِ كَمَا أَلْحَقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِهِ فِي إزَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ؟ فَأَجَابَ بِامْتِنَاعِ الْإِلْحَاقِ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ: أَعْنِي إزَالَةَ الْحُكْمِيَّةِ غَيْرُ مَعْقُولٍ، إذْ لَا نَجَاسَةَ عَلَى الْأَعْضَاءِ مَحْسُوسَةً يُزِيلُهَا الْمَاءُ لِيَلْحَقَ بِهِ الْمَانِعُ فِي ذَلِكَ، بَلْ الْكَائِنُ اعْتِبَارٌ شَرْعِيٌّ مَحْضٌ لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ إذْ مُنِعَتْ الصَّلَاةُ مَعَهُ، وَقَدْ عُيِّنَ لِإِزَالَتِهِ شَرْعًا آلَةٌ فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُ غَيْرِهَا بِهَا فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ إنَاطَةِ ذَلِكَ الِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ لَمَّا عُقِلَ اعْتِبَارُ خُرُوجِهَا مُؤَثِّرًا فِي ذَلِكَ دَارَ مَعَهُ سَوَاءً كَانَتْ مِنْ السَّبِيلَيْنِ أَوْ غَيْرِهِمَا، فَلَا يُنَافِي كَلَامُهُ هَذَا قَوْلَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ إنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ مُؤَثِّرٌ فِي زَوَالِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجُوزُ التَّوَضِّي بِمَاءِ الزَّعْفَرَانِ وَأَشْبَاهِهِ مِمَّا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ مَاءٌ مُقَيَّدٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ مَاءُ الزَّعْفَرَانِ بِخِلَافِ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ؟ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَخْلُو عَنْهَا عَادَةً وَلَنَا أَنَّ اسْمَ الْمَاءِ بَاقٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ اسْمٌ عَلَى حِدَةٍ وَإِضَافَتُهُ إلَى الزَّعْفَرَانِ كَإِضَافَتِهِ إلَى الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ، وَلِأَنَّ الْخَلْطَ الْقَلِيلَ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ كَمَا فِي أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَيُعْتَبَرُ الْغَالِبُ، وَالْغَلَبَةُ بِالْأَجْزَاءِ لَا بِتَغَيُّرِ اللَّوْنِ هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنْ تَغَيَّرَ
الطَّهَارَةِ وَأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ غَيْرُ مَعْقُولٍ.
(قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) اعْلَمْ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ تُزَالُ بِهِ الْأَحْدَاثُ أَعْنِي مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ مَاءٌ، وَالْمُقَيَّدُ لَا يُزِيلُ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَنْقُولٌ إلَى التَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمُطْلَقِ فِي النَّصِّ، وَالْخِلَافُ فِي الْمَاءِ الَّذِي خَالَطَهُ الزَّعْفَرَانُ وَنَحْوُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ تَقَيَّدَ بِذَلِكَ أَوْ لَا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: تَقَيَّدَ لِأَنَّهُ يُقَالُ مَاءُ الزَّعْفَرَانِ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّهُ يُقَالُ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا يَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ مَا دَامَ الْمُخَالِطُ مَغْلُوبًا أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ فِيهِ هَذَا مَاءٌ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ.
وَقَدْ رَأَيْنَاهُ يُقَالُ فِي مَاءِ الْمَدِّ وَالنِّيلِ حَالَ غَلَبَةِ لَوْنِ الطِّينِ عَلَيْهِ، وَتَقَعُ الْأَوْرَاقُ فِي الْحِيَاضِ زَمَنَ الْخَرِيفِ فَيَمُرُّ الرَّفِيقَانِ وَيَقُولُ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ هُنَا مَاءٌ تَعَالَ نَشْرَبْ نَتَوَضَّأْ، فَيُطْلِقُهُ مَعَ تَغَيُّرِ أَوْصَافِهِ بِانْتِفَاعِهَا، فَظَهَرَ لَنَا مِنْ اللِّسَانِ أَنَّ الْمُخَالِطَ الْمَغْلُوبَ لَا يَسْلُبُ الْإِطْلَاقَ فَوَجَبَ تَرْتِيبُ حُكْمِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي هُوَ كَذَلِكَ.
وَقَدْ «اغْتَسَلَ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ قَصْعَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَالْمَاءُ بِذَلِكَ يَتَغَيَّرُ وَلَمْ يُعْتَبَرْ لِلْمَغْلُوبِيَّةِ (قَوْلُهُ وَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ كَالْإِضَافَةِ إلَى الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ لَا تَمْنَعُ الْإِطْلَاقَ كَمَا لَا تَمْنَعُهُ الْإِضَافَةُ إلَى الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ، فَالتَّشْبِيهُ لَيْسَ إلَّا فِي عَدَمِ امْتِنَاعِ الْإِطْلَاقِ وَحَيْثُ قُبِلَ الْمُطْلَقُ كَانَ مُطْلَقًا وَلَزِمَهُ حُكْمُهُ مِنْ إزَالَةِ الْحُكْمِيَّةِ شَرْعًا، إذْ زَوَالُهُ بِارْتِفَاعِهِ وَهُوَ بِأَنْ يَحْدُثَ لَهُ اسْمٌ عَلَى حِدَةٍ وَلُزُومُ التَّقْيِيدِ يَنْدَرِجُ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَاءُ مَغْلُوبًا إذْ فِي إطْلَاقِهِ عَلَى الْمَجْمُوعِ حِينَئِذٍ اعْتِبَارُ الْغَالِبِ عَدَمًا وَهُوَ عَكْسُ الثَّابِتِ لُغَةً وَعُرْفًا وَشَرْعًا، بَقِيَ تَحْقِيقُ الْغَلَبَةِ بِمَاذَا يَكُونُ فَصَرَّحَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهَا بِالْأَجْزَاءِ.
وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ الصَّاحِبِينَ، وَهُوَ أَنَّ مُحَمَّدًا يَعْتَبِرُهُ بِاللَّوْنِ وَأَبَا يُوسُفَ بِالْأَجْزَاءِ، وَفِي الْمُحِيطِ عَكْسُهُ، وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ فَإِنَّ صَاحِبَ الْأَجْنَاسِ نَقَلَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ نَصَّا بِمَعْنَاهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْمَاءِ الَّذِي يُطْبَخُ فِيهِ الرَّيْحَانُ وَالْأُشْنَانُ: إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ حَتَّى يَحْمَرَّ بِالْأُشْنَانِ أَوْ يَسْوَدَّ. بِالرَّيْحَانِ وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَلَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ بِهِ.
فَمُحَمَّدٌ يُرَاعِي لَوْنَ الْمَاءِ وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ غَلَبَةَ الْأَجْزَاءِ، وَلَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ بِمَاءِ السَّيْلِ مُخْتَلِطًا بِالْعَيْنِ إنْ كَانَتْ رِقَّةُ الْمَاءِ غَالِبَةً، فَإِنْ كَانَ الطِّينُ غَالِبًا فَلَا. وَصَرَّحَ
بِالطَّبْخِ بَعْدَ مَا خُلِطَ بِهِ غَيْرُهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضِّي بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي مَعْنَى الْمُنَزَّلِ مِنْ السَّمَاءِ إذْ النَّارُ غَيَّرَتْهُ إلَّا إذَا طُبِخَ فِيهِ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي النَّظَافَةِ كَالْأُشْنَانِ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ يُغْسَلُ بِالْمَاءِ الَّذِي أُغْلِيَ بِالسِّدْرِ، بِذَلِكَ وَرَدَتْ السُّنَّةُ، إلَّا أَنْ يَغْلِبَ ذَلِكَ عَلَى الْمَاءِ فَيَصِيرَ كَالسَّوِيقِ الْمَخْلُوطِ لِزَوَالِ اسْمِ الْمَاءِ عَنْهُ.
(وَكُلُّ مَاءٍ وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ لَمْ يَجُزْ الْوُضُوءُ بِهِ قَلِيلًا كَانَتْ النَّجَاسَةُ أَوْ كَثِيرًا)
فِي التَّجْنِيسِ بِأَنَّ مِنْ التَّفْرِيعِ عَلَى اعْتِبَارِ الْغَلَبَةِ بِالْأَجْزَاءِ قَوْلُ الْجُرْجَانِيِّ إذَا طُرِحَ الزَّاجُّ أَوْ الْعَفْصُ فِي الْمَاءِ جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ إنْ كَانَ لَا يَنْقُشُ إذَا كُتِبَ بِهِ، فَإِنْ نَقَشَ لَا يَجُوزُ وَالْمَاءُ هُوَ الْمَغْلُوبُ.
وَفِي الْيَنَابِيعِ لَوْ نُقِعَ الْحِمَّصُ وَالْبَاقِلَاءُ وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَطَعْمُهُ وَرِيحُهُ يَجُوزُ التَّوَضِّي بِهِ فَإِنْ طُبِخَ، فَإِنْ كَانَ إذَا بَرَدَ ثَخُنَ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ، أَوْ لَمْ يَثْخُنْ وَرِقَّةُ الْمَاءِ بَاقِيَةٌ جَازَ. وَعِبَارَةُ الْقُدُورِيِّ تُعْطِي أَنَّ تَغَيُّرَ وَصْفَيْنِ يَمْنَعُ لَا وَصْفٌ. وَاقْتَحَمَ شَارِحُ الْكَنْزِ رحمه الله التَّوْفِيقَ بَيْنَ كَلَامِ الْأَصْحَابِ بِإِعْطَاءِ ضَابِطٍ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ التَّقْيِيدَ الْمُخْرِجَ عَنْ الْإِطْلَاقِ بِأَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ كَمَالُ الِامْتِزَاجِ وَهُوَ بِالطَّبْخِ مَعَ طَاهِرٍ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّنْظِيفِ أَوْ بِتَشَرُّبِ النَّبَاتِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخْرَجُ مِنْهُ إلَّا بِعِلَاجٍ، فَخَرَجَ الْمَاءُ الَّذِي يَقْطُرُ مِنْ الْكَرْمِ بِنَفْسِهِ.
الثَّانِي غَلَبَةُ الْمُخَالِطِ، فَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَبِانْتِفَاءِ رِقَّةِ الْمَاءِ وَجَرَيَانِهِ عَلَى الْأَعْضَاءِ، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا مُوَافِقًا لِلْمَاءِ فِي أَوْصَافِهِ الثَّلَاثَةِ كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُخْتَارَةِ مِنْ طَهَارَتِهِ فَبِالْأَجْزَاءِ وَإِنْ كَانَ يُخَالِفُهُ فِيهَا فَبِتَغْيِيرِهِ أَكْثَرَهَا أَوْ فِي بَعْضِهَا فَبِغَلَبَةِ مَا بِهِ الْخِلَافُ، كَاللَّبَنِ يُخَالِفُ فِي الطَّعْمِ وَاللَّوْنِ، فَإِنْ غَلَبَ لَوْنُهُ وَطَعْمُهُ مُنِعَ وَإِلَّا جَازَ، وَكَذَا مَاءُ الْبِطِّيخِ يُخَالِفُهُ فِي الطَّعْمِ فَتُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ فِيهِ بِالطَّعْمِ.
وَالْوَجْهُ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْأَقْسَامِ مَا خَالَطَ جَامِدًا فَسَلَبَ رِقَّتَهُ وَجَرَيَانَهُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَاءٍ مُقَيَّدٍ وَالْكَلَامُ فِيهِ، بَلْ لَيْسَ بِمَاءٍ أَصْلًا كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُ
وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: يَجُوزُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ لِمَا رَوَيْنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَجُوزُ إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» وَلَنَا حَدِيثُ الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ مَنَامِهِ، وَقَوْلُهُ
الْمُصَنِّفِ فِيمَا يَأْتِي قَرِيبًا فِي الْمُخْتَلَطِ بِالْأُشْنَانِ إلَّا أَنْ يَغْلِبَ فَيَصِيرَ كَالسَّوِيقِ لِزَوَالِ اسْمِ الْمَاءِ عَنْهُ.
(قَوْلُهُ وَقَالَ مَالِكٌ، إلَى قَوْلِهِ: لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي الْمَاءُ طَهُورٌ إلَخْ، وَتَقَدَّمَ عَدَمُ صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الْحَصْرِ الْمَذْكُورِ. وَلْنَذْكُرْ تِلْكَ الطَّرِيقَةَ الْمَوْعُودَةَ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِي الدِّينِ: مِنْ غَرِيبِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ أَخْرَجَاهُ عَنْهُ قَالَ «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ كِتَابٍ أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ قَالَ: إنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا» وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد «إنَّا نُجَاوِرُ قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ وَهُمْ يَطْبُخُونَ فِي قُدُورِهِمْ الْخِنْزِيرَ وَيَشْرَبُونَ فِي آنِيَتِهِمْ الْخَمْرَ» فَذَكَرَهُ. وَحَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي وُضُوءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَزَادَةِ الْمُشْرِكَةِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ الْإِنَاءِ وَالثَّانِي عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ، فَجَمْعُهُمَا بِأَنَّ النَّجَاسَةَ مَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْمَاءِ لَمْ تُغَيِّرْهُ، لَكِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ لِلْكَرَاهَةِ.
وَالْأَمْرَ بِالْغَسْلِ لِلنَّدَبِ لَا لِلنَّجَاسَةِ مَا لَمْ تَتَحَقَّقْ لِمَا ثَبَتَ مِنْ أَكْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي سَمَّتْهُ صلى الله عليه وسلم.
وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَضَافَهُ الْيَهُودِيُّ بِخُبْزٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ» فَإِنَّهُمَا يَقْتَضِيَانِ مَعَ عَدَمِ تَنَجُّسِ الْمَأْكُولِ عَدَمَ تَنَجُّسِ الْإِنَاءِ، إذْ لَا يُقَالُ فِي الطَّعَامِ إنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ رُوِيَ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ طَرِيقَيْنِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ رِشْدِينَ لِلْبَيْهَقِيِّ: أَحَدُهُمَا عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ بَقِيَّةِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ إلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ رِيحُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فِيهِ» الثَّانِي عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ حَدَّثَنَا ثَوْرٌ بِهِ «الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ إلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَالْحَدِيثُ غَيْرُ قَوِيٍّ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم) رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُسْأَلُ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ فِي الْفَلَاةِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ فَقَالَ إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
عليه الصلاة والسلام «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلَنَّ فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَاَلَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ رحمه الله وَرَدَ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ وَمَاؤُهَا كَانَ جَارِيًا فِي الْبَسَاتِينِ،
وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحَيْهِمَا. قَالَ الْمُصَنِّفُ: ضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُد، قِيلَ لَعَلَّهُ فِي غَيْرِ سُنَنِهِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاضْطِرَابَ الَّذِي وَقَعَ فِي سَنَدِهِ حَيْثُ اُخْتُلِفَ عَلَى أَبِي أُسَامَةَ، فَمَرَّةً يَقُولُ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِبَادِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَمَرَّةً عَنْهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَإِنْ دُفِعَ بِأَنَّ الْوَلِيدَ رَوَاهُ عَنْ كُلٍّ مِنْ الْمُحَمَّدَيْنِ فَحَدَّثَ مَرَّةً عَنْ أَحَدِهِمَا وَمَرَّةً عَنْ الْآخَرِ، وَكَذَا دُفِعَ تَغْلِيظُ أَبِي أُسَامَةَ فِي آخِرِ السَّنَدِ إذْ جَعَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَإِنَّمَا هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِأَنَّهُمَا ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَوَيَا عَنْهُ، بَقِيَ فِيهِ اضْطِرَابٌ كَثِيرٍ فِي مَتْنِهِ، فَفِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ «لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» وَرِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِسَنَدِهِ: سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِالْفَلَاةِ وَتَرِدُهُ السِّبَاعُ وَالْكِلَابُ فَذَكَرَ الْأَوَّلَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهُوَ غَرِيبٌ. وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْكِلَابُ وَالدَّوَابُّ.
وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْهُ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ عَاصِمٍ هُوَ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: دَخَلْت مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بُسْتَانًا فِيهِ مَقْرَى مَاءٍ فِيهِ جِلْدُ بَعِيرٍ مَيِّتٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ.
وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله ضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُد، وَهُوَ يَضْعُفُ عَنْ احْتِمَالِ النَّجَاسَةِ.
فَقُلْت لَهُ: أَنَتَوَضَّأُ مِنْهُ وَفِيهِ جِلْدُ بَعِيرٍ مَيِّتٍ؟ فَحَدَّثَنِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» وَرَوَاهُ أَبُو مَسْعُودٍ الرَّازِيّ عَنْ يَزِيدَ فَلَمْ يَقُلْ أَوْ ثَلَاثًا. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ وَالْعُقَيْلِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ أَرْبَعِينَ قُلَّةً فَإِنَّهُ لَا يَحْمِلُ الْخَبَثَ» وَضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالْقَاسِمِ. وَذَكَرَ أَنَّ الثَّوْرِيَّ وَمَعْمَرَ بْنَ رَاشِدٍ وَرَوْحَ بْنَ الْقَاسِمِ رَوَوْهُ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا، ثُمَّ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ جِهَةِ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي الْمُنْكَدِرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ أَرْبَعِينَ قُلَّةً لَمْ يَنْجُسْ» وَأَخْرَجَ رِوَايَةَ سُفْيَانَ مِنْ جِهَةِ وَكِيعٍ وَأَبِي نُعَيْمٍ عَنْهُ «إذَا بَلَغَ أَرْبَعِينَ قُلَّةً لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» وَأَخْرَجَ رِوَايَةَ مَعْمَرٍ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ عَنْهُ، وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ جِهَةِ بِشْرِ بْنِ السَّرِيِّ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ قَالَ «إذَا كَانَ الْمَاءُ قَدْرَ أَرْبَعِينَ قُلَّةً لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَذَا قَالَ، وَخَالَفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ رَوَوْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالُوا أَرْبَعِينَ غَرْبًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ أَرْبَعِينَ دَلْوًا. وَهَذَا الِاضْطِرَابُ يُوجِبُ الضَّعْفَ وَإِنْ وُثِّقَتْ الرِّجَالُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ فِي مَعْنَاهُ أَيْضًا. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ أَوْ هُوَ يَضْعُفُ إلَى آخِرِهِ: يَعْنِي لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا أَنَّهُ يَضْعُفُ عَنْ النَّجَاسَةِ فَيَتَنَجَّسُ، كَمَا يُقَالُ: هُوَ لَا يَحْمِلُ الْكَلَّ: أَيْ لَا يُطِيقُهُ، لَكِنَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ أَنَّهُ أَجَابَ السُّؤَالَ عَنْ طَهَارَةِ الْمَاءِ الَّذِي تَنُوبُهُ السِّبَاعُ وَنَجَاسَتُهُ بِأَنَّهُ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فِي الْقُلَّةِ يَنْجُسُ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إمَّا عَدَمُ تَمَامِ الْجَوَابِ إنْ لَمْ يُعْتَبَرْ مَفْهُومُ شَرْطِهِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُفِيدُ حُكْمَهُ إذَا زَادَ عَلَى الْقُلَّتَيْنِ وَالسُّؤَالُ عَنْ ذَلِكَ الْمَاءِ كَيْفَ كَانَ، وَأَمَّا اعْتِبَارُ الْمَفْهُومِ لِيَتِمَّ الْجَوَابُ. وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ: إذَا كَانَ قُلَّتَيْنِ يَنْجُسُ لَا إنْ زَادَ، فَإِنْ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ هُنَا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَهُوَ كَيْ لَا يَلْزَمَ إخْلَاءُ السُّؤَالِ عَنْ الْجَوَابِ الْمُطَابِقُ كَانَ الثَّابِتُ بِهِ خِلَافَ الْمَذْهَبِ، إذَا لَمْ نَقُلْ بِأَنَّهُ إذَا زَادَ عَلَى قُلَّتَيْنِ شَيْئًا مَا لَا يَنْجُسُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الِاضْطِرَابُ فِي مَعْنَى الْقُلَّةِ فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ يُقَالُ عَلَى الْحِرَّة وَالْقِرْبَةِ وَرَأْسِ الْجَبَلِ.
وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنِي مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ بِإِسْنَادٍ لَا يَحْضُرُنِي «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: بِقِلَالِ هَجَرَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: رَأَيْت قِلَالَ هَجَرَ فَالْقُلَّةُ تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ أَوْ قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يُجْعَلَ قِرْبَتَيْنِ وَنِصْفًا، فَإِذَا كَانَ خَمْسَ قِرَبٍ كِبَارٍ كَقِرَبِ الْحِجَازِ لَمْ يَنْجُسْ إلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ مُنْقَطِعٌ لِلْجَهَالَةِ. ثُمَّ سَبْرُ الْحَدِيثِ لِاسْتِخْرَاجِ ذَلِكَ السَّنَدِ أَفَادَ وُجُودَ رَفْعِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي سَنَدٍ ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ مُغِيرَةَ بْنِ سِقْلَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ مِنْ قِلَالِ هَجَرَ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» وَيُذْكَرُ أَنَّهُمَا فِرْقَانِ. قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: قَوْلُهُ
(وَالْمَاءُ الْجَارِي إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ جَازَ الْوُضُوءُ مِنْهُ
فِي مَتْنِهِ " مِنْ قِلَالِ هَجَرَ " غَيْرُ مَحْفُوظٍ لَا يُذْكَرُ إلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ مُغِيرَةَ بْنِ سِقْلَابٍ، يُكَنَّى أَبَا بِشْرٍ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ أَسْنَدَ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ فِيهِ مَا هُوَ أَقْطَعُ مِنْ هَذَا، وَقَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ ابْنُ جُرَيْجٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَفِيهِ قَالَ مُحَمَّدٌ: قُلْت لِيَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ: أَيُّ قِلَالٍ؟ قَالَ: قِلَالُ هَجَرَ، قَالَ مُحَمَّدٌ: فَرَأَيْت قِلَالَ هَجَرَ فَأَظُنُّ كُلَّ قُلَّةٍ تَسَعُ فِرْقَيْنِ. فَهَذَا لَوْ كَانَ رَفْعًا لِلْكَلِمَةِ كَانَ مُرْسَلًا فَكَيْفَ وَلَيْسَ بِهِ. وَفِيهِ أَنَّ مَجْمُوعَ الْقُلَّتَيْنِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ رِطْلًا، وَفِي الْأَوَّلِ أَنَّهُمَا اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا وَهُوَ لَا يَقُولُ بِهِ. وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سِقْلَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» وَالْقُلَّةُ أَرْبَعَةُ آصُعٍ. هَذَا تَلْخِيصُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِي الدِّينِ فِي الْإِمَامِ، وَبِهِ تَرَجَّحَ ضَعْفُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ، وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْإِلْمَامِ مَعَ شِدَّةِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ، وَمِمَّنْ ضَعَّفَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْقَاضِي إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّونَ، وَفِي الْبَدَائِعِ عَنْ ابْنِ الْمَدِينِيِّ: لَا يَثْبُتُ حَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ فَوَجَبَ الْعُدُولُ عَنْهُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ لِلْمَذْهَبِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلَنَّ فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ» كَمَا هُوَ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد، «أَوْ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ أَوْ فِيهِ» كَمَا هُوَ رِوَايَتَا الصَّحِيحَيْنِ لَا يَمَسُّ مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ فِي تَقْدِيرِ الْكَثِيرِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ تَنَجُّسُهُ عَلَى تَغَيُّرِهِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْكَثِيرَ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، فَحِينَئِذٍ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ النَّجَاسَةِ فِي الْكَمِّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قُلَّتَانِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ آنِفًا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: يُعْتَبَرُ فِيهِ أَكْبَرُ رَأْيِ الْمُبْتَلَى إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ بِحَيْثُ تَصِلُ النَّجَاسَةُ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ وَإِلَّا جَازَ، وَعَنْهُ اعْتِبَارُهُ بِالتَّحْرِيكِ عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ بِالِاغْتِسَالِ أَوْ بِالْوُضُوءِ أَوْ بِالْيَدِ رِوَايَاتٌ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ الْكَرْخِيُّ وَصَاحِبُ الْغَايَةِ وَالْيَنَابِيعِ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِأَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَعْنِي عَدَمَ التَّحَكُّمِ بِتَقْدِيرٍ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ وَالتَّفْوِيضُ فِيهِ إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِنَاءً عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ثُبُوتِ تَقْدِيرِهِ شَرْعًا. وَالتَّقْدِيرُ بِعَشْرٍ فِي عَشْرٍ وَثَمَانٍ فِي ثَمَانٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ، وَتَرْجِيحُ الْأَوَّلِ أَخْذًا مِنْ حَرِيمِ الْبِئْرِ غَيْرُ مَنْقُولٍ عَنْ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: الْمَذْهَبُ الظَّاهِرُ التَّحَرِّي وَالتَّفْوِيضُ إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ بِالتَّقْدِيرِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ وُصُولُهَا تَنَجَّسَ، وَإِنْ غَلَبَ عَدَمُ وُصُولِهَا لَمْ يَنْجُسْ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ اهـ.
وَمَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدٍ حِينَ سُئِلَ عَنْهُ إنْ كَانَ مِثْلَ مَسْجِدِي هَذَا فَكَثِيرٌ، فَقِيسَ حِينَ قَامَ فَكَانَ اثْنَيْ عَشَرَ فِي مِثْلِهَا، فِي رِوَايَةٍ: وَثَمَانِيًا فِي ثَمَانٍ فِي أُخْرَى لَا يَسْتَلْزِمُ تَقْدِيرَهُ بِهِ إلَّا فِي نَظَرِهِ، وَهُوَ لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ كَوْنُهُ مَا اسْتَكْثَرَهُ الْمُبْتَلَى فَاسْتِكْثَارُ وَاحِدٍ لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ بَلْ
إذَا لَمْ يُرَ لَهَا أَثَرٌ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَقِرُّ مَعَ جَرَيَانِ الْمَاءِ) وَالْأَثَرُ هُوَ الرَّائِحَةُ أَوْ الطَّعْمُ أَوْ اللَّوْنُ،
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا يَقَعُ فِي قَلْبِ كُلٍّ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْأُمُورِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا عَلَى الْعَامِّيِّ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ. ثُمَّ رَأَيْت التَّصْرِيحَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَجَعَ عَنْ هَذَا قَالَ الْحَاكِمُ: قَالَ أَبُو عِصْمَةَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يُوَقِّتُ فِي ذَلِكَ عَشْرَةً فِي عَشْرَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ: لَا أُوَقِّتُ فِيهِ شَيْئًا، فَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ» إنَّمَا يُفِيدُ تَنَجُّسَ الْمَاءِ فِي الْجُمْلَةِ لَا كُلَّ مَاءٍ، فَلَيْسَتْ اللَّامُ فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْكَثِيرَ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِتَغَيُّرِهِ بِالنَّجَاسَةِ فَيَقُولُ الْخَصْمُ إذًا بِمُوجِبِهِ نَقُولُ، الْمُرَادُ أَنَّ بَعْضَ الْمَاءِ يَنْجُسُ، وَأَنَا أَقُولُ إنَّهُ إذَا تَغَيَّرَ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ يَنْجُسُ، وَبِذَلِكَ تَحْصُلُ الْمُطَابَقَةُ لِقَوْلِنَا الْمَاءُ يَنْجُسُ فِي الْجُمْلَةِ.
فَالتَّحْقِيقُ فِي سَوْقِ الْخِلَافِيَّةِ أَنْ يُقَالَ: يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى غَيْرَ مُقَدَّرٍ بِشَيْءٍ لِعَدَمِ الْمُدْرَكِ الشَّرْعِيِّ قَوْلُ الْخَصْمِ بَلْ فِيهِ الْمُدْرَكُ وَهُوَ حَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ قُلْنَا فِيهِ مَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُ مَالِكٍ: بَلْ فِيهِ وَهُوَ حَدِيثُ «الْمَاءُ طَهُورٌ» حَيْثُ أَنَاطَ الْكَثْرَةَ بِعَدَمِ التَّغَيُّرِ. قُلْنَا وَرَدَ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَمَاؤُهَا كَانَ جَارِيًا فِي الْبَسَاتِينِ كَمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الثَّلْجِيِّ بِالْمُثَلَّثَةِ عَنْ الْوَاقِدِيِّ قَالَ: كَانَتْ بِئْرُ بُضَاعَةَ طَرِيقًا لِلْمَاءِ إلَى الْبَسَاتِينِ، وَهَذَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عِنْدَنَا إذَا وَثَّقْنَا الْوَاقِدِيَّ، أَمَّا عِنْدَ الْمُخَالِفِ فَلَا لِتَضْعِيفِهِ إيَّاهُ مَعَ أَنَّهُ أَرْسَلَ هَذَا خُصُوصًا مَعَ ادِّعَائِهِمْ أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ حَالِ بِئْرِ بُضَاعَةَ فِي الْحِجَازِ غَيْرُ هَذَا، ثُمَّ لَوْ تَنَزَّلُوا عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُخْتَلِفَةِ كَانَ الْعِبْرَةُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَالْجَوَابُ بِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْحَمْلِ لِدَفْعِ التَّعَارُضِ لَا يَنْتَهِضُ، إذْ لَا تَعَارُضَ لِأَنَّ حَاصِلَ النَّهْيِ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ تَنَجُّسُ الْمَاءِ الدَّائِمِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَحَاصِلُ: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ عَدَمُ تَنَجُّسٍ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ بِحَسَبِ مَا هُوَ الْمُرَادُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ مَفْهُومَيْ هَاتَيْنِ الْقَضِيَّتَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ هُنَا مُعَارِضٌ آخَرُ يُوجِبُ الْحَمْلَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ حَدِيثُ الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ مَنَامِهِ وَقَدْ خَرَّجْنَاهُ.
قُلْنَا لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِتَنَجُّسِ الْمَاءِ بِتَقْدِيرِ كَوْنِ الْيَدِ نَجِسَةً، بَلْ ذَلِكَ تَعْلِيلٌ مِنَّا لِلنَّهْيِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ: أَعْنِي تَعْلِيلَهُ بِتَنَجُّسِ الْمَاءِ عَيْنًا بِتَقْدِيرِ نَجَاسَتِهَا لِجَوَازِ كَوْنِهِ الْأَعَمَّ مِنْ النَّجَاسَةِ وَالْكَرَاهَةِ فَنَقُولُ: نَهَى لِتَنَجُّسِ الْمَاءِ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهَا مُتَنَجِّسَةً بِمَا يُغَيِّرُ أَوْ الْكَرَاهَةِ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهَا بِمَا لَا يُغَيِّرُ، وَأَيْنَ هُوَ مِنْ ذَلِكَ الصَّرِيحِ الصَّحِيحِ لَكِنْ يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمُعَارِضِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «طُهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ» الْحَدِيثَ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي نَجَاسَةَ الْمَاءِ وَلَا تَغَيُّرَ بِالْوُلُوغِ فَتَعَيَّنَ ذَلِكَ الْحَمْلُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ إذَا لَمْ يُرَ لَهَا أَثَرٌ) وَهُوَ الطَّعْمُ وَأَخَوَاهُ، فَلَوْ
وَالْجَارِي مَا لَا يَتَكَرَّرُ اسْتِعْمَالُهُ، وَقِيلَ مَا يَذْهَبُ بِتِبْنِهِ.
قَالَ (وَالْغَدِيرُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحْرِيكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ إذَا وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي أَحَدِ جَانِبَيْهِ جَازَ الْوُضُوءُ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَصِلُ إلَيْهِ)
بَالَ إنْسَانٌ فِيهِ فَتَوَضَّأَ آخَرُ مِنْ أَسْفَلِهِ جَازَ مَا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْجِرْيَةِ أَثَرُهُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَوْ كُسِرَتْ خَابِيَةٌ خَمْرٍ فِي الْفُرَاتِ وَرَجُلٌ يَتَوَضَّأُ أَسْفَلَ مِنْهُ فَمَا لَمْ يَجِدْ فِي الْمَاءِ طَعْمَ الْخَمْرِ أَوْ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ جَازَ، هَذَا فَلَوْ اسْتَقَرَّتْ الْمَرْئِيَّةُ فِيهِ بِأَنْ كَانَتْ جِيفَةً مَثَلًا إنْ أَخَذَتْ الْجِرْيَةَ أَوْ نِصْفَهَا لَا يَجُوزُ مِنْ أَسْفَلِهَا وَإِنْ لَمْ يُرَ أَثَرٌ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ الْجِرْيَةِ فِي مَكَان طَاهِرٍ جَازَ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى مُخَصِّصٍ لِحَدِيثِ «الْمَاءُ طَهُورٌ» بَعْدَ حَمْلِهِ عَلَى الْجَارِي، فَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَجُوزَ التَّوَضِّي مِنْ أَسْفَلِهِ وَإِنْ أَخَذَتْ الْجِيفَةُ أَكْثَرَ الْمَاءِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ، وَيُوَافِقُهُ مَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي سَاقِيَةٍ صَغِيرَةٍ فِيهَا كَلْبٌ مَيِّتٌ سَدَّ عَرْضَهَا فَيَجْرِي الْمَاءُ فَوْقَهُ وَتَحْتَهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، نَقَلَهُ فِي الْيَنَابِيعِ عَنْهُ.
وَالْعَذِرَاتُ فِي السَّطْحِ كَالْمَيِّتَةِ فِي الْمَاءِ إنْ كَانَ يَجْرِي عَلَيْهَا نِصْفُهُ أَوْ كَانَتْ عَلَى رَأْسِ الْمِيزَابِ فَهُوَ نَجِسٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً وَأَكْثَرُهُ يَجْرِي عَلَى الطَّاهِرِ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَكَذَا مَاءُ الْمَطَرِ إذَا جَرَى عَلَى عَذِرَاتٍ وَاسْتَنْقَعَ فِي مَوْضِعٍ فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ. وَأَمَّا التَّوَضِّي فِي عَيْنٍ وَالْمَاءُ يَخْرُجُ مِنْهَا فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ خُرُوجِهِ جَازَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَدْرُهُ أَرْبَعًا فِي أَرْبَعٍ فَأَقَلَّ، فَإِنْ كَانَ خَمْسًا فِي خَمْسٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ.
وَاخْتَارَ السُّغْدِيُّ جَوَازَهُ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَخْرُجُ الْمُسْتَعْمَلُ قَبْلَ تَكْرِيرِ الِاسْتِعْمَالِ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الْمِسَاحَةِ أَوْ لَا، وَهَذِهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى نَجَاسَةِ الْمُسْتَعْمَلِ (قَوْلُهُ وَالْجَارِي إلَخْ) وَقِيلَ فِيهِ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ جَارِيًا قِيلَ هُوَ الْأَصَحُّ، وَأَلْحَقُوا بِالْجَارِي حَوْضَ الْحَمَّامِ إذَا كَانَ الْمَاءُ يَنْزِلُ مِنْ أَعْلَاهُ حَتَّى لَوْ أُدْخِلَتْ الْقَصْعَةُ النَّجِسَةُ وَالْيَدُ النَّجِسَةُ فِيهِ لَا يَنْجُسُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ تَدَارُكُ اغْتِرَافِ النَّاسِ مِنْهُ؟ فِيهِ خِلَافٌ ذَكَرَهُ فِي الْمُنْيَةِ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ جَرَيَانِهِ لِمَدَدٍ لَهُ كَمَا فِي الْعَيْنِ وَالنَّهْرِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَمَا قِيلَ لَوْ اسْتَنْجَى بِقُمْقُمَةٍ فَلَمَّا صَبَّ مِنْهَا لَاقَى الْمَصْبُوبُ الْبَوْلَ قَبْلَ يَدِهِ فَهُوَ طَاهِرٌ لِأَنَّهُ مَاءٌ جَارٍ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا اسْتَنْجَى لَا يَصِيرُ نَجِسًا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
قَالَ: وَنَظِيرُهُ مَا أَوْرَدَهُ الْمَشَايِخُ فِي الْكُتُبِ أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا كَانَ مَعَهُ مِيزَابٌ وَاسِعٌ وَإِدَاوَةُ مَاءٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَا يَتَيَقَّنُ وُجُودَ الْمَاءِ لَكِنَّهُ عَلَى طَمَعِهِ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَ أَحَدًا مِنْ رُفَقَائِهِ حَتَّى يَصُبَّ الْمَاءَ فِي طَرَفِ الْمِيزَابِ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ وَعِنْدَ الطَّرَفِ الْآخَرِ إنَاءٌ طَاهِرٌ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ فَإِنَّهُ يَكُونُ الْمَاءُ طَاهِرًا وَطَهُورًا لِأَنَّهُ جَارٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْجَارِيَ إنَّمَا لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إذَا كَانَ لَهُ مَدَدٌ كَالْعَيْنِ وَالنَّهْرِ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَمِمَّا أَشْبَهَهُ حَوْضَانِ صَغِيرَانِ يَخْرُجُ الْمَاءُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَدْخُلُ فِي الْآخَرِ فَتَوَضَّأَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ جَازَ لِأَنَّهُ جَارٍ، وَكَذَا إذَا قُطِعَ الْجَارِي مِنْ فَوْقَ وَقَدْ بَقِيَ جَرْيُ الْمَاءِ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَتَوَضَّأَ بِمَا يَجْرِي فِي النَّهْرِ.
وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَقَالَ: وَالْمَاءُ الَّذِي اجْتَمَعَ فِي الْحُفَيْرَةِ الثَّانِيَةِ فَاسِدٌ، وَهَذَا مُطْلَقًا إنَّمَا هُوَ بِنَاءً عَلَى كَوْنِ الْمُسْتَعْمَلِ نَجِسًا، وَكَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَشْبَاهِ هَذَا، فَأَمَّا عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ رِوَايَةِ أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ فَلَا فَلْتُحْفَظْ لِيُفَرَّعَ عَلَيْهَا وَلَا يُفْتَى بِمِثْلِ هَذِهِ الْفُرُوعِ. وَقَوْلُهُمْ فِي الْحُفَيْرَةِ الثَّانِيَةِ إنَّ الْمُجْتَمِعَ فِيهَا نَجِسٌ بَعْدَ إلْحَاقِ مَحَلِّ الْوُضُوءِ الْجَارِي فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ الْوَجْهُ أَنَّهُ طَاهِرٌ يُتَوَضَّأُ بِهِ كَمَا يَتَوَضَّأُ الْأَسْفَلُ مِنْ جِرْيَةِ الْمُتَوَضِّي الْأَعْلَى، وَمِثْلُهُ يَجِبُ فِيمَا قُطِعَ أَعْلَاهُ وَتَوَضَّأَ إنْسَانٌ بِالْجَارِي فِي النَّهْرِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِهِ
(قَوْلُهُ وَالْغَدِيرُ الْعَظِيمُ) تَقَدَّمَ فِي الْخِلَافِيَّةِ مَا يُغْنِي فِي الْكَلَامِ هُنَا. وَذِرَاعُ الْكِرْبَاسِ سِتُّ قَبَضَاتٍ لَيْسَ فَوْقَ كُلِّ قَبْضَةٍ أُصْبُعٌ قَائِمَةٌ
إذْ أَثَرُ التَّحْرِيكِ فِي السِّرَايَةِ فَوْقَ أَثَرِ النَّجَاسَةِ. ثُمَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ يَعْتَبِرُ التَّحْرِيكَ بِالِاغْتِسَالِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَعَنْهُ التَّحْرِيكُ بِالْيَدِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله بِالتَّوَضِّي. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الِاغْتِسَالِ فِي الْحِيَاضِ أَشَدُّ مِنْهَا إلَى التَّوَضِّي، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرُوا بِالْمِسَاحَةِ عَشْرًا فِي عَشْرٍ بِذِرَاعِ الْكِرْبَاسِ تَوْسِعَةً لِلْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى،
وَجَعَلَهُ الْوَلْوَالِجِيُّ سَبْعًا، وَذِرَاعُ الْمِسَاحَةِ سَبْعٌ فَوْقَ كُلِّ قَبْضَةٍ أُصْبُعٌ قَائِمَةٌ، وَهَلْ الْمُعْتَبَرِ ذِرَاعُ الْمَسَّاحَةِ أَوْ الْكِرْبَاسِ أَوْ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ ذُرْعَانُهُمْ أَقْوَالٌ كُلٌّ مِنْهَا صَحَّحَهُ مَنْ ذَهَبَ إلَيْهِ، وَالْكُلُّ فِي الْمُرَبَّعِ، فَإِنْ كَانَ الْحَوْضُ مُدَوَّرًا فَقُدِّرَ بِأَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَالْمُخْتَارُ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَفِي الْحِسَابِ يُكْتَفَى بِأَقَلَّ مِنْهَا بِكَسْرٍ لِلنِّسْبَةِ لَكِنْ يُفْتَى بِسِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ كَيْ لَا يَتَعَسَّرَ رِعَايَةُ الْكَسْرِ، وَالْكُلُّ تَحَكُّمَاتٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ إنَّمَا الصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عَدَمِ التَّحَكُّمِ بِتَقْدِيرٍ مَعِينٍ. وَفِي الْفَتَاوَى: غَدِيرٌ كَبِيرٌ لَا يَكُونُ فِيهِ الْمَاءُ فِي الصَّيْفِ وَتَرُوثُ فِيهِ الدَّوَابُّ وَالنَّاسُ ثُمَّ يَمْتَلِئُ فِي الشِّتَاءِ وَيُرْفَعُ مِنْهُ الْجَمْدُ إنْ كَانَ الْمَاءُ الَّذِي يَدْخُلُهُ يَدْخُلُ عَلَى مَكَان نَجِسٍ فَالْمَاءُ وَالْجَمْدُ نَجِسٌ وَإِنْ كَثُرَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ فِي مَكَان طَاهِرٍ وَاسْتَقَرَّ فِيهِ حَتَّى صَارَ عَشْرًا فِي عَشْرٍ ثُمَّ انْتَهَى إلَى النَّجَاسَةِ فَالْمَاءُ وَالْجَمْدُ طَاهِرَانِ.
اهـ. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ إذَا دَخَلَ عَلَى مَاءِ الْحَوْضِ الْكَبِيرِ لَا يُنَجِّسُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ النَّجِسُ غَالِبًا عَلَى الْحَوْضِ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَتَّصِلُ بِالْحَوْضِ الْكَبِيرِ يَصِيرُ مِنْهُ فَيُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ، وَعَلَى هَذَا فَمَاءُ بِرْكَةِ الْفِيلِ بِالْقَاهِرَةِ طَاهِرٌ إذَا كَانَ مَمَرُّهُ طَاهِرًا أَوْ أَكْثَرُ مَمَرِّهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَاءِ السَّطْحِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا لِأَنَّهَا لَا تَجِفُّ
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْعُمْقِ أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ لَا يَنْحَسِرُ بِالِاغْتِرَافِ هُوَ الصَّحِيحُ.
كُلُّهَا بَلْ لَا يَزَالُ بِهَا غَدِيرٌ عَظِيمٌ، فَلَوْ أَنَّ الدَّاخِلَ اجْتَمَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى ذَلِكَ الْمَاءِ الْكَثِيرِ بِهَا فِي مَكَان نَجِسٍ حَتَّى صَارَ عَشْرًا فِي عَشْرٍ ثُمَّ اتَّصَلَ بِذَلِكَ الْمَاءِ الْكَثِيرِ كَانَ الْكُلُّ طَاهِرًا، هَذَا إذَا كَانَ الْغَدِيرُ الْبَاقِي مَحْكُومًا بِطَهَارَتِهِ، وَلَوْ سَقَطَتْ نَجَاسَةٌ فِي مَاءٍ دُونَ عَشْرٍ ثُمَّ انْبَسَطَ فَصَارَ عَشْرًا فَهُوَ نَجِسٌ، وَكَذَا إذَا دَخَلَهُ مَاءٌ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى صَارَ عَشْرًا، وَلَوْ سَقَطَتْ فِي عَشْرٍ ثُمَّ صَارَ أَقَلَّ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَإِذَا تَنَجَّسَ حَوْضٌ صَغِيرٌ فَدَخَلَهُ مَاءٌ حَتَّى امْتَلَأَ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ فَهُوَ نَجِسٌ، أَوْ خَرَجَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ ذَكَرْنَاهُ، وَلَوْ جَمَدَ حَوْضٌ كَبِيرٌ فَنَقَبَ فِيهِ إنْسَانٌ نَقْبًا فَتَوَضَّأَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مُتَّصِلًا بِبَاطِنِ النَّقْبِ لَا يَجُوزُ وَإِلَّا جَازَ، وَكَذَا الْحَوْضُ الْكَبِيرُ إذَا كَانَ لَهُ مَشَارِعُ فَتَوَضَّأَ فِي مَشْرَعَةٍ، أَوْ اغْتَسَلَ وَالْمَاءُ مُتَّصِلٌ بِأَلْوَاحِ الْمَشْرَعَةِ وَلَا يَضْطَرِبُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ أَسْفَلَ مِنْهَا جَازَ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ كَالْحَوْضِ الصَّغِيرِ فَيَغْتَرِفُ وَيَتَوَضَّأُ مِنْهُ لَا فِيهِ، وَفِي الثَّانِي حَوْضٌ كَبِيرٌ مُسَقَّفٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ التَّفَارِيعِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكُتُبِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَشْرِ فِي الْعَشْرِ، فَأَمَّا عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ اعْتِبَارِ غَلَبَةِ الظَّنِّ فَيُوضَعُ مَكَانَ لَفْظِ عَشْرٍ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ لَفْظُ كَثِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ ثُمَّ تَجْرِي التَّفَارِيعُ.
(قَوْلُهُ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْعُمْقِ أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ لَا يَنْحَسِرُ إلَى آخِرِهِ) وَقِيلَ ذِرَاعٌ، وَقِيلَ شِبْرٌ بِزِيَادَةٍ عَلَى عَرْضِ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ الْمِثْقَالِ. قِيلَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا أَخَذَ وَجْهَ الْأَرْضِ يَكْفِي، وَلَا تَقْدِيرَ فِيهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَاتِّصَالُ الْقَصَبِ بِالْقَصَبِ لَا يَمْنَعُ اتِّصَالَ الْمَاءِ وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ غَدِيرًا عَظِيمًا فَيَجُوزُ لِهَذَا التَّوَضِّي فِي الْأَجَمَةِ وَنَحْوِهَا. [فُرُوعٌ]
لَوْ تَنَجَّسَ الْحَوْضُ الصَّغِيرُ ثُمَّ دَخَلَ فِيهِ مَاءٌ آخَرُ وَخَرَجَ حَالَ دُخُولِهِ طَهُرَ وَإِنْ قَلَّ، وَقِيلَ لَا حَتَّى يُخْرِجَ قَدْرَ مَا فِيهِ، وَقِيلَ حَتَّى يُخْرِجَ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِهِ. وَسَائِرُ الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ: يَعْنِي كُلَّ مِقْدَارٍ لَوْ كَانَ مَاءً تَنَجَّسَ، فَإِذَا كَانَ غَيْرَهُ تَنَجَّسَ وَلَوْ كَانَ لِلْمَاءِ طُولٌ دُونَ عَرْضٍ. قَالَ فِي الِاخْتِيَارِ وَغَيْرِهِ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ ضُمَّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ يَصِيرُ عَشْرًا فِي عَشْرٍ فَهُوَ كَثِيرٌ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى التَّقْدِيرِ بِعَشْرٍ، وَلَوْ فَرَّعْنَا عَلَى الْأَصَحِّ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ لَوْ ضُمَّ، وَمِثْلُهُ لَوْ كَانَ عُمْقٌ بِلَا سِعَةٍ وَلَوْ بُسِطَ بَلَغَ عَشْرًا فِي عَشْرٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَ جَعْلَهُ كَثِيرًا، وَالْأَوْجَهُ خِلَافُهُ لِأَنَّ مَدَارَ الْكَثْرَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى تَحْكِيمِ الرَّأْيِ فِي عَدَمِ خُلُوصِ النَّجَاسَةِ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَعِنْدَ تَقَارُبِ الْجَوَانِبِ لَا شَكَّ فِي غَلَبَةِ الْخُلُوصِ إلَيْهِ وَالِاسْتِعْمَالُ يَقَعُ مِنْ السَّطْحِ لَا مِنْ الْعُمْقِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ ضَعْفُ مَا اخْتَارَهُ فِي الِاخْتِيَارِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَرْضٌ فَأَقْرَبُ الْأُمُورِ الْحُكْمُ بِوُصُولِ النَّجَاسَةِ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنْ عَرْضِهِ، وَبِهِ خَالَفَ حُكْمَ الْكَثِيرِ إذْ لَيْسَ حُكْمُ الْكَثِيرِ تَنَجُّسَ الْجَانِبِ الْآخَرِ بِسُقُوطِهَا فِي مُقَابِلِهِ بِدُونِ تَغَيُّرٍ، وَأَنْتَ إذَا حَقَّقْت الْأَصْلَ الَّذِي بَيَّنَّاهُ قَبِلْت مَا وَافَقَهُ وَتَرَكْت مَا خَالَفَهُ
وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَجَازَ الْوُضُوءُ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَنْجُسُ مَوْضِعُ الْوُقُوعِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِظُهُورِ أَثَرِ النَّجَاسَةِ فِيهِ كَالْمَاءِ الْجَارِي.
قَالَ (وَمَوْتُ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ فِي الْمَاءِ لَا يُنَجِّسُهُ كَالْبَقِّ وَالذُّبَابِ وَالزَّنَابِيرِ وَالْعَقْرَبِ وَنَحْوِهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُفْسِدُهُ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ آيَةُ النَّجَاسَةِ، بِخِلَافِ دُودِ الْخَلِّ وَسُوسِ الثِّمَارِ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً، وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِيهِ «هَذَا هُوَ الْحَلَالُ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَالْوُضُوءُ مِنْهُ» وَلِأَنَّ الْمُنَجَّسَ هُوَ اخْتِلَاطُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ بِأَجْزَائِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ،
(قَوْلُهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ مَكَانُ الْوُقُوعِ) وَعَلَى هَذَا صَاحِبُ الْمَبْسُوطِ وَالْبَدَائِعِ وَجَعَلَهُ شَارِحُ الْكَنْزِ الْأَصَحَّ وَمَشَايِخُ بُخَارَى وَبَلْخٍ قَالُوا فِي غَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ يَتَوَضَّأُ مِنْ جَانِبِ الْوُقُوعِ. وَفِي الْمَرْئِيَّةِ لَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَالْجَارِي لَا يَتَنَجَّسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي تَصْحِيحُهُ، فَيَنْبَغِي عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَرْئِيَّةِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّ الدَّلِيلَ إنَّمَا يَقْتَضِي عِنْدَ الْكَثْرَةِ عَدَمَ التَّنَجُّسِ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَهُوَ أَيْضًا الْحُكْمُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ نَقْلِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ، وَيُوَافِقُهُ مَا فِي الْمُبْتَغَى: قَوْمٌ يَتَوَضَّئُونَ صَفًّا عَلَى شَطِّ النَّهْرِ جَازَ، فَكَذَا فِي الْحَوْضِ لِأَنَّ مَاءَ الْحَوْضِ فِي حُكْمِ مَاءٍ جَارٍ.
اهـ. وَإِنَّمَا أَرَادَ الْحَوْضَ الْكَبِيرَ بِالضَّرُورَةِ. [فُرُوعٌ]
يُتَوَضَّأُ مِنْ الْحَوْضِ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ قَذَرٌ وَلَا يُتَيَقَّنُ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَسْأَلَ إذْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ، وَالْأَصْلُ دَلِيلٌ يُطْلِقُ الِاسْتِعْمَالَ. وَقَالَ عُمَرُ حِينَ سَأَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ صَاحِبَ الْحَوْضِ: أَتَرِدُهُ السِّبَاعُ يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ؟ لَا تُخْبِرْنَا ذَكَرَهُ فِي الْمُوَطَّأِ. وَكَذَا إذَا وُجِدَ مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ وَالرِّيحِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ نَجَاسَةٍ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ قَدْ يَكُونُ بِطَاهِرٍ وَقَدْ يَنْتُنُ الْمَاءُ لِلْمُكْثِ، وَكَذَا الْبِئْرُ الَّتِي يُدْلَى فِيهَا الدِّلَاءُ وَالْجِرَارُ الدَّنِسَةُ يَحْمِلُهَا الصِّغَارُ وَالْعَبِيدُ لَا يَعْلَمُونَ الْأَحْكَامَ وَيَمَسُّهَا الرُّسْتَاقِيُّونَ بِالْأَيْدِي الدَّنِسَةِ مَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينًا النَّجَاسَةُ، وَلَوْ ظَنَّ الْمَاءَ نَجِسًا فَتَوَضَّأَ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ طَاهِرٌ جَازَ. وَفِي فَوَائِدِ الرُّسْتُغْفَنِيِّ: التَّوَضِّي بِمَاءِ الْحَوْضِ أَفْضَلُ مِنْ النَّهْرِ لِأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَا يُجِيزُونَهُ مِنْ الْحِيَاضِ فَيُرْغِمُهُمْ بِالْوُضُوءِ مِنْهَا اهـ. وَهَذَا إنَّمَا يُفِيدُ الْأَفْضَلِيَّةَ لِهَذَا الْعَارِضِ، فَفِي مَكَان لَا يَتَحَقَّقُ النَّهْرُ أَفْضَلُ. قَالُوا: وَلَا بَأْسَ بِالتَّوَضِّي مِنْ حُبٍّ يُوضَعُ كُوزُهُ فِي نَوَاحِي الدَّارِ وَيُشْرَبُ مِنْهُ مَا لَمْ يُعْلَمْ بِهِ قَذَرٌ، وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْتَخْلِصَ لِنَفْسِهِ إنَاءً يَتَوَضَّأُ مِنْهُ وَلَا يَتَوَضَّأُ مِنْهُ غَيْرُهُ
(قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «هَذَا هُوَ الْحَلَالُ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ» إلَى آخِرِهِ)
حَتَّى حَلَّ الْمُذَكَّى لِانْعِدَامِ الدَّمِ فِيهِ وَلَا دَمَ فِيهَا، وَالْحُرْمَةُ لَيْسَتْ مِنْ ضَرُورَتِهَا النَّجَاسَةُ كَالطِّينِ.
قَالَ (وَمَوْتُ مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ فِيهِ لَا يُفْسِدُهُ كَالسَّمَكِ وَالضُّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ)
عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه، عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «يَا سَلْمَانُ كُلُّ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَقَعَتْ فِيهِ دَابَّةٌ لَيْسَ لَهَا دَمٌ فَمَاتَتْ فِيهِ فَهُوَ حَلَالٌ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَوَضُوءُهُ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ: لَمْ يَرْفَعْهُ إلَّا بَقِيَّةٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الزُّبَيْدِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ اهـ. وَأَعَلَّهُ ابْنُ عَدِيٍّ بِجَهَالَةِ سَعِيدٍ وَدُفِعَا بِأَنَّ بَقِيَّةَ هَذَا هُوَ ابْنُ الْوَلِيدِ رَوَى عَنْهُ الْأَئِمَّةُ مِثْلُ الْحَمَّادَيْنِ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَوَكِيعٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَشُعْبَةَ، وَنَاهِيكَ بِشُعْبَةَ وَاحْتِيَاطِهِ. قَالَ يُحْيِي: كَانَ شُعْبَةُ مُبَجِّلًا لِبَقِيَّةِ حِينَ قَدِمَ بَغْدَادَ، وَقَدْ رَوَى لَهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ، وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا فَذَكَرَهُ الْخَطِيبُ، وَقَالَ: وَاسْمُ أَبِيهِ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَكَانَ ثِقَةً فَانْتَفَتْ الْجَهَالَةُ، وَالْحَدِيثُ مَعَ هَذَا لَا يَنْزِلُ عَنْ الْحَسَنِ (قَوْلُهُ حَتَّى حَلَّ الْمُذَكَّى لِانْعِدَامِ الدَّمِ فِيهِ) يَعْنِي أَنَّ سَبَبَ شَرْعِيَّةِ الذَّكَاةِ فِي الْأَصْلِ سَبَبًا لِلْحِلِّ زَوَالُ الدَّمِ بِهَا.
ثُمَّ إنَّ الشَّارِعَ أَقَامَ نَفْسَ الْفِعْلِ مِنْ الْأَهْل مَقَامَ زَوَالِهِ، حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ الْخُرُوجُ بِمَانِعٍ كَأَنْ أَكَلَتْ وَرَقَ الْعُنَّابِ حَلَّ اعْتِبَارًا لَهُ خَارِجًا.
(قَوْلُهُ وَمَوْتُ مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ إلَخْ) هَذِهِ دَاخِلَةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا لِأَنَّ مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ لَا دَمَ فِيهِ، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ فِي الْمَاءِ أَوْ خَارِجَهُ ثُمَّ يُنْقَلُ إلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ، وَغَيْرُ الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ لِأَنَّ الْمُنَجِّسَ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُفْسِدُهُ إلَّا السَّمَكُ لِمَا مَرَّ. وَلَنَا أَنَّهُ مَاتَ فِي مَعْدِنِهِ فَلَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ كَبَيْضَةٍ حَالَ مُحُّهَا دَمًا، وَلِأَنَّهُ لَا دَمَ فِيهَا، إذْ الدَّمَوِيُّ لَا يَسْكُنُ الْمَاءَ وَالدَّمُ هُوَ الْمُنَجِّسُ، وَفِي غَيْرِ الْمَاءِ قِيلَ غَيْرُ السَّمَكِ يُفْسِدُهُ لِانْعِدَامِ الْمَعْدِنِ. وَقِيلَ لَا يُفْسِدُهُ لِعَدَمِ الدَّمِ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
هُوَ الدَّمُ وَلَا دَمَ لِلْمَائِيِّ، وَلِذَا لَوْ شُمِّسَ دَمُ السَّمَكِ يَبْيَضُّ وَلَوْ كَانَ دَمًا لَاسْوَدَّ. نَعَمْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله إذَا تَفَتَّتَ الضُّفْدَعُ فِي الْمَاءِ كَرِهْتُ شُرْبَهُ لَا لِلنَّجَاسَةِ بَلْ لِحُرْمَةِ لَحْمِهِ وَقَدْ صَارَتْ أَجْزَاؤُهُ فِيهِ. وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ كَرَاهَةَ شُرْبِهِ تَحْرِيمِيَّةٌ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي التَّجْنِيسِ فَقَالَ يَحْرُمُ شُرْبُهُ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَا دَمَ فِيهَا) هَذَا التَّعْلِيلُ هُوَ الْأَصَحُّ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ سَبُعٌ فِي الْبِرِّ لَا يَنْجُسُ لِأَنَّهُ مَاتَ فِي مَعْدِنِهِ كَذَا قِيلَ، وَكَوْنُ الْبَرِّيَّةِ مَعْدِنًا لِلسَّبُعِ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ فِي مَعْنَى مَعْدِنِ الشَّيْءِ، وَاَلَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ الشَّيْءُ، وَعَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ فَرْعُ مَا لَوْ وَقَعَتْ الْبَيْضَةُ مِنْ الدَّجَاجَةِ فِي الْمَاءِ رَطْبَةً أَوْ يَبِسَتْ ثُمَّ وَقَعَتْ، وَكَذَا السَّخْلَةُ إذَا سَقَطَتْ مِنْ أُمِّهَا رَطْبَةً أَوْ يَبِسَتْ لَا يَنْجُسُ الْمَاءُ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي مَعْدِنِهَا. وَقَوْلُنَا النَّجَاسَةُ فِي مَحِلِّهَا لَا يُعْطَى لَهَا حُكْمُ النَّجَاسَةِ حَتَّى لَوْ صَلَّى حَامِلُ فَأْرَةٍ حَيَّةٍ جَازَتْ لَا مَيِّتَةٍ لِانْصِبَابِ الدَّمِ عَنْ مَجْرَاهُ بِالْمَوْتِ، وَلِذَا لَوْ قُطِعَ عِرْقٌ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ الدَّمُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مِثْلَ هَذَا
وَالضُّفْدَعُ الْبَحْرِيُّ وَالْبَرِّيُّ فِيهِ سَوَاءٌ. وَقِيلَ الْبَرِّيُّ مُفْسِدٌ لِوُجُودِ الدَّمِ وَعَدَمِ الْمَعْدِنِ، وَمَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ مَا يَكُونُ تَوَلُّدُهُ وَمَثْوَاهُ فِي الْمَاءِ، وَمَائِيُّ الْمَعَاشِ دُونَ مَائِيِّ الْمَوْلِدِ مُفْسِدٌ.
قَالَ
(وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي طَهَارَةِ الْأَحْدَاثِ) خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
(قَوْلُهُ وَالضُّفْدَعُ الْبَحْرِيُّ) هُوَ مَا يَكُونُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ سُتْرَةٌ بِخِلَافِ الْبَرِّيِّ (قَوْلُهُ لِوُجُودِ الدَّمِ) إنْ ثَبَتَ هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُتَرَدَّدَ فِي أَنَّهُ مُفْسِدٌ، وَفِي التَّجْنِيسِ لَوْ كَانَ لِلضُّفْدَعِ دَمٌ سَائِلٌ يُفْسِدُ أَيْضًا، وَمِثْلُهُ لَوْ مَاتَتْ حَيَّةٌ بَرِّيَّةٌ لَا دَمَ فِيهَا فِي إنَاءٍ لَا يَنْجُسُ وَإِنْ كَانَ فِيهَا دَمٌ يَنْجُسْ
(قَوْلُهُ وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ) تَتَعَلَّقُ بِهِ مَبَاحِثُ فِي حُكْمِهِ وَصِفَتِهِ وَسَبَبِ ثُبُوتِهَا لَهُ وَوَقْتِ ذَلِكَ، قَدَّمَ الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ أَهَمُّ، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ أَثْبَتَ فِيهِ مَشَايِخُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ الْخِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ، فَالْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مُغَلِّظُ النَّجَاسَةِ، وَأَبُو يُوسُفَ عَنْهُ مُخَفِّفُهَا، وَمُحَمَّدٌ عَنْهُ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ، وَكُلٌّ أَخَذَ بِمَا رَوَاهُ.
وَقَالَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ: إنَّهُ طَاهِرٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَاخْتَارَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ طَهَارَتَهُ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ أَنَّ الْآلَةَ الَّتِي تُسْقِطُ الْفَرْضَ وَتُقَامُ بِهَا الْقُرْبَةُ تَتَدَنَّسُ، وَأَمَّا الْحُكْمُ بِنَجَاسَةِ الْعَيْنِ شَرْعًا فَلَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَالُ الزَّكَاةِ تَدَنَّسَ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ حَتَّى جَعَلَ مِنْ الْأَوْسَاخِ فِي لَفْظِهِ صلى الله عليه وسلم فَحَرُمَ عَلَى مَنْ شَرُفَ بِقَرَابَتِهِ النَّاصِرَةِ لَهُ وَلَمْ تَصِل مَعَ هَذَا إلَى النَّجَاسَةِ حَتَّى لَوْ صَلَّى حَامِلُ دَرَاهِمِ الزَّكَاةِ صَحَّتْ، فَكَذَا يَجِبُ فِي الْمَاءِ أَنْ يَتَغَيَّرَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَصِلُ إلَى التَّنْجِيسِ، وَهُوَ يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ إلَّا أَنْ يَقُومَ فِيهِ دَلِيلٌ يَخُصُّهُ غَيْرُ هَذَا الْقِيَاسِ.
فَإِنْ قِيلَ قَدْ وَجَدْنَاهُ فَإِنَّ الْخَطَايَا تَخْرُجُ مَعَ الْمَاءِ، وَهِيَ قَاذُورَاتٌ يَنْتِجُ مِنْ الشَّكْلِ الثَّالِثِ بَعْضُ الْقَاذُورَاتِ يَخْرُجُ مَعَ الْمَاءِ وَبِذَلِكَ يَنْجُسُ. أَمَّا الصُّغْرَى فَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا تَوَضَّأَ الْمُؤْمِنُ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَمِيعِ بَدَنِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ» وَأَمَّا الْكُبْرَى فَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ اُبْتُلِيَ مِنْكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ» فَالْجَوَابُ مَنْعُ أَنَّ إطْلَاقَ الْقَاذُورَاتِ عَلَى الْخَطَايَا حَقِيقِيٌّ، أَمَّا لُغَةً فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا شَرْعًا فَلِجَوَازِ صَلَاةِ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهَا عَقِيبَ وُضُوئِهِ إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ النَّوَاقِضِ دُونَ غَسْلِ بَدَنِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلَنَّ فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ» فَغَايَةُ مَا يُفِيدُ نَهْيُ الِاغْتِسَالِ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا لِكَيْ لَا تَسْلُبَ الطَّهُورِيَّةَ فَيَسْتَعْمِلُهُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِذَلِكَ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ وَيُصَلِّي. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ كَوْنِهِ يَتَنَجَّسُ فَيَسْتَعْمِلُهُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِحَالِهِ فِي لُزُومِ الْمَحْذُورِ وَهُوَ الصَّلَاةُ مَعَ الْمُنَافِي فَيَصْلُحُ كَوْنُ كُلٍّ مِنْهُمَا مُشِيرًا لِلنَّهْيِ الْمَذْكُورِ.
وَجْهُ رِوَايَةِ النَّجَاسَةِ، قِيَاسُ أَصْلِهِ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَالْفَرْعُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْحُكْمِيَّةِ بِجَامِعِ الِاسْتِعْمَالِ فِي النَّجَاسَةِ بِنَاءً عَلَى إلْغَاءِ وَصْفِ الْحَقِيقِيِّ فِي ثُبُوتِ النَّجَاسَةِ، ذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى الْحَقِيقِيَّةِ لَيْسَ إلَّا
هُمَا يَقُولَانِ إنَّ الطَّهُورَ مَا يُطَهِّرُ غَيْرَهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى كَالْقَطُوعِ. وَقَالَ زُفَرُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله:
كَوْنُ النَّجَاسَةِ مَوْصُوفًا بِهَا جِسْمٌ مَحْسُوسٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ عَنْ الْمُكَلَّفِ، لَا أَنَّ وَصْفَ النَّجَاسَةِ حَقِيقَةٌ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمٍ كَذَلِكَ.
وَفِي غَيْرِهِ مَجَازٌ بَلْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ وَاحِدٌ فِي ذَلِكَ الْجِسْمِ وَفِي الْحَدَثِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُتَحَقِّقُ لَنَا مِنْ مَعْنَاهَا سِوَى أَنَّهَا اعْتِبَارٌ شَرْعِيٌّ مَنَعَ الشَّارِعُ مِنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ وَالسُّجُودِ حَالَ قِيَامِهِ لِمَنْ قَامَ بِهِ إلَى غَايَةِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِيهِ، فَإِذَا اسْتَعْمَلَهُ قَطَعَ ذَلِكَ الِاعْتِبَارُ كُلَّ ذَلِكَ ابْتِلَاءً لِلطَّاعَةِ، فَأَمَّا أَنَّ هُنَاكَ وَصْفًا حَقِيقِيًّا عَقْلِيًّا أَوْ مَحْسُوسًا فَلَا، وَمَنْ ادَّعَاهُ لَا يَقْدِرُ فِي إثْبَاتِهِ عَلَى غَيْرِ الدَّعْوَى فَلَا يُقْبَلُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اعْتِبَارٌ اخْتِلَافُهُ بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَمْرَ مَحْكُومٌ بِنَجَاسَتِهِ فِي شَرِيعَتِنَا وَبِطَهَارَتِهِ فِي غَيْرِهَا فَعُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ سِوَى اعْتِبَارٍ شَرْعِيٍّ أَلْزَمَ مَعَهُ كَذَا إلَى غَايَةِ كَذَا ابْتِلَاءً، وَفِي هَذَا لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الدَّمِ وَالْحَدَثِ فَإِنَّهُ أَيْضًا لَيْسَ إلَّا نَفْسَ ذَلِكَ الِاعْتِبَارِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ نَفْسُ وَصْفِ النَّجَاسَةِ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَثَبَتَ مِثْلُ حُكْمِ الْأَصْلِ وَهُوَ نَجَاسَةُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْحَدَثِ فَيَكُونُ نَجِسًا إلَّا أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَنْتَهِضُ عَلَى مَنْ يُسَلِّمُ كَوْنَ حُكْمِ الْأَصْلِ ذَلِكَ كَمَالِكٍ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا مَنْ يَشْتَرِطُ فِي نَجَاسَتِهِ خُرُوجَهُ مِنْ الثَّوْبِ مُتَغَيِّرًا بِلَوْنِ النَّجَاسَةِ كَالشَّافِعِيِّ فَلَا فَعِنْدَهُ الْمَاءُ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي لَا لَوْنَ لَهَا يُغَايِرُ لَوْنَ الْمَاءِ كَالْبَوْلِ طَاهِرٌ يَجُوزُ شُرْبُهُ وَغَسْلُ الثَّوْبِ بِهِ دُونَ إزَالَةِ الْحَدَثِ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مُسْتَعْمَلٌ، وَهُوَ لَا يُقْصِرُ وَصْفَ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى رَافِعِ الْحَدَثِ، فَإِنَّمَا يَنْتَهِضُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْكَلَامِ مَعَهُ فِي نَفْسِ هَذَا التَّفْصِيلِ وَهُوَ سَهْلٌ، غَيْرَ أَنَّا لَسْنَا إلَّا بِصَدَدِ تَوْجِيهِ رِوَايَةِ نَجَاسَةِ الْمُسْتَعْمَلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أُصُولِنَا فَإِنْ قِيلَ: لَوْ تَمَّ مَا ذَكَرْت كَانَ لِلْبَلْوَى تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِ حُكْمِهِ.
فَالْجَوَابُ الضَّرُورَةُ لَا يَعْدُو حُكْمُهَا مَحَلَّهَا، وَالْبَلْوَى فِيهِ إنَّمَا هِيَ فِي الثِّيَابِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ نَجَاسَةِ ثَوْبِ الْمُتَوَضِّئِ وَتَبْقَى حُرْمَةُ شُرْبِهِ وَالطَّبْخِ مِنْهُ وَغَسْلِ الثَّوْبِ مِنْهُ وَنَجَاسَةِ مِنْ يُصِيبُهُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ هُوَ مَا أُزِيلَ بِهِ حَدَثٌ إلَخْ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ كُلٌّ مِنْ رَفْعِ الْحَدَثِ وَالتَّقَرُّبِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ التَّقَرُّبُ كَانَ مَعَهُ رَفْعٌ أَوْ لَا، وَعِنْدَ زُفَرَ الرَّفْعُ كَانَ مَعَهُ تَقَرُّبٌ أَوْ لَا، وَالتَّقَرُّبُ هُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْوُضُوءَ حَتَّى تَصِيرَ عِبَادَةً.
لَا يُقَال: مَا ذُكِرَ لَا يَنْتَهِضُ عَلَى زُفَرَ،
إنْ كَانَ الْمُسْتَعْمِلُ مُتَوَضِّئًا فَهُوَ طَهُورٌ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَهُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ لِأَنَّ الْعُضْوَ طَاهِرٌ حَقِيقَةً، وَبِاعْتِبَارِهِ يَكُونُ الْمَاءُ طَاهِرًا لَكِنَّهُ نَجِسٌ حُكْمًا، وَبِاعْتِبَارِهِ يَكُونُ الْمَاءُ نَجِسًا فَقُلْنَا بِانْتِفَاءِ الطَّهُورِيَّةِ وَبَقَاءِ الطَّهَارَةِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله هُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ، وَلِأَنَّ مُلَاقَاةَ الطَّاهِرِ لِلطَّاهِرِ لَا تُوجِبُ التَّنَجُّسَ، إلَّا أَنَّهُ أُقِيمَتْ بِهِ قُرْبَةٌ فَتَغَيَّرَتْ بِهِ صِفَتُهُ كَمَالِ الصَّدَقَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
إذْ يَقُولُ: مُجَرَّدُ الْقُرْبَةِ لَا يُدَنِّسُ بَلْ الْإِسْقَاطُ، فَإِنَّ الْمَالَ لَمْ يَتَدَنَّسْ بِمُجَرَّدِ التَّقَرُّبِ بِهِ، وَلِذَا جَازَ لِلْهَاشِمِيِّ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، بَلْ مُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يَصِيرَ مُسْتَعْمَلًا إلَّا بِالْإِسْقَاطِ مَعَ التَّقَرُّبِ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَ: أَعْنِي مَالَ الزَّكَاةِ لَا يَنْفَرِدُ فِيهِ الْإِسْقَاطُ عَنْهُ، إذْ لَا تَجُوزُ الزَّكَاةُ إلَّا بِنِيَّةٍ، وَلَيْسَ هُوَ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّا نَقُولُ: غَايَةُ الْأَمْرِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ مَعَ الْمَجْمُوعِ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ الْمَجْمُوعُ بَلْ ذَلِكَ دَائِرٌ مَعَ عَقْلِيَّةِ الْمُنَاسِبِ لِلْحُكْمِ.
فَإِنْ عُقِلَ اسْتِقْلَالُ كُلِّ حُكْمٍ بِهِ أَوْ الْمَجْمُوعِ حُكِمَ بِهِ، وَاَلَّذِي نَعْقِلُهُ أَنَّ كُلًّا مِنْ التَّقَرُّبِ الْمَاحِي لِلسَّيِّئَاتِ وَالْإِسْقَاطِ مُؤَثِّرٌ فِي التَّغَيُّرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ انْفَرَدَ وَصْفُ التَّقَرُّبِ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَأَثَّرَ التَّغَيُّرُ حَتَّى حَرُمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَأَيْنَا الْأَثَرَ عِنْدَ سُقُوطِ وَصْفِ الْإِسْقَاطِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ ذَلِكَ وَهُوَ أَشَدُّ فَحَرُمَ عَلَى قَرَابَتِهِ النَّاصِرَةِ لَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلًّا أَثَّرَ تَغَيُّرًا شَرْعِيًّا، وَبِهَذَا يَبْعُدُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ إنَّهُ التَّقَرُّبُ فَقَطْ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ هَذَا مَذْهَبَهُ كَمَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَرْوِيٍّ عَنْهُ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُ أَنَّ إزَالَةَ الْحَدَثِ بِالْمَاءِ مُفْسِدٌ لَهُ وَمِثْلُهُ عَنْ الْجُرْجَانِيِّ، وَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَيْهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْمُنْغَمِسِ لِطَلَبِ الدَّلْوِ حَيْثُ قَالَ مُحَمَّدٌ الرَّجُلُ طَاهِرٌ وَالْمَاءُ طَاهِرٌ، جَوَابُهُ أَنَّ الْإِزَالَةَ عِنْدَهُ مُفْسِدَةٌ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ كَقَوْلِنَا جَمِيعًا لَوْ أَدْخَلَ الْمُحْدِثُ أَوْ الْجُنُبُ أَوْ الْحَائِضُ الَّتِي طَهُرَتْ الْيَدَ فِي الْمَاءِ لِلِاغْتِرَافِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِلْحَاجَةِ. وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها اغْتِسَالَهَا مَعَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ وَكِلَاهُمَا جُنُبٌ، عَلَى أَنَّ الضَّرُورَةَ كَافِيَةٌ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَدْخَلَ الْمُحْدِثُ رِجْلَهُ أَوْ رَأْسَهُ حَيْثُ يَفْسُدُ الْمَاءُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ، وَكَذَا مَا فِي كِتَابِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ غَمَسَ جُنُبٌ أَوْ غَيْرُ مُتَوَضِّئٍ يَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ أَوْ إحْدَى رِجْلَيْهِ فِي إجَّانَةٍ لَمْ يَجُزْ الْوُضُوءُ مِنْهُ لِأَنَّهُ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَمْ تَتَحَقَّقْ فِي الْإِدْخَالِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ حَتَّى لَوْ تَحَقَّقَتْ بِأَنْ وَقَعَ الْكُوزُ فِي الْحُبِّ فَأَدْخَلَ يَدَهُ إلَى الْمِرْفَقِ لِإِخْرَاجِهِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا.
نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْخُلَاصَةِ، قَالَ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ لِلتَّبَرُّدِ أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ، فَهَذَا يُوجِبُ حَمْلَ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى نَحْوِهِ ثُمَّ إدْخَالُ مُجَرَّدِ الْكَفِّ إنَّمَا لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إذَا لَمْ يُرِدْ الْغُسْلَ فِيهِ بَلْ أَرَادَ رَفْعَ الْمَاءِ، فَإِنْ أَرَادَ الْغُسْلَ إنْ كَانَ أُصْبُعًا أَوْ أَكْثَرَ دُونَ الْكَفِّ لَا يَضُرُّ مَعَ الْكَفِّ بِخِلَافِهِ ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ، وَلَا يَخْلُو مِنْ حَاجَتِهِ،
:
هُوَ نَجِسٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ» الْحَدِيثَ، وَلِأَنَّهُ مَاءٌ أُزِيلَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ الْحُكْمِيَّةُ فَيُعْتَبَرُ بِمَاءٍ أُزِيلَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ، ثُمَّ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً
إلَى تَأَمُّلِ وَجْهِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْخُلَاصَةِ مِنْ كَوْنِهِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالْإِدْخَالِ لِلتَّبَرُّدِ مَحْمَلُهُ مَا إذَا كَانَ مُحْدِثًا، أَمَّا إنْ كَانَ مُتَطَهِّرًا فَلَا، إذْ لَا بُدَّ عِنْدَ عَدَمِ ارْتِفَاعِ الْحَدَثِ مِنْ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ لِثُبُوتِ الِاسْتِعْمَالِ.
وَكَذَا إطْلَاقُ ثُبُوتِ الِاسْتِعْمَالِ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ وَهُوَ أَقْرَبُ فِي هَذَا، وَكَذَا مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ بَعْدَ الْإِنْقَاءِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا لَا نَجِسًا، فَأَمَّا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ فِي هَذَا وَمَا قَبْلَهُ سِوَى الزِّيَادَةِ وَالْغَسْلِ تَبَرُّدًا لَا تَقَرُّبًا وَاسْتِنَانًا يَجِبُ أَنْ لَا يَصِيرَ مُسْتَعْمَلًا وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ.
قَالَ فِي الْمُبْتَغَى وَغَيْرِهِ: بِتَبَرُّدِهِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إنْ كَانَ مُحْدِثًا وَإِلَّا فَلَا، وَبِغَسْلِ ثَوْبٍ طَاهِرٌ أَوْ دَابَّةٍ تُؤْكَلُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا، وَكَذَا بِغَسْلِ بَدَنِهِ أَوْ رَأْسِهِ لِلطِّينِ أَوْ الدَّرَنِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا لِظُهُورِ قَصْدِ إزَالَةِ ذَلِكَ.
وَوُضُوءُ الصَّبِيِّ كَالْبَالِغِ، وَبِتَعْلِيمِ الْوُضُوءِ إذَا لَمْ يُرِدْ سِوَى مُجَرَّدِ التَّعْلِيمِ لَا يُسْتَعْمَلُ، وَبِوُضُوءِ الْحَائِضِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِأَنَّ وُضُوءَهَا مُسْتَحَبٌّ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ الْحَيْضِ، وَلَا يَخْفَى انْتِهَاضُ الْوَجْهِ عَلَى مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ إنَّ الطَّهُورَ يَطْهُرُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَقَوْلُهُ هُوَ كَالْقُطُوعِ لَا يُجْدِيهِ شَيْئًا وَكَشْفُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَفْهُومِ الطَّهُورِ أَنْ يَطْهُرَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَضْلًا عَنْ التَّكَرُّرِ، فَإِنَّ مَفْهُومَهُ لَيْسَ إلَّا الْمُبَالَغَةُ فِي الطَّاهِرِ، كَذَا كُلُّ مَا كَانَ عَلَى صِيغَةِ فَعُولٍ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ سِوَى الْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِيهِ لَا تَسْتَلْزِمُ تَطْهِيرَ غَيْرِهِ، بَلْ رَفْعُ مَانِعِ الْغَيْرِ لَيْسَ إلَّا أَمْرًا شَرْعِيًّا لَوْلَا اسْتِفَادَتُهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} لَمَا أَفَادَهُ الْمَاءُ أَخْذًا مِنْ صِيغَةِ
اعْتِبَارًا بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي النَّجَاسَةِ الْحَقِيقَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ رحمه الله وَهُوَ قَوْلُهُ إنَّهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيَّةً لِمَكَانِ الِاخْتِلَافِ.
قَالَ (وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ هُوَ مَا أُزِيلَ بِهِ حَدَثٌ أَوْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْبَدَنِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ) قَالَ رضي الله عنه: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إلَّا بِإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ بِانْتِقَالِ نَجَاسَةِ الْآثَامِ إلَيْهِ وَإِنَّهَا تُزَالُ بِالْقُرَبِ، وَأَبُو يُوسُفَ رحمه الله يَقُولُ: إسْقَاطُ الْفَرْضِ مُؤَثِّرٌ أَيْضًا فَيَثْبُتُ الْفَسَادُ بِالْأَمْرَيْنِ، وَمَتَى يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا
فَعُولٍ، وَتَكَرُّرُ الْقَطْعِ لِمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ قَطُوعٌ لَيْسَ إلَّا لِخُصُوصِ الْمَادَّةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا الْمُبَالَغَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَطْعَ تَأْثِيرٌ فِي الْغَيْرِ بِالْإِبَانَةِ، وَهَذَا يُسْتَفَادُ مِنْ صِيغَةِ فَاعِلٍ فَإِنَّ صِحَّةَ إطْلَاقِ قَاطِعٍ مَا دَامَ قَائِمًا كَانَ ثُبُوتُ الْقَطْعِ قَائِمًا وَيَلْزَمُهُ تَكَرُّرُ الْقَطْعِ فَقَدْ ثَبَتَ التَّكَرُّرُ بِدُونِ صِيغَةِ فَعُولٍ فَالْمُبَالَغَةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ إلَّا بِاعْتِبَارِ كَثْرَتِهِ وَجَوْدَتِهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ فَعُولًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْوَصْفُ مُتَعَدِّيًا كَانَ الْمُبَالَغَةُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهِ بِالْغَيْرِ، وَإِنْ كَانَ قَاصِرًا فِي نَفْسِهِ كَانَ بِاعْتِبَارِهِ فِي نَفْسِهِ لَا أَنَّهُ يُصَيِّرُهُ مُتَعَدِّيًا وَصِفَةُ طَاهِرٍ قَاصِرَةٌ فَالْمُبَالَغَةُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ جَوْدَتِهِ فِي نَفْسِهِ، أَمَّا إفَادَةُ الْمُبَالَغَةِ تَعَلُّقَهُ بِالْغَيْرِ فَلَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا، وَانْظُرْ إلَى قَوْلِ جَرِيرٍ:
عَذَابُ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورٌ
…
فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَيْسَ هُوَ بِرَافِعٍ
(قَوْلُهُ وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَسَائِلَ نُقِلَتْ، وَذَكَرَ مَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا مِنْ كِتَابِ الْحَسَنِ وَذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يُرِدْ رَفْعَ شَيْءٍ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْإِنَاءَ قَيْدٌ، حَتَّى لَوْ أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِي الْبِئْرِ أَوْ يَدَهُ لَا يُفْسِدُهُ
الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَمَا زَايَلَ الْعُضْوَ صَارَ مُسْتَعْمَلًا، لِأَنَّ سُقُوطَ حُكْمِ الِاسْتِعْمَالِ قَبْلَ الِانْفِصَالِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ بَعْدَهُ،
وَلَوْ أَدْخَلَ الْجُنُبُ فِي الْبِئْرِ غَيْرَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ الْجَسَدِ أَفْسَدَهُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِمَا، وَقَوْلُنَا مِنْ الْجَسَدِ يُفِيدُ الِاسْتِعْمَالَ بِإِدْخَالِ بَعْضِ عُضْوٍ، وَهُوَ يُوَافِقُ الْمَرْوِيَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الطَّاهِرِ إذَا أَدْخَلَ رَأْسَهُ فِي الْإِنَاءِ وَابْتَلَّ بَعْضُ رَأْسِهِ أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا.
أَمَّا الرِّوَايَةُ الْمَعْرُوفَةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِبَعْضِ الْعُضْوِ، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَاءَ بِمَاذَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إذَا أُزِيلَ بِهِ حَدَثٌ أَوْ تُقُرِّبَ بِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا قَصَدَ بِهِ التَّقَرُّبَ لَا غَيْرَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ فِي التَّفْرِيعِ.
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْحَدَثَ لَا يَرْتَفِعُ عَنْ بَعْضِ عُضْوٍ حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهِ لَمْعَةٌ فَهُوَ بِحَدَثِهِ وَرَفْعُهُ هُوَ الْمُفِيدُ لِلِاسْتِعْمَالِ أَوْ الْقُرْبَةِ، ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ يُشْكِلُ عَلَى قَوْلِ الْمَشَايِخِ إنَّ الْحَدَثَ لَا يَتَجَزَّأُ رَفْعًا كَمَا لَا يَتَجَزَّأُ ثُبُوتًا، وَالْمَخْلَصُ بِتَحْقِيقِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ تَتَبُّعَ الرِّوَايَاتِ فِي الْمُلَاقَاةِ يُفِيدُ أَنَّ صَيْرُورَةَ الْمَاءِ مُسْتَعْمَلًا بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: رَفْعُ الْحَدَثِ تَقَرُّبًا أَوْ غَيْرَ تَقَرُّبٍ، وَالتَّقَرُّبُ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ رَفْعُ حَدَثٍ أَوْ لَا.
وَسُقُوطُ الْفَرْضِ عَنْ الْعُضْوِ وَعَلَيْهِ تَجْرِي فُرُوعُ إدْخَالِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ الْمَاءَ الْقَلِيلَ لَا لِحَاجَةٍ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ سُقُوطِ الْفَرْضِ وَارْتِفَاعِ الْحَدَثِ، فَسُقُوطُ الْفَرْضِ عَنْ الْيَدِ مَثَلًا يَقْتَضِي أَنْ لَا تَجِبَ إعَادَةُ غَسْلِهَا مَعَ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ وَيَكُونُ ارْتِفَاعُ الْحَدَثِ مَوْقُوفًا عَلَى غَسْلِ الْبَاقِي، وَسُقُوطُ الْفَرْضِ هُوَ الْأَصْلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ أَصْلَهُ مَالُ الزَّكَاةِ وَالثَّابِتُ فِيهِ لَيْسَ إلَّا سُقُوطُ الْفَرْضِ حَيْثُ جُعِلَ بِهِ دَنَسًا شَرْعًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. هَذَا وَالْمُفِيدُ لِاعْتِبَارِ الْإِسْقَاطِ مُؤَثِّرًا فِيهِ صَرِيحُ التَّعْلِيلِ الْمَنْقُولِ مِنْ لَفْظِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ الْحَسَنِ وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنْهُ. وَأَمَّا الرَّابِعُ فَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَمَتَى يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَمَا زَايَلَ الْعُضْوَ احْتَرَزَ بِهِ عَنْ قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ الْمَشَايِخِ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا حَتَّى يَسْتَقِرَّ فِي مَكَان مُسْتَدِلِّينَ بِجَوَازِ أَخْذِ الْبِلَّةِ مِنْ مَكَان مِنْ الْعُضْوِ إلَى آخَرَ، وَعَدَمِ جَوَازِهِ مِنْ عُضْوٍ إلَى عُضْوٍ آخَرَ إلَّا فِي الْجَنَابَةِ لِأَنَّ الْبَدَنَ فِيهَا كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ، وَيَمْسَحُ رَأْسَهُ بِبَلَلٍ فِي يَدِهِ لَا بَلَلٍ مِنْ عُضْوٍ آخَرَ، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّ سُقُوطَ الِاسْتِعْمَالِ حَالَ تَرَدُّدِهِ عَلَى الْعُضْوِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ، وَغَايَةُ مَا ذَكَرُوا أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ مَكَان آخَرَ مُسْتَعْمَلٌ، وَلَا كَلَامَ فِي هَذَا فَإِنَّهُ اتِّفَاقٌ، بَلْ فِيمَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ قَبْلَ الِاسْتِقْرَارِ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَمَسُّهُ وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ
وَالْجُنُبُ إذَا انْغَمَسَ فِي الْبِئْرِ لِطَلَبِ الدَّلْوِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله الرَّجُلُ بِحَالِهِ لِعَدَمِ الصَّبِّ وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَهُ لِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ وَالْمَاءُ بِحَالِهِ لِعَدَمِ الْأَمْرَيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله كِلَاهُمَا طَاهِرَانِ: الرَّجُلُ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الصَّبِّ، وَالْمَاءُ لِعَدَمِ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: كِلَاهُمَا نَجِسَانِ: الْمَاءُ لِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ الْبَعْضِ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ وَالرَّجُلُ لِبَقَاءِ الْحَدَثِ فِي بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ.
قَوْلُهُ وَالْجُنُبُ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي خَرَّجَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ اخْتِلَافَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي عِلَّةِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مِنْهَا فَقَالَ: عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَثْبُتُ الِاسْتِعْمَالُ بِرَفْعِ الْحَدَثِ وَبِالِاسْتِعْمَالِ تَقَرُّبًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مَا لَمْ يَنْوِ الْقُرْبَةَ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا وَجْهُهُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ ظَاهِرٌ.
قَالَ وَصَارَ كَمَا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ لِلِاغْتِرَافِ زَالَ الْحَدَثُ عَنْ الْيَدِ وَلَمْ يَصِرْ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا. وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَيَحْكُمُ بِنَجَاسَةِ الْمُسْتَعْمَلِ وَهُوَ بِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ فَإِذَا انْغَمَسَ وَحَكَمْنَا بِطَهَارَتِهِ اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ الْحُكْمَ بِكَوْنِ الْمَاءِ مُسْتَعْمَلًا، وَلَوْ حَكَمْنَا بِاسْتِعْمَالِهِ لَكَانَ نَجِسًا بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ فَلَا تَحْصُلُ لَهُ الطَّهَارَةُ، فَكَانَ الْحُكْمُ بِطَهَارَتِهِ مُسْتَلْزِمًا لِلْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ، فَقُلْنَا الرَّجُلُ بِحَالِهِ وَالْمَاءُ بِحَالِهِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا نَجِسَانِ، وَاخْتَلَفُوا فِي نَجَاسَةِ الرَّجُلِ عِنْدَهُ، فَقِيلَ نَجَاسَةُ الْجَنَابَةِ فَلَا يَقْرَأُ، وَقِيلَ نَجَاسَةُ الْمُسْتَعْمَلِ فَيَقْرَأُ.
وَعَنْهُ أَنَّ الرَّجُلَ طَاهِرٌ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الصَّحِيحَةُ لِعَدَمِ أَخْذِ الْمَاءِ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ قَبْلَ الِانْفِصَالِ، وَالْكُلُّ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ أَخْذَ اشْتِرَاطِ
وَقِيلَ عِنْدَهُ نَجَاسَةُ الرَّجُلِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ. وَعَنْهُ أَنَّ الرَّجُلَ طَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ قَبْلَ الِانْفِصَالِ، وَهُوَ أَوْفَقُ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ.
قَالَ (وَكُلُّ إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ وَجَازَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ وَالْوُضُوءُ مِنْهُ إلَّا جِلْدَ الْخِنْزِيرِ وَالْآدَمِيِّ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» وَهُوَ بِعُمُومِهِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رحمه الله فِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ، وَلَا يُعَارَضُ بِالنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ الِانْتِفَاعِ مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ
مُحَمَّدٍ الْقُرْبَةَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ لَازِمٍ وَكَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ كَوْنُ الرَّجُلِ بِحَالِهِ لِاشْتِرَاطِهِ الصَّبَّ فَإِنَّهُ شَرْطٌ عِنْدَهُ فِي التَّطْهِيرِ فِي غَيْرِ الْمَاءِ الْجَارِي وَالْمُلْحَقِ بِهِ فِي الْعُضْوِ لَا الثَّوْبِ لَا لِمَا ذُكِرَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَلَا يَكُونُ الْمَاءُ حَالَ الِانْغِمَاسِ وَالْحُكْمِ بِطَهَارَةِ الرَّجُلِ مُسْتَعْمَلًا نَجِسًا وَلَا بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ
(قَوْلُهُ وَكُلُّ إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ) يَتَنَاوَلُ كُلَّ جِلْدٍ يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَةَ لَا مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، فَلَا يَطْهُرُ جِلْدُ الْحَيَّةِ وَالْفَأْرَةِ بِهِ كَاللَّحْمِ
وَحُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي جِلْدِ الْكَلْبِ وَلَيْسَ الْكَلْبُ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ يُنْتَفَعُ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَوْ أَصْلَحَ مَصَارِينَ شَاةٍ مَيِّتَةٍ أَوْ دَبَغَ الْمَثَانَةَ وَأَصْلَحَهَا طَهُرَتْ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هِيَ كَاللَّحْمِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى جِلْدَ الْخِنْزِيرِ وَالْآدَمِيِّ فَيَدْخُلُ جِلْدُ الْفِيلِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فِي قَوْلٍ إنَّ الْفِيلَ نَجِسُ الْعَيْنِ. وَعِنْدَهُمَا هُوَ كَسَائِرِ السِّبَاعِ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَهُوَ كَمَا تَرَاهُ عَامٌّ، فَإِخْرَاجُ الْخِنْزِيرِ مِنْهُ لِمُعَارَضَةِ الْكِتَابِ إيَّاهُ فِيهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} بِنَاءً عَلَى عَوْدِ الضَّمِيرِ إلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِعَوْدِهِ، وَعِنْدَ صَلَاحِيَّةِ كُلٍّ مِنْ الْمُتَضَايِفَيْنِ لِذَلِكَ يَجُوزُ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ.
وَقَدْ جُوِّزَ عَوْدُ ضَمِيرِ مِيثَاقِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} إلَى كُلٍّ مِنْ الْعَهْدِ وَلَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَتَعَيَّنَ عَوْدُهُ إلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ضَرُورَةُ صِحَّةِ الْكَلَامِ وَإِلَى الْمُضَافِ فِي قَوْلِك رَأَيْت ابْنَ زَيْدٍ فَكَلَّمْته لِأَنَّهُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ بِالرُّؤْيَةِ، رَتَّبَ عَلَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ عَنْهُ الْحَدِيثَ الثَّانِي فَتَعَيَّنَ هُوَ مُرَادًا بِهِ وَإِلَّا اخْتَلَّ النَّظْمُ، وَإِذَا جَازَ كُلٌّ مِنْهُمَا لُغَةً، وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ احْتِيَاطٍ وَجَبَ إعَادَتُهُ عَلَى مَا فِيهِ الِاحْتِيَاطُ، وَهُوَ بِمَا قُلْنَا.
وَأَمَّا جِلْدُ الْآدَمِيِّ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا كَرَامَتُهُ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَحُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِأَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ لِكَرَامَتِهِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مَقَامٌ آخَرُ غَيْرُ طَهَارَتِهِ بِالدِّبَاغِ وَعَدَمِهَا فَلِذَا صَرَّحَ فِي الْعِنَايَةِ بِأَنَّهُ إذَا دُبِغَ جِلْدُ الْآدَمِيِّ طَهُرَ لَكِنْ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَسَائِرِ أَجْزَائِهِ، وَبَقِيَ جِلْدُ الْكَلْبِ دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ إذْ نَجَاسَةُ سُؤْرِهِ لَا تَسْتَلْزِمُ نَجَاسَةَ عَيْنِهِ بَلْ نَجَاسَةُ لَحْمِهِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ اللُّعَابُ فَيَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ،
بِهِ حِرَاسَةً وَاصْطِيَادًا، بِخِلَافِ الْخِنْزِيرِ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ، إذْ الْهَاءُ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} مُنْصَرِفٌ إلَيْهِ لِقُرْبِهِ وَحُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِأَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ لِكَرَامَتِهِ فَخَرَجَا عَمَّا رَوَيْنَا
عَلَى أَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ فِي رِوَايَةٍ لَا يَطْهُرُ بِنَاءً عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِهِ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: فُرُوعٌ عَلَيْهِ: مِنْهَا وَقَعَ الْكَلْبُ فِي بِئْرٍ تَنَجَّسَ، أَصَابَ فَمُهُ الْمَاءَ أَوْ لَمْ يُصِبْ وَلَوْ ابْتَلَّ فَأَصَابَ ثَوْبًا أَكْثَرَ مِنْ الدِّرْهَمِ أَفْسَدَهُ. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي التَّصْحِيحِ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ هَذَا الْعُمُومُ طَهَارَةَ عَيْنِهِ وَلَمْ يُعَارِضْهُ مَا يُوجِبُ نَجَاسَتَهَا فَوَجَبَ أَحَقِّيَّةُ تَصْحِيحِ عَدَمِ نَجَاسَتِهَا فَيَطْهُرُ بِالدَّبَّاغِ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُتَّخَذُ دَلْوًا لِلْمَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ يَجِبُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ إهَابُ الْمَيِّتَةِ أَيْضًا بِطَرِيقِ النَّسْخِ بِمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ كَتَبَ إلَى جُهَيْنَةَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ: أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَعِنْدَ أَحْمَدَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ أَوْ بِشَهْرَيْنِ. قُلْنَا الِاضْطِرَابُ فِي مَتْنِهِ وَسَنَدِهِ يَمْنَعُ تَقْدِيمَهُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّ النَّاسِخَ أَيْ مُعَارَضٌ فَلَا بُدَّ مِنْ مُشَاكَلَتِهِ فِي الْقُوَّةِ. وَلِذَا قَالَ بِهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ: هُوَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ تَرَكَهُ لِلِاضْطِرَابِ فِيهِ. أَمَّا فِي السَّنَدِ فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ ابْنِ عُكَيْمٍ كَمَا قَدَّمْنَا.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ جِهَةِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ انْطَلَقَ هُوَ وَنَاسٌ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: فَدَخَلُوا وَوَقَفْت عَلَى الْبَابِ فَخَرَجُوا إلَيَّ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُكَيْمٍ أَخْبَرَهُمْ
ثُمَّ مَا يَمْنَعُ النَّتْنَ وَالْفَسَادَ فَهُوَ دِبَاغٌ وَإِنْ كَانَ تَشْمِيسًا أَوْ تَتْرِيبًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِهِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ غَيْرِهِ
، ثُمَّ مَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدَّبَّاغِ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ الدَّبَّاغِ فِي إزَالَةِ الرُّطُوبَةِ النَّجِسَةِ، وَكَذَلِكَ يَطْهُرُ لَحْمُهُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولًا.
«أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَى جُهَيْنَةَ» الْحَدِيثَ. فَفِي هَذَا أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ الدَّاخِلِينَ وَهُمْ مَجْهُولُونَ.
وَأَمَّا فِي الْمَتْنِ فَفِي رِوَايَةٍ بِشَهْرٍ، وَفِي أُخْرَى بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَفِي أُخْرَى بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي صُحْبَةِ ابْنِ عُكَيْمٍ، ثُمَّ كَيْفَ كَانَ لَا يُوَازِي حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الصَّحِيحَ فِي جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ التَّرْجِيحِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ لَمْ يَكُنْ قَطْعِيًّا فِي مُعَارَضَتِهِ لِأَنَّ الْإِهَابَ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ وَبَعْدَهُ يُسَمَّى شَنًّا وَأَدِيمًا.
وَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ «هَكَذَا كُنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيِّتَةِ فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيِّتَةِ بِجِلْدٍ وَلَا عَصَبٍ» فِي سَنَدِهِ فَضْلَةُ بْنُ مِفْضَلٍ مُضَعَّفٌ: وَالْحَقُّ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُكَيْمٍ ظَاهِرٌ فِي النَّسْخِ لَوْلَا الِاضْطِرَابُ، فَإِنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَحَدًا لَا يَنْتَفِعُ بِجِلْدِ الْمَيِّتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغَةِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُسْتَقْذَرٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ النَّهْيُ بِهِ ظَاهِرًا (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِهِ) فَخَرَجَ مَا جَفَّ وَلَمْ يَسْتَحِلْ فَلَا يَطْهُرُ، وَالْإِلْقَاءُ فِي الرِّيحِ كَالتَّشْمِيسِ، وَفِيهِ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «اسْتَمْتِعُوا بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا هِيَ دُبِغَتْ تُرَابًا كَانَ أَوْ رَمَادًا أَوْ مِلْحًا أَوْ مَا كَانَ بَعْدَ أَنْ يَزِيدَ صَلَاحُهُ» وَفِيهِ مَعْرُوفُ بْنُ حَسَّانٍ مَجْهُولٌ، وَالْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ كَافٍ.
(قَوْلُهُ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ) إنَّمَا يَطْهُرُ الْجِلْدُ بِالذَّكَاةِ إذَا كَانَتْ فِي الْمَحِلِّ مِنْ الْأَهْلِ، فَذَكَاةُ الْمَجُوسِيِّ لَا يَطْهُرُ بِهَا الْجِلْدُ بَلْ بِالدَّبْغِ لِأَنَّهَا إمَاتَةٌ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ إنَّهُ يَطْهُرُ جِلْدُهُ لَا لَحْمُهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَاخْتَارَهُ الشَّارِحُونَ كَصَاحِبِ الْغَايَةِ وَصَاحِبِ النِّهَايَةِ وَغَيْرِهِمَا لِأَنَّ سُؤْرَهُ نَجِسٌ وَنَجَاسَةُ السُّؤْرِ لِنَجَاسَةِ عَيْنِ اللَّحْمِ، وَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَطْهُرَ الْجِلْدُ
قَالَ (وَشَعْرُ الْمَيْتَةِ وَعَظْمُهَا طَاهِرٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: نَجِسٌ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ، وَلَنَا أَنَّهُ لَا حَيَاةَ فِيهِمَا وَلِهَذَا لَا يَتَأَلَّمُ بِقَطْعِهِمَا فَلَا يَحُلُّهُمَا الْمَوْتُ، إذْ الْمَوْتُ زَوَالُ الْحَيَاةِ.
بِالذَّكَاةِ لِأَنَّهُ وِعَاءُ اللَّحْمِ النَّجِسِ، لَكِنْ قَالُوا بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ جُلَيْدَةٌ رَقِيقَةٌ تَمْنَعُ الْمُمَاسَّةَ بَيْنَهُمَا فَلَا تَتَنَجَّسُ بِرُطُوبَاتِهِ، لَكِنْ عَلَى هَذَا قَدْ يُقَالُ فَلَا يَظْهَرُ عَمَلُ الذَّكَاةِ فِي إزَالَةِ الرُّطُوبَاتِ عَنْ الْجِلْدِ لِتَتَوَقَّفَ طَهَارَتُهُ عَلَيْهِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ أَنَّ الْمُخْتَارَ عَدَمَ طَهَارَةِ لُحُومِ السِّبَاعِ بِالذَّكَاةِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ بَازِيًا مَذْبُوحًا أَوْ الْفَأْرَةُ أَوْ الْحَيَّةُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَ لَحْمِهَا، وَكَذَا كُلُّ مَا يَكُونُ سُؤْرُهُ نَجِسًا انْتَهَى. وَهُوَ مُشْكِلٌ، فَإِنَّ عَدَمَ طَهَارَةِ لُحُومِ السِّبَاعِ بِالذَّكَاةِ لَيْسَ لِذَاتِ نَجَاسَةِ السُّؤْرِ بَلْ لِنَجَاسَةِ اللَّحْمِ، غَيْرَ أَنَّهُ اسْتَوْضَحَ نَجَاسَتَهُ بِنَجَاسَةِ السُّؤْرِ، وَعَدَمُ نَجَاسَةِ سُؤْرِ مَا ذَكَرَ لَيْسَ لِطَهَارَةِ لَحْمِهَا بَلْ لِعَدَمِ اخْتِلَاطِ اللُّعَابِ بِالْمَاءِ فِي سِبَاعِ الطَّيْرِ لِأَنَّهُ يَشْرَبُ بِمِنْقَارِهِ وَهُوَ عَظْمٌ جَافٌّ فَلَا يَصِلُ إلَى الْمَاءِ مِنْهُ شَيْءٌ لِيُنَجِّسَهُ، بِخِلَافِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ، وَسُقُوطُ نَجَاسَةِ سُؤْرِ الْهِرَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَالْحَيَّةِ لِلضَّرُورَةِ اللَّازِمَةِ مِنْ الْمُخَالَطَةِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ وَشَيْءٌ مِنْ هَذَا لَا يَقْتَضِي طَهَارَةَ اللَّحْمِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْمُسْقِطِ لِلنَّجَاسَةِ فِيهِ نَفْسِهِ.
(قَوْلُهُ وَشَعْرُ الْمَيْتَةِ) كُلُّ مَا لَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ مِنْ أَجْزَاءِ الْهُوِيَّةِ مَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهِ بَعْدَ مَوْتِ مَا هِيَ جُزْؤُهُ كَالشَّعْرِ وَالرِّيشِ وَالْمِنْقَارِ وَالْعَظْمِ وَالْعَصَبِ وَالْحَافِرِ وَالظِّلْفِ وَاللَّبَنِ وَالْبَيْضِ الضَّعِيفِ الْقِشْرِ وَالْإِنْفَحَةِ، لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الْإِنْفَحَةِ وَاللَّبَنِ هَلْ هُمَا مُتَنَجِّسَانِ؟ فَقَالَا نَعَمْ لِمُجَاوَرَتِهِمَا الْغِشَاءَ النَّجِسِ، فَإِنْ كَانَتْ الْإِنْفَحَةُ
(وَشَعْرُ الْإِنْسَانِ وَعَظْمُهُ طَاهِرٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: نَجِسٌ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلَنَا أَنَّ عَدَمَ الِانْتِفَاعِ وَالْبَيْعِ لِكَرَامَتِهِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
جَامِدَةً تَطْهُرْ بِالْغَسْلِ وَإِلَّا تَعَذَّرَ طُهْرُهُمَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَا بِمُتَنَجِّسَيْنِ، وَعَلَى قِيَاسِهِمَا قَالُوا فِي السَّخْلَةِ إذَا سَقَطَتْ مِنْ أُمِّهَا وَهِيَ رَطْبَةٌ فَيَبِسَتْ ثُمَّ وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ لَا يَنْجُسُ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي مَعْدِنِهَا، فَهَاتَانِ خِلَافِيَّتَانِ مَذْهَبِيَّةٌ وَخَارِجَةٌ.
لَنَا فِيهَا أَنَّ الْمَعْهُودَ فِيهَا حَالَةَ الْحَيَاةِ الطَّهَارَةُ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ الْمَوْتُ النَّجَاسَةَ فِيمَا تَحُلُّهُ وَلَا تَحُلُّهَا الْحَيَاةُ فَلَا يَحُلُّهَا الْمَوْتُ، وَإِذَا لَمْ يَحُلَّهَا وَجَبَ الْحُكْمُ بِبَقَاءِ الْوَصْفِ الشَّرْعِيِّ الْمَعْهُودِ لِعَدَمِ الْمُزِيلِ، وَفِي السُّنَّةِ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «فِي شَاةِ مَوْلَاةِ مَيْمُونَةَ حِينَ مَرَّ بِهَا مَيِّتَةً إنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا» فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي لَفْظٍ «إنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ لَحْمُهَا وَرُخِّصَ لَكُمْ فِي مَسْكِهَا» وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ «إنَّمَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَيْتَةِ لَحْمَهَا، فَأَمَّا الْجِلْدُ وَالشَّعْرُ وَالصُّوفُ فَلَا بَأْسَ بِهِ» وَأَعَلَّهُ بِتَضْعِيفِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ مُسْلِمٍ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، فَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ فَلَا يَنْزِلُ الْحَدِيثُ عَنْ الْحَسَنِ. ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْت صلى الله عليه وسلم قَالَ «{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْمَيْتَةِ حَلَالٌ إلَّا مَا أُكِلَ مِنْهَا» فَأَمَّا الْجِلْدُ وَالْقُرُونُ وَالشَّعْرُ وَالصُّوفُ وَالسِّنُّ وَالْعَظْمُ فَكُلُّهُ حَلَالٌ لِأَنَّهُ لَا يُذَكَّى، وَأَعَلَّهُ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ هَذَا مَتْرُوكٌ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «لَا بَأْسَ بِمَسْكِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَ، وَلَا بَأْسَ بِصُوفِهَا وَلَا شَعْرِهَا وَقُرُونِهَا إذَا غُسِلَ بِالْمَاءِ» وَضَعَّفَهُ بِأَنَّ يُوسُفَ بْنَ أَبِي السَّفْرِ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ مَتْرُوكٌ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ بَقِيَّةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ خَالِدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْتَشِطُ بِمُشْطٍ مِنْ عَاجٍ» قَالَ: وَرِوَايَةُ بَقِيَّةَ عَنْ شُيُوخِهِ الْمَجْهُولِينَ ضَعِيفَةٌ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْعَاجُ الذَّبِلُ وَهُوَ ظَهْرُ السُّلَحْفَاةِ. وَأَمَّا الْعَاجُ الَّذِي تَعْرِفُهُ الْعَامَّةُ عَظْمُ أَنْيَابِ الْفِيلِ فَهُوَ مَيْتَةٌ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ انْتَهَى. وَفِيهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَوْهَمَ أَنَّ الْوَاسِطِيَّ مَجْهُولٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْآخَرُ إيهَامُهُ بِقَوْلِهِ الَّذِي تَعْرِفُهُ الْعَامَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ اللُّغَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. قَالَ فِي الْمُحْكَمِ: الْعَاجُ أَنْيَابُ الْفِيَلَةِ، وَلَا يُسَمَّى غَيْرُ النَّابِ عَاجًا.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَاجُ عَظْمُ الْفِيلِ الْوَاحِدَةُ عَاجَةٌ
فَبِهَذَا يَكُونُ إنْ صَحَّ مَا عَنْ الْأَصْمَعِيِّ تَأْوِيلًا لِلْمُرَادِ لَمَّا اعْتَقَدَ نَجَاسَةَ عَظْمِ الْفِيلِ. فَهَذِهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ لَوْ كَانَتْ ضَعِيفَةً حُسِّنَ الْمَتْنُ فَكَيْفَ وَمِنْهَا مَا لَا يَنْزِلُ عَنْ الْحَسَنِ وَلَهُ الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ، ثُمَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يُبْطِلُ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مِنْ نَجَاسَةِ عَيْنِ الْفِيلِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا فِي الْمَذْهَبِيَّةِ التَّنَجُّسُ بِالْمُجَاوِرَةِ.
وَلَهُ أَنَّهُ لَا أَثَرَ
(فَصْلٌ فِي الْبِئْرِ)
(وَإِذَا وَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ نَجَاسَةٌ نُزِحَتْ وَكَانَ نَزْحُ مَا فِيهَا مِنْ الْمَاءِ طَهَارَةً لَهَا) بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ، وَمَسَائِلُ الْآبَارِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اتِّبَاعِ الْآثَارِ دُونَ الْقِيَاسِ
لِلتَّنَجُّسِ شَرْعًا مَا دَامَتْ فِي الْبَاطِنِ النَّجَاسَةُ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ شَرْعًا حَالَةَ الْحَيَاةِ لَا يَزُولُ بِالْمَوْتِ إلَّا إذَا ثَبَتَ شَرْعًا أَنَّ الْمَوْتَ يُزِيلُهُ، لَكِنَّ الثَّابِتَ لِلْمَوْتِ لَيْسَ إلَّا عَمَلُهُ فِي تَنَجُّسِ مَا يَحُلُّهُ فَيَسْتَلْزِمُ تَنَجُّسَ غِشَائِهِمَا وَبَقَاؤُهُمَا عَلَى طَهَارَتِهِمَا بِحُكْمِ عَدَمِ إعْطَاءِ حُكْمِ النَّجَاسَةِ مَا دَامَ فِي الْبَاطِنِ، وَلَا يَزُولُ هَذَا الْبَقَاءُ إلَّا بِمُزِيلٍ وَلَمْ يُوجَدْ. فَرْعٌ
الْأَصَحُّ فِي قَمِيصِ الْحَيَّةِ الطَّهَارَةُ، وَكَذَا فِي نَافِجَةِ الْمَسْكِ مُطْلَقًا. وَقِيلَ إذَا كَانَتْ بِحَيْثُ لَوْ ابْتَلَّتْ لَا تَفْسُدُ.
(فَصْلٌ فِي الْبِئْرِ)
(قَوْلُهُ نُزِحَتْ) إسْنَادٌ مَجَازِيٌّ: أَيْ نُزِحَ مَاؤُهَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُسْنَدَ إلَى النَّجَاسَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا نَحْوُ الْقَطْرَةِ مِنْ الْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَالدَّمِ، لَكِنَّ نَزْحَ تِلْكَ الْقَطْرَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِنَزْحِ جَمِيعِ الْمَاءِ فَكَانَ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ ذَلِكَ وَبِهَذَا يَكُونُ الْمُصَنِّفُ مُسْتَوْفِيًا حُكْمَ الْوَاقِعِ مِنْ كَوْنِهِ نَجَاسَةً أَوْ حَيَوَانًا مُوجِبًا نَزْحَ الْبَعْضِ أَوْ الْكُلِّ (قَوْلُهُ دُونَ الْقِيَاسِ) فَإِنَّ الْقِيَاسَ إمَّا أَنْ لَا تَطْهُرَ أَصْلًا كَمَا قَالَ بِشْرٌ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ لِاخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِالْأَوْحَالِ وَالْجُدْرَانِ
(فَإِنْ وَقَعَتْ فِيهَا بَعْرَةٌ أَوْ بَعْرَتَانِ مِنْ بَعْرِ الْإِبِلِ أَوْ الْغَنَمِ لَمْ تُفْسِدْ الْمَاءَ) اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تُفْسِدَهُ لِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ آبَارَ الْفَلَوَاتِ لَيْسَتْ لَهَا رُءُوسٌ حَاجِزَةٌ وَالْمَوَاشِي تَبْعَرُ حَوْلَهَا فَتُلْقِيهَا الرِّيحُ فِيهَا فَجَعَلَ الْقَلِيلَ عَفْوًا لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْكَثِيرِ، وَهُوَ مَا يَسْتَكْثِرُهُ النَّاظِرُ إلَيْهِ فِي الْمُرَوِّي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ وَالصَّحِيحِ وَالْمُنْكَسِرِ وَالرَّوْثِ وَالْخِثَى وَالْبَعْرِ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ
وَالْمَاءُ يَنْبُعُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَإِمَّا أَنْ لَا يَتَنَجَّسَ إسْقَاطًا لِحُكْمِ النَّجَاسَةِ حَيْثُ تَعَذَّرَ الِاحْتِرَازُ أَوْ التَّطْهِيرُ.
كَمَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ فِي حُكْمِ الْجَارِي لِأَنَّهُ يَنْبُعُ مِنْ أَسْفَلِهِ وَيُؤْخَذُ مِنْ أَعْلَاهُ فَلَا يَنْجُسُ كَحَوْضِ الْحَمَّامِ. قُلْنَا وَمَا عَلَيْنَا أَنْ نَنْزَحَ مِنْهَا دِلَاءً أَخْذًا بِالْآثَارِ، وَمِنْ الطَّرِيقِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فِي يَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ رضي الله عنهم كَالْأَعْمَى فِي يَدِ الْقَائِدِ.
(قَوْلُهُ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ) هَذَا يَقْتَضِي الْفَرْقَ بَيْنَ آبَارِ الْفَلَوَاتِ وَالْأَمْصَارِ، فَلِذَا اُخْتُلِفَ فِيهَا، فَبَعْضُ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّهَا تَتَنَجَّسُ بِالْبَعْرِ وَأَخَوَاتِهِ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ حَاجِزٍ، وَبَعْضُهُمْ لَا يُنَجِّسُهَا اعْتِبَارًا لِوَجْهٍ آخَرَ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ أَنَّ الْبَعْرَ صُلْبٌ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الرُّطُوبَةِ رُطُوبَةُ الْأَمْعَاءِ فَلَا يَنْتَشِرُ مِنْ سُقُوطِهِ فِي الْمَاءِ نَجَاسَةٌ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْجُسَ بِالْمُنْكَسِرِ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْكُلَّ وَالْبَعْضَ سَوَاءٌ لِلضَّرُورَةِ وَالْبَلْوَى (قَوْلُهُ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ) احْتِرَازٌ مِمَّا قِيلَ الْكَثِيرُ ثَلَاثٌ، وَقِيلَ أَنْ يَأْخُذَ رُبْعَ وَجْهِ الْمَاءِ، وَقِيلَ أَكْثَرُهُ، وَقِيلَ كُلُّهُ، وَقِيلَ أَنْ لَا يَخْلُوَ دَلْوٌ عَنْ بَعْرَةٍ (قَوْلُهُ وَلَا فَرْقَ إلَخْ)
تَشْمَلُ الْكُلَّ
وَفِي الشَّاةِ تَبْعَرُ فِي الْمِحْلَبِ بَعْرَةً أَوْ بَعْرَتَيْنِ قَالُوا تُرْمَى الْبَعْرَةُ وَيُشْرَبُ اللَّبَنُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَلَا يُعْفَى الْقَلِيلُ فِي الْإِنَاءِ عَلَى مَا قِيلَ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّهُ كَالْبِئْرِ فِي حَقِّ الْبَعْرَةِ وَالْبَعْرَتَيْنِ
(فَإِنْ وَقَعَ فِيهَا خَرْءُ الْحَمَامِ أَوْ الْعُصْفُورِ لَا يُفْسِدُهُ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله. لَهُ أَنَّهُ اسْتَحَالَ إلَى نَتَنٍ وَفَسَادٍ فَأَشْبَهَ خَرْءَ الدَّجَاجِ. وَلَنَا إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى اقْتِنَاءِ الْحَمَامَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ مَعَ وُرُودِ الْأَمْرِ بِتَطْهِيرِهَا وَاسْتِحَالَتِهِ لَا إلَى نَتْنِ
ذَكَرَ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ الرَّوْثَ وَالْمُفَتَّتَ مِنْ الْبَعْرِ مُفْسِدٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، إلَّا أَنَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَلِيلَ عَفْوٌ، وَهُوَ الْأَوْجُهُ، فَقَوْلُهُ لَا فَرْقَ إلَخْ فِي كُلٍّ مِنْهَا خِلَافٌ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَوْجَهَ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَشْمَلُ الْكُلَّ.
(قَوْلُهُ وَفِي الشَّاةِ تَبْعَرُ فِي الْمِحْلَبِ قَالُوا تُرْمَى الْبَعْرَةُ) أَيْ مِنْ سَاعَتِهِ، فَلَوْ أُخِّرَ أَوْ أَخَذَ اللَّبَنُ لَوْنَهَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَتَحَقَّقُ فِي نَفْسِ الْوُقُوعِ لِأَنَّهَا تَبْعَرُ عِنْدَ الْحَلْبِ عَادَةً لَا فِيمَا وَرَاءَهُ، وَذَلِكَ بِمَرْأًى مِنْهُ، وَبَعَرَ يَبْعَرُ مِنْ حَدِّ (مَنَعَ). وَالرَّوْثُ لِلْفَرَسِ وَالْحِمَارِ مِنْ رَاثَ، يُقَالُ مِنْ حَدِّ (نَصَرَ)، وَالْخِثْيُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَاحِدُ الْأَخْثَاءِ لِلْبَقَرِ مِنْ بَابِ (ضَرَبَ)(قَوْلُهُ وَلَا يُعْفَى الْقَلِيلُ فِي الْإِنَاءِ عَلَى مَا قِيلَ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ) فَإِنَّهُ الْمُتَسَاهَلُ فِي تَرْكِهِ مَكْشُوفًا.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي فَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي السَّمْنِ «إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ»
(قَوْلُهُ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى اقْتِنَاءِ الْحَمَامَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ) وَالْعِلْمُ بِمَا يَكُونُ مِنْهَا مَعَ وُرُودِ الْأَمْرِ بِتَطْهِيرِهَا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَيُرَادُ الْإِجْمَاعُ الْعَمَلِيُّ فَإِنَّهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مُقِيمَةٌ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَعَ الْعِلْمِ بِمَا يَكُونُ مِنْهَا.
وَأَمَّا الثَّانِي فَقَالَتْ عَائِشَةُ «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ. وَعَنْ سَمُرَةَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى بَنِيهِ: أَمَّا بَعْدُ: «فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَصْنَعَ
رَائِحَةٍ فَأَشْبَهَ الْحَمْأَةَ
(فَإِنْ بَالَتْ فِيهَا شَاةٌ نُزِحَ الْمَاءُ كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله لَا يُنْزَحُ إلَّا إذَا غَلَبَ عَلَى الْمَاءِ فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَهُورًا) وَأَصْلُهُ أَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ عِنْدَهُ نَجِسٌ عِنْدَهُمَا. لَهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْعُرَنِيِّينَ بِشُرْبِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا» وَلَهُمَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «اسْتَنْزِهُوا مِنْ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ إلَى نَتَنٍ وَفَسَادٍ فَصَارَ كَبَوْلِ
الْمَسَاجِدَ فِي دُورِنَا وَنُصْلِحَ صَنْعَتَهَا وَنُطَهِّرَهَا». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَسَكَتَ ثُمَّ الْمُنْذِرِيُّ بَعْدَهُ
(قَوْلُهُ إلَّا إذَا غَلَبَ الْمَاءُ فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَهُورًا) هَذَا يُقَوِّي مَا ذَكَرْنَاهُ فِي حَدِيثِ «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ» فِي بَحْثِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ حَيْثُ أَفَادَ أَنَّ سَلْبَ الطَّهُورِيَّةِ يُحَقِّقُ نَزْحَ الْمَاءِ.
(قَوْلُهُ لَهُ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ الْعُرَنِيِّينَ») عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «قَدِمَ نَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَخْرُجُوا إلَى الْإِبِلِ وَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا» . وَفِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا أَنَّهُمْ ثَمَانِيَةٌ، وَلِلْحَدِيثِ طُولٌ غَيْرُ هَذَا (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «اسْتَنْزِهُوا مِنْ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ») أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ عِلَّةً.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ، وَأَجْوَدُهَا طَرِيقًا حَدِيثُ
مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ. وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام عَرَفَ شِفَاءَهُمْ فِيهِ وَحْيًا، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي وَلَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَا يُتَيَقَّنُ بِالشِّفَاءِ فِيهِ فَلَا يَعْرِضُ عَنْ الْحُرْمَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَحِلُّ لِلتَّدَاوِي لِلْقِصَّةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحِلُّ لِلتَّدَاوِي وَغَيْرِهِ لِطَهَارَتِهِ عِنْدَهُ.
قَالَ (وَإِنْ مَاتَتْ فِيهَا فَأْرَةٌ أَوْ عُصْفُورَةٌ أَوْ صَعْوَةٌ أَوْ سُودَانِيَّةٌ أَوْ سَامٌّ أَبْرَصُ نُزِحَ مِنْهَا مَا بَيْنَ عِشْرِينَ دَلْوًا إلَى ثَلَاثِينَ بِحَسَبِ كِبَرِ الدَّلْوِ وَصِغَرِهَا) يَعْنِي بَعْدَ إخْرَاجِ الْفَأْرَةِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَأْرَةِ إذَا مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ وَأُخْرِجَتْ مِنْ سَاعَتِهَا نُزِحَ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا»
أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ بِلَفْظٍ آخَرَ
(قَوْلُهُ فَإِنْ مَاتَتْ) يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَصْلِ بَيَانُ الْآثَارِ وَالْفُرُوعِ وَعِبَارَةُ الْكِتَابِ ظَاهِرَةٌ فِي ذَلِكَ فَلْنَشْتَغِلْ بِسَرْدِ الْآثَارِ وَفُرُوعِ الْبَابِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا ذُكِرَ عَنْ أَنَسٍ وَالْخُدْرِيِّ ذَكَرَهُ مَشَايِخُنَا غَيْرَ أَنَّ قُصُورَ نَظَرِنَا أَخْفَاهُ عَنَّا. وَقَالَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ: إنَّ الطَّحَاوِيَّ رَوَاهُمَا فَيُمْكِنُ كَوْنُهُ فِي غَيْرِ شَرْحِ الْآثَارِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ فِي شَرْحِ الْآثَارِ بِسَنَدِهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ فِي بِئْرٍ وَقَعَتْ فِيهَا فَأْرَةٌ فَمَاتَتْ يُنْزَحُ مَاؤُهَا، وَبِسَنَدِهِ إلَيْهِ أَيْضًا: إذَا سَقَطَتْ الْفَأْرَةُ أَوْ الدَّابَّةُ فِي الْبِئْرِ فَانْزَحْهَا حَتَّى يَغْلِبَك الْمَاءُ، وَبِسَنَدِهِ إلَى إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي الْبِئْرِ يَقَعُ فِيهَا الْجُرَذُ أَوْ السِّنَّوْرُ فَتَمُوتُ قَالَ: يَدْلُو أَرْبَعِينَ دَلْوًا، وَبِسَنَدِهِ عَنْهُ فِي فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي بِئْرٍ قَالَ: يُنْزَحُ مِنْهَا قَدْرُ أَرْبَعِينَ دَلْوًا، وَبِسَنَدِهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ فِي الطَّيْرِ وَالسِّنَّوْرِ وَنَحْوِهِمَا يَقَعُ فِي الْبِئْرِ قَالَ: يُنْزَحُ مِنْهَا أَرْبَعُونَ دَلْوًا، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ قَالَهُ فِي الْإِمَامِ، وَبِسَنَدِهِ عَنْهُ قَالَ: يُدْلِي مِنْهَا سَبْعُونَ دَلْوًا، وَبِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ سَأَلْنَاهُ عَنْ الدَّجَاجَةِ تَقَعُ فِي الْبِئْرِ فَتَمُوتُ فِيهَا قَالَ: يُنْزَحُ مِنْهَا سَبْعُونَ دَلْوًا، وَبِسَنَدِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ
وَالْعُصْفُورَةُ وَنَحْوُهَا تُعَادِلُ الْفَأْرَةَ فِي الْجُثَّةِ فَأَخَذَتْ حُكْمَهَا، وَالْعِشْرُونَ بِطَرِيقِ الْإِيجَابِ وَالثَّلَاثُونَ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ.
قَالَ (فَإِنْ مَاتَتْ فِيهَا حَمَامَةٌ أَوْ نَحْوُهَا كَالدَّجَاجَةِ وَالسِّنَّوْرِ نُزِحَ مِنْهَا مَا بَيْنَ أَرْبَعِينَ دَلْوًا إلَى سِتِّينَ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَرْبَعُونَ أَوْ خَمْسُونَ) وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه «أَنَّهُ قَالَ فِي الدَّجَاجَةِ: إذَا مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ نُزِحَ مِنْهَا أَرْبَعُونَ دَلْوًا» وَهَذَا لِبَيَانِ الْإِيجَابِ، وَالْخَمْسُونَ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بِئْرٍ دَلْوُهَا الَّذِي يُسْتَقَى بِهِ مِنْهَا،
فِي دَجَاجَةٍ وَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ: يُنْزَحُ مِنْهَا قَدْرُ أَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسِينَ ثُمَّ يُتَوَضَّأُ مِنْهَا.
وَأَمَّا فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ زِنْجِيًّا وَقَعَ فِي زَمْزَمَ يَعْنِي مَاتَ فَأَمَرَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأُخْرِجَ وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُنْزَحَ، قَالَ: فَغَلَبَتْهُمْ عَيْنٌ جَاءَتْ مِنْ الرُّكْنِ، قَالَ: فَأَمَرَ بِهَا فَدُسَّتْ بِالْقَبَاطِيِّ وَالْمَطَارِفِ حَتَّى نَزَحُوهَا، فَلَمَّا نَزَحُوهَا انْفَجَرَتْ عَلَيْهِمْ. وَهُوَ مُرْسَلٌ، فَإِنَّ ابْنَ سِيرِينَ لَمْ يَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ. وَرَوَاهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ عَطَاءٍ وَهُوَ سَنَدٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهَا الطَّحَاوِيُّ عَنْ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ حَبَشِيًّا وَقَعَ فِي زَمْزَمَ فَمَاتَ، فَأَمَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَنُزِحَ مَاؤُهَا فَجَعَلَ الْمَاءُ لَا يَنْقَطِعُ، فَنَظَرَ فَإِذَا عَيْنٌ تَجْرِي مِنْ قِبَلِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: حَسْبُكُمْ. وَهَذَا أَيْضًا صَحِيحٌ بِاعْتِرَافِ الشَّيْخِ بِهِ فِي الْإِمَامِ. وَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ: أَنَا بِمَكَّةَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً لَمْ أَرَ صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا يَعْرِفُ حَدِيثَ الزِّنْجِيِّ الَّذِي قَالُوا إنَّهُ وَقَعَ فِي زَمْزَمَ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: لَا يُعْرَفُ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَيْفَ يَرْوِي ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»
وَقِيلَ دَلْوٌ يَسَعُ فِيهَا صَاعًا، وَلَوْ نُزِحَ مِنْهَا بِدَلْوٍ عَظِيمٍ مَرَّةً مِقْدَارُ عِشْرِينَ دَلْوًا جَازَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ.
قَالَ (وَإِنْ مَاتَتْ فِيهَا شَاةٌ أَوْ كَلْبٌ أَوْ آدَمِيٌّ نُزِحَ جَمِيعُ مَا فِيهَا مِنْ الْمَاءِ) لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما أَفْتَيَا بِنَزْحِ
وَيَتْرُكُهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ فَلِنَجَاسَةٍ ظَهَرَتْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ أَوْ لِلتَّنْظِيفِ فَدُفِعَ بِأَنَّ عَدَمَ عِلْمِهِمَا لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى. وَرِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَلِكَ كَعِلْمِك أَنْتَ بِهِ. فَكَمَا قُلْت يَتَنَجَّسُ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ لِدَلِيلٍ آخَرَ وَقَعَ عِنْدَك لَا يُسْتَبْعَدُ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالظَّاهِرُ مِنْ السَّوْقِ وَاللَّفْظِ الْقَائِلِ مَاتَ فَأَمَرَ بِنَزْحِهَا أَنَّهُ لِلْمَوْتِ لَا لِنَجَاسَةٍ أُخْرَى، عَلَى أَنَّ عِنْدَك لَا تُنْزَحُ أَيْضًا النَّجَاسَةُ، ثُمَّ إنَّهُمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ قَرِيبٌ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، فَكَانَ إخْبَارُ مَنْ أَدْرَكَ الْوَاقِعَةَ وَأَثْبَتَهَا أَوْلَى مِنْ عَدَمِ عِلْمِ غَيْرِهِ. وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ: كَيْفَ يَصِلُ هَذَا الْخَبَرُ إلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ وَيَجْهَلُهُ أَهْلُ مَكَّةَ، اسْتِبْعَادٌ بَعْدَ وُضُوحِ الطَّرِيقِ، وَمُعَارَضٌ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ لِأَحْمَدَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ مِنَّا، فَإِذَا كَانَ خَبَرٌ صَحِيحٌ فَأَعْلِمُونِي حَتَّى أَذْهَبَ إلَيْهِ كُوفِيًّا كَانَ أَوْ بَصْرِيًّا أَوْ شَامِيًّا، فَهَلَّا قَالَ: كَيْفَ يَصِلُ هَذَا إلَى أُولَئِكَ وَيَجْهَلُهُ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الصَّحَابَةَ انْتَشَرَتْ فِي الْبِلَادِ خُصُوصًا الْعِرَاقَ. قَالَ الْعِجْلِيّ فِي تَارِيخِهِ: نَزَلَ الْكُوفَةَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَنَزَلَ قِرْقِيسًا سِتُّمِائَةٍ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْبِئْرِ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ نُزِحَ مَا فِيهَا، فَإِذَا جَاءَ الْمَاءُ بَعْدَهُ لَا يُنْزَحُ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَرْبَعَ كَفَأْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْخَمْسَ كَالدَّجَاجَةِ إلَى تِسْعٍ، وَالْعَشْرَ كَالشَّاةِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ: الْفَأْرَتَانِ إذَا كَانَتَا كَهَيْئَةِ الدَّجَاجَةِ يُنْزَحَ أَرْبَعُونَ، وَفِي الْهِرَّتَيْنِ يُنْزَحُ مَاؤُهَا كُلُّهُ، وَالْهِرَّةُ مَعَ الْفَأْرَةِ كَالْهِرَّةِ كَذَا فِي التَّجْنِيسِ وَلَوْ كَانَتْ الْفَأْرَةُ مَجْرُوحَةً نُزِحَ الْكُلُّ لِلدَّمِ، وَلَا يُفِيدُ النَّزْحُ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ، وَلَوْ صُبَّ مِنْهَا دَلْوٌ فِي بِئْرٍ طَاهِرَةٍ نُزِحَ الْمَصْبُوبُ وَقَدْرُ مَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ الدَّلْوِ مِنْ الثَّانِيَةِ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَدْرُ الْبَاقِي فَقَطْ وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ. فَعَلَى هَذَا لَوْ صُبَّ الدَّلْوُ الْأَخِيرُ فِي أُخْرَى طَاهِرَةٍ يُنْزَحُ مِنْهَا دَلْوٌ فَقَطْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَلَوْ صُبَّ مَاءُ بِئْرٍ نَجِسَةٍ فِي بِئْرٍ أُخْرَى وَهِيَ نَجِسَةٌ أَيْضًا يُنْظَرُ بَيْنَ الْمَصْبُوبِ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ فِيهِمَا، فَأَيُّهُمَا كَانَ أَكْثَرَ أَغْنَى عَنْ الْأَقَلِّ.
فَإِنْ اسْتَوَيَا فَنَزْحُ أَحَدِهِمَا يَكْفِي. مِثَالُهُ: بِئْرَانِ مَاتَتْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَأْرَةٌ فَنُزِحَ مِنْ إحْدَاهُمَا عَشَرَةٌ مَثَلًا وَصُبَّ فِي الْأُخْرَى يُنْزَحُ عِشْرُونَ، وَلَوْ صُبَّ دَلْوٌ وَاحِدٌ فَكَذَلِكَ، وَلَوْ مَاتَتْ فَأْرَةٌ فِي بِئْرٍ ثَالِثَةٍ فَصُبَّ فِيهَا مِنْ إحْدَى الْبِئْرَيْنِ عِشْرُونَ وَمِنْ الْأُخْرَى عَشَرَةٌ يُنْزَحُ ثَلَاثُونَ، وَلَوْ صُبَّ فِيهَا مِنْ كُلٍّ عِشْرُونَ نُزِحَ أَرْبَعُونَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُنْزَحَ الْمَصْبُوبُ، ثُمَّ الْوَاجِبُ فِيهَا عَلَى رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ هَذَا كُلُّهُ فِي الْفَتَاوَى، وَفِي التَّجْنِيسِ مَا يُخَالِفُ هَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي بِئْرَيْنِ مَاتَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا سِنَّوْرٌ فَنُزِحَ مِنْ إحْدَاهُمَا دَلْوٌ وَصُبَّ فِي الْأُخْرَى يُنْزَحُ مَاؤُهَا كُلُّهُ
الْمَاءِ كُلِّهِ حِينَ مَاتَ زِنْجِيٌّ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ
(فَإِنْ انْتَفَخَ الْحَيَوَانُ فِيهَا أَوْ تَفَسَّخَ نُزِحَ جَمِيعُ مَا فِيهَا صَغَرَ الْحَيَوَانُ أَوْ كَبُرَ) لِانْتِشَارِ الْبِلَّةِ فِي أَجْزَاءِ الْمَاءِ. قَالَ (وَإِنْ كَانَتْ الْبِئْرُ مَعِينًا لَا يُمْكِنُ نَزْحُهَا أَخْرَجُوا مِقْدَارَ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ الْمَاءِ) وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ أَنْ تُحْفَرَ حُفْرَةٌ مِثْلُ مَوْضِعِ الْمَاءِ مِنْ الْبِئْرِ وَيُصَبُّ فِيهَا مَا يُنْزَحُ مِنْهَا إلَى أَنْ تَمْتَلِئَ أَوْ تُرْسَلَ فِيهَا قَصَبَةٌ وَيُجْعَلَ لِمَبْلَغِ الْمَاءِ عَلَامَةٌ ثُمَّ يُنْزَحُ مِنْهَا عَشْرُ دِلَاءٍ مَثَلًا، ثُمَّ تُعَادُ الْقَصَبَةُ فَيُنْظَرُ كَمْ اُنْتُقِصَ فَيُنْزَحُ لِكُلِّ قَدْرٍ مِنْهَا عَشْرُ دِلَاءٍ، وَهَذَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله نَزْحُ مِائَتَا دَلْوٍ إلَى ثَلَثِمِائَةٍ فَكَأَنَّهُ بَنَى قَوْلَهُ عَلَى مَا شَاهَدَ فِي بَلَدِهِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي مِثْلِهِ يُنْزَحُ حَتَّى يَغْلِبَهُمْ الْمَاءُ وَلَمْ يُقَدِّرْ الْغَلَبَةَ بِشَيْءٍ
لِأَنَّهُ أَخَذَ حُكْمَ النَّجَاسَةِ، وَكَذَا لَوْ أَصَابَ ثَوْبًا يَجِبُ غَسْلُهُ فَصَارَ كَمَا إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ أُخْرَى اهـ.
وَهَذَا إنَّمَا يَظْهَرُ وَجْهُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ، وَهِيَ مَا إذَا كَانَ الْمَصْبُوبُ فِيهَا طَاهِرَةً، أَمَّا إذَا كَانَتْ نَجِسَةً فَلَا لِأَنَّ أَثَرَ نَجَاسَةِ هَذَا الدَّلْوِ إنَّمَا يَظْهَرُ فِيمَا إذَا وَرَدَ عَلَى طَاهِرٍ وَقَدْ وَرَدَ هُنَا عَلَى نَجِسٍ فَلَا يَظْهَرُ أَثَرُ نَجَاسَتِهِ فَتَبْقَى الْمَوْرُودَةُ عَلَى مَا كَانَتْ فَتَطْهُرُ بِإِخْرَاجِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ. وَجْهُ دَفْعِهِ عَنْ السَّابِقَةِ مَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْبِئْرِ إلَّا نَجَاسَةُ فَأْرَةٍ وَنَجَاسَةُ الْفَأْرَةِ يُطَهِّرُهَا عِشْرُونَ دَلْوًا، وَلَوْ نُزِحَ بَعْضُ الْوَاجِبِ ثُمَّ ذَهَبَ وَجَاءَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي يُنْزَحُ مَا بَقِيَ لَيْسَ غَيْرُ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَلَوْ غَار الْمَاءُ قَبْلَ النَّزَحِ ثُمَّ عَادَ لَا يَعُودُ نَجِسًا.
وَفِي النَّوَازِلِ يَعُودُ نَجِسًا لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْمُطَهِّرُ، وَفِي التَّجْرِيدِ جَعَلَ الْأَوَّلَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لَا تَطْهُرُ مَا لَمْ تُنْزَحْ، وَإِذَا انْفَصَلَ الدَّلْوُ الْأَخِيرُ عَنْ الْمَاءِ حُكِمَ بِطَهَارَتِهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كَانَ يَتَقَاطَرُ فِي الْبِئْرِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَطْهُرُ مَا لَمْ يَنْفَصِلْ مِنْ رَأْسِ الْبِئْرِ، فَلَوْ اسْتَقَى مِنْهُ قَبْلَهُ فَغُسِلَ بِهِ ثَوْبٌ نَجَّسَهُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ، ثُمَّ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ يَطْهُرُ الدَّلْوُ وَالرِّشَاءُ وَالْبَكَرَةُ وَنَوَاحِي الْبِئْرِ وَالْيَدُ لِأَنَّ نَجَاسَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِنَجَاسَةِ الْبِئْرِ فَتَطْهُرُ بِطَهَارَتِهِمَا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَمِثْلُهُ عُرْوَةُ الْإِبْرِيقِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ نَجَاسَةٌ رَطْبَةٌ فَجَعَلَ يَدَهُ عَلَيْهَا كُلَّمَا صُبَّ عَلَى الْيَدِ، فَإِذَا غَسَلَ الْيَدَ ثَلَاثًا طَهُرَتْ الْعُرْوَةُ بِطَهَارَةِ الْيَدِ وَيَدُ الْمُسْتَنْجِي تَطْهُرُ بِطَهَارَةِ الْمَحَلِّ، وَدَنُّ الْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَتْ. وَقِيلَ الدَّلْوُ طَاهِرَةٌ فِي حَقِّ هَذِهِ الْبِئْرِ لَا غَيْرِهَا كَدَمِ الشَّهِيدِ طَاهِرٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَقَطْ، وَلَا يَجِبُ نَزْحُ الطِّينِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّوَرِ لِأَنَّ الْآثَارَ إنَّمَا وَرَدَتْ بِنَزْحِ الْمَاءِ
(قَوْلُهُ نُزِحَ جَمِيعُ مَا فِيهَا) هَذَا إذَا مَاتَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُخْرَجَ حَيًّا إنْ كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ أَوْ فِي بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ مَعْلُومَةٌ نُزِحَتْ كُلُّهَا، وَإِنَّمَا قُلْنَا مَعْلُومَةً لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْبَقَرِ وَنَحْوِهِ يَخْرُجُ حَيًّا لَا يَجِبُ نَزْحُ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ اشْتِمَالُ بَوْلِهَا عَلَى أَفْخَاذِهَا، لَكِنْ يَحْتَمِلُ طَهَارَتَهَا بِأَنْ سَقَطَتْ عَقِيبَ دُخُولِهَا مَاءً كَثِيرًا، هَذَا مَعَ الْأَصْلِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ
كَمَا هُوَ دَأْبُهُ. وَقِيلَ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ رَجُلَيْنِ لَهُمَا بَصَارَةٌ فِي أَمْرِ الْمَاءِ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْفِقْهِ.
قَالَ (وَإِنْ وَجَدُوا فِي الْبِئْرِ فَأْرَةً أَوْ غَيْرَهَا وَلَا يُدْرَى مَتَى وَقَعَتْ وَلَمْ تَنْتَفِخْ وَلَمْ تَنْفَسِخْ أَعَادُوا صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إذَا كَانُوا تَوَضَّئُوا مِنْهَا وَغَسَلُوا كُلَّ شَيْءٍ أَصَابَهُ مَاؤُهَا، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ انْتَفَخَتْ أَوْ تَفَسَّخَتْ أَعَادُوا صَلَاةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهَا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَا: لَيْسَ عَلَيْهِمْ إعَادَةُ شَيْءٍ حَتَّى يَتَحَقَّقُوا مَتَى وَقَعَتْ) لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، وَصَارَ كَمَنْ
تَظَافَرَا عَلَى عَدَمِ النَّزْحِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
وَقِيلَ يُنْزَحُ مِنْ الشَّاةِ كُلُّهُ، وَالْقَوَاعِدُ تَنْبُو عَنْهُ مَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينًا تَنَجُّسُهَا كَمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَ نَجِسَ السُّؤْرِ فَقَطْ أَوْ مَكْرُوهَهُ أَوْ مَشْكُوكَهُ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فَاهُ الْمَاءَ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ أَدْخَلَهُ نُزِحَ الْكُلُّ فِي النَّجِسِ، وَكَذَا تَظَافَرَ كَلَامُهُمْ فِي الْمَشْكُوكِ وَهُوَ يُنَاسِبُ مَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْفَصْلِ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا إذَا غَلَبَ عَلَى الْمَاءِ فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَهُورًا، وَالْمَشْكُوكُ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِطَهُورِيَّتِهِ فَيُنْزَحُ كُلُّهُ، بِخِلَافِ الْمَكْرُوهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَسْلُوبٍ لِلطَّهُورِيَّةِ، فَلِذَا إنَّمَا اسْتَحَبُّوا فِيهِ أَنْ يُنْزَحَ عَشْرُ دِلَاءٍ، وَقِيلَ عِشْرُونَ احْتِيَاطًا، هَذَا وَلَكِنَّ الْمُصَنِّفَ فِي التَّجْنِيسِ قَالَ فِي الْمَشْكُوكِ: وَجَبَ نَزْحُ الْكُلِّ لِأَنَّهُ حُكِمَ بِنَجَاسَتِهِ احْتِيَاطًا، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ قَرِيبِ وَرَقَتَيْنِ أَنَّ لُعَابَهُمَا يُفْسِدُ الْمَاءَ، قَالَ: وَمَعْنَى الْفَسَادِ أَنَّهُ لَا يَبْقَى طَهُورًا لِأَنَّ الْإِشْكَالَ فِي الطَّهُورِيَّةِ.
قَالَ: وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَاءَ يَتَنَجَّسُ بِوُقُوعِ عَرَقِ الْحِمَارِ.
قَالَ: وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مَسَائِلَ مَا يُشِيرُ إلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَكِنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ اهـ. وَقَالَ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ: فِي الْكَلْبِ يَقَعُ فِي الْبِئْرِ تُنْزَحُ كُلُّهَا وَإِنْ لَمْ يُصِبْ فَمُهُ الْمَاءَ، وَعَلَّلَهُ بِعِلَّتَيْنِ: نَجَاسَةُ عَيْنِهِ، وَلِأَنَّ مَأْوَاهُ فِي النَّجَاسَاتِ. ثُمَّ قَالَ: وَسَائِرُ السِّبَاعِ بِمَنْزِلَةِ الْكَلْبِ، وَقَدْ يُشْكِلُ عَلَى مِثْلِ الْبَقَرَةِ وَلَوْ وَقَعَ عَظْمٌ عَلَيْهِ دُسُومَةٌ أَوْ لَحْمٌ نُزِحَ الْكُلُّ، وَقَالُوا لَوْ تَلَطَّخَ عَظْمٌ بِنَجَاسَةٍ فَوَقَعَ وَتَعَذَّرَ إخْرَاجُهُ تَطْهُرُ الْبِئْرُ بِالنَّزْحِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ غَسْلًا لِلْعَظْمِ، وَلَوْ سَالَ النَّجَسُ عَلَى الْآجُرِّ ثُمَّ وَصَلَ إلَى الْمَاءِ فَنَزْحُهَا طَهَارَةٌ لِلْكُلِّ. [فَرْعٌ]
الْبُعْدُ بَيْنَ الْبَالُوعَةِ وَالْبِئْرِ الْمَانِعِ مِنْ وُصُولِ النَّجَاسَةِ إلَى الْبِئْرِ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ سَبْعَةٌ. وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ: الْمُعْتَبَرُ الطَّعْمُ أَوْ اللَّوْنُ أَوْ الرِّيحُ، فَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ جَازَ وَإِلَّا لَا وَلَوْ
رَأَى فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةً وَلَا يَدْرِي مَتَى أَصَابَتْهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ لِلْمَوْتِ سَبَبًا ظَاهِرًا وَهُوَ الْوُقُوعُ فِي الْمَاءِ فَيُحَالُ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ الِانْتِفَاخَ وَالتَّفَسُّخَ دَلِيلُ التَّقَادُمِ فَيُقَدَّرُ بِالثَّلَاثِ، وَعَدَمُ الِانْتِفَاخِ وَالتَّفَسُّخِ دَلِيلُ قُرْبِ الْعَهْدِ فَقَدَّرْنَاهُ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ سَاعَاتٌ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ النَّجَاسَةِ فَقَدْ قَالَ الْمُعَلَّى: هِيَ عَلَى الْخِلَافِ، فَيُقَدَّرُ بِالثَّلَاثِ فِي الْبَالِي وَبِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي الطَّرِيِّ وَلَوْ سُلِّمَ فَالثَّوْبُ بِمَرْأَى عَيْنِهِ وَالْبِئْرُ غَائِبَةٌ عَنْ بَصَرٍ فَيَفْتَرِقَانِ.
كَانَ عَشْرَةَ أَذْرُعٍ
(قَوْلُهُ لِأَنَّ لِلْمَوْتِ سَبَبًا ظَاهِرًا) يَعْنِي أَنَّ الْإِحَالَةَ عَلَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ وَاجِبٌ عِنْدَ خَفَاءِ الْمُسَبِّبِ، وَالْكَوْنُ فِي الْمَاءِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ سَبَبٌ ظَاهِرٌ لِلْمَوْتِ، وَالْمَوْتُ فِيهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَدْ خَفِيَ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ أَنَّهُ مَاتَ فِيهِ إحَالَةٌ عَلَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ عِنْدَ خَفَاءِ الْمُسَبِّبِ غَيْرَ أَنَّ الِانْتِفَاخَ إلَخْ، وَبَاقِي الْفَصْلِ ظَاهِرٌ حُكْمًا وَدَلِيلًا.
[فَرْعٌ]
نَزَحَ مَاءَ بِئْرٍ رَجُلٌ فَيَبِسَتْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبِئْرِ لَا يَمْلِكُ مَاءَهَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي حُبِّ رَجُلٍ لَزِمَهُ مِلْؤُهُ لَهُ لِمِلْكِهِ لَهُ، وَلَوْ تَنَجَّسَتْ بِئْرٌ فَأُجْرِيَ مَاؤُهَا بِأَنْ حُفِرَ لَهَا مَنْفَذٌ فَصَارَ الْمَاءُ يَخْرُجُ مِنْهُ حَتَّى خَرَجَ بَعْضُهُ طَهُرَتْ لِوُجُودِ سَبَبِ الطَّهَارَةِ وَهُوَ جَرَيَانُ الْمَاءِ وَصَارَ كَالْحَوْضِ إذَا تَنَجَّسَ فَأَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ حَتَّى خَرَجَ بَعْضُهُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ
(فَصْلٌ فِي الْأَسْآرِ وَغَيْرِهَا)
(فَصْلٌ فِي الْأَسْآرِ وَغَيْرِهَا)
(وَعَرَقُ كُلِّ شَيْءٍ مُعْتَبَرٌ بِسُؤْرِهِ) لِأَنَّهُمَا يَتَوَلَّدَانِ مِنْ لَحْمِهِ فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا حُكْمَ صَاحِبِهِ. قَالَ (وَسُؤْرُ الْآدَمِيِّ وَمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ) لِأَنَّ الْمُخْتَلِطَ بِهِ اللُّعَابُ وَقَدْ تَوَلَّدَ مِنْ لَحْمٍ طَاهِرٍ فَيَكُونُ طَاهِرًا، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْجَوَابِ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ وَالْكَافِرُ.
قَوْلُهُ وَعَرَقُ كُلِّ شَيْءٍ إلَخْ) الْأَنْسَبُ عَكْسُهُ لِأَنَّ الْفَصْلَ مَعْقُودٌ لِلسُّؤْرِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بَيَانُ حُكْمِ الْمُخَالِطِ لَهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ وَذَلِكَ فِي اللُّعَابِ إذْ هُوَ الَّذِي تَكْثُرُ مُخَالَطَتُهُ لَهَا بِخِلَافِ الْعَرَقِ، قَالَ ذَلِكَ لِيَقَعَ السُّؤْرُ أَخِيرًا فَيَتَّصِلُ بِهِ تَفْصِيلَ مَا خَالَطَهُ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُمَا يَتَوَلَّدَانِ) الْمُتَوَلَّدُ اللُّعَابُ لَا السُّؤْرُ، فَأُطْلِقَ السُّؤْرُ عَلَى اللُّعَابِ لِلْمُجَاوَرَةِ، إذْ السُّؤْرُ مَا يُفْضِلُهُ الشَّارِبُ وَهُوَ يُجَاوِرُ اللُّعَابَ (قَوْلُهُ وَالْكَافِرُ مَا لَمْ يَشْرَبْ خَمْرًا) ثُمَّ يَشْرَبُ مِنْ سَاعَتِهِ، أَمَّا لَوْ مَكَثَ قَدْرَ مَا يَغْسِلُ فَمَه بِلُعَابِهِ ثُمَّ شَرِبَ لَا يَنْجَسُ، وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الصَّبِّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَنَظِيرُهُ لَوْ أَصَابَ عُضْوَهُ نَجَاسَةٌ فَلَحِسَهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ أَثَرُهَا، أَوْ قَاءَ الصَّغِيرُ عَلَى ثَدْيٍ أُمِّهِ ثُمَّ مَصَّهُ حَتَّى زَالَ الْأَثَرُ طَهُرَ. لَا يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ يَنْجُسَ سُؤْرُ الْجَنْبِ وَالْحَائِضِ عَلَى الْقَوْلِ بِنَجَاسَةِ الْمُسْتَعْمِلِ لِأَنَّ مَا يُلَاقِي الْمَاءَ مِنْ فَمِهِ مَشْرُوبٌ. سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ لِحَاجَةٍ
(وَسُؤْرُ الْكَلْبِ نَجِسٌ) وَيُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ وُلُوغِهِ ثَلَاثًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «يُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ ثَلَاثًا» وَلِسَانُهُ يُلَاقِي الْمَاءَ دُونَ الْإِنَاءِ، فَلَمَّا تَنَجَّسَ الْإِنَاءُ فَالْمَاءُ أَوْلَى، وَهَذَا يُفِيدُ النَّجَاسَةَ وَالْعَدَدَ فِي الْغَسْلِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي اشْتِرَاطِ السَّبْعِ، وَلِأَنَّ مَا يُصِيبُهُ بَوْلُهُ يَطْهُرُ بِالثَّلَاثِ، فَمَا يُصِيبُهُ سُؤْرُهُ وَهُوَ دُونَهُ أَوْلَى.
فَلَا يُسْتَعْمَلُ بِهِ كَإِدْخَالِهِ يَدَهُ فِي الْحُبِّ لِإِخْرَاجِ كُوزِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْمِيَاهِ
(قَوْلُهُ وَيَغْسِلُ الْإِنَاءَ مِنْ وُلُوغِهِ ثَلَاثًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم) رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَلْبِ يَلَغُ فِي الْإِنَاءِ يُغْسَلُ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا قَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ إسْمَاعِيلَ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَغَيْرُهُ يَرْوِيه عَنْ إسْمَاعِيلَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعًا، ثُمَّ رَوَاهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ أَهْرَاقَهُ ثُمَّ غَسَلَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَرَوَاهُ مَرْفُوعًا ابْنُ عَدِيِّ فِي الْكَامِلِ بِسَنَدٍ فِيهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ وَلَفْظُهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُهْرِقْهُ وَلْيَغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» وَقَالَ: لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ الْكَرَابِيسِيِّ، وَالْكَرَابِيسِيُّ لَمْ أَجِدْ لَهُ حَدِيثًا مُنْكَرًا غَيْرَ هَذَا، وَقَالَ: لَمْ أَرَ بِهِ بَأْسًا فِي الْحَدِيثِ انْتَهَى.
فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْحُكْمُ بِالضَّعْفِ وَالصِّحَّةِ إنَّمَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ، أَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَيَجُوزُ صِحَّةُ مَا حُكِمَ بِضَعْفِهِ ظَاهِرًا وَثُبُوتُ كَوْنِ مَذْهَبِ أَبِي هُرَيْرَةَ ذَلِكَ قَرِينَةٌ تُفِيدُ أَنَّ هَذَا مِمَّا أَجَادَهُ الرَّاوِي الْمُضَعَّفُ، وَحِينَئِذٍ فَيُعَارِضُ حَدِيثَ السَّبْعِ وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَعَ حَدِيثِ السَّبْعِ دَلَالَةُ التَّقَدُّمِ لِلْعِلْمِ بِمَا كَانَ مِنْ التَّشْدِيدِ فِي أَمْرِ الْكِلَابِ أَوَّلَ الْأَمْرِ حَتَّى أَمَرَ بِقَتْلِهَا، وَالتَّشْدِيدُ فِي سُؤْرِهَا يُنَاسَبُ كَوْنِهِ إذْ ذَاكَ وَقَدْ ثَبَتَ نَسْخُ ذَلِكَ، فَإِذَا عَارَضَ قَرِينَهُ مُعَارِضٌ كَانَ التَّقْدِمَةُ لَهُ وَهَذَا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ، وَالْأَمْرُ الْوَارِدُ بِالسَّبْعِ مَحْمُولٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَلَوْ طَرَحْنَا الْحَدِيثَ بِالْكُلِّيَّةِ كَانَ فِي عَمَلِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى خِلَافِ حَدِيثِ السَّبْعِ، وَهُوَ رَاوِيهِ كِفَايَةٌ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَتْرُكَ الْقَطْعِيَّ لِلرَّأْيِ مِنْهُ، وَهَذَا لِأَنَّ ظَنِّيَّةَ خَبَرِ الْوَاحِدِ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ رَاوِيهِ، فَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى رَاوِيهِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَطْعِيٌّ حَدٌّ يُنْسَخُ بِهِ الْكِتَابُ إذَا كَانَ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ فِي مَعْنَاهُ فَلَزِمَ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُهُ إلَّا لَقَطْعِهِ بِالنَّاسِخِ، إذْ الْقَطْعِيُّ لَا يُتْرَكُ إلَّا لِقَطْعِيٍّ فَبَطَلَ تَجْوِيزُهُمْ تَرْكِهِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ نَاسِخٍ فِي اجْتِهَادِهِ الْمُحْتَمِلِ لِلْخَطَإِ. وَإِذَا عَلِمْت ذَلِكَ كَانَ
وَالْأَمْرُ الْوَارِدُ بِالسَّبْعِ مَحْمُولٌ عَلَى ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ.
(وَسُؤْرُ الْخِنْزِيرِ نَجِسٌ) لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ (وَسُؤْرُ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ نَجِسٌ) خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ رحمه الله فِيمَا سِوَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ لِأَنَّ لَحْمَهَا نَجِسٌ وَمِنْهُ يَتَوَلَّدُ اللُّعَابُ وَهُوَ
تَرْكُهُ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ بِلَا شُبْهَةٍ فَيَكُونُ الْآخَرُ مَنْسُوخًا بِالضَّرُورَةِ
(قَوْلُهُ لِأَنَّ لَحْمَهَا نَجِسٌ) هَذِهِ فِي حَيِّزِ الْمَنْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ حُرْمَةَ لَحْمِهَا عِنْدَهُ لَيْسَ لِنَجَاسَتِهَا بَلْ كَيْ لَا يَتَعَدَّى خُبْثُ طِبَاعِهَا إلَى الْإِنْسَانِ. قُلْنَا الظَّاهِرُ مِنْ الْحُرْمَةِ مَعَ كَوْنِهِ صَالِحًا لِلْغِذَاءِ غَيْرُ مُسْتَقْذَرٍ طَبْعًا كَوْنُهُ لِلنَّجَاسَةِ، وَخُبْثُ طِبَاعِهَا لَا يُنَافِيه بَلْ ذَلِكَ يَصْلُحُ مُثِيرًا لِحُكْمِ النَّجَاسَةِ فَلْيَكُنْ الْمُثِيرُ لَهَا فَيُجَامِعُهَا تَرْتِيبًا عَلَى الْوَصْفِ الصَّالِحِ لِلْعَلِيَّةِ مُقْتَضَاهُ. وَمِنْ الْوُجُوهِ الْإِلْزَامِيَّةِ حَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» جَوَابًا لِسُؤَالِهِ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِالْفَلَاةِ وَمَا تَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ إعْطَاءً لِحُكْمِ هَذَا الْمَاءِ الَّذِي تَرِدُهُ السِّبَاعُ وَغَيْرُهُ، فَإِنَّ الْجَوَابَ لَا بُدَّ أَنْ يُطَابِقَ أَوْ يَزِيدَ فَيَنْدَرِجَ فِيهِ الْمَسْئُولُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ وَقَدْ قَالَ بِمَفْهُومِ شَرْطِهِ فَيَنْجُسُ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَحَقِيقَةُ مَفْهُومِ شَرْطِهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَبْلُغْهُمَا يَتَنَجَّسُ مِنْ وُرُودِ السِّبَاعِ، وَبِهَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ جَابِرٍ «أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفَضَلَتْ الْحُمُرُ فَقَالَ: نَعَمْ، وَبِمَا أَفَضَلَتْ السِّبَاعُ كُلُّهَا» وَحَدِيثٌ «سُئِلَ عَنْ الْحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَقِيلَ: إنَّ الْكِلَابَ وَالسِّبَاعَ تَرِدُ عَلَيْهَا فَقَالَ لَهَا مَا أَخَذَتْ فِي بُطُونِهَا وَمَا بَقِيَ شَرَابٌ وَطَهُورٌ» عَلَى الْمَاءِ الْكَثِيرِ أَوْ عَلَى مَا قَبْلَ تَحْرِيمِ لُحُومِ السِّبَاعِ، عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ مَعْلُولٌ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْأَوَّلُ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَفِيهِ دَاوُد بْنُ الْحُصَيْنِ ضَعَّفَهُ ابْنُ حِبَّانَ لَكِنْ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ
الْمُعْتَبَرُ فِي الْبَابِ.
(وَسُؤْرُ الْهِرَّةِ طَاهِرٌ مَكْرُوهٌ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِأَنَّ «النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُصْغِي لَهَا الْإِنَاءَ فَتَشْرَبُ مِنْهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِهِ» . وَلَهُمَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْهِرَّةُ سَبُعٌ» وَالْمُرَادُ بَيَانُ الْحُكْمِ دُونَ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ، إلَّا أَنَّهُ سَقَطَتْ النَّجَاسَةُ لِعِلَّةِ الطَّوْفِ فَبَقِيَتْ الْكَرَاهَةُ. وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ،
قَوْلَهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصْغِي لَهَا الْإِنَاءَ) رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ حَارِثَةَ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ «عَائِشَةَ قَالَتْ كُنْت أَتَوَضَّأُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ قَدْ أَصَابَتْ مِنْهُ الْهِرَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ» قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَحَارِثَةُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِلَفْظِ الْكِتَابِ مِنْ طَرِيقَيْنِ فِي إحْدَاهُمَا أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي، وَضَعَّفَهَا بِعَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، وَضَعَّفَ الثَّانِيَةَ بِالْوَاقِدِيِّ، وَقَالَ فِي الْإِمَامِ: جَمَعَ شَيْخُنَا أَبُو الْفَتْحِ الْحَافِظُ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ الْمَغَازِي وَالسَّيْرِ وَمَنْ ضَعَّفَهُ وَمَنْ وَثَّقَهُ وَرَجَّحَ تَوْثِيقَهُ وَذَكَرَ الْأَجْوِبَةَ عَمَّا قِيلَ فِيهِ، وَعَنْ «كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَتْ تَحْتَ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَسَكَبَتْ لَهُ وَضُوءًا فَجَاءَتْ هِرَّةٌ تَشْرَبُ مِنْهُ فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ، قَالَتْ كَبْشَةُ، فَرَآنِي أَنْظُرُ إلَيْهِ، فَقَالَ أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنَةَ أَخِي، فَقُلْتُ نَعَمْ، فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ (قَوْلُهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْهِرَّةُ سَبُعٌ») رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «السِّنَّوْرُ سَبُعٌ» وَصَحَّحَهُ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِقِصَّةٍ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي دَارَ قَوْمٍ مِنْ الْأَنْصَارِ دُونَهُمْ دَارٌ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْتِي دَارَ فُلَانٍ وَلَا تَأْتِي دَارَنَا؟ فَقَالَ: لِأَنَّ فِي دَارِكُمْ كَلْبًا، قَالُوا: فَإِنَّ فِي دَارِهِمْ سِنَّوْرًا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: السِّنَّوْرُ سَبُعٌ» وَفِي السَّنَدَيْنِ عِيسَى بْنُ الْمُسَيِّبِ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ بِنَاءً عَلَى تَوْثِيقِهِ، قَالَ: لَمْ يُجْرَحْ قَطُّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَيْسَ لِلْمَطْلُوبِ النِّزَاعِيِّ حَاجَةٌ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ، لِأَنَّ النِّزَاعَ لَيْسَ فِي النَّجَاسَاتِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى سُقُوطِهَا بَعْلَةِ الطَّوَافِ الْمَنْصُوصَةِ فِي قَوْلِهِ «إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» يَعْنِي أَنَّهَا تَدْخُلُ الْمَضَايِقَ وَلَازِمُهُ شِدَّةُ الْمُخَالَطَةِ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ صَوْنُ الْأَوَانِي مِنْهَا بَلْ النَّفْسُ وَالضَّرُورَةُ اللَّازِمَةُ مِنْ ذَلِكَ أَسْقَطَتْ النَّجَاسَةَ، كَمَا أَنَّهُ سبحانه وتعالى أَوْجَبَ الِاسْتِئْذَانَ وَأَسْقَطَهُ عَنْ الْمَمْلُوكِينَ {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} . أَيْ عَنْ أَهْلِهِمْ فِي تَمْكِينِهِمْ مِنْ الدُّخُولِ فِي غَيْرِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ بِغَيْرِ إذْنٍ لِلطَّوْفِ الْمُفَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَقِيبَهُ {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} إنَّمَا الْكَلَامُ بَعْدَ هَذَا فِي ثُبُوتِ الْكَرَاهَةِ، فَإِنْ كَانَتْ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ كَمَا قَالَهُ الْبَعْضُ
ثُمَّ قِيلَ كَرَاهَتُهُ لِحُرْمَةِ اللَّحْمِ، وَقُبِلَ لِعَدَمِ تَحَامِيهَا النَّجَاسَةِ وَهَذَا يُشِيرُ إلَى التَّنَزُّهِ وَالْأَوَّلُ إلَى الْقُرْبِ مِنْ التَّحْرِيمِ. وَلَوْ أَكَلَتْ فَأْرَةً ثُمَّ شَرِبَتْ عَلَى فَوْرِهِ الْمَاءَ تَنَجَّسَ إلَّا إذَا مَكَثَتْ سَاعَةً لَغُسْلِهَا فَمَهَا بِلُعَابِهَا وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الصَّبِّ لِلضَّرُورَةِ.
(وَسُؤْرُ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ) مَكْرُوهٌ لِأَنَّهَا تُخَالِطُ النَّجَاسَةَ وَلَوْ كَانَتْ مَحْبُوسَةً بِحَيْثُ لَا يَصِلُ مِنْقَارُهَا إلَى مَا تَحْتَ قَدَمَيْهَا لَا يُكْرَهُ لِوُقُوعِ الْأَمْنِ عَنْ الْمُخَالَطَةِ (وَ) كَذَا سُؤْرُ (سِبَاعِ الطَّيْرِ) لِأَنَّهَا تَأْكُلُ الْمَيْتَاتِ فَأَشْبَهَ الْمُخَلَّاةَ.
لَمْ يَنْهَضْ بِهِ وَجْهٌ، فَإِذَا قَالَ سَقَطَتْ النَّجَاسَةُ فَبَقِيَتْ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ مُنِعَتْ الْمُلَازَمَةُ، إذْ سُقُوطُ وَصْفٍ أَوْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ آخَرَ إلَّا بِدَلِيلٍ كَمَا قُلْنَا فِي نَسْخِ الْوُجُوبِ لَا يَنْفِي عَنْهُ صِفَةَ الْإِبَاحَةِ الشَّرْعِيَّةِ حَتَّى يَخُصَّهَا دَلِيلٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ إثْبَاتَ كُلِّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ يَسْتَدْعِي دَلِيلًا، فَإِثْبَاتُ كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ بَلْ سِيَاقُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ يَقْتَضِي طَهَارَتَهَا وَطَهَارَةَ السِّبَاعِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَهُ عُذْرًا فِي زِيَارَةِ أَصْحَابِ الْهِرَّةِ دُونَ أَصْحَابِ الْكَلْبِ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ تَعْلِيلَهُ عَدَمُ الدُّخُولِ بِوُجُودِ الْكَلْبِ لِأَنَّهُ لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا هُوَ فِيهِ بِخِلَافِ السِّبَاعِ، وَإِنْ كَانَتْ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، هُوَ الْأَصَحُّ كَفَى فِيهِ أَنَّهَا لَا تَتَحَامَى النَّجَاسَةَ فَيُكْرَهُ كَمَا غَمَسَ الصَّغِيرُ يَدَهُ فِيهِ وَأَصْلُهُ كَرَاهَةُ غَمْسِ الْيَدِ فِي الْإِنَاءِ لِلْمُسْتَيْقِظِ قَبْلَ غَسْلِهَا نُهِيَ عَنْهُ فِي حَدِيثِ الْمُسْتَيْقِظِ لِتَوَهُّمِ النَّجَاسَةِ فَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ مُنْتَهِضٌ يَتِمُّ بِهِ الْمَطْلُوبُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَيُحْمَلُ إصْغَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم الْإِنَاءَ عَلَى زَوَالِ ذَلِكَ التَّوَهُّمِ بِأَنْ كَانَتْ بِمَرْأًى مِنْهُ فِي زَمَانٍ يُمْكِنُ فِيهِ غَسْلُهَا فَمَهَا بِلُعَابِهَا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَيُمْكِنُ كَوْنُهُ بِمُشَاهَدَةِ شُرْبِهَا مِنْ مَاءٍ كَثِيرٍ أَوْ مُشَاهَدَةِ قُدُومِهَا عَنْ غَيْبَةٍ يَجُوزُ مَعَهَا ذَلِكَ فَيُعَارِضُ هَذَا التَّجْوِيزَ تَجْوِيزُ أَكْلِهَا نَجِسًا قُبَيْلَ شُرْبِهَا فَيَسْقُطُ فَتَبْقَى الطَّهَارَةُ دُونَ كَرَاهَةٍ لِأَنَّهَا مَا جَاءَتْ إلَّا مِنْ ذَلِكَ التَّجْوِيزِ وَقَدْ سَقَطَ، وَعَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي إطْلَاقُ كَرَاهَةِ أَكْلِ فَضْلِهَا وَالصَّلَاةُ إذَا لَحِسَتْ عُضْوًا قَبْلَ غَسْلِهِ كَمَا أَطْلَقَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرُهُ، بَلْ بِقَيْدِ ثُبُوتِ ذَلِكَ التَّوَهُّمِ، أَمَّا لَوْ كَانَ زَائِلًا بِمَا قُلْنَا فَلَا (قَوْلُهُ وَالِاسْتِثْنَاءُ) يَعْنِي قَوْلَهُ إلَّا إذَا مَكَثَتْ سَاعَةً حِينَئِذٍ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَلَا لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تُزَالُ عِنْدَهُ إلَّا بِالْمَاءِ وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الصَّبِّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ
(قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَتْ مَحْبُوسَةً بِحَيْثُ لَا يَصِلُ مِنْقَارُهَا إلَى مَا تَحْتَ قَدَمَيْهَا إلَخْ) بِأَنْ تُحْبَسَ لِلتَّسَمُّنِ فِي قَفَصٍ وَيُجْعَلُ عَلَفُهَا وَمَاؤُهَا وَرَأْسُهَا خَارِجَهُ
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً وَيَعْلَمُ صَاحِبُهَا أَنَّهُ لَا قَذَرَ عَلَى مِنْقَارِهَا لَا يُكْرَهُ، وَاسْتَحْسَنَ الْمَشَايِخُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ (وَ) سُؤْرُ (مَا يَسْكُنُ الْبُيُوتَ كَالْحَيَّةِ وَالْفَأْرَةِ)(مَكْرُوهٌ) لِأَنَّ حُرْمَةَ اللَّحْمِ أَوْجَبَتْ نَجَاسَةَ السُّؤْرِ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَتْ النَّجَاسَةُ لِعِلَّةِ الطَّوْفِ فَبَقِيَتْ الْكَرَاهَةُ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى الْعِلَّةِ فِي الْهِرَّةِ.
قَالَ (وَسُؤْرُ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ مَشْكُوكٌ فِيهِ) قِيلَ الشَّكُّ فِي طَهَارَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ طَاهِرًا لَكَانَ طَهُورًا مَا لَمْ يَغْلِبْ اللُّعَابُ عَلَى الْمَاءِ،
وَهَذَا مُخْتَارُ الْحَاكِمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَمَّا شَيْخُ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَشْرُطْهُ، بَلْ أَنْ لَا تَجِدَ عَذِرَاتِ غَيْرِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَا تَجُولُ فِي عَذِرَاتِ نَفْسِهَا، وَالْأَوَّلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَجُولُ فِيهَا، وَالْحَقُّ أَنَّهَا لَا تَأْكُلُهُ بَلْ تُلَاحِظُ الْحَبَّ بَيْنَهُ فَتَلْقُطُهُ (قَوْلُهُ وَكَذَا سُؤْرُ سِبَاعِ الطَّيْرِ) يَعْنِي مَكْرُوهٌ، وَتَعْلِيلُهُ بِأَنَّهَا تُخَالِطُ النَّجَاسَةَ يُفِيدُ أَنَّهَا تَنْزِيهِيَّةٌ إنْ لَمْ يُشَاهِدْهَا شَرِبَتْ عَلَى فَوْرِهَا، وَالْقِيَاسُ نَجَاسَتُهُ لِنَجَاسَةِ اللَّحْمِ، وَالِاسْتِحْسَانُ أَنَّهُ طَاهِرٌ لِأَنَّ الْمُلَاقِيَ لِلْمَاءِ مِنْقَارُهَا وَهُوَ عَظْمٌ جَافٌّ لَا لِسَانُهَا، بِخِلَافِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ
(قَوْلُهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ) كَانَ الشَّيْخُ أَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ يُنْكِرُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ وَيَقُولُ: لَا يَجُوزُ كَوْنُ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَشْكُوكًا فِيهِ بَلْ هُوَ مُحْتَاطٌ فِيهِ. وَفِي النَّوَازِلِ: يَحِلُّ شُرْبُ مَاءٍ شَرِبَ مِنْهُ الْحِمَارُ. وَقَالَ ابْنُ مُقَاتِلٍ لَا بَأْسَ بِهِ. قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ هَذَا خِلَافُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَلَوْ أَخَذَ إنْسَانٌ بِهَذَا الْقَوْلِ
وَقِيلَ الشَّكُّ فِي طَهُورِيَّتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ رَأْسِهِ، وَكَذَا لَبَنُهُ طَاهِرٌ وَعَرَقُهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَإِنْ فَحُشْ، فَكَذَا سُؤْرُهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَيُرْوَى نَصَّ مُحَمَّدٌ رحمه الله عَلَى طَهَارَتِهِ،
أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ لَا يَشْرَبَ (قَوْلُهُ وَقِيلَ الشَّكُّ فِي طَهُورِيَّتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَدَ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ إلَخْ) فِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ وُجُوبَ غَسْلِهِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِتَيَقُّنِ النَّجَاسَةِ، وَالثَّابِتُ الشَّكُّ فِيهَا فَلَا يَتَنَجَّسُ الرَّأْسُ بِالشَّكِّ فَلَا يَجِبُ.
(قَوْلُهُ وَكَذَا لَبَنُهُ طَاهِرٌ وَعَرَقُهُ لَا يُمْنَعُ إلَخْ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ، هَذَا فِي الْعَرَقِ بِحُكْمِ الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ صَحِيحٌ، وَأَمَّا فِي اللَّبَنِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ فِي الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ بِنَجَاسَةِ لَبَنِهِ فَقَطْ أَوْ تَسْوِيَةُ نَجَاسَتِهِ وَطَهَارَتِهِ بِذَكَرِ الرِّوَايَتَيْنِ فِيهِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي تَعْلِيلِ سُؤْرِ الْحِمَارِ: اعْتِبَارُ سُؤْرِهِ بِعَرَقِهِ يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَاعْتِبَارُهُ بِلَبَنِهِ يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهِ فَجَعَلَ لَبَنَهُ نَجِسًا. وَفِي الْمُحِيطِ: وَلَبَنُ الْأَتَانِ نَجِسٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ طَاهِرٌ وَلَا يُؤْكَلُ. وَقَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ وَعَنْ الْبَزْدَوِيِّ: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَثِيرُ الْفَاحِشُ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَعَنْ عَيْنِ الْأَئِمَّةِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً لِأَنَّهُ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: وَفِي طَهَارَةِ لَبَنِ الْأَتَانِ رِوَايَتَانِ. وَأَمَّا عَرَقُهُ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نَجِسٌ غَلِيظٌ وَعَنْهُ خَفِيفٌ. وَقَالَ الْقُدُورِيُّ: ظَاهِرٌ فِي الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ اهـ. وَفِي الْمُنْتَقَى: لَبَنُ الْأَتَانِ كَلُعَابِهِ، وَعَرَقُهُ يُفْسِدُ الْمَاءَ وَلَا يُفْسِدُ الثَّوْبَ وَإِنْ كَانَ مَغْمُوسًا فِيهِ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْهُ كَاللُّعَابِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ: وَمَعْنَى فَسَادِ الْمَاءِ مَا ذَكَرْنَا: يَعْنِي بِهِ مَا مُقَدِّمُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ عِصَامٍ فِي عَرَقِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ يُصِيبُ الْمَاءَ يَفْسُدُ وَإِنْ قَلَّ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ سَلْبُ طَهُورِيَّتِهِ فَقَطْ، لَكِنْ هَذَا فِي كَلَامِ الْمُنْتَقَى ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ بِالْفَسَادِ التَّنْجِيسَ كَانَ لِنَجَاسَتِهَا فَلَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ حِينَئِذٍ بَيْنَ الثَّوْبِ وَالْمَاءِ، أَمَّا مُرَادُ عِصَامٍ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ (قَوْلُهُ وَإِنْ قَلَّ) لِأَنَّ الْخَالِطَ الطَّاهِرَ لَا يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ إذَا قَلَّ مُطْلَقًا (قَوْلُهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ) يَعْنِي أَنَّهُ فِي طَهُورِيَّتِهِ
وَسَبَبُ الشَّكِّ تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ فِي إبَاحَتِهِ وَحُرْمَتِهِ، أَوْ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي نَجَاسَتِهِ وَطَهَارَتِهِ.
قَوْلُهُ وَسَبَبُ الشَّكِّ تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ فِي إبَاحَتِهِ وَحُرْمَتِهِ) فَحَدِيثُ خَيْبَرَ فِي إكْفَاءِ الْقُدُورِ وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي بِإِكْفَائِهَا فَإِنَّهَا رِجْسٌ» رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ يُفِيدُ الْحُرْمَةَ وَحَدِيثُ «غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ حَيْثُ قَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم: هَلْ لَكَ مِنْ مَالٍ؟ فَقَالَ: لَيْسَ لِي مَالٌ إلَّا حُمَيْرَاتٌ لِي، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم كُلْ مِنْ سَمِينِ مَالِكَ» يُفِيدُ الْحِلَّ وَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ، فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ نَجَاسَتُهُ، وَعَنْ
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ نَجِسٌ تَرْجِيحًا لِلْحُرْمَةِ وَالنَّجَاسَةِ، وَالْبَغْلُ مِنْ نَسْلِ الْحِمَارِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَتِهِ،
ابْنِ عَبَّاسٍ طَهَارَتُهُ، وَقَدْ زَيَّفَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْأَوَّلَ بِأَنَّ تَعَارُضَ الْمُحَرِّمَ وَالْمُبِيحَ لَا يُوجِبُ شَكًّا بَلْ الثَّابِتُ عِنْدَهُ الْحُرْمَةُ، وَالثَّانِيَ بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ أَيْضًا لَا يُوجِبُهُ، كَمَا لَوْ أَخْبَرَ عَدْلَانِ أَحَدُهُمَا بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَالْآخَرُ بِنَجَاسَتِهِ يَتَهَاتَرَانِ وَيُعْمَلُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ طَهَارَةُ الْمَاءِ، وَالصَّوَابُ عِنْدَهُ أَنَّ سَبَبَهُ التَّرَدُّدُ فِي تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ الْمُسْقِطَةِ لِلنَّجَاسَةِ، فَإِنَّهَا تُرْبَطُ فِي الْأَفْنِيَةِ وَتُشْرِبُ مِنْ الْإِجَّانَاتِ الْمُسْتَعْمَلَةِ، فَبِالنَّظَرِ إلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمُخَالَطَةِ تَسْقُطُ نَجَاسَةُ سُؤْرِهِ الَّتِي هِيَ مُقْتَضَى حُرْمَةِ لَحْمِهِ الثَّابِتَةِ، وَبِالنَّظَرِ إلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَضَايِقَ كَالْهِرَّةِ وَالْفَأْرَةِ يَكُونُ مُجَانِيًا لَا مُخَالِطًا فَلَا تَسْقُطُ، فَلَمَّا وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي الضَّرُورَةِ وَجَبَ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ، فَالْمَاءُ كَانَ طَاهِرًا فَلَا يَتَنَجَّسُ بِمَا لَمْ تَتَحَقَّقْ نَجَاسَتُهُ، وَالسُّؤْرُ بِمُقْتَضَى حُرْمَةِ اللَّحْمِ نَجِسٌ فَلَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ وَلَا يَتَنَجَّسُ الْمَاءُ بِوُقُوعِهِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا سَقَطَتْ أَسْئِلَةُ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ.
وَالثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ فِي السُّؤْرِ وَلِلْمَاءِ خُلْفٌ وَجَبَ أَنْ يُصَارَ إلَيْهِ كَمَنْ لَهُ إنَاءَانِ طَاهِرٌ وَنَجِسٌ وَلَا مُمَيِّزَ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ وَيَجِبُ التَّيَمُّمُ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَلْزَمُ لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ تَقْدِيمُ
(فَإِنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُمَا يَتَوَضَّأُ وَيَتَيَمَّمُ وَيَجُوزُ أَيُّهُمَا قَدَّمَ) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُقَدِّمَ الْوُضُوءَ لِأَنَّهُ مَاءٌ وَاجِبُ الِاسْتِعْمَالِ فَأَشْبَهَ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ. وَلَنَا أَنَّ الْمُطَهِّرَ أَحَدُهُمَا فَيُفِيدُ الْجَمْعُ دُونَ التَّرْتِيبِ.
(وَسُؤْرُ الْفَرَسِ طَاهِرٌ عِنْدَهُمَا) لِأَنَّ لَحْمَهُ مَأْكُولٌ (وَكَذَا عِنْدَهُ فِي الصَّحِيحِ) لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِإِظْهَارِ شَرَفِهِ.
(فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا نَبِيذَ التَّمْرِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
الْمُحَرَّمِ.
وَالرَّابِعُ أَنَّ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ تَرْكُ الِاحْتِيَاطِ لِتَنَجُّسِ الْعُضْوِ بِتَقْدِيرِ نَجَاسَتِهِ. وَلَا يَلْزَمُ لِعَدَمِ تَنَجُّسِ مُتَيَقَّنِ الطَّهَارَةِ بِالشَّكِّ. وَالْخَامِسُ أَنَّ مُقْتَضَى عَدَمِ النَّجَاسَةِ أَنَّ الْمَاءَ إنْ كَانَ مَغْلُوبًا بِاللُّعَابِ كَانَ مُقَيَّدًا فَيَجِبُ التَّيَمُّمُ عَيْنًا وَإِنْ كَانَ غَالِبًا وَجَبَ الْوُضُوءُ عَيْنًا فَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ الضَّمُّ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ لَمْ يَجِبْ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ لِلتَّرَدُّدِ فِي ثُبُوتِ الضَّرُورَةِ، وَإِذْ قُرِّرَتْ وَكَانَ الْحَدَثُ ثَابِتًا بِيَقِينٍ لَمْ يُزَلْ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا، وَعِنْدَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ تَقْرِيرَ الْأُصُولِ بِسَبَبِ التَّرَدُّدِ فِي الضَّرُورَةِ مَعَ الِاحْتِيَاطِ يُبَيِّنُ قَوْلَ أَبِي طَاهِرٍ أَنَّهُ مُحْتَاطٌ فِيهِ وَأَنَّ اللُّعَابَ نَجِسٌ لَا يَتَنَجَّسُ بِهِ مُخَالِطُهُ وَأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي طَهَارَةِ الْعَرَقِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الثَّوْبِ لِأَنَّهُ لَا تَرَدُّدَ فِي ثُبُوتِ الضَّرُورَةِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ «رَكِبَ صلى الله عليه وسلم الْحِمَارَ مُعْرَوْرِيًا» ، وَبِهِ يَتَبَيَّنُ فَسَادُ قَوْلِ عِصَامٍ الْمَذْكُورِ آنِفًا وَصِحَّةُ مَا فِي الْمُنْتَقَى لَوْ حَمَلْنَا الْفَسَادَ عَلَى النَّجَاسَةِ، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَمْ تَتَحَقَّقْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَاءِ إلَّا إذَا تَعَدَّى إلَيْهِ بِغَسْلِ الثَّوْبِ، وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَنَجَّسَ لِأَنَّهُ غَسَلَ فِيهِ مَا هُوَ مَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهِ شَرْعًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَطَّرَ مِنْ عَرَقِهِ فِي الْمَاءِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا مَحْمَلُ مَا فِي الْمُنْتَقَى فِي اعْتِقَادِي.
فَإِنْ قُلْت: تَقْرِيرُ الْأُصُولِ أَفَادَ النَّجَاسَةَ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ بِهِ الْمُخَالِطُ وَنَصُّ مُحَمَّدٍ عَلَى طَهَارَتِهِ يُنَافِيه. قُلْنَا إنَّمَا نَصَّ عَلَى طَهَارَةِ السُّؤْرِ وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي خَالَطَهُ اللُّعَابُ فَلَا يُنَافِي تَقْرِيرَ الْأُصُولِ، هَذَا وَقَدْ تَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ فِي عَرَقِهِ فَيَجِبُ سُقُوطُ نَجَاسَتِهِ، بِخِلَافِ لُعَابِهِ مُتَرَدِّدٌ فِي ثُبُوتِ الضَّرُورَةِ فَقَرَرْت الْأُصُولُ (قَوْلَهُ وَيَجُوزُ أَيُّهُمَا قَدَّمَ) وَالْأَفْضَلُ تَقْدِيمُ الْوُضُوءِ. فَرْعَانِ: الْأَوَّلُ اخْتَلَفُوا فِي النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ وَالْأَحْوَطُ أَنْ يَنْوِيَ. الثَّانِي لَوْ تَوَضَّأَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ وَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ تَيَمَّمَ وَصَلَّاهَا صَحَّتْ الظُّهْرُ لِمَا ذُكِرَ فِي دَفْعِ قَوْلِ زُفَرَ وَهُوَ أَنَّ الْمُطَهِّرَ أَحَدُهُمَا لَا الْمَجْمُوعُ. فَإِنْ كَانَ السُّؤْرُ صَحَّتْ بِهِ وَلَغَتْ صَلَاةُ التَّيَمُّمِ، أَوْ التَّيَمُّمُ فَبِالْقَلْبِ
(قَوْلُهُ وَكَذَا عِنْدَهُ فِي الصَّحِيحِ) احْتِرَازٌ عَنْ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ فِي الْمُحِيطِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي سُؤْرِ الْفَرَسِ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ: قَالَ فِي رِوَايَةٍ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ) لِحَدِيثِ لَيْلَةِ الْجِنِّ، فَإِنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام تَوَضَّأَ بِهِ حِينَ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله عَمَلًا بِآيَةِ التَّيَمُّمِ لِأَنَّهَا أَقْوَى، أَوْ هُوَ مَنْسُوخٌ بِهَا لِأَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَلَيْلَةُ الْجِنِّ كَانَتْ مَكِّيَّةً. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: يَتَوَضَّأُ
يَتَوَضَّأَ بِغَيْرِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: مَكْرُوهٌ كَلَحْمِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: مَشْكُوكٌ كَسُؤْرِ الْحِمَارِ، وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الصَّلَاةِ طَاهِرٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ
(قَوْلُهُ لِحَدِيثِ لَيْلَةِ الْجِنِّ) عَنْ أَبِي فَزَارَةَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ لَيْلَةَ الْجِنِّ: مَا فِي إدَاوَتِكَ؟ قَالَ: نَبِيذُ تَمْرٍ، قَالَ: تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ " فَتَوَضَّأْ مِنْهُ " وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مُطَوَّلًا، وَفِيهِ «هَلْ مَعَكَ مِنْ وَضُوءٍ؟ قُلْتُ لَا، قَالَ: فَمَا فِي إدَاوَتِكَ؟ قُلْت: نَبِيذُ تَمْرٍ، قَالَ: تَمْرَةٌ حُلْوَةٌ وَمَاءٌ طَيِّبٌ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ» قَالُوا ضَعِيفٌ لِأَنَّ التِّرْمِذِيَّ قَالَ وَأَبُو زَيْدٍ مَجْهُولٌ، وَأَبُو فَزَارَةَ قِيلَ هُوَ رَاشِدُ بْنُ كَيْسَانَ، وَقِيلَ رَجُلٌ آخَرُ مَجْهُولٌ. أُجِيبَ أَمَّا أَبُو زَيْدٍ فَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ مَوْلَى عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ رَوَى عَنْهُ رَاشِدُ بْنُ كَيْسَانَ الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ وَأَبُو رَوَقٍ وَهَذَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْجَهَالَةِ، وَأَمَّا أَبُو فَزَارَةَ فَقَالَ الشَّيْخُ تَقِي الدِّينِ فِي الْإِمَامِ فِي تَجْهِيلِهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي فَزَارَةَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِثْلُ سُفْيَانَ وَشَرِيكٍ وَالْجَرَّاحِ بْنِ مَلِيحٍ وَإِسْرَائِيلَ وَقَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: أَبُو فَزَارَةَ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ مَشْهُورٌ وَاسْمُهُ
بِهِ وَيَتَيَمَّمُ لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ اضْطِرَابًا وَفِي التَّارِيخِ جَهَالَةً فَوَجَبَ الْجَمْعُ احْتِيَاطًا. قُلْنَا لَيْلَةَ الْجِنِّ كَانَتْ غَيْرَ وَاحِدَةٍ فَلَا يَصِحُّ دَعْوَى النَّسْخِ، وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ عَمِلَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم، وَبِمِثْلِهِ يُزَادُ عَلَى الْكِتَابِ.
رَاشِدُ بْنُ كَيْسَانَ، وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَأَمَّا مَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لَيْلَةِ الْجِنِّ فَقَالَ: مَا شَهِدَهَا مِنَّا أَحَدٌ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا فِي ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ. وَرَوَى أَيْضًا أَبُو حَفْصِ بْنُ شَاهِينَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ " كُنْت مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْجِنِّ " وَعَنْهُ أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا مِنْ الزُّطِّ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أَشْبَهُ مَنْ رَأَيْت بِالْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ، وَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ وَإِنْ جَمَعْنَا فَالْمُرَادُ مَا شَهِدَهَا مِنَّا أَحَدٌ غَيْرِي نَفْيًا لِمُشَارَكَتِهِ وَإِبَانَةِ اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَطَلْيُوسِيُّ فِي كِتَابِ التَّنْبِيهِ عَلَى الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْخِلَافِ (قَوْلُهُ قُلْنَا لَيْلَةَ الْجِنِّ كَانَتْ غَيْرَ وَاحِدَةٍ) نَظَرٌ فِيهِ بِأَنَّ وَفْدَ نَصِيبِينَ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَكَلَامُهُ يُوهِمُ أَنَّ لَيْلَةَ الْجِنِّ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ فِيمَا عُلِمَ، لَكِنْ ذَكَرَ صَاحِبُ آكَامِ الْمَرْجَانِ فِي أَحْكَامِ الْجَانِّ أَنَّ ظَاهِرَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي وِفَادَةِ الْجِنِّ أَنَّهَا كَانَتْ سِتَّ مَرَّاتٍ، وَذَكَرَ مِنْهَا مَرَّةً فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ حَضَرَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَرَّتَيْنِ بِمَكَّةَ وَمَرَّةً رَابِعَةً خَارِجَةً الْمَدِينَةِ حَضَرَهَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَعَلَى هَذَا لَا يُقْطَعُ بِالنَّسْخِ (قَوْلُهُ: وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ) نَظَرٌ فِيهِ إذْ الْمَشْهُورُ مَا كَانَ آحَادًا فِي الْأَصْلِ ثُمَّ تَوَاتَرَ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ بَلْ تَكَلَّمَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ كَلَامُهُ فَوَجَبَ تَصْحِيحُ الرِّوَايَةِ الْمُوَافَقَةُ لِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ آيَةَ التَّيَمُّمِ نَاسِخَةٌ لَهُ
وَأَمَّا الِاغْتِسَالُ بِهِ فَقَدْ قِيلَ يَجُوزُ عِنْدَهُ اعْتِبَارًا بِالْوُضُوءِ، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ فَوْقَهُ، وَالنَّبِيذُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ حُلْوًا رَقِيقًا يَسِيلُ عَلَى الْأَعْضَاءِ كَالْمَاءِ، وَمَا اشْتَدَّ مِنْهَا صَارَ حَرَامًا لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، وَإِنْ غَيَّرَتْهُ النَّارُ فَمَا دَامَ حُلْوًا رَقِيقًا فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَإِنْ اشْتَدَّ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ لِأَنَّهُ يَحِلُّ شُرْبُهُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ لِحُرْمَةِ شُرْبِهِ عِنْدَهُ، وَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِمَا سِوَاهُ مِنْ الْأَنْبِذَةِ جَرْيًا عَلَى قَضِيَّةِ الْقِيَاسِ.
لِتَأَخُّرِهَا إذْ هِيَ مَدَنِيَّةٌ وَعَلَى هَذَا مَشَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ بِوُجُوبِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْوُضُوءِ بِهِ وَالتَّيَمُّمِ رِوَايَةٌ أَيْضًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ قَالَ: التَّوَضُّؤُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ جَائِزٌ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَيَتَيَمَّمُ مَعَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبِهِ أَخَذَ مُحَمَّدٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَتَوَضَّأُ وَلَا يَتَيَمَّمُ وَفِي رِوَايَةٍ: يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ. وَرَوَى نُوحٌ الْجَامِعُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ إلَى هَذَا الْقَوْلِ ثُمَّ قَالَ فِي الْخِزَانَةِ. قَالَ: مَشَايِخُنَا إنَّمَا اخْتَلَفَتْ أَجْوِبَتُهُ لِاخْتِلَافِ الْمَسَائِلِ، وَسُئِلَ مَرَّةً إنْ كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا، قَالَ يَتَوَضَّأُ، وَسُئِلَ مَرَّةً إنْ كَانَتْ الْحَلَاوَةُ غَالِبَةً قَالَ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَوَضَّأُ، وَسُئِلَ مَرَّةً إذَا لَمْ يَدْرِ أَيُّهُمَا الْغَالِبُ قَالَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ التَّفْصِيلُ فِي الْغُسْلِ إنْ كَانَ النَّبِيذُ غَالِبَ الْحَلَاوَةِ قَرِيبًا مِنْ سَلْبِ الِاسْمِ لَا يَغْتَسِلُ بِهِ أَوْ ضِدَّهُ فَيَغْتَسِلُ إلْحَاقًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَوْ مُتَرَدَّدًا فِيهِ يَجْمَعُ بَيْنَ الْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُلَاحِظُوا هَذَا الْمَبْنَى فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَقَدْ صُحِّحَ فِي الْمَبْسُوطِ الْجَوَازُ، وَصُحِّحَ فِي الْمُفِيدِ عَدَمُ الْجَوَازِ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ أَغْلَظُ الْحَدَثَيْنِ. [فَرْعٌ]
إذَا قُلْنَا بِجَوَازِ التَّوَضُّؤِ بِهِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِالنِّيَّةِ كَالتَّيَمُّمِ، لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْمَاءِ حَتَّى لَا يَجُوزَ بِهِ حَالَ وُجُودِ الْمَاءِ وَيُنْتَقَضُ بِهِ إذَا وُجِدَ، ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا.
بَابُ التَّيَمُّمِ
(وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَهُوَ مُسَافِرٌ
بَابُ التَّيَمُّمِ
شُرِعَ «فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ لَمَّا أَضَلَّتْ عَائِشَةُ عُقْدَهَا، فَبَعَثَ صلى الله عليه وسلم فِي طَلَبِهِ وَحَانَتْ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَأَغْلَظَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَلَى عَائِشَةَ وَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَنَزَلَتْ فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَجَعَلَ يَقُولُ مَا أَكْثَرَ بَرَكَتَكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَرْحَمُكِ اللَّهُ يَا عَائِشَةُ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إلَّا جَعَلَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ فَرَجًا» . وَمَفْهُومُهُ اللُّغَوِيُّ الْقَصْدُ مُطْلَقًا وَالشَّرْعِيُّ قَالُوا الْقَصْدُ إلَى الصَّعِيدِ الطَّاهِرِ لِلتَّطْهِيرِ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ اسْمٌ لَمَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ عَنْ الصَّعِيدِ الطَّاهِرِ، وَالْقَصْدُ شَرْطٌ لِأَنَّهُ النِّيَّةُ
أَوْ خَارِجَ الْمِصْرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِصْرِ نَحْوُ مِيلٍ أَوْ أَكْثَرَ يَتَيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ) قَوْله تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ» وَالْمِيلُ هُوَ الْمُخْتَارُ فِي الْمِقْدَارِ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ بِدُخُولِ الْمِصْرِ،
قَوْلُهُ أَوْ خَارِجَ الْمِصْرِ) يَجُوزُ كَوْنُهُ حَالًا مُفْرَدًا عَطْفًا عَلَى جُمْلَةٍ حَالِيَّةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا} وَأَنْ يَكُونَ ظَرْفَ مَكَان لِأَنَّ خَارِجَ الْبَلَدِ اسْمٌ لِمَا بِظَاهِرِهِ مِنْ الْمَكَانِ وَيَكُونُ عَطْفًا حِينَئِذٍ عَلَى (وَهُوَ مُسَافِرٌ) فَنَصَبَهُ عَلَى الظَّرْفِ وَهُوَ مَعَ الْمُبْتَدَأِ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْضًا إذْ تَقْدِيرُهُ: وَلَا وَهُوَ خَارِجُ الْمِصْرِ مِثْلُ {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ فِي النِّهَايَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الثَّانِيَ أَرْجَحَ لِأَنَّ خَارِجًا الصِّفَةُ لَا يَصِلُ إلَى الْبَلَدِ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْحَرْفِ كَفِعْلِهِ. لَا يُقَالُ: زَيْدٌ خَارِجُ الْبَلَدِ كَمَا لَا يُقَالُ خَرَجْت الْبَلَدَ وَكَمَا لَا يُقَالُ قَاعِدُ الدَّارِ بَلْ خَارِجٌ عَنْ الْبَلَدِ أَوْ مِنْهَا فَلَا يُضَافُ حِينَئِذٍ لِفَصْلِ الْحَرْفِ، وَإِسْقَاطُ الْخَافِضِ سَمَاعِيٌّ، وَيَجُوزُ كَوْنُ خَارِجٍ عَطْفًا عَلَى مُسَافِرٍ عَطَفَ مُفْرَدَ خَبَرِ ظَرْفٍ عَلَى خَبَرٍ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: التُّرَابُ إلَخْ) عَنْ «أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ كَانَ يَعْزُبُ فِي إبِلٍ لَهُ وَتُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَهُ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ» وَالْبَاقِي بِحَالِهِ، وَيَعْزُبُ يُبْعِدُ (قَوْلُهُ وَالْمِيلُ هُوَ الْمُخْتَارُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ مِيلَانِ
وَالْمَاءُ مَعْدُومٌ حَقِيقَةً وَالْمُعْتَبَرُ الْمَسَافَةُ دُونَ خَوْفِ الْفَوْتِ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ يَأْتِي مِنْ قِبَلِهِ (وَلَوْ كَانَ يَجِدُ الْمَاءَ إلَّا أَنَّهُ مَرِيضٌ يَخَافُ إنْ اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ اشْتَدَّ مَرَضُهُ
أَوْ مِيلَانِ إنْ كَانَ الْمَاءُ أَمَامَهُ وَإِلَّا فَمِيلٌ، أَوْ لَوْ صَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ لَمْ يَسْمَعْهُ أَهْلُ الْمَاءِ لِأَنَّهُ لَا تَحْرِيرَ لِهَذَا لِعَدَمِ انْضِبَاطِهِ، وَبِالْمِيلِ يَتَحَقَّقُ الْحَرَجُ لَوْ أُلْزِمَ الذَّهَابَ إلَى الْمَاءِ بِالنَّظَرِ إلَى جِنْسِ الْمُكَلَّفِينَ، وَمَا شُرِعَ التَّيَمُّمُ إلَّا لِدَفْعِ الْحَرَجِ. وَلِذَا قَدَّمَ فِي الْآيَةِ الْمَرْضَى عَلَى الْمُسَافِرِينَ لِأَنَّهُمْ أَحْوَجُ إلَى الرُّخْصَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ، ثُمَّ الْمِيلُ فِي تَقْدِيرِ ابْنِ شُجَاعٍ ثَلَاثَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ وَخَمْسمِائَةٍ إلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَفِي تَفْسِيرِ غَيْرِهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَهُوَ ثُلُثُ الْفَرْسَخِ، وَضُبِطَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ:
إنَّ الْبَرِيدَ مِنْ الْفَرَاسِخِ أَرْبَعُ
…
وَلِفَرْسَخٍ فَثَلَاثُ أَمْيَالٍ ضَعُوا
وَالْمِيلُ أَلْفٌ أَيْ مِنْ الْبَاعَاتِ قُلْ
…
وَالْبَاعُ أَرْبَعُ أَذْرُعٍ فَتَتْبَعُوا
ثُمَّ الذِّرَاعُ مِنْ الْأَصَابِعِ أَرْبَعٌ
…
مِنْ بَعْدِهَا عِشْرُونَ ثُمَّ الْأُصْبُعُ
سِتُّ شَعِيرَةٍ فَظَهْرُ شَعِيرَةٍ
…
مِنْهَا إلَى بَطْنٍ لِأُخْرَى تُوضَعُ
ثُمَّ الشَّعِيرَةُ سِتُّ شَعَرَاتٍ فَقُلْ
…
مِنْ شَعْرِ بَغْلٍ لَيْسَ فِيهَا مِدْفَعُ
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إنَّ الْمَاءَ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَوْ ذَهَبَ إلَيْهِ وَتَوَضَّأَ تَذْهَبُ الْقَافِلَةُ وَتَغِيبُ عَنْ بَصَرِهِ فَهُوَ بَعِيدٌ وَيَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَهَذَا حَسَنٌ جِدًّا كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ (قَوْلُهُ وَالْمُعْتَبَرُ الْمَسَافَةُ إلَخْ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ زُفَرٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِخَوْفِ الْفَوْتِ وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ يَجِدُ الْمَاءَ إلَّا أَنَّهُ مَرِيضٌ يَخَافُ إنْ اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ اشْتَدَّ مَرَضُهُ) أَوْ أَبْطَأَ بُرْؤُهُ يَتَيَمَّمُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَشْتَدَّ بِالتَّحَرُّكِ كَالْمُشْتَكِي مِنْ الْعَرَقِ الْمُدْنِي وَالْمَبْطُونِ أَوْ بِالِاسْتِعْمَالِ كَالْجُدَرِيِّ وَنَحْوِهِ، أَوْ كَانَ لَا يَجِدُ مَنْ يُوَضِّئُهُ وَلَا يَقْدِرُ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ وَجَدَ خَادِمًا لَهُ أَوْ مَا يَسْتَأْجِرُ بِهِ أَجِيرًا أَوْ عِنْدَهُ مَنْ لَوْ اسْتَعَانَ بِهِ أَعَانَهُ فَعَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ لَا يَتَيَمَّمُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ وُجُوبَ الْوُضُوءِ: فِيمَا قُلْنَا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمَرِيضِ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الصَّلَاةِ وَمَعَهُ قَوْمٌ لَوْ اسْتَعَانَ بِهِمْ فِي الْإِقَامَةِ وَالثَّبَاتِ عَلَى
يَتَيَمَّمُ) لِمَا تَلَوْنَا، وَلِأَنَّ الضَّرَرَ فِي زِيَادَةِ الْمَرَضِ فَوْقَ الضَّرَرِ فِي زِيَادَةِ ثَمَنِ الْمَاءِ، وَذَلِكَ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ فَهَذَا أَوْلَى. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَشْتَدَّ مَرَضُهُ بِالتَّحَرُّكِ أَوْ بِالِاسْتِعْمَالِ. وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله خَوْفَ التَّلَفِ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِظَاهِرِ النَّصِّ.
(وَلَوْ خَافَ الْجُنُبُ إنْ اغْتَسَلَ أَنْ يَقْتُلَهُ الْبَرْدُ أَوْ يُمْرِضُهُ يَتَيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ) وَهَذَا إذَا كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ كَانَ فِي الْمِصْرِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله خِلَافًا لَهُمَا
الْقِيَامِ جَازَ لَهُ الصَّلَاةُ قَاعِدًا. وَالْفَرْقُ أَنَّهُ يُخَافُ عَلَى الْمَرِيضِ زِيَادَةُ الْوَجَعِ فِي قِيَامِهِ وَلَا يَلْحَقُهُ زِيَادَةُ الْحَرَجِ فِي الْوُضُوءِ. قَالَ: وَذَكَرَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ مِنْهَاجَ الْأَئِمَّةِ فِيمَا قَرَأْنَا عَلَيْهِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ خِلَافًا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ عَلَى قَوْلِهِ يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ. وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا. وَقَالَ: وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا كَانَ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ أَوْ كَانَ فِي فِرَاشِهِ نَجَاسَةٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّحَوُّلِ عَنْهُ وَوَجَدَ مَنْ يَحُولُهُ وَيُوَجِّهُهُ لَا يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَعَلَى هَذَا الْأَعْمَى إذَا وَجَدَ قَائِدًا لَا يَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ وَالْحَجُّ وَالْخِلَافُ فِيهِمَا مَعْرُوفٌ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَهُ لَا يُعْتَبَرُ الْمُكَلَّفُ قَادِرًا بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُعَدُّ قَادِرًا إذَا اخْتَصَّ بِحَالَةٍ تُهَيِّئُ لَهُ الْفِعْلَ مَتَى أَرَادَ وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا بَذَلَ الِابْنُ الْمَالَ وَالطَّاعَةَ لِأَبِيهِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ، وَكَذَا مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَهُوَ مُعْدَمٌ فَبَذَلَ إنْسَانٌ لَهُ الْمَالَ لِمَا قُلْنَا، وَعِنْدَهُمَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ بِآلَةِ الْغَيْرِ لِأَنَّ آلَتَهُ صَارَتْ كَآلَتِهِ بِالْإِعَانَةِ، وَكَانَ حُسَامُ الدِّينِ يَخْتَارُ قَوْلَهُمَا اهـ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَا يَتَيَمَّمُ فِي الْمِصْرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَجِدُ مَنْ يُعِينُهُ، وَكَذَا الْعَجْزُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ بِخِلَافِ مَقْطُوعِهِمَا (قَوْلُهُ وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ خَوْفَ التَّلَفِ) أَوْ شِينَ عَلَى عُضْوٍ ظَاهِرٍ كَسَوَادِ الْيَدِ وَنَحْوِهِ (وَهُوَ مَرْدُودٌ بِظَاهِرِ النَّصِّ) إذْ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} الْآيَةُ لَا تُقَيِّدُ فِيهِ بَيْنَ مَرِيضٍ يَخْشَى التَّلَفَ بِالِاسْتِعْمَالِ أَوْ الزِّيَادَةِ، وَلَوْلَا مَا عُلِمَ قَطْعًا مِنْ أَنَّ شَرْعِيَّةَ التَّيَمُّمِ لِلْمَرِيضِ إنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لِدَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ وَالْحَرَجُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ
هُمَا يَقُولَانِ إنَّ تَحَقُّقَ هَذِهِ الْحَالَةِ نَادِرٌ فِي الْمِصْرِ فَلَا يُعْتَبَرُ. وَلَهُ أَنَّ الْعَجْزَ ثَابِتٌ حَقِيقَةً فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ.
(وَالتَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ يَمْسَحُ بِإِحْدَاهُمَا وَجْهَهُ وَبِالْأُخْرَى يَدَيْهِ إلَى الْمَرْفِقَيْنِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ، ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ» وَيَنْفُضُ يَدَيْهِ بِقَدْرِ مَا يَتَنَاثَرُ التُّرَابُ كَيْ لَا يَصِيرَ مُثْلَةً
عِنْدَ خَوْفِ الِاشْتِدَادِ أَوْ الِامْتِدَادِ لَكَانَ جَائِزًا لِلْمَرِيضِ مُطْلَقًا خَافَ عَاقِبَتَهُ أَوْ لَمْ يَخَفْ
(قَوْلُهُ هُمَا يَقُولَانِ إلَخْ) مِنْهُمْ مَنْ جَهِلَ الْخِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي هَذِهِ نَشَأَ عَنْ اخْتِلَافِ زَمَانٍ لَا بُرْهَانَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَجْرَ الْحَمَّامِ فِي زَمَانِهِمَا يُؤْخَذُ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ الثَّمَنِ دَخَلَ ثُمَّ تَعَلَّلَ بِالْعُسْرَةِ وَفِي زَمَانِهِ قَبْلَهُ فَيُعْذَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ بُرْهَانِيًّا بَنَاهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِغَيْرِ الْوَاجِدِ قَبْلَ الطَّلَبِ مِنْ رَفِيقِهِ إذَا كَانَ لَهُ رَفِيقٌ، فَعَلَى هَذَا يُقَيَّدُ مَنَعَهُمَا بِأَنْ يَتْرُكَ طَلَبَ الْمَاءِ الْحَارِّ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْمِصْرِ، أَمَّا إنْ طَلَبَ فَمُنِعَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمَا (قَوْله هُمَا يَقُولَانِ إنَّ تَحَقُّقَ هَذِهِ الْحَالَةِ فِي الْمِصْرِ نَادِرٌ) يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ: يَعْنِي تَحَقُّقَ خَوْفِ الْهَلَاكِ بَرْدًا مَعَ الْعَجْزِ عَنْ الْمَاءِ الْحَارِّ إذْ يَتَنَاوَلُ الْعَجْزُ عَنْهُ لِلطَّلَبِ مِنْ الْكُلِّ وَالْمَنْعُ وَلِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى إعْمَالِ الْحِيلَةِ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ قَبْلَ الْإِعْطَاءِ. وَقَوْلُهُ فِي وَجْهِ قَوْلِهِ الْعَجْزُ ثَابِتٌ حَقِيقَةً فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ يَحْتَمِلُ اعْتِبَارَهُ بِنَاءً عَلَى عَجْزِهِ عَنْ إعْمَالِ الْحِيلَةِ فِي الدُّخُولِ، وَاعْتِبَارُهُ بِنَاءً عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى الطَّلَبِ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ لَكِنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ بِالْمَاءِ إلَّا إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ وَالشِّرَاءِ، وَعِنْدَ انْتِفَاءِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ، وَلِذَا لَمْ يُفَصِّلْ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ثَمَنُ الْمَاءِ بَيْنَ إمْكَانِ أَخْذِهِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ بِالْحِيلَةِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَا، بَلْ أَطْلَقُوا جَوَازَ التَّيَمُّمِ إذْ ذَاكَ مَعَ أَنَّهُ أَيْسَرُ عَلَى صَاحِبِ الْمَاءِ مِنْ أَخْذِهِ حَالَةَ الْعُسْرَةِ إلَى الْمَيْسَرَةِ، فَإِنْ تَمَّ هَذَا الْبَحْثُ فَإِطْلَاقُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ عَدَمَ الْجَوَازِ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَجْرَ الْحَمَّامِ يُؤْخَذُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَيَتَعَلَّلُ بِالْعُسْرَةِ بَعْدَهُ فِيهِ نَظَرٌ، هَذَا وَأَمَّا خَوْفُ الْمَرَضِ مِنْ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الْمِصْرِ عَلَى قَوْلِهِ هَلْ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ كَالْغُسْلِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، جَعَلَهُ فِي الْأَسْرَارِ مُبِيحًا، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَأَنَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْخَوْفِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُجَرَّدُ وَهْمٍ إذْ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ عَادَةً
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ» إلَخْ) رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيّ بِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم، سَكَتَ عَنْهُ
وَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِيعَابِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْوُضُوءِ، وَلِهَذَا قَالُوا: يُخَلِّلُ الْأَصَابِعَ وَيَنْزِعُ الْخَاتَمَ لِيُتِمَّ الْمَسْحَ
الْحَاكِمُ وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ غَيْرَ عَلِيِّ بْنِ ظَبْيَانِ، وَهُوَ صَدُوقٌ، وَقَدْ وَقَفَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَهُشَيْمٌ وَغَيْرُهُمَا وَصَوَّبَ وَقْفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ اهـ. وَنَقَلَ ابْنُ عَدِيٍّ تَضْعِيفَ ابْنِ ظَبْيَانِ عَنْ النَّسَائِيّ وَابْنِ مَعِينٍ، وَأَمَّا بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ فَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَنْمَاطِيِّ إلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ إلَى الْمَرْفِقَيْنِ» قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: رِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. وَقَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ: عُثْمَانُ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ مَرْدُودٌ، وَبِهِ يُحْمَلُ حَدِيثُ «عَمَّارٍ بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ إلَى أَنْ قَالَ: فَقَالَ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيُمْنَى وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ» وَهُوَ حَقِيقَةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ قَالَ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَفَّيْنِ الذِّرَاعَيْنِ إطْلَاقًا لِاسْمِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ، أَوْ الْمُرَادُ ظَاهِرُهُمَا مَعَ الْبَاقِي أَوْ كَوْنُ أَكْثَرِ عَمَلِ الْأُمَّةِ عَلَى هَذَا يُرَجَّحُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى حَدِيثِ عَمَّارٍ، فَإِنَّ تَلَقِّي الْأُمَّةِ الْحَدِيثَ بِالْقَبُولِ يُرَجِّحُهُ عَلَى مَا أَعْرَضْت عَنْهُ، ثُمَّ قَوْلُهُمْ ضَرْبَتَانِ يُفِيدُ أَنَّ الضَّرْبَ رُكْنٌ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ يَدَيْهِ فَقَبْلَ أَنْ يَمْسَحَ أَحْدَثَ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ بِتِلْكَ الضَّرْبَةِ لِأَنَّهَا رُكْنٌ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَحْدَثَ فِي الْوُضُوءِ بَعْدَ غَسْلِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، وَبِهِ قَالَ السَّيِّدُ أَبُو شُجَاعٍ.
وَقَالَ الْقَاضِي الْإِسْبِيجَابِيُّ: يَجُوزُ كَمَنْ مَلَأَ كَفِيهِ مَاءً فَأَحْدَثَ ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ. وَفِي الْخُلَاصَةِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ التُّرَابُ، كَذَا اخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَمَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَلْقَتْ الرِّيحُ الْغُبَارَ عَلَى وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ فَمَسَحَ بِنِيَّةِ التَّيَمُّمِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَمْسَحْ لَا يَجُوزُ يَلْزَمُ فِيهِ، إمَّا كَوْنُهُ قَوْلُ مَنْ أَخْرَجَ الضَّرْبَةَ لَا قَوْلُ الْكُلِّ، وَإِمَّا اعْتِبَارُ الضَّرْبَةِ أَعُمَّ مِنْ كَوْنِهَا عَلَى الْأَرْضِ أَوْ عَلَى الْعُضْوِ مَسَحَا، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيه النَّظَرُ عَدَمَ اعْتِبَارِ ضَرْبَةِ الْأَرْضِ مِنْ مُسَمَّى التَّيَمُّمِ شَرْعًا، فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْمَسْحُ لَيْسَ غَيْرَ فِي الْكِتَابِ، قَالَ تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ» إمَّا عَلَى إرَادَةِ الْأَعَمِّ مِنْ الْمَسْحَتَيْنِ كَمَا قُلْنَا، أَوْ أَنَّهُ أُخْرِجَ مَخْرَجَ الْغَالِبَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ حَتَّى قَالُوا يُخَلِّلُ) عَنْ مُحَمَّدٍ: يُحْتَاجُ إلَى ثَلَاثِ ضَرَبَاتٍ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ وَضَرْبَةٌ لِتَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ لَكِنَّهُ خِلَافُ النَّصِّ وَالْمَقْصُودُ وَهُوَ التَّخْلِيلُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وَيَنْزِعُ الْخَاتَمَ، وَفِي الْمُحِيطِ: يَمْسَحُ تَحْتَ الْحَاجِبِينَ، وَفِي الْحِلْيَةِ يَمْسَحُ مِنْ وَجْهِهِ ظَاهِرَ الْبَشَرَةِ
(وَالْحَدَثُ وَالْجَنَابَةُ فِيهِ سَوَاءٌ) وَكَذَا الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ قَوْمًا جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا: إنَّا قَوْمٌ نَسْكُنُ هَذِهِ الرِّمَالَ وَلَا نَجِدُ الْمَاءَ شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ وَفِينَا الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: عَلَيْكُمْ بِأَرْضِكُمْ».
(وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ كَالتُّرَابِ وَالرَّمَلِ وَالْحَجَرِ وَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَالْكُحْلِ وَالزِّرْنِيخِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ إلَّا
وَالشَّعْرِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيُقَابِلُ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ أَنَّ الْأَكْثَرَ كَالْكُلِّ لِوَجْهٍ غَيْرِ لَازِمٍ.
(قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: إنَّا نَكُونُ بِالرِّمَالِ الْأَشْهُرَ الثَّلَاثَةَ وَالْأَرْبَعَةَ وَيَكُونُ فِينَا الْجُنُبُ وَالنُّفَسَاءُ وَالْحَائِضُ وَلَسْنَا نَجِدُ الْمَاءَ، فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ لِوَجْهِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَمَسَحَ بِهَا عَلَى يَدَيْهِ إلَى الْمَرْفِقَيْنِ» أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَهُوَ حَدِيثٌ يُعْرَفُ بِالْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ فِي آخَرِينَ، وَرَوَاهُ أَبُو يُعَلَّى مِنْ حَدِيثِ أَبِي لَهَيْعَةِ وَهُوَ أَيْضًا مُضَعَّفٌ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْأَوْسَطِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَزَّارُ الْأَصْبَهَانِيُّ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ الْحَضْرَمِيُّ حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرَهُ وَقَالَ: لَا نَعْلَمُ لِسُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ
(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ إلَخْ) قِيلَ مَا كَانَ بِحَيْثُ إذَا حُرِقَ لَا يَنْطَبِعُ وَلَا يَتَرَمَّدُ: أَيْ لَا يَصِيرُ رَمَادًا فَهُوَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَخَرَجَتْ الْأَشْجَارُ وَالزُّجَاجُ الْمُتَّخَذُ مِنْ الرَّمَلِ وَغَيْرِهِ وَالْمَاءُ الْمُتَجَمِّدُ وَالْمَعَادِنُ إلَّا أَنْ تَكُونَ فِي مَحَالِّهَا فَيَجُوزُ لِلتُّرَابِ
بِالتُّرَابِ وَالرَّمَلِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجُوزُ إلَّا بِالتُّرَابِ الْمُنْبِتِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} أَيْ تُرَابًا مُنْبِتًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، غَيْرَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ زَادَ عَلَيْهِ الرَّمَلَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ. وَلَهُمَا أَنَّ الصَّعِيدَ اسْمٌ لِوَجْهِ الْأَرْضِ سُمِّيَ بِهِ لِصُعُودِهِ، وَالطَّيِّبُ يَحْتَمِلُ الطَّاهِرَ فَحَمَلَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِمَوْضِعِ الطَّهَارَةِ
الَّذِي عَلَيْهَا لَا بِهَا نَفْسِهَا، وَدَخَلَ الْحَجَرُ وَالْجَصُّ وَالنُّورَةُ وَالْكُحْلُ وَالزِّرْنِيخُ وَالْمَغْرَةُ وَالْكِبْرِيتُ وَالْمِلْحُ الْجَبَلِيُّ لَا الْمَائِيُّ وَالسَّبْخَةُ وَالْأَرْضُ الْمُحْرِقَةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْفَيْرُوزَجُ وَالْعَقِيقُ وَالْبَلْخَشُ وَالْيَاقُوتُ وَالزُّمُرُّدُ وَالزَّبَرْجَدُ لَا الْمَرْجَانُ وَاللُّؤْلُؤُ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَاءٌ، وَكَذَا الْمَصْنُوعُ مِنْهَا كَالْكِيزَانِ وَالْجِفَانِ وَالزَّبَادِيِّ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَطْلِيَّةً بِالدِّهَانِ، وَالْآجُرِّ الْمَشْوِيِّ عَلَى الصَّحِيحِ إلَّا إنْ خُلِطَ بِهِ مَا لَيْسَ مِنْ الْأَرْضِ، كَذَا أُطْلِقَ فِيمَا رَأَيْت مَعَ أَنَّ الْمَسْطُورَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ التُّرَابُ إذَا خَالَطَهُ مَا لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْغَلَبَةُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُفَصَّلَ فِي الْمُخَالِطِ لِلَّبِنِ بِخِلَافِ الْمَشْوِيِّ لِاحْتِرَاقِ مَا فِيهِ مِمَّا لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ (قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ زَادَ عَلَيْهِ الرَّمَلَ) جَعَلَ هَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلًا لِأَبِي يُوسُفَ مَرْجُوعًا عَنْهُ وَأَنَّ قَرَارَ مَذْهَبِهِ تَعَيُّنُ التُّرَابِ.
(قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّ الصَّعِيدَ اسْمٌ لِوَجْهِ الْأَرْضِ) لِصُعُودِهِ فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مَفْهُومُهُ وَجَبَ تَعْمِيمُهُ وَأَنَّ تَفْسِيرَ ابْنَ عَبَّاسٍ إيَّاهُ بِالتُّرَابِ تَفْسِيرٌ بِالْأَغْلَبِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيحَيْنِ «وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» وَأَمَّا رِوَايَةُ «وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا» فَتَوَهَّمَ أَنَّهُ مُخَصَّصٌ خَطَأٌ لِأَنَّهُ إفْرَادُ فَرْدٍ مِنْ الْعَامِّ لِأَنَّهُ رَبَطَ حُكْمَ الْعَامِّ نَفْسَهُ بِبَعْضِ أَفْرَادِهِ، وَالتَّخْصِيصُ إفْرَادُ الْفَرْدِ مِنْ حُكْمِ الْعَامِّ فَلَيْسَ بِمُخَصَّصٍ عَلَى الْمُخْتَارِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالطَّيِّبُ يَحْتَمِلُ الطَّاهِرَ فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَفِيهِ أَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِ اللَّفْظِ يَحْتَمِلُ مَعْنًى لَا يُوجِبُ حَمْلَهُ عَلَيْهِ، فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ كَوْنُ الطَّيِّبِ مُرَادًا بِهِ الطَّاهِرُ بِالْإِجْمَاعِ فَكَانَ الْإِجْمَاعُ دَلِيلُ إرَادَةِ هَذَا
أَوْ هُوَ مُرَادُ الْإِجْمَاعِ (ثُمَّ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ غُبَارٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) لِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا (وَكَذَا يَجُوزُ بِالْغُبَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الصَّعِيدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ) لِأَنَّهُ تُرَابٌ رَقِيقٌ.
(وَالنِّيَّةُ فَرْضٌ فِي التَّيَمُّمِ) وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَيْسَتْ بِفَرْضٍ لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْوُضُوءِ فَلَا يُخَالِفُهُ فِي وَصْفِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ الْقَصْدِ فَلَا يَتَحَقَّقُ دُونَهُ،
الْمُحْتَمَلِ، وَعَلَى هَذَا فَالْأَوْجَهُ أَنْ يَقُولَ: وَهُوَ مُرَادٌ بِالْوَاوِ لَا بِأَوْ (قَوْلُهُ ثُمَّ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ غُبَارٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُشْتَرَطُ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} قُلْنَا: هِيَ لِلِابْتِدَاءِ فِي الْمَكَانِ، إذْ لَا يَصِحُّ فِيهَا ضَابِطُ التَّبْعِيضِيَّةِ وَالْبَيَانِيَّةِ وَهُوَ وَضْعُ بَعْضِ مَوْضِعَهَا فِي الْأَوْلَى وَلَفْظُ الَّذِي فِي الثَّانِي وَالْبَاقِي فِي الْأَوَّلِ بِحَالِهِ، وَيُزَادُ فِي الثَّانِي جُزْءٌ لِيُتِمَّ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ كَمَا فِي {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} أَيْ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ، وَلَوْ قِيلَ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ بَعْضِهِ أَفَادَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ جَعْلُ الصَّعِيدِ مَمْسُوحًا وَالْعُضْوَيْنِ آلَتَهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ اتِّفَاقًا (قَوْلُهُ وَكَذَا يَجُوزُ بِالْغُبَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الصَّعِيدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ كَأَنْ يَكُونَ فِي وَحْلٍ وَرَدْغَةٍ بِسَفَرٍ أَوْ بِحَرٍّ وَلَا يَسْتَطِيعُ الْمَاءَ، وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَفِي أُخْرَى لَا يَجُوزُ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَتَيَمَّمُ بِهِ وَيُعِيدُ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ تُرَابٌ خَالِصٌ أَوْ غَالِبٌ أَوْ لَا، فَعِنْدَهُ لَا، وَعِنْدَهُمَا نَعَمْ إذْ لَمْ يُفَارِقْهُ إلَّا بِمُمَازَجَةِ الْهَوَاءِ
(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ الْقَصْدِ إلَخْ) هُوَ يُنْبِئُ عَنْ الْقَصْدِ لُغَةً، وَلَيْسَ
أَوْ جَعَلَ طَهُورًا فِي حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَالْمَاءُ طَهُورٌ بِنَفْسِهِ عَلَى مَا مَرَّ
الْمَقْصُودُ فِي النَّصِّ الْخِطَابُ بِقَصْدِ الصَّعِيدِ فَيَمْسَحُ بِهِ الْعُضْوَيْنِ وَإِلَّا لَكَانَتْ النِّيَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ تِلْكَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ قَصَدَهُ لِلْمَسْحِ لَمْ تَكُنْ الْمُعْتَبَرَةُ فَضْلًا عَمَّا هُوَ مَدْلُولُ النَّصِّ مِنْ أَنْ يَقْصِدَهُ فَيُرَتِّبَ عَلَى قَصْدِهِ ذَلِكَ الْمَسْحَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ لَفْظَ التَّيَمُّمِ وَهُوَ الِاسْمُ الشَّرْعِيُّ يُنْبِئُ عَنْ الْقَصْدِ، وَالْأَصْلُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُنْبِئُ عَنْهُ مِنْ الْمَعَانِي عَلَى مَا عُرِفَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ: النِّيَّةُ الْمَشْرُوطَةُ هِيَ نِيَّةُ التَّطْهِيرِ هُوَ الصَّحِيحُ انْتَهَى.
وَمَا زَادَهُ غَيْرُهُ مِنْ نِيَّةِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ لَا يُنَافِيه إذْ يَتَضَمَّنُ نِيَّةَ التَّطْهِيرِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ تَيَمَّمَ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ أَوْ لِلْقِرَاءَةِ وَلَوْ مِنْ الْمُصْحَفِ أَوْ مَسَّهُ أَوْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَوْ دَفْنِ الْمَيِّتِ أَوْ الْأَذَانِ أَوْ الْإِقَامَةِ أَوْ السَّلَامِ أَوْ رَدِّهِ أَوْ الْإِسْلَامِ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ إلَّا مَنْ شَذَّ وَهُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلْخِيُّ مَعَ وُجُودِ نِيَّةِ التَّيَمُّمِ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي الْحَاصِلِ نَوَى التَّيَمُّمَ لِكَذَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ نِيَّةَ نَفْسِ الْفِعْلِ لَيْسَتْ بِمُعْتَبَرَةٍ بَلْ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْمَقْصُودَ مِنْ الطَّهَارَةِ وَلِلصَّلَاةِ وَلَوْ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةَ التِّلَاوَةِ. نَعَمْ رُوِيَ فِي النَّوَادِرِ: لَوْ مَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ يَنْوِي التَّيَمُّمَ جَازَ بِهِ الصَّلَاةُ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ تَيَمَّمَ لِرَدِّ السَّلَامِ يَجُوزُ، فَعَلَى هَاتَيْنِ تُعْتَبَرُ مُجَرَّدُ نِيَّةِ التَّيَمُّمِ لَكِنَّهُ غَيْرُ الظَّاهِرِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَلَوْ تَيَمَّمَ يُرِيدُ بِهِ تَعْلِيمَ الْغَيْرِ دُونَ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا أَنْبَأَ عَنْ قَصْدٍ هُوَ غَيْرُ الْمُعْتَبَرِ نِيَّةً فَلَا يَكُونُ النَّصُّ بِذَلِكَ مُوجِبًا لِلنِّيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ، أَلَا يَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} يُنَبِّئُ عَنْ الْإِرَادَةِ حَتَّى اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ شَرَطَ النِّيَّةِ لِلْوُضُوءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ التَّقْدِيرَ إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ لِلصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ اتِّفَاقًا وَالْغَسْلُ وَقَعَ جَزَاءً لِذَلِكَ وَالْجَزَاءُ مُسَبَّبٌ عَنْ الشَّرْطِ فَيُفِيدُ وُجُوبَ الْغَسْل لِأَجَلِ إرَادَةِ الصَّلَاةِ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ التَّحْقِيقُ عَدَمَ إفَادَتِهِ وُجُوبِهَا، وَالْكَلَامُ الْمَذْكُورُ تَمْوِيهٌ إذْ الْمُفَادُ بِالتَّرْكِيبِ مَعَ الْمُقَدَّرِ إنَّمَا هُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْغُسْلِ لِأَجَلِ إرَادَةِ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ لَا إيجَابَ أَنْ يُغْسَلَ لِأَجَلِ الصَّلَاةِ، إذْ عَقْدُ الْجَزَاءِ الْوَاقِعَ طَلَبًا بِالشَّرْطِ يُفِيدُ طَلَبَ مَضْمُونِ الْجَزَاءِ إذَا تَحَقَّقَ مَضْمُونُ الشَّرْطِ، وَأَنَّ وُجُوبَهُ اُعْتُبِرَ مُسَبِّبًا عَنْ ذَلِكَ فَأَيْنَ طَلَبَهُ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ هُوَ فِعْلُهُ عَلَى قَصْدِ كَوْنِهِ لِمَضْمُونِ الشَّرْطِ فَتَأَمَّلْ، وَلَقَدْ خَفِيَ هَذَا عَلَى صَاحِبِ النِّهَايَةِ حَتَّى لَمْ يُكَافِئْهُ بِالْجَوَابِ. فَإِنْ قُلْت: ذَكَرْت أَنَّ نِيَّةَ التَّيَمُّمِ لِرَدِّ السَّلَامِ لَا تُصَحِّحُهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ مَعَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَيَمَّمَ لِرَدِّ السَّلَامِ» عَلَى مَا أَسْلَفْته فِي الْأَوَّلِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ قَصْدَ رَدِّ السَّلَامِ بِالتَّيَمُّمِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ نَوَى عِنْدَ فِعْلِ التَّيَمُّمِ التَّيَمُّمَ لَهُ، بَلْ يَجُوزُ كَوْنُهُ نَوَى مَا يَصِحُّ مَعَهُ التَّيَمُّمُ ثُمَّ يَرُدُّ السَّلَامَ إذَا صَارَ طَاهِرًا (قَوْلُهُ أَوْ جُعِلَ طَهُورًا فِي حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ) إنْ أَرَادَ حَالَةَ الصَّلَاةِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي بَيَانِ سُنَنِ الْوُضُوءِ أَوَّلَ الْكِتَابِ فَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْإِرَادَةَ مُرَادَةٌ فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ
(ثُمَّ إذَا نَوَى الطَّهَارَةَ أَوْ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ وَلَا يُشْتَرَطُ نِيَّةُ التَّيَمُّمِ لِلْحَدَثِ أَوْ لِلْجَنَابَةِ) هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ.
(فَإِنْ تَيَمَّمَ نَصْرَانِيٌّ يُرِيدُ بِهِ الْإِسْلَامَ ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يَكُنْ مُتَيَمِّمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُوَ مُتَيَمِّمٌ) لِأَنَّهُ نَوَى قُرْبَةً مَقْصُودَةً، بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ. وَلَهُمَا أَنَّ التُّرَابَ مَا جُعِلَ طَهُورًا إلَّا فِي حَالِ إرَادَةِ قُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ لَا تَصِحُّ بِدُونِ الطَّهَارَةِ، وَالْإِسْلَامُ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ تَصِحُّ بِدُونِهَا
عَلَيْهَا جُمْلَةُ التَّيَمُّمِ: أَعْنِي آيَةَ الْوُضُوءِ إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} إلَى آخَرِ آيَةِ التَّيَمُّمِ عَطْفٌ عَلَيْهَا، وَأَنْتَ قَدْ عَلِمْت أَنْ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ، وَإِنْ أَرَادَ حَالَةَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَظَاهِرٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي إيجَابَ النِّيَّةِ وَلَا نَفْيِهَا، وَأَمَّا جَعْلُ الْمَاءِ طَهُورًا بِنَفْسِهِ مُسْتَفَادًا مِنْ قَوْله تَعَالَى {مَاءً طَهُورًا} وَمِنْ قَوْلِهِ {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} فَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، إذْ كَوْنُ الْمَقْصُودِ مِنْ إنْزَالِهِ التَّطْهِيرَ بِهِ وَتَسْمِيَتُهُ طَهُورًا لَا يُفِيدُ اعْتِبَارَهُ مُطَهِّرًا بِنَفْسِهِ: أَيْ رَافِعًا لِلْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ بِلَا نِيَّةٍ، بِخِلَافِ إزَالَتِهِ الْخَبَثَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَحْسُوسٌ أَنَّهُ مُقْتَضَى طَبْعِهِ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ إزَالَتِهِ حِسًّا صِفَةً مَحْسُوسَةً وَبَيْنَ كَوْنِهِ يَرْتَفِعُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ اعْتِبَارٌ شَرْعِيٌّ: أَعْنِي الْحَدَثَ، وَقَدْ حَقَّقْنَا فِي بَحْثِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ أَنَّ التَّطْهِيرَ لَيْسَ مِنْ مَفْهُومِ طَهُورٍ فَارْجِعْ إلَيْهِ، وَالْمُفَادُ مِنْ لِيُطَهِّرَكُمْ كَوْنُ الْمَقْصُودِ مِنْ إنْزَالِهِ التَّطْهِيرُ بِهِ، وَهَذَا يَصْدُقُ مَعَ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَعَدَمُهُ كَمَا قُلْنَا، وَلَا دَلَالَةَ لِلْأَعَمِّ عَلَى أَخَصَّ بِخُصُوصِهِ.
وَالْحَاصِلُ الْفَرْقُ بَيْنَ الدَّلَالَةِ لَفْظًا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ النِّيَّةِ وَعَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِهَا وَهُوَ الثَّابِتُ فِي الْآيَةِ، فَرَجَعَ إسْنَادُ عَدَمِ وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ إلَى عَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَا وَعَدْنَاهُ فِي سُنَنِ الطَّهَارَةِ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ إنَّهُ يُشْتَرَطُ، قَالَ فِي التَّجْنِيسِ: لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا تَيَمَّمَ يُرِيدُ الْوُضُوءَ أَجْزَأَ عَنْ الْجَنَابَةِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ عَنْ الْجَنَابَةِ
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ نَوَى قُرْبَةً مَقْصُودَةً) يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ تَصِحُّ مِنْهُ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَوْ تَيَمَّمَ لِلصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا لَمْ يَكُنْ مُتَيَمِّمًا حَتَّى لَا يُصَلِّيَ بِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُصَحِّحُ مِنْهُ تَيَمُّمًا إلَّا لِلْإِسْلَامِ (قَوْلُهُ وَالْإِسْلَامُ قُرْبَةٌ تَصِحُّ بِدُونِهَا) يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ تَيَمَّمَ لِلصَّلَاةِ صَحَّ عِنْدَهُمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
بِخِلَافِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ لَا تَصِحُّ بِدُونِ الطَّهَارَةِ (وَإِنْ تَوَضَّأَ لَا يُرِيدُ بِهِ الْإِسْلَامَ ثُمَّ أَسْلَمَ فَهُوَ مُتَوَضِّئٌ) خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ رحمه الله بِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ.
(فَإِنْ تَيَمَّمَ مُسْلِمٌ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَهُوَ عَلَى تَيَمُّمِهِ) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: بَطَلَ تَيَمُّمُهُ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِيه فَيَسْتَوِي فِيهِ الِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ كَالْمَحْرَمِيَّةِ فِي النِّكَاحِ. وَلَنَا أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ التَّيَمُّمِ صِفَةُ كَوْنِهِ طَاهِرًا فَاعْتِرَاضُ الْكُفْرِ عَلَيْهِ لَا يُنَافِيه كَمَا لَوْ اعْتَرَضَ عَلَى الْوُضُوءِ، وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُمَا لَا يُصَحِّحَانِ مِنْهُ تَيَمُّمًا أَصْلًا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ النِّيَّةِ مِنْهُ فَمَا يَفْتَقِرُ إلَيْهَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ، وَهَذَا لِأَنَّ النِّيَّةَ تُصَيِّرُ الْفِعْلَ مُنْتَهِضًا سَبَبًا لِلثَّوَابِ، وَلَا فِعْلَ يَقَعُ مِنْ الْكَافِرِ كَذَلِكَ حَالَ الْكُفْرِ وَلِذَا صَحَّحُوا وُضُوءَهُ لِعَدَمِ افْتِقَارِهِ إلَى النِّيَّةِ وَلَمْ يُصَحِّحْهُ الشَّافِعِيُّ لَمَّا افْتَقَرَ إلَيْهَا عِنْدَهُ.
وَقَدْ رَجَعَ الْمُصَنِّفُ إلَى التَّحْقِيقِ فِي التَّعْلِيلِ فِي جَوَابِ زُفَرَ حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ لِانْعِدَامِ النِّيَّةِ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ إلَخْ) الْمُرَادُ بِكَوْنِهَا قُرْبَةً مَقْصُودَةً هُنَا كَوْنُهَا مَشْرُوعَةٌ ابْتِدَاءً يُعْقَلُ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي الْأُصُولِ إنَّهَا لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ فَالْمُرَادُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لَعَيْنِهَا بَلْ لِإِظْهَارِ مُخَالَفَةِ الْمُسْتَنْكِفِينَ مِنْ الْكُفَّارِ بِإِظْهَارِ التَّوَاضُعِ وَالِانْقِيَادِ لِلَّهِ سبحانه وتعالى، وَلِذَا أُدِّيَتْ فِي ضَمِنَ الرُّكُوعِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(قَوْلُهُ فَيَسْتَوِي فِيهِ الِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ) فَكَمَا لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءُ التَّيَمُّمِ وَهُوَ كَافِرٌ لَا يَصِحُّ بَقَاؤُهُ مَعَ الْكُفْرِ كَالْمَحْرَمِيَّةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ، كَمَا يُمْنَعُ ابْتِدَاءُ النِّكَاحِ يُمْنَعُ بَقَاؤُهُ حَتَّى لَوْ كَانَ الزَّوْجَانِ صَغِيرَيْنِ فَأَرْضَعَتْهُمَا الْمَرْأَةُ ارْتَفَعَ النِّكَاحُ، أَوْ كَبِيرِينَ فَمَكَّنَتْ الزَّوْجَةُ ابْنَ زَوْجِهَا ارْتَفَعَ بَعْدَ الثُّبُوتِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ مُنَافِيَةٍ الْحُكْمَ يَسْتَوِي فِيهَا الِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ إلَّا أَنْ يَخْرُجَ شَيْءٌ بِالنَّصِّ كَبَقَاءِ الصَّلَاةِ عِنْدَ سَبْقِ الْحَدَثِ حَتَّى جَازَ الْبِنَاءُ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفُ فِي الِاسْتِدْلَالِ الْمَذْكُورِ لَزُفَرَ لَا يَسْتَلْزِمُ بِنَاءَهُ عَلَى حَبْطِ الْعَمَلِ بِالْكُفْرِ لِيَحْتَاجَ إلَى جَوَابِهِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى بَعْدَ قَلِيلِ تَأَمُّلٍ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْبَاقِيَ) حَاصِلُهُ تَسْلِيمُ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ وَمَنْعُ صِدْقِهِ
مِنْ الْكَافِرِ ابْتِدَاءٌ لِعَدَمِ النِّيَّةِ مِنْهُ.
(وَيَنْقُضُ التَّيَمُّمَ كُلُّ شَيْءٍ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ) لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْهُ فَأَخَذَ حُكْمَهُ (وَيَنْقُضُهُ أَيْضًا رُؤْيَةُ الْمَاءِ إذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ) لِأَنَّ الْقُدْرَةَ هِيَ الْمُرَادُ بِالْوُجُودِ الَّذِي هُوَ غَايَةٌ لِطَهُورِيَّةِ التُّرَابِ،
فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، أَفَادَ هَذَا إدْخَالُ اللَّامَ فِي الْبَاقِي: أَيْ لَيْسَ التَّيَمُّمُ نَفْسُهُ بَاقِيًا لِيَرْتَفِعَ بِوُرُودِ الْكُفْرِ، بَلْ الْبَاقِي صِفَةُ الطَّهَارَةِ الَّتِي أَوْجَبَهَا، وَهَذِهِ لَا يَرْفَعُهَا شَرْعًا إلَّا الْحَدَثُ، وَلِذَا لَوْ اعْتَرَضَ عَلَى الصِّفَةِ الْكَائِنَةِ عَنْ الْوُضُوءِ لَمْ يَرْفَعْهَا وَهِيَ مِثْلُهَا.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا مَظِنَّةَ أَنْ يُقَالَ الْبَقَاءُ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ مِنْ النِّكَاحِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ لَيْسَ إلَّا بَقَاءَ آثَارِهَا فَإِنَّ الْبَاقِيَ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ بَعْدَ صُدُورِ الْعَقْدِ لَيْسَ إلَّا الْأَثَرَ مِنْ الْحِلِّ وَالْمِلْكِ، وَمَعَ ذَلِكَ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ بَقَاءً لَهَا حَتَّى انْتَفَتْ بِوُرُودِ مَا يَنْفِي ابْتِدَاءَهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فَبَقَاءُ الصِّفَةِ حِينَئِذٍ بَقَاءُ التَّيَمُّمِ وَيَلْزَمُ مَا قُلْته، زَادَ قَوْلَهُ وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ ابْتِدَاءٌ لِانْعِدَامِ النِّيَّةِ مِنْهُ وَهَذَا يُحَوِّلُ التَّقْرِيرَ عَنْ وُجْهَتِهِ الْأُولَى، هَكَذَا التَّيَمُّمُ نَفْسُهُ لَا يُنَافِيه الْكُفْرُ وَإِنَّمَا يُنَافِي شَرْطَهُ وَهُوَ النِّيَّةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي الِابْتِدَاءِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ وَتَحَقَّقَ التَّيَمُّمُ لِذَلِكَ، فَالصِّفَةُ الْبَاقِيَةُ بَعْدَهُ لَوْ اُعْتُبِرَتْ كَنَفْسِهِ لَا يَرْفَعُهَا الْكُفْرُ لِأَنَّ الْبَاقِيَ حِينَئِذٍ حُكْمًا لَيْسَ هُوَ النِّيَّةُ.
(قَوْلُهُ وَيَنْقُضُهُ أَيْضًا رُؤْيَةُ الْمَاءِ إذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ) لِأَنَّ الْقُدْرَةَ هِيَ الْمُرَادَةُ بِالْوُجُودِ الَّذِي هُوَ غَايَةٌ لِطَهُورِيَّةِ التُّرَابِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ» وَمُقْتَضَاهُ خُرُوجُ ذَلِكَ التُّرَابِ الَّذِي تَيَمَّمَ بِهِ عَنْ الطَّهُورِيَّةِ، وَيَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ أَثَرِهِ مِنْ طَهَارَةِ الرَّجُلِ.
وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ قَطْعَ الِاعْتِبَارِ الشَّرْعِيِّ طَهُورِيَّةُ التُّرَابِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ مُقْتَصَرًا فَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إذْ لَوْ اسْتَنَدَ ظَهَرَ عَدَمُ صِحَّةِ الصَّلَوَاتِ السَّابِقَةِ، وَمَا قِيلَ إنَّهُ وَصْفٌ يَرْجِعُ إلَى الْمَحِلِّ فَيَسْتَوِي فِيهِ
وَخَائِفُ السَّبُعِ وَالْعَدُوِّ وَالْعَطَشِ عَاجِزٌ حُكْمًا وَالنَّائِمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَادِرٌ تَقْدِيرًا، حَتَّى لَوْ مَرَّ النَّائِمُ الْمُتَيَمِّمُ عَلَى الْمَاءِ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ عِنْدَهُ، وَالْمُرَادُ مَاءٌ يَكْفِي لِلْوُضُوءِ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِمَا دُونَهُ ابْتِدَاءً فَكَذَا انْتِهَاءً
الِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ لَا يُفِيدُ دَفْعًا وَلَا يَمَسُّهُ، وَالْأَوْجَهُ الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ «فَإِذَا وَجَدَهُ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ» وَفِي إطْلَاقِهِ دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ تَخْصِيصِ النَّاقِضِيَّةِ بِالْوُجْدَانِ خَارِجَ الصَّلَاةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ رضي الله عنهم (قَوْلُهُ وَخَائِفُ السَّبُعِ وَالْعَدُوِّ وَالْعَطَشِ) عَلَى نَفْسِهِ أَوْ دَابَّتِهِ أَوْ رَقِيقِهِ عَاجِزٌ حُكْمًا فَيُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ الْمَاءِ، وَكَذَا إذَا خَافَ الْجُوعَ بِأَنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى الْمَاءِ لِلْعَجِينِ، أَمَّا إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ لِلْمَرَقَةِ فَلَا يَتَيَمَّمُ، لَكِنْ هَلْ يُعِيدُ إذَا أَمِنَ بِالْوُضُوءِ؟ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: قُلْت جَازَ أَنْ تَجِبَ الْإِعَادَةُ عَلَى الْخَائِفِ مِنْ الْعَدُوِّ بِالْوُضُوءِ لِأَنَّ الْعُذْرَ مِنْ قِبَلِ الْعِبَادِ اهـ.
يَعْنِي وَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعُذْرِ مِنْ قِبَلِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَمِنْ قِبَلِ الْعِبَادِ فَيُوجِبُونَ فِي الثَّانِي، وَلِذَا وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ عَلَى الْمَحْبُوسِ إذَا صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ خُلَّصِ، وَقِيلَ فِيمَنْ مَنَعَهُ إنْسَانٌ عَنْ الْوُضُوءِ بِوَعِيدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّي وَيُعِيدَ بَعْدَ ذَلِكَ، لَكِنْ قَالَ فِي الدِّرَايَةِ: الْأَسِيرُ مَنَعَهُ الْكُفَّارُ مِنْ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ يَتَيَمَّمُ وَيُومِئُ وَيُعِيدُ وَكَذَا الْمُقَيَّدُ، ثُمَّ قَالَ: قُلْت بِخِلَافِ الْخَائِفِ مِنْهُمْ فَإِنَّ الْخَوْفَ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَنَصَّ عَلَى خِلَافِ مَا فِي النِّهَايَةِ (قَوْلُهُ وَالنَّائِمُ) أَيْ عَلَى غَيْرِ صِفَةٍ تُوجِبُ النَّقْضَ كَالنَّائِمِ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا إذَا مَرَّ عَلَى مَاءٍ مَقْدُورِ الِاسْتِعْمَالِ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَعَنْ ذَلِكَ عَبَّرَ فِي الْمَجْمَعِ بِالنَّاعِسِ.
قَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ قِيلَ يَجِبُ أَنْ لَا يُنْتَقَضَ عِنْدَ الْكُلِّ، لِأَنَّهُ لَوْ تَيَمَّمَ وَبِقُرْبِهِ مَاءٌ لَا يَعْلَمُ بِهِ صَحَّ تَيَمُّمُهُ فَكَذَا هَذَا. وَفِي زِيَادَاتِ الْحَلْوَانِيِّ قَالَ: فِي انْتِقَاضِ تَيَمُّمِهِ رِوَايَتَانِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ.
قَالَ فِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ فِي وَجْهِ الِانْتِقَاضِ عِنْدَهُ الشَّرْعُ إنْ اُعْتُبِرَ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ النَّوْمِ يَقَظَةً كَانَ كَالْيَقْظَانِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ يَقَظَةً كَانَ هَذَا نَوْمًا لَمْ يَلْحَقْ بِالْيَقَظَةِ، وَكُلُّ نَوْمٍ لَمْ يَلْحَقْ بِهَا شَرْعًا فَهُوَ حَدَثٌ بِالْإِجْمَاعِ اهـ.
وَلَنَا أَنْ نَخْتَارَ الْأَوَّلَ وَلَا يُفِيدُهُ، فَإِنَّ الْيَقْظَانَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْمَاءِ لَا يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فَتَاوَى قَاضِي خَانْ. وَفِي التَّجْنِيسِ: صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ وَفِي جَنْبِهِ بِئْرٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ جَازَ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَلَوْ كَانَ عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْإِدَاوَةِ الْمُعَلَّقَةِ فِي عُنُقِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ يَجُوزُ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ إذْ لَا قُدْرَةَ بِدُونِ الْعِلْمِ.
وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْأَصَحُّ اهـ.
فَإِذَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ فِي الْمُسْتَيْقِظِ حَقِيقَةً عَلَى شَاطِئِ نَهْرٍ لَا يَعْلَمُ بِهِ يَجُوزُ تَيَمُّمُهُ، فَكَيْفَ يَقُولُ فِي النَّائِمِ حَقِيقَةً بِانْتِقَاضِ تَيَمُّمِهِ (قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ) مِنْ الْمَاءِ: يَعْنِيَ الْمَاءَ فِي قَوْلِهِ وَيَنْقُضُهُ رُؤْيَةُ الْمَاءِ مَا يَكْفِي، فَلَوْ وَجَدَ الْمُتَيَمِّمُ مَاءً فَتَوَضَّأَ بِهِ فَنَقَصَ عَنْ
(وَلَا يُتَيَمَّمُ إلَّا بِصَعِيدٍ طَاهِرٍ) لِأَنَّ الطَّيِّبَ أُرِيدَ بِهِ الطَّاهِرَ فِي النَّصِّ وَلِأَنَّهُ آلَةُ التَّطْهِيرِ فَلَا بُدَّ مِنْ طَهَارَتِهِ فِي نَفْسِهِ كَالْمَاءِ.
(وَيُسْتَحَبُّ لِعَادِمِ الْمَاءِ وَهُوَ يَرْجُوهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ إلَى آخَرِ الْوَقْتِ، فَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ تَوَضَّأَ وَإِلَّا تَيَمَّمَ وَصَلَّى
إحْدَى رِجْلَيْهِ إنْ كَانَ غَسَلَ كُلَّ عُضْوٍ ثَلَاثًا أَوْ مَرَّتَيْنِ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ، أَوْ مَرَّةً لَا يَنْتَقِضُ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ وَجَدَ مَا يَكْفِيه، إذْ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى أَدْنَى مَا يَتَأَدَّى بِهِ الْفَرْضُ كَفَاهُ بِخِلَافِ الثَّانِي. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: لَا يَجُوزُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَإِنْ قَلَّ حَتَّى يَسْتَعْمِلَهُ فَيُفْنِيه فَحِينَئِذٍ يَتَيَمَّمُ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} يُفِيدُهُ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَصَارَ كَمَا إذَا وَجَدَ مَاءً يَكْفِي لِإِزَالَةِ بَعْضِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَوْ ثَوْبًا يَسْتُرُ بَعْضَ عَوْرَتِهِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمُرَادَ فِي النَّصِّ مَاءً يَكْفِي لِإِزَالَةِ الْمَانِعِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ وَالْمَسْحِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ نَقَلَ إلَى التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِهِ بِقَوْلِهِ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} فَبِالضَّرُورَةِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَاغْسِلُوا وَامْسَحُوا بِالْمَاءِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَاءً تَغْسِلُونَ بِهِ وَتَمْسَحُونَ مَا عَيَّنْته عَلَيْكُمْ فَتَيَمَّمُوا.
وَالْقِيَاسُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْعَوْرَةِ فَاسِدٌ لِأَنَّهُمَا يَتَجَزَّءَانِ فَيُفِيدُ إلْزَامَهُ بِاسْتِعْمَالِ الْقَلِيلِ لِلتَّقْلِيلِ، وَلَا يُفِيدُ هُنَا إذْ لَا يَتَجَزَّأُ هُنَا بَلْ الْحَدَثُ قَائِمٌ مَا بَقِيَ أَدْنَى لَمْعَةٌ فَيَبْقَى مُجَرَّدُ إضَاعَةِ مَالٍ خُصُوصًا فِي مَوْضِعِ عِزَّتِهِ مَعَ بَقَاءِ الْحَدَثِ كَمَا هُوَ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْقُدْرَةِ أَعَمُّ مِنْ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ، حَتَّى لَوْ رَأَى مَاءً فِي حَبٍّ لَا يُنْتَقَضُ تَيَمُّمُهُ وَإِنْ تَحَقَّقَتْ قُدْرَةٌ حِسِّيَّةٌ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُبِيحَ لِلشُّرْبِ، وَلَوْ وُهِبَ لَهُ مَاءٌ وَجَبَ الْقَبُولُ وَانْتَقَضَ التَّيَمُّمُ، وَلَوْ وَجَدَ جَمَاعَةً مِنْ الْمُتَيَمِّمِينَ مَاءً مُبَاحًا يَكْفِي أَحَدَهُمْ انْتَقَضَ تَيَمُّمُ الْكُلِّ لِقُدْرَةِ كُلٍّ مِنْهُمْ لِتَحَقُّقِ الْإِبَاحَةِ فِي حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وُهِبَ لَهُمْ بِأَنْ قَالَ صَاحِبُ الْمَاءِ هَذَا لَكُمْ أَوْ بَيْنَكُمْ فَقَبَضُوهُ حَيْثُ لَا يُنْتَقَضُ تَيَمُّمُ أَحَدٍ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ لَا يُصِيبُ كُلًّا مِنْهُمْ مَا يَكْفِيه عَلَى قَوْلِهِمَا.
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْهِبَةُ لِلشُّيُوعِ، فَلَوْ أَذِنُوا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْوُضُوءِ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ إذْنُهُمْ لِفَسَادِ الْهِبَةِ، وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ، فَيُنْتَقَضُ تَيَمُّمُهُ، كَمَا لَوْ عَيَّنَ الْوَاهِبُ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ دُونَهُمْ حَتَّى لَوْ كَانَ إمَامًا بَطَلَتْ صَلَاةُ الْكُلِّ، وَكَذَا لَوْ كَانَ غَيْرَ إمَامٍ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ الْقَوْمُ سَأَلَهُ الْإِمَامُ فَأَعْطَاهُ تَفْسُدُ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ لَتَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى قَادِرًا عَلَى الْمَاءِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ فَرَّعُوا لَوْ صَلَّى بِتَيَمُّمٍ فَطَلَعَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مَعَهُ مَاءٌ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يُعْطِيه بَطَلَتْ قَبْلَ السُّؤَالِ، وَإِنْ غَلَبَ أَنْ لَا يُعْطِيَهُ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ، وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ يَمْضِي ثُمَّ يَسْأَلُهُ، فَإِنْ أَعْطَاهُ وَلَوْ بَيْعًا بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَنَحْوِهِ أَعَادَ وَإِلَّا فَهِيَ تَامَّةٌ. وَكَذَا لَوْ أَعْطَاهُ بَعْدَ الْمَنْعِ إلَّا أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ هُنَا لِصَلَاةٍ أُخْرَى، وَعَلَى هَذَا فَإِطْلَاقُ فَسَادِ الصَّلَاةِ فِي صُورَةِ سُؤَالِ الْإِمَامِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى حَالَةِ الْإِشْكَالِ أَوْ أَنَّ عَدَمَ الْفَسَادِ عِنْدَ غَلَبَةِ ظَنِّ عَدَمِ الْإِعْطَاءِ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ بَعْدُ إعْطَاؤُهُ.
[فَرْعٌ]
يُبْتَلَى الْحَاجُّ بِحَمْلِ مَاءِ زَمْزَمَ لِلْهَدِيَّةِ وَيَرْصُصُ رَأْسَ الْقُمْقُمَةِ فَمَا لَمْ يَخَفْ الْعَطَشَ وَنَحْوَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ: وَالْحِيلَةِ فِيهِ أَنْ يَهَبَهُ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ يَسْتَوْدِعُهُ مِنْهُ. وَقَالَ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّهُ لَوْ رَأَى مَعَ غَيْرِهِ مَاءً يَبِيعُهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ أَوْ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ كَيْفَ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرِّقَ بِأَنَّ الرُّجُوعَ تَمَلُّكٌ بِسَبَبٍ مَكْرُوهٍ وَهُوَ مَطْلُوبُ الْعَدَمِ شَرْعًا، فَيَجُوزُ أَنْ يَعْتَبِرَ الْمَاءَ مَعْدُومًا فِي حَقِّهِ لِذَلِكَ وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً كَمَاءِ الْحَبِّ بِخِلَافِ الْبَيْعِ (قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إلَّا بِصَعِيدٍ طَاهِرٍ) ظَاهِرٌ حُكْمًا وَدَلِيلًا وَانْبَنَى عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ تَيَمَّمَ بِغُبَارِ ثَوْبٍ نَجِسٍ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا وَقَعَ
لِيَقَعَ الْأَدَاءُ بِأَكْمَلِ الطَّهَارَتَيْنِ فَصَارَ كَالطَّامِعِ فِي الْجَمَاعَةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ التَّأْخِيرَ حَتْمٌ لِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ كَالْمُتَحَقِّقِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْعَجْزَ ثَابِتٌ حَقِيقَةً فَلَا يَزُولُ حُكْمُهُ)
ذَلِكَ الْغُبَارُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا جَفَّ، وَهَلْ يَأْخُذُ التُّرَابُ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ؟ فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا لَوْ تَيَمَّمَ جُنُبٌ أَوْ حَائِضٌ مِنْ مَكَانٍ فَوَضْع آخِرَ يَدِهِ عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ فَتَيَمَّمَ أَجْزَأَهُ، وَالْمُسْتَعْمَلُ هُوَ التُّرَابُ الَّذِي اُسْتُعْمِلَ فِي الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ اهـ. وَهُوَ يُفِيدُ تَصَوَّرَ اسْتِعْمَالِهِ وَكَوْنِهِ بِأَنْ يَمْسَحَ الذِّرَاعَيْنِ بِالضَّرْبَةِ الَّتِي مَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ لَيْسَ غَيْرُ
(قَوْلُهُ لِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ كَالْمُتَحَقِّقِ) مَعَ قَوْلِهِ فِي وَجْهِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَجْزَ ثَابِتٌ حَقِيقَةً فَلَا يَزُولُ حُكْمُهُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلُهُ مَعَ أَنَّهُ مَنْظُورٌ فِيهِ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ فِي الْعُمْرَانَاتِ وَفِي الْفَلَاةِ إذَا أُخْبِرَ بِقُرْبِ الْمَاءِ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ قَبْلَ الطَّلَبِ اعْتِبَارًا لِغَالِبِ الظَّنِّ كَالْيَقِينِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ تَيَقَّنَ وُجُودَ الْمَاءِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَزِمَهُ التَّأْخِيرُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ.
، (وَيُصَلِّي بِتَيَمُّمِهِ مَا شَاءَ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ فَرْضٍ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ. وَلَنَا أَنَّهُ طَهُورٌ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ فَيَعْمَلُ عَمَلَهُ مَا بَقِيَ شَرْطُهُ.
لَكِنَّ الْمُصَرَّحَ بِهِ خِلَافُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْبَابِ أَنَّهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ مِيلٌ جَازَ التَّيَمُّمُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: الْمُسَافِرُ إذَا كَانَ عَلَى تَيَقُّنٍ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ أَوْ غَالِبُ ظَنِّهِ عَلَى ذَلِكَ فِي آخِر الْوَقْتِ فَتَيَمَّمَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَصَلَّى، إنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ مِقْدَارُ مِيلٍ جَازَ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ وَلَكِنْ يَخَافُ الْفَوْتَ لَا يَتَيَمَّمُ.
(قَوْلُهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةِ فَرْضٍ) قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّهُ يُجِيزُ النَّوَافِلَ الْمُتَعَدِّدَةَ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ تَبَعِيَّةً لِلْفَرْضِ، وَالْخِلَافُ يُبْنَى تَارَةً عَلَى أَنَّهُ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ عِنْدَنَا، مُبِيحٌ عِنْدَهُ لَا رَافِعٌ، وَتَارَةً عَلَى أَنَّهُ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ عِنْدَهُ مُطْلَقَةٌ عِنْدَنَا كَمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ.
وَيُدْفَعُ مَبْنَاهُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ اعْتِبَارَ الْحَدَثِ مَانِعِيَّةً عَنْ الصَّلَاةِ شَرْعِيَّةً لَا يَشْكُلُ مَعَهُ أَنَّ التَّيَمُّمَ رَافِعٌ لِارْتِفَاعِ ذَلِكَ الْمَنْعِ بِهِ وَهُوَ الْحَقُّ إذْ لَمْ يَقُمْ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ، وَتَغَيُّرُ الْمَاءِ بِرَفْعِ الْحَدَثِ إنَّمَا يَسْتَلْزِمُ اعْتِبَارَهُ نَازِلًا عَنْ وَصْفِهِ الْأَوَّلِ بِوَاسِطَةِ إسْقَاطِ الْفَرْضِ لَا بِوَاسِطَةِ إزَالَةِ وَصْفٍ حَقِيقِيٍّ مُدَنِّسٍ، وَيُدْفَعُ الثَّانِي بِأَنَّهُ طَهُورٌ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ» وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الْخَصَائِصِ فِي الصَّحِيحَيْنِ «وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» يُرِيدُ مُطَهِّرًا وَإِلَّا لَمَا تَحَقَّقَتْ الْخُصُوصِيَّةُ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْأَرْضِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ ثَابِتَةٌ، وَإِذَا كَانَ مُطَهِّرًا فَتَبْقَى طَهَارَتُهُ إلَى وُجُودِ غَايَتِهَا مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ أَوْ نَاقِضٍ آخَرَ.
وَقَدْ يُقَالُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ طَهُورِيَّتِهِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَذَلِكَ أَفَادَتْهُ الطَّهَارَةُ، وَالْكَلَامُ لَيْسَ فِيهِ بَلْ فِي بَقَاءِ تِلْكَ الطَّهَارَةِ الْمُفَادَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى فَرْضٍ آخَرَ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، فَلَنَا أَنْ نُثْبِتَ نَفْيَهُ بِالْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ اعْتِبَارَ طَهَارَتِهِ ضَرُورَةُ أَدَاءِ الْمَكْتُوبَةِ مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِمَنْعٍ مُرَدَّدٍ إنْ سَلِمَ، وَهُوَ إنْ أَرَدْت أَنَّهَا اُعْتُبِرَتْ ضَرُورَةَ الْمَكْتُوبَةِ الْوَاحِدَةِ فَقَطْ مَنَعْنَاهُ بَلْ ضَرُورَةُ تَحْصِيلِ الْخَيْرَاتِ الْمَشْرُوطَةِ بِالطَّهَارَةِ مُطْلَقًا، وَلِهَذَا أَجَازَ هُوَ النَّوَافِلَ الْكَثِيرَةَ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ، فَعَلِمَ أَنَّ اعْتِبَارَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ تَكْثِيرٌ لِأَبْوَابِ الْخَيْرَاتِ إرَادَةٌ لِإِفَاضَةِ كَرَمِهِ، أَلَّا يَرَى أَنَّهُ أَبَاحَ النَّفَلَ عَلَى الدَّابَّةِ بِالْإِيمَاءِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ مَعَ فَوَاتِ الشُّرُوطِ وَالْأَرْكَانِ فِيهَا وَلَا ضَرُورَةَ إلَّا
(وَيَتَيَمَّمُ الصَّحِيحُ فِي الْمِصْرِ إذَا حَضَرَتْ جِنَازَةٌ وَالْوَلِيُّ غَيْرُهُ فَخَافَ إنْ اشْتَغَلَ بِالطَّهَارَةِ أَنْ تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ) لِأَنَّهَا لَا تُقْضَى فَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ (وَكَذَا مَنْ حَضَرَ الْعِيدَ فَخَافَ إنْ اشْتَغَلَ بِالطَّهَارَةِ أَنْ يَفُوتَهُ الْعِيدُ يَتَيَمَّمُ) لِأَنَّهَا لَا تُعَادُ. وَقَوْلُهُ وَالْوَلِيُّ غَيْرُهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ لِلْوَلِيِّ حَقُّ الْإِعَادَةِ فَلَا فَوَاتَ فِي حَقِّهِ (وَإِنْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ أَوْ الْمُقْتَدِي فِي صَلَاةِ الْعِيدِ تَيَمَّمَ وَبَنَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَقَالَا: لَا يَتَيَمَّمُ) لِأَنَّ اللَّاحِقَ يُصَلِّي بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ فَلَا يَخَافُ الْفَوْتَ. وَلَهُ أَنَّ الْخَوْفَ بَاقٍ لِأَنَّهُ يَوْمُ زَحْمَةٍ فَيَعْتَرِيه
الْحَاجَةُ الْقَائِمَةُ بِالْعَبْدِ لِزِيَادَةِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْ فَضْلِهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ اُبْتُنِيَ جَوَازُ التَّيَمُّمِ قَبْلَ الْوَقْتِ فَمَنَعَهُ وَأَجَزْنَاهُ فَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ صَلَاتِهِ بَطَلَ أَوْ بَعْدَ السَّلَامِ تَمَّتْ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ سُجُودُ سَهْوٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَفْسُدُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ هَلْ يُخْرِجُهُ سَلَامُهُ عَنْ الصَّلَاةِ فَعِنْدَهُ لَا، وَعِنْدَهُمَا نَعَمْ، وَإِنَّ أَرَدْت غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ إبْدَائِهِ لِنَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ
(قَوْلُهُ وَيَتَيَمَّمُ الصَّحِيحُ إلَخْ) مَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّهُ تَيَمُّمٌ مَعَ عَدَمِ شَرْطِهِ.
قُلْنَا مُخَاطَبٌ بِالصَّلَاةِ عَاجِزٌ عَنْ الْوُضُوءِ لَهَا فَيَجُوزُ، أَمَّا الْأَوْلَى فَلِأَنَّ تَعَلُّقَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ عَلَى الْعُمُومِ غَيْرَ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَبِفَرْضِ الْمَسْأَلَةِ، وَحَدِيثُ الدَّارَقُطْنِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَتَيَمَّمَ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، وَذَكَرَهُ مَشَايِخُنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَوْلُهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ الْحَسَنِ إلَخْ) احْتِرَازٌ عَنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَيْضًا لِأَنَّ الِانْتِظَارَ فِيهَا مَكْرُوهٌ، ثُمَّ لَوْ صَلَّى بِهِ فَحَضَرَتْ أُخْرَى خَافَ فَوْتَهَا كَذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ قَالَ: انْتَهَتْ تِلْكَ بِانْتِهَاءِ الضَّرُورَةِ وَهَذِهِ ضَرُورَةٌ أُخْرَى.
وَقَالَا: وَقَعَ مُعْتَدًّا بِهِ لِتِلْكَ وَهَذِهِ مِثْلُهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَجَازَتْ بِهِ، وَقَيَّدَهُ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ بَيْنَ
عَارِضٌ يُفْسِدُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ، وَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا شَرَعَ بِالْوُضُوءِ، وَلَوْ شَرَعَ بِالتَّيَمُّمِ تَيَمَّمَ وَبَنَى بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا الْوُضُوءَ يَكُونُ وَاجِدًا لِلْمَاءِ فِي صَلَاتِهِ فَيَفْسُدُ.
(وَلَا يَتَيَمَّمُ لِلْجُمُعَةِ وَإِنْ خَافَ الْفَوْتَ لَوْ تَوَضَّأَ، فَإِنْ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ صَلَّاهَا وَإِلَّا صَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا) لِأَنَّهَا تَفُوتُ إلَى خَلَفٍ وَهُوَ الظُّهْرُ بِخِلَافِ الْعِيدِ (وَكَذَا إذَا خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ لَوْ تَوَضَّأَ لَمْ يَتَيَمَّمْ وَيَتَوَضَّأُ وَيَقْضِي مَا فَاتَهُ) لِأَنَّ الْفَوَاتَ إلَى خَلَفٍ وَهُوَ الْقَضَاءُ.
الْجِنَازَتَيْنِ وَقْتٌ يُمْكِنُهُ فِيهِ الْوُضُوءُ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا الْوُضُوءَ إلَخْ) يَعْنِي لَوْ كَانَ شُرِعَ بِالتَّيَمُّمِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فَسَبَقَهُ الْحَدَثُ لَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْوُضُوءَ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ لَاحِقٌ فَلَا فَوْتَ عَلَيْهِ كَانَ هَذَا الْإِيجَابُ فَرْعَ الْحُكْمِ شَرْعًا بِوُجُودِ الْمَاءِ، إذْ لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ مَعَ حُكْمِ الشَّرْعِ بِعَدَمِ الْمَاءِ، وَالْحُكْمُ بِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ بِأَنَّهُ وَاجِدٌ بَعْدَ سَبْقِ الْحَدَثِ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِأَنَّهُ وَاجِدٌ فِي الصَّلَاةِ، إذْ لَا فَصْلَ بَيْنَ زَمَانِهِ وَمَا قَبْلَهُ بِشَيْءٍ أَصْلًا. وَقَدْ يُقَالُ: لَا يَلْزَمُ لِأَنَّ الْحُكْمَ شَرْعًا بِالْعَدَمِ السَّابِقِ بِنَاءً عَلَى خَوْفِ الْفَوْتِ وَقَدْ زَالَ بِسَبْقِ الْحَدَثِ فَيَجِبُ أَنْ يَتَغَيَّرَ الِاعْتِبَارُ الشَّرْعِيُّ فَيُعَدُّ قَبْلَ السَّبْقِ عَادِمًا وَبَعْدَهُ وَاجِدًا.
وَقِيلَ فِي التَّعْلِيلِ: لَوْ أَوْجَبْنَا الْوُضُوءَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ فَيَقَعُ الْفَوَاتُ، وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ إذْ الِانْتِقَاضُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ لَا يَتَحَقَّقُ لِأَنَّ انْتِقَاضَ التَّيَمُّمِ قَدْ وُجِدَ قَبْلَهُ بِسَبْقِ الْحَدَثِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مَا قَدَّمْنَاهُ وَعَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَحِلَّ الْخِلَافِ مَا إذَا خَافَ: أَيْ شَكَّ فِي الْإِدْرَاكِ وَعَدَمِهِ، أَمَّا لَوْ كَانَ يَرْجُو الْإِدْرَاكَ وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ عُرُوضِ الْمُفْسِدِ لَا يَتَيَمَّمُ إجْمَاعًا.
(قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ لَوْ تَوَضَّأَ لَمْ يَتَيَمَّمْ) بَلْ يَتَوَضَّأُ وَيَقْضِيهَا خِلَافًا لَزُفَرَ.
لَهُ أَنَّ التَّيَمُّمَ لَمْ يُشْرَعْ
(وَالْمُسَافِرُ إذَا نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ ذَكَرَ الْمَاءَ لَمْ يُعِدْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله يُعِيدُهَا) وَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا وَضَعَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ وَضَعَهُ غَيْرُهُ بِأَمْرِهِ، وَذَكَرَهُ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ سَوَاءً لَهُ أَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ فِي رَحْلِهِ ثَوْبٌ فَنَسِيَهُ، وَلِأَنَّ رَحْلَ الْمُسَافِرِ مُعَدٌّ لِلْمَاءِ عَادَةً فَيُفْتَرَضُ الطَّلَبُ عَلَيْهِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ بِدُونِ الْعِلْمِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْوُجُودِ، وَمَاءُ الرَّحْلِ مُعَدٌّ لِلشُّرْبِ لَا لِلِاسْتِعْمَالِ،
إلَّا لِتَحْصِيلِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا فَلَمْ يَلْزَمْهُ قَوْلُهُمْ إنَّ الْفَوَاتَ إلَى خَلَفٍ كَلَا فَوَاتَ، وَلَمْ يَتَّجِهْ لَهُمْ سِوَى أَنَّ التَّقْصِيرَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ فَلَا يُوجِبُ التَّرْخِيصَ عَلَيْهِ وَهُوَ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا أُخِّرَ لَا لِعُذْرٍ
(قَوْلُهُ وَالْمُسَافِرُ إلَخْ) اللَّامُ فِي الْمَاءِ لِلْعَهْدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسَافِرِ، إذْ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا وَضَعَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرُهُ بِعِلْمِهِ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ إذْ بِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ عَهْدُهُ بِهِ، وَقُيِّدَ بِالنِّسْيَانِ لِيُفِيدَ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَهُ فَوَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ فَنِيَ فَلَا خِلَافَ، بَلْ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْإِعَادَةِ.
لِأَبِي يُوسُفَ مَدْرَكَانِ الْأَوَّلُ نِسْيَانُ مَاءِ الرَّحْلِ نِسْيَانُ مَا لَا يُنْسَى عَادَةً لِقُوَّةِ ثَبَاتِ صُورَتِهِ فِي النَّفْسِ بِشِدَّةِ تَشَبُّثِهَا بِهِ فِي الْأَسْفَارِ لِعِزَّةِ الْمَاءِ فِيهَا فَصَارَ كَنِسْيَانِ إدَاوَةٍ مُعَلَّقَةٍ فِي عُنُقِهِ أَوْ عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ مُقَدَّمِ إكَافِ مَرْكُوبِهِ أَوْ مُؤَخَّرِهِ وَهُوَ سَائِقٌ أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ مُقَدَّمَهُ وَهُوَ سَائِقٌ أَوْ مُؤَخَّرَهُ وَهُوَ رَاكِبٌ أَوْ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ قَائِدٌ.
الثَّانِي إلْحَاقُ الرَّحْلِ بِالْعُمْرَانِ وَإِخْبَارُ الْمُخْبِرِ وَوُجُودُ طَيْرٍ وَوَحْشٍ بِجَامِعِ وُجُودِ دَلِيلِ الْمَاءِ لِأَنَّهُ مَعْدِنُهُ فَيَجِبُ الطَّلَبُ قَبْلَ التَّيَمُّمِ، وَلِذَا وَجَبَتْ
وَمَسْأَلَةُ الثَّوْبِ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الِاتِّفَاقِ فَفَرَضَ السِّتْرَ يَفُوتُ لَا إلَى خَلَفٍ، وَالطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ تَفُوتُ إلَى خَلَفٍ، وَهُوَ التَّيَمُّمُ.
(وَلَيْسَ عَلَى الْمُتَيَمِّمِ طَلَبُ الْمَاءِ إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنَّهُ أَنَّ بِقُرْبِهِ مَاءٌ) لِأَنَّ الْغَالِبَ عَدَمُ الْمَاءِ فِي الْفَلَوَاتِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى الْوُجُودِ فَلَمْ يَكُنْ وَاجِدًا لِلْمَاءِ (وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ هُنَاكَ مَاءً لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ حَتَّى يَطْلُبَهُ) لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ، ثُمَّ يَطْلُبُ مِقْدَارَ الْغَلْوَةِ وَلَا يَبْلُغُ مِيلًا كَيْ لَا يَنْقَطِعَ عَنْ رُفْقَتِهِ (وَإِنْ كَانَ مَعَ رَفِيقِهِ مَاءٌ طَلَبَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَتَيَمَّمَ) لِعَدَمِ الْمَنْعِ غَالِبًا، فَإِنْ مَنَعَهُ مِنْهُ تَيَمَّمَ لَتَحَقُّقِ الْعَجْزِ (وَلَوْ تَيَمَّمَ قَبْلَ الطَّلَبِ أَجْزَأَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَبُ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ، وَقَالَا لَا يُجْزِيه لِأَنَّ الْمَاءَ مَبْذُولٌ عَادَةً
الْإِعَادَةُ إذَا صَلَّى بِثَوْبٍ نَجِسٍ أَوْ عُرْيَانًا أَوْ بِنَجَاسَةٍ حَقِيقِيَّةٍ نَاسِيًا الْمَاءَ وَالثَّوْبَ الطَّاهِرَ فِي رَحْلِهِ لِوُجُودِ عِلَّةِ اشْتِرَاطِ الطَّاهِرِ، فَقَوْلُهُمَا لَا قُدْرَةَ بِدُونِ الْعِلْمِ لَا يُفِيدُ بَعْدَ هَذَا التَّقْرِيرِ لِثُبُوتِ الْعِلْمِ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ اتِّفَاقًا كَمَا قَالَ الْكُلُّ فِي الْمَسَائِلِ الْمُلْحَقِ بِهَا، وَالْمُفِيدُ لَيْسَ إلَّا مَنْعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ: أَيْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الرَّحْلَ دَلِيلُ الْمَاءِ الَّذِي ثُبُوتُهُ يَمْنَعُ التَّيَمُّمَ: أَعْنِي مَاءَ الِاسْتِعْمَالِ، بَلْ الشُّرْبُ وَهُوَ مَفْقُودٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الشُّرْبِ، وَعَلَى هَذَا يُتَمَكَّنُ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ وَالْمَاءِ، فَرَحْلُ الْمُسَافِرِ دَلِيلُ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِوَضْعِهِ مَعَ سَائِرِ أَمْتِعَتِهِ فِيهِ لَا دَلِيلَ مَاءِ الِاسْتِعْمَالِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى ادِّعَاءِ أَنَّ مَسْأَلَةَ الثَّوْبِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الصَّحِيحِ كَمَا فِي الِاخْتِيَارِ وَشَرْحِ الْكَنْزِ، لَكِنَّهُ يُشْكِلُ بِمَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ مَعَ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ قَدْ اعْتَبَرَ الرَّحْلَ فِيهَا دَلِيلُ مَاءِ الِاسْتِعْمَالِ، وَالْفَرْقُ بِأَنَّ فَرْضَ السِّتْرِ وَإِزَالَةَ النَّجَاسَةِ فَاتَ لَا إلَى خَلَفٍ، بِخِلَافِ الْوُضُوءِ لَا يُثْلِجُ الْخَاطِرَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ لِأَنَّ فَوَاتَ الْأَصْلِ إلَى خَلَفٍ لَا يَجُوزَ الْخَلَفَ مَعَ فَقْدِ شَرْطِهِ، بَلْ إذَا فَقَدَ شَرْطَهُ مَعَ فَوَاتِ الْأَصْلِ يَصِيرُ فَاقِدًا لِلطَّهُورَيْنِ فَيَلْزَمُهُ حُكْمُهُ وَهُوَ التَّأْخِيرُ عِنْدَهُ وَالتَّشَبُّهُ عِنْدَهُمَا بِالْمُصَلَّيْنَ، وَوَافَقَ مُحَمَّدٌ أَبَا حَنِيفَةَ فِي التَّأْخِيرِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَبُ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ) لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَاءِ بِمِلْكِهِ
(وَلَوْ أَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ إلَّا بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَعِنْدَهُ ثَمَنُهُ لَا يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ) لَتَحَقُّقِ الْقُدْرَةِ وَلَا يَلْزَمُهُ تَحَمُّلُ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ لِأَنَّ الضَّرَرَ مُسْقِطٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَوْ بِمِلْكِ بَدَلِهِ إذَا كَانَ يُبَاعُ أَوْ بِالْإِبَاحَةِ، أَمَّا مَعَ مِلْكِ الرَّفِيقِ فَلَا لِأَنَّ الْمِلْكَ حَاجِزٌ فَثَبَتَ الْعَجْزُ.
وَعَنْ الْجَصَّاصِ: لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ، فَمُرَادُ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مَنْعُهُ، وَمُرَادُهُمَا إذَا ظَنَّ عَدَمَ الْمَنْعِ لِثُبُوتِ الْقُدْرَةِ بِالْإِبَاحَةِ فِي الْمَاءِ لَا فِي غَيْرِهِ عِنْدَهُ، فَلَوْ قَالَ انْتَظِرْ حَتَّى أَفْرُغَ وَأُعْطِيَك الْمَاءَ وَجَبَ الِانْتِظَارُ وَإِنْ خَافَ الْفَوْتَ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ لَا، فَلَوْ كَانَ مَعَ رَفِيقِهِ دَلْوٌ وَلَيْسَ مَعَهُ لَهُ أَنْ يُتَيَمَّمَ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ عِنْدَهُ وَلَوْ سَأَلَهُ فَقَالَ انْتَظِرْ حَتَّى أَسْتَقِيَ اُسْتُحِبَّ انْتِظَارُهُ عِنْدَهُ مَا لَمْ يَخَفْ الْفَوَاتَ، وَعِنْدَهُمَا يَنْتَظِرُهُ وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ مَعَ رَفِيقِهِ ثَوْبٌ وَهُوَ عُرْيَانُ فَقَالَ انْتَظِرْ حَتَّى أُصَلِّيَ وَأَدْفَعُهُ إلَيْك.
وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَبَحْت لَك مَالِي لِتَحُجَّ بِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ الْمِلْكُ وَهُنَا الْقُدْرَةُ (قَوْلُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ تَحَمُّلُ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ لَا يَبِيعُ إلَّا بِضَعْفِ الْقِيمَةِ فَهُوَ غَالٍ، وَقِيلَ أَنْ يُسَاوِيَ دِرْهَمًا فَيَأْبَى إلَّا بِدِرْهَمٍ وَنِصْفٍ فِي الْوُضُوءِ وَبِدِرْهَمَيْنِ فِي الْجَنَابَةِ، وَقِيلَ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ.
[فَرْعٌ]
لَا تَلْفِيقَ عِنْدَنَا فِي إقَامَةِ طَهَارَةٍ بَيْنَ الْآلَتَيْنِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ شَرْطَ عَمَلِ التُّرَابِ شَرْعًا عَدَمُ الْأَصْلِ، مَثَلًا جُنُبٌ أَكْثَرُ بَدَنِهِ مَجْرُوحٌ تَيَمَّمَ فَقَطْ وَلَا يَسْتَعْمِلُ الْمَاءَ أَصْلًا، وَلَوْ كَانَ الْأَكْثَرَ صَحِيحًا يَغْسِلُ الصَّحِيحَ وَيَمْسَحُ عَلَى الْجِرَاحَةِ إنْ لَمْ يَضُرُّهُ، وَإِلَّا فَعَلَى الْخِرْقَةِ، فَلَوْ اسْتَوَيَا لَا رِوَايَةَ فِيهِ. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَسْتَعْمِلُ الْمَاءَ أَصْلًا، وَقِيلَ يَغْسِلُ الصَّحِيحَ وَيَمْسَحُ عَلَى الْبَاقِي، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِالْفِقْهِ وَالْمَذْكُورُ فِي النَّوَادِرِ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ، مِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ مِنْ حَيْثُ عَدَدِ الْأَعْضَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ الْكَثْرَةَ فِي نَفْسِ كُلِّ عُضْوٍ، فَلَوْ كَانَ بِرَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ جِرَاحَةٌ وَالرِّجْلُ لَا جِرَاحَةَ بِهَا يَتَيَمَّمُ سَوَاءً كَانَ الْأَكْثَرُ مِنْ الْأَعْضَاءِ الْجَرِيحَةِ جَرِيحًا أَوْ صَحِيحًا، وَالْآخَرُونَ قَالُوا: إنْ كَانَ الْأَكْثَرُ مِنْ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ الْمَذْكُورَةِ جَرِيحًا فَهُوَ الْكَثِيرُ الَّذِي يَجُوزُ مَعَهُ التَّيَمُّمُ وَإِلَّا فَلَا.
بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ
(الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ جَائِزٌ بِالسُّنَّةِ) وَالْأَخْبَارُ فِيهِ مُسْتَفِيضَةٌ حَتَّى قِيلَ إنَّ مَنْ لَمْ يَرَهُ كَانَ مُبْتَدِعًا
بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ
(قَوْلُهُ جَائِزٌ بِالسُّنَّةِ) لِيُفِيدَ أَنَّ لَيْسَ مَشْرُوعِيَّتُهُ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ خِلَافًا لِمَنْ حَمَلَ قِرَاءَةَ الْجَرِّ فِي (أَرْجُلَكُمْ) عَلَيْهِ لِمَا قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَلِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ لَا يَجِبُ إلَى الْكَعْبَيْنِ اتِّفَاقًا. وَقَوْلُهُ جَائِزٌ يَعْنِي لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِلْإِطْلَاقِ (قَوْلُهُ وَالْأَخْبَارُ فِيهِ مُسْتَفِيضَةٌ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا قُلْت بِالْمَسْحِ حَتَّى جَاءَنِي فِيهِ مِثْلُ ضَوْءِ النَّهَارِ.
وَعَنْهُ أَخَافُ الْكُفْرَ عَلَى مَنْ لَمْ يَرَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِأَنَّ الْآثَارَ الَّتِي جَاءَتْ فِيهِ فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: خَبَرُ الْمَسْحِ يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِهِ لِشُهْرَتِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ فِي قَلْبِي مِنْ الْمَسْحِ شَيْءٌ فِيهِ أَرْبَعُونَ حَدِيثًا عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا رَفَعُوا وَمَا وَقَفُوا.
وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي آخَرِينَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَبْعُونَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ» وَمِمَّنْ رَوَى الْمَسْحَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعْدٌ وَالْمُغِيرَةُ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَأَبُو أَيُّوبَ وَأَبُو أُمَامَةَ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو سَعِيدٍ وَبِلَالٌ وَصَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جُزْءٍ وَسَلْمَانُ وَثَوَبَانُ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَيَعْلَى بْنُ مُرَّةَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ وَبُرَيْدَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إنْكَارُ الْمَسْحِ إلَّا ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، فَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ فَقَدْ جَاءَ
لَكِنَّ مَنْ رَآهُ ثُمَّ لَمْ يَمْسَحْ آخِذًا بِالْعَزِيمَةِ كَانَ مَأْجُورًا، وَيَجُوزُ
عَنْهُمَا بِالْأَسَانِيدِ الْحِسَانِ خِلَافُ ذَلِكَ وَمُوَافَقَةُ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا عَائِشَةُ رضي الله عنها فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهَا أَحَالَتْ ذَلِكَ عَلَى عِلْمِ عَلِيٍّ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: وَسُئِلْت عَنْهُ أَعْنِي الْمَسْحَ مَالِي بِهَذَا عِلْمٌ. وَمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ الْبَغْدَادِيُّ عَنْهَا: لَأَنْ أَقْطَعُ رِجْلِي بِالْمُوسَى أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ حَدِيثٌ بَاطِلٌ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحُفَّاظُ (قَوْلُهُ لَكِنْ مَنْ رَآهُ ثُمَّ لَمْ يَمْسَحْ آخِذًا بِالْعَزِيمَةِ كَانَ مَأْجُورًا) لَفْظُ كَانَ مَأْجُورًا فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَسْحَ مِنْ النَّوْعِ الرَّابِعِ مِنْ الرُّخْصَةِ وَهُوَ مَا لَمْ تَبْقَ الْعَزِيمَةُ مَعَهُ مَشْرُوعَةً كَالرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ لِلْمُسَافِرِ، وَلَا يُؤْجَرُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ مِنْ الرَّابِعِ مَا دَامَ الْمُكَلَّفُ لَابِسَ الْخُفِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لَهُ نَزْعُهُ، فَإِذَا نَزَعَهُ سَقَطَتْ الرُّخْصَةُ فِي حَقِّهِ فَيَغْسِلُ، وَإِنَّمَا يُثَابُ بِتَكَلُّفِ النَّزْعِ وَالْغَسْلِ فَيَصِيرُ كَتَرْكِ السَّفَرِ لِقَصْدِ الْأَحْمَزَ.
وَقَوْلُ الرُّسْتُغْفَنِيِّ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَمْسَحَ، إمَّا لَنَفِي التُّهْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ الرَّوَافِضَ لَا يَرَوْنَهُ، وَإِمَّا لِلْعَمَلِ بِقِرَاءَةِ الْجَرِّ مَدْفُوعٌ بِعَدَمِ صِحَّةِ الثَّانِي عَلَى مَا عَلِمْت وَعَدَمُ تَأَتِّي الْأَوَّلِ فِي مَوْضِعٍ يُعْلَمُ أَنَّ الْحَاضِرِينَ لَا يَتَّهِمُونَهُ لِعِلْمِهِمْ بِحَقِيقَةِ حَالِهِ أَوْ جَهْلِهِمْ وُجُودَ مَذْهَبِ الرَّوَافِضِ، فَلَا يَنْبَغِي إطْلَاقُ الْجَوَابِ بَلْ إنْ كَانَ مَحِلَّ تُهْمَةٍ، هَذَا وَمَبْنَى السُّؤَالِ عَلَى أَنَّهُ رُخْصَةُ إسْقَاطٍ، وَمَنَعَهُ شَارِحُ الْكَنْزِ وَخَطَّأَهُمْ فِي تَمْثِيلِهِمْ بِهِ فِي الْأُصُولِ لَهَا لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ خَاضَ مَاءً بِخُفِّهِ فَانْغَسَلَ أَكْثَرُ قَدَمَيْهِ بَطَلَ الْمَسْحُ، وَكَذَا لَوْ تُكَلَّفَ غَسْلَهُمَا مِنْ غَيْرِ نَزْعٍ أَجْزَأَهُ عَنْ الْغَسْلِ حَتَّى لَا يَبْطُلَ
(مِنْ كُلِّ حَدَثٍ مُوجِبٍ لِلْوُضُوءِ إذَا لَبِسَهُمَا عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ ثُمَّ أَحْدَثَ) خَصَّهُ بِحَدَثٍ مُوجِبٍ لِلْوُضُوءِ لِأَنَّهُ لَا مَسْح مِنْ الْجَنَابَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِحَدَثٍ مُتَأَخِّرٍ لِأَنَّ الْخُفَّ عُهِدَ مَانِعًا، وَلَوْ جَوَّزْنَاهُ بِحَدَثٍ سَابِقٍ كَالْمُسْتَحَاضَةِ إذَا لَبِسَتْ عَلَى السَّيَلَانِ ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ
بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْعَزِيمَةَ مَشْرُوعَةٌ مَعَ الْخُفِّ اهـ.
وَمَبْنَى هَذِهِ التَّخْطِئَةِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْفَرْعِ وَهُوَ مَنْقُولٌ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ لَكِنْ فِي صِحَّته نَظَرٌ، فَإِنَّ كَلِمَتَهُمْ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ الْخُفَّ اُعْتُبِرَ شَرْعًا مَانِعًا سِرَايَةَ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ فَتَبْقَى الْقَدَمُ عَلَى طَهَارَتِهَا، وَيَحِلُّ الْحَدَثُ بِالْخُفِّ فَيُزَالُ بِالْمَسْحِ، وَبَنَوْا عَلَيْهِ مَنْعَ الْمَسْحِ لِلْمُتَيَمِّمِ وَالْمَعْذُورَيْنِ بَعْدَ الْوَقْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْخِلَافِيَّاتِ.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ غَسْلَ الرِّجْلِ فِي الْخُفِّ وَعَدَمِهِ سَوَاءٌ إذَا لَمْ يَبْتَلَّ مَعَهُ ظَاهِرُ الْخُفِّ فِي أَنَّهُ لَمْ يُزَلْ بِهِ الْحَدَثُ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، فَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِهِ لِأَنَّهُ صَلَّى مَعَ حَدَثٍ وَاجِبِ الرَّفْعِ، إذْ لَوْ لَمْ يَجِبْ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ الرِّجْلِ جَازَتْ الصَّلَاةُ بِلَا غَسْلٍ وَلَا مَسْحٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَرَكَ ذِرَاعَيْهِ وَغَسْلَ مَحَلًّا غَيْرَ وَاجِبِ الْغَسْلِ كَالْفَخِذِ، وَوِزَانَهُ فِي الظَّهِيرِيَّةِ بِلَا فَرْقٍ، وَلَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ تَحْتَ الْجُرْمُوقَيْنِ فَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَذَكَرَ فِيهَا أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ وَلَيْسَ إلَّا لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ مَحِلِّ الْحَدَثِ.
وَالْأَوْجَهُ فِي ذَلِكَ الْفَرْعِ كَوْنُ الْإِجْزَاءِ إذَا خَاضَ النَّهْرَ لِابْتِلَالِ الْخُفِّ، ثُمَّ إذَا نُقِضَتْ الْمُدَّةُ إنَّمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِهَا لِحُصُولِ الْغَسْلِ بِالْخَوْضِ، وَالنَّزْعُ إنَّمَا وَجَبَ لِلْغَسْلِ وَقَدْ حَصَلَ.
(قَوْلُهُ مُوجِبٌ لِلْوُضُوءِ) إسْنَادُ الْمُوجِبِيَّةِ لِلْحَدَثِ إمَّا تَجَوُّزٌ أَوْ لِاعْتِقَادِ أَنَّ سَبَبَ الْوُضُوءِ الْحَدَثُ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْبَعْضِ (قَوْلُهُ ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ) يُفِيدُ أَنَّ مَنْعَهَا مِنْ الْمَسْحِ بَعْدَ الْوَقْتِ فَقَطْ فَتَمْسَحُ فِي الْوَقْتِ كُلَّمَا تَوَضَّأْت لِحَدَثٍ
وَالْمُتَيَمِّمُ إذَا لَبِسَ ثُمَّ رَأَى الْمَاءَ كَانَ رَافِعًا. وَقَوْلُهُ إذَا لَبِسَهُمَا عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ لَا يُفِيدُ اشْتِرَاطَ الْكَمَالِ وَقْتَ اللِّبْسِ بَلْ وَقْتَ الْحَدَثِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا، حَتَّى لَوْ غَسَلَ رِجْلَيْهِ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ أَكْمَلَ الطَّهَارَةَ ثُمَّ أَحْدَثَ يُجْزِئُهُ الْمَسْحُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْخُفَّ مَانِعٌ حُلُولَ الْحَدَثِ بِالْقَدَمِ
غَيْرِ الَّذِي اُبْتُلِيت بِهِ، وَهَذَا أَعْنِي مَنْعُهَا بَعْدَهُ إذَا كَانَ السَّيَلَانُ مُقَارِنًا لِلْوُضُوءِ وَاللِّبْسُ. أَمَّا إذَا كَانَ عَلَى الِانْقِطَاعِ فَهِيَ كَغَيْرِهَا فَتَمْسَحُ بَعْدَ الْوَقْتِ إلَى تَمَامِ الْمُدَّةِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ هُنَاكَ لِأَنَّ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ تَصِيرُ مُحْدِثَةً بِالسَّابِقِ، وَكَذَا الْمُتَيَمِّمُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ وَإِضَافَةُ الْحَدَثِ إلَى خُرُوجِهِ وَالرُّؤْيَةُ لِلْمَاءِ مَجَازٌ، فَلَوْ جَازَ الْمَسْحُ بَعْدَ اللِّبْسِ عَلَى طَهَارَةِ التَّيَمُّمِ أَوْ الْوُضُوءِ الْمُقَارَنِ هُوَ أَوْ اللِّبْسِ لِلْحَدَثِ بَعْدَ الْوَقْتِ كَانَ رَافِعًا لِلْحَدَثِ الَّذِي حَلَّ بِالْقَدَمِ لِأَنَّ الْحَدَثَ الَّذِي يَظْهَرُ هُوَ الَّذِي كَانَ قَدْ حَلَّ بِهِ قَبْلَ التَّيَمُّمِ أَوْ حَالَ ذَلِكَ الْوُضُوءِ، لَكِنَّ الْمَسْحَ إنَّمَا يُزِيلُ مَا حَلَّ بِالْمَمْسُوحِ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ الْخُفِّ مَانِعًا شَرْعًا سِرَايَةَ الْحَدَثِ الَّذِي يَطْرَأُ بَعْدَهُ إلَى الْقَدَمَيْنِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَبِسَ عَلَى حَدَثٍ بِالْقَدَمَيْنِ لَا يَمْسَحُ، فَلَوْ اُعْتُبِرَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ رَافِعًا لِمَا بِالْقَدَمِ لَجَازَ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَعْلِيلِهِ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ الْمَنْعَ عَلَى الْمُتَيَمِّمِ بِكَوْنِ التَّيَمُّمِ لَيْسَ طَهَارَةً كَامِلَةً لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّهَا كَاَلَّتِي بِالْمَاءِ مَا بَقِيَ الشَّرْطُ.
(قَوْلُهُ لَا يُفِيدُ) لَيْسَ الْمُرَادُ لَا يُفِيدُ اللَّفْظَ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ لَهُ بَلْ الْقُدُورِيُّ لَا يُفِيدُ بِهَذَا اللَّفْظِ هَذَا الْمَعْنَى بَلْ قَصَدَ بِهِ إلَى إفَادَةِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَّصِلًا بِحَدَثٍ مُوجِبٍ لِلْوُضُوءِ، وَالتَّقْدِيرُ جَائِزٌ بِالسُّنَّةِ مِنْ كُلِّ حَدَثٍ مُوجِبٍ لِلْوُضُوءِ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ إذَا لَبِسَهُمَا ثُمَّ أَحْدَثَ، وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ: أَيْ مِنْ كُلِّ حَدَثٍ كَائِنًا أَوْ حَادِثًا عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ (قَوْلُهُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ
فَيُرَاعَى كَمَالُ الطَّهَارَةِ وَقْتَ الْمَنْعِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ نَاقِصَةً عِنْدَ ذَلِكَ كَانَ الْخُفُّ رَافِعًا (وَيَجُوزُ لِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا» قَالَ (وَابْتِدَاؤُهَا عَقِيبَ الْحَدَثِ) لِأَنَّ الْخُفَّ مَانِعٌ سِرَايَةَ الْحَدَثِ فَتُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ مِنْ وَقْتِ الْمَنْعِ.
الشَّافِعِيِّ بِاشْتِرَاطِ الْكَمَالِ وَقْتَ اللِّبْسِ، وَقَوْلُهُ حَتَّى لَوْ غَسَلَ إلَخْ تَفْرِيعٌ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ تَمْتَنِعُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِوَجْهَيْنِ: لِعَدَمِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ، وَلِعَدَمِ كَمَالِ الطَّهَارَةِ قَبْلَ اللِّبْسِ.
وَاَلَّذِي يَمْتَنِعُ عِنْدَهُ لِلثَّانِي فَقَطْ مَا لَوْ تَوَضَّأَ وَغَسَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ وَلَبِسَ الْخُفَّ ثُمَّ غَسَلَ الْأُخْرَى وَلَبِسَ خُفَّهَا. عِنْدَنَا إذَا أَحْدَثَ يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ.
وَعِنْدَهُ لَا لِعَدَمِ الْكَمَالِ وَقْتَ اللَّبْسِ (قَوْلُهُ فَيُرَاعِي كَمَالَ الطَّهَارَةِ مِنْ وَقْتِ الْمَنْعِ) لِأَنَّهُ وَقْتُ عَمَلِهِ، وَالْأَنْسَبُ أَنْ يُرَاعِيَ مُدَّتَهُ مِنْ وَقْتِ أَثَرِهِ (قَوْلُهُ يَمْسَحُ الْمُقِيمُ) فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ:«جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ» (قَوْلُهُ فَتُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ مِنْ وَقْتِ الْمَنْعِ) لِأَنَّ مَا قَبْلَ ذَلِكَ طَهَارَةُ الْوُضُوءِ وَلَا تَقْدِيرَ فِيهَا إنَّمَا التَّقْدِيرُ
(وَالْمَسْحُ عَلَى ظَاهِرِهِمَا خُطُوطًا بِالْأَصَابِعِ، يَبْدَأُ مِنْ قِبَلِ الْأَصَابِعِ إلَى السَّاقِ) لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى خُفَّيْهِ وَمَدَّهُمَا مِنْ الْأَصَابِعِ إلَى أَعْلَاهُمَا مَسْحَةً وَاحِدَةً، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى أَثَرِ الْمَسْحِ عَلَى خُفِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُطُوطًا بِالْأَصَابِعِ»
فِي التَّحْقِيقِ تَقْدِيرُ مُدَّةِ مَنْعِهِ شَرْعًا وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ.
(قَوْلُهُ يَبْدَأُ مِنْ قِبَلِ الْأَصَابِعِ إلَخْ) صُورَتُهُ أَنْ يَضَعَ أَصَابِعَ الْيُمْنَى عَلَى مُقَدَّمِ خُفِّهِ الْأَيْمَنِ وَأَصَابِعَ الْيُسْرَى عَلَى مُقَدَّمِ الْأَيْسَرِ وَيَمُدُّهُمَا إلَى السَّاقِ فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ وَيُفْرَجُ أَصَابِعَهُ، هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْمَسْنُونُ. وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلَّ مَرَّةٍ بِمَاءِ جَدِيدٍ عَلَى مَوْضِعٍ جَدِيدٍ جَازَ وَإِلَّا لَا يَجُوزُ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ وَضَعَ الْكَفَّ وَمَدّهَا مَعَ الْأَصَابِعِ كُلِّهَا حَسَنٌ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَمْسَحَ بِجَمِيعِ الْيَدِ: يَعْنِي بِأَصَابِعِهَا.
وَلَوْ مَسَحَ بِظَاهِرِ كَفِيهِ جَازَ، وَكَذَا بِرُءُوسِ الْأَصَابِعِ إذَا بَلَغَ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ. وَيَجُوزُ بِبَلَلٍ بَقِيَ فِي يَدِهِ مِنْ غَسْلِ عُضْوٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَقَاطِرًا لَا بِمَا بَقِيَ مِنْ مَسْحٍ، وَعَلَّلَهُ قَاضِي خَانْ بِأَنَّهَا بَلَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ (قَوْلُهُ لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ) وَفِيهِ مَسْحَةٌ وَاحِدَةٌ فَأَخَذُوا مِنْهُ أَنَّ تَكْرَارَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَأَيْضًا بِالتَّكَرُّرِ لَا يَبْقَى خُطُوطًا لَكِنْ قِيلَ إنَّ حَدِيثَ الْمُغِيرَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يُعْرَفُ. وَاَلَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ قَالَ «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا» وَحَسَّنَهُ لَكِنْ فِي أَوْسَطِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدَرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ يَتَوَضَّأُ فَغَسَلَ خُفَّيْهِ فَنَخَسَهُ بِرِجْلِهِ وَقَالَ: لَيْسَ هَكَذَا السُّنَّةُ أُمِرْنَا بِالْمَسْحِ هَكَذَا، وَأَمَرَّ بِيَدَيْهِ عَلَى خُفَّيْهِ وَفِي لَفْظِ ثُمَّ أَرَاهُ بِيَدِهِ مِنْ مُقَدَّمِ الْخُفَّيْنِ إلَى أَصْلِ السَّاقِ مَرَّةً وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: لَا يُرْوَى عَنْ جَابِرٍ إلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ.
وَفِي الْإِمَامِ رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ حَتَّى رُئِيَ آثَارَ أَصَابِعِهِ عَلَى خُفَّيْهِ خُطُوطًا وَرُئِيَ آثَارَ أَصَابِعِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ
ثُمَّ الْمَسْحُ عَلَى الظَّاهِرِ حَتْمٌ حَتَّى لَا يَجُوزَ عَلَى بَاطِنِ الْخُفِّ وَعَقِبِهِ وَسَاقِهِ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ فَيُرَاعَى فِيهِ جَمِيعُ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، وَالْبُدَاءَةُ مِنْ الْأَصَابِعِ اسْتِحْبَابٌ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْغَسْلُ (وَفَرْضُ ذَلِكَ مِقْدَارُ ثَلَاثِ أَصَابِعِ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ) وَقَالَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مِنْ أَصَابِعِ الرِّجْلِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ اعْتِبَارًا لِآلَةِ الْمَسْحِ.
عَلَى الْخُفِّ (قَوْلُهُ ثُمَّ الْمَسْحُ عَلَى الظَّاهِرِ) أَيْ ظَاهِرِ مَحِلِّ الْفَرْضِ وَهُوَ مُقَدَّمُ الرِّجْلِ إذَا وُجِدَ مِنْهُ قَدْرُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَلَوْ قُطِعَتْ إحْدَى رِجْلَيْهِ وَبَقِيَ مِنْهَا أَقَلُّ مِنْهُ أَوْ بَقِيَ ثَلَاثُ أَصَابِعَ لَكِنْ مِنْ الْعَقِبِ لَا مِنْ مَوْضِعِ الْمَسْحِ فَلَبِسَ عَلَى الصَّحِيحَةِ وَالْمَقْطُوعَةِ لَا يَمْسَحُ لِوُجُوبِ غَسْلِ ذَلِكَ الْبَاقِي كَمَا لَوْ قُطِعَتْ مِنْ الْكَعْبِ حَيْثُ يَجِبُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ وَلَا يُمْسَحُ (قَوْلُهُ فَيُرَاعِي جَمِيعُ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ) يَعْنِي فِي الْمَحَلِّ، وَلِذَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ مَسْحُ بَاطِنِ الْخُفِّ أَوْلَى مِنْ ظَاهِرِهِ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ: وَلِأَنَّ بَاطِنَهُ لَا يَخْلُو عَنْ لَوَثٍ عَادَةً فَيُصِيبُ يَدَهُ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاطِنِ عِنْدَهُمْ مَحِلُّ الْوَطْءِ لَا مَا يُلَاقِي الْبَشَرَةَ، لَكِنْ بِتَقْدِيرِهِ لَا تَظْهَرُ أَوْلَوِيَّةُ مَسْحِ بَاطِنِهِ لَوْ كَانَ بِالرَّأْيِ، بَلْ الْمُتَبَادِرُ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه ذَلِكَ مَا يُلَاقِي الْبَشَرَةَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ غَسْلِ الرِّجْلِ فِي الْوُضُوءِ لَيْسَ لِإِزَالَةِ الْخَبَثِ بَلْ لِلْحَدَثِ، وَمَحِلُّ الْوَطْءِ مِنْ بَاطِنِ الرِّجْلِ فِيهِ كَظَاهِرِهِ، وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِيهِ بِلَفْظِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ يَجِبُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَسْفَلِ الْوَجْهُ الَّذِي يُلَاقِي الْبَشَرَةَ لِأَنَّهُ أَسْفَلَ مِنْ الْوَجْهِ الْأَعْلَى الْمُحَاذِي لِلسَّمَاءِ لِمَا ذَكَرنَا.
ثُمَّ قَدْ يُقَالُ: إنَّهُ لَمْ يَجِبْ مُرَاعَاةُ جَمِيعِ مَا وَرَدَ بِهِ فِي مَحِلِّ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ إيقَاعُ الْبَلَّةِ عَلَى ذَلِكَ الْمَحِلِّ حَتَّى جَازَ الْبُدَاءَةُ مِنْ أَصْلِ السَّاقِ إلَى رُءُوسِ الْأَصَابِعِ، لَكِنْ يَجِبُ فِي حَقِّ الْكَمِّيَّةِ نَظَرًا إلَى ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ إلَّا بِنَصٍّ (قَوْلُهُ مِقْدَارُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ) فِي كُلِّ رِجْلٍ، فَلَوْ مَسَحَ عَلَى رِجْلٍ أُصْبُعَيْنِ وَعَلَى الْأُخْرَى قَدْرَ خَمْسَةٍ لَمْ يَجُزْ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ حُصُولِ ذَلِكَ بِيَدِهِ أَوْ بِإِصَابَةِ مَطَرٍ أَوْ مِنْ حَشِيشٍ مَشَى فِيهِ مُبْتَلٌّ وَلَوْ بِالطَّلِّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ لَا يَجُوزُ بِالطَّلِّ لِأَنَّهُ نَفَسُ دَابَّةٍ لَا مَاءً، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ تَفْرِيعٌ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لِلْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ، خِلَافًا لِمَا فِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ لِلْعَتَّابِيِّ حَيْثُ شَرَطَهَا.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ الْخُفَّ وَنَوَى بِهِ
(وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى خُفٍّ فِيهِ خَرْقٌ كَبِيرٌ يُبَيِّنُ مِنْهُ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِ الرِّجْلِ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ جَازَ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ قَلَّ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ غَسْلُ الْبَادِي وَجَبَ غَسْلُ الْبَاقِي. وَلَنَا أَنَّ الْخِفَافَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ خَرْقٍ عَادَةً فَيَلْحَقُهُمْ الْحَرَجُ فِي النَّزْعِ وَتَخْلُو عَنْ الْكَبِيرِ فَلَا حَرَجَ، وَالْكَبِيرُ أَنْ يَنْكَشِفَ قَدْرُ ثَلَاثَةِ أَصَابِعِ مِنْ أَصَابِعِ الرِّجْلِ أَصْغَرُهَا
التَّعْلِيمَ دُونَ الطَّهَارَةِ يَصِحُّ
(قَوْلُهُ فِيهِ خَرْقٌ كَبِيرٌ يَبِينُ مِنْهُ إلَخْ) يَعْنِي إذَا كَانَ فِي مَحِلِّ الْفَرْضِ مُنْفَرِجًا أَوْ يَنْفَرِجُ عِنْدَ الْمَشْيِ، فَإِنْ كَانَ شَقًّا لَا يَظْهَرُ مَا تَحْتَهُ، إنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ أَصَابِعَ أَوْ يَظْهَرُ مِنْهُ دُونَهَا وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا لَا يُمْنَعُ، وَلَوْ كَانَ فِي الْكَعْبِ لَمْ يُمْنَعْ وَإِنْ كَثُرَ كَذَا فِي الِاخْتِيَارِ. وَفِي الْفَتَاوَى: فَإِنْ كَانَ الْخَرْقُ فِي مَوْضِعِ الْعَقِبِ إنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْهُ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الْعَقِبِ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لَا يَجُوزُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ: يُمْسَحُ حَتَّى يَبْدُوَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْعَقِبِ.
ثُمَّ قَيَّدَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ كَوْنَهَا أَصْغَرَ الْأَصَابِعَ بِمَا إذَا كَانَ الْخَرْقُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْأَصَابِعِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ اُعْتُبِرَ ثَلَاثٌ مِنْهَا، فَلَوْ انْكَشَفَ الْأَكْبَرُ وَمَا يَلِيه لَا يُمْنَعُ وَإِنْ كَانَ قَدْرَ الثَّلَاثِ الْأُخَرِ، وَلَوْ كَانَ الْخَرْقُ تَحْتَ الْقَدَمِ فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ الْقَدَمِ مُنِعَ كَذَا فِي الِاخْتِيَارِ.
وَذَكَرَهُ فِي الْغَايَةِ بِلَفْظِ قِيلَ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ مَوْضِعَ الْأَصَابِعِ يُعْتَبَرُ بِأَكْثَرِهَا فَكَذَا الْقَدَمُ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا التَّعْلِيلُ لَزِمَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ قَدْرُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ أَصْغَرَهَا إلَّا إذَا كَانَ عِنْدَ أَصْغَرِهَا لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ حِينَئِذٍ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بِأَكْثَرِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصَابِعُ اُعْتُبِرَ بِأَصَابِعِ غَيْرِهِ، وَقِيلَ بِأَصَابِعِهِ لَوْ كَانَتْ قَائِمَةً (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْخِفَافَ إلَخْ) لَازِمُهُ إذَا تَأَمَّلْت مَنْعَ وُجُوبِ غَسْلِ الْبَادِي فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ عَدَمًا لِقِلَّتِهِ وَلُزُومِ الْحَرَجِ فِي اعْتِبَارِهِ إذْ غَالِبُ الْخِفَافِ لَا تَخْلُو عَنْهُ عَادَةً، وَالشَّرْعُ عَلَّقَ الْمَسْحَ بِمُسَمَّى الْخُفِّ وَهُوَ السَّاتِرُ الْمَخْصُوصُ الَّذِي تُقْطَعُ بِهِ الْمَسَافَةُ وَالِاسْمُ مُطْلَقًا يُطْلَقُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْكَبِيرِ فَإِنَّهُ إنْ تَرَكَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِاسْمِ الْخُفِّ تَقْيِيدَهُ بِمَخْرُوقٍ فَهُوَ مُرَادٌ فَلَيْسَ بِخُفِّ مُطْلَقٍ وَلِأَنَّهُ لَا تُقْطَعُ الْمَسَافَةُ بِهِ إذْ لَا يُمْكِنُ تَتَابُعُ الْمَشْيِ
هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقَدَمِ هُوَ الْأَصَابِعُ وَالثَّلَاثُ أَكْثَرُهَا فَيُقَامُ مَقَامَ الْكُلِّ، وَاعْتِبَارُ الْأَصْغَرِ لِلِاحْتِيَاطِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِدُخُولِ الْأَنَامِلِ إذَا كَانَ لَا يَنْفَرِجُ عِنْدَ الْمَشْيِ، وَيُعْتَبَرُ هَذَا الْمِقْدَارُ فِي كُلِّ خُفٍّ عَلَى حِدَةٍ فَيُجْمَعُ الْخَرْقُ فِي خُفٍّ وَاحِدٍ وَلَا يُجْمَعُ فِي خُفَّيْنِ لِأَنَّ الْخَرْقَ فِي أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ قَطْعَ السَّفَرِ بِالْآخِرِ، بِخِلَافِ النَّجَاسَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ لِأَنَّهُ حَامِلٌ لِلْكُلِّ وَانْكِشَافُ الْعَوْرَةِ نَظِيرُ النَّجَاسَةِ.
(وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ)
فِيهِ وَالْخُفُّ مُطْلَقًا مَا يُقْطَعُ بِهِ فَلَيْسَ بِهِ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ ثَلَاثُ أَصَابِعِ الْيَدِ، وَعَمَّا مَالَ إلَيْهِ السَّرَخْسِيُّ مِنْ أَنَّ ظُهُورَ قَدْرِ ثَلَاثِ أَنَامِلَ مِنْ أَصَابِعِ الرِّجْلِ يَمْنَعُ (قَوْلُهُ وَتُجْمَعُ الْخُرُوقُ) لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا دَاعِيَ إلَى جَمْعِهَا وَهُوَ اعْتِبَارُهَا كَأَنَّهَا فِي مَكَان وَاحِدٍ لَمَنْعِ الْمَسْحِ لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ فِيمَا إذَا اتَّحَدَ الْمَكَانُ حَقِيقَةٌ لِانْتِفَاءِ مَعْنَى الْخُفِّ بِامْتِنَاعِ قَطْعِ الْمَسَافَةِ الْمُعْتَادَةِ بِهِ لَا لِذَاتِهِ وَلَا لِذَاتِ الِانْكِشَافِ مِنْ حَيْثُ هُوَ انْكِشَافٌ، وَإِلَّا لَوَجَبَ الْغَسْلُ فِي الْخَرْقِ الصَّغِيرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ عِنْدَ تُفَرِّقْهَا صَغِيرَةً كَقَدْرِ الْحِمَّصَةِ والْفُولَةِ لِإِمْكَانِ قَطْعِهَا مَعَ ذَلِكَ وَعَدَمِ وُجُوبِ غَسْلِ الْبَادِي.
(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ) قِيلَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعُ النَّفْيِ فَلَا
لِحَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا إذَا كُنَّا سَفْرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا إلَّا عَنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ نَوْمٍ» وَلِأَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تُكَرَّرُ عَادَةً فَلَا حَرَجَ فِي النَّزْعِ، بِخِلَافِ الْحَدَثِ لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ.
(وَيَنْقُضُ الْمَسْحَ كُلُّ شَيْءٍ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ) لِأَنَّهُ بَعْضُ الْوُضُوءِ (وَيَنْقُضُهُ أَيْضًا نَزْعُ الْخُفِّ) لِسِرَايَةِ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ حَيْثُ زَالَ الْمَانِعُ، وَكَذَا نَزْعُ أَحَدِهِمَا لِتَعْذِرْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ فِي وَظِيفَةٍ وَاحِدَةٍ
حَاجَةَ إلَى التَّصْوِيرِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إذَا أَجْنَبَ وَقَدْ لَبِسَ عَلَى وُضُوءٍ وَجَبَ نَزْعُ خُفَّيْهِ وَغَسْلُ رِجْلَيْهِ.
وَقِيلَ صُورَتُهُ مُسَافِرٌ أَجْنَبَ وَلَا مَاءَ عِنْدَهُ فَتَيَمَّمَ وَلَبِسَ ثُمَّ أَحْدَثَ وَوَجَدَ مَاءً يَكْفِي وُضُوءَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ سَرَتْ إلَى الْقَدَمَيْنِ، وَالتَّيَمُّمُ لَيْسَ بِطَهَارَةٍ كَامِلَةٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ إذَا لَبِسَهُمَا عَلَى طَهَارَتِهِ فَيَنْزِعُهُمَا وَيَغْسِلُهُمَا، فَإِذَا فَعَلَ وَلَبِسَ ثُمَّ أَحْدَثَ وَعِنْدَهُ مَاءٌ يَكْفِي الْوُضُوءَ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ لِأَنَّ هَذَا الْحَدَثَ يَمْنَعُهُ الْخُفُّ السِّرَايَةَ لِوُجُودِهِ بَعْدَ اللِّبْسِ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ، فَلَوْ مَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَاءٍ كَثِيرٍ عَادَ جُنُبًا، فَإِذَا لَمْ يَغْتَسِلْ حَتَّى فَقْدَهُ تَيَمَّمَ لَهُ، فَلَوْ أَحْدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ وَعِنْدَهُ مَاءٌ لِلْوُضُوءِ تَوَضَّأَ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ لِأَنَّهُ عَادَ جُنُبًا، فَإِنْ أَحْدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ وَعِنْدَهُ مَاءٌ لِلْوُضُوءِ فَقَطْ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ، وَعَلَى هَذَا تَجْرِي الْمَسَائِلُ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ إنَّمَا تَزِيدُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا بِإِفَادَةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الْمَسْحِ كَوْنُ اللِّبْسِ عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ لَا طَهَارَةِ التَّيَمُّمِ مُعَلِّلًا بِأَنَّ طَهَارَةَ التَّيَمُّمِ لَيْسَتْ كَامِلَةً، فَإِنْ أُرِيدَ بِعَدَمِ كَمَالِهَا عَدَمُ الرَّفْعِ عَنْ الرِّجْلَيْنِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ أُرِيدَ عَدَمُ إصَابَةِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوَظِيفَةِ حِسًّا فَيَمْنَعُ تَأْثِيرُهُ فِي نَفْيِ الْكَمَالِ الْمُعْتَبَرِ فِي الطَّهَارَةِ الَّتِي يُعْقِبُهَا اللِّبْسُ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ بِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ مَنْ فَعَلَهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ، وَلَمْ يَرِدْ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام مَا يُوَسِّعُ مَوْرِدَهُ فَيَلْزَمُ فِيهِ الْمَاءُ قَصْرًا عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ صَرِيحُ مَنْعِهِ لِلْجَنَابَةِ (قَوْلُهُ لِحَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ) رَوَى النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا إذَا كُنَّا
(وَكَذَا مُضِيُّ الْمُدَّةِ) لِمَا رَوَيْنَا (وَإِذَا تَمُتْ الْمُدَّةُ نَزَعَ خُفَّيْهِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ وَصَلَّى وَلَيْسَ عَلَيْهِ إعَادَةُ بَقِيَّةِ الْوُضُوءِ) وَكَذَا إذَا نَزَعَ قَبْلَ الْمُدَّةِ لِأَنَّ عِنْدَ النَّزْعِ يَسْرِي الْحَدَثُ السَّابِقُ إلَى الْقَدَمَيْنِ كَأَنَّهُ لَمْ يَغْسِلْهُمَا، وَحُكْمُ النَّزْعِ يَثْبُتُ بِخُرُوجِ الْقَدَمِ إلَى السَّاقِ لِأَنَّهُ
سَفْرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ».
(قَوْلُهُ وَإِذَا تَمَّتْ الْمُدَّةُ نَزَعَ خُفَّيْهِ) لِسَرَيَانِ الْحَدَثِ إلَى الرِّجْلَيْنِ (وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إعَادَةُ بَقِيَّةِ الْوُضُوءِ) لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْوُضُوءِ فَيَنْضَمُّ غَسْلُهُمَا إلَى الْغَسْلِ السَّابِقِ لِلْأَعْضَاءِ فَيَكْمُلُ الْوُضُوءُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا حَدَثَ لِيَسْرِيَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ حَلَّ بِالْخُفِّ ثُمَّ زَالَ بِالْمَسْحِ فَلَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبِهِ مِنْ الْخَارِجِ النَّجِسِ وَنَحْوِهِ، قُلْنَا: جَازَ أَنْ يَعْتَبِرَ الشَّرْعُ ارْتِفَاعَ الْحَدَثِ بِمَسْحِ الْخُفِّ مُقَيَّدًا بِمُدَّةِ مَنْعِهِ، ثُمَّ عَلِمْنَا وُقُوعَ مِثْلِهِ فِي التَّيَمُّمِ حَيْثُ اُعْتُبِرَ فِي ارْتِفَاعِهِ بِاسْتِعْمَالِ الصَّعِيدِ تَقَيُّدَهُ بِمُدَّةِ اعْتِبَارِهِ عَامِلًا: أَعْنِي مُدَّةَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ، وَيُنَاسِبُ أَنَّ ذَلِكَ لِوَصْفِ الْبَدَلِيَّةِ وَهُوَ فِي الْمَسْحِ ثَابِتٌ بَلْ هُوَ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ، فَإِنَّ الْمَسْحَ وَإِنْ كَانَ بِالْمَاءِ لَكِنَّهُ بَدَلٌ عَنْ وَظِيفَةِ الْغَسْلِ وَالْخُفُّ عَنْ الرِّجْلِ فَوَجَبَ تَقَيُّدُ الِارْتِفَاعِ فِيهِ بِمُدَّةِ اعْتِبَارِهِ بَدَلًا يُفِيدُ مَا يُفِيدُهُ الْأَصْلُ كَمَا تَقَيَّدَ فِي التَّيَمُّمِ بِمُدَّةِ كَوْنِهِ بَدَلًا يُفِيدُ مَا يُفِيدُهُ الْأَصْلُ، هَذَا مَعَ أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الِاحْتِيَاطِ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَوْ تَمَّتْ الْمُدَّةُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا مَاءَ يَمْضِي عَلَى الْأَصَحِّ فِي صَلَاتِهِ
لَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي حَقِّ الْمَسْحِ، وَكَذَا بِأَكْثَرِ الْقَدَمِ هُوَ الصَّحِيحُ.
(وَمَنْ ابْتَدَأَ الْمَسْحَ وَهُوَ مُقِيمٌ فَسَافَرَ قَبْلَ تَمَامِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
إذْ لَا فَائِدَةَ فِي النَّزْعِ لِأَنَّهُ لِلْغُسْلِ وَلَا مَاءَ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ تَفْسُدُ انْتَهَى. لَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ صِحَّةُ هَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدَّرَ مَنْعَ الْخُفِّ بِمُدَّةٍ فَيَسْرِي الْحَدَثُ بَعْدَهَا إذْ لَا بَقَاءَ لَهَا مَعَ الْحَدَثِ، فَكَمَا يَقْطَعُ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ لِيَغْسِلَ رِجْلَيْهِ يَقْطَعُ عِنْدَ عَدَمِهِ لِيَتَيَمَّمَ لَا لِلرِّجْلَيْنِ فَقَطْ لِيَلْزَمَ رَفْوُ الْأَصْلِ بِالْخَلَفِ بَلْ لِلْكُلِّ لِأَنَّ الْحَدَثَ لَا يَتَجَزَّأُ فَيَصِيرُ مُحْدِثًا بِحَدَثِ الْقَدَمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى غَسْلِهِمَا ارْتَفَعَ كَمَنْ غَسَلَ ابْتِدَاءً الْأَعْضَاءَ إلَّا رِجْلَيْهِ وَفَنِيَ الْمَاءُ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ لَا لِلرِّجْلَيْنِ فَقَطْ وَإِلَّا لَكَانَ جَمْعُ الْخَلَفِ وَالْأَصْلِ ثَابِتًا فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ بَلْ لِلْحَدَثِ الْقَائِمِ بِهِ فَإِنَّهُ عَلَى حَالِهِ مَا لَمْ يُتِمَّ الْكُلَّ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّيَمُّمَ إنْ لَمْ يُصِبْ الرِّجْلَ حِسًّا لَكِنَّهُ يُصِيبُهَا حُكْمُ الطَّهَارَةِ عِنْدَهُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يَصْلُحُ عَدَمُ الْمَاءِ مَانِعًا السِّرَايَةَ بَعْدَ تَمَامِ الْمُدَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا غَايَةً لَمَنْعِهِ.
وَعَلَى هَذَا فَمَا ذُكِرَ فِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ وَالْمُحِيطِ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا يَنْزِعُ إذَا تَمَّتْ إذَا لَمْ يَخَفْ ذَهَابَهُمَا مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ فَإِنْ خَافَهُ فَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ مُطْلَقًا فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ خَوْفَ الْبَرْدِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي مَنْعِ السِّرَايَةِ، كَمَا أَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ لَا يَمْنَعُهَا، فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَا يَنْزِعُ لَكِنْ لَا يَمْسَحُ بَلْ يَتَيَمَّمُ لِخَوْفِ الْبَرْدِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَعَنْ هَذَا نَقَلَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ تَأْوِيلَ الْمَسْحِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّهُ مَسْحُ جَبِيرَةٍ لَا كَمَسْحِ الْخُفِّ، فَعَلَى هَذَا يَسْتَوْعِبَ الْخُفَّ عَلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى أَوْ أَكْثَرُهُ، وَهُوَ غَيْرُ الْمَفْهُومِ مِنْ اللَّفْظِ الْمُؤَوَّلِ مَعَ أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَ مُسَمَّى الْجَبِيرَةِ يَصْدُقُ عَلَى سَاتِرٍ لَيْسَ تَحْتَهُ مَحَلُّ وَجَعٍ بَلْ عُضْوٌ صَحِيحٌ غَيْرَ أَنَّهُ يَخَافُ مِنْ كَشْفِهِ حُدُوثَ الْمَرَضِ لِلْبَرْدِ، وَيَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ كُلِّيَّةِ مَسْأَلَةِ التَّيَمُّمِ بِخَوْفِ الْبَرْدِ عَلَى عُضْوٍ وَاسْوِدَادِهِ، وَيَقْتَضِي أَيْضًا عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَازُ تَرْكِهِ رَأْسًا وَهُوَ خِلَافُ مَا يُفِيدُهُ إعْطَاؤُهُمْ حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ، هَذَا وَيَنْقُضُ الْمَسْحَ أَيْضًا غَسْلُ أَكْثَرِ الرِّجْلِ، وَفِيهِ مِنْ الْبَحْثِ مَا سَمِعْت مِمَّا قَدَّمْنَاهُ (قَوْلُهُ وَكَذَا بِأَكْثَرِ الْقَدَمِ هُوَ الصَّحِيحُ) هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَعَنْهُ فِي الْإِمْلَاءِ بِخُرُوجِ نِصْفِهِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ إنْ كَانَ الْبَاقِي قَدْرَ مَحِلِّ الْفَرْضِ: أَعْنِي ثَلَاثَةَ أَصَابِعِ الْيَدِ لَا يُنْتَقَضُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ خَرَجَ أَكْثَرُ الْعَقِبِ: يَعْنِي إذَا أَخْرَجَهُ قَاصِدًا إخْرَاجَ الرِّجْلِ بَطَلَ الْمَسْحُ حَتَّى لَوْ بَدَا لَهُ إعَادَتُهَا
مَسَحَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا) عَمَلًا بِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْوَقْتِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ آخِرَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَكْمَلَ الْمُدَّةَ لِلْإِقَامَةِ ثُمَّ سَافَرَ لِأَنَّ الْحَدَثَ قَدْ سَرَى إلَى الْقَدَمِ وَالْخُفُّ لَيْسَ بِرَافِعٍ (وَلَوْ أَقَامَ وَهُوَ مُسَافِرٌ إنْ اسْتَكْمَلَ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ نَزَعَ) لِأَنَّ رُخْصَةَ السَّفَرِ لَا تَبْقَى بِدُونِهِ (وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْ أَتَمَّهَا) لِأَنَّ هَذِهِ مُدَّةُ الْإِقَامَةِ وَهُوَ مُقِيمٌ.
قَالَ (وَمَنْ لَبِسَ الْجُرْمُوقَ فَوْقَ الْخُفِّ مَسَحَ عَلَيْهِ) خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ رحمه الله فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْبَدَلُ لَا يَكُونُ لَهُ بَدَلٌ.
فَأَعَادَهَا لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ أَعْرَجُ يَمْشِي عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ وَقَدْ ارْتَفَعَ عَقِبُهُ عَنْ مَوْضِعِ عَقِبِ الْخُفِّ إلَى السَّاقِ لَا يَمْسَحُ، وَإِلَى مَا دُونَهُ يَمْسَحُ.
أَمَّا لَوْ كَانَ الْخُفُّ وَاسِعًا يَرْتَفِعُ الْعَقِبُ بِرَفْعِ الرِّجْلِ إلَى السَّاقِ وَيَعُودُ بِوَضْعِهَا فَلَا يُمْنَعُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ الْبَاقِي بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ فِيهِ فَكَذَلِكَ لَا يُنْتَقَضُ، وَهَذَا فِي التَّحْقِيقِ هُوَ مَرْمَى نَظَرِ الْكُلِّ، فَمَنْ نَقَضَ بِخُرُوجِ الْعَقِبِ لَيْسَ إلَّا لِأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مَعَ حُلُولِ الْعَقِبِ بِالسَّاقِ لَا يُمْكِنُهُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ فِيهِ وَقَطْعُ الْمَسَافَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ تَعُودُ إلَى مَحِلِّهَا عِنْدَ الْوَضْعِ، وَمَنْ قَالَ بِالْأَكْثَرِ فَلِظَنِّهِ أَنَّ الِامْتِنَاعَ مَنُوطٌ بِهِ وَكَذَا مَنْ قَالَ بِكَوْنِ الْبَاقِي قَدْرَ الْفَرْضِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ إنَّمَا تُبْنَى عَلَى الْمُشَاهَدَةِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَوْلَى لِأَنَّ بَقَاءَ الْعَقِبِ فِي السَّاقِ يُقْلِقُ عَنْ مُدَاوَمَةِ الْمَشْيِ دَوْسًا عَلَى السَّاقِ نَفْسِهِ.
(قَوْلُهُ مَسَحَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا) سَوَاءٌ سَافَرَ قَبْلَ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ كَمَالِ مُدَّةِ الْمُقِيمِ، وَفِي الثَّانِي خِلَافُ الشَّافِعِيِّ. لَنَا الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ» الْحَدِيثَ، وَهَذَا مُسَافِرٌ فَيَمْسَحُهَا، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ كَمَالُ مُدَّةِ الْمُقِيمِ لِأَنَّ الْحَدَثَ قَدْ سَرَى إلَى الْقَدَمِ، وَإِنَّمَا يُمْسَحُ عَلَى خُفِّ رِجْلٍ لَا حَدَثَ فِيهَا إجْمَاعًا، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ اُبْتُدِئَتْ حَالَةَ الْإِقَامَةِ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا حَالَةُ الِابْتِدَاءِ كَصَلَاةٍ ابْتَدَأَهَا مُقِيمًا فِي سَفِينَةٍ فَسَافَرَتْ وَصَوْمٍ شَرَعَ فِيهِ مُقِيمًا فَسَافَرَ حَيْثُ يُعْتَبَرُ فِيهِ حُكْمُ الْإِقَامَةِ فَغَنِيٌّ عَنْ تُكَلِّفْ الْفَرْقِ لِعَدَمِ ظُهُورِ وَجْهِ الْجَمْعِ بِالْمُشْتَرِكِ الْمُؤَثَّرِ فِي الْحُكْمِ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ لَبِسَ الْجُرْمُوقَ فَوْقَ الْخُفِّ مَسَحَ عَلَيْهِ) إذَا لَبِسَهُمَا قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ، فَإِنْ أَحْدَثَ قَبْلَهُ وَهُوَ لَابِسٌ الْخُفَّ
وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «مَسَحَ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ» وَلِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْخُفِّ اسْتِعْمَالًا وَغَرَضًا فَصَارَا كَخُفٍّ ذِي طَاقَيْنِ وَهُوَ بَدَلٌ عَنْ الرِّجْلِ لَا عَنْ الْخُفِّ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَبِسَ الْجُرْمُوقَ بَعْدَمَا أَحْدَثَ لِأَنَّ الْحَدَثَ حَلَّ بِالْخُفِّ فَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ الْجُرْمُوقُ مِنْ كِرْبَاسَ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ بَدَلًا عَنْ الرِّجْلِ إلَّا أَنْ تَنْفُذَ الْبَلَّةُ إلَى الْخُفِّ.
(وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إلَّا أَنْ يَكُونَا مُجَلَّدَيْنِ أَوْ مُنَعَّلَيْنِ،
لَا يَجُوزُ لِأَنَّ وَظِيفَةَ الْمَسْحِ اسْتَقَرَّتْ لِلْخُفِّ لِحُلُولِ الْحَدَثِ بِهِ فَلَا يُزَالُ بِمَسْحِ غَيْرِهِ، وَكَذَا لَوْ لَبِسَ الْمُوقَيْنِ قَبْلَ الْحَدَثِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَمَسَحَ خُفَّيْهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَسَحَ فِي غَيْرِ مَحِلِّ الْحَدَثِ، وَلَوْ نَزَعَ أَحَدَ مُوقَيْهِ بَعْدَ الْمَسْحِ عَلَيْهِمَا وَجَبَ مَسْحُ الْخُفِّ الْبَادِي وَإِعَادَةُ الْمَسْحِ عَلَى الْمُوقِ لِانْتِقَاضِ وَظِيفَتِهِمَا كَنَزْعِ أَحَدِ الْخُفَّيْنِ. وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْأَصْلِ: يُنْزَعُ الْآخَرُ وَيَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ لَوْ لَبِسَ عَلَى أَحَدِهِمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْخُفِّ الْآخَرَ، فَكَذَا هَذَا بِخِلَافِ خُفٍّ ذِي طَاقَيْنِ فَمَسَحَ عَلَى الْعُلْيَا ثُمَّ نَزَعَهَا لَيْسَ عَلَيْهِ مَسْحُ السُّفْلَى لِلْوِحْدَةِ الْحَقِيقَةِ فَهُوَ كَقِشْرِ جَلْدَةِ خُفٍّ مَسَحَ عَلَيْهَا أَوْ حَلَقَ شَعْرَهُ فَإِنَّهُ لَا يُعِيدُ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ بِلَالٍ قَالَ «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ عَلَى الْمُوقَيْنِ وَالْخِمَارِ» وَلِأَبِي دَاوُد «كَانَ يَخْرُجُ فَيَقْضِي حَاجَتَهُ فَآتِيهِ بِالْمَاءِ فَيَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَمُوقَيْهِ» قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَالْمُطَرِّزِيُّ: الْمُوقُ خُفٌّ قَصِيرٌ يُلْبَسُ فَوْقَ الْخُفِّ، وَهُوَ فَارِسِيٌّ مُعْرَبٌ، ثُمَّ أَلْحَقَهُ بِخُفٍّ ذِي طَاقَيْنِ.
وَأَجَابَ عَنْ اعْتِبَارِهِ بَدَلَ الْخُفِّ الْمُسْتَلْزِمِ نَصْبَ الْإِبْدَالِ بِالرَّأْيِ، وَوَجْهُ الْإِلْحَاقِ بِالْخُفِّ وَالْجَوَابُ ظَاهِرٌ فِي الْكِتَابِ.
(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ)
وَقَالَا: يَجُوزُ إذَا كَانَا ثَخِينَيْنِ لَا يَشِفَّانِ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ عَلَى جَوْرَبَيْهِ» ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ فِيهِ إذَا كَانَ ثَخِينًا، وَهُوَ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى السَّاقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرْبَطَ بِشَيْءٍ فَأَشْبَهَ الْخُفَّ. وَلَهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْخُفِّ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مُوَاظَبَةُ الْمَشْيِ فِيهِ إلَّا إذَا كَانَ مُنَعَّلًا وَهُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ، وَعَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِهِمَا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى (وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَالْبُرْقُعِ وَالْقُفَّازَيْنِ) لِأَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي نَزْعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَالرُّخْصَةُ لَدَفْعِ الْحَرَجِ.
(وَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ
وَلَا يُعَارَضُ بِالْحَدِيثِ فَإِنَّهُ حِكَايَةُ حَالِ لَا تَعُمُّ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُوقِ الصَّالِحِ بَدَلًا عَنْ الرِّجْلِ لِكَوْنِهِ كَالْخُفِّ فِي الْمَقْصُودِ مِنْهُ (قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْخُفِّ) لَا شَكَّ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَصْلُحُ إلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ إلَّا إذَا كَانَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَاهُ، وَمَعْنَاهُ السَّاتِرُ لِمَحِلِّ الْفَرْضِ الَّذِي هُوَ بِصَدَدِ مُتَابَعَةِ الْمَشْيِ فِيهِ فِي السَّفَرِ وَغَيْرِهِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ تَعْلِيقَ الْمَسْحِ بِالْخُفِّ لَيْسَ لِصُورَتِهِ الْخَاصَّةِ بَلْ لِمَعْنَاهُ لِلُزُومِ الْحَرَجِ فِي النَّزْعِ الْمُتَكَرِّرِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ خُصُوصًا مَعَ آدَابِ السَّيْرِ، فَإِذَا جَازَ بِالِاتِّفَاقِ الْمَسْحُ عَلَى الْمُكَعَّبِ السَّاتِرِ لِلْكَعْبِ، وَفِي الِاخْتِيَارِ: وَكَذَا إذَا كَانَتْ مُقَدَّمَتُهُ مَشْقُوقَةً إذَا كَانَتْ مَشْدُودَةً أَوْ مَزْرُورَةً لِأَنَّهَا كَالْمَخْرُوزَةِ، فَوَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْمُنَعَّلِ مِنْ الْجَوْرَبِ فَلْيَكُنْ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ لِأَنَّهَا وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا، هَذَا إنْ صَحَّ كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ
وَإِنْ شَدَّهَا عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام فَعَلَهُ وَأَمَرَ عَلِيًّا بِهِ، وَلِأَنَّ الْحَرَجَ فِيهِ فَوْقَ الْحَرَجِ فِي نَزْعِ الْخُفِّ فَكَانَ أَوْلَى بِشَرْعِ الْمَسْحِ، وَيَكْتَفِي بِالْمَسْحِ عَلَى أَكْثَرِهَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ رضي الله عنه،
فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ» وَإِلَّا فَقَدْ نُقِلَ تَضْعِيفُهُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَابْنِ مَهْدِي وَمُسْلِمٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: كُلٌّ مِنْهُمْ لَوْ انْفَرَدَ قُدِّمَ عَلَى التِّرْمِذِيِّ مَعَ أَنَّ الْجَرْحَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ وَوَقَعَ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ يُمْكِنُ تَحْقِيقُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهِ بِلَا نَعْلٍ مَعَ أَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَتَحَقَّقَ كَذَلِكَ، فَتَخْصِيصُ الْجَوَازِ بِوُجُودِ النَّعْلِ حِينَئِذٍ قَصْرٌ لِلدَّلِيلِ، أَعْنِي الْحَدِيثَ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى مُقْتَضَاهُ بِغَيْرِ سَبَبٍ فَلِذَا رَجَعَ الْإِمَامُ إلَى قَوْلِهِمَا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ وَأَمَرَ عَلِيًّا بِهِ) أَمَّا فَعَلَهُ فَرِوَايَةُ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْجَبَائِرِ» وَضَعَّفَهُ بِأَبِي عُمَارَةَ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ: وَلَا يَصِحُّ هَذَا، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ الْمَسْحُ عَلَى الْعِصَابَةِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَسَاقَ بِسَنَدِهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ تَوَضَّأَ وَكَفُّهُ مَعْصُوبَةٌ فَمَسَحَ عَلَيْهَا وَعَلَى الْعِصَابَةِ وَغَسَلَ سِوَى ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَافِظُ: هُوَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ صَحِيحٌ، وَالْمَوْقُوفُ فِي هَذَا كَالْمَرْفُوعِ لِأَنَّ الْأَبْدَالَ لَا تُنْصَبُ بِالرَّأْيِ، وَأَمَّا أَمْرُهُ عَلِيًّا بِهِ فَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ «عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ انْكَسَرَتْ إحْدَى زَنْدَيَّ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَنِي أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ» فِي إسْنَادِهِ عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ الْوَاسِطِيُّ مَتْرُوكٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ اتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِهِ.
قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: انْكَسَرَتْ إحْدَى زَنْدَيِّ عَلِيٍّ صَوَابُهُ كُسِرَ أَحَدُ زَنْدَيْهِ لِأَنَّ الزَّنْدَ مُذَكَّرٌ وَالزَّنْدَانِ عَظْمًا السَّاعِدِ. ثُمَّ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي صِفَةِ الْمَسْحِ، فَقِيلَ وَاجِبٌ عِنْدَهُمَا مُسْتَحَبٌّ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْعُذْرَ أَسْقَطَ وَظِيفَةَ الْمَحِلِّ، وَقِيلَ وَاجِبٌ عِنْدَهُ فَرْضٌ عِنْدَهُمَا لِانْتِقَالِ الْوَظِيفَةِ إلَى الْحَائِلِ.
وَلَهُ أَنَّ النَّصَّ أَوْجَبَهَا فِي مَحِلٍّ فَلَا تَجُوزُ فِي آخَرَ إلَّا بِنَصٍّ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِمِثْلِهِ كَخَبَرِ مَسْحِ الْخُفِّ وَلَيْسَ ذَاكَ فِي مَسْحِ الْجَبِيرَةِ فَاعْتُبِرْنَاهُ
وَلَا يَتَوَقَّتُ لِعَدَمِ التَّوْقِيتِ بِالتَّوْقِيتِ (وَإِنْ سَقَطَتْ الْجَبِيرَةُ عَنْ غَيْرِ بُرْءٍ لَا يَبْطُلُ الْمَسْحُ) لِأَنَّ الْعُذْرَ قَائِمٌ وَالْمَسْحُ عَلَيْهَا كَالْغَسْلِ لِمَا تَحْتَهَا مَا دَامَ الْعُذْرُ بَاقِيًا (وَإِنْ سَقَطَتْ عَنْ بُرْءٍ بَطَلَ) لِزَوَالِ الْعُذْرِ، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ اسْتَقْبَلَ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ دُونَ فَسَادِ الصَّلَاةِ بِتَرْكِهِ. وَقِيلَ الْخِلَافُ فِي الْمَجْرُوحِ، أَمَّا الْمَكْسُورُ فَيَجِبُ فِيهِ اتِّفَاقًا وَكَأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْمَسْحِ عَنْ عَلِيٍّ فِي الْمَكْسُورِ.
وَقِيلَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ، فَقَوْلُهُمَا بِعَدَمِ جَوَازِ تَرْكِهِ فِيمَنْ لَا يَضُرُّهُ الْمَسْحُ، وَقَوْلُهُ بِجَوَازِهِ فِيمَنْ يَضُرُّهُ، وَظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَلِأَنَّ الْحَرَجَ فِيهِ فَوْقَ الْحَرَجِ فِي نَزْعِ الْخُفِّ فَكَانَ أَوْلَى بِشَرْعِيَّةِ الْمَسْحِ أَنَّهُ مِمَّا يَثْبُتُ بِالدَّلَالَةِ فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ فَرْضًا لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ فَرْضٌ إنْ لَمْ يُنْزَعْ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ لِجَوَازِ السُّقُوطِ رَأْسًا بِالْعُذْرِ كَمَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ بِهِ لَوْلَا الْوَارِدُ فِي هَذَا مِنْ الْآحَادِ الْمُوجِبَةِ لِانْتِقَالِ الْوَظِيفَةِ إلَى الْحَائِلِ مَسْحًا وَغَايَتُهُ الْوُجُوبُ، فَعَدَمُ الْفَسَادِ بِتَرْكِهِ أَقْعَدُ بِالْأُصُولِ، فَلِذَا قَالَ الْقُدُورِيُّ فِي التَّجْرِيدِ الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَقَوْلُهُ فِي الْخُلَاصَةِ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ إلَى قَوْلِهِمَا لَمْ يَشْتَهِرْ شُهْرَةَ نَقِيضِهِ عَنْهُ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ مَعْنَى مَا قِيلَ إنَّ عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ.
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ: الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَشَرْحِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ عِنْدَهُ، ثُمَّ الْمَسْحُ عَلَيْهَا إنَّمَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يَضُرُّهُ الْغَسْلُ أَوْ الْمَسْحُ عَلَى نَفْسِ الْقُرْحَةِ وَالْجِرَاحَةِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَضُرَّهُ بِالْمَاءِ الْحَارِّ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ، وَإِذَا زَادَتْ الْجَبِيرَةُ عَلَى نَفْسِ الْجِرَاحَةِ فَإِنْ ضَرَّهُ الْحَلُّ وَالْمَسْحُ مَسَحَ عَلَى الْكُلِّ تَبَعًا مَعَ الْقُرْحَةِ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّاهُ غَسَلَ مَا حَوْلِهَا وَمَسَحَهَا نَفْسَهَا، وَإِنْ ضَرَّهُ الْمَسْحُ لَا الْحَلُّ يَمْسَحُ عَلَى الْخِرْقَةِ الَّتِي عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ وَيَغْسِلُ مَا حَوْلَهَا تَحْتَ الْخِرْقَةِ الزَّائِدَةِ إذْ الثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَلَمْ أَرَ لَهُمْ مَا إذَا ضَرَّهُ الْحَلُّ لَا الْمَسْحُ لِظُهُورِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَمْسَحُ عَلَى الْكُلِّ، وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي الْعِصَابَةِ إنْ ضَرَّهُ مَسَحَ عَلَيْهَا كُلَّهَا، وَمِنْ ضَرَرِ الْحَلِّ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَان لَا يَقْدِرُ عَلَى رَبْطِهَا بِنَفْسِهِ وَلَا يَجِدُ مَنْ يَرْبِطُهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجُرْحِ وَالْقُرْحَةِ وَالْكَيِّ وَالْكَسْرِ، وَلَوْ انْكَسَرَ ظُفْرُهُ فَجَعَلَ عَلَيْهِ دَوَاءً أَوْ عَلْكًا أَوْ أَدْخَلَهُ جَلْدَةَ مَرَارَةٍ أَوْ مَرْهَمًا، فَإِنْ كَانَ يَضُرُّهُ نَزْعُهُ مَسَحَ عَلَيْهِ وَإِنْ ضَرَّهُ الْمَسْحُ تَرَكَهُ، وَإِنْ كَانَ بِأَعْضَائِهِ شُقُوقٌ أَمَرَّ عَلَيْهَا الْمَاءَ إنْ قَدَرَ، وَإِلَّا مَسَحَ عَلَيْهَا إنْ قَدَرَ، وَإِلَّا تَرَكَهَا وَغَسَلَ مَا حَوْلَهَا (قَوْلُهُ كَالْغَسْلِ لِمَا تَحْتَهَا مَا دَامَ الْعُذْرُ قَائِمًا) وَلِهَذَا لَوْ مَسَحَ عَلَى عِصَابَةٍ فَسَقَطَتْ فَأَخَذَ أُخْرَى لَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ الْأَحْسَنُ نَقَلَهُ فِي الْخُلَاصَةِ وَلِهَذَا أَيْضًا لَوْ مَسَحَ عَلَى خِرَقِ رِجْلِهِ الْمَجْرُوحَةِ وَغَسَلَ الصَّحِيحَةَ وَلَبِسَ الْخُفَّ عَلَيْهَا ثُمَّ أَحْدَثَ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيَنْزِعُ الْخُفَّ لِأَنَّ الْمَجْرُوحَةَ مَغْسُولَةٌ حُكْمًا، وَلَا تَجْتَمِعُ الْوَظِيفَتَانِ فِي الرِّجْلَيْنِ.
قَالَ فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ: وَعَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ تَرْكَ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ وَهُوَ
بَابُ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ
(أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، وَمَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ)
لَا يَضُرُّهُ يَجُوزُ، يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ غَسْلُ الْمَجْرُوحَةِ صَارَتْ كَالذَّاهِبَةِ، هَذَا إذَا لَبِسَ الْخُفَّ عَلَى الصَّحِيحَةِ لَا غَيْرَ، فَإِنْ لَبِسَ عَلَى الْجَرِيحَةِ أَيْضًا بَعْدَمَا مَسَحَ عَلَى جَبِيرَتِهَا فَإِنَّهُ يَمْسَحُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهَا كَغَسْلِ مَا تَحْتَهَا.
(بَابُ الْحَيْضِ)
قِيلَ هُوَ دَمٌ يَنْفُضُهُ رَحِمُ امْرَأَةٍ سَلِيمَةٍ مِنْ الدَّاءِ وَالصِّغَرِ، فَقَيْدُ الرَّحِمِ يُخْرِجُ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ وَالْجِرَاحِ، وَالسَّلِيمَةُ مِنْ الدَّاءِ يُخْرِجُ النِّفَاسَ لِأَنَّ النُّفَسَاءَ فِي حُكْمِ الْمَرِيضَةِ وَلِذَا اُعْتُبِرَ تَبَرُّعَاتُهَا مِنْ الثُّلُثِ، وَحِينَئِذٍ لَفْظُ الصِّغَرِ مُسْتَدْرَكٌ لِأَنَّ الْخَارِجَ فِي الصِّغَرِ اسْتِحَاضَةٌ، وَقَدْ خَرَجَ بِالرَّحِمِ لِأَنَّهُ دَمُ عِرْقٍ لَا رَحِمَ، وَأَيْضًا يَتَكَرَّرُ إخْرَاجُ الِاسْتِحَاضَةِ لِأَنَّ السَّلِيمَةَ مِنْ الدَّاءِ يُخْرِجُهُ كَمَا يُخْرِجُهُ الْأَوَّلُ، وَتَعْرِيفُهُ بِلَا اسْتِدْرَاكٍ وَلَا تَكَرُّرِ دَمٍ مِنْ الرَّحِمِ لَا لِوِلَادَةٍ، ثُمَّ هَذَا التَّعْرِيفُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الْحَيْضِ خَبَثٌ، أَمَّا إنْ كَانَ مُسَمَّاهُ الْحَدَثُ الْكَائِنُ عَنْ الدَّمِ الْمُحَرِّمِ لِلتِّلَاوَةِ وَالْمَسِّ كَاسْمِ الْجَنَابَةِ لِلْحَدَثِ الْخَاصِّ لَا لِلْمَاءِ الْخَاصِّ، فَتَعْرِيفُهُ مَانِعِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ بِسَبَبِ الدَّمِ الْمَذْكُورِ عَمَّا اشْتَرَطَ فِيهِ الطَّهَارَةُ وَعَنْ الصَّوْمِ وَالْمَسْجِدِ وَالْقُرْبَانِ وَالْمُعَرِّفُ لِخُرُوجِهِ مِنْ الرَّحِمِ بَعْدَ خُرُوجِهِ حِسًّا مِنْ الْفَرْجِ مَعَ عَدَمِ الصِّغَرِ وَالْحَبَلِ تَقَدَّمَ نِصَابُ الطُّهْرِ وَعَدَمُ نُقْصَانِهِ عَنْ الْأَقَلِّ، وَأَمَّا زِيَادَتُهُ عَلَى الْأَكْثَرِ بَعْدَ بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ فَالزَّائِدُ فِيهِ اسْتِحَاضَةٌ
فَالِامْتِدَادُ الْخَاصُّ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْعَوَارِضِ مُعَرَّفٌ لَهُ بِالضَّرُورَةِ، وَعَدَمُ الصِّغَرِ يُعْرَفُ بِتَقْدِيرِ أَدْنَى مُدَّةٍ يُحْكَمُ بِبُلُوغِهَا فِيهَا إذَا رَأَتْ الدَّمَ، وَاخْتُلِفَ فِيهَا فَقِيلَ سِتٌّ وَقِيلَ سَبْعٌ وَقِيلَ تِسْعٌ وَقِيلَ اثْنَتَا عَشْرَةَ، وَالْمُخْتَارُ تِسْعٌ، وَأَلْوَانُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ التُّرَابِيَّةِ وَالْخُضْرَةِ نَوْعٌ مِنْ الْكُدْرَةِ. وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا مِنْ أَلْوَانِهِ فِي سِنِّ الْحَيْضِ. وَأَمَّا فِي سِنِّ
لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَقَلُّ الْحَيْضِ لِلْجَارِيَةِ الْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ» وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي التَّقْدِيرِ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يَوْمَانِ وَالْأَكْثَرُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ إقَامَةٌ لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ. قُلْنَا هَذَا نَقْصٌ عَنْ تَقْدِيرِ الشَّرْعِ (وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا وَالزَّائِدُ اسْتِحَاضَةٌ) لِمَا رَوَيْنَا،
الْإِيَاسِ.
فَفِي الْفَتَاوَى بِنْتُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ تَرَى صُفْرَةً غَيْرَ خَالِصَةٍ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَرَى مِثْلُ لَوْنِ التِّبْنِ فَحَيْضٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ مِنْ أَيَّامِهَا شَيْئًا تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ: وَإِنْ كَانَ دُونَ التِّبْنِ فَلَيْسَ بِحَيْضٍ، إلَّا إذَا رَأَتْهُ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ وَلَيْسَ بِصُفْرَةٍ خَالِصَةٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِفَسَادِ الرَّحِمِ وَحُكْمُهُ حُرْمَةُ الصَّوْمِ وَالْقُرْبَانِ وَمَا شُرِطَ فِيهِ الطَّهَارَةُ، وَيَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ بِالْبُرُوزِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ بِالْإِحْسَاسِ بِهِ وَثَمَرَتُهُ تَظْهَرُ فِيمَا لَوْ تَوَضَّأَتْ وَوَضَعَتْ الْكُرْسُفَ ثُمَّ أَحَسَّتْ بِنُزُولِ الدَّمِ إلَيْهِ قَبْلَ الْغُرُوبِ ثُمَّ رَفَعَتْهُ بَعْدَهُ تَقْضِي الصَّوْمَ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا: يَعْنِي إذَا لَمْ يُحَاذِ حَرْفَ الْفَرْجِ الدَّاخِلِ، فَإِنْ حَاذَتْهُ الْبَلَّةُ مِنْ الْكُرْسُفِ كَانَ حَيْضًا وَنِفَاسًا اتِّفَاقًا، وَكَذَا الْحَدَثُ بِالْبَوْلِ وَالِاحْتِشَاءُ حَالَةَ الْحَيْضِ يُسَنُّ لِلثَّيِّبِ وَيُسْتَحَبُّ لِلْبِكْرِ، وَحَالَةُ الطُّهْرِ يُسْتَحَبُّ لِلثَّيِّبِ فَقَطْ، وَلَوْ وَضَعَتْهُ لَيْلًا فَلَمَّا أَصْبَحَتْ رَأَتْ الطُّهْرَ تَقْضِي الْعِشَاءَ، فَلَوْ كَانَتْ طَاهِرَةً فَرَأَتْ الْبَلَّةَ حِينَ أَصْبَحَتْ تَقْضِيهَا أَيْضًا إنْ لَمْ تَكُنْ صَلَّتْهَا قَبْلَ الْوَضْعِ إنْزَالًا لَهَا طَاهِرَةً فِي الصُّورَةِ الْأُولَى مِنْ حِينِ وَضَعَتْهُ وَحَائِضًا فِي الثَّانِيَةِ حِينَ رَفَعَتْهُ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ فِيهِمَا.
وَأَدْنَى مُدَّةً يُحْكَمُ بِإِيَاسِهَا إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا خَمْسٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَإِذَا حَكَمَ بِهِ ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ انْتَقَضَ ذَلِكَ. قَالَ الصَّدْرُ حُسَامُ الدِّينِ: هَذَا إذَا كَانَ دَمًا خَالِصًا، ثُمَّ إنَّمَا يَنْتَفِضُ بِهِ الْإِيَاسُ فِيمَا تَسْتَقْبِلُ حَتَّى لَا تَفْسُدَ الْأَنْكِحَةُ الْمُبَاشِرَةُ قَبْلَ الْمُعَاوِدَةُ إنْ كَانَ عَلَى لَوْنِ الدَّمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى لَوْنِ الدَّمِ بَلْ صُفْرَةٌ أَوْ خُضْرَةٌ أَوْ كُدْرَةٌ لَا يُنْتَقَضُ الْحُكْمُ بِالْإِيَاسِ، وَإِذَا رَأَتْ الْمُبْتَدَأَةُ دَمًا فِي سِنٍّ يُحْكَمُ بِبُلُوغِهَا فِيهِ تَرَكَتْ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ عِنْدَ أَكْثَرِ مَشَايِخِ بُخَارَى. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَتْرُكُ حَتَّى يَسْتَمِرَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْحَائِضِ أَنْ تَتَوَضَّأَ وَقْتَ الصَّلَاةِ وَتَجْلِسُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا تُسَبِّحُ وَتُهَلِّلُ كَيْ لَا تَنْسَى الْعَادَةَ. (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم) رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَقَلُّ الْحَيْضِ لِلْجَارِيَةِ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ الثَّلَاثُ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، فَإِذَا زَادَ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ» قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: عَبْدُ الْمَلِكِ مَجْهُولٌ، وَالْعَلَاءُ بْنُ كَثِيرٍ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، وَأَخْرَجَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ «الْحَيْضُ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعٌ وَخَمْسٌ وَسِتٌّ وَسَبْعٌ وَثَمَانٍ وَتِسْعٌ وَعَشْرٌ، فَإِذَا زَادَ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ» وَقَالَ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ الْأَعْمَشِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ غَيْرَ هَارُونَ بْنِ زِيَادٍ وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ. وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ أَنَسٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم
وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي التَّقْدِيرِ بِخَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا ثُمَّ الزَّائِدُ وَالنَّاقِصُ اسْتِحَاضَةٌ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ الشَّرْعِ يَمْنَعُ إلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ
(وَمَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ مِنْ الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضٌ) حَتَّى تَرَى الْبَيَاضَ خَالِصًا
«الْحَيْضُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَرْبَعَةٌ وَخَمْسَةٌ وَسِتَّةٌ وَسَبْعَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَتِسْعَةٌ وَعَشْرَةٌ، فَإِذَا جَاوَزَتْ الْعَشَرَةَ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ» وَأَعَلَّهُ بِالْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ وَالْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ بِالْجَلَدِ بْنِ أَيُّوبَ. وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى أَنَسٍ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْحَسَنِ: لَمْ أَرَ لَهُ حَدِيثًا جَاوَزَ الْحَدَّ فِي النَّكَارَةِ وَهُوَ إلَى الضَّعْفِ أَقْرَبُ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: هِيَ حَائِضٌ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَشَرَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ. وَرَوَى أَيْضًا: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ: لَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ مُسْتَحَاضَةً فِي يَوْمِ وَلَا يَوْمَيْنِ وَلَا ثَلَاثَةٍ حَتَّى تَبْلُغَ عَشَرَةً، فَإِذَا بَلَغَتْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: أَخْبَرْنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيَّ قَالَ: الْحَائِضُ إذَا جَاوَزَتْ عَشْرَةَ أَيَّامٍ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي. وَعُثْمَانُ هَذَا صَحَابِيٌّ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَخْرَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: وَحَدَّثَنَا مَخْلَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَامِي قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الْحَيْضُ ثَلَاثَ عَشَرَ وَأَسْنَدَ مِثْلَهُ عَنْ سُفْيَانَ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ» وَضَعَّفَهُ بِجَهَالَةٍ مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ، وَضَعَّفَ مُحَمَّدًا بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَنَسٍ. وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «لَا حَيْضَ دُونَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَا حَيْضَ فَوْقَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ» الْحَدِيثَ، وَضَعَّفَهُ بِمُحَمَّدٍ بْنِ سَعِيدٍ الشَّامِيِّ رَمَوْهُ بِالْوَضْعِ، وَأَخْرَجَهُ الْعُقَيْلِيُّ عَنْ مُعَاذٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ طُولٍ وَأَعَلَّهُ بِجَهَالَةٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّدَفِيِّ بِالنَّقْلِ.
وَرَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْعِلَلِ الْمُتَنَاهِيَةِ عَنْ الْخُدْرِيِّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثٌ وَأَكْثَرُهُ عَشْرٌ، وَأَقَلُّ مَا بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا» وَضَعَّفَهُ بِسُلَيْمَانَ الْمَكْنِيِّ أَبَا دَاوُد النَّخَعِيّ. فَهَذِهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُتَعَدِّدَةُ الطُّرُقِ، وَذَلِكَ يَرْفَعُ الضَّعِيفَ إلَى الْحَسَنِ وَالْمُقَدَّرَاتُ الشَّرْعِيَّةُ مِمَّا لَا تُدْرَكُ بِالرَّأْيِ، فَالْمَوْقُوفُ فِيمَا حُكْمُهُ الرَّفْعُ، بَلْ تَسْكُنُ النَّفْسُ بِكَثْرَةِ مَا رَوَى فِيهِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إلَى أَنَّ الْمَرْفُوعَ مِمَّا أَجَادَ فِيهِ ذَلِكَ الرَّاوِي الضَّعِيفُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَهُ أَصْلٌ
(وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: لَا تَكُونُ الْكُدْرَةُ حَيْضًا إلَّا بَعْدَ الدَّمِ) لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ الرَّحِمِ لَتَأَخَّرَ خُرُوجُ الْكَدِرِ عَنْ الصَّافِي. وَلَهُمَا مَا رَوَى أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها جَعَلَتْ مَا سِوَى الْبَيَاضِ الْخَالِصِ حَيْضًا وَهَذَا لَا يُعْرَفُ إلَّا سَمَاعًا
فِي الشَّرْعِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ أَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَمْ نَعْلَمْ فِيهِ حَدِيثًا حَسَنًا وَلَا ضَعِيفًا، وَإِنَّمَا تَمَسَّكُوا فِيهِ بِمَا رَوَوْهُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي صِفَةِ النِّسَاءِ «تَمْكُثُ إحْدَاكُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تُصَلِّي» وَهُوَ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَا نَذْكُرُ، لَكِنْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ إنَّهُ لَمْ يَجِدْهُ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ: هَذَا حَدِيثٌ لَا يُعْرَفُ، وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ
(قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ) رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ أُمِّهِ مَوْلَاةِ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النِّسَاءُ يَبْعَثْنَ إلَى عَائِشَةَ بِالدِّرَجَةِ فِيهَا الْكُرْسُفُ فِيهِ الصُّفْرَةُ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ يَسْأَلْنَهَا عَنْ الصَّلَاةِ فَتَقُولُ لَهُنَّ: لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ، تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنْ الْحَيْضِ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا. وَالْقَصَّةُ الْبَيْضَاءُ: بَيَاضٌ يَمْتَدُّ كَالْخَيْطِ. وَاسْتِدْلَالُ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا أَوْلَى مِمَّا قِيلَ إنَّ مِنْ خَاصِّيَّةِ الطَّبِيعَةِ دَفْعَ الْكَدْرِ أَوْ لَا فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهَا لَوْ خَرَجَتْ عَقِيبَ الصَّافِي لَا يَكُونُ حَيْضًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ يُجَابُ بِأَنَّهَا إذَا خَرَجَتْ بَعْدَ الصَّافِي يَكُونُ حَيْضًا بِنَاءً عَلَى الْحُكْمِ بِأَنَّهَا حَدَثَتْ الْآنَ لَا أَنَّهَا كَانَتْ مُتَحَصِّلَةً فِي الرَّحِمِ مِنْ ابْتِدَاءِ رُؤْيَةِ الْحَيْضِ وَإِلَّا لَخَرَجَتْ قَبْلَ هَذَا. وَمُقْتَضَى هَذَا الْمَرْوِيِّ أَنَّ مُجَرَّدَ الِانْقِطَاعِ دُونَ رُؤْيَةِ الْقَصَّةِ لَا تَجِبُ مَعَهُ أَحْكَامُ الطَّاهِرَاتِ، وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ فِيمَا يَأْتِي كُلُّهُ بِلَفْظِ الِانْقِطَاعِ حَيْثُ يَقُولُونَ وَإِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا فَكَذَا وَإِذَا انْقَطَعَ فَكَذَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ انْقِطَاعٌ بِجَفَافٍ مِنْ وَقْتٍ إلَى وَقْتٍ ثُمَّ تَرَى الْقَصَّةَ، فَإِنْ كَانَتْ الْغَايَةُ الْقَصَّةَ لَمْ تَجِبْ تِلْكَ الصَّلَاةُ، وَإِنْ كَانَ الِانْقِطَاعُ عَنْ سَائِرِ الْأَلْوَانِ وَجَبَتْ، وَأَنَا مُتَرَدِّدٌ فِيمَا هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ بِالنَّظَرِ إلَى دَلِيلِهِمْ وَعِبَارَتِهِمْ فِي إعْطَاءِ الْأَحْكَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَأَيْت فِي الْمَرْوِيِّ عَبْدِ الْوَهَّابِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ رَيْطَةَ مَوْلَاةِ عُمْرَةَ عَنْ عُمْرَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ لِلنِّسَاءِ:
وَفَمُ الرَّحِمِ مَنْكُوسٌ فَيَخْرُجُ الْكَدْرُ أَوَّلًا كَالْجَرَّةِ إذَا ثُقِبَ أَسْفَلُهَا، وَأَمَّا الْخُضْرَةُ فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ تَكُونُ حَيْضًا وَيُحْمَلُ عَلَى فَسَادِ الْغِذَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَا تَرَى غَيْرَ الْخُضْرَةِ تُحْمَلُ عَلَى فَسَادِ الْمَنْبَتِ فَلَا تَكُونُ حَيْضًا
(وَالْحَيْضُ يُسْقِطُ عَنْ الْحَائِضِ الصَّلَاةَ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهَا الصَّوْمَ وَتَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ)
إذَا أَدْخَلَتْ إحْدَاكُنَّ الْكُرْسُفَةَ فَخَرَجَتْ مُتَغَيِّرَةً فَلَا تُصَلِّي حَتَّى لَا تَرَى شَيْئًا. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْغَايَةَ الِانْقِطَاعُ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي الْبَيَاضِ وَقْتَ الرُّؤْيَةِ، فَلَوْ رَأَتْهُ أَبْيَضَ خَالِصًا إلَّا أَنَّهُ إذَا يَبِسَ اصْفَرَّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَيَاضِ، أَوْ أَصْفَر وَلَوْ يَبِسَ ابْيَضَّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصُّفْرَةِ (قَوْلُهُ فَالصَّحِيحُ إلَخْ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: أَكَلْت فَصِيلًا عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لِكَوْنِهِ حَيْضًا (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَا تَرَى غَيْرَ الْخُضْرَةِ) يَعْنِي الْآيِسَةَ، وَكَوْنُهَا لَا تَرَى غَيْرَهَا لَيْسَ بِقَيْدٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ حُسَامُ الدِّينِ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ أَوَّلَ الْبَابِ مِنْ أَنَّ الشَّرْطَ فِي نَفْيِ كَوْنِ مَا تَرَاهُ حَيْضًا أَنْ لَا تَرَى الدَّمَ الْخَالِصَ
(قَوْلُهُ وَالْحَيْضُ يُسْقِطُ) يُفِيدُ ظَاهِرًا عَدَمَ تَعَلُّقِ أَصْلِ الْوُجُوبِ بِهَا، وَهَذَا لِأَنَّ تَعَلُّقَهُ يَسْتَتْبِعُ فَائِدَتَهُ، وَهِيَ إمَّا الْأَدَاءُ أَوْ الْقَضَاءُ، وَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ لِقِيَامِ الْحَدَثِ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ رَفْعِهِ، وَالثَّانِي كَذَلِكَ فَضْلًا مِنْهُ تَعَالَى دَفْعًا لِلْحَرَجِ اللَّازِمِ بِإِلْزَامِ الْقَضَاءِ لِتَضَاعُفِ الصَّلَاةِ خُصُوصًا فِيمَنْ عَادَتُهَا أَكْثَرُ، فَانْتَفَى الْوُجُوبُ لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ لَا لِعَدَمِ
لِقَوْلِ «عَائِشَةَ رضي الله عنها: كَانَتْ إحْدَانَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا تَقْضِي الصِّيَامَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ» ، وَلِأَنَّ فِي قَضَاءِ الصَّلَاةِ حَرَجًا لِتَضَاعُفِهَا وَلَا حَرَجَ فِي قَضَاءِ الصَّوْمِ
(وَلَا تَدْخُلُ الْمَسْجِدَ) وَكَذَا الْجُنُبُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَإِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ» وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي إبَاحَةِ الدُّخُولِ عَلَى وَجْهِ الْعُبُورِ وَالْمُرُورِ
أَهْلِيَّتِهَا لِلْخَطَّابِ وَلِذَا تَعَلَّقَ بِهَا خِطَابُ الصَّوْمِ لِعَدَمِ الْحَرَجِ، إذْ غَايَةُ مَا تَقْضِي فِي السَّنَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا (قَوْلُهُ لِقَوْلِ عَائِشَةَ) لَفْظُ الْحَدِيثِ عَنْ مُعَاذَةَ قَالَتْ «سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِيَ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَتْ أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ قُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ وَلَكِنَّنِي أَسْأَلُ، قَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم) عَنْ أَفْلَتَ عَنْ جَسْرَةَ بِنْتِ دَجَاجَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوُجُوهُ بُيُوتِ أَصْحَابِهِ شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنْ الْمَسْجِدِ ثُمَّ دَخَلَ وَلَمْ يَصْنَعْ الْقَوْمُ شَيْئًا رَجَاءَ أَنْ تَنْزِلَ فِيهِمْ رُخْصَةٌ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فَقَالَ: وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنْ الْمَسْجِدِ فَإِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ بِزِيَادَةٍ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: ضَعِّفُوا هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالُوا: أَفْلَتُ مَجْهُولٌ. قَالَ الْمُنْذَرِي: فِيمَا حَكَاهُ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ أَفْلَتُ بْنُ خَلِيفَةَ الْعَامِرِيُّ وَيُقَالُ الذُّهْلِيُّ كُنْيَتُهُ أَبُو حَسَّانٍ حَدِيثُهُ فِي الْكُوفِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَا أَرَى بِهِ بَأْسًا، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: شَيْخٌ، وَحَكَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ جَسْرَةَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: صَالِحٌ، وَقَالَ الْعَجِلِي فِي جَسْرَةَ: تَابِعِيَّةٌ ثِقَةٌ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَهَا عَجَائِبُ، وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِي الدِّينِ فِي الْإِمَامِ: رَأَيْت فِي كِتَابِ الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ لِابْنِ الْقَطَّانِ الْمَقْرُوءُ عَلَيْهِ دِجَاجَةً بِكَسْرِ الدَّالِ وَعَلَيْهِ صَحَّ، وَكَتَبَ النَّاسُ فِي الْحَاشِيَةِ بِكَسْرِ الدَّالِ بِخِلَافِ وَاحِدَةِ الدَّجَاجِ اهـ
(قَوْلُهُ وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ) فِي إبَاحَتِهِ الدُّخُولُ عَلَى وَجْهِ الْعُبُورِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا بِنَاءً
(وَلَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ) لِأَنَّ الطَّوَافَ فِي الْمَسْجِدِ
(وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}
عَلَى إرَادَةِ مَكَانِ الصَّلَاةِ بِلَفْظِ الصَّلَاةِ فِي قَوْله تَعَالَى {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} أَوْ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَلَا مُوجِبَ لِلْعُدُولِ عَنْ الظَّاهِرِ إلَّا تَوَهُّمُ لُزُومِ جَوَازِ الصَّلَاةِ جُنُبًا حَالَ كَوْنِهِ عَابِرَ سَبِيلٍ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْمَنْعِ الْمُغْيَا بِالِاغْتِسَالِ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ لِوُجُوبِ الْحُكْمِ بِأَنَّ الْمُرَادَ جَوَازُهَا حَالَ كَوْنِهِ عَابِرَ سَبِيلٍ: أَيْ مُسَافِرًا بِالتَّيَمُّمِ لِأَنَّ مُؤَدَّى التَّرْكِيبِ لَا تَقْرَبُوهَا جُنُبًا حَتَّى تَغْتَسِلُوا إلَّا حَالَ عُبُورِ السَّبِيلِ فَلَكُمْ أَنْ تَقْرَبُوهَا بِغَيْرِ اغْتِسَالٍ، وَبِالتَّيَمُّمِ يَصْدُقُ أَنَّهُ بِغَيْرِ اغْتِسَالٍ. نَعَمْ يَقْتَضِي ظَاهِرُ الِاسْتِثْنَاءِ إطْلَاقُ الْقُرْبَانِ حَالَ الْعُبُورِ، لَكِنْ يَثْبُتُ اشْتِرَاطُ التَّيَمُّمِ فِيهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَلَيْسَ هَذَا بِبِدْعٍ، وَعَلَى هَذَا فَالْآيَةُ دَلِيلُهُمَا عَلَى مَنْعِ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ الْمُقِيمِ فِي الْمِصْرِ ظَاهِرًا. وَجَوَابُهُ أَنَّهُ خَصَّ حَالَةَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ فِي الْمِصْرِ مِنْ مَنْعِهَا كَمَا أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ فِي الْمَرِيضِ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى تَخْصِيصِ حَالَةِ الْقُدْرَةِ حَتَّى لَا يَتَيَمَّمَ الْمَرِيضُ الْقَادِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَهَذَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّ شَرْعِيَّتَهُ لِلْحَاجَةِ إلَى الطَّهَارَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمَاءِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ فِي الْمِصْرِ جَازَ، وَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي الْمَرِيضِ لَا يَجُوزُ. فَإِنْ قِيلَ: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ حِينَئِذٍ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثُ وَأَنْتُمْ تَأْبَوْنَهُ. قُلْنَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مُحَصَّلَهَا لَا تَقْرَبُوهَا جُنُبًا حَتَّى تَغْتَسِلُوا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ فَاقْرَبُوهَا بِلَا اغْتِسَالٍ بِالتَّيَمُّمِ، لَا أَنَّ الْمَعْنَى فَاقْرَبُوهَا جُنُبًا بِلَا اغْتِسَالٍ بِالتَّيَمُّمِ بَلْ بِلَا اغْتِسَالٍ بِالتَّيَمُّمِ، فَالرَّفْعُ وَعَدَمُهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، ثُمَّ اُسْتُفِيدَ كَوْنُهُ رَافِعًا مِنْ خَارِجٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ
(قَوْلُهُ وَلَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ) لِأَنَّهُ فِي الْمَسْجِدِ فَيَحْرُمُ، وَلَوْ فَعَلَتْهُ الْحَائِضُ كَانَتْ عَاصِيَةً مُعَاقَبَةً وَتَتَحَلَّلُ بِهِ مِنْ إحْرَامِهَا لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ وَعَلَيْهَا بَدَنَةٌ كَطَوَافِ الْجُنُبِ، هَذَا وَالْأَوْلَى عَدَمُ الِاقْتِصَارِ عَلَى التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّ حُرْمَةَ الطَّوَافِ جُنُبًا لَيْسَ مَنْظُورًا فِيهِ إلَى دُخُولِ الْمَسْجِدِ بِالذَّاتِ، بَلْ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ وَاجِبَةٌ فِي الطَّوَافِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَسْجِدٍ حَرُمَ عَلَيْهَا الطَّوَافُ
(قَوْلُهُ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا) وَلَوْ أَتَاهَا مُسْتَحِلًّا كَفَرَ أَوْ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ أَتَى كَبِيرَةً وَوَجَبَتْ التَّوْبَةُ وَيَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ بِنِصْفِهِ اسْتِحْبَابًا، وَقِيلَ بِدِينَارٍ إنْ كَانَ أَوَّلَ الْحَيْضِ وَبِنِصْفِهِ إنْ وَطِئَ فِي آخِرِهِ كَأَنَّ قَائِلَهُ رَأَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ، وَكَذَا هَذَا الْحُكْمُ لَوْ قَالَتْ حِضْت فَكَذَّبَهَا لِأَنَّ تَكْذِيبَهُ لَا يَعْمَلُ بَلْ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِإِخْبَارِهَا، وَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا بِغَيْرِ الْجِمَاعِ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَا تَحْتَ الْإِزَارِ، وَمَذْهَبُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَحْمَدَ لَا يَحْرُمُ مَا سِوَى الْفَرْجِ لِمَا أَخْرَجَ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي الْبُيُوتِ، فَسَأَلْتِ الصَّحَابَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اصْنَعُوا كُلَّ
(وَلَيْسَ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ وَالنُّفَسَاءِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ» وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رحمه الله فِي الْحَائِضِ، وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ مَا دُونَ الْآيَةِ
شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ. وَفِي رِوَايَةٍ إلَّا الْجِمَاعَ» وَلِلْجَمَاعَةِ مَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمَّا يَحِلُّ لِي مِنْ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ؟ فَقَالَ: لَكَ مَا فَوْقَ الْإِزَارِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَسَكَتَ عَلَيْهِ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا أَوْ صَحِيحًا، فَمِنْهُمْ مَنْ حَسَّنَهُ لَكِنَّ شَارِحَهُ أَبُو زُرْعَةَ الْعِرَاقِيُّ صَرَّحَ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، وَهُوَ فَرْعُ مَعْرِفَةِ رِجَالِ سَنَدِهِ فَثَبَتَ كَوْنُهُ صَحِيحًا، وَحِينَئِذٍ يُعَارِضُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ خُصُوصًا وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مُسْلِمًا يُخْرِجُ عَمَّنْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ غَوَائِلِ الْجُرْحِ، وَإِذَنْ فَالتَّرْجِيحُ لَهُ لِأَنَّهُ مَانِعٌ وَذَاكَ مُبِيحٌ، وَأَمَّا تَرْجِيحُ السُّرُوجِيِّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ بِأَنَّ أَحَادِيثَنَا مَفْهُومٌ لَا يُعَارِضُ مَنْطُوقَهُمْ فَغَلَطٌ، لِأَنَّ كَوْنَهَا مَنْطُوقًا فِي الْمُدَّعِي أَوْ مَفْهُومًا بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ الْمُدَّعِي كَيْفَ هُوَ، فَإِنْ جَعَلَتْ الدَّعْوَى قَوْلَنَا جَمِيعَ مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ مَا فَوْقَ الْإِزَارِ كَانَتْ أَحَادِيثُنَا مَنْطُوقًا: أَعْنِي قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «لَكَ مَا فَوْقَ الْإِزَارِ» جَوَابًا عَنْ قَوْلِ السَّائِلِ: مَا يَحِلُّ لِي مِنْ امْرَأَتِي الْحَائِضِ؟، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: جَمِيعَ مَا يَحِلُّ لَك مَا فَوْقَ الْإِزَارِ، لِأَنَّ مَعْنَى السُّؤَالِ جَمِيعُ مَا يَحِلُّ لِي مَا هُوَ فَيُطَابِقُ الْجَوَابُ السُّؤَالَ، وَإِنْ جُعِلَتْ الدَّعْوَى لَا يَحِلُّ مَا تَحْتَ الْإِزَارِ وَقَالُوا يَحِلُّ إلَّا مَحَلَّ الدَّمِ كَانَتْ مَفْهُومًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلًّا مِنْ الِاعْتِبَارَيْنِ فِي الدَّعْوَى صَحِيحٌ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَفْهُومِيَّةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي أَحَادِيثِنَا وَلَا الْمَنْطُوقِيَّةَ،
ثُمَّ لَوْ سَلَّمَ كَانَ هَذَا الْمَفْهُومُ أَقْوَى مِنْ الْمَنْطُوقِ لِأَنَّ زِيَادَةَ قُوَّةِ الْمَنْطُوقِ عَلَى الْمَفْهُومِ لَيْسَ إلَّا لِزِيَادَةِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى لِلُزُومِهِ لَهُ وَهَذَا الْمَفْهُومُ وَهُوَ انْتِفَاءُ حِلِّ مَا تَحْتَ الْإِزَارِ مُطْلَقًا، لِمَا كَانَ ثَابِتًا لِوُجُوبِ مُطَابَقَةِ الْجَوَابِ السُّؤَالَ لِدَلَالَةِ خِلَافِهَا عَلَى نُقْصَانٍ فِي الْغَرِيزَةِ أَوْ الْعَجْزِ أَوْ الْخَيْطِ كَانَ ثُبُوتُهُ وَاجِبًا مِنْ اللَّفْظِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْبَلُ تَخْصِيصًا وَلَا تَبْدِيلًا لِهَذَا الْعَارِضِ، وَالْمَنْطُوقُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَنْطُوقٌ يَقْبَلُ ذَلِكَ فَلَمْ يَصِحَّ التَّرْجِيحُ فِي خُصُوصِ الْمَادَّةِ بِالْمَنْطُوقِيَّة وَلَا الْمَرْجُوحِيَّةِ بِالْمَفْهُومِيَّةِ، وَقَدْ «كَانَ فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ فَكَانَ لَا يُبَاشِرُ إحْدَاهُنَّ وَهِيَ حَائِضٌ حَتَّى يَأْمُرَهَا أَنْ تَأْتَزِرَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} فَإِنْ كَانَ نَهْيًا عَنْ الْجِمَاعِ عَيْنًا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَثْبُتَ حُرْمَةٌ أُخْرَى فِي مَحَلٍّ آخَرَ بِالسُّنَّةِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَظُنَّ أَنَّ هَذِهِ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ ذَاكَ تَقْيِيدُ مُطْلَقِهِ فَيَقَعُ مَوْقِعُ الْمُعَارِضِ فِي بَعْضِ مُتَنَاوِلَاتِهِ لَا شَرْعَ مَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ كَانَ الْجِمَاعُ مِنْ أَفْرَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِتَنَاوُلِهِ حُرْمَةُ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا أَعْنِي الْجِمَاعَ وَغَيْرِهِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعَاتِ، ثُمَّ يَظْهَرُ تَخْصِيصُ بَعْضِهَا بِالْحَدِيثِ الْمُفِيدِ لِحِلِّ مَا سِوَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فَيُبْقِي مَا بَيْنَهُمَا دَاخِلًا فِي عُمُومِ النَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِهِ وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ فِي ثُبُوتِ الْمَطْلُوبِ لِمَا بَيَّنَّا
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ»)
فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَى الطَّحَاوِيِّ فِي إبَاحَتِهِ
(وَلَيْسَ لَهُمْ مَسُّ الْمُصْحَفِ إلَّا بِغِلَافِهِ، وَلَا أَخْذُ دِرْهَمٍ فِيهِ سُورَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا بِصُرَّتِهِ وَكَذَا الْمُحْدِثُ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ إلَّا بِغِلَافِهِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ» ثُمَّ الْحَدَثُ وَالْجَنَابَةُ حَلَّا الْيَدَ فَيَسْتَوِيَانِ فِي حُكْمِ الْمَسِّ وَالْجَنَابَةُ حَلَّتْ الْفَمُ دُونَ الْحَدَثِ فَيَفْتَرِقَانِ فِي حُكْمِ الْقِرَاءَةِ
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي إسْنَادِهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ.
وَفِي سُنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عَلِيٍّ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَحْجُبُهُ، أَوْ قَالَ لَا يَحْجِزُهُ عَنْ الْقِرَاءَةِ شَيْءٌ لَيْسَ الْجَنَابَةَ» وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَهْلُ الْحَدِيثِ لَا يُثْبِتُونَهُ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلِمَةَ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَكَانَ قَدْ كَبِرَ وَأُنْكِرَ عَقْلُهُ وَحَدِيثُهُ، وَإِنَّمَا رَوَى هَذَا بَعْدَ كِبَرِهِ قَالَهُ شُعْبَةُ، لَكِنْ قَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: وَلَمْ يَحْتَجَّا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلِمَةَ وَمَدَارُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ،
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ الْقِرَاءَةَ لِلْجُنُبِ، وَقَالَ صَحِيحٌ (قَوْلُهُ فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَى الطَّحَاوِيِّ فِي إبَاحَتِهِ مَا دُونَ آيَةٍ) ذَكَرَ نَجْمُ الدِّينِ الزَّاهِدُ أَنَّهُ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَنَّ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ. وَوَجْهُهُ أَنَّ مَا دُونَ الْآيَةِ لَا يُعَدُّ بِهَا قَارِئًا، قَالَ تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا يَقْرَأُ الْجُنُبُ الْقُرْآنَ» فَكَمَا لَا يُعَدُّ قَارِئًا بِمَا دُونَ الْآيَةِ حَتَّى لَا تَصِحَّ بِهَا الصَّلَاةُ كَذَا لَا يُعَدُّ بِهَا قَارِئًا فَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، وَقَالُوا: إذَا حَاضَتْ الْمُعَلِّمَةُ تُعَلِّمُ كَلِمَةً كَلِمَةً وَتَقْطَعُ بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ وَعَلَى قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ نِصْفُ آيَةٍ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ فِي عَدِّ حُرُمَاتِ الْحَيْضِ وَحُرْمَةِ الْقُرْآنِ إلَّا إذَا كَانَتْ آيَةً قَصِيرَةً تَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ عِنْدَ الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ ثُمَّ نَظَرَ وَلَمْ يُولَدْ أَمَّا قِرَاءَةُ مَا دُونَ الْآيَةِ نَحْوَ (بِسْمِ اللَّهِ) وَ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إنْ كَانَتْ قَاصِدَةً قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ يُكْرَهُ، وَإِنْ كَانَتْ قَاصِدَةً شُكْرَ النِّعْمَةِ وَالثَّنَاءِ لَا يُكْرَهُ، وَلَا يُكْرَهُ التَّهَجِّي وَقِرَاءَةُ الْقُنُوتِ انْتَهَى وَغَيْرُهُ لَمْ يُقَيَّدْ عِنْدَ قَصْدِ الثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ بِمَا دُونَ الْآيَةِ، فَصَرَّحَ بِجَوَازِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى وَجْهِ الثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ. وَفِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ: لَا يَنْبَغِي لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ قِرَاءَةُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ لِأَنَّ الْكُلَّ كَلَامُ اللَّهِ، وَيُكْرَهُ لَهُمَا قِرَاءَةُ دُعَاءِ الْوَتْرِ لِأَنَّ أُبَيًّا رضي الله عنه يَجْعَلُهُ مِنْ الْقُرْآنِ سُورَتَيْنِ: مِنْ أَوَّلِهِ إلَى اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ سُورَةً، وَمِنْ هُنَا إلَى آخِرِهِ أُخْرَى، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ لَا يُكْرَهُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الذِّكْرِ فَأَفَادَ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْأَذَانِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَذَانِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَنَّ الْوُضُوءَ فِيهِ مُسْتَحَبٌّ
(قَوْلُهُ لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ) هُوَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى الْيَمَنِ، وَسَيَأْتِي بِكَمَالِهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ (قَوْلُهُ ثُمَّ الْجَنَابَةُ حَلَّتْ الْيَدَ إلَخْ) يُفِيدُ جَوَازُ نَظَرِ الْجُنُبِ لِلْقُرْآنِ لِأَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ الْعَيْنُ وَلِذَا لَا يَجِبُ غَسْلُهَا، وَأَمَّا مَسُّ مَا فِيهِ ذِكْرٌ فَأَطْلَقَهُ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ
وَغِلَافُهُ مَا يَكُونُ مُتَجَافِيًا عَنْهُ دُونَ مَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ كَالْجِلْدِ الْمُشْرَزِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَيُكْرَهُ مَسُّهُ بِالْكُمِّ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهُ بِخِلَافِ كُتُبِ الشَّرِيعَةِ لِأَهْلِهَا حَيْثُ يُرَخَّصُ فِي مَسِّهَا بِالْكُمِّ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةٌ، وَلَا بَأْسَ بِدَفْعِ الْمُصْحَفِ إلَى الصِّبْيَانِ لِأَنَّ فِي الْمَنْعِ تَضْيِيعَ حِفْظِ الْقُرْآنِ وَفِي الْأَمْرِ بِالتَّطْهِيرِ حَرَجًا بِهِمْ
وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ (قَوْلُهُ وَغِلَافُهُ مَا يَكُونُ مُتَجَافِيًا عَنْهُ) أَيْ مُنْفَصِلًا وَهُوَ الْخَرِيطَةُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ هُوَ الْجِلْدُ أَوْ الْكُمُّ لِأَنَّ الْجِلْدَ الْمُلْصَقَ تَابِعٌ لَهُ حَتَّى يَدْخُلَ فِي بَيْعِهِ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَلَمْسُهُ حُكْمُ مَسِّهِ وَالْكُمُّ تَابِعٌ لِلْمَاسِّ فَالْمَسُّ بِهِ كَالْمَسِّ بِيَدِهِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ يُكْرَهُ مَسُّهُ بِالْكُمِّ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ، وَلِذَا قَالَ فِي الْفَتَاوَى لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ أَنْ يَمَسَّا الْمُصْحَفَ بِكُمِّهِمَا أَوْ بِبَعْضِ ثِيَابِهِمَا لِأَنَّ الثِّيَابَ بِمَنْزِلَةِ يَدَيْهِمَا، أَلَا تَرَى لَوْ قَامَ فِي صَلَاتِهِ عَلَى نَجَاسَةٍ وَفِي رِجْلَيْهِ نَعْلَانِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَلَوْ فَرَشَ نَعْلَيْهِ أَوْ جَوْرَبَيْهِ وَقَامَ عَلَيْهِمَا جَازَتْ، وَخِلَافًا لِمَنْ قَالَ الْمَكْرُوهُ مِنْ الْكِتَابَةِ لَا مَوْضِعَ الْبَيَاضِ، وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَفِي فَتَاوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ يُكْرَهُ كِتَابَةُ كِتَابٍ فِيهِ آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ يُكْتَبُ بِالْقَلَمِ وَهُوَ فِي يَدِهِ.
وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ لَا يُكْتَبُ وَإِنْ كَانَتْ الصَّحِيفَةُ عَلَى الْأَرْضِ وَلَوْ كَانَ مَا دُونَ الْآيَةِ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ إذَا كَانَتْ الصَّحِيفَةُ عَلَى الْأَرْضِ، فَقِيلَ هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ أَقْيَسُ، لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ عَلَى الْأَرْضِ كَانَ مَسُّهَا بِالْقَلَمِ وَهُوَ وَاسِطَةٌ مُنْفَصِلَةٌ فَكَانَ كَثَوْبٍ مُنْفَصِلٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَمَسُّهُ بِيَدِهِ. وَقَالَ لِي بَعْضُ الْإِخْوَانِ: هَلْ يَجُوزُ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِمِنْدِيلٍ هُوَ لَابِسُهُ عَلَى عُنُقِهِ؟ قُلْت: لَا أَعْلَمُ فِيهِ مَنْقُولًا، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِطَرَفِهِ وَهُوَ يَتَحَرَّك بِحَرَكَتِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِاعْتِبَارِهِمْ إيَّاهُ فِي الْأَوَّلِ تَابِعًا لَهُ كَبَدَنِهِ دُونَ الثَّانِي، قَالُوا فِيمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ عِمَامَةً بِطَرَفِهَا نَجَاسَةً مَانِعَةً: إنْ كَانَ أَلْقَاهُ وَهُوَ يَتَحَرَّكُ لَا يَجُوزُ، وَإِلَّا يَجُوزُ اعْتِبَارًا لَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. [فُرُوعٌ]
تُكْرَهُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ وَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالْمَحَارِيبِ وَالْجُدْرَانِ وَمَا يُفْرَشُ، وَتُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ فِي الْمَخْرَجِ وَالْمُغْتَسَلِ وَالْحَمَّامِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا بَأْس فِي الْحَمَّامِ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ عِنْدَهُ، وَلَوْ كَانَتْ رُقْيَةٌ فِي غِلَافٍ مُتَجَافٍ عَنْهُ لَمْ يُكْرَهْ دُخُولُ الْخَلَاءِ بِهِ وَالِاحْتِرَازُ عَنْ مِثْلِهِ أَفْضَلُ (قَوْلُهُ حَيْثُ يُرَخَّصُ فِي مَسِّهَا بِالْكُمِّ) يَقْتَضِي أَنَّهُ يُرَخَّصُ بِلَا كُمٍّ، قَالُوا يُكْرَهُ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالسُّنَنِ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ يَمْنَعُ مِنْ شُرُوحِ النَّحْوِ أَيْضًا (قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ بِدَفْعِ الْمُصْحَفِ إلَى الصِّبْيَانِ) وَاللَّوْحِ وَإِنْ كَانُوا مُحْدِثِينَ لَا يَأْثَمُ
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
قَالَ (وَإِذَا انْقَطَعَ دَمُ الْحَيْضِ لِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَمْ يَحِلَّ وَطْؤُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ) لِأَنَّ الدَّمَ
الْمُكَلَّفُ الدَّافِعُ كَمَا يَأْثَمُ بِإِلْبَاسِ الصَّغِيرِ الْحَرِيرَ وَسَقْيِهِ الْخَمْرَ وَتَوْجِيهِهِ إلَى الْقِبْلَةِ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ لِلضَّرُورَةِ فِي هَذَا الدَّفْعِ فَإِنَّ فِي أَمْرِهِمْ بِالتَّطْهِيرِ حَرَجًا بَيِّنًا لِطُولِ مَسِّهِمْ بِطُولِ الدَّرْسِ، خِلَافًا لِمَنْ كَرِهَ تَعْلِيمَهُمْ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ، وَعَنْهُ اُحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ هُوَ الصَّحِيحُ
(قَوْلُهُ وَإِذَا انْقَطَعَ دَمُ الْحَيْضِ) حَاصِلُهُ إمَّا أَنْ يُقْطَعَ لِتَمَامِ الْعَشَرَةِ، أَوْ دُونَهَا لِتَمَامِ الْعَادَةِ، أَوْ دُونَهَا. فَفِي الْأَوَّلِ يَحِلُّ وَطْؤُهَا بِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ، وَفِي الثَّالِثِ لَا يَقْرَبُهَا وَإِنْ اغْتَسَلَتْ مَا لَمْ تَمْضِ عَادَتُهَا، وَفِي الثَّانِي إنْ اغْتَسَلَتْ أَوْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ يَعْنِي خَرَجَ وَقْتُ الصَّلَاةِ حَتَّى صَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا حَلَّ وَإِلَّا لَا، وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ انْقِطَاعُ النِّفَاسِ إنْ كَانَ لَهَا عَادَةٌ فِيهَا فَانْقَطَعَ دُونَهَا لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَمْضِي عَادَتَهَا بِالشَّرْطِ، أَوْ لِتَمَامِهَا حَلَّ إذَا خَرَجَ الْوَقْتُ الَّذِي طَهُرَتْ فِيهِ، أَوْ لِتَمَامِ الْأَرْبَعِينَ حَلَّ مُطْلَقًا. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ فِي الْآيَةِ قِرَاءَتَيْنِ يَطْهُرْنَ يَطَّهَّرْنَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ، وَمُؤَدَّى الْأُولَى انْتِهَاءُ الْحُرْمَةِ الْعَارِضَةِ عَلَى الْحِلِّ بِالِانْقِطَاعِ مُطْلَقًا، وَإِذَا انْتَهَتْ الْحُرْمَةُ الْعَارِضَةُ عَلَى الْحِلِّ حَلَّتْ بِالضَّرُورَةِ.
وَمُؤَدَّى الثَّانِيَةِ عَدَمُ انْتِهَائِهَا عِنْدَهُ بَلْ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ فَوَجَبَ الْجَمْعُ مَا أَمْكَنَ. فَحَمْلنَا الْأُولَى عَلَى الِانْقِطَاعِ لِأَكْثَرِ الْمُدَّةِ، وَالثَّانِيَةُ عَلَيْهِ لِتَمَامِ الْعَادَةِ الَّتِي لَيْسَتْ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَيْضِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِأَنَّ فِي تَوْقِيفِ قُرْبَانِهَا فِي الِانْقِطَاعِ لِلْأَكْثَرِ عَلَى الْغُسْلِ إنْزَالَهَا حَائِضًا حُكْمًا وَهُوَ مُنَافٍ لِحُكْمِ الشَّرْعِ عَلَيْهَا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ الْمُسْتَلْزِمِ إنْزَالُهُ إيَّاهَا طَاهِرَةً قَطْعًا، بِخِلَافِ تَمَامِ الْعَادَةِ فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَقْطَعْ عَلَيْهَا بِالطُّهْرِ بَلْ يَجُوزُ الْحَيْضُ بَعْدَهُ، وَلِذَا لَوْ زَادَتْ وَلَمْ يُجَاوِزْ الْعَشَرَةَ كَانَ الْكُلُّ حَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ عَلَى مَا نُحَقِّقُهُ. بَقِيَ أَنَّ مُقْتَضَى الثَّانِيَةِ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ قَبْلَ الْغُسْلِ فَرَفْعُ الْحُرْمَةِ قَبْلَهُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ مُعَارَضَةٌ لِلنَّصِّ بِالْمَعْنَى. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ خَصَّ مِنْهَا صُورَةُ الِانْقِطَاعِ لِلْعَشَرَةِ بِقِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ فَجَازَ أَنْ تَخُصَّ ثَانِيًا بِالْمَعْنَى، وَعَلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِأَدْنَى وَقْتِ الصَّلَاةِ أَدْنَاهُ الْوَاقِعُ آخِرًا: أَعْنِي أَنْ تَطْهُرَ فِي وَقْتٍ مِنْهُ إلَى خُرُوجِهِ قَدْرَ الِاغْتِسَالِ وَالتَّحْرِيمِ لَا أَعَمُّ مِنْ هَذَا وَمِنْ أَنْ تَطْهُرَ فِي أَوَّلِهِ وَيَمْضِي مِنْهُ هَذَا الْمِقْدَارَ لِأَنَّ هَذَا لَا يُنْزِلُهَا طَاهِرَةً شَرْعًا كَمَا رَأَيْت بَعْضَهُمْ يُغْلِظُ فِيهِ: أَيْ يَرَى أَنَّ تَعْلِيلَهُمْ بِأَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ صَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا وَذَلِكَ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْ غَيْرُ وَاحِدٍ لَفْظَةَ أَدْنَى.
وَعِبَارَةُ الْكَافِي أَوْ تَصِيرُ الصَّلَاةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا بِمُضِيِّ أَدْنَى وَقْتِ صَلَاةٍ بِقَدْرِ الْغُسْلِ وَالتَّحْرِيمَةِ بِأَنْ انْقَطَعَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ. وَجْهُ الثَّالِثِ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ غَيْرَ أَنَّهُ خِلَافُ إنْهَاءِ الْحُرْمَةِ بِالْغُسْلِ الثَّابِتِ بِقِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ فَهُوَ مُخَرَّجٌ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَفِي التَّجْنِيسِ: مُسَافِرَةٌ طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ فَتَيَمَّمَتْ ثُمَّ وَجَدَتْ مَاءً جَازَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَقْرَبَهَا لَكِنْ لَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ لِأَنَّهَا لَمَّا تَيَمَّمَتْ خَرَجَتْ مِنْ الْحَيْضِ، فَلَمَّا وَجَدَتْ الْمَاءَ فَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ فَصَارَتْ كَالْجُنُبِ هَذَا فِي حَقِّ الْقُرْبَانِ أَمَّا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ: فَفِي الْخُلَاصَةِ: إذَا انْقَطَعَ دَمُ الْمَرْأَةِ دُونَ عَادَتِهَا الْمَعْرُوفَةِ فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ اغْتَسَلَتْ حِينَ تَخَافُ فَوْتَ الصَّلَاةِ وَصَلَّتْ وَاجْتَنَبَ زَوْجُهَا قُرْبَانَهَا احْتِيَاطًا حَتَّى تَأْتِيَ عَلَى عَادَتِهَا لَكِنْ تَصُومُ احْتِيَاطًا، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْحَيْضَةُ هِيَ الثَّالِثَةُ انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ احْتِيَاطًا وَلَا تَتَزَوَّجُ بِزَوْجٍ آخَرَ احْتِيَاطًا فَإِنْ تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ، إنْ لَمْ يُعَاوِدْهَا الدَّمُ جَازَ، وَإِنْ عَاوَدَهَا إنْ كَانَ فِي الْعَشَرَةِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى الْعَشَرَةِ فَسَدَ نِكَاحُ الثَّانِي، وَكَذَا صَاحِبُ الِاسْتِبْرَاءِ يَجْتَنِبُهَا احْتِيَاطًا انْتَهَى. وَمَفْهُومُ التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى الْعَشَرَةِ أَنَّهُ إذَا زَادَ لَا يَفْسُدُ، وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ الْعَوْدُ بَعْدَ
يَدِرُّ تَارَةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى، فَلَا بُدَّ مِنْ الِاغْتِسَالِ لِيَتَرَجَّحَ جَانِبُ الِانْقِطَاعِ (وَلَوْ لَمْ تَغْتَسِلْ وَمَضَى عَلَيْهَا أَدْنَى وَقْتِ الصَّلَاةِ بِقَدْرِ أَنْ تَقْدِرَ عَلَى الِاغْتِسَالِ وَالتَّحْرِيمَةُ حَلَّ وَطْؤُهَا) لِأَنَّ الصَّلَاةَ صَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا فَطَهُرَتْ حُكْمًا.
(وَلَوْ كَانَ انْقَطَعَ الدَّمُ دُونَ عَادَتِهَا فَوْقَ الثَّلَاثِ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى تَمْضِيَ عَادَتُهَا وَإِنْ اغْتَسَلَتْ) لِأَنَّ الْعَوْدَ فِي الْعَادَةِ غَالِبٌ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الِاجْتِنَابِ (وَإِنْ انْقَطَعَ الدَّمُ لِعَشَرَةِ أَيَّامٍ حَلَّ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْغُسْلِ) لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا مَزِيدَ لَهُ عَلَى الْعَشَرَةِ
انْقِضَاءِ الْعَادَةِ أَمَّا قَبْلَهَا فَيَفْسُدُ وَإِنْ زَادَ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تُوجِبُ الرَّدَّ عَلَى الْعَادَةِ. وَالْفَرْضُ أَنَّهُ عَاوَدَهَا فِيهَا فَيَظْهَرُ أَنَّ النِّكَاحَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَيْضَةِ هَذَا. وَقَدْ قَدَّمْت مَا عِنْدِي مِنْ التَّرَدُّدِ فِي الِانْقِطَاعِ بِدُونِ الْقَصَّةِ ثُمَّ التَّأْخِيرُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ بَعْدَ الِانْقِطَاعِ لِمَا دُونَ الْعَادَةِ وَاجِبٌ، فَلَوْ انْقَطَعَ لِتَمَامِهَا تَغْتَسِلُ أَيْضًا فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَكِنْ هَذَا التَّأْخِيرَ اسْتِحْبَابٌ وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا وَلَا تَنْتَظِرُ تَمَامَ الْعَشَرَةِ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: وَكَذَا إذَا كَانَ هَذَا أَوَّلُ مَا رَأَتْ وَانْقَطَعَ الْحَيْضُ عَلَى خَمْسَةٍ وَالنِّفَاسُ عَلَى عِشْرِينَ وَاغْتَسَلَتْ تَثْبُتُ جَمِيعُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مُدَّةَ الِاغْتِسَالِ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ الْحَيْضِ فِي الِانْقِطَاعِ لِأَقَلَّ مِنْ الْعَشَرَةِ وَإِنْ كَانَ تَمَامَ عَادَتِهَا، بِخِلَافِ الِانْقِطَاعِ لِلْعَشَرَةِ حَتَّى لَوْ طَهُرَتْ فِي الْأَوَّلِ وَالْبَاقِي قَدْرَ الْغُسْلِ وَالتَّحْرِيمَةِ فَعَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ.
وَفِي النَّوَادِرِ: إنْ كَانَ أَيَّامُهَا عَشَرَةً فَطَهُرَتْ وَبَقِيَ قَدْرُ مَا تَتَحَرَّمُ لَزِمَهَا الْفَرْضُ وَلَا يُشْتَرَطُ إمْكَانُ الِاغْتِسَالِ، وَأَجْمَعُوا أَنَّهَا لَوْ طَهُرَتْ وَقَدْ بَقِيَ مَا لَا يَسَعُ التَّحْرِيمَةُ لَا يَلْزَمُهَا، وَمَتَى طَرَأَ الْحَيْضُ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ سَقَطَتْ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَلَوْ بَعْدَ مَا افْتَتَحَتْ الْفَرْضَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ طَرَأَ وَهِيَ فِي التَّطَوُّعِ حَيْثُ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ، هَذَا مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا. وَعِنْدَ زُفَرَ إذَا طَرَأَ وَالْبَاقِي قَدْرُ الصَّلَاةِ لَمْ يَجِبْ قَضَاؤُهَا وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي أَقَلَّ وَجَبَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ السَّبَبِيَّةَ تَنْتَقِلُ عِنْدَنَا إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ، وَعِنْدَهُ تَسْتَقِرُّ عَلَى الْجُزْءِ الَّذِي مِنْهُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ مِقْدَارَ الْأَدَاءِ فَيُعْتَبَرُ عِنْدَنَا حَالُ الْمُكَلَّفِ عِنْدَ آخِرِ الْوَقْتِ، وَعِنْدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ الْجُزْءُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ بِالْأَدَاءِ،
إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ لِلنَّهْيِ فِي الْقِرَاءَةِ بِالتَّشْدِيدِ
قَالَ (وَالطُّهْرُ إذَا تَخَلَّلَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ فِي مُدَّةِ الْحَيْضِ فَهُوَ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي) قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَوَجْهُهُ أَنَّ اسْتِيعَابَ الدَّمِ مُدَّةَ الْحَيْضِ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِالْإِجْمَاعِ فَيُعْتَبَرُ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ كَالنِّصَابِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله وَهُوَ رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ هُوَ آخِرُ أَقْوَالِهِ أَنَّ الطُّهْرَ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا يُفْصَلُ، وَهُوَ كُلُّهُ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي لِأَنَّهُ طُهْرٌ فَاسِدٌ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ،
فَإِذَا وُجِدَ وَهِيَ طَاهِرَةٌ وَجَبَتْ، وَبَعْدَ الْوُجُوبِ لَا تَسْقُطُ بِعُرُوضِ الْحَيْضِ فَتَقْضِيهَا، وَإِذَا وُجِدَ وَهِيَ حَائِضٌ لَمْ تَجِبْ، وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ بِآخِرِ الْوَقْتِ لَوْ بَلَغَ صَبِيٌّ بِاحْتِلَامٍ وَلَمْ يَسْتَيْقِظْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ الْمُخْتَارُ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ الْعِشَاءِ وَإِنْ كَانَ صَلَّاهَا قَبْلَ النَّوْمِ وَهِيَ وَاقِعَةُ مُحَمَّدٍ سَأَلَهَا أَبَا حَنِيفَةَ فَأَجَابَهُ بِهَذَا وَقِيلَ لَيْسَ عَلَيْهِ، وَالِاتِّفَاقُ أَنَّهُ إذَا اسْتَيْقَظَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ مَعَهُ تَلْزَمُهُ الْعِشَاءُ
(قَوْلُهُ وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) هِيَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْهُ، وَمُقْتَضَاهَا أَنْ لَا يَبْدَأَ الْحَيْضُ بِالطُّهْرِ وَلَا يُخْتَمُ بِهِ، فَلَوْ رَأَتْ مُبْتَدَأَةٌ يَوْمًا دَمًا وَثَمَانِيَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا فَالْعَشَرَةُ حَيْضٌ يُحْكَمُ بِبُلُوغِهَا بِهِ وَلَوْ كَانَتْ مُعْتَادَةً فَرَأَتْ قَبْلَ عَادَتِهَا يَوْمًا دَمًا وَتِسْعَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهُ حَيْضًا. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ الدَّمُ فِي الْعَشْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ وَبِهِ أَخَذَ أَنَّ الطُّهْرَ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ لَا يُفْصَلُ. وَقِيلَ هُوَ آخِرُ أَقْوَالِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَمُقْتَضَاهُ جَوَازُ افْتِتَاحِ الْحَيْضِ وَاخْتِتَامُهُ بِالطُّهْرِ وَلَا بُدَّ مِنْ احْتِوَاشِ الدَّمِ بِالطَّرَفَيْنِ، فَلَوْ رَأَتْ مُبْتَدَأَةٌ يَوْمًا دَمًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا كَانَتْ الْعَشَرَةُ الْأُولَى حَيْضًا يُحْكَمُ بِبُلُوغِهَا بِهِ، وَلَوْ رَأَتْ الْمُعْتَادَةُ قَبْلَ عَادَتِهَا يَوْمًا دَمًا وَعَشَرَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا فَالْعَشَرَةُ الَّتِي لَمْ تَرَ فِيهَا الدَّمَ حَيْضٌ إنْ كَانَ عَادَتُهَا الْعَشَرَةَ، فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ رَدَّتْ إلَى أَيَّامِهَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ إنْ نَقَصَ عَنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَوْ بِسَاعَةٍ لَا يُفْصَلُ فَإِنْ كَانَ ثَلَاثَةً فَصَاعِدًا، فَإِنْ كَانَ مِثْلَ الدَّمَيْنِ أَوْ أَقَلَّ فَكَذَلِكَ تَغْلِيبًا لِلْحُرُمَاتِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فُصِلَ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا فَهُوَ حَيْضٌ
وَالْأَخْذُ بِهَذَا الْقَوْلِ أَيْسَرُ، وَتَمَامُهُ يُعْرَفُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ
وَالْآخَرُ اسْتِحَاضَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَالْكُلُّ اسْتِحَاضَةٌ، وَلَا يُمْكِنُ كَوْنُ كُلٍّ مِنْ الْمُحْتَوِشَيْنِ حَيْضًا لِكَوْنِ الطُّهْرِ حِينَئِذٍ أَقَلَّ مِنْ الدَّمَيْنِ إلَّا إذَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ، فَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ فَيُجْعَلُ الْأَوَّلُ حَيْضًا لِسَبْقِهِ لَا الثَّانِي، وَمِنْ أَصْلِهِ أَنْ لَا يَبْدَأَ الْحَيْضُ بِالطُّهْرِ وَلَا يُخْتَمُ بِهِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا إذَا اجْتَمَعَ طُهْرَانِ مُعْتَبَرَانِ وَصَارَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا لِاسْتِوَاءِ الدَّمِ بِطَرَفَيْهِ حَتَّى صَارَ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي، فَقِيلَ يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى الطَّرَفِ الْأَخِيرِ حَتَّى يَصِيرَ الْكُلُّ حَيْضًا، وَقِيلَ لَا يَتَعَدَّى. قَالَ فِي الْمُحِيطِ: هُوَ الْأَصَحُّ. مِثَالُهُ: رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا وَثَلَاثَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا فَعَلَى الْأَوَّلِ الْكُلُّ حَيْضٌ لِأَنَّ الطُّهْرَ الْأَوَّلَ دَمٌ لِاسْتِوَائِهِ بِدَمَيْهِ فَكَأَنَّهَا رَأَتْ سِتَّةً دَمًا وَأَرْبَعَةً طُهْرًا، وَعَلَى الثَّانِي السِّتَّةُ الْأُولَى حَيْضٌ فَقَطْ.
[فَرْعٌ]
عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَخَمْسَةً طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا وَيَوْمَيْنِ طُهْرًا وَيَوْمًا دَمًا، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْعَشَرَةُ الْأُوَلُ حَيْضٌ إنْ كَانَتْ عَادَتَهَا، أَوْ مُبْتَدَأَةً لِأَنَّ الْحَيْضَ يُخْتَمُ بِالطُّهْرِ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً فَعَادَتُهَا فَقَطْ لِمُجَاوَزَةِ الدَّمِ الْعَشَرَةَ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْأَرْبَعَةُ الْأَخِيرَةُ فَقَطْ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ جَعْلُ الْعَشَرَةِ حَيْضًا لِاخْتِتَامِهَا بِالطُّهْرِ وَتَعَذَّرَ جَعْلُ مَا قَبْلَ الطُّهْرِ الثَّانِي حَيْضًا لِأَنَّ الْغَلَبَةَ فِيهِ لِلطُّهْرِ فَطَرَحْنَا الدَّمَ الْأَوَّلَ، وَالطُّهْرُ الْأَوَّلُ يَبْقَى بَعْدَهُ يَوْمٌ دَمٌ وَيَوْمَانِ طُهْرٌ وَيَوْمٌ دَمٌ وَالطُّهْرُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَجَعَلْنَا الْأَرْبَعَةُ حَيْضًا. وَعِنْدَ زُفَرَ: الثَّمَانِيَةُ حَيْضٌ لِاشْتِرَاطِهِ كَوْنَ الدَّمِ ثَلَاثَةَ فِي الْعَشَرَةِ وَلَا يُخْتَمُ عِنْدَهُ بِالطُّهْرِ وَقَدْ وُجِدَ أَرْبَعَةٌ دَمًا، وَكَذَلِكَ هُوَ أَيْضًا عَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِخُرُوجِ الدَّمِ الثَّانِي عَنْ الْعَشَرَةِ.
(وَأَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا) هَكَذَا نُقِلَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَّا تَوْقِيفًا (وَلَا غَايَةَ لِأَكْثَرِهِ) لِأَنَّهُ يَمْتَدُّ إلَى سَنَةٍ وَسَنَتَيْنِ فَلَا يَتَقَدَّرُ بِتَقْدِيرٍ إلَّا إذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَاحْتِيجَ إلَى نَصْبِ الْعَادَةِ،
فَرْعٌ آخَرُ]
عَادَتُهَا عَشَرَةٌ فَرَأَتْ ثَلَاثَةً وَطَهُرَتْ سِتَّةً عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ قُرْبَانُهَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُتَوَهِّمَ بَعْدَهُ مِنْ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَالسِّتَّةُ أَغْلَبُ مِنْ الْأَرْبَعَةِ فَيُجْعَلُ الدَّمُ الْأَوَّلُ فَقَطْ حَيْضًا، بِخِلَافِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ كَانَتْ طَهُرَتْ خَمْسَةً وَعَادَتُهَا تِسْعَةً، اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، قِيلَ لَا يُبَاحُ قُرْبَانُهَا لِاحْتِمَالِ الدَّمِ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ وَقِيلَ يُبَاحُ وَهُوَ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْيَوْمَ الزَّائِدَ مَوْهُومٌ لِأَنَّهُ خَارِجُ الْعَادَةِ، وَفِي نَظْمِ ابْنِ وَهْبَانَ إفَادَةٌ أَنَّ الْمُجِيزَ لِلْقُرْبَانِ يَكْرَهُهُ (قَوْلُهُ وَأَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَأَقَلُّ مَا بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا» ذَكَرَهُ فِي الْغَايَةِ وَعَزَّاهُ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْعَبَّاسِ إلَى الْإِمَامِ، وَتَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه فِي الْعِلَلِ الْمُتَنَاهِيَةِ، قِيلَ وَأَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ مُدَّةُ اللُّزُومِ فَكَانَ كَمُدَّةِ الْإِقَامَةِ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَمْتَدُّ سَنَةً وَسَنَتَيْنِ) وَقَدْ لَا تَحِيضُ أَصْلًا فَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ إلَّا إذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ وَاحْتِيجَ إلَى نَصْبِ الْعَادَةِ
وَيُعْرَفُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ
إمَّا بِأَنْ بَلَغَتْ مُسْتَحَاضَةً، وَإِمَّا بِأَنْ بَلَغَتْ بِرُؤْيَةِ عَشَرَةٍ مَثَلًا دَمًا وَسِتَّةً طُهْرًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ أَوْ كَانَتْ صَاحِبَةَ عَادَةٍ فَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ وَنَسِيَتْ عَدَدَ أَيَّامِهَا وَأَوَّلَهَا وَآخِرَهَا وَدَوْرَهَا، أَمَّا الْأُولَى فَيُقَدَّرُ حَيْضُهَا بِعَشْرَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَبَاقِيه طُهْرٌ فَشَهْرٌ عِشْرُونَ وَشَهْرٌ تِسْعَةَ عَشَرَ وَهِيَ الَّتِي سَتَأْتِي، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَقَالَ أَبُو عِصْمَةَ وَالْقَاضِي أَبُو حَازِمٍ: حَيْضُهَا مَا رَأَتْ وَطُهْرُهَا مَا رَأَتْ، فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِثَلَاثِ سِنِينَ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِهِ لِلطَّلَاقِ أَوَّلَ الطُّهْرِ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ إلَى إيقَاعِ الطَّلَاقِ مَضْبُوطًا فَلَيْسَ هَذَا التَّقْدِيرُ بِلَازِمٍ لِجَوَازِ كَوْنِ حِسَابِهِ يُوجِبُ كَوْنُهُ أَوَّلَ الْحَيْضِ فَيَكُونُ أَكْثَرُ مِنْ الْمَذْكُورِ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ، أَوْ آخِرَ الطُّهْرِ فِيهِ يُقَدَّرُ بِسَنَتَيْنِ وَأَحَدٍ وَثَلَاثِينَ أَوْ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَضْبُوطًا فَيَنْبَغِي بِأَنْ تُزَادَ الْعَشَرَةُ إنْزَالًا لَهُ مُطْلَقًا أَوَّلَ الْحَيْضِ احْتِيَاطًا. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَيَجِبُ أَنْ تَتَحَرَّى وَتَمْضِي عَلَى أَكْبَرِ رَأْيِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا رَأْيٌ وَهِيَ الْمُحَيَّرَةُ لَا يُحْكَمُ لَهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ عَلَى التَّعْيِينِ، بَلْ تَأْخُذُ بِالْأَحْوَطِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ فَتَجْتَنِبُ مَا يَجْتَنِبُهُ الْحَائِضُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْمَسِّ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَقُرْبَانِ الزَّوْجِ، وَتَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَتُصَلِّي بِهِ الْفَرْضَ وَالْوَتْرَ، وَتَقْرَأُ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ فَقَطْ، وَقِيلَ الْفَاتِحَةُ وَالسُّورَةُ لِأَنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ، وَإِنْ حَجَّتْ تَطُوفُ طَوَافَ الزِّيَارَةِ لِأَنَّهُ رُكْنٌ ثُمَّ تُعِيدُهُ بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَتَطُوفُ لِلصَّدْرِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ وَتَصُومُ شَهْرَ رَمَضَانَ، ثُمَّ تَقْضِي خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا
(وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ) كَالرُّعَافِ الدَّائِمِ لَا يَمْنَعُ الصَّوْمَ وَلَا الصَّلَاةَ وَلَا الْوَطْءَ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «تَوَضَّئِي وَصَلِّي وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ» وَإِذَا عُرِفَ حُكْمُ الصَّلَاةِ ثَبَتَ حُكْمُ الصَّوْمِ وَالْوَطْءُ بِنَتِيجَةِ الْإِجْمَاعِ (وَلَوْ)(زَادَ الدَّمُ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ) وَلَهَا عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ دُونَهَا رَدَّتْ إلَى أَيَّامِ عَادَتِهَا،
لِاحْتِمَالِ كَوْنِهَا حَاضَتْ مِنْ أَوَّلِهِ عَشَرَةً وَمِنْ آخِرِهِ خَمْسَةً أَوْ بِالْعَكْسِ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا حَاضَتْ فِي الْقَضَاءِ عَشَرَةً فَتُسَلِّمُ خَمْسَةَ عَشَر بِيَقِينٍ.
وَهَلْ يُقَدَّر لَهَا طُهْرٌ فِي حَقِّ الْعِدَّةِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُقَدِّرْ لَهَا طُهْرًا وَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا أَبَدًا مِنْهُمْ أَوْ عِصْمَةٌ وَالْقَاضِي أَبُو حَازِمٍ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَجُوزُ إلَّا تَوْقِيفًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ فَالْمَيْدَانِيُّ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ إلَّا سَاعَةً لِأَنَّ الطُّهْرَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ أَقَلُّ مِنْ أَدْنَى مُدَّةِ الْحَبَلِ عَادَةً فَنَقَصْنَا عَنْهُ سَاعَةً فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِتِسْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا إلَّا ثَلَاثَ سَاعَاتٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَوَّلَ الطُّهْرِ. قِيلَ وَيَنْبَغِي أَنْ تُزَادَ عَشَرَةً لِمِثْلِ مَا قُلْنَا. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ شَهْرَانِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي سَهْلٍ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ: سَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ يَوْمًا لِأَنَّهُ إذَا زَادَ عَلَيْهِ لَمْ يَبْقَ مَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ حَيْضًا، وَقَالَ الزَّعْفَرَانِيُّ: سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي الْغَالِبِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَذَكَرَ بُرْهَانُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ الشَّهِيدِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ وَهُوَ التَّقْدِيرُ بِشَهْرَيْنِ
(قَوْلُهُ تَوَضَّئِي وَصَلِّي إلَخْ) رَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدِهِ إلَى عَائِشَةَ قَالَتْ «جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ: لَا اجْتَنِبِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ مَحِيضِكِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ ثُمَّ صَلِّي وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ» وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَفِي سَنَدَيْهِمَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَفَسَّرَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: ضَعَّفَ يَحْيَى هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ لَمْ يَرَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَرْجَمَةِ عُرْوَةَ الْمُزَنِيّ عَنْ عَائِشَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي تَرْجَمَةِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْهَا، وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ وَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ «وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ»
(قَوْلُهُ وَلَوْ زَادَ الدَّمُ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَلَهَا عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ دُونَهَا رَدَّتْ إلَى أَيَّامِ عَادَتِهَا) فَيَكُونُ الزَّائِدُ عَلَى الْعَادَةِ اسْتِحَاضَةً وَإِنْ كَانَ دَاخِلَ الْعَشَرَةِ، وَهَلْ تَتْرُكُ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَتِهَا الزِّيَادَةَ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قِيلَ لَا إذَا لَمْ يُتَيَقَّنْ بِكَوْنِهِ حَيْضًا لِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْعَشَرَةِ، وَقِيلَ نَعَمْ
وَاَلَّذِي زَادَ اسْتِحَاضَةٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام
اسْتِصْحَابًا لِلْحَالِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الصِّحَّةُ وَكَوْنُهُ اسْتِحَاضَةً بِكَوْنِهِ عَنْ دَاءٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَإِنْ لَمْ يَتَجَاوَزْ الزَّائِدُ الْعَشَرَةَ فَالْكُلُّ حَيْضٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ يَصِيرُ عَادَةً لَهَا أَوَّلًا إلَّا إنْ رَأَتْ فِي الثَّانِي كَذَلِكَ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى نَقْلِ الْعَادَةِ بِمَرَّةٍ أَوْ لَا فَعِنْدَهُمَا لَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ نَعَمْ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ، وَالْكَافِي أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَالْخِلَافُ فِي الْعَادَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَهِيَ أَنْ تَرَى دَمَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ وَطُهْرَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ عَلَى الْوَلَاءِ أَوْ أَكْثَرَ لَا الْجَعْلِيَّةِ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقَدَّرُ حَيْضُهَا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ مَا رَأَتْهُ آخِرًا، وَعِنْدَهُمَا عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَصُورَةُ الْعَادَةِ الْجَعْلِيَّةِ أَنْ تَرَى أَطْهَارًا مُخْتَلِفَةً وَدِمَاءً مُخْتَلِفَةً بِأَنْ رَأَتْ فِي الِابْتِدَاءِ خَمْسَةً دَمًا وَسَبْعَةَ عَشَرَ طُهْرًا ثُمَّ أَرْبَعَةً وَسِتَّةَ عَشَرَ ثُمَّ ثَلَاثَةً وَخَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ تَبْنِي عَلَى أَوْسَطِ الْأَعْدَادِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عُثْمَانَ سَعِيدِ بْنِ مُزَاحِمٍ تَبْنِي عَلَى أَقَلِّ الْمَرَّتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ تَدَعُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ أَرْبَعَةً وَتُصَلِّي سِتَّةَ عَشَرَ وَذَلِكَ دَأْبُهَا، وَعَلَى الثَّانِي تَدَعُ ثَلَاثَةً وَتُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ فَهَذِهِ عَادَةٌ جَعْلِيَّةٌ لَهَا فِي زَمَانِ الِاسْتِمْرَارِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ جَعْلِيَّةً لِأَنَّهَا جُعِلَتْ عَادَةً لِلضَّرُورَةِ هَكَذَا فِي الْمُصَفَّى، وَفِي غَيْرِهِ مَعْزُوًّا إلَى الْمَبْسُوطِ: إنْ كَانَ حَيْضُهَا مُخْتَلِفًا مَرَّةً تَحِيضُ خَمْسَةً وَمَرَّةً سَبْعَةً فَاسْتُحِيضَتْ فَإِنَّهَا تَدَعُ الصَّلَاةَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ تَغْتَسِلُ لِتَوَهُّمِ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ، وَتُصَلِّي يَوْمَيْنِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ لِأَنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ، وَلَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ وَلَوْ كَانَ آخِرَ عِدَّتِهَا لَيْسَ لِلزَّوْجِ مُرَاجَعَتُهَا فِيهِمَا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِآخَرَ فِيهِمَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ بَعْدَهُمَا لِتَوَهُّمِ خُرُوجِهَا الْآنَ فَتَأْخُذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي كُلِّ جَانِبٍ: وَهَذَا التَّفْصِيلُ خِلَافُ مَا فِي الْمُصَفَّى وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْخُلَاصَةِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهَا تَأْخُذُ بِالْأَقَلِّ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَانْقِطَاعِ الرَّجْعَة وَبِالْأَكْثَرِ فِي التَّزَوُّجِ وَتُعِيدُ الِاغْتِسَالَ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْعَادَةِ الْجَعْلِيَّةِ إذَا طَرَأَتْ عَلَى الْعَادَةِ الْأَصْلِيَّةِ هَلْ تَنْتَقِضُ الْأَصْلِيَّةَ؟ قَالَ أَئِمَّةُ بَلْخٍ: لَا لِأَنَّهَا دُونَهَا، وَقَالَ أَئِمَّةُ بُخَارَى. نَعَمْ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَتَكَرَّرَ فِي الْجَعْلِيَّةِ خِلَافَ مَا كَانَ فِي الْأَصْلِيَّةِ كَمَا أَرَيْتُك فِي صُورَتِهَا، وَالْجَعْلِيَّةُ تُنْتَقَضُ: بِرُؤْيَةِ الْمُخَالِفِ مَرَّةً بِالِاتِّفَاقِ، هَذَا فِي الِانْتِقَالِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدِ، وَأَمَّا الِانْتِقَالُ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانِ وَهُوَ فِي الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ، فَالْأَوَّلُ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ: رَأَتْ الْمُعْتَادَةُ قَبْلَ أَيَّامِهَا مَا يَكُونُ حَيْضًا، وَفِي أَيَّامِهَا مَا لَا يَكُونُ حَيْضًا، أَوْ رَأَتْ قَبْلَهَا مَا لَا يَكُونُ وَكَذَا فِيهَا وَإِذَا جُمِعَا كَانَا حَيْضًا، أَوْ رَأَتْ قَبْلَهَا مَا يَكُونُ وَلَمْ تَرَ فِيهَا شَيْئًا لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْأَمْرُ مَوْقُوفٌ إلَى الشَّهْرِ الثَّانِي فَإِنْ رَأَتْ فِيهِ كَذَلِكَ يَكُونُ الْكُلُّ حَيْضًا، غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِطَرِيقِ الْعَادَةِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِطَرِيقِ الْبَدَلِ، وَلَوْ رَأَتْ قَبْلَ أَيَّامِهَا مَا لَا يَكُونُ حَيْضًا وَفِيهَا مَا يَكُونُ فَالْكُلُّ حَيْضٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَا قَبْلَ أَيَّامِهَا تَبَعٌ لِأَيَّامِهَا الِاسْتِبَاعُ الْكَثِيرُ الْقَلِيلَ، وَقُيِّدَ فِي الْخُلَاصَةِ كَوْنُ الْكُلِّ حَيْضًا بِأَنْ لَا يُجَاوِزَ الْمَجْمُوعُ الْعَشَرَةَ وَهُوَ حَسَنٌ وَإِلَّا تَرُدُّ إلَى عَادَتِهَا، وَلَوْ رَأَتْ قَبْلَهَا مَا يَكُونُ وَفِيهَا كَذَلِكَ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْمُتَأَخِّرِ غَيْرَ أَنَّهَا إذَا رَأَتْ بَعْدَ أَيَّامِهَا مَا لَا يَكُونُ حَيْضًا، وَفِي أَيَّامِهَا مَا يَكُونُ حَيْضًا يَكُونُ حَيْضًا رِوَايَةً وَاحِدَةً كَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ.
وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْكُلِّ يَكُونُ حَيْضًا عَادَةً وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَلَا يَظْهَرُ وَجْهٌ لِلتَّقْيِيدِ بِكَوْنِ الْمَرْئِيِّ بَعْدَ أَيَّامِهَا لَا يَكُونُ حَيْضًا لِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ إذَا زَادَ الدَّمُ عَلَى الْعَادَةِ وَلَمْ يُجَاوِزْ الْعَشَرَةَ يَكُونُ الْكُلُّ حَيْضًا بِحُكْمِ مَا تَقَدَّمَ، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ لَوْ كَانَ عَادَتُهَا ثَلَاثَةً فَرَأَتْ سَبْعَةً يَكُونُ الْكُلُّ حَيْضًا وَكَانَ الْأَوْلَى التَّقْيِيدُ،
«الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا» وَلِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْعَادَةِ يُجَانِسُ مَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ فَيُلْحَقُ بِهِ، وَإِنْ ابْتَدَأَتْ مَعَ الْبُلُوغِ مُسْتَحَاضَةً فَحَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَالْبَاقِي اسْتِحَاضَةٌ لِأَنَّا عَرَفْنَاهُ حَيْضًا فَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ بِالشَّكِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بِأَنْ لَا يَحْصُلَ مِنْ الْمَرْئِيِّ بَعْدَهَا مَعَهَا أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةٍ، وَكَذَا لَوْ رَأَتْ عَادَتَهَا وَقَبْلَهَا وَبَعْدَهَا مَا يَزِيدُ الْكُلُّ عَلَى عَشَرَةٍ فَعَادَتُهَا فَقَطْ حَيْضٌ، وَمِنْ الرَّدِّ إلَى الْعَادَةِ امْرَأَةٌ قَالَتْ عَادَتِي فِي الْحَيْضِ عَشَرَةٌ وَفِي الطُّهْرِ عِشْرُونَ، وَالْآنَ أَرَى الطُّهْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ أَرَى الدَّمَ تُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ إلَى تَمَامِ الْعِشْرِينَ ثُمَّ تَتْرُكُ فِي الْعَشَرَةِ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْخُلَاصَةِ فِي آخِرِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ إذَا رَأَتْ قَبْلَ أَيَّامِهَا وَالْبَاقِي مِنْ أَيَّامِ طُهْرِهَا مَا لَوْ ضَمَّ إلَى أَيَّامِ حَيْضِهَا لَا يُجَاوِزُ الْعَشَرَةَ تُؤْمَرُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ، يَصِحُّ مُطْلَقًا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْقَائِلِ بِالْإِبْدَالِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ مَا قَبْلَ أَيَّامِهَا لَا يَكُونُ حَيْضًا، فَإِنْ كَانَ فَعَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا آنِفًا (قَوْلُهُ الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ إلَخْ) رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ آنِفًا قَالَ «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ» (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْعَادَةِ يُجَانِسُ الزَّائِدَ عَلَى الْعَشَرَةِ) مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْمُقَدَّرِ، إذْ الْمُقَدَّرُ الْعَادِي كَالْمُقَدَّرِ الشَّرْعِيِّ فَالزَّائِدُ عَلَيْهِ كَالزَّائِدِ عَلَيْهِ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْمَعْهُودِ (قَوْلُهُ فَحَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ) تَقَدَّمَتْ هَذِهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهَا أَنَّ حَيْضَهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَعَشَرَةٌ فِي حَقِّ الْوَطْءِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ، كَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ، وَفِيهَا الْخُنْثَى إذَا خَرَجَ لَهُ دَمٌ وَمَنِيٌّ فَالْعِبْرَةُ لِلْمَنِيِّ.
فَصْلٌ فِي الِاسْتِحَاضَة
(وَالْمُسْتَحَاضَةُ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَالرُّعَافُ الدَّائِمُ وَالْجُرْحُ الَّذِي لَا يَرْقَأُ يَتَوَضَّئُونَ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ فَيُصَلُّونَ بِذَلِكَ الْوُضُوءِ فِي الْوَقْتِ مَا شَاءُوا مِنْ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: تَتَوَضَّأُ الْمُسْتَحَاضَةُ لِكُلِّ مَكْتُوبَةٍ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ» وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ طَهَارَتِهَا ضَرُورَةُ أَدَاءِ الْمَكْتُوبَةِ فَلَا تَبْقَى
(فَصْلٌ)
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ») هُوَ الْمَرْوِيُّ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْمُسْتَحَاضَةِ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ فَذَكَرَ سِبْطُ بْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ رضي الله عنه رَوَاهُ اهـ. وَفِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ: رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ «وَتَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ» ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ مُعْضِلًا. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَرُوِيَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ «وَتَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ» وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا
بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ» وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ لِأَنَّ اللَّامَ تُسْتَعَارُ لِلْوَقْتِ، يُقَالُ آتِيك لِصَلَاةِ الظُّهْرِ: أَيْ وَقْتِهَا، وَلِأَنَّ الْوَقْتَ أُقِيمَ مَقَامَ الْأَدَاءِ تَيْسِيرًا فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ (وَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ بَطَلَ وَضْؤُهُمْ وَاسْتَأْنَفُوا الْوُضُوءَ لِصَلَاةٍ أُخْرَى) وَهَذَا عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ.
مُحْكَمٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ صَلَاةٍ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ شَاعَ اسْتِعْمَالُهَا فِي لِسَانِ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ فِي وَقْتِهَا، فَمِنْ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا» الْحَدِيثَ: أَيْ وَقْتِهَا، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ» وَمِنْ الثَّانِي آتِيك لِصَلَاةِ الظُّهْرِ: أَيْ لِوَقْتِهَا، وَهُوَ مِمَّا لَا يُحْصَى كَثْرَةً فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمُحْكَمِ. وَقَدْ رَجَّحَ أَيْضًا بِأَنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ بِالْإِجْمَاعِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ حَقِيقَةَ كُلِّ صَلَاةٍ لِجَوَازِ النَّفْلِ مَعَ الْفَرْضِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ (قَوْلُهُ وَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ بَطَلَ وُضُوءُهُمْ) هَذَا إذَا تَوْضُؤَا عَلَى السَّيَلَانِ أَوْ
وَقَالَ زُفَرُ: اسْتَأْنَفُوا إذَا دَخَلَ الْوَقْتُ (فَإِنْ تَوَضَّئُوا حِينَ تَطْلُعَ الشَّمْسُ أَجْزَأَهُمْ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ حَتَّى يَذْهَبَ وَقْتُ الظُّهْرِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ أَجْزَأَهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الظُّهْرِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ طَهَارَةَ الْمَعْذُورِ تُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ: أَيْ عِنْدَهُ بِالْحَدَثِ السَّابِقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَبِدُخُولِهِ فَقَطْ عِنْدَ زُفَرَ، وَبِأَيِّهِمَا كَانَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ
وَجَدَ السَّيَلَانَ بَعْدَ الْوُضُوءِ، أَمَّا إنْ كَانَ عَلَى الِانْقِطَاعِ وَدَامَ إلَى خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا يَبْطُلُ بِالْخُرُوجِ مَا لَمْ يُحْدِثْ حَدَثًا آخَرَ أَوْ يَسِلْ دَمُهَا (قَوْلُهُ أَيْ عِنْدَهُ بِالْحَدَثِ السَّابِقِ) فَقَوْلُنَا خُرُوجُ الْوَقْتِ نَاقِضٌ أَوْ الدُّخُولُ مَجَازُ عَقْلٍ فِي الْإِسْنَادِ، وَأَوْرَدَ لَوْ اسْتَنَدَ النَّقْضُ إلَى السَّابِقِ لَوَجَبَ إذَا شَرَعَتْ فِي التَّطَوُّعِ ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ عَدَمُ لُزُومِ قَضَائِهَا لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَعْلَمُ أَنَّهَا شَرَعَتْ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ طَهُورًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ مِنْ وَجْهٍ وَاقْتِصَارٌ مِنْ وَجْهٍ، فَأَظْهَرْنَا الِاقْتِصَارَ فِي الْقَضَاءِ وَالظُّهُورَ فِي حَقِّ الْمَسْحِ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ: يَعْنِي الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْكَسْ لِلِاحْتِيَاطِ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ اقْتِصَارٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَكَوْنُهُ بِالْحَدَثِ السَّابِقِ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاسْتِنَادَ لِيَظْهَرَ عَدَمُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ إذْ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْحَدَثَ مَحْكُومٌ بِارْتِفَاعِهِ إلَى غَايَةٍ مَعْلُومَةٍ فَيَظْهَرُ عِنْدَهَا مُقْتَصِرًا، لَا أَنْ يَظْهَرَ قِيَامُهُ شَرْعًا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَمَنْ حَقَّقَ أَنَّ هَذِهِ اعْتِبَارَاتٌ شَرْعِيَّةٌ لَا يَشْكُلُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ (قَوْلُهُ وَبِدُخُولِهِ فَقَطْ عِنْدَ زُفَرَ وَبِأَيِّهِمَا كَانَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) رَأَى فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَنَّ زُفَرَ لَمْ يَرَ ذَلِكَ وَلَا أَبَا يُوسُفَ، فَالْكُلُّ مُتَّفِقُونَ عَلَى انْتِقَاضِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ،
وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ لَا تَظْهَرُ إلَّا فِيمَنْ تَوَضَّأَ قَبْلَ الزَّوَالِ كَمَا ذَكَرْنَا أَوْ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. لِزُفَرَ أَنَّ اعْتِبَارَ الطَّهَارَةِ مَعَ الْمُنَافِي لِلْحَاجَةِ إلَى الْأَدَاءِ وَلَا حَاجَةَ قَبْلَ الْوَقْتِ فَلَا تُعْتَبَرُ.
وَإِنَّمَا لَمْ يُنْتَقَضْ عِنْدَ زُفَرَ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ لِأَنَّ قِيَامَ الْوَقْتِ جُعِلَ عُذْرًا وَقَدْ بَقِيَتْ شُبْهَتُهُ فَصَلَحَتْ لِبَقَاءِ حُكْمِ الْعُذْرِ تَحْقِيقًا، وَإِنَّمَا تَحْتَاجُ لِلطَّهَارَةِ لِلظُّهْرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا تَوَضَّأَتْ قَبْلَ الزَّوَالِ وَدَخَلَ وَقْتَ الظُّهْرِ لِأَنَّ طَهَارَتَهَا ضَرُورِيَّةٌ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي تَقْدِيمِهَا عَلَى الْوَقْتِ لَا لِأَنَّ طَهَارَتَهَا انْتَقَضَتْ عِنْدَ الدُّخُولِ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ طَهَارَتَهَا لَمْ تَصِحَّ حَتَّى لَا تَجُوزَ الصَّلَاةُ بِهَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَا أَنَّهَا صَحَّتْ وَانْتَقَضَتْ. وَقَوْلُهُ فِي الْهِدَايَةِ (لِزُفَرَ أَنَّ اعْتِبَارَ الطَّهَارَةِ مَعَ الْمُنَافِي لِلْحَاجَةِ إلَى الْأَدَاءِ وَلَا حَاجَةَ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَاجَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْوَقْتِ فَلَا تُعْتَبَرُ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ) صَرِيحٌ فِي مُوَافَقَةِ كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ، وَفِي أَنَّ الطَّهَارَةَ تَقْبَلُهُ لَمْ تَصِحَّ لَا أَنَّهَا انْتَقَضَتْ بَعْدَ الصِّحَّةِ، وَحِينَئِذٍ فَالْخِلَافُ فِيمَنْ تَوَضَّأَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ قَبْلَ الشَّمْسِ ابْتِدَائِيٌّ فِي نَفْسِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ وَعَدَمِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَقْتِ لَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَنَاطِ النَّقْضِ فَلَيْسَ وَضْعُ الْخِلَافِ صَحِيحًا: فَمَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ مِنْ أَنَّهَا طَهَارَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ النَّفْلِ وَقَضَاءِ الْفَوَائِتِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحَاجَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِأَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ مُنْعَدِمَةٌ فِي حَقِّ تِلْكَ الطَّهَارَةِ لَا أَنَّهَا
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَاجَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْوَقْتِ فَلَا تُعْتَبَرُ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ. وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ عَلَى الْوَقْتِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْأَدَاءِ كَمَا دَخَلَ الْوَقْتُ، وَخُرُوجُ الْوَقْتِ دَلِيلُ زَوَالِ الْحَاجَةِ، فَظَهَرَ اعْتِبَارُ الْحَدَثِ عِنْدَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْوَقْتِ وَقْتُ الْمَفْرُوضَةِ حَتَّى لَوْ تَوَضَّأَ الْمَعْذُورُ لِصَلَاةِ الْعِيدِ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ بِهِ عِنْدَهُمَا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الضُّحَى، وَلَوْ تَوَضَّأَ مَرَّةً لِلظُّهْرِ فِي وَقْتِهِ وَأُخْرَى فِيهِ لِلْعَصْرِ فَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ بِهِ لِانْتِقَاضِهِ بِخُرُوجِ وَقْتِ الْمَفْرُوضَةِ
غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ أَصْلًا حَسَنٌ (قَوْلُهُ فَعِنْدَ هُمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ بِهَذِهِ الطَّهَارَةِ) فَإِنَّمَا خَصَّهُمَا مَعَ أَنَّ الْكُلَّ عَلَى هَذَا لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تَأْتِي عَلَى قَوْلِهِمَا، إذْ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الطَّهَارَةَ عَلَى الْوَقْتِ وَلَا يُنْتَقَضُ بِالدُّخُولِ، وَمَعَ هَذَا لَا يُصَلِّي الْعَصْرَ بِهَذِهِ لِأَنَّهُ دُخُولٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى خُرُوجٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ الْعَصْرِ بِهَذِهِ الطَّهَارَةِ فِيمَا إذَا كَانَتْ عَلَى السَّيَلَانِ
وَالْمُسْتَحَاضَةُ هِيَ الَّتِي لَا يَمْضِي عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ إلَّا وَالْحَدَثُ الَّذِي اُبْتُلِيَتْ بِهِ يُوجَدُ فِيهِ،
أَوْ وُجِدَ بَعْدَهَا وَإِلَّا فَلَهُ ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ وَالْمُسْتَحَاضَةُ هِيَ الَّتِي لَا يَمْضِي عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ إلَّا وَالْحَدَثُ الَّذِي اُبْتُلِيَتْ بِهِ يُوجَدُ فِيهِ) لَمَّا أَعْطَى حُكْمَ الْمُسْتَحَاضَةِ أَفَادَ تَصْوِيرَهَا، وَكَانَ الْأَوْلَى تَقْدِيمَهُ عَلَى الْحُكْمِ لِتَقَدُّمِ التَّصَوُّرِ عَلَى الْحُكْمِ الْمُتَصَوَّرِ لَكِنَّهُ بَادَرَ إلَى الْحُكْمِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ مَعَ عَدَمِ الْفَوَاتِ، إذْ قَدْ أَفَادَ التَّصْوِيرُ لَكِنَّهُ أَخَّرَهُ فَإِنَّمَا فِيهِ وَجْهُ التَّقْدِيمِ وَقَدْ انْتَظَمَهُ كَلَامُنَا.
قِيلَ الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ هِيَ الَّتِي لَا يَخْلُو وَقْتُ الْوُضُوءِ أَوْ بَعْدَهُ فِي الْوَقْتِ عَنْ الْحَدَثِ الَّذِي اُبْتُلِيَتْ بِدَوَامِهِ لِأَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى الْأَوَّلِ إذَا رَأَتْ الدَّمَ أَوَّلَ الْوَقْتِ ثُمَّ انْقَطَعَ فَتَوَضَّأَتْ وَدَامَ الِانْقِطَاعُ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ لَا تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهَا، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ تَفْسِيرُ الْمُسْتَحَاضَةِ لَا تَنْقُضُ لِأَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ حُكْمُهَا ذَلِكَ. وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ لِلْمُتَأَمِّلِ إنَاطَةُ ثُبُوتِ وَصْفِ الِاسْتِحَاضَةِ وَاسْمِ الْمُسْتَحَاضَةِ بِوُجُودِ الْوُضُوءِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تَتَوَضَّأْ وَلَمْ تُصَلِّ لِمَرَضٍ يُعْجِزُهَا عَنْ الْإِيمَاءِ أَوْ فِسْقًا وَهِيَ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ بَعْدَ دَوَامِهِ وَقْتًا كَامِلًا كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً قَطْعًا غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ إنَّمَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهَا بِالْخُرُوجِ إذَا كَانَ السَّيَلَانُ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ فِي الْوَقْتِ وَتَرْكُ التَّقْيِيدِ بِهِ فِي إعْطَائِهَا هَذَا الْحُكْمَ لِظُهُورِهِ وَعَلَيْهِ قُلْنَا لَوْ تَوَضَّأَتْ وَصَلَّتْ بَعْضَ الصَّلَاةِ فَخَرَجَ الْوَقْتُ ثُمَّ سَالَ تَتَوَضَّأُ وَتَبْنِي لِأَنَّ الِانْتِقَاضَ بِالْحَدَثِ لَا بِالْخُرُوجِ لِيَكُونَ بِظُهُورِ الْحَدَثِ السَّابِقِ فَتَسْتَقْبِلُ ثُمَّ تُحَقِّقُ كَوْنَهَا مُبْتَلَاةً بِهِ، وَكَذَا سَائِرُ الْمَعْذُورِينَ ابْتِدَاءً بِاسْتِيعَابِهِ وَقْتَ صَلَاةٍ كَامِلٍ. وَفِي الْكَافِي: إنَّمَا يَصِيرُ صَاحِبَ عُذْرٍ إذَا لَمْ يَجِدْ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ زَمَنًا يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي فِيهِ خَالِيًا عَنْ الْحَدَثِ. وَالْأَوْلَى عِبَارَةُ عَامَّةِ الْكُتُبِ وَهَذَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لَهَا، إذْ قَلَّمَا يَسْتَمِرُّ كَمَالُ وَقْتٍ بِحَيْثُ لَا يَنْقَطِعُ لَحْظَةً فَيُؤَدِّي إلَى نَفْيِ تَحَقُّقِهِ إلَّا فِي الْإِمْكَانِ، بِخِلَافِ جَانِبِ الصِّحَّةِ مِنْهُ فَإِنَّهُ بِدَوَامِ انْقِطَاعِهِ وَقْتًا كَامِلًا وَهُوَ مِمَّا يَتَحَقَّقُ، وَبِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ الِاسْتِيعَابِ فِي الِابْتِدَاءِ قَالُوا، لَوْ سَالَ جُرْحُهُ انْتَظَرَا آخِرَ
وَكَذَا كُلُّ مَنْ هُوَ مَعْنَاهَا
وَهُوَ مَنْ ذَكَرْنَاهُ وَمَنْ بِهِ اسْتِطْلَاقُ بَطْنٍ وَانْفِلَاتُ رِيحٍ
الْوَقْتِ، فَإِنْ لَمْ يَنْقَطِعْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قَبْلَ خُرُوجِهِ، فَإِنْ فَعَلَ فَدَخَلَ وَقْتُ أُخْرَى فَانْقَطَعَ فِيهِ أَعَادَ الْأُولَى لِعَدَمِ الِاسْتِيعَابِ، وَإِنْ لَمْ يَنْقَطِعْ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ حَتَّى خَرَجَ لَا يُعِيدُهَا لِوُجُودِ الِاسْتِيعَابِ، كَمَا لَوْ قَالُوا فِي جَانِبِ الِانْقِطَاعِ لَوْ تَوَضَّأَ عَلَى السَّيَلَانِ وَصَلَّى عَلَى الِانْقِطَاعِ أَوْ انْقَطَعَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ إنْ عَادَ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي فَلَا إعَادَةَ لِعَدَمِ الِانْقِطَاعِ وَقْتًا تَامًّا وَإِنْ لَمْ يَعُدْ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِلِانْقِطَاعِ التَّامِّ فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا صَلَّتْ صَلَاةَ الْمَعْذُورِينَ وَلَا عُذْرَ، هَذَا.
وَمَتَى قَدَرَ الْمَعْذُورُ عَلَى رَدِّ السَّيَلَانِ بِرِبَاطٍ أَوْ حَشْوٍ أَوْ كَانَ لَوْ جَلَسَ لَا يَسِيلُ وَلَوْ قَامَ سَالَ وَجَبَ رَدُّهُ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِرَدِّهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ عُذْرٍ، بِخِلَافِ الْحَائِضِ إذَا مَنَعَتْ الدُّرُورَ فَإِنَّهَا حَائِضٌ، وَيَجِبُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا بِإِيمَاءٍ إنْ سَالَ بِالْمَيَلَانِ لِأَنَّ تَرْكَ السُّجُودِ أَهْوَنُ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِإِيمَاءٍ لَهَا وَجَرَّدَ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ فِي التَّنَفُّلِ عَلَى الدَّابَّةِ، وَلَا يَجُوزُ مَعَ الْحَدَثِ بِحَالٍ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ، وَعَنْ هَذَا قُلْنَا لَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ صَلَّى قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا سَالَ جُرْحُهُ وَإِنْ اسْتَلْقَى لَا يَسِيلُ وَجَبَ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ كَمَا لَا تَجُوزُ مَعَ الْحَدَثِ إلَّا ضَرُورَةً لَا تَجُوزُ مُسْتَلْقِيًا إلَّا لَهَا فَاسْتَوَيَا، وَتَرَجَّحَ الْأَدَاءُ مَعَ الْحَدَثِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْرَازِ الْأَرْكَانِ، وَهَلْ يَجِبُ غَسْلُ الثَّوْبِ مِنْ النَّجَاسَةِ الَّتِي اُبْتُلِيَ بِهَا؟ قِيلَ لَا لِأَنَّ الْوُضُوءَ عَرَّفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَالنَّجَاسَةُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ قَلِيلَهَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ فَأَلْحَقَ بِالْقَلِيلِ لِلضَّرُورَةِ. وَقِيلَ إذَا أَصَابَهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ يَغْسِلُهُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَشْرَعَ بِثَوْبٍ طَاهِرٍ، وَفِي الصَّلَاةِ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ فِيهَا، وَفِي الْمُجْتَبَى: قَالَ الْقَاضِي: لَوْ غَسَلَتْ ثَوْبَهَا وَهُوَ يُحَالُ يَبْقَى طَاهِرًا إلَى أَنْ تَفْرُغَ لَا إلَى أَنْ يَخْرُجَ الْوَقْتُ، فَعِنْدَنَا تُصَلِّي بِدُونِ غَسْلٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا لِأَنَّ الطَّهَارَةَ عِنْدَنَا مُقَدَّرَةٌ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ وَعِنْدَهُ بِالْفَرَاغِ. وَفِي النَّوَازِلِ: وَإِذَا كَانَ بِهِ جُرْحٌ سَائِلٌ وَشَدَّ عَلَيْهِ خِرْقَةً فَأَصَابَهُ الدَّمُ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ أَوْ أَصَابَ ثَوْبَهُ فَصَلَّى وَلَمْ يَغْسِلْهُ، إنْ كَانَ لَوْ غَسَلَهُ تَنَجَّسَ ثَانِيًا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ جَازَ أَنْ لَا يَغْسِلَهُ وَإِلَّا فَلَا هُوَ الْمُخْتَارُ، وَلَوْ كَانَتْ بِهِ دَمَامِيلُ وَجُدَرِيٌّ فَتَوَضَّأَ وَبَعْضُهَا سَائِلٌ ثُمَّ سَالَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ سَائِلًا انْتَقَضَ لِأَنَّ هَذَا حَدَثٌ جَدِيدٌ فَصَارَ كَالْمَنْخِرَيْنِ، وَمَسْأَلَةُ الْمَنْخِرَيْنِ مَذْكُورَةٌ فِي الْأَصْلِ، وَهِيَ مَا إذَا سَالَ أَحَدُ مَنْخِرَيْهِ فَتَوَضَّأَ مَعَ سَيَلَانِهِ وَصَلَّى ثُمَّ سَالَ الْمَنْخِرُ الْآخَرُ فِي الْوَقْتِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ لِأَنَّ هَذَا حَدَثٌ جَدِيدٌ.
[فَرْعٌ]
فِي عَيْنِهِ رَمَدٌ يَسِيلُ دَمْعُهَا يُؤْمَرُ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ وَقْتٍ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ صَدِيدًا. وَأَقُولُ: هَذَا التَّعْلِيلُ
لِأَنَّ الضَّرُورَةَ بِهَذَا تَتَحَقَّقُ وَهِيَ تَعُمُّ الْكُلَّ
فَصْلٌ فِي النِّفَاسِ
(النِّفَاسُ هُوَ الدَّمُ الْخَارِجُ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ) لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ تَنَفُّسِ الرَّحِمِ بِالدَّمِ أَوْ مِنْ خُرُوجِ النَّفْسِ بِمَعْنَى الْوَلَدِ أَوْ بِمَعْنَى الدَّمِ (وَالدَّمُ الَّذِي تَرَاهُ الْحَامِلُ ابْتِدَاءً أَوْ حَالَ وِلَادَتِهَا قَبْلَ خُرُوجِ الْوَلَدِ اسْتِحَاضَةٌ) وَإِنْ كَانَ مُمْتَدًّا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: حَيْضٌ اعْتِبَارًا بِالنِّفَاسِ إذْ هُمَا جَمِيعًا مِنْ الرَّحِمِ.
يَقْتَضِي أَنَّهُ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ، فَإِنَّ الشَّكَّ وَالِاحْتِمَالَ فِي كَوْنِهِ نَاقِضًا لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِالنَّقْضِ إذَا الْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. نَعَمْ إذَا عَلِمَ مِنْ طَرِيقِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِإِخْبَارِ الْأَطِبَّاءِ أَوْ عَلَامَاتٍ تَغْلِبُ ظَنَّ الْمُبْتَلَى يَجِبُ.
(فَصْلٌ فِي النِّفَاسِ)
(قَوْلُهُ هُوَ الدَّمُ) يُفِيدُ أَنَّهَا لَوْ وَلَدَتْ وَلَمْ تَرَ دَمًا لَا تَكُونُ نُفَسَاءَ، ثُمَّ يَجِبُ الْغُسْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ احْتِيَاطًا لِأَنَّ الْوِلَادَةَ لَا تَخْلُو ظَاهِرًا عَنْ قَلِيلِ دَمٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجِبُ لِأَنَّهُ تَعَلُّقٌ بِالنِّفَاسِ وَلَمْ يُوجَدْ، ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ فِي التَّعْرِيفِ فَيُقَالُ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ مِنْ الْفَرْجِ، فَإِنَّهَا لَوْ وَلَدَتْ مِنْ قِبَلِ سُرَّتِهَا بِأَنْ كَانَ بِبَطْنِهَا جُرْحٌ فَانْشَقَّتْ وَخَرَجَ الْوَلَدُ مِنْهَا تَكُونُ صَاحِبَةَ جُرْحٍ سَائِلٍ لَا نُفَسَاءَ وَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَتَصِيرُ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ بِهِ، وَلَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِوِلَادَتِهَا وَقَعَ كَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ (قَوْلُهُ أَوْ بِمَعْنَى الدَّمِ) قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَنَا أَنَّ بِالْحَبَلِ يَنْسَدُّ فَمُ الرَّحِمِ كَذَا الْعَادَةُ، وَالنِّفَاسُ بَعْدَ انْفِتَاحِهِ بِخُرُوجِ الْوَلَدِ، وَلِهَذَا كَانَ نِفَاسًا بَعْدَ خُرُوجِ بَعْضِ الْوَلَدِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّهُ يَنْفَتِحُ فَيَتَنَفَّسُ بِهِ (وَالسَّقْطُ الَّذِي اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ وَلَدٌ) حَتَّى تَصِيرَ الْمَرْأَةُ بِهِ نُفَسَاءَ وَتَصِيرُ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ بِهِ وَكَذَا الْعِدَّةُ تَنْقَضِي بِهِ
(وَأَقَلُّ النِّفَاسِ لَا حَدَّ لَهُ)
تَسِيلُ عَلَى حَدِّ السُّيُوفِ نُفُوسُنَا
…
وَلَيْسَ عَلَى غَيْرِ السُّيُوفِ تَسِيلُ
(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ بِالْحَبَلِ يَنْسَدُّ فَمُ الرَّحِمِ كَذَا الْعَادَةُ) أَيْ الْعَادَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ عَدَمُ خُرُوجِ الدَّمِ وَهُوَ لِلِانْسِدَادِ ثُمَّ يَخْرُجُ بِخُرُوجِ الْوَلَدِ لِلِانْفِتَاحِ بِهِ، وَخُرُوجُ الدَّمِ مِنْ الْحَامِلِ أَنْدَرُ نَادِرٍ فَقَدْ لَا يَرَاهُ الْإِنْسَانُ فِي عُمْرِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ فِي كُلِّ حَامِلٍ بِانْسِدَادِ رَحِمِهَا اعْتِبَارًا لِلْمَعْهُودِ مِنْ أَبْنَاءِ نَوْعِهَا، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ إذَا رَأَتْ الدَّمَ الْحُكْمَ بِكَوْنِهِ غَيْرَ خَارِجٍ مِنْ الرَّحِمِ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ الْحُكْمَ بِكَوْنِهِ غَيْرَ حَيْضٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، لِذَا حَكَمَ الشَّارِعُ بِكَوْنِ وُجُودِ الدَّمِ دَلِيلًا عَلَى فَرَاغِ الرَّحِمِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَلَا لَا تُنْكَحُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ» مَعَ أَنَّ كَوْنَ الْمَرْئِيِّ حَيْضًا غَيْرَ مَعْلُومٍ لِجَوَازِ كَوْنِهِ اسْتِحَاضَةً وَهِيَ حَامِلٌ وَمَعَ ذَلِكَ أُهْدِرَ هَذَا التَّجْوِيزُ نَظَرًا إلَى الْغَالِبِ فِي أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ عَنْ فَرْجِ الْحَامِلِ دَمٌ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ اسْتِحَاضَةً لِنُدْرَةِ الِاسْتِحَاضَةِ (قَوْلُهُ بِخُرُوجِ بَعْضِ الْوَلَدِ) أَيْ أَكْثَرُهُ (قَوْلُهُ وَالسَّقْطُ الَّذِي اسْتَبَانَ بَعْضَ خَلْقِهِ) كَأُصْبُعٍ أَوْ ظُفْرٍ (وَلَدٌ) فَلَوْ لَمْ يَسْتَبِنْ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ وَلَدًا
لِأَنَّ تَقَدُّمَ الْوَلَدِ عُلِمَ الْخُرُوجُ مِنْ الرَّحِمِ فَأَغْنَى عَنْ امْتِدَادٍ جُعِلَ عِلْمًا عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْحَيْضِ
(وَأَكْثَرُهُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَالزَّائِدُ عَلَيْهِ اسْتِحَاضَةً) لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ «النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَقَّتَ لِلنُّفَسَاءِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» ،
فَإِنْ أَمْكَنَ جَعْلُهُ حَيْضًا بِأَنْ امْتَدَّ جَعْلُ إيَّاهُ وَإِلَّا فَاسْتِحَاضَةٌ. وَفِي الْفَتَاوَى: طَهُرَتْ شَهْرَيْنِ فَظَنَّتْ أَنَّ بِهَا حَبَلًا ثُمَّ أَسْقَطَتْ بَعْدَ شَهْرَيْنِ سَقْطًا لَمْ يَسْتَبِنْ خَلْقَهُ وَقَدْ رَأَتْ قَبْلَ الْإِسْقَاطِ عَشَرَةً دَمًا يَكُونُ حَيْضًا لِأَنَّهُ بَعْدَ طُهْرٍ صَحِيحٍ، وَهِيَ لَمَّا أَسْقَطَتْ سِقْطًا لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ لَمْ تُعْطَ حُكْمَ الْوِلَادَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ فَحُكِمَ بِأَنَّ هَذَا كَانَ دَمًا انْعَقَدَ ثُمَّ تَحَلَّلَ فَخَرَجَ فَلَمْ يَكُنْ دَمًا حَامِلِ فَكَانَ حَيْضًا
(قَوْلُهُ فَأَغْنَى عَنْ امْتِدَادِ جَعْلٍ عِلْمًا عَلَيْهِ فِي الْحَيْضِ) مَرْجِعُ ضَمِيرِ عَلَيْهِ خُرُوجُهُ مِنْ الرَّحِمِ، وَالِامْتِدَادُ الَّذِي جُعِلَ عِلْمًا عَلَى خُرُوجِ الدَّمِ مِنْ الرَّحِمِ فِي الْحَيْضِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا بَعْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ مِنْ تَقَدُّمِ نِصَابِ الطُّهْرِ وَغَيْرِهِ: أَيْ أَغْنَى عَنْ التَّعَرُّفِ بِهِ خُرُوجُ الْوَلَدِ، فَإِنَّ الَّذِي يَعْقُبُهُ مِنْ الدَّمِ ظَاهِرُ كَوْنِهِ مِنْ الرَّحِمِ. وَفِي بَعْضٍ مِنْ النُّسَخِ عَنْ امْتِدَادِ مَا جُعِلَ عِلْمًا عَلَيْهِ وَالْأَوْلَى فِيهِ تَنْوِينُ امْتِدَادٍ فَتَكُونُ مَا هِيَ الْمُنَبِّهَةُ عَلَى وَصْفٍ لَائِقٍ بِالْمَحَلِّ كَقَوْلِهِمْ: لِأَمْرِ مَا جَدَعَ قَصِيرُ أَنْفِهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْعُمُومُ فِي الِامْتِدَادَاتِ الْمُعَرِّفَةِ لِكَوْنِ الدَّمِ حَيْضًا وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ إلَى عَشَرَةٍ: أَيْ امْتِدَادُ مَا مِنْ هَذِهِ الِامْتِدَادَاتِ الَّتِي هِيَ ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعَةٌ إلَى عَشَرَةٍ، أَمَّا إنْ قُرِئَ بِإِضَافَةِ امْتِدَادٍ إلَى مَا فَالْمَعْنَى عَنْ امْتِدَادِ دَمٍ جُعِلَ بِوَصْفِ الِامْتِدَادِ عَلَامَةً فَإِنَّهُ نَفْسُهُ لَيْسَ عَلَامَةً بَلْ امْتِدَادُهُ أَوْ هُوَ بِوَصْفِ الِامْتِدَادِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ التَّكَلُّفِ
(قَوْلُهُ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ) رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «كَانَتْ النُّفَسَاءُ تَقْعُدُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ يَوْمًا» . وَأَثْنَى الْبُخَارِيُّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَأَمَّا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ مُصَنَّفِي الْفُقَهَاءِ إنَّهُ ضَعِيفٌ فَمَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى إعْلَالِ ابْنِ حِبَّانَ إيَّاهُ بِكَثِيرِ بْنِ زِيَادٍ أَبِي سَهْلٍ الْخُرَاسَانِيِّ. قَالَ عَنْهُ: كَانَ يَرْوِي الْأَشْيَاءَ الْمَقْلُوبَاتِ فَيُجْتَنَبُ مَا انْفَرَدَ بِهِ وَقَدْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ. قِيلَ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: كَانَتْ تُؤْمَرُ أَنْ تَجْلِسَ إلَى الْأَرْبَعِينَ لِيَصِحَّ، إذْ لَا يَتَّفِقُ عَادَةُ جَمِيعِ أَهْلِ عَصْرِ فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِلنُّفَسَاءِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» إلَّا أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَضَعَّفَهُ بِسَلَّامِ بْنِ سُلَيْمٍ الطَّوِيلِ. وَرُوِيَ هَذَا مِنْ
وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي اعْتِبَارِ السِّتِّينَ (وَإِنْ جَاوَزَ الدَّمُ الْأَرْبَعِينَ وَكَانَتْ وَلَدَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَهَا عَادَةٌ فِي النِّفَاسِ رَدَّتْ إلَى أَيَّامِ عَادَتِهَا) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْحَيْضِ (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا عَادَةٌ فَابْتِدَاءُ نِفَاسِهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ جَعْلُهُ نِفَاسًا
(فَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَنِفَاسُهَا مِنْ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: مِنْ الْوَلَدِ الْأَخِيرِ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رحمه الله لِأَنَّهَا حَامِلٌ بَعْدَ وَضْعِ الْأَوَّلِ فَلَا تَصِيرُ نُفَسَاءَ، كَمَا أَنَّهَا لَا تَحِيضُ، وَلِهَذَا تَنْقَضِي الْعِدَّةَ بِالْوَلَدِ الْأَخِيرِ بِالْإِجْمَاعِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْحَامِلَ إنَّمَا لَا تَحِيضُ لِانْسِدَادِ فَمِ الرَّحِمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَقَدْ انْفَتَحَ بِخُرُوجِ الْأَوَّلِ وَتَنَفَّسَ بِالدَّمِ فَكَانَ نِفَاسًا، وَالْعِدَّةُ تَعَلَّقَتْ بِوَضْعِ حَمْلٍ مُضَافٍ إلَيْهَا فَيَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ
عِدَّةِ طُرُقٍ لَمْ تَخْلُ عَنْ الطَّعْنِ، لَكِنَّهُ يَرْتَفِعُ بِكَثْرَتِهَا إلَى الْحَسَنِ. قَوْلُهُ وَالطُّهْرُ إذَا تَخَلَّلَ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ فَهُوَ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَلَ فَيُحْكَمُ بِكَوْنِ الْمَرْئِيِّ بَعْدَهُ حَيْضًا إنْ صَلَحَ وَإِلَّا فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ. [فَرْعٌ]
أُسْقِطَتْ فِي الْمَخْرَجِ مَا يَشُكُّ فِي أَنَّهُ مُسْتَبِينُ الْخَلْقِ أَوَّلًا وَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ إنْ أَسْقَطَتْ أَوَّلَ أَيَّامِهَا تَرَكَتْ الصَّلَاةَ قَدْرَ عَادَتِهَا بِيَقِينٍ لِأَنَّهَا إمَّا حَائِضٌ أَوْ نُفَسَاءُ، ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي عَادَتَهَا فِي الطُّهْرِ بِالشَّكِّ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهَا نُفَسَاءَ أَوْ طَاهِرَةً، ثُمَّ تَتْرُكُ الصَّلَاةَ قَدْرَ عَادَتِهَا بِيَقِينٍ لِأَنَّهَا إمَّا نُفَسَاءُ أَوْ حَائِضٌ، ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي عَادَتَهَا فِي الطُّهْرِ بِيَقِينٍ إنْ كَانَتْ اسْتَوْفَتْ أَرْبَعِينَ مِنْ وَقْتِ الْإِسْقَاطِ وَإِلَّا فَبِالشَّكِّ فِي الْقَدْرِ الدَّاخِلِ فِيهَا وَبِيَقِينٍ فِي الْبَاقِي، ثُمَّ تَسْتَمِرُّ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ أَسْقَطَتْ بَعْدَ أَيَّامِهَا فَإِنَّهَا تُصَلِّي مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ قَدْرَ عَادَتِهَا فِي الطُّهْرِ بِالشَّكِّ، ثُمَّ تَتْرُكُ قَدْرَ عَادَتِهَا فِي الْحَيْضِ بِيَقِينٍ.
وَحَاصِلُ هَذَا كُلُّهُ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلشَّكِّ وَيَجِبُ الِاحْتِيَاطُ. وَفِي كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِ الْخُلَاصَةِ غَلَطٌ فِي التَّصْوِيرِ هُنَا مِنْ النُّسَّاخِ فَاحْتُرِسَ مِنْهُ
(قَوْلُهُ فَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَنِفَاسُهَا) مَا خَرَجَ (مِنْ) الدَّمِ عَقِيبَ (الْوَلَدِ الْأَوَّلِ) مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ لِأَنَّهُمَا حِينَئِذٍ تَوْأَمَانِ، وَدَمُ النِّفَاسِ هُوَ الْفَاضِلُ عَنْ غِذَاءِ الْوَلَدِ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ الْمَمْنُوعِ خُرُوجُهُ بِانْسِدَادِ فَمِ الرَّحِمِ بِالْحَبَلِ، وَبِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ ظَهَرَ انْفِتَاحُهُ فَظَهَرَ أَنَّ الْخَارِجَ هُوَ ذَاكَ الَّذِي كَانَ مَمْنُوعًا، وَقَدْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِأَنَّ مَا كَانَ مِنْهُ يَنْتَهِي بِأَرْبَعِينَ حَتَّى لَوْ زَادَ اسْتَمَرَّ الدَّمُ عَلَيْهَا فِي الْوَلَدِ الْوَاحِدِ حُكِمَ
بَابُ الْأَنْجَاسِ وَتَطْهِيرِهَا
(تَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ وَاجِبٌ مِنْ بَدَنِ الْمُصَلِّي وَثَوْبِهِ وَالْمَكَانِ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} .
بِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فَيَلْزَمُ أَنَّ الْخَارِجَ بَعْدَ الثَّانِي بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ غَيْرُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ، فَظَهَرَ أَنَّ مَا عَلَّلَ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنْ أَنَّهَا حَامِلٌ وَصْفٌ لَا أَثَرَ لَهُ: إذْ الْمُؤَثِّرُ فِي نَفْيِ النِّفَاسِ ثُبُوتُ الِانْسِدَادِ لَا ثُبُوتُ الْحَمْلِ، بَلْ عَدَمُهُ فِي حَالَةِ الْحَمْلِ لَيْسَ إلَّا لِلِانْسِدَادِ وَقَدْ زَالَ فَهُوَ الْمَدَارُ، أَمَّا الْحَمْلُ فَعِلَّتُهُ قِيَامُ الْعِدَّةِ.
بَابُ الْأَنْجَاسِ وَتَطْهِيرِهَا
(قَوْلُهُ تَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ) أَيْ نَفْسُ مَحَلِّهَا أَمَّا هِيَ فَلَا تُطَهَّرُ (وَاجِبٌ) مُقَيَّدٌ بِالْإِمْكَانِ وَبِمَا إذَا لَمْ يَسْتَلْزِمْ ارْتِكَابَ مَا هُوَ أَشَدُّ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إزَالَتِهَا إلَّا بِإِبْدَاءِ عَوْرَتِهِ لِلنَّاسِ يُصَلِّي مَعَهَا لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ أَشَدُّ، فَلَوْ أَبَدَاهَا لِلْإِزَالَةِ فَسَقَ، إذْ مَنْ اُبْتُلِيَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مَحْظُورَيْنِ عَلَيْهِ أَنْ يَرْتَكِبَ أَهْوَنَهُمَا، أَمَّا مَنْ بِهِ نَجَاسَةٌ وَهُوَ مُحْدِثٌ إذَا وَجَدَ مَاءً يَكْفِي أَحَدَهُمَا فَقَطْ إنَّمَا وَجَبَ صَرْفُهُ إلَى النَّجَاسَةِ لَا الْحَدَثِ لِيَتَيَمَّمَ بَعْدَهُ فَيَكُونَ مُحَصِّلًا لِلطَّهَارَتَيْنِ، لَا لِأَنَّهَا أَغْلَظُ مِنْ الْحَدَثِ وَلَا أَنَّهُ صَرَفَ إلَى الْأَخَفِّ حَتَّى يَرُدَّ إشْكَالًا كَمَا قَالَهُ حَمَّادٌ حَتَّى أَوْجَبَ صَرْفَهُ إلَى الْحَدَثِ، وَقَوْلُنَا لِيَتَيَمَّمَ بَعْدَهُ هُوَ لِيَقَعَ تَيَمُّمُهُ صَحِيحًا اتِّفَاقًا، أَمَّا لَوْ تَيَمَّمَ قَبْلَ صَرْفِهِ إلَى النَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى مَا مَرَّ فِي التَّيَمُّمِ مِنْ أَنَّهُ مُسْتَحِقُّ الصَّرْفِ إلَيْهَا فَكَانَ مَعْدُومًا فِي حَقِّ الْحَدَثِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْإِزَالَةِ لِخَفَاءِ خُصُوصِ الْمَحَلِّ الْمُصَابِ مَعَ الْعِلْمِ بِتَنَجُّسِ الثَّوْبِ قِيلَ: الْوَاجِبُ غَسْلُ طَرَفٍ مِنْهُ، فَإِنْ غَسَلَهُ بِتَحَرٍّ أَوْ بِلَا تَحَرٍّ طَهُرَ، وَذِكْرُ الْوَجْهِ بَيِّنٌ أَنْ لَا أَثَرَ لِلتَّحَرِّي وَهُوَ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضَهُ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَةُ الثَّوْبِ وَقَعَ الشَّكُّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فِي قِيَامِ النَّجَاسَةِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِ الْمَغْسُولِ مَحَلَّهَا فَلَا يُقْضَى بِالنَّجَاسَةِ بِالشَّكِّ، كَذَا أَوْرَدَهُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ.
قَالَ: وَسَمِعْت الشَّيْخَ الْإِمَامَ تَاجَ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُهُ وَيَقِيسُهُ عَلَى مَسْأَلَةٍ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ هِيَ إذَا فَتَحْنَا حِصْنًا وَفِيهِمْ ذِمِّيٌّ لَا يُعْرَفُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ لِقِيَامِ الْمَانِعِ بِيَقِينٍ، فَلَوْ قُتِلَ الْبَعْضُ أَوْ أُخْرِجَ حَلَّ قَتْلُ الْبَاقِي لِلشَّكِّ فِي قِيَامِ الْمُحَرَّمِ كَذَا هُنَا.
وَفِي الْخُلَاصَةِ بَعْدَ مَا ذَكَرَهُ مُجَرَّدًا عَنْ التَّعْلِيلِ، فَلَوْ صَلَّى مَعَهُ صَلَوَاتٍ ثُمَّ ظَهَرَتْ النَّجَاسَةُ فِي طَرَفٍ آخَرَ يَجِبُ إعَادَةُ مَا صَلَّى اهـ.
وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ الثَّوْبُ فِيهِ نَجَاسَةٌ لَا يَدْرِي مَكَانَهَا يَغْسِلُ الثَّوْبَ كُلَّهُ انْتَهَى. وَهُوَ الِاحْتِيَاطُ.
وَذَلِكَ التَّعْلِيلُ مُشْكِلٌ عِنْدِي، فَإِنَّ غَسْلَ طَرَفٍ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي طُهْرِ الثَّوْبِ بَعْدَ الْيَقِينِ بِنَجَاسَتِهِ قَبْلُ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ شَكَّ فِي الْإِزَالَةِ بَعْدَ تَيَقُّنِ قِيَامِ النَّجَاسَةِ، وَالشَّكُّ لَا يَرْفَعُ الْمُتَيَقَّنَ قَبْلَهُ، وَالْحَقُّ أَنَّ ثُبُوتَ الشَّكِّ فِي كَوْنِ الطَّرَفِ الْمَغْسُولِ وَالرَّجُلِ الْمُخْرَجِ هُوَ مَكَانُ النَّجَاسَةِ وَالْمَعْصُومُ الدَّمِ يُوجِبُ أَلْبَتَّةَ الشَّكَّ فِي طُهْرِ الْبَاقِي وَإِبَاحَةِ دَمِ الْبَاقِينَ، وَمِنْ ضَرُورَةِ صَيْرُورَتِهِ مَشْكُوكًا فِيهِ ارْتِفَاعُ الْيَقِينِ عَنْ تَنَجُّسِهِ وَمَعْصُومِيَّتِهِ، وَإِذَا صَارَ مَشْكُوكًا فِي نَجَاسَتِهِ جَازَتْ الصَّلَاةُ مَعَهُ إلَّا أَنَّ هَذَا إنْ صَحَّ لَمْ يَبْقَ لِكَلِمَتِهِمْ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا أَعْنِي قَوْلَهُمْ: الْيَقِينُ لَا يُرْفَعُ بِالشَّكِّ مَعْنًى، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَثْبُتَ شَكٌّ فِي مَحَلِّ ثُبُوتِ الْيَقِينِ لِيُتَصَوَّرَ ثُبُوتُ شَكٍّ فِيهِ لَا يَرْتَفِعُ بِهِ ذَلِكَ الْيَقِينُ، فَعَنْ هَذَا حَقَّقَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ الْمُرَادَ لَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْيَقِينِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَخْلُصُ الْإِشْكَالُ فِي الْحُكْمِ لَا الدَّلِيلِ فَنَقُولُ: وَإِنْ ثَبَتَ الشَّكُّ فِي طَهَارَةِ الْبَاقِي وَنَجَاسَتِهِ لَكِنْ لَا يَرْتَفِعُ حُكْمُ ذَلِكَ التَّيَقُّنِ السَّابِقِ لِنَجَاسَتِهِ وَهُوَ عَدَمُ جَوَازِ الصَّلَاةِ فَلَا يَصِحُّ بَعْدَ غَسْلِ الطَّرَفِ لِأَنَّ الشَّكَّ الطَّارِئَ لَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْيَقِينِ السَّابِقِ عَلَى مَا حُقِّقَ مِنْ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ الْيَقِينُ لَا يَرْتَفِعُ بِالشَّكِّ فَقَتْلُ الْبَاقِي وَالْحُكْمُ بِطَهَارَةِ الْبَاقِي مُشْكِلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي طَهَارَةِ الْمَكَانِ مَوْضِعُ الْقَدَمِ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَمَوْضِعُ السُّجُودِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُهُمَا: وَلَا يَجِبُ طَهَارَةُ مَوْضِعِ الرُّكْبَتَيْنِ وَالْيَدَيْنِ لِأَنَّ وَضْعَهَا لَيْسَ فَرْضًا عِنْدَهُمْ، لَكِنْ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانٍ: وَكَذَا لَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ السُّجُودِ أَوْ مَوْضِعِ الرُّكْبَتَيْنِ أَوْ الْيَدَيْنِ: يَعْنِي تُجْمَعُ وَتُمْنَعُ فَإِنَّهُ قَدَّمَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ حُكْمًا لِمَا إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ تَحْتَ كُلِّ قَدَمٍ أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ، وَلَوْ جُمِعَتْ صَارَتْ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ، قَالَ: وَلَا يَجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَضَعْ الْعُضْوَ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَهَذَا كَمَا لَوْ صَلَّى رَافِعًا إحْدَى قَدَمَيْهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ وَضَعَ الْقَدَمَ عَلَى النَّجَاسَةِ لَا يَجُوزُ وَلَا يَجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَضَعْ انْتَهَى لَفْظُهُ.
وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ طَهَارَةِ مَكَانِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ هُوَ إذَا لَمْ يَضَعْهُمَا أَمَّا إنْ وَضَعَهُمَا اُشْتُرِطَتْ فَلْيُحْفَظْ هَذَا، وَلْيُعْلَمْ أَنَّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ طَهَارَةِ مَكَانِ الرُّكْبَتَيْنِ وَالْيَدَيْنِ لَمْ يُثْبِتْهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ، وَعَلَيْهِ بَنَى وُجُوبَ وَضْعِ الرُّكْبَتَيْنِ فِي السُّجُودِ.
فِي التَّجْنِيسِ إذَا لَمْ يَضَعْ رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ السُّجُودِ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِالسُّجُودِ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ هَذَا اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ، وَفَتْوَى مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْضِعُ الرُّكْبَتَيْنِ نَجِسًا جَازَ.
قَالَ: وَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ يُنْكِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ: إنَّهُ إذَا كَانَ مَوْضِعُ الرُّكْبَتَيْنِ نَجِسًا يَجُوزُ انْتَهَى.
ثُمَّ لَوْ كَانَ الْمَكَانُ نَجِسًا فَبُسِطَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ إنْ شَفَّهُ لَا تَجُوزُ فَوْقَهُ وَإِلَّا جَازَتْ وَلَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى جَانِبِهِ وَصَلَّى عَلَى طَرَفٍ طَاهِرٍ آخَرَ مِنْهُ جَازَ سَوَاءٌ
وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ» وَإِذَا وَجَبَ التَّطْهِيرُ بِمَا ذَكَرْنَا فِي الثَّوْبِ وَجَبَ فِي الْبَدَنِ وَالْمَكَانِ فَإِنَّ الِاسْتِعْمَالَ فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ يَشْمَلُ الْكُلَّ
(وَيَجُوزُ تَطْهِيرُهَا بِالْمَاءِ وَبِكُلِّ مَانِعٍ طَاهِرٍ يُمْكِنُ إزَالَتُهَا بِهِ كَالْخَلِّ وَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ مِمَّا إذَا عُصِرَ انْعَصَرَ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ
تَحَرَّكَ النَّجِسُ أَوْ لَا هُوَ الصَّحِيحُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ فِي طَرَفِ عِمَامَتِهِ أَوْ مِنْدِيلِهِ الْمَقْصُودُ ثَوْبٌ هُوَ لَابِسُهُ فَأَلْقَى ذَلِكَ الطَّرَفَ عَلَى الْأَرْضِ وَصَلَّى فَإِنَّهُ إنْ تَحَرَّكَ بِحَرَكَتِهِ لَا يَجُوزُ، وَإِلَّا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بِتِلْكَ الْحَرَكَةِ يُنْسَبُ لِحَمْلِ النَّجَاسَةِ بِخِلَافِهَا فِي الْمَفْرُوشِ، وَلَوْ صَلَّى عَلَى مَا لَهُ بِطَانَةٌ مُتَنَجِّسَةٌ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى مَا يَلِي مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ مِنْ الطَّهَارَةِ، عَنْ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ، وَقِيلَ جَوَابُ مُحَمَّدٍ فِي غَيْرِ الْمُضْرَبِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ ثَوْبَيْنِ، وَجَوَابُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمِضْرَبِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله فِي التَّجْنِيسِ: وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمِضْرَبَ عَلَى الْخِلَافِ ذَكَرَهُ الْحَلْوَانِيُّ انْتَهَى.
وَلَوْ كَانَ لِبَدًا أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ فَقَلَبَهُ وَصَلَّى عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، عَنْ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا، وَلَوْ صَلَّى عَلَى الدَّابَّةِ وَفِي سَرْجِهَا أَوْ رِكَابِهَا نَجَاسَةٌ مَانِعَةٌ فَجَمَاعَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا جَوَّزُوا لِمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ وَالدَّابَّةُ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ: يَعْنِي أَنَّ بَاطِنَهَا مَحَلُّ النَّجَاسَةِ وَتُتْرَكُ عَلَيْهَا الْأَرْكَانُ وَهِيَ أَقْوَى مِنْ الشَّرَائِطِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ مَا عَلَى ظَاهِرِهَا إذْ لَا يَخْلُو مَخْرَجُهَا وَحَوَافِرُهَا وَقَوَائِمُهَا عَنْ النَّجَاسَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ.
(قَوْلُهُ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ») عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهما قَالَتْ «جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إحْدَانَا يُصِيبُ ثَوْبَهَا مِنْ دَمِ الْحَيْضِ كَيْفَ تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ تَنْضَحُهُ ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ كَذَلِكَ، وَلَفْظُ اغْسِلِيهِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ فِيهِ بَلْ فِي حَدِيثِ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ سَأَلَتْهُ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم «حُكِّيهِ بِضِلَعٍ وَاغْسِلِيهِ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
وَالْحَتُّ: الْقَشْرُ بِالْعُودِ وَالظُّفْرِ وَنَحْوِهِ، وَالْقَرْصُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ (قَوْلُهُ وَإِذَا وَجَبَ التَّطْهِيرُ بِمَا ذَكَرْنَا فِي الثَّوْبِ وَجَبَ فِي الْبَدَنِ وَالْمَكَانِ) بِطَرِيقِ أَوْلَى لِأَنَّهُمَا أَلْزَمُ لِلْمُصَلِّي مِنْهُ لِتَصَوُّرِ انْفِصَالِهِ بِخِلَافِهِمَا
(قَوْلُهُ مِمَّا إذَا عُصِرَ انْعَصَرَ) يُخْرِجُ الدُّهْنَ وَالزَّيْتَ وَاللَّبَنَ وَالسَّمْنَ، بِخِلَافِ الْخَلِّ وَمَاءِ الْبَاقِلَاءِ الَّذِي لَمْ يُثْخَنْ، فَفِي جَعْلِ الْأَوَّلِ
وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رحمهم الله: لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْمَاءِ لِأَنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ، وَالنَّجِسُ لَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ إلَّا أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ تُرِكَ فِي الْمَاءِ لِلضَّرُورَةِ.
عَلَى الْخِلَافِ كَمَا هِيَ قُوَيْلَةٌ نَظَرٌ (قَوْلُهُ يَتَنَجَّسُ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ) مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَخْرُجُ بَعْضُ أَجْزَائِهَا فِي الْمَاءِ أَلَا تَرَى إلَى مَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّهُ لَوْ مَشَى وَرِجْلُهُ مُبْتَلَّةٌ عَلَى أَرْضٍ أَوْ لَبِدٍ نَجِسٍ جَافٍّ لَا يَتَنَجَّسُ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْقَلْبِ وَظَهَرَتْ الرُّطُوبَةُ فِي رِجْلِهِ تَتَنَجَّسُ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ.
قُلْت: يَجِبُ حَمْلُ الرُّطُوبَةِ عَلَى الْبَلَلِ لَا النَّدْوَةِ، فَقَدْ ذَكَرَ فِيهَا إذَا لَفَّ الثَّوْبَ النَّجِسَ الرَّطْبَ فِي الثَّوْبِ الطَّاهِرِ الْجَافِّ فَظَهَرَتْ فِيهِ نَدْوَتُهُ وَلَمْ يَصِرْ بِحَيْثُ يَقْطُرُ مِنْهُ شَيْءٌ إذَا عُصِرَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ، وَكَذَا لَوْ بُسِطَ عَلَى النَّجِسِ الرَّطْبِ فَتَنَدَّى وَلَيْسَ بِحَيْثُ يَقْطُرُ إذَا عُصِرَ الْأَصَحُّ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ ذَكَرَهُ الْحَلْوَانِيُّ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ بِلَيِّ الثَّوْبِ وَعَصْرِهِ نَبْعُ رُءُوسٍ صِغَارٍ لَيْسَ لَهَا قُوَّةُ السَّيَلَانِ لِيَتَّصِلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فَتَقْطُرُ بَلْ تُقَرُّ فِي مَوَاضِعِ نَبْعِهَا ثُمَّ تُرْجَعُ إذَا حُلَّ الثَّوْبُ، وَيَبْعُدُ فِي مِثْلِهِ الْحُكْمُ بِطَهَارَةِ الثَّوْبِ مَعَ وُجُودِ حَقِيقَةِ الْمُخَالِطِ، فَالْأَوْلَى إنَاطَةُ عَدَمِ النَّجَاسَةِ بِعَدَمِ نَبْعِ شَيْءٍ عِنْدَ الْعَصْرِ لِيَكُونَ مُجَرَّدَ نَدْوَةٍ لَا بِعَدَمِ التَّقَاطُرِ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ تُرِكَ فِي الْمَاءِ لِلضَّرُورَةِ) مُطْلَقًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ سَوَاءٌ أُورِدَ عَلَى النَّجَاسَةِ أَوْ أُورِدَتْ هِيَ عَلَيْهِ وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ طَهَارَةُ شَيْءٍ بِالْمَاءِ لِأَنَّهُ يُنَجِّسُ الْمَاءَ فَيَحُلُّ الْمَحَلَّ مَاءٌ نَجِسٌ، وَكَذَا كُلُّ مَا بَعْدَهُ يَتَنَجَّسُ بِمُلَاقَاةِ بَلَلِ السَّابِقِ، وَفِي الْوَارِدِ فَقَطْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه لِأَنَّ الْمَوْرُودَ لَا يَطْهُرُ عِنْدَهُ.
وَلَمَّا سَقَطَ هَذَا الْقِيَاسُ عِنْدَهُ فِي الْوَارِدِ وَبَقِيَ طَاهِرًا حَالَ كَوْنِهِ فِي الثَّوْبِ بَقِيَ كَذَلِكَ بَعْدَ انْفِصَالِهِ بِالْعَصْرِ أَيْضًا مَا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْمُنْفَصِلِ أَثَرُ النَّجَاسَةِ لَوْنٌ أَوْ رِيحٌ لِأَنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا بِطَهَارَتِهِ حَالَ الْمُخَالَطَةِ فِي الْمَحَلِّ وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدَهُ إلَّا الِانْفِصَالُ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُنَجَّسٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَأَثَّرَ لِأَنَّ بَقَاءَ الْأَثَرِ مُخَالَطَةٌ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَيَتَنَجَّسُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَصَاحِبَيْهِ هُوَ طَاهِرٌ فِي الْمَحَلِّ نَجِسٌ إذَا انْفَصَلَ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالطَّهَارَةِ مَعَ مُخَالَطَةِ النَّجِسِ إنَّمَا هُوَ لِلضَّرُورَةِ، فَإِذَا زَالَتْ بِالِانْفِصَالِ ظَهَرَ أَثَرُ الْمُخَالَطَةِ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَلَا أَثَرَ لِلْوُرُودِ لِأَنَّهُ لَيْسَ جَارِيًا حَقِيقَةً، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ الثَّوْبَ النَّجِسَ فِي الْإِجَّانَةِ ثُمَّ أُورِدَ عَلَيْهِ تَحْصُلُ فِيهَا مُخَالِطًا لِلنَّجَاسَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُوجِبُ لِثُبُوتِ قِيَاسِ النَّجَاسَةِ وَهُوَ بِعَيْنِهِ فِي الْمَوْرُودِ فَاتَّحَدَ الْقِيَاسُ فِيهِمَا ثُمَّ سَقَطَ لِلضَّرُورَةِ هَذَا فِي الْمَاءَيْنِ، أَمَّا الثَّالِثُ فَطَاهِرٌ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا وَانْفَصَلَ عَنْ مَحَلٍّ طَاهِرٍ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ نَجِسٌ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ فِي الْمَحَلِّ ضَرُورَةُ تَطْهِيرِهِ وَقَدْ زَالَتْ، وَإِنَّمَا حُكِمَ شَرْعًا بِطَهَارَةِ الْمَحَلِّ عِنْدَ انْفِصَالِهِ بِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا وَإِلَّا لَمْ تَحْصُلْ طَهَارَةٌ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي اعْتِبَارِ الْمَاءِ الْمُنْفَصِلِ طَاهِرًا مَعَ مُخَالَطَةِ النَّجِسِ فَيَكُونُ نَجِسًا بِخِلَافِ الرَّابِعِ فَإِنَّهُ لَمْ يُخَالِطْ مَا هُوَ مَحْكُومٌ شَرْعًا بِنَجَاسَتِهِ فِي الْمَحَلِّ فَيَكُونُ طَاهِرًا.
[فَرْعٌ]
فِي التَّجْنِيسِ غَسَلَ ثَوْبًا ثُمَّ قَطَرَ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ إنْ عَصَرَهُ فِي الثَّالِثَةِ حَتَّى صَارَ بِحَالٍ لَوْ عَصَرَهُ لَا يَسِيلُ مِنْهُ شَيْءٌ فَالْيَدُ طَاهِرَةٌ وَالْبَلَلُ طَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ يَسِيلُ فَنَجِسَةٌ فَفِي هَذَا أَنَّ بِلَّةَ الْيَدِ طَاهِرَةٌ مَعَ أَنَّهَا بَعْضُ الثَّالِثِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَائِعَ قَالِعٌ، وَالطَّهُورِيَّةَ بِعِلَّةِ الْقَلْعِ وَالْإِزَالَةُ وَالنَّجَاسَةُ لِلْمُجَاوَرَةِ، فَإِذَا انْتَهَتْ أَجْزَاءُ النَّجَاسَةِ يَبْقَى طَاهِرًا، وَجَوَابُ الْكِتَابِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَعَنْهُ
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ ذَلِكَ الْقِيَاسُ لَمْ يُفَرِّقْ مُحَمَّدٌ بَيْنَ تَطْهِيرِ الثَّوْبِ النَّجِسِ فِي الْإِجَّانَةِ وَالْعُضْوِ النَّجِسِ بِأَنْ يَغْسِلَ كُلًّا مِنْهُمَا فِي ثَلَاثِ إجَّانَاتٍ طَاهِرَاتٍ أَوْ ثَلَاثًا فِي إجَّانَةٍ بِمِيَاهٍ طَاهِرَةٍ فَيَخْرُجُ مِنْ الثَّالِثِ طَاهِرٌ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ بِذَلِكَ فِي الثَّوْبِ خَاصَّةً، أَمَّا الْعُضْوُ الْمُتَنَجِّسُ إذَا غُمِسَ فِي إجَّانَاتٍ طَاهِرَاتٍ نَجَّسَ الْجَمِيعَ وَلَا يَطْهُرُ بِحَالٍ، بَلْ بِأَنْ يُغْسَلَ فِي مَاءٍ جَارٍ أَوْ يُصَبَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى حُصُولَ الطَّهَارَةِ لَهُمَا بِالْغَسْلِ فِي الْأَوَانِي فَسَقَطَ فِي الثِّيَابِ لِلضَّرُورَةِ وَبَقِيَ فِي الْعُضْوِ لِعَدَمِهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُتَنَجِّسُ مِنْ الثَّوْبِ قَدْرَ دِرْهَمٍ فَقَرْصٌ لَا يُجِيزُهُ أَبُو يُوسُفَ فِي الْإِجَّانَةِ وَعَلَى هَذَا جُنُبٌ اغْتَسَلَ فِي آبَارِ وَلَمْ يَكُنْ اسْتَنْجَى تَنْجُسُ كُلُّهَا وَإِنْ كَثُرَتْ، وَإِنْ كَانَ اسْتَنْجَى صَارَتْ فَاسِدَةً وَلَمْ يَطْهُرْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ لَمْ يَكُنْ اسْتَنْجَى يَخْرُجُ مِنْ الثَّالِثَةِ طَاهِرًا وَكُلُّهَا نَجِسَةٌ، وَإِنْ كَانَ اسْتَنْجَى يَخْرُجُ مِنْ الْأُولَى طَاهِرًا وَسَائِرُهَا مُسْتَعْمَلَةٌ كَذَا فِي الْمُصَفَّى، وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ الِاسْتِعْمَالِ بِمَا إذَا قَصَدَ الْقُرْبَةَ عِنْدَهُ (قَوْلُهُ وَلَهُمَا) الْحَاصِلُ الْقِيَاسُ عَلَى الْمَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ مَعْلُولٌ بِعِلَّةِ كَوْنِهِ قَالِعًا لِتِلْكَ النَّجَاسَةِ، وَسُقُوطُ ذَلِكَ الْقِيَاسِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَلْعَ وَالْحُكْمَ بِالتَّطْهِيرِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِإِسْقَاطِهِ، وَالْمَائِعُ قَالِعٌ فَهُوَ مُحَصَّلُ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ فَيَسْقُطُ فِيهِ ذَلِكَ الْقِيَاسُ وَتَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ.
[فَرْعٌ]
غَسْلُ الثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ بِالدَّمِ بِالْبَوْلِ حَتَّى زَالَ عَيْنُ الدَّمِ، هَلْ يُحْكَمُ بِزَوَالِ تِلْكَ النَّجَاسَةِ اُخْتُلِفَ فِيهِ.
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَيْهِ التُّمُرْتَاشِيُّ حَتَّى لَوْ كَانَ مَا غُسِلَ بِهِ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لَا يَمْنَعُ مَا لَمْ يَفْحُشْ.
وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: الْأَصَحُّ أَنَّ التَّطْهِيرَ بِالْبَوْلِ لَا يَكُونُ انْتَهَى.
وَهُوَ أَحْسَنُ، وَوَجْهُهُ مَا عَلِمْت أَنَّ سُقُوطَ التَّنَجُّسِ حَالَ كَوْنِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْمَحَلِّ ضَرُورَةُ التَّطْهِيرِ، وَلَيْسَ الْبَوْلُ مُطَهِّرًا لِلتَّضَادِّ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ فَيَتَنَجَّسُ بِنَجَاسَةِ الدَّمِ، فَمَا ازْدَادَ الثَّوْبُ بِهَذَا إلَّا شَرًّا إذْ يَصِيرُ جَمِيعُ الْمَكَانِ الْمُصَابِ بِالْبَوْلِ مُتَنَجِّسًا بِنَجَاسَةِ الدَّمِ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ عَيْنُ الدَّمِ، وَفِي الْكِتَابِ إشَارَةٌ إلَى
أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَلَمْ يُجَوِّزْ فِي الْبَدَنِ بِغَيْرِ الْمَاءِ.
(وَإِذَا أَصَابَ الْخُفَّ نَجَاسَةٌ لَهَا جِرْمٌ كَالرَّوْثِ وَالْعَذِرَةِ وَالدَّمِ وَالْمَنِيِّ فَجَفَّتْ فَدَلَّكَهُ بِالْأَرْضِ جَازَ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله لَا يَجُوزُ) وَهُوَ الْقِيَاسُ (إلَّا فِي الْمَنِيِّ خَاصَّةً) لِأَنَّ الْمُتَدَاخِلَ فِي الْخُفِّ لَا يُزِيلُهُ الْجَفَافُ وَالدَّلْكُ، بِخِلَافِ الْمَنِيِّ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.
وَلَهُمَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «فَإِنْ كَانَ بِهِمَا أَذًى فَلْيَمْسَحْهُمَا بِالْأَرْضِ فَإِنَّ الْأَرْضَ لَهُمَا طَهُورٌ» وَلِأَنَّ الْجِلْدَ لِصَلَابَتِهِ لَا تَتَدَاخَلُهُ أَجْزَاءُ النَّجَاسَةِ إلَّا قَلِيلًا
مَا اخْتَرْنَاهُ حَيْثُ قَالَ بِالْمَاءِ وَبِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ حَيْثُ أَخْرَجَ الْمَائِعَ النَّجِسَ (قَوْلُهُ فَلَمْ يُجَوِّزْ فِي الْبَدَنِ بِغَيْرِ الْمَاءِ) لِأَنَّ حَرَارَةَ الْبَدَنِ جَاذِبَةٌ وَالْمَاءُ أُدْخِلَ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ فَيَتَعَيَّنُ. وَعَنْ طَهَارَةِ الْبَدَنِ بِغَيْرِ الْمَاءِ تُفَرَّعُ طَهَارَةُ الثَّدْيِ إذَا قَاءَ عَلَيْهِ الْوَلَدُ ثُمَّ رَضَعَهُ حَتَّى أَزَالَ أَثَرَ الْقَيْءِ، وَكَذَا إذَا لَحِسَ أُصْبُعَهُ مِنْ نَجَاسَةٍ بِهَا حَتَّى ذَهَبَ الْأَثَرُ أَوْ شَرِبَ خَمْرًا ثُمَّ تَرَدَّدَ رِيقُهُ فِي فِيهِ مِرَارًا طَهُرَ حَتَّى لَوْ صَلَّى صَحَّتْ.
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا تَصِحُّ، وَلَا يُحْكَمُ بِالطَّهَارَةِ بِذَلِكَ لِعَدَمِ الْمَاءِ، وَكَذَا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهِيَ اشْتِرَاطُ الْمَاءِ فِي الْعُضْوِ، وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْمُسَافِرِ إذَا أَصَابَ يَدَهُ نَجَاسَةٌ يَمْسَحُهَا بِالتُّرَابِ فَمُشْكِلٌ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ إنَّمَا جَوَّزَا مِثْلَهُ فِي الْخُفِّ وَالنَّعْلِ بِشَرْطِهِ، وَمُحَمَّدٌ خَالَفَهُمَا فَكَيْفَ يُتَّجَهُ ذَلِكَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِمَسْحِهِ تَقْلِيلًا لِلنَّجَاسَةِ حَالَةَ الِاشْتِغَالِ بِالسَّيْرِ فَلَا يُمْنَعُ لِتَخْفِيفِ الْجِرْمِ بِذَلِكَ ثُمَّ يَغْسِلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ وَلَهُمَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم) رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلِهِ أَذًى أَوْ قَذَرًا فَلْيَمْسَحْهُ وَلِيُصَلِّ فِيهَا» وَخَرَّجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إذَا وَطِئَ أَحَدُكُمْ الْأَذَى بِنَعْلِهِ أَوْ خُفَّيْهِ فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ» وَلَا تَفْصِيلَ فِيهِمَا بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْجَافِّ وَالْكَثِيفِ وَالرَّقِيقِ، فَأَعْمَلَ أَبُو يُوسُفَ إطْلَاقَهُ إلَّا
ثُمَّ يَجْتَذِبُهُ الْجِرْمُ إذَا جَفَّ، فَإِذَا زَالَ زَالَ مَا قَامَ بِهِ (وَفِي الرَّطْبِ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَغْسِلَهُ) لِأَنَّ الْمَسْحَ بِالْأَرْضِ يُكْثِرُهُ وَلَا يُطَهِّرُهُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ إذَا مَسَحَهُ بِالْأَرْضِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ يَطْهُرُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى، وَإِطْلَاقِ مَا يُرْوَى وَعَلَيْهِ مَشَايِخُنَا رحمهم الله (إنْ أَصَابَهُ بَوْلٌ فَيَبِسَ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَغْسِلَهُ) وَكَذَا كُلُّ مَا لَا جِرْمَ لَهُ كَالْخَمْرِ لِأَنَّ الْأَجْزَاءَ تَتَشَرَّبُ فِيهِ وَلَا جَاذِبَ يَجْذِبُهَا.
وَقِيلَ مَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الرَّمْلِ وَالرَّمَادِ جِرْمٌ لَهُ وَالثَّوْبُ لَا يُجْزِي فِيهِ إلَّا الْغَسْلُ وَإِنْ يَبِسَ لِأَنَّ الثَّوْبَ لِتَخَلْخُلِهِ يَتَدَاخَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ فَلَا يُخْرِجُهَا إلَّا الْغَسْلُ.
وَالْمَنِيُّ نَجِسٌ يَجِبُ غَسْلُهُ إنْ كَانَ رَطْبًا (فَإِذَا جَفَّ عَلَى الثَّوْبِ أَجْزَأَ فِيهِ الْفَرْكُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِعَائِشَةَ «فَاغْسِلِيهِ إنْ كَانَ رَطْبًا وَافْرُكِيهِ إنْ
فِي الرَّقِيقِ وَقَيَّدَاهُ بِالْجِرْمِ وَالْجَفَافِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ عَلَى مَا فَرَّعُوا بَيْنَ كَوْنِ الْجِرْمِ مِنْ نَفْسِ النَّجَاسَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا بِأَنْ ابْتَلَّ الْخُفُّ بِخَمْرٍ فَمَشَى بِهِ عَلَى رَمْلٍ أَوْ رَمَادٍ فَاسْتَجْسَدَ فَمَسَحَهُ بِالْأَرْضِ حَتَّى تَنَاثَرَ طَهُرَ.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْجَفَافِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْحَدِيثَ يُفِيدُ طَهَارَتَهَا بِالدَّلْكِ مَعَ الرُّطُوبَةِ، إذْ مَا بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالْمَنْزِلِ لَيْسَ مَسَافَةً تَجِفُّ فِي مُدَّةِ قَطْعِهَا مَا أَصَابَ الْخُفَّ رَطْبًا، فَإِطْلَاقُ مَا يُرْوَى مُسَاعِدٌ بِالْمَعْنَى.
وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ فِي الرَّقِيقِ فَقِيلَ هُوَ مُفَادٌ بِقَوْلِهِ طَهُورٌ: أَيْ مُزِيلٌ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْخُفَّ إذَا تَشَرَّبَ الْبَوْلَ لَا يُزِيلُهُ الْمَسْحُ فَإِطْلَاقُهُ مَصْرُوفٌ إلَى مَا يَقْبَلُ الْإِزَالَةَ بِالْمَسْحِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ إذْ مَعْنَى طَهُورٍ مُطَهِّرٌ، وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ شَرْعًا بِالْمَسْحِ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ، وَكَمَا لَا يُزِيلُ مَا تَشَرَّبَهُ مِنْ الرَّقِيقِ كَذَلِكَ لَا يُزِيلُ مَا تَشَرَّبَهُ مِنْ الْكَثِيفِ حَالَ الرُّطُوبَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى بِاعْتِرَافِ هَذَا الْمُجِيبِ. وَالْحَاصِلُ فِيهِ بَعْدَ إزَالَةِ الْجِرْمِ كَالْحَاصِلِ قَبْلَ الدَّلْكِ فِي الرَّقِيقِ فَإِنَّهُ لَا يَشْرَبُ إلَّا مَا فِي اسْتِعْدَادِهِ قَبُولُهُ، وَقَدْ يُصِيبُهُ مِنْ الْكَثِيفَةِ الرَّطْبَةِ مِقْدَارٌ كَثِيرٌ يَشْرَبُ مِنْ رُطُوبَتِهِ مِقْدَارَ مَا يَشْرَبُهُ مِنْ بَعْضِ الرَّقِيقِ.
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ) الَّذِي فِي صَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ «عَائِشَةَ قَالَتْ كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا كَانَ يَابِسًا، وَأَمْسَحُهُ أَوْ أَغْسِلُهُ، شَكَّ الْحُمَيْدِيُّ، إذَا كَانَ رَطْبًا» وَرَوَاهُ
كَانَ يَابِسًا» وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الْمَنِيُّ طَاهِرٌ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ.
وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «إنَّمَا
الدَّارَقُطْنِيُّ وَأَغْسِلُهُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، فَهَذَا فِعْلُهَا.
وَأَمَّا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا ذَلِكَ، فَاَللَّهُ أَعْلَمُ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ بِعِلْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خُصُوصًا إذَا تَكَرَّرَ مِنْهَا مَعَ الْتِفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم إلَى طَهَارَةِ ثَوْبِهِ وَفَحْصِهِ عَنْ حَالِهِ، وَأَظْهَرُ مِنْهُ قَوْلُهَا «كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَخْرُجُ إلَى الصَّلَاةِ وَإِنَّ بُقَعَ الْمَاءِ فِي ثَوْبِهِ» فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يُحِسُّ بِبَلَلِ ثَوْبِهِ وَهُوَ مُوجِبُ الِالْتِفَاتِ إلَى حَالِ الثَّوْبِ وَالْفَحْصِ عَنْ خَبَرِهِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَبْدُو لَهُ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ وَقَدْ أَقَرَّهَا عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ طَاهِرًا لَمَنَعَهَا مِنْ إتْلَافِ الْمَاءِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ سَرَفٌ فِي الْمَاءِ إذْ لَيْسَ السَّرَفُ فِي الْمَاءِ إلَّا صَرْفُهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَمِنْ إتْعَابِ نَفْسِهَا فِيهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، عَلَى أَنَّ فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْسِلُ الْمَنِيَّ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ وَأَنَا أَنْظُرُ إلَى أَثَرِ الْغَسْلِ فِيهِ» فَإِنْ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ أَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ فَظَاهِرٌ أَوْ عَلَى مَجَازِهِ وَهُوَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ فَهُوَ فَرْعُ عِلْمِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ «إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ» فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ «أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عَلَى بِئْرٍ أَدْلُو مَاءً فِي رَكْوَةٍ قَالَ: يَا عَمَّارُ مَا تَصْنَعُ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي وَأُمِّي أَغْسِلُ ثَوْبِي مِنْ نُخَامَةٍ أَصَابَتْهُ، فَقَالَ: يَا عَمَّارُ إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ: مِنْ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، وَالْقَيْءِ، وَالدَّمِ، وَالْمَنِيِّ، يَا عَمَّارُ مَا نُخَامَتُكَ وَدُمُوعُ عَيْنِكَ وَالْمَاءُ الَّذِي فِي رَكْوَتِكَ إلَّا سَوَاءٌ» قَالَ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ غَيْرُ ثَابِتِ بْنِ حَمَّادٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَهُ أَحَادِيثُ فِي أَسَانِيدِهَا الثِّقَاتُ وَهِيَ مَنَاكِيرُ وَمَقْلُوبَاتٌ. وَدُفِعَ بِأَنَّهُ وُجِدَ لَهُ مُتَابِعٌ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ. رَوَاهُ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ سَنَدًا وَمَتْنًا، وَبَقِيَّةُ الْإِسْنَادِ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعِجْلِيّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ بِهِ، فَبَطَلَ جَزْمُ الْبَيْهَقِيّ بِبُطْلَانِ الْحَدِيثِ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ سِوَى ثَابِتٍ. وَقَوْلُهُ فِي عَلِيٍّ هَذَا إنَّهُ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهِ دُفِعَ بِأَنَّ مُسْلِمًا رَوَى لَهُ مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ، وَقَالَ الْعِجْلِيّ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَرَوَى لَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ صَدُوقٌ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ زَكَرِيَّا ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَوَثَّقَهُ الْبَزَّارُ (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَنِيُّ طَاهِرٌ) تَمَسَّكَ هُوَ أَيْضًا بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمْ يَكْتَفِ بِفَرْكِهِ، وَبِمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ فَقَالَ: إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ أَوْ الْبُزَاقِ، وَقَالَ: إنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَمْسَحَهُ بِخِرْقَةٍ أَوْ إذْخِرَةٍ» قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ عَنْ شَرِيكٍ الْقَاضِي، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ
يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ، وَذَكَرَ مِنْهَا الْمَنِيَّ» وَلَوْ أَصَابَ الْبَدَنَ.
قَالَ مَشَايِخُنَا رحمهم الله: يَطْهُرُ بِالْفَرْكِ لِأَنَّ الْبَلْوَى فِيهِ أَشَدُّ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ لِأَنَّ حَرَارَةَ الْبَدَنِ جَاذِبَةٌ فَلَا يَعُودُ إلَى الْجِرْمِ وَالْبَدَنُ لَا يُمْكِنُ فَرْكُهُ.
(وَالنَّجَاسَةُ إذَا أَصَابَتْ الْمِرْآةَ أَوْ السَّيْفَ اكْتَفَى بِمَسْحِهِمَا) لِأَنَّهُ لَا تَتَدَاخَلُهُ النَّجَاسَةُ وَمَا عَلَى ظَاهِرِهِ يَزُولُ بِالْمَسْحِ.
(وَإِنْ أَصَابَتْ الْأَرْضَ نَجَاسَةٌ فَجَفَّتْ بِالشَّمْسِ وَذَهَبَ أَثَرُهَا جَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَى مَكَانِهَا)
مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَطَاءٍ مَرْفُوعًا وَلَا يَثْبُتُ اهـ. لَكِنْ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ: إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ إمَامٌ مُخَرَّجٌ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَرَفْعُهُ زِيَادَةٌ وَهِيَ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَلِأَنَّهُ مَبْدَأُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ مُكَرَّمٌ فَلَا يَكُونُ أَصْلُهُ نَجِسًا، وَهَذَا مَمْنُوعٌ فَإِنَّ تَكْرِيمَهُ يَحْصُلُ بَعْدَ تَطْوِيرِهِ الْأَطْوَارَ الْمَعْلُومَةَ مِنْ الْمَائِيَّةِ وَالْمُضْغِيَّةِ وَالْعَلَقِيَّةِ، أَلَا يَرَى أَنَّ الْعَلَقَةَ نَجِسَةٌ، وَأَنَّ نَفْسَ الْمَنِيِّ أَصْلُهُ دَمٌ فَيَصْدُقُ أَنَّ أَصْلَ الْإِنْسَانِ دَمٌ وَهُوَ نَجِسٌ، وَالْحَدِيثُ بَعْدَ تَسْلِيمِ حُجِّيَّتِهِ رَفْعُهُ مُعَارِضٌ بِمَا قَدَّمْنَا، وَيَتَرَجَّحُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُحَرِّمَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُبِيحِ، ثُمَّ قِيلَ: إنَّمَا يَطْهُرُ بِالْفَرْكِ إذَا لَمْ يَسْبِقْهُ مَذْيٌ، فَإِنْ سَبَقَهُ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ.
وَعَنْ هَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: مَسْأَلَةُ الْمَنِيِّ مُشْكِلَةٌ لِأَنَّ كُلَّ فَحْلٍ يُمْذِي ثُمَّ يُمْنِي، إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مَغْلُوبٌ بِالْمَنِيِّ مُسْتَهْلَكٌ فِيهِ فَيُجْعَلُ تَبَعًا اهـ.
وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْوَاقِعُ أَنَّهُ لَا يُمْنِي حَتَّى يُمْذِيَ وَقَدْ طَهَّرَهُ الشَّرْعُ بِالْفَرْكِ يَابِسًا يَلْزَمُ أَنَّهُ اعْتَبَرَ ذَلِكَ الِاعْتِبَارَ لِلضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَالَ وَلَمْ يَسْتَنْجِ بِالْمَاءِ حَتَّى أَمْنَى فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ حِينَئِذٍ إلَّا بِالْغُسْلِ لِعَدَمِ الْمُلْجِئِ كَمَا قِيلَ. وَقِيلَ لَوْ بَالَ وَلَمْ يَنْتَشِرْ الْبَوْلُ عَلَى رَأْسِ الذَّكَرِ بِأَنْ لَمْ يُجَاوِزْ الثُّقْبَ فَأَمْنَى لَا يُحْكَمُ بِتَنَجُّسِ الْمَنِيِّ، وَكَذَا إنْ جَاوَزَ لَكِنْ خَرَجَ الْمَنِيُّ دَفْقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَشِرَ عَلَى رَأْسِ الذَّكَرِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ سِوَى مُرُورِهِ عَلَى الْبَوْلِ فِي مَجْرَاهُ وَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ، وَلَوْ كَانَ لِلْمُصَابِ بِطَانَةٌ نَفَذَ إلَيْهَا اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْفَرْكِ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَنِيِّ، وَقَالَ الْفَضْلِيُّ: مَنِيُّ الْمَرْأَةِ لَا يَطْهُرُ بِالْفَرْكِ لِأَنَّهُ رَقِيقٌ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا تَتَدَاخَلُهُ النَّجَاسَةُ) يُفِيدُ أَنَّ قَيْدَ صِقَالَتِهَا مُرَادٌ حَتَّى لَوْ كَانَ بِهِ صَدَأٌ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْمَاءِ بِخِلَافِ الصَّقِيلِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ: صَحَّ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَقْتُلُونَ الْكُفَّارَ بِالسُّيُوفِ وَيَمْسَحُونَهَا وَيُصَلُّونَ بِهَا، وَعَلَيْهِ يَتَفَرَّعُ مَا ذُكِرَ: لَوْ كَانَ عَلَى ظُفْرِهِ نَجَاسَةٌ فَمَسَحَهَا طَهُرَتْ، وَكَذَلِكَ الزُّجَاجَةُ وَالزُّبْدِيَّةُ الْخَضْرَاءُ: أَعْنِي الْمَدْهُونَةَ، وَالْخَشَبُ الْخُرَاطَى وَالْبُورِيَّا الْقَصَبُ.
(قَوْلُهُ فَجَفَّتْ بِالشَّمْسِ) اتِّفَاقِيٌّ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَفَافِ بِالشَّمْسِ وَالنَّارِ أَوْ الرِّيحِ، وَالْمُرَادُ
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْمُزِيلُ (وَ) لِهَذَا (لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ) وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «ذَكَاةُ الْأَرْضِ يُبْسُهَا» وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ لِأَنَّ طَهَارَةَ الصَّعِيدِ ثَبَتَتْ شَرْطًا بِنَصِّ الْكِتَابِ فَلَا تَتَأَدَّى بِمَا ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ.
مِنْ الْأَثَرِ الذَّاهِبِ: اللَّوْنُ أَوْ الرِّيحُ. وَحَدِيثُ ذَكَاةِ الْأَرْضِ يُبْسُهَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَثَرًا عَنْ عَائِشَةَ، وَبَعْضُهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي قِلَابَةَ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ: جُفُوفُ الْأَرْضِ طَهُورُهَا، وَرَفَعَهُ الْمُصَنِّفُ، وَذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ: أَيُّمَا أَرْضٍ جَفَّتْ فَقَدْ ذَكَتْ. حَدِيثًا مَرْفُوعًا،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ.
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد: بَابُ طَهُورِ الْأَرْضِ إذَا يَبِسَتْ وَسَاقَ بِسَنَدِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنْت أَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكُنْت فَتًى شَابًّا عَزَبًا، وَكَانَتْ الْكِلَابُ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَلَوْلَا اعْتِبَارُهَا تَطْهُرُ بِالْجَفَافِ كَانَ ذَلِكَ تَبْقِيَةً لَهَا بِوَصْفِ النَّجَاسَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ عَلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ أَلْبَتَّةَ إذْ لَا بُدَّ مِنْهُ مَعَ صِغَرِ الْمَسْجِدِ وَعَدَمِ مَنْ يَتَخَلَّفُ لِلصَّلَاةِ فِي بَيْتِهِ؛ وَكَوْنِ ذَلِكَ يَكُونُ فِي بِقَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ لَا فِي بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ حَيْثُ كَانَتْ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ، فَإِنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ فِي الِاسْتِعْمَالِ يُفِيدُ تَكَرُّرَ الْكَائِنِ مِنْهَا أَوْ لِأَنَّ تَبْقِيَتَهَا نَجِسَةً يُنَافِي الْأَمْرَ بِتَطْهِيرِهَا فَوَجَبَ كَوْنُهَا تَطْهُرُ بِالْجَفَافِ، بِخِلَافِ «أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بِإِهْرَاقِ ذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ فِي الْمَسْجِدِ» لِأَنَّهُ كَانَ نَهَارًا وَالصَّلَاةُ فِيهِ تُتَابَعُ نَهَارًا، وَقَدْ لَا يَجُوزُ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَأَمَرَ بِتَطْهِيرِهَا بِالْمَاءِ، بِخِلَافِ مُدَّةِ اللَّيْلِ، أَوْ لِأَنَّ الْوَقْتَ كَانَ إذْ ذَاكَ قَدْ آنَ أَوْ أُرِيدَ أَنَّ ذَاكَ أَكْمَلُ الطَّهَارَتَيْنِ لِلتَّيَسُّرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، هَذَا وَإِذَا قَصَدَ تَطْهِيرَ الْأَرْضِ صَبَّ عَلَيْهَا الْمَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَجُفِّفَتْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِخِرْقَةٍ طَاهِرَةٍ، وَكَذَا لَوْ صَبَّ عَلَيْهَا مَاءً بِكَثْرَةٍ وَلَمْ يَظْهَرْ لَوْنُ النَّجَاسَةِ وَلَا رِيحُهَا فَإِنَّهَا تَطْهُرُ، وَلَوْ كَبَسَهَا بِتُرَابٍ أَلْقَاهُ عَلَيْهَا إنْ لَمْ تُوجَدْ رَائِحَةُ النَّجَاسَةِ جَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ التُّرَابِ وَإِلَّا فَلَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي النَّابِتِ كَالشَّجَرِ وَالْكَلَإِ، قِيلَ يَطْهُرُ بِالْجَفَافِ مَا دَامَ قَائِمًا عَلَيْهَا، وَبَعْدَ الْقَطْعِ يَجِبُ الْغَسْلُ، وَكَذَا الْحَصَى حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَرْضِ، أَمَّا الْآجُرَّةُ الْمَفْرُوشَةُ فَتَطْهُرُ بِالْجَفَافِ وَإِنْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً تُنْقَلُ فَلَا، فَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِيمَا يَلِي الْأَرْضَ جَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا.
وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ: إذَا صَلَّى عَلَى وَجْهِهَا الطَّاهِرِ إنْ كَانَ مُرَكَّبًا جَازَ، وَإِلَّا قِيلَ لَا يَجُوزُ انْتَهَى.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْرَى فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي اللَّبِدِ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْبَابِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ طَهَارَةَ الصَّعِيدِ ثَبَتَتْ شَرْطًا بِنَصِّ الْكِتَابِ) فَلَا تَتَأَدَّى هَذِهِ الطَّهَارَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الظَّنِّيِّ بِخُصُوصِ هَذَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الْمَوْضِعِ، فَإِنَّ مَا كُلِّفَ بِهِ قَطْعًا لَا يَلْزَمُ فِي إثْبَاتِ مُقْتَضَاهُ الْقَطْعُ بِهِ، فَإِنَّ طَهَارَةَ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ الْمُكَلَّفِ بِتَحْصِيلِهِمَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ الْبِنَاءُ عَلَى الْأَصْلِ فِيهِمَا، وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بَلْ يُجَوِّزُ الْمُسْتَعْمِلُ نَجَاسَتَهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَقَدْ تَكُونُ ثَابِتَةً وَالْعُلُومُ لَا تَحْتَمِلُ النَّقِيضَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا عِنْدَ مَنْ قَامَتْ بِهِ لَوْ قَدَّرَهُ، لَكِنْ امْتَنَعَ هُنَا لِاسْتِلْزَامِهِ نَوْعَ مُعَارَضَةٍ لِلْكِتَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ شَرْعًا أَنَّ التَّطْهِيرَ بِاسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ وَلَمْ يُفْعَلْ فَلَا يَكُونُ طَاهِرًا فَكَانَ النَّصُّ طَالِبًا لِلتَّيَمُّمِ بِهَذَا التُّرَابِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَالْخَبَرُ يُجِيزُ اسْتِعْمَالَهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَلَا يُعْتَبَرُ، بِخِلَافِ طَهَارَةِ الْمَكَانِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ دَلَالَةَ النَّصِّ بَعْدَ دُخُولِهَا التَّخْصِيصَ بِالْقَلِيلِ الَّذِي لَا يُحْتَرَزُ عَنْهُ إجْمَاعًا، وَمَا دُونَ الدِّرْهَمِ عِنْدَنَا تَطَلُّبُهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَجَازَ أَنْ يُعَارِضَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَيُثْبِتَ حُكْمَهُ.
لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إنَّ النَّصَّ إنَّمَا يَطْلُبُهُ طَاهِرًا فَقَطْ، وَكَوْنُ الْمَعْرُوفِ مِنْ الشَّرْعِ أَنَّ التَّطْهِيرَ بِاسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ عَلَى إرَادَةِ الْحَصْرِ مَمْنُوعٌ، إذْ قَدْ عُرِفَ مِنْهُ أَيْضًا أَنَّهَا بِالْجَفَافِ فِي الْأَرْضِ فَيَثْبُتُ بِهِ نَوْعٌ آخَرُ مِنْ أَسْبَابِ الطَّهَارَةِ ظَنًّا فَيَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ قَطْعًا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَحَلَّ الْقَطْعِ هُوَ نَفْسُ التَّكْلِيفِ بِالطَّاهِرِ، وَمَحَلُّ الظَّنِّ كَوْنُهُ طَاهِرًا فَلَمْ يَتَلَاقَيَا فِي مَحَلٍّ فَلَا تَعَارُضَ.
وَالْأَوْلَى مَا قِيلَ إنَّ الصَّعِيدَ عُلِمَ قَبْلَ التَّنَجُّسِ طَاهِرًا وَطَهُورًا وَبِالتَّنَجُّسِ عُلِمَ زَوَالُ الْوَصْفَيْنِ، ثُمَّ ثَبَتَ بِالْجَفَافِ شَرْعًا: أَحَدُهُمَا أَعْنِي الطَّهَارَةَ فَيَبْقَى الْآخَرُ عَلَى مَا عُلِمَ مِنْ زَوَالِهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ طَهُورًا لَا يَتَيَمَّمُ بِهِ هَذَا.
وَقَدْ ظَهَرَ إلَى هُنَا أَنَّ التَّطْهِيرَ يَكُونُ بِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ: بِالْغَسْلِ، وَالدَّلْكِ، وَالْجَفَافِ، وَالْمَسْحِ فِي الصَّقِيلِ دُونَ مَاءٍ.
وَالْفَرْكُ يَدْخُلُ فِي الدَّلْكِ، بَقِيَ الْمَسْحُ بِالْمَاءِ فِي مَحَاجِمِهِ ثَلَاثًا بِثَلَاثِ خِرَقٍ طَاهِرَةٍ، وَقِيَاسُهُ مَا حَوْلَ مَحَلِّ الْقَصْدِ إذَا تَلَطَّخَ وَيُخَافُ مِنْ الْإِسَالَةِ السَّرَيَانُ إلَى الثُّقْبِ، وَآخَرُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ بِانْقِلَابِ الْعَيْنِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ كَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ تَقَعُ فِي الْمُمْلِحَةِ فَتَصِيرُ مِلْحًا تُؤْكَلُ، وَالسِّرْقِينُ وَالْعَذِرَةُ تَحْتَرِقُ فَتَصِيرُ رَمَادًا تَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي التَّجْنِيسِ ظَاهِرٌ فِي اخْتِيَارِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: خَشَبَةٌ أَصَابَهَا بَوْلٌ فَاحْتَرَقَتْ وَوَقَعَ رَمَادُهَا فِي بِئْرٍ يُفْسِدُ الْمَاءَ، وَكَذَلِكَ رَمَادُ الْعَذِرَةِ، وَكَذَا الْحِمَارُ إذَا مَاتَ فِي مُمْلِحَةٍ لَا يُؤْكَلُ الْمِلْحُ، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ لِأَنَّ الرَّمَادَ أَجْزَاءٌ لِتِلْكَ النَّجَاسَةِ فَتَبْقَى النَّجَاسَةُ مِنْ وَجْهٍ فَالْتُحِقَتْ بِالنَّجِسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ احْتِيَاطًا انْتَهَى.
وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ اخْتَارُوا قَوْلَ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِأَنَّ الشَّرْعَ رَتَّبَ وَصْفَ النَّجَاسَةِ عَلَى تِلْكَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الْحَقِيقَةِ، وَتَنْتَفِي الْحَقِيقَةُ بِانْتِفَاءِ بَعْضِ أَجْزَاءِ مَفْهُومِهَا فَكَيْفَ بِالْكُلِّ، فَإِنَّ الْمِلْحَ غَيْرُ الْعَظْمِ وَاللَّحْمِ، فَإِذَا صَارَ مِلْحًا تَرَتَّبَ حُكْمُ الْمِلْحِ وَنَظِيرُهُ فِي الشَّرْعِ النُّطْفَةُ نَجِسَةٌ وَتَصِيرُ عَلَقَةً وَهِيَ نَجِسَةٌ وَتَصِيرُ مُضْغَةً فَتَطْهُرُ، وَالْعَصِيرُ طَاهِرٌ فَيَصِيرُ خَمْرًا فَيَنْجَسُ وَيَصِيرُ خَلًّا فَيَطْهُرُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ اسْتِحَالَةَ الْعَيْنِ تَسْتَتْبِعُ زَوَالَ الْوَصْفِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا. وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَرَّعُوا الْحُكْمَ بِطَهَارَةِ صَابُونٍ صُنِعَ مِنْ زَيْتٍ نَجِسٍ، وَفَرَّعَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ النَّجِسَيْنِ إذَا اخْتَلَطَ وَحَصَلَ الطِّينُ كَانَ الطِّينُ طَاهِرًا لِأَنَّهُ صَارَ شَيْئًا آخَرَ، وَهَذَا بَعِيدٌ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا طَاهِرًا فَقِيلَ الْعِبْرَةُ لِلْمَاءِ إنْ كَانَ نَجِسًا فَالطِّينُ نَجِسٌ وَإِلَّا فَطَاهِرٌ، وَقِيلَ لِلتُّرَابِ، وَقِيلَ لِلْغَالِبِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ أَيَّهُمَا كَانَ طَاهِرًا فَالطِّينُ طَاهِرٌ، فَأَهْلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا عَلَى نَجَاسَتِهِ إذَا كَانَا نَجِسَيْنِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ فِي الطِّينِ الْمَعْجُونِ بِتِبْنٍ نَجِسٍ بِالطَّهَارَةِ فَيُصَلِّي فِي الْمَكَانِ الْمُطَيَّنِ بِهِ وَلَا يَنْجَسُ الثَّوْبُ الْمَبْلُولُ إذَا نُشِرَ عَلَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُرَ عَيْنُ التِّبْنِ لَا إذَا رُئِيَتْ، وَعَلَّلَهُ فِي التَّجْنِيسِ بِأَنَّ التِّبْنَ مُسْتَهْلَكٌ إذَا لَمْ تُرَ عَيْنُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا رُئِيَتْ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تُرَ طِبَاعًا نَجِسًا انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي أَمْثَالِهِ. وَقَالَ قَبْلَهُ فِي عَلَامَةِ النَّوَازِلِ: إذَا نَزَحَ الْمَاءُ النَّجِسُ مِنْ بِئْرٍ كُرِهَ أَنْ يَبُلَّ بِهِ الطِّينَ لِيُطَيِّنَ بِهِ الْمَسْجِدَ أَوْ أَرْضَهُ لِأَنَّ الطِّينَ يَصِيرُ نَجِسًا، وَإِنْ كَانَ الْبِئْرُ طَاهِرًا تَرْجِيحًا لِلنَّجَاسَةِ احْتِيَاطًا بَعْدَ إذْ لَا ضَرُورَةَ إلَى إسْقَاطِ اعْتِبَارِهَا، بِخِلَافِ السِّرْقِينِ إذَا جُعِلَ فِي الطِّينِ لِلتَّطْيِينِ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً إلَى إسْقَاطِ اعْتِبَارِهِ إذْ ذَلِكَ النَّوْعُ لَا يَتَهَيَّأُ إلَّا بِذَلِكَ، فَعَرَفْنَا رَأْيَ الْمُصَنِّفِ فِي هَذَا إذْ لَمْ يَتَعَقَّبْهُ كَمَا هُوَ شَأْنُهُ فِيمَا يُخَالِفُ مُخْتَارَهُ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ الْعِبْرَةُ لِلنَّجِسِ مِنْهُمَا أَيُّهُمَا كَانَ نَجِسًا فَالطِّينُ نَجِسٌ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ أَيُّهُمَا كَانَ طَاهِرًا فَالطِّينُ طَاهِرٌ، هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ حَيْثُ صَارَ شَيْئًا آخَرَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَرْضَ إذَا طَهُرَتْ بِالْجَفَافِ وَالْخُفَّ بِالدَّلْكِ وَالثَّوْبَ بِفَرْكِ الْمَنِيِّ وَالسِّكِّينَ بِالْمَسْحِ وَالْبِئْرَ إذَا غَار مَاؤُهَا بَعْدَ تَنَجُّسِهَا قَبْلَ النَّزْحِ وَجِلْدَ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَ تَشْمِيسًا أَوْ تَتْرِيبًا ثُمَّ أَصَابَهَا الْمَاءُ هَلْ تَنْجُسُ إذَا ابْتَلَّتْ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْآَجُرَّةُ الْمَفْرُوشَةُ إذَا تَنَجَّسَتْ فَجَفَّتْ ثُمَّ قُلِعَتْ هَلْ تَعُودُ نَجِسَةً؟ فِيهَا الرِّوَايَتَانِ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ يَقْتَصِرُ فِي بَعْضِهَا عَلَى حِكَايَةِ الْخِلَافِ، وَالْأَوْلَى طَرْدُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْكُلِّ لِأَنَّهَا نَظَائِرُ، وَقَدْ قَالَ تَصِيرُ فِي الْبِئْرِ بِالطَّهَارَةِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ بِالنَّجَاسَةِ وَفِي الْيَنَابِيعِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ مِثْلُ مَا قَالَ ابْنُ سَلَمَةَ، وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ فِي السِّكِّينِ الطَّهَارَةَ، فَلَوْ قَطَعَ الْبِطِّيخَ وَاللَّحْمَ أُكِلَ، وَقِيلَ لَا يُؤْكَلُ، وَاخْتَارَ قَبْلَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْفَرْكِ الطَّهَارَةَ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْجَفَافِ النَّجَاسَةَ، قَالَ: لِأَنَّ النَّجِسَ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالتَّطْهِيرِ وَالْفَرْكُ تَطْهِيرٌ كَالْغَسْلِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْأَرْضِ تَطْهِيرٌ.
وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فِي السِّكِّينِ وَالسَّيْفِ بَيْنَ كَوْنِ الْمُنَجِّسِ بَوْلًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْغَسْلِ أَوْ دَمًا فَيَطْهُرُ بِالْمَسْحِ.
وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ: إذَا فُرِكَ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ عِنْدَهُمَا، وَفِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَقِلُّ النَّجَاسَةُ وَلَا تَطْهُرُ حَتَّى لَوْ أَصَابَهُ مَاءٌ عَادَ نَجِسًا عِنْدَهُ لَا عِنْدَهُمَا، وَلَهَا أَخَوَاتٌ فَذَكَرَ ذَلِكَ الْخُفَّ وَجَفَافَ الْأَرْضِ وَالدِّبَاغَةَ وَمَسْأَلَةَ الْبِئْرِ، قَالَ: فَكُلُّهَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَظَاهِرُهُ كَوْنُ الظَّاهِرِ النَّجَاسَةَ فِي الْكُلِّ، وَالْأَوْلَى اعْتِبَارُ الطَّهَارَةِ فِي الْكُلِّ كَمَا اخْتَارَهُ شَارِحُ الْمَجْمَعِ فِي الْأَرْضِ، وَهِيَ أَبْعَدُ الْكُلِّ إذْ لَا صُنْعَ فِيهَا أَصْلًا لِيَكُونَ تَطْهِيرًا لِأَنَّهُ
(وَقَدْرُ الدِّرْهَمِ وَمَا دُونَهُ مِنْ النَّجِسِ الْمُغَلَّظِ كَالدَّمِ وَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَخُرْءِ الدَّجَاجِ وَبَوْلِ الْحِمَارِ جَازَتْ الصَّلَاةُ مَعَهُ وَإِنْ زَادَ لَمْ تَجُزْ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: قَلِيلُ النَّجَاسَةِ وَكَثِيرُهَا سَوَاءٌ لِأَنَّ النَّصَّ الْمُوجِبَ لِلتَّطْهِيرِ لَمْ يُفَصِّلْ.
وَلَنَا أَنَّ الْقَلِيلَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَيُجْعَلُ عَفْوًا، وَقَدَّرْنَاهُ بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ
مَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهَا شَرْعًا بِالْجَفَافِ عَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ مَعْنَى الذَّكَاةِ فِي الْآثَارِ وَمُلَاقَاةُ الطَّاهِرِ الطَّاهِرَ لَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ بِخِلَافِ الْمُسْتَنْجِي بِالْحَجَرِ وَنَحْوِهِ لَوْ دَخَلَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ نَجِسٌ عَلَى مَا قَالُوا لِأَنَّ غَيْرَ الْمَائِعِ لَمْ يُعْتَبَرْ مُطَهِّرًا فِي الْبَدَنِ إلَّا فِي الْمَنِيِّ عَلَى رِوَايَةٍ، وَالْجَوَازُ بِغَيْرِهِ لِسُقُوطِ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ عَفْوًا لَا طَهَارَتَهُ فَعَنْهُ آخِذُوا كَوْنِ قَدْرِ الدِّرْهَمِ فِي النَّجَاسَاتِ عَفْوًا.
(قَوْلُهُ وَ) لَوْ أَصَابَ الثَّوْبَ (قَدْرُ الدِّرْهَمِ إلَخْ) حَاصِلُ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَحْثِ إفَادَةُ كَوْنِ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يَمْنَعُ فِي الْغَلِيظَةِ وَمَا لَمْ يَفْحُشْ فِي الْخَفِيفَةِ وَتَقْدِيرِ الدِّرْهَمِ وَالْفَاحِشِ وَإِعْطَاءِ ضَابِطِ الْغَلِيظَةِ وَالْخَفِيفَةِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَنْقُولُ.
وَوَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ مَا لَا يَأْخُذَهُ الطَّرَفُ كَوَقْعِ الذُّبَابِ مُخَصَّصٌ مِنْ نَصِّ التَّطْهِيرِ اتِّفَاقًا فَيَخُصُّ أَيْضًا قَدْرَ الدِّرْهَمِ بِنَصِّ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ لِأَنَّ مَحَلَّهُ قَدْرُهُ وَلَمْ يَدْخُلْ حَتَّى لَوْ دَخَلَ فِي قَلِيلِ مَاءٍ نَجَّسَهُ، أَوْ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ وَقْتُ الْإِصَابَةِ فَلَوْ كَانَ دُهْنًا نَجِسًا قَدْرَ دِرْهَمٍ فَانْفَرَشَ فَصَارَ أَكْثَرَ مِنْهُ لَا يَمْنَعُ فِي اخْتِيَارِ الْمَرْغِينَانِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَمُخْتَارُ غَيْرِهِمْ الْمَنْعُ، فَلَوْ صَلَّى قَبْلَ اتِّسَاعِهِ جَازَتْ وَبَعْدَهُ لَا، وَلَا يُعْتَبَرُ نُفُوذُ الْمِقْدَارِ إلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ إذَا كَانَ الثَّوْبُ وَاحِدًا لِأَنَّ النَّجَاسَةَ حِينَئِذٍ وَاحِدٌ فِي الْجَانِبَيْنِ فَلَا يُعْتَبَرُ مُتَعَدِّدًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ذَا طَاقَيْنِ لِتَعَدُّدِهَا فَيَمْنَعُ، وَعَنْ هَذَا فُرِّعَ الْمَنْعُ لَوْ صَلَّى مَعَ دِرْهَمٍ مُتَنَجِّسِ الْوَجْهَيْنِ لِوُجُودِ الْفَاصِلِ بَيْنَ وَجْهَيْهِ وَهُوَ جَوْهَرُ سُمْكِهِ، وَلِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَنْفُذُ نَفْسُ مَا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِيهِ فَلَمْ تَكُنْ النَّجَاسَةُ فِيهِمَا مُتَّحِدَةً، ثُمَّ إنَّمَا يُعْتَبَرُ الْمَانِعُ مُضَافًا إلَيْهِ، فَلَوْ جَلَسَ الصَّبِيُّ الْمُتَنَجِّسُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ فِي حِجْرِ الْمُصَلِّي وَهُوَ يَسْتَمْسِكُ أَوْ الْحَمَامُ الْمُتَنَجِّسُ عَلَى رَأْسِهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ فَلَمْ يَكُنْ حَامِلَ النَّجَاسَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَمَلَ مَنْ لَا يَسْتَمْسِكُ حَيْثُ يَصِيرُ مُضَافًا إلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ، هَذَا وَالصَّلَاةُ مَكْرُوهَةٌ مَعَ مَا لَا يَمْنَعُ حَتَّى قِيلَ لَوْ عَلِمَ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ يَرْفُضُهَا مَا لَمْ يَخَفْ فَوَاتَ الْوَقْتِ أَوْ الْجَمَاعَةِ وَأَمَّا الثَّانِي فَظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ اخْتِيَارٌ لِلتَّقْدِيرِ بِعَرْضِ الْكَفِّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَاخْتَارَ شَارِحُ الْكَنْزِ تَبَعًا لِكَثِيرٍ مِنْ الْمَشَايِخِ مَا قِيلَ مِنْ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَقَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ لِأَنَّ إعْمَالَ الرِّوَايَتَيْنِ إذَا أَمْكَنَ أَوْلَى خُصُوصًا مَعَ مُنَاسَبَةِ هَذَا التَّوْزِيعِ. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فِيهِ بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ يُفِيدُ أَنَّ أَصْلَ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ دَأْبُهُ فِي مِثْلِهِ مِنْ عَدَمِ التَّقْدِيرِ، فَمَا عُدَّ فَاحِشًا مُنِعَ وَمَا لَا فَلَا حَتَّى رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ تَقْدِيرَهُ، وَقَالَ: الْفَاحِشُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ طِبَاعِ النَّاسِ، فَوَقَفَهُ عَلَى عَدِّ طِبَاعِ الْمُبْتَلَى إيَّاهُ فَاحِشًا،
أَخْذًا عَنْ مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ.
ثُمَّ يُرْوَى اعْتِبَارُ الدِّرْهَمِ مِنْ حَيْثُ الْمِسَاحَةُ وَهُوَ قَدْرُ عَرْضِ الْكَفِّ فِي الصَّحِيحِ، وَيُرْوَى مِنْ حَيْثُ الْوَزْنُ وَهُوَ الدِّرْهَمُ الْكَبِيرُ الْمِثْقَالِ وَهُوَ مَا يَبْلُغُ وَزْنُهُ مِثْقَالًا.
وَقِيلَ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا إنَّ الْأُولَى فِي الرَّقِيقِ وَالثَّانِيَةَ فِي الْكَثِيفِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ نَجَاسَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُغَلَّظَةً لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ تَقْدِيرُهُ بِرُبُعِ الثَّوْبِ وَرُبُعِ أَدْنَى ثَوْبٍ يَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ شِبْرٌ فِي شِبْرٍ.
وَعَنْهُ ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ وَمِثْلُهُ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الْقَدَمَيْنِ وَيَظْهَرُ أَنَّ الْأَوَّلَ أَحْسَنُ لِاعْتِبَارِ الرُّبُعِ كَثِيرًا كَالْكُلِّ فِي مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ يُنَجِّسُ الْأَرْبَعَةَ وَانْكِشَافِ رُبُعِ الْعُضْوِ مِنْ الْعَوْرَةِ بِخِلَافِ مَا دُونَهُ فِيهِمَا.
غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ الثَّوْبَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ شَامِلًا اُعْتُبِرَ رُبُعُهُ، وَإِنْ كَانَ أَدْنَى مَا تَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ اُعْتُبِرَ رُبُعُهُ لِأَنَّهُ الْكَثِيرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الثَّوْبِ الْمُصَابِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَعِنْدَهُمَا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُورِثُ شُبْهَةً، وَعِنْدَهُ تَعَارُضُ النَّصَّيْنِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ، وَإِذًا فَالدَّمُ وَالْخَمْرُ وَخُرْءُ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ وَالْإِوَزِّ وَالْغَائِطُ وَبَوْلُ الْآدَمِيِّ وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ إلَّا الْفَرَسَ وَالْقَيْءُ: غَلِيظٌ اتِّفَاقًا؛ لِعَدَمِ التَّعَارُضِ وَالْخِلَافِ، وَالْمُرَادُ بِالدَّمِ غَيْرُ الْبَاقِي فِي الْعُرُوقِ وَفِي حُكْمِهِ اللَّحْمُ الْمَهْزُولُ إذَا قُطِعَ، فَالدَّمُ الَّذِي فِيهِ لَيْسَ نَجِسًا وَكَذَا الدَّمُ الَّذِي فِي الْكَبِدِ لَا مِنْ غَيْرِهِ كَذَا قِيلَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ دَمًا فَقَدْ جَاوَرَ الدَّمَ، وَالشَّيْءُ يَنْجَسُ بِمُجَاوَرَةِ النَّجِسِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْبَاقِي أَنَّهُ مَعْفُوٌّ فِي الْأَكْلِ لَا الثَّوْبِ، وَغَيْرُ دَمِ الشَّهِيدِ مَا دَامَ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ حَمَلَهُ مُلَطَّخًا بِهِ فِي الصَّلَاةِ صَحَّتْ.
بِخِلَافِ قَتِيلٍ غَيْرِ شَهِيدٍ لَمْ يُغَسَّلْ أَوْ غُسِّلَ وَكَانَ كَافِرًا لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ بِالْغُسْلِ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ.
وَعَيْنُ الْمِسْكِ قَالُوا يَجُوزُ أَكْلُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ مَا اُشْتُهِرَ مِنْ كَوْنِهِ دَمًا وَلَمْ أَرَ لَهُ تَعْلِيلًا، وَذَاكَرْت بَعْضَ الْإِخْوَانِ مِنْ الْمَغَارِبَةِ فِي الزَّبَادِ فَقُلْت يُقَالُ إنَّهُ عَرَقُ حَيَوَانٍ مُحَرَّمِ الْأَكْلِ، فَقَالَ مَا يُحِيلُهُ الطَّبْعُ إلَى صَلَاحٍ كَالطَّيْبِيَّةِ يَخْرُجُ عَنْ النَّجَاسَةِ كَالْمِسْكِ، وَلَيْسَ دَمُ الْبَقِّ وَالْبَرَاغِيثِ وَالسَّمَكِ بِشَيْءٍ، وَأَمَّا الْقَيْءُ فَإِذَا كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَنَجِسٌ فَأَمَّا مَا دُونَهُ فَظَاهِرٌ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ
(وَإِنْ كَانَتْ مُخَفَّفَةً كَبَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ جَازَتْ الصَّلَاةُ مَعَهُ حَتَّى يَبْلُغَ رُبُعَ الثَّوْبِ) يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فِيهِ بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ، وَالرُّبُعُ مُلْحَقٌ بِالْكُلِّ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَعَنْهُ رُبُعُ أَدْنَى ثَوْبٍ تَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ كَالْمِئْزَرِ، وَقِيلَ رُبُعُ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهُ كَالذَّيْلِ وَالدِّخْرِيصِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله شِبْرٌ فِي شِبْرٍ،
قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي فَتَاوَى نَجْمِ الدِّينِ النَّسَفِيِّ: صَبِيٌّ ارْتَضَعَ ثُمَّ قَاءَ فَأَصَابَ ثِيَابَ الْأُمِّ، إنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَنَجِسٌ، فَإِذَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ مُنِعَ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مَا لَمْ يَفْحُشْ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، كَذَا فِي غَرِيبِ الرِّوَايَةِ لِأَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي النَّوَاقِضِ عَنْ الْمُجْتَبِي وَغَيْرِهِ يَقْتَضِي طَهَارَةَ هَذَا الْقَيْءِ فَارْجِعْ إلَيْهِ. وَقَوْلُهُ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ مَعْنَاهُ مَقْطُوعٌ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، فَالْعَمَلُ بِالظَّنِّيِّ وَاجِبٌ قَطْعًا فِي الْفُرُوعِ وَإِنْ كَانَ نَفْسُ وُجُوبٍ مُقْتَضَاهُ ظَنِّيًّا، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ يُرِيدُ دَلِيلَ الْإِجْمَاعِ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي الرَّوْثِ وَهُوَ لِلْحِمَارِ وَالْفَرَسِ، وَالْخَثَى وَهُوَ لِلْبَقَرِ، وَالْبَعْرِ وَهُوَ لِلْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، فَعِنْدَهُ غَلِيظَةٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي الرَّوْثَةِ «إنَّهَا رِكْسٌ» وَلَمْ يُعَارَضْ وَعِنْدَهُمَا خَفِيفَةٌ فَإِنَّ مَالِكًا يَرَى طَهَارَتَهَا، وَلِعُمُومِ الْبَلْوَى لِامْتِلَاءِ الطُّرُقِ بِخِلَافِ بَوْلِ الْحِمَارِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ الْأَرْضَ تُنَشِّفُهُ حَتَّى رَجَعَ مُحَمَّدٌ آخِرًا إلَى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الرَّوْثَ وَإِنْ فَحُشَ لَمَّا دَخَلَ الرَّيَّ مَعَ الْخَلِيفَةِ وَرَأَى بَلْوَى النَّاسِ مِنْ امْتِلَاءِ الطُّرُقِ وَالْخَانَاتِ بِهَا، وَقَاسَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِهِ هَذَا طِينُ بُخَارَى لِأَنَّ مَشْيَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ فِيهَا وَعِنْدَ ذَلِكَ يُرْوَى رُجُوعُهُ فِي الْخُفِّ حَتَّى إذَا أَصَابَتْهُ عَذِرَةٌ يَطْهُرُ بِالدَّلْكِ.
وَفِي الرَّوْثِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّلْكِ عِنْدَهُ، وَلَهُ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْعَمَلِ النَّصُّ لَا الْخِلَافُ، وَالْبَلْوَى فِي النِّعَالِ وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُهَا حَتَّى طَهُرَتْ بِالدَّلْكِ فَإِثْبَاتُ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ بِغَيْرِ مُوجِبٍ، وَمَا قِيلَ إنَّ الْبَلْوَى لَا تُعْتَبَرُ فِي مَوْضِعٍ لِلنَّصِّ عِنْدَهُ كَبَوْلِ الْإِنْسَانِ مَمْنُوعٌ، بَلْ تُعْتَبَرُ إذَا تَحَقَّقَتْ بِالنَّصِّ النَّافِي لِلْحَرَجِ وَهُوَ لَيْسَ مُعَارَضَةً لِلنَّصِّ بِالرَّأْيِ وَالْبَلْوَى فِي بَوْلِ الْإِنْسَانِ فِي الِانْتِضَاحِ كَرُءُوسِ الْإِبَرِ لَا فِيمَا سِوَاهُ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِأَغْلَبِيَّةِ عُسْرِ الِانْفِكَاكِ وَذَلِكَ إنْ تَحَقَّقَ فِي بَوْلِ الْإِنْسَانِ فَكَمَا قُلْنَا، وَقَدْ رَتَّبْنَا مُقْتَضَاهُ إذْ قَدْ أَسْقَطْنَا اعْتِبَارَهُ، ثُمَّ حَدِيثُ رَمْيِ الرَّوْثَةِ هُوَ مَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْغَائِطَ فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ فَلَمْ أَجِدْ، فَأَخَذْتُ رَوْثَةً فَأَتَيْتُهُ، بِهَا فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ هَذَا رِكْسٌ» وَأَمَّا الْمُرَادُ بِالنَّصَّيْنِ فِي قَوْلِهِ أَوْ لِتَعَارُضِ النَّصَّيْنِ فَحَدِيثُ «اسْتَنْزِهُوا الْبَوْلَ» وَحَدِيثُ
وَإِنَّمَا كَانَتْ مُخَفَّفَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَكَانِ الِاخْتِلَافِ فِي نَجَاسَتِهِ أَوْ لِتَعَارُضِ النَّصَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ (وَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنْ الرَّوْثِ أَوْ أَخْثَاءِ الْبَقَرِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) لِأَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِي نَجَاسَتِهِ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام رَمَى بِالرَّوْثَةِ وَقَالَ: هَذَا رِجْسٌ أَوْ رِكْسٌ» لَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ، وَبِهَذَا يَثْبُتُ التَّغْلِيظُ عِنْدَهُ وَالتَّخْفِيفُ بِالتَّعَارُضِ (وَقَالَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَفْحُشَ) لِأَنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغًا، وَلِهَذَا يَثْبُتُ التَّخْفِيفُ عِنْدَهُمَا، وَلِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً لِامْتِلَاءِ الطُّرُقِ بِهَا وَهِيَ مُؤَثِّرَةٌ
الْعُرَنِيِّينَ وَقَدْ تَقَدَّمَا، وَفَرَّقَ زُفَرُ إلْحَاقَ الرَّوْثِ كُلِّ شَيْءٍ بِبَوْلِهِ، وَفِي مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ قَالَ زُفَرُ: رَوْثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ كَقَوْلِ مَالِكٍ.
[فَرْعٌ] مَرَارَةُ كُلِّ شَيْءٍ كَبَوْلِهِ وَاجْتِرَارُهُ كَسِرْقِينِهِ قَالَ فِي التَّنْجِيسِ لِأَنَّهُ وَارَاهُ جَوْفَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يُوَارَى جَوْفَ الْإِنْسَانِ بِأَنْ كَانَ مَاءً ثُمَّ قَاءَهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ بَوْلِهِ اهـ.
وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَذَلِكَ وَإِنْ قَاءَ مِنْ سَاعَتِهِ، وَقَدَّمْنَا فِي النَّوَاقِضِ عَنْ الْحَسَنِ مَا هُوَ الْأَحْسَنُ فَارْجِعْ إلَيْهِ، وَقَدْ صَحَّحَهُ بَعْدَ قَرِيبٍ وَرَقَةٌ فَقَالَ فِي الصَّبِيِّ ارْتَضَعَ ثُمَّ قَاءَ فَأَصَابَ ثِيَابَ الْأُمِّ إنْ زَادَ عَلَى الدِّرْهَمِ مُنِعَ.
قَالَ: وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مَا لَمْ يَفْحُشْ لِأَنَّهُ
فِي التَّخْفِيفِ، بِخِلَافِ بَوْلِ الْحِمَارِ لِأَنَّ الْأَرْضَ تُنَشِّفُهُ.
قُلْنَا: الضَّرُورَةُ فِي النِّعَالِ قَدْ أَثَّرَتْ فِي التَّخْفِيفِ مَرَّةً حَتَّى تَطْهُرَ بِالْمَسْحِ فَتَكْفِي مُؤْنَتُهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، وَزُفَرُ رحمه الله فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَوَافَقَ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله فِي غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَوَافَقَهُمَا فِي الْمَأْكُولِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الرَّيَّ وَرَأَى الْبَلْوَى أَفْتَى بِأَنَّ الْكَثِيرَ الْفَاحِشَ لَا يَمْنَعُ أَيْضًا وَقَاسُوا عَلَيْهِ طِينَ بُخَارَى، وَعِنْدَ ذَلِكَ رُجُوعُهُ فِي الْخُفِّ يُرْوَى.
(وَإِنْ أَصَابَهُ بَوْلُ الْفَرَسِ لَمْ يُفْسِدْهُ حَتَّى يَفْحُشَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله لَا يَمْنَعُ وَإِنْ فَحُشَ) لِأَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ عِنْدَهُ مُخَفَّفٌ نَجَاسَتُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله وَلَحْمُهُ مَأْكُولٌ عِنْدَهُمَا، وَأَمَّا
لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ نَجَاسَتُهُ دُونَ نَجَاسَةِ الْبَوْلِ، بِخِلَافِ الْمَرَارَةِ لِأَنَّهَا مُتَغَيِّرَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، كَذَا فِي غَرِيبِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَفِيهِ مَا ذَكَرْنَا.
(قَوْلُهُ وَإِنْ أَصَابَهُ بَوْلُ الْفَرَسِ) مَرَّ مُحَمَّدٌ عَلَى أَصْلِهِ وَكَذَا أَبُو يُوسُفَ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَالتَّخْفِيفُ لِلتَّعَارُضِ وَهُوَ بَيْنَ قَوْلِهِ «اسْتَنْزِهُوا الْبَوْلَ» وَحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ فِي بَعْضِ مُتَنَاوَلَاتِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَحْمَ الْفَرَسِ طَاهِرٌ وَحُرْمَتَهُ لِكَرَامَتِهِ لَا لِنَجَاسَتِهِ، وَحَدِيثُ الْعُرَنِيِّينَ يُعَارِضُ «اسْتَنْزِهُوا الْبَوْلَ» فِي بَعْضِ مُتَنَاوَلَاتِهِ وَهُوَ الْحَيَوَانُ الْمَأْكُولُ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ طَهَارَتِهِ بَوْلُهُ كَوْنُهُ طَاهِرَ اللَّحْمِ إذْ لَا أَثَرَ لِلْأَكْلِ فِي ذَلِكَ إلَّا بِوَاسِطَتِهِ فَصَارَ هُوَ الْمُعْتَبَرَ دُونَ كَوْنِهِ مَأْكُولًا إلَّا مَا أَخْرَجَهُ الدَّلِيلُ كَالْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ طَاهِرُ اللَّحْمِ، وَنَجِسُ الْبَوْلِ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله التَّخْفِيفُ لِتَعَارُضِ الْآثَارِ.
(وَإِنْ أَصَابَهُ خُرْءُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الطُّيُورِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ جَازَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله لَا تَجُوزُ) فَقَدْ قِيلَ إنَّ الِاخْتِلَافَ فِي النَّجَاسَةِ، وَقَدْ قِيلَ فِي الْمِقْدَارِ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَالْفَرَسُ كَذَلِكَ.
(قَوْلُهُ فَقَدْ قِيلَ إلَخْ) يَعْنِي اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّ قَوْلَهُمَا بِجَوَازِ الصَّلَاةِ بِنَاءً عَلَى طَهَارَةِ خُرْءِ الطُّيُورِ الْمُحَرَّمَةِ أَوْ عَلَى التَّقْدِيرِ فِيهِ بِالْفَاحِشِ فَقَالَ الْكَرْخِيُّ لِطَهَارَتِهِ عِنْدَهُمَا، وَقَالَ الْهِنْدُوَانِيُّ لِخِفَّتِهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ نَجِسٌ مُغَلَّظٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ الْوَاقِعُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ وَمَعَ مُحَمَّدٍ عَلَى رِوَايَةِ الْهِنْدُوَانِيُّ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ: فِي الرِّوَايَتَيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَتَحَصَّلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ: رِوَايَةُ الْهِنْدُوَانِيُّ خَفِيفٌ، وَرِوَايَةُ الْكَرْخِيِّ طَاهِرٌ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله رِوَايَتَانِ: رِوَايَةُ الْهِنْدُوَانِيُّ غَلِيظٌ، وَرِوَايَةُ الْكَرْخِيِّ طَاهِرٌ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله غَلِيظٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَجَعَلَ الْمُصَنِّفُ الْأَصَحَّ التَّخْفِيفَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضَّرُورَةَ
هُوَ يَقُولُ إنَّ التَّخْفِيفَ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ لِعَدَمِ الْمُخَالَطَةِ فَلَا يُخَفَّفُ.
وَلَهُمَا أَنَّهَا تَذَرَّقَ مِنْ الْهَوَاءِ وَالْتِحَامِي عَنْهُ مُتَعَذِّرٌ فَتَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْإِنَاءِ قِيلَ يُفْسِدُهُ، وَقِيلَ لَا يُفْسِدُهُ لِتَعَذُّرِ صَوْنِ الْأَوَانِي عَنْهُ (وَإِنْ أَصَابَهُ مِنْ دَمِ السَّمَكِ أَوْ لُعَابِ الْبَغْلِ أَوْ الْحِمَارِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرُ الدِّرْهَمِ أَجْزَأَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ) أَمَّا دَمُ السَّمَكِ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَمٍ عَلَى التَّحْقِيقِ فَلَا يَكُونُ نَجِسًا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ اعْتَبَرَ فِيهِ الْكَثِيرَ الْفَاحِشَ فَاعْتَبَرَهُ نَجِسًا.
وَأَمَّا لُعَابُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ فَلِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِهِ الطَّاهِرُ (فَإِنْ انْتَضَحَ عَلَيْهِ الْبَوْلُ مِثْلَ رُءُوسِ الْإِبَرِ فَذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ) لِأَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ.
فِيهِ لَا تُؤَثِّرُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَلَّمَا يَصِلُ إلَى أَنْ يَفْحُشَ فَيَكْفِي تَخْفِيفُهُ (قَوْلُهُ هُوَ يَقُولُ) أَيْ مُحَمَّدٌ (قَوْلُهُ قِيلَ يُفْسِدُهُ وَقِيلَ لَا يُفْسِدُهُ) الْأَوَّلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ نَجِسٌ خَفِيفٌ أَوْ غَلِيظٌ وَإِمْكَانُ الِاحْتِرَازِ بِتَخْمِيرِهَا إذْ هُوَ مُعْتَادٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ ضَرُورَةٌ بَلْ تَفْرِيطٌ.
بِخِلَافِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَيُمْكِنُ كَوْنُهُ بِنَاءً عَلَى الطَّهَارَةِ أَوْ عَلَى سُقُوطِ حُكْمِ النَّجَاسَةِ مَعَ قِيَامِهَا لِلضَّرُورَةِ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله فِي شَعْرِ الْخِنْزِيرِ حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ أَفْسَدَهُ مَعَ إطْلَاقِ الِانْتِفَاعِ بِهِ لِلْخَرَّازِينَ لِلضَّرُورَةِ، وَقَدْ تَظْهَرُ أَوْلَوِيَّةُ الْأَوَّلِ لِمَا قُلْنَا.
فَإِنْ قُلْت: مَا الْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ بَيْنَ خُرْءِ الطُّيُورِ الْمُحَرَّمَةِ وَبَوْلِ الْهِرَّةِ الَّتِي تَعْتَادُ الْبَوْلَ عَلَى النَّاسِ حَيْثُ رُوِيَ عَنْهُ فِيهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ؟ فَالْجَوَابُ كَأَنَّهُ بَنَى نَجَاسَةَ الْخُرْءِ عَلَى عَدَمِ الضَّرُورَةِ إذْ قَدْ يُصِيبُ النَّاسَ وَقَدْ لَا يُصِيبُ، بَلْ قَلَّمَا يُشَاهَدُ مُصَابٌ، بِخِلَافِ ذَلِكَ السِّنَّوْرِ فَإِنَّ الضَّرُورَةَ فِيهِ مُتَحَقِّقَةٌ، وَهُمَا بَنَيَا قِيَامَ الضَّرُورَةِ عَلَى عَدَمِ قُدْرَةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ، هَذَا إنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ، وَإِلَّا فَفِي التَّجْنِيسِ بَالَ السِّنَّوْرُ فِي الْبِئْرِ نُزِحَ كُلُّهُ لِأَنَّ بَوْلَهُ نَجِسٌ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ، وَلِذَا لَوْ أَصَابَ الثَّوْبَ أَفْسَدَهُ لَكِنْ الْحَقُّ صِحَّتُهَا، وَحَمْلُ الرِّوَايَاتِ عَلَى الرِّوَايَاتِ الطَّاهِرَةِ أَوْ مُطْلَقًا، وَالْمُرَادُ السِّنَّوْرُ الَّذِي لَا يَعْتَادُ الْبَوْلَ عَلَى النَّاسِ، وَإِلَّا فَقَدْ حَكَى هُوَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ التَّجْنِيسِ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ فِيمَا إذَا بَالَ عَلَى الثَّوْبِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ إذَا بَالَتْ الْهِرَّةُ فِي الْإِنَاءِ أَوْ عَلَى ثَوْبٍ تَنَجَّسَ وَكَذَا بَوْلُ الْفَأْرَةِ وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: يُنَجِّسُ الْإِنَاءَ دُونَ الثَّوْبِ اهـ.
وَهُوَ حَسَنٌ لِعَادَةِ تَخْمِيرِ الْأَوَانِي، هَذَا وَبَوْلُ الْفَأْرَةِ فِي رِوَايَةٍ لَا بَأْسَ بِهِ، وَالْمَشَايِخُ عَلَى أَنَّهُ نَجِسٌ لِخِفَّةِ الضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ خُرْئِهَا فَإِنَّ فِيهِ ضَرُورَةً فِي الْحِنْطَةِ فَقَالُوا: إذَا وَقَعَ فِيهَا فَطُحِنَتْ جَازَ أَكْلُ الدَّقِيقِ مَا لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ الْخُرْءِ فِيهِ طَعْمًا وَنَحْوَهُ.
وَفِي الْإِيضَاحِ: بَوْلُ الْخَفَافِيشِ وَخُرْؤُهَا لَيْسَ بِشَيْءٍ اهـ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانٍ: بَوْلُ الْهِرَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَخُرْؤُهُمَا نَجِسٌ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَاتِ يُفْسِدُ الْمَاءَ وَالثَّوْبَ، وَبَوْلُ الْخُفَّاشِ وَخُرْؤُهُ لَا يُفْسِدُ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ، وَدَمُ الْبَقِّ وَالْبَرَاغِيثِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَدَمُ الْحَلَمَةِ وَالْأَوْزَاغِ نَجِسٌ (قَوْلُهُ مِثْلُ رُءُوسِ الْإِبَرِ لَيْسَ بِشَيْءٍ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِثْلَ
قَالَ (وَالنَّجَاسَةُ ضَرْبَانِ: مَرْئِيَّةٌ، وَغَيْرُ مَرْئِيَّةٍ فَمَا كَانَ مِنْهَا مَرْئِيًّا فَطَهَارَتُهُ زَوَالُ عَيْنِهَا) لِأَنَّ النَّجَاسَةَ حَلَّتْ الْمَحَلَّ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ فَتَزُولُ بِزَوَالِهَا (إلَّا أَنْ يَبْقَى مِنْ أَثَرِهَا مَا تَشُقُّ إزَالَتُهُ) لِأَنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْغَسْلُ بَعْدَ زَوَالِ الْعَيْنِ وَإِنْ زَالَ بِالْغَسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَفِيهِ كَلَامٌ (وَمَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ فَطَهَارَتُهُ أَنْ يُغْسَلَ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الْغَاسِلِ أَنَّهُ قَدْ طَهُرَ) لِأَنَّ التَّكْرَارَ لَا بُدَّ مِنْهُ لِلِاسْتِخْرَاجِ، وَلَا يُقْطَعُ بِزَوَالِهِ فَاعْتُبِرَ غَالِبُ الظَّنِّ كَمَا فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ وَإِنَّمَا قَدَّرُوا بِالثَّلَاثِ لِأَنَّ غَالِبَ الظَّنِّ يَحْصُلُ عِنْدَهُ، فَأُقِيمَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مَقَامَهُ تَيْسِيرًا،
رُءُوسِ الْمِسَلَّةِ مُنِعَ.
وَقَالَ الْهِنْدُوَانِيُّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِثْلَ الْجَانِبِ الْآخَرِ اُعْتُبِرَ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَشَايِخِ لَا يَعْتَبِرُ الْجَانِبَيْنِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَمَا لَمْ يُعْتَبَرْ إذَا أَصَابَهُ مَاءٌ فَكَثُرَ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ. وَفِي الْمُجْتَبَى فِي نَوَادِرِ الْمُعَلَّى: لَوْ اُنْتُضِحَ وَيَرَى أَثَرَهُ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ اهـ.
وَقَالُوا: لَوْ أَلْقَى عَذِرَةً أَوْ بَوْلًا فِي مَاءٍ فَانْتُضِحَ عَلَيْهِ مَاءٌ مِنْ وَقْعِهَا لَا يَنْجَسُ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَوْنُ النَّجَاسَةِ أَوْ يَعْلَمْ أَنَّهُ الْبَوْلُ، وَمَا تَرَشَّشَ عَلَى الْغَاسِلِ مِنْ غُسَالَةِ الْمَيِّتِ مِمَّا لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ مَا دَامَ فِي عِلَاجِهِ لَا يُنَجِّسُهُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى، بِخِلَافِ الْغُسَالَاتِ الثَّلَاثِ إذَا اسْتَنْقَعَتْ فِي مَوْضِعٍ فَأَصَابَتْ شَيْئًا نَجَّسَتْهُ، أَمَّا الْمَاءُ الثَّالِثُ وَحْدَهُ فَعَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ أَوَّلَ الْبَابِ.
(قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَبْقَى مِنْ أَثَرِهَا مَا يَشُقُّ) أَيْ لَوْنُهَا أَوْ رِيحُهَا مَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى اسْتِعْمَالِ غَيْرِ الْمَاءِ كَالصَّابُونِ وَالْأُشْنَانِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ صَبَغَ ثَوْبَهُ أَوْ يَدَهُ بِصَبْغٍ أَوْ حِنَّاءَ نَجِسَيْنِ فَغَسَلَ إلَى أَنْ صَفَا الْمَاءُ يَطْهُرُ مَعَ قِيَامِ اللَّوْنِ، وَقِيلَ يَغْسِلُ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثًا.
وَأَمَّا الطَّهَارَةُ لَوْ غَسَلَ يَدَهُ مِنْ دُهْنٍ نَجِسٍ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِهِ فَإِنَّمَا عَلَّلَهُ فِي التَّجْنِيسِ بِأَنَّ الدُّهْنَ يَطْهُرُ، قَالَ: فَبَقِيَ عَلَى يَدِهِ طَاهِرًا، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الدُّهْنِ يُنَجِّسُ يُجْعَلُ فِي إنَاءٍ ثُمَّ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَيَعْلُو الدُّهْنُ فَيُرْفَعُ بِشَيْءٍ هَكَذَا يَفْعَلُ ثَلَاثًا فَيَطْهُرُ انْتَهَى.
وَتَطْهِيرُ الْعَسَلِ النَّجِسِ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يَصُبَّ عَلَيْهِ مَاءً فَيَغْلِيَ حَتَّى يَعُودَ إلَى الْقَدْرِ الْأَوَّلِ ثَلَاثًا فَيَطْهُرَ، وَقَدْ يُشْكِلُ عَلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ مَا فِي التَّجْنِيسِ حَبٌّ فِيهِ خَمْرٌ غُسِلَ ثَلَاثًا يَطْهُرُ إذَا لَمْ تَبْقَ فِيهِ رَائِحَةُ الْخَمْرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ أَثَرُهَا، فَإِنْ بَقِيَتْ رَائِحَتُهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ فِيهِ مِنْ الْمَائِعَاتِ سِوَى الْخَلِّ لِأَنَّهُ بِجَعْلِهِ فِيهِ يَطْهُرُ وَإِنْ لَمْ يُغْسَلْ لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنْ الْخَمْرِ يَتَخَلَّلُ بِالْخَلِّ، إلَّا أَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ أَفَادَ أَنَّ بَقَاءَ رَائِحَتِهَا فِيهِ بِقِيَامِ بَعْضِ أَجْزَائِهَا، وَعَلَى هَذَا قَدْ يُقَالُ فِي كُلِّ مَا بَقِيَ فِيهِ رَائِحَةٌ كَذَلِكَ وَفِي الْخُلَاصَةِ: الْكُوزُ إذَا كَانَ فِيهِ خَمْرٌ تَطْهِيرُهُ أَنْ يُجْعَلَ فِيهِ الْمَاءُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ مَرَّةٍ سَاعَةٌ، وَإِنْ كَانَ جَدِيدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَطْهُرُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَطْهُرُ أَبَدًا انْتَهَى مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ بَقَاءِ الرَّائِحَةِ أَوْ لَا، وَالتَّفْصِيلُ أَحْوَطُ (قَوْلُهُ وَفِيهِ كَلَامٌ) أَيْ لِلْمَشَايِخِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُغْسَلُ بَعْدَ زَوَالِ الْعَيْنِ ثَلَاثًا إلْحَاقًا لَهُ بَعْدَهَا بِنَجَاسَةٍ غَيْرِ مَرْئِيَّةٍ وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ مَرَّتَيْنِ كَغَيْرِ مَرْئِيَّةٍ غُسِلَتْ مَرَّةً، وَقِيلَ إذَا ذَهَبَ الْعَيْنُ وَالْأَثَرُ بِمَرَّةٍ لَا يُغْسَلُ، وَهُوَ أَقْيَسُ لِأَنَّ
وَيَتَأَيَّدُ ذَلِكَ بِحَدِيثِ الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ مَنَامِهِ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْعَصْرِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
نَجَاسَةَ الْمَحَلِّ بِمُجَاوَرَةِ الْعَيْنِ وَقَدْ زَالَتْ، وَحَدِيثُ الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ مَنَامِهِ فِي غَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ ضَرُورَةٌ أَنَّهُ مَأْمُورٌ لِتَوَهُّمِ النَّجَاسَةِ وَلِذَا كَانَ مَنْدُوبًا، وَلَوْ كَانَتْ مَرْئِيَّةً كَانَتْ مُحَقَّقَةً وَكَانَ حُكْمُهُ الْوُجُوبَ.
(قَوْلُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِالْعَصْرِ فِي الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ، وَتُعْتَبَرُ قُوَّةُ كُلِّ عَاصِرٍ حَتَّى إذَا انْقَطَعَ تَقَاطُرُهُ بِعَصْرِهِ ثُمَّ قَطَرَ بِعَصْرِ رَجُلٍ آخَرَ أَوْ دُونَهُ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ، ثُمَّ هَذَا مُقْتَصِرٌ عَلَى مَا يُعْصَرُ وَمَخْصُوصٌ مِنْهُ أَيْضًا: أَمَّا الثَّانِي فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي إزَارِ الْحَمَامِ إذَا صُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ كَثِيرٌ وَهُوَ عَلَيْهِ يَطْهُرُ بِلَا عَصْرٍ، حَتَّى ذُكِرَ عَنْ الْحَلْوَانِيِّ: لَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ دَمًا أَوْ بَوْلًا وَصُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ كَفَاهُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي إزَارِ الْحَمَامِ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ سِتْرِ الْعَوْرَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ وَتُتْرَكُ الرِّوَايَاتُ الظَّاهِرَةُ فِيهِ، وَقَالُوا فِي الْبِسَاطِ النَّجِسِ إذَا جُعِلَ فِي نَهْرٍ لَيْلَةَ طُهْرٍ.
وَفِي خُفِّ بِطَانَتِهِ كِرْبَاسٌ دَخَلَ فِي خُرُوقِهِ مَاءٌ نَجِسٌ فَغَسَلَ الْخُفَّ وَدَلَّكَهُ بِالْيَدِ ثُمَّ مَلَأَهُ مَاءً ثَلَاثًا وَأَرَاقَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ عَصْرُ الْكِرْبَاسِ طَهُرَ كَالْبِسَاطِ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا يَخْلُو كَوْنُ الْمُتَنَجِّسِ مِمَّا تَتَدَاخَلُهُ النَّجَاسَةُ أَوْ لَا، فَفِي الثَّانِي يُغْسَلُ وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُوَ بِذَهَابِ النَّدْوَةِ.
قَالُوا فِي الْجِلْدِ وَالْخُفِّ وَالْمُكَعَّبِ وَالْجُرْمُوقِ إذَا أُمِرَّ الْمَاءُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا وَجُفِّفَ كُلَّ مَرَّةٍ طَهُرَ، وَقِيلَ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْفِيفٍ، وَقِيلَ الْأَحْوَطُ.
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْآجُرِّ الْمُسْتَعْمَلِ الْقَدِيمِ: يَكْفِيهِ الْغَسْلُ ثَلَاثًا بِدُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَا الْخِرْقَةُ الْقَدِيمَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ، وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهَا بِمَا إذَا تَنَجَّسَتْ وَهِيَ رَطْبَةٌ، أَمَّا لَوْ تُرِكَتْ بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ حَتَّى جَفَّتْ فَإِنَّهَا كَالْجَدِيدَةِ لِأَنَّهُ يُشَاهَدُ اجْتِذَابُهَا حَتَّى يَظْهَرَ مِنْ ظَاهِرِهَا، وَكَذَا حَصِيرٌ تَنَجَّسَ بِرَطْبَةٍ يُجْرَى عَلَيْهَا الْمَاءُ إلَى أَنْ يُتَوَهَّمَ زَوَالُهَا لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ سِوَاهُ، وَإِجْرَاءُ الْمَاءِ قَدْ يَقُومُ مَقَامَ الْعَصْرِ، فَإِنْ كَانَتْ يَابِسَةً فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّلْكِ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْحَصِيرِ لِلصَّقِيلَةِ كَأَكْثَرِ حُصْرِ مِصْرَ كَمَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْوَاقِعَاتِ فِي الْبُورِيَّا مِنْ الْقَصَبِ يُغْسَلُ ثَلَاثًا فَيَطْهُرُ بِلَا خِلَافٍ، أَمَّا الْجَدِيدَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِمَّا يَتَشَرَّبُ فَسَيَأْتِي، وَفِي الْأَوَّلِ فَلَا تَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَبَدًا وَتَطْهُرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَالْخَزَفَةِ الْجَدِيدَةِ، وَالْخَشَبَةِ الْجَدِيدَةِ وَالْبُرْدِيِّ وَالْجِلْدِ دُبِغَ بِنَجِسٍ وَالْحِنْطَةِ انْتَفَخَتْ مِنْ النَّجَاسَةِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يُغْسَلُ ثَلَاثًا وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَقِيلَ فِي الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَالسِّكِّينُ الْمُمَوَّهُ بِمَاءٍ نَجِسٍ يُمَوَّهُ ثَلَاثًا بِطَاهِرٍ، وَاللَّحْمُ وَقَعَ فِي مَرَقِهِ نَجَاسَةٌ حَالَ الْغَلَيَانِ يُغْلَى ثَلَاثًا فَيَطْهُرُ وَقِيلَ لَا يَطْهُرُ، وَفِي غَيْرِ حَالَةِ الْغَلَيَانِ يُغْسَلُ ثَلَاثًا كَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ وَالْمَرَقَةُ لَا خَيْرَ فِيهَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ النَّجَاسَةُ خَمْرًا فَإِنَّهُ إذَا صُبَّ فِيهَا خَلٌّ حَتَّى صَارَتْ كَالْخَلِّ حَامِضَةً طَهُرَتْ، وَفِي التَّجْنِيسِ طُبِخَتْ الْحِنْطَةُ فِي الْخَمْرِ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُطْبَخُ ثَلَاثًا بِالْمَاءِ وَتُجَفَّفُ كُلَّ مَرَّةٍ وَكَذَا اللَّحْمُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا طُبِخَتْ فِي الْخَمْرِ لَا تَطْهُرُ أَبَدًا، وَبِهِ يُفْتِي انْتَهَى.
وَالْكُلُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَطْهُرُ أَبَدًا. وَلَوْ أُلْقِيَتْ دَجَاجَةٌ حَالَةَ الْغَلَيَانِ فِي الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يُشَقَّ بَطْنُهَا لِتُنْتَفَ أَوْ كِرْشٌ قَبْلَ الْغَسْلِ لَا يَطْهُرُ أَبَدًا، لَكِنْ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ أَنْ تَطْهُرَ عَلَى قَانُونِ مَا تَقَدَّمَ فِي اللَّحْمِ.
قُلْت: وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ هُوَ مُعَلَّلٌ بِتَشَرُّبِهِمَا النَّجَاسَةَ الْمُتَحَلِّلَةَ فِي اللَّحْمِ بِوَاسِطَةِ الْغَلَيَانِ، وَعَلَى هَذَا اُشْتُهِرَ أَنَّ اللَّحْمَ السَّمِيطَ بِمِصْرَ نَجِسٌ لَا يَطْهُرُ لَكِنَّ الْعِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ لَا تَثْبُتُ حَتَّى يَصِلَ الْمَاءُ إلَى حَدِّ الْغَلَيَانِ وَيَمْكُثَ فِيهِ اللَّحْمُ بَعْدَ ذَلِكَ زَمَانًا يَقَعُ فِي مِثْلِهِ لِلتَّشَرُّبِ وَالدُّخُولِ فِي بَاطِنِ اللَّحْمِ، وَكُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي السَّمِيطِ الْوَاقِعِ حَيْثُ لَا يَصِلُ الْمَاءُ إلَى حَدِّ الْغَلَيَانِ وَلَا يُتْرَكُ فِيهِ إلَّا مِقْدَارُ مَا تَصِلُ الْحَرَارَةُ
لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَخْرَجُ.
إلَى سَطْحِ الْجِلْدِ فَتَنْحَلُّ مَسَامُّ السَّطْحِ عَنْ الصُّوفِ، بَلْ ذَلِكَ التَّرْكُ يَمْنَعُ مِنْ جَوْدَةِ انْقِلَاعِ الشَّعْرِ، فَالْأَوْلَى فِي السَّمِيطِ أَنْ يَطْهُرَ بِالْغَسْلِ ثَلَاثًا لِتَنَجُّسِ سَطْحِ الْجِلْدِ بِذَلِكَ الْمَاءِ فَإِنَّهُمْ لَا يَحْتَرِسُونَ فِيهِ عَنْ الْمُنَجَّسِ.
وَقَدْ قَالَ شَرَفُ الْأَئِمَّةِ بِهَذَا فِي الدَّجَاجَةِ وَالْكِرْشِ وَالسَّمِيطِ مِثْلَهُمَا.
[مَسَائِلُ شَتَّى] بِئْرُ بَالُوعَةٍ جُعِلَتْ بِئْرَ مَاءٍ إنْ حُفِرَتْ قَدْرَ مَا وَصَلَ إلَيْهِ النَّجَاسَةُ طَهُرَ مَاؤُهَا لَا جَوَانِبُهَا، فَإِنْ وُسِّعَتْ مَعَ ذَلِكَ طَهُرَ الْكُلُّ.
حَوْضٌ فِيهِ عَصِيرٌ وَقَعَ فِيهِ نَجَاسَةٌ إنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ مَا يَتَنَجَّسُ يَنْجَسُ وَإِلَّا فَلَا.
جِلْدُ الْإِنْسَانِ وَقِشْرُهُ يَسْقُطُ فِي الْمَاءِ، إنْ كَانَ قَلِيلًا مِثْلَ مَا يَتَنَاثَرُ مِنْ شُقُوقِ الرِّجْلِ لَا يُفْسِدُ الْمَاءَ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا قَدْرَ الظُّفْرِ أَفْسَدَهُ، وَلَوْ وَقَعَ الظُّفْرُ نَفْسُهُ لَا يُنَجِّسُ لِأَنَّهُ عَصَبٌ إذَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ رُطُوبَةٌ.
مَاءُ فَمِ النَّائِمِ طَاهِرٌ سَوَاءٌ كَانَ مُتَحَلِّلًا مِنْ الْفَمِ أَوْ مُرْتَقِيًا مِنْ الْجَوْفِ لِأَنَّ الْغَالِبَ كَوْنُهُ مِنْ الْبَلْغَمِ وَهُوَ طَاهِرٌ وَقَدْ أَسْلَفْنَا أَنَّهُ إذَا كَانَ مُنْتِنًا أَوْ أَصْفَرَ نَقَضَ إذَا كَانَ قَدْرَ مِلْءِ الْفَمِ.
وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ مَاءُ فَمِ الْمَيِّتِ قِيلَ نَجِسٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي نَافِجَةِ الْمِسْكِ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ أَصَابَهَا الْمَاءُ لَمْ تُفْسِدْهُ فَهِيَ طَاهِرَةٌ وَإِلَّا فَنَجِسَةٌ، هَذَا إذَا كَانَتْ مِنْ الْمَيْتَةِ، أَمَّا مِنْ الذَّكِيَّةِ فَطَاهِرَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَلَوْ سَقَطَ بَيْضَةٌ مِنْ الدَّجَاجَةِ أَوْ سَخْلَةٌ مِنْ أُمِّهَا فِي مَاءٍ أَوْ مَرَقَةٍ لَا يَنْجَسُ.
تَوَضَّأَ وَمَشَى عَلَى أَلْوَاحٍ مُشَرَّعَةٍ بَعْدَ مَشْيِ مَنْ بِرِجْلِهِ قَذَرٌ لَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ رِجْلِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى مَوْضِعِهِ لِلضَّرُورَةِ، وَمِثْلُهُ الْمَشْيُ فِي مَاءُ الْحَمَّامِ لَا يُنَجِّسُ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ غُسَالَةُ مُتَنَجِّسٍ أَوْ جُنُبٍ عَلَى رِوَايَةِ نَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ.
وَمَا ذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى مِنْ تَنَجُّسِ مَنْ وَضَعَ رِجْلَهُ مَوْضِعَ رِجْلِ كَلْبٍ فِي الثَّلْجِ أَوْ الطِّينِ وَنَظَائِرُ هَذِهِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى رِوَايَةِ نَجَاسَةِ عَيْنِ الْكَلْبِ وَلَيْسَتْ بِالْمُخْتَارَةِ.
جِلْدُ الْحَيَّةِ وَإِنْ ذُكِّيَتْ يَمْنَعُ الصَّلَاةَ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَةَ لِتُقَامَ الذَّكَاةُ مَقَامَ الدِّبَاغَةِ.
وَعَنْ الْحَلْوَانِيِّ قَمِيصُ الْحَيَّةِ طَاهِرٌ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ الْأَصَحُّ.
وَالشَّعِيرُ الَّذِي يُوجَدُ فِي بَعْرِ الْإِبِلِ وَالشَّاةِ يُغْسَلُ وَيُؤْكَلُ، لَا الَّذِي فِي خَثَى الْبَقَرِ لِأَنَّهُ لَا صَلَابَةَ فِيهِ.
وَفِي التَّجْنِيسِ مَشَى فِي طِينٍ أَوْ أَصَابَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ وَصَلَّى تُجْزِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَثَرُ النَّجَاسَةِ لِأَنَّهَا الْمَائِعُ وَلَمْ تُوجَدْ إلَّا أَنْ يَحْتَاطَ، أَمَّا فِي الْحُكْمِ فَلَا يَجِبُ.
وَمَا ذُكِرَ مِنْ التَّفْصِيلِ فِي إعَادَةِ السِّنِّ السَّاقِطَةِ بَيْنَ سِنِّهِ وَسِنِّ غَيْرِهِ الْأَصَحُّ عَدَمُهُ وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مُطْلَقًا لِأَنَّ السِّنَّ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ لِأَنَّهَا عَظْمٌ أَوْ عَصَبٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي ثِيَابِ الْفَسَقَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَّقُونَ الْخُمُورَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُكْرَهْ مِنْ ثِيَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَّا السَّرَاوِيلُ مَعَ اسْتِحْلَالِهِمْ الْخَمْرَ فَهَذَا أَوْلَى انْتَهَى. بِخِلَافِ مَا إذَا ثَبَتَ بِخَبَرٍ مُوجِبٍ فِي التَّنْجِيسِ، وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي الدِّيبَاجِ الَّذِي يَنْسِجُهُ أَهْلُ فَارِسٍ لِأَنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ فِيهِ الْبَوْلَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَزِيدُ فِي بِرِيقِهِ.
فِي يَدِهِ نَجَاسَةٌ رَطْبَةٌ فَجَعَلَ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى عُرْوَةِ الْإِبْرِيقِ كُلَّمَا صَبَّ عَلَى الْيَدِ فَإِذَا غَسَلَ ثَلَاثًا طَهُرَتْ الْعُرْوَةُ مَعَ طَهَارَةِ الْيَدِ لِأَنَّ نَجَاسَتَهَا بِنَجَاسَتِهَا فَطَهَارَتُهَا بِطَهَارَتِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ سِرْقِينٌ يَابِسٌ وَقَعَ فِي ثَوْبٍ مَبْلُولٍ لَا يُنَجِّسُ مَا لَمْ يُرَ أَثَرُهُ. فَأْرَةٌ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ إنْ كَانَ جَامِدًا وَهُوَ أَنْ لَا يَنْضَمَّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ قُوِّرَ مَا حَوْلَهَا فَأُلْقِيَ وَاسْتُصْبِحَ بِهِ وَأُكِلَ مَا سِوَاهُ، وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا نَجَّسَهُ مَا لَمْ يَبْلُغْ الْقَدْرَ الْكَثِيرَ عَلَى مَا مَرَّ، وَقَدْ بَيَّنَّا طَرِيقَ تَطْهِيرِهِ. مَرَّتْ الرِّيحُ بِالْعَذِرَاتِ وَأَصَابَ الثَّوْبَ إنْ وُجِدَتْ رَائِحَتُهَا
(فَصْلٌ فِي الِاسْتِنْجَاءِ)
(الِاسْتِنْجَاءُ سُنَّةٌ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَاظَبَ عَلَيْهِ
تَنَجَّسَ وَمَا يُصِيبُ الثَّوْبَ مِنْ بُخَارَاتِ النَّجَاسَةِ قِيلَ يُنَجِّسُهُ، وَقِيلَ لَا وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَكَذَا مَا سَالَ مِنْ الْكَنِيفِ الْأَوْلَى غَسْلُهُ، وَلَا يَجِبُ مَا لَمْ يَكُنْ أَكْبَرُ رَأْيِهِ نَجَاسَةً، وَفِي الْخُلَاصَةِ مَرَّتْ الرِّيحُ عَلَى النَّجَاسَاتِ وَثَمَّةَ ثَوْبٌ تُصِيبُهُ قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: تَنَجَّسَ.
وَلَوْ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ وَلَمْ يَمْسَحْهُ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَعَامَّتُهُمْ أَنَّهُ لَا يُنَجِّسُ مَا حَوْلَهُ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَسْتَنْجِ وَلَكِنْ ابْتَلَّ سَرَاوِيلُهُ بِالْمَاءِ وَبِالْعَرَقِ ثُمَّ فَسَا غَيْرَ أَنَّ جَوَابَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ. وَلَوْ صُبَّ مَاءٌ فِي خَمْرٍ أَوْ بِالْقَلْبِ ثُمَّ صَارَ خَلًّا كَانَ طَاهِرًا فِي الصَّحِيحِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَعَتْ فِيهَا فَأْرَةٌ ثُمَّ أُخْرِجَتْ بَعْدَ مَا تَخَلَّلَتْ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَجِسًا فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهَا تَنَجَّسَتْ بَعْدَ التَّخَلُّلِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أُخْرِجَتْ قَبْلَ التَّخَلُّلِ. وَلَوْ عَصَرَ عِنَبًا فَأَدْمَى رِجْلَهُ فَسَالَ مَعَ الْعَصِيرِ لَا يُنَجِّسُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ كَالْمَاءِ الْجَارِي.
حَبٌّ فِيهِ مَاءٌ أَوْرَبَ؛ اُسْتُخْرِجَ وَجُعِلَ فِي إنَاءٍ ثُمَّ أُخِذَ مِنْ آخَرَ وَجُعِلَ فِي هَذَا الْإِنَاءِ أَيْضًا ثُمَّ وَجَدَ فِيهِ فَأْرَةً إنْ غَابَ هُوَ سَاعَةً فَالنَّجَاسَةُ لِلْإِنَاءِ خَاصَّةً، وَإِنْ لَمْ يَغِبْ وَلَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَيِّ الْحُبَّيْنِ هِيَ صُرِفَتْ النَّجَاسَةُ إلَى الْحَبِّ الْأَخِيرِ، هَذَا إذَا تَحَرَّى فَلَمْ يَقَعْ عَلَى شَيْءٍ، فَإِنْ وَقَعَ عُمِلَ بِهِ، وَهَذَا إذَا كَانَا لِوَاحِدٍ فَإِنْ كَانَا لِاثْنَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَقُولُ مَا كَانَتْ فِي حَبِّي فَكِلَاهُمَا طَاهِرٌ.
وَإِذَا تَلَطَّخَ ضَرْعُ شَاةٍ بِسِرْقِينِهَا فَحَلَبَهَا رَاعٍ بِيَدٍ رَطْبَةٍ فَفِي نَجَاسَتِهِ رِوَايَتَانِ.
(فَصْلٌ فِي الِاسْتِنْجَاءِ) هُوَ إزَالَةُ مَا عَلَى السَّبِيلِ مِنْ النَّجَاسَةِ، فَإِنْ كَانَ لِلْمُزَالِ بِهِ حُرْمَةٌ أَوْ قِيمَةٌ كُرِهَ كَقِرْطَاسٍ وَخِرْقَةٍ وَقُطْنَةٍ وَخَلٍّ قِيلَ يُورِثُ ذَلِكَ الْفَقْرَ (قَوْلُهُ وَاظَبَ عَلَيْهِ) وَلِذَا كَانَ كَمَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً وَلَوْ تَرَكَهُ صَحَّتْ صَلَاتُهُ.
قَالَ.
فِي الْخُلَاصَةِ: بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ الْقَلِيلَةَ عَفْوٌ عِنْدَنَا. وَعُلَمَاؤُنَا فَصَلُوا بَيْنَ النَّجَاسَةِ الَّتِي عَلَى مَوْضِعِ الْحَدَثِ وَاَلَّتِي عَلَى غَيْرِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَدَثِ، إذَا تَرَكَهَا يُكْرَهُ، وَفِي مَوْضِعِهِ إذَا تَرَكَهَا لَا يُكْرَهُ.
وَمَا عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ الْخَلَاءَ فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلَامٌ نَحْوِي إدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً فَيَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ فِي الْمُوَاظَبَةِ بِالْمَاءِ، وَمُقْتَضَاهُ كَرَاهَةُ تَرْكِهِ، وَكَذَا مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ غَائِطٍ قَطُّ إلَّا مَسَّ مَاءً» وَلَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مُشْتَرَكُ الدَّلَالَةِ بَيْنَ كَوْنِ
(وَيَجُوزُ فِيهِ الْحَجَرُ وَمَا قَامَ مَقَامَهُ يَمْسَحُهُ حَتَّى يُنَقِّيَهُ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِنْقَاءُ فَيُعْتَبَرُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ (وَلَيْسَ فِيهِ عَدَدٌ مَسْنُونٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا بُدَّ مِنْ الثَّلَاثِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ " وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام " مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، فَمَنْ فَعَلَ فَحَسَنٌ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ "
الْمَسِّ قَبْلَ الْخُرُوجِ أَوْ بَعْدَهُ، وَالْمُرَادُ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام مَا فَرَغَ مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ إلَّا تَوَضَّأَ» بَيَانًا لِمُلَازَمَتِهِ الْوُضُوءَ وَالْمَطْلُوبُ يَتِمُّ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ.
(قَوْلُهُ وَمَا قَامَ مَقَامَهُ) يَعْنِي مِنْ الْأَعْيَانِ الطَّاهِرَةِ الْمُزِيلَةِ فَخَرَجَ الزُّجَاجُ وَالثَّلْجُ وَالْآجُرُّ وَالْخَزَفُ وَالْفَحْمُ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إلَخْ) يُفِيدُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى التَّقْيِيدِ بِكَيْفِيَّةٍ مِنْ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكُتُبِ نَحْوُ إقْبَالِهِ بِالْحَجَرِ فِي الشِّتَاءِ وَإِدْبَارِهِ بِهِ فِي الصَّيْفِ لِاسْتِرْخَاءِ الْخَصِيَتَيْنِ فِيهِ لَا فِي الشِّتَاءِ.
وَفِي الْمُجْتَبَى: الْمَقْصُودُ الْإِنْقَاءُ فَيَخْتَارُ مَا هُوَ الْأَبْلَغُ وَالْأَسْلَمُ عَنْ زِيَادَةِ التَّلْوِيثِ اهـ. فَالْأَوْلَى أَنْ يَقْعُدَ مُسْتَرْخِيًا كُلَّ الِاسْتِرْخَاءِ إلَّا إنْ كَانَ صَائِمًا وَالِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ، وَلَا يَتَنَفَّسُ إذَا كَانَ صَائِمًا وَيَحْتَرِزُ مِنْ دُخُولِ الْأُصْبُعِ الْمُبْتَلَّةِ كُلُّ ذَلِكَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ.
وَفِي كِتَابِ الصَّوْمِ مِنْ الْخُلَاصَةِ: إنَّمَا يُفْسِدُ إذَا وَصَلَ إلَى مَوْضِعِ الْحُقْنَةِ وَقَلَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ اهـ.
وَلِلْمَخَافَةِ يَنْبَغِي أَنْ يُنَشِّفَ الْمَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ، وَيُسْتَحَبُّ لِغَيْرِ الصَّائِمِ أَيْضًا حِفْظًا لِلثَّوْبِ مِنْ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَيَغْسِلُ يَدَيْهِ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ وَبَعْدَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْطُوَ قَبْلَهُ خُطُوَاتٍ وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَسْتَبْرِئَ، وَفِي الْمُبْتَغَى: وَالِاسْتِبْرَاءُ وَاجِبٌ، وَلَوْ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ كَثِيرًا لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ بَلْ يَنْضَحُ فَرْجَهُ بِمَاءٍ أَوْ سَرَاوِيلَهُ حَتَّى إذَا شَكَّ حَلَّ الْبَلَلُ عَلَى ذَلِكَ النَّضْحِ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ خِلَافَهُ، وَلَا يَمْتَخِطُ وَلَا يَبْزُقُ وَلَا يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى حَالَ جُلُوسِهِ وَلَا فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَبِالْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الشِّتَاءِ أَفْضَلُ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْإِزَالَةِ بِهِ، وَلَا يُدْخِلُ الْإِصْبَعَ، قِيلَ يُورِثُ الْبَاسُورَ، وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ تَغْسِلُ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلَوْ غَسَلَتْ بِرَاحَتِهَا كَفَاهَا (قَوْلُهُ وَلْيَسْتَنْجِ إلَخْ) رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ، إذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إلَى الْغَائِطِ فَلَا يَسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ، وَيَسْتَنْجِي بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، وَنَهَى عَنْ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ، وَأَنْ يَسْتَنْجِيَ الرَّجُلُ بِيَمِينِهِ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، كُلُّهُمْ بِلَفْظِ «وَكَانَ يَأْمُرُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» وَإِنَّمَا عَزَوْنَاهُ لِلْبَيْهَقِيِّ لِأَنَّهُ بِلَفْظِ الْكِتَابِ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إلَى الْغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عَنْهُ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ «فَلْيَسْتَطِبْ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَقَالَ إسْنَادُهُ صَحِيحٌ (قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام إلَخْ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ، وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَمَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ، وَمَنْ أَكَلَ فَمَا تَخَلَّلَ فَلْيَلْفِظْ وَمَا لَاكَ بِلِسَانِهِ فَلْيَبْتَلِعْ، وَمَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ، وَمَنْ أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا أَنْ يَجْمَعَ كَثِيبًا مِنْ رَمْلٍ فَلْيَسْتَدْبِرْهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَلْعَبُ بِمَقَاعِدِ بَنِي آدَمَ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.
وَالْإِيتَارُ يَقَعُ
وَالْإِيتَارُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَمَا رَوَاهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ.
(وَغَسْلُهُ بِالْمَاءِ أَفْضَلُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا نَزَلَتْ فِي أَقْوَامٍ كَانُوا يُتْبِعُونَ الْحِجَارَةَ الْمَاءَ، ثُمَّ هُوَ
عَلَى الْوَاحِدَةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَرَجٌ فِي تَرْكِ الْإِيتَارِ لَمْ يَكُنْ حَرَجٌ فِي تَرْكِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْمَنْفِيَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إنَّمَا هُوَ الْإِيتَارُ مِمَّنْ اسْتَنْجَى، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِنَفْيِ إيتَارٍ هُوَ فَوْقَ الْوَاحِدَةِ، فَإِنَّ بِنَفْيِ الْوَاحِدَةِ يَنْتَفِي الِاسْتِنْجَاءُ فَلَا يَصْدُقُ نَفْيُ الْإِيتَارِ مَعَ وُجُودِ الِاسْتِنْجَاءِ فَلَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ إلَّا بِصَرْفِ النَّفْيِ إلَى كُلِّ مَا ذَكَرَ فَيَدْخُلُ فِيهِ أَصْلُ الِاسْتِنْجَاءِ إنْ أَحَبَّ، وَمُجَرَّدُ الْإِيتَارِ فِيهِ، وَالْمَعْنَى: مَنْ فَعَلَ مَا قُلْته كُلَّهُ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ.
وَمَا رَوَاهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرُ فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ جَازَ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ عَدَدُ الْمَسَحَاتِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدَّرَ بِالثَّلَاثِ لِأَنَّ غَالِبَ الظَّنِّ يَحْصُلُ عِنْدَهُ كَمَا قَدَّرَهُ فِي حَدِيثِ الْمُسْتَيْقِظِ لَا لِتَحَقُّقِ الْمَانِعِ فِي الْمُسْتَيْقِظِ، لَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ الِاسْتِجْمَارُ خَاصًّا فِي الِاسْتِنْجَاءِ لَكِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْتِعْمَالِ الْجَمْرِ فِي الْبَخُورِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ تَجَمَّرَ الْأَكْفَانُ فِي الْجَنَائِزِ وَاسْتَجْمَرَ فُلَانٌ: أَيْ تَبَخَّرَ وَاسْتَجْمَرَ ابْنُ صَبِيحٍ الْكَاتِبُ عِنْدَ الْمَأْمُونِ فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ يَشُمُّ الْبَخُورَ فَأَمَرَ مَنْ يَحْبِسُهُ فَاغْتَمَّ وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ فِي مُثُلٍ كَثِيرَةٍ يَطُولُ نَقْلُهَا، فَيَكُونُ لَفْظُ الْحَدِيثِ لِبَيَانِ سُنِّيَّةِ الْإِيتَارِ فِي الْبَخُورِ وَالتَّطَيُّبِ وَإِنْ اُسْتُدِلَّ بِأَنَّ الْحَجَرَ لَا يُزِيلُ، وَلِذَا يُنَجَّسُ الْمَاءُ الْقَلِيلُ إذَا دَخَلَهُ الْمُسْتَنْجَى بِهِ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَهُ وَيَقُولَ جَازَ اعْتِبَارُ الشَّرْعِ طَهَارَتَهُ بِالْمَسْحِ كَالنَّعْلِ، وَقَدْ أَجْرَوْا الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْأَرْضِ تُصِيبُهَا النَّجَاسَةُ فَتَجِفُّ ثُمَّ تَبْتَلُّ وَالثَّوْبُ يُفْرَكُ مِنْ الْمَنِيِّ ثُمَّ يَبْتَلُّ فِي عِدَّةِ نَظَائِرَ قَدَّمْنَاهَا، وَقِيَاسُهُ أَنْ يَجْرِيَا أَيْضًا فِي السَّبِيلِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ إجْمَاعٌ فِي التَّنَجُّسِ بِدُخُولِ الْمُسْتَنْجَى بِهِ، ثُمَّ الْمُخْتَارُ عِنْدَ كَثِيرٍ فِي تِلْكَ النَّظَائِرِ أَنْ لَا يَعُودَ نَجِسًا، وَقِيَاسُ قَوْلِهِمْ أَنْ لَا يَعُودَ السَّبِيلُ نَجِسًا وَيَلْزَمُهُ أَنْ لَا يُنَجِّسَ الْمَاءَ.
وَقَدْ صَرَّحَ بِاخْتِلَافٍ فِي تَنَجُّسِ السَّبِيلِ بِإِصَابَةِ الْمَاءِ، فَعَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ صَرِيحًا، هَذَا وَأَجْمَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ بِالْعَرَقِ حَتَّى لَوْ سَالَ الْعَرَقُ مِنْهُ وَأَصَابَ الثَّوْبَ وَالْبَدَنَ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يَمْنَعُ، وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الشَّارِعِ طَهَارَتَهُ بِالْحَجَرِ وَنَحْوِهِ مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ أَوْ عَظْمٍ، وَقَالَ: إنَّهُمَا لَا يُطَهِّرَانِ» وَقَالَ إسْنَادُهُ صَحِيحٌ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا أُطْلِقَ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ يُطَهِّرُ إذْ لَوْ لَمْ يُطَهِّرْ لَمْ يُطْلَقْ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْعِلَّةِ.
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إلَخْ) لَا يُطَابِقُ الْمَدْلُولَ وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ أَفْضَلُ مَا ذَكَرَ، بَلْ مُقْتَضَاهُ أَنَّ الْجَمْعَ أَفْضَلُ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَفْضَلِيَّةَ الْمَاءِ مُنْفَرِدًا، ثُمَّ هُوَ حَدِيثٌ رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَقَالَ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ إلَّا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى عَنْهُ إلَّا ابْنُهُ اهـ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَأَلْت أَبِي عَنْهُ فَقَالَ: هُمْ ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعِمْرَانُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُمْ ضُعَفَاءُ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ لَهُمْ حَدِيثٌ مُسْتَقِيمٌ، وَاَلَّذِي يُطَابِقُ الْمَدْلُولَ حَدِيثُ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو أَيُّوبَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ لَمَّا نَزَلَتْ {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} قَالَ «صلى الله عليه وسلم: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ فِي الطُّهُورِ، فَمَا طُهُورُكُمْ؟ قَالُوا: نَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ وَنَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ وَنَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ، قَالَ: هُوَ ذَاكُمْ فَعَلَيْكُمُوهُ»
أَدَبٌ.
وَقِيلَ هُوَ سُنَّةٌ فِي زَمَانِنَا، وَيَسْتَعْمِلُ الْمَاءَ إلَى أَنْ يَقَعَ فِي غَالِبِ ظَنِّهِ أَنَّهُ قَدْ طَهُرَ، وَلَا يُقَدَّرُ بِالْمَرَّاتِ إلَّا إذَا كَانَ مُوَسْوِسًا فَيُقَدَّرُ بِالثَّلَاثِ فِي حَقِّهِ، وَقِيلَ بِالسَّبْعِ (وَلَوْ جَاوَزَتْ النَّجَاسَةُ مَخْرَجَهَا لَمْ يَجُزْ فِيهِ إلَّا الْمَاءُ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: إلَّا الْمَائِعُ، وَهَذَا يُحَقِّقُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي تَطْهِيرِ الْعُضْوِ لِغَيْرِ الْمَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَسْحَ غَيْرُ مُزِيلٍ إلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى بِهِ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ فَلَا يَتَعَدَّاهُ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ الْمِقْدَارُ الْمَائِعُ وَرَاءَ مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله مَعَ مَوْضِعِ
وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَإِنْ كَانَ عُتْبَةُ بْنُ حَكِيمٍ فِيهِ مَقَالٌ ضَعَّفَهُ النَّسَائِيّ، وَعَنْ ابْنِ مَعِينٍ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ صَالِحُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ الْحَدِيثَ وَصَحَّحَهُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْجَمْعَ أَفْضَلُ ثُمَّ الْمَاءَ ثُمَّ غَيْرَهُ.
(قَوْلُهُ وَقِيلَ هُوَ) أَيْ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ سُنَّةٌ فِي زَمَانِنَا، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، فَقِيلَ لَهُ إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَتْرُكُونَهُ، فَقَالَ: إنَّهُمْ كَانُوا يَبْعَرُونَ بَعْرًا وَأَنْتُمْ تَثْلِطُونَ ثَلْطًا.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَبْعَرُونَ بَعْرًا وَأَنْتُمْ تَثْلِطُونَ ثَلْطًا فَأَتْبِعُوا الْحِجَارَةَ الْمَاءَ، هَذَا وَالنَّظَرُ إلَى مَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْفَصْلِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما يُفِيدُ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ لِإِفَادَتِهِ الْمُوَاظَبَةَ، وَإِنَّمَا يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ إذَا وَجَدَ مَكَانًا يَسْتُرُ فِيهِ نَفْسَهُ وَلَوْ كَانَ عَلَى شَطِّ نَهْرٍ لَيْسَ فِيهِ سُتْرَةٌ لَوْ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ قَالُوا يَفْسُقُ، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُهُ عَوَامُّ الْمُصَلِّينَ فِي الْمِيضَأَةِ فَضْلًا عَنْ شَاطِئِ النِّيلِ (قَوْلُهُ مُوَسْوِسًا) بِكَسْرِ الْوَاوِ لِأَنَّهَا حَدِيثُ النَّفْسِ فَهُوَ نَفْسُهُ يَتَحَدَّثُ وَإِذَا فُتِحَ وَجَبَ وَصْلُهُ فَيُقَالُ مُوَسْوَسًا إلَيْهِ أَيْ تُلْقَى إلَيْهِ الْوَسْوَسَةُ وَفِيمَا نُقِلَ أَيْضًا تَقْدِيرُهُ بِعَشْرِ مَرَّاتٍ أَيْ صَبَّاتٍ لِلْمَاءِ وَفِي الْخُلَاصَةِ مِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ الثَّلَاثَ وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ السَّبْعَ وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ الْعَشَرَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ وَقَّتَ فِي الْإِحْلِيلِ ثَلَاثًا وَفِي الْمَقْعَدَةِ خَمْسًا.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِهِ فَيَغْسِلُ حَتَّى يَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ طَهُرَ اهـ وَكَانَ الْمُرَادُ بِالِاشْتِرَاطِ الِاشْتِرَاطَ فِي حُصُولِ السُّنَّةِ وَإِلَّا فَتَرْكُ الْكُلِّ لَا يَضُرُّهُ عِنْدَهُمْ (قَوْلُهُ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ) تَقَدَّمَ أَنَّ كَوْنَ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَيْسَ مَانِعًا مَأْخُوذٌ مِنْ سُقُوطِ غَسْلِ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ وَمَعْنَى هَذَا لَيْسَ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ شَرْعًا بِدَلِيلِهِ فَعَرَّفَنَا ذَلِكَ الدَّلِيلُ أَنَّ قَدْرَهُ وَهُوَ
الِاسْتِنْجَاءِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْمَوَاضِعِ
(وَلَا يُسْتَنْجَى بِعَظْمٍ وَلَا بِرَوْثٍ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَلَوْ فَعَلَ يُجْزِيهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَمَعْنَى النَّهْيِ فِي الرَّوْثِ لِلنَّجَاسَةِ، وَفِي الْعَظْمِ كَوْنُهُ زَادَ الْجِنِّ.
(وَلَا) يُسْتَنْجَى (بِطَعَامٍ) لِأَنَّهُ إضَاعَةٌ وَإِسْرَافٌ.
(وَلَا بِيَمِينِهِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ.
الدِّرْهَمُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ شَرْعًا وَإِذَا كَانَ هُوَ الْمُعَرَّفَ فَسُقُوطُهُ أَيْضًا هُوَ لِأَنَّهُ قَدْرُهُ فَيَلْزَمُ الْغَسْلُ إذَا زَادَ بِالْأَصْلِ غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَحَلٍّ عَرَفْنَا ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ دِرْهَمٌ آخَرُ مَعَهُ وَإِلَّا لَقِيلَ فِي غَيْرِهِ أَيْضًا مِقْدَارُ الدِّرْهَمِ سَاقِطٌ فَيُعْتَبَرُ الْقَدْرُ الْمَانِعُ وَرَاءَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ وَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ الزَّائِدُ لَا يُجْزِئُ فِيهِ الْحَجَرُ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ وَإِنْ خَرَجَ الْقَيْحُ أَوْ الدَّمُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَا يَكْفِيه الْحَجَرُ هَذَا إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ الَّتِي عَلَى مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ قَدْرَ الدِّرْهَمِ أَوْ أَقَلَّ فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَكْفِيه الْحَجَرُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَكْفِيه وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ.
(قَوْلُهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ) فَيُكْرَهُ وَيَصِحُّ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «أَبْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا وَلَا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلَا بِرَوْثَةٍ. قُلْتُ مَا بَالُ الْعِظَامِ وَالرَّوْثَةِ قَالَ هُمَا مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ «لَا تَسْتَنْجُوا بِالرَّوْثِ وَلَا بِالْعِظَامِ فَإِنَّهُ زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ» وَعَلَى هَذَا الْقَائِلِ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى طَهَارَةِ الْأَرْوَاثِ كَقَوْلِ مَالِكٍ بِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَمْ يَحِلَّ طَعَامًا لِلْجِنِّ إذْ الشَّرِيعَةُ الْعَامَّةُ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي حَقِّ النَّوْعَيْنِ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ إلَّا بِدَلِيلٍ وَالْجَوَابُ قَدْ وُجِدَ الدَّلِيلُ وَهُوَ قَوْلُهُ فِيهَا رِكْسٌ أَوْ رِجْسٌ وَلَا يُجْزِيهِ الِاسْتِنْجَاءُ بِحَجَرٍ اسْتَنْجَى بِهِ مَرَّةً إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ حَرْفٌ آخَرُ لَمْ يَسْتَنْجِ بِهِ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ إسْرَافٌ وَإِهَانَةٌ) وَإِذَا كَرِهُوا وَضْعَ الْمَمْلَحَةِ عَلَى الْخُبْزِ لِلْإِهَانَةِ فَهَذَا أَوْلَى فَلَوْ فَعَلَ فَأَنْقَى أَثِمَ وَطَهُرَ الْمَحَلُّ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي جَوَازِ الْمَائِعِ فِي الْبَدَنِ وَكَذَا بِالْعَظْمِ.
(قَوْلُهُ نَهَى عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ) عَنْ أَبِي قَتَادَةُ قَالَ إذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَأْخُذَنَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَلَا يَسْتَنْجِي بِيَمِينِهِ وَلَا يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
كِتَابُ الصَّلَاةِ
بَابُ الْمَوَاقِيتِ
(أَوَّلُ وَقْتِ الْفَجْرِ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ الثَّانِي وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ، وَآخِرُ وَقْتِهَا مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ) لِحَدِيثِ «إمَامَةِ جِبْرِيلَ عليه السلام، فَإِنَّهُ أَمَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ،
كِتَابُ الصَّلَاةِ
(قَوْلُهُ لِحَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَمَّنِي جِبْرِيلُ عليه السلام عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، فَصَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْلَ الشِّرَاكِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مِثْلَ ظِلِّهِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ وَجَبَتْ الشَّمْسُ وَأَفْطَرَ الصَّائِمُ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ
وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ أَسْفَرَ جِدًّا وَكَادَتْ الشَّمْسُ تَطْلُعُ»، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَقْتٌ لَك
غَابَ الشَّفَقُ: ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ بَزَقَ الْفَجْرُ وَحَرُمَ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ. وَصَلَّى الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ لِوَقْتِهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَتْ الْأَرْضُ، ثُمَّ الْتَفَتَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ اهـ. لَكِنْ فِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَلَيَّنَهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا بِإِسْنَادِهِ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ الْعُمَرِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَكَأَنَّهُ أَكَّدَ تِلْكَ الرِّوَايَةَ بِمُتَابَعَةِ ابْنِ أَبِي بُسْرَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُتَابَعَةِ الْعُمَرِيِّ عَنْ ابْنِ نَافِعٍ إلَخْ وَهِيَ مُتَابَعَةٌ حَسَنَةٌ، كَذَا فِي الْإِمَامِ. وَبَزَقَ بِالزَّايِ: أَيْ بَزَغَ وَهُوَ أَوَّلُ طُلُوعِهِ. وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ الْإِمَامَةِ مِنْ حَدِيثِ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ: مِنْهَا حَدِيثُ جَابِرٍ بِمَعْنَاهُ وَفِيهِ: «ثُمَّ جَاءَهُ لِلصُّبْحِ حِينَ أَسْفَرَ جِدًّا: يَعْنِي فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَقَالَ قُمْ يَا مُحَمَّدُ فَصَلِّ، فَقَامَ فَصَلَّى الصُّبْحَ ثُمَّ قَالَ: مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ كُلُّهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي الْبُخَارِيَّ: حَدِيثُ جَابِرٍ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي الْمَوَاقِيتِ. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ كُلُّهُمْ فِي الصَّوْمِ، وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ
وَلِأُمَّتِك.
وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْفَجْرِ الْكَاذِبِ وَهُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي يَبْدُو طُولًا ثُمَّ يَعْقُبُهُ الظَّلَامُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ، وَإِنَّمَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ فِي الْأُفُقِ» أَيْ الْمُنْتَشِرُ فِيهِ.
(وَأَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ) لِإِمَامَةِ جِبْرِيلَ عليه السلام فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ (وَآخِرُ وَقْتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ وَقَالَا: إذَا صَارَ الظِّلُّ مِثْلَهُ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَفَيْءُ الزَّوَالِ هُوَ الْفَيْءُ الَّذِي يَكُونُ لِلْأَشْيَاءِ وَقْتَ الزَّوَالِ.
لَهُمَا إمَامَةُ جِبْرِيلَ عليه السلام فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ
وَلَكِنْ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ فِي الْأُفُقِ».
(قَوْلُهُ وَأَوَّلُ وَقْتُ الظُّهْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ) مَعْرِفَةُ الزَّوَالِ أَنْ تَنْصِبَ عَصًا مَثَلًا بَيْنَ أَوْقَاتِ الضُّحَى، فَمَا دَامَ الظِّلُّ يَنْقُصُ فَهِيَ فِي الِارْتِفَاعِ، فَإِذَا أَخَذَ يَزِيدُ فَأَوَّلُ أَخْذِهِ الزَّوَالُ فَلْيُحْفَظْ مِقْدَارُ الظِّلِّ إذْ ذَاكَ، فَإِذَا بَلَغَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ طُولَهُ أَوْ طُولَيْهِ عَلَى الْخِلَافِ مَعَ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَدَخَلَ وَقْتُ
فِي هَذَا الْوَقْتِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» وَأَشَدُّ الْحَرِّ فِي دِيَارِهِمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْآثَارُ لَا يَنْقَضِي الْوَقْتُ بِالشَّكِّ.
(وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ إذَا خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَآخِرُ وَقْتِهَا مَا لَمْ تَغْرُبْ الشَّمْسُ)
الْعَصْرِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ رِوَايَةِ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو إذَا بَلَغَ طُولَهُ مَعَ فَيْءِ الزَّوَالِ خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ، وَلَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ إلَى الطُّولَيْنِ.
وَقَالَ الْمَشَايِخُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُصَلَّى الْعَصْرُ حَتَّى يَبْلُغَ طُولَيْ الشَّيْءِ وَلَا يُؤَخَّرُ الظُّهْرُ إلَى أَنْ يَصِيرَ طُولَهُ لِيُخْرَجَ مِنْ الْخِلَافِ فِيهِمَا (قَوْلُهُ وَلَهُ قَوْلُهُ إلَخْ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم، «إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» رَوَاهُ السِّتَّةُ. وَانْفَرَدَ الْبُخَارِيُّ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ» إلَخْ (قَوْلُهُ وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْآثَارُ) يَعْنِي حَدِيثُ الْإِمَامَةِ وَهَذَا الْحَدِيثُ وَثُبُوتُ التَّعَارُضِ مُتَعَلِّقٌ بِصِدْقِ الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ أَشَدُّ الْحَرِّ فِي دِيَارِهِمْ إذَا كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ فَلَا يَنْقَضِي الْوَقْتُ بِالشَّكِّ، بَلْ الظَّاهِرُ اعْتِبَارُ كُلِّ حَدِيثٍ رُوِيَ مُخَالِفًا لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ نَاسِخًا لِمَا خَالَفَهُ فِيهِ لِتَحَقُّقِ تَقَدُّمِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ عَلَى كُلِّ حَدِيثٍ رُوِيَ فِي الْأَوْقَاتِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا عَمِلَهُ إيَّاهَا، بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْبَحْثُ إنَّمَا يُفِيدُ عَدَمَ خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ وَدُخُولَ وَقْتِ الْعَصْرِ بِصَيْرُورَةِ الظِّلِّ مَثَلًا غَيْرَ فَيْءِ الزَّوَالِ، وَنَفْيُ خُرُوجِ الظُّهْرِ بِصَيْرُورَتِهِ مَثَلًا لَا يَقْتَضِي أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعَصْرِ إذَا صَارَ مِثْلَيْنِ حَتَّى إنَّ مَا قَبْلَهُ وَقْتُ الظُّهْرِ وَهُوَ الْمُدَّعَى فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ.
وَغَايَةُ مَا ظَهَرَ أَنْ يُقَالَ: ثَبَتَ بَقَاءُ وَقْتِ الظُّهْرِ عِنْدَ صَيْرُورَتِهِ مَثَلًا نَسْخًا لِإِمَامَةِ جِبْرِيلَ فِيهِ فِي الْعَصْرِ بِحَدِيثِ الْإِبْرَادِ وَإِمَامَتُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عِنْدَ
لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا» .
(وَأَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ)(إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ)(وَآخِرُ وَقْتِهَا)(مَا لَمْ يَغِبْ الشَّفَقُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: مِقْدَارُ مَا يُصَلَّى فِيهِ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام أَمَّ فِي الْيَوْمَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ وَآخِرُ وَقْتِهَا حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ» وَمَا رَوَاهُ كَانَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْكَرَاهَةِ
صَيْرُورَتِهِ مِثْلَيْنِ يُفِيدُ أَنَّهُ وَقَّتَهُ وَلَمْ يُنْسَخْ هَذَا، فَيَسْتَمِرُّ مَا عَلِمَ ثُبُوتَهُ مِنْ بَقَاءِ وَقْتِ الظُّهْرِ إلَى أَنْ يَدْخُلَ هَذَا الْوَقْتُ الْمَعْلُومُ كَوْنَهُ وَقْتًا لِلْعَصْرِ.
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ، وَالْحَمْلُ عَلَى أَنَّ قَوْلَ جِبْرِيلَ عليه السلام «الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ» يُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ غَيْرُ الْمَكْرُوهِ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى النَّسْخِ وَكَذَا فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَلِذَا قُلْنَا إنَّ تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ مُطْلَقًا مَكْرُوهٌ وَتَأْخِيرَ الْعِشَاءِ إلَى مَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ مَكْرُوهٌ، وَلِظُهُورِ عَدَمِ صَلَاةِ جِبْرِيلَ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ بِخِلَافِهِ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ حَيْثُ لَا يَتَأَتَّى هَذَا فَتَعَيَّنَ النَّسْخُ فِيهِ.
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام) رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ وَآخِرَ وَقْتِهَا حِينَ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَأَوَّلَ وَقْتِ صَلَاةِ الْعَصْرِ حِينَ يَدْخُلُ وَقْتُهَا وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ تَصْفَرُّ الشَّمْسُ، وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ يَغِيبُ الْأُفُقُ، وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعِشَاءِ حِينَ يَغِيبُ الْأُفُقُ وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ يَنْتَصِفُ اللَّيْلُ، وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْفَجْرِ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ» وَخَطَّأَ الْبُخَارِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ مُحَمَّدَ بْنَ فُضَيْلٍ فِي رَفْعِهِ فَإِنَّ غَيْرَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْمَشِ يَرْوُونَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ،
(ثُمَّ) الشَّفَقُ هُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي فِي الْأُفُقِ بَعْدَ الْحُمْرَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا:(هُوَ الْحُمْرَةُ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «وَآخِرُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ إذَا اسْوَدَّ الْأُفُقُ» وَمَا رَوَاهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما ذَكَرَهُ مَالِكٌ رحمه الله فِي الْمُوَطَّأِ، وَفِيهِ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ.
(وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ إذَا غَابَ الشَّفَقُ، وَآخِرُ وَقْتِهَا مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ الثَّانِي) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَآخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ» .
وَدَفَعَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَابْنُ الْقَطَّانِ بِتَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ الْأَعْمَشُ سَمِعَهُ مِنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا وَسَمِعَهُ مِنْ أَبِي صَالِحٍ مُسْنَدًا، فَيَكُونُ عِنْدَهُ طَرِيقَانِ مُسْنَدٌ وَمُرْسَلٌ، وَاَلَّذِي رَفَعَهُ: يَعْنِي ابْنَ فُضَيْلٍ صَدُوقٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ «أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: أَقِمْ مَعَنَا، ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا، فَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ إلَى قُبَيْلِ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ: يَعْنِي فِي الْيَوْمِ الثَّانِي» وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ «أَنَّ سَائِلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، فَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى كَانَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ» يَعْنِي فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «وَقْتُ صَلَاةِ الظُّهْرِ» . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: «وَوَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبْ الشَّفَقُ» (قَوْلُهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إلَخْ) رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ، فَإِذَا غَابَ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَالنَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ اخْتَارَ الْفَتْوَى عَلَى رِوَايَةِ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله كَقَوْلِهِمَا وَلَا تُسَاعِدُهُ رِوَايَةٌ وَلَا دِرَايَةٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ خِلَافُ الرِّوَايَةِ الظَّاهِرَةِ عَنْهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِمَا قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ ابْنِ فُضَيْلٍ وَأَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ يَغِيبُ الْأُفُقُ،
وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي تَقْدِيرِهِ بِذَهَابِ ثُلُثِ اللَّيْلِ.
وَغَيْبُوبَتُهُ بِسُقُوطِ الْبَيَاضِ الَّذِي يَعْقُبُ الْحُمْرَةَ وَإِلَّا كَانَ بَادِيًا، وَيَجِيءُ مَا تَقَدَّمَ: أَعْنِي إذَا تَعَارَضَتْ الْأَخْبَارُ لَمْ يَنْقَضِ الْوَقْتُ بِالشَّكِّ.
وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم فِي رِوَايَةٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْمُزَنِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْخَطَّابِيُّ، وَاخْتَارَهُ الْمُبَرِّدُ وَثَعْلَبٌ، وَلَا يُنْكَرُ أَنَّهُ يُقَالُ عَلَى الْحُمْرَةِ يَقُولُونَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ كَأَنَّهُ الشَّفَقُ كَمَا يُقَالُ عَلَى الْبَيَاضِ الرَّقِيقُ، وَمِنْهُ شَفَقَةُ الْقَلْبِ لِرِقَّتِهِ، غَيْرَ أَنَّ النَّظَرَ عِنْدَ التَّرْجِيحِ أَفَادَ تَرْجِيحَ أَنَّهُ الْبَيَاضُ هُنَا، وَأَقْرَبُ الْأَمْرِ أَنَّهُ إذَا تَرَدَّدَ فِي أَنَّهُ الْحُمْرَةُ أَوْ الْبَيَاضُ لَا يَنْقَضِي بِالشَّكِّ، وَلِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي إبْقَاءِ الْوَقْتِ إلَى الْبَيَاضِ لِأَنَّهُ لَا وَقْتَ مُهْمَلٌ بَيْنَهُمَا فَبِخُرُوجِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعِشَاءِ اتِّفَاقًا، وَلَا صِحَّةَ لِصَلَاةٍ قَبْلَ الْوَقْتِ، فَالِاحْتِيَاطُ فِي التَّأْخِيرِ،
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي آخِرِ وَقْتِ الْعِشَاءِ أَنَّهُ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ فَقِيلَ لَمْ يُوجَدْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحَادِيثِ الْمَوَاقِيتِ ذَلِكَ، وَمُلَخَّصُ كَلَامِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الْعِشَاءِ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا مُوسَى وَالْخُدْرِيَّ رضي الله عنهم رَوَوْا «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخَّرَهَا إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ» ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسٌ أَنَّهُ أَخَّرَهَا حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ، وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ أَخَّرَهَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ.
وَرَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها «أَنَّهُ أَعْتَمَ بِهَا حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ» ، وَكُلُّهَا فِي الصَّحِيحِ.
قَالَ فَثَبَتَ أَنَّ اللَّيْلَ كُلَّهُ وَقْتٌ لَهَا، وَلَكِنَّهُ عَلَى أَوْقَاتٍ ثَلَاثَةٍ، إلَى الثُّلُثِ أَفْضَلُ، وَإِلَى النِّصْفِ دُونَهُ، وَمَا بَعْدَهُ دُونَهُ، ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ إلَى نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ رضي الله عنه إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: وَصَلِّ الْعِشَاءَ أَيَّ اللَّيْلِ شِئْت وَلَا تَغْفُلْهَا.
وَلِمُسْلِمٍ فِي قِصَّةِ التَّعْرِيسِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إنَّمَا التَّفْرِيطُ أَنْ تُؤَخِّرَ صَلَاةً حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى» ، فَدَلَّ عَلَى بَقَاءِ وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ إلَى أَنْ يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى، وَدُخُولُ الصُّبْحِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْوَتْرِ فَهُوَ مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ «خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إنَّ اللَّهَ أَمَدَّكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ وَهِيَ الْوَتْرُ،
(وَأَوَّلُ وَقْتِ الْوَتْرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَآخِرُهُ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي الْوَتْرِ «فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» قَالَ رضي الله عنه: هَذَا عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَقْتُهُ وَقْتُ الْعِشَاءِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّذَكُّرِ لِلتَّرْتِيبِ.
فَجَعَلَهَا لَكُمْ فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» وَسَيَأْتِي تَمَامُ مَا تَيَسَّرَ فِيهِ فِي بَابِ الْوَتْرِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ.
وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهُوَ دَلِيلُهُمَا عَلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ.
(قَوْلُهُ وَلَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّذَكُّرِ لِلتَّرْتِيبِ) فَلَوْ قَدَّمَ نَاسِيًا لَا يُعِيدُ، وَكَذَا لَوْ صَلَّى الْعِشَاءَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ ثُمَّ نَامَ فَقَامَ تَوَضَّأَ فَصَلَّى الْوَتْرَ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ صَلَّى الْعِشَاءَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ يُعِيدُهَا دُونَ الْوِتْرِ فِيهِمَا وَعِنْدَهُمَا يُعِيدُهُمَا.
وَمَنْ لَا يُوجَدُ عِنْدَهُمْ وَقْتُ الْعِشَاءِ كَمَا قِيلَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ عِنْدَهُمْ، أَفْتَى الْبَقَّالِيُّ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ السَّبَبِ، وَهُوَ مُخْتَارُ صَاحِبِ الْكَنْزِ كَمَا يَسْقُطُ غَسْلُ الْيَدَيْنِ مِنْ الْوُضُوءِ عَنْ مَقْطُوعِهِمَا مِنْ الْمَرْفِقَيْنِ، وَأَنْكَرَهُ الْحَلْوَانِيُّ ثُمَّ وَافَقَهُ، وَأَفْتَى الْإِمَامُ الْبُرْهَانِيُّ الْكَبِيرُ بِوُجُوبِهَا، وَلَا يَرْتَابُ مُتَأَمِّلٌ فِي ثُبُوتِ الْفَرْقِ بَيْنَ عَدَمِ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَبَيْنَ سَبَبِهِ الْجَعْلِيِّ الَّذِي جُعِلَ عَلَامَةً عَلَى الْوُجُوبِ الْخَفِيِّ الثَّابِتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَجَوَازِ تَعَدُّدِ الْمُعَرِّفَاتِ لِلشَّيْءِ، فَانْتِفَاءُ الْوَقْتِ انْتِفَاءُ الْمُعَرِّفِ، وَانْتِفَاءُ الدَّلِيلِ عَلَى شَيْءٍ لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءً لِجَوَازِ دَلِيلٍ آخَرَ وَقَدْ وُجِدَ، وَهُوَ مَا تَوَاطَأَتْ أَخْبَارُ الْإِسْرَاءِ مِنْ فَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى الصَّلَاةَ خَمْسًا بَعْدَ مَا أُمِرُوا أَوَّلًا بِخَمْسِينَ ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى الْخَمْسِ شَرْعًا عَامًّا لِأَهْلِ الْآفَاقِ، لَا تَفْصِيلَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ قُطْرٍ وَقُطْرٍ وَمَا رُوِيَ «ذَكَرَ الدَّجَّالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قُلْنَا مَا لَبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ يَوْمًا يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أَيَكْفِينَا صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: لَا اُقْدُرُوا لَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فَقَدْ أَوْجَبَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَثِمِائَةِ عَصْرٍ قَبْلَ صَيْرُورَةِ الظِّلِّ مَثَلًا أَوْ مِثْلَيْنِ، وَقِسْ عَلَيْهِ، فَاسْتَفَدْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ خَمْسٌ عَلَى الْعُمُومِ، غَيْرَ أَنَّ تَوْزِيعَهَا عَلَى تِلْكَ الْأَوْقَاتِ عِنْدَ وُجُودِهَا، وَلَا يَسْقُطُ بِعَدَمِهَا الْوُجُوبُ، وَكَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ» ثُمَّ هَلْ يَنْوِي الْقَضَاءَ؟ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْوِي الْقَضَاءَ لِفَقْدِ وَقْتِ الْأَدَاءِ وَمَنْ أَفْتَى بِوُجُوبِ الْعِشَاءِ يَجِبُ عَلَى قَوْلِهِ الْوِتْرُ أَيْضًا.
(فَصْلٌ)(وَيُسْتَحَبُّ الْإِسْفَارُ بِالْفَجْرِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُسْتَحَبُّ التَّعْجِيلُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ
فَصْلٌ فِي اسْتِحْبَابِ التَّعْجِيلِ) (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُسْتَحَبُّ التَّعْجِيلُ بِكُلِّ صَلَاةٍ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ، وَالْعَفْوُ يَسْتَدْعِي تَقْصِيرًا» وَقَالَ فِي جَوَابِ «أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا» (قَوْلُهُ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ) فِي تَعْمِيمِهِ وَأَنَّ الْوَاقِعَ التَّفْصِيلُ (مَا رَوَيْنَاهُ) مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي الْفَجْرِ «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَتَأْوِيلُهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ تَبَيُّنُ الْفَجْرِ حَتَّى لَا يَكُونَ شَكٌّ فِي طُلُوعِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، إذْ مَا لَمْ يُتَبَيَّنْ لَا يُحْكَمُ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ فَضْلًا عَنْ إصَابَةِ الْأَجْرِ الْمُفَادِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ، وَلَوْ صُرِفَ عَنْ ظَاهِرِهِ إلَى عَظِيمٍ كَانَ الْمُنَاسِبُ فِي التَّعْلِيلِ بِتَقْدِيرِ ذَلِكَ التَّأْوِيلِ أَنْ يُقَالَ فَإِنَّهُ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَظْهَرُ فِي إفَادَةِ قَصْدِ عَدَمِ إيقَاعِهَا مَعَ شَكِّ الطُّلُوعِ، فَكَيْفَ وَصَرْفُهُ عَنْهُ بِلَا دَلِيلٍ لَا يَجُوزُ، بَلْ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ مَا يَنْفِيه وَهُوَ رِوَايَةُ الطَّحَاوِيِّ «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَكُلَّمَا أَسْفَرْتُمْ فَهُوَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ أَوْ قَالَ لِأُجُورِكُمْ» وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خُزَيْمَةَ حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: مَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَيْءٍ مَا اجْتَمَعُوا عَلَى التَّنْوِيرِ. وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَلَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى خِلَافِ مَا فَارَقَهُمْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ لِعِلْمِهِمْ بِنَسْخِ
وَمَا نَرْوِيهِ قَالَ.
(وَالْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ فِي الصَّيْفِ وَتَقْدِيمُهُ فِي الشِّتَاءِ) لِمَا رَوَيْنَا وَلِرِوَايَةِ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا كَانَ فِي الشِّتَاءِ بَكَّرَ بِالظُّهْرِ، وَإِذَا كَانَ فِي الصَّيْفِ أَبْرَدَ بِهَا» (وَتَأْخِيرُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَتَغَيَّرْ الشَّمْسُ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ النَّوَافِلِ لِكَرَاهَتِهَا بَعْدَهُ،
التَّغْلِيسِ الْمَرْوِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها «كَانَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الصُّبْحَ بِغَلَسٍ فَتَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مُتَلَفِّعَاتٌ بِمُرُوطِهِنَّ ثُمَّ يَرْجِعْنَ إلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْغَلَسِ» وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي الصَّحِيحَيْنِ ظَاهِرٌ فِيمَ ذَهَبْنَا إلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةً إلَّا لِمِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاتَيْنِ: صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ» وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا الَّذِي اعْتَادَ الْأَدَاءَ فِيهِ لِأَنَّهُ غَلَسٌ يَوْمَئِذٍ لِيَمْتَدَّ وَقْتُ الْوُقُوفِ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «قَبْلَ مِيقَاتِهَا بِغَلَسٍ» فَأَفَادَ أَنَّ الْمُعْتَادَ كَانَ غَيْرَ التَّغْلِيسِ، إلَّا أَنَّهُ يَبْعُدُ النَّسْخُ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي سَابِقَةَ وُجُودِ الْمَنْسُوخِ.
وَقَوْلُهُ مَا رَأَيْت يُفِيدُ أَنْ لَا سَابِقَةَ لَهُ فَالْأَوْلَى حَمْلُ التَّغْلِيسِ عَلَى غَلَسٍ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ حُجْرَتَهَا رضي الله عنها كَانَتْ فِيهِ وَكَانَ سَقْفُهُ عَرِيشًا مُقَارِبًا وَنَحْنُ نُشَاهِدُ الْآنَ أَنَّهُ يُظَنُّ قِيَامُ الْغَلَسِ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ وَأَنَّ صَحْنَهُ قَدْ انْتَشَرَ فِيهِ ضَوْءُ الْفَجْرِ وَهُوَ الْإِسْفَارُ، وَإِنَّمَا وَجَبَ هَذَا الِاعْتِبَارُ لِمَا وَجَبَ مِنْ تَرْجِيحِ رِوَايَةِ الرِّجَالِ خُصُوصًا مِثْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَإِنَّ الْحَالَ أَكْشَفُ لَهُمْ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.
ثُمَّ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَاَلَّذِي يَنْبَغِي الدُّخُولُ فِي الْفَجْرِ فِي وَقْتِ التَّغْلِيسِ وَالْخُرُوجُ مِنْهَا فِي وَقْتِ الْإِسْفَارِ قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، لَكِنَّ الَّذِي ذَكَرَ الْأَصْحَابُ عَنْ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْإِسْفَارِ وَيَخْتِمَ بِهِ وَهُوَ الَّذِي يُفِيدُ اللَّفْظُ، فَإِنَّ الْإِسْفَارَ بِالْفَجْرِ إيقَاعُهَا فِيهِ، وَهِيَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِهَا فَيَلْزَمُ إدْخَالُ مَجْمُوعِهَا فِيهِ، قَالُوا: وَحَدُّهُ أَنْ يَبْدَأَ فِي وَقْتٍ يَبْقَى مِنْهُ بَعْدَ أَدَائِهَا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ مَا لَوْ ظَهَرَ لَهُ فَسَادُ صَلَاتِهِ أَعَادَهَا بِقِرَاءَةٍ مَسْنُونَةٍ مُرَتَّلَةٍ مَا بَيْنَ الْخَمْسِينَ وَالسِّتِّينَ آيَةً قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَا يَظُنُّ أَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّغْلِيسَ إلَّا مَنْ لَمْ يَضْبِطْ ذَلِكَ الْوَقْتَ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ أَذَانِ الْفَجْرِ وَالصَّلَاةِ قَالَ: يُؤَذِّنُ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَمْكُثُ قَدْرَ قِرَاءَةِ عِشْرِينَ آيَةً ثُمَّ يَثُوبُ ثُمَّ يَمْكُثُ قَدْرَ عِشْرِينَ آيَةً ثُمَّ يُقِيمُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَشْرَعَ وَأَطْرَافُ الْغَلَسِ قَائِمَةٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِيهِ إسْفَارًا مَا، وَعَنْ الطَّحَاوِيِّ مَنْ كَانَ مِنْ عَزْمِهِ التَّطْوِيلُ بَدَأَ بِغَلَسٍ وَمَنْ لَا أَسْفَرَ، وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي سُنِّيَّةِ التَّغْلِيسِ بِفَجْرِ مُزْدَلِفَةٍ.
(قَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا) أَيْ «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ» (وَلِرِوَايَةِ أَنَسٍ إلَخْ) فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ «خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ صَلَّى بِنَا أَمِيرُنَا الْجُمُعَةَ ثُمَّ قَالَ لِأَنَسٍ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الظُّهْرَ؟ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلَاةِ وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ» . وَالْمُرَادُ الظُّهْرُ لِأَنَّهُ جَوَابُ السُّؤَالِ عَنْهَا (قَوْلُهُ وَتَأْخِيرُ الْعَصْرِ) حَاصِلُهُ أَنَّ تَأْخِيرَهَا إلَى تَغَيُّرِ الْقُرْصِ مَكْرُوهٌ، وَيُسْتَحَبُّ مَا لَمْ يَصِلْ إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ
وَالْمُعْتَبَرُ تَغَيُّرُ الْقُرْصِ وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ بِحَالٍ لَا تَحَارُ فِيهِ الْأَعْيُنُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَالتَّأْخِيرُ إلَيْهِ مَكْرُوهٌ.
(وَ) يُسْتَحَبُّ (تَعْجِيلُ الْمَغْرِبِ) لِأَنَّ تَأْخِيرَهَا مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ.
يُؤَخِّرَهَا لِيَتَوَسَّعَ فِي النَّوَافِلِ لَا إلَى التَّغَيُّرِ بَلْ يُصَلِّيهَا وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ كَمَا وَرَدَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ «وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ صَيْرُورَةِ الظِّلِّ مِثْلَيْنِ مَعَ فَيْءِ الزَّوَالِ وَمِنْهُ إلَى التَّغَيُّرِ لَيْسَ كَثِيرًا جِدًّا، فَلَا بُعْدَ فِي كَوْنِ الْأَدَاءِ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى التَّعْجِيلِ غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ تَعْجِيلًا شَدِيدًا.
وَرَوَى الْحَسَنُ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ أَذَانِ الظُّهْرِ وَالصَّلَاةِ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ رَكْعَتَيْنِ كُلَّ رَكْعَةٍ بِعَشْرِ آيَاتٍ أَوْ أَرْبَعًا كُلًّا بِخَمْسِ آيَاتٍ.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ «عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ نَافِعٍ قَالَ: دَخَلْت مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بِالْعَصْرِ وَشَيْخٌ جَالِسٌ فَلَامَهُ، وَقَالَ: إنَّ أَبِي أَخْبَرَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِتَأْخِيرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ» ، فَسَأَلْت عَنْهُ فَقَالُوا: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ. وَضَعَّفَ بِعَبْدِ الْوَاحِدِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ وَقَالَ: لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ: يَعْنِي عَبْدَ الْوَاحِدِ، وَالصَّحِيحُ عَنْ رَافِعٍ غَيْرُهُ، ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ رَافِعٍ «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْعَصْرِ ثُمَّ يُنْحَرُ الْجَزُورُ فَيُقْسَمُ عَشْرَ قِسَمٍ ثُمَّ يُطْبَخُ فَنَأْكُلُ لَحْمًا نَضِيجًا قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ» وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَيْنِ، فَإِنَّهُ إذَا صَلَّى الْعَصْرَ قَبْلَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ أَمْكَنَ فِي الْبَاقِي إلَى الْغُرُوبِ مِثْلُ هَذَا الْعَمَلِ، وَمَنْ يُشَاهِدْ الْمَهَرَةَ مِنْ الطَّبَّاخِينَ فِي الْأَسْفَارِ مَعَ الرُّؤَسَاءِ لَمْ يَسْتَبْعِدْ ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ وَيُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُ الْمَغْرِبِ) هُوَ بِأَنْ لَا يُفْصَلَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ إلَّا بِجِلْسَةٍ خَفِيفَةٍ أَوْ سَكْتَةٍ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَيَأْتِي: وَتَأْخِيرُهَا لِصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ مَكْرُوهٌ، وَهِيَ خِلَافِيَّةٌ وَسَتُذْكَرُ فِي بَابِ النَّوَافِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ فِي الْقُنْيَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا، وَمَا رَوَى الْأَصْحَابُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ أَخَّرَهَا حَتَّى بَدَا نَجْمٌ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ الْقَلِيلَ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَرَاهَةٌ هُوَ مَا قَبْلَ ظُهُورِ النَّجْمِ، وَفِي الْمُنْيَةِ لَا يُكْرَهُ فِي السَّفَرِ وَلِلْمَائِدَةِ أَوْ كَانَ
وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْمَغْرِبَ وَأَخَّرُوا الْعِشَاءَ» .
قَالَ (وَتَأْخِيرُ الْعِشَاءِ إلَى مَا قَبْلَ ثُلُثِ اللَّيْلِ)
يَوْمُ غَيْمٍ، وَفِي الْقُنْيَةِ لَوْ أَخَّرَهَا بِتَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ فِيهِ خِلَافٌ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ مَا لَمْ يَغِبْ الشَّفَقُ وَلَا يَبْعُدُ، وَدَلِيلُ الْكَرَاهَةِ التَّشَبُّهُ بِالْيَهُودِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ» إلَخْ، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَفِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو أَيُّوبَ غَازِيًا وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ يَوْمَئِذٍ عَلَى مِصْرَ، فَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ، فَقَامَ إلَيْهِ أَبُو أَيُّوبَ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ يَا عُقْبَةُ؟ قَالَ شُغِلْنَا، قَالَ: أَمَا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لَا تَزَلْ أُمَّتِي بِخَيْرٍ» أَوْ قَالَ «عَلَى الْفِطْرَةِ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إلَى أَنْ تَشْتَبِكَ النُّجُومُ» فِيهِ نَظَرٌ إذْ مُقْتَضَاهُ نَدْبٌ، وَبِتَقْدِيرِهِ تَفْوِيتُ مَا نَدَبَ إلَيْهِ لَا تَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ لِجَوَازِ الْإِبَاحَةِ كَمَا فِي الْعِشَاءِ يَنْدُبُ تَأْخِيرُهَا إلَى مَا قَبْلَ الثُّلُثِ وَيُصَلِّيهَا إذْ ذَاكَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ إلَى النِّصْفِ انْتَفَى النَّدْبُ وَكَانَ مُبَاحًا، وَمَا بَعْدَهُ مَكْرُوهٌ، وَحَاصِلُ الْحَدِيثِ ضَمَانُ الْخَيْرِ وَالْفِطْرَةِ، أَيْ السُّنَّةِ بِالتَّعَجُّلِ، وَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتُ ضِدِّهِمَا فِي التَّأْخِيرِ لِجَوَازِ حُصُولِهِمَا مَعَهُ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَهَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى كَرَاهَةِ تَأْخِيرِهَا، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِ وَيُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُ الْمَغْرِبِ، هَذَا إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِتَوْثِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَهُوَ الْحَقُّ الْأَبْلَجُ، وَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ فِيهِ لَا يَثْبُتُ، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَقْبَلْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ شُعْبَةُ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ.
وَرَوَى عَنْهُ مِثْلُ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ إدْرِيسَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَيَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَعَبْدِ الْوَارِثِ وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَاحْتَمَلَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَعَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُمْ، وَقَدْ أَطَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَوْثِيقِهِ فِي كِتَابِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ لَهُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَأَنَّ مَالِكًا رَجَعَ عَنْ الْكَلَامِ فِي ابْنِ إِسْحَاقَ وَاصْطَلَحَ مَعَهُ وَبَعَثَ إلَيْهِ هَدِيَّةً
لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَخَّرْتُ الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ» وَلِأَنَّ فِيهِ قَطْعَ السَّمَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بَعْدَهُ، وَقِيلَ فِي الصَّيْفِ تُعَجَّلُ كَيْ لَا تَتَقَلَّلَ الْجَمَاعَةُ، وَالتَّأْخِيرُ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ مُبَاحٌ لِأَنَّ دَلِيلَ الْكَرَاهَةِ وَهُوَ تَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ عَارَضَهُ دَلِيلُ النَّدْبِ وَهُوَ قَطْعُ السَّمَرِ بِوَاحِدَةٍ
ذَكَرَهَا.
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي») رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ» وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ (قَوْلُهُ وَهُوَ قَطْعُ السَّمَرِ) الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى مَا رَوَى السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا» ، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا رَوَوْهُ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، وَأَجَازَ الْعُلَمَاءُ السَّمَرَ بَعْدَهَا فِي الْخَيْرِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الصَّلَاةِ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْمُرُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه اللَّيْلَةَ فِي الْأَمْرِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَا مَعَهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا سَمَرَ بَعْدَ الصَّلَاةِ» يَعْنِي الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ إلَّا لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ: مُصَلٍّ، أَوْ مُسَافِرٍ. وَفِي رِوَايَةٍ " أَوْ عَرُوسٍ " وَحَدِيثُ «مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَتَمَامُهُ
فَتَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ وَإِلَى النِّصْفِ الْأَخِيرِ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ وَقَدْ انْقَطَعَ السَّمَرُ قَبْلَهُ.
(وَيُسْتَحَبُّ فِي الْوَتْرِ لِمَنْ يَأْلَفُ صَلَاةَ اللَّيْلِ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ، فَإِنْ لَمْ يَثِقْ بِالِانْتِبَاهِ أَوْتَرَ قَبْلَ النَّوْمِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ آخِرَ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ» (فَإِذَا كَانَ يَوْمُ غَيْمٍ فَالْمُسْتَحَبُّ فِي الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ تَأْخِيرُهَا، وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ تَعْجِيلُهُمَا) لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِ الْعِشَاءِ تَقْلِيلَ الْجَمَاعَةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَطَرِ، وَفِي تَأْخِيرِ الْعَصْرِ تَوَهُّمَ الْوُقُوعِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، وَلَا تَوَهُّمَ فِي الْفَجْرِ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُدَّةَ مَدِيدَةٌ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ التَّأْخِيرُ فِي الْكُلِّ لِلِاحْتِيَاطِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْأَدَاءُ بَعْدَ الْوَقْتِ لَا قَبْلَهُ.
«فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ» وَذَلِكَ أَفْضَلُ (قَوْلُهُ فَتَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ) فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ التَّأْخِيرَ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ مَلْزُومٌ لِأَمْرَيْنِ مَكْرُوهٌ وَهُوَ تَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ.
وَمَنْدُوبٌ وَهُوَ قَطْعُ السَّمَرِ.
وَإِذَا لَزِمَ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَنْدُوبِ كَقَطْعِ السَّمَرِ ارْتِكَابُ مَكْرُوهٍ تُرِكَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسَائِلَ، فَيَنْبَغِي كَوْنُ التَّأْخِيرِ إلَى النِّصْفِ مَطْلُوبَ التَّرْكِ فَلَا يَكُونُ مُبَاحًا، لِأَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ فِي أَحَدِ طَرَفَيْ الْمُبَاحِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
(فَصْلٌ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ)(لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا عِنْدَ قِيَامِهَا فِي الظَّهِيرَةِ وَلَا عِنْدَ غُرُوبِهَا) لِحَدِيثِ «عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: ثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُصَلِّيَ فِيهَا وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا: عِنْدَ طُلُوعِ
فَصْلٌ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ) اسْتَعْمَلَ الْكَرَاهَةَ هُنَا بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَيَشْمَلُ عَدَمَ الْجَوَازِ وَغَيْرَهُ مِمَّا هُوَ مَطْلُوبُ الْعَدَمِ، أَوْ هُوَ بِالْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ وَالْمُرَادُ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ النَّهْيَ الظَّنِّيَّ الثُّبُوتِ غَيْرَ الْمَصْرُوفِ عَنْ مُقْتَضَاهُ يُفِيدُ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ وَإِنْ كَانَ قَطْعِيُّهُ أَفَادَ التَّحْرِيمَ فَالتَّحْرِيمُ فِي مُقَابَلَةِ الْفَرْضِ فِي الرُّتْبَةِ وَكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ فِي رُتْبَةِ الْوَاجِبِ وَالتَّنْزِيهُ بِرُتْبَةِ الْمَنْدُوبِ وَالنَّهْيِ الْوَارِدِ مِنْ الْأَوَّلِ، فَكَانَ الثَّابِتُ بِهِ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ، وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ إنْ كَانَتْ لِنُقْصَانٍ فِي الْوَقْتِ مُنِعَتْ أَنْ يَصِحَّ فِيهِ مَا تَسَبَّبَ عَنْ وَقْتٍ لَا نَقْصَ فِيهِ لَا لِأَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ بَلْ لِعَدَمِ تَأَدِّي مَا وَجَبَ كَامِلًا نَاقِصًا، فَلِذَا قَالَ عَقِيبَ تَرْجَمَتِهِ بِالْكَرَاهَةِ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ إلَخْ، لَكِنْ إنْ أُرِيدَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ عَدَمُ الصِّحَّةِ وَالصَّلَاةُ عَامٌّ لَمْ يُصَدَّقْ فِي كُلِّ صَلَاةٍ لِأَنَّهُ لَوْ شَرَعَ فِي نَفْلٍ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ صَحَّ شُرُوعُهُ حَتَّى وَجَبَ قَضَاؤُهُ إذَا قَطَعَهُ خِلَافًا لِزُفَرَ.
وَيَجِبُ قَطْعُهُ وَقَضَاؤُهُ فِي غَيْرِ مَكْرُوهٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَوْ أَتَمَّهُ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ مَا لَزِمَهُ بِذَلِكَ الشُّرُوعِ، وَفِي الْمَبْسُوطِ الْقَطْعُ أَفْضَلُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، وَإِنْ أُرِيدَ عَدَمُ الْحِلِّ: كَانَ أَعَمَّ مِنْ عَدَمِ الصِّحَّةِ، فَلَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ خُصُوصُ مَا هُوَ حُكْمُ الْقَضَاءِ مِنْ عَدَمِ الصِّحَّةِ وَهُوَ مَقْصُودُ الْإِفَادَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَقْصُودَهُ الثَّانِي، وَلِذَا اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الثَّابِتِ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ أَوْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تَضَيَّفُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ» وَهُوَ إنَّمَا يُفِيدُ عَدَمَ الْحِلِّ فِي جِنْسِ الصَّلَاةِ دُونَ عَدَمِ الصِّحَّةِ فِي بَعْضِهَا بِخُصُوصِهِ.
وَالْمُفِيدُ لَهَا إنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا، ثُمَّ إذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا، فَإِذَا زَالَتْ فَارَقَهَا، فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا، وَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا، وَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ» رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَالنَّسَائِيُّ، فَإِنَّهُ أَفَادَ كَوْنَ الْمَنْعِ لِمَا اتَّصَلَ بِالْوَقْتِ مِمَّا يَسْتَلْزِمُ فِعْلُ الْأَرْكَانِ
الشَّمْسِ حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَعِنْدَ زَوَالِهَا حَتَّى تَزُولَ، وَحِينَ تَضِيفُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ» وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَأَنْ نَقْبُرَ:
فِيهِ التَّشَبُّهَ بِعِبَادَةِ الْكُفَّارِ، وَهَذَا الْمَعْنَى بِنُقْصَانِ الْوَقْتِ وَإِلَّا فَالْوَقْتُ لَا نَقْصَ فِيهِ نَفْسِهِ بَلْ هُوَ وَقْتٌ كَسَائِرِ الْأَوْقَاتِ إنَّمَا النَّقْصُ فِي الْأَرْكَانِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهَا مَا وَجَبَ كَامِلًا فَخَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قِيلَ لَوْ تَرَكَ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ صَحَّتْ الصَّلَاةُ مَعَ أَنَّهَا نَاقِصَةٌ تَأَدَّى بِهَا الْكَامِلُ لِأَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ لَا يُدْخِلُ النَّقْصَ فِي الْأَرْكَانِ الَّتِي هِيَ الْمُقَوَّمَةُ لِلْحَقِيقَةِ، بِخِلَافِ فِعْلِ الْأَرْكَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَعَنْ الْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إذَا أَسْلَمَ وَبَلَغَ وَأَفَاقَ فِي الْجُزْءِ الْمَكْرُوهِ فَلَمْ يُؤَدِّ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ فَإِنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّهِمْ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ كُلَّ الْوَقْتِ حِينَ خَرَجَ إذْ لَمْ يُدْرِكُوا مَعَ الْأَهْلِيَّةِ إلَّا ذَلِكَ الْجُزْءَ فَلَيْسَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِمْ إلَّا إيَّاهُ، وَمَعَ هَذَا لَوْ قَضَوْا فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي ذِمَّتِهِ كَامِلٌ، إذْ لَا نَقْصَ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ بَلْ الْمَفْعُولُ فِيهِ يَقَعُ نَاقِصًا، غَيْرَ أَنَّ تَحَمُّلَ ذَلِكَ النَّقْصِ لَوْ أَدَّى فِيهِ الْعَصْرَ ضَرُورِيٌّ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَدَاءِ فِيهِ فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ لَمْ يُوجَدْ النَّقْصُ الضَّرُورِيُّ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ كَامِلٌ فَيَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ كَذَلِكَ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهِ إلَّا بِكَامِلٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَضَى فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ مَا قَطَعَهُ مِنْ النَّفْلِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ حَيْثُ يُخْرِجُهُ عَنْ الْعُهْدَةِ وَإِنْ كَانَ آثِمًا، لِأَنَّ وُجُوبَهُ ضَرُورَةُ صِيَانَةِ الْمُؤَدَّى عَنْ الْبُطْلَانِ لَيْسَ غَيْرَ، وَالصَّوْنُ عَنْ الْبُطْلَانِ يَحْصُلُ مَعَ النُّقْصَانِ، وَكَذَا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ لِأَنَّهُمَا لِإِظْهَارِ مُخَالَفَةِ الْكُفَّارِ بِالِانْقِيَادِ وَقَضَاءِ حَقِّ الْمَيِّتِ بِالدُّعَاءِ لَهُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَتَحَقَّقُ مَعَ النُّقْصَانِ، أَوْ نَقُولُ عِنْدَ التِّلَاوَةِ يُخَاطِبُ بِالْأَدَاءِ مُوَسَّعًا وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَحَمُّلُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ النَّقْصِ لَوْ أَدَّى عِنْدَهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا تُلِيَتْ فِي غَيْرِ مَكْرُوهٍ فَإِنَّ الْخِطَابَ لَمْ يَتَحَقَّقْ بِأَدَائِهَا فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ مُوَسَّعًا فَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهَا فِي مَكْرُوهٍ، هَذَا الْوَجْهُ أَسْلَمُ إذْ يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلُ جَوَازَ أَدَائِهَا فِي مَكْرُوهٍ وَإِنْ تُلِيَتْ فِي غَيْرِهِ، وَمِثْلُهُ بِعَيْنِهِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ حَتَّى لَوْ صَلَّاهَا فِيهِ أَوْ تَلَا سَجْدَةً فِيهِ وَسَجَدَهَا إلَى قَوْلِهِ: إذْ الْوُجُوبُ بِحُضُورِ الْجِنَازَةِ وَالتِّلَاوَةِ، يَقْتَضِي كَلَامُهُ أَنَّ الْأَوْلَى تَأْخِيرُهُمَا إذَا تَحَقَّقَ سَبَبُهُمَا فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ.
وَفِي التُّحْفَةِ إذَا حَضَرَتْ جِنَازَةٌ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَ وَلَا يُؤَخِّرَهَا، بِخِلَافِ الْفَرَائِضِ
صَلَاةُ الْجِنَازَةِ لِأَنَّ الدَّفْنَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَالْحَدِيثُ بِإِطْلَاقِهِ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي تَخْصِيصِ الْفَرَائِضِ، وَبِمَكَّةَ فِي حَقِّ النَّوَافِلِ، وَحُجَّةٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ فِي إبَاحَةِ النَّفْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقْتَ الزَّوَالِ
فَإِنَّهَا وَجَبَتْ لِعَيْنِهَا: أَيْ ابْتِدَاءَ إقَامَةِ فَرَائِضِ الْمَلِكِ سُبْحَانَهُ الْمُسْتَحِقَّةِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ أَوْهَامًا بَعْدَ إتْقَانِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ (قَوْلُهُ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تَخْصِيصِ الْفَرَائِضِ) أَيْ الْمَقْضِيَّاتِ، وَبِمَكَّةَ أَيْ وَتَخْصِيصُ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا بِمَكَّةَ فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا وَعَلَى أَبِي يُوسُفَ رحمه الله فِي إبَاحَةِ النَّفْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقْتَ الزَّوَالِ، أَمَّا إخْرَاجُ الْفَرَائِضِ فَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا بِمَكَّةَ فَحَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ مَرْفُوعًا «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» وَبِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي مَعْنَاهُ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ مَعْلُولٌ بِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ: انْقِطَاعٌ مَا بَيْنَ مُجَاهِدٍ وَأَبِي ذَرٍّ فَإِنَّهُ الَّذِي يَرْوِيهِ عَنْهُ، وَضُعِّفَ ابْنُ الْمُؤَمَّلِ، وَضُعِّفَ حُمَيْدٍ مَوْلَى عَفْرَاءَ، وَاضْطِرَابُ سَنَدِهِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَدْخَلَ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ بَيْنَ حُمَيْدٍ هَذَا وَبَيْنَ مُجَاهِدٍ، وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ فَأَسْقَطَهُ مِنْ الْبَيْنِ. وَأَمَّا إخْرَاجُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله فَفِي مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ» أَمَّا
قَالَ (وَلَا صَلَاةُ جِنَازَةٍ) لِمَا رَوَيْنَا (وَلَا سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ) لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الصَّلَاةِ (إلَّا عَصْرَ يَوْمِهِ عِنْدَ الْغُرُوبِ) لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْجُزْءُ الْقَائِمُ مِنْ الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَعَلَّقَ بِالْكُلِّ لَوَجَبَ الْأَدَاءُ بَعْدَهُ، وَلَوْ تَعَلَّقَ بِالْجُزْءِ الْمَاضِي
حَدِيثُ «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ» فَهُوَ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فِي الصَّلَاةِ لَكِنَّ كَوْنَهُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِهَا فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُقَارَنَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ فَهُوَ مُعَارِضٌ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ فَيُقَدَّمُ حَدِيثُ عُقْبَةَ لِأَنَّهُ مُحَرِّمٌ، وَلَوْ تَنَزَّلْنَا إلَى طَرِيقِهِمْ فِي كَوْنِ الْخَاصِّ مُخَصِّصًا كَيْفَمَا كَانَ فَهُوَ خَاصٌّ فِي الصَّلَاةِ عَامٌّ فِي الْأَوْقَاتِ، فَإِنْ وَجَبَ تَخْصِيصُهُ عُمُومَ الصَّلَاةِ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَجَبَ تَخْصِيصُ حَدِيثِ عُقْبَةَ عُمُومَ الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ خَاصٌّ فِي الْوَقْتِ، وَتَخْصِيصُ عُمُومِ الْوَقْتِ هُوَ إخْرَاجُهُ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةَ مِنْ عُمُومِ وَقْتِ التَّذَكُّرِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ، كَمَا أَنَّ تَخْصِيصَ الْآخَرِ هُوَ إخْرَاجُ الْفَوَائِتِ عَنْ عُمُومِ مَنْعِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَحِينَئِذٍ فَيَتَعَارَضَانِ فِي الْفَائِتَةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، إذْ تَخْصِيصُ حَدِيثِ عُقْبَةَ يَقْتَضِي إخْرَاجَهَا عَنْ الْحِلِّ فِي الثَّلَاثَةِ، وَتَخْصِيصُ حَدِيثِ التَّذَكُّرِ لِلْفَائِتَةِ مِنْ عُمُومِ الصَّلَاةِ يَقْتَضِي حِلَّهَا فِيهَا، وَيَكُونُ إخْرَاجُ حَدِيثِ عُقْبَةَ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُحَرِّمٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ مَكَّةَ فَبَعْدَ التَّنَزُّلِ فِيهِ عَامٌّ فِي الصَّلَاةِ وَالْوَقْتِ فَيَتَعَارَضُ عُمُومُهُمَا فِي الصَّلَاةِ، وَيُقَدَّمُ حَدِيثُ عُقْبَةَ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا يَتَعَارَضَانِ
فَالْمُؤَدِّي فِي آخِرِ الْوَقْتِ قَاضٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ كَامِلَةً فَلَا تَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ.
قَالَ رضي الله عنه: وَالْمُرَادُ بِالنَّفْيِ الْمَذْكُورِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ
فِي الْوَقْتِ إذْ الْخَاصُّ يُعَارِضُ الْعَامَّ عِنْدَنَا، وَعَلَى أُصُولِهِمْ يَجِبُ أَنْ يَخُصَّ مِنْهُ حَدِيثُ عُقْبَةَ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةَ لِأَنَّهُ خَاصٌّ فِيهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله فَالْوَاقِعُ بَعْدَ التَّنَزُّلِ فِيهِ أَيْضًا اسْتِثْنَاءُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَنَا تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي فَيَكُونُ حَاصِلُهُ نَهْيًا مُقَيَّدًا بِكَوْنِهِ بِغَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ حَدِيثُ عُقْبَةَ الْمُعَارِضُ لَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ مُحَرِّمٌ، وَقَدْ يُقَالُ: يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ لِاتِّحَادِهِمَا حُكْمًا وَحَادِثَةً (قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ إلَخْ) اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَحَمَلَهُ
الْكَرَاهَةُ، حَتَّى لَوْ صَلَّاهَا فِيهِ أَوْ تَلَا سَجْدَةً فِيهِ فَسَجَدَهَا جَازَ لِأَنَّهَا أُدِّيَتْ نَاقِصَةً كَمَا وَجَبَتْ إذْ الْوُجُوبُ بِحُضُورِ الْجِنَازَةِ وَالتِّلَاوَةِ.
(وَيُكْرَهُ أَنْ يَنْتَفِلَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ) لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ ذَلِكَ.
التِّرْمِذِيُّ عَلَى الصَّلَاةِ كَالْمُصَنِّفِ، وَكَذَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَحَمَلَهُ أَبُو دَاوُد عَلَى الدَّفْنِ الْحَقِيقِيِّ، وَيَتَرَجَّحُ الْأَوَّلُ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ شَاهِينِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ مِنْ حَدِيثِ خَارِجَةَ بْنِ مُصْعَبٍ عَنْ لَيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُصَلِّيَ عَلَى مَوْتَانَا عِنْدَ ثَلَاثٍ: عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ» الْحَدِيثُ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ: وَرَوَاهُ رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ وَزَادَ فِيهِ: قُلْت لِعُقْبَةَ أَيُدْفَنُ بِاللَّيْلِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَدْ دُفِنَ أَبُو بَكْرٍ.
(قَوْلُهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ) فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي الصَّحِيحَيْنِ «رَكْعَتَانِ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُهُمَا سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً: رَكْعَتَانِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعَصْرِ» وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا «مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْتِينِي فِي يَوْمٍ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ»
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْهَا قَالَتْ: وَهِمَ عُمَرُ رضي الله عنه «إنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتَحَرَّى طُلُوعُ الشَّمْسِ وَغُرُوبُهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا فَتُصَلُّوا عِنْدَ ذَلِكَ» وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ «عَنْ أُمِّ أَيْمَنَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: وَاَلَّذِي ذَهَبَ بِهِ مَا تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى، وَمَا لَقِيَ اللَّهَ حَتَّى ثَقُلَ عَنْ الصَّلَاةِ، وَكَانَ يُصَلِّيهِمَا وَلَا يُصَلِّيهِمَا فِي الْمَسْجِدِ مَخَافَةَ أَنْ تَثْقُلَ عَلَى أُمَّتِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ مَا خَفَّفَ عَنْهُمْ» ، فَالْعُذْرُ عَنْهُ أَنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَهُمَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام فَعَلَهُمَا جَبْرًا لِمَا فَاتَهُ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ أَوْ قَبْلَ الْعَصْرِ حِينَ شُغِلَ عَنْهُمَا، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ فَدَاوَمَ عَلَيْهِمَا وَكَانَ يَنْهَى غَيْرَهُ عَنْهُمَا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا فِي مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ وَالْمَغَازِي عَنْ كُرَيْبٌ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَزْهَرَ وَمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَرْسَلُوهُ إلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: اقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَام مِنَّا جَمِيعًا وَسَلْهَا عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَقُلْ بَلَغَنَا أَنَّكِ تُصَلِّينَهَا وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُمَا، قَالَ كُرَيْبٌ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَأَخْبَرْتُهَا، فَقَالَتْ: سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ فَرَجَعْتُ إلَيْهِمْ فَأَخْبَرْتُهُمْ، فَرَدُّونِي إلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُمَا ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِمْ فَشَغَلُونِي عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَهُمَا هَاتَانِ». وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ «عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ الْعَصْرِ، ثُمَّ إنَّهُ شُغِلَ عَنْهُمَا أَوْ نَسِيَهُمَا فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ ثُمَّ أَثْبَتَهُمَا، وَكَانَ إذَا صَلَّى صَلَاةً أَثْبَتَهَا» يَعْنِي دَاوَمَ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الثَّانِي فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ جِهَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ عَنْ ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ «بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ وَيَنْهَى عَنْهُمَا وَيُوَاصِلُ وَيَنْهَى عَنْ الْوِصَالِ» .
وَاسْتَفَدْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ تَرَدُّدَ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِيمَا جَزَمَتْ بِهِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهَا وَهِمَ عُمَرُ إلَخْ، فَإِنَّ إحَالَتَهَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها عِنْدَ اسْتِعْلَامِ السَّائِلِ الْحُكْمَ يُفِيدُ تَرَدُّدَهَا أَوْ التَّقَوِّي بِمُوَافَقَتِهَا، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَضْرِبُ عَلَيْهِمَا.
فِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَضْرِبُ الْمَنَاكِبَ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَكَانَ هَذَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ
(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَلِّيَ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ الْفَوَائِتَ وَيَسْجُدَ لِلتِّلَاوَةِ وَيُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ) لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ كَانَتْ لِحَقِّ الْفَرْضِ لِيَصِيرَ الْوَقْتُ كَالْمَشْغُولِ بِهِ لَا لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ فَلَمْ تَظْهَرْ فِي حَقِّ الْفَرَائِضِ، وَفِيمَا وَجَبَ لِعَيْنِهِ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَظَهَرَتْ فِي حَقِّ الْمَنْذُورِ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَفِي حَقِّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ، وَفِي الَّذِي شَرَعَ فِيهِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لِغَيْرِهِ وَهُوَ خَتْمُ الطَّوَافِ وَصِيَانَةُ الْمُؤَدَّى عَنْ الْبُطْلَانِ
مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ إجْمَاعًا عَلَى أَنَّ الْمُتَقَرِّرَ بَعْدَهُ عليه الصلاة والسلام عَدَمُ جَوَازِهِمَا، ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ دَأْبَهُ لَا أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ مَرَّةً فَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ أَوْ يَجُوزُ رُجُوعُهُ كَمَا يُفِيدُ قَوْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ حِينَ سُئِلَ عَنْ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْعَصْرِ: كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَضْرِبُ الْأَيْدِيَ عَنْ صَلَاةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ إلَخْ) اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا دَلَّ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ، ثُمَّ النَّظَرُ إلَيْهِ يَسْتَلْزِمُ نَقِيضَ قَوْلِهِمْ الْعِبْرَةُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِعَيْنِ النَّصِّ لَا لِمَعْنَى النَّصِّ، لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مُعَارَضَةَ النَّصِّ بِالْمَعْنَى، وَالنَّظَرُ إلَى النُّصُوصِ يُفِيدُ مَنْعَ الْقَضَاءِ تَقْدِيمًا لِلنَّهْيِ الْعَامِّ عَلَى حَدِيثِ التَّذَكُّرِ.
نَعَمْ يُمْكِنُ إخْرَاجُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ بِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ. وَيَكْفِي فِي إخْرَاجِ الْقَضَاءِ مِنْ الْفَسَادِ الْعِلْمُ بِأَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ وَذَلِكَ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْفَسَادِ، وَأَمَّا مِنْ الْكَرَاهَةِ فَفِيهِ مَا سَبَقَ (قَوْلُهُ وَفِيمَا وَجَبَ لِعَيْنِهِ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ) الْمُرَادُ بِمَا وَجَبَ لِعَيْنِهِ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ وُجُوبُهُ بِعَارِضٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ نَفْلًا كَالْمَنْذُورِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ كَمُخَالَفَةِ الْكُفَّارِ وَمُوَافَقَةِ الْأَبْرَارِ فِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَقَضَاءِ حَقِّ الْمَيِّتِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا يُكْرَهُ الْمَنْذُورُ، وَلَا أَثَرَ لِإِيجَابِ الْعَبْدِ كَمَا لَا أَثَرَ لِتِلَاوَتِهِ فِي إثْبَاتِ الْكَرَاهَةِ فِي السَّجْدَةِ.
وَقَدْ يُقَالُ وُجُوبُ السَّجْدَةِ فِي التَّحْقِيقِ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّمَاعِ لَا بِالِاسْتِمَاعِ وَلَا التِّلَاوَةِ، وَذَلِكَ لَيْسَ فِعْلًا مِنْ الْمُكَلَّفِ بَلْ وَصْفٌ
(وَيُكْرَهُ أَنْ يُتَنَفَّلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِأَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا مَعَ حِرْصِهِ عَلَى الصَّلَاةِ (وَلَا يُتَنَفَّلُ بَعْدَ الْغُرُوبِ قَبْلَ الْفَرْضِ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْخِيرِ الْمَغْرِبِ (وَلَا إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ لِلْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ) مِنْ خُطْبَتِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاشْتِغَالِ عَنْ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ.
خُلُقِيٌّ فِيهِ، بِخِلَافِ النَّذْرِ وَالطَّوَافِ وَالْمَشْرُوعِ فِيهِ وَلَوْلَاهُ لَكَانَتْ الصَّلَاةُ نَفْلًا (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام إِلَخْ) رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ حَفْصَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لَا يُصَلِّي إلَّا رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ وَفِي أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْهُ عليه الصلاة والسلام " لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ إلَّا سَجْدَتَيْنِ " لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ. وَفِي التَّجْنِيسِ: تَطَوَّعَ آخِرُ اللَّيْلِ فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَةً طَلَعَ الْفَجْرُ. الْإِتْمَامُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّنَفُّلُ بَعْدَ الْفَجْرِ لَا عَنْ قَصْدِهِ. وَفِي الْمُجْتَبَى: تُخَفَّفُ الْقِرَاءَةَ فِي رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ. هَذَا.
وَمِمَّا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ النَّافِلَةُ فِيهِ بَعْدَ الْغُرُوبِ قَبْلَ الْفَرْضِ وَعِنْدَ الْإِقَامَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعِنْدَ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَالْكُسُوفِ وَالْعِيدِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَقَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: لَا يُتَنَفَّلُ بَعْدَ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ بِعَرَفَاتٍ وَالْمُزْدَلِفَةِ، وَيَتَّصِلُ بِهَذَا كَرَاهَةُ الْكَلَامِ، يُكْرَهُ الْكَلَامُ بَعْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ إلَى أَنْ يُصَلِّي إلَّا بِخَيْرٍ وَبَعْدَ الصَّلَاةِ لَا بَأْسَ بِهِ وَبِالْمَشْيِ فِي حَاجَتِهِ، وَقِيلَ يُكْرَهُ إلَى الشَّمْسِ، وَقِيلَ إلَى ارْتِفَاعِهَا، وَبَعْدَ الْعِشَاءِ أَبَاحَهُ قَوْمٌ وَحَظَرَهُ قَوْمٌ، وَكَانَ عليه الصلاة والسلام يَكْرَهُ النَّوْمُ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثُ بَعْدَهَا، وَالْمُرَادُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ خَيْرٌ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْخَيْرُ فِي كَلَامٍ هُوَ عِبَادَةٌ فَإِنَّ الْمُبَاحَ لَا خَيْرَ فِيهِ كَمَا لَا إثْمَ فِيهِ، وَسَنَعْقِدُ لِلرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ كَلَامًا فِي بَابَ النَّوَافِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(بَابُ الْأَذَانِ)
بَابُ الْأَذَانِ
(الْأَذَانُ سُنَّةٌ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ دُونَ مَا سِوَاهَا) لِلنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ.
(وَصِفَةُ الْأَذَانِ مَعْرُوفَةٌ) وَهُوَ كَمَا أَذَّنَ الْمَلَكُ النَّازِلُ مِنْ السَّمَاءِ.
قَوْلُهُ الْأَذَانُ سُنَّةٌ) هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَكَذَا الْإِقَامَةُ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَاجِبٌ لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ: لَوْ اجْتَمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهِ قَاتَلْنَاهُمْ عَلَيْهِ. وَأُجِيبَ بِكَوْنِ الْقِتَالِ لِمَا يَلْزَمُ الِاجْتِمَاعُ عَلَى تَرْكِهِ مِنْ اسْتِخْفَافِهِمْ بِالدِّينِ بِخَفْضِ أَعْلَامِهِ لِأَنَّ الْأَذَانَ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ لِذَلِكَ لَا عَلَى نَفْسِهِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُحْبَسُونَ وَيُضْرَبُونَ وَلَا يُقَاتَلُونَ بِالسِّلَاحِ كَذَا يَنْقُلُهُ بَعْضُهُمْ بِصُورَةِ نَقْلِ الْخِلَافِ، وَلَا يَخْفَى أَنْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ بِوَجْهٍ فَإِنَّ الْمُقَاتَلَةَ إنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ وَعَدَمِ الْقَهْرِ لَهُمْ وَالضَّرْبُ وَالْحَبْسُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ قَهْرِهِمْ، فَجَازَ أَنْ يُقَاتَلُوا إذَا امْتَنَعُوا عَنْ قَبُولِ الْأَمْرِ بِالْأَذَانِ وَلَمْ يُسَلِّمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَإِذَا قُوتِلُوا فَظُهِرَ عَلَيْهِمْ ضُرِبُوا وَحُبِسُوا. وَقَدْ يُقَالُ: عَدَمُ التَّرْكِ مَرَّةً دَلِيلُ الْوُجُوبِ فَيَنْبَغِي وُجُوبُ الْأَذَانِ لِذَلِكَ وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ وَإِلَّا لَمْ يَأْثَمْ أَهْلُ بَلْدَةٍ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى تَرْكِهِ إذَا قَامَ بِهِ غَيْرُهُمْ وَلَمْ يُضْرَبُوا وَلَمْ يُحْبَسُوا. وَفِي الدِّرَايَةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ صَلَّوْا فِي الْحَضَرِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ أَخْطَئُوا السُّنَّةَ وَأَثِمُوا. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَهُ لِجَوَازِ كَوْنِ الْإِثْمِ لِتَرْكِهِمَا مَعًا فَيَكُونُ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَتْرُكَهُمَا مَعًا، لَكِنْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجَابُ الْأَذَانُ لِظُهُورِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلِيلِهِ (قَوْلُهُ دُونَ مَا سِوَاهَا) فَلَا يُؤَذَّنُ لِلْعِيدِ وَالْكُسُوفِ. وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ:«صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ» ، وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها:«خَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي بِ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ» . وَالْوِتْرُ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا لَكِنْ أَذَانُ الْعِشَاءِ إعْلَامٌ بِدُخُولِ وَقْتِهِ لِأَنَّ وَقْتَهُ وَقْتُهَا، وَلَوْلَا مَا رَوَيْنَا فِي الْعِيدِ لَأَذَّنَّا لَهُ عَلَى رِوَايَةِ الْوُجُوبِ. أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ السُّنَّةِ فَلَا لِأَنَّ النَّوَافِلَ تَبَعٌ لِلْفَرَائِضِ بِاعْتِبَارِ التَّكْمِيلِ فَلَا يُخَصُّ بِأَذَانٍ، وَفِي أَذَانِ الْجُمُعَةِ حَدِيثُ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ فِي الصَّحِيحِ
(قَوْلُهُ وَهُوَ كَمَا أَذَّنَ الْمَلَكُ النَّازِلُ مِنْ السَّمَاءِ) رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ «قَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ رَجُلًا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ عَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ نَزَلَ عَلَى جَذْمِ حَائِطٍ مِنْ الْمَدِينَةِ فَأَذَّنَ مَثْنَى مَثْنَى ثُمَّ جَلَسَ، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: عَلَى نَحْوٍ مِنْ أَذَانِنَا الْيَوْمَ قَالَ: عَلِّمْهَا بِلَالًا، فَقَالَ عُمَرُ: وَرَأَيْتُ مِثْلَ الَّذِي رَأَى وَلَكِنَّهُ سَبَقَنِي» وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ فَإِنَّهُ وُلِدَ لِسِتٍّ بَقَيْنَ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ رضي الله عنه فَيَكُونُ سَنَةَ سَبْعَ عَشَرَةَ مِنْ الْهِجْرَةِ وَمُعَاذٌ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعَ عَشَرَةَ مِنْ الْهِجْرَةِ أَوْ ثَمَانِي عَشَرَةَ وَهَذَا عِنْدَنَا حُجَّةٌ بَعْدَ ثِقَةِ الرُّوَاةِ. وَعَبْدُ اللَّهِ هَذَا هُوَ ابْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ ثَعْلَبَ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْن الْخَزْرَجِ
(وَلَا تَرْجِيعَ فِيهِ) وَهُوَ أَنْ يَرْجِعَ فَيَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ بَعْدَ مَا خَفَضَ بِهِمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: فِيهِ ذَلِكَ لِحَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالتَّرْجِيعِ» . وَلَنَا أَنَّهُ لَا تَرْجِيعَ فِي الْمَشَاهِيرِ وَكَانَ مَا رَوَاهُ تَعْلِيمًا فَظَنَّهُ تَرْجِيعًا.
(وَيَزِيدُ فِي أَذَانِ الْفَجْرِ بَعْدَ الْفَلَاحِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ)
وَقِيلَ لَيْسَ فِي نَسَبِهِ ثَعْلَبَةُ بَلْ ابْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ. وَلِأَبِي دَاوُد وَابْنِ خُزَيْمَةَ بِسَنَدٍ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ «لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاقُوسِ يُعْمَلُ لِيُضْرَبَ بِهِ لِلنَّاسِ لِجَمْعِ الصَّلَاةِ، طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ؟ قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ فَقُلْتُ: نَدْعُو بِهِ إلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ: تَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَسَاقَهُ بِلَا تَرْجِيعٍ، قَالَ: ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ تَقُولُ إذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَسَاقَ الْإِقَامَةَ وَأَفْرَدَهَا وَثَنَّى لَفْظَةَ الْإِقَامَةِ، قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم» فَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ، وَفِيهِ «فَسَمِعَ ذَلِكَ عُمَرُ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَجَعَلَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ وَيَقُولُ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ مَا رَأَى، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ» قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الذُّهْلِيَّ يَقُولُ: لَيْسَ فِي أَخْبَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِي قِصَّةِ الْأَذَانِ أَصَحُّ مِنْ هَذَا إلَى أَنْ قَالَ: وَخَبَرُ ابْنِ إِسْحَاقَ هَذَا ثَابِتٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ سَمِعَهُ مِنْ أَبِيهِ وَمُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ سَمِعَهُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا دَلَّسَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي عِلَلِهِ الْكَبِيرِ: سَأَلْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي صَحِيحٌ، وَمَا أَسْنَدَهُ الْبَزَّارُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه مِمَّا أَفَادَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَ رَسُولَهُ الْأَذَانَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ بِدَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا الْبُرَاقُ، فَذَهَبَ يَرْكَبُهَا فَاسْتَصْعَبَتْ، فَقَالَ لَهَا: اُسْكُنِي فَوَاَللَّهِ مَا رَكِبَك عَبْدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ مُحَمَّدٍ فَسَاقَهُ، فَأَفَادَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْإِسْرَاءِ أَذَّنَ مَلَكٌ فَهُوَ خَبَرٌ غَرِيبٌ وَمُعَارِضٌ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ أَنَّ بَدْءَ الْأَذَانِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى مَا فِي مُسْلِمٍ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ وَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَاةَ وَلَيْسَ يُنَادِي لَهَا أَحَدٌ. فَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَنْصِبُ رَايَةً. . . الْحَدِيثُ
(قَوْلُهُ لِحَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ) عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ الْأَذَانَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مَرَّتَيْنِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ» . . . الْحَدِيثُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ هَكَذَا، وَالتَّكْبِيرُ فِي أَوَّلِهِ مَرَّتَانِ، وَبِهِ يَسْتَدِلُّ مَالِكٌ رحمه الله. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتَّكْبِيرُ فِي أَوَّلِهِ أَرْبَعًا وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ (قَوْلُهُ أَنَّهُ لَا تَرْجِيعَ فِي الْمَشَاهِيرِ) فِيهِ أَحَادِيثُ مِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ بِجَمِيعِ طُرُقِهِ. وَمِنْهَا مَا فِي
«لِأَنَّ بِلَالًا رضي الله عنه قَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ حِينَ وَجَدَ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام رَاقِدًا، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: مَا أَحْسَنَ هَذَا يَا بِلَالُ
أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «إنَّمَا كَانَ الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتَيْنِ وَالْإِقَامَةُ مَرَّةً مَرَّةً» ، الْحَدِيثُ. وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا بِسَنَدٍ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةَ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَقَالَ فِي الْإِمَامِ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قَالَ أَبِي: سَعِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ثِقَةٌ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَمُدَّ بِهَا صَوْتَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«ارْجِعْ فَمُدَّ بِهَا صَوْتَكَ» قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْمُصَنَّفِ: وَكَانَ مَا رَوَاهُ تَعْلِيمًا أَيْ تَعْلِيمًا لِكَيْفِيَّةِ أَذَانِهِ فَظَنَّهُ تَرْجِيعًا، وَاسْتَشْكَلَ بِمَا فِي أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ «أَبِي مَحْذُورَةَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي سُنَّةَ الْأَذَانِ، قَالَ: تَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَر، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ تَخْفِضُ بِهَا صَوْتَك، ثُمَّ تَرْفَعُ بِهَا صَوْتَكَ» فَالْأُولَى إثْبَاتُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ رِوَايَتَيْ أَبِي مَحْذُورَةَ فِي التَّرْجِيعِ فَهَذِهِ تُفِيدُهُ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْوَسَطِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ النُّفَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جَدِّي عَبْدَ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ يَقُولُ: إنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ أَبَا مَحْذُورَةَ يَقُولُ «أَلْقَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأَذَانَ حَرْفًا حَرْفًا: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ إلَى آخِرِهِ» وَلَمْ يَذْكُرْ تَرْجِيعًا، فَيُعَارِضُهَا فَيَتَسَاقَطَانِ، وَيَبْقَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ سَالِمًا مِنْ الْمُعَارِضِ، وَيُعَارِضُهَا مَعَ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه فَيَتَرَجَّحُ عَدَمُ التَّرْجِيعِ لِأَنَّ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْأَذَانِ وَلَيْسَ فِيهِ تَرْجِيعٌ فَيَبْقَى مَعَهُ إلَى أَنْ يَتَحَقَّقَ خِلَافُهُ، لَكِنَّ خِلَافَهُ مُتَعَارِضٌ فَلَا يَرْفَعُ حُكْمًا تَحَقَّقَ ثُبُوتُهُ بِلَا مُعَارِضٍ
(قَوْلُهُ لِأَنَّ بِلَالًا قَالَ إلَخْ) رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ «بِلَالٍ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُؤَذِّنُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ فَقِيلَ هُوَ نَائِمٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ فِي تَأْذِينِ الْفَجْرِ» . وَابْنُ الْمُسَيِّبِ لَمْ يُدْرِكْ بِلَالًا فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا بَعْدَ عَدَالَةِ الرُّوَاةِ وَثِقَتِهِمْ، عَلَى أَنَّهُ رَوَى فِي حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «فَإِذَا كَانَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ قُلْتُ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَالَ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنْ السُّنَّةِ حُكْمُهُ الرَّفْعُ عَلَى الصَّحِيحِ لَكِنْ خُصُوصُ مَا فِي الْهِدَايَةِ فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّائِغِ الْمَكِّيُّ
اجْعَلْهُ فِي أَذَانِكَ» وَخُصَّ الْفَجْرُ بِهِ لِأَنَّهُ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ.
(وَالْإِقَامَةُ مِثْلُ الْأَذَانِ إلَّا أَنَّهُ يَزِيدُ فِيهَا بَعْدَ الْفَلَاحِ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ مَرَّتَيْنِ) هَكَذَا فَعَلَ الْمَلَكُ النَّازِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ ثُمَّ هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي قَوْلِهِ إنَّهَا فُرَادَى فُرَادَى إلَّا قَوْلَهُ
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ «عَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُؤْذِنُهُ بِالصُّبْحِ فَوَجَدَهُ رَاقِدًا فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا أَحْسَنَ هَذَا يَا بِلَالُ اجْعَلْهُ فِي أَذَانِكَ»
(قَوْلُهُ هَكَذَا فَعَلَ الْمَلَكُ إلَخْ) رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: أُحِيلَتْ الصَّلَاةُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، وَسَاقَ نَصْرُ، يَعْنِي: ابْنَ الْمُهَاجِرِ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَسَمَّى صَاحِبَ الرُّؤْيَا، قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى أَنْ قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَعْنِي الْمَلَكُ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ إلَى آخِرِ الْأَذَانِ، قَالَ: ثُمَّ أَمْهَلَ هُنَيَّة ثُمَّ قَامَ فَقَالَ مِثْلَهَا، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: زَادَ بَعْدَ مَا قَالَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى لَمْ يُدْرِكْ مُعَاذًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى بِسَنَدٍ قَالَ فِي الْإِمَامِ: رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيَّ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَجُلًا قَامَ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ، فَقَامَ عَلَى حَائِطٍ فَأَذَّنَ مَثْنَى مَثْنَى وَأَقَامَ مَثْنَى مَثْنَى» وَلِابْنِ مَاجَهْ قَالَ: يَعْنِي أَبَا مَحْذُورَةَ «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ» الْحَدِيثُ وَفِيهِ التَّرْجِيعُ «وَالْإِقَامَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ» إلَخْ وَفِيهِ تَثْنِيَةُ التَّشَهُّدَيْنِ وَالْحَيْعَلَتَيْنِ " وَقَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ " وَلِلتِّرْمِذِيِّ «عَلَّمَهُ الْأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً، وَالْإِقَامَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً» (قَوْلُهُ ثُمَّ هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ إلَخْ) اسْتَدَلَّ هُوَ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ «أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ» وَفِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا لَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِثْنَاءَ فَأَخَذَ بِهَا مَالِكٌ وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا رَوَيْنَاهُ: نَصٌّ عَلَى الْعَدَدِ وَعَلَى حِكَايَةِ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ فَانْقَطَعَ الِاحْتِمَالُ بِالْكُلِّيَّةِ، بِخِلَافِ أُمِرَ أَنْ يُوتِرَ الْإِقَامَةَ فَإِنَّ بَعْدَ كَوْنِ الْآمِرِ هُوَ الشَّارِعُ فَالْإِقَامَةُ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الذِّكْرِ وَتَعْلِيقُ الْإِيتَارِ بِهَا نَفْسِهَا لَا يُرَادُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْإِقَامَةَ الَّتِي هِيَ مَجْمُوعُ الذِّكْرِ مَرَّةً لَا مَرَّتَيْنِ فَلَزِمَ كَوْنُهُ إمَّا إيتَارَ أَلْفَاظِهَا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ، أَوْ إيتَارَ صَوْتِهَا بِأَنْ يَحْدُرَ فِيهَا كَمَا هُوَ الْمُتَوَارَثُ فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى الثَّانِي لِيُوَافِقَ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ النَّصِّ الْغَيْرِ الْمُحْتَمِلِ. كَيْفَ وَقَدْ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: تَوَاتَرَتْ الْآثَارُ عَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ كَانَ يُثَنِّي الْإِقَامَةَ حَتَّى مَاتَ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ كَانَتْ الْإِقَامَةُ مِثْلَ الْأَذَانِ حَتَّى كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُلُوكُ فَجَعَلُوهَا وَاحِدَةً وَاحِدَةً لِلسُّرْعَةِ إذَا خَرَجُوا: يَعْنِي بَنِي أُمَيَّةَ كَمَا قَالَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: كَانَ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ مَثْنَى مَثْنَى فَلَمَّا قَامَ بَنُو أُمَيَّةَ أَفْرَدُوا الْإِقَامَةَ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوَارُثِ الْحَدْرِ فِي الْإِقَامَةِ كَانَ لِثُبُوتِ السُّنِّيَّةِ، لَكِنَّ الْمُصَنَّفَ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ التِّرْمِذِيِّ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لِبِلَالٍ: إذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ فِي أَذَانِكَ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ، وَاجْعَلْ مِنْ بَيْنِ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ قَدْرَ مَا يَفْرُغُ الْآكِلُ
قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ.
(وَيَتَرَسَّلُ فِي الْأَذَانِ وَيَحْدُرُ فِي الْإِقَامَةِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِبِلَالٍ «إذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ» وَهَذَا بَيَانُ الِاسْتِحْبَابِ (وَيَسْتَقْبِلُ بِهِمَا الْقِبْلَةَ) لِأَنَّ الْمَلَكَ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ أَذَّنَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَلَوْ تَرَكَ الِاسْتِقْبَالَ جَازَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَيُكْرَهُ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ (وَيُحَوِّلُ وَجْهَهُ بِالصَّلَاةِ وَالْفَلَاحِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً) لِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْقَوْمِ فَيُوَاجِهُهُمْ بِهِ (وَإِنْ اسْتَدَارَ فِي صَوْمَعَتِهِ فَحَسَنٌ) مُرَادُهُ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ تَحْوِيلَ الْوَجْهِ يَمِينًا وَشِمَالًا (مَعَ ثَبَاتِ قَدَمَيْهِ) مَكَانَهُمَا كَمَا هُوَ السُّنَّةُ بِأَنْ كَانَتْ الصَّوْمَعَةُ مُتَّسَعَةً، فَأَمَّا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَلَا.
(وَالْأَفْضَلُ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ
مِنْ أَكْلِهِ وَالشَّارِبُ مِنْ شُرْبِهِ وَالْمُعْتَصِرُ إذَا دَخَلَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَلَا تَقُولُوا حَتَّى تَرَوْنِي» وَقَدْ ضُعِّفَ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُرَتِّلُ الْأَذَانَ وَيَحْدُرُ الْإِقَامَةَ. وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ
(قَوْلُهُ وَيَتَرَسَّلُ فِي الْأَذَانِ) هُوَ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ كُلِّ كَلِمَتَيْنِ مِنْ كَلِمَاتِهِ بِسَكْتَةٍ، وَالْحَدْرُ أَنْ لَا يَفْصِلَ، وَلَوْ تَرَسَّلَ فِيهَا قِيلَ يُكْرَهُ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةَ. وَقِيلَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَتْنِ يُشِيرُ إلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ حَيْثُ قَالَ: وَهَذَا بَيَانُ الِاسْتِحْبَابِ، وَالْحَقُّ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْمُتَوَارَثَ التَّرَسُّلُ فَيُكْرَهُ تَرْكُهُ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: أَذَّنَ وَمَكَثَ سَاعَةً ثُمَّ أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ فَظَنَّهَا أَذَانًا فَصَنَعَ كَالْأَذَانِ فَعَرَفَ يَسْتَقْبِلُ الْإِقَامَةَ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الْإِقَامَةِ الْحَدْرُ. فَإِذَا تَرَسَّلَ تَرَكَ سُنَّةَ الْإِقَامَةِ وَصَارَ كَأَنَّهُ أَذَّنَ مَرَّتَيْنِ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْقَوْمِ فَيُوَاجِهُهُمْ بِهِ) وَيَقَعُ لِمَنْ خَلْفَهُ إعْلَامٌ بِذَلِكَ الِالْتِفَاتِ مَعَ ثَبَاتِ الْقَدَمَيْنِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ارْتِكَابِ الْمَكْرُوهِ بِاسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ اللَّازِمِ مِنْ مُوَاجَهَتِهِمْ، ثُمَّ قِيلَ يَلْتَفِتُ يَمْنَةً لِلصَّلَاةِ وَيَسْرَةً لِلْفَلَاحِ، وَقِيلَ يَمْنَةً وَيَسْرَةً لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ الْأَوَّلَ، وَالثَّانِي أَوْجَهُ (قَوْلُهُ بِأَنْ كَانَتْ الصَّوْمَعَةُ) اتِّسَاعُهَا لَا يَنْفِي اسْتِطَاعَةَ تَحْوِيلِ الْوَجْهِ الَّذِي يُعْطِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ عَدَمُ اسْتِطَاعَةِ التَّبْلِيغِ مَعَ التَّحْوِيلِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي جَوْفِهَا فَيُضَعِّفُ بُلُوغَ
يَجْعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ) بِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام بِلَالًا رضي الله عنه وَلِأَنَّهُ أَبْلُغُ فِي الْإِعْلَامِ (فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَحَسَنٌ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ أَصْلِيَّةٍ (وَالتَّثْوِيبُ فِي الْفَجْرِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ مَرَّتَيْنِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ حَسَنٌ) لِأَنَّهُ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ (وَكُرِهَ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ) وَمَعْنَاهُ الْعَوْدُ إلَى الْإِعْلَامِ بَعْدَ الْإِعْلَامِ وَهُوَ عَلَى حَسَبِ مَا تَعَارَفُوهُ، وَهَذَا التَّثْوِيبُ أَحْدَثَهُ عُلَمَاءُ الْكُوفَةِ بَعْدَ عَهْدِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم لِتَغَيُّرِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَخَصُّوا الْفَجْرَ بِهِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالْمُتَأَخِّرُونَ اسْتَحْسَنُوهُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا لِظُهُورِ التَّوَانِي فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ.
الصَّوْتِ خُصُوصًا لِمَنْ خَلْفَهُ فَيَسْتَدْبِرُ وَيُخْرِجُ رَأْسَهُ لِيُتِمَّ الْإِعْلَامَ
(قَوْلُهُ بِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَالًا) رَوَى أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الْأَذَانِ لَهُ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُدْخِلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَقَالَ: إنَّهُ أَرْفَعُ لِصَوْتِكَ» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ: رَأَيْت بِلَالًا يُؤَذِّنُ فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا وَأُصْبُعَاهُ فِي أُذُنَيْهِ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ (قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَحَسَنٌ) أَيْ الْأَذَانُ حَسَنٌ (قَوْلُهُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ أَصْلِيَّةٍ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ لِعَبْدِ الْقَادِرِ فِيهِ نَظَرٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مَعَ لَفْظَةِ الْأَمْرِ انْتَهَى. وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ مَا تَقَدَّمَ مَعَ لَفْظِ الْأَمْرِ مَصْرُوفٌ عَنْ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ شُرِعَ كَيْفِيَّةً لِمَا هُوَ سُنَّةٌ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ السُّنِّيَّةُ وَالْأَصْلِيَّةُ أَمْرٌ زَائِدٌ ذَلِكَ عَلَيْهِ صُرِفَ عَنْهُ التَّعْلِيلُ فِي النَّصِّ بِكَوْنِهِ أَرْفَعَ لِلصَّوْتِ (قَوْلُهُ عَلَى حَسَبِ مَا تَعَارَفُوهُ) يُفِيدُ عَدَمَ تَعَيُّنِ الْحَيْعَلَةِ نَحْوُ: الصَّلَاةَ، أَوْ قَامَتْ قَامَتْ (قَوْلُهُ وَخَصُّوا الْفَجْرَ بِهِ) فَكَرِهُوهُ فِي غَيْرِهِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ مُؤَذِّنًا يُثَوِّبُ فِي غَيْرِ الْفَجْرِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ: قُمْ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ عِنْدِ هَذَا الْمُبْتَدِعِ. وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه إنْكَارُهُ (قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي أَنَّهُ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ، وَفَسَّرَهُ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بِأَنْ يَمْكُثَ بَعْدَ الْأَذَانِ
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله، لَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يَقُولَ الْمُؤَذِّنُ لِلْأَمِيرِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَمِيرُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، الصَّلَاةَ يَرْحَمُك اللَّهُ، وَاسْتَبْعَدَ مُحَمَّدٌ رحمه الله لِأَنَّ النَّاسَ سَوَاسِيَةٌ فِي أَمْرِ الْجَمَاعَةِ، وَأَبُو يُوسُفَ رحمه الله خَصَّهُمْ بِذَلِكَ لِزِيَادَةِ اشْتِغَالِهِمْ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ كَيْ لَا تَفُوتَهُمْ الْجَمَاعَةُ، وَعَلَى هَذَا الْقَاضِي وَالْمُفْتِي.
(وَيَجْلِسُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ إلَّا فِي الْمَغْرِبِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَقَالَا: يَجْلِسُ فِي الْمَغْرِبِ أَيْضًا جَلْسَةً خَفِيفَةً) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْفَصْلِ إذْ الْوَصْلُ مَكْرُوهٌ، وَلَا يَقَعُ الْفَصْلُ بِالسَّكْتَةِ لِوُجُودِهِمَا بَيْنَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ فَيَفْصِلُ بِالْجَلْسَةِ كَمَا بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ التَّأْخِيرَ مَكْرُوهٌ فَيَكْتَفِي بِأَدْنَى الْفَصْلِ احْتِرَازًا عَنْهُ وَالْمَكَانُ فِي مَسْأَلَتِنَا مُخْتَلَفٌ، وَكَذَا النَّغْمَةُ فَيَقَعُ الْفَصْلُ بِالسَّكْتَةِ وَلَا كَذَلِكَ الْخُطْبَةُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَفْصِلُ بِرَكْعَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَالْفَرْقُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ
قَدْرَ قِرَاءَةِ عِشْرِينَ آيَةً ثُمَّ يُثَوِّبُ ثُمَّ يَمْكُثُ كَذَلِكَ ثُمَّ يُقِيمُ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ (قَوْلُهُ وَأَبُو يُوسُفَ خَصَّهُمْ) أَخَّرَ ذِكْرَ وَجْهِ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لِإِفَادَةِ اخْتِيَارِهِ، وَكَذَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ قَاضِي خَانْ وَغَيْرِهِ اخْتِيَارُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ
(قَوْلُهُ وَالْمَكَانُ فِي مَسْأَلَتِنَا مُخْتَلِفٌ) يُفِيدُ كَوْنَ الْمَعْهُودِ اخْتِلَافَ مَكَانِهِمَا وَهُوَ كَذَلِكَ شَرْعًا وَالْإِقَامَةُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا بُدَّ، وَأَمَّا الْأَذَانُ فَعَلَى الْمِئْذَنَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِي فِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَقَالُوا لَا يُؤَذَّنُ فِي الْمَسْجِدِ (قَوْلُهُ فَيَقَعُ الْفَصْلُ بِالسَّكْتَةِ) فِي جَامِعَيْ قَاضِي خَانْ والتمرتاشي السَّكْتَةُ الْفَاصِلَةُ عِنْدَهُ قَدْرُ ثَلَاثِ آيَاتٍ قِصَارٍ أَوْ آيَةٍ طَوِيلَةٍ، وَعَنْهُ قَدْرُ ثَلَاثِ خُطُوَاتٍ أَوْ أَرْبَعٍ (قَوْلُهُ وَالْفَرْقُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ) وَهُوَ كَرَاهَةُ التَّأْخِيرِ، فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الرَّكْعَتَانِ مَنْدُوبًا يَسْتَلْزِمُ كَرَاهَةً كَانَ
(قَالَ يَعْقُوبُ: رَأَيْت أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله يُؤَذِّنُ فِي الْمَغْرِبِ وَيُقِيمُ وَلَا يَجْلِسُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ) وَهَذَا يُفِيدُ مَا قُلْنَا، وَأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ كَوْنُ الْمُؤَذِّنِ عَالِمًا بِالسُّنَّةِ
سَبِيلُهَا التَّرْكَ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ قَدْرَ أَدَاءِ رَكْعَتَيْنِ مَكْرُوهٌ، وَقَدَّمْنَا مِنْ الْقُنْيَةِ اسْتِثْنَاءَ التَّأْخِيرِ الْقَلِيلِ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ قَدْرِهِمَا إذَا تَوَسَّطَ فِيهِمَا لِيَتَّفِقَ كَلَامُ الْأَصْحَابِ (قَوْلُهُ قَالَ يَعْقُوبُ) هُوَ اسْمُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله وَهَذَا لَفْظُ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (قَوْلُهُ وَإِنَّ الْمُسْتَحَبَّ كَوْنُ الْمُؤَذِّنِ عَالِمًا بِالسُّنَّةِ) يُفِيدُ بِالِالْتِزَامِ الْعَادِي طَلَبَ أَنْ لَا يَكُونَ صَبِيًّا وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا بَلْ بَالِغًا، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «وَلِيُؤَذِّنْ لَكُمْ خِيَارُكُمْ» فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ كَوْنُهُ عَالِمًا عَامِلًا لِأَنَّ الْعَالِمَ الْفَاسِقَ لَيْسَ مِنْ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ عَذَابًا مِنْ الْجَاهِلِ الْفَاسِقِ عَلَى أَحَقِّ الْقَوْلَيْنِ كَمَا تَشْهَدُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَصَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ أَذَانِ الْفَاسِقِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِهِ عَالِمًا أَوْ غَيْرَهُ.
وَرُوِيَ مِثْلُهُ فِي الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ أَيْضًا، لَكِنْ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ فِي الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ بِخِلَافِ غَيْرِ الْعَاقِلِ، ثُمَّ فِي النُّسَخِ وَيُؤَذِّنُ بِالْوَاوِ، وَاَلَّذِي فِي أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لِيُؤَذِّنْ لَكُمْ خِيَارُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ قُرَّاؤُكُمْ» وَفِي إسْنَادِهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى نَسَبَ إلَيْهِ أَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ النَّكَارَةَ فِي حَدِيثِهِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فِي كَوْنِهِ خِيَارًا أَنْ لَا يَأْخُذَ أَجْرًا فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمُؤَذِّنِ وَلَا لِلْإِمَامِ. وَلِأَبِي دَاوُد عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْنِي إمَامَ قَوْمِي، قَالَ أَنْتَ إمَامُهُمْ، وَاقْتَدِ بِضَعِيفِهِمْ وَاِتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا» قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يُشَارِطْهُمْ عَلَى شَيْءٍ لَكِنْ عَرَفُوا حَاجَتَهُ فَجَمَعُوا لَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ شَيْئًا كَانَ حَسَنًا وَيَطِيبُ لَهُ، وَعَلَى هَذَا الْمُفْتِي لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْقَوْمِ أَنْ يَهْدُوا إلَيْهِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ الْمُؤَذِّنُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ لَا يَسْتَحِقُّ ثَوَابَ الْمُؤَذِّنِينَ انْتَهَى.
فَفِي أَخْذِ الْأَجْرِ أَوْلَى، وَلْنَسُقْ بَعْضَ مَا رُوِيَ فِي الْمُؤَذِّنِينَ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ لَتَضَارَبُوا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ» وَلَهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ «يُغْفَرُ لِلْمُؤَذِّنِ مُنْتَهَى أَذَانِهِ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ سَمِعَهُ» وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ «وَيُجِيبُهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ» وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَعِنْدَهُمَا يَشْهَدُ لَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَزَادَ «وَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ صَلَّى مَعَهُ» وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِثْلُ هَذِهِ، وَلَهُ فِي الْأَوْسَطِ «يَدُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَوْقَ رَأْسِ الْمُؤَذِّنِ، وَإِنَّهُ لَيُغْفَرُ لَهُ مَدَى صَوْتِهِ أَيْنَ بَلَغَ» وَلَهُ فِيهِ «إنَّ الْمُؤَذِّنِينَ وَالْمُلَبِّينَ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ وَيُلَبِّي الْمُلَبِّي» وَلِمُسْلِمٍ «الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ «ثَلَاثَةٌ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ أُرَاهُ قَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» زَادَ فِي رِوَايَةٍ «يَغْبِطُهُمْ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ عَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ وَرَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ بِهِ رَاضُونَ، وَرَجُلٌ يُنَادِي
لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَيُؤَذِّنُ لَكُمْ خِيَارُكُمْ» .
(وَيُؤَذِّنُ لِلْفَائِتَةِ وَيُقِيمُ)
بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالصَّغِيرِ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَفْظُهُ: قَالَ صلى الله عليه وسلم «ثَلَاثَةٌ لَا يَهُولُهُمْ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَلَا يَنَالُهُمْ الْحِسَابُ هُمْ عَلَى كَثِيبٍ مِنْ مِسْكٍ حَتَّى يَفْرُغَ حِسَابُ الْخَلَائِقِ: رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، أَوْ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ بِهِ رَاضُونَ، وَدَاعٍ يَدْعُوا إلَى الصَّلَاةِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَعَبْدٌ أَحْسَنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوَالِيهِ» وَرَوَاهُ فِي الْكَبِيرِ وَلَفْظُهُ عَنْ «ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَوْ لَمْ أَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا مَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّةً حَتَّى عَدَّ سَبْعَ مَرَّاتٍ لَمَا حَدَّثْتُ بِهِ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ثَلَاثَةٌ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَهُولُهُمْ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَلَا يَفْزَعُونَ حِينَ يَفْزَعُ النَّاسُ: رَجُلٌ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ فَقَامَ بِهِ يَطْلُبُ وَجْهَ اللَّهِ وَمَا عِنْدَهُ، وَرَجُلٌ يُنَادِي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ صَلَوَاتٍ يَطْلُبُ وَجْهَ اللَّهِ وَمَا عِنْدَهُ، وَمَمْلُوكٌ لَمْ يَمْنَعْهُ رِقُّ الدُّنْيَا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ» وَيَدْخُلُ فِي الْخِيَارِ أَيْضًا مَنْ لَا يُلَحِّنُ الْأَذَانَ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَتَحْسِينُ الصَّوْتِ مَطْلُوبٌ وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا، وَقَيَّدَهُ الْحَلْوَانِيُّ بِمَا هُوَ ذَكَرَهُ فَلَا بَأْسَ بِإِدْخَالِ الْمَدِّ فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ التَّلْحِينَ هُوَ إخْرَاجُ الْحَرْفِ عَمَّا يَجُوزُ لَهُ فِي الْأَدَاءِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ فِي الْقِرَاءَةِ فَمَنَعَهُ، فَقِيلَ لَهُ لِمَ؟ قَالَ مَا اسْمُك؟ قَالَ مُحَمَّدٌ، قَالَ لَهُ: أَيُعْجِبُك أَنْ يُقَالَ لَك يَا مُوحَامَدُ، قَالُوا: وَإِذَا كَانَ لَمْ يَحِلَّ فِي الْأَذَانِ فَفِي الْقِرَاءَةِ أَوْلَى وَحِينَئِذٍ لَا يَحِلُّ سَمَاعُهَا أَيْضًا. وَيُكْرَهُ التَّنَحْنُحُ عِنْدَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ، وَيَنْبَغِي لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَنْتَظِرَ النَّاسَ، فَإِنْ عَلِمَ بِضَعِيفٍ مُسْتَعْجِلٍ أَقَامَ لَهُ. وَلَا يَنْتَظِرُ رَئِيسَ الْمَحَلَّةِ وَيُقِيمُ فِي مَكَانِهِ. فَإِنْ مَشَى إلَى مَكَانِ الصَّلَاةِ عِنْدَ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ جَازَ إذَا كَانَ إمَامًا، وَقِيلَ مُطْلَقًا.
وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ قَاعِدًا إلَّا إذَا أَذَّنَ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مُرَاعَاةُ السُّنَّةِ لَا الْإِعْلَامُ وَيُكْرَهُ أَيْضًا رَاكِبًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إلَّا لِلْمُسَافِرِ وَيَنْزِلُ لِلْإِقَامَةِ، وَأَنْ لَا يَلْزَمَ الْفَصْلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشُّرُوعِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي أَثْنَاءِ الْأَذَانِ فَإِنْ تَكَلَّمَ اسْتَأْنَفَهُ، وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: إذَا سُلِّمَ عَلَى الْمُؤَذِّنِ أَوْ عَطَسَ فَحَمِدَ أَوْ سُلِّمَ عَلَى مُصَلٍّ أَوْ قَارِئِ أَوْ خَطِيبٍ فَفَرَغُوا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُهُمْ الرَّدُّ بَلْ يَرُدُّ فِي نَفْسِهِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَرُدُّ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ فِي نَفْسِهِ وَصَحَّحُوهُ، وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْمُتَغَوِّطَ لَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَهُ لِأَنَّ السَّلَامَ عَلَيْهِ حَرَامٌ، بِخِلَافِ مَنْ فِي الْحَمَّامِ إذَا كَانَ بِمِئْزَرٍ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَرُدُّ الْمُصَلِّي بَعْدَ الْفَرَاغِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ وَعَلَى هَذَا إذَا سُلِّمَ عَلَى الْمُتَغَوِّطِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: إذَا سُلِّمَ عَلَى الْقَاضِي وَالْمُدَرِّسِ قَالُوا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ اهـ. وَمِثْلُهُ ذُكِرَ فِي سَلَامِ الْمُكْدِي. هَذَا وَالسَّامِعُ لِلْآذَانِ يُجِيبُ فَيَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ إلَّا فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ فَيُحَوْقِلُ، وَعِنْدَ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ صَدَقْت وَبَرَرْت، أَمَّا الْإِجَابَةُ فَظَاهِرُ الْخُلَاصَةِ وَالْفَتَاوَى وَالتُّحْفَةِ وُجُوبُهَا. وَقَوْلُ الْحَلْوَانِيِّ الْإِجَابَةُ بِالْقَدَمِ فَلَوْ أَجَابَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَمْشِ لَا يَكُونُ مُجِيبًا، وَلَوْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَ بِاللِّسَانِ. حَاصِلُهُ: نَفْيُ وُجُوبِ الْإِجَابَةِ بِاللِّسَانِ، وَبِهِ صَرَّحَ جَمَاعَةٌ وَأَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ
قَالُوا إنْ قَالَ نَالَ الثَّوَابَ الْمَوْعُودَ وَإِلَّا لَمْ يَنَلْ، أَمَّا أَنَّهُ يَأْثَمُ أَوْ يُكْرَهُ فَلَا. وَفِي التَّجْنِيسِ لَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ عِنْدَ الْأَذَانِ بِالْإِجْمَاعِ اسْتِدْلَالًا بِاخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي كَرَاهِيَتِهِ عِنْدَ أَذَانِ الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا كَرِهَهُ لِأَنَّهُ يُلْحِقُ هَذِهِ الْحَالَةَ بِحَالَةِ الْخُطْبَةِ، وَكَانَ هَذَا اتِّفَاقًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ، كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِيمَا قَرَءُوا عَلَيْهِ اهـ. لَكِنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ» الْوُجُوبُ، إذْ لَا تَظْهَرُ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ عَنْهُ، بَلْ رُبَّمَا يَظْهَرُ اسْتِنْكَارُ تَرْكِهِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ عَدَمَ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ وَالتَّشَاغُلَ عَنْهُ. وَفِي التُّحْفَةِ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ وَلَا يَشْتَغِلَ بِشَيْءٍ حَالَ الْأَذَانِ أَوْ الْإِقَامَةِ. وَفِي النِّهَايَةِ: تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِجَابَةُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَرْبَعٌ مِنْ الْجَفَاءِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا: وَمَنْ سَمِعَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ وَلَمْ يُجِبْ» اهـ. وَهُوَ غَيْرُ صَرِيحٍ فِي إجَابَةِ اللِّسَانِ، إذْ يَجُوزُ كَوْنُ الْمُرَادِ الْإِجَابَةَ بِالْإِتْيَانِ إلَى الصَّلَاةِ، وَإِلَّا لَكَانَ جَوَابُ الْإِقَامَةِ وَاجِبًا، وَلَمْ نَعْلَمْ فِيهِ عَنْهُمْ إلَّا أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يَرُدُّ السَّلَامَ أَيْضًا. وَفِي التَّفَارِيقِ إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ أَكْثَرُ مِنْ مُؤَذِّنٍ أَذَّنُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَالْحُرْمَةُ لِلْأَوَّلِ. وَسُئِلَ ظَهِيرُ الدِّينِ عَمَّنْ سَمِعَ فِي وَقْتٍ مِنْ جِهَاتٍ مَاذَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: إجَابَةُ أَذَانِ مَسْجِدِهِ بِالْفِعْلِ، وَهَذَا لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ إذْ مَقْصُودُ السَّائِلِ أَيُّ مُؤَذِّنٍ يُجِيبُ بِاللِّسَانِ اسْتِحْبَابًا أَوْ وُجُوبًا، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي إجَابَةُ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كَانَ مُؤَذِّنَ مَسْجِدِهِ أَوْ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ حَيْثُ يَسْمَعُ الْأَذَانَ نُدِبَ لَهُ الْإِجَابَةُ أَوْ وَجَبَتْ
فَإِذَا فَرَضَ أَنَّ مَسْمُوعَهُ مِنْ غَيْرِ مَسْجِدِهِ تَحَقَّقَ فِي حَقِّهِ السَّبَبُ فَيَصِيرُ كَتَعَدُّدِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ، فَإِنْ سَمِعَهُمْ مَعًا أَجَابَ مُعْتَبِرًا كَوْنَ جَوَابِهِ لِمُؤَذِّنِ مَسْجِدِهِ حَتَّى لَوْ سَبَقَ مُؤَذِّنُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ سُبِقَ تَقَيَّدَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْمُؤَذِّنِينَ، وَلَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا الِاعْتِبَارَ جَازَ، وَإِنَّمَا فِيهِ مُخَالَفَةُ الْأَوْلَى. وَفِي الْعُيُونِ: قَارِئٌ سَمِعَ النِّدَاءَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُمْسِكَ وَيَسْمَعَ. الرُّسْتُغْفَنِيُّ يَمْضِي فِي قِرَاءَتِهِ إنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ فَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ أَذَانُ مَسْجِدِهِ. وَأَمَّا الْحَوْقَلَةُ عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ فَهُوَ وَإِنْ خَالَفَ ظَاهِرَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ» لَكِنَّهُ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مُفَسَّرٌ كَذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ فَقَالَ أَحَدُكُمْ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فَحَمَلُوا ذَلِكَ الْعَامَّ عَلَى مَا سِوَى هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَارٍ عَلَى قَاعِدَةٍ لِأَنَّ عِنْدَنَا الْمُخَصَّصُ الْأَوَّلُ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا لَا يُخَصَّصُ، بَلْ يُعَارَضُ فَيَجْرِي فِيهِ حُكْمُ الْمُعَارَضَةِ أَوْ يُقَدَّمُ الْعَامُّ، وَالْحَقُّ الْأَوَّلُ
وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْعَامُّ فِي مَوَاضِعَ لِاقْتِضَاءِ حُكْمِ الْمُعَارَضَةِ ذَاكَ فِي خُصُوصِ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ التَّخْصِيصُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بِأَنْ تَحَقَّقَ مُعَارِضًا لِلْعَامِّ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ: بِأَنْ يُوجِبَ نَفْيَ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِالْعَامِّ عَنْهَا فَيُخْرِجُهَا عَنْهُ، وَهُنَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ وَعْدِهِ عليه الصلاة والسلام لِمَنْ أَجَابَ كَذَلِكَ، وَقَالَ عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ الْحَوْقَلَةَ ثُمَّ هَلَّلَ فِي الْآخِرِ مِنْ قَلْبِهِ: بِدُخُولِ الْجَنَّةِ نَفَى أَنْ يُحِيلَ الْمُجِيبَ مُطْلَقًا لِيَكُونَ مُجِيبًا عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ، وَتَعْلِيلُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ إعَادَةَ الْمَدْعُوِّ دُعَاءَ الدَّاعِي يُشْبِهُ الِاسْتِهْزَاءَ كَمَا يُفْهَمُ فِي الشَّاهِدِ، بِخِلَافِ مَا سِوَى الْحَيْعَلَتَيْنِ فَإِنَّهُ ذِكْرٌ يُثَابُ عَلَيْهِ مَنْ قَالَهُ لَا يُتِمُّ إذْ لَا مَانِعَ مِنْ صِحَّةِ اعْتِبَارِ الْمُجِيبِ بِهِمَا دَاعِيًا لِنَفْسِهِ مُحَرِّكًا مِنْهَا السَّوَاكِنَ مُخَاطِبًا لَهَا، فَكَيْفَ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ طَلَبُهَا صَرِيحًا فِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَائِذٍ بْنِ سَلِيمِ بْنِ عَامِرٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «إذَا نَادَى الْمُنَادِي لِلصَّلَاةِ فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَاسْتُجِيبَ الدُّعَاءُ، فَمَنْ نَزَلَ بِهِ شِدَّةٌ أَوْ كَرْبٌ فَلْيَتَحَيَّنْ الْمُنَادِيَ
«لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَضَى الْفَجْرَ غَدَاةَ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ» ،
إذَا كَبَّرَ كَبَّرَ، وَإِذَا تَشَهَّدَ تَشَهَّدَ، وَإِذَا قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَإِذَا قَالَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَالَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الْحَقِّ الْمُسْتَجَابَةِ الْمُسْتَجَابِ لَهَا، دَعْوَةِ الْحَقِّ وَكَلِمَةِ التَّقْوَى، أَحْيِنَا عَلَيْهَا وَأَمِتْنَا عَلَيْهَا وَابْعَثْنَا عَلَيْهَا وَاجْعَلْنَا مِنْ خِيَارِ أَهْلِهَا مَحْيَانَا وَمَمَاتَنَا، ثُمَّ يَسْأَلُ اللَّهَ عز وجل حَاجَتَهُ» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى فَسَاقَهُ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الْهَيْثَمِ بْنِ خَارِجَةَ فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي يَعْلَى وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، لَكِنْ نَظَرَ فِيهِ بِضَعْفِ أَبِي عَائِذٍ عُفَيْرٍ، فَقَدْ يُقَالُ هُوَ حَسَنٌ، وَلَوْ ضَعُفَ فَالْمَقَامُ يَكْفِي فِيهِ مِثْلُهُ فَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ عُمُومَ الْأَوَّلِ مُعْتَبَرٌ
وَقَدْ رَأَيْنَا مِنْ مَشَايِخِ السُّلُوكِ مَنْ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَيَدْعُو نَفْسَهُ ثُمَّ يَتَبَرَّأُ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ لِيَعْمَلَ بِالْحَدِيثَيْنِ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ وَأَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنهما التَّنْصِيصُ عَلَى أَنْ لَا يَسْبِقَ الْمُؤَذِّنَ بَلْ يُعَقِّبَ كُلَّ جُمْلَةٍ مِنْهُ بِجُمْلَةٍ مِنْهُ وَلِيُتِمَّ هَذَا بِالدُّعَاءِ عَقِيبَ الْإِجَابَةِ. عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبِّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَزَادَ فِي آخِرِهِ «إنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ» وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الْمُؤَذِّنِينَ يَفْضُلُونَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قُلْ كَمَا يَقُولُونَ، فَإِذَا انْتَهَيْتَ فَسَلْ تُعْطَهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَالَ حِينَ يُنَادِي الْمُنَادِي: اللَّهُمَّ رَبِّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الْقَائِمَةِ وَالصَّلَاةِ النَّافِعَةِ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَارْضَ عَنِّي رِضًا لَا سَخَطَ بَعْدَهُ، اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ دَعْوَتَهُ» وَلَهُ فِي الْكَبِيرِ «وَمَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَبَلِّغْهُ دَرَجَةَ الْوَسِيلَةِ عِنْدَكَ وَاجْعَلْنَا فِي شَفَاعَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجَبَتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ» . وَالْحَدِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ وَالْقَصْدُ الْحَثُّ عَلَى الْخَيْرِ، رَزَقَنَا اللَّهُ تَقْوَاهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ
(قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إلَخْ) فِي مُسْلِمٍ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ التَّعْرِيسِ «ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ فَصَنَعَ كَمَا يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ» وَفِي أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِلَالًا بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ حِينَ نَامُوا عَنْ الصُّبْحِ وَصَلَّوْهَا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ» مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرِو
وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي اكْتِفَائِهِ بِالْإِقَامَةِ (فَإِنْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ أَذَّنَ لِلْأُولَى وَأَقَامَ) لَمَا رَوَيْنَا (وَكَانَ مُخَيَّرًا فِي الْبَاقِي، إنْ شَاءَ أَذَّنَ وَأَقَامَ) لِيَكُونَ الْقَضَاءُ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ (وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِقَامَةِ) لِأَنَّ الْأَذَانَ لِلِاسْتِحْضَارِ وَهُمْ حُضُورٌ. قَالَ رضي الله عنه: وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ يُقِيمُ لِمَا بَعْدَهَا وَلَا يُؤَذِّنُ، قَالُوا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا.
(وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ عَلَى طُهْرٍ، فَإِنْ أَذَّنَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ جَازَ) لِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَلَيْسَ بِصَلَاةٍ فَكَانَ الْوُضُوءُ فِيهِ اسْتِحْبَابًا كَمَا فِي الْقِرَاءَةِ
ابْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَذِي مُخَمَّرٍ الْحَبَشِيِّ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنهم وَغَيْرِهِمْ. وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ مُرْسَلًا، وَذَكَرَ فِيهِ الْأَذَانَ، وَمَرَاسِيلَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ مَرْفُوعَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَمَا فِي مُسْلِمٍ فِي الْقِصَّةِ «وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى بِهِمْ الصُّبْحَ» لَا يُنَافِي أَنَّهُ أَذَّنَ فَكَيْفَ وَقَدْ صَحَّ. وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِإِسْنَادِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ شَغَلَهُمْ الْكُفَّارُ: قَضَاهُنَّ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ: يَعْنِي الْأَرْبَعَ صَلَوَاتٍ (قَوْلُهُ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي اكْتِفَائِهِ بِالْإِقَامَةِ) فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَفِي الْآخَرِ لَا، وَلَا. ثُمَّ الْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنْ يُؤَذِّنَ لِكُلِّ فَرْضٍ أَدَّى أَوْ قَضَى إلَّا الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْمِصْرِ فَإِنَّ أَدَاءَهُ بِهِمَا مَكْرُوهٌ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَإِلَّا مَا تُؤَدِّيهِ النِّسَاءُ أَوْ تَقْضِيهِ بِجَمَاعَتِهِنَّ لِأَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَمَّتْهُنَّ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ حِينَ كَانَتْ جَمَاعَتُهُنَّ مَشْرُوعَةً وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُنْفَرِدَةَ أَيْضًا كَذَلِكَ، لِأَنَّ تَرْكَهُمَا لَمَّا كَانَ هُوَ السُّنَّةُ حَالَ شَرْعِيَّةِ الْجَمَاعَةِ كَانَ حَالُ الْإِفْرَادِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ) هُوَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ. وَجْهُهُ أَنَّهُمَا صَلَاتَانِ اجْتَمَعَتَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَيُؤَذَّنُ وَيُقَامُ لِلْأُولَى وَيُقَامُ لِلْبَاقِيَةِ كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ. وَلَهُمَا مَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ بِسَنَدِهِ، وَكَذَا مَنْ قَدَّمْنَا مَعَهُ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حِينَ شَغَلَهُمْ الْكُفَّارُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ عَنْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ قَضَاهُنَّ عَلَى الْوَلَاءِ، وَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ» ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ يُقِيمُهَا الْمُخَاطَبُ بِالْإِقَامَةِ بِالْجَمَاعَةِ فَيُقِيمُهَا كَالْجَمَاعَةِ، بِخِلَافِ النِّسَاءِ، وَصَلَاةُ عَرَفَةَ لَوْ كَانَ عَلَى الْقِيَاسِ لَمْ يُعَارِضْ النَّصَّ فَكَيْفَ وَهُمَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ؟ قَالَ الرَّازِيّ: يَجُوزُ كَوْنُ مَا قَالَ مُحَمَّدٌ قَوْلَهُمْ جَمِيعًا، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ
(وَيُكْرَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَصْلِ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالصَّلَاةِ، وَيُرْوَى أَنَّهُ لَا تُكْرَهُ الْإِقَامَةُ أَيْضًا لِأَنَّهَا أَحَدُ الْأَذَانَيْنِ، وَيُرْوَى أَنَّهُ يُكْرَهُ الْأَذَانُ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ دَاعِيًا إلَى مَا لَا يُجِيبُ بِنَفْسِهِ (وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ وَهُوَ جُنُبٌ) رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ لِلْأَذَانِ شَبَهًا بِالصَّلَاةِ فَتَشْتَرِطُ الطَّهَارَةُ عَنْ أَغْلَظِ الْحَدَثَيْنِ دُونَ أَخَفِّهِمَا عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إذَا أَذَّنَ وَأَقَامَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ لَا يُعِيدُ وَالْجُنُبُ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعِيدَ (وَلَوْ لَمْ يُعِدْ أَجْزَأَهُ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِخِفَّةِ الْحَدَثِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَفِي الْإِعَادَةِ بِسَبَبِ الْجَنَابَةِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُعَادَ الْأَذَانُ دُونَ الْإِقَامَةِ لِأَنَّ تَكْرَارَ الْأَذَانِ مَشْرُوعٌ دُونَ الْإِقَامَةِ.
وَقَوْلُهُ وَلَوْ لَمْ يُعِدْ أَجْزَأَهُ: يَعْنِي الصَّلَاةَ لِأَنَّهَا جَائِزَةٌ بِدُونِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ. قَالَ (وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تُؤَذِّنُ) مَعْنَاهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَادَ
مَحْمُولٌ عَلَى الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ فَلَا خِلَافَ. وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا خِلَافَ فِيهَا
(قَوْلُهُ وَوَجْهُ الْفَرْقِ) أَيْ مَا بَيْنَ الْأَذَانِ جُنُبًا وَمُحْدِثًا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمُحْدِثِ وَهِيَ رِوَايَةُ عَدَمِ الْكَرَاهَةِ (قَوْلُهُ أَنَّ لِلْأَذَانِ شَبَهًا بِالصَّلَاةِ) وَجْهُهُ تَعَلُّقُ أَجْزَائِهِمَا بِالْوَقْتِ وَاشْتِرَاكُهُمَا فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا كَذَا قِيلَ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يُعَادَ الْأَذَانُ إذَا لَمْ يُسْتَقْبَلْ بِهِ كَمَا يُعَادُ إذَا كَانَ قَبْلَ الْوَقْتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مَطْلُوبٌ فِيهِمَا وَإِنْ اخْتَلَفَتْ كَيْفِيَّةُ الطَّلَبِ (قَوْلُهُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) ذَكَرَهُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا لَيْسَ فِي الْقُدُورِيِّ مِنْ الْإِعَادَةِ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِيهِ لَا تَسْتَلْزِمُ الْإِعَادَةَ كَأَذَانِ الْقَاعِدِ وَالرَّاكِبِ فِي الْمِصْرِ يُكْرَهُ وَلَا إعَادَةَ، وَلْيُبْنَ عَلَيْهِ الْمُخْتَارُ مِنْ التَّفْصِيلِ فِي الْإِعَادَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إلَخْ) فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَذَانُ جَمَاعَةٍ وَيُعَادُ أَذَانُ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَالْمَرْأَةِ
لِيَقَعَ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ
(وَلَا يُؤَذِّنُ لِصَلَاةٍ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا وَيُعَادُ فِي الْوَقْتِ) لِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ وَقَبْلَ الْوَقْتِ تَجْهِيلٌ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله (يَجُوزُ لِلْفَجْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ اللَّيْلِ) لِتَوَارُثِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ. وَالْحُجَّةُ عَلَى الْكُلِّ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام لِبِلَالٍ رضي الله عنه «لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَكَ الْفَجْرُ هَكَذَا
وَالْجُنُبِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ لِعَدَمِ الِاعْتِمَادِ عَلَى أَذَانِ هَؤُلَاءِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِمْ، فَرُبَّمَا يَنْتَظِرُ النَّاسُ الْأَذَانَ الْمُعْتَبَرَ، وَالْحَالُ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فَيُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِ الصَّلَاةِ أَوْ الشَّكِّ فِي صِحَّةِ الْمُؤَدَّى أَوْ إيقَاعِهَا فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ، وَهَذَا لَا يَنْتَهِضُ فِي الْجُنُبِ، وَغَايَةُ مَا يُمْكِنُ أَنَّهُ يَلْزَمُ فِسْقُهُ، وَصَرَّحَ بِكَرَاهَةِ أَذَانِ الْفَاسِقِ وَلَا يُعَادُ فَالْإِعَادَةُ فِيهِ لِيَقَعَ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: خَمْسُ خِصَالٍ إذَا وُجِدَتْ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَجَبَ الِاسْتِقْبَالُ: إذَا غُشِّيَ عَلَى الْمُؤَذِّنِ فِي أَحَدِهِمَا، أَوْ مَاتَ، أَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ، أَوْ حَصِرَ فِيهِ وَلَا مُلَقِّنَ، أَوْ خَرِسَ يَجِبُ الِاسْتِقْبَالُ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: مَعْنَاهُ فَإِنْ حُمِلَ الْوُجُوبُ عَلَى ظَاهِرِهِ اُحْتِيجَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ نَفْسِ الْأَذَانِ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ وَاسْتِقْبَالُهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ وَتَحَقُّقِ الْعَجْزِ عَنْ إتْمَامِهِ. وَقَدْ يُقَالُ فِيهِ: إذَا شَرَعَ فِيهِ ثُمَّ قَطَعَ تَبَادَرَ إلَى ظَنِّ السَّامِعِينَ أَنَّ قَطْعَهُ لِلْخَطَإِ فَيَنْتَظِرُونَ الْأَذَانَ الْحَقَّ، وَقَدْ تَفُوتُ بِذَلِكَ الصَّلَاةُ فَوَجَبَ إزَالَةُ مَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ أَذَانٌ أَصْلًا حَيْثُ لَا يَنْتَظِرُونَ بَلْ يُرَاقِبُ كُلٌّ مِنْهُمْ وَقْتَ الصَّلَاةِ بِنَفْسِهِ أَوْ يُنَصِّبُونَ لَهُمْ مُرَاقِبًا إلَّا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْإِعَادَةِ فِيمَنْ ذَكَرْنَاهُمْ آنِفًا إلَّا الْجُنُبَ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ فِيهِمْ: إنْ عَلِمَ النَّاسُ حَالَهُمْ وَجَبَتْ وَإِلَّا اُسْتُحِبَّتْ لِيَقَعَ فِعْلُ الْأَذَانِ مُعْتَبَرًا وَعَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ لَمْ يَبْعُدْ، وَعَكْسُهُ فِي الْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْخُلَاصَةِ، وَأَذَانُ الْعَبْدِ وَالْأَعْمَى وَالْأَعْرَابِيِّ وَوَلَدِ الزِّنَا لَا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَغَيْرُهُمْ أَوْلَى مِنْهُمْ، وَإِذَا قَدَّمَ بَعْضَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ عَلَى بَعْضٍ كَشَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ بَعْدَهَا
(قَوْلُهُ وَلَا يُؤَذَّنُ لِصَلَاةٍ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا) وَيُكْرَهُ ذَلِكَ وَيُعَادُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إلَّا فِي الْفَجْرِ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُمْ جَمِيعُ اللَّيْلِ وَقْتٌ لِأَذَانِ الصُّبْحِ. لَهُمْ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ» (قَوْلُهُ وَالْحُجَّةُ عَلَى الْكُلِّ إلَخْ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ شَدَّادٍ مَوْلَى عِيَاضِ بْنِ عَامِرٍ عَنْ بِلَالٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ «لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَكَ الْفَجْرُ هَكَذَا، وَمَدَّ يَدَهُ عَرْضًا» وَلَمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُد، وَأَعَلَّهُ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ شَدَّادًا لَمْ يُدْرِكْ بِلَالًا فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَابْنُ الْقَطَّانِ بِأَنَّ شَدَّادًا مَجْهُولٌ أَيْضًا لَا يُعْرَفُ بِغَيْرِ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ عَنْهُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «يَا بِلَالُ لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ» قَالَ فِي الْإِمَامِ: رِجَالُ إسْنَادِهِ ثِقَاتٌ. وَرَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رُوَّادٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه «أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
وَمَدَّ يَدَهُ عَرْضًا».
(وَالْمُسَافِرُ يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِابْنَيْ أَبِي مُلَيْكَةَ رضي الله عنهما «إذَا سَافَرْتُمَا فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا»
قَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: اسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا وَسْنَانُ فَظَنَنْتُ أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُنَادِيَ عَلَى نَفْسِهِ: أَلَا إنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ» وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانُوا إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ قَالُوا لَهُ اتَّقِ اللَّهَ وَأَعِدْ أَذَانَك وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْعَادَةَ الْفَاشِيَةَ عِنْدَهُمْ إنْكَارُ الْأَذَانِ قَبْلَ الْوَقْتِ، فَثَبَتَ أَنَّ أَذَانَهُ قَبْلَ الْفَجْرِ قَدْ وَقَعَ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم غَضِبَ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِالنِّدَاءِ عَلَى نَفْسِهِ وَنَهَاهُ عَنْ مِثْلِهِ، فَيَجِبُ حَمْلُ مَا رَوَوْهُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ النِّدَاءِ عَلَيْهِ: يَعْنِي لَا تَعْتَمِدُوا عَلَى أَذَانِهِ فَإِنَّهُ يُخْطِئُ فَيُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ تَحْرِيضًا لَهُ عَلَى الِاحْتِرَاسِ عَنْ مِثْلِهِ، وَإِمَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَذَانِ التَّسْحِيرُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا كَانَ فِي رَمَضَانَ كَمَا قَالَهُ فِي الْإِمَامِ فَلِذَا قَالَ «فَكُلُوا وَاشْرَبُوا» أَوْ التَّذْكِيرُ الَّذِي يُسَمَّى فِي هَذَا الزَّمَانِ بِالتَّسْبِيحِ لِيُوقِظَ النَّائِمَ وَيُرَجِّعَ الْقَائِمُ، كَمَا قِيلَ: إنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا حِزْبَيْنِ: حِزْبًا يَجْتَهِدُونَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ، وَحِزْبًا فِي الْأَخِيرِ، وَكَانَ الْفَاصِلُ عِنْدَهُمْ أَذَانُ بِلَالٍ رضي الله عنه، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ لِيُوقِظَ نَائِمَكُمْ وَيَرْقُدَ قَائِمُكُمْ» وَقَدْ رَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ
(قَوْلُهُ لِابْنَيْ أَبِي مُلَيْكَةَ) الصَّوَابُ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ وَابْنُ عَمٍّ لَهُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنَّفُ فِي الصَّرْفِ عَلَى الصَّوَابِ كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَبْسُوطِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي الْجَامِعِ وَالْمَحْبُوبِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ «مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَصَاحِبٌ لِي، فَلَمَّا أَرَدْنَا الِانْتِقَالَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لَنَا: إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا» وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ «أَنَا وَابْنُ عَمٍّ لِي» فَهِيَ مُفَسِّرَةٌ لِلْمُرَادِ بِالصَّاحِبِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا الْخِطَابُ لَهُمَا وَلَا حَاجَةَ لَهُمَا مُتَرَافِقَيْنِ إلَى اسْتِحْضَارِ أَحَدٍ عُلِمَ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ أَيْضًا يُسَنُّ لَهُ ذَلِكَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي خُصُوصِ الْمُنْفَرِدِ أَحَادِيثُ فِي أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ «يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأْسِ شَظِيَّةٍ يُؤَذِّنُ بِالصَّلَاةِ وَيُصَلِّي فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: اُنْظُرُوا إلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ لِلصَّلَاةِ يَخَافُ مِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ» وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا كَانَ الرَّجُلُ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَحَانَتْ الصَّلَاةُ فَلْيَتَوَضَّأْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً فَلْيَتَيَمَّمْ، فَإِنْ أَقَامَ صَلَّى مَعَهُ مَلَكَانِ، وَإِنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ صَلَّى خَلْفَهُ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ مَا لَا يَرَى طَرْفَاهُ» رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. وَبِهَذَا وَنَحْوِهِ عُرِفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَذَانِ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي الْإِعْلَامِ بَلْ كُلٌّ مِنْهُ وَمِنْ الْإِعْلَانِ بِهَذَا الذِّكْرِ نَشْرٌ لِذَكَرِ اللَّهِ وَدِينِهِ فِي أَرْضِهِ وَتَذْكِيرٌ لِعِبَادِهِ
(فَإِنْ تَرَكَهُمَا جَمِيعًا يُكْرَهُ) وَلَوْ اكْتَفَى بِالْإِقَامَةِ جَازَ لِأَنَّ الْأَذَانَ لِاسْتِحْضَارِ الْغَائِبِينَ وَالرُّفْقَةُ حَاضِرُونَ وَالْإِقَامَةُ لِإِعْلَامِ الِافْتِتَاحِ وَهُمْ إلَيْهِ مُحْتَاجُونَ (فَإِنْ صَلَّى فِي بَيْتِهِ فِي الْمِصْرِ يُصَلِّي بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ) لِيَكُونَ الْأَدَاءُ عَلَى هَيْئَةِ الْجَمَاعَةِ (وَإِنْ تَرَكَهُمَا جَازَ) لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: أَذَانُ الْحَيِّ يَكْفِينَا.
مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ الَّذِينَ لَا يُرَى شَخْصُهُمْ فِي الْفَلَوَاتِ مِنْ الْعِبَادِ (قَوْلُهُ فَإِنْ تَرَكَهُمَا يُكْرَهُ) لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأَمْرِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ لَا يُسْقِطُ الْجَمَاعَةَ فَلَا يُسْقِطُ لَوَازِمَهَا الشَّرْعِيَّةَ: أَعْنِي دُعَاءَهُمْ، فَالتَّرْكُ لِلْكُلِّ حِينَئِذٍ تَرْكٌ لِلْجَمَاعَةِ صُورَةً وَتَشَبُّهًا إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا، أَوْ تَرْكٌ لِمَجْمُوعِ لَوَازِمِهَا إنْ كَانَتْ بِجَمَاعَةٍ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، بِخِلَافِ تَارِكِهِمَا فِي بَيْتِهِ فِي الْمِصْرِ حَيْثُ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ أَذَانَ الْمَحَلَّةِ وَإِقَامَتَهَا كَأَذَانِهِ وَإِقَامَتِهِ، لِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ نَائِبُ أَهْلِ الْمِصْرِ كُلِّهِمْ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ حِينَ صَلَّى بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ حَيْثُ قَالَ أَذَانُ الْحَيِّ يَكْفِينَا، وَمِمَّنْ رَوَاهُ سِبْطُ بْنُ الْجَوْزِيِّ (قَوْلُهُ وَلَوْ اكْتَفَى بِالْإِقَامَةِ جَازَ) لِمَا ثَبَتَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ سُقُوطِ الْأَذَانِ دُونَ الْإِقَامَةِ كَمَا بَعْدَ أُولَى الْفَوَائِتِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ وَثَانِيَةِ الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ، صَرَّحَ ظَهِيرُ الدِّينِ فِي الْحَوَاشِي بِأَنَّ الْإِقَامَةَ آكَدُ مِنْ الْأَذَانِ نَقْلًا مِنْ الْمَبْسُوطِ (قَوْلُهُ وَإِنْ تَرَكَهُمَا جَازَ) مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَرْكِ الْمُسَافِرِ لَهُمَا. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْمٍ صَلَّوْا فِي الْمِصْرِ فِي مَنْزِلٍ وَاكْتَفَوْا بِأَذَانِ النَّاسِ أَجْزَأَهُمْ وَقَدْ أَسَاءُوا فَفَرَّقَ بَيْنَ الْفَذِّ وَالْجَمَاعَةِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. [فَرْعٌ]
الْإِمَامَةُ أَفْضَلُ مِنْ الْأَذَانِ لِمُوَاظَبَتِهِ عليه الصلاة والسلام عَلَيْهَا، وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ، وَقَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه: لَوْلَا الْخَلِيفِيُّ لَأَذَّنْتُ لَا يَسْتَلْزِمُ تَفْضِيلَهُ عَلَيْهَا، بَلْ مُرَادُهُ لَأَذَّنْتُ مَعَ الْإِمَامَةِ لَا مَعَ تَرْكِهَا فَيُفِيدُ أَنَّ الْأَفْضَلَ كَوْنُ الْإِمَامِ هُوَ الْمُؤَذِّنُ، وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَعَلَيْهِ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ أَخْبَارِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمَسْئُولُ فِي إتْمَامِ السُّؤَالِ.
(بَابُ شُرُوطِ الصَّلَاةِ الَّتِي تَتَقَدَّمُهَا)
هَذَا لِبَيَانِ الْوَاقِعِ، وَقِيلَ لِإِخْرَاجِ الشَّرْطِ الْعَقْلِيِّ كَالْحَيَاةِ لِلْأَلَمِ وَالْجَعْلِيِّ كَدُخُولِ الدَّارِ لِلطَّلَاقِ، وَقِيلَ لِإِخْرَاجِ
بَابُ شُرُوطِ الصَّلَاةِ الَّتِي تَتَقَدَّمُهَا (يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي أَنْ يُقَدِّمَ الطَّهَارَةَ مِنْ الْأَحْدَاثِ وَالْأَنْجَاسِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}
(وَيَسْتُرُ عَوْرَتَهُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}
مَا لَا يَتَقَدَّمُهَا كَالْقَعْدَةِ شَرْطِ الْخُرُوجِ، وَتَرْتِيبُ مَا لَمْ يُشْرَعْ مُكَرَّرًا شَرْطُ الْبَقَاءِ عَلَى الصِّحَّةِ. وَيُرَدُّ عَلَى الثَّانِي أَنَّ الشَّرْطَ عَقْلِيًّا أَوْ غَيْرَهُ مُتَقَدِّمٌ فَلَا يَخْرُجُ قَيْدُ التَّقَدُّمِ الْعَقْلِيِّ وَالْجَعْلِيِّ لِلْقَطْعِ بِتَقَدُّمِ الْحَيَاةِ وَدُخُولِ الدَّارِ عَلَى الْأَلَمِ مَثَلًا وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ.
لَا يُقَالُ: بَلْ الْجَعْلِيُّ سَبَبٌ لِوُقُوعِ الْمُعَلَّقِ إذْ الشَّرْطُ لَا يُؤَثِّرُ إلَّا فِي الْعَكْسِ، فَالشَّرْطُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ لَهُ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّهُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ شَرْطٌ لُغَةً لِأَنَّا نَمْنَعُهُ، بَلْ السَّبَبُ وَهُوَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ تَأَخَّرَ عَمَلُهُ إلَى وُجُودِ الشَّرْطِ الْجَعْلِيِّ فَصَدَقَ أَنَّهُ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ الَّتِي تَتَقَدَّمُهَا تَقْيِيدٌ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ لَا مُطْلَقِ الشُّرُوطِ، وَلَيْسَ لِلصَّلَاةِ شَرْطٌ جَعْلِيٌّ، وَيَبْعُدُ الِاحْتِرَازُ عَنْ شَرْطِهَا الْعَقْلِيِّ مِنْ الْحَيَاةِ وَنَحْوِهِ إذْ الْكِتَابُ مَوْضُوعٌ لِبَيَانِ الْعَمَلِيَّاتِ فَلَا يَخْطُرُ غَيْرَهَا.
وَشَرْطُ الْخُرُوجِ وَالْبَقَاءِ عَلَى الصِّحَّةِ لَيْسَا شَرْطَيْنِ لِلصَّلَاةِ بَلْ لِأَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ الْخُرُوجُ وَالْبَقَاءُ، وَإِنَّمَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ: شَرْطُ الصَّلَاةِ نَوْعًا مِنْ التَّجَوُّزِ إطْلَاقًا لِاسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ وَعَلَى الْوَصْفِ الْمُجَاوِرِ (قَوْلُهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ) فِي صَدْرِ الْكِتَابِ وَبَابِ الْأَنْجَاسِ.
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {خُذُوا زِينَتَكُمْ} نَزَلَتْ فِي الطَّوَافِ تَحْرِيمًا لِطَوَافِ الْعُرْيَانِ، وَالْعِبْرَةُ وَإِنْ كَانَتْ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ فِي السَّبَبِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِهِ قَطْعًا، ثُمَّ فِي غَيْرِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَالثَّابِتُ عِنْدَنَا فِي السِّتْرِ فِي الطَّوَافِ الْوُجُوبُ، حَتَّى لَوْ طَافَ عُرْيَانًا أَثِمَ وَحُكِمَ بِسُقُوطِهِ، وَفِي الصَّلَاةِ الِافْتِرَاضُ حَتَّى لَا تَصِحُّ دُونَهُ، وَمَا قِيلَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ بِسُقُوطِ الِافْتِرَاضِ فِي الطَّوَافِ وَهُوَ الْإِجْمَاعُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ مُنْتَفٍ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الِافْتِرَاضِ فِيهَا فَمَمْنُوعٌ ثُبُوتُ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ سَلَّمَ لَا يُدْفَعُ السُّؤَالُ وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ تَنَاوَلَ السَّبَبَ عَلَى وَجْهٍ دُونَهُ فِي غَيْرِهِ، ثُمَّ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ مَعًا لِأَنَّهُ إنْ كَانَ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ فَمُوجِبُهُ الِافْتِرَاضُ لَيْسَ غَيْرُ.
وَإِنْ كَانَ ظَنِّيَّهَا
أَيْ مَا يُوَارِي عَوْرَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا صَلَاةَ لِحَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» أَيْ لِبَالِغَةٍ (وَعَوْرَةُ الرَّجُلِ مَا تَحْتَ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «عَوْرَةُ الرَّجُلِ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ» وَيُرْوَى «مَا دُونَ سُرَّتِهِ حَتَّى تُجَاوِزَ رُكْبَتَهُ» وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ السُّرَّةَ لَيْسَتْ مِنْ الْعَوْرَةِ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله (وَالرُّكْبَةُ مِنْ الْعَوْرَةِ) خِلَافًا لَهُ أَيْضًا، وَكَلِمَةُ إلَى تَحْمِلُهَا عَلَى كَلِمَةِ مَعَ عَمَلًا بِكَلِمَةِ حَتَّى أَوْ عَمَلًا بِقَوْلِهِ
فَالْوُجُوبُ لَيْسَ غَيْرُ، وَهُمَا حَقِيقَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ لِأَنَّ عَدَمَ الْإِكْفَارِ بِالْجَحْدِ مَأْخُوذٌ فِي مَفْهُومِ الْوُجُوبِ وَنَقِيضُهُ فِي مَفْهُومِ الْفَرْضِ، أَوْ هُمَا فَرْدَا مَفْهُومٍ وَاحِدٍ هُوَ مَفْهُومُهُ وَهُوَ الطَّلَبُ الْجَازِمُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْقُوَّةِ أَوَّلًا، وَالْمُشَكِّكُ الْأَعَمُّ لَا يَعْرِفُ اسْتِعْمَالَهُ فِي فَرْدَيْنِ مِنْ مَفْهُومِهِ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ يَدْفَعُ بِاخْتِيَارِ الثَّانِي وَكَوْنُهُ بِحَيْثُ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ مُقْتَضَاهُ إنَّمَا هُوَ أَثَرُ قُوَّةِ ثُبُوتِهِ قَطْعًا عَنْ اللَّهِ وَقَطْعِيَّةُ دَلَالَتِهِ عَلَى مَفْهُومِهِ لَا مِنْ نَفْسِ مَفْهُومِهِ، فَتَأَمَّلْ هَذَا يَظْهَرْ لَك عِنْدَهُ أَنَّ نَفْسَ حَقِيقَةِ الْوُجُوبِ وَالْفَرْضِ لَيْسَ تَمَامُهُمَا مَفْهُومَ لَفْظِ الْأَمْرِ بَلْ جُزْأَهُمَا وَهُوَ الطَّلَبُ الْجَازِمُ وَالْجُزْءُ الْآخَرُ: أَعْنِي كَوْنَهُ بِحَيْثُ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ أَوْ لِأَثَرِ كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَدَلَالَتِهِ.
وَصَحَّ إضَافَةُ تَمَامِهَا إلَى الْأَمْرِ بِأَنْ يُقَالَ: يُفِيدُ الْوُجُوبُ الِافْتِرَاضَ إذْ لَا شَكَّ فِي اسْتِفَادَةِ ثُبُوتِ تَمَامِ الْحَقِيقَةِ مَعَهُ وَبِسَبَبِهِ، لَا أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهَا بِتَمَامِهَا مَدْلُولُ لَفْظِهِ فَتَأَمَّلْ، وَحِينَئِذٍ فَالْإِلْزَامُ الَّذِي يَتِمُّ هُوَ الْأَوَّلُ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
وَحَاصِلُهُ لُزُومُ افْتِرَاضِ السِّتْرِ فِي الطَّوَافِ بِالْآيَةِ وَأَنْتُمْ تَنْفُونَهُ أَوْ الْوُجُوبُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ تَفْرِضُونَهُ، وَالْحَقُّ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ ظَنِّيَّةُ الدَّلَالَةِ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ فَمُقْتَضَاهَا الْوُجُوبُ فِي الصَّلَاةِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ مِنْهَا قَطْعِيَّةَ الثُّبُوتِ وَمِنْ حَدِيثِ «لَا صَلَاةَ لِحَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» قَطْعِيَّةُ الدَّلَالَةِ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ فَيَثْبُتُ الْفَرْضُ بِالْمَجْمُوعِ، وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى بَعْدَ تَسْلِيمِ قَطْعِيَّةِ الدَّلَالَةِ فِي الْحَدِيثِ وَإِلَّا فَهُوَ قَدْ اعْتَرَفَ فِي نَظِيرِهِ مِنْ نَحْوِ «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ» وَ «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ» أَنَّهُ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ، وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ احْتِمَالَ نَفْيِ الْكَمَالِ قَائِمٌ وَالْأَوْجَهُ الِاسْتِدْلَال بِالْإِجْمَاعِ عَلَى الِافْتِرَاضِ فِي الصَّلَاةِ كَمَا نَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْلِ إلَى أَنْ حَدَّثَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَخَالَفَ فِيهِ كَالْقَاضِي إسْمَاعِيلَ وَهُوَ لَا يَجُوزُ بَعْدَ تَقَرُّرِ الْإِجْمَاعِ.
وَالْحَدِيثُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَرْفَعُهُ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «عَوْرَةُ الرَّجُلِ») رَوَى
عليه الصلاة والسلام «الرُّكْبَةُ مِنْ الْعَوْرَةِ» .
(وَبَدَنُ الْحُرَّةِ كُلِّهَا عَوْرَةٌ إلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ مَسْتُورَةٌ»
الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام يَقُولُ «مَا فَوْقَ الرُّكْبَتَيْنِ مِنْ الْعَوْرَةِ، وَمَا أَسْفَلَ مِنْ السُّرَّةِ مِنْ الْعَوْرَةِ» وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «فَإِنَّ مَا تَحْتَ السُّرَّةِ إلَى رُكْبَتِهِ مِنْ الْعَوْرَةِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ، وَفِيهِ سَوَّارُ بْنُ دَاوُد لَيَّنَهُ الْعُقَيْلِيُّ لَكِنْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ.
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الرُّكْبَةُ مِنْ الْعَوْرَةِ» وَعُقْبَةُ هَذَا هُوَ الْيَشْكُرِيُّ ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَحَدِيثُ «حَتَّى يُجَاوِزَ رُكْبَتَهُ» لَمْ يُعْرَفْ، وَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ تَرْتِيبُ الْبَحْثِ الْمَذْكُورِ: أَعْنِي قَوْلَهُ وَكَلِمَةُ إلَخْ لِأَنَّ تَمَامَهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى كَوْنِ حَدِيثِ الرُّكْبَةِ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ.
وَلَهُ طَرِيقَانِ مَعْنَوِيَّانِ: وَهُمَا أَنَّ الْغَايَةَ قَدْ تَدْخُلُ وَقَدْ تَخْرُجُ وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الِاحْتِيَاطِ فَحَكَمْنَا بِدُخُولِهَا احْتِيَاطًا وَإِنَّ الرُّكْبَةَ مُلْتَقَى عَظْمِ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا فَاجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَلَا مُمَيَّزَ، وَهَذَا فِي التَّحْقِيقِ وَجْهُ كَوْنِ الْمَوْضِعِ مَوْضِعَ الِاحْتِيَاطِ
(قَوْلُهُ كُلُّهَا) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كُلُّهُ وَهُمَا تَأْكِيدَانِ لِلْبَدَنِ، وَلَمَّا أُضِيفَ إلَى الْمُؤَنَّثِ جَازَ اكْتِسَابُهُ التَّأْنِيثَ وَهُوَ عَلَى الْوَجْهِ الْقِيَاسِيِّ فِي ذَلِكَ أَعْنِي صِحَّةَ حَذْفِ الْمُضَافِ وَنِسْبَةَ الْحُكْمِ إلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ إلَّا كَذَا كَمَا يَصِحُّ بَدَنُ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ إلَّا كَذَا.
وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ: الصَّغِيرَةُ جِدًّا لَيْسَتْ عَوْرَةً حَتَّى يُبَاحَ النَّظَرُ وَالْمَسُّ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ مَسْتُورَةٌ») أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ
وَاسْتِثْنَاءُ الْعُضْوَيْنِ لِلِابْتِدَاءِ بِإِبْدَائِهِمَا. قَالَ رضي الله عنه: وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْقَدَمَ عَوْرَةٌ. وَيُرْوَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ (فَإِنْ صَلَّتْ وَرُبْعُ سَاقِهَا أَوْ ثُلُثُهُ مَكْشُوفٌ
فِي الرَّضَاعِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ، فَإِذَا خَرَجَتْ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ» وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَلَمْ يُعْرَفْ فِيهِ لَفْظُ مَسْتُورَةٍ (قَوْلُهُ تَنْصِيصٌ، إلَى قَوْلِهِ: وَهُوَ الْأَصَحُّ) لَا شَكَّ أَنَّ ثُبُوتَ الْعَوْرَةِ إنْ كَانَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ» مَعَ ثُبُوتِ مَخْرَجِ بَعْضِهَا وَهُوَ الِامْتِلَاءُ بِالِابْتِدَاءِ فَمُقْتَضَاهُ إخْرَاجُ الْقَدَمَيْنِ لِتَحَقُّقِ الِابْتِلَاءِ، وَإِنْ كَانَ قَوْله تَعَالَى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الْآيَةُ، فَالْقَدَمُ لَيْسَ مَوْضِعَ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ عَادَةً، وَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} يَعْنِي قَرْعَ الْخَلْخَالِ، فَأَفَادَ أَنَّهُ مِنْ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِيهِ مُرْسَلًا عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الْجَارِيَةَ إذَا حَاضَتْ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إلَّا وَجْهُهَا وَيَدُهَا إلَى الْمِفْصَلِ» ثُمَّ كَمَا هُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، كَذَلِكَ هُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ ظَهْرَ الْكَفِّ عَوْرَةٌ بِنَاءً عَلَى دَفْعِ مَا قِيلَ إنَّ الْكَفَّ يَتَنَاوَلُ ظَاهِرَهُ، لَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّ الْمُتَبَادَرَ عَدَمُ دُخُولِ الظَّهْرِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ قَوْلَ الْقَائِلِ الْكَفُّ يَتَنَاوَلُ ظَاهِرَهُ أَغْنَاهُ عَنْ تَوْجِيهِ الدَّفْعِ إذْ إضَافَةُ الظَّاهِرِ إلَى مُسَمَّى الْكَفِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِيهِ، وَفِي مُخْتَلِفَاتِ قَاضِي خَانْ: ظَاهِرُ الْكَفِّ وَبَاطِنُهُ لَيْسَا عَوْرَتَيْنِ إلَى الرُّسْغِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ظَاهِرُهُ عَوْرَةٌ، وَتَنْصِيصٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الذِّرَاعَ عَوْرَةٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ فِي الذِّرَاعِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَوْرَةٌ، وَفِي الِاخْتِيَارِ لَوْ انْكَشَفَ ذِرَاعُهَا جَازَتْ صَلَاتُهَا لِأَنَّهَا مِنْ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَهُوَ السِّوَارُ وَتَحْتَاجُ إلَى كَشْفِهِ لِلْخِدْمَةِ وَسَتْرُهُ أَفْضَلُ.
وَصَحَّحَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عَوْرَةٌ فِي الصَّلَاةِ لَا خَارِجِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ كَوْنِهِ لَيْسَ عَوْرَةً
تُعِيدُ الصَّلَاةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ الرُّبْعِ لَا تُعِيدُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: لَا تُعِيدُ إنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ) لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُوصَفُ بِالْكَثْرَةِ إذَا كَانَ مَا يُقَابِلُهُ أَقَلَّ مِنْهُ إذْ هُمَا مِنْ أَسْمَاءِ الْمُقَابَلَةِ (وَفِي النِّصْفِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ) فَاعْتَبَرَ الْخُرُوجَ عَنْ حَدِّ الْقِبْلَةِ أَوْ عَدَمَ الدُّخُولِ فِي ضِدِّهِ وَلَهُمَا أَنَّ الرُّبْعَ يَحْكِي حِكَايَةَ الْكَمَالِ كَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ وَالْحَلْقِ فِي الْإِحْرَامِ، وَمَنْ رَأَى وَجْهَ غَيْرِهِ يُخْبِرُ عَنْ رُؤْيَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَرَ إلَّا أَحَدَ جَوَانِبِهِ الْأَرْبَعَةِ.
وَجَوَازِ النَّظَرِ إلَيْهِ، فَحِلُّ النَّظَرِ مَنُوطٌ بِعَدَمِ خَشْيَةِ الشُّهْرَةِ مَعَ انْتِفَاءِ الْعَوْرَةِ وَلِذَا حَرُمَ النَّظَرُ إلَى وَجْهِهَا وَوَجْهِ الْأَمْرَدِ إذَا شَكَّ فِي الشَّهْوَةِ وَلَا عَوْرَةَ.
وَفِي كَوْنِ الْمُسْتَرْسِلِ مِنْ شَعْرِهَا عَوْرَةٌ رِوَايَتَانِ. وَفِي الْمُحِيطِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ عَوْرَةٌ وَإِلَّا جَازَ النَّظَرُ إلَى صُدْغِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَطَرَفِ نَاصِيَتِهَا وَهُوَ يُؤَدِّي إلَى الْفِتْنَةِ وَأَنْتَ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا كَمَا أَرَيْتُك فِي الْمِثَالِ. [فَرْعٌ]
صَرَّحَ فِي النَّوَازِلِ بِأَنَّ نَغْمَةَ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ، وَبَنَى عَلَيْهِ أَنَّ تَعَلُّمَهَا الْقُرْآنَ مِنْ الْمَرْأَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْأَعْمَى، قَالَ: لِأَنَّ نَغْمَتَهَا عَوْرَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ عليه الصلاة والسلام «التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ» فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَسْمَعَهَا الرَّجُلُ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ قِيلَ إذَا جَهَرَتْ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ كَانَ مُتَّجِهًا، وَلِذَا مَنَعَهَا عليه الصلاة والسلام مِنْ التَّسْبِيحِ بِالصَّوْتِ لِإِعْلَامِ الْإِمَامِ لِسَهْوِهِ إلَى التَّصْفِيقِ (قَوْلُهُ تُعِيدُ الصَّلَاةَ) يَعْنِي إذَا اسْتَمَرَّ زَمَانًا كَثِيرًا إلَّا إذَا كَانَ قَلِيلًا وَقَدْرُ الْكَثِيرِ مَا يُؤَدَّى فِيهِ رُكْنٌ، وَالْقَلِيلُ دُونَهُ فَلَوْ انْكَشَفَتْ فَغَطَّاهَا فِي الْحَالِ لَا تَفْسُدُ، فَالْحَاصِلُ
(وَالشَّعْرُ وَالْبَطْنُ وَالْفَخِذُ كَذَلِكَ) يَعْنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ عُضْوٌ عَلَى حِدَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّازِلُ مِنْ الرَّأْسِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنَّمَا وَضَعَ غَسْلَهُ فِي الْجَنَابَةِ لِمَكَانِ الْحَرَجِ وَالْعَوْرَةُ الْغَلِيظَةُ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَالذَّكَرُ
أَنَّ الِانْكِشَافَ الْكَثِيرَ فِي الزَّمَنِ الْقَلِيلِ لَا يُفْسِدُ، وَالِانْكِشَافَ الْقَلِيلَ فِي الزَّمَنِ الْكَثِيرِ أَيْضًا لَا يُفْسِدُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقَلِيلَ عَفْوٌ لِاعْتِبَارِهِ عَدَمًا بِاسْتِقْرَاءِ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ، وَقُدِّرَ بِالرُّبْعِ لِأَنَّهُ يَحْكِي حِكَايَةَ الْكَمَالِ بِالدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ رَأَى أَحَدَ جَوَانِبِ وَجْهِ إنْسَانٍ صَحَّ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّهُ رَأَى وَجْهَهُ، وَهَذَا يَدْفَعُ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله: إنَّ الْكَثْرَةَ يُقَابِلُهَا الْقِلَّةُ حَتَّى أَجَازَ صَلَاتَهُ مَعَ انْكِشَافِ أَقَلِّ مِنْ النِّصْفِ لِأَنَّ ذَلِكَ إذَا اُعْتُبِرَ بِالنِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ إلَى مُقَابِلِهِ، وَلَيْسَ هَذَا الِاعْتِبَارُ لَازِمًا بَلْ كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ فِي نَفْسِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} .
وَإِذَا صَحَّ الِاعْتِبَارَانِ كَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الثَّانِي هُنَا، وَعَلَى اعْتِبَارِهِ تَثْبُتُ الْكَثْرَةُ بِالرُّبْعِ لِمَا ذَكَرْنَا فَتُمْنَعُ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ كَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ وَالْحَلْقِ فِي الْإِحْرَامِ يُفِيدُ أَنَّهُ مِمَّا حَكَى فِيهِ الرُّبْعُ حِكَايَةَ الْكُلِّ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنَّ النَّصَّ فِيهِمَا يُفِيدُ تَعْمِيمَهَا بِالْفِعْلِ، وَاكْتَفَى بِالرُّبْعِ لِحِكَايَتِهِ إيَّاهُ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ الْمُفَادُ بِالنَّصِّ هُوَ الرُّبْعُ ابْتِدَاءً فَمِنْ أَيْنَ كَوْنُ ذَلِكَ الرُّبْعِ طَلَبًا لِحِكَايَتِهِ، حَكَاهُ الْكَمَالُ.
لَا يُقَالُ: لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي بَاقِي الْأَعْضَاءِ اسْتِيعَابُهَا فَالظَّاهِرُ فِي الرَّأْسِ مِثْلُهُ لِأَنَّ الْمُلَازَمَةَ مَمْنُوعَةٌ أَوَّلًا. وَكَوْنُهُ فِي بَاقِي الْأَعْضَاءِ كَذَلِكَ مَمْنُوعٌ ثَانِيًا فَإِنَّ الْيَدَ اسْمٌ إلَى الْإِبْطِ بِاعْتِرَافِهِمْ وَلَمْ يَجِبْ اسْتِيعَابُهَا. ثُمَّ سَوَّى فِي الْكِتَابِ بَيْنَ الْغَلِيظَةِ وَالْخَفِيفَةِ فِي اعْتِبَارِ الرُّبْعِ. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: يُعْتَبَرُ فِي الْغَلِيظِ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ.
وَفِي الْخَفِيفَةِ الرُّبْعُ اعْتِبَارًا بِالنَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ وَالْخَفِيفَةِ، وَغَلِطَ بِأَنَّهُ تَغْلِيظٌ يُؤَدِّي إلَى التَّخْفِيفِ أَوْ الْإِسْقَاطِ، لِأَنَّ مِنْ الْغَلِيظَةِ مَا لَيْسَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ فَيُؤَدِّي إلَى أَنَّ كَشْفَ جَمِيعِهَا أَوْ أَكْثَرِهَا لَا يَمْنَعُ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ قِيلَ إنَّ الْغَلِيظَ الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ مَعَ مَا حَوْلَهُمَا فَيَجُوزُ كَوْنُهُ اعْتَبَرَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَ.
(قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ إنَّهُ مَا فَوْقَ الرَّأْسِ (قَوْلُهُ لِمَكَانِ الْحَرَجِ) أَيْ لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْبَدَنِ أَوْ لَيْسَ مِمَّا
يُعْتَبَرُ بِانْفِرَادِهِ وَكَذَا الْأُنْثَيَانِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ دُونَ الضَّمِّ.
(وَمَا كَانَ عَوْرَةً مِنْ الرَّجُلِ فَهُوَ عَوْرَةٌ مِنْ الْأَمَةِ، وَبَطْنُهَا وَظَهْرُهَا عَوْرَةٌ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ بَدَنِهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ) لِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه: أَلْقِي عَنْك الْخِمَارَ يَا دَفَارُ أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ،
تَنَاوَلَهُ حُكْمُ الْبَدَنِ (قَوْلُهُ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ) لَا مَا قِيلَ: الْمَجْمُوعُ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِيلَادُ.
وَاخْتُلِفَ فِي الدُّبْرِ هَلْ هُوَ مَعَ الْأَلْيَتَيْنِ أَوْ كُلُّ أَلْيَةٍ عَوْرَةٌ وَالدُّبُرُ ثَالِثُهُمَا، وَالصَّحِيحُ الثَّانِي، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الرُّكْبَةَ تَبَعٌ لِلْفَخِذِ لِأَنَّهَا مُلْتَقَى الْعَظْمَاتِ لَا عُضْوٌ مُسْتَقِلٌّ، وَكَعْبُ الْمَرْأَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ كَذَا فِي الْفَتَاوَى، وَثَدْيُهَا إنْ كَانَ نَاهِدًا تَبَعٌ لِصَدْرِهَا، وَإِنْ كَانَ مُنْكَسِرًا فَأَصْلٌ بِنَفْسِهِ، وَأُذُنُهَا عَوْرَةٌ بِانْفِرَادِهَا، وَيَجْمَعُ الْمُتَفَرِّقَ مِنْ الْعَوْرَةِ.
وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ: يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَبِرَ بِالْأَجْزَاءِ، وَلَا يَمْنَعَ الْقَلِيلَ، فَلَوْ انْكَشَفَ نِصْفُ ثُمُنِ الْفَخْذِ وَنِصْفُ ثُمُنِ الْأُذُنِ وَذَلِكَ يَبْلُغُ رُبْعَ الْأُذُنِ أَوْ أَكْثَرَ لَا رُبْعَ جَمِيعِ الْعَوْرَةِ الْمُنْكَشِفَةِ لَا تَبْطُلُ، وَمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالْعَانَةِ عُضْوٌ، وَفِي بَطْنِ قَدَمِ الْمَرْأَةِ التَّقْدِيرُ بِالرُّبْعِ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ.
وَفِي رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَلَوْ صَلَّى فِي قَمِيصٍ مَحْلُولِ الْجَيْبِ وَهُوَ بِحَالٍ يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى عَوْرَتِهِ فِي الرُّكُوعِ أَوْ يَقَعُ عَلَيْهَا بِلَا تَكَلُّفٍ لَا يَصِحُّ فِيمَا رَوَى هِشَامُ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَوْرَتُهُ فِي حَقِّهِ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ فَتَصِحُّ، وَإِذَا شَفَّ الْقَمِيصُ فَهُوَ انْكِشَافٌ، وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي ثَوْبِ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ وَتَصِحُّ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ يُصَلِّي فِيهِ لَا عُرْيَانًا خِلَافًا لِأَحْمَدَ رحمه الله.
(قَوْلُهُ لِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه) رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: خَرَجَتْ امْرَأَةٌ مُخْتَمِرَةٌ مُتَجَلْبِبَةٌ فَقَالَ عُمَرُ مَنْ هَذِهِ؟ فَقِيلَ لَهُ جَارِيَةٌ لِفُلَانٍ رَجُلٍ مِنْ بَنِيهِ، فَأَرْسَلَ إلَى حَفْصَةَ فَقَالَ: مَا حَمَلَك عَلَى أَنْ تُخَمِّرِي هَذِهِ الْأَمَةَ وَتُجَلْبِبِيهَا وَتُشَبِّهِيهَا بِالْمُحْصَنَاتِ حَتَّى هَمَمْتُ أَنْ أَقَعَ بِهَا إلَّا أَحْسَبُهَا إلَّا مِنْ الْمُحْصَنَاتِ، لَا تُشَبِّهُوا الْإِمَاءَ بِالْمُحْصَنَاتِ
وَلِأَنَّهَا تَخْرُجُ لِحَاجَةِ مَوْلَاهَا فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهَا عَادَةً فَاعْتُبِرَ حَالُهَا بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فِي حَقِّ جَمِيعِ الرِّجَالِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ.
قَالَ (وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يُزِيلُ بِهِ النَّجَاسَةَ صَلَّى مَعَهَا وَلَمْ يَعُدْ) وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ إنْ كَانَ رُبْعُ الثَّوْبِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ طَاهِرًا يُصَلِّي فِيهِ وَلَوْ صَلَّى عُرْيَانًا لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ رُبْعَ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَ كُلِّهِ، وَإِنْ كَانَ الطَّاهِرُ أَقَلَّ مِنْ الرُّبْعِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لِأَنَّ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ تَرْكَ فَرْضٍ وَاحِدٍ. وَفِي الصَّلَاةِ عُرْيَانًا تَرْكَ الْفُرُوضِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا وَبَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، وَهُوَ الْأَفْضَلُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَانِعُ جَوَازِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ، وَيَسْتَوِيَانِ فِي حَقِّ الْمِقْدَارِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ،
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْآثَارُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه بِذَلِكَ صَحِيحَةٌ، وَأَمَّا نَصُّ مَا فِي الْكِتَابِ فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِهِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهَا تَخْرُجُ إلَخْ) يَعْنِي أَنَّ الْمُسْقِطَ لِحُكْمِ الْعَوْرَةِ حَتَّى تَبِعَتْهُ هِيَ فِي السُّقُوطِ الْحَرَجُ اللَّازِمُ مِنْ إعْطَاءِ بَدَنِهَا كُلِّهِ حُكْمَ الْعَوْرَةِ مَعَ الْحَاجَةِ إلَى خُرُوجِهَا وَمُبَاشَرَتِهَا الْأَعْمَالَ الْمُوجِبَةَ لِلْمُخَالَطَةِ فَسَقَطَ الْحَاجِي وَهُوَ مَا سِوَى الْبَطْنِ وَالظَّهْرِ إلَى الرُّكْبَةِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْمُبَاشَرَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ كَشْفَ غَيْرِهِ عَادَةً لِيَسْقُطَ مِنْهُ، بِخِلَافِهِ هُوَ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَالْمُكَاتَبَةُ كَالْأَمَةِ وَلَوْ أُعْتِقَتْ وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ وَنَحْوِهِ فَسَتَرَتْهُ بِعَمَلٍ قَلِيلٍ قَبْلَ أَدَاءِ رُكْنٍ جَازَتْ لَا بِكَثِيرٍ أَوْ بَعْدَ رُكْنٍ (قَوْلُهُ فِي حَقِّ جَمِيعِ الرِّجَالِ) يَعْنِي غَيْرَ السَّيِّدِ.
(قَوْلُهُ مَا يُزِيلُ بِهِ) وَكَذَا مَا يُقَلِّلُهَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَدَ مَا يَكْفِي بَعْضَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ دُونَ الْكُلِّ حَيْثُ يُبَاحُ التَّيَمُّمُ. دُونَ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ (قَوْلُهُ تَرْكُ الْفُرُوضِ) أَيْ بِتَقْدِيرِ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا، أَمَّا لَوْ صَلَّى قَائِمًا لَا يَسْتَقِيمُ.
قَالَ فِي الْأَسْرَارِ مِنْ طَرَفِ مُحَمَّدٍ رحمه الله: خِطَابُ التَّطْهِيرِ سَاقِطٌ لِعَدَمِ الْمَاءِ فَصَارَ هَذَا كَثَوْبٍ طَاهِرٍ، وَلِأَنَّ رُبْعَهُ لَوْ كَانَ طَاهِرًا لَا تَجُوزُ إلَّا فِيهِ فَكَذَا هُنَا لِأَنَّ نَجَاسَةَ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ فِي فَسَادِ الصَّلَاةِ كَنَجَاسَةِ كُلِّهِ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ. قُلْت: خِطَابُ السَّتْرِ لِلصَّلَاةِ سَاقِطٌ لِلنَّجَاسَةِ فَصَارَ الْعَرَاءُ كَالسَّتْرِ، وَإِذَا كَانَ الرُّبْعُ طَاهِرًا تَوَجَّهَ الْخِطَابُ بِقَدْرٍ وَسَقَطَ بِقَدْرِ النَّجَسِ فَرَجَّحْنَا الْوُجُوبَ احْتِيَاطًا.
قَالَ: وَلَكِنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ أَحْسَنُ، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ عُورِضَ بِسُقُوطِ خِطَابِ السَّتْرِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَعْلُومَ إنَّمَا هُوَ تَوَجُّهُ خِطَابِ السَّتْرِ لِلصَّلَاةِ بِالطَّاهِرِ حَالَةَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُطَهِّرِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فَالْمَعْلُومُ حِينَئِذٍ انْتِفَاءُ خِطَابِ السَّتْرِ لِلصَّلَاةِ بِالطَّاهِرِ وَلَا نَقْدِرُ عَلَى إثْبَاتِ تَعَلُّقِهِ بِالنَّجَسِ حِينَئِذٍ إلَّا بِنَقْلِ خِطَابٍ مَخْصُوصٍ فِيهِ وَلَا نَقْلَ فَيَبْقَى عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ لِأَنَّ نَفْيَ الْمُدْرَكِ الشَّرْعِيِّ يَكْفِي لِنَفْيِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الرُّبْعُ طَاهِرًا فَلِأَنَّهُ كَالْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ فَأَمْكَنَ الْحُكْمُ بِتَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِالسَّتْرِ بِهِ (قَوْلُهُ وَيَسْتَوِيَانِ فِي حَقِّ الْمِقْدَارِ) هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ فِي النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَتَرْكُ الشَّيْءِ إلَى خَلَفٍ لَا يَكُونُ تَرْكًا وَالْأَفْضَلِيَّةُ لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ السَّتْرِ بِالصَّلَاةِ وَاخْتِصَاصِ الطَّهَارَةِ بِهَا.
(وَمَنْ لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا صَلَّى عُرْيَانًا قَاعِدًا يُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ) هَكَذَا فَعَلَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (فَإِنْ صَلَّى قَائِمًا أَجْزَأَهُ) لِأَنَّ فِي الْقُعُودِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ، وَفِي الْقِيَامِ أَدَاءُ هَذِهِ الْأَرْكَانِ فَيَمِيلُ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ (إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَفْضَلُ) لِأَنَّ السَّتْرَ وَجَبَ لِحَقِّ الصَّلَاةِ وَحَقِّ النَّاسِ، وَلِأَنَّهُ لَا خَلَفَ لَهُ وَالْإِيمَاءُ خَلَفٌ عَنْ الْأَرْكَانِ.
قَوْلُهُ هَكَذَا فَعَلَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ قَالَا: الْعَارِي يُصَلِّي قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ. وَعَنْ عَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ مِثْلُهُ. وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكِبُوا فِي السَّفِينَةِ فَانْكَسَرَتْ بِهِمْ فَخَرَجُوا مِنْ الْبَحْرِ عُرَاةً فَصَلَّوْا قُعُودًا لِإِيمَاءٍ. قَالَ سَبْطُ بْنُ الْجَوْزِيُّ: رَوَاهُ الْخَلَّالُ.
وَفِي الْمُجْتَبِي: تُصَلِّي الْعُرَاةُ وُحْدَانًا مُتَبَاعِدِينَ، فَإِنْ صَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ يَتَوَسَّطُهُمْ الْإِمَامُ وَلَوْ تَقَدَّمَهُمْ جَازَ، وَيُرْسِلُ كُلُّ وَاحِدٍ رِجْلَيْهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ وَيَضَعُ يَدَيْهِ بَيْنَ فَخْذَيْهِ يُومِئُ إيمَاءً، وَلَوْ أَوْمَأَ الْقَائِمُ أَوْ رَكَعَ وَسَجَدَ الْقَائِمُ جَازَ هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ مَا يَسْتَتِرُ بِهِ مِنْ الْحَشِيشِ وَالنَّبَاتِ وَالْكَلَأِ.
وَعَنْ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيِّ: لَوْ وَجَدَ طِينًا يُلَطِّخُ بِهِ عَوْرَتَهُ وَيَبْقَى عَلَيْهِ
قَالَ (وَيَنْوِي لِلصَّلَاةِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا بِنِيَّةٍ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّحْرِيمَةِ بِعَمَلٍ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَلِأَنَّ ابْتِدَاءَ الصَّلَاةِ بِالْقِيَامِ وَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْعَادَةِ وَالْعِبَادَةِ وَلَا يَقَعُ التَّمْيِيزُ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَالْمُتَقَدِّمُ عَلَى التَّكْبِيرِ كَالْقَائِمِ عِنْدَهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَقْطَعُهُ وَهُوَ عَمَلٌ لَا يَلِيقُ بِالصَّلَاةِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمُتَأَخِّرَةِ مِنْهَا عَنْهُ لِأَنَّ مَا مَضَى لَا يَقَعُ عِبَادَةً لِعَدَمِ النِّيَّةِ، وَفِي الصَّوْمِ جُوِّزَتْ لِلضَّرُورَةِ، وَالنِّيَّةُ هِيَ الْإِرَادَةُ،
حَتَّى يُصَلِّيَ يَفْعَلُ، وَلَوْ وَجَدَ مَا يَسْتُرُ بَعْضَ الْعَوْرَةِ وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ وَيَسْتُرُ الْقُبُلَ وَالدُّبُرَ
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ») حَدِيثٌ مَشْهُورٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَأَمَّا أَلْفَاظُهُ «فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وَبِالنِّيَّةِ، «وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ» ، «وَالْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ» كُلُّهَا فِي الصَّحِيحِ. وَأَمَّا «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» كَمَا فِي الْكِتَابِ فَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِهِ بُسْتَانِ الْعَارِفِينَ وَلَمْ يُكْمِلْهُ نَقْلًا عَنْ الْحَافِظِ أَبِي مُوسَى الْأَصْفَهَانِيِّ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ إسْنَادُهُ، وَأَقْرَأَهُ وَنَظَرَ بَعْضُهُمْ فِيهِ إذْ قَدْ رَوَاهُ كَذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي أَرْبَعِينِهِ، ثُمَّ حَكَمَ بِصِحَّتِهِ. قُلْت: وَهِيَ رِوَايَةُ إمَامِ الْمَذْهَبِ فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ، رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» الْحَدِيثُ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْجَارُودِ فِي الْمُنْتَقَى «إنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» (قَوْلُهُ وَالْمُتَقَدِّمُ إلَخْ) فِي الْخُلَاصَةِ: وَنَوَى قَبْلَ الشُّرُوعِ، عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله: لَوْ نَوَى
وَالشَّرْطُ أَنْ يَعْلَمَ بِقَلْبِهِ أَيَّ صَلَاةٍ يُصَلِّي. أَمَّا الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ، وَيَحْسُنُ ذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ عَزِيمَتِهِ. ثُمَّ إنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ نَفْلًا يَكْفِيهِ مُطْلَقُ النِّيَّةِ، وَكَذَا إنْ كَانَتْ سُنَّةً
عِنْدَ الْوُضُوءِ أَنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ مَعَ الْإِمَامِ وَلَمْ يَشْتَغِلْ بَعْدَ النِّيَّةِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى إلَى مَكَانِ الصَّلَاةِ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ جَازَتْ صَلَاتُهُ بِتِلْكَ النِّيَّةِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَعِبَارَةُ الْمُصَنَّفِ فِي التَّجْنِيسِ: إذَا تَوَضَّأَ فِي مَنْزِلِهِ لِيُصَلِّي الظُّهْرَ ثُمَّ حَضَرَ الْمَسْجِدَ وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِتِلْكَ النِّيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِعَمَلٍ آخَرَ يَكْفِيهِ ذَلِكَ، هَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ رحمه الله فِي الرُّقَيَّاتِ لِأَنَّ النِّيَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ تَبِعَتْهَا إلَى وَقْتِ الشُّرُوعِ حُكْمًا كَمَا فِي الصَّوْمِ إذَا لَمْ يُبَدِّلْهَا بِغَيْرِهَا اهـ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ: إنْ كَانَ عِنْدَ الشُّرُوعِ بِحَيْثُ لَوْ سُئِلَ أَيَّةُ صَلَاةٍ يُصَلِّي يُجِيبُ عَلَى الْبَدِيهَةِ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ فَهِيَ نِيَّةٌ تَامَّةٌ، وَلَوْ احْتَاجَ إلَى التَّأَمُّلِ لَا يَجُوزُ. قُلْت: فَقَدْ شَرَطُوا عَدَمَ مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ لِصِحَّةِ تِلْكَ النِّيَّةِ مَعَ تَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّهَا صَحِيحَةٌ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ يَتَخَلَّلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشُّرُوعِ الْمَشْيُ إلَى مَقَامِ الصَّلَاةِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا. فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُرَادِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَغَلَ بِكَلَامٍ أَوْ أَكْلٍ.
أَوْ نَقُولُ: عَدُّ الْمَشْيِ إلَيْهَا مِنْ أَفْعَالِهَا غَيْرُ قَاطِعٍ لِلنِّيَّةِ، وَفِيهَا: أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا رحمهم الله أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً لِلشُّرُوعِ وَلَا تَكُونُ شَارِعًا بِمُتَأَخِّرَةٍ، وَعَنْ الْكَرْخِيِّ يَجُوزُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ، قِيلَ إلَى التَّعَوُّذِ وَقِيلَ إلَى الرُّكُوعِ، وَقِيلَ إلَى الرَّفْعِ (قَوْلُهُ وَالشَّرْطُ أَنْ يَعْلَمَ) قِيلَ لَيْسَ الْعِلْمُ نِيَّةً وَلِذَا لَوْ نَوَى الْكُفْرَ غَدًا كَفَرَ فِي الْحَالِ، وَلَوْ عَلِمَ الْكُفْرَ لَا يَكْفُرُ بَلْ هِيَ قَصْدُ الْفِعْلِ وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ الْمُصَنِّفَ فَسَّرَهَا بِالْإِرَادَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الشَّرْطَ فِي اعْتِبَارِهَا عِلْمَهُ أَيُّ الصَّلَاةِ هِيَ أَيْ التَّمْيِيزُ، فَحَاصِلُ كَلَامِهِ النِّيَّةُ الْإِرَادَةُ لِلْفِعْلِ وَشَرْطُهَا التَّعْيِينُ فِي الْفَرَائِضِ (قَوْلُهُ وَيُحْسِنُ ذَلِكَ إلَخْ) قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: لَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ
فِي الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْفَرْضِ كَالظُّهْرِ مَثَلًا لِاخْتِلَافِ الْفُرُوضِ
أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ أُصَلِّي كَذَا، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، بَلْ الْمَنْقُولُ أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَهَذِهِ بِدْعَةٌ اهـ.
وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِاجْتِمَاعِ عَزِيمَتِهِ أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ لِغَيْرِ هَذَا الْقَصْدِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ تَفَرُّقُ خَاطِرِهِ، فَإِذَا ذَكَرَهُ بِلِسَانِهِ كَانَ عَوْنًا عَلَى جَمْعِهِ. ثُمَّ رَأَيْته فِي التَّجْنِيسِ قَالَ: وَالنِّيَّةُ بِالْقَلْبِ لِأَنَّهُ عَمَلُهُ، وَالتَّكَلُّمُ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ، وَمَنْ اخْتَارَهُ اخْتَارَهُ لِتَجْتَمِعَ عَزِيمَتُهُ (قَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ جَمَاعَةٍ: إنَّهُ لَا يَكْفِيهِ لِأَدَاءِ السُّنَّةِ لِأَنَّ السُّنَّةَ وَصْفٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ كَوَصْفِ الْفَرْضِيَّةِ فَلَا يَحْصُلُ بِمُطْلَقِ نِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهَا.
وَتَحْقِيقِ الْوَجْهِ فِيهِ أَنَّ مَعْنَى السُّنِّيَّةِ كَوْنُ النَّافِلَةِ مُوَاظَبًا عَلَيْهَا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْفَرِيضَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَقَبْلَهَا، فَإِذَا أَوْقَعَ الْمُصَلِّي النَّافِلَةَ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ الْفِعْلَ الْمُسَمَّى سُنَّةً.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ وَصْفَ السُّنَّةِ يَحْصُلُ بِنَفْسِ الْفِعْلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ إنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ عَلَى مَا سَمِعْت، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَنْوِي السُّنَّةَ بَلْ الصَّلَاةَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَعُلِمَ أَنَّ وَصْفَ السُّنَّةِ ثَبَتَ بَعْدَ فِعْلِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ تَسْمِيَةً مِنَّا لِفِعْلِهِ الْمَخْصُوصِ لِأَنَّهُ وَصْفٌ يَتَوَقَّفُ حُصُولُهُ عَلَى نِيَّتِهِ.
وَقَدْ حَصَلَتْ مُقَاوَلَةٌ فِي كِتَابَةِ بَعْضِ أَشْيَاخِ حَلَبِ أَنَّ الْأَرْبَعَ الَّتِي تُصَلَّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ يَنْوِي بِهَا آخِرَ ظُهْرٍ أَدْرَكْت وَقْتَهُ وَلَمْ أُؤَدِّهِ بَعْدُ فِي مَوْضِعٍ يَشُكُّ فِي صِحَّةِ الْجُمُعَةِ إذَا ظَهَرَ صِحَّةُ الْجُمُعَةِ تَنُوبُ عَنْ سُنَّةِ الْجُمُعَةِ، وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ. وَاسْتُفْتِيَ بَعْضُ أَشْيَاخِ مِصْرَ رحمهم الله فَأَفْتَى بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ، فَقُلْت: هَذِهِ الْفَتْوَى تَتَفَرَّعُ عَلَى اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ السُّنَّةِ فِي النِّيَّةِ، وَمَا قَالَهُ الْحَلَبِيُّ بِنَاءٌ عَلَى التَّحْقِيقِ فَإِنَّهُ إذَا نَوَى آخِرَ ظُهْرٍ فَقَدْ نَوَى أَصْلَ الصَّلَاةِ بِوَصْفٍ.
فَإِذَا انْتَفَى الْوَصْفُ فِي الْوَاقِعِ وَقُلْنَا عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ الْمَذْهَبِ إنَّ بُطْلَانَ الْوَصْفِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ أَصْلِ الصَّلَاةِ بَقِيَ نِيَّةُ أَصْلِ الصَّلَاةِ وَبِهَا تَتَأَدَّى السُّنَّةُ ثُمَّ رَاجَعْت الْمُفْتِيَ الْمِصْرِيَّ وَذَكَرْت لَهُ هَذَا فَرَجَعَ دُونَ تَوَقُّفِ هَذَا الْأَمْرِ الْجَائِزِ، فَأَمَّا الِاحْتِيَاطُ فَأَنْ يَنْوِيَ فِي السُّنَّةِ الصَّلَاةَ مُتَابَعَةً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يَخْفَى تَقَيُّدُ وُقُوعِهَا عَنْ السُّنَّةِ إذَا صَحَّتْ الْجُمُعَةُ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ظُهْرٌ فَائِتٍ (قَوْلُهُ كَالظُّهْرِ مَثَلًا) أَيْ إذَا قُرِنَ بِالْيَوْمِ وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ قَضَاءٌ بِنِيَّةِ الْأَدَاءِ أَوْ بِالْوَقْتِ وَلَمْ يَكُنْ خَرَجَ الْوَقْتُ، فَإِنْ خَرَجَ وَنَسِيَهُ لَا يُجْزِئُهُ فِي الصَّحِيحِ وَفَرْضُ الْوَقْتِ كَظُهْرِ الْوَقْتِ إلَّا فِي الْجُمُعَةِ فَإِنَّهَا بَدَلُ فَرْضِ الْوَقْتِ لَا نَفْسِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُ أَنَّهَا فَرْضُ الْوَقْتِ، فَإِنْ نَوَى الظُّهْرَ لَا غَيْرُ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قِيلَ لَا يُجْزِئُهُ لِاحْتِمَالِ فَائِتَةٍ عَلَيْهِ، وَفِي فَتَاوَى الْعَتَّابِيِّ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ وَعُلِمَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ الظُّهْرُ فَنَوَى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ مَثَلًا لَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
وَفِي الْمُنْتَقَى: إنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ يَصِيرُ شَارِعًا فِي الظُّهْرِ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: فَإِنْ نَوَى مَكْتُوبَتَيْنِ فَائِتَتَيْنِ كَانَتْ لِلْأُولَى مِنْهُمَا انْتَهَى. وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ فَرْضٍ وَنَفْلٍ
(وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا بِغَيْرِهِ نَوَى الصَّلَاةَ وَمُتَابَعَتَهُ)
يَصِيرُ شَارِعًا فِي الْفَرْضِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَأَبْطَلَهَا مُحَمَّدٌ رحمه الله.
وَهَذَا لَا يَقْتَضِي عَدَمَ اشْتِرَاطِ قَطْعِ النِّيَّةِ لِصِحَّةِ الْمَنْوِيِّ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ لِقَطْعِهَا عَلَى الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ قَاعِدًا وَلَا يَعْلَمُ أَيَّ الْقَعْدَتَيْنِ فَنَوَى فِي اقْتِدَائِهِ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ لِلْأُولَى اقْتَدَيْت بِهِ أَوْ الْأَخِيرَةِ فَلَا فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ أَصْلًا لِأَنَّ النِّيَّةَ مُتَرَدَّدٌ فِيهَا، وَكَذَا لَوْ نَوَى إنْ كَانَتْ الْأُولَى اقْتَدَيْت بِهِ فِي الْفَرِيضَةِ وَإِنْ كَانَتْ الثَّانِيَةَ فَفِي التَّطَوُّعِ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ فِي الْفَرِيضَةِ، وَلَوْ نَوَى إنْ كَانَ فِي الْفَرِيضَةِ اقْتَدَيْت بِهِ أَوْ فِي التَّرَاوِيحِ أَوْ سُنَّةِ كَذَا اقْتَدَيْت بِهِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ فِي التَّرَاوِيحِ لِأَنَّهُ لَا تَرَدُّدَ فِي نِيَّةِ أَصْلِ الصَّلَاةِ وَهُوَ كَافٍ لِلسُّنَّةِ كَمَا سَنَذْكُرُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى إنْ كَانَ فِي الْعِشَاءِ اقْتَدَيْت بِهِ أَوْ فِي التَّرَاوِيحِ فَلَا لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
وَعُلِمَ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْرِفْ افْتِرَاضَ الْخَمْسِ إلَّا أَنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي أَوْقَاتِهَا لَا تَجُوزُ، وَكَذَا لَوْ اعْتَقَدَ مِنْهُمَا فَرْضًا وَنَفْلًا وَلَا يُمَيِّزُ وَلَمْ يَنْوِ الْفَرْضَ فِيهَا، فَإِنْ نَوَى الْفَرْضَ فِي الْكُلِّ جَازَ، وَلَوْ ظَنَّ الْكُلَّ فَرْضًا جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَظُنَّ ذَلِكَ فَكُلُّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا مَعَ الْإِمَامِ جَازَ إنْ نَوَى صَلَاةَ الْإِمَامِ، وَكَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّعْيِينِ فِي الْأَدَاءِ كَذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ، حَتَّى إذَا كَثُرَتْ الْفَوَائِتُ يَحْتَاجُ إلَى ظُهْرِ يَوْمِ كَذَا أَوْ أَوَّلِ ظُهْرٍ أَوْ آخِرِ ظُهْرٍ عَلَيْهِ، وَكَذَا فِي الْبَاقِي لِأَنَّ مَا يَلِي ذَلِكَ الْمَقْضِيُّ وَيَصِيرُ أَوَّلًا فِي نِيَّةِ الْأَوَّلِ وَآخِرًا فِي نِيَّةِ الْآخِرِ، وَلَوْ لَمْ يُعَيِّنْ جَازَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ فَقَضَى يَوْمًا وَلَمْ يُعَيِّنْ جَازَ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُعَيِّنَ أَوَّلَ يَوْمٍ وَثَانِيَ يَوْمٍ لِأَنَّ سَبَبَ الصَّلَاةِ مُتَعَدِّدٌ وَبِهِ يَتَعَدَّدُ الْمُسَبَّبُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّ سَبَبَهُ الشَّهْرُ، وَلِذَا لَوْ كَانَا مِنْ رَمَضَانَيْنِ وَجَبَ التَّعْيِينُ، كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ.
ثُمَّ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ وَحَكَى فِيهِ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ وَصَحَّحَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ مَعَ عَدَمِ التَّعْيِينِ إذَا كَانَا مِنْ رَمَضَانَيْنِ. وَقَدْ يُقَالُ: صَرَّحُوا بِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِوُجُوبِ صَوْمِهِ وَلِذَا لَمْ يَكْتَفِ لِلْكُلِّ بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ فَصَارَ الْيَوْمَانِ كَالظُّهْرَيْنِ لَكِنَّا سَنُبَيِّنُ مَا يَرْفَعُ هَذَا الْإِشْكَالَ، وَلِلتَّعْيِينِ لَوْ فَاتَتْهُ عَصْرٌ فَصَلَّى أَرْبَعًا عَمَّا عَلَيْهِ وَهُوَ يَرَى أَنَّ عَلَيْهِ الظُّهْرَ لَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ صَلَّاهَا قَضَاءً عَمَّا عَلَيْهِ وَقَدْ جَهِلَهُ وَلِذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: فِيمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ وَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ إنَّهُ يُصَلِّي الْخَمْسَ لِيَتَيَقَّنَّ، وَلَوْ نَوَى فَرْضًا وَشَرَعَ فِيهِ ثُمَّ نَسِيَ فَظَنَّهُ تَطَوُّعًا فَأَتَمَّهُ عَلَى أَنَّهُ تَطَوُّعٌ فَهُوَ فَرْضٌ مُسْقِطٌ لِأَنَّ النِّيَّةَ الْمُعْتَبَرَةَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ قِرَانُهَا بِالْجُزْءِ الْأَوَّلِ.
وَمِثْلُهُ إذَا شَرَعَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فَأَتَمَّهَا عَلَى ظَنِّ الْمَكْتُوبَةِ فَهِيَ تَطَوُّعٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَبَّرَ حِينَ شَكَّ يَنْوِي التَّطَوُّعَ فِي الْأَوَّلِ أَوْ الْمَكْتُوبَةَ فِي الثَّانِي حَيْثُ يَصِيرُ خَارِجًا إلَى مَا نَوَى ثَانِيًا لِقِرَانِ النِّيَّةِ بِالتَّكْبِيرِ، وَسَتَأْتِي بَقِيَّةُ هَذِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ نِيَّةُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَإِنْ نَوَى مَقَامَ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ جِهَةَ الْكَعْبَةِ، فَإِنْ نَوَى الْمِحْرَابَ لَا تَجُوزُ ثُمَّ مَنْ يَشْتَرِطُ نِيَّةَ الْكَعْبَةِ يَنْوِي الْعَرْصَةَ وَلَا بُدَّ (قَوْلُهُ وَمُتَابَعَتُهُ) الْإِمَامَ، فَإِنْ نَوَى صَلَاةَ الْإِمَامِ لَا يُجْزِئُهُ، وَقِيلَ إذَا انْتَظَرَ تَكْبِيرَ الْإِمَامِ ثُمَّ كَبَّرَ بَعْدَهُ كَانَ مُقْتَدِيًا.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: إذَا أَرَادَ التَّسْهِيلَ عَلَى نَفْسِهِ يَقُولُ شَرَعْت فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ. قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ: يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ عَلَى هَذَا قَوْلَهُ وَاقْتَدَيْت بِهِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَنْوِيَ الِاقْتِدَاءَ عِنْدَ
لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ فَسَادُ الصَّلَاةِ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْتِزَامِهِ قَالَ.
قَالَ (وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ثُمَّ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَفَرْضُهُ إصَابَةُ عَيْنِهَا، وَمَنْ كَانَ غَائِبًا
افْتِتَاحِ الْإِمَامِ، فَإِنْ نَوَى حِينَ وَقَفَ عَالِمًا بِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ جَازَ، وَإِنْ نَوَى ذَلِكَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ شَرَعَ وَلَمْ يَشْرَعْ اُخْتُلِفَ فِيهِ.
قِيلَ لَا يَجُوزُ وَإِذَا صَحَّتْ النِّيَّةُ لَا يَصِحُّ الْخُرُوجُ عَمَّا شَرَعَ فِيهِ بِالتَّكْبِيرِ بِنِيَّةِ الِاسْتِقْبَالِ إلَّا فِي الْمَسْبُوقِ قَامَ إلَى الْقَضَاءِ، وَسَيَأْتِي بَاقِي فُرُوعِهَا مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعَيِّنَ الْإِمَامَ عِنْدَ كَثْرَةِ الْجَمَاعَةِ: يَعْنِي كَيْ لَا يَظْهَرَ كَوْنُهُ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ فَلَا يَجُوزُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ الْقَائِمَ فِي الْمِحْرَابِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَلَوْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ أَنَّهُ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو جَازَ اقْتِدَاؤُهُ، وَلَوْ نَوَى بِالْإِمَامِ الْقَائِمِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ زَيْدٌ وَهُوَ عَمْرٌو صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِمَا نَوَى لَا لِمَا يَرَى وَهُوَ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِزَيْدٍ فَإِذَا هُوَ عَمْرٌو لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِمَا نَوَى، وَمِثْلُهُ فِي الصَّوْمِ وَلَوْ نَوَى قَضَاءَ يَوْمِ الْخَمِيسِ فَإِذَا عَلَيْهِ غَيْرُهُ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ نَوَى قَضَاءَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ وَهُوَ يَظُنُّهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَهُوَ غَيْرُهُ جَازَ، وَلَوْ كَانَ يَرَى شَخْصَهُ فَنَوَى الِاقْتِدَاءَ بِهَذَا الْإِمَامِ الَّذِي هُوَ زَيْدٌ فَإِذَا هُوَ خِلَافُهُ جَازَ لِأَنَّهُ عَرَفَهُ بِالْإِشَارَةِ فَلَغَتْ التَّسْمِيَةَ.
وَكَذَا لَوْ كَانَ آخِرُ الصُّفُوفِ لَا يَرَى شَخْصَهُ فَنَوَى الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ الْقَائِمِ فِي الْمِحْرَابِ الَّذِي هُوَ زَيْدٌ فَإِذَا هُوَ غَيْرُهُ جَازَ أَيْضًا أَوْ مِثْلَ مَا ذَكَرْنَا فِي الْخَطَأِ فِي تَعْيِينِ الْمَيِّتِ، فَعِنْدَ الْكَثْرَةِ يَنْوِي الْمَيِّتَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ الْإِمَامُ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ فَسَادُ الصَّلَاةِ مِنْ جِهَتِهِ إلَخْ) لِهَذَا اُحْتِيجَ إلَى نِيَّةِ إمَامَةِ النِّسَاءِ لِصِحَّةِ اقْتِدَائِهِنَّ عَلَى مَا سَيَأْتِيك
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَوَلُّوا إلَخْ) أَيْ يَثْبُتُ الِافْتِرَاضُ، أَمَّا لُزُومُ الْإِكْفَارِ بِتَرْكِ التَّوَجُّهِ عَمْدًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِلُزُومِ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ وَالِاسْتِخْفَافِ، إذْ لَيْسَ حُكْمُ الْفَرْضِ لُزُومَ الْكُفْرِ بِتَرْكِهِ بَلْ بِجَحْدِهِ، وَكَذَا الصَّلَاةُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ.
وَكَذَا فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو عَلِيِّ السُّغْدِيِّ فِي تَرْكِ الطَّهَارَةِ لَا فِي الْآخَرَيْنِ لِلْجَوَازِ فِيهِمَا حَالَةَ الْعُذْرِ، وَبِغَيْرِ طَهَارَةٍ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، وَبِهِ أَخَذَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ، وَإِذَا حَوَّلَ وَجْهَهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَتَفْسُدُ بِصَدْرِهِ. قِيلَ هَذَا أَلْيَقُ بِقَوْلِهِمَا، أَمَّا عِنْدَهُ فَلَا فِي الْوَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِدْبَارَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى قَصْدِ الرَّفْضِ لَا تَفْسُدُ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، حَتَّى لَوْ انْصَرَفَ عَنْ الْقِبْلَةِ عَلَى ظَنِّ الْإِتْمَامِ فَتَبَيَّنَ عَدَمُهُ بَنَى مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا بِعُذْرِهِ هُنَاكَ وَتَمَرُّدِهِ هُنَا، وَلَا يُفَرَّقُ فِي الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ إذْ لَا أَثَرَ لِعَدَمِ الْجَوَازِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْوَالِ، بَلْ الْمُوجِبُ لِلْإِكْفَارِ هُوَ الِاسْتِهَانَةُ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْكُلِّ (قَوْلُهُ فَفَرْضُهُ إصَابَةُ عَيْنِهَا) حَتَّى لَوْ صَلَّى فِي أَمَاكِنَ فِي بَيْتِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ بِحَيْثُ لَوْ أُزِيلَتْ الْجُدْرَانُ يَقَعُ اسْتِقْبَالُهُ عَلَى شَطْرِ الْكَعْبَةِ بِخِلَافِ الْآفَاقِيِّ كَذَا فِي الْكَافِي. وَفِي الدِّرَايَةِ: مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ حَائِلٌ الْأَصَحُّ أَنَّهُ كَالْغَائِبِ، وَلَوْ كَانَ الْحَائِلُ أَصْلِيًّا كَالْجَبَلِ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَصْعَدَهُ لِيَصِلَ إلَى الْيَقِينِ، وَفِي النَّظْمِ: الْكَعْبَةُ قِبْلَةُ مَنْ بِالْمَسْجِدِ، وَالْمَسْجِدُ قِبْلَةُ مَنْ بِمَكَّةَ، وَمَكَّةُ قِبْلَةُ الْحَرَمِ، وَالْحَرَمُ قِبْلَةُ الْعَالَمِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ:
فَفَرْضُهُ إصَابَةُ جِهَتِهَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ.
(وَمَنْ كَانَ خَائِفًا يُصَلِّي إلَى أَيِّ جِهَةٍ قَدَرَ)
هَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ مَنْ كَانَ بِمُعَايَنَةِ الْكَعْبَةِ فَالشَّرْطُ إصَابَةُ عَيْنِهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ بِمُعَايَنَتِهَا فَالشَّرْطُ إصَابَةُ جِهَتِهَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ انْتَهَى. قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْبُخَارِيُّ: هَذَا عَلَى التَّقْرِيبِ، وَإِلَّا فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْكَعْبَةَ قِبْلَةُ الْعَالَمِ انْتَهَى.
وَعِنْدِي فِي جَوَازِ التَّحَرِّي مَعَ إمْكَانِ صُعُودِهِ إشْكَالٌ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ، وَتَرْكُ الْقَاطِعِ مَعَ إمْكَانِهِ لَا يَجُوزُ، وَمَا أَقْرَبُ قَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَالِاسْتِخْبَارُ فَوْقَ التَّحَرِّي فَإِذَا امْتَنَعَ الْمَصِيرُ إلَى ظَنِّيٍّ لِإِمْكَانِ ظَنِّيٍّ أَقْوَى مِنْهُ فَكَيْفَ يُتْرَكُ الْيَقِينُ مَعَ إمْكَانِهِ بِالظَّنِّ (قَوْلُهُ إصَابَةُ جِهَتِهَا) فِي الدِّرَايَةِ عَنْ شَيْخِهِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْجِهَةِ أَنْ يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ سَطْحِ الْوَجْهِ مُسَامِتًا لِلْكَعْبَةِ أَوْ لِهَوَائِهَا لِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ لَا تَزُولُ بِمَا يَزُولُ بِهِ مِنْ الِانْحِرَافِ لَوْ كَانَتْ فِي مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ، وَيَتَفَاوَتُ ذَلِكَ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْبَعْدِ وَتَبْقَى الْمُسَامَتَةُ مَعَ انْتِقَالٍ مُنَاسِبٍ لِذَلِكَ الْبُعْدِ، فَلَوْ فُرِضَ خَطٌّ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِ الْمُسْتَقْبِلِ لِلْكَعْبَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ وَخَطٌّ آخَرُ يَقْطَعُهُ عَلَى زَاوِيَتَيْنِ قَائِمَتَيْنِ مِنْ جَانِبِ يَمِينِ الْمُسْتَقْبِلِ أَوْ شِمَالِهِ لَا تَزُولُ تِلْكَ الْمُقَابَلَةُ وَالتَّوَجُّهُ بِالِانْتِقَالِ إلَى الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ عَلَى ذَلِكَ الْخَطِّ بِفَرَاسِخَ كَثِيرَةٍ، وَلِذَا وَضَعَ الْعُلَمَاءُ قِبْلَةَ بَلَدٍ وَبَلَدَيْنِ وَثَلَاثٍ عَلَى سَمْتٍ وَاحِدٍ، فَجَعَلُوا قِبْلَةَ بُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ وَنَسَفَ وَتِرْمِذَ وَبَلْخَ وَمَرْوٍ وَسَرْخَسَ مَوْضِعَ الْغُرُوبِ إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ فِي آخِرِ الْمِيزَانِ وَأَوَّلِ الْعَقْرَبِ كَمَا اقْتَضَتْهُ الدَّلَائِلُ الْمَوْضُوعَةُ لِمَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ، وَلَمْ يُخْرِجُوا لِكُلِّ بَلْدَةٍ سَمْتًا لِبَقَاءِ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّوَجُّهِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمَسَافَةِ.
وَفِي الْفَتَاوَى: الِانْحِرَافُ الْمُفْسِدُ أَنْ يُجَاوِزَ الْمَشَارِقَ إلَى الْمَغَارِبِ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْجُرْجَانِيِّ إنَّ الْعَيْنَ فَرْضُ الْغَائِبِ أَيْضًا لِأَنَّهُ الْمَأْمُورُ بِهِ وَلَا فَصْلَ فِي النَّصِّ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةٍ عَيَّنَهَا، فَعِنْدَهُ يُشْتَرَطُ وَعِنْدَ غَيْرِهِ لَا.
(قَوْلُهُ وَمَنْ كَانَ خَائِفًا) مِنْ سَبْعٍ أَوْ عَدُوٍّ أَوْ كَانَ فِي الْبَحْرِ عَلَى خَشَبَةٍ يَخَافُ الْغَرَقَ إنْ تَوَجَّهَ، أَوْ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّوَجُّهِ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ مِنْ يُوَجِّهُهُ يُصَلِّي إلَى أَيِّ جِهَةٍ قَدَرَ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الدَّابَّةِ بِخِلَافِ النُّزُولِ لِلطِّينِ وَالرَّدْغَةِ يَسْتَقْبِلُ.
قَالَ فِي الظَّهِيرِيَّةِ. وَعِنْدِي هَذَا إذَا كَانَتْ وَاقِفَةً، فَإِنْ كَانَتْ سَائِرَةً يُصَلِّي حَيْثُ شَاءَ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ كَوْنِهِ لَوْ وَقَفَهَا لِلصَّلَاةِ خَافَ الِانْقِطَاعَ عَنْ الرُّفْقَةِ أَوْ لَا يَخَافُ، فَلَا يَجُوزُ فِي الثَّانِي إلَّا أَنْ يُوقِفَهَا وَيَسْتَقْبِلَ كَمَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي التَّيَمُّمِ إنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ مَضَى إلَى الْمَاءِ تَذْهَبُ الْقَافِلَةُ وَيَنْقَطِعُ جَازَ وَإِلَّا
لِتَحَقُّقِ الْعُذْرِ فَأَشْبَهَ حَالَةَ الِاشْتِبَاهِ (فَإِنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْهَا اجْتَهَدَ وَصَلَّى)«لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - تَحَرَّوْا وَصَلَّوْا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام» ، وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالدَّلِيلِ الظَّاهِرِ وَاجِبٌ عِنْدَ انْعِدَامِ دَلِيلٍ فَوْقَهُ،
ذَهَبَ إلَى الْمَاءِ وَاسْتَحْسَنُوهَا (قَوْلُهُ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ إلَخْ) لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَكَانِ مَنْ يَسْأَلُهُ لَا يَجُوزُ التَّحَرِّي، وَكَذَا لَا يَجُوزُ مَعَ الْمَحَارِيبِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمَكَانِ وَلَا عَالِمًا بِالْقِبْلَةِ أَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ لَا مِحْرَابَ لَهُ أَوْ سَأَلَهُمْ فَلَمْ يُخْبِرُوهُ تَحَرَّى.
وَفِي قَوْلِهِ لَيْسَ بِحَضْرَتِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ طَلَبُ مَنْ يَسْأَلُهُ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ كَذَا، وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْمَسْجِدَ قَوْمًا مِنْ أَهْلِهِ مُقِيمِينَ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا حَاضِرِينَ فِيهِ وَقْتَ دُخُولِهِ وَهُمْ حَوْلَهُ فِي الْقَرْيَةِ وَجَبَ طَلَبُهُمْ لِيَسْأَلَهُمْ قَبْلَ التَّحَرِّي، لِأَنَّ التَّحَرِّيَ مُعَلَّقٌ بِالْعَجْزِ عَنْ تَعَرُّفِ الْقِبْلَةِ بِغَيْرِهِ، عَلَّلَ مُحَمَّدٌ رحمه الله بِمَا قُلْنَا، قَالَ: رَجُلٌ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الَّذِي لَا مِحْرَابَ لَهُ وَقِبْلَتُهُ مُشْكَلَةٌ وَفِيهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِهِ فَتَحَرَّى الْقِبْلَةَ وَصَلَّى ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْدِرُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الْقِبْلَةِ فَيَعْلَمَهَا وَيُصَلِّيَ بِغَيْرِ تَحَرٍّ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّحَرِّي إذَا عَجَزَ عَنْ تَعَلُّمِهِ بِذَلِكَ (قَوْلُهُ اجْتَهَدَ) حَكَمَ الْمَسْأَلَةَ فَلَوْ صَلَّى مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ بِلَا تَحَرٍّ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ إلَّا إنْ عَلِمَ بَعْدَ الْفَرَاغِ أَنَّهُ أَصَابَ، لِأَنَّ مَا افْتَرَضَ لِغَيْرِهِ يَشْتَرِطُ حُصُولُهُ لَا غَيْرُ كَالسَّعْيِ، وَإِنْ عَلِمَ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ أَصَابَ يَسْتَقْبِلُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَبْنِي لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَقْبَلَ اسْتَقْبَلَ بِهَذِهِ الْجِهَةِ فَلَا فَائِدَةَ.
قُلْنَا: حَالَتُهُ قُوِّيَتْ بِالْعِلْمِ، وَبِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ لَا يَجُوزُ فَصَارَ كَالْأُمِّيِّ إذَا تَعَلَّمَ سُورَةً، وَالْمُومِئُ إذَا قَدَرَ عَلَى الْأَرْكَانِ فِيهَا تَفْسُدُ وَبَعْدَهَا تَصِحُّ، أَمَّا لَوْ تَحَرَّى وَصَلَّى إلَى غَيْرِ جِهَةِ التَّحَرِّي لَا يُجْزِئُهُ وَإِنْ أَصَابَ مُطْلَقًا، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله وَهِيَ مُشْكِلَةٌ عَلَى قَوْلِهِمَا لِأَنَّ تَعْلِيلَهُمَا فِي هَذِهِ وَهُوَ أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي حَقِّهِ جِهَةُ التَّحَرِّي وَقَدْ تَرَكَهَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ مُطْلَقًا فِي صُورَةِ تَرْكِ التَّحَرِّي، لِأَنَّ تَرْكَ جِهَةِ التَّحَرِّي يَصْدُقُ مَعَ تَرْكِ التَّحَرِّي وَتَعْلِيلُهُمَا فِي تِلْكَ بِأَنَّ مَا فُرِضَ لِغَيْرِهِ يُشْتَرَطُ مُجَرَّدُ حُصُولِهِ كَالسَّعْيِ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ فِي هَذِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَعِنْدَهُ أَنَّهُ نَجِسٌ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ طَاهِرٌ، أَوْ صَلَّى وَعِنْدَهُ أَنَّهُ مُحْدِثٌ فَظَهَرَ أَنَّهُ مُتَوَضِّئٌ، أَوْ صَلَّى الْفَرْضَ وَعِنْدَهُ أَنَّ الْوَقْتَ لَمْ يَدْخُلْ فَظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ دَخَلَ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا حُكِمَ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ تَحَرِّيهِ فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا إذَا ظَهَرَ خِلَافُهُ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ يَجْرِي فِي مَسْأَلَةِ الْعُدُولِ عَنْ جِهَةِ التَّحَرِّي إذَا ظَهَرَ صَوَابُهُ.
وَبِهِ يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ الَّذِي أَوْرَدَهُ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ عَلَى الْفَسَادِ هُوَ التَّحَرِّي أَوْ اعْتِقَادُ الْفَسَادِ عَنْ التَّحَرِّي، فَإِذَا حَكَمَ بِالْفَسَادِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَزِمَ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي صُورَةِ تَرْكِ التَّحَرِّي فَكَانَ ثُبُوتُ الْفَسَادِ فِيهَا قَبْلَ ظُهُورِ الصَّوَابِ إنَّمَا هُوَ لِمُجَرَّدِ اعْتِقَادِهِ الْفَسَادَ مُؤَاخَذَةً بِاعْتِقَادِهِ الَّذِي هُوَ لَيْسَ
وَالِاسْتِخْبَارُ فَوْقَ التَّحَرِّي (فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَخْطَأَ بَعْدَ مَا صَلَّى لَا يُعِيدُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُعِيدُهَا إذَا اسْتَدْبَرَ لِتَيَقُّنِهِ بِالْخَطَأِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: لَيْسَ فِي وُسْعِهِ التَّوَجُّهُ إلَى جِهَةِ التَّحَرِّي
بِدَلِيلٍ إذْ لَمْ يَكُنْ عَنْ تَحَرٍّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي فَتَاوَى الْعَتَّابِيِّ: تَحَرَّى فَلَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ قِيلَ يُؤَخِّرُ، وَقِيلَ يُصَلِّي إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ، وَقِيلَ يُخَيِّرُ، هَذَا كُلُّهُ إذَا اشْتَبَهَ، فَإِنْ صَلَّى فِي الصَّحْرَاءِ إلَى جِهَةٍ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا تَحَرٍّ، إنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ أَوْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ حَالِهِ شَيْءٌ حَتَّى ذَهَبَ عَنْ الْمَوْضِعِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ أَوْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ (قَوْلُهُ وَالِاسْتِخْبَارُ فَوْقَ التَّحَرِّي) فَيَتْرُكُ بِهِ التَّحَرِّيَ، فَإِنْ لَمْ يُخْبِرْهُ الْمُسْتَخْبَرُ حِينَ سَأَلَهُ فَصَلَّى بِالتَّحَرِّي ثُمَّ أَخْبَرَهُ لَا يُعِيدُ لَوْ كَانَ مُخْطِئًا، وَبِنَاءً عَلَى هَذَا ذَكَرَ فِي التَّجْنِيسِ: تَحَرَّى فَأَخْطَأَ فَدَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ثُمَّ عَلِمَ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ فِي صَلَاتِهِ وَقَدْ عَلِمَ حَالَتَهُ الْأُولَى لَا تَجُوزُ صَلَاةُ الدَّاخِلِ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْإِمَامَ كَانَ عَلَى الْخَطَإِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ انْتَهَى.
وَلَوْ كَانَ شُرُوعُ الْكُلِّ بِالتَّحَرِّي وَفِيهِمْ مَسْبُوقٌ وَلَاحِقٌ فَلَمَّا فَرَغَ الْإِمَامُ قَامَا إلَى الْقَضَاءِ فَظَهَرَ لَهُمَا خِلَافُ مَا كَانُوا رَأَوْا أَمْكَنَ الْمَسْبُوقُ إصْلَاحَ صَلَاتِهِ هُنَا بِأَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى الْقِبْلَةِ دُونَ اللَّاحِقِ، كَذَا فِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ.
وَالْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ أَوَّلًا هُوَ مَا عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ «كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَاهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}» ضَعَّفَهُ التِّرْمِذِيُّ وَآخَرُونَ.
وَعَنْ جَابِرٍ «كُنَّا فِي مَسِيرٍ فَأَصَابَنَا غَيْمٌ فَتَحَيَّرْنَا فِي الْقِبْلَةِ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِدَةٍ، وَجَعَلَ أَحَدُنَا يَحُطُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا فَإِذَا نَحْنُ قَدْ صَلَّيْنَا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قَدْ أُجِيزَتْ صَلَاتُكُمْ» ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ هُوَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَالَ فِيهِ فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً فَنَادَى: أَلَّا إنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ، فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْكَعْبَةِ (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إلَخْ) لَا يَخْفَى أَنَّ تَيَقُّنَ الْخَطَأِ ثَابِتٌ فِي تَوَجُّهِهِ إلَى جِهَةِ الْيَمْنَةِ وَالْيَسْرَةِ، فَجَعْلُهُ الْمَدَارِ يُوجِبُ الْإِعَادَةَ فِي الصُّوَرِ كُلِّهَا نَعَمْ فِي الِاسْتِدْبَارِ
وَالتَّكْلِيفُ مُقَيَّدٌ بِالْوُسْعِ (وَإِنْ عَلِمَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ اسْتَدَارَ إلَى الْقِبْلَةِ وَبَنَى عَلَيْهِ) لِأَنَّ أَهْلَ قَبَاءِ لَمَّا سَمِعُوا بِتَحَوُّلِ الْقِبْلَةِ اسْتَدَارُوا كَهَيْئَتِهِمْ فِي الصَّلَاةِ، وَاسْتَحْسَنَهُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام، وَكَذَا إذَا تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى تَوَجَّهَ إلَيْهَا لِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ غَيْرِ نَقْضِ الْمُؤَدَّى قَبْلَهُ. قَالَ (وَمَنْ أَمَّ قَوْمًا فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَتَحَرَّى الْقِبْلَةَ وَصَلَّى إلَى الْمَشْرِقِ وَتَحَرَّى مَنْ خَلْفَهُ فَصَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَى جِهَةٍ وَكُلُّهُمْ خَلْفَهُ وَلَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ الْإِمَامُ أَجْزَأَهُمْ) لِوُجُودِ التَّوَجُّهِ إلَى جِهَةِ التَّحَرِّي، وَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ غَيْرُ مَانِعَةٍ كَمَا فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ (وَمَنْ عَلِمَ مِنْهُمْ بِحَالِ إمَامِهِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ) لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ إمَامَهُ عَلَى الْخَطَإِ (وَكَذَا لَوْ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ) لِتَرْكِهِ فَرْضِ الْمَقَامِ
تَمَامُ الْبُعْدِ عَنْ الِاسْتِقْبَالِ.
وَالْوَجْهُ الَّذِي يَظْهَرُ مُؤْثِرًا تَرْكَ الْجِهَةِ اسْتِدْبَارًا أَوْ غَيْرَهُ، فَمُقْتَضَى النَّظَرِ أَنْ يَقُولَ بِشُمُولِ الْعَدَمِ، هَذَا. وَقَدْ قَاسَ عَلَى ظُهُورِ نَجَاسَةِ ثَوْبٍ صَلَّى فِيهِ أَوْ مَاءٍ تَوَضَّأَ بِهِ حَيْثُ تَجِبُ الْإِعَادَةُ اتِّفَاقًا.
وَالْجَوَابُ بِالْفَرْقِ بِإِمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى الصَّوَابِ بِالِاسْتِقْصَاءِ ثَمَّةَ نَظَرًا إلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ وَهُوَ قِيَامُ إحْسَاسِهِ بِهِمَا وَإِمْكَانُ الِاسْتِقْصَاءِ فِي صَوْنِهِمَا، أَمَّا هُنَا فَالدَّلِيلُ هُوَ رُؤْيَةُ النَّجْمِ مُنْعَدِمٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِصَابَةُ عَنْ الدَّلِيلِ فَلَمْ يَتَّجِهْ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ نِسْبَتُهُ إلَى تَقْصِيرٍ، بِخِلَافِ صُورَةِ قِيَامِ الدَّلِيلِ.
وَأَيْضًا الْقِبْلَةُ قَبِلَتْ التَّحَوُّلَ شَرْعًا مِنْ الشَّامِ إلَى الْكَعْبَةِ عَيْنِهَا ثُمَّ جِهَتِهَا ثُمَّ جِهَةِ التَّحَرِّي عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَلَا إعَادَةَ بِخِلَافِ النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ قَبُولُهُمَا التَّحَوُّلَ شَرْعًا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ
(فَرَائِضُ الصَّلَاةِ سِتَّةٌ: التَّحْرِيمَةُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} وَالْمُرَادُ تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ،
بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ)
شَرَعَ فِي الْمَقْصُودِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ قَبْلَ الصِّفَةِ.
وَالْوَصْفُ فِي اللُّغَةِ وَاحِدٌ، وَفِي عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِخِلَافِهِ، وَالتَّحْرِيرُ أَنَّ الْوَصْفَ لُغَةً ذِكْرُ مَا فِي الْمَوْصُوفِ مِنْ الصِّفَةِ، وَالصِّفَةُ هِيَ مَا فِيهِ، وَلَا يُنْكِرُ أَنَّهُ يُطْلَقُ الْوَصْفُ وَيُرَادُ الصِّفَةُ، وَبِهَذَا لَا يَلْزَمُ الِاتِّحَادُ لُغَةً إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْوَصْفَ مَصْدَرُ وَصَفَهُ إذَا ذَكَرَ مَا فِيهِ، ثُمَّ الْمُرَادُ هُنَا بِصِفَةِ الصَّلَاةِ الْأَوْصَافُ النَّفْسِيَّةُ لَهَا وَهِيَ الْأَجْزَاءُ الْعَقْلِيَّةُ الصَّادِقَةُ عَلَى الْخَارِجِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَجْزَاءُ الْهُوِيَّةِ مِنْ الْقِيَامِ الْجُزْئِيِّ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
(قَوْلُهُ فَرَائِضُ الصَّلَاةِ سِتَّةٌ) لَا يَخْلُو عَنْ شَيْءٍ لِأَنَّهُ إنْ اعْتَبَرَ آحَادَ الْفَرَائِضِ فَرِيضَةً لَمْ تَجُزْ التَّاءُ فِي عَدَدِهِ، وَإِنْ اُعْتُبِرَ فَرْضًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَمْعُهُ لِأَنَّ فَعَائِلَ إنَّمَا تَطَّرِدُ فِي كُلِّ رُبَاعِيٍّ ثَالِثُهُ مَدَّةٌ، مُؤَنَّثٍ بِالتَّاءِ، كَسَحَابَةٍ وَصَحِيفَةٍ وَحَلُوبَةٍ، أَوْ بِالْمَعْنَى كَشِمَالٍ وَعَجُوزٍ وَسَعِيدٍ عَلَمُ امْرَأَةٍ.
وَأَمَّا جَعْلُهُ فَرِيضَةً عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْفَرْضِ أُدْخِلَتْ التَّاءُ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ
وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقَالُهَا
بِتَأْوِيلِ الْمَكَانِ فَهُوَ تَصَرُّفٌ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَفْعَلَهُ، بَلْ إنَّمَا لَنَا أَنْ نُؤَوِّلَ الْوَارِدَ عَنْهُمْ مُخَالِفًا لِجَادَّتِهِمْ وَلِذَا لَمْ يُورِدْ أَهْلُ الشَّأْنِ هَذَا الْبَيْتَ إلَّا مِثَالًا لِلشُّذُوذِ، وَغَيْرَ أَنَّهُمْ عَلَّلُوا الْوَاقِعَ بِمَا ذَكَرُوا لَا أَنَّهُ أَعْطَاهُ ضَابِطَ صِحَّةِ اسْتِعْمَالِ مِثْلِهِ لِمَنْ شَاءَ قَوْلُهُ {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} وَكَذَا {وَقُومُوا لِلَّهِ} وَاقْرَءُوا {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} أَوَامِرُ وَمُقْتَضَاهَا الِافْتِرَاضُ، وَلَمْ تُفْرَضْ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يُرَادَ بِهَا الِافْتِرَاضُ الْوَاقِعُ فِي الصَّلَاةِ إعْمَالًا لِلنُّصُوصِ فِي حَقِيقَتِهَا حَيْثُ أَمْكَنَ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا
(وَالْقِيَامُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} .
(وَالْقِرَاءَةُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (وَالْقَعْدَةُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ)«لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه حِينَ عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ إذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ فَعَلْتَ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ»
التَّسْلِيمُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَحَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ فِي أَحْكَامِهِ، وَالْإِسْنَادُ فِيهِ مَجَازِيٌّ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ نَفْسَ التَّكْبِيرِ، بَلْ بِهِ يَثْبُتُ، أَوْ يُجْعَلُ مَجَازًا لُغَوِيًّا بِاسْتِعْمَالِ لَفْظِ التَّحْرِيمِ فِيمَا بِهِ أَيْ مَا يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الصَّلَاةِ التَّكْبِيرُ، وَمِثْلُهُ فِي تَحْلِيلِهَا التَّسْلِيمُ.
وَالْمُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ وُجُوبُ الْمَذْكُورَاتِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ لَا يَنْفِي إجْمَالَ الصَّلَاةِ، إذْ الْحَاصِلُ حِينَئِذٍ أَنَّ الصَّلَاةَ فِعْلٌ يَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ، بَقِيَ كَيْفِيَّةُ تَرْتِيبِهَا فِي الْأَدَاءِ وَهَلْ الصَّلَاةُ هَذِهِ فَقَطْ أَوْ مَعَ أُمُورٍ أُخَرَ، وَقَعَ الْبَيَانُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلِهِ، وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْهَا قَطُّ بِدُونِ الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ، وَالْمُوَاظَبَةُ مِنْ غَيْرِ تَرْكِ مَرَّةٍ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، فَإِذَا وَقَعَتْ بَيَانًا لِلْفَرْضِ: أَعْنِي الصَّلَاةَ الْمُجْمَلَ كَانَ مُتَعَلِّقُهَا فَرْضًا بِالضَّرُورَةِ، وَلَوْ لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْأَفْعَالِ عَلَى سُنِّيَّتِهِ لَكَانَ فَرْضًا، وَلَوْ لَمْ يَلْزَمْ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْفَاتِحَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَهُوَ نَسْخٌ لِلْقَاطِعِ بِالظَّنِّيِّ لَكَانَا فَرْضَيْنِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَعُدْ إلَى الْقَعْدَةِ الْأُولَى لَمَا تَرَكَهَا سَاهِيًا
ثُمَّ عَلِمَ لَكَانَتْ فَرْضًا، فَقَدْ عَلِمْت أَنَّ بَعْضَ الصَّلَاةِ عُرِفَ بِتِلْكَ النُّصُوصِ وَلَا إجْمَالَ فِيهَا، وَأَنَّهُ لَا يَنْفِي الْإِجْمَالَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَمَا تَعَلَّقَ بِالْأَفْعَالِ نَفْسِهَا لَا يَكُونُ بَيَانًا، فَإِنْ كَانَ نَاسِخًا لِلْإِطْلَاقِ وَهُوَ قَطْعِيٌّ نُسِخَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ وَهُوَ أَدْرَى بِالْمُرَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَطْعِيًّا لَمْ يَصْلُحْ لِذَلِكَ وَإِلَّا لَزِمَ تَقْدِيمُ الظَّنِّيِّ عِنْدَ مُعَارَضَتِهِ الْقَطْعِيَّ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ فِي قَضِيَّةِ الْعَقْلِ، وَعَمَّا ذَكَرْنَا كَانَ تَقْدِيمُ الْقِيَامِ عَلَى الرُّكُوعِ وَالرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ فَرْضًا لِأَنَّهُ بَيْنَهَا كَذَلِكَ
عَلَّقَ التَّمَامَ بِالْفِعْلِ قَرَأَ أَوْ لَمْ يَقْرَأْ.
قَالَ (وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ سُنَّةٌ) أَطْلَقَ اسْمَ السُّنَّةِ، وَفِيهَا وَاجِبَاتٌ كَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ
وَسَيَرِدُ عَلَيْك تَفَاصِيلُ هَذَا الْأَصْلِ (قَوْلُهُ عَلَّقَ التَّمَامَ بِالْفِعْلِ إلَخْ) بَيَانٌ لِلْمُرَادِ لَا أَنَّهُ مَعْنَى اللَّفْظِ: يَعْنِي لَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنْ لَا بُدَّ مِنْ الْقَعْدَةِ كَانَ الْمُرَادُ إذَا قُلْت هَذَا وَأَنْتَ قَاعِدٌ أَوْ فَعَلْت هَذَا قَائِلًا أَوْ غَيْرَ قَائِلٍ تَمَّتْ، فَلَوْ تَمَّ هَذَا سَنَدًا وَمَتْنًا كَانَ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْقَعْدَةِ عَيْنًا مُتَوَقِّفًا عَلَى ثُبُوتِ فَرْضِيَّتِهَا بِمَا يَسْتَقِلُّ بِذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ جُزْءَ الْمُثْبَتِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ إثْبَاتٌ أَصْلًا كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ إثْبَاتِهِ بِبَيَانِ الْمُجْمَلِ فَكَيْفَ وَلَمْ يَتِمَّ، فَإِنَّ الَّذِي فِي أَبِي دَاوُد «إذَا قُلْتَ هَذَا وَقَضَيْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلَاتَكَ إنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ» وَهُوَ تَعْلِيقٌ بِهِمَا فَإِذَا اتَّصَلَ الْخَبَرُ بِالْمُبَيَّنِ كَانَا فَرْضَيْنِ، نَعَمْ هُوَ بِلَفْظِ " أَوْ فَعَلْت هَذَا " فِي رِوَايَةٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ، فَلَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهَا مُدْرَجَةٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَوَجَبَ حَمْلُ أَوْ عَلَى مَعْنَى الْوَاوِ لِيُوَافِقَ الْمَرْفُوعَ، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ الْعَكْسِ فِيمَا أَظُنُّ فَكَيْفَ وَقَدْ بَيَّنَ الْإِدْرَاجَ شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَفَصَلَ كَلَامَ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ مُفَصَّلًا مُبَيَّنًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى أَنَّهَا مُدْرَجَةٌ. وَالْحَقُّ أَنَّ غَايَةَ الْإِدْرَاجِ هُنَا أَنْ تَصِيرُ مَوْقُوفَةً وَالْمَوْقُوفُ فِي مِثْلِهِ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي قَدْرِ الْفَرْضِ مِنْ الْقَعْدَةِ، قِيلَ قَدْرُ مَا يَأْتِي بِالشَّهَادَتَيْنِ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ قَدْرُ قِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ إلَى " عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " لِلْعِلْمِ بِأَنَّ شَرْعِيَّتَهَا لِقِرَاءَتِهِ، وَأَقَلُّ مَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ اسْمُ التَّشَهُّدِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ذَلِكَ.
وَعَلَى هَذَا يَنْشَأُ إشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ كَوْنَ مَا شُرِعَ لِغَيْرِهِ بِمَعْنَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِيَّتِهِ غَيْرُهُ يَكُونُ آكَدَ مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ مِمَّا لَمْ يُعْهَدْ بَلْ وَخِلَافُ الْمَعْقُولِ، فَإِذَا كَانَ شَرْعِيَّةُ الْقَعْدَةِ لِلذِّكْرِ أَوْ السَّلَامِ كَانَتْ دُونَهُمَا فَالْأَوْلَى أَنْ يُعَيِّنَ سَبَبَ شَرْعِيَّتِهَا الْخُرُوجَ، هَذَا، وَقَدْ عُدَّ مِنْ الْفَرَائِضِ إتْمَامُهَا وَالِانْتِقَالُ مِنْ رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ قِيلَ لِأَنَّ النَّصَّ الْمُوجِبَ لِلصَّلَاةِ يُوجِبُ ذَلِكَ إذْ لَا وُجُودَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِ إتْمَامِهَا وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي الْأَمْرَيْنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَعْدَةَ فَرْضٌ غَيْرُ رُكْنٍ لِعَدَمِ تَوَقُّفِ الْمَاهِيَّةِ
وَضَمِّ السُّورَةِ إلَيْهَا وَمُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فِيمَا شُرِعَ مُكَرَّرًا مِنْ الْأَفْعَالِ، وَالْقَعْدَةِ الْأُولَى وَقِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَالْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ وَالْجَهْرِ فِيمَا يُجْهَرُ فِيهِ وَالْمُخَافَتَةِ فِيمَا يُخَافَتُ فِيهِ، وَلِهَذَا تَجِبُ عَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ
عَلَيْهَا شَرْعًا لِأَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي يَحْنَثُ بِالرَّفْعِ مِنْ السُّجُودِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى الْقَعْدَةِ فَيُعْلَمُ أَنَّهَا شُرِعَتْ لِلْخُرُوجِ، وَهَذَا لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَفْعَالٌ وُضِعَتْ لِلتَّعْظِيمِ وَلَيْسَ الْقُعُودُ كَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا سِوَاهُ.
ثُمَّ الرُّكْنُ يَنْقَسِمُ إلَى أَصْلِيٍّ وَزَائِدٍ وَهُوَ مَا يَسْقُطُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مِنْ غَيْرِ تَحَقُّقِ ضَرُورَةٍ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ تَسْقُطُ حَالَةَ الِاقْتِدَاءِ وَعَنْ الْمُدْرِكِ فِي الرُّكُوعِ مَثَلًا بِخِلَافِ غَيْرِهَا لَا يَسْقُطُ إلَّا لِضَرُورَةٍ
(قَوْلُهُ فِيمَا شُرِعَ مُكَرَّرًا مِنْ الْأَفْعَالِ) أَرَادَ بِهِ مَا تَكَرَّرَ فِي كُلِّ الصَّلَاةِ كَالرَّكَعَاتِ إلَّا لِضَرُورَةِ الِاقْتِدَاءِ حَيْثُ يَسْقُطُ بِهِ التَّرْتِيبُ، فَإِنَّ الْمَسْبُوقَ يُصَلِّي آخِرَ الرَّكَعَاتِ قَبْلَ أَوَّلِهَا وَفِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَالْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ فَرْضًا فِي الصَّلَاةِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: مَا يَتَّحِدُ فِي كُلِّ الصَّلَاةِ كَالْقَعْدَةِ، أَوْ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ كَالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ، وَمَا يَتَعَدَّدُ فِي كُلِّهَا كَالرَّكَعَاتِ أَوْ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ كَالسُّجُودِ.
وَالتَّرْتِيبُ شَرْطٌ بَيْنَ مَا يَتَّحِدُ فِي كُلِّ الصَّلَاةِ وَجَمِيعُ مَا سِوَاهُ مِمَّا يَتَعَدَّدُ فِي كُلِّهَا أَوْ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَمَا يَتَّحِدُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، حَتَّى لَوْ تَذَكَّرَ بَعْدَ الْقَعْدَةِ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِمُفْسِدِ رَكْعَةٍ أَوْ سَجْدَةٍ صُلْبِيَّةٍ أَوْ لِلتِّلَاوَةِ فَعَلَهَا وَأَعَادَ الْقَعْدَةَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَكَذَا إذَا تَذَكَّرَ رُكُوعًا قَضَاهُ وَقَضَى مَا بَعْدَ السُّجُودِ أَوْ قِيَامًا أَوْ قِرَاءَةً صَلَّى رَكْعَةً تَامَّةً، وَكَذَا يُشْتَرَطُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ مَا يَتَّحِدُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ كَالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ، وَلِذَا قُلْنَا آنِفًا فِي تَرْكِ الْقِيَامِ وَحْدَهُ إنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَةً تَامَّةً.
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقَوْلُهُ فِي النِّهَايَةِ: التَّرْتِيبُ لَيْسَ بِشَرْطٍ بَيْنَ مَا يَتَعَدَّدُ فِي كُلِّ الصَّلَاةِ: يَعْنِي الرَّكَعَاتِ أَوْ يَتَّحِدُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَبَيْنَ مَا يَتَعَدَّدُ فِي رَكْعَةٍ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ بَلْ بَيْنَ السُّجُودِ وَالْمُتَّحَدِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ تَفْصِيلٌ إذَا كَانَ سُجُودَ ذَلِكَ الرُّكُوعِ بِأَنْ يَكُونَا رُكُوعًا وَسُجُودًا مِنْ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَالتَّرْتِيبُ شَرْطٌ، وَإِنْ كَانَ رُكُوعًا مِنْ رَكْعَةٍ وَسُجُودًا مِنْ أُخْرَى بِأَنْ تَذَكَّرَ فِي سَجْدَةٍ رُكُوعَ رَكْعَةٍ قَبْلَ هَذِهِ السَّجْدَةِ قَضَى الرُّكُوعَ مَعَ سَجْدَتَيْهِ، وَعَلَى قَلْبِهِ بِأَنْ تَذَكَّرَ فِي رُكُوعٍ أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ فِي الرَّكْعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا سَجَدَهَا وَهَلْ يُعِيدُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ الْمُتَذَكَّرَ فِيهِ فَفِي الْهِدَايَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إعَادَتُهُ بَلْ يُسْتَحَبُّ مُعَلَّلًا بِأَنَّ التَّرْتِيبَ لَيْسَ بِفَرْضٍ بَيْنَ مَا يَتَكَرَّرُ مِنْ الْأَفْعَالِ.
وَاَلَّذِي فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يُعِيدُهُ مُعَلِّلًا بِأَنَّهُ ارْتَفَضَ بِالْعَوْدِ إلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ الْأَرْكَانِ لِأَنَّهُ قَبْلَ الرَّفْعِ مِنْهُ يَقْبَلُ الرَّفْضَ وَلِهَذَا ذَكَرَهُ فِيمَا لَوْ تَذَكَّرَ سَجْدَةً بَعْدَ مَا رَفَعَ مِنْ الرُّكُوعِ أَنَّهُ يَقْضِيهَا وَلَا يُعِيدُ الرُّكُوعَ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا تَمَّ بِالرَّفْعِ لَا يَقْبَلُ الرَّفْضَ، فَعُلِمَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي إعَادَتِهَا لَيْسَ بِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ التَّرْتِيبِ وَعَدَمِهِ، بَلْ عَلَى أَنَّ الرُّكْنَ الْمُتَذَكَّرَ فِيهِ هَلْ يُرْتَفَضُ بِالْعَوْدِ إلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ الْأَرْكَانِ أَوْ لَا.
وَفِي كَافِي الْحَاكِمِ الشَّهِيدِ أَبِي الْفَضْلِ الَّذِي هُوَ جَمْعُ كَلَامِ مُحَمَّدٍ رحمه الله: رَجُلٌ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَلَمْ يَسْجُدْ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ وَسَجَدَ وَلَمْ يَرْكَعْ فَهَذَا قَدْ صَلَّى رَكْعَةً، وَكَذَلِكَ إنْ رَكَعَ أَوَّلًا ثُمَّ قَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ فَإِنَّمَا صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ إنْ سَجَدَ أَوَّلًا سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ وَرَكَعَ وَلَمْ يَسْجُدْ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ وَسَجَدَ فِي الثَّالِثَةِ وَلَمْ يَرْكَعْ فَإِنَّمَا صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ إنْ رَكَعَ فِي الْأُولَى وَلَمْ يَسْجُدْ وَرَكَعَ فِي الثَّانِيَةِ وَلَمْ يَسْجُدْ ثُمَّ سَجَدَ فِي الثَّالِثَةِ وَلَمْ يَرْكَعْ فَإِنَّمَا صَلَّى
بِتَرْكِهَا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَتَسْمِيَتُهَا سُنَّةً فِي الْكِتَابِ لِمَا أَنَّهُ ثَبَتَ وُجُوبُهَا بِالسُّنَّةِ.
رَكْعَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ قِرَاءَةَ التَّشَهُّدِ فِي الْأُولَى وَتَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ، قِيلَ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِمَا كَمَا سَيَذْكُرُ، لَكِنْ قَدْ نُقِلَ عَنْ الطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ سُنِّيَّةُ الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَمَعَ ذَلِكَ ذَكَرَهَا فَلَيْسَ الصَّارِفُ حِينَئِذٍ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُ اخْتَارَ هُنَا سُنِّيَّتَهُمَا ثُمَّ تَبَدَّلَ رَأْيُهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ فَاخْتَارَ وُجُوبَ الْقَعْدَةِ، وَبَقِيَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ بَعْدَ هَذَا إصَابَةُ لَفْظَةِ السَّلَامِ، وَتَعْيِينُ الْقِرَاءَةِ فِي أَوَّلَيْ الْفَرْضِ، وَحِينَئِذٍ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُحْمَلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ عَلَى أَنَّهُ حَصَرَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ وَتَرَكَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ، وَلَا تَبَدَّلَ رَأْيُهُ بَلْ إنَّهُ قَصَدَ إعْطَاءَ نَظَائِرَ لَا عَلَى الْحَصْرِ وَلِذَا أَتَى بِكَافِ التَّشْبِيهِ الْمُشْعِرَةِ بِعَدَمِ الْحَصْرِ (قَوْلُهُ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ جَوَابِ الْقِيَاسِ فِي التَّشَهُّدِ وَالْقُنُوتِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، وَكَذَا فِي السَّلَامِ لِأَنَّهَا أَذْكَارٌ، وَمَبْنَى الصَّلَاةِ عَلَى الْأَفْعَالِ لَا عَلَيْهَا، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ إلَّا فِي الْأَفْعَالِ وَالِاسْتِحْسَانُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ أَنَّهَا تُضَافُ إلَى كُلِّ الصَّلَاةِ نَحْوُ قُنُوتِ الْوِتْرِ وَتَشَهُّدِ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ مِنْ خَصَائِصِهَا، بِخِلَافِ نَحْوِ تَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ.
وَقَدْ يُقَالُ الِاخْتِصَاصُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْإِضَافَةِ إنَّمَا يُعْطَى أَنَّهَا لَا وُجُودَ لَهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ شَرْعًا، وَكَوْنُ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْوُجُوبَ مَحَلُّ نَظَرٍ.
فَالْأَوْلَى أَنْ يَسْتَدِلَّ فِي وُجُوبِهَا بِالْمُوَاظَبَةِ الْمَقْرُونَةِ بِالتَّرْكِ فِي التَّشَهُّدِ لِلنِّسْيَانِ فَلَا يَلْتَحِقُ بِالْمُبَيَّنِ: أَعْنِي الصَّلَاةَ لِتَكُونَ فَرْضًا، أَمَّا فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ فَلِأَنَّ أَصْلَهُمَا بِظَنِّيٍّ فَلَا تَكُونُ الْمُوَاظَبَةُ فِيهَا مُحْتَاجَةً إلَى الِاقْتِرَانِ بِالتَّرْكِ لِيَثْبُتَ بِهِ الْوُجُوبُ، وَالْمُوَاظَبَةُ فِي السَّلَامِ مُعَارَضَةٌ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ فَعَلْتَ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ» فَلَمْ يَتَحَقَّقْ بَيَانًا لِمَا تَقَرَّرَ جُزْءًا لِلصَّلَاةِ (قَوْلُهُ وَتَسْمِيَتُهَا سُنَّةً إلَخْ) يَعْنِي أُرِيدَ بِلَفْظِ السُّنَّةِ مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْوَاجِبَاتُ بِطَرِيقِ عُمُومِ الْمَجَازِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى
قَالَ (وَإِذَا شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ) لِمَا تَلَوْنَا، وَقَالَ.
عليه الصلاة والسلام «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، حَتَّى أَنَّ مَنْ تَحَرَّمَ لِلْفَرْضِ كَانَ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهَا التَّطَوُّعَ عِنْدَنَا.
اعْتِبَارِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ فِي مَحَلَّيْنِ عَلَى رَأْيِ الْعِرَاقِيِّينَ
(قَوْلُهُ وَإِذَا شَرَعَ كَبَّرَ) أَيْ إذَا أَرَادَ الشُّرُوعَ كَبَّرَ، فَإِنَّ التَّكْبِيرَ سَابِقٌ عَلَى الشُّرُوعِ، فَلَفْظُ الشُّرُوعِ فِي إرَادَتِهِ مَجَازٌ مِنْ إطْلَاقِ اللَّازِمِ عَلَى الْمَلْزُومِ لَا الْمُسَبِّبِ فِي السَّبَبِ لِمَا أَسْفَلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْإِرَادَةَ قَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهَا الْمُرَادُ، وَاللُّزُومُ الْمُجَوِّزُ لِلتَّجَوُّزِ أَعَمُّ مِنْ الْعَقْلِيِّ، وَفِي الْجُمْلَةِ (قَوْلُهُ وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا) عَلَى الْقَادِرِ.
وَفِي الْمُحِيطِ: الْأُمِّيُّ وَالْأَخْرَسُ لَوْ افْتَتَحَا بِالنِّيَّةِ جَازَ لِأَنَّهُمَا أَتَيَا بِأَقْصَى مَا فِي وُسْعِهِمَا انْتَهَى.
وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ عِنْدَنَا الْوَاجِبَ حَرَكَةٌ بِلَفْظٍ مَخْصُوصٍ، فَإِذَا تَعَذَّرَ نَفْسُ الْوَاجِبِ لَا يُحْكَمُ بِوُجُوبِ غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا يَصِحُّ إلَّا قَائِمًا، وَلَوْ حَبَا إلَى الْإِمَامِ فَكَبَّرَ مُنْحَنِيًا، إنْ كَانَ الْقِيَامُ إلَى أَقْرَبَ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا، وَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الْإِمَامِ وَلَوْ مَدَّةُ فَفَرَغَ الْإِمَامُ قَبْلَهُ أَوْ كَبَّرَ قَبْلَهُ غَيْرَ عَالِمٍ بِذَلِكَ جَازَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا لَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ (قَوْلُهُ حَتَّى أَنَّ مَنْ تَحَرَّمَ لِلْفَرْضِ كَانَ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ النَّفَلَ) وَكَذَا بِنَاءُ النَّفْلِ عَلَى النَّفْلِ، وَمُقْتَضَى كَوْنِ هَذَا ثَمَرَةً كَوْنُهُ شَرْطًا أَنْ يَجُوزَ
وَهُوَ يَقُولُ: إنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهَا مَا يُشْتَرَطُ لِسَائِرِ الْأَرْكَانِ وَهَذَا آيَةُ الرُّكْنِيَّةِ.
وَلَنَا أَنَّهُ عَطَفَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} وَمُقْتَضَاهُ الْمُغَايَرَةُ، وَلِهَذَا لَا يَتَكَرَّرُ كَتَكَرُّرِ الْأَرْكَانِ، وَمُرَاعَاةِ الشَّرَائِطِ لِمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الْقِيَامِ
(وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ التَّكْبِيرِ وَهُوَ سُنَّةٌ)
أَيْضًا بِنَاءُ الْفَرْضِ عَلَى الْفَرْضِ وَعَلَى النَّفْلِ.
وَقَدْ رُوِيَ إجَازَةُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي الْيُسْرِ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى مَنْعِهِ وَمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ كَوْنِهِ شَرْطًا، وَجَوَازِ مَا ذُكِرَ أَصْلُهُ النِّيَّةُ شَرْطٌ، وَلَا تَجُوزُ صَلَاتَانِ بِنِيَّةٍ وَالْوُضُوءُ شَرْطٌ وَكَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ وَاجِبًا لِكُلِّ صَلَاةٍ: نَعَمْ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إنْ شُرِطَ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَزِمَ أَنْ لَا يَصِحَّ بِنَاءُ النَّفْلِ عَلَى الْفَرْضِ، وَالْأَصَحُّ بِنَاءُ الْفَرْضِ عَلَى الْفَرْضِ وَعَلَى النَّفْلِ، وَلَا جَوَابَ إلَّا بِاخْتِيَارِ الْأَوَّلِ، وَصِحَّةِ النَّفْلِ تَبَعًا (قَوْلُهُ مَا يُشْتَرَطُ لِسَائِرِ الْأَرْكَانِ) مِنْ السَّتْرِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَغَيْرِهِمَا (قَوْلُهُ عَطَفَ الصَّلَاةَ) يَعْنِي فِي قَوْله تَعَالَى {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} وَمُقْتَضَاهُ الْمُغَايَرَةُ، فَلَوْ كَانَتْ رُكْنًا لَعُطِفَ عَلَى نَفْسِهِ.
فَإِنَّ الْحَاصِلَ حِينَئِذٍ فَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ وَقَامَ وَقَرَأَ إلَخْ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَعْنَى صَلَّى، وَلَوْ صَحَّ هَذَا امْتَنَعَ عَطْفُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، فَإِنَّ اللَّازِمَ وَاحِدٌ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إنَّ عَطْفَ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ وَإِنْ كَانَ نَظِيرَ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لَكِنْ جَوَازُهُ لِنُكْتَةٍ بَلَاغِيَّةٍ وَهِيَ مُنْعَدِمَةٌ هُنَا، فَلَزِمَ أَنْ لَا تَكُونَ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ التَّحْرِيمُ مِنْ الصَّلَاةِ فَهِيَ شَرْطٌ وَبِهَذَا يَتِمُّ الْوَجْهُ.
وَقَوْلُهُ وَلِهَذَا لَا يَتَكَرَّرُ إلَخْ زِيَادَةٌ فَلَا يَضُرُّ عَدَمُ صِحَّتِهَا إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ الرُّكْنِيَّةِ التَّكَرُّرُ كَالْقَعْدَةِ (قَوْلُهُ وَمُرَاعَاةِ الشَّرَائِطِ إلَخْ) يَتَضَمَّنُ مَنْعُ قَوْلِهِ يُشْتَرَطُ لَهَا فَقَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهَا بَلْ هُوَ لِمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ الْأَرْكَانِ لَا لِنَفْسِهَا.
وَلِذَا قُلْنَا: لَوْ تَحَرَّمَ حَامِلُ نَجَاسَةٍ أَوْ مَكْشُوفُ الْعَوْرَةِ أَوْ قَبْلَ ظُهُورِ الزَّوَالِ أَوْ مُنْحَرِفًا فَأَلْقَاهَا وَاسْتَتَرَ بِعَمَلٍ يَسِيرٍ وَظَهَرَ الزَّوَالُ وَاسْتَقْبَلَ مَعَ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ التَّحْرِيمَةِ جَازَ، وَذُكِرَ فِي الْكَافِي أَنَّهَا عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا رُكْنٌ انْتَهَى.
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الطَّحَاوِيِّ، فَيَجِبُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنْ لَا تَصِحَّ هَذِهِ الْفُرُوعُ
(قَوْلُهُ وَهُوَ سُنَّةٌ) أَثْبَتَهُ بِالْمُوَاظَبَةِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ تُفِيدُ الْوُجُوبَ، لَكِنْ إذَا
«لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَاظَبَ عَلَيْهِ» ، وَهَذَا اللَّفْظُ يُشِيرُ إلَى اشْتِرَاطِ الْمُقَارَنَةِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالْمَحْكِيُّ عَنْ الطَّحَاوِيِّ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ أَوَّلًا ثُمَّ يُكَبِّرُ لِأَنَّ فِعْلَهُ نَفْيُ الْكِبْرِيَاءِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ وَالنَّفْيُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِإِبْهَامَيْهِ شَحْمَتَيْ أُذُنَيْهِ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: يَرْفَعُ إلَى مَنْكِبَيْهِ، وَعَلَى هَذَا تَكْبِيرَةُ الْقُنُوتِ وَالْأَعْيَادِ وَالْجِنَازَةِ لَهُ حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «إذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى مَنْكِبَيْهِ» وَلَنَا رِوَايَةُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٌ وَالْبَرَاءِ وَأَنَسٍ رضي الله عنهم «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام
لَمْ يَكُنْ مَا يُفِيدُ أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَامِلِ الْوُجُوبِ وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ تَعْلِيمُهُ الْأَعْرَابِيَّ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِهِ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ.
عَلَى أَنَّهُ حَكَى فِي الْخُلَاصَةِ خِلَافًا فِي تَرْكِهِ، قِيلَ يَأْثَمُ وَقِيلَ لَا.
قَالَ: وَالْمُخْتَارُ إنْ اعْتَادَهُ أَثِمَ لَا إنْ كَانَ أَحْيَانًا انْتَهَى.
وَيَنْبَغِي أَنْ نَجْعَلَ شِقَّيْ هَذَا الْقَوْلِ مَحْمَلَ الْقَوْلَيْنِ فَلَا اخْتِلَافَ حِينَئِذٍ وَلَا إثْمَ لِنَفْسِ التَّرْكِ بَلْ لِأَنَّ اعْتِيَادَهُ لِلِاسْتِخْفَافِ وَإِلَّا فَمُشْكِلٌ أَوْ يَكُونُ وَاجِبًا (قَوْلُهُ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ) قَوْلًا (وَالْمَحْكِيُّ عَنْ الطَّحَاوِيِّ) فِعْلًا، وَاخْتَارَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَصَاحِبُ التُّحْفَةِ وَقَاضِي خَانْ (قَوْلُهُ وَالْأَصَحُّ) عَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ (قَوْلُهُ وَالنَّفْيُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِيجَابِ) أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ ذَاكَ فِي اللَّفْظِ فَلَا يَلْزَمُ فِي غَيْرِهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ إذَا لَمْ يَدَّعِ لُزُومَهُ فِي غَيْرِهِ فَإِنَّ تَقْدِيرَهُ هَكَذَا حِكْمَةُ شَرْعِيَّةِ هَذَا الرَّفْعُ نَفْيُ الْكِبْرِيَاءِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ لِيَحْصُلَ مِنْ النَّفْيِ الْفِعْلِيِّ وَالْإِثْبَاتِ الْقَوْلِيِّ حَصْرُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَالْمَعْهُودُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْحَاصِلِ بِاللَّفْظِ تَقْدِيمُ مُفِيدِ النَّفْيِ، فَإِذَا دَلَّ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ كَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَسْلُكَ بِهِ سَبِيلَ الْمَعْهُودِ اسْتِحْسَانًا لَا لُزُومًا: وَلَيْسَ الْكَلَامُ إلَّا فِي وَجْهِ أَوْلَوِيَّةِ هَذَا.
وَالسُّنَّةُ أَنْ يَنْشُرَ أَصَابِعَهُ فِي الرَّفْعِ غَيْرَ مُتَكَلِّفٍ فِي ضَمِّهَا وَتَفْرِيجِهَا وَاخْتَارَ غَيْرُ الْمُصَنِّفِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مُخْتَارِ الْمُصَنِّفِ سَمْعٌ وَإِلَّا انْتَظَمَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ عِنْدَ كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ» ، قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فَيَكُونُ أَوْلَى، لَكِنْ قَدْ وُجِدَ فِي النَّسَائِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ يُكَبِّرُ» وَهُنَا قَوْلٌ ثَالِثٌ قِيلَ بِهِ وَهُوَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ أَوَّلًا ثُمَّ يَرْفَعُ، وَفِيهِ أَيْضًا خُصُوصُ النَّقْلِ، فَإِنَّ رِوَايَةَ أَنَسٍ صَرِيحَةٌ فِيهِ كَمَا سَتَسْمَعُ، وَرِوَايَةُ أَبِي وَائِلٍ وَالْبَرَاءِ ظَاهِرَةٌ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ فَفِي الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ رِوَايَةٌ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فَيُؤْنَسُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ كُلَّ ذَلِكَ، وَيَتَرَجَّحُ مِنْ بَيْنِ أَفْعَالِهِ هَذِهِ تَقْدِيمُ الرَّفْعِ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَبْدَاهُ الْمُصَنِّفُ (قَوْلُهُ حَتَّى يُحَاذِيَ بِإِبْهَامَيْهِ شَحْمَتَيْ أُذُنَيْهِ) وَبِرُءُوسِ أَصَابِعِهِ فُرُوعَ أُذُنَيْهِ (قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا) أَيْ هَذَا الْخِلَافُ (قَوْلُهُ لَهُ حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ) وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
كَانَ إذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ» وَلِأَنَّ رَفْعَ الْيَدِ لِإِعْلَامِ الْأَصَمِّ
فَذَكَرْنَا صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ: «أَنَا كُنْتُ أَحْفَظَكُمْ لِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَأَيْتُهُ إذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلَا قَابِضَهُمَا، وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ: فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى، فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْأُخْرَى وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ» ، وَقَدْ أَعَلَّهُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ مُحَمَّدٍ هَذَا قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ أَنَّهُ وَجَدَ عَشَرَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ، فَفَسَدَ لِلْجَهَالَةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَرْجَحُ فَإِنَّ سِنَّ مُحَمَّدٍ لَا يَحْتَمِلُ مِثْلَ هَذَا، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ هَذَا الْحَدِيثَ سَمَاعًا لِمُحَمَّدٍ مِنْ أَبِي وَائِلٍ إلَّا عَبْدُ الْحَمِيدِ وَهُوَ عِنْدَك ضَعِيفٌ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرٍو حَضَرَ أَبَا حُمَيْدٍ وَأَبَا قَتَادَةَ، وَوَفَاةُ أَبِي قَتَادَةَ قَبْلَ هَذَا قَتَلَ مَعَ عَلِيٍّ وَصَلَّى عَلَيْهِ عَلِيٌّ فَهَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ وَلَا مُتَّصِلٍ عِنْدَنَا انْتَهَى. عَبْدُ الْحَمِيدِ هُوَ جَعْفَرُ بْنُ الْحَكَمِ الْأَنْصَارِيُّ ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ الْقَطَّانِ وَالثَّوْرِيُّ وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ بِسَمَاعِهِ مِنْ أَبِي قَتَادَةَ وَأَبِي حُمَيْدٍ، مِنْهُمْ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ قَالَ: تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَخِلَافَتُهُ أَوَّلُ سَنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمُدَّتُهَا تِسْعُ سِنِينَ وَأَشْهُرٌ. وَأَبُو قَتَادَةَ قِيلَ قُتِلَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ. قَالَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، وَأَبُو حُمَيْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّاعِدِيُّ تُوُفِّيَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَوَفَاةُ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ سِتِّينَ وَقِيلَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ. فَالْحَاصِلُ تَحَقُّقُ الْخِلَافِ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ وَالشَّأْنُ فِي التَّرْجِيحِ وَلَا حَاجَةَ إلَى الِاشْتِغَالِ بِهِ، فَإِنَّا لَوْ سَلَّمْنَا صِحَّتَهُ كَانَتْ رِوَايَةُ وَائِلٍ وَالْبَرَاءِ وَأَنَسٍ مُحَصِّلَاتٍ لِلْمَقْصُودِ، وَرِوَايَةُ وَائِلٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «أَنَّهُ رَآهُ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَصَفَّهُمَا حِيَالَ أُذُنَيْهِ» وَرِوَايَةُ أَنَسٍ ذَكَرَهَا الطَّحَاوِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ مُؤَمَّلُ بْنُ إسْمَاعِيلَ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، وَيُقَالُ ابْنُ زِيَادٍ، وَقَدْ ضُعِّفَ مُؤَمَّلٌ بِأَنَّهُ دَفَنَ كُتُبَهُ وَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْ حِفْظِهِ فَكَثُرَ خَطَؤُهُ، وَيَزِيدُ ضَعَّفَهُ عَلِيٌّ وَيَحْيَى وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ صَدُوقًا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَبِرَ سَاءَ حِفْظُهُ فَكَانَ يَتَلَقَّنُ مَا لُقِّنَ فَوَقَعَتْ الْمَنَاكِيرُ فِي حَدِيثِهِ، فَسَمَاعُ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ التَّغَيُّرِ صَحِيحٌ.
وَالرِّوَايَةُ عَنْ أَنَسٍ فِي السُّنَنِ الْكَبِيرِ لِلْبَيْهَقِيِّ «كَانَ صلى الله عليه وسلم إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِإِبْهَامَيْهِ أُذُنَيْهِ» قَالَ أَبُو الْفَرَجِ إسْنَادُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَلَا مُعَارَضَةَ، فَإِنَّ مُحَاذَاةَ الشَّحْمَتَيْنِ بِالْإِبْهَامَيْنِ تُسَوِّغُ حِكَايَةَ مُحَاذَاةِ الْيَدَيْنِ بِالْمَنْكِبَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ، لِأَنَّ طَرَفَ الْكَفِّ مَعَ الرُّسْغِ يُحَاذِي الْمَنْكِبَ أَوْ يُقَارِبَهُ، وَالْكَفُّ نَفْسُهُ يُحَاذِي الْأُذُنَ وَالْيَدُ تُقَالُ عَلَى الْكَفِّ إلَى أَعْلَاهَا، فَاَلَّذِي نَصَّ عَلَى مُحَاذَاةِ الْإِبْهَامَيْنِ بِالشَّحْمَتَيْنِ وَفَّقَ فِي التَّحْقِيقِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ.
ثُمَّ رَأَيْنَا رِوَايَةَ أَبِي دَاوُد عَنْ وَائِلٍ صَرِيحَةً فِيهِ قَالَ «إنَّهُ أَبْصَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ فَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى كَانَتَا بِحِيَالِ مَنْكِبَيْهِ وَحَاذَى بِإِبْهَامَيْهِ أُذُنَيْهِ» وَمِمَّا وَفَّقَ بِهِ حَمْلَ مَرْوِيِّهِ عَلَى حَالَةِ الِاشْتِمَالِ بِالْأَكْسِيَةِ فِي الشِّتَاءِ، فَإِنَّ الْإِبِطَ مَشْغُولٌ بِحِفْظِهَا، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ عَلَى حَالَةِ الْعُذْرِ، لَكِنَّ الْحَقَّ أَنْ لَا مُعَارَضَةَ كَمَا أَسْمَعْتُك فَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا الْحَمْلِ لِيَدْفَعَ التَّعَارُضَ، إلَّا أَنَّ رِوَايَةَ الْبَيْهَقِيّ تَقْتَضِي تَأْخِيرَ الرَّفْعِ عَنْ التَّكْبِيرِ وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الرَّفْعَ لِإِعْلَامِ الْأَصَمِّ) لَا يَنْفِي مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ لِنَفْيِ الْكِبْرِيَاءِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ لِجَوَازِ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي شَرْعِيَّتِهِ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، أَوْ أَنَّ
وَهُوَ بِمَا قُلْنَاهُ، وَمَا رَوَاهُ يُحْمَلُ عَلَى حَالَةِ الْعُذْرِ (وَالْمَرْأَةُ تَرْفَعُ يَدَيْهَا حِذَاءَ مَنْكِبَيْهَا) وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا
(فَإِنْ قَالَ بَدَلَ التَّكْبِيرِ اللَّهُ أَجَلُّ أَوْ أَعْظَمُ، أَوْ الرَّحْمَنُ أَكْبَرُ أَوْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَجْزَأَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: إنْ كَانَ يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ لَمْ يُجْزِئْهُ إلَّا قَوْلُهُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَوْ اللَّهُ
أَصْلَ الرَّفْعِ لِلنَّفْيِ، وَكَوْنُهُ إلَى الْأُذُنِ لِيَحْصُلَ بِهِ إعْلَامُ الْأَصَمِّ لِتَوْفِيَةِ الرَّفْعِ حِينَئِذٍ وَظُهُورِهِ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) هُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تَرْفَعُ حِذَاءَ أُذُنَيْهَا
(قَوْلُهُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى) أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا أَوْ خَبَرًا، فَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ اللَّهُ أَوْ الرَّبُّ بِلَا زِيَادَةٍ يَصِيرُ شَارِعًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا.
وَفِي التَّجْرِيدِ جَعَلَ هَذَا رِوَايَةَ الْحَسَنِ عَنْهُ.
أَمَّا عَلَى ظَاهِرِ رِوَايَةِ الْأَصْلِ اعْتَبَرَ الصِّفَةَ مَعَهُ، قِيلَ لِأَنَّ التَّعْظِيمَ الَّذِي هُوَ مَعْنَى التَّكْبِيرِ حُكْمٌ عَلَى الْمُعَظِّمِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْخَبَرِ، وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ تَظْهَرُ فِي حَائِضٍ طَهُرَتْ وَفِي الْوَقْتِ مَا يَسَعُ الِاسْمَ فَقَطْ تَجِبُ الصَّلَاةُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا.
أَمَّا لَوْ قَالَ الْكَبِيرُ أَوْ الْأَكْبَرُ فَقَطْ لَا يَصِيرُ شَارِعًا عِنْدَهُ كَانَ الْفَرْقُ الِاخْتِصَاصَ فِي الْإِطْلَاقِ وَعَدَمِهِ.
وَعَنْ هَذَا قَالَ الْفُضَيْلِيُّ بِالرَّحْمَنِ يَصِيرُ شَارِعًا وَبِالرَّحِيمِ لَا لِأَنَّهُ مُشْتَرَكٌ، ثُمَّ هَلْ يُكْرَهُ الِافْتِتَاحُ بِغَيْرِ اللَّهُ أَكْبَرُ عِنْدَهُ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ لَا يُكْرَهُ فِي الْأَصَحِّ.
وَفِي التُّحْفَةِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُكْرَهُ، وَهَذَا أَوْلَى، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي التَّجْرِيدِ مَرْوِيًّا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (قَوْلُهُ لَمْ يُجْزِئْهُ إلَخْ) فِيهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْجَلَالَةِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَقَدْ رُوِيَ الْأَوَّلُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، فَلَوْ قَالَ أَكْبَرُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ،
الْأَكْبَرُ أَوْ اللَّهُ الْكَبِيرُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْأَوَّلَيْنِ.
وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْأَوَّلِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَنْقُولُ وَالْأَصْلُ فِيهِ التَّوْقِيفُ.
وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله يَقُولُ: إدْخَالُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِيهِ أَبْلَغُ فِي الثَّنَاءِ فَقَامَ مَقَامَهُ.
وَأَبُو يُوسُفَ رحمه الله يَقُولُ: إنَّ أَفْعَلَ وَفَعِيلًا فِي صِفَاتِهِ تَعَالَى سَوَاءٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى الْمَعْنَى.
وَلَهُمَا أَنَّ التَّكْبِيرَ هُوَ التَّعْظِيمُ لُغَةً وَهُوَ حَاصِلٌ
(فَإِنْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ قَرَأَ فِيهَا بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ ذَبَحَ وَسَمَّى بِالْفَارِسِيَّةِ وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَجْزَأَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَا: لَا يُجْزِئُهُ إلَّا فِي الذَّبِيحَةِ
وَالثَّانِي لَيْسَ بِلَازِمٍ، بَلْ لَوْ قَالَ اللَّهُ كَبِيرٌ أَوْ الْكِبَارُ جَازَ عِنْدَهُ أَيْضًا (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَنْقُولُ) مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الْمُتَوَارَثُ مِنْ قَوْلِهِ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتُهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم «إنَّهُ لَا تَتِمُّ صَلَاةٌ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَيُسْبِغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ يُكَبِّرَ وَيَحْمَدَ اللَّهَ عز وجل وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ وَيَقْرَأَ بِمَا شَاءَ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ يَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ (قَوْلُهُ لِأَنَّ أَفْعَلَ وَفَعِيلًا فِي صِفَاتِهِ تَعَالَى سَوَاءٌ) لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِأَكْبَرُ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ فِي صِفَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ بَعْدَ الْمُشَارَكَةِ لِأَنَّهُ لَا يُسَاوِيهِ أَحَدٌ فِي أَصْلِ الْكِبْرِيَاءِ فَكَانَ أَفْعَلُ بِمَعْنَى فَعِيلٍ، لَكِنْ فِي الْمُغْرِبِ اللَّهُ أَكْبَرُ: أَيْ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَتَفْسِيرُهُمْ إيَّاهُ بِالْكَبِيرِ ضَعِيفٌ.
وَيُمْكِنُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِ " كَبِيرٌ وَأَكْبَرُ " وَاحِدًا فِي صِفَاتِهِ، الْمُرَادُ مِنْ الْكَبِيرِ الْمُسْنَدُ إلَيْهِ الْكَبِيرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا سِوَاهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ لَيْسَ بِكَبِيرٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ بِأَكْبَرُ (قَوْلُهُ إنَّ التَّكْبِيرَ) أَيْ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» مَعْنَاهُ التَّعْظِيمُ، وَهُوَ أَيْضًا الْمَذْكُورُ فِيمَا رَوَى مَالِكٌ أَوَّلَ الْحَدِيثِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِتَكْبِيرِ الِافْتِتَاحِ، فَكَانَ الْمَطْلُوبُ بِلَفْظِ النَّصِّ التَّعْظِيمَ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ خُصُوصِ اللَّهُ أَكْبَرُ وَغَيْرُهُ وَلَا إجْمَالَ فِيهِ، وَالثَّابِتُ بِالْخَبَرِ اللَّفْظُ الْمَخْصُوصُ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ حَتَّى يُكْرَهَ لِمَنْ يُحْسِنُهُ تَرْكُهُ كَمَا قُلْنَا فِي الْقِرَاءَةِ مَعَ الْفَاتِحَةِ وَفِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعَ التَّعْدِيلِ، كَذَا فِي الْكَافِي، وَهَذَا يُفِيدُ وُجُوبَهُ ظَاهِرًا وَهُوَ مُقْتَضَى الْمُوَاظَبَةِ
وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ أَجْزَأَهُ) أَمَّا الْكَلَامُ فِي الِافْتِتَاحِ فَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَمَعَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْفَارِسِيَّةِ لِأَنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ لَهَا مِنْ الْمَزِيَّةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا.
وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْقِرَاءَةِ فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ لِمَنْظُومٍ عَرَبِيٍّ كَمَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْعَجْزِ يُكْتَفَى بِالْمَعْنَى كَالْإِيمَاءِ، بِخِلَافِ التَّسْمِيَةِ لِأَنَّ الذِّكْرَ يَحْصُلُ بِكُلِّ لِسَانٍ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا بِهَذِهِ اللُّغَةِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَ الْعَجْزِ إلَّا أَنَّهُ يَصِيرُ مُسِيئًا
الَّتِي لَمْ تَقْتَرِنْ بِتَرْكٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى هَذَا
(قَوْلُهُ فَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْعَرَبِيَّةِ) فَيَجُوزُ عِنْدَهُ بِكُلِّ مَا أَفَادَ التَّعْظِيمَ: بَعْدَ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا، وَمَعَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْفَارِسِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ بِهَا الِافْتِتَاحُ.
وَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ مَا ذُكِرَ بِأَنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ لَهَا مِنْ الْمَزِيَّةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْجَوَازِ بِهَا الْجَوَازُ بِغَيْرِهَا وَهُوَ يَقُولُ الذِّكْرُ الْمُفِيدُ لِلتَّعْظِيمِ يَحْصُلُ بخداى بزركست كَمَا يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ الْوَاجِبُ (قَوْلُهُ كَمَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} وَغَيْرَهُ، فَالْفَرْضُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَهُوَ عَرَبِيٌّ فَالْفَرْضُ الْعَرَبِيُّ (قَوْلُهُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا بِهَذِهِ اللُّغَةِ) يَتَضَمَّنُ مَنْعَ أَخْذِ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَفْهُومِ الْقُرْآنِ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا} .
فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَسْمِيَتُهُ قُرْآنًا أَيْضًا لَوْ كَانَ أَعْجَمِيًّا.
وَالْحَقُّ أَنَّ قُرْآنًا الْمُنَكَّرَ لَمْ يُعْهَدْ فِيهِ نَقْلٌ عَنْ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَقْرُوءٍ.
أَمَّا الْقُرْآنُ بِاللَّامِ فَالْمَفْهُومُ مِنْهُ الْعَرَبِيُّ
لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَارَثَةَ، وَيَجُوزُ بِأَيِّ لِسَانٍ كَانَ سِوَى الْفَارِسِيَّةِ هُوَ الصَّحِيحُ لِمَا تَلَوْنَا، وَالْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَالْخِلَافُ فِي الِاعْتِدَادِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا فَسَادَ، وَيُرْوَى رُجُوعُهُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ إلَى قَوْلِهِمَا وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ، وَالْخُطْبَةُ وَالتَّشَهُّدُ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَفِي الْأَذَانِ يُعْتَبَرُ التَّعَارُفُ
(وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِاَللَّهُمِ اغْفِرْ لِي
فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَإِنْ أُطْلِقَ الْمَعْنَى الْمُجَرَّدُ الْقَائِمُ بِالذَّاتِ أَيْضًا الْمُنَافِي لِلسُّكُوتِ وَالْآفَةِ، وَالْمَطْلُوبُ بِقَوْلِهِ {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} الثَّانِي.
فَإِنْ قِيلَ النَّظْمُ مَقْصُودٌ لِلْإِعْجَازِ وَحَالَةُ الصَّلَاةِ الْمَقْصُودُ مِنْ الْقُرْآنِ فِيهَا الْمُنَاجَاةُ لَا الْإِعْجَازُ فَلَا يَكُونُ النَّظْمُ لَازِمًا فِيهَا، تَسَلَّطَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ لِلنَّصِّ بِالْمَعْنَى فَإِنَّ النَّصَّ طَلَبٌ بِالْعَرَبِيِّ وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُجِيزُهُ بِغَيْرِهَا، وَلَا بُعْدَ أَنْ يَتَعَلَّقَ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْآتِي بِالنَّظْمِ الْمُعْجِزِ بِقِرَاءَةِ ذَلِكَ الْمُعْجِزِ بِعَيْنِهِ بَيْنَ يَدَيْ الرَّبِّ تَعَالَى فَلِذَا كَانَ الْحَقُّ رُجُوعَهُ إلَى قَوْلِهِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ (قَوْلُهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ تَخْصِيصِ الْبَرْدَعِيِّ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ (قَوْلُهُ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا فَسَادَ) مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَ الْإِمَامُ نَجْمُ الدِّينِ النَّسَفِيُّ وَالْقَاضِي فَخْرُ الدِّينِ أَنَّهَا تَفْسُدُ عِنْدَهُمَا.
وَالْوَجْهُ إذَا كَانَ الْمَقْرُوءُ مِنْ مَكَانِ الْقَصَصِ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ أَنْ يَفْسُدَ بِمُجَرَّدِ قِرَاءَتِهِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ذِكْرًا أَوْ تَنْزِيهًا فَإِنَّمَا تَفْسُدُ إذَا اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ إخْلَاءِ الصَّلَاةِ عَنْ الْقِرَاءَةِ، وَلَوْ قَرَأَ بِقِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي.
وَفِيهِ إنْ اعْتَادَ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ مُصْحَفًا بِهَا يُمْنَعُ وَإِنْ فَعَلَ فِي آيَةٍ أَوْ آيَتَيْنِ لَا، فَإِنْ كَتَبَ الْقُرْآنَ وَتَفْسِيرَ كُلِّ حَرْفٍ وَتَرْجَمَتَهُ جَازَ (قَوْلُهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ) فَعِنْدَهُ يَجُوزُ بِالْفَارِسِيَّةِ وَعِنْدَهُمَا لَا إلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ (قَوْلُهُ يُعْتَبَرُ التَّعَارُفُ) فَإِنَّ بِالْمُتَعَارَفِ يَحْصُلُ الْإِعْلَامُ
(قَوْلُهُ وَإِنْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِاَللَّهُمِ اغْفِرْ لِي) أَوْ أَعُوذُ بِاَللَّهِ أَوْ إنَّا لِلَّهِ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَوْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ
لَا يَجُوزُ) لِأَنَّهُ مَشُوبٌ بِحَاجَتِهِ فَلَمْ يَكُنْ تَعْظِيمًا خَالِصًا، وَلَوْ افْتَتَحَ بِقَوْلِهِ اللَّهُمَّ فَقَدْ قِيلَ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ يَا اللَّهُ، قِيلَ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ يَا اللَّهُ أُمَّنَا بِخَيْرٍ فَكَانَ سُؤَالًا.
قَالَ (وَيَعْتَمِدُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى تَحْتَ السُّرَّةِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّ مِنْ السُّنَّةِ وَضْعَ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ» وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رحمه الله فِي الْإِرْسَالِ، وَعَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي الْوَضْعِ عَلَى الصَّدْرِ، وَلِأَنَّ الْوَضْعَ تَحْتَ السُّرَّةِ أَقْرَبُ إلَى التَّعْظِيمِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، ثُمَّ الِاعْتِمَادُ سُنَّةُ الْقِيَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَتَّى لَا يُرْسِلَ حَالَةَ الثَّنَاءِ.
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ قِيَامٍ فِيهِ ذِكْرٌ مَسْنُونٌ يَعْتَمِدُ فِيهِ وَمَا لَا فَلَا هُوَ الصَّحِيحُ، فَيَعْتَمِدُ فِي حَالَةِ الْقُنُوتِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَيُرْسِلُ فِي الْقَوْمَةِ وَبَيْنَ تَكْبِيرَاتِ
إلَّا بِاَللَّهِ أَوْ بِالتَّسْمِيَةِ لَا يَكُونُ شَارِعًا لِتَضْمِينِهَا السُّؤَالَ فِي الْمَعْنَى أَوْ صَرِيحًا (قَوْلُهُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ يَا اللَّهُ) يُفِيدُ الصِّحَّةَ بِ يَا اللَّهُ نَفْسِهِ اتِّفَاقًا، وَأَنَّ الْخِلَافَ فِي اللَّهُمَّ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَاهُ فَقَطْ فَيَجُوزُ أَوْ مَعَ زِيَادَةِ سُؤَالٍ فَلَا يَجُوزُ
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام) لَا يُعْرَفُ مَرْفُوعًا، بَلْ عَنْ عَلِيٍّ: مِنْ السُّنَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَضْعُ الْأَكُفِّ عَلَى الْأَكُفِّ تَحْتَ السُّرَّةِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ وَهَذَا لَفْظُهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى تَضْعِيفِهِ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ الْوَاسِطِيِّ مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ، وَفِي وَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فَقَطْ أَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهَا تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ عَلَى مَالِكٍ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} فَمَدْلُولُ اللَّفْظِ طَلَبُ النَّحْرِ نَفْسِهِ وَهُوَ غَيْرُ طَلَبِ وَضْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ النَّحْرِ، فَالْمُرَادُ نَحْرُ الْأُضْحِيَّةَ عَلَى أَنَّ وَضْعَ الْيَدَيْنِ عَلَى الصَّدْرِ لَيْسَ هُوَ حَقِيقَةُ وَضْعِهِمَا عَلَى النَّحْرِ فَصَارَ الثَّابِتُ هُوَ وَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَكَوْنُهُ تَحْتَ السُّرَّةِ أَوْ الصَّدْرِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ حَدِيثٌ يُوجِبُ الْعَمَلَ فَيُحَالُ عَلَى الْمَعْهُودِ مِنْ وَضْعِهَا حَالَ قَصْدِ التَّعْظِيمِ فِي الْقِيَامِ وَالْمَعْهُودُ فِي الشَّاهِدِ مِنْهُ تَحْتَ السُّرَّةِ، ثُمَّ قِيلَ كَيْفِيَّتُهُ أَنْ يَضَعَ الْكَفَّ عَلَى الْكَفِّ، وَقِيلَ عَلَى الْمِفْصَلِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَقْبِضُ بِالْيُمْنَى رُسْغَ الْيُسْرَى.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَضَعُهَا كَذَلِكَ وَيَكُونُ الرُّسْغُ وَسَطَ الْكَفِّ، وَقِيلَ يَأْخُذُ الرُّسْغَ بِالْإِبْهَامِ وَالْخِنْصَرِ: يَعْنِي وَيَضَعُ الْبَاقِيَ فَيَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْذِ وَالْوَضْعِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) فَلَا يُرْسِلُهُمَا بَعْدَ الِافْتِتَاحِ حَتَّى يَضَعَ، وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ قَوْلِ أَبِي حَفْصٍ الْفَضْلِيِّ؛ يُسَنُّ
الْأَعْيَادِ
(ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَى آخِرِهِ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يَضُمُّ إلَيْهِ قَوْلَهُ: إنِّي وَجَّهْت وَجْهِي إلَى آخِرِهِ، لِرِوَايَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ.
الْإِرْسَالُ فِي الْجِنَازَةِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَالْقَوْمَةِ فَيَكُونُ الْقِيَامُ مُطْلَقًا.
وَعَنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الْفَضْلِيِّ أَبِي عَلِيٍّ النَّسَفِيِّ وَالْحَاكِمِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: السُّنَّةُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الِاعْتِمَادُ مُخَالَفَةً لِلرَّوَافِضِ، فَإِنَّهُمْ يُرْسِلُونَ وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، ثُمَّ الْإِرْسَالُ فِي الْقَوْمَةِ بِنَاءٌ عَلَى الضَّابِطِ الْمَذْكُورِ يَقْتَضِي أَنْ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ مَسْنُونٌ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ إذَا قِيلَ بِأَنَّ التَّحْمِيدَ وَالتَّسْمِيعَ لَيْسَ سُنَّةً فِيهَا بَلْ فِي نَفْسِ الِانْتِقَالِ إلَيْهَا لَكِنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ النُّصُوصِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ قَلَّمَا يَقَعُ التَّسْمِيعُ إلَّا فِي الْقِيَامِ حَالَةَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا
(قَوْلُهُ أَنَّهُ يَضُمُّ إلَيْهِ «وَجَّهْتُ وَجْهِي») وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْبُدَاءَةِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ (قَوْلُهُ لِرِوَايَةِ عَلِيٍّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ) إذَا كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا تَمَّ الِاسْتِدْلَال وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ التَّوْجِيهُ لَمْ يَتِمَّ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ إفْرَادِهِ وَضَمِّهِ فَيَجُوزُ كَوْنُهُ كَانَ يَفْتَتِحُ أَحْيَانًا بِهَذِهِ وَأَحْيَانًا بِذَاكَ فَلَا يُفِيدُ سُنِّيَّةَ الْجَمْعِ.
وَالثَّابِتُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ فِي مُسْلِمٍ مَا ظَاهِرُهُ الْإِفْرَادُ نَسُوقُهُ تَشْرِيفًا لِهَذَا التَّأْلِيفِ، وَإِعَانَةً عَلَى حِفْظِ أَلْفَاظِ السُّنَّةِ لِيُتَبَرَّكَ بِهَا فِي النَّوَافِلِ مِنْ الْقِيَامِ وَغَيْرِهِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ، وَإِذَا رَكَعَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَك رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي. وَإِذَا رَفَعَ قَالَ
وَلَهُمَا رِوَايَةُ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ وَقَرَأَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ إلَى آخِرِهِ» وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ
اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ. وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ».
ثُمَّ يَكُونُ آخِرُ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي» .
فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ لِرِوَايَةِ جَابِرٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّهُ كَانَ إذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ. وَجَّهْتُ وَجْهِي إلَى اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ كَذَلِكَ (قَوْلُهُ وَلَهُمَا رِوَايَةُ أَنَسٍ) رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ وَعَائِشَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَجَابِرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم الِاسْتِفْتَاحَ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَى آخِرِهِ، مَرْفُوعًا إلَّا عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ وَقَفَهُ عَلَى عُمَرَ، وَرَفَعَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُمَرَ ثُمَّ قَالَ: الْمَحْفُوظُ عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدَةَ وَهُوَ ابْنُ أَبِي لُبَابَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَجْهَرُ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَضَعَّفَاهُ. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه مِنْ قَوْلِهِ. وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه مِنْ قَوْلِهِ.
وَفِي أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ «كَانَ صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ كَبَّرَ ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ثَلَاثًا، تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ، ثُمَّ يَقُولُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا ثَلَاثًا، أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ، ثُمَّ يَقْرَأُ» وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ أَشْهَرُ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَقَالَ أَيْضًا: وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي إسْنَادِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: كَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يَتَكَلَّمُ فِي عَلِيِّ بْنِ عَلِيٍّ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَصِحُّ هَذَا الْحَدِيثُ اهـ. وَعَلِيُّ بْنِ عَلِيِّ بْنِ نَجَدِ بْنِ رِفَاعَةَ وَثَّقَهُ وَكِيعُ وَابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو زُرْعَةَ وَكَفَى بِهِمْ، وَلِمَا ثَبَتَ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ كَعُمَرَ رضي الله عنه وَغَيْرِهِ «الِافْتِتَاحُ بَعْدَهُ عليه الصلاة والسلام بِسُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ» مَعَ الْجَهْرِ بِهِ لِقَصْدِ تَعْلِيمِ النَّاسِ لِيَقْتَدُوا وَيَأْنَسُوا كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم آخِرَ الْأَمْرِ أَوْ أَنَّهُ كَانَ الْأَكْثَرَ مِنْ فِعْلِهِ وَإِنْ كَانَ رَفْعُ غَيْرِهِ أَقْوَى عَلَى طَرِيقِ الْمُحَدِّثِينَ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْكُتُ هُنَيْهَةً قَبْلَ الْقِرَاءَةِ بَعْدَ التَّكْبِيرِ فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ» وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ الْكُلِّ لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَقُلْ بِسُنِّيَّتِهِ عَيْنًا أَحَدٌ مِنْ الْأَرْبَعَةِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ غَيْرَ الْمَرْفُوعِ أَوْ الْمَرْفُوعَ الْمَرْجُوحَ فِي الثُّبُوتِ عَنْ مَرْفُوعٍ آخَرَ قَدْ يُقَدَّمُ عَلَى عَدِيلِهِ إذَا اقْتَرَنَ بِقَرَائِنَ تُفِيدُ أَنَّهُ صَحِيحٌ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام مُسْتَمِرٌّ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ) يُؤَيِّدُ الْحَمْلَ الْمَذْكُورَ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ وَالنَّسَائِيُّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ إذَا قَامَ يُصَلِّي تَطَوُّعًا قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَجَّهْتُ وَجْهِي» إلَى آخِرِهِ، فَيَكُونُ مُفَسِّرًا لِمَا
عَلَى التَّهَجُّدِ.
وَقَوْلُهُ وَجَلَّ ثَنَاؤُك لَمْ يُذْكَرْ فِي الْمَشَاهِيرِ فَلَا يَأْتِي بِهِ فِي الْفَرَائِضِ.
وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَأْتِيَ بِالتَّوَجُّهِ قَبْلَ التَّكْبِيرِ لِتَتَّصِلَ بِهِ النِّيَّةُ هُوَ الصَّحِيحُ
(وَيَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} مَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْت قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ أَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ لِيُوَافِقَ الْقُرْآنَ،
فِي غَيْرِهِ، بِخِلَافِ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ فَإِنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ الْمُسْتَقَرُّ عَلَيْهِ فِي الْفَرَائِضِ (قَوْلُهُ عَلَى التَّهَجُّدِ) الْمُرَادُ النَّوَافِلُ تَهَجُّدًا وَغَيْرَهُ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، ثُمَّ إذَا قَالَهُ يَقُولُ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ قَالَ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قِيلَ تَفْسُدُ لِلْكَذِبِ، وَقِيلَ لَا وَهُوَ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ تَالٍ لَا مُخْبِرٌ (قَوْلُهُ لَمْ يَذْكُرْ مِنْ الْمَشَاهِيرِ) وَإِنْ كَانَ رُوِيَ فِي الْجُمْلَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ مِنْ قَوْلِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ لَهُ، وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو شُجَاعٍ فِي كِتَابِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه " إنَّ مِنْ أَحَبِّ الْكَلَامِ إلَى اللَّهِ عز وجل أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، وَتَبَارَكَ اسْمُك وَتَعَالَى جَدُّك، وَجَلَّ ثَنَاؤُك وَلَا إلَهَ غَيْرُك، وَأَبْغَضِ الْكَلَامِ إلَى اللَّهِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: اتَّقِ اللَّهَ فَيَقُولُ عَلَيْك نَفْسَك " (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ يَأْتِي بِهِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي النِّيَّةِ وَعَمِلَ بِالْإِخْبَارِ، وَقِيلَ لَا كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ لِيَتَّصِلَ بِهِ: أَيْ بِالتَّكْبِيرِ النِّيَّةُ، إذْ الْأَوْلَى فِي النِّيَّةِ قِرَانُهَا بِالتَّكْبِيرِ وَقِرَاءَتُهُ تُوجِبُ فَصْلَهَا، إلَّا أَنَّ هَذَا يَنْتَفِي فِي حَقِّ مَنْ اسْتَصْحَبَهَا فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ
(قَوْلُهُ وَيَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ إلَخْ) وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ، وَعَنْ الثَّوْرِيِّ وَعَطَاءٍ وُجُوبُهُ نَظَرًا إلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَعَدَمِ صَلَاحِيَّةِ كَوْنِهِ لِدَفْعِ الْوَسْوَسَةِ فِي الْقِرَاءَةِ صَارِفًا عَنْهُ بَلْ يَصِحُّ شَرْعُ الْوُجُوبِ مَعَهُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَيَبْعُدُ مِنْهُمَا أَنْ يَبْتَدِعَا قَوْلًا خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ بَعْدَ عِلْمِهِمَا بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّارِفِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ.
وَقَدْ يُقَالُ: هُوَ تَعْلِيمُهُ الْأَعْرَابِيَّ وَلَمْ يَذْكُرْهَا.
وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ تَعْلِيمَهُ الصَّلَاةَ بِتَعْلِيمِهِ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهَا وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ بَلْ وَاجِبَاتِ الْقِرَاءَةِ، أَوْ أَنَّ كَوْنَهَا تُقَالُ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ كَانَ ظَاهِرًا فَأَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ لَهُ: وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، مَعَ أَنَّ مِنْ الْمَشَايِخِ كَصَاحِبِ الْخُلَاصَةِ مَنْ جَعَلَ قَوْلَهُ هُوَ الْأَصَحُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شِرْعَتَهَا لِدَفْعِ الْوَسْوَسَةِ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله: يَسْتَعِيذُ الْمَسْبُوقُ مَرَّتَيْنِ إذَا افْتَتَحَ وَإِذَا قَرَأَ فِيمَا يُقْضَى ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ (قَوْلُهُ لِيُوَافِقَ الْقُرْآنَ) وَغَيْرُ الْمُصَنِّفِ: اخْتَارَ
وَيَقْرُبُ مِنْهُ أَعُوذُ بِاَللَّهِ، ثُمَّ التَّعَوُّذُ تَبَعٌ لِلْقِرَاءَةِ دُونَ الثَّنَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَا تَلَوْنَا حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ الْمَسْبُوقُ دُونَ الْمُقْتَدِي وَيُؤَخَّرَ عَنْ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ
(وَيَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) هَكَذَا نُقِلَ فِي الْمَشَاهِيرِ (وَيُسِرُّ بِهِمَا) لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: أَرْبَعٌ يُخْفِيهِنَّ الْإِمَامُ، وَذَكَرَ مِنْهَا التَّعَوُّذَ وَالتَّسْمِيَةَ وَآمِينَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَجْهَرُ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام جَهَرَ فِي صَلَاتِهِ بِالتَّسْمِيَةِ» .
أَعُوذُ بِاَللَّهِ لِأَنَّ لَفْظَ أَسْتَعِيذُ طَلَبُ الْعَوْذَةِ، وَقَوْلُهُ أَعُوذُ امْتِثَالٌ مُطَابِقٌ لِمُقْتَضَاهُ، أَمَّا قُرْبُهُ مِنْ لَفْظِهِ فَمُهْدَرٌ وَإِذَا كَانَ الْمَنْقُولُ مِنْ اسْتِعَاذَتِهِ عليه الصلاة والسلام أَعُوذُ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا
(قَوْلُهُ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَرْبَعٌ إلَخْ) الرَّابِعُ التَّحْمِيدُ، وَالْأَرْبَعَةُ رَوَاهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ يُخْفِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالِاسْتِعَاذَةَ وَرَبَّنَا لَك الْحَمْدُ (قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام جَهَرَ») فِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ «صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ حَتَّى بَلَغَ وَلَا الضَّالِّينَ فَقَالَ آمِينَ، ثُمَّ يَقُولُ إذَا سَلَّمَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ لَا ارْتِيَابَ فِي صِحَّتِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلْجَهْرِ لِجَوَازِ سَمَاعِ نُعَيْمٍ مَعَ إخْفَاءِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فَإِنَّهُ مِمَّا يَتَحَقَّقُ إذَا لَمْ يُبَالِغْ فِي الْإِخْفَاءِ مَعَ قُرْبِ الْمُقْتَدِي، وَالصَّرِيحُ مَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وَفِي رِوَايَةٍ جَهَرَ قَالَ: قَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحٌ بِلَا عِلَّةٍ وَصَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَهَذَانِ أَمْثَلُ حَدِيثٍ فِي الْجَهْرِ.
قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: لَيْسَ حَدِيثٌ صَرِيحٌ فِي الْجَهْرِ إلَّا فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَلِذَا أَعْرَضَ أَرْبَابُ الْمَسَانِيدِ الْمَشْهُورَةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَحْمَدُ فَلَمْ يُخَرِّجُوا مِنْهَا شَيْئًا مَعَ اشْتِمَالِ كُتُبِهِمْ عَلَى أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَرَوَيْنَا عَنْ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَهْرِ حَدِيثٌ.
وَعَنْ الدَّارَقُطْنِيِّ: أَنَّهُ صَنَّفَ بِمِصْرَ كِتَابًا فِي الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ فَأَقْسَمَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِيُعَرِّفهُ الصَّحِيحَ مِنْهَا، فَقَالَ لَمْ يَصِحَّ فِي الْجَهْرِ حَدِيثٌ.
وَقَالَ الْحَازِمِيُّ: أَحَادِيثُ الْجَهْرِ وَإِنْ كَانَتْ مَأْثُورَةً عَنْ نَفَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ غَيْرَ أَنَّ أَكْثَرَهَا لَمْ يَسْلَمْ مِنْ شَوَائِبَ. وَقَدْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ وَأَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: الْجَهْرُ قِرَاءَةُ الْأَعْرَابِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «لَمْ يَجْهَرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
قُلْنَا: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّعْلِيمِ لِأَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه أَخْبَرَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ لَا يَجْهَرُ بِهَا» .
ثُمَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ رَكْعَةٍ كَالتَّعَوُّذِ.
بِالْبَسْمَلَةِ حَتَّى مَاتَ» فَقَدْ تَعَارَضَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ، إنَّ تَمَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى وُقُوعِهِ أَحْيَانًا: يَعْنِي لِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّهَا تُقْرَأُ فِيهَا، وَأَوْجَبَ هَذَا الْحَمْلُ صَرِيحَ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ «صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» لَمْ يُرِدْ نَفْسَ الْقِرَاءَةِ بَلْ السَّمَاعَ لِلْإِخْفَاءِ بِدَلِيلِ مَا صَرَّحَ بِهِ عَنْهُ «فَكَانُوا لَا يَجْهَرُونَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَعَنْهُ «صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَكُلُّهُمْ يُخْفُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَفِي لَفْظٍ:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسِرُّ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وُهَيْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسِرُّ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا رضي الله عنهم وَمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ التَّابِعِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ وَالْحَكَمِ وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَقَتَادَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْأَعْمَشِ وَالزُّهْرِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَحَمَّادٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ.
وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ طَرِيفِ بْنِ شِهَابٍ أَبِي سُفْيَانَ السَّعْدِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ إمَامٍ فَجَهَرَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَنَادَاهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إنِّي صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَجْهَرُ بِهَا» (قَوْلُهُ ثُمَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إلَخْ) هِيَ رِوَايَةُ
وَعَنْهُ أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا احْتِيَاطًا وَهُوَ قَوْلُهُمَا، وَلَا يَأْتِي بِهَا بَيْنَ السُّورَةِ وَالْفَاتِحَةِ إلَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله فَإِنَّهُ يَأْتِي بِهَا فِي صَلَاةِ الْمُخَافَتَةِ
(ثُمَّ يَقْرَأُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَسُورَةً أَوْ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَيِّ سُورَةٍ شَاءَ) فَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ لَا تَتَعَيَّنُ رُكْنًا عِنْدَنَا، وَكَذَا ضَمُّ السُّورَةِ إلَيْهَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي الْفَاتِحَةِ وَلِمَالِكٍ رحمه الله فِيهِمَا.
لَهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ مَعَهَا»
الْحَسَنِ عَنْهُ (وَعَنْهُ) وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ (أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا وَهُوَ قَوْلُهُمَا) وَجْهُهَا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ وَاخْتِلَافُ الْآثَارِ فِي كَوْنِهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ، وَعَلَيْهِ إعَادَةُ الْفَاتِحَةِ فَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا، وَمُقْتَضَى هَذَا سُنِّيَّتُهَا مَعَ السُّورَةِ لِثُبُوتِ الْخِلَافِ فِي كَوْنِهَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ كَمَا فِي الْفَاتِحَةِ إلَخْ وَوُجُوبُ السُّورَةِ كَالْفَاتِحَةِ
(قَوْلُهُ وَلِمَالِكٍ فِيهِمَا) مُنِعَ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ، وَلَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُورَةٍ فِي فَرِيضَةٍ أَوْ غَيْرِهَا» . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَاقْتَصَرَ عَلَى لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ إلَخْ، وَسَكَتَ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ مَعْلُولٌ بِأَبِي سُفْيَانَ طَرِيفِ بْنِ شِهَابٍ السَّعْدِيِّ. وَعَنْهُ رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فِي مُسْنَدِهِ نُقِلَ عَنْ أَبِي مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ تَضْعِيفُهُ وَلَيَّنَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَقَالَ: رَوَى عَنْهُ الثِّقَاتُ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي فِي الْمُتُونِ بِأَشْيَاءَ لَا يَأْتِي بِهَا غَيْرُهُ وَأَسَانِيدُهُ مُسْتَقِيمَةٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَمَعَهَا غَيْرُهَا» وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَا فِي أَوْسَطِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أُنَادِيَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» فَتَأَمَّلْهُ.
وَرَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله، رَوَاهُ الْحَارِثِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ عَدِيٍّ عَنْهُ بِسَنَدِهِمَا لَكِنْ فِي الطَّرِيقِ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مَنْ ضُعِّفَ، وَفِي طَرِيقِ الطَّبَرَانِيِّ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَسَنَذْكُرُ الْخِلَافَ فِيهِ فِي الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (قَوْلُهُ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ») فِي الصَّحِيحَيْنِ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَفِيهِ أَنَّهُ مُشْتَرَكُ الدَّلَالَةِ لِأَنَّ النَّفْيَ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى النِّسَبِ لَا نَفْسِ الْمُفْرَدِ، وَالْخَبَرُ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْجَارِ مَحْذُوفٌ فَيُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ صَحِيحَةً فَيُوَافِقُ رَأْيَهُ، أَوْ كَامِلَةً فَيُخَالِفُهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْمَجْرُورِ الْوَاقِعِ خَبَرًا اسْتِقْرَارٌ عَامٌّ.
فَالْحَاصِلُ لَا صَلَاةَ كَائِنَةٌ، وَعَدَمُ الْوُجُودِ شَرْعًا هُوَ عَدَمُ الصِّحَّةِ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ.
بِخِلَافِ لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَخْ.
وَلَا صَلَاةَ لِلْعَبْدِ الْآبِقِ فَإِنَّ قِيَامَ الدَّلِيلِ عَلَى الصِّحَّةِ أَوْجَبَ كَوْنَ الْمُرَادِ كَوْنًا خَاصًّا: أَيْ كَامِلَةً، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مِنْ حَذْفِ الْخَبَرِ لَا مِنْ وُقُوعِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ خَبَرًا، فَلِذَا عَدَلَ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ إلَى الظَّنِّيَّةِ فِي الثُّبُوتِ، وَبِهِ لَا يَثْبُتُ
وَلِلشَّافِعِيِّ رحمه الله قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ لَكِنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ فَقُلْنَا بِوُجُوبِهِمَا (وَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ وَلَا الضَّالِّينَ قَالَ
الرُّكْنُ لِأَنَّ لَازِمَهُ نَسْخُ الْإِطْلَاقِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ تَقْدِيمَ الظَّنِّيِّ عَلَى الْقَاطِعِ وَهُوَ لَا يَحِلُّ فَيَثْبُتُ بِهِ الْوُجُوبُ فَيَأْثَمُ بِتَرْكِ الْفَاتِحَةِ وَلَا تَفْسُدُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يُثْبِتُونَ رُكْنِيَّةَ الْفَاتِحَةِ عَلَى مَعْنَى الْوُجُوبِ عِنْدَنَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِوُجُوبِهَا قَطْعًا بَلْ ظَنًّا، غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَخُصُّونَ الْفَرْضِيَّةَ وَالرُّكْنِيَّةَ بِالْقَطْعِيِّ، فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: نَقُولُ بِمُوجِبِ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَإِنْ جَوَّزْنَا الزِّيَادَةَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ هُنَا، فَإِنَّا إنَّمَا قُلْنَا بِرُكْنِيَّتِهَا وَاقْتِرَاضِهَا بِالْمَعْنَى الَّذِي سَمَّيْتُمُوهُ وُجُوبًا فَلَا زِيَادَةَ، وَإِنَّمَا مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي التَّحْقِيقِ أَنَّ مَا تَرْكُهُ مُفْسَدٌ وَهُوَ الرُّكْنُ لَا يَكُونُ إلَّا بِقَاطِعٍ أَوْ لَا، فَقَالُوا لَا لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُجْمَلٌ مُشْكَلٌ، فَكُلُّ خَبَرٍ بَيَّنَ فِيهَا أَمْرًا وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُقْتَضَاهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسِ الْحَقِيقَةِ يُوجِبُ الرُّكْنِيَّةَ، وَقُلْنَا بَلْ يَلْزَمُ فِي كُلِّ مَا أَصْلُهُ قَطْعِيٌّ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَيْسَتْ سِوَى جُمْلَةِ الْأَرْكَانِ، فَإِذَا كَانَتْ قَطْعِيَّةً يَلْزَمُ فِي كُلِّ الْأَرْكَانِ قَطْعِيَّتُهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ إلَّا إيَّاهَا مَعَ الْآخَرِ، بِخِلَافِ مَا أَصْلُهُ ظَنِّيٌّ فَإِنَّ ثُبُوتَ أَرْكَانِهِ الَّتِي هِيَ هُوَ يَكُونُ بِظَنِّيٍّ بِلَا إشْكَالٍ، وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ لَمَّا لَمْ يُقْطَعْ بِهِ فَالْفَسَادُ بِتَرْكِهِ مَظْنُونٌ وَالصِّحَّةُ الْقَائِمَةُ بِالشُّرُوعِ الصَّحِيحِ قَطْعِيَّةٌ فَلَا يَزُولُ الْيَقِينُ إلَّا بِمِثْلِهِ وَإِلَّا أَبْطَلَ الظَّنِّيُّ الْقَطْعِيَّ (قَوْلُهُ فَقُلْنَا بِوُجُوبِهِمَا) عَلَى إرَادَةِ الْأَعَمِّ مِنْ السُّورَةِ بِالسُّورَةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ ثَلَاثُ آيَاتٍ قِصَارٍ أَوْ آيَةٌ طَوِيلَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ سُورَةً أَوْ لَا نَظَرًا إلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الرِّوَايَةِ الْقَائِلَةِ وَمَعَهَا غَيْرُهَا.
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: ثُبُوتُ الْوُجُوبِ بِهَذَا الظَّنِّيِّ إنَّمَا هُوَ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ مُعَارِضٌ لَكِنَّهُ ثَابِتٌ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي أَخَفَّ صَلَاتَهُ لَمَّا عَلَّمَهُ «فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ» وَمَقَامُ التَّعْلِيمِ لَا يَجُوزُ فِيهِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ، فَلَوْ كَانَتَا وَاجِبَتَيْنِ لَنَصَّ عَلَيْهِمَا لَهُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ وُجُوبَهُمَا كَانَ ظَاهِرًا وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ حَالِ الْأَعْرَابِيِّ حِفْظُهُ لَهُمَا فَقَالَ لَهُ عليه الصلاة والسلام «فَاقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ» أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مَا مَعَك الْفَاتِحَةَ أَوْ غَيْرَهَا، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَعَهُ الْفَاتِحَةُ فَالْمَقْصُودُ مَا تَيَسَّرَ بَعْدَهَا لِظُهُورِ لُزُومِهَا.
وَفِي أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتُهُ «إذَا قُمْتَ فَتَوَجَّهْتَ إلَى الْقِبْلَةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَبِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقْرَأَ» وَفِي رِوَايَةٍ رَوَاهَا قَالَ فِيهَا «فَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ، ثُمَّ اقْرَأْ وَكَبِّرْ، فَإِنْ كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأْ بِهِ، وَإِلَّا فَاحْمَدْ اللَّهِ وَكَبِّرْهُ وَهَلِّلْهُ» فَالْأَوْلَى فِي الْجَمْعِ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ: أَيْ فَإِنْ كَانَ مَعَك شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِلَّا فَكَبِّرْهُ إلَخْ، وَإِنْ كَانَ مَعَك فَاقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَبِمَا
آمِينَ وَيَقُولُهَا الْمُؤْتَمُّ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا» وَلَا مُتَمَسَّكَ لِمَالِكٍ رحمه الله فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا قَالَ الْإِمَامُ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ» مِنْ حَيْثُ الْقِسْمَةُ لِأَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُهَا قَالَ (وَيُخْفُونَهَا) لِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ فَيَكُونُ مَبْنَاهُ عَلَى الْإِخْفَاءِ،
شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إنَّ الرُّوَاةَ رَوَوْا بِالْمَعْنَى مَعَ اقْتِصَارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضِ الْجُمَلِ الْمَنْقُولَةِ فَتَأَمَّلْهُ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ التَّعَارُضُ (قَوْلُهُ وَيَقُولُهَا الْمُؤْتَمُّ) هَذَا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ فِي السَّرِيَّةِ إذَا سَمِعَهُ أَوْ فِي الْجَهْرِيَّةِ، وَفِي السَّرِيَّةِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَقُولُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَهْرَ لَا عِبْرَةَ بِهِ.
وَعَنْ الْهِنْدُوَانِيُّ يُؤَمِّنُ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَبِهِ يَثْبُتُ تَأْمِينُ الْإِمَامِ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ تَأْمِينُهُ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ لِأَنَّ تَأْمِينَهُ لَمْ يُسَقْ لَهُ النَّصُّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ: أَعْنِي قَوْلَهُ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُهَا، وَهِيَ فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ.
وَحَدِيثُ الْقِسْمَةِ فِي الصَّحِيحِ «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا، وَإِذَا قَالَ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ» (قَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ) الْمُتَقَدِّمِ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ حُجْرٌ أَبِي الْعَنْبَسِ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا بَلَغَ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قَالَ آمِينَ وَأَخْفَى بِهَا صَوْتَهُ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ حُجْرٌ بْنِ الْعَنْبَسِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ بْنِ حُجْرٌ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ «وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ» فَقَدْ خَالَفَ سُفْيَانُ شُعْبَةَ فِي الرَّفْعِ، وَفِي أَنَّ حُجْرًا أَبُو الْعَنْبَسِ أَوْ ابْنُ الْعَنْبَسِ وَفِي عَدَمِ ذِكْرِ عَلْقَمَةَ، وَفِيهِ عِلَّةٌ أُخْرَى ذَكَرَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي عِلَلِهِ الْكَبِيرِ قَالَ: إنَّهُ سَأَلَ الْبُخَارِيَّ هَلْ سَمِعَ عَلْقَمَةُ مِنْ أَبِيهِ فَقَالَ: إنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ اهـ. غَيْرَ أَنَّ هَذَا انْقِطَاعٌ إنْ تَمَّ، وَقَدْ رَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ رِوَايَةَ سُفْيَانَ أَنَّهُ أَحْفَظُ، وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ شُعْبَةَ فِي الْحَدِيثِ رَافِعًا صَوْتَهُ.
وَلَمَّا اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَدَلَ الْمُصَنِّفُ إلَى مَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَإِنَّهُ يُؤَيِّدُ أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم الْإِخْفَاءُ، لَكِنْ تَقَدَّمَ أَنَّ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ آمِينَ عَنْ النَّخَعِيِّ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَوْ كَانَ إلَيَّ فِي هَذَا شَيْءٌ لَوَفَّقْت بِأَنَّ رِوَايَةَ الْخَفْضِ يُرَادُ بِهَا عَدَمُ الْقَرْعِ الْعَنِيفِ، وَرِوَايَةَ الْجَهْرِ بِمَعْنَى قَوْلِهَا فِي زِبْرِ الصَّوْتِ وَذَيْلِهِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا فِي ابْنِ مَاجَهْ «كَانَ صلى الله عليه وسلم إذَا تَلَا {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قَالَ آمِينَ حَتَّى يُسْمِعَ مَنْ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَيَرْتَجُّ بِهَا الْمَسْجِدُ» وَارْتِجَاجُهُ إذَا
وَالْمَدُّ وَالْقَصْرُ فِيهِ وَجْهَانِ، وَالتَّشْدِيدُ فِيهِ خَطَأٌ فَاحِشٌ.
قَالَ (ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَرْكَعُ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَيُكَبِّرُ مَعَ الِانْحِطَاطِ «لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُكَبِّرُ عِنْدَ كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ» (وَيَحْذِفُ التَّكْبِيرَ حَذْفًا)
قِيلَ فِي الْيَمِّ فَإِنَّهُ الَّذِي يَحْصُلُ عَنْهُ دَوِيٌّ كَمَا يُشَاهَدُ فِي الْمَسَاجِدِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِقَرْعٍ، وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا بِقَرْعٍ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ (قَوْلُهُ وَالتَّشْدِيدُ خَطَأٌ) وَفِي التَّجْنِيسِ: تَفْسُدُ بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقِيلَ عِنْدَهُمَا لَا تَفْسُدُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: لَهُ وَجْهٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ نَدْعُوك قَاصِدِينَ إجَابَتَك لِأَنَّ مَعْنَى آمِينَ قَاصِدِينَ
(قَوْلُهُ وَفِي الْجَامِعِ) ذَكَرَ لَفْظَهُ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْمُقَارَنَةِ، وَلَفْظُ الْقُدُورِيِّ أَعَمُّ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ لِاحْتِمَالِ الْوَاوِ إيَّاهَا وَضِدَّهَا، وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْخِلَافِ لَكِنَّ الْخِلَافَ نُقِلَ صَرِيحًا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُكَبِّرُ قَائِمًا ثُمَّ يَرْكَعُ لَا عِنْدَ الْخَفْضِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُكَبِّرُ مَعًا لَكِنَّهُ يَجْهَرُ عِنْدَ الرَّفْعِ وَيُخْفِي عِنْدَ الْخَفْضِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجْهَرُ فِيهِمَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ حَالَةَ الْقِيَامِ قَدْرُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي الْمُقَارَنَةِ هُوَ الصَّحِيحُ
لِأَنَّ الْمَدَّ فِي أَوَّلِهِ خَطَأٌ مِنْ حَيْثُ الدِّينُ لِكَوْنِهِ اسْتِفْهَامًا، وَفِي آخِرِهِ لَحْنٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ (وَيَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيُفَرِّجُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِأَنَسٍ رضي الله عنه «إذَا رَكَعْتَ فَضَعْ يَدَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ وَفَرِّجْ بَيْنَ أَصَابِعِكَ» وَلَا يُنْدَبُ إلَى التَّفْرِيجِ إلَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِيَكُونَ أَمْكَنَ مِنْ الْأَخْذِ، وَلَا إلَى الضَّمِّ إلَّا فِي حَالَةِ السُّجُودِ وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يُتْرَكُ عَلَى الْعَادَةِ (وَيَبْسُطُ ظَهْرَهُ) لِأَنَّ «النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ إذَا رَكَعَ بَسَطَ ظَهْرَهُ» ،
قَوْلُهُ لِكَوْنِهِ اسْتِفْهَامًا) فِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ مَدَّ أَلِفَ اللَّهُ لَا يَصِيرُ شَارِعًا وَخِيفَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ إنْ كَانَ قَاصِدًا، وَكَذَا لَوْ مَدَّ أَلِفَ أَكْبَرُ أَوْ بَاءَهُ لَا يَصِيرُ شَارِعًا لِأَنَّ أَكْبَارًا جَمْعُ كَبَرٍ وَهُوَ الطَّبْلُ، وَقِيلَ اسْمٌ لِلشَّيْطَانِ، وَلَوْ مَدَّ هَاءَ اللَّهُ فَهُوَ خَطَأٌ لُغَةً وَكَذَا لَوْ مَدَّ رَاءَهُ، وَمَدُّ لَامِ " اللَّهُ " صَوَابٌ، وَجَزْمُ الْهَاءِ خَطَأٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِئْ إلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ (قَوْلُهُ وَيَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ) نَاصِبًا سَاقَيْهِ وَإِحْنَاؤُهُمَا شِبْهُ الْقَوْسِ كَمَا تَفْعَلُ عَامَّةُ النَّاسِ مَكْرُوهٌ ذَكَرَهُ فِي رَوْضَةِ الْعُلَمَاءِ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِأَنَسٍ رضي الله عنه) رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالصَّغِيرِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ، فَذَهَبَتْ بِي أُمِّي إلَيْهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ رِجَالَ الْأَنْصَارِ وَنِسَاءَهُمْ قَدْ أَتْحَفُوكَ وَلَمْ أَجِدْ مَا أُتْحِفُكَ إلَّا ابْنِي هَذَا فَاقْبَلْهُ مِنِّي يَخْدُمُكَ مَا شِئْتَ، قَالَ: فَخَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ فَلَمْ يَضْرِبْنِي ضَرْبَةً قَطُّ وَلَمْ يَسُبَّنِي وَلَمْ يَعْبِسْ فِي وَجْهِي» فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ إلَى أَنْ قَالَ فِيهِ: يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «يَا بُنَيَّ إذَا رَكَعْتُ فَضَعْ كَفَّيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ، وَفَرِّجْ بَيْنَ أَصَابِعِكَ وَارْفَعْ يَدَيْكَ عَنْ جَنْبَيْكَ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْ صِفَةِ صَلَاتِهِ عليه الصلاة والسلام «أَنَّهُ رَكَعَ فَوَضَعَ رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ» وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَأَمَّا أَثَرُ التَّطْبِيقِ فَمَنْسُوخٌ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْن أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: " صَلَّيْت إلَى جَنْبِ أَبِي وَطَبَّقْت بَيْنَ كَفِّي ثُمَّ وَضَعْتهمَا بَيْنَ فَخِذِي، فَنَهَانِي أَبِي وَقَالَ: كُنَّا نَفْعَلُ فَنُهِينَا عَنْهُ، وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الرُّكَبِ إلَّا فِي السُّجُودِ ".
قِيلَ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ فِيهِ، فَبِالضَّمِّ يَنَالُ أَكْثَرَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ إذَا رَكَعَ بَسَطَ ظَهْرَهُ) رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، فَكَانَ إذَا رَكَعَ سَوَّى ظَهْرَهُ حَتَّى لَوْ صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ لَاسْتَقَرَّ» وَرَوَى أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ
(وَلَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَلَا يُنَكِّسُهُ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ إذَا رَكَعَ لَا يُصَوِّبُ رَأْسَهُ وَلَا يُقَنِّعُهُ (وَيَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ» أَيْ أَدْنَى كَمَالِ الْجَمْعِ
(ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَيَقُولُ الْمُؤْتَمُّ: رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ، وَلَا يَقُولُهَا الْإِمَامُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا يَقُولُهَا فِي نَفْسِهِ) لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
فِي مُسْنَدِهِ عَنْ الْبَرَاءِ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا رَكَعَ بَسَطَ ظَهْرَهُ، وَإِذَا سَجَدَ وَجَّهَ أَصَابِعَهُ قِبَلَ الْقِبْلَةِ» وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - مِثْلَ حَدِيثِ وَابِصَةَ سَوَاءٌ (قَوْلُهُ لَا يُصَوِّبُ رَأْسَهُ وَلَا يُقَنِّعُهُ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ وَصَحَّحَهُ، وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ.
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ «فَكَانَ إذَا رَكَعَ لَمْ يُشَخِّصْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْهُ وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ» (قَوْلُهُ إذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ) أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «إذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ، وَإِذَا سَجَدَ فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ» لَفْظُ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ فَإِنَّ عَوْنًا لَمْ يَلْقَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ (قَوْلُهُ أَدْنَى كَمَالِ الْجَمْعِ) وَأَدْنَى مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ مَا يَكْمُلُ بِهِ لُغَةً وَيَصِيرُ جَمْعًا عَلَى خِلَافٍ فِيهِ مَعْلُومٍ، وَمُرَادُهُ أَدْنَى مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ كَمَالُهُ الْمَعْنَوِيُّ وَهُوَ الْجَمْعُ الْمُحَصِّلُ لِلسُّنَّةِ لَا اللُّغَوِيُّ، لِأَنَّ الْفَائِدَةَ الشَّرْعِيَّةَ حَيْثُ أَمْكَنَتْ فِي لَفْظِهِ عليه الصلاة والسلام قُدِّمَ اعْتِبَارُهَا، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ اتَّفَقَ أَنَّ أَدْنَى كَمَالِ الْجَمْعِ لُغَةً هُوَ أَدْنَى مَا تَحْصُلُ بِهِ السُّنَّةُ شَرْعًا وَلَا بِدَعَ فِيهِ، وَلَوْ تَرَكَ التَّسْبِيحَ أَصْلًا أَوْ أَتَى بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً كُرِهَ كَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ، وَلَوْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ فَهُوَ أَفْضَلُ بَعْدَ أَنْ يَخْتِمَ بِوِتْرٍ خَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ أَوْ تِسْعٍ إلَّا إذَا كَانَ إمَامًا وَالْقَوْمُ يَمَلُّونَ مِنْ ذَلِكَ
(قَوْلُهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) أَيْ قَبِلَ، يُقَالُ سَمِعَ الْأَمِيرُ كَلَامَ زَيْدٍ أَيْ قَبِلَهُ فَهُوَ دُعَاءٌ بِقَبُولِ الْحَمْدِ (قَوْلُهُ وَقَالَا يَقُولُهَا فِي نَفْسِهِ) وَاتَّفَقُوا أَنَّ الْمُؤْتَمَّ لَا يَذْكُرُ التَّسْمِيعَ.
وَفِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا
«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ» وَلِأَنَّهُ حَرَّضَ غَيْرَهُ فَلَا يَنْسَى نَفْسَهُ.
وَلَهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» هَذِهِ قِسْمَةٌ وَأَنَّهَا تُنَافِي الشَّرِكَةَ، لِهَذَا لَا يَأْتِي الْمُؤْتَمُّ بِالتَّسْمِيعِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَلِأَنَّهُ يَقَعُ تَحْمِيدُهُ بَعْدَ تَحْمِيدِ الْمُقْتَدِي، وَهُوَ خِلَافُ مَوْضِعِ الْإِمَامَةِ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الِانْفِرَادِ (وَالْمُنْفَرِدُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَصَحِّ) وَإِنْ كَانَ يُرْوَى الِاكْتِفَاءُ
الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ (قَوْلُهُ «كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ») عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا» الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ تَرْجِيحُ مُقَارَنَةِ الِانْتِقَالِ بِالتَّكْبِيرِ كَمَا هُوَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَأَنَّ التَّسْمِيعَ يُذْكَرُ حَالَةَ الِانْتِقَالِ وَالتَّحْمِيدَ حَالَةَ الْقِيَامِ، وَعَلَى وَقْفِهِ ذَكَرَ فِي جَامِعِ التُّمُرْتَاشِيِّ وَقَالَ فِيهِ: فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِالتَّسْمِيعِ حَالَةَ الرَّفْعِ لَا يَأْتِي بِهِ حَالَةَ الِاسْتِوَاءِ، وَقِيلَ يَأْتِي بِهِمَا، ثُمَّ هَذَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ الْإِشْكَالَ السَّابِقَ فِي الْقَاعِدَةِ: كُلُّ قِيَامٍ فِيهِ ذِكْرٌ مَسْنُونٌ يُسَنُّ فِيهِ الِاعْتِمَادُ وَإِلَّا فَلَا، فَفِي تَفْرِيعِهِمْ عَلَيْهَا عَدَمُ الِاعْتِمَادِ فِي الْقَوْمَةِ نَظَرٌ (قَوْلُهُ وَلَهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام) هَذَا بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ الَّذِي قَدَّمْنَا رِوَايَتَهُ لِمَالِكٍ فِي عَدَمِ قَوْلِ
بِالتَّسْمِيعِ وَيُرْوَى بِالتَّحْمِيدِ، وَالْإِمَامُ بِالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ آتٍ بِهِ مَعْنًى
. قَالَ (ثُمَّ إذَا اسْتَوَى قَائِمًا كَبَّرَ وَسَجَدَ) أَمَّا التَّكْبِيرُ وَالسُّجُودُ فَلِمَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا الِاسْتِوَاءُ قَائِمًا فَلَيْسَ بِفَرْضٍ، وَكَذَا الْجِلْسَةُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
قَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: يُفْتَرَضُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «قُمْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» قَالَهُ لِأَعْرَابِيٍّ حِينَ أَخَفَّ الصَّلَاةَ.
الْإِمَامِ آمِينَ عِنْدَهُ.
وَلَفْظُهُ فِيهِ «وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» بِدُونِ ذِكْرِ لَفْظِ الْإِمَامِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ ثُمَّ الرَّبْطُ بِالضَّمَائِرِ، وَجْهُ مُنَافَاتِهَا الشَّرِكَةَ أَنَّهُ شَارِعٌ فِي بَيَانِ مَا عَلَى الْمُقْتَدِي مِنْ الْمُتَابَعَةِ وَقَدْ جَعَلَهُ جُمْلَةَ جَزَاءِ شَرْطِ تَسْمِيعِ الْإِمَامِ، فَلَوْ شُرِعَ لَهُ التَّسْمِيعُ لَمْ يَكُنْ الْجَزَاءُ لِأَنَّ جَزَاءَ الشَّيْءِ لَيْسَ عَيْنَهُ، وَلَبَيَّنَهُ لِأَنَّهُ فِي مَقَامِ التَّعْلِيمِ، وَحِينَئِذٍ إنْ أَقَمْنَا رُكْنَ الْمُعَارَضَةِ كَانَ هَذَا أَرْجَحَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مُقَدَّمٌ عَلَى فِعْلِهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصِيَّةَ بِخِلَافِ فِعْلِهِ.
وَإِنْ جَمَعْنَا دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ كَانَ بِحَمْلِ الْجَمْعِ عَلَى حَالَةِ الِانْفِرَادِ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ فِي عُمُومِ صَلَاتِهِ (قَوْلُهُ وَالْإِمَامُ بِالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ آتٍ بِهِ مَعْنًى) قَالَ صلى الله عليه وسلم «الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ» .
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم قُمْ فَصَلِّ إلَخْ) فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَرَجَعَ فَصَلَّى كَمَا صَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَقَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى
وَلَهُمَا أَنَّ الرُّكُوعَ هُوَ الِانْحِنَاءُ وَالسُّجُودَ هُوَ الِانْخِفَاضُ لُغَةً، فَتَتَعَلَّق الرُّكْنِيَّةُ بِالْأَدْنَى فِيهِمَا، وَكَذَا فِي الِانْتِقَالِ إذْ هُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ.
وَفِي آخِرِ مَا رُوِيَ تَسْمِيَتُهُ إيَّاهُ صَلَاةً حَيْثُ قَالَ: وَمَا نَقَصْت مِنْ هَذَا شَيْئًا فَقَدْ نَقَصْت مِنْ صَلَاتِك، ثُمَّ الْقَوْمَةُ وَالْجِلْسَةُ
تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا حَتَّى تَقْضِيَهَا» وَاسْمُ الْأَعْرَابِيِّ خَلَّادُ بْنُ رَافِعٍ رضي الله عنه (قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّ الرُّكُوعَ) يَعْنِي الرُّكُوعَ هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالنَّصِّ جُزْءًا لِلصَّلَاةِ، وَكَذَا السُّجُودُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} .
وَلَا إجْمَالَ فِيهِمَا لِيَفْتَقِرَ إلَى الْبَيَانِ، وَمُسَمَّاهُمَا يَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ الِانْحِنَاءِ وَوَضْعِ بَعْضِ الْوَجْهِ مِمَّا لَا يُعَدُّ سُخْرِيَةً مَعَ الِاسْتِقْبَالِ فَخَرَجَ الذَّقَنُ وَالْخَدُّ، وَالطُّمَأْنِينَةُ دَوَامٌ عَلَى الْفِعْلِ لَا نَفْسُهُ فَهُوَ غَيْرُ الْمَطْلُوبِ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَتَوَقَّفَ الصِّحَّةُ عَلَيْهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِلَّا كَانَ نَسْخًا لِإِطْلَاقِ الْقَاطِعِ بِهِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ عِنْدَنَا مَعَ أَنَّ الْخَبَرَ يُفِيدُ عَدَمَ تَوَقُّفِ الصِّحَّةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «وَمَا انْتَقَصْتَ مِنْ هَذَا شَيْئًا فَقَدْ انْتَقَصْتَ مِنْ صَلَاتِكَ» .
أَخْرَجَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتُهُ، فَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ فِيهِ «فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ، وَإِنْ انْتَقَصْتَ شَيْئًا انْتَقَصْتَ مِنْ صَلَاتِكَ» وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى رَأْيِ الْمُصَنِّفِ تَسْمِيَتُهَا صَلَاةً وَالْبَاطِلَةُ لَيْسَتْ صَلَاةً، وَعَلَى رَأْيِ غَيْرِهِ وَصَفَهَا بِالنَّقْصِ، وَالْبَاطِلَةُ إنَّمَا تُوصَفُ بِالِانْعِدَامِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام إنَّمَا أَمَرَهُ بِإِعَادَتِهَا لِيُوقِعَهَا عَلَى غَيْرِ كَرَاهَةٍ لَا لِلْفَسَادِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ تَرْكَهُ صلى الله عليه وسلم إيَّاهُ بَعْدَ أَوَّلِ رَكْعَةٍ حَتَّى أَتَمَّ، وَلَوْ كَانَ عَدَمُهَا مُفْسِدًا لَفَسَدَتْ بِأَوَّلِ رَكْعَةٍ، وَبَعْدَ الْفَسَادِ لَا يَحِلُّ الْمُضِيُّ فِي الصَّلَاةِ، وَتَقْرِيرُهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ وَجَبَ حَمْلُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ» عَلَى الصَّلَاةِ الْخَالِيَةِ عَنْ الْإِثْمِ عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ، أَوْ الْمَسْنُونَةِ عَلَى قَوْلِ الْجُرْجَانِيِّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَجَازَ فِي قَوْلِهِ لَمْ تُصَلِّ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْحَقِيقَةِ، وَلِأَنَّ الْمُوَاظَبَةَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ.
وَقَدْ سُئِلَ مُحَمَّدٌ عَنْ تَرْكِهَا فَقَالَ: إنِّي أَخَافُ أَنْ لَا تَجُوزَ الصَّلَاةُ.
وَعَنْ السَّرَخْسِيِّ: مَنْ تَرَكَ الِاعْتِدَالَ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: تَلْزَمُهُ وَيَكُونُ الْفَرْضُ هُوَ الثَّانِي، وَلَا إشْكَالَ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ إذْ هُوَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ أُدِّيَتْ مَعَ كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ وَيَكُونُ جَابِرًا لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ الْفَرْضَ لَا يَتَكَرَّرُ، وَجَعْلُهُ الثَّانِيَ يَقْتَضِي عَدَمَ سُقُوطِهِ بِالْأَوَّلِ وَهُوَ لَازِمُ تَرْكِ الرُّكْنِ لَا الْوَاجِبِ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ امْتِنَانٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إذْ يَحْتَسِبُ الْكَامِلَ وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْ الْفَرْضِ لَمَّا عَلِمَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ سَيُوقِعُهُ (قَوْلُهُ ثُمَّ الْقَوْمَةُ وَالْجِلْسَةُ)
سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا، وَكَذَا الطُّمَأْنِينَةُ فِي تَخْرِيجِ الْجُرْجَانِيِّ.
وَفِي تَخْرِيجِ الْكَرْخِيِّ وَاجِبَةٌ حَتَّى تَجِبَ سَجْدَتَا السَّهْوِ بِتَرْكِهَا سَاهِيًا عِنْدَهُ
(وَيَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ) لِأَنَّ وَائِلَ بْنَ حُجْرٌ رضي الله عنه وَصَفَ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «فَسَجَدَ وَادَّعَمَ عَلَى رَاحَتَيْهِ وَرَفَعَ عَجِيزَتَهُ» قَالَ (وَوَضَعَ وَجْهَهُ بَيْنَ كَفَّيْهِ وَيَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ) لِمَا رُوِيَ
أَيْ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا: أَيْ بِاتِّفَاقٍ لِلْمَشَايِخِ، بِخِلَافِ الطُّمَأْنِينَةِ عَلَى مَا سَمِعْت مِنْ الْخِلَافِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هَذِهِ الْفَرَائِضُ لِلْمُوَاظَبَةِ الْوَاقِعَةِ بَيَانًا وَأَنْتَ عَلِمْت حَالَ الطُّمَأْنِينَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْقَوْمَةُ وَالْجِلْسَةُ وَاجِبَتَيْنِ لِلْمُوَاظَبَةِ.
وَلِمَا رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا ظَهْرَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلَعَلَّهُ كَذَلِكَ عِنْدَهُمَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إيجَابُ سُجُودِ السَّهْوِ فِيهِ فِيمَا ذُكِرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ فِي فَصْلِ مَا يُوجِبُ السَّهْوَ، قَالَ: الْمُصَلِّي إذَا رَكَعَ وَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ حَتَّى خَرَّ سَاجِدًا سَاهِيًا تَجُوزُ صَلَاتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله إنَّهَا فَرَائِضُ عَلَى الْفَرَائِضِ الْعَمَلِيَّةِ وَهِيَ الْوَاجِبَةُ فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ.
ثُمَّ وَجْهُ تَخْرِيجِ الْجُرْجَانِيِّ كَوْنُ الزَّائِدِ عَلَى مُسَمَّى الرُّكْنِ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْأَمْرُ فَيُكْتَفَى فِيهِ بِالِاسْتِنَانِ.
وَوَجْهُ تَفْصِيلِ الْكَرْخِيِّ إظْهَارُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ مُكَمِّلِ الرُّكْنِ الْمَقْصُودِ لِنَفْسِهِ وَمُكَمِّلِ مَا هُوَ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ: أَعْنِي الِانْتِقَالَ وَذَلِكَ بِوُجُوبِ الْأَوَّلِ وَاسْتِنَانِ الثَّانِي، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ فِي كُلٍّ مِنْ الطُّمَأْنِينَةِ وَالْقَوْمَةِ وَالْجِلْسَةِ الْوُجُوبُ
(قَوْلُهُ لِأَنَّ وَائِلَ بْنَ حُجْرٌ وَصَفَ إلَخْ) كَوْنُهُ مِنْ حَدِيثِ وَائِلٍ غَرِيبًا، وَإِنَّمَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ «وَصَفَ لَنَا الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ السُّجُودَ فَسَجَدَ فَادَّعَمَ عَلَى كَفَّيْهِ وَرَفَعَ عَجِيزَتَهُ وَقَالَ: هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ» صلى الله عليه وسلم (قَوْلُهُ وَوَضَعَ وَجْهَهُ بَيْنَ كَفَّيْهِ إلَخْ) فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٌ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سَجَدَ وَوَضَعَ وَجْهَهُ بَيْنَ كَفَّيْهِ» انْتَهَى، وَمَنْ يَضَعُ كَذَلِكَ تَكُونُ يَدَاهُ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ فَيُعَارِضُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سَجَدَ وَضَعَ كَفَّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ» وَنَحْوُهُ فِي أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ، وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ بِأَنَّ فُلَيْحَ بْنَ سُلَيْمَانَ الْوَاقِعَ فِي مُسْنَدِ الْبُخَارِيِّ وَإِنْ كَانَ الرَّاجِحُ تَثْبِيتَهُ لَكِنْ قَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَضَعَّفَهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو دَاوُد وَيَحْيَى الْقَطَّانُ وَالسَّاجِيُّ، وَقَدْ رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٌ قَالَ «رَمَقْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ
أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ كَذَلِكَ.
قَالَ (وَسَجَدَ عَلَى أَنْفِهِ وَجَبْهَتِهِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَاظَبَ عَلَيْهِ (فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَا: لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَنْفِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، وَعَدَّ مِنْهَا الْجَبْهَةَ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله
حِذَاءَ أُذُنَيْهِ» وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ بِهِ، وَلَفْظُهُ «كَانَتْ يَدَاهُ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ» وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَأَلْت الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ «أَيْنَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَضَعُ جَبْهَتَهُ إذَا صَلَّى؟ قَالَ: بَيْنَ كَفَّيْهِ» .
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ إنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَفْعَلَ أَيَّهمَا تَيَسَّرَ جَمْعًا لِلْمَرْوِيَّاتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ هَذَا أَحْيَانًا وَهَذَا أَحْيَانًا إلَّا أَنَّ بَيْنَ الْكَفَّيْنِ أَفْضَلَ لِأَنَّ فِيهِ مِنْ تَخْلِيصِ الْمُجَافَاةِ الْمَسْنُونَةِ مَا لَيْسَ فِي الْآخَرِ كَانَ حَسَنًا (قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَاظَبَ عَلَيْهِ) يُفِيدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُمَا وَالتِّرْمِذِيُّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ إذَا سَجَدَ مَكَّنَ أَنْفَهُ وَجَبْهَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ وَنَحَّى يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّهُ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ» وَمَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ «كَانَ عليه الصلاة والسلام يَضَعُ أَنْفَهُ عَلَى الْأَرْضِ مَعَ جَبْهَتِهِ» وَمَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّابِقِ فَإِنَّ فِيهِ «ثُمَّ سَجَدَ فَأَمْكَنَ أَنْفَهُ وَجَبْهَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ» .
(قَوْلُهُ فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) فَإِنْ كَانَ الْأَنْفُ كُرِهَ، وَإِنْ كَانَ الْجَبْهَةُ فَفِي التُّحْفَةِ وَالْبَدَائِعِ لَا يُكْرَهُ عِنْدَهُ، وَفِي الْمُفِيدِ وَالْمَزِيدِ: وَضْعُ الْجَبْهَةِ وَحْدَهَا أَوْ الْأَنْفِ وَحْدَهُ يُكْرَهُ وَيُجْزِئُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِوَضْعِهِمَا إلَّا لِعُذْرٍ.
قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْجَبْهَةِ عِنْدَهُمَا وَهُوَ خِلَافُ الْمَشْهُورِ، فَفِي النِّهَايَةِ أَنَّ وَضْعَ الْجَبْهَةِ يَتَأَدَّى بِهِ الْفَرْضُ بِإِجْمَاعِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ الْهِدَايَةِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا جَازَ عِنْدَهُ.
وَقَالَا: لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَنْفِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْ عَلَيْهِ وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ عَلَى الْجَبْهَةِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ» وَرِوَايَةُ «وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى أَنْفِهِ» غَيْرُ ضَائِرَةٍ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ لِلَّفْظِ الصَّرِيحِ، وَالْإِشَارَةُ إلَى الْجَبْهَةِ تَقَعُ بِتَقْرِيبِ الْيَدَيْنِ إلَى جِهَةِ الْأَنْفِ لِلتَّقَارُبِ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ وَضْعُ مَا صَلُبَ مِنْ
أَنَّ السُّجُودَ يَتَحَقَّقُ بِوَضْعِ بَعْضِ الْوَجْهِ، وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ إلَّا أَنَّ الْخَدَّ وَالذَّقَنَ خَارِجٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْمَذْكُورُ فِيمَا رُوِيَ الْوَجْهُ فِي الْمَشْهُورِ، وَوَضْعُ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ سُنَّةٌ عِنْدَنَا لِتَحَقُّقِ السُّجُودِ بِدُونِهِمَا،
الْأَنْفِ لَا مَا لَانَ (قَوْلُهُ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ) أَيْ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى السُّجُودُ وَهُوَ وَضْعُ بَعْضِ الْوَجْهِ مِمَّا لَا سُخْرِيَةَ فِيهِ وَهُوَ يَتَحَقَّقُ بِالْأَنْفِ، فَتَوْقِيفُ أَجْزَائِهِ عَلَى وَضْعٍ آخَرَ مَعَهُ زِيَادَةٌ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ اشْتِهَارِ الْوَجْهِ فِيمَا رُوِيَ فِي سُنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «إذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ مَعَهُ سَبْعَةُ آرَابٍ وَجْهُهُ وَكَفَّاهُ وَرُكْبَتَاهُ وَقَدَمَاهُ» ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ بِلَفْظِ «أُمِرَ الْعَبْدُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ آرَابٍ» وَقَوْلُ الْبَزَّارِ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ سَعْدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمْ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ آرَابٍ إلَّا الْعَبَّاسُ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسِ وَسَعْدًا قَالَاهُ كَالْعَبَّاسِ فِي أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ» وَرُبَّمَا قَالَ «أُمِرَ نَبِيُّكُمْ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ آرَابٍ» وَرَوَى أَبُو يَعْلَى وَالطَّحَاوِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أُمِرَ الْعَبْدُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ آرَابٍ» وَزَادَ «أَيُّهَا لَمْ يَضَعْهُ فَقَدْ انْتَقَصَ» وَفِيهِ زِيَادَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى الصِّحَّةِ بِتَقْدِيرِ تَرْكِ أَحَدِهِمَا فَهُوَ شَاهِدٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ.
وَالْآرَابُ: الْأَعْضَاءُ وَاحِدُهَا إرْبٌ.
وَالْحَقُّ أَنَّ ثُبُوتَ رِوَايَةِ الْوَجْهِ أَوْ الْآرَابِ لَا تَقْدَحُ فِي صِحَّةِ رِوَايَةِ الْجَبْهَةِ لِأَنَّهَا أَوَّلًا لَا تُعَارِضُ الْوَجْهَ بَلْ حَاصِلُهَا بَيَانُ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْوَجْهِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مَجْمُوعَهُ غَيْرُ مُرَادٍ لِعَدَمِ إرَادَةِ الْخَدِّ وَالذَّقَنِ فَكَانَتْ مُبَيِّنَةً لِلْمُرَادِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ نَفْسُهُ هَذَا الْحَدِيثَ بِطُرُقٍ وَأَلْفَاظٍ، مِنْهَا بِسَنَدِهِ إلَى أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْإِنْسَانُ يَسْجُدُ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: جَبْهَتِهِ وَيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَصُدُورِ قَدَمَيْهِ» .
فَالْحَقُّ أَنَّ مُقْتَضَاهُ وَمُقْتَضَى الْمُوَاظَبَةِ الْمَذْكُورَةِ الْوُجُوبُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَتُحْمَلُ الْكَرَاهَةُ الْمَرْوِيَّةُ عَنْهُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ، وَعَلَى هَذَا فَجَعَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْفَتْوَى عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الْمُوَافِقَةِ لِقَوْلِهِمَا لَمْ يُوَافِقْهُ دِرَايَةً وَلَا الْقَوِيُّ مِنْ الرِّوَايَةِ، هَذَا.
وَلَوْ حُمِلَ قَوْلُهُمَا لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ عَلَى وُجُوبِ الْجَمْعِ كَانَ أَحْسَنَ إذْ يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ بِنَاءً عَلَى حَمْلِنَا الْكَرَاهَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ مِنْ كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ، وَلَمْ يُخَرِّجَا عَنْ الْأُصُولِ إذْ يَلْزَمُهُمَا الزِّيَادَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَهُمَا يُمْنَعَانِ.
[فُرُوعٌ]
يَجُوزُ السُّجُودُ عَلَى الْحَشِيشِ وَالتِّبْنِ وَالْقُطْنِ وَالطُّنْفُسَةِ إنْ وَجَدَ حَجْمَ الْأَرْضِ وَكَذَا الثَّلْجُ الْمُلَبَّدُ، فَإِنْ كَانَ بِحَالٍ يَغِيبُ فِيهِ وَجْهُهُ وَلَا يَجِدُ الْحَجْمَ لَا، وَعَلَى الْعَجَلَةِ عَلَى الْأَرْضِ تَجُوزُ كَالسَّرِيرِ لَا إنْ كَانَتْ عَلَى الْبَقَرِ كَالْبِسَاطِ الْمَشْدُودِ بَيْنَ الْأَشْجَارِ، وَعَلَى الْعِرْزَالِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ يَجُوزُ لَا عَلَى الدُّخْنِ وَالْأَرُزِّ لِعَدَمِ الِاسْتِقْرَارِ وَعَلَى ظَهْرِ مُصَلٍّ صَلَاتُهُ لِلضَّرُورَةِ لَا مَنْ هُوَ فِي غَيْرِهَا أَوْ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ، فَلَوْ ارْتَفَعَ مَوْضِعُ السُّجُودِ عَنْ مَوْضِعِ الْقَدَمَيْنِ قَدْرَ لَبِنَةٍ أَوْ لَبِنَتَيْنِ مَنْصُوبَتَيْنِ جَازَ لَا إنْ زَادَ (قَوْلُهُ سُنَّةٌ عِنْدَنَا) بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ لَفْظَ أُمِرْت
وَأَمَّا وَضْعُ الْقَدَمَيْنِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رحمه الله أَنَّهُ فَرِيضَةٌ فِي السُّجُودِ.
قَالَ (فَإِنْ سَجَدَ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ أَوْ فَاضِلِ ثَوْبِهِ جَازَ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْجُدُ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ، وَيُرْوَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى
مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ النَّدْبِ وَالْوُجُوبِ، وَهُوَ مَعْنَى طُلِبَ مِنِّي ذَلِكَ ثُمَّ هُوَ فِي الْجَبْهَةِ وُجُوبٌ وَفِي غَيْرِهَا مَعَهَا نَدْبٌ، أَوْ فِي النَّدْبِ بِخُصُوصِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي أُمِرْنَا وَنُهِينَا يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ حَقِيقَةٌ فِي كُلٍّ مِنْهُ وَمِنْ الْوُجُوبِ، وَالثَّانِيَ فِيهِ وَفِي التَّحْرِيمِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ، بِخِلَافِ صِيغَتَيْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِعَيْنِهِمَا فَإِنَّهُمَا لِلْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ فَقَطْ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فَلَا، إذْ قَدْ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا عَلَى التَّحْرِيمِ بِلَفْظِ نُهِيَ نَحْوُ «نُهِيَ عَنْ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ» بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ تَحَقُّقِ صِيغَةِ النَّهْيِ وَحَقِيقَتُهَا التَّحْرِيمُ اتِّفَاقًا فَيَثْبُتُ التَّحْرِيمُ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ: أَعْنِي الصِّيغَةَ لَا بِنَفْسِ لَفْظِ نُهِيَ وَأُمِرَ فَيَحْتَاجُ إلَى صَارِفٍ عَنْ الْوُجُوبِ، وَلَيْسَ يَظْهَرُ إلَّا ظُهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ السُّجُودُ وَهُوَ يَحْصُلُ بِدُونِ ذَلِكَ وَبِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ غَيْرَ أَنَّهُ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ أَزْيَنُ فَيَكُونُ سُنَّةً.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مُحْتَمَلٌ فِي الصَّرْفِ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَطْلُبَ مَا هُوَ زِينَةُ السُّجُودِ حَتْمًا فَلَا يَعْدِلُ عَنْ الْوُجُوبِ.
نَعَمْ لَا يَكُونُ فَرْضًا كَيْفَ وَالظَّاهِرُ الْمُوَاظَبَةُ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام.
هَذَا وَمُخْتَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ عَنْهُ فِي أَوَائِلِ بَابِ الْأَنْجَاسِ مِنْ أَنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا لَمْ يَضَعْ رُكْبَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ لَا يُجْزِئُهُ، وَأَنَّهُ رَدَّ رِوَايَةَ عَدَمِ وُجُوبِ طَهَارَةِ مَكَانِ الرُّكْبَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ يُشِيرُ إلَى الِافْتِرَاضِ، وَمَا اخْتَرْته مِنْ الْوُجُوبِ وَلُزُومِ الْإِثْم بِالتَّرْكِ مَعَ الْإِجْزَاءِ كَتَرْكِ الْفَاتِحَةِ أَعْدَلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا افْتِرَاضُ وَضْعِ الْقَدَمِ فَلِأَنَّ السُّجُودَ مَعَ رَفْعِهِمَا بِالتَّلَاعُبِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَيَكْفِيهِ وَضْعُ أُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ.
وَفِي الْوَجِيزِ وَضْعُ الْقَدَمَيْنِ فَرْضٌ، فَإِنْ وَضَعَ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى جَازَ وَيُكْرَهُ (قَوْلُهُ فَإِنْ سَجَدَ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ) رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْحِلْيَةِ فِي تَرْجَمَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْحَافِظُ الصُّوفِيُّ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا لَاحِقٌ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فَيْرُوزَ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ عَنْ أَبِيهِ أَدْهَمَ بْنِ مَنْصُورٍ الْعِجْلِيّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْجُدُ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ» وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ عَلَى كَوْرِ الْعِمَامَةِ» وَقَدْ ضُعِّفَ عَمْرُو بْنُ شِمْرٍ، وَجَابِرُ الْجُعْفِيُّ كَذَّابٌ.
فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يَتَّقِي بِفُضُولِهِ حَرَّ الْأَرْضِ وَبَرْدَهَا (وَيُبْدِي ضَبْعَيْهِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام وَأَبْدِ ضَبْعَيْك وَيُرْوَى وَأَبِدّ " مِنْ الْإِبْدَادِ: وَهُوَ الْمَدُّ، وَالْأَوَّلُ مِنْ الْإِبْدَاءِ وَهُوَ الْإِظْهَارُ (وَيُجَافَى بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ) «لِأَنَّهُ
وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ تَمَّامُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيّ فِي فَوَائِدِهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُصَيْنٍ الأنطرطوسي، حَدَّثَنَا كَيْدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا سُوَيْد بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْجُدُ عَلَى كَوْرِ الْعِمَامَةِ» وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ " كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُونَ وَأَيْدِيهِمْ فِي ثِيَابِهِمْ وَيَسْجُدُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ عَلَى عِمَامَتِهِ " وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ تَعْلِيقًا فَقَالَ: وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْقَوْمُ يَسْجُدُونَ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَيَدَاهُ فِي كُمَّيْهِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يَتَّقِي بِفُضُولِهِ حَرَّ الْأَرْضِ وَبَرْدَهَا» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَأَعَلَّهُ بِحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَضَعَّفَهُ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ وَالْمَدِينِيِّ، قَالَ: وَهُوَ عِنْدِي مِمَّنْ يَكْتُبُ حَدِيثَهُ، فَإِنِّي لَمْ أَجِدْ لَهُ حَدِيثًا مُنْكَرًا وَهُوَ حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَبِمَعْنَاهُ مَا أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ عَنْ أَنَسٍ «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ وَجْهَهُ مِنْ الْأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ» وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْحَائِلَ لَيْسَ بِمَانِعٍ مِنْ السُّجُودِ وَلَمْ يَزِدْ مَا نَحْنُ فِيهِ إلَّا بِكَوْنِهِ مُتَّصِلًا بِهِ، وَيَمْنَعُ تَأْثِيرُ ذَلِكَ فِي الْفَسَادِ لَوْ تَجَرَّدَ عَنْ الْمَنْقُولَاتِ فَكَيْفَ وَفِيهِ مَا سَمِعْت، وَإِنْ تُكُلِّمَ فِي بَعْضِهَا كَفَى الْبَعْضُ الْآخَرُ، وَلَوْ تَمَّ تَضْعِيفُ كُلِّهَا كَانَتْ حَسَنَةً لِتَعَدُّدِ الطُّرُقِ وَكَثْرَتِهَا.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَيْضًا، وَيَكْفِي مَا نَقَلَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِهِ يَقْوَى ظَنُّ صِحَّةِ الْمَرْفُوعَاتِ إذْ لَيْسَ مَعْنَى الضَّعِيفِ الْبَاطِلَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ مَا لَمْ يَثْبُتْ بِالشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَعَ تَجْوِيزِ كَوْنِهِ صَحِيحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَيَجُوزُ أَنْ تَقْتَرِنَ قَرِينَةٌ تُحَقِّقُ ذَلِكَ وَإِنَّ الرَّاوِيَ الضَّعِيفَ أَجَادَ فِي هَذَا الْمَتْنِ الْمُعَيَّنِ فَيَحْكُمُ بِهِ، مَعَ أَنَّ اعْتِبَارَ التَّبَعِيَّةِ فِي الْحَائِلِ يَقْتَضِي عَدَمَ اعْتِبَارِهِ حَائِلًا فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ سَجَدَ بِلَا حَائِلٍ.
وَلَا يَجُوزُ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِكُمِّهِ كَمَا لَا يَجُوزُ بِكَفِّهِ.
وَلَوْ بَسَطَ كُمَّهُ عَلَى نَجَاسَةٍ فَسَجَدَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ فِي الْأَصَحِّ، وَإِنْ كَانَ الْمَرْغِينَانِيُّ صَحَّحَ الْجَوَازَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
هَذَا وَمَا ذُكِرَ فِي التَّجْنِيسِ مِنْ عَلَامَةِ الْمِيمِ أَنَّهُ يُكْرَهُ السُّجُودُ عَلَى كَوْرِ الْعِمَامَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ التَّعْظِيمِ لَا يُرَادُ بِهِ أَصْلُ التَّعْظِيمِ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ بَلْ نِهَايَتُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الرُّكْنَ فِعْلٌ وُضِعَ لِلتَّعْظِيمِ وَلِأَنَّ الْمُشَاهَدَ مِنْ وَضْعِ الرَّجُلِ الْجَبْهَةَ فِي الْعِمَامَةِ عَلَى الْأَرْضِ نَاكِسًا لِغَيْرِهِ عَدُّهُ تَعْظِيمًا: أَيْ تَعْظِيمُ هَذَا فِي الْحَائِلِ التَّابِعِ.
أَمَّا الْحَائِلُ الَّذِي هُوَ بَعْضُهُ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَلَوْ سَجَدَ عَلَى كَفِّهِ وَهِيَ عَلَى الْأَرْضِ قِيلَ لَا يَجُوزُ وَصَحَّحَ الْجَوَازَ أَوْ عَلَى فَخِذِهِ.
قِيلَ لَا يَجُوزُ وَلَوْ بِعُذْرٍ، وَقِيلَ يَجُوزُ بِلَا عُذْرٍ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ يُلْتَفَتُ إلَيْهِ بَلْ لَا يَحِلُّ عِنْدِي نَقْلُهُ كَيْ لَا يَشْتَهِرَ، وَصَحَّحَ الْجَوَازَ بِعُذْرٍ لَا بِدُونِهِ، وَعَلَى رُكْبَتَيْهِ لَا يَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَلَمْ نَعْلَمْ فِيهِ خِلَافًا، لَكِنْ إنْ كَانَ بِعُذْرٍ كَفَاهُ بِاعْتِبَارِ مَا فِي ضِمْنِهِ مِنْ الْإِيمَاءِ وَكَانَ عَدَمُ الْخِلَافِ فِيهِ لِكَوْنِ السُّجُودِ يَقَعُ عَلَى حَرْفِ الرُّكْبَةِ وَهُوَ لَا يَأْخُذُ قَدْرَ الْوَاجِبِ مِنْ الْجَبْهَةِ.
فِي التَّجْنِيسِ: لَوْ سَجَدَ عَلَى حَجَرٍ صَغِيرٍ إنْ كَانَ أَكْثَرُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ يَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي تَرْجِيحُ الْفَسَادِ عَلَى الْكَفِّ وَالْفَخِذِ (قَوْلُهُ وَأَبْدِ ضَبْعَيْك) غَرِيبٌ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ آدَمَ بْنِ عَلِيٍّ الْبَكْرِيِّ قَالَ: رَآنِي ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا أُصَلِّي لَا أَتَجَافَى عَنْ
عليه الصلاة والسلام كَانَ إذَا سَجَدَ جَافَى حَتَّى أَنَّ بَهْمَةً لَوْ أَرَادَتْ أَنْ تَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ لَمَرَّتْ».
وَقِيلَ إذَا كَانَ فِي الصَّفِّ لَا يُجَافِي كَيْ لَا يُؤْذِيَ جَارَهُ (وَيُوَجِّهُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا سَجَدَ الْمُؤْمِنُ سَجَدَ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ، فَلْيُوَجِّهْ مِنْ أَعْضَائِهِ الْقِبْلَةَ مَا اسْتَطَاعَ»
(وَيَقُولُ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَإِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ» أَيْ أَدْنَى كَمَالِ الْجَمْعِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلَاثِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بَعْدَ أَنْ يَخْتِمَ بِالْوِتْرِ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «كَانَ يَخْتِمُ بِالْوِتْرِ» ، وَإِنْ كَانَ إمَامًا لَا يَزِيدُ عَلَى وَجْهٍ يُمِلُّ الْقَوْمَ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى لتَّنْفِيرِ ثُمَّ تَسْبِيحَاتُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ سُنَّةٌ لِأَنَّ النَّصَّ تَنَاوَلَهُمَا دُونَ تَسْبِيحَاتِهِمَا فَلَا يَزِيدُ عَلَى النَّصِّ (وَالْمَرْأَةُ تَنْخَفِضُ فِي سُجُودِهَا وَتَلْزَقُ بَطْنَهَا بِفَخِذَيْهَا) لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا.
قَالَ (ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيُكَبِّرُ) لِمَا رَوَيْنَا (فَإِذَا اطْمَأَنَّ جَالِسًا كَبَّرَ وَسَجَدَ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ «ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَك حَتَّى تَسْتَوِيَ جَالِسًا» وَلَوْ لَمْ يَسْتَوِ جَالِسًا وَسَجَدَ أُخْرَى أَجْزَأَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَتَكَلَّمُوا فِي مِقْدَارِ الرَّفْعِ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا كَانَ إلَى السُّجُودِ أَقْرَبَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يُعَدُّ سَاجِدًا، وَإِنْ كَانَ إلَى الْجُلُوسِ أَقْرَبَ
الْأَرْضِ بِذِرَاعِي. فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي لَا تَبْسُطُ بَسْطَ السَّبُعِ وَادَّعِمْ عَلَى رَاحَتَيْك وَأَبْدِ ضَبْعَيْك، فَإِنَّك إذَا فَعَلْت ذَلِكَ سَجَدَ كُلُّ عُضْوٍ مِنْك. وَرَفَعَهُ ابْنُ حِبَّانَ بِلَفْظِ: وَجَافِ عَنْ ضَبْعَيْك (قَوْلُهُ إذَا سَجَدَ جَافَى) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ: «كَانَ إذَا سَجَدَ جَافَى حَتَّى لَوْ شَاءَتْ بَهْمَةٌ أَنْ تَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ لَمَرَّتْ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَقَالَا فِيهِ بُهَيْمَةٌ، وَعَلَى الْبَاءِ ضَمَّةٌ بِخَطِّ بَعْضِ الْحُفَّاظِ عَلَى تَصْغِيرِ بَهْمَةٍ، قِيلَ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَفَتْحُهَا خَطَأٌ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " إذَا سَجَدَ " إلَخْ) الْمَحْفُوظُ رِوَايَةُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَعْضِ مَا أَسْلَفْنَاهُ وَفِي الْبُخَارِيِّ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ «كُنْتُ أَحْفَظَكُمْ لِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» إلَى أَنْ قَالَ «فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلَا قَابِضِهِمَا وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ»
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يَخْتِمُ بِالْوِتْرِ») غَرِيبٌ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ (قَوْلُهُ فَلَا يُزَادُ عَلَى النَّصِّ) عَدَمُ الزِّيَادَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَوْلَ بِالسُّنِّيَّةِ لِجَوَازِ الْوُجُوبِ وَالْمُوَاظَبَةِ، وَالْأَمْرُ مِنْ قَوْلِهِ فَلْيَقُلْ جَعَلُوهَا يَقْتَضِيهِ إلَّا لِصَارِفٍ، بِخِلَافِ قَوْلِ أَبِي مُطِيعٍ بِافْتِرَاضِهَا فَإِنَّهُ مُشْكِلٌ جِدًّا.
وَقِيلَ فِي الصَّارِفِ إنَّهُ عَدَمُ ذِكْرِهَا لِلْأَعْرَابِيِّ عِنْدَ تَعْلِيمِهِ فَيَكُونُ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ، قَالُوا: وَيُكْرَهُ تَرْكُهَا وَنَقْصُهَا مِنْ الثَّلَاثِ وَالتَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ يُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ (قَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا) أَيْ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ عِنْدَ كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ (قَوْلُهُ وَالْأَصَحُّ) رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ كَانَ إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ جَازَ وَإِلَّا فَلَا، وَعَنْهُ: إذَا رَفَعَ
جَازَ لِأَنَّهُ يُعَدُّ جَالِسًا فَتَتَحَقَّقُ الثَّانِيَةُ.
قَالَ (فَإِذَا اطْمَأَنَّ سَاجِدًا كَبَّرَ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ (وَيَسْتَوِي قَائِمًا عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ وَلَا يَقْعُدُ وَلَا يَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَجْلِسُ جِلْسَةً خَفِيفَةً ثُمَّ يَنْهَضُ مُعْتَمِدًا عَلَى الْأَرْضِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام فَعَلَ ذَلِكَ.
وَلَنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام «كَانَ يَنْهَضُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ» ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْكِبَرِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ قَعْدَةُ اسْتِرَاحَةٍ
قَدْرَ مَا تَمُرُّ الرِّيحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ جَازَ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ: إنْ رَفَعَ قَدْرُ مَا يُسَمَّى رَافِعًا جَازَ.
قَالَ فِي الْمُحِيطِ هُوَ الْأَصَحُّ وَتَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ مُخْتَارُهُ بِأَنَّهُ يُعَدُّ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهُ أَنَّ تِلْكَ الرِّوَايَةَ هِيَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَعْنَى.
وَاخْتِيَارُهَا اخْتِيَارُهَا.
وَقَالَ ابْنُ مُقَاتِلٍ: إذَا رَفَعَ بِحَيْثُ لَا يُشْكَلُ عَلَى النَّاظِرِ أَنَّهُ رُفِعَ جَازَ، فَإِنْ أَرَادَ النَّاظِرُ عَنْ بُعْدٍ فَهُوَ مَعْنَى مُخْتَارِ الْمُصَنِّفِ، وَإِلَّا فَهُوَ مَعْنَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ اعْتِقَادِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَوِ صُلْبُهُ فِي الْجِلْسَةِ وَالْقَوْمَةِ فَهُوَ آثِمٌ لِمَا تَقَدَّمَ
(قَوْلُهُ وَلَا يَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ) وَلَكِنْ عَلَى رُكْبَتَيْهِ (قَوْلُهُ فَعَلَ ذَلِكَ) فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ «أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا» (قَوْلُهُ وَلَنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ إيَاسٍ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَضُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَخَالِدُ بْنُ إيَاسٍ وَيُقَالُ ابْنُ إيَاسٍ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَكَذَا أَعَلَّهُ ابْنُ عَدِيٍّ بِهِ. قَالَ: وَهُوَ مَعَ ضَعْفِهِ يَكْتُبُ حَدِيثَهُ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَاَلَّذِي أُعِلَّ بِهِ خَالِدٌ مَوْجُودٌ فِي صَالِحٍ وَهُوَ الِاخْتِلَاطُ فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ انْتَهَى بِالْمَعْنَى. وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ الْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقْتَضِي قُوَّةَ أَصْلِهِ وَإِنْ ضَعُفَ خُصُوصُ هَذَا الطَّرِيقِ وَهُوَ كَذَلِكَ.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ " أَنَّهُ كَانَ يَنْهَضُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ وَلَمْ يَجْلِسْ " وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْ عَلِيٍّ وَكَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَكَذَا عَنْ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ " كَانَ عُمَرُ وَعَلِيُّ وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَضُونَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى صُدُورِ أَقْدَامِهِمْ " وَأَخْرَجَ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ أَدْرَكْت
وَالصَّلَاةُ مَا وُضِعَتْ لَهَا.
(وَيَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الْأُولَى) لِأَنَّهُ تَكْرَارُ الْأَرْكَانِ (إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَتَعَوَّذُ) لِأَنَّهُمَا لَمْ يُشْرَعَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً (وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ: تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ، وَتَكْبِيرَةُ الْقُنُوتِ
غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ إذَا رَفَعَ أَحَدُهُمْ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ نَهَضَ كَمَا هُوَ وَلَمْ يَجْلِسْ وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ " أَنَّهُ رَأَى ابْنَ مَسْعُودٍ فَذَكَرَ مَعْنَاهُ " فَقَدْ اتَّفَقَ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَشَدَّ اقْتِفَاءً لِأَثَرِهِ وَأَلْزَمَ لِصُحْبَتِهِ مِنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رضي الله عنه عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ.
وَلِذَا كَانَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا سَمِعْته مِنْ قَوْلِ التِّرْمِذِيِّ.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ نَهَى صلى الله عليه وسلم أَنْ يَعْتَمِدَ الرَّجُلُ عَلَى يَدَيْهِ إذَا نَهَضَ فِي الصَّلَاةِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفِي حَدِيثِ وَائِلٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إذَا نَهَضَ اعْتَمَدَ عَلَى فَخِذَيْهِ» وَالتَّوْفِيقُ أَوْلَى فَيُحْمَلُ مَا رَوَاهُ عَلَى حَالَةِ الْكِبَرِ، وَلِذَا رَوَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا تُبَادِرُونِي فِي رُكُوعٍ وَلَا سُجُودٍ فَإِنَّ مَهْمَا أَسْبِقْكُمْ بِهِ إذَا رَكَعْتُ تُدْرِكُونِي إذَا سَجَدْت إنِّي قَدْ بَدَّنْتُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد.
هَذَا وَيُكْرَهُ تَقْدِيمُ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ عِنْدَ النُّهُوضِ، وَيُسْتَحَبُّ الْهُبُوطُ بِالْيَمِينِ، وَالنُّهُوضُ بِالشِّمَالِ
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم) غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ: حِينَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ، وَحِينَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَيَنْظُرُ إلَى الْبَيْتِ، وَحِينَ يَقُومُ عَلَى الْمَرْوَةِ، وَحِينَ يَقِفُ مَعَ النَّاسِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَبِجَمْعٍ، وَالْمَقَامَيْنِ حِينَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ» وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا فِي كِتَابِهِ الْمُفْرَدِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فَقَالَ: وَقَالَ وَكِيعٌ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ: فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَفِي اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَبِعَرَفَاتٍ، وَبِجَمْعٍ، وَفِي الْمَقَامَيْنِ، وَعِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ» وَقَالَ: قَالَ شُعْبَةُ: لَمْ يَسْمَعْ الْحَكَمُ عَنْ مِقْسَمٍ إلَّا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ لَيْسَ هَذَا مِنْهَا، فَهُوَ مُرْسَلٌ وَغَيْرُ مَحْفُوظٍ. قَالَ: وَأَيْضًا فَهُمْ يَعْنِي: أَصْحَابَنَا خَالَفُوا هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ وَتَكْبِيرَةِ الْقُنُوتِ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْإِمَامِ:
وَتَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ، وَذَكَرَ الْأَرْبَعَ فِي الْحَجِّ» وَاَلَّذِي يُرْوَى مِنْ الرَّفْعِ مَحْمُولٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، كَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ.
اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ تَفَرُّدِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَتَرْكُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ. وَرَوَاهُ وَكِيعٌ عَنْهُ بِالْوَقْفِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، قَالَ الْحَاكِمُ: وَوَكِيعٌ أَثْبَتُ مِنْ كُلِّ مَنْ رَوَى هَذَا عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَبِرِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا كَانَا يَرْفَعَانِ أَيْدِيَهُمَا عِنْدَ الرُّكُوعِ، وَبَعْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْهُ.
وَقَدْ أَسْنَدَاهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْحَكَمِ قَالَ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ: تُرْفَعُ الْأَيْدِي وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لَا تُرْفَعُ إلَّا فِيهَا: وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لَا تُرْفَعُ إلَّا فِيهَا صَحِيحًا.
وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَارُ بِالرَّفْعِ فِي غَيْرِهَا كَثِيرًا، فَمِنْهَا الِاسْتِسْقَاءُ وَدُعَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا حَاصِلُهُ، وَأَحْسَنُهَا أَنَّ الْحَصْرَ غَيْرُ مُرَادٍ لِمَا ذُكِرَ مِنْ ثُبُوتِ الرَّفْعِ فِي غَيْرِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ كَبَّرَ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَإِذَا رَفَعَ مِنْ الرُّكُوعِ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا يَفْعَلُهُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ» وَجَوَابُهُ الْمُعَارَضَةُ بِمَا فِي أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: «أَلَا أُصَلِّي بِكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إلَّا فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ» . وَفِي لَفْظٍ: «فَكَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ ثُمَّ لَا يَعُودُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ إلَخْ، وَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَثْبُتْ عِنْدِي حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَغَيْرُ ضَائِرٍ بَعْدَ مَا ثَبَتَ بِالطَّرِيقِ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَالْقَدْحُ فِي عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ حَدِيثَهُ فِي الْهَدْيِ وَغَيْرِهِ عَنْ عَلِيٍّ، وَفِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَلْقَمَةَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ عَنْ رَجُلٍ مَجْهُولٍ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الثِّقَاتِ وَقَالَ: مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَسِنُّهُ سِنُّ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَمَا الْمَانِعُ حِينَئِذٍ مِنْ سَمَاعِهِ مِنْ عَلْقَمَةَ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى سَمَاعِ النَّخَعِيِّ مِنْهُ، وَصَرَّحَ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ الْمُتَّفِقِ وَالْمُفْتَرِقِ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ وَعَلْقَمَةَ، وَمَا قِيلَ إنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ فِيهِ عَلَى وَكِيعٍ زِيَادَةُ ثُمَّ لَا يَعُودُ. نُقِلَ عَنْ الدَّارَقُطْنِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ الْقَطَّانِ فَإِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ ظَنُّوهُ وَلِذَا نَسَبَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ الْوَهْمَ إلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ كَالْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِهِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: إنَّهُ سَأَلَ أَبَاهُ عَنْهُ فَقَالَ: هَذَا خَطَأٌ يُقَالُ وَهَمَ فِيهِ الثَّوْرِيُّ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَمَّا رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ ظَنُّوهَا خَطَأً. وَاخْتَلَفُوا فِي الْغَالِطِ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْأَصْلَ رَوَاهُ مَرَّةً بِتَمَامِهِ وَمَرَّةً بَعْضَهُ بِحَسَبِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَزِيَادَةُ الْعَدْلِ الضَّابِطِ مَقْبُولَةٌ خُصُوصًا وَقَدْ تُوبِعَ عَلَيْهَا، فَرَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَائِيّ.
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ «صَلَّيْتُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما فَلَمْ يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ إلَّا عِنْدَ اسْتِفْتَاحِ الصَّلَاةِ» وَاعْتَرَفَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِتَصْوِيبِ إرْسَالِ إبْرَاهِيمَ إيَّاهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَتَضْعِيفِ ابْنِ جَابِرٍ، وَقَوْلُ الْحَاكِمِ فِيهِ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ إنَّهُ يَسْرِقُ الْحَدِيثَ مِنْ كُلِّ مَنْ يُذَاكِرُهُ فَمَمْنُوعٌ. قَالَ الشَّيْخُ فِي الْإِمَامِ: الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْكُلِّيَّةِ مُتَعَذِّرٌ، وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَدِيٍّ: كَانَ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إسْرَائِيلَ يُفَضِّلُ مُحَمَّدَ بْنَ جَابِرٍ عَلَى جَمَاعَةٍ هُمْ أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَوْثَقُ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ مِنْ الْكِبَارِ أَيُّوبُ وَابْنُ عَوْفٍ وَهِشَامُ بْنُ حَسَّانَ وَالثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُمْ، وَلَوْلَا أَنَّهُ فِي الْمَحَلِّ الرَّفِيعِ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ هَؤُلَاءِ.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ صِحَّةَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ رِوَايَةُ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ غَيْرِ الطَّرِيقِ الْمَذْكُورِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ مَعَ الْأَوْزَاعِيِّ بِمَكَّةَ فِي دَارِ الْحَنَّاطِينَ كَمَا حَكَى ابْنُ عُيَيْنَةَ فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: مَا بَالُكُمْ لَا تَرْفَعُونَ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعُ مِنْهُ، فَقَالَ: لِأَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ شَيْءٌ، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَيْفَ لَمْ يَصِحَّ وَقَدْ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَعِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ» فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ ثُمَّ لَا يَعُودُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ» فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: أُحَدِّثُكَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَتَقُولُ حَدَّثَنِي حَمَّادٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كَانَ حَمَّادٌ أَفْقَهَ مِنْ الزُّهْرِيِّ، وَكَانَ إبْرَاهِيمُ أَفْقَهَ مِنْ سَالِمٍ، وَعَلْقَمَةُ لَيْسَ بِدُونٍ مِنْ ابْنِ عُمَرَ فِي الْفِقْهِ، وَإِنْ كَانَتْ لِابْنِ عُمَرَ صُحْبَةٌ وَلَهُ فَضْلُ صُحْبَةٍ فَالْأَسْوَدُ لَهُ فَضْلٌ كَثِيرٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، فَرَجَّحَ بِفِقْهِ الرُّوَاةِ كَمَا رَجَّحَ الْأَوْزَاعِيُّ بِعُلُوِّ الْإِسْنَادِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْمَنْصُورُ عِنْدَنَا.
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَيَّاشٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ " رَأَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه رَفَعَ يَدَيْهِ فِي أَوَّلِ تَكْبِيرَةٍ ثُمَّ لَا يَعُودُ " قَالَ: وَرَأَيْت إبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيَّ يَفْعَلَانِ ذَلِكَ، وَعَارَضَهُ الْحَاكِمُ بِرِوَايَةِ طَاوُسٍ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما " كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ ".
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ النَّهْشَلِيِّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه رَفَعَ يَدَيْهِ فِي أَوَّلِ التَّكْبِيرِ ثُمَّ لَمْ يَعُدْ " وَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَيَصْنَعُ مِثْلَ ذَلِكَ إذَا قَضَى قِرَاءَتَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ، وَيَصْنَعُهُ إذَا رَفَعَ مِنْ الرُّكُوعِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَإِذَا قَامَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ رَفَعَ كَذَلِكَ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، فَمَحْمُولٌ عَلَى النَّسْخِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى نَسْخِ الرَّفْعِ عِنْدَ السُّجُودِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْآثَارَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالطُّرُقَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم
(وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ افْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَجَلَسَ عَلَيْهَا وَنَصَبَ الْيُمْنَى نَصْبًا وَوَجَّهَ أَصَابِعَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ) هَكَذَا وَصَفَتْ عَائِشَةُ قُعُودَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ (وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَبَسَطَ أَصَابِعَهُ وَتَشَهَّدَ) يُرْوَى ذَلِكَ فِي حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٌ رضي الله عنه، وَلِأَنَّ فِيهِ تَوْجِيهَ أَصَابِعِ يَدَيْهِ إلَى الْقِبْلَةِ (فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً جَلَسَتْ عَلَى أَلْيَتِهَا الْيُسْرَى وَأَخْرَجَتْ رِجْلَيْهَا مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ) لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا.
(وَالتَّشَهُّدُ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ إلَخْ) وَهَذَا تَشَهُّدُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه
كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَالْكَلَامُ فِيهَا وَاسِعٌ مِنْ جِهَةِ الطَّحَاوِيِّ وَغَيْرِهِ، وَالْقَدْرُ الْمُتَحَقِّقُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ ثُبُوتُ رِوَايَةِ كُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم الرَّفْعُ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعَدَمُهُ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّرْجِيحِ لِقِيَامِ التَّعَارُضِ، وَيَتَرَجَّحُ مَا صِرْنَا إلَيْهِ بِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ بِأَنَّهُ كَانَتْ أَقْوَالٌ مُبَاحَةٌ فِي الصَّلَاةِ وَأَفْعَالٌ مِنْ جِنْسِ هَذَا الرَّفْعِ وَقَدْ عُلِمَ نَسْخُهَا، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَيْضًا مَشْمُولًا بِالنَّسْخِ خُصُوصًا وَقَدْ ثَبَتَ مَا يُعَارِضُهُ ثُبُوتًا لَا مَرَدَّ لَهُ، بِخِلَافِ عَدَمِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ احْتِمَالُ عَدَمِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا عُهِدَ فِيهِ ذَلِكَ بَلْ مِنْ جِنْسِ السُّكُونِ الَّذِي هُوَ طَرِيقُ مَا أُجْمِعَ عَلَى طَلَبِهِ فِي الصَّلَاةِ: أَعْنِي الْخُشُوعَ، وَكَذَا بِأَفْضَلِيَّةِ الرُّوَاةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لِلْأَوْزَاعِيِّ.
وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَهُ وَائِلُ بْنُ حُجْرٌ: أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ السُّجُودِ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: لَمْ يُصَلِّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةً أَرَى قَبْلَهَا قَطُّ: أَفَهُوَ أَعْلَمُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ حَفِظَ وَلَمْ يَحْفَظُوا.
وَفِي رِوَايَةٍ وَقَدْ حَدَّثَنِي مَنْ لَا أُحْصِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ فِي بَدْءِ الصَّلَاةِ فَقَطْ، وَحَكَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَبْدُ اللَّهِ عَالِمٌ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَحُدُودِهِ مُتَفَقِّدٌ لِأَحْوَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُلَازِمٌ لَهُ فِي إقَامَتِهِ وَأَسْفَارِهِ، وَقَدْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا لَا يُحْصَى، فَيَكُونُ الْأَخْذُ بِهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ أَوْلَى مِنْ إفْرَادِ مُقَابِلِهِ وَمِنْ الْقَوْلِ بِسُنِّيَّةِ كُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
(قَوْلُهُ هَكَذَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها) الَّذِي فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، إلَى أَنْ قَالَتْ: وَكَانَ يَفْتَرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى» وَفِي النَّسَائِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما قَالَ: مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ أَنْ يَنْصِبَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى وَاسْتِقْبَالُهُ بِأَصَابِعِهَا الْقِبْلَةَ وَالْجُلُوسُ عَلَى الْيُسْرَى (قَوْلُهُ رُوِيَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ وَائِلٍ) غَرِيبٌ، وَاَلَّذِي فِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ وَائِلٍ
فَإِنَّهُ قَالَ «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ وَعَلَّمَنِي التَّشَهُّدَ كَمَا كَانَ يُعَلِّمُنِي سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ وَقَالَ: قُلْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ» إلَخْ، وَالْأَخْذُ بِهَذَا أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِتَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَهُوَ قَوْلُهُ التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، سَلَامٌ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، سَلَامٌ عَلَيْنَا إلَخْ،
قُلْت: «لَأَنْظُرَنَّ إلَى صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا جَلَسَ: يَعْنِي لِلتَّشَهُّدِ افْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ» وَفِي مُسْلِمٍ «كَانَ صلى الله عليه وسلم إذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى» وَلَا شَكَّ أَنَّ وَضْعَ الْكَفِّ مَعَ قَبْضِ الْأَصَابِعِ لَا يَتَحَقَّقُ، فَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَضْعُ الْكَفِّ ثُمَّ قَبْضُ الْأَصَابِعِ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِشَارَةِ، قَالَ: يَقْبِضُ خِنْصَرَهُ وَاَلَّتِي تَلِيهَا وَيُحَلِّقُ الْوُسْطَى وَالْإِبْهَامَ وَيُقِيمُ الْمُسَبِّحَةَ، وَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله فِي الْأَمَالِي، وَهَذَا فَرْعُ تَصْحِيحِ الْإِشَارَةِ، وَعَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمَشَايِخِ لَا يُشِيرُ أَصْلًا وَهُوَ خِلَافُ الدِّرَايَةِ وَالرِّوَايَةِ، فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِشَارَةِ مِمَّا نَقَلْنَاهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه، وَيُكْرَهُ أَنْ يُشِيرَ بِمُسَبِّحَتَيْهِ.
وَعَنْ الْحَلْوَانِيِّ يُقِيمُ الْأُصْبُعَ عِنْدَ لَا إلَهَ وَيَضَعُهَا عِنْدَ إلَّا اللَّهُ لِيَكُونَ الرَّفْعُ لِلنَّفْيِ وَالْوَضْعُ لِلْإِثْبَاتِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَطْرَافُ الْأَصَابِعِ عَلَى حَرْفِ الرُّكْبَةِ
لِأَنَّ فِيهِ الْأَمْرَ، وَأَقَلُّهُ الِاسْتِحْبَابُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ وَهُمَا لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَزِيَادَةُ الْوَاوِ وَهِيَ لِتَجْدِيدِ الْكَلَامِ كَمَا فِي الْقَسَمِ وَتَأْكِيدِ التَّعْلِيمِ
لَا مُبَاعَدَةً عَنْهَا
(قَوْلُهُ لِأَنَّ فِيهِ الْأَمْرَ إلَخْ) رَوَى السِّتَّةُ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التَّشَهُّدَ كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَالَ: إذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ إلَخْ» وَفِي لَفْظِ النَّسَائِيّ «إذَا قَعَدْتُمْ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَقُولُوا فَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ الْمَعْرُوفُ» رِوَايَةٌ (قَوْلُهُ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ) هِيَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَرِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ بِالتَّنْكِيرِ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَمَلِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَصَحَّ التَّرْجِيحُ عَلَى مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ.
وَأَمَّا زِيَادَةُ الْوَاوِ فَلَيْسَتْ فِي تَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ (قَوْلُهُ وَتَأْكِيدُ التَّعْلِيمِ) يَعْنِي بِهِ أَخْذَهُ بِيَدِهِ لِزِيَادَةِ التَّوْكِيدِ لَيْسَ فِي تَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَمَّا نَفْسُ التَّعْلِيمِ فَفِي تَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، فَإِنَّ لَفْظَهُ «كَانَ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، فَكَانَ يَقُولُ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ» فَقَوْلُ الزَّيْلَعِيِّ فِي التَّخْرِيجِ: وَأَمَّا التَّعْلِيمُ أَيْضًا فَهُوَ فِي تَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ دَفْعًا لِهَذَا الْوَجْهِ مِنْ التَّرْجِيحِ لَيْسَ بِوَارِدٍ.
وَمِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ أَيْضًا أَنَّ الْأَئِمَّةَ السِّتَّةَ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَهُوَ نَادِرٌ، وَتَشَهُّدُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه مَعْدُودٌ فِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ وَإِنْ رَوَاهُ غَيْرُ الْبُخَارِيِّ مِنْ السِّتَّةِ، وَأَعْلَى دَرَجَاتِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَلَوْ فِي أَصْلِهِ، فَكَيْفَ إذَا اتَّفَقَا عَلَى لَفْظِهِ، وَلِذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ أَصَحُّ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: أَصَحُّ حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّشَهُّدِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ خُصَيْفٍ
(وَلَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى)«لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التَّشَهُّدَ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ وَآخِرِهَا، فَإِذَا كَانَ وَسَطُ الصَّلَاةِ نَهَضَ إذَا فَرَغَ مِنْ التَّشَهُّدِ وَإِذَا كَانَ آخِرَ الصَّلَاةِ دَعَا لِنَفْسِهِ بِمَا شَاءَ» .
(وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَحْدَهَا) لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَهَذَا بَيَانُ الْأَفْضَلِ هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ فِي الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى مَا يَأْتِيك مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
قَالَ رَأَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ، فَقُلْت لَهُ: إنَّ النَّاسَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي التَّشَهُّدِ، فَقَالَ: عَلَيْك بِتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَكَقَوْلِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَمِمَّنْ وَافَقَ ابْنَ مَسْعُودٍ عَلَى رَفْعِهِ مُعَاوِيَةَ، أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ:«كَانَ يُعَلِّمُ النَّاسَ التَّشَهُّدَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ» إلَخْ سَوَاءٌ. وَعَائِشَةُ فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ عَنْهَا قَالَتْ: «هَذَا تَشَهُّدُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ» إلَخْ. قَالَ النَّوَوِيُّ إسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَاسْتَفَدْنَا مِنْهُ أَنَّ تَشَهُّدَهُ صلى الله عليه وسلم بِلَفْظِ تَشَهُّدِنَا. وَسَلْمَانُ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ عَنْ أَبِي رَاشِدٍ قَالَ: سَأَلْت سَلْمَانَ عَنْ التَّشَهُّدِ فَقَالَ: أُعَلِّمُكُمْ كَمَا عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ إلَخْ سَوَاءٌ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه: أَخَذَ حَمَّادُ بْنُ سَلْمَانَ بِيَدَيَّ وَعَلَّمَنِي التَّشَهُّدَ، وَقَالَ حَمَّادٌ: أَخَذَ إبْرَاهِيمُ بِيَدَيَّ وَعَلَّمَنِي التَّشَهُّدَ، وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: أَخَذَ عَلْقَمَةُ بِيَدَيَّ وَعَلَّمَنِي التَّشَهُّدَ، وَقَالَ عَلْقَمَةُ أَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِيَدَيَّ وَعَلَّمَنِي التَّشَهُّدَ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ وَعَلَّمَنِي التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَكَانَ يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِالْوَاوِ وَالْأَلِفِ وَاللَّامِ (قَوْلُهُ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَّمَنِي) رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ فَكَانَ يَقُولُ إذَا جَلَسَ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ وَفِي آخِرِهَا عَلَى وَرِكِهِ الْيُسْرَى: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ: إلَى قَوْلِهِ: عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ».
قَالَ: ثُمَّ إنْ كَانَ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ نَهَضَ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ تَشَهُّدِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهَا دَعَا بَعْدَ تَشَهُّدِهِ بِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ ثُمَّ يُسَلِّمُ، وَأَحَادِيثُ الدُّعَاءِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ كَثِيرَةٌ شَهِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا
(قَوْلُهُ لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا وَيُطِيلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مَا لَا يُطِيلُ فِي الثَّانِيَةِ» ، وَهَكَذَا فِي الصُّبْحِ، وَهَذَا لَا يَعُمُّ الصَّلَوَاتِ وَاَلَّذِي يَعُمُّهَا مَا فِي مُسْنَدِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيِّ «كَانَ عليه الصلاة والسلام يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ
تَعَالَى
(وَجَلَسَ فِي الْأَخِيرَةِ كَمَا جَلَسَ فِي الْأُولَى) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ وَائِلٍ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما، وَلِأَنَّهَا أَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ التَّوَرُّكِ الَّذِي يَمِيلُ إلَيْهِ مَالِكٌ رحمه الله، وَاَلَّذِي يَرْوِيهِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَعَدَ مُتَوَرِّكًا» ضَعَّفَهُ الطَّحَاوِيُّ رحمه الله، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى حَالَةِ الْكِبَرِ
(وَتَشَهَّدَ وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَنَا وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ لَيْسَ بِفَرِيضَةٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله فِيهِمَا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ فَعَلْتَ
رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ يَلْزَمُ بِتَرْكِهَا السَّهْوُ
(قَوْلُهُ ضَعَّفَهُ الطَّحَاوِيُّ) تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَتَكَلَّمَ الْبَيْهَقِيُّ مَعَهُ، وَانْتَصَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ لِلطَّحَاوِيِّ (قَوْلُهُ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى حَالَةِ الْكِبَرِ) فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالْعَارِضِ لَا مَشْرُوعًا أَصْلِيًّا، وَهُوَ أَوْلَى لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ
(قَوْلُهُ وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَنَا) أَيْ فِي الْقَعْدَتَيْنِ (قَوْلُهُ لِلْأَمْرِ الْمُقَدَّمِ) أَيْ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ (قَوْلُهُ فِيهِمَا) أَيْ فِي التَّشَهُّدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُمَا مِنْ الْفَرَائِضِ عِنْدَهُ (قَوْلُهُ إذَا قُلْت هَذَا) تَقَدَّمَ أَنَّهَا مُدْرَجَةٌ مِنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَّ هَذَا الْمُدْرَجَ الْمَوْقُوفَ لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ، وَمَعَ هَذَا نَقُولُ فِي الْجَوَابِ قَدْ أَوْجَبْنَا التَّشَهُّدَ فَخَرَجْنَا عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ الثَّابِتِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الصَّلَاةِ فَلَا دَلِيلَ يَصْلُحُ لِلْإِيجَابِ لِنَقُولَ بِهِ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَقَدْ شَذَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فَقَالَ: مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ وَلَا سَلَفَ لَهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ وَلَا سُنَّةَ يَتَّبِعُهَا، وَشَنَّعَ عَلَيْهِ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الطَّبَرِيُّ
فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ، إنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ» وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام خَارِجَ الصَّلَاةِ وَاجِبَةٌ، إمَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَمَا قَالَهُ الْكَرْخِيُّ، أَوْ كُلَّمَا ذُكِرَ صلى الله عليه وسلم كَمَا اخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ فَكُفِينَا مُؤْنَةَ الْأَمْرِ،
وَالْقُشَيْرِيُّ، وَخَالَفَهُ مِنْ أَهْلِ مَذْهَبِهِ الْخَطَّابِيُّ وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ لَهُ قُدْوَةً.
وَالتَّشَهُّدَاتُ الْمَرْوِيَّاتُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي مُوسَى وَابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهم لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا ذَلِكَ.
وَمَا رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ» ضَعَّفَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ كُلُّهُمْ، وَلَوْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ كَامِلَةً أَوْ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ مَرَّةً فِي عُمْرِهِ.
وَكَذَا مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ فِيهَا وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِي لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ» اهـ. وَهَذَا ضُعِّفَ بِجَابِرٍ الْجُعْفِيِّ مَعَ أَنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ، وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُحِبَّ الْأَنْصَارَ» وَفِيهِ عَبْدُ الْمُهَيْمِنِ ضَعِيفٌ. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ قَالُوا: حَدِيثُ عَبْدِ الْمُهَيْمِنِ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، مَعَ أَنَّ جَمَاعَةً قَدْ تَكَلَّمُوا فِي أُبَيِّ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ السَّبَّاقِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ وَتَرَحَّمْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» وَفِيهِ الْمَجْهُولُ.
وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُقَالَ وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَلَمْ يَكْرَهْهُ بَعْضُهُمْ، وَكُرِهَ الصَّلَاةُ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقِيلَ لَا تُكْرَهُ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» وَمُوجِبُ الْأَمْرِ الْقَاطِعِ الِافْتِرَاضُ مَرَّةً فِي الْعُمْرِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجِهَا لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَقُلْنَا بِهِ (قَوْلُهُ إمَّا مَرَّةً إلَخْ) ظَاهِرُ السَّوْقِ التَّقَابُلُ بَيْنَ قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ وَالْقَوْلِ بِالْمَرَّةِ، وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مَرَّةً مُرَادُ قَائِلِهِ الِافْتِرَاضُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ عَلَيْهِ كُلَّمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّ مُسْتَنَدَهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ غَيْرُ مُخَالِفٍ فِي أَنَّهُ لَا إكْفَارَ بِجَحْدِ مُقْتَضَاهُ، بَلْ التَّفْسِيقُ، بَلْ التَّقَابُلُ بَيْنَ الْقَوْلِ بِاسْتِحْبَابِهِ إذَا ذُكِرَ وَقَوْلُ الطَّحَاوِيِّ.
وَالْأَوْلَى قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ وَجُعِلَ فِي التُّحْفَةِ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ أَصَحَّ، وَاخْتِيَارُ صَاحِبِ الْمَبْسُوطِ قَوْلَ الْكَرْخِيِّ بَعْدَ النَّقْلِ عَنْهُمَا ظَاهِرٌ فِي اعْتِبَارِ التَّقَابُلِ ثُمَّ التَّرْجِيحِ وَهُوَ بُعْدٌ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ تَكَرَّرَ فِي مَجْلِسٍ قِيلَ يَكْفِي مَرَّةً وَصَحَّحَ، وَفِي الْمُجْتَبَى تَكَرَّرَ الْوُجُوبُ
وَالْفَرْضُ الْمَرْوِيُّ فِي التَّشَهُّدِ هُوَ التَّقْدِيرُ.
قَالَ (وَدَعَا بِمَا شَاءَ مِمَّا يُشْبِهُ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ وَالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ لَهُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام «ثُمَّ اخْتَرْ مِنْ الدُّعَاءِ أَطْيَبَهُ وَأَعْجَبَهُ إلَيْكَ»
وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَكَرُّرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مَجْلِسٍ حَيْثُ يَكْفِي ثَنَاءٌ وَاحِدٌ، قَالَ: وَلَوْ تَرَكَهُ لَا يَبْقَى عَلَيْهِ دَيْنًا، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَصِيرُ دَيْنًا بِمَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَصَحَّحَ فِي بَابِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ مِنْ الْكَافِي وُجُوبَ الصَّلَاةِ مَرَّةً عِنْدَ التَّكَرُّرِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ وَفِي الزَّائِدِ نَدْبٌ، وَكَذَا التَّشْمِيتُ، وَقِيلَ يَجِبُ أَنْ يُشَمِّتَهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ إلَى الثَّلَاثِ (قَوْلُهُ وَالْفَرْضُ الْمَرْوِيُّ) يَعْنِي فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ كُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ «السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى جَبْرَائِيلُ وَمِيكَائِيلَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَا تَقُولُوا هَذَا فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، لَكِنْ قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ» وَسَاقَ تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَلَيْسَ لَفْظُ الْفَرْضِ إلَّا فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ، بَلْ أَلْفَاظُهُ فِيهَا «كُنَّا إذَا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ قُلْنَا السَّلَامُ إلَخْ» وَكُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكُنَّا إذَا جَلَسْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكُنَّا إذَا صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَهَذِهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى لِلنَّسَائِيِّ ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يُؤَوَّلَ لَفْظُ الْفَرْضِ، فَثُبُوتُ كَوْنِهِ فَرْضًا اصْطِلَاحِيًّا مُتَعَذِّرٌ لِثُبُوتِهِ بِمَا لَا يَثْبُتُ بِهِ الْفَرْضُ: أَعْنِي خَبَرَ الْوَاحِدِ فَيَكُونُ وَاجِبًا.
(قَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) فِي رِوَايَةِ السِّتَّةِ إلَّا التِّرْمِذِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ «ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ أَحَدُكُمْ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إلَيْهِ فَيَدْعُوَ بِهِ» وَلَا يَخْفَى عَدَمُ مُطَابَقَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الدُّعَاءِ بِمَا يُشْبِهُ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ وَالْمَأْثُورِ دُونَ مَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ، وَلَوْ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ «إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ» لَكَانَ أَصْوَبَ، فَيَكُونُ مُعَارِضًا لِعُمُومِ أَعْجَبَهُ وَدَعَا
وَيَبْدَأُ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ (وَلَا يَدْعُو بِمَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ) تَحَرُّزًا عَنْ الْفَسَادِ، وَلِهَذَا يَأْتِي بِالْمَأْثُورِ الْمَحْفُوظِ، وَمَا لَا يَسْتَحِيلُ سُؤَالُهُ مِنْ الْعِبَادِ كَقَوْلِهِ اللَّهُمَّ زَوِّجْنِي فُلَانَةَ يُشْبِهُ كَلَامَهُمْ وَمَا يَسْتَحِيلُ كَقَوْلِهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَقَوْلُهُ اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي مِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ هُوَ الصَّحِيحُ لِاسْتِعْمَالِهِ فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ، يُقَالُ رَزَقَ الْأَمِيرُ الْجَيْشَ
(ثُمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ) لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ
لِنَفْسِهِ بِمَا شَاءَ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَانِعٌ وَذَلِكَ مُبِيحٌ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ مُقَابِلِهِ، وَقَدْ رُجِّحَ عَدَمُ الْفَسَادِ لِأَنَّ الرَّازِقَ فِي الْحَقِيقَةِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَنِسْبَتُهُ إلَى الْأَمِيرِ مَجَازٌ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ قَالَ اُرْزُقْنِي فُلَانَةَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَفْسُدُ، أَوْ اُرْزُقْنِي الْحَجَّ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ، وَفِيهَا اُكْسُنِي ثَوْبًا، الْعَنْ فُلَانًا، اقْضِ دُيُونِي، اغْفِرْ لِعَمِّي وَخَالِي تَفْسُدُ.
وَلَوْ قَالَ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ لَا تَفْسُدُ، وَاغْفِرْ لِي وَلِأَخِي قَالَ الْحَلْوَانِيُّ لَا تَفْسُدُ، وَابْنُ الْفَضْلِ تَفْسُدُ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ، وَارْزُقْنِي رُؤْيَتَك لَا تَفْسُدُ.
(قَوْلُهُ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه) الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَقْرَبُ الْأَلْفَاظِ إلَى لَفْظِ الْمُصَنَّفِ النَّسَائِيّ «كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ، وَعَنْ يَسَارِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ» وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ أَرْجَحُ مِمَّا أَخَذَ بِهِ مَالِكٌ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ يَمِيلُ إلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ» لِتَقَدُّمِ الرِّجَالِ خَلْفَ الْإِمَامِ دُونَ النِّسَاءِ، فَالْحَالُ أَكْشَفُ مَعَ أَنَّ الثَّانِيَةَ أَخْفَضُ مِنْ الْأُولَى فَلَعَلَّهَا خَفِيَتْ عَمَّنْ كَانَ بَعِيدًا، وَلَوْ سَلَّمَ عَنْ يَسَارِهِ أَوَّلًا يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يُعِيدُ عَنْ
وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ» (وَيَنْوِي بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْحَفَظَةِ وَكَذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ) لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَلَا يَنْوِي النِّسَاءَ فِي زَمَانِنَا وَلَا مَنْ لَا شَرِكَةَ لَهُ فِي صَلَاتِهِ، هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْخِطَابَ حَظُّ الْحَاضِرِينَ (وَلَا بُدَّ لِلْمُقْتَدِي مِنْ نِيَّةِ إمَامِهِ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ نَوَاهُ فِيهِمْ) وَإِنْ كَانَ بِحِذَائِهِ نَوَاهُ فِي الْأُولَى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله تَرْجِيحًا لِلْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَوَاهُ فِيهِمَا لِأَنَّهُ ذُو حَظٍّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ (وَالْمُنْفَرِدُ يَنْوِي الْحَفَظَةَ لَا غَيْرُ) لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ سِوَاهُمْ (وَالْإِمَامُ يَنْوِي بِالتَّسْلِيمَتَيْنِ) هُوَ الصَّحِيحُ،
يَسَارِهِ، وَلَوْ سَلَّمَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ يُسَلِّمُ عَنْ يَسَارِهِ أُخْرَى.
(قَوْلُهُ وَلَا يَنْوِي النِّسَاءُ فِي زَمَانِنَا) لِأَنَّهُنَّ مَمْنُوعَاتٌ مِنْ حُضُورِ الْجَمَاعَاتِ (قَوْلُهُ نَوَاهُ فِيهِمْ) يَعْنِي إنْ كَانَ فِي الْأَيْمَنِ نَوَاهُ فِيهِ، أَوْ فِي الْأَيْسَرِ نَوَاهُ فِيهِ (قَوْلُهُ يَنْوِي بِالتَّسْلِيمَتَيْنِ) يَعْنِي مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَمَنْ عَنْ يَسَارِهِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ كَالْمَأْمُومِ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ لَا يَنْوِيهِمْ لِأَنَّهُ يُشِيرُ إلَيْهِمْ بِالسَّلَامِ، وَمَا قِيلَ يَنْوِي بِالْأُولَى لَا غَيْرُ، وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الْأُولَى لِلتَّحِيَّةِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالثَّانِيَةَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْقَوْمِ فِي التَّحِيَّةِ، ثُمَّ قِيلَ الثَّانِيَةُ سُنَّةٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ كَالْأُولَى وَبِمُجَرَّدِ لَفْظِ السَّلَامِ
وَلَا يَنْوِي فِي الْمَلَائِكَةِ عَدَدًا مَحْصُورًا لِأَنَّ الْأَخْبَارَ فِي عَدَدِهِمْ قَدْ اخْتَلَفَتْ فَأَشْبَهَ الْإِيمَانَ بِالْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، ثُمَّ إصَابَةُ لَفْظِ السَّلَامِ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله.
هُوَ يَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» .
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، وَالتَّخْيِيرُ يُنَافِي الْفَرْضِيَّةَ
يَخْرُجُ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عَلَيْكُمْ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ فِي عَدَدِهِمْ إلَخْ) فِي مُسْنَدِ ابْنِ رَاهْوَيْهِ وَشُعَبِ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثَيْنِ طَوِيلَيْنِ مَا أَفَادَ أَنَّهُمَا اثْنَانِ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا «وُكِّلَ بِالْمُؤْمِنِ مِائَةٌ وَسِتُّونَ مَلَكًا يَذُبُّونَ عَنْهُ مَا لَمْ يَقْدِرْ لَهُ، مِنْ ذَلِكَ الْبَصَرُ عَلَيْهِ سَبْعَةُ أَمْلَاكٍ يَذُبُّونَ عَنْهُ كَمَا يُذَبُّ عَنْ قَصْعَةِ الْعَسَلِ الذُّبَابُ فِي الْيَوْمِ الصَّائِفِ، وَلَوْ وُكِّلَ الْعَبْدُ إلَى نَفْسِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ لَاخْتَطَفَتْهُ الشَّيَاطِينُ» .
وَحَدِيثٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} بِسَنَدِهِ «دَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ الْعَبْدِ كَمْ مَعَهُ مَلَكٌ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: عَلَى يَمِينِكَ مَلَكٌ عَلَى حَسَنَاتِكَ وَهُوَ أَمِينٌ عَلَى الْمَلَكِ الَّذِي عَلَى الشِّمَالِ، فَإِذَا عَمِلْتَ حَسَنَةً كُتِبَتْ عَشْرًا، وَإِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً قَالَ الَّذِي عَلَى الشِّمَالِ لِلَّذِي عَلَى الْيَمِينِ أَكْتُبُ؟ فَيَقُولُ لَهُ: لَا، لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبَ، فَإِذَا قَالَ ثَلَاثًا قَالَ: نَعَمْ اُكْتُبْ أَرَاحَنَا اللَّهُ مِنْهُ فَبِئْسَ الْقَرِينُ، مَا أَقَلَّ مُرَاقَبَتَهُ لِلَّهِ وَأَقَلَّ اسْتِحْيَاءَهُ مِنَّا، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وَمَلَكَانِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} وَمَلَكٌ قَابِضٌ عَلَى نَاصِيَتِكَ، فَإِذَا تَوَاضَعْتَ لِلَّهِ رَفَعَكَ، وَإِذَا تَجَبَّرْتَ عَلَى اللَّهِ قَصَمَكَ، وَمَلَكَانِ عَلَى شَفَتَيْكَ لَيْسَ يَحْفَظَانِ عَلَيْكَ إلَّا الصَّلَاةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَمَلَكٌ قَائِمٌ عَلَى فِيكَ لَا يَدَعُ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَّةُ فِيكَ، وَمَلَكَانِ عَلَى عَيْنَيْكَ فَهَؤُلَاءِ عَشَرَةُ
وَالْوُجُوبَ، إلَّا أَنَّا أَثْبَتْنَا الْوُجُوبَ بِمَا رَوَاهُ احْتِيَاطًا، وَبِمِثْلِهِ لَا تَثْبُتُ الْفَرْضِيَّةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمْلَاكٍ عَلَى كُلِّ ابْنِ آدَمَ يَتَدَاوَلُونَ، مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ عَلَى مَلَائِكَةِ النَّهَارِ لِأَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّيْلِ سِوَى مَلَائِكَةِ النَّهَارِ، فَهَؤُلَاءِ عِشْرُونَ مَلَكًا عَلَى كُلِّ آدَمِيٍّ وَإِبْلِيسُ مَعَ ابْنِ آدَمَ بِالنَّهَارِ وَوَلَدُهُ بِاللَّيْلِ» (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّا أَثْبَتْنَا الْوُجُوبَ بِمَا رَوَاهُ) فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمْ تَثْبُتْ لَمْ يَلْزَمْنَا الْإِخْلَالُ بِمَا رَوَاهُ بَلْ عَمِلْنَا بِمُقْتَضَاهُ إذْ لَا يَقْتَضِي غَيْرَ مُجَرَّدِ التَّأْثِيمِ بِالتَّرْكِ وَهُوَ الْوُجُوبُ، وَمَعْنَى الِافْتِرَاضِ الَّذِي قَالُوا فَلَا خِلَافَ إذًا فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ بَلْ فِي لُزُومِ الْفَسَادِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ الَّذِي لَمْ يُقْطَعْ بِلُزُومِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي بَحْثِ الْفَاتِحَةِ فَارْجِعْ إلَيْهِ.
(فَصْلٌ فِي الْقِرَاءَةِ)
خُصَّ هَذَا الرُّكْنُ بِفَصْلٍ دُونَ سَائِرِ الْأَرْكَانِ لِكَثْرَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ.
وَفِي النَّوَازِلِ: رَجُلٌ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَنَامَ فَقَرَأَ وَهُوَ نَائِمٌ يَجُوزُ عَنْ الْقِرَاءَةِ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ النَّائِمَ كَالْمُنْتَبِهِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْمُصَلِّي بِالْحَدِيثِ وَبِهِ فَارَقَ الطَّلَاقَ، أَلَا يَرَى أَنَّ الْمَجْنُونَ وَالصَّبِيَّ لَوْ صَلَّيَا كَانَتْ صَلَاتُهُمَا جَائِزَةً وَلَوْ طَلَّقَا لَمْ يَجُزْ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّنْجِيسِ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ شَرْطُ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ وَلَمْ يُوجَدْ انْتَهَى.
وَالْأَوْجَهُ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ، وَالِاخْتِيَارُ الْمَشْرُوطُ قَدْ وُجِدَ فِي ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ وَهُوَ كَافٍ، أَلَا يَرَى لَوْ رَكَعَ وَسَجَدَ ذَاهِلًا عَنْ فِعْلِهِ كُلَّ الذُّهُولِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَسْأَلَةُ الْكَثِيرَةُ الشُّعَبِ مَسْأَلَةُ زَلَّةِ الْقَارِئِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْمُصَنِّفُ مَعَ أَنَّهَا مُهِمَّةٌ جِدًّا فَلْنُورِدْهَا.
وَخَطَأُ الْقَارِئِ إمَّا فِي الْإِعْرَابِ أَوْ فِي الْحُرُوفِ أَوْ فِي الْكَلِمَاتِ أَوْ الْآيَاتِ، وَفِي الْحُرُوفِ إمَّا بِوَضْعِ حَرْفٍ مَكَانَ آخَرَ أَوْ تَقْدِيمِهِ أَوْ تَأْخِيرِهِ أَوْ زِيَادَتِهِ أَوْ نَقْصِهِ، أَمَّا الْإِعْرَابُ فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ الْمَعْنَى لَا تَفْسُدُ لِأَنَّ تَغْيِيرَهُ خَطَأٌ لَا يُسْتَطَاعُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَيُعْذَرُ، وَإِنْ غَيَّرَ فَاحِشًا مِمَّا اعْتِقَادُهُ كُفْرٌ مِثْلُ الْبَارِئُ الْمُصَوَّرُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} بِرَفْعِ الْجَلَالَةِ وَنَصْبِ الْعُلَمَاءِ فَسَدَتْ فِي قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ.
وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فَقَالَ ابْنُ مُقَاتِلٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلْخِيّ وَالْهِنْدُوانِيُّ وَابْنُ الْفَضْلِ وَالْحَلْوَانِيُّ لَا تَفْسُدُ، وَمَا قَالَ الْمُتَقَدِّمُونَ أَحْوَطُ لِأَنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَ يَكُونُ كُفْرًا، وَمَا يَكُونُ كُفْرًا لَا يَكُونُ مِنْ الْقُرْآنِ فَيَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ النَّاسِ الْكُفَّارِ غَلَطًا وَهُوَ مُفْسِدٌ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ النَّاسِ سَاهِيًا مِمَّا لَيْسَ بِكُفْرٍ فَكَيْفَ وَهُوَ كُفْرٌ، وَقَوْلُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَوْسَعُ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ، وَهُوَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ الْإِعْرَابَ عُرِفَ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ، وَيَتَّصِلُ بِهَذَا تَخْفِيفُ الْمُشَدَّدِ، عَامَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى
فَصْلٌ فِي الْقِرَاءَةِ
أَنَّ تَرْكَ الْمَدِّ وَالتَّشْدِيدِ كَالْخَطَإِ فِي الْإِعْرَابِ، فَلِذَا قَالَ كَثِيرٌ بِالْفَسَادِ فِي تَخْفِيفِ {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لِأَنَّ مَعْنَى إيَا مُخَفَّفًا الشَّمْسُ، وَالْأَصَحُّ لَا تَفْسُدُ وَهُوَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ فِي إيَّا الْمُشَدَّدَةِ نَقَلَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي النُّحَاةِ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يُحْتَاجُ إلَى هَذَا، وَبِنَاءً عَلَى هَذَا أَفْسَدُوهَا بِمَدِّ هَمْزَةِ أَكْبَرُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا الْحُرُوفُ فَإِذَا وَضَعَ حَرْفًا مَكَانَ غَيْرِهِ فَإِمَّا خَطَأً وَإِمَّا عَجْزًا، فَالْأَوَّلُ إنْ لَمْ يُغَيِّرْ الْمَعْنَى وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ: إنَّ الْمُسْلِمُونَ، لَا تَفْسُدُ، وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ وَلَيْسَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ: قَيَّامِينَ بِالْقِسْطِ وَالتَّيَّابِينَ، وَالْحَيُّ الْقَيَّامُ عِنْدَهُمَا لَا تَفْسُدُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَفْسُدُ، وَإِنْ غَيَّرَ فَسَدَتْ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ لَمْ تَكُنْ مِثْلَهُ فِي الْقُرْآنِ، فَلَوْ قَرَأَ أَصْحَابُ الشَّعِيرِ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ فَسَدَتْ اتِّفَاقًا، فَالْعِبْرَةُ فِي عَدَمِ الْفَسَادِ عَدَمُ تَغَيُّرِ الْمَعْنَى.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وُجُودُ الْمِثْلِ فِي الْقُرْآنِ فَلَا يُعْتَبَرُ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَ أَبُو مَنْصُورٍ الْعِرَاقِيُّ مِنْ عُسْرِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْحَرْفَيْنِ وَعَدَمِهِ فِي عَدَمِ الْفَسَادِ وَثُبُوتِهِ وَلَا قُرْبَ الْمَخَارِجِ وَعَدَمِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ مُقَاتِلٍ.
وَحَاصِلُ هَذَا إنْ كَانَ الْفَصْلُ بِلَا مَشَقَّةٍ كَالطَّاءِ مَعَ الصَّادِ فَقَرَأَ الطَّالِحَاتِ مَكَانَ الصَّالِحَاتِ تَفْسُدُ، وَإِنْ كَانَ بِمَشَقَّةٍ كَالظَّاءِ مَعَ الضَّادِ وَالصَّادِ مَعَ السِّينِ وَالطَّاءِ مَعَ التَّاءِ قِيلَ تَفْسُدُ، وَأَكْثَرُهُمْ لَا تَفْسُدُ، هَذَا عَلَى رَأْيِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ ثُمَّ لَمْ تَنْضَبِطْ فُرُوعُهُمْ فَأَوْرَدَ فِي الْخُلَاصَةِ مَا ظَاهِرُهُ التَّنَافِي لِلْمُتَأَمِّلِ، فَالْأَوْلَى قَوْلُ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالثَّانِي وَهُوَ الْإِقَامَةُ عَجْزًا كَالْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بِالْهَاءِ فِيهَا، أَعُوذُ بِالْمُهْمَلَةِ، الصَّمَدُ بِالسِّينِ إنْ كَانَ يَجْهَدُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فِي تَصْحِيحِهِ وَلَا يَقْدِرُ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَلَوْ تَرَكَ جَهْدَهُ فَفَاسِدَةٌ وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَتْرُكَ فِي بَاقِي عُمْرِهِ، وَأَمَّا الْأَلْثَغُ الَّذِي يَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ بِالْمُثَلَّثَةِ أَوْ مَكَانَ اللَّامِ الْيَاءَ وَنَحْوَهُ لَا يُطَاوِعُهُ لِسَانُهُ لِغَيْرِهِ فَقِيلَ إنَّ بَدَلَ الْكَلَامِ فَسَدَتْ، أَوْ قَرَأَ خَارِجَ الصَّلَاةِ لَا يُؤْجَرُ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَّخِذَ آيَاتٍ لَيْسَ فِيهَا تِلْكَ الْحُرُوفُ يَفْعَلُ وَإِلَّا يَسْكُتُ.
وَعَلَى قِيَاسِ الْأَوَّلِ إنْ بَذَلَ جَهْدَهُ لَا تَفْسُدُ، وَبِهِ أَخَذَ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ، وَإِنْ لَمْ يَبْذُلْ إنْ أَمْكَنَهُ آيَاتٌ لَيْسَ فِيهَا تِلْكَ الْحُرُوفُ يَتَّخِذُهَا إلَّا الْفَاتِحَةَ، وَلَا يَنْبَغِي لِغَيْرِهِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَكَذَا الْفَأْفَاءُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى إخْرَاجِ الْكَلِمَةِ إلَّا بِتَكْرِيرِ الْفَاءِ، وَالتَّمْتَامُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى إخْرَاجِهَا إلَّا بَعْدَ أَنْ يُدِيرَهَا فِي صَدْرِهِ كَثِيرًا، وَكَذَا مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إخْرَاجِ حَرْفٍ مِنْ الْحُرُوفِ، ثُمَّ الْأَلْثَغُ إذَا وَجَدَ آيَاتٍ لَيْسَ فِيهَا تِلْكَ الْحُرُوفُ فَقَرَأَ مَا هِيَ فِيهِ فِيهَا فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ جَازَتْ، وَهَلْ يَجُوزُ بِلَا قِرَاءَةٍ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا قَرَأَ بِمَا فِيهَا مَعَ وُجُودِ مَا لَيْسَ فِيهَا فِيمَا إذَا لَمْ يُبَدِّلْ، أَمَّا إذَا بَدَّلَ فَيَنْبَغِي عَدَمُهُ فِي الْفَسَادِ لِأَنَّهُ تَبْدِيلٌ لِلْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَكَذَا فِي الْجَوَازِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ عَدَمَ الْوُجُودِ مَعَ الْعَجْزِ أَمَّا مَعَهُ فَيَنْبَغِي عَدَمُهُ فِي الْفَسَادِ لِأَنَّهُ تَبْدِيلٌ لِلْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ.
وَأَمَّا التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فَإِنْ غَيَّرَ نَحْوَ قَوْسَرَةٍ فِي قَسْوَرَةٍ فَسَدَتْ، وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ لَا تَفْسُدُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ وَمِنْهُ فَكُّ الْمُدْغَمِ وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ نَحْوُ: وَانْهَا عَنْ الْمُنْكَرِ بِالْأَلِفِ، وَرَادَدُوهُ إلَيْكَ، لَا تَفْسُدُ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، وَإِنْ غَيَّرَ نَحْوَ زَرَابِيبُ مَكَانُ زَرَابِيُّ، وَالْقُرْآنُ الْحَكِيمُ وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ، وَإِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى بِالْوَاوِ تَفْسُدُ، وَكَذَا النُّقْصَانُ إنْ لَمْ يُغَيِّرْ لَا تَفْسُدُ نَحْوُ جَاءَهُمْ مَكَانُ جَاءَتْهُمْ وَإِنْ غَيَّرَ فَسَدَ نَحْوُ، وَالنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى مَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى
قَالَ (وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ إنْ كَانَ إمَامًا) وَيُخْفِي فِي الْأُخْرَيَيْنِ
بِلَا وَاوٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ حَذْفُ الْحَرْفِ مِنْ كَلِمَةٍ فَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ إنْ كَانَ حَذَفَ حَرْفًا أَصْلِيًّا مِنْ كَلِمَةٍ وَتَغَيَّرَ الْمَعْنَى تَفْسُدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ نَحْوُ رَزَقْنَاهُمْ بِلَا رَاءٍ أَوْ زَايٍ أَوْ خَلَقْنَا بِغَيْرِ خَاءٍ أَوْ جَعَلْنَا بِلَا جِيمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ الْمِثْلِ نَحْوُ مَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَقَالَ: قَالُوا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا تَفْسُدُ لِأَنَّ الْمَقْرُوءَ فِي الْقُرْآنِ قَالَ، وَلَوْ كَانَتْ الْكَلِمَةُ ثُلَاثِيَّةً فَحَذَفَ حَرْفًا مِنْ أَوَّلِهَا أَوْ أَوْسَطِهَا نَحْوُ رَبِيًّا أَوْ عَرِيًّا فِي عَرَبِيًّا تَفْسُدُ، إمَّا لِتَغَيُّرِ الْمَعْنَى أَوْ لِأَنَّهُ يَصِيرُ لَغْوًا، وَكَذَا حَذْفُ بَاءِ ضَرَبَ اللَّهُ فَإِنْ كَانَ تَرْخِيمًا لَا تَفْسُدُ وَشَرْطُهُ النِّدَاءُ وَالْعَلَمِيَّةُ وَأَنْ يَكُونَ رُبَاعِيًّا أَوْ خُمَاسِيًّا نَحْوُ وَقَالُوا يَا مَالُ فِي مَالِكُ.
وَأَمَّا الْكَلِمَةُ مَكَانُ الْكَلِمَةِ فَإِنْ تَقَارَبَا مَعْنًى وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَالْحَكِيمِ مَكَانَ الْعَلِيمِ لَمْ تَفْسُدْ اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْمِثْلُ كَالْفَاجِرِ مَكَانِ الْأَثِيمِ وَأَيَاهُ مَكَانُ أَوَاهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، فَلَوْ لَمْ يَتَقَارَبَا وَلَا مِثْلَ لَهُ فَسَدَ اتِّفَاقًا إذَا لَمْ يَكُنْ ذِكْرًا وَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ مِمَّا اعْتِقَادُهُ كُفْرٌ كَغَافِلِينَ فِي {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} فَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّهُ تَفْسُدُ اتِّفَاقًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَى قِيَاسِ أَبِي يُوسُفَ لَا تَفْسُدُ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي ابْنُ مُقَاتِلٍ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تَفْسُدُ.
وَلَوْ قَرَأَ " الْغُبَارِ " مَكَانَ " الْغُرَابِ "، " فَاخْشَوْهُمْ وَلَا تَخْشَوْنِ "، أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُوا نَعَمْ؛ تَفْسُدُ، مَا تَخْلُقُونَ مَكَانَ تُمْنُونَ الْأَظْهَرُ الْفَسَادُ، وَذُقْ إنَّك أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مَكَانَ الْكَرِيمِ الْمُخْتَارُ الْفَسَادُ، وَقِيلَ لَا لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي زَعْمِك.
وَلَوْ قَرَأَ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَعَ أَنَّهُ قَرَأَ مَا بَعْدَهَا وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ لَا تَفْسُدُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعِنْدَ الْغُرُوبِ مَكَانَ قَبْلِ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ تَفْسُدُ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ فِي سَقَرَ، وَالنَّازِعَاتِ نَزْعًا، إنَّا مُرْسِلُو الْجَمَلِ وَالْكَلْبِ وَالْبِغَالِ لَا تَفْسُدُ، وَشُرَكَاءُ مَكَانَ " شُفَعَاءُ " تَفْسُدُ.
وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ وَمَنْ وَضَعَ كَلِمَةً مَكَانَ أُخْرَى كَأَنْ يَنْسُبَ بِالْبُنُوَّةِ إلَى غَيْرِ مَنْ نُسِبَ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ مُوسَى بْنُ لُقْمَانَ لَا تَفْسُدُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَرِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ وَعَلَيْهِ الْعَامَّةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَمَرْيَمَ ابْنَةِ غَيْلَانَ تَفْسُدُ اتِّفَاقًا، وَكَذَا لَوْ لَمْ تَجُزْ نِسْبَتُهُ فَنَسَبَهُ تَفْسُدُ كَعِيسَى بْنِ لُقْمَانَ لِأَنَّ نِسْبَتَهُ كُفْرٌ إذَا تَعَمَّدَ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: إذْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ كَلِمَةً فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ شَطْرُ كَلِمَةٍ فَرَجَعَ وَقَرَأَ الْأُولَى أَوْ رَكَعَ وَلَمْ يُتِمَّهَا إنْ كَانَ شَطْرُ كَلِمَةٍ لَوْ أَتَمَّهَا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لَا تَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ لَوْ أَتَمَّهَا تَفْسُدُ تَفْسُدُ، وَلِلشَّطْرِ حُكْمُ الْكُلِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ انْتَهَى.
وَأَمَّا التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ لَمْ يَفْسُدْ نَحْوُ فَأَنْبَتْنَا فِيهَا عِنَبًا وَحَبًّا، وَإِنْ غَيَّرَ فَسَدَ نَحْوُ الْيُسْرِ مَكَانَ الْعُسْرِ وَعَكْسِهِ، وَيُمْكِنُ إدْرَاجُهُ فِي الْكَلِمَةِ مَكَانَ الْكَلِمَةِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ قَرَأَ لَتَفُرُّنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَسْأَلُونَ، لَا تَفْسُدُ، وَإِذْ الْإِعْنَاقِ فِي أَغْلَالِهِمْ لَا تَفْسُدُ.
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْ وَهِيَ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ: وَبِالْوَالِدِينَ إحْسَانًا وَبِرًّا إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا عَلِيمًا لَا تَفْسُدُ فِي قَوْلِهِمْ، وَإِنْ غَيَّرَتْ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ نَحْوُ وَعَمِلَ صَالِحًا أَوْ كَفَرَ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ، أَوْ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ نَحْوُ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ وَعَصَّيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا؛ فَسَدَتْ لِأَنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَهُ كَفَرَ، فَإِذَا أَخْطَأَ فِيهِ أَفْسَدَ، فَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْ وَلَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَتُفَّاحٌ وَرُمَّانٌ لَا تَفْسُدُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَفْسُدُ.
وَلَوْ وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ تَفْسُدُ.
وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ زِيَادَةٌ لَا تُغَيِّرُ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: رَأَيْت فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لَا تَفْسُدُ.
وَمِنْ الزِّيَادَةِ الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ لِأَنَّ حَاصِلَهَا إشْبَاعُ الْحَرَكَاتِ لِمُرَاعَاةِ النَّغَمِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَفْسِيرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لَهَا فِي بَابِ الْأَذَانِ أَوْ زِيَادَةِ الْهَمَزَاتِ كَآ فَإِذَا فَحَشَ أَفْسَدَ الصَّلَاةَ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَتُعْرَفُ فِي زِيَادَةِ الْحَرْفِ، وَلَوْ بَنَى بَعْضَ آيَةٍ عَلَى أُخْرَى إنْ لَمْ يُغَيِّرْ نَحْوُ
هَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ الْمُتَوَارَثُ (وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ) لِأَنَّهُ إمَامٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ (وَإِنْ شَاءَ خَافَتَ) لِأَنَّهُ لَيْسَ خَلْفَهُ مَنْ يَسْمَعُهُ، وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْجَهْرُ لِيَكُونَ الْأَدَاءُ عَلَى هَيْئَةِ الْجَمَاعَةِ
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} مَكَانَ {كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا} لَا تَفْسُدُ، وَإِنْ غَيَّرَ فَإِنْ وَقَفَ وَقْفًا تَامًّا بَيْنَهُمَا فَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَرَأَ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وَوَقَفَ ثُمَّ قَالَ {أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} .
وَإِنْ وَصَلَ تَفْسُدُ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَحِينَئِذٍ هَذَا مُقَيَّدٌ لِمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ أَنَّهُ إذَا شَهِدَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ اللَّهُ لَهُ بِالنَّارِ أَوْ بِالْقَلْبِ تَفْسُدُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ هَذَا هُوَ الْمُتَوَارَثُ) يَعْنِي أَنَّا أَخَذْنَا عَمَّنْ يَلِينَا الصَّلَاةَ هَكَذَا فِعْلًا وَهُمْ عَمَّنْ يَلِيهِمْ كَذَلِكَ، وَهَكَذَا إلَى الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَهُمْ بِالضَّرُورَةِ أَخَذُوهُ عَنْ صَاحِبِ الْوَحْيِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُنْقَلَ فِيهِ نَصٌّ مُعَيَّنٌ، هَذَا وَلَا يُجْهِدُ نَفْسَهُ فِي الْجَهْرِ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ إمَامٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ) لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ يَتَضَمَّنُ مِنْ الْبَدِيعِ النَّوْعَ الْمُسَمَّى بِحُسْنِ التَّعْلِيلِ كَمَا قِيلَ:
فَدَتْك نُفُوسُ الْحَاسِدِينَ فَإِنَّهَا
…
مُعَذَّبَةٌ فِي حَضْرَةٍ وَمَغِيبِ
وَفِي تَعَبِ مَنْ يَحْسُدُ الشَّمْسَ ضَوْءَهَا
…
وَيَجْهَدُ أَنْ يَأْتِيَ لَهَا بِضَرِيبِ
فَإِنَّ قَوْلَهُ جَهَرَ تَتَوَجَّهُ النَّفْسُ إلَى طَلَبِ عِلَّتِهِ مِنْ أَنَّهُ أَيُّ حَاجَةٍ إلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ يَسْمَعُهُ فَقَالَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ لِإِفَادَتِهِ، وَذَلِكَ قَدْ يَخْفَى صَرَّحَ بِالتَّعْلِيلِ بِأَدَاتِهِ بِلَازِمِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ حُسْنِ التَّعْلِيلِ، وَيُشْكَلُ عَلَيْهِ مَا سَيَذْكُرُهُ فِي تَعْرِيفِ الْجَهْرِ حَيْثُ قَالَ: وَالْجَهْرُ أَنْ يُسْمِعَ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَا لَيْسَ فِيهِ إسْمَاعُ الْغَيْرِ لَيْسَ بِجَهْرٍ، أَوْ أَنَّ كَوْنَ هَذَا جَهْرًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ لَا غَيْرَهُ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ، وَهُوَ حُجَّةٌ فِي الرِّوَايَاتِ، وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ إرَادَةَ هَذَا الْمَفْهُومِ عَلَى خِلَافِ مَا فِي النِّهَايَةِ، أَوْ أَنَّ إرَادَتَهُ عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ لَا عَلَى الْمُخْتَارِ وَالتَّعْرِيفُ عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ قَوْلِ الْهِنْدُوَانِيُّ. وَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَيْضًا اعْتَبَرَ هَذَا الْمَفْهُومَ حَيْثُ قَالَ فِيمَا بَعْدَهُ: وَفِي لَفْظِ الْكِتَابِ إشَارَةٌ إلَيْهِ
(وَيُخْفِيهَا الْإِمَامُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَإِنْ كَانَ بِعَرَفَةَ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ» أَيْ لَيْسَتْ فِيهَا قِرَاءَةٌ مَسْمُوعَةٌ، وَفِي عَرَفَةَ خِلَافُ مَالِكٍ رحمه الله، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ
(وَيَجْهَرُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ) لِوُرُودِ النَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ
حَيْثُ قَالَ: إنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ فَانْظُرْ كَلَامَهُ بَعْدُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى رَأْيِهِ الثَّانِي
(قَوْلُهُ «صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ») غَرِيبٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: لَا أَصْلَ لَهُ انْتَهَى، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ سَخْبَرَةَ قُلْنَا لِخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ:«هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ قَالَ نَعَمْ، قُلْنَا بِمَ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ ذَلِكَ؟ قَالَ بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ» وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ الْخُدْرِيِّ: «حَزَرْنَا قِيَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ قَدْرَ قِرَاءَةِ أَلَمْ السَّجْدَةَ، وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ» الْحَدِيثَ.
وَعَنْهُ فِي مُسْلِمٍ أَيْضًا «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً» الْحَدِيثَ (قَوْلُهُ أَيْ لَيْسَتْ فِيهَا قِرَاءَةٌ مَسْمُوعَةٌ) قِيلَ فَسَّرَ بِهِ لِيُخَالِفَ مَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ «وَكَانَ يُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا» فَيَكُونُ دَافِعًا لِذَلِكَ
(قَوْلُهُ لِوُرُودِ النَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ) طَرِيقُ تَقْرِيرِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا وَمَنْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ» وَمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ «سَأَلَنِي عُمَرُ مَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ؟ فَقَالَ: كَانَ يَقْرَأُ بِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَاقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ» أَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ «كَانَ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ
بِالْجَهْرِ، وَفِي التَّطَوُّعِ بِالنَّهَارِ يُخَافِتُ وَفِي اللَّيْلِ يَتَخَيَّرُ اعْتِبَارًا بِالْفَرْضِ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مُكَمِّلٌ لَهُ فَيَكُونُ تَبَعًا
(مَنْ فَاتَتْهُ الْعِشَاءُ فَصَلَّاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إنْ أَمَّ فِيهَا جَهَرَ) كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَضَى الْفَجْرَ غَدَاةَ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ بِجَمَاعَةٍ (وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ خَافَتَ حَتْمًا وَلَا يَتَخَيَّرُ هُوَ الصَّحِيحُ) لِأَنَّ الْجَهْرَ يَخْتَصُّ
يُسْمِعُ الْآيَةَ أَحْيَانًا» وَفِي النَّسَائِيّ «كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَهُ صلى الله عليه وسلم فَنَسْمَعُ مِنْهُ الْآيَةَ بَعْدَ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ لُقْمَانَ وَالذَّارِيَاتِ» وَفِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ النَّضْرِ قَالَ «كُنَّا بِالطَّائِفِ عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَصَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: إنِّي صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ فَقَرَأَ لَنَا بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ» فَالْإِخْبَارُ بِقِرَاءَةِ خُصُوصِ سُورَةٍ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ كَانَ جَهْرًا (قَوْلُهُ اعْتِبَارًا بِالْفَرْضِ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ) هُوَ الْمُفِيدُ لِتَعَيُّنِ الْمُخَافَتَةِ عَلَى الْمُنْفَرِدِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ قَوْلُهُ وَيُخْفِيهَا الْإِمَامُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ يُعْطَى أَنَّهُ لَا يَتَحَتَّمُ عَلَى الْمُنْفَرِدِ كَمَا قَالَ عِصَامٌ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ السَّهْوُ بِالْجَهْرِ فِيهِمَا عَلَى الْمُنْفَرِدِ، وَالصَّحِيحُ تَعَيُّنُ الْمُخَافَتَةِ.
وَبَعْدَ هَذَا فَفِيمَا دَفَعَ بِهِ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ مِنْ أَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ السَّهْوُ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ أَعْظَمُ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ الْجَهْرَ وَالْإِسْمَاعَ بِخِلَافِ الْمُنْفَرِدِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ، إذْ لَا نُنْكِرُ أَنَّ وَاجِبًا قَدْ يَكُونُ آكَدَ مِنْ وَاجِبٍ، لَكِنْ لَمْ يُنَطْ وُجُوبُ السُّجُودِ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ لَا بِآكَدِ الْوَاجِبَاتِ أَوْ بِرُتْبَةٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْهُ، فَحَيْثُ كَانَتْ الْمُخَافَتَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْمُنْفَرِدِ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ بِتَرْكِهَا السُّجُودُ.
(قَوْلُهُ غَدَاةَ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ) رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ «عَرَّسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ شَابٌّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْرُسُكُمْ، فَحَرَسَهُمْ حَتَّى إذَا كَانَ مِنْ الصُّبْحِ غَلَبَتْهُ عَيْنُهُ فَمَا اسْتَيْقَظُوا إلَّا بِحَرِّ الشَّمْسِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَوَضَّأَ وَتَوَضَّأَ أَصْحَابُهُ وَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَذَّنَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْفَجْرَ بِأَصْحَابِهِ وَجَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا» . وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَكِنْ يُعْتَضَدُ بِهِ حَمْلُ مَا فِي مُسْلِمٍ «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّكُمْ تَسِيرُونَ عَشِيَّتَكُمْ، إلَى أَنْ قَالَ: فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالشَّمْسُ فِي ظَهْرِهِ، قَالَ: فَقُمْنَا فَزِعِينَ ثُمَّ قَالَ: ارْكَبُوا فَرَكِبْنَا وَسِرْنَا حَتَّى إذَا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ نَزَلَ ثُمَّ دَعَا بِمِيضَأَةٍ كَانَتْ مَعِي فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَاءِ، إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ» عَلَى مَا يَعُمُّ الْجَهْرَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَرْكَانِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ لَا عَلَى مُجَرَّدِ اسْتِيفَاءِ الْأَرْكَانِ كَأَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ بِلَا مُوجِبٍ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَقَاضِي خَانْ: يَتَخَيَّرُ وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ هُوَ الصَّحِيحُ
إمَّا بِالْجَمَاعَةِ حَتْمًا أَوْ بِالْوَقْتِ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ وَلَمْ يُوجَدْ أَحَدُهُمَا
(وَمَنْ قَرَأَ فِي الْعِشَاءِ فِي الْأُولَيَيْنِ السُّورَةَ وَلَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَمْ يُعِدْ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَإِنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا قَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ الْفَاتِحَةَ وَالسُّورَةَ وَجَهَرَ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله لَا يَقْضِي وَاحِدَةً مِنْهُمَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ لَا يُقْضَى إلَّا بِدَلِيلٍ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ هُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَحْكِي الْأَدَاءَ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الْجَهْرَ إلَخْ حَاصِلُهُ أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ يَنْتَفِي بِنَفْيِ الْمُدْرَكِ الشَّرْعِيِّ، وَالْمَعْلُومُ مِنْ الشَّرْعِ كَوْنُ الْجَهْرِ عَلَى الْمُنْفَرِدِ تَخْيِيرًا فِي الْوَقْتِ وَحَتْمًا عَلَى الْإِمَامِ مُطْلَقًا، وَلَوْلَا الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ لَقُلْنَا بِتَقَيُّدِهِ بِالْوَقْتِ فِي الْإِمَامِ أَيْضًا، وَمِثْلُهُ فِي الْمُنْفَرِدِ مَعْدُومٌ فَبَقِيَ الْجَهْرُ فِي حَقِّهِ عَلَى الِانْتِفَاءِ الْأَصْلِيِّ، وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ شَرْعِيَّةُ الْإِخْفَاءِ، وَالْجَهْرُ يُعَارِضُهُ دَلِيلٌ آخَرُ فَعِنْدَ فَقْدِهِ يُرْجَعُ إلَيْهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، بَلْ ظَاهِرُ نَقْلِهِمْ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْهَرُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا فَشَرَعَ الْكُفَّارُ يُغَلِّطُونَهُ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} فَأَخْفَى صلى الله عليه وسلم إلَّا فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا غُيَّبًا نَائِمِينَ وَبِالطَّعَامِ مَشْغُولِينَ» فَاسْتَقَرَّ كَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَصْلَ الْجَهْرُ، وَالْإِخْفَاءُ يُعَارَضُ، وَأَيْضًا نَفْيُ الْمُدْرَكِ مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ الْقِيَاسُ عَلَى أَدَائِهَا بَعْدَ الْوَقْتِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ فِيهِمَا الْإِعْلَامَ بِدُخُولِ الْوَقْتِ وَالشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ سَنَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّةَ مَنْ يُعْلِمُهُ بِهِمَا، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مُرَاعَاةُ هَيْئَةِ الْجَمَاعَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ «مَنْ صَلَّى عَلَى هَيْئَةِ الْجَمَاعَةِ صَلَّتْ بِصَلَاتِهِ صُفُوفٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ» ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ
(قَوْلُهُ لَمْ يُعِدْ فِي الْأُخْرَيَيْنِ) الْمُنَاسِبُ لَمْ يَقْضِ أَوْ لَمْ يَقْرَأْهَا إذْ لَا يُتَصَوَّرُ إعَادَةُ مَا لَمْ يَسْبِقْ (قَوْلُهُ وَلَهُمَا إلَخْ) مِثْلُ هَذَا الْوَضْعِ يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ لَهُمَا: يَعْنِي مِنْ الدَّلَائِلِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِ الْمُخَالِفِ بَعْدَ ذِكْرِ دَلِيلِهِ وَهُوَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ قِرَاءَةَ السُّورَةِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَلَا يَجُوزُ الْإِتْيَانُ بِهَا لِعَدَمِ الْمَحَلِّ، وَدَلِيلُ الْقَضَاءِ لَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ قِرَاءَتَهَا تَلْحَقُهَا بِالشَّفْعِ الْأَوَّلِ وَيَخْلُو عَنْهَا الثَّانِي حُكْمًا لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لَهَا، بِخِلَافِ الْفَاتِحَةِ فَإِنَّ الثَّانِيَ مَحَلُّهَا فَتَقَعُ قِرَاءَتُهَا أَدَاءً لِأَنَّهُ أَقْوَى لِلْمَحَلِّيَّةِ، وَلَوْ كَرَّرَهَا خَالَفَ الْمَشْرُوعَ.
وَقَدْ يُقَالُ كَذَلِكَ قِرَاءَةُ السُّورَةِ فَإِنْ كَانَ إيقَاعُهَا فِيهِ يُخَلِّيهِ عَنْهَا حُكْمًا
وَلَهُمَا وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ شُرِعَتْ عَلَى وَجْهٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا السُّورَةُ، فَلَوْ قَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ تَتَرَتَّبُ الْفَاتِحَةُ عَلَى السُّورَةِ، وَهَذَا خِلَافُ الْمَوْضُوعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَرَكَ السُّورَةَ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ قَضَاؤُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، ثُمَّ ذَكَرَ هَاهُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَفِي الْأَصْلِ بِلَفْظَةِ الِاسْتِحْبَابِ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ مُؤَخَّرَةً فَغَيْرُ مَوْصُولَةٍ بِالْفَاتِحَةِ فَلَمْ يُمْكِنْ مُرَاعَاةُ مَوْضُوعِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ
لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ ثَانِيًا لِلْقَضَاءِ يَجِبُ أَنْ تَلْتَحِقَ بِالْأُولَيَيْنِ فَيَخْلُوَ الثَّانِي عَنْ تَكْرَارِهَا حُكْمًا، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ الْمُتَحَقِّقُ عَدَمُ الْمَحَلِّيَّةِ فَلَزِمَ كَوْنُهَا قَضَاءً، وَلَمْ يَقَعْ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إذَا فَاتَ عَنْ مَحَلِّهِ لَا يَقْضِي إلَّا بِدَلِيلٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُرَبَّعَةٌ، فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ مَا ذُكِرَ، وَعَكْسُهُ قَوْلُ عِيسَى بْنِ أَبَانَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا يَقْضِي وَاحِدَةً مِنْهُمَا، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: يَقْضِيهِمَا، ثُمَّ كَيْفَ يُرَتِّبُهُمَا؟ فَقِيلَ يُقَدِّمُ السُّورَةَ، وَقِيلَ يُقَدِّمُ الْفَاتِحَةَ وَهُوَ الْأَشْبَهُ، إذْ تَقْدِيمُ السُّورَةِ عَلَى الْفَاتِحَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْمَعْهُودِ (قَوْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ هَاهُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ) وَهُوَ
(وَيَجْهَرُ بِهِمَا) هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ شَنِيعٌ، وَتَغْيِيرُ النَّفْلِ وَهُوَ الْفَاتِحَةُ أَوْلَى، ثُمَّ الْمُخَافَتَةُ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَالْجَهْرُ أَنْ يُسْمِعَ غَيْرَهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رحمه الله لِأَنَّ مُجَرَّدَ حَرَكَةِ اللِّسَانِ لَا يُسَمَّى قِرَاءَةً بِدُونِ الصَّوْتِ.
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: أَدْنَى الْجَهْرِ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ، وَأَدْنَى الْمُخَافَتَةِ تَصْحِيحُ الْحُرُوفِ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِعْلُ اللِّسَانِ دُونَ الصِّمَاخِ.
لَفْظُ الْخَبَرِ وَفِي الْأَصْلِ بِلَفْظِ الِاسْتِحْبَابِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ أَصْرَحُ فَيَجِبُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي الرِّوَايَةِ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ مُؤَخَّرَةً فَغَيْرُ مَوْصُولَةٍ بِالْفَاتِحَةِ فَلَمْ تَكُنْ مُرَاعَاتُهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ احْتِرَازًا عَمَّا وَرَدَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجْهَرُ أَصْلًا لِأَنَّ الْجَمْعَ شَنِيعٌ، وَتَغْيِيرُ السُّورَةِ أَوْلَى لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ فِي مَحَلِّهَا وَلَيْسَتْ تَبَعًا لِلسُّورَةِ، وَعَنْهُ يَجْهَرُ بِالسُّورَةِ دُونَ الْفَاتِحَةِ مُرَاعَاةً لِصِفَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَلَا يَكُونُ جَمْعًا تَقْدِيرًا لِلِالْتِحَاقِ بِمَحَلِّهَا مِنْ الْأُولَيَيْنِ،
وَفِي لَفْظِ الْكِتَابِ إشَارَةٌ إلَى هَذَا.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّطْقِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
(وَأَدْنَى مَا يُجْزِئُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ آيَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله،
وَصَحَّحَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ وَجَعَلَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَ مِنْ الْجَوَابِ (قَوْلُهُ وَفِي لَفْظِ الْكِتَابِ إشَارَةٌ إلَيْهِ) حَيْثُ قَالَ: إنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ، وَإِنْ شَاءَ خَافَتَ فَجَعَلَ إسْمَاعَهُ نَفْسَهُ جَهْرًا يُقَابِلُهُ الْمُخَافَتَةُ فَتَكُونُ هِيَ دُونَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ حِينَئِذٍ إلَّا تَصْحِيحُ الْحُرُوفِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ لَا غَيْرَهُ اعْتِبَارًا لِمَفْهُومِ اللَّقَبِ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ إبْدَاءِ حُسْنِ التَّعْلِيلِ وَالْمُرَادُ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ إشَارَةٌ إلَيْهِ.
فِي الْمُحِيطِ قَوْلُ الْهِنْدُوَانِيُّ أَصَحُّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ وَإِنْ كَانَتْ فِعْلَ اللِّسَانِ لَكِنَّ فِعْلَهُ الَّذِي هُوَ كَلَامٌ وَالْكَلَامُ بِالْحُرُوفِ وَالْحَرْفُ كَيْفِيَّةٌ تَعْرِضُ لِلصَّوْتِ وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ النَّفْسِ فَإِنَّهُ النَّفَسُ الْمَعْرُوضُ بِالْقَرْعِ، فَالْحَرْفُ عَارِضٌ لِلصَّوْتِ لَا لِلنَّفْسِ، فَمُجَرَّدُ تَصْحِيحِهَا بِلَا صَوْتٍ إيمَاءٌ إلَى الْحُرُوفِ بِعَضَلَاتِ الْمَخَارِجِ لَا حُرُوفَ فَلَا كَلَامَ.
بَقِيَ أَنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي أَنْ يَلْزَمَ فِي مَفْهُومِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَصِلَ إلَى السَّمْعِ، بَلْ كَوْنُهُ بِحَيْثُ يُسْمَعُ وَهُوَ قَوْلُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ، وَلَعَلَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْهِنْدُوَانِيُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ سَمَاعِهِ بَعْدَ وُجُودِ الصَّوْتِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ.
(قَوْلُهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ) كَالتَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَوُجُوبِ السَّجْدَةِ بِتِلَاوَتِهِ وَجَوَازِ الصَّلَاةِ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَكَذَا الْإِيلَاءُ وَالْبَيْعُ عَلَى الْخِلَافِ، وَقِيلَ الصَّحِيحُ فِي الْبَيْعِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَسْمَعَ الْمُشْتَرِي
(قَوْلُهُ وَأَدْنَى مَا يُجْزِئُ إلَخْ) الْقِرَاءَةُ فَرْضٌ وَوَاجِبٌ وَسُنَّةٌ وَمَكْرُوهٌ، فَالْفَرْضُ عِنْدَهُ فِي رِوَايَةٍ
وَقَالَا: ثَلَاثُ آيَاتٍ قِصَارٍ أَوْ آيَةٌ طَوِيلَةٌ) لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى قَارِئًا بِدُونِهِ فَأَشْبَة قِرَاءَةَ مَا دُونَ الْآيَةِ.
وَلَهُ قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ
مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْقُرْآنِ وَلَمْ يُشْبِهْ قَصْدَ خِطَابِ أَحَدٍ وَنَحْوِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ آيَةٌ وَفِي رِوَايَةٍ كَقَوْلِهِمَا.
وَالْوَاجِبُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَثَلَاثِ آيَاتٍ قِصَارٍ أَوْ آيَةٍ طَوِيلَةٍ: يَعْنِي فِي غَيْرِ الْأُخْرَيَيْنِ وَالْأَخِيرَةِ مِنْ الْمَغْرِبِ
وَالْمَسْنُونَةِ إمَّا فِي السَّفَرِ أَوْ فِي الْحَضَرِ، وَيُعْلَمُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْمَكْرُوهُ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْ الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ.
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَآيَةٍ أَوْ آيَتَيْنِ مَكْرُوهٌ.
وَفِي الْمُجْتَبَى: مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ مَعَ الْفَاتِحَةِ آيَةً طَوِيلَةً لَا يَكُونُ إتْيَانًا بِالْوَاجِبِ.
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِهِمَا فِيمَا لَوْ قَرَأَ آيَةً طَوِيلَةً كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ قِيلَ لَا يَجُوزُ، وَعَامَّتُهُمْ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ ثَابِتَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَمَا قِيلَ لَوْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَنَحْوَهَا وَقَعَ الْكُلُّ فَرْضًا، وَكَذَا إذَا أَطَالَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مُشْكِلٌ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَحَقَّقْ قَدْرٌ لِلْقِرَاءَةِ إلَّا فَرْضًا فَأَيْنَ بَاقِي الْأَقْسَامِ.
وَجْهُ الْقِيلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ
وَالْأَصَحُّ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ} يُوجِبُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْآيَةِ فَمَا فَوْقَهَا مُطْلَقًا لِصِدْقِ مَا تَيَسَّرَ عَلَى كُلِّ مَا قُرِئَ فَمَهْمَا قُرِئَ يَكُونُ الْفَرْضُ، وَمَعْنَى قِسْمِ السُّنَّةِ مِنْ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ يُجْعَلَ الْفَرْضُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ مَا كَانَ عليه الصلاة والسلام يَجْعَلُهُ عَلَيْهِ وَهُوَ جَعْلُهُ بِعَدَدِ أَرْبَعِينَ مَثَلًا إلَى مِائَةٍ.
وَمِمَّا يُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ وَفِي غَيْرِ حَالَةِ الْقِيَامِ وَتَعْيِينِ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ، ثُمَّ عِنْدَهُ لَوْ قَرَأَ آيَةً هِيَ كَلِمَاتٌ أَوْ كَلِمَتَانِ نَحْو {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} أَوْ {ثُمَّ نَظَرَ} جَازَتْ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْمَشَايِخِ، أَمَّا لَوْ كَانَتْ كَلِمَةٌ اسْمًا أَوْ حَرْفًا نَحْوُ: مُدْهَامَّتَانِ ص ق ن فَإِنَّ هَذِهِ آيَاتٌ عِنْدَ بَعْضِ الْقُرَّاءِ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يُسَمَّى عَادًّا لَا قَارِئًا وَكَوْنُ نَحْوِ ص حَرْفًا غَلَطٌ، بَلْ الْحَرْفُ مُسَمَّى ذَلِكَ وَهُوَ لَيْسَ الْمَقْرُوءَ، وَالْمَقْرُوءُ هُوَ الِاسْمُ صَادٌ كَلِمَةٌ، فَالصَّوَابُ فِي التَّقْسِيمِ أَنْ يُقَالَ هِيَ كَلِمَتَانِ أَوْ كَلِمَةٌ، وَلَوْ قَرَأَ نِصْفَ آيَةٍ طَوِيلَةٍ مِثْلُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَالْمُدَايَنَةِ قِيلَ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْآيَةِ، وَعَامَّتُهُمْ عَلَى الْجَوَازِ لِأَنَّهُ يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثٍ قِصَارٍ، وَتَعْيِينُ الْآيَةِ لِيَصِيرَ قَارِئًا عُرْفًا وَهُوَ بِذَلِكَ كَذَلِكَ، أَمَّا الْكَرَاهَةُ فَثَابِتَةٌ مَا لَمْ يَقْرَأْ الْوَاجِبَ إلَّا فِيمَا بَعْدَ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْفَرْضِ، وَلَوْ قَرَأَ نِصْفَ آيَةٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ كَرَّرَ كَلِمَةً مِرَارًا حَتَّى بَلَغَ قَدْرَ آيَةٍ لَا يَجُوزُ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى قَارِئًا بِدُونِهِ) أَيْ بِدُونِ الْمَذْكُورِ عُرْفًا (قَوْلُهُ وَلَهُ قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ) فَكَانَ مُقْتَضَاهُ الْجَوَازَ بِدُونِ الْآيَةِ، وَبِهِ جَزَمَ الْقُدُورِيُّ فَقَالَ:
إلَّا أَنَّ مَا دُونَ الْآيَةِ خَارِجٌ وَالْآيَةُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهُ
(وَفِي السَّفَرِ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) وَأَيِّ سُورَةٍ شَاءَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي سَفَرِهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ» وَلِأَنَّ السَّفَرَ أَثَّرَ فِي إسْقَاطِ شَطْرِ الصَّلَاةِ
الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْقُرْآنِ يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ بِقَلِيلٍ، وَلِأَنَّ مَا يَتَنَاوَلُ اسْمَ الْوَاجِبِ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ فَدَفَعَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنَّ مَا دُونَ الْآيَةِ خَارِجٌ مِنْهُ: أَيْ مِنْ النَّصِّ إذْ الْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ فِي الْمَاهِيَّةِ: وَلَا يُجْزَمُ بِكَوْنِهِ قَارِئًا عُرْفًا بِهِ فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ عُهْدَةِ مَا لَزِمَهُ بِيَقِينٍ إذْ لَمْ يُجْزَمْ بِكَوْنِهِ مِنْ أَفْرَادِهِ فَلَمْ تَبْرَأْ بِهِ الذِّمَّةُ خُصُوصًا وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الِاحْتِيَاطِ، بِخِلَافِ الْآيَةِ إذْ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهُ: أَيْ مَعْنَى مَا دُونَ الْآيَةِ بَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ قَارِئًا بِهَا، فَمَبْنَى الْوَجْهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ} وَأَمَّا مَبْنَى الْخِلَافِ فَقِيلَ عَلَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ عِنْدَهُ أَوْلَى مِنْ الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ.
وَعِنْدَهُمَا بِالْقَلْبِ مَعْنَاهُ أَنَّ كَوْنَهُ غَيْرَ قَارِئٍ مَجَازٌ مُتَعَارَفٌ وَكَوْنَهُ قَارِئًا بِذَلِكَ حَقِيقَةٌ تُسْتَعْمَلُ، فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ هَذَا قَارِئٌ لَمْ يُخْطِئْ الْمُتَكَلِّمُ نَظَرًا إلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ مُنِعَ مَا دُونَ الْآيَةِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ كَوْنِهِ قَارِئًا عُرْفًا، وَأَجَازَ الْآيَةَ الْقَصِيرَةَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهُ: أَيْ فِي أَنَّهُ لَا يُعَدُّ بِهِ قَارِئًا بَلْ يُعَدُّ بِهِ قَارِئًا عُرْفًا، فَالْحَقُّ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي قِيَامِ الْعُرْفِ فِي عَدِّهِ قَارِئًا بِالْقَصِيرَةِ.
قَالَا: لَا يُعَدُّ وَهُوَ يُمْنَعُ.
نَعَمْ ذَاكَ مَبْنَاهُ عَلَى رِوَايَةِ مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْقُرْآنِ.
وَفِي الْأَسْرَارِ مَا قَالَاهُ احْتِيَاطٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ {لَمْ يَلِدْ} {ثُمَّ نَظَرَ} لَا يُتَعَارَفُ قُرْآنًا وَهُوَ قُرْآنٌ حَقِيقَةً، فَمِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ حَرُمَ عَلَى الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ، وَمِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ بِهِ احْتِيَاطًا فِيهِمَا
(قَوْله لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي سَفَرِهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ») رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ «كُنْتُ أَقُودُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَاقَتَهُ فِي السَّفَرِ فَقَالَ لِي: يَا عُقْبَةُ أَلَا أُعَلِّمُكَ خَيْرَ سُورَتَيْنِ قُرِئَتَا؟ فَعَلَّمَنِي قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، قَالَ: فَلَمْ يَرَنِي سُرِرْتُ بِهِمَا جِدًّا، فَلَمَّا نَزَلَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ صَلَّى بِهِمَا صَلَاةَ الصُّبْحِ لِلنَّاسِ» وَفِيهِ الْقَاسِمُ مَوْلَى مُعَاوِيَةَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ مَوْلَاهُمْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْهُ وَلَفْظُهُ «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُعَوِّذَتَيْنِ أَمِنْ الْقُرْآنِ هُمَا؟ فَأَمَّنَا بِهِمَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ» وَصَحَّحَهُ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ حَسَنٌ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ السَّفَرَ إلَخْ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ:
فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ فِي تَخْفِيفِ الْقِرَاءَةِ أَوْلَى، وَهَذَا إذَا كَانَ عَلَى عَجَلَةٍ مِنْ السَّيْرِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَمَنَةٍ وَقَرَارٍ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ نَحْوَ سُورَةِ الْبُرُوجِ وَانْشَقَّتْ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ مُرَاعَاةُ السُّنَّةِ مَعَ التَّخْفِيفِ
(وَيَقْرَأُ فِي الْحَضَرِ فِي الْفَجْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بِأَرْبَعِينَ آيَةً أَوْ خَمْسِينَ آيَةً سِوَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ) وَيُرْوَى مِنْ أَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ وَمِنْ سِتِّينَ إلَى مِائَةٍ، وَبِكُلِّ ذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ.
هَذَا التَّعْلِيلُ مُخَالِفٌ لِمَا ذُكِرَ مِنْ طَرَفِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي مَسْأَلَةِ الْأَرْوَاثِ حَيْثُ قَالَ: قُلْنَا الضَّرُورَةُ فِي النِّعَالِ وَهِيَ قَدْ أَثَّرَتْ فِي التَّخْفِيفِ مَرَّةً حَتَّى تَطْهُرَ بِالْمَسْحِ فَتَكْفِي مُؤْنَتُهَا انْتَهَى: يَعْنِي الضَّرُورَةَ أَثَّرَتْ هَذَا التَّخْفِيفَ فَلَا تُؤَثِّرُ تَخْفِيفُ نَجَاسَتِهَا ثَانِيًا.
وَأَجَابَ بِأَنَّ كُلًّا فِي مَحَزِّهِ لِأَنَّ سُقُوطَ شَطْرِ الصَّلَاةِ مِنْ قَبِيلِ رُخْصَةِ الْإِسْقَاطِ فَكَانَ التَّخْفِيفُ فِي الْقِرَاءَةِ حِينَئِذٍ ابْتِدَاءً لَا ثَانِيًا.
وَالْحَقُّ أَنْ لَا وُرُودَ لِلسُّؤَالِ لِيَتَكَلَّفَ الْجَوَابَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ سُقُوطَ الشَّطْرِ مِنْ أَصْلِ الشَّرْعِيَّةِ لِلضَّرُورَةِ: يَعْنِي لَمَّا كَانَ بِحَيْثُ لَوْ لَزِمَ الشَّطْرُ فِي السَّفَرِ لَزِمَ الْحَرَجُ سَقَطَ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ فِي دَلِيلِهِمَا، وَلِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً لِامْتِلَاءِ الطُّرُقِ بِهِ فَقَالَ فِي الْجَوَابِ: قُلْنَا الضَّرُورَةُ فِي النِّعَالِ إلَخْ.
وَحَاصِلُهُ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ: أَيْ نَعَمْ فِيهِ ضَرُورَةٌ وَلَكِنْ مَحَلُّهَا النِّعَالُ، وَإِنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي مَحَلِّهَا وَقَدْ أَثَّرَتْ حَتَّى طَهُرَتْ بِالدَّلْكِ فَانْدَفَعَتْ بِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ تَخْفِيفِ نَفْسِ النَّجَاسَةِ لِأَخْذِ الضَّرُورَةِ تَمَامَ مُقْتَضَاهَا دُونَ ذَلِكَ التَّخْفِيفِ.
أَمَّا هُنَا فَالضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ إلَى تَخْفِيفِ الْقِرَاءَةِ كَمَا دَعَتْ إلَى السُّقُوطِ، فَمَجْمُوعُ السُّقُوطِ وَالتَّخْفِيفِ مُقْتَضَاهَا فَلَا بُدَّ مِنْ إعْطَائِهَا إيَّاهُ
(قَوْلُهُ وَيَقْرَأُ فِي الْحَضَرِ، إلَى قَوْلِهِ: وَبِكُلِّ ذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ) الْمُرَادُ أَنَّ الْأَرْبَعِينَ وَالْخَمْسِينَ وَالسِّتِّينَ وَالْمِائَةَ مُنْقَسِمَةٌ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ.
وَأَمَّا وُرُودُ الْأَثَرِ فَرَوَى مُسْلِمٌ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِ ق وَنَحْوِهَا» . وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ «كَانَ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى مِائَةِ آيَةٍ» وَلَفْظُ ابْنِ حِبَّانَ بِالسِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ.
وَأَخْرَجَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «إنْ كَانَ صلى الله عليه وسلم لَيَؤُمُّنَا فِي الْفَجْرِ بِالصَّافَّاتِ»
وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ أَنَّهُ يَقْرَأُ بِالرَّاغِبِينَ مِائَةً وَبِالْكَسَالَى أَرْبَعِينَ وَبِالْأَوْسَاطِ مَا بَيْنَ خَمْسِينَ إلَى سِتِّينَ، وَقِيلَ يَنْظُرُ إلَى طُولِ اللَّيَالِي وَقِصَرِهَا وَإِلَى كَثْرَةِ الْأَشْغَالِ وَقِلَّتِهَا.
قَالَ (وَفِي الظُّهْرِ مِثْلَ ذَلِكَ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَعَةِ الْوَقْتِ، وَقَالَ فِي الْأَصْلِ أَوْ دُونَهُ لِأَنَّهُ وَقْتُ الِاشْتِغَالِ فَيَنْقُصُ عَنْهُ تَحَرُّزًا عَنْ الْمَلَالِ (وَالْعَصْرُ وَالْعِشَاءُ سَوَاءٌ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ، وَفِي الْمَغْرِبِ دُونَ ذَلِكَ يَقْرَأُ فِيهَا بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ كِتَابُ عُمَرَ رضي الله عنه إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ اقْرَأْ فِي الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ وَفِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ
قَوْلُهُ يَنْظُرُ إلَخْ) هَذَا وَمَا بَعْدَهُ أَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ مَحْمَلُ اخْتِلَافِ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ فَيُجْعَلُ قَاعِدَةً لِفِعْلِ الْأَئِمَّةِ فِي زَمَانِنَا، وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ فِي الْحَضَرِ عَنْ الْأَرْبَعِينَ وَإِنْ كَانُوا كَسَالَى لِأَنَّ الْكَسَالَى تَحْمِلُهَا.
ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ.
فَقِيلَ سُورَةُ الْقِتَالِ، وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: الْحُجُرَاتُ فَهُوَ السُّبْعُ الْأَخِيرُ، وَقِيلَ مِنْ ق، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّهُ الْجَاثِيَةُ وَهُوَ غَرِيبٌ، فَالطِّوَالُ مِنْ أَوَّلِهِ عَلَى الْخِلَافِ إلَى الْبُرُوجِ، وَالْأَوْسَاطُ مِنْهَا إلَى {لَمْ يَكُنِ} وَالْقِصَارُ الْبَاقِي؛ وَقِيلَ الطِّوَالُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى عَبَسَ، وَالْأَوْسَاطُ مِنْهَا إلَى وَالضُّحَى وَالْبَاقِي الْقِصَارُ.
ثُمَّ إذَا رَاعَى اللَّيَالِيَ يَقْرَأُ فِي الشِّتَاءِ مِائَةً، وَفِي الصَّيْفِ أَرْبَعِينَ، وَفِي الْخَرِيفِ وَالرَّبِيعِ خَمْسِينَ إلَى سِتِّينَ (قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ كِتَابُ عُمَرَ) رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جَدْعَانَ عَنْ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ رضي الله عنه إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: أَنْ اقْرَأْ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ، وَفِي الْعِشَاءِ بِوَسَطِ الْمُفَصَّلِ، وَفِي الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ انْتَهَى.
وَأَمَّا فِي الظُّهْرِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ فَلَمْ أَرَهُ، بَلْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي بَابَ الْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى أَنْ اقْرَأْ فِي الظُّهْرِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ، غَيْرَ أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ مَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ، وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْخُدْرِيِّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً»
وَلِأَنَّ مَبْنَى الْمَغْرِبِ عَلَى الْعَجَلَةِ وَالتَّخْفِيفُ أَلْيَقُ بِهَا.
وَالْعَصْرُ وَالْعِشَاءُ يُسْتَحَبُّ فِيهِمَا التَّأْخِيرُ، وَقَدْ يَقَعَانِ بِالتَّطْوِيلِ فِي وَقْتٍ غَيْرِ مُسْتَحَبٍّ فَيُوَقِّتُ فِيهِمَا بِالْأَوْسَاطِ
(وَيُطِيلُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى مِنْ الْفَجْرِ عَلَى الثَّانِيَةِ) إعَانَةً لِلنَّاسِ عَلَى إدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ.
قَالَ (وَرَكْعَتَا الظُّهْرِ سَوَاءٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُطِيلَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى عَلَى غَيْرِهَا فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى عَلَى غَيْرِهَا فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا» وَلَهُمَا أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ اسْتَوَيَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْقِرَاءَةِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْمِقْدَارِ، بِخِلَافِ الْفَجْرِ لِأَنَّهُ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِطَالَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّنَاءُ وَالتَّعَوُّذُ وَالتَّسْمِيَةُ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالزِّيَادَةِ
الْحَدِيثَ، فَارْجِعْ إلَيْهِ (قَوْلُهُ وَقَدْ يَقَعَانِ) أَيْ بَعْدَ تَأْخِيرِهِمَا إلَى الْوَقْتِ الَّذِي يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُمَا إلَيْهِ لَوْ أَطَالَ الْقِرَاءَةَ قَدْ يَقَعُ فِي وَقْتٍ غَيْرِ مُسْتَحَبٍّ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْمَكْرُوهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّأْخِيرَ إلَى النِّصْفِ فِي الْعِشَاءِ مُبَاحٌ وَبَعْدَهُ مَكْرُوهٌ، فَهَذَا قَرِيبٌ فِي الْعَصْرِ بَعِيدٌ فِي الْعِشَاءِ
(قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ إلَخْ) رَوَى الْبُخَارِيُّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَيُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مَا لَا يُطَوِّلُ فِي الثَّانِيَةِ، وَهَكَذَا فِي الْعَصْرِ، وَهَكَذَا فِي الصُّبْحِ» فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِطَالَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّنَاءُ وَالتَّعَوُّذُ بِمَا دُونَ ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَعَلَى هَذَا فَيُحْمَلُ قَوْلُ الرَّاوِي، وَهَكَذَا فِي الصُّبْحِ عَلَى التَّشْبِيهِ فِي أَصْلِ الْإِطَالَةِ لَا قَدْرِهَا، فَإِنَّ تِلْكَ الْإِطَالَةَ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمُعْتَبَرَةُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَقَدْ قُدِّرَتْ بِأَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِتَمَامِ الْأَرْبَعِينَ، وَلِأَنَّ الْإِطَالَةَ فِي الصُّبْحِ لَمَّا كَانَتْ لِأَنَّ وَقْتَهُ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهَا بِحَيْثُ يُعَدُّ إطَالَةً، لَكِنْ كَوْنُ التَّشْبِيهِ فِي ذَلِكَ، غَيْرُ الْمُتَبَادَرِ وَلِذَا قَالَ
وَالنُّقْصَانِ بِمَا دُونَ ثَلَاثِ آيَاتٍ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ
(وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ قِرَاءَةُ سُورَةٍ بِعَيْنِهَا) بِحَيْثُ لَا تَجُوزُ بِغَيْرِهَا لِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا (وَيُكْرَهُ أَنْ يُوَقِّتَ بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ لِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ) لِمَا فِيهِ مِنْ
فِي الْخُلَاصَةِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّهُ أَحَبُّ
(قَوْلُهُ وَيُكْرَهُ أَنْ يُوَقِّتَ) كَالسَّجْدَةِ وَالْإِنْسَانِ لِفَجْرِ الْجُمُعَةِ وَالْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ لِلْجُمُعَةِ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ والإسبيجابي: هَذَا إذَا رَآهُ حَتْمًا يُكْرَهُ غَيْرُهُ.
أَمَّا لَوْ قَرَأَ لِلتَّيْسِيرِ عَلَيْهِ أَوْ تَبَرُّكًا بِقِرَاءَتِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا كَرَاهَةَ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَقْرَأَ غَيْرَهُمَا أَحْيَانًا لِئَلَّا يَظُنَّ الْجَاهِلُ أَنَّ غَيْرَهُمَا لَا يَجُوزُ، وَلَا تَحْرِيرَ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُدَاوَمَةِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ مُطْلَقًا مَكْرُوهَةٌ سَوَاءٌ رَآهُ حَتْمًا يُكْرَهُ غَيْرُهُ أَوْ لَا، لِأَنَّ دَلِيلَ الْكَرَاهَةِ لَا يُفَصَّلُ وَهُوَ إيهَامُ التَّفْضِيلِ وَهَجْرُ الْبَاقِيَ، لَكِنَّ الْهِجْرَانَ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ لَمْ يَقْرَأْ الْبَاقِيَ فِي صَلَاةِ أُخْرَى، فَالْحَقُّ أَنَّهُ إيهَامُ التَّعْيِينِ، ثُمَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ عَدَمُ الْمُدَاوَمَةِ لَا الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْعَدَمِ كَمَا يَفْعَلُهُ حَنَفِيَّةُ الْعَصْرِ، بَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ بِذَلِكَ أَحْيَانًا تَبَرُّكًا بِالْمَأْثُورِ، فَإِنَّ لُزُومَ الْإِيهَامِ يَنْتَفِي بِالتَّرْكِ أَحْيَانًا، وَلِذَا قَالُوا: السُّنَّةُ أَنْ يَقْرَأَ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ بِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَظَاهِرُ هَذَا إفَادَةُ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيهَامَ الْمَذْكُورَ
هَجْرِ الْبَاقِي وَإِيهَامِ التَّفْضِيلِ
(وَلَا يَقْرَأُ الْمُؤْتَمُّ خَلْفَ الْإِمَامِ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي الْفَاتِحَةِ.
لَهُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ مِنْ الْأَرْكَانِ فَيَشْتَرِكَانِ فِيهِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ»
مُنْتَفٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُصَلِّي نَفْسِهِ.
(قَوْلُهُ لَهُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ فَيَشْتَرِكَانِ فِيهِ) أَمَّا الْأُولَى فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} وَهُوَ عَامٌّ فِي الْمُصَلِّينَ، وَكَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» (قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ») فَإِذَا صَحَّ وَجَبَ أَنْ يُخَصَّ عُمُومُ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى طَرِيقَةِ الْخَصْمِ مُطْلَقًا فَيَخْرُجُ الْمُقْتَدِي، وَعَلَى طَرِيقَتِنَا يُخَصُّ أَيْضًا لِأَنَّهُمَا عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ، وَهُوَ الْمُدْرَكُ فِي الرُّكُوعِ إجْمَاعًا فَجَازَ تَخْصِيصُهُمَا بَعْدَهُ بِالْمُقْتَدِي بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.
وَكَذَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ» عَلَى غَيْرِ حَالَةِ الِاقْتِدَاءِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، بَلْ يُقَالُ الْقِرَاءَةُ ثَابِتَةٌ مِنْ الْمُقْتَدِي شَرْعًا فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ قِرَاءَةٌ لَهُ، فَلَوْ قَرَأَ لَكَانَ لَهُ قِرَاءَتَانِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، بَقِيَ الشَّأْنُ فِي تَصْحِيحِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ مَرْفُوعًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ ضُعِّفَ، وَاعْتَرَفَ الْمُضَعِّفُونَ لِرَفْعِهِ مِثْلُ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ وَابْنِ عَدِيٍّ بِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ لِأَنَّ الْحُفَّاظَ كَالسُّفْيَانَيْنَ وَأَبِي الْأَحْوَصِ وَشُعْبَةَ وَإِسْرَائِيلَ وَشَرِيكٍ وَأَبِي خَالِدٍ الدَّالَانِيِّ وَجَرِيرٍ وَعَبْدِ الْحَمِيدِ وَزَائِدَةَ وَزُهَيْرٍ رَوَوْهُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَرْسَلُوهُ. وَقَدْ أَرْسَلَهُ مَرَّةً أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه كَذَلِكَ، فَنَقُولُ: الْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَيَكْفِينَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْعَمَلِ عَلَى رَأَيْنَا، وَعَلَى طَرِيقِ الْإِلْزَامِ أَيْضًا بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْمُرْسَلِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّنَزُّلِ عَنْ حُجِّيَّتِهِ فَقَدْ رَفَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي مُوَطَّئِهِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ صَلَّى خَلْفَ إمَامٍ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» . وَقَوْلُهُمْ إنَّ الْحُفَّاظَ الَّذِينَ عَدُّوهُمْ لَمْ يَرْفَعُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ فِي مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ وَشَرِيكٌ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» قَالَ: وَحَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْ جَابِرٍ، وَرَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ أَبِي الزُّهَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ، وَإِسْنَادُ حَدِيثِ جَابِرٍ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ
وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ
فَهَؤُلَاءِ سُفْيَانُ وَشَرِيكٌ وَجَرِيرٌ وَأَبُو الزُّهَيْرِ رَفَعُوهُ بِالطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ فَبَطَلَ عَدُّهُمْ فِيمَنْ لَمْ يَرْفَعْهُ، وَلَوْ تَفَرَّدَ الثِّقَةُ وَجَبَ قَبُولُهُ لِأَنَّ الرَّفْعَ زِيَادَةٌ وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ فَكَيْفَ وَلَمْ يَنْفَرِدْ، وَالثِّقَةُ قَدْ يُسْنِدُ الْحَدِيثَ تَارَةً وَيُرْسِلُهُ أُخْرَى.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَرْجَمَتِهِ، وَذَكَرَ فِيهِ قِصَّةً وَبِهَا أَخْرَجَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ الصَّيْرَفِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْفَضْلِ الْبَلْخِيّ حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ بْنِ الْهَادِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى وَرَجُلٌ خَلْفَهُ يَقْرَأُ، فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَاهُ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ وَقَالَ: أَتَنْهَانِي عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَتَنَازَعَا حَتَّى ذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: مَنْ صَلَّى خَلْفَ إمَامٍ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ هَكَذَا «إنَّ رَجُلًا قَرَأَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ فَأَوْمَأَ إلَيْهِ رَجُلٌ فَنَهَاهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: أَتَنْهَانِي» الْحَدِيثَ.
وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ أَصْلَ الْحَدِيثِ هَذَا، غَيْرَ أَنَّ جَابِرًا رُوِيَ عَنْهُ مَحَلَّ الْحُكْمِ فَقَطْ تَارَةً وَالْمَجْمُوعَ تَارَةً، وَيَتَضَمَّنُ رَدَّ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ خَرَجَ تَأْيِيدًا لِنَهْيِ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ عَنْهَا مُطْلَقًا فِي السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ خُصُوصًا فِي رِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ فِي الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ لَا إبَاحَةَ فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا فَيُعَارِضُ مَا رُوِيَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ «مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ» أَنَّهُ قَالَ «إنْ كَانَ لَا بُدَّ فَالْفَاتِحَةُ» وَكَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ «كُنَّا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إمَامِكُمْ؟ قُلْنَا نَعَمْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لَا تَفْعَلُوا إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا» وَيُقَدَّمُ لِتَقَدُّمِ الْمَنْعِ عَلَى الْإِطْلَاقِ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَلِقُوَّةِ السَّنَدِ، فَإِنَّ حَدِيثَ الْمَنْعِ «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ» أَصَحُّ، فَبَطَلَ رَدُّ الْمُتَعَصِّبِينَ وَتَضْعِيفُ بَعْضِهِمْ لِمِثْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ تَضْيِيقِهِ فِي الرِّوَايَةِ إلَى الْغَايَةِ حَتَّى إنَّهُ شَرَطَ التَّذَكُّرَ لِجَوَازِ الرِّوَايَةِ بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ خَطُّهُ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْحُفَّاظُ هَذَا وَلَمْ يُوَافِقْهُ صَاحِبَاهُ، ثُمَّ قَدْ عُضِّدَ بِطُرُقٍ كَثِيرَةٍ عَنْ جَابِرٍ غَيْرِ هَذِهِ وَإِنْ ضُعِّفَتْ، وَبِمَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم حَتَّى قَالَ الْمُصَنِّفُ: إنَّ عَلَيْهِ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ فِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ خَلْفَ الْإِمَامِ فَحَسْبُهُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ، وَإِذْ صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيَقْرَأْ» قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَرَوَاهُ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَرْفُوعًا وَقَالَ: رَفْعُهُ وَهْمٌ، لَكِنْ إذَا صَحَّ عَنْهُ ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِسَمَاعِهِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونُ رَفْعُهُ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ رَاوِيهِ ضَعِيفًا.
وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ نَجِيحٍ بْنِ إِسْحَاقَ الْبَجَلِيِّ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» وَقَالَ: هَذَا لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ إسْمَاعِيلُ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ النَّضْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَامِرِ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ النَّضْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ إلَخْ سَنَدًا وَمَتْنًا. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه يَرْفَعُهُ وَفِيهِ كَلَامٌ.
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُقَاسِمٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهم فَقَالُوا: لَا تَقْرَأْ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ، قَالَ: أَنْصِتْ فَإِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا وَيَكْفِيك الْإِمَامُ: وَرَوَى فِيهِ عَنْ دَاوُد بْنِ قَيْسٍ الْفَرَّاءِ الْمَدَنِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ وَلَدِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ سَعْدًا رضي الله عنه قَالَ: وَدِدْت الَّذِي يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي فِيهِ جَمْرَةٌ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي فِيهِ حَجَرٌ.
وَرَوَى مُحَمَّدٌ أَيْضًا فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ دَاوُد بْنِ قَيْسٍ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: لَيْتَ فِي فَمِ الَّذِي يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ حَجَرًا. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَبْدُ الرَّزَّاقِ.
وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَقْرَأُ وَالْإِمَامُ بَيْنَ يَدَيَّ؟ قَالَ لَا.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَا تَقْرَأْ خَلْفَ الْإِمَامِ إنْ جَهَرَ وَلَا إنْ خَافَتَ.
وَأَخْرَجَ هُوَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: مَنْ قَرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَقَدْ أَخْطَأَ الْفِطْرَةَ.
وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقٍ وَقَالَ: لَا يَصِحُّ إسْنَادُهُ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ: هَذَا يَرْوِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي لَيْلَى الْأَنْصَارِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَيَكْفِي فِي بُطْلَانِهِ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى خِلَافِهِ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ إنَّمَا اخْتَارُوا تَرْكَ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فَقَطْ لَا أَنَّهُمْ لَمْ يُجِيزُوا ذَلِكَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى هَذَا رَجُلٌ مَجْهُولٌ انْتَهَى.
وَلَيْسَ مَا نَسَبَهُ إلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ بِصَحِيحٍ بَلْ هُمْ يَمْنَعُونَهُ وَهِيَ عِنْدَهُمْ تُكْرَهُ، وَالْمُرَادُ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ، وَعِنْدَهُمَا يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ.
وَصَرَّحَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ بِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَقَدْ عُرِفَ مِنْ طَرِيقِ
وَهُوَ رُكْنٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، لَكِنَّ حَظَّ الْمُقْتَدِي الْإِنْصَاتُ وَالِاسْتِمَاعُ قَالَ عليه الصلاة والسلام «وَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ فَأَنْصِتُوا» وَيُسْتَحْسَنُ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ فِيمَا يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله، وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمَا لِمَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ
أَصْحَابِنَا أَنَّهُمْ لَا يُطْلِقُونَ الْحَرَامَ إلَّا عَلَى مَا حَرَّمْته بِقَطْعِيٍّ.
وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الزَّاهِرِيَّةِ، حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ مُرَّةَ الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ سَمِعْته يَقُولُ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَفِي كُلِّ صَلَاةٍ قِرَاءَةٌ قَالَ نَعَمْ، قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: وَجَبَتْ هَذِهِ فَالْتَفَتَ إلَيَّ وَكُنْتُ أَقْرَبَ الْقَوْمِ مِنْهُ فَقَالَ: مَا أَرَى الْإِمَامَ إذَا أَمَّ الْقَوْمَ إلَّا قَدْ كَفَاهُمْ» فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَلْ مِنْ كَلَامِ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَلَمْ يَكُنْ لِيَرْوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «فِي كُلِّ صَلَاةٍ قِرَاءَةٌ» ثُمَّ يَعْتَدُّ بِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ عَنْ الْمُقْتَدِي إلَّا لِعِلْمٍ عِنْدَهُ فِيهِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (قَوْلُهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم «وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا») رَوَاهَا مُسْلِمٌ زِيَادَةً فِي حَدِيثِ «إذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ فَكَبِّرُوا» وَقَدْ ضَعَّفَهَا أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ بَعْدَ صِحَّةِ طَرِيقِهَا وَثِقَةِ رَاوِيهَا، وَهَذَا هُوَ الشَّاذُّ الْمَقْبُولُ، وَمِثْلُ هَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي حَدِيثِ «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» (قَوْلُهُ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ فِيمَا يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدٍ) تَقْتَضِي هَذِهِ الْعِبَارَةُ أَنَّهَا لَيْسَتْ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ كَمَا قَالَ فِي الزَّكَاةِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فِيمَا يَرْوِي عَنْهُ فِي دَيْنِ الزَّكَاةِ، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الذَّخِيرَةِ: وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا ذَكَرُوا أَنَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يُكْرَهُ وَعَلَى قَوْلِهِمَا يُكْرَهُ، ثُمَّ قَالَ فِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُكْرَهُ.
وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ كَقَوْلِهِمَا، فَإِنَّ عِبَارَاتِهِ فِي كُتُبِهِ مُصَرِّحَةٌ بِالتَّجَافِي عَنْ خِلَافِهِ، فَإِنَّهُ فِي كِتَابِ الْآثَارِ فِي بَابِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ بَعْدَمَا أَسْنَدَ إلَى عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ مَا قَرَأَ قَطُّ فِيمَا يُجْهَرُ فِيهِ وَلَا فِيمَا لَا يُجْهَرُ فِيهِ، قَالَ: وَبِهِ نَأْخُذُ لَا نَرَى الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ يَجْهَرُ فِيهِ أَوْ لَا يَجْهَرُ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ فِي إسْنَادِ آثَارٍ أُخَرَ ثُمَّ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ.
وَفِي مُوَطَّئِهِ بَعْدَ أَنْ رَوَى فِي مَنْعِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ مَا رُوِيَ.
قَالَ: قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا قِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ فِيمَا جَهَرَ وَفِيمَا لَمْ يَجْهَرْ فِيهِ. بِذَلِكَ جَاءَتْ عَامَّةُ الْأَخْبَارِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: تَفْسُدُ صَلَاتُهُ فِي قَوْلِ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي عَدَمِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ هُوَ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ، وَلَيْسَ مُقْتَضَى أَقْوَاهُمَا الْقِرَاءَةَ بَلْ الْمَنْعَ (قَوْلُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ)
(وَيَسْتَمِعُ وَيُنْصِتُ وَإِنْ قَرَأَ الْإِمَامُ آيَةَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ) لِأَنَّ الِاسْتِمَاعَ وَالْإِنْصَاتَ فَرْضٌ بِالنَّصِّ، وَالْقِرَاءَةُ وَسُؤَالُ الْجَنَّةِ وَالتَّعَوُّذُ مِنْ النَّارِ كُلُّ ذَلِكَ مُخِلٌّ بِهِ
تَقَدَّمَ بَعْضُهُ فِيمَا أَسْنَدْنَاهُ مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ (قَوْلُهُ وَإِنْ قَرَأَ الْإِمَامُ) إنَّ لِلْوَصْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُ بِالرَّحْمَةِ إذَا اسْتَمَعَ، قَالَ تَعَالَى {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وَوَعْدُهُ حَتْمٌ وَإِجَابَةُ دُعَاءِ الْمُتَشَاغِلِ عَنْهُ بِهِ غَيْرُ مَجْزُومٍ بِهِ، وَكَذَا الْإِمَامُ لَا يَشْتَغِلُ بِغَيْرِ الْقِرَاءَةِ سَوَاءٌ أَمَّ فِي الْفَرْضِ أَوْ النَّفْلِ، أَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَفِي الْفَرْضِ كَذَلِكَ.
وَفِي النَّفْلِ يَسْأَلُ الْجَنَّةَ وَيَتَعَوَّذُ مِنْ النَّارِ عِنْدَ ذِكْرِهِمَا وَيَتَفَكَّرُ فِي آيَةِ الْمَثَلِ، وَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ اللَّيْلِ فَمَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ إلَّا وَقَفَ وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى الْجَنَّةَ، وَمَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ النَّارِ إلَّا وَقَفَ وَتَعَوَّذَ مِنْ النَّارِ» وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْإِمَامَ يَفْعَلُهُ فِي النَّافِلَةِ وَهُمْ صَرَّحُوا بِالْمَنْعِ إلَّا أَنَّهُمْ عَلَّلُوهُ بِالتَّطْوِيلِ عَلَى الْمُقْتَدِي، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَمَّ مَنْ يُعْلَمُ مِنْهُ طَلَبُ ذَلِكَ يَفْعَلُهُ (قَوْلُهُ بِالنَّصِّ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وَالْإِنْصَاتُ لَا يَخُصُّ الْجَهْرِيَّةَ لِأَنَّهُ عَدَمُ الْكَلَامِ، لَكِنْ قِيلَ إنَّهُ السُّكُوتُ لِلِاسْتِمَاعِ لَا مُطْلَقًا.
وَحَاصِلُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَمْرَانِ: الِاسْتِمَاعُ، وَالسُّكُوتُ فَيُعْمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْأَوَّلُ يَخُصُّ الْجَهْرِيَّةَ، وَالثَّانِي لَا فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ فَيَجِبُ السُّكُوتُ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ وُرُودَ الْآيَةِ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَالَ: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ عَنْ مُجَاهِدٍ «كَانَ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ فَسَمِعَ قِرَاءَةَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ فَنَزَلَ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}» وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي الْمِقْدَامِ هِشَامِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: سَأَلْت بَعْضَ أَشْيَاخِنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَحْسِبُهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ: كُلُّ مَنْ سَمِعَ الْقُرْآنَ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِمَاعُ وَالْإِنْصَاتُ، قَالَ: إنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} فِي الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ، هَذَا وَفِي كَلَامِ أَصْحَابِنَا مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ فِي الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ مُطْلَقًا.
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: رَجُلٌ يَكْتُبُ الْفِقْهَ وَبِجَنْبِهِ رَجُلٌ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَلَا يُمْكِنُهُ اسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ فَالْإِثْمُ عَلَى الْقَارِئِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَرَأَ عَلَى السَّطْحِ فِي اللَّيْلِ جَهْرًا وَالنَّاس نِيَامٌ يَأْثَمُ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إطْلَاقِ الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ.
[فُرُوعٌ فِي الْقِرَاءَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ] يُسْتَحَبُّ لِمُرِيدِهَا أَنْ يَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ وَيَتَعَمَّمَ وَيَسْتَقْبِلَ، وَكَذَا الْعَالِمُ لِلْعِلْمِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَلَوْ قَرَأَ مُضْطَجِعًا فَلَا بَأْسَ وَيَضُمُّ رِجْلَيْهِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ لِأَنَّهُ تَعْظِيمُ النَّائِمِ، بِخِلَافِ مَدِّهِمَا فَإِنَّهُ سُوءُ أَدَبٍ، وَلَوْ قَرَأَ مَاشِيًا أَوْ عِنْدَ النَّسْجِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ أَوْ هِيَ عِنْدَ الْغَزْلِ وَنَحْوِهِ، إنْ كَانَ الْقَلْبُ حَاضِرًا غَيْرَ مُشْتَغِلٍ لَا يُكْرَهُ، وَيَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي الصَّيْفِ أَوَّلَ النَّهَارِ وَفِي الشِّتَاءِ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ كُلِّهِ فِي يَوْمٍ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ
وَكَذَلِكَ فِي الْخُطْبَةِ، (وَكَذَلِكَ إنْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام) لِفَرْضِيَّةِ الِاسْتِمَاعِ
خَمْسَةَ آلَافِ مَرَّةٍ، هَذَا فِي حَقِّ قَارِئِ الْقُرْآنِ، وَقِرَاءَتُهَا ثَلَاثًا عِنْدَ الْخَتْمِ خَارِجَ الصَّلَاةِ.
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي اسْتِحْبَابِهِ، وَاسْتَحْسَنَهُ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ، وَفِي الْمَكْتُوبَةِ لَا يَزِيدُ عَلَى مَرَّةٍ، وَلَا يَقْرَأُ فِي الْمُغْتَسَلِ وَالْمَخْرَجِ وَالْحَمَّامِ وَمَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ، أَوْ وَامْرَأَتُهُ هُنَاكَ تَغْتَسِلُ مَكْشُوفَةً وَكَذَا الذِّكْرُ.
وَالْمُخْتَارُ فِي الْحَمَّامِ أَنَّ الْكَرَاهَةَ إنْ جَهَرَ وَفِيهِ أَحَدٌ مَكْشُوفُ الْعَوْرَةِ، وَتَعَلُّمُ بَاقِي الْقُرْآنِ لِمَنْ تَعَلَّمَ بَعْضَ الْفَرَائِضِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَتَعَلُّمُ الْفِقْهِ أَفْضَلُ مِنْ تَعَلُّمِ بَاقِي الْقُرْآنِ وَجَمِيعُ الْفِقْهِ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَتَعَلُّمُ الْمَرْأَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ أَحَبُّ مِنْ تَعَلُّمِهَا مِنْ الْأَعْمَى (قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ فِي الْخُطْبَةِ) هَذَا إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَسْتَمِعُ، فَأَمَّا النَّائِي فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ.
وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَالْأَحْوَطُ السُّكُوتُ: يَعْنِي عَدَمَ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ وَنَحْوِهَا، كَالْكَلَامِ الْمُبَاحِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ حَالِ الْخُطْبَةِ فَكَيْفَ فِي حَالِهَا، وَلِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَسْمَعْ فَقَدْ يُشَوِّشُ بِهَمْهَمَتِهِ عَلَى مَنْ يَقْرَبُ مِنْهُ وَهُوَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ، وَكَذَا الْإِمَامُ لَا يَتَكَلَّمُ فِي خِلَالِهِ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ فِي خِلَالِ الذِّكْرِ الْمَنْظُومِ يُذْهِبُ بَهَاءَهُ، وَالتَّشْمِيتُ وَرَدُّ السَّلَامِ عَلَى هَذَا لِأَنَّ السَّلَامَ مَمْنُوعٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا يَنْتَهِضُ سَبَبًا لِإِيجَابِ الرَّدِّ.
وَعَنْ الْفَضْلِيِّ أَنَّ عَلَى هَذَا؛ السَّلَامُ عَلَى الْمُدَرِّسِ فِي دَرْسِهِ وَالْقَارِئِ، وَصَاحِبِ الْوَرْدِ فِي وِرْدِهِ، وَسَلَامِ الْمُكْدِي لِقَصْدِهِ بِهِ الْمَالَ لَا إفْشَاءَ السَّلَامِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ الْمُدَرِّسِ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ خَالِصَةٍ فِي عَدَمِ الرَّدِّ فَلْيَحْذَرْ مِنْ تَلْبِيسِ النَّفْسِ قَصْدَ الْعَظَمَةِ بِقَصْدِ الْعِبَادَةِ وَإِنَّهُ يَشْتَغِلُ عَنْهَا بِالرَّدِّ، وَاَللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي الضَّمِيرِ.
[فُرُوعٌ مُهِمَّةٌ فِي الْفَتَاوَى]
الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ آخِرِ السُّورَةِ أَفْضَلُ أَوْ سُورَةٍ بِتَمَامِهَا، قَالَ: إنْ كَانَ آخِرُ السُّورَةِ أَكْثَرَ مِنْ السُّورَةِ الَّتِي أَرَادَ قِرَاءَتَهَا كَانَ آخِرُ السُّورَةِ أَفْضَلَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ آخِرَ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ لَا آخِرَ سُورَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: إذَا قَرَأَ سُورَةً وَاحِدَةً فِي رَكْعَتَيْنِ اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ، لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ وَلَوْ فَعَلَ لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَذَا لَوْ قَرَأَ وَسَطَ السُّورَةِ أَوْ آخِرَ سُورَةٍ فِي الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ وَسَطَ سُورَةٍ أَوْ آخِرَ سُورَةٍ أُخْرَى: أَيْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ، وَلَوْ فَعَلَ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَفِي نُسْخَةِ الْحَلْوَانِيِّ: قَالَ بَعْضُهُمْ يُكْرَهُ.
وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ وَلَوْ فَعَلَ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَالِانْتِقَالُ مِنْ آيَةٍ مِنْ سُورَةٍ إلَى آيَةٍ مِنْ سُورَةٍ أُخْرَى أَوْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بَيْنَهُمَا آيَاتٌ مَكْرُوهٌ، وَكَذَا الْجَمْعُ بَيْنَ سُورَتَيْنِ بَيْنَهُمَا سُوَرٌ أَوْ سُورَةٌ فِي رَكْعَةٍ، أَمَّا فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سُوَرٌ أَوْ سُورَتَانِ لَا يُكْرَهُ، وَإِنْ كَانَ سُورَةٌ قِيلَ يُكْرَهُ، وَقِيلَ إنْ كَانَتْ طَوِيلَةً لَا يُكْرَهُ كَمَا إذَا كَانَتْ سُورَتَانِ قَصِيرَتَانِ، وَإِنْ قَرَأَ فِي رَكْعَةٍ سُورَةً وَفِي الثَّانِيَةِ مَا فَوْقَهَا أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي رَكْعَةٍ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ وَقَعَ هَذَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ بِأَنْ قَرَأَ فِي الْأُولَى بِ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " يَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ هَذِهِ السُّورَةَ أَيْضًا.
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: هَذَا كُلُّهُ فِي الْفَرَائِضِ.
أَمَّا فِي النَّوَافِلِ فَلَا يُكْرَهُ، وَعِنْدِي
إلَّا أَنْ يَقْرَأَ الْخَطِيبُ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} الْآيَةَ، فَيُصَلِّي السَّامِعُ فِي نَفْسِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّانِي عَنْ الْمِنْبَرِ، وَالْأَحْوَطُ هُوَ السُّكُوتُ إقَامَةً لِفَرْضِ الْإِنْصَاتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ الْإِمَامَةِ
(الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام
فِي الْكُلِّيَّةِ نَظَرٌ «فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى بِلَالًا عَنْ الِانْتِقَالِ مِنْ سُورَةٍ إلَى سُورَةٍ وَقَالَ لَهُ: إذَا ابْتَدَأْتَ بِسُورَةٍ فَأَتِمَّهَا عَلَى نَحْوِهَا حِينَ سَمِعَهُ يَنْتَقِلُ مِنْ سُورَةٍ إلَى سُورَةٍ فِي التَّهَجُّدِ» وَلَوْ قَصَدَ سُورَةً وَافْتَتَحَ غَيْرَهَا فَأَرَادَ تَرْكَهَا إلَى الْمَقْصُودِ كُرِهَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ حَرْفًا وَاحِدًا، وَلَوْ كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي الْقِرَاءَةِ لَا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يَرْكَعْ (قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَقْرَأَ الْخَطِيبُ) أَفَادَ وُجُوبَ السُّكُوتِ فِي الثَّانِيَةِ كُلِّهَا أَيْضًا مَا خَلَا الْمُسْتَثْنَى، وَرُوِيَ الِاسْتِثْنَاءُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ لِأَنَّ الْإِمَامَ حَكَى أَمْرَ اللَّهِ بِالصَّلَاةِ وَاشْتَغَلَ هُوَ بِالِامْتِثَالِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ مُوَافَقَتُهُ وَإِلَّا أَشْبَهَ عَدَمَ الِالْتِفَاتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(بَابُ الْإِمَامَةِ)
الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ، وَمَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدِ جَمَاعَةٌ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله (قَوْلُهُ الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ) لَا يُطَابِقُ دَلِيلَهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الدَّعْوَى، إذْ مُقْتَضَاهُ الْوُجُوبُ إلَّا لِعُذْرٍ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ ثُبُوتَهَا بِالسُّنَّةِ. وَحَاصِلُ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ إلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَدَاوُد وَعَطَاءٍ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ
«الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ»
وَغَيْرِهِمَا: مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ ثُمَّ لَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ، وَقِيلَ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَفِي الْغَايَةِ قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا: إنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَفِي الْمُفِيدِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَتَسْمِيَتُهَا سُنَّةً لِوُجُوبِهَا بِالسُّنَّةِ. وَفِي الْبَدَائِعِ: يَجِبُ عَلَى الْعُقَلَاءِ الْبَالِغِينَ الْأَحْرَارِ الْقَادِرِينَ عَلَى الْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ، وَإِذَا فَاتَتْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ فِي الْمَسَاجِدِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، بَلْ إنْ أَتَى مَسْجِدًا آخَرَ لِلْجَمَاعَةِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ صَلَّى فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ مُنْفَرِدًا فَحَسَنٌ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ يَجْمَعُ بِأَهْلِهِ وَيُصَلِّي بِهِمْ، يَعْنِي وَيَنَالُ ثَوَابَ الْجَمَاعَةِ. وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: الْأَوْلَى فِي زَمَانِنَا تَتَبُّعُهَا. وَسُئِلَ الْحَلْوَانِيُّ عَمَّنْ يَجْمَعُ بِأَهْلِهِ أَحْيَانًا هَلْ يَنَالُ ثَوَابَ الْجَمَاعَةِ؟ فَقَالَ: لَا، وَيَكُونُ بِدْعَةً وَمَكْرُوهًا بِلَا عُذْرٍ. اُخْتُلِفَ فِي الْأَفْضَلِ مِنْ جَمَاعَةِ مَسْجِدِ حَيِّهِ وَجَمَاعَةِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَإِذَا كَانَ مَسْجِدَانِ يَخْتَارُ أَقْدَمَهُمَا فَإِنْ اسْتَوَيَا فَالْأَقْرَبُ، وَإِنْ صَلَّى فِي الْأَقْرَبِ وَسَمِعَ إقَامَةَ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ دَخَلَ فِيهِ لَا يَخْرُجُ وَإِلَّا فَيَذْهَبُ إلَيْهِ، وَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ تَفْرِيعٌ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْأَقْرَبِ مُطْلَقًا لَا عَلَى مَنْ فَضَّلَ الْجَامِعَ، فَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ مُتَفَقِّهًا فَمَجْلِسُ أُسْتَاذِهِ لِدَرْسِهِ أَوْ مَجْلِسُ الْعَامَّةِ أَفْضَلُ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ سَمِعْت أَنَّ الْجَمَاعَةَ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ، فَمِنْ الْأَعْذَارِ الْمَرَضُ، وَكَوْنُهُ مَقْطُوعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ أَوْ مَفْلُوجًا أَوْ مُسْتَخْفِيًا مِنْ السُّلْطَانِ أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ الْمَشْيَ كَالشَّيْخِ الْعَاجِزِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِمْ أَلَمٌ. وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ: وَالْأَعْمَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اتِّفَاقٌ، وَالْخِلَافُ فِي الْجُمُعَةِ لَا الْجَمَاعَةِ. فَفِي الدِّرَايَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجِبُ عَلَى الْأَعْمَى، وَبِالْمَطَرِ وَالطِّينِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ وَالظُّلْمَةِ الشَّدِيدَةِ فِي الصَّحِيحِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الْجَمَاعَةِ فِي طِينٍ وَرَدْغَةٍ فَقَالَ: لَا أُحِبُّ تَرْكَهَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْمُوَطَّإِ: الْحَدِيثُ رُخْصَةٌ: يَعْنِي قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «إذَا ابْتَلَّتْ النِّعَالُ فَالصَّلَاةُ فِي الرِّحَالِ» وَمَا عَنْ «ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي ضَرِيرٌ شَاسِعُ الدَّارِ وَلِي قَائِدٌ لَا يُلَائِمُنِي فَهَلْ تَجِدُ لِي رُخْصَةً أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي؟ قَالَ أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ مَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ. مَعْنَاهُ: لَا أَجِدُ لَك رُخْصَةً تُحَصِّلُ لَك فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ حُضُورِهَا، لَا الْإِيجَابَ عَلَى الْأَعْمَى «فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِعِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ فِي تَرْكِهَا» . وَقِيلَ الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فِي قُوَّةِ الْوَاجِبِ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: وَجْهُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالْمُؤَذِّنِ فَيُؤَذِّنَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمُ الْحَطَبِ إلَى قَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الصَّلَاةِ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ» وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَرْكَ الصَّلَاةِ أَصْلًا بِدَلِيلِ مَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ فِتْيَةً فَيَجْمَعُوا لِي حُزَمًا مِنْ حَطَبٍ ثُمَّ آتِيَ قَوْمًا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَتْ بِهِمْ عِلَّةٌ فَأُحَرِّقَهَا عَلَيْهِمْ» فَقِيلَ لِيَزِيدَ هُوَ ابْنُ الْأَصَمِّ: الْجُمُعَةَ عَنَى أَوْ غَيْرَهَا؟ قَالَ: صُمَّتْ أُذُنَايَ إنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَأْثُرُهُ عَنْ
(وَأَوْلَى النَّاسِ بِالْإِمَامَةِ أَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَقْرَؤُهُمْ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَالْحَاجَةُ إلَى الْعِلْمِ إذَا نَابَتْ نَائِبَةٌ، وَنَحْنُ نَقُولُ الْقِرَاءَةُ مُفْتَقَرٌ إلَيْهَا لِرُكْنٍ وَاحِدٍ وَالْعِلْمُ لِسَائِرِ الْأَرْكَانِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَذْكُرْ جُمُعَةً وَلَا غَيْرَهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَإِنَّمَا قَالُوا لِيَزِيدَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ رَوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ:«يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجُمُعَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا. قِيلَ هُمَا رِوَايَتَانِ: رِوَايَةٌ فِي الْجُمُعَةِ، وَرِوَايَةٌ فِي الْجَمَاعَةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِهِمَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا ذُكِرَ يَصْلُحُ وَجْهًا لِلْوُجُوبِ لِأَنَّ الْفَرْضَ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَهُوَ دَلِيلُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا عَلَى مَا فِي الْغَايَةِ، وَتَسْمِيَتُهَا سُنَّةً عَلَى مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْقَائِلَيْنِ بِالسُّنِّيَّةِ إذْ لَا يُنَافِي الْوُجُوبَ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ:«مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَعْمِدُ إلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ» ، وَهَذَا لِأَنَّ سُنَنَ الْهُدَى أَعَمُّ مِنْ الْوَاجِبِ لُغَةً كَصَلَاةِ الْعِيدِ. وَقَوْلُهُ لَضَلَلْتُمْ يُعْطِي الْوُجُوبَ ظَاهِرًا. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد عَنْهُ: لَكَفَرْتُمْ.
وَلَعَلَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ ذَكَرَ بَعْضَهُ بِالْمَعْنَى، إلَّا أَنَّهُ رَفَعَ قَوْلَهُ «لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ» ، فَأَفَادَ أَنَّهُ وَعِيدٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم: يَعْنِي أَنَّ وَصْفَ النِّفَاقِ يَتَسَبَّبُ عَنْ التَّخَلُّفِ، لَا إخْبَارٌ أَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ التَّخَلُّفَ لَا يَقَعُ إلَّا مِنْ مُنَافِقٍ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَخَلَّفُ كَسَلًا مَعَ صِحَّةِ الْإِسْلَامِ وَيَقِينِ التَّوْحِيدِ وَعَدَمِ النِّفَاقِ.
وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّمَا يُفِيدُ أَنَّ الْوَاقِعَ إذْ ذَاكَ عَدَمُ التَّخَلُّفِ إلَّا مِنْ مُنَافِقٍ، عَلَى أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ رُوِيَ مَرْفُوعًا عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الْجَفَاءُ كُلُّ الْجَفَاءِ وَالْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ مَنْ سَمِعَ مُنَادِيَ اللَّهِ يُنَادِي إلَى الصَّلَاةِ فَلَا يُجِيبُهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «بِحَسْبِ الْمُؤْمِنِ مِنْ الشَّقَاءِ وَالْخَيْبَةِ أَنْ يَسْمَعَ الْمُؤَذِّنَ يُثَوِّبُ بِالصَّلَاةِ فَلَا يُجِيبُهُ» وَالتَّثْوِيبُ هُنَا الْإِقَامَةُ، سَمَّاهَا بِهِ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ عَوْدٌ إلَى الْإِعْلَامِ بَعْدَ الْإِعْلَامِ بِالْأَذَانِ. أَمَّا التَّثْوِيبُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم، غَيْرَ أَنَّ هَذَا يُفِيدُ تَعْلِيقَ الْوُجُوبِ بِسَمَاعِ الْإِقَامَةِ بَعْدَ ثُبُوتِ حُسْنِهِ، وَيَتَوَقَّفُ الْوَعِيدُ فِي حَدِيثِ التَّحْرِيقِ عَلَى كَوْنِهِ لِتَرْكِ الْحُضُورِ دَائِمًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ «لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ» وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ» لَيْسَتْ بِهِمْ عِلَّةٌ كَمَا يُعْطِيهِ ظَاهِرُ إسْنَادِ الْمُضَارِعِ فِي مِثْلِهِ نَحْوُ بَنُو فُلَانٍ يَأْكُلُونَ الْبُرَّ: أَيْ عَادَتُهُمْ، فَيَكُونُ الْوُجُوبُ لِلْحُضُورِ أَحْيَانًا، وَالسُّنَّةُ الْمُؤَكَّدَةُ الَّتِي تُقَرِّبُ مِنْهُ الْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهَا وَمَا تَمَسَّكَ بِهِ مُثْبِتُو السُّنَّةِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ أَوْ سُوقِهِ
(فَإِنْ تَسَاوَوْا فَأَقْرَؤُهُمْ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ»
سَبْعًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا» فَإِنَّهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الصِّحَّةِ وَالْفَضِيلَةِ بِلَا جَمَاعَةٍ، فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ أَكْثَرَ مِنْ ثُبُوتِ صِحَّةِ مَا فِي الْبَيْتِ وَالسُّوقِ فِي الْجُمْلَةِ بِلَا جَمَاعَةٍ، وَلَا شَكَّ فِيهِ إذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ، فَالْمَعْنَى صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي بَيْتِهِ فِيمَا تَصِحُّ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ مُقْتَضَاهُ الصِّحَّةَ مُطْلَقًا بِلَا جَمَاعَةٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَى سُنِّيَّتِهَا لِجَوَازِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ تَرْكُهَا مُؤْثِمًا لَا مُفْسِدًا. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إيجَابُ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِي جَمْعٍ كَإِيجَابِ فِعْلِهَا فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَغْصُوبَةٍ وَزَمَانٍ غَيْرِ مَكْرُوهٍ. فَإِنْ قُلْت: لِمَ لَمْ تَقُلْ فِي الْجَوَابِ إنَّهُ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ، وَعَدَمُ الْوَاجِبِ لَا يُنَافِيهَا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ اللُّزُومَ مُلَاحَظٌ بِاعْتِبَارَيْنِ بِاعْتِبَارِ صُدُورِهِ مِنْ الشَّارِعِ، وَبِاعْتِبَارِ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّنَا، فَمُلَاحَظَتُهُ بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي إنْ كَانَ طَرِيقُ ثُبُوتِهِ عَنْ الشَّارِعِ قَطْعِيًّا كَانَ مُتَعَلِّقُهُ الْفَرْضَ وَنَافَى تَرْكَ مُقْتَضَاهُ الصِّحَّةَ، وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا كَانَ الْوُجُوبُ وَلَمْ يُنَافِهَا لَا لِاسْمِ الْوُجُوبِ بَلْ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ قَطْعِيًّا، فَإِنَّا لَوْ قَطَعْنَا بِهِ عَنْهُ نَافَى، وَلِذَا لَا يَثْبُتُ هَذَا الْقِسْمُ: أَعْنِي الْوَاجِبَ فِي حَقِّ مَنْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُشَافَهَةً مَعَ قَطْعِيَّةِ دَلَالَةِ الْمَسْمُوعِ فَلَيْسَ فِي حَقِّهِ إلَّا الْفَرْضُ الَّذِي عَدَمُهُ مُنَافٍ لِلصِّحَّةِ أَوْ غَيْرِ اللَّازِمِ مِنْ السُّنَّةِ فَمَا بَعْدَهَا، فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ مُلَاحَظَتَهُ بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ لَيْسَ فِيهِ وُجُوبٌ بَلْ الْفَرْضِيَّةُ أَوْ عَدَمُ اللُّزُومِ أَصْلًا، وَالْكَلَامُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ صُدُورِهِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ مُرِيدًا مَعْنَى ظَاهِرِهِ أَوَّلًا، فَلَا يَكُونُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقُ الْخِطَابِ إلَّا الِافْتِرَاضَ أَوْ عَدَمَ اللُّزُومِ، فَلَا يَتَأَتَّى الْجَوَابُ بِأَنَّ الْوُجُوبَ لَا يُنَافِي عَدَمُهُ الصِّحَّةَ فَتَأَمَّلْ، وَقَدْ كَمَّلَ إلَى هُنَا أَدِلَّةَ الْمَذَاهِبِ سِوَى مَذْهَبِ الْكِفَايَةِ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: الْمَقْصُودُ مِنْ الِافْتِرَاضِ إظْهَارُ الشِّعَارِ وَهُوَ يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهَا كَانَتْ تُقَامُ عَلَى عَهْدِهِ عليه الصلاة والسلام فِي مَسْجِدِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ قَالَ فِي الْمُتَخَلِّفِينَ مَا قَالَ وَهَمَّ بِتَحْرِيقِهِمْ، وَلَمْ يَصْدُرْ مِثْلُهُ عَنْهُ فِيمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ الْجَنَائِزِ مَعَ إقَامَتِهَا بِغَيْرِهِمْ
(قَوْلُهُ «يَؤُمُّ الْقَوْمَ») الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ إسْلَامًا، وَلَا يُؤَمُّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يُقْعَدُ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ» قَالَ الْأَشَجُّ فِي رِوَايَتِهِ مَكَانَ إسْلَامًا سِنًّا، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ إلَّا أَنَّ الْحَاكِمَ قَالَ عَوَّضَ «فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ» «فَأَفْقَهُهُمْ فِقْهًا، فَإِنْ كَانُوا فِي الْفِقْهِ سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا» وَهِيَ لَفْظَةٌ غَرِيبَةٌ وَإِسْنَادُهَا صَحِيحٌ. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي الِاخْتِيَارِ: مِنْهُمْ مَنْ اخْتَارَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ، وَمِنْهُمْ كَالْمُصَنَّفِ مَنْ
وَأَقْرَؤُهُمْ كَانَ أَعْلَمَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَهُ بِأَحْكَامِهِ فَقُدِّمَ فِي الْحَدِيثِ، وَلَا كَذَلِكَ فِي زَمَانِنَا فَقَدَّمْنَا الْأَعْلَمَ
اخْتَارَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رحمهم الله، وَهُوَ أَنَّ الْأَعْلَمَ أَوْلَى بَعْدَ كَوْنِهِ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ الْمَسْنُونَةَ، وَجَعَلَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ دَلِيلًا لِلْمُخْتَارِ عِنْدَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَقْرَأَ كَانَ أَعْلَمَ لِتَلَقِّيهِمْ الْقُرْآنَ بِأَحْكَامِهِ وَنَظَّرَ فِيهِ بِرِوَايَةِ الْحَاكِمِ، وَلَوْ صَحَّ فَإِنَّمَا مُفَادُهُ أَنَّ الْأَقْرَأَ أَعْلَمُ بِأَحْكَامِ الْكِتَابِ فَصَارَ الْحَاصِلُ يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ: أَيْ أَعْلَمُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ وَأَحْكَامِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ عَلَى مَا ادَّعَى، وَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ وَالْعِلْمِ بِأَحْكَامِ الْكِتَابِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، وَهَذَا أَوَّلًا يَقْتَضِي فِي رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا مُتَبَحِّرٌ فِي مَسَائِلِ الصَّلَاةِ وَالْآخَرُ مُتَبَحِّرٌ فِي الْقِرَاءَةِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ وَمِنْهَا أَحْكَامُ الْكِتَابِ أَنَّ التَّقَدُّمَةَ لِلثَّانِي لَكِنَّ الْمُصَرَّحَ بِهِ فِي الْفُرُوعِ عَكْسُهُ بَعْدَ إحْسَانِ الْقَدْرِ الْمَسْنُونِ، وَالتَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ يُفِيدُهُ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّ الْعِلْمَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي سَائِرِ الْأَرْكَانِ، وَالْقِرَاءَةَ لِرُكْنٍ وَاحِدٍ. وَثَانِيًا يَكُونُ النَّصُّ سَاكِتًا عَنْ الْحَالِ بَيْنَ مَنْ انْفَرَدَ بِالْعِلْمِ عَنْ الْأَقْرَئِيَّةِ بَعْدَ إحْسَانِ الْمَسْنُونِ، وَمَنْ انْفَرَدَ بِالْأَقْرَئِيَّةِ عَنْ الْعِلْمِ لَا كَمَا ظَنَّ الْمُصَنِّفُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقَدَّمْ الْأَعْلَمُ مُطْلَقًا فِي الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ، بَلْ مَنْ اجْتَمَعَ فِيهِ الْأَقْرَئِيَّةُ وَالْأَعْلَمِيَّةُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ أَرَادَ بِلَفْظِ الْأَقْرَإِ الْأَعْلَمَ فَقَطْ: أَيْ لَيْسَ بِأَقْرَأَ فَيَكُونُ مَجَازًا خِلَافَ الظَّاهِرِ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ الْأَقْرَأَ غَيْرَ أَنَّ الْأَقْرَأَ يَكُونُ أَعْلَمَ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ إذْ ذَاكَ فَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ بِالْأَقْرَئِيَّةِ وَالْمُنْفَرِدُ بِالْأَعْلَمِيَّةِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُمَا النَّصُّ فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى الْحَالِ بَيْنَهُمَا كَمَا فَعَلَ الْمُصَنِّفُ. فَإِنْ قِيلَ: فَلْيَكُنْ أَرَادَ الْأَقْرَأَ لَكِنَّهُ مُعَلَّلٌ بِكَوْنِهِ أَعْلَمَ فَيُفِيدُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَوْ سُلِّمَ فَإِنَّمَا يَكُونُ مُعَلَّلًا بِأَعْلَمِيَّةِ أَحْكَامِ الْكِتَابِ دُونَ السُّنَّةِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ الْمَقْصُودُ الْأَعْلَمِيَّةُ بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا نَقَلْنَاهُ، وَيُشِيرُ إلَيْهِ تَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ وَهِيَ لَا تُسْتَفَادُ مِنْ الْكِتَابِ بَلْ مِنْ السُّنَّةِ أَرَأَيْت مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَمَا يُكْرَهُ فِيهَا عَلَى كَثْرَةِ شُعَبِهِ وَمَسَائِلِ الِاسْتِخْلَافِ يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ أَمْ مِنْ السُّنَّةِ، وَلَيْسَ تَتَضَمَّنُ الْأَقْرَئِيَّةُ التَّعْلِيلَ بِالْأَعْلَمِيَّةِ بِالسُّنَّةِ، أَلَّا يَرَى أَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ «فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ» وَلِذَا اسْتَدَلَّ بِهِ جَمَاعَةٌ لِأَبِي يُوسُفَ، وَاسْتَدَلُّوا لِمُخْتَارِ الْمُصَنِّفِ بِمَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَفْقَهُهُمْ فِي الدِّينِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْفِقْهِ سَوَاءً فَأَقْرَؤُهُمْ لِلْقُرْآنِ، وَلَا يُؤَمُّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يُقْعَدُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ» وَسَكَتَ عَنْهُ وَهُوَ مَعْلُولٌ بِالْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ. وَالْحَقُّ أَنَّ عِبَارَتَهُمْ فِيهِ لَا تَفْحُشُ، وَلَكِنْ لَا تَقْوَى قُوَّةَ حَدِيثِ أَبِي يُوسُفَ. وَأَحْسَنُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِمُخْتَارِ الْمُصَنِّفِ حَدِيثُ «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» وَكَانَ ثَمَّةَ مَنْ هُوَ أَقْرَأُ مِنْهُ لَا أَعْلَمُ. دَلِيلُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ» وَدَلِيلُ الثَّانِي قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، وَهَذَا آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونُ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ. وَفِي الْمُجْتَبَى:
(فَإِنْ تَسَاوَوْا فَأَوْرَعُهُمْ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ صَلَّى خَلْفَ عَالِمٍ تَقِيٍّ فَكَأَنَّمَا صَلَّى خَلْفَ نَبِيٍّ» فَإِنْ تَسَاوَوْا فَأَسَنُّهُمْ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِابْنَيْ أَبِي مُلَكْيَةَ «وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا سِنًّا» وَلِأَنَّ فِي تَقْدِيمِهِ تَكْثِيرَ الْجَمَاعَةِ.
فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْعِلْمِ وَأَحَدُهُمَا أَقْرَأُ فَقَدَّمُوا غَيْرَهُ أَسَاءُوا وَلَا يَأْثَمُونَ (قَوْلُهُ فَأَوْرَعُهُمْ) الْوَرَعُ اجْتِنَابُ الشُّبُهَاتِ. وَالتَّقْوَى: اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ. وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «إنْ سَرَّكُمْ أَنْ تُقْبَلَ صَلَاتُكُمْ فَلْيَؤُمَّكُمْ خِيَارُكُمْ» فَإِنْ صَحَّ وَإِلَّا فَالضَّعِيفُ غَيْرُ الْمَوْضُوعِ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، ثُمَّ مَحَلُّهُ مَا بَعْدَ التَّسَاوِي فِي الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ، وَاَلَّذِي فِي حَدِيثِ الصَّحِيحِ بَعْدَهُمَا التَّقْدِيمُ بِأَقْدَمِيَّةِ الْهِجْرَةِ، وَقَدْ انْتَسَخَ وُجُوبُ الْهِجْرَةِ فَوَضَعُوا مَكَانَهَا الْهِجْرَةَ عَنْ الْخَطَايَا، وَفِي حَدِيثِ «وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ» إلَّا أَنْ يَكُونَ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ تَلْزَمُهُ الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا هَاجَرَ فَاَلَّذِي نَشَأَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْلَى مِنْهُ إذَا اسْتَوَيَا فِيمَا قَبْلَهَا، وَكَذَا إذَا اسْتَوَيَا فِي سَائِرِ الْفَضَائِلِ، إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَقْدَمُ وَرَعًا قُدِّمَ، وَحَدِيثُ «وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا» تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْأَذَانِ، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فِي السِّنِّ فَأَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَشْرَفُهُمْ نَسَبًا، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَصْبَحُهُمْ وَجْهًا. وَفَسَّرَ فِي الْكَافِي حُسْنَ الْوَجْهِ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِاللَّيْلِ كَأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ صَلَّى بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ» وَالْمُحَدِّثُونَ لَا يُثْبِتُونَهُ، وَالْحَدِيثُ فِي ابْنِ مَاجَهْ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّلْحِيِّ عَنْ ثَابِتِ بْنِ مُوسَى الزَّاهِدِ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ» قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَتَبْته عَنْ ثَابِتٍ فَذَكَرْته لِابْنِ نُمَيْرٍ فَقَالَ الشَّيْخُ: يَعْنِي ثَابِتًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَالْحَدِيثُ مُنْكَرٌ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَالْحَدِيثُ مَوْضُوعٌ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: دَخَلَ ثَابِتُ بْنُ مُوسَى عَلَى شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي وَالْمُسْتَمْلِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَشَرِيكٌ يَقُولُ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَتْنَ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَى ثَابِتِ بْنِ مُوسَى قَالَ «مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ» وَإِنَّمَا أَرَادَ ثَابِتًا لِزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ فَظَنَّ ثَابِتٌ أَنَّهُ مَتْنُ ذَلِكَ السَّنَدِ فَكَانَ يُحَدِّثُ بِهِ بِذَلِكَ السَّنَدِ، وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ شَرِيكٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ قَوْلِ شَرِيكٍ عَقِبَ ذِكْرِ مَتْنِ ذَلِكَ السَّنَدِ وَهُوَ «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ» الْحَدِيثَ الثَّابِتَ. فَأَدْرَجَهُ ثَابِتٌ وَجَمِيعُ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى بُطْلَانِهِ، ثُمَّ إنْ اسْتَوَوْا فِي الْحُسْنِ فَأَشْرَفُهُمْ نَسَبًا، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فِي هَذِهِ كُلِّهَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ أَوْ الْخِيَارُ إلَى الْقَوْمِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ قِيلَ هُمَا سَوَاءٌ، وَقِيلَ الْمُقِيمُ أَوْلَى. وَفِي الْخُلَاصَةِ: رَجُلٌ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ يَؤُمُّ أَهْلَ مَحَلَّةٍ غَيْرِ مَحَلَّتِهِ فِي رَمَضَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ إلَى تِلْكَ الْمَحَلَّةِ قَبْلَ وَقْتِ الْعِشَاءِ، فَلَوْ ذَهَبَ بَعْدَهُ كُرِهَ كَمَا يُكْرَهُ السَّفَرُ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الْجُمُعَةِ، وَفِيهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنْ كَانَ الْإِمَامُ يَتَنَحْنَحُ عِنْدَ
(وَيُكْرَهُ)(تَقْدِيمُ الْعَبْدِ) لِأَنَّهُ لَا يَتَفَرَّغُ لِلتَّعَلُّمِ (وَالْأَعْرَابِيِّ) لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِمْ الْجَهْلُ (وَالْفَاسِقِ) لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ لِأَمْرِ دِينِهِ (وَالْأَعْمَى) لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّى النَّجَاسَةَ (وَوَلَدِ الزِّنَا) لِأَنَّهُ
الْقِرَاءَةِ، إنْ لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَثُرَ فَغَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ يُتَبَرَّكُ بِالصَّلَاةِ خَلْفَهُ فَهُوَ أَفْضَلُ
(قَوْلُهُ وَيُكْرَهُ تَقْدِيمُ الْعَبْدِ إلَخْ) فَلَوْ اجْتَمَعَ الْمُعْتَقُ وَالْحُرُّ الْأَصْلِيُّ وَاسْتَوَيَا فِي الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ فَالْحُرُّ الْأَصْلِيُّ أَوْلَى. وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِيمَنْ سِوَى الْفَاسِقِ لِلتَّنْفِيرِ وَالْجَهْلُ ظَاهِرٌ، وَفِي الْفَاسِقِ لِلْأَوَّلِ لِظُهُورِ تَسَاهُلِهِ فِي الطَّهَارَةِ وَنَحْوِهَا وَفِي الدِّرَايَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَدَى بِالْفَاسِقِ إلَّا فِي الْجُمُعَةِ لِأَنَّ فِي غَيْرِهَا يَجِدُ إمَامًا غَيْرَهُ اهـ. يَعْنِي أَنَّهُ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ بِسَبِيلٍ مِنْ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ وَلَا يَأْثَمُ فِي ذَلِكَ، ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ. وَعَلَى هَذَا فَيُكْرَهُ فِي الْجُمُعَةِ إذَا تَعَدَّدَتْ إقَامَتُهَا فِي الْمِصْرِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ لِأَنَّهُ بِسَبِيلٍ مِنْ التَّحَوُّلِ حِينَئِذٍ. وَفِي الْمُحِيطِ: لَوْ صَلَّى خَلْفَ فَاسِقٍ أَوْ مُبْتَدِعٍ أَحْرَزَ ثَوَابَ الْجَمَاعَةِ، لَكِنْ لَا يُحْرِزُ ثَوَابَ الْمُصَلِّي خَلْفَ تَقِيٍّ اهـ. يُرِيدُ بِالْمُبْتَدِعِ مَنْ لَمْ يُكَفَّرْ وَلَا بَأْسَ بِتَفْصِيلِهِ: الِاقْتِدَاءُ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ جَائِزٌ إلَّا الْجَهْمِيَّةَ وَالْقَدَرِيَّةَ وَالرَّوَافِضَ الْغَالِيَةَ وَالْقَائِلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَالْخَطَابِيَّةَ وَالْمُشَبِّهَةَ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ قِبْلَتِنَا وَلَمْ يَغُلَّ حَتَّى لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ، وَتُكْرَهُ، وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَ مُنْكِرِ الشَّفَاعَةِ وَالرُّؤْيَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ لِأَنَّهُ كَافِرٌ لِتَوَارُثِ هَذِهِ الْأُمُورِ عَنْ الشَّارِعِ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ قَالَ لَا يَرَى لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ كَذَا قِيلَ، وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى الدَّلِيلِ إذَا تَأَمَّلْت، وَلَا يُصَلَّى خَلْفَ مُنْكِرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَالْمُشَبِّهِ إذَا قَالَ: لَهُ تَعَالَى يَدٌ وَرِجْلٌ كَمَا لِلْعِبَادِ فَهُوَ كَافِرٌ مَلْعُونٌ. وَإِنْ قَالَ جِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا إطْلَاقُ لَفْظِ الْجِسْمِ عَلَيْهِ وَهُوَ مُوهِمٌ لِلنَّقْصِ فَرَفَعَهُ بِقَوْلِهِ لَا كَالْأَجْسَامِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مُجَرَّدُ الْإِطْلَاقِ، وَذَلِكَ مَعْصِيَةٌ تَنْتَهِضُ سَبَبًا لِلْعِقَابِ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْإِيهَامِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَهُ عَلَى التَّشْبِيهِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ. وَقِيلَ يُكَفَّرُ بِمُجَرَّدِ الْإِطْلَاقِ أَيْضًا وَهُوَ حَسَنٌ بَلْ هُوَ أَوْلَى بِالتَّكْفِيرِ. وَفِي الرَّوَافِضِ أَنَّ مَنْ فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَى الثَّلَاثَةِ فَمُبْتَدِعٌ، وَإِنْ أَنْكَرَ خِلَافَةَ الصِّدِّيقِ أَوْ عُمَرَ رضي الله عنهما فَهُوَ كَافِرٌ، وَمُنْكِرُ الْمِعْرَاجِ إنْ أَنْكَرَ الْإِسْرَاءَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَكَافِرٌ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْمِعْرَاجَ مِنْهُ فَمُبْتَدِعٌ انْتَهَى مِنْ الْخُلَاصَةِ إلَّا تَعْلِيلَ إطْلَاقِ الْجِسْمِ مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ. وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لَا تَجُوزُ، وَبِخَطِّ الْحَلْوَانِيِّ تُمْنَعُ الصَّلَاةُ خَلْفَ مَنْ يَخُوضُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَيُنَاظِرُ أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ كَأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى مَا وَرَدَ عَنْ
لَيْسَ لَهُ أَبٌ يُثَقِّفُهُ فَيَغْلِبَ عَلَيْهِ الْجَهْلُ، وَلِأَنَّ فِي تَقْدِيمِ هَؤُلَاءِ تَنْفِيرَ الْجَمَاعَةِ فَيُكْرَهَ (وَإِنْ تَقَدَّمُوا جَازَ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ» .
(وَلَا يُطَوِّلُ الْإِمَامُ بِهِمْ الصَّلَاةَ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلِيُصَلِّ بِهِمْ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ، فَإِنَّ فِيهِمْ الْمَرِيضَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ»
أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِالْمُتَكَلِّمِ وَإِنْ تَكَلَّمَ بِحَقٍّ. قَالَ الْهِنْدُوَانِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله مَنْ يُنَاظِرُ فِي دَقَائِقِ عِلْمِ الْكَلَامِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُجْتَبَى: وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْمُتَكَلِّمِ فَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الَّذِي قَرَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ حِينَ رَأَى ابْنَهُ حَمَّادًا يُنَاظِرُ فِي الْكَلَامِ فَنَهَاهُ، فَقَالَ: رَأَيْتُك تُنَاظِرُ فِي الْكَلَامِ وَتَنْهَانِي؟ فَقَالَ: كُنَّا نُنَاظِرُ وَكَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ مَخَافَةَ أَنْ يَزِلَّ صَاحِبُنَا وَأَنْتُمْ تُنَاظِرُونَ وَتُرِيدُونَ زَلَّةَ صَاحِبِكُمْ، وَمَنْ أَرَادَ زَلَّةَ صَاحِبِهِ فَقَدْ أَرَادَ كُفْرَهُ فَهُوَ قَدْ كَفَرَ قَبْلَ صَاحِبِهِ، فَهَذَا هُوَ الْخَوْضُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَهَذَا الْمُتَكَلِّمُ لَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ بِكُفْرِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مَعَ مَا ثَبَتَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ رحمهم الله مِنْ عَدَمِ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ كُلِّهِمْ مَحْمَلُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْمُعْتَقَدَ نَفْسَهُ كُفْرٌ، فَالْقَائِلُ بِهِ قَائِلٌ بِمَا هُوَ كُفْرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكْفُرْ بِنَاءً عَلَى كَوْنِ قَوْلِهِ ذَلِكَ عَنْ اسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِ مُجْتَهِدًا فِي طَلَبِ الْحَقِّ لَكِنَّ جَزْمَهُمْ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ لَا يُصَحِّحُ هَذَا الْجَمْعَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ خَلْفَهُمْ عَدَمُ الْحِلِّ: أَيْ عَدَمُ حِلِّ أَنْ يُفْعَلَ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الصِّحَّةَ وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. بِخِلَافِ مُطْلَقِ اسْمِ الْجِسْمِ مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ لِاخْتِيَارِهِ إطْلَاقَ مَا هُوَ مُوهِمٌ لِلنَّقْصِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ، وَلَوْ نَفَى التَّشْبِيهَ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إلَّا التَّسَاهُلُ وَالِاسْتِخْفَافُ بِذَلِكَ، وَفِي مَسْأَلَةِ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ قَوْلٌ آخَرُ ذَكَرْته فِي الرِّسَالَةِ الْمُسَمَّاة بِالْمُسَايِرَةِ. وَيُكْرَهُ الِاقْتِدَاءُ بِالْمَشْهُورِ بِأَكْلِ الرِّبَا، وَيَجُوزُ بِالشَّافِعِيِّ بِشُرُوطٍ نَذْكُرُهَا فِي بَابِ الْوَتْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَلْ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْحَنَفِيِّ فِي الْوَتْرِ بِمَنْ يَرَى قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِيهِ نَذْكُرُهُ فِيهِ أَيْضًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ») تَمَامُهُ فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ «وَصَلُّوا عَلَى كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَجَاهِدُوا مَعَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ» وَأَعَلَّهُ بِأَنَّ مَكْحُولًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَنْ دُونَهُ ثِقَاتٌ وَحَاصِلُهُ. أَنَّهُ مِنْ مُسَمَّى الْإِرْسَالِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدنَا وَرَوَاهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ بِلَفْظٍ آخَرَ وَأَعَلَّهُ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ عِدَّةِ طُرُقِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ وَالْعُقَيْلِيِّ كُلُّهَا مُضَعَّفَةٌ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَبِذَلِكَ يَرْتَقِي إلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَهُوَ الصَّوَابُ
(قَوْلُهُ وَلَا يُطَوِّلُ بِهِمْ الْإِمَامُ) يُسْتَثْنَى صَلَاةُ الْكُسُوفِ فَإِنَّ السُّنَّةَ فِيهَا التَّطْوِيلُ حَتَّى تَنْجَلِيَ الشَّمْسُ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم) فِي الصَّحِيحَيْنِ «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ» وَفِي لَفْظ لِمُسْلِمٍ «الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَالْمَرِيضَ وَذَا الْحَاجَةِ» وَفِيهِمَا «عَنْ أَنَسٍ: مَا صَلَّيْت وَرَاءَ إمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلَاةً وَلَا أَتَمَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ، وَقَدْ بَحَثْنَا أَنَّ التَّطْوِيلَ هُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَسْنُونَةِ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُ، وَكَانَتْ قِرَاءَتُهُ هِيَ الْمَسْنُونَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ مَا نَهَى عَنْهُ غَيْرَ مَا كَانَ
(وَيُكْرَهُ النِّسَاءُ وَحْدَهُنَّ الْجَمَاعَةُ) لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ ارْتِكَابِ مُحَرَّمٍ، وَهُوَ قِيَامُ الْإِمَامِ وَسَطَ الصَّفِّ فَيُكْرَهَ كَالْعُرَاةِ
دَأْبُهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَقِرَاءَةُ مُعَاذٍ لَمَّا قَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ كَانَتْ بِالْبَقَرَةِ عَلَى مَا فِي مُسْلِمٍ «أَنَّ مُعَاذًا افْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ» . وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَهُ «إذَا أَمَمْت بِالنَّاسِ فَاقْرَأْ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى» لِأَنَّهَا كَانَتْ الْعِشَاءَ لِأَنَّهَا الْمُورَدُ فِي الصَّحِيحَيْنِ «صَلَّى مُعَاذٌ رضي الله عنه الْعِشَاءَ فَطَوَّلَ عَلَيْهِمْ، فَانْصَرَفَ رَجُلٌ مِنَّا فَصَلَّى وَحْدَهُ، فَأُخْبِرَ مُعَاذٌ عَنْهُ فَقَالَ: إنَّهُ مُنَافِقٌ، فَأَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ» الْحَدِيثَ. وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد أَنَّهَا كَانَتْ الْمَغْرِبَ، وَوَقَعَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ أَنَّ السُّورَةَ كَانَتْ اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فَيُجْمَعُ بِأَنَّهُمَا قِصَّتَانِ لِشَخْصَيْنِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قِيلَ فِيهِ حَزْمٌ، وَقِيلَ حَازِمٌ، وَقِيلَ حِزَامٌ، وَقِيلَ سُلَيْمٌ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ مُعَاذًا لَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَهُ بَعْدَ نَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم إيَّاهُ مَرَّةً لِتَصِيرَ لَهُ قِصَّتَانِ. وَرَدَّ الْبَيْهَقِيُّ رِوَايَةَ الْمَغْرِبِ قَالَ: رِوَايَاتُ الْعِشَاءِ أَصَحُّ، ثُمَّ مَعْلُومٌ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرُدَّ الْعُمُومَ، إذْ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فِي الْقِرَاءَةِ حَتَّى تَكُونَ الْمَغْرِبُ كَالْفَجْرِ فَتُحْمَلُ عَلَى الْعِشَاءِ، وَإِنَّ قَوْمَ مُعَاذٍ كَانَ الْعُذْرُ مُتَحَقِّقًا فِيهِمْ لَا كَسَلَ مِنْهُمْ فَأُمِرَ فِيهِمْ بِذَلِكَ لِذَلِكَ، كَمَا ذُكِرَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي الْفَجْرِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالُوا لَهُ أَوْجَزْتَ، قَالَ: سَمِعْت بُكَاءَ صَبِيٍّ فَخَشِيتُ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ» وَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى التَّخْصِيصِ بِالْمُورَدِ بَلْ هُوَ عَلَى الْعُمُومِ فِيمَا التَّطْوِيلُ فِيهِ سُنَّةٌ
(قَوْلُهُ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو إلَخْ) صَرِيحٌ فِي أَنَّ تَرْكَ الْقِدَمِ لِإِمَامِ الرِّجَالِ مُحَرَّمٌ، وَكَذَا صَرَّحَ الشَّارِحُ وَسَمَّاهُ فِي الْكَافِي مَكْرُوهًا وَهُوَ الْحَقُّ: أَيْ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، لِأَنَّ مُقْتَضَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى التَّقَدُّمِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بِلَا تَرْكِ الْوُجُوبِ فَلِعَدَمِهِ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ فَاسْمُ الْمُحَرَّمِ مَجَازٌ، وَاسْتَلْزَمَ مَا ذُكِرَ أَنَّ جَمَاعَةَ النِّسَاءِ تُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ لِأَنَّ مَلْزُومَ مُتَعَلِّقِ الْحُكْمِ: أَعْنِي الْفِعْلَ الْمُعَيَّنَ مَلْزُومٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، ثُمَّ شَبَّهَهَا بِجَمَاعَةِ الْعُرَاةِ فَاقْتَضَى أَنَّهَا أَيْضًا تُكْرَهُ كَذَلِكَ لِاتِّحَادِ اللَّازِمِ. وَهُوَ أَحَدُ الْأُمُورِ: إمَّا تَرْكُ وَاجِبِ التَّقَدُّمِ، وَإِمَّا زِيَادَةُ الْكَشْفِ الَّذِي هُوَ أَفْحَشُ مِنْ كَشْفِ الْمَرْأَةِ إذَا تَقَدَّمَتْ وَهِيَ لَابِسَةٌ ثَوْبًا مَحْشُوًّا مِنْ قَرْنِهَا إلَى قَدِمَهَا فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهَا أَيْضًا، وَلَا كَشْفَ عَوْرَةٍ فَكَيْفَ بِالْعَارِي الْمُتَعَرِّضِ لِلنَّظَرِ أَوْ زِيَادَةِ كَشْفِ عَوْرَةٍ يَقْدِرُ عَلَى سَتْرِ بَعْضِهَا، ثُمَّ ثُبُوتُ كَرَاهَةِ تَقَدُّمِهَا وَهِيَ بِهَذَا السِّتْرِ الْمَذْكُورِ إنَّمَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ بِفِعْلِ عَائِشَةَ فَقَطْ لَمَّا أَتَتْ، فَإِنَّهَا مَا تَرَكَتْ وَاجِبَ التَّقَدُّمِ إلَّا لِأَمْرٍ هُوَ أَوْجَبُ مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا هُوَ، أَلِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الِانْكِشَافِ الْمُلَازِمِ لِشُخُوصِهَا عَنْهُنَّ، أَوْ هُوَ لِنَفْسِ شُخُوصِهَا عَنْهُنَّ شَبِيهَةً بِالرِّجَالِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَتَهُنَّ لَا تُكْرَهُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِأَنَّهَا فَرِيضَةٌ، وَتَرْكُ التَّقَدُّمِ مَكْرُوهٌ فَدَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ فِعْلِ
(فَإِنْ فَعَلْنَ قَامَتْ الْإِمَامُ وَسَطَهُنَّ) لِأَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَعَلَتْ كَذَلِكَ، وَحُمِلَ فِعْلُهَا الْجَمَاعَةَ عَلَى ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ
الْمَكْرُوهِ بِفِعْلِ الْفَرْضِ أَوْ تَرْكِ الْفَرْضِ لِتَرْكِهِ فَوَجَبَ الْأَوَّلُ، بِخِلَافِ جَمَاعَتِهِنَّ فِي غَيْرِهَا وَلَوْ صَلَّيْنَ فُرَادَى فَقَدْ تَسْبِقُ إحْدَاهُنَّ فَتَكُونُ صَلَاةُ الْبَاقِيَاتِ نَفْلًا وَالتَّنَفُّلُ بِهَا مَكْرُوهٌ فَيَكُونُ فَرَاغُ تِلْكَ مُوجِبًا لِفَسَادِ الْفَرْضِيَّةِ لِلصَّلَاةِ الْبَاقِيَاتِ كَتَقْيِيدِ الْخَامِسَةِ بِالسَّجْدَةِ لِمَنْ تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ (قَوْلُهُ فَإِنْ فَعَلْنَ قَامَتْ الْإِمَامُ وَسَطَهُنَّ) لِأَنَّ تَرْكَ التَّقَدُّمِ أَسْهَلُ مِنْ زِيَادَةِ الْكَشْفِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ تَقَدَّمَتْ صَحَّ، وَمُقْتَضَى مَا عُلِمَ مِنْ التَّقْرِيرِ أَنْ تَأْثَمَ بِهِ (قَوْلُهُ وَحُمِلَ فِعْلُهَا عَلَى ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ) وَهَكَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، قَالَ السُّرُوجِيُّ فِيهِ بُعْدٌ:«فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً» كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، «ثُمَّ تَزَوَّجَ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَبَنَى بِهَا بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ، وَبَقِيَتْ عِنْدَهُ تِسْعَ سِنِينَ» وَمَا تَؤُمُّ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِهَا، فَأَيْنَ ذَلِكَ مِنْ ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مَنْسُوخٌ، فَعَلَتْهُ حِينَ كَانَ النِّسَاءُ يَحْضُرْنَ الْجَمَاعَةَ انْتَهَى. وَفِي نَقْلِ التَّزَوُّجِ بِهَا بَعْضُ خَلَلٍ: يَعْنِي يُحْمَلُ قَوْلُهُ ابْتِدَاءَ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، لَكِنَّ مَا فِي الْمُسْتَدْرَكِ أَنَّهَا كَانَتْ تُؤَذِّنُ وَتُقِيمُ وَتَؤُمُّ النِّسَاءَ فَتَقُومُ وَسَطَهُنَّ، وَمَا فِي كِتَابِ الْآثَارِ لِمُحَمَّدٍ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ تَؤُمُّ النِّسَاءَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَتَقُومُ وَسَطَهُنَّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمَاعَةَ التَّرَاوِيحِ إنَّمَا اسْتَقَرَّتْ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَا فِي أَبِي دَاوُد عَنْ أُمِّ وَرَقَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرٍ الْأَنْصَارِيَّةِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا غَزَا بَدْرًا قَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي الْغَزَاةِ مَعَكَ أُمَرِّضُ مَرْضَاكُمْ، ثُمَّ لَعَلَّ اللَّهَ يَرْزُقُنِي شَهَادَةً قَالَ: قَرِّي فِي بَيْتِكِ فَإِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُكِ الشَّهَادَةَ، قَالَ: فَكَانَتْ تُسَمَّى الشَّهِيدَةُ، وَكَانَتْ قَدْ قَرَأَتْ الْقُرْآنَ فَاسْتَأْذَنَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَتَّخِذَ فِي دَارِهَا مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ لَهَا، قَالَ: وَكَانَتْ دَبَّرَتْ غُلَامًا لَهَا وَجَارِيَةً فَقَامَا إلَيْهَا بِاللَّيْلِ فَغَمَّاهَا بِقَطِيفَةٍ لَهَا حَتَّى مَاتَتْ وَذَهَبَا، فَأَصْبَحَ عُمَرُ فَقَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: مَنْ عِنْدَهُ مِنْ هَذَيْنِ عِلْمٌ أَوْ مَنْ
وَلِأَنَّ فِي التَّقَدُّمِ زِيَادَةَ الْكَشْفِ.
(وَمَنْ صَلَّى مَعَ وَاحِدٍ أَقَامَهُ عَنْ يَمِينِهِ) لِحَدِيثِ «ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فَإِنَّهُ
رَآهُمَا فَلْيَجِئْ بِهِمَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَصُلِبَا فَكَانَا أَوَّلَ مَصْلُوبَيْنِ بِالْمَدِينَةِ». ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ جَمِيعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَلَّادٍ عَنْهَا. وَفِيهِ:«وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَزُورُهَا وَجَعَلَ لَهَا مُؤَذِّنًا وَأَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا» . قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَأَنَا رَأَيْت مُؤَذِّنَهَا شَيْخًا كَبِيرًا، كُلُّهَا يَنْفِي ثُبُوتَ النَّسْخِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ الْوَلِيدُ بْنُ جَمِيعٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ فِيهِمَا ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا يُعْرَفُ حَالُهُمَا انْتَهَى. وَقَدْ ذَكَرَهُمَا ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَقَدْ يُجَابُ بِجَوَازِ كَوْنِهِ إخْبَارًا عَنْ مُوَاظَبَةٍ كَانَتْ قَبْلَ النَّسْخِ. وَقَوْلُهُ كَانَتْ تَؤُمُّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّرَاوِيحَ. وَقَوْلُهُ جَعَلَ لَهُ مُؤَذِّنًا وَأَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ اسْتِمْرَارَ إمَامَتِهَا إلَى وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم. وَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: تَؤُمُّ الْمَرْأَةُ النِّسَاءَ تَقُومُ وَسَطَهُنَّ: لَا يَقْتَضِي عِلْمُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِبَقَاءِ شَرْعِيَّتِهَا لِجَوَازِ كَوْنِ الْمُرَادِ إفَادَةَ مَقَامِهَا بِتَقْدِيرِ ارْتِكَابهَا ذَلِكَ أَوْ خَفِيَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ النَّاسِخِ، وَلَكِنْ يَبْقَى الْكَلَامُ بَعْدَ هَذَا فِي تَعْيِينِ النَّاسِخِ، إذْ لَا بُدَّ فِي ادِّعَاءِ النَّسْخِ مِنْهُ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِي النَّسْخِ إلَّا مَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ مِنْ إمْكَانِ كَوْنِهِ مَا فِي أَبِي دَاوُد وَصَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا» يَعْنِي الْخِزَانَةَ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبَيْتِ. وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ أَحَبَّ صَلَاةِ الْمَرْأَةِ إلَى اللَّهِ فِي أَشَدِّ مَكَان فِي بَيْتِهَا ظُلْمَةً» وَفِي حَدِيثٍ لَهُ وَلِابْنِ حِبَّانَ «هُوَ أَقْرَبُ مَا تَكُون مِنْ وَجْهِ رَبِّهَا وَهِيَ فِي قَعْرِ بَيْتِهَا» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَخْدَعَ لَا يَسَعُ الْجَمَاعَةَ، وَكَذَا قَعْرُ بَيْتِهَا وَأَشَدُّهُ ظُلْمَةً. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، وَبِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَإِنَّمَا يُفِيدُ نَسْخَ السُّنِّيَّةِ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ فِي الْفِعْلِ بَلْ التَّنْزِيهَ وَمَرْجِعُهَا إلَى خِلَافِ الْأَوْلَى، وَلَا عَلَيْنَا أَنْ نَذْهَبَ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ اتِّبَاعُ الْحَقِّ حَيْثُ كَانَ
(قَوْلُهُ لِحَدِيثِ «ابْنِ عَبَّاسٍ) قَالَ بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
عليه الصلاة والسلام صَلَّى بِهِ وَأَقَامَهُ عَنْ يَمِينِهِ» وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْ الْإِمَامِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ يَضَعُ أَصَابِعَهُ عِنْدَ عَقِبِ الْإِمَامِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ، فَإِنْ صَلَّى خَلْفَهُ أَوْ فِي يَسَارِهِ جَازَ وَهُوَ مُسِيءٌ لِأَنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ (وَإِنْ أَمَّ اثْنَيْنِ تَقَدَّمَ عَلَيْهِمَا) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يَتَوَسَّطُهُمَا، وَنَقَلَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه
يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَأَخَذَ بِرَأْسِي فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ مُطَوَّلًا، وَأَوْرَدَ كَيْفَ جَازَ النَّفَلُ بِجَمَاعَةٍ وَهُوَ بِدْعَةٌ. أُجِيبُ بِأَنَّ أَدَاءَهُ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ بِوَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ يَجُوزُ، عَلَى أَنَّا نَقُولُ: كَانَ التَّهَجُّدُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَرْضًا فَهُوَ اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ وَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ. هَذَا وَلَوْ أَوْرَدَ قِصَّةَ أَنَسٍ وَالْيَتِيمِ تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ «فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ» ظَاهِرًا فِي مُحَاذَاةِ الْيَمِينِ دُونَ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ وَالْعَهْدُ بِهِ قَرِيبٌ لَمْ يَذْكُرْهُ ثَانِيًا لِدَفْعِ قَوْلِهِ وَالْمُتَأَخِّرُ عَنْ الْيَمِينِ لَا يُقَالُ هُوَ عَنْ يَمِينِهِ إلَّا بِنَوْعِ إرْسَالٍ كَمَا لَا يُقَالُ هُوَ خَلْفَهُ أَيْضًا بَلْ هُوَ مُتَأَخِّرٌ (قَوْلُهُ وَإِنْ صَلَّى خَلْفَهُ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ جَازَ وَهُوَ مُسِيءٌ) هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ مِنْ عَدَمِ الْإِسَاءَةِ إذَا كَانَ خَلْفَهُ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَعَلَهُ، وَسَأَلَهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا لِأَحَدٍ أَنْ يُسَاوِيَك فِي الْمَوْقِفِ، فَدَعَا لَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ ذَلِكَ بِمُحَاذَاةِ الْيَمِينِ وَدُعَاؤُهُ لَهُ لِحُسْنِ تَأَدُّبِهِ لَا لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ هَذِهِ الرِّوَايَةُ إنْ صَحَّتْ فَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْإِقَامَةَ عَنْ يَمِينِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ بِمُحَاذَاةِ الْيَمِينِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ) فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ أَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: أُصَلِّي مِنْ خَلْفِكُمَا؟ قَالَا نَعَمْ، فَقَامَ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَ أَحَدَهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ رَكَعْنَا فَوَضَعْنَا أَيْدِينَا عَلَى رُكَبِنَا، ثُمَّ طَبَّقَ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ جَعَلَهُمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم». قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَصِحُّ رَفْعُهُ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ الْوَقْفُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ الثَّابِتُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ فَعَلَ ذَلِكَ
وَلَنَا «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام تَقَدَّمَ عَلَى أَنَسٍ وَالْيَتِيمِ حِينَ صَلَّى بِهِمَا»
فَلَمْ يَقُلْ هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ. قِيلَ كَأَنَّهُمَا ذَهِلَا، فَإِنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ لَمْ يَرْفَعْهُ فِي الْأُولَيَيْنِ وَرَفَعَهُ فِي الثَّالِثَةِ وَقَالَ: هَكَذَا فَعَلَ إلَى آخِرِهِ، وَإِذَا صَحَّ الرَّفْعُ فَالْجَوَابُ إمَّا بِأَنَّهُ فَعَلَهُ لِضِيقِ الْمَكَانِ كَقَوْلِ الْمُصَنِّفِ، أَوْ مَا قَالَ الْحَازِمِيُّ إنَّهُ مَنْسُوخٌ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَعْلَمُ هَذِهِ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ إذْ فِيهَا التَّطْبِيقُ، وَأَحْكَامٌ أُخْرَى هِيَ الْآنَ مَتْرُوكَةٌ وَهَذَا مِنْ جُمْلَتِهَا. وَلَمَّا قَدِمَ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ تَرَكَهُ بِدَلِيلِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ «جَابِرٍ قَالَ سِرْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ فَقَامَ يُصَلِّي، فَجِئْتُ حَتَّى قُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَجَاءَ ابْنُ صَخْرٍ حَتَّى قَامَ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَنَا بِيَدَيْهِ جَمِيعًا فَدَفَعَنَا حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ» فَهَذَا دَالٌّ، عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْآخِرُ لِأَنَّ جَابِرًا إنَّمَا شَهِدَ الْمَشَاهِدَ الَّتِي بَعْدَ بَدْرٍ انْتَهَى. وَغَايَةُ مَا فِيهِ خَفَاءُ النَّاسِخِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ إذَا لَمْ يَكُنْ دَأْبُهُ صلى الله عليه وسلم إلَّا إمَامَةَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ دُونَ الِاثْنَيْنِ إلَّا فِي النُّدْرَةِ كَهَذِهِ الْقِصَّةِ. وَحَدِيثُ الْيَتِيمِ وَهُوَ فِي دَاخِلِ بَيْتِ امْرَأَةٍ فَلَمْ يَطَّلِعْ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى خِلَافِ مَا عَلِمَهُ، وَحَدِيثُ الْيَتِيمِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ «عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: قُومُوا فَلِأُصَلِّيَ لَكُمْ، فَقُمْتُ إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لَبِسَ فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا فَصَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ». وَمَرْجِعُ ضَمِيرِ جَدَّتِهِ إِسْحَاقُ، وَهِيَ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْيَتِيمُ هُوَ ضَمْرَةُ بْنُ سَعْدٍ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: لَكِنْ عَلَى كِلَا الْجَوَابَيْنِ لَا يَتَّجِهُ ثُبُوتُ الْإِبَاحَةِ أَمَّا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فَسْخِ سُنِّيَّةِ مَا فَعَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلِأَنَّ عِلَّةَ قَوْلِنَا إذَا نُسِخَ صِفَةُ الْوُجُوبِ لَا تَبْقَى صِفَةُ الْجَوَازِ: أَعْنِي الْإِبَاحَةَ هِيَ أَنَّ الْإِبَاحَةَ بِمَعْنَى رَفْعِ الْحَرَجِ عَنْ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ بِخِطَابِ ذَلِكَ لَيْسَتْ ثَابِتَةً فِي ضِمْنِ الْوُجُوبِ لِيَصْدُقَ انْتِفَاءُ الْحَقِيقَةِ بِرَفْعِ جُزْئِهَا وَيَبْقَى الْجُزْءُ الْآخَرُ لِأَنَّهَا قَسِيمَتُهُ لِمُنَافَاتِهَا لَهُ بِالْفِعْلِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ هُنَا لِعَدَمِ الِاسْتِوَاءِ فِي السُّنِّيَّةِ لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الْفِعْلِ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ فِي ضِمْنِهَا الْإِبَاحَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَجُزْءُ حَقِيقَتِهَا عَدَمُ تَرَجُّحِ الْفِعْلِ بِعَيْنِ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ فَفِي ثُبُوتِهَا مَوْقُوفًا عَلَى خُصُوصِ دَلِيلٍ فِيهَا وَلَمْ يُوجَدْ، وَأَمَّا عَلَى جَوَابِ الْمُصَنِّفِ فَلِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ دَفْعِهِ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَيْنِ أَبْلَغُ مِنْ الْمَنْعِ الْقَوْلِيِّ وَهُوَ يَنْفِي الْإِبَاحَةَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ التَّوَسُّطُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَيْهِ، وَمَا رَوَاهُ أَنَسٌ عَلَى السُّنِّيَّةِ حَمْلًا لِرَفْعِ التَّعَارُضِ بِنَاءً عَلَى أَنْ لَا قَائِلَ بِالْقَلْبِ وَدَفْعُ الرَّجُلَيْنِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ لَا لِلْكَرَاهَةِ. وَفِي الْكَافِي: وَإِنْ كَثُرَ الْقَوْمُ كُرِهَ قِيَامُ الْإِمَامِ وَسَطَهُمْ لِأَنَّ تَقَدُّمَ الْإِمَامِ سُنَّةٌ لِمُوَاظَبَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَالْإِعْرَاضُ عَنْ سُنَّتِهِ مَكْرُوهٌ انْتَهَى. وَالْحَقُّ أَنْ يُعَلَّلَ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ لِأَنَّ مُقْتَضَى فِعْلِهِ التَّقَدُّمُ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْ غَيْرِ تَرْكِ الْوُجُوبِ، فَيَكُونُ التَّوَسُّطُ مَكْرُوهًا كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَهُوَ صَرِيحُ الْهِدَايَةِ فِيمَا قَدَّمْنَا فِي صَدْرِ إقَامَةِ الْمَرْأَةِ النِّسَاءَ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ ارْتِكَابِ مُحَرَّمٍ وَهُوَ قِيَامُ الْإِمَامِ وَسَطَ الصَّفِّ، وَلَوْ قَامَ فِي يَمْنَةِ الصَّفِّ أَوْ يَسْرَتِهِ أَسَاءُوا، وَلَوْ قَامَ وَاحِدٌ بِجَنْبِ الْإِمَامِ وَخَلْفَهُ صَفٌّ يُكْرَهُ بِالْإِجْمَاعِ، كَذَا فِي الدِّرَايَةِ، وَفِيهَا الْأَصَحُّ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقُومَ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ أَوْ زَاوِيَةِ أَوْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ
فَهَذَا لِلْأَفْضَلِيَّةِ وَالْأَثَرُ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ.
(وَلَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ أَنْ)(يَقْتَدُوا بِامْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ) أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا» وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَلِأَنَّهُ مُتَنَفِّلٌ فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِهِ. وَفِي التَّرَاوِيحِ وَالسُّنَنِ الْمُطْلَقَةِ جَوَّزَهُ مَشَايِخُ بَلْخٍ، وَلَمْ يُجَوِّزْهُ مَشَايِخُنَا رحمهم الله، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّقَ الْخِلَافَ فِي النَّفْلِ الْمُطْلَقِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
أَوْ إلَى سَارِيَةٍ لِأَنَّهُ خِلَافُ عَمَلِ الْإِمَامَةِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقُومَ فِي الصَّفِّ الْآخَرِ إذَا خَافَ إيذَاءَ أَحَدٍ، وَفِي كَرَاهَةِ تَرْكِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ مَعَ إمْكَانِ الْوُقُوفِ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَلَوْ اقْتَدَى وَاحِدٌ بِآخَرَ فَجَاءَ ثَالِثٌ يَجْذِبُ الْمُقْتَدِيَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ وَلَوْ جَذَبَهُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ لَا يَضُرُّهُ، وَقِيلَ يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ، وَعَنْ أَحْمَدَ رحمه الله لَا تَصِحُّ لِمَا فِي أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْهُ «صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ» وَاسْتَدَلَّ لِلْجَوَازِ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ «أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَاكِعٌ فَرَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ثُمَّ وَثَبَ حَتَّى انْتَهَى إلَى الصَّفِّ: فَلَمَّا سَلَّمَ صلى الله عليه وسلم قَالَ إنِّي سَمِعْت نَفَسًا عَالِيًا فَأَيُّكُمْ الَّذِي رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ، ثُمَّ مَشَى إلَى الصَّفِّ فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ خَشِيتُ أَنْ تَفُوتَنِي الرَّكْعَةُ فَرَكَعْتُ دُونَ الصَّفِّ ثُمَّ لَحِقْتُ الصَّفَّ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ» فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالْإِعَادَةِ كَانَ اسْتِحْبَابًا. وَلِلْكَرَاهَةِ قَالُوا إذَا جَاءَ وَالصَّفُّ مَلْآنُ يَجْذِبُ وَاحِدًا مِنْهُ لِيَكُونَ هُوَ مَعَهُ صَفًّا آخَرَ، وَيَنْبَغِي لِذَلِكَ أَنْ لَا يُجِيبَهُ فَتَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ عَنْ هَذَا لِأَنَّهُ فَعَلَ وُسْعَهُ
(قَوْلُهُ فَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " أَخِّرُوهُنَّ إلَخْ ") سَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُحَاذَاةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (قَوْلُهُ: وَالسُّنَنِ الْمُطْلَقَةِ) أَيْ الرَّوَاتِبَ وَصَلَاةَ الْعِيدِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالْوَتْرَ عِنْدَهُمَا وَالْكُسُوفَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءَ عِنْدَهُمَا (قَوْلُهُ جَوَّزَهُ مَشَايِخُ بَلْخٍ) قِيَاسًا عَلَى الْمَظْنُونِ، وَلَمْ يُجَوِّزْهُ
وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا لِأَنَّ نَفْلَ الصَّبِيِّ دُونَ نَفْلِ الْبَالِغِ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يَبْنِي الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ، بِخِلَافِ الْمَظْنُونِ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ فَاعْتُبِرَ الْعَارِض عَدَمًا. وَبِخِلَافِ اقْتِدَاءِ الصَّبِيِّ بِالصَّبِيِّ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُتَّحِدَةٌ.
مَشَايِخُنَا الْبُخَارِيُّونَ وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّقَ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي النَّفْلِ الْمُطْلَقِ فَقَالُوا إنَّهُ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي السُّنَنِ، وَكَذَا فِي النَّفْلِ الْمُطْلَقِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَيَجُوزُ فِيهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَالْمُخْتَارُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ (قَوْلُهُ وَلَا يُبْنَى الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ) قَدْ يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْحِسِّيِّ، أَمَّا الْبِنَاءُ الْحُكْمِيُّ فَلَا، بَلْ الْمَانِعُ فِيهِ عَدَمُ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْفَرْضِ عَلَى النَّفْلِ لِانْتِفَاءِ وَصْفِ الْفَرْضِيَّةِ فِي الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا ثَابِتٌ هُنَا، فَإِنَّ نَفْلَ الْبَالِغِ يَصِيرُ وَاجِبَ الْإِتْمَامِ، وَهَذَا الْوُجُوبُ مُنْعَدِمٌ فِي نَفْلِ الصَّبِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي جَوَازُ الْمَظْنُونِ خَلْفَ ظَهْرِ الصَّبِيِّ. فَالْجَوَابُ هُوَ غَيْرُ مَحْفُوظِ الرِّوَايَةِ. وَلَنَا أَنْ نَمْنَعَهُ بِنَاءً عَلَى الْفَسَادِ فِي زَعْمِ الْمُقْتَدِي فَإِنَّهُ حَالُ الشُّرُوعِ بِظَنِّ الْوُجُوبِ وَيُعْلَمُ انْتِفَاءً مِنْ ظَهْرِ الصَّبِيِّ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْمَظْنُونِ) وَهُوَ الْمُؤَدِّي عَلَى ظَنِّ قِيَامِ وُجُوبِهِ إذَا ظَهَرَ بَعْدَ إفْسَادِهِ عَدَمُ وُجُوبِهِ بِظُهُورِ أَنَّهُ كَانَ أَدَّاهُ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ. وَمَعَ هَذَا صَحَّ بِنَاءُ نَفْلِ الْبَالِغِ عَلَيْهِ فَقَدْ بَنَى الْمَظْنُونَ عَلَى غَيْرِ الْمَظْنُونِ. أَجَابَ بِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، إذْ عِنْدَ زُفَرَ يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الظَّانِّ إذَا أَفْسَدَ الْمَظْنُونَ قَاسَهُ عَلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ الْإِحْرَامِ بِنُسُكٍ مَظْنُونٍ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ حَتَّى إذَا ظَهَرَ لَهُ أَنْ لَا نُسُكَ عَلَيْهِ كَانَ إحْرَامُهُ لَازِمًا لِلنَّفْلِ، وَالصَّدَقَةُ الْمَظْنُونُ وُجُوبُهَا إذَا تَبَيَّنَ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا مِنْ الْفَقِيرِ. وَالْجَوَابُ الْفَرْقُ بِالْعِلْمِ بِفَرْقِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ إحْرَامِهِ وَلَوْ عَرَضَتْ ضَرُورَةٌ تُوجِبُ رَفْضَهُ إلَّا بِأَفْعَالٍ أَوْ دَمٍ ثُمَّ قَضَاءٍ أَصْلُهُ مَنْ أُحْصِرَ وَاضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ أَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ لَمْ يَتَمَكَّنْ شَرْعًا مِنْ الْخُرُوجِ بِلَا لُزُومِ شَيْءٍ ثُمَّ الْقَضَاءِ؛ وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَإِنَّ الدَّفْعَ عَلَى ذَلِكَ الظَّنِّ يُوجِبُ أَمْرَيْنِ: سُقُوطَ الْوَاجِبِ، وَثُبُوتَ الثَّوَابِ، فَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ مُنْتَفِيًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ثَبَتَ الْآخَرُ لِأَنَّهُ دَفَعَهُ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَطْلُبُ بِهِ ثَوَابَهُ وَقَدْ حَصَلَ، وَثَبَتَ الْمِلْكُ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ لِلْفَقِيرِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَفْعِهِ، بِخِلَافِ مَنْ دَفَعَ لِقَضَاءِ دَيْنٍ بِظَنِّهِ وَلَا دَيْنَ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ مِلْكُ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ فَكَانَ بِسَبِيلٍ مِنْ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَقَدْ ثَبَتَ شَرْعًا قَبُولُ مَا هُوَ مِنْهَا لِلرَّفْضِ إجْمَاعًا كَمَا فِي زِيَادَةِ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ وَتَمَامِ الرَّكْعَةِ أَيْضًا عَلَى الْخِلَافِ فَلَمْ يَلْزَمْ لُزُومُهُمَا إذَا ظَهَرَ عَدَمُ وُجُوبِهَا، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهَا إلَّا مُسْقِطًا وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. وَسُقُوطُ الضَّمَانِ عِنْدَنَا بِعَارِضِ الظَّنِّ وَالْأَصْلُ فِي نَفْلِ الْبَالِغِ الضَّمَانُ، وَالْعَارِضُ لَا يُعَارِضُ الْأَصْلَ
(وَيَصُفُّ الرِّجَالَ ثُمَّ الصِّبْيَانَ ثُمَّ النِّسَاءَ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى»
فَاعْتُبِرَ عَارِضُ الظَّنِّ عَدَمًا فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي فَاتَّحَدَ حَالُهُمَا فَكَانَ اقْتِدَاءُ الْمَظْنُونِ بِالْمَظْنُونِ نَظَرًا إلَى الْأَصْلِ، وَسُقُوطُ الْوَصْفِ هُنَا بِأَمْرٍ أَصْلِيٍّ وَهُوَ الصِّبَا فَلَمْ يَصِحَّ جَعْلُهُ مَعْدُومًا فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي فَلَمْ يَتَّحِدْ حَالُهُمَا كَذَا فِي الْكَافِي. وَمَا نُقِلَ مِنْ الْمُحَسِّنِ مِنْ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ صَلَاةَ الصَّبِيِّ صَلَاةٌ أَمْ لَا. فَقِيلَ لَا، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِهَا تَخَلُّقًا دَلَّ عَلَيْهِ لَوْ صَلَّتْ الْمُرَاهِقَةُ بِغَيْرِ قِنَاعٍ جَازَتْ، وَقِيلَ نَعَمْ دَلَّ عَلَيْهِ لَوْ قَهْقَهَتْ فِيهَا أُمِرَتْ بِالْوُضُوءِ فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ لَوْ اُتُّفِقَ عَلَى أَنَّهَا صَلَاةٌ صَحَّ الْخِلَافُ، فَإِنَّ دَلِيلَ الْمَانِعِ يَتَنَاوَلُهَا بِتَقْدِيرِ كَوْنِهَا صَلَاةً، نَعَمْ لَوْ اُتُّفِقَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ صَلَاةً لَمْ يَتَأَتَّ، الْخِلَافُ فِي عَدَمِ الْجَوَازِ
(قَوْلُهُ لِيَلِنِي إلَخْ) فِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ إيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الْأَسْوَاقِ» قِيلَ اسْتِدْلَالُهُ بِهِ عَلَى سُنِّيَّةِ صَفِّ الرِّجَالِ ثُمَّ الصَّبِيَّانِ ثُمَّ النِّسَاءِ لَا يَتِمُّ إنَّمَا فِيهِ تَقْدِيمُ الْبَالِغِينَ أَوْ نَوْعٍ مِنْهُمْ، وَالْأَوْلَى الِاسْتِدْلَال بِمَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ «عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَشْعَرِيِّينَ اجْتَمِعُوا وَاجْمَعُوا نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ حَتَّى أُرِيَكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاجْتَمَعُوا وَجَمَعُوا أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَأَرَاهُمْ كَيْفَ يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَفَّ الرِّجَالَ فِي أَدْنَى الصَّفِّ، وَصَفَّ الْوِلْدَانَ خَلْفَهُمْ، وَصَفَّ النِّسَاءَ خَلْفَ الصِّبْيَانِ» الْحَدِيثَ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ. وَالْأَحْلَامُ جَمْعُ حُلْمٍ بِالضَّمِّ، وَهُوَ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ تَقُولُ مِنْهُ حَلَمَ بِالْفَتْحِ وَاحْتَلَمَ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا يَرَاهُ النَّائِمُ مِنْ دَلَالَةِ الْبُلُوغِ فَدَلَالَتُهُ عَلَى الْبُلُوغِ الْتِزَامِيَّةٌ فَلَا يَلْزَمُ كَوْنُ الْمُرَادِ هُنَا لِيَلِنِي الْبَالِغُونَ لِيَكُونَ مَجَازًا لِاسْتِعْمَالِهِ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ لِجَوَازِ إرَادَةِ حَقِيقَتِهِ وَيُعْلَمُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ، لِأَنَّهُ إذَا أَمَرَ أَنْ يَلِيَهُ مِنْ الصَّفِّ مَلْزُومُ الْبُلُوغِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَلِيَهُ الْبَالِغُونَ، وَلَوْ قِيلَ إنَّ الْبُلُوغَ نَفْسُ الِاحْتِلَامِ أَوْ بُلُوغُ سِنٍّ مَخْصُوصَةٍ كَانَ إرَادَتُهُمْ بِاللَّفْظَيْنِ حَقِيقِيًّا لَا مَجَازِيًّا. وَالنُّهَى جَمْعُ نُهْيَةٍ وَهُوَ الْعَقْلُ، وَفِي تَفْسِيرِ الْأَحْلَامِ بِالْعُقُولِ لُزُومٌ لِتَكْرَارٍ فِي الْحَدِيثِ فَلْيُجْتَنَبْ إذْ لَا ضَرُورَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ صَفَّ الْخَنَاثَى بَيْنَ الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ وَبَعْدَ النِّسَاءِ الْمُرَاهِقَاتِ. وَلْنَسُقْ نُبْذَةً مِنْ سُنَنِ الصَّفِّ تَكْمِيلًا، مِنْ سُنَنِهِ التَّرَاصُّ فِيهِ وَالْمُقَارَبَةُ بَيْنَ الصَّفِّ وَالصَّفِّ وَالِاسْتِوَاءُ فِيهِ، فَفِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ الْبَرَاءِ. «كَانَ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي نَاحِيَةَ الصَّفِّ فَيُسَوِّي بَيْنَ صُدُورِ الْقَوْمِ وَمَنَاكِبِهِمْ وَيَقُولُ لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ» وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ صلى الله عليه وسلم «اسْتَوُوا تَسْتَوِ قُلُوبُكُمْ وَتَمَاسُّوا تَرَاحَمُوا» وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إلَّا التِّرْمِذِيَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالُوا وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا، قَالَ: يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ «فَكَانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ» وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أُقِيمُوا الصُّفُوفَ وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ وَسُدُّوا الْخَلَلَ وَلِينُوا بِأَيْدِي إخْوَانِكُمْ لَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ
وَلِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ مُفْسِدَةٌ فَيُؤَخَّرْنَ (وَإِنْ حَاذَتْهُ امْرَأَةٌ وَهُمَا مُشْتَرَكَانِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ إنْ نَوَى الْإِمَامُ إمَامَتَهَا) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَفْسُدَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله اعْتِبَارًا بِصَلَاتِهَا حَيْثُ لَا تَفْسُدُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رَوَيْنَاهُ وَأَنَّهُ مِنْ الْمَشَاهِيرِ
اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ» وَرَوَى الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ سَدَّ فُرْجَةً فِي الصَّفِّ غُفِرَ لَهُ» وَفِي أَبِي دَاوُد عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «خِيَارُكُمْ أَلْيَنُكُمْ مَنَاكِبَ فِي الصَّلَاةِ» وَبِهَذَا يُعْلَمُ جَهْلُ مَنْ يَسْتَمْسِكُ عِنْدَ دُخُولِ دَاخِلٍ يُجَنِّبُهُ فِي الصَّفِّ وَيَظُنُّ أَنَّ فَسْحَهُ لَهُ رِيَاءٌ بِسَبَبِ أَنَّهُ يَتَحَرَّكُ لِأَجْلِهِ، بَلْ ذَاكَ إعَانَةٌ لَهُ عَلَى إدْرَاكِ الْفَضِيلَةِ وَإِقَامَةٌ لِسَدِّ الْفُرُجَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي الصَّفِّ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا شَهِيرَةٌ كَثِيرَةٌ (قَوْلُهُ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رَوَيْنَاهُ وَأَنَّهُ مِنْ الْمَشَاهِيرِ) يَعْنِي أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ رَفْعُهُ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مِنْ الْمَشَاهِيرِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي مَعْمَرَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ يُصَلُّونَ جَمِيعًا، فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَلْبَسُ الْقَالِبَيْنِ فَتَقُومُ عَلَيْهِمَا فَتُوَاعِدُ حَلِيلَهَا فَأُلْقِيَ عَلَيْهِمْ الْحَيْضُ، فَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ، قِيلَ فَمَا الْقَالِبَانِ؟ قَالَ أَرْجُلٌ مِنْ خَشَبٍ تَتَّخِذُهَا النِّسَاءُ يَتَشَرَّفْنَ الرِّجَالَ فِي الْمَسَاجِدِ. وَفِي الْغَايَةِ عَنْ شَيْخِهِ يَرْوِيهِ: الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ، وَالنِّسَاءُ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ، وَأَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ. وَيَعْزُوهُ إلَى مُسْنَدِ رَزِينٍ. قِيلَ وَذَكَرَ أَنَّهُ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ وَقَدْ تُتُبِّعَ فَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِحَدِيثِ إمَامَةِ أَنَسٍ وَالْيَتِيمِ الْمُتَقَدِّمِ حَيْثُ قَامَتْ الْعَجُوزُ مِنْ وَرَاءِ أَنَسٍ وَالْيَتِيمِ فَقَدْ قَامَتْ مُنْفَرِدَةً خَلْفَ صَفٍّ وَهُوَ مُفْسِدٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ رحمه الله لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَمْرِ بِالْإِعَادَةِ، أَوْ لَا يَحِلُّ وَهُوَ مَعْنَى الْكَرَاهَةِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " وَلَا تَعُدْ " وَلَوْ حَلَّ مَقَامَهَا مَعَهُمَا لَمَنَعَهَا وَبِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إمَامَتِهَا لِلرَّجُلِ، فَإِنَّهُ إمَّا لِنُقْصَانِ حَالِهَا أَوْ لِعَدَمِ صَلَاحِيَّتِهَا لِلْإِمَامَةِ مُطْلَقًا، أَوْ لِفَقْدِ شَرْطٍ أَوْ لِتَرْكِ فَرْضِ الْمَقَامِ وَالْحَصْرِ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَعَدَمِ وُجُودِ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا كَافٍ مَا لَمْ يَرِدْ صَرِيحُ النَّقْضِ لِمَا عُرِفَ أَنَّهُ يَكْفِي فِي حَصْرِ الْأَوْصَافِ قَوْلُ السَّابِرِ الْعَدْلِ: بَحَثْت فَلَمْ أَجِدْ، لَا يَجُوزُ الْأَوَّلُ لِجَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالْفَاسِقِ وَالْعَبْدِ، وَلَا الثَّانِي لِصَلَاحِيَّتِهَا لِإِمَامَةِ النِّسَاءِ، وَلَا الثَّالِثُ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ حُصُولُ الشُّرُوطِ فَتَعَيَّنَ الرَّابِعُ، وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا قِيَاسُ حُكْمٍ أَصْلُهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ خَرَجَ مَنَاطُهُ بِالسَّبْرِ، وَهُوَ مَسْلَكٌ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهِ وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى نَفْيِهِ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ صِحَّةِ طَرِيقِهِ فَهُوَ وَمَا قَبْلَهُ إنَّمَا يُفِيدُ أَنَّ حُرْمَةَ تَحَاذِيهِمَا تَرْكُ فَرْضِ الْمَقَامِ، ثُمَّ كَوْنُهُ مُفْسِدًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ فُرُوضَ الْجَمَاعَةِ يَصِحُّ إثْبَاتُهَا بِالْآحَادِ لِأَنَّ أَصْلَهَا بِهِ، وَارْجِعْ إلَى مَا مَهَّدْنَاهُ فِي أَوَّلِ بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ يَزُولُ عَنْك الرَّيْبُ، إلَّا أَنَّ قَصْرَ الْفَسَادِ عَلَيْهِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً إلَّا أَنَّ تَعَلُّقَهَا بِهَا كَيْ لَا تُفْسِدَهَا عَلَيْهِ لَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِيهَا، بِخِلَافِ تَعَلُّقِهَا بِهِ فَهُوَ كَتَأَخُّرِ الْإِمَامِ عَنْ الْمَأْمُومِينَ حَتَّى صَارُوا مُقَدَّمِينَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَتَقَدَّمُوا، إلَّا أَنَّ عَدَمَ الْحِلِّ لَهُمْ لِفَسَادِ صَلَاتِهِمْ وَعَدَمِهِ لِمَعْنًى فِيهِمْ لَا فِيهِ وَهُوَ كَيْ لَا تَفْسُدَ عَلَيْهِمْ فَأَفْسَدَ تَأْخِيرُهُ صَلَاتَهُمْ لَا صَلَاتَهُ كَذَلِكَ هُنَا تَفْسُدُ بِمُحَاذَاتِهَا صَلَاتُهُ لَا صَلَاتُهَا، إلَّا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يَتَوَقَّفُ عَلَى إثْبَاتِ كَوْنِ الْحُرْمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ لِلْإِفْسَادِ عَلَيْهِ فَقَطْ، وَلَا مَلْجَأَ فِيهِ إلَّا حَدِيثُ أَخِّرُوهُنَّ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِهِ، لَكِنْ يَنْتَهِضُ مَحَلُّ النِّزَاعِ عَلَى الْخَصْمِ لِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ فَسَادُ صَلَاتِهِ، أَمَّا عَدَمُهُ فِي صَلَاتِهَا فَبِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّمَا هَذَا إشْكَالٌ مَذْهَبِيٌّ لَا يَضُرُّ فِي انْتِهَاضِ الْمُدَّعِي عَلَى الْمُخَالِفِ، هَذَا وَأَمَّا مُحَاذَاةُ الْأَمْرَدِ فَصَرَّحَ الْكُلُّ بِعَدَمِ إفْسَادِهِ إلَّا مَنْ شَذَّ، وَلَا مُتَمَسِّكَ لَهُ فِي الرِّوَايَةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَلَا فِي الدِّرَايَةِ لِتَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّ الْفَسَادَ فِي الْمَرْأَةِ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِعُرُوضِ الشَّهْوَةِ بَلْ هُوَ لِتَرْكِ فَرْضِ الْمَقَامِ وَلَيْسَ هَذَا فِي الصَّبِيِّ، وَمَنْ تَسَاهَلَ فَعَلَّلَ بِهِ صَرَّحَ بِنَفْيِهِ فِي الصَّبِيِّ مُدَّعِيًا عَدَمَ اشْتِهَائِهِ فَحَصَلَ أَنَّ مَظِنَّةَ الشَّهْوَةِ الْأُنُوثَةُ، وَبِاعْتِبَارِ الْمَظِنَّةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ لَا بِاعْتِبَارِ مَا قَدْ يَتَّفِقُ مِنْ اشْتِهَاءِ الذَّكَرِ الذَّكَرَ فَقَدْ يَتَّفِقُ ذَلِكَ فِي الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ وَالْبَهِيمَةِ
وَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِهِ دُونَهَا فَيَكُونُ هُوَ التَّارِكُ لِفَرْضِ الْمَقَامِ فَتَفْسُدَ صَلَاتُهُ دُونَ صَلَاتِهَا، كَالْمَأْمُومِ إذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْإِمَامِ (وَإِنْ لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهَا لَمْ تَضُرَّهُ وَلَا تَجُوزُ صَلَاتُهَا) لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ لَا يَثْبُتُ دُونَهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رحمه الله، أَلَا تَرَى أَنَّهُ
وَلَا عِبْرَةَ فِي ذَلِكَ فَهَذَا كَذَلِكَ، وَقَالُوا: إنَّ اشْتِهَاءَ الذَّكَرِ يَكُونُ عَنْ انْحِرَافٍ فِي الْمِزَاجِ، وَقَدْ سَمَّاهُمْ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ النُّتَّنَ تَنْفِيرًا، بِخِلَافِ اشْتِهَاءِ الْأُنْثَى فَإِنَّهُ الطَّبْعُ السَّلِيمُ. وَفِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ: إذَا حَاذَتْهُ بَعْدَمَا شَرَعَ وَنَوَى إمَامَتَهَا فَلَمْ يُمْكِنْهُ التَّأْخِيرُ بِالتَّقَدُّمِ خُطْوَةً أَوْ خُطْوَتَيْنِ لِلْكَرَاهَةِ فِي ذَلِكَ فَتَأْخِيرُهَا بِالْإِشَارَةِ وَمَا أَشْبَهَهُ، فَإِذَا فَعَلَ فَقَدْ أَخَّرَ فَيَلْزَمُهَا التَّأَخُّرُ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ تَرَكَتْ حِينَئِذٍ فَرْضَ الْمَقَامِ فَتَفْسُدَ صَلَاتُهَا دُونَهُ (قَوْلُهُ وَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِهِ إلَخْ) إشَارَةً إلَى اشْتِرَاطِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ فِي الذَّكَرِ، فَإِنَّ الْخِطَابَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، كَذَا فِي بَعْضِ شُرُوحِ الْجَامِعِ فَلَا
يَلْزَمُهُ التَّرْتِيبُ فِي الْمَقَامِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْتِزَامِهِ كَالِاقْتِدَاءِ، إنَّمَا يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْإِمَامَةِ إذَا ائْتَمَّتْ مُحَاذِيَةً. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِجَنْبِهَا رَجُلٌ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالْفَرْقُ عَلَى إحْدَاهُمَا أَنَّ الْفَسَادَ فِي الْأَوَّلِ لَازِمٌ، وَفِي الثَّانِي مُحْتَمَلٌ (وَمِنْ شَرَائِطِ الْمُحَاذَاةِ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ مُشْتَرَكَةً، وَأَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً، وَأَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الشَّهْوَةِ. وَأَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا
تَفْسُدُ صَلَاةُ الصَّبِيِّ بِالْمُحَاذَاةِ عَلَى هَذَا (قَوْلُهُ عَلَى إحْدَاهُمَا) وَهِيَ رِوَايَةُ عَدَمِ الْفَسَادِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اقْتِدَاءَهُنَّ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ عِنْدَ كَثِيرٍ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَعِنْدَ الْأَكْثَرِ يَجُوزُ بِدُونِهَا نَظَرًا إلَى إطْلَاقِ الْجَوَابِ حَمْلًا عَلَى وُجُودِ النِّيَّةِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ تُسْتَفْسَرْ حَالُهُ (قَوْلُهُ وَمِنْ شَرَائِطِ إلَخْ) جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ لَهُ شُرُوطٌ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهَا: الْأَوَّلُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ مُشْتَرَكَةً تَحْرِيمَةً وَأَدَاءً، وَمَعْنَى الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَا بَانِيَيْنِ تَحْرِيمَتَهُمَا عَلَى تَحْرِيمَةِ إمَامٍ أَوْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَؤُمُّ الْآخَرَ فِيمَا يَصِحُّ اتِّفَاقًا، فَلَوْ اقْتَدَتْ نَاوِيَةُ الْعَصْرِ بِمُصَلِّي الظُّهْرِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ حَيْثُ الْفَرْضُ وَصَحَّ نَفْلًا فَحَاذَتْهُ، فَفِي رِوَايَةِ بَابِ الْأَذَانِ تَفْسُدُ، وَفِي رِوَايَةِ بَابِ الْحَدَثِ مِنْ الْمَبْسُوطِ لَا تَفْسُدُ، وَقِيلَ رِوَايَةُ
حَائِلٌ) لِأَنَّهَا عُرِفَتْ مُفْسِدَةً بِالنَّصِّ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ
بَابِ الْأَذَانِ قَوْلُهُمَا وَرِوَايَةُ بَابِ الْحَدَثِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ صَلَاةِ الْفَجْرِ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فِي خِلَالِهَا عِنْدَهُمَا تَنْقَلِبُ نَفْلًا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَفْسُدُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَتْ ابْتِدَاءَ النَّفْلِ حَيْثُ تَفْسُدُ بِلَا تَرَدُّدٍ، وَمَعْنَى الثَّانِي أَنْ يَكُونَ لَهُمَا إمَامٌ فِيمَا يَقْضِيَانِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، فَصَلَاةُ الْمَسْبُوقِينَ فِيمَا يَقْضِيَانِ مُشْتَرَكَةٌ تَحْرِيمَةً لَا أَدَاءً، فَلَا تَفْسُدُ الْمُحَاذَاةُ فِيمَا يَقْضِيَانِ مَسْبُوقَيْنِ، وَتَفْسُدُ فِيمَا يَقْضِيَانِ لَاحِقَيْنِ، وَلَا تَفْسُدُ إذَا حَاذَتْهُ فِي الطَّرِيقِ لِلطَّهَارَةِ فِيمَا إذَا سَبَقَهُمَا الْحَدَثُ فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُشْتَغِلَيْنِ بِالْقَضَاءِ بَلْ بِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ لَا بِحَقِيقَتِهَا وَإِنْ كَانَ فِي حُرْمَتِهَا إذْ حَقِيقَتُهَا قِيَامٌ وَقِرَاءَةٌ إلَخْ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ثَابِتًا، وَقِيَامُهُ فِي حَالِ مَشْيِهِ أَوْ وُضُوئِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ جُزْءًا وَإِلَّا فَسَدَتْ، لِأَنَّ الْمَحْكُومَ بِجُزْئِيَّتِهِ لِلصَّلَاةِ تَفْسُدُ مَعَ الْحَدَثِ، وَإِذَا انْعَدَمَ قَضَاؤُهُمَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ انْعَدَمَتْ الشَّرِكَةُ أَدَاءً، وَاللَّاحِقُ مَنْ يَقْضِي بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مَا فَاتَهُ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ مَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ، وَإِنَّمَا لَمْ نَقُلْ مَنْ أَدْرَكَ أَوَّلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ ثُمَّ فَاتَهُ بَعْضُهَا إلَخْ كَمَا يَقَعُ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ لِخُرُوجِ اللَّاحِقِ الْمَسْبُوقِ، وَفِي الْمُحَاذَاةِ لِهَذَا اللَّاحِقِ تَفْصِيلٌ فِي الْفَسَادِ فَإِنَّهُمَا لَوْ اقْتَدَيَا فِي الثَّالِثَةِ فَأَحْدَثَا فَذَهَبَا لِيَتَوَضَّآ ثُمَّ حَاذَتْهُ فِي الْقَضَاءِ إنْ كَانَ فِي الْأُولَى أَوْ الثَّانِيَةِ وَهِيَ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ لِلْإِمَامِ تَفْسُدُ لِوُجُودِ الشَّرِكَةِ فِيهِمَا لِأَنَّهُمَا فِيهِمَا لَاحِقَانِ. وَإِنْ حَاذَتْهُ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ لَا تَفْسُدُ لِعَدَمِهَا لِأَنَّهُمَا مَسْبُوقَانِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ اللَّاحِقَ الْمَسْبُوقَ يَقْضِي أَوَّلًا مَا لَحِقَ فِيهِ ثُمَّ مَا سُبِقَ بِهِ. وَهَذَا عِنْدَ زُفَرَ ظَاهِرٌ. وَعِنْدَنَا وَإِنْ صَحَّ عَكْسُهُ لَكِنْ يَجِبُ هَذَا فَبِاعْتِبَارِهِ تَفْسُدُ هَذَا. وَأَمَّا مُحَاذَاتُهَا فِي الصَّلَاةِ دُونَ اشْتِرَاكٍ فَمُورِثٌ لِلْكَرَاهَةِ. ثُمَّ لَوْ قِيلَ بَدَلَ مُشْتَرَكَةٍ تَحْرِيمَةً وَأَدَاءً مُشْتَرَكَةً أَدَاءً وَيُفَسَّرُ بِأَنْ يَكُونَ لَهُمَا إمَامٌ فِيمَا يُؤَدِّيَانِهِ حَالَةَ الْمُحَاذَاةِ أَوْ أَحَدُهُمَا إمَامٌ لِلْآخَرِ لَعَمَّ الِاشْتِرَاكَيْنِ. الثَّانِي أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ مُطْلَقَةً أَيْ ذَاتَ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَإِنْ كَانَا يُومِئَانِ فِيهَا لِلْعُذْرِ. الثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الشَّهْوَةِ. أَيْ دَخَلَتْ فِي حَدِّهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَالِ عَجُوزًا شَوْهَاءَ فَيُحْتَرَزُ بِهِ عَمَّنْ لَمْ تَبْلُغْ حَدَّهَا وَحَدُّهَا سَبْعُ سِنِينَ. وَقِيلَ تِسْعٌ، وَالْأَصَحُّ أَنْ تَصْلُحَ لِلْجِمَاعِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْمُحَرَّمِ. الرَّابِعُ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ، فَلَوْ كَانَ مَنَعَ الْمُحَاذَاةَ، وَأَدْنَاهُ قَدْرُ مُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ لِأَنَّ أَدْنَى الْأَحْوَالِ الْقُعُودُ، وَمُؤَخِّرَةُ الرَّحْلِ جُعِلَتْ لِلِارْتِفَاقِ بِهَا فِيهِ فَقَدَّرْنَاهُ بِهَا، وَغِلَظُهُ مِثْلُ الْأُصْبُعِ، وَالْفُرْجَةُ تَقُومُ مَقَامَ الْحَائِلِ، وَأَدْنَاهَا قَدْرُ مَقَامِ الرَّجُلِ. وَفِي الدِّرَايَةِ: وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ تَسَعُ الرَّجُلَ أَوْ أُسْطُوَانَةً قِيلَ لَا تَفْسُدُ، وَكَذَا إذَا قَامَتْ أَمَامَهُ وَبَيْنَهُمَا هَذِهِ الْفُرْجَةُ اهـ. وَيَبْعُدُ النَّظَرُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْقِيلِ إذْ مُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يُفْسِدَ صَفُّ النِّسَاءِ عَلَى الصَّفِّ الَّذِي خَلْفَهُ مِنْ الرِّجَالِ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَلَى دُكَّانٍ قَدْرَ الْقَامَةِ وَالْآخَرُ أَسْفَلَهُ فَلَا مُحَاذَاةَ. وَكَذَا لَوْ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً عَنْهُ بِالْقَدَمِ إلَّا أَنَّهَا أَطْوَلُ مِنْهُ يَقَعُ سُجُودُهَا فِي مَكَان مُتَقَدِّمٍ عَلَيْهِ. الْخَامِسُ أَنْ تَكُونَ الْمُحَاذَاةُ فِي رُكْنٍ كَامِلٍ حَتَّى لَوْ تَحَرَّمَتْ فِي صَفٍّ وَرَكَعَتْ فِي آخَرَ وَسَجَدَتْ فِي ثَالِثٍ فَسَدَتْ صَلَاةُ مَنْ عَنْ يَمِينِهَا وَيَسَارِهَا وَخَلْفِهَا مِنْ كُلِّ صَفٍّ، قِيلَ هَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَوْ وَقَفَتْ قَدْرَهُ فَسَدَتْ وَإِنْ لَمْ تُؤَدِّ، وَقِيلَ لَوْ حَاذَتْهُ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِهِ فَسَدَتْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا إلَّا فِي قَدْرِهِ. السَّادِسُ أَنْ تَتَّحِدَ الْجِهَةُ، فَإِنْ اخْتَلَفَتْ كَمَا فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ وَبِالتَّحَرِّي فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ فَلَا، وَالْجَامِعُ أَنْ يُقَالَ مُحَاذَاةُ مُشْتَهَاةٍ مَنْوِيَّةِ الْإِمَامَةِ فِي رُكْنِ صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ مُشْتَرَكَةٌ تَحْرِيمَةً وَأَدَاءً مَعَ اتِّحَادِ مَكَان وَجِهَةٍ دُونَ حَائِلٍ وَلَا فُرْجَةً، ثُمَّ الْوَاحِدَةُ تُفْسِدُ صَلَاةَ ثَلَاثَةٍ وَاحِدٍ عَنْ يَمِينِهَا وَآخَرَ عَنْ شِمَالِهَا وَآخَرَ خَلْفَهَا لَيْسَ غَيْرُ، فَإِنَّ مَنْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ يَصِيرُ حَائِلًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الَّذِي يَلِيهِ وَالْمَرْأَتَانِ صَلَاةَ أَرْبَعَةٍ اثْنَيْنِ خَلْفَهُمَا وَالْآخَرَيْنِ
فَيُرَاعَى جَمِيعُ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ.
(وَيُكْرَهُ لَهُنَّ حُضُورُ الْجَمَاعَاتِ) يَعْنِي الشَّوَابَّ مِنْهُنَّ لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ الْفِتْنَةِ (وَلَا بَأْسَ لِلْعَجُوزِ أَنْ تَخْرُجَ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (وَقَالَا يَخْرُجْنَ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا) لِأَنَّهُ لَا فِتْنَةَ لِقِلَّةِ الرَّغْبَةِ إلَيْهَا فَلَا يُكْرَهُ كَمَا فِي الْعِيدِ.
لِأَنَّ الْمَثْنَى لَيْسَ جَمْعًا تَامًّا فَكَانَا كَوَاحِدَةٍ فَلَا يَتَعَدَّى الْفَسَادُ إلَى آخِرِ الصُّفُوفِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ الثِّنْتَانِ كَالثَّلَاثِ، وَعَنْهُ: الثَّلَاثُ كَالثِّنْتَيْنِ فَلَا تَفْسُد إلَّا صَلَاةُ خَمْسَةٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ بِالثَّلَاثِ تَفْسُدُ صَلَاةُ وَاحِدٍ عَنْ يَمِينِهِنَّ وَآخَرُ عَنْ شِمَالِهِنَّ وَثَلَاثَةٌ ثَلَاثَةٌ إلَى آخِرِ الصُّفُوفِ. وَفِي رِوَايَةِ الثَّلَاثِ كَالصَّفِّ التَّامِّ فَتَفْسُدُ صَلَاةُ جَمِيعِ الصُّفُوفِ الَّتِي خَلْفَهُنَّ، وَالْقِيَاسُ فِي الصَّفِّ التَّامِّ أَنْ يَفْسُدَ بِهِ صَلَاةُ صَفٍّ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ، لَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فَسَادَ الْكُلِّ بِنَقْلِهِمْ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إمَامِهِ طَرِيقٌ أَوْ نَهْرٌ أَوْ صَفٌّ مِنْ صُفُوفِ النِّسَاءِ فَلَيْسَ هُوَ مَعَ الْإِمَامِ (قَوْلُهُ فَيُرَاعَى جَمِيعُ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ) وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي صَلَاتِهِ مُطْلَقَةً بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ بِهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَهَذَا إنَّمَا يَنْتَهِضُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الصَّلَاةِ مُطْلَقَةً لَا فِي الْكُلِّ وَعَلَّلَ فِي تَلْخِيصِ الْجَامِعِ بِأَنَّ الْمُورَدَ الْجَمَاعَةُ الْمُطْلَقَةُ وَهِيَ بِالشَّرِكَةِ وَالْكَمَالِ
(قَوْلُهُ يَعْنِي الشَّوَابَّ مِنْهُنَّ) تَقْيِيدٌ فِي حَقِّ عَدَمِ الْخِلَافِ فِي إطْلَاقِ الْحُكْمِ لَا فِي أَصْلِ الْحُكْمِ، فَإِنَّ الْعَجُوزَ مَمْنُوعَةٌ عِنْدَهُ فِي الْبَعْضِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» وَقَوْلُهُ «إذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمْ امْرَأَتُهُ إلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا» وَالْعُلَمَاءُ خَصُّوهُ بِأُمُورٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا وَمَقِيسَةٍ، فَمِنْ الْأَوَّلِ مَا صَحَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ» وَكَوْنُهُ لَيْلًا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ فِي مُسْلِمٍ «لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْمَسَاجِدِ إلَّا بِاللَّيْلِ» وَالثَّانِي حُسْنُ الْمُلَابِسِ وَمُزَاحَمَةُ الرِّجَالِ لِأَنَّ إخْرَاجَ الطِّيبِ لِتَحْرِيكِهِ الدَّاعِيَةُ فَلَمَّا فُقِدَ الْآنَ مِنْهُنَّ هَذَا لِأَنَّهُنَّ يَتَكَلَّفْنَ لِلْخُرُوجِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي الْمَنْزِلِ مُنِعْنَ مُطْلَقًا لَا يُقَالُ: هَذَا حِينَئِذٍ نُسِخَ بِالتَّعْلِيلِ. لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَنْعُ يَثْبُتُ حِينَئِذٍ بِالْعُمُومَاتِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّفْتِينِ، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِطْلَاقِ بِشَرْطٍ فَيَزُولَ بِزَوَالِهِ كَانْتِهَاءِ الْحُكْمِ بِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها فِي الصَّحِيحِ: لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ بَعْدَهُ لَمَنَعَهُنَّ كَمَا مُنِعَتْ
وَلَهُ أَنَّ فَرْطَ الشَّبَقِ حَامِلٌ فَتَقَعُ الْفِتْنَةُ، غَيْرَ أَنَّ الْفُسَّاقَ انْتِشَارُهُمْ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْجُمُعَةِ، أَمَّا فِي الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ فَهُمْ نَائِمُونَ، وَفِي الْمَغْرِبِ بِالطَّعَامِ مَشْغُولُونَ، وَالْجَبَّانَةُ مُتَّسِعَةٌ فَيُمْكِنُهَا الِاعْتِزَالُ عَنْ الرِّجَالِ فَلَا يُكْرَهُ.
قَالَ (وَلَا يُصَلِّي الطَّاهِرُ خَلْفَ مَنْ هُوَ فِي مَعْنَى الْمُسْتَحَاضَةِ، وَلَا الطَّاهِرَةُ خَلْفَ الْمُسْتَحَاضَةِ) لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَقْوَى حَالًا مِنْ الْمَعْذُورِ، وَالشَّيْءُ لَا يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ فَوْقَهُ، وَالْإِمَامُ ضَامِنٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَضْمَنُ صَلَاتُهُ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي (وَلَا) يُصَلِّي (الْقَارِئُ خَلْفَ الْأُمِّيِّ وَلَا الْمُكْتَسِي خَلْفَ الْعَارِي) لِقُوَّةِ حَالِهِمَا.
نِسَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ، عَلَى أَنَّ فِيهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِسَنَدِهِ فِي التَّمْهِيدِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَرْفَعُهُ «أَيُّهَا النَّاسُ انْهَوْا نِسَاءَكُمْ عَنْ لُبْسِ الزِّينَةِ وَالتَّبَخْتُرِ فِي الْمَسَاجِدِ، فَإِنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ لَمْ يُلْعَنُوا حَتَّى لَبِسَ نِسَاؤُهُمْ الزِّينَةَ وَتَبَخْتَرُوا فِي الْمَسَاجِدِ» وَبِالنَّظَرِ إلَى التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ مُنِعَتْ غَيْرُ الْمُزَيِّنَةِ أَيْضًا لِغَلَبَةِ الْفُسَّاقِ، وَلَيْلًا وَإِنْ كَانَ النَّصُّ يُبِيحُهُ لِأَنَّ الْفُسَّاقَ فِي زَمَانِنَا كَثُرَ انْتِشَارُهُمْ وَتَعَرُّضُهُمْ بِاللَّيْلِ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تَفْرِيعُ مَنْعِ الْعَجَائِزِ لَيْلًا أَيْضًا، بِخِلَافِ الصُّبْحِ فَإِنَّ الْغَالِبَ نَوْمُهُمْ فِي وَقْتِهِ، بَلْ عَمَّمَ الْمُتَأَخِّرُونَ الْمَنْعَ لِلْعَجَائِزِ وَالشَّوَابِّ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ (قَوْلُهُ وَالْجُمُعَةِ) جَعَلَ الْجُمُعَةَ كَالظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الرِّوَايَةِ فِي ذَلِكَ، وَالْمَذْكُورُ رِوَايَةُ الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ، وَرِوَايَةُ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ: الْجُمُعَةُ كَالْعِيدِ وَالْمَغْرِبُ كَالظُّهْرِ فَتَخْرُجُ فِي الْجُمُعَةِ لَا الْمَغْرِبِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ جَعَلَ الْجُمُعَةَ كَالظُّهْرِ وَالْمَغْرِبَ كَالظُّهْرِ، وَلَا نَعْلَمُ قَائِلًا بِالِاحْتِمَالِ الرَّابِعِ، وَالْمُعْتَمَدُ مَنْعُ الْكُلِّ فِي الْكُلِّ إلَّا الْعَجَائِزَ الْمُتَفَانِيَةَ فِيمَا يَظْهَرُ لِي دُونَ الْعَجَائِزِ الْمُتَبَرِّجَاتِ وَذَاتِ الرَّمَقِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ (قَوْلُهُ وَالْجَبَّانَةَ مُتَّسَعَةٌ) بِنَاءً عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ فِي فِنَاءِ الْمِصْرِ، وَفِي مِصْرِنَا هَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ فِي الْمَسَاجِدِ
(قَوْلُهُ خَلْفَ مَنْ هُوَ فِي مَعْنَى الْمُسْتَحَاضَةِ) كَمَنْ بِهِ سَلَسُ بَوْلٍ وَاسْتِطْلَاقُ الْبَطْنِ وَانْفِلَاتُ الرِّيحِ وَالْجُرْحُ السَّائِلُ وَالرُّعَافُ وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ مَعْذُورٍ بِمِثْلِهِ إذَا اتَّحَدَ عُذْرُهُمَا لَا إنْ اخْتَلَفَ (قَوْلُهُ بِمَعْنَى تَضَمَّنَتْ صَلَاتُهُ إلَخْ)
(وَيَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ الْمُتَيَمِّمُ الْمُتَوَضِّئِينَ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ وَالطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ أَصْلِيَّةٌ. وَلَهُمَا أَنَّهُ طَهَارَةٌ مُطْلَقَةٌ وَلِهَذَا لَا يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ
لَا بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ، وَإِذَا كَانَ التَّضَمُّنُ مُرَاعًى فَإِذَا قَدَرَ الْمُؤْتَمُّ عَلَى مَا لَمْ يَقْدِرْ الْإِمَامُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَرْكَانِ كَانَ كَالْمُنْفَرِدِ فِيهِ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ فَلِذَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ وَالْأَخْرَسِ، وَلَا الْأُمِّيُّ بِالْأَخْرَسِ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى التَّحْرِيمَةِ دُونَ الْأَخْرَسِ، وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْأَخْرَسِ بِالْأُمِّيِّ لَا الرَّاكِعِ السَّاجِدِ بِالْمُومِئِ، وَالْأُمِّيُّ عِنْدَنَا مَنْ لَا يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ وَالْمَبْنِيُّ ظَاهِرٌ، وَإِذَا فَقَدَ الْإِمَامُ شَرْطًا حَقِيقَةً اُعْتُبِرَ مَوْجُودًا لِلْحَاجَةِ إلَى الْأَدَاءِ صَارَ مَعْدُومًا فِي حَقِّ مَنْ وَرَاءَهُ، فَلِذَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ اللَّابِسِ بِالْعَارِي وَالطَّاهِرُ بِمَنْ هُوَ بِمَعْنَى الْمُسْتَحَاضَةِ وَالْمُصَنِّفُ عَلَى الْكُلِّ بِعَدَمِ التَّضَمُّنِ لِزِيَادَةِ قُوَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ، وَكُلُّ مَا لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ لَا يَصِيرُ شَارِعًا بِهِ فِي صَلَاةِ نَفْسِهِ فِي رِوَايَةِ بَابِ الْحَدَثِ وَزِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ، فَلَوْ قَهْقَهَةً لَا يَنْتَقِضُ. وَفِي رِوَايَةِ بَابِ الْأَذَانِ يَصِيرُ شَارِعًا. يَعْنِي ثُمَّ يَفْسُدُ، قِيلَ الثَّانِي قَوْلُهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ فَسَادَ الْجِهَةِ لَا يُفْسِدُ التَّحْرِيمَةَ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى عَدَمِهِ
(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ الْمُتَيَمِّمُ الْمُتَوَضِّئِينَ) قَيَّدَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَعَ الْمُتَوَضِّئِينَ مَاءٌ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَأَصْلُهُ فَرْعٌ إذَا رَأَى الْمُتَوَضِّئُ الْمُقْتَدِي بِمُتَيَمِّمٍ مَاءً فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَرَهُ الْإِمَامُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، خِلَافًا لِزُفَرَ لِاعْتِقَادِهِ فَسَادَ صَلَاةِ إمَامِهِ لِوُجُودِ الْمَاءِ، وَمَنَعَهُ زُفَرُ رحمه الله بِأَنَّ وُجُودَهُ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِعِلْمِهِ بِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّ مَحْمَلَ الْفَسَادِ عِنْدَهُمْ إذَا ظَنَّ عِلْمَ إمَامِهِ بِهِ، لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ فَسَادَ صَلَاةِ إمَامِهِ بِذَلِكَ (قَوْلُهُ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ) لَا شَكَّ أَنَّ فِيهَا جِهَةَ الْإِطْلَاقِ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ تَوْقِيتِهَا، بِخِلَافِ طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَجِهَةَ الضَّرُورَةِ
(وَيَؤُمُّ الْمَاسِحُ الْغَاسِلِينَ) لِأَنَّ الْخُفَّ مَانِعٌ سِرَايَةَ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ، وَمَا حَلَّ بِالْخُفِّ يُزِيلُهُ الْمَسْحُ، بِخِلَافِ الْمُسْتَحَاضَةِ لِأَنَّ الْحَدَثَ لَمْ يُعْتَبَرْ شَرْعًا مَعَ قِيَامِهِ حَقِيقَةً (وَيُصَلِّي الْقَائِمُ خَلْفَ الْقَاعِدِ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ لِقُوَّةِ حَالِ الْقَائِمِ وَنَحْنُ تَرَكْنَاهُ بِالنَّصِّ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى آخِرَ صَلَاتِهِ قَاعِدًا وَالْقَوْمُ خَلْفَهُ قِيَامٌ»
بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُصَيِّرَ إلَيْهَا ضَرُورَةُ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ، وَتَعْلِيلُهُ فِي النِّهَايَةِ بِأَنَّهَا طَهَارَةُ تَلْوِيثٍ لَا تَرْفَعُ الْحَدَثَ حَتَّى كَانَ مُحْدِثًا عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ بِالْحَدَثِ السَّابِقِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ أَنَّهَا رَفْعَةٌ. وَصَرَّحَ هُوَ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ فِي الْبَحْثِ مَعَ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ جَوَازِ الْفَرَائِضِ الْمُتَعَدِّدَةِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ خِلَافًا لَهُ فَقَالَ: الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ التَّيَمُّمِ مَاذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا حُكْمُهُ زَوَالُ الْحَدَثِ مُطْلَقًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَا بَقِيَ شَرْطُهُ وَهُوَ الْعَدَمُ كَمَا بِالْمَاءِ، إلَّا أَنَّهُ بِالْمَاءِ مُقَدَّرٌ إلَى وُجُودِ الْحَدَثِ، وَهُنَا إلَى شَيْئَيْنِ: إلَى الْحَدَثِ. وَإِلَى رُؤْيَةِ الْمَاءِ انْتَهَى. وَكَوْنُ الِانْتِقَاضِ عِنْدَ الْوُجُودِ بِظُهُورِ الْحَدَثِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الرَّفْعِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ تَحْقِيقِهِ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ، وَإِذَا ثَبَتَتْ الْجِهَتَانِ فَعَلَّلَ مُحَمَّدٌ رحمه الله هُنَا بِجِهَةِ الضَّرُورَةِ لِنَفْيِ جَوَازِ اقْتِدَاءِ الْمُتَوَضِّئِ احْتِيَاطًا. وَعَلَّلَ فِي بَابِ الرَّجْعَةِ فِيمَا إذَا انْقَطَعَ دَمُ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فِي الْمُعْتَدَّةِ وَأَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ بِجِهَةِ الْإِطْلَاقِ لِانْقِطَاعِ حَقِّ الرَّجْعَةِ احْتِيَاطًا، وَهُمَا اخْتَارَا جَانِبَ الْإِطْلَاقِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا طَهَارَةً كَالْمَاءِ لَيْسَ إلَّا مِنْ أَجْلِهَا. وَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاعْتِبَارِ حَدِيثُ «عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ فَأَجْنَبَ وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ بِالتَّيَمُّمِ لِخَوْفِ الْبَرْدِ. وَعَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ» وَجَانِبُ الضَّرُورَةِ فِي الرَّجْعَةِ. فَلَمْ تَكُنْ طَهَارَةً فِي حَقِّ الرَّجْعَةِ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ فِي الصَّلَاةِ لَا غَيْرُ فَبَقِيَتْ عَلَى الْعَدَمِ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْمَقْصُودُ: أَعْنِي أَنْ يُصَلِّيَ بِهَا لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ اعْتِبَارُهَا عَدَمًا بَعْدَمَا قَوِيَتْ بِاتِّصَالِ الْمَقْصُودِ بِهَا، وَسَنَزِيدُ كَشْفَ الْقِنَاعِ فِي بَابِ الرَّجْعَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الْخُلَاصَةِ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ (قَوْلُهُ وَيُصَلِّي الْقَائِمُ خَلْفَ الْقَاعِدِ) خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَعَكْسُهُ وَالْقَاعِدُ خَلْفَ مِثْلِهِ جَائِزًا اتِّفَاقًا، وَالْمُسْتَوِي بِالْأَحْدَبِ قِيلَ يَجُوزُ مُطْلَقًا. وَذَكَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ إنْ بَلَغَتْ حَدَبَتُهُ الرُّكُوعَ فَعَلَى الْخِلَافِ. قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: هُوَ الْأَقْيَسُ لِأَنَّ الْقِيَامَ اسْتِوَاءُ النِّصْفَيْنِ وَقَدْ وَجَدُوا اسْتِوَاءَ الْأَسْفَلِ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا كَمَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَائِمِ بِالْقَاعِدِ لِاسْتِوَاءِ الْأَعْلَى، وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَفِي الظَّهِيرِيَّةِ لَا تَصِحُّ إمَامَةُ الْأَحْدَبِ لِلْقَائِمِ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ. وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: يَصِحُّ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ (قَوْلُهُ وَهُوَ مَا رُوِيَ إلَخْ) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ «عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقُلْتُ: أَلَا تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ بَلَى، لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قُلْنَا لَا هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ لِلصَّلَاةِ، قَالَ: ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ، فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ فَقُلْنَا لَا هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَتْ وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، قَالَتْ: فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه رَجُلًا رَقِيقًا فَقَالَ: يَا عُمَرُ صَلِّ أَنْتَ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، فَصَلَّى بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ فَأَوْمَأَ إلَيْهِ أَنْ لَا تَتَأَخَّرَ وَقَالَ لَهُمَا أَجْلِسَانِي إلَى جَنْبِهِ، فَأَجْلَسَاهُ إلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ قَائِمٌ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَعَرَضْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثَ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَمَا أَنْكَرَ مِنْهُ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ أَسَمَّتْ لَكَ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْعَبَّاسِ؟ قُلْتُ لَا، قَالَ: هُوَ عَلِيٌّ رضي الله عنه» انْتَهَى. وَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ قَاعِدًا» وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ عَنْ أَنَسٍ «آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْقَوْمِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه» . فَأَوَّلًا لَا يُعَارِضُ مَا فِي الصَّحِيحِ، وَثَانِيًا: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَا تَعَارُضَ فَالصَّلَاةُ الَّتِي كَانَ فِيهَا إمَامًا صَلَاةُ الظُّهْرِ يَوْمَ السَّبْتِ أَوْ الْأَحَدِ، وَاَلَّتِي كَانَ فِيهَا مَأْمُومًا الصُّبْحُ مِنْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَهِيَ آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا حَتَّى خَرَجَ مِنْ الدُّنْيَا. وَلَا يُخَالِفُ هَذَا مَا ثَبَتَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ فِي صَلَاتِهِمْ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَكَشْفِ السِّتْرِ ثُمَّ إرْخَائِهِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، ثُمَّ «إنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَأَدْرَكَ مَعَهُ الثَّانِيَةَ» ، يَدُلُّ مَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي عَنْ الزُّهْرِيِّ وَذَكَرَ أَبُو الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَقْلَعَ عَنْهُ الْوَعَكُ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ فَغَدَا إلَى الصُّبْحِ يَتَوَكَّأُ عَلَى الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَغُلَامٍ لَهُ، وَقَدْ سَجَدَ النَّاسُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه حَتَّى قَامَ إلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، فَاسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ صلى الله عليه وسلم بِثَوْبِهِ فَقَدَّمَهُ فِي مُصَلَّاهُ، فَصَفَّنَا جَمِيعًا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ وَأَبُو بَكْرٍ يَقْرَأُ فَرَكَعَ مَعَهُ الرَّكْعَةَ الْأَخِيرَةَ ثُمَّ جَلَسَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى قَضَى سُجُودَهُ فَتَشَهَّدَ وَسَلَّمَ، وَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالرَّكْعَةِ الْأُخْرَى ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى جِذْعٍ مِنْ جُذُوعِ الْمَسْجِدِ» فَذَكَرَ الْقِصَّةَ فِي عَهْدِهِ إلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِيمَا بَعَثَهُ إلَيْهِ ثُمَّ فِي وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمِئِذٍ أَخْبَرَنَا بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظِ بِسَنَدِهِ إلَى ابْنِ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ عَنْ عُرْوَةَ فَذَكَرَهُ. فَالصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّاهَا أَبُو بَكْرٍ مَأْمُومًا صَلَاةُ الظُّهْرِ وَهِيَ الَّتِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
خَرَجَ فِيمَا بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما، وَاَلَّتِي كَانَ فِيهَا إمَامًا الصُّبْحُ وَهِيَ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا بَيْنَ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَغُلَامٍ لَهُ، فَقَدْ حَصَلَ بِذَلِكَ الْجَمْعُ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا: يَعْنِي إمَامًا. وَالْمُرَادُ بِحَدِيثِ كَشْفِ السِّتَارَةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ «أَنَّهُ كَشَفَهَا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاة، ثُمَّ تَبَسَّمَ ضَاحِكًا وَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبِهِ ظَنًّا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَارِجٌ لِلصَّلَاةِ، فَأَشَارَ إلَيْهِمْ أَنْ أَتِمُّوا، ثُمَّ دَخَلَ وَأَرْخَى السِّتْرَ وَتُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَوْمِ ذَلِكَ» . وَفِي الْبُخَارِيِّ «أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ مَا أَسْنَدَ عَنْ جَابِرٍ وَأُسَيْدُ بْنِ حُضَيْرٍ اقْتِدَاءُ الْجَالِسِينَ بِهِمَا وَهُمَا جَالِسَانِ لِلْمَرَضِ: وَإِنَّمَا فَعَلَا ذَلِكَ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَعْلَمَا بِالنَّاسِخِ، وَكَذَا مَا حُكِيَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَنَّهُمْ أَمُّوا جَالِسِينَ وَالنَّاسُ جُلُوسٌ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، وَعِلْمُ الْخَاصَّةِ يُوجَدُ عِنْدَ بَعْضٍ وَيَعْزُبُ عَنْ بَعْضٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْقَاعِدَ إنْ شَرَعَ قَائِمًا ثُمَّ جَلَسَ صَحَّ اقْتِدَاءُ الْقَائِمِينَ بِهِ، وَإِنْ شَرَعَ جَالِسًا فَلَا وَهُوَ أَنْهَضُ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ لِأَنَّا صَرَّحْنَا بِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْقِيَاسِ صِيرَ إلَيْهِ بِالنَّصِّ. وَقَدْ عُلِمَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إلَى مَحَلِّ الصَّلَاةِ قَائِمًا يُهَادَى ثُمَّ جَلَسَ» ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَبَّرَ قَبْلَ الْجُلُوسِ، وَصَرَّحُوا فِي صَلَاةِ الْمَرِيضِ أَنَّهُ إذَا قَدَرَ عَلَى بَعْضِهَا قَائِمًا وَلَوْ التَّحْرِيمَةَ وَجَبَ الْقِيَامُ بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُتَحَقِّقًا فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم، إذْ مَبْدَأُ حُلُولِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ كَانَ قَائِمًا فَالتَّكْبِيرُ قَائِمًا مَقْدُورُهُ حِينَئِذٍ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَوْرِدُ النَّصِّ حِينَئِذٍ اقْتِدَاءُ الْقَائِمِينَ بِجَالِسٍ شَرَعَ قَائِمًا. قَالَ الْأَعْمَشُ فِي قَوْلِهَا «وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه»: يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ صلى الله عليه وسلم. وَفِي الدِّرَايَةِ: وَبِهِ يُعْرَفُ جَوَازُ رَفْعِ الْمُؤَذِّنِينَ أَصْوَاتَهُمْ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ مَقْصُودُهُ خُصُوصَ الرَّفْعِ الْكَائِنِ فِي زَمَانِنَا، بَلْ أَصْلَ الرَّفْعِ لِإِبْلَاغِ الِانْتِقَالَاتِ، أَمَّا خُصُوصُ هَذَا الَّذِي تَعَارَفُوهُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ فَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ مُفْسِدٌ فَإِنَّهُ غَالِبًا يَشْتَمِلُ عَلَى مَدِّ هَمْزَةِ اللَّهُ أَوْ أَكْبَرُ أَوْ بَائِهِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ وَإِنْ لَمْ يَشْتَمِلْ، فَلِأَنَّهُمْ يُبَالِغُونَ فِي الصِّيَاحِ زِيَادَةً عَلَى حَالَةِ الْإِبْلَاغِ وَالِاشْتِغَالِ بِتَحْرِيرَاتِ النَّغَمِ إظْهَارًا لِلصِّنَاعَةِ النَّغَمِيَّةِ لَا إقَامَةً لِلْعِبَادَةِ، وَالصِّيَاحُ مُلْحَقٌ بِالْكَلَامِ الَّذِي بَسَاطُهُ ذَلِكَ الصِّيَاحُ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ أَنَّهُ إذَا ارْتَفَعَ بُكَاؤُهُ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَا تَفْسُدُ وَلِمُصِيبَةٍ بَلَغَتْهُ تَفْسُدُ، لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ تَعَرَّضَ لِسُؤَالِ الْجَنَّةِ وَالتَّعَوُّذِ مِنْ النَّارِ، وَإِنْ كَانَ يُقَالُ إنَّ الْمُرَادَ إذَا حَصَّلَ بِهِ الْحُرُوفَ وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لَا تَفْسُدُ، وَفِي النَّارِ لِإِظْهَارِهَا، وَلَوْ صَرَّحَ بِهَا فَقَالَ وَامُصِيبَتَاهْ أَوْ أَدْرِكُونِي أَفْسَدَ فَهُوَ بِمَنْزِلَتِهِ. وَهُنَا مَعْلُومٌ أَنَّ قَصْدَهُ إعْجَابُ النَّاسِ بِهِ، وَلَوْ قَالَ اعْجَبُوا مِنْ حُسْنِ صَوْتِي وَتَحْرِيرِي فِيهِ أَفْسَدَ، وَحُصُولُ الْحُرُوفِ لَازِمٌ مِنْ التَّلْحِينِ، وَلَا أَرَى ذَلِكَ يَصْدُرُ مِمَّنْ فَهِمَ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ، كَمَا لَا أَرَى تَحْرِيرَ النَّغَمِ فِي الدُّعَاءِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْقُرَّاءُ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَصْدُرُ مِمَّنْ فَهِمَ مَعْنَى الدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ وَمَا ذَلِكَ إلَّا نَوْعُ لَعِبٍ، فَإِنَّهُ لَوْ قُدِّرَ فِي الشَّاهِدِ سَائِلَ حَاجَةٍ مِنْ مَلِكٍ أَدَّى سُؤَالُهُ وَطَلَبُهُ تَحْرِيرَ النَّغَمِ فِيهِ مِنْ الرَّفْعِ وَالْخَفْضِ وَالتَّغْرِيبِ
(وَيُصَلِّي الْمُومِئُ خَلْفَ مِثْلِهِ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَالِ إلَّا أَنْ يُومِئَ الْمُؤْتَمُّ قَاعِدًا وَالْإِمَامُ مُضْطَجِعًا، لِأَنَّ الْقُعُودَ مُعْتَبَرٌ فَتَثْبُتَ بِهِ الْقُوَّةُ (وَلَا يُصَلِّي الَّذِي يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ خَلْفَ الْمُومِئِ) لِأَنَّ حَالَ الْمُقْتَدِي أَقْوَى، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ رحمه الله.
(وَلَا يُصَلِّي الْمُفْتَرِضُ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ) لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِنَاءٌ، وَوَصْفُ الْفَرْضِيَّةِ وَمَعْدُومٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْبِنَاءُ عَلَى الْمَعْدُومِ. قَالَ (وَلَا مَنْ يُصَلِّي فَرْضًا خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي فَرْضًا آخَرَ) لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ شَرِكَةٌ وَمُوَافَقَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاتِّحَادِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله يَصِحُّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ
وَالرُّجُوعُ كَالتَّغَنِّي نُسِبَ أَلْبَتَّةَ إلَى قَصْدِ السُّخْرِيَةِ وَاللَّعِبِ، إذْ مَقَامُ طَلَبِ الْحَاجَةِ التَّضَرُّعُ لَا التَّغَنِّي (قَوْلُهُ وَيُصَلِّي الْمُومِئُ خَلْفَ مِثْلِهِ) وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يُومِئ قَاعِدًا وَالْمَأْمُومُ يُومِئ قَائِمًا لِأَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ لَيْسَ بِرُكْنٍ، بَلْ الْأَوْلَى تَرْكُهُ (قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُومِئَ) قَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ فِي هَذِهِ بَعْدَ نَقْلِ الْخِلَافِ فِيهَا: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَكَذَا الْأَظْهَرُ عَلَى قَوْلِهِمَا الْجَوَازُ، وَحَكَمَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ بِاخْتِيَارِ مَا فِي الْهِدَايَةِ لِأَنَّ الْقُعُودَ مُعْتَبَرٌ حَتَّى يَجِبَ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الِاسْتِلْقَاءِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إلَيْهِ بِالْحُكْمِ بَلْ تَجِبُ مَعَهُ لِأَنَّهُ الْوُسْعُ الْحَاصِلُ
(قَوْلُهُ وَلَا مَنْ يُصَلِّي فَرْضًا خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي فَرْضًا آخَرَ) وَقَوْلُنَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَلَا يَجُوزُ النَّاذِرُ بِالنَّاذِرِ، إلَّا أَنْ يَنْذِرَ نَفْسَ مَا نَذَرَهُ الْآخَرُ مِنْ الصَّلَاةِ وَيَجُوزُ الْحَالِفُ بِالْحَالِفِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَا الْبِرُّ فَبَقِيَتْ الصَّلَاتَانِ نَفْلًا فِي نَفْسِهِمَا، وَلِذَا صَحَّ الْحَالِفُ بِالنَّاذِرِ بِخِلَافِ الْمَنْذُورِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ. وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّبَبُ فَصَارَ كَظُهْرِ الْأَمْسِ بِمَنْ يُصَلِّي ظُهْرَ الْيَوْمِ، وَمُصَلَّيَا رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ كَالنَّاذِرَيْنِ لِأَنَّ طَوَافَ هَذَا غَيْرُ طَوَافِ الْآخَرِ وَهُوَ السَّبَبُ، فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَلَوْ اشْتَرَكَا فِي نَافِلَةٍ فَأَفْسَدَاهَا صَحَّ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ أَفْسَدَا مُنْفَرِدَيْنِ نَفْلًا فَلَا وَلَا خَلْفَ النَّاذِرِ، وَلَوْ صَلَّيَا الظُّهْرَ وَنَوَى كُلٌّ إمَامَةَ الْآخَرِ صَحَّتْ صَلَاتُهُمَا لِأَنَّ الْإِمَامَ مُنْفَرِدٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَهِيَ نِيَّةُ الِانْفِرَادِ حِينَئِذٍ فَلَوْ نَوَى كُلٌّ الِاقْتِدَاءَ بِالْآخَرِ فَسَدَتْ، وَتَجُوزُ السُّنَّةُ بَعْدَ الظُّهْرِ بِالسُّنَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَسُنَّةُ الْعِشَاءِ بِالتَّرَاوِيحِ، وَأَمَّا الِاقْتِدَاءُ فِي الْوَتْرِ بِمَنْ يَرَى أَنَّهُ سُنَّةٌ فَسَنَذْكُرُهُ فِي بَابِ الْوَتْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (قَوْلُهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله) إذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْفَرْضِ بِالنَّفْلِ ثَبَتَ فِي الْكُلِّ فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَيْهِ. تَمَسَّكَ فِيهِ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِشَاءَ الْآخِرَةِ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى قَوْمِهِ فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلَاةَ» لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ:«فَيُصَلِّي بِهِمْ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ» ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ رحمه الله عَنْ جَابِرٍ: «كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ ثُمَّ يَنْطَلِقُ إلَى قَوْمِهِ فَيُصَلِّيهَا بِهِمْ هِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ وَلَهُمْ فَرِيضَةٌ» . وَأُجِيبُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْإِنْكَارِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَشَرْطُ ذَلِكَ عِلْمُهُ وَجَازَ عَدَمٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ سُلَيْمٍ «رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يَأْتِينَا بَعْدَمَا نَنَامُ وَنَكُونُ فِي أَعْمَالِنَا بِالنَّهَارِ فَيُنَادِي بِالصَّلَاةِ فَنَخْرُجُ إلَيْهِ فَيُطَوِّلُ عَلَيْنَا فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم: يَا مُعَاذُ لَا تَكُنْ فَتَّانًا، إمَّا أَنْ تُصَلِّيَ مَعِي، وَإِمَّا أَنْ تُخَفِّفَ عَنْ قَوْمِكَ» فَشَرَعَ لَهُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ الصَّلَاةَ مَعَهُ وَلَا يُصَلِّي بِقَوْمِهِ، أَوْ الصَّلَاةَ بِقَوْمِهِ عَلَى وَجْهِ التَّخْفِيفِ وَلَا يُصَلِّي مَعَهُ، هَذَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ أَفَادَ مَنْعَهُ مِنْ الْإِمَامَةِ إذَا صَلَّى مَعَهُ صلى الله عليه وسلم وَلَا تَمْنَعُ إمَامَتَهُ بِالِاتِّفَاقِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مَنَعَهُ مِنْ الْفَرْضِ. وَقِيلَ إنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ: أَعْنِي هِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ إلَى آخِرِهِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله بِنَاءً عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَلِهَذَا لَا تُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَبَعْدَ هَذَا يُرَدُّ حَدِيثُ جَابِرٍ «أَقْبَلْنَا إلَى أَنْ قَالَ: حَتَّى إذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ نُودِيَ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَأَخَّرُوا وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَيْنِ». وَرَوَى الشَّافِعِيُّ رحمه الله عَنْ جَابِرٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِبَطْنِ نَخْلَةٍ، فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ. ثُمَّ جَاءَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ» وَشَيْخُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ مَجْهُولٌ، فَإِنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ ابْنُ عُلَيَّةَ أَوْ غَيْرُهُ عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرٍ، وَالْأَوَّلُ إنَّمَا يَتِمُّ لَهُ بِهِ حُجَّةٌ إلْزَامِيَّةٌ لِأَنَّ كَوْنَ فَرْضِ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ وَالْأُخْرَيَانِ نَافِلَةً إنَّمَا هُوَ عِنْدَنَا، إذْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقَعُ الْكُلُّ فَرْضًا فَلَا يَتِمُّ لَهُ بِهِ حُجَّةٌ عَلَى مَذْهَبِهِ. وَأَجَابَ الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ وَعَنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ، أَوْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ حِينَ كَانَتْ الْفَرِيضَةُ تُصَلَّى مَرَّتَيْنِ ثُمَّ نُسِخَ. وَرَوَى حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ:«نَهَى أَنْ تُصَلَّى فَرِيضَةٌ فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ» ، قَالَ: وَالنَّهْيُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْإِبَاحَةِ. وَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ نُسِخَ بِالِاحْتِمَالِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ مُرَادَهُ الْحَمْلُ عَلَى النَّسْخِ تَرْجِيحًا بِضَرْبٍ مِنْ الِاجْتِهَادِ، وَهَذَا صَحِيحٌ بَلْ وَاجِبٌ إذْ يَجِبُ التَّرْجِيحُ مَا أَمْكَنَ، وَمَرْجِعُهُ الْحَمْلُ عَلَى النَّسْخِ فِي كُلِّ مُتَعَارِضَيْنِ ثَبَتَتْ صِحَّتُهُمَا، وَإِنْ عَبَّرْنَا فِي وَجْهِ التَّرْجِيحِ بِلَفْظٍ آخَرَ نَحْوَ أَنْ نَقُولَ هَذَا مُحَرِّمٌ فَيُقَدَّمُ عَلَى ذَلِكَ الْمُبِيحِ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ حَمْلَ ذَلِكَ الْمُبِيحِ عَلَى النَّسْخِ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الْمُبِيحَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ، وَكَوْنُهُ قَالَ أَيْضًا: الْمُحَرِّمُ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْعَمَلِ بِهِ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُبِيحُ هُوَ الْمُتَأَخِّرُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْآنَ تَقْرِيرَ الْإِبَاحَةِ، فَتَقْدِيمُ الْمُحَرِّمِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِالْمُقَدَّمِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَشَدُّ الْحُكْمَيْنِ فَنَحْمِلُهُ عَلَى التَّأَخُّرِ وَذَلِكَ عَلَى التَّقَدُّمِ احْتِيَاطًا: أَيْ عَمَلًا بِأَشَقِّ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِخُصُوصِ الْمُتَقَرِّرِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ مَعْنَى الِاحْتِيَاطِ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ يَتَيَقَّنُ مَعَهُ بِالْعَمَلِ بِالْمُتَأَخِّرِ الْمُتَقَرِّرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ إذَا عَرَفْت هَذَا فَمَعْنَى حَمْلِهِ عَلَى النَّسْخِ أَنَّهُ ثَبَتَ صَلَاةُ الْخَوْفِ عَلَى مَا ذَكَرَ، وَثَبَتَ بَعْدَ سِنِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ أَنَّهُ صَلَّى بِالطَّائِفَتَيْنِ صَلَاةً وَاحِدَةً مَعَ الْمُنَافِي بِكُلِّ طَائِفَةٍ، فَلَوْ جَازَ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ لَأَتَمَّ بِكُلِّ طَائِفَةٍ
لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ عِنْدَمَا أَدَّاهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَافَقَةِ، وَعِنْدَنَا مَعْنَى التَّضَمُّنِ مُرَاعًى (وَيُصَلِّي الْمُتَنَفِّلُ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ) لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِي حَقِّهِ إلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَيَتَحَقَّقَ الْبِنَاءُ.
(وَمَنْ اقْتَدَى بِإِمَامٍ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ إمَامَهُ مُحْدِثٌ أَعَادَ)
لِأَنَّ تَحَمُّلَ الْمُنَافِي لَا يَجُوزُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْفَرْضِ بِالنَّفْلِ، وَكَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الْإِمَامُ ضَامِنٌ» وَسَنَذْكُرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَالْأَوَّلُ عَكْسُهُ، فَيُقَدَّمُ هَذَا وَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى مَا عُهِدَ ثُمَّ نُسِخَ مِنْ تَكَرُّرِ الْفَرْضِ تَقْدِيمًا لِلْمَانِعِ عَلَى الْمُجَوِّزِ. هَذَا ثُمَّ قِيلَ إنَّمَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ لَا فِي الْبَعْضِ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ إذَا رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَاقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ فَسَبَقَ الْإِمَامَ الْحَدَثُ قَبْلَ السُّجُودِ فَاسْتَخْلَفَهُ صَحَّ وَيَأْتِي بِالسَّجْدَتَيْنِ وَيَكُونَانِ نَفْلًا لِلْخَلِيفَةِ حَتَّى يُعِيدَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَفَرْضًا فِي حَقِّ مَنْ أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ، وَكَذَا الْمُتَنَفِّلُ إذَا اقْتَدَى بِالْمُفْتَرِضِ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي يَجُوزُ، وَهُوَ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ، وَالْعَامَّةُ عَلَى الْمَنْعِ مُطْلَقًا، وَمَنَعُوا نَفْلِيَّةَ السَّجْدَتَيْنِ بَلْ هُمَا فَرْضٌ عَلَى الْخَلِيفَةِ، وَلِذَا لَوْ تَرَكَهُمَا فَسَدَتْ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ فَلَزِمَهُ مَا لَزِمَهُ. وَقَالُوا: صَلَاةُ الْمُتَنَفِّلِ الْمُقْتَدِي أَخَذَتْ حُكْمَ الْفَرْضِ بِسَبَبِ الِاقْتِدَاءِ، وَلِهَذَا لَزِمَهُ قَضَاءُ مَا لَمْ يُدْرِكْهُ مَعَ الْإِمَامِ مِنْ
لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَمَّ قَوْمًا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا أَعَادَ صَلَاتَهُ وَأَعَادُوا» وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَنَحْنُ نَعْتَبِرُ مَعْنَى التَّضَمُّنِ وَذَلِكَ فِي الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ.
الشَّفْعِ الْأَوَّلِ، وَكَذَا لَوْ أَفْسَدَ عَنْ نَفْسِهِ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ
(قَوْلُهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَمَّ قَوْمًا» إلَخْ) غَرِيبٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ الْمَكِّيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ فِي الرَّجُلِ يُصَلِّي بِالْقَوْمِ جُنُبًا: قَالَ يُعِيدُ وَيُعِيدُونَ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ الْمَكِّيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَعْفَرٍ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه صَلَّى بِالنَّاسِ وَهُوَ جُنُبٌ أَوْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، فَأَعَادَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِيدُوا. وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الْإِمَامُ ضَامِنٌ» وَهُوَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَنَحْنُ نَعْتَبِرُ مَعْنَى التَّضَمُّنِ فَإِنَّهُ الْمُرَادُ بِالضَّمَانِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى نَفْيِ إرَادَةِ حَقِيقَةِ الضَّمَانِ، وَأَقَلُّ مَا يَقْتَضِيهِ التَّضَمُّنُ التَّسَاوِي فَيَتَضَمَّنُ كُلَّ فِعْلٍ مِمَّا عَلَى الْإِمَامِ مِثْلُهُ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَفْضُلَ كَالْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَبُطْلَانُ صَلَاةِ الْإِمَامِ يَقْتَضِي بُطْلَانَ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي إذْ لَا يَتَضَمَّنُ الْمَعْدُومُ الْمَوْجُودَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَذَلِكَ فِي الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ. وَمَا أَسْنَدَ أَبُو دَاوُد «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ أَنْ مَكَانَكُمْ، ثُمَّ جَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَصَلَّى بِهِمْ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ: إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنِّي كُنْتُ جُنُبًا» وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ لَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ شُرُوعِهِمْ لِجَوَازِ كَوْنِ التَّذَكُّرِ كَانَ عَقِيبَ تَكْبِيرِهِ بِلَا مُهْلَةٍ قَبْلَ تَكْبِيرِهِمْ، عَلَى أَنَّ الَّذِي فِي مُسْلِمٍ قَالَ «فَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَامَ فِي مُصَلَّاهُ قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ ذَكَرَ فَانْصَرَفَ» فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد «دَخَلَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ عَلَى إرَادَةٍ دَخَلَ فِي مَكَانِهَا» فَلَا إشْكَالَ. وَإِنْ كَانَا قَضِيَّتَيْنِ فَالْجَوَابُ مَا عَلِمْت. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ مُطِيعٍ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَجْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ " صَلَّى عُمَرُ رضي الله عنه بِالنَّاسِ جُنُبًا فَأَعَادَ وَلَمْ يُعِدْ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه: قَدْ كَانَ يَنْبَغِي لِمَنْ صَلَّى مَعَك أَنْ يُعِيدَ، قَالَ: فَرَجَعُوا إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ ". قَالَ الْقَاسِمُ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِثْلَ قَوْلِ عَلِيٍّ. وَمَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَيُّمَا إمَامٍ سَهَا فَصَلَّى بِالْقَوْمِ وَهُوَ جُنُبٌ فَقَدْ مَضَتْ صَلَاتُهُمْ وَلْيَغْتَسِلْ هُوَ ثُمَّ لِيُعِدْ صَلَاتَهُ، وَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ فَمِثْلُ ذَلِكَ» ضَعِيفٌ، جُوَيْبِرٌ مَتْرُوكٌ وَالضَّحَّاكُ
(وَإِذَا صَلَّى أُمِّيٌّ بِقَوْمٍ يَقْرَءُونَ وَبِقَوْمٍ أُمِّيِّينَ فَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) وَقَالَا: صَلَاةُ الْإِمَامِ وَمَنْ لَا يَقْرَأُ تَامَّةٌ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ أَمَّ قَوْمًا مَعْذُورِينَ وَغَيْرَ مَعْذُورِينَ فَصَارَ كَمَا إذَا أَمَّ الْعَارِي عُرَاةً وَلَابِسِينَ. وَلَهُ أَنَّ الْإِمَامَ تَرَكَ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا فَتَفْسُدَ صَلَاتُهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَدَى بِالْقَارِئِ تَكُونُ قِرَاءَتُهُ قِرَاءَةً لَهُ بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَأَمْثَالِهَا لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي (وَلَوْ كَانَ يُصَلِّي الْأُمِّيُّ وَحْدَهُ وَالْقَارِئُ وَحْدَهُ جَازَ)
لَمْ يَلْقَ الْبَرَاءَ، وَيَثْبُتُ الْمَطْلُوبُ أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا لَوْ بَانَ أَنَّهُ صَلَّى بِغَيْرِ إحْرَامٍ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُمْ إجْمَاعًا، وَالْمُصَلِّي بِلَا طَهَارَةٍ لَا إحْرَامَ لَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَرْكِ الرُّكْنِ وَالشَّرْطِ لَا أَثَرَ لَهُ، إذْ لَازِمُهُمَا مُتَّحِدٌ وَهُوَ ظُهُورُ عَدَمِ صِحَّةِ الشُّرُوعِ إذَا ذَكَرَ.
[فَرْعٌ]
أَمَّهُمْ زَمَانًا ثُمَّ قَالَ إنَّهُ كَانَ كَافِرًا أَوْ صَلَّيْت مَعَ الْعِلْمِ بِالنَّجَاسَةِ الْمَانِعَةِ أَوْ بِلَا طَهَارَةٍ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إعَادَةٌ لِأَنَّ خَبَرَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الدِّيَانَاتِ لِفِسْقِهِ بِاعْتِرَافِهِ
(قَوْلُهُ فَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَخْ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَمَّ الْأَخْرَسُ قَارِئِينَ وَخُرْسًا.
وَالْأُمِّيُّ: نِسْبَةً إلَى أُمَّةِ الْعَرَبِ وَهِيَ الْأُمَّةُ الْخَالِيَةُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْكِتَابَةِ فَاسْتُعِيرَ لِمَنْ لَا يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ وَالْقِرَاءَةَ (قَوْلُهُ وَأَمْثَالُهَا) مِمَّا إذَا أَمَّ الْمَعْذُورُ وَالْمُومِئُ مِثْلَهُمَا وَأَعْلَى مِنْهُمَا حَيْثُ تَصِحُّ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَمَنْ بِحَالِهِ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ مَعَ الْقُدْرَةِ إذْ بِالِائْتَمَامِ بِالصَّحِيحِ وَالرَّاكِعِ السَّاجِدِ لَمْ يَصِرْ مُحَصِّلًا لِلطَّهَارَةِ وَالْأَرْكَانِ وَمُقْتَضَى هَذَا صِحَّةُ افْتِتَاحِ الْكُلِّ لِأَنَّ الْأُمِّيَّ قَادِرٌ عَلَى التَّكْبِيرِ ثُمَّ تَفْسُدُ أَوَانُ الْقِرَاءَةِ لِتَرْكِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ وَصَلَاتُهُمْ
هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمَا رَغْبَةٌ فِي الْجَمَاعَةِ (فَإِنْ قَرَأَ الْإِمَامُ فِي الْأُولَيَيْنِ ثُمَّ قَدَّمَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ أُمِّيًّا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا تَفْسُدُ لِتَأَدِّي فَرْضِ الْقِرَاءَةِ. وَلَنَا أَنَّ كُلَّ رَكْعَةٍ صَلَاةٌ فَلَا تُخْلَى عَنْ الْقِرَاءَةِ إمَّا تَحْقِيقًا
لِعَدَمِهَا فِي حَقِّهِمْ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لِعَجْزِهِ، يُرْوَى هَذَا عَنْ الْكَرْخِيِّ، وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُ الْمُقْتَدِيَ بِهِ مُتَنَفِّلًا الْقَضَاءُ مَعَ أَنَّهُ فَسَادٌ بَعْدَ الشُّرُوعِ لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ شَارِعًا فِي صَلَاةٍ لَا قِرَاءَةَ فِيهَا، وَالشُّرُوعُ كَالنَّذْرِ.
وَلَوْ نَذَرَ صَلَاةً بِلَا قِرَاءَةٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ كَذَلِكَ، هَذَا وَصَحَّحَ فِي الذَّخِيرَةِ عَدَمَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ. وَجْهُهُ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ لِأَنَّ الْفَائِدَةَ إمَّا فِي لُزُومِ الْإِتْمَامِ أَوْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ، ثُمَّ عَنْ الْقَاضِي أَبِي حَازِمٍ: إنَّمَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْأُمِّيِّ وَالْأَخْرَسِ إذَا عَلِمَا أَنَّ خَلْفَهُمَا قَارِئٌ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: لَا فَرْقَ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ لَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهَا بَيْنَ الْجَهْلِ وَالْعِلْمِ، وَشَرَطَ الْكَرْخِيُّ لِلْفَسَادِ فِي إمَامَةِ الْقَارِئِ نِيَّةَ الْإِمَامَةِ لِأَنَّهُ يَأْتِيهِ الْفَسَادُ مِنْ قِبَلِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْتِزَامٍ.
وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ وَهُوَ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ تَرْكُ الْفَرْضِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ الرَّغْبَةِ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ يُوجِبُ الْفَسَادَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ لَا رِوَايَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ تَفْسُدُ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ السَّابِقَ يَقْتَضِيهِ. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ وَصَحَّحَ الشَّيْخُ عَدَمَهُ.
وَفِي النِّهَايَةِ: لَوْ افْتَتَحَ الْأُمِّيُّ ثُمَّ حَضَرَ الْقَارِئُ قِيلَ تَفْسُدُ، وَقَالَ الْكَرْخِيُّ لَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى جَعْلِهَا بِقِرَاءَةٍ قَبْلَ الِافْتِتَاحِ، وَلَوْ حَضَرَ الْأُمِّيُّ بَعْدَ افْتِتَاحِ الْقَارِئِ فَلَمْ يَقْتَدِ بِهِ وَصَلَّى مُنْفَرِدًا الْأَصَحُّ أَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ.
وَنَقَلَ فِي الْمُحِيطِ: رَأَيْت فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَوْ كَانَ الْقَارِئُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ بِجِوَارِهِ وَالْأُمِّيُّ يُصَلِّيَ فِيهِ وَحْدَهُ فَهِيَ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْقَارِئُ فِي صَلَاةٍ غَيْرِ صَلَاةِ الْأُمِّيِّ جَازَ لِلْأُمِّيِّ الصَّلَاةُ دُونَ انْتِظَارٍ لَهُ بِالِاتِّفَاقِ انْتَهَى.
وَفِي الْكَافِي: إذَا كَانَ بِجِوَارِهِ مَنْ يَقْرَأُ لَيْسَ عَلَيْهِ طَلَبُهُ وَانْتِظَارُهُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ لِيُلْزِمَهُ، وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ الْقُدْرَةُ إذَا صَادَفَهُ حَاضِرًا مُطَاوِعًا انْتَهَى.
وَأَصَحِّيَةُ الْفَسَادِ فِي الثَّانِيَةِ لَا شَكَّ أَنَّهُ مَعَ ظُهُورِ عَدَمِ الرَّغْبَةِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَعَلَى هَذَا فَالْخِلَافِيَّةُ الَّتِي يَحْمِلُ تَصْحِيحُ الْمُصَنِّفِ فِيهَا عَدَمَ الْفَسَادِ إمَّا أَنْ تَكُونَ إذَا شَرَعَا مَعًا مُنْفَرِدَيْنِ وَالْأُمِّيُّ يَعْلَمُ أَنَّ الْقَارِئَ يُرِيدُ الشُّرُوعَ فِي الْمَكْتُوبَةِ، وَهُوَ مَحْمَلُ مَا فِي الْكَافِي مِنْ ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ إذَا كَانَ حَاضِرًا مُطَاوِعًا مَعَ نَفْيِهِ وُجُوبَ الطَّلَبِ مِنْهُ، وَإِلَّا فَالْمُطَاوَعَةُ وَعَدَمُهَا إنَّمَا تُعْرَفُ بَعْدَ الطَّلَبِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ صُورَةَ خِلَافِيَّةِ الْكَرْخِيِّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَوْجَهَ فِيهَا تَعْلِيلُ الْكَرْخِيِّ لَا الْمُصَنِّفِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْقُدْرَةُ بِقُدْرَةِ الْغَيْرِ لَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ الْجُمُعَةُ وَالْحَجُّ عَلَى الْأَعْمَى وَإِنْ وَجَدَ قَائِدًا. قُلْنَا: إنَّمَا لَا تُعْتَبَرُ قُدْرَةُ الْغَيْرِ إذَا تَعَلَّقَ بِاخْتِيَارِ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَهُنَا الْأُمِّيُّ قَادِرٌ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِالْقَارِئِ بِلَا اخْتِيَارِهِ فَيَنْزِلُ قَادِرًا عَلَى الْقِرَاءَةِ، وَمِنْ الْفُرُوعِ الْمَنْقُولَةِ لَوْ تَحَرَّمَ نَاوِيًا أَنْ لَا يَؤُمَّ أَحَدًا فَائْتَمَّ بِهِ رَجُلٌ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ (قَوْلُهُ وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَفْسُدُ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ
أَوْ تَقْدِيرًا وَلَا تَقْدِيرَ فِي حَقِّ الْأُمِّيِّ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ، وَكَذَا عَلَى هَذَا لَوْ قَدَّمَهُ فِي التَّشَهُّدِ.
بَابُ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ
(وَمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ انْصَرَفَ
قَوْلُهُ وَكَذَا عَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ قَدَّمَهُ فِي التَّشَهُّدِ: أَيْ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَهُ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الْأُمِّيِّ لِإِمَامَةِ الْقَارِئِ فَصَارَ كَاسْتِخْلَافِ صَبِيٍّ وَامْرَأَةٍ، أَمَّا لَوْ قَدَّمَهُ بَعْدَ قَدْرِهِ صَحَّ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ إحْدَى الْمَسَائِلِ الِاثْنَيْ عَشْرَةَ.
وَقِيلَ لَا تَفْسُدُ عِنْدَ الْكُلِّ وَجَعَلَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ أَوْلَى. أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِوُجُودِ الصُّنْعِ مِنْهُ، هَذَا وَالْأُمِّيُّ يَجِبُ عَلَيْهِ كُلُّ الِاجْتِهَادِ فِي تَعَلُّمِ مَا تَصِحُّ بِهِ الصَّلَاةُ ثُمَّ فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ وَإِلَّا فَهُوَ آثِمٌ وَقَدَّمْنَا نَحْوَهُ فِي إخْرَاجِ الْحَرْفِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى إخْرَاجِهِ. وَسُئِلَ ظَهِيرُ الدِّينِ عَنْ الْقِيَامِ هَلْ يَتَقَدَّرُ بِالْقِرَاءَةِ؟ فَقَالَ لَا وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي اللَّاحِقِ فِي الشَّافِي.
(بَابُ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ)
سَبْقُ الْحَدَثِ وَوُجُودُ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَمَا يُكْرَهُ فِيهَا مِنْ الْعَوَارِضِ وَهِيَ تَتْلُو الْأَصْلَ فَأَخَّرَهَا، وَقَدَّمَ هَذَا لِثُبُوتِ الْوُجُودِ مَعَهُ دُونَ كَرَاهَةٍ بِخِلَافِ مَا يُفْسِدُ وَيُكْرَهُ (قَوْلُهُ انْصَرَفَ) أَيْ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ يُفِيدُهُ إيقَاعُهُ جَزَاءَ الشَّرْطِ خَبَرًا فَيَلْزَمُ عِنْدَهُ وَإِلَّا لَزِمَ الْكَذِبُ، فَإِنْ مَكَثَ مَكَانَهُ قَدْرَ رُكْنٍ فَسَدَتْ إلَّا إذَا أَحْدَثَ بِالنَّوْمِ فَمَكَثَ سَاعَةً ثُمَّ انْتَبَهَ فَإِنَّهُ يَبْنِي.
وَفِي الْمُنْتَقَى: إنْ لَمْ يَنْوِ بِمَقَامِهِ الصَّلَاةَ لَا تَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ جُزْءٌ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ قُلْنَا هُوَ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، فَمَا وُجِدَ مِنْهُ صَالِحًا لِكَوْنِهِ جُزْءًا مِنْهَا انْصَرَفَ إلَى ذَلِكَ غَيْرَ مُقَيِّدٍ بِالْقَصْدِ إذَا كَانَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَلِذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ ذَاهِبًا أَوْ آيِبًا تَفْسُدُ لِأَدَائِهِ رُكْنًا مَعَ الْحَدَثِ أَوْ الْمَشْيِ، وَإِنْ قِيلَ تَفْسُدُ فِي الذَّهَابِ لَا الْإِيَابِ، وَقِيلَ بَلْ فِي عَكْسِهِ بِخِلَافِ الذِّكْرِ لَا يَمْنَعُ الْبِنَاءَ فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَجْزَاءِ، وَلَوْ أَحْدَثَ رَاكِعًا فَرَفَعَ مُسْمِعًا لَا يَبْنِي لِأَنَّ الرَّفْعَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِلِانْصِرَافِ فَمُجَرَّدُهُ لَا يَمْنَعُ، فَلَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ التَّسْمِيعُ ظَهَرَ قَصْدُ الْأَدَاءِ.
وَعَنْ
فَإِنْ كَانَ إمَامًا اسْتَخْلَفَ وَتَوَضَّأَ وَبَنَى) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لِأَنَّ الْحَدَثَ يُنَافِيهَا وَالْمَشْيَ وَالِانْحِرَافَ يُفْسِدَانِهَا
أَبِي يُوسُفَ، لَوْ أَحْدَثَ فِي سُجُودِهِ فَرَفَعَ مُكَبِّرًا نَاوِيًا إتْمَامَهُ أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَسَدَتْ لَا إنْ أَرَادَ الِانْصِرَافَ، وَشَرْطُ الْبِنَاءِ كَوْنُهُ حَدَثًا سَمَاوِيًّا مِنْ الْبَدَنِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْغُسْلِ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِيهِ وَلَا فِي سَبَبِهِ وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدَهُ مُنَافٍ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ، فَلَا يَبْنِي بِشَجَّةٍ وَعَضَّةٍ وَلَوْ مِنْهُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِإِصَابَةِ نَجَاسَةٍ مَانِعَةٍ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ حَدَثِهِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْهُ بَنَى اتِّفَاقًا.
وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ ذَاكَ غَسَلَ ثَوْبَهُ وَبَدَنَهُ ابْتِدَاءً وَهَذَا تَبَعًا لِلْوُضُوءِ، وَلَوْ أَصَابَتْهُ مِنْ حَدَثِهِ وَغَيْرِهِ لَا يَبْنِي وَلَوْ اتَّحَدَ مَحَلُّهُمَا، وَلَا لِقَهْقَهَةٍ وَكَلَامٍ وَاحْتِلَامٍ وَلَا لَسَيْلَانِ دُمَّلٍ غَمَزَهَا، فَإِنْ زَالَ السَّاقِطُ مِنْ غَيْرِ مُسْقِطٍ فَقِيلَ يَبْنِي لِعَدَمِ صُنْعِ الْعِبَادِ، وَقِيلَ عَلَى الْخِلَافِ.
وَاخْتُلِفَ فِيمَا لَوْ سَبَقَهُ لِعُطَاسِهِ أَوْ تَنَحْنُحِهِ، وَلَوْ سَقَطَ الْكُرْسُفُ مِنْهَا بِغَيْرِ صُنْعِهَا مَبْلُولًا بَنَتْ بِالِاتِّفَاقِ وَبِتَحَرُّكِهَا عَلَى الْخِلَافِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى تَصَوُّرِ بِنَائِهَا كَالرَّجُلِ خِلَافًا لِابْنِ رُسْتُمَ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَشَايِخِ إذَا أَمْكَنَهَا الْوُضُوءُ مِنْ غَيْرِ كَشْفٍ كَأَنْ تَمْسَحَ عَلَى رَأْسِهَا بِلَا كَشْفٍ، وَكَذَا غَسْلُ ذِرَاعَيْهَا فِي الصَّحِيحِ وَإِنْ رُوِيَ جَوَازُ كَشْفِهِمَا. وَأَمَّا الِاسْتِنْجَاءُ فَفِي الْخُلَاصَةِ: إذَا اسْتَنْجَى الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فَسَدَتْ ثُمَّ نَقَلَ مِنْ التَّجْرِيدِ يُسْتَنْجَى مِنْ تَحْتِ ثِيَابِهِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا اسْتَقْبَلَ.
وَفِي النِّهَايَةِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي عَلِيٍّ النَّسَفِيِّ: إنْ لَمْ يَجِدْ مِنْهُ بُدًّا لَمْ تَفْسُدْ، وَإِنْ وَجَدَ بِأَنْ تَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ وَغَسْلِ النَّجَاسَةِ تَحْتَ الْقَمِيصِ وَأَبْدَى عَوْرَتَهُ فَسَدَتْ، وَجَعْلُ الْفَسَادِ مُطْلَقًا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ، وَيَتَوَضَّأُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا فِي الْأَصَحِّ، وَيَأْتِي بِسَائِرِ سُنَنِ الْوُضُوءِ، وَلَوْ جَاوَزَ مَاءً يَقْدِرُ عَلَى الْوُضُوءِ مِنْهُ إلَى أَبْعَدَ مِنْهُ لِضِيقِ الْمَكَانِ أَوْ لِعَدَمِ الْوُصُولِ إلَى الْمَاءِ أَوْ كَانَ بِئْرًا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِقَاءِ مِنْهُ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ أَوْ كَانَ فِي بَيْتِهِ فَجَاوَزَهُ نَاسِيًا لِاعْتِيَادِهِ الْوُضُوءَ مِنْ الْحَوْضِ لَا تَفْسُدُ، وَأَمَّا بِلَا عُذْرٍ فَتَفْسُدُ، هَذَا كُلُّهُ إذَا سَبَقَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَلَوْ خَافَهُ فَانْصَرَفَ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ لَا يَبْنِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهَلْ يَسْتَخْلِفُ لِلِانْصِرَافِ خَوْفًا عِنْدَهُ؟ يَجُوزُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْحَصْرِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ، وَلَا قَوْلَ لِمُحَمَّدٍ (قَوْلُهُ اسْتَخْلَفَ) بِأَنْ يَأْخُذَ بِثَوْبِ رَجُلٍ إلَى الْمِحْرَابِ أَوْ يُشِيرَ إلَيْهِ، وَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ يَفْعَلَهُ مُحْدَوْدِبَ الظَّهْرِ آخِذًا بِأَنْفِهِ يُوهِمُ أَنَّهُ رَعَفَ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ أَوْ يُجَاوِزْ الصُّفُوفَ فِي الصَّحْرَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ حَتَّى جَاوَزَ وَخَرَجَ بَطَلَتْ صَلَاةُ الْقَوْمِ.
وَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ رِوَايَتَانِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الصُّفُوفِ مُتَّصِلَةً خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَلَمْ يُجَاوِزْهَا أَوْ مُنْفَصِلَةً خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فِي الْمُتَّصِلَةِ، لِأَنَّ لِمَوَاضِعِ الصُّفُوفِ حُكْمَ الْمَسْجِدِ كَمَا فِي الصَّحْرَاءِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْقِيَاسَ بُطْلَانُهَا بِمُجَرَّدِ الِانْحِرَافِ، لَكِنْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ عَلَى خِلَافِهِ فَيَقْتَصِرُ الْجَوَازُ عَلَى مَحَلِّ الضَّرُورَةِ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْخَلِيفَةِ صَالِحًا لِلْإِمَامَةِ، فَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ كَمُحْدَثٍ أَوْ صَبِيٍّ أَوْ امْرَأَةٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ إنْ اسْتَخْلَفَهُ قَصْدًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصْدًا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ خَلْفَهُ غَيْرُ صَبِيٍّ أَوْ امْرَأَةٍ فَخَرَجَ وَتَرَكَهُ فَسَتَأْتِي آخِرَ الْبَابِ.
وَلَوْ اسْتَخْلَفَ رَجُلًا وَالْقَوْمُ
فَأَشْبَهَ الْحَدَثُ الْعَمْدَ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ أَوْ أَمَذَى فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ» وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَقَاءَ أَوْ رَعَفَ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ وَلْيُقَدِّمْ مَنْ لَمْ يُسْبَقْ بِشَيْءٍ»
رَجُلًا وَنَوَى كُلٌّ الْإِمَامَةَ فَالْإِمَامُ خَلِيفَةُ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ فَحَقُّ الِاسْتِخْلَافِ لَهُ.
وَفِي الْفَتَاوَى: إنْ نَوَيَا مَعًا الْإِمَامَةَ جَازَتْ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي بِخَلِيفَةِ الْإِمَامِ وَفَسَدَتْ عَلَى الْمُقْتَدِينَ بِخَلِيفَةِ الْقَوْمِ. وَلَا اخْتِلَافَ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَعِيَّةِ غَيْرُ مُرَادَةٍ، وَإِنْ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا إنْ كَانَ خَلِيفَةَ الْإِمَامِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ خَلِيفَةَ الْقَوْمِ اقْتَدُوا بِهِ ثُمَّ نَوَى الْآخَرُ فَاقْتَدَى بِهِ الْبَعْضُ جَازَ صَلَاةُ الْأَوَّلِينَ دُونَ الْآخَرِينَ، وَلَوْ اسْتَخْلَفَ مِنْ آخِرِ الصُّفُوفِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ إنْ نَوَى الْخَلِيفَةُ الْإِمَامَةَ مِنْ سَاعَتِهِ صَارَ إمَامًا فَتَفْسُدُ صَلَاةُ مَنْ كَانَ مُتَقَدِّمَهُ دُونَ صَلَاتِهِ وَصَلَاةِ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ وَمَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ فِي صَفِّهِ وَمَنْ خَلْفَهُ، وَإِنْ نَوَى أَنْ يَكُونَ إمَامًا إذَا قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَخَرَجَ الْأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ الْخَلِيفَةُ إلَى مَكَانِهِ وَقَبْلَ أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامَةَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ.
وَشَرْطُ جَوَازِ صَلَاةِ الْخَلِيفَةِ وَالْقَوْمِ أَنْ يَصِلَ الْخَلِيفَةُ إلَى الْمِحْرَابِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ عَنْ الْمَسْجِدِ. وَاَلَّذِي فِي النِّهَايَةِ لَوْ اسْتَخْلَفَ الْإِمَامُ رَجُلَيْنِ أَوْ هُوَ رَجُلًا وَالْقَوْمُ رَجُلًا أَوْ الْقَوْمُ رَجُلَيْنِ أَوْ بَعْضُهُمْ رَجُلًا وَبَعْضُهُمْ رَجُلًا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْكُلِّ انْتَهَى مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ.
وَفِيهَا: لَوْ تَأَخَّرَ لِيَسْتَخْلِفَ فَلَبِثَ يَنْظُرُ مَنْ يَصْلُحُ فَقَبْلَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ كَبَّرَ رَجُلٌ مِنْ وَسَطِ الصَّفِّ لِلْخِلَافَةِ وَتَقَدَّمَ فَصَلَاةُ مَنْ كَانَ أَمَامَهُ فَاسِدَةٌ وَمَنْ خَلْفَهُ جَائِزَةٌ، وَكَذَا لَوْ اسْتَخْلَفَ الْإِمَامُ رَجُلًا مِنْ وَسَطِ الصَّفِّ فَخَرَجَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ الْخَلِيفَةُ مَكَانَهُ تَفْسُدُ صَلَاةُ مَنْ قُدَّامَهُ. وَاَلَّذِي فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ إنْ تَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمِ أَحَدٍ وَقَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ عَنْ الْمَسْجِدِ جَازَ، وَلَوْ خَرَجَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ هَذَا الرَّجُلُ إلَى الْمِحْرَابِ وَيَقُومَ مَقَامَهُ فَسَدَتْ صَلَاةُ الرَّجُلِ وَالْقَوْمِ وَلَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ انْتَهَى وَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ.
وَلَوْ اسْتَخْلَفَ فَاسْتَخْلَفَ الْخَلِيفَةُ غَيْرَهُ قَالَ الْفَضْلِيُّ: إنْ لَمْ يَخْرُجْ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَأْخُذْ الْخَلِيفَةُ مَكَانَهُ حَتَّى اسْتَخْلَفَ جَازَ، وَيَصِيرُ كَأَنَّ الثَّانِيَ تَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ أَوْ قَدَّمَهُ الْأَوَّلُ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ اسْتَخْلَفَ ثُمَّ أَفْسَدَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ يَضُرُّهُ لَا غَيْرَهُ. وَلَوْ جَاءَ رَجُلٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنَّهُ يَقْتَدِي بِالْخَلِيفَةِ، وَكَذَا لَوْ قَعَدَ الْأَوَّلُ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَلَوْ تَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ وَخَلِيفَتُهُ قَائِمٌ لَمْ يُؤَدِّ رُكْنًا يَتَأَخَّرُ وَيَتَقَدَّمُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ خَرَجَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ رَجَعَ وَالْخَلِيفَةُ لَمْ يُؤَدِّ رُكْنًا فَالْإِمَامُ هُوَ الثَّانِي.
هَذَا وَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِالْأَوَّلِ مَا لَمْ يَخْرُجْ. قَالُوا لَوْ أَحْدَثَ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى جَاءَ مَنْ ائْتَمَّ بِهِ ثُمَّ خَرَجَ كَانَ الثَّانِي خَلِيفَةَ الْأَوَّلِ حَتَّى يَقْتَدِيَ بِهِ، وَكَذَا لَوْ تَوَضَّأَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ وَرَجَعَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِالثَّانِي. وَلَوْ اسْتَخْلَفَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَحْدَثَ الثَّانِي فَجَاءَ الْأَوَّلُ بَعْدَمَا تَوَضَّأَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ لِلثَّانِي تَقْدِيمُهُ، وَلَوْ جَاءَ بَعْدَمَا قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ جَازَ لَهُ تَقْدِيمُهُ (قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم مَنْ قَاءَ) الْحَدِيثُ تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ النَّوَاقِضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَهُ نَحْوَهُ مَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَسَلْمَانِ الْفَارِسِيِّ، وَمِنْ التَّابِعِينَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَطَاوُسٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَعَطَاءٍ وَمَكْحُولٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ
رضي الله عنهم، وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً، عَلَى أَنَّ صِحَّةَ رَفْعِ الْحَدَثِ مُرْسَلًا لَا نِزَاعَ فِيهَا وَذَلِكَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ (قَوْلُهُ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ» إلَخْ) غَرِيبٌ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ
وَالْبَلْوَى فِيمَا يُسْبَقُ دُونَ مَا يَتَعَمَّدُ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ (وَالِاسْتِئْنَافُ أَفْضَلُ) تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ الْخِلَافِ،
أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَ صلى الله عليه وسلم «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَأَحْدَثَ فَلْيَأْخُذْ بِأَنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْصَرِفْ» وَلَوْ صَحَّ مَا رَوَاهُ لَمْ يَجُزْ اسْتِخْلَافُ الْمَسْبُوقِ إذْ لَا صَارِفَ لَهُ عَنْ الْوُجُوبِ.
فَإِنْ قُلْت: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الِاسْتِخْلَافِ شَرْعًا فِي الصَّلَاةِ؟ قِيلَ فِيهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَحَكَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَمْرٍو وَعَلِيٍّ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِسَنَدِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا عُمَرُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، فَلَمَّا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ أَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ كَانَ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ رَجَعَ يَخْرِقُ الصُّفُوفَ، فَلَمَّا صَلَّيْنَا إذَا نَحْنُ بِعُمَرَ يُصَلِّي خَلْفَ سَارِيَةٍ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ: لَمَّا دَخَلْت فِي الصَّلَاةِ وَكَبَّرْت رَابَنِي شَيْءٌ فَلَمَسْت بِيَدِي فَوَجَدْت بِلَّةً.
وَلِلْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: إنِّي لَقَائِمٌ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ عُمَرَ رضي الله عنه غَدَاةَ أُصِيبَ إلَّا ابْنُ عَبَّاسٍ، فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ كَبَّرَ فَسَمِعْته يَقُولُ: قَتَلَنِي أَوْ أَكَلَنِي الْكَلْبُ حِينَ طَعَنَهُ، وَتَنَاوَلَ عُمَرُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَصَلَّى بِهِمْ.
وَرَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ قَالَ: صَلَّى بِنَا عَلِيٌّ ذَاتَ يَوْمٍ فَرَعَفَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ فَقَدَّمَهُ وَانْصَرَفَ (قَوْلُهُ وَالْبَلْوَى) جَوَابٌ عَنْ إلْحَاقِهِ بِالْحَدَثِ الْعَمْدِ: يَعْنِي أَنَّ الْمَعْقُولَ أَنَّ تَجْوِيزَ الْبِنَاءِ لَهُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ وَذَلِكَ فِيمَا فِيهِ بَلْوًى وَهُوَ مَا يُسْبَقُ. أَمَّا الْعَمْدُ فَيَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِقَابَ فَضْلًا عَنْ التَّخْفِيفِ (قَوْلُهُ تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ الْخِلَافِ) بِنَاءً عَلَى صَرْفِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ وَلْيَبْنِ عَنْ الْوُجُوبِ إلَى
وَقِيلَ إنَّ الْمُنْفَرِدَ يَسْتَقْبِلُ وَالْإِمَامَ وَالْمُقْتَدِيَ يَبْنِي صِيَانَةً لِفَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ (وَالْمُنْفَرِدَ إنْ شَاءَ أَتَمَّ فِي مَنْزِلِهِ، وَإِنْ شَاءَ عَادَ إلَى مَكَانِهِ)، وَالْمُقْتَدِيَ يَعُودُ إلَى مَكَانِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ إمَامُهُ قَدْ فَرَغَ أَوْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ
الْإِبَاحَةِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ شَرْعِيَّتَهُ لِلرِّفْقِ لَا أَنَّ شَرْعِيَّتَهُ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ وَالْمُقْتَدِي يَبْنِي صِيَانَةً لِفَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ) عَلَّلَهُ بِصِيَانَةِ الْفَضِيلَةِ فَأَفَادَ أَنَّهُ أَوْلَى وَذَكَرَ مُقَابِلَهُ فِي مُقَابِلِهِ: أَعْنِي الِاسْتِقْبَالَ فِي الْمُنْفَرِدِ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ خَبَرًا إذْ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ لِفَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ (قَوْلُهُ وَإِنْ شَاءَ عَادَ إلَى مَكَانِهِ) وَقِيلَ إنْ عَادَ تَفْسُدُ لِزِيَادَةِ مَشْيٍ غَيْرِ ضَرُورِيٍّ وَالصَّحِيحُ عَدَمُهُ لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا الصَّلَاةَ فِي مَكَان وَاحِدٍ (قَوْلُهُ وَالْمُقْتَدِي يَعُودُ) أَيْ حَتْمًا إلَّا أَنْ يَكُونَ إمَامُهُ قَدْ فَرَغَ أَوْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ أَيْ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ، وَلَا بَأْسَ بِإِيرَادِهِ، وَمَرْجِعُهُ إلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الْبِنَاءُ وَالطَّرِيقُ وَالنَّهْرُ فَالْأَوَّلُ مِنْهُ حَائِطٌ قَدْرَ قَامَةِ الرَّجُلِ لَيْسَ فِيهِ نَقْبٌ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ وَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ مِنْهُ لَكِنْ لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُ الْإِمَامِ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَاخْتِيَارُ الْحَلْوَانِيِّ الصِّحَّةُ، وَعَلَى هَذَا الِاقْتِدَاءُ مِنْ سَطْحِ الْمَسْجِدِ أَوْ الْمِئْذَنَةِ.
وَلَهُمَا بَابٌ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا يَشْتَبِه يَجُوزُ فِي قَوْلِهِمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ وَلَا يَشْتَبِهُ فَعَلَى الْخِلَافِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ اخْتَارَ الصِّحَّةَ وَقَالَ: لَوْ قَامَ عَلَى سَطْحِ دَارِهِ وَدَارُهُ مُتَّصِلَةٌ بِالْمَسْجِدِ لَا يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَشْتَبِهْ أَوْ عَلَى جِدَارٍ بَيْنَ دَارِهِ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ وَلَا يَشْتَبِهُ صَحَّ، وَعَلَى دُكَّانٍ مُتَّصِلٍ بِالْمَسْجِدِ يَصِحُّ بِشَرْطِ اتِّصَالِ الصُّفُوفِ. وَالثَّانِي الطَّرِيقُ الَّذِي تَمُرُّ فِيهِ الْعَجَلَةُ لَمْ يَصِحَّ، وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً عَلَيْهِ، فَإِنْ اتَّصَلَتْ أَوْ كَانَ أَضْيَقَ مِنْ قَدْرِ الْعَجَلَةِ صَحَّ، وَلَوْ كَانَ خَلْفَهُ وَاحِدٌ عَلَى الطَّرِيقِ لَا يَجُوزُ الْقِيَامُ خَلْفَ هَذَا الْوَاحِدِ، وَكَذَا الِاثْنَانِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ
(وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ أَحْدَثَ فَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ يُصَلِّي مَا بَقِيَ) وَالْقِيَاسُ فِيهِمَا الِاسْتِقْبَالُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله لِوُجُودِ الِانْصِرَافِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ انْصَرَفَ عَلَى قَصْدِ الْإِصْلَاحِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ مَا تَوَهَّمَهُ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ فَأَلْحَقَ قَصْدَ الْإِصْلَاحِ بِحَقِيقَتِهِ مَا لَمْ يَخْتَلِفْ الْمَكَانُ بِالْخُرُوجِ،
وَالثَّلَاثَةُ يَجُوزُ خَلْفَهُمْ اتِّفَاقًا، وَإِذَا قَامُوا مَعَ الْإِمَامِ عَلَى الطَّرِيقِ صُفُوفًا وَصَفٌّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي قُدَّامَهُ قَدْرُ الْعَجَلَةِ فَسَدَتْ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ مَنْ خَلْفَهُ، وَكَذَا لَوْ فَسَدَتْ صَلَاةُ صَفٍّ لِقِيَامِهِمْ عَلَى نَجَاسَةٍ تَفْسُدُ عَلَى مَنْ خَلْفَهُمْ أَجْمَعَ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَمَنْ خَلْفَهُ فَسَدَتْ عَلَى الْكُلِّ أَيْضًا، وَالْمَانِعُ مِنْ الِاقْتِدَاءِ فِي الْفَلَاةِ خَلَاءٌ يَسَعُ صَفَّيْنِ وَلَا يَمْنَعُ فِي مُصَلَّى الْعِيدِ وَإِنْ وَسِعَ أَكْثَرَ. وَاخْتُلِفَ فِي مُصَلَّى الْجِنَازَةِ وَجَعَلَهُ فِي النَّوَازِلِ كَالْمَسْجِدِ، وَلَوْ كَانَتْ فُرْجَةٌ وَسَطَ الصُّفُوفِ فِي الصَّحْرَاءِ قَدْرَ حَوْضٍ كَبِيرٍ وَهُوَ مَا لَا يُنَجَّسُ إلَّا بِالتَّغَبُّرِ وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ حَوْلَهَا جَازَ وَإِلَّا فَلَا، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا جَازَ مُطْلَقًا.
وَالثَّالِثُ نَهْرٌ يَجْرِي فِيهِ زَوْرَقٌ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ جِسْرٌ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ جَازَ الِاقْتِدَاءُ مِنْ وَرَائِهِ، أَوْ وَاحِدٌ فَلَا، أَوْ اثْنَانِ فَعَلَى الْخِلَافِ فِي الطَّرِيقِ، وَلَوْ كَانَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ فِي الْمُخْتَارِ (قَوْلُهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ) فِي النِّهَايَةِ هِيَ فِيمَا إذَا كَانَ بَابُ الْمَسْجِدِ عَلَى غَيْرِ حَائِطِ الْقِبْلَةِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا وَهُوَ يَمْشِي مُتَوَجِّهًا لَا تَفْسُدُ بِالِاتِّفَاقِ.
(قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ) ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَصَارَ كَمَا لَوْ ظَنَّ مَاسِحٌ انْقِضَاءَ الْمُدَّةِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ مُتَيَمِّمٌ سَرَابًا مَاءً أَوْ ظَنَّ حُمْرَةً دَمًا أَوْ أَنَّ عَلَيْهِ فَائِتَةً وَلَمْ تَكُنْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ فَالْحَقُّ قَصْدُ الْإِصْلَاحِ بِحَقِيقَتِهِ مَا لَمْ يَخْتَلِفْ الْمَكَانُ) وَجْهُ صِحَّةِ هَذَا الِاعْتِبَارِ جَوَازُ الرَّمْيِ عَلَى الْكُفَّارِ الْمُتَتَرِّسِينَ بِأَسَارَى الْمُسْلِمِينَ بِشَرْطِ قَصْدِ الْكُفَّارِ، وَإِنْ غَلَبَ ظَنُّ إصَابَةِ الْمُسْلِمِينَ عُلِمَ أَنَّ قَصْدَ رَمْيِهِمْ أُلْحِقَ بِحَقِيقَتِهِ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ، لَكِنْ أُظْهِرَ التَّفَاوُتُ بِتَقْيِيدِهِ بِعَدَمِ الِاسْتِخْلَافِ وَاتِّحَادِ الْمَكَانِ كَالْمَسْجِدِ إذْ لَهُ حُكْمُ الْبُقْعَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلِذَا لَوْ كَرَّرَ سَجْدَةً فِي زَوَايَاهُ لَزِمَهُ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالدَّارُ وَالْجَبَّانَةُ وَمُصَلَّى الْجِنَازَةِ كَالْمَسْجِدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إلَّا فِي الْمَرْأَةِ، فَلَوْ خَرَجَتْ عَنْ مُصَلَّاهَا تَفْسُدُ لِأَنَّهُ كَالْمَسْجِدِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَلِذَا تَعْتَكِفُ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ فَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ مِقْدَارَ الصُّفُوفِ خَلْفَهُ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ، وَلَوْ تَقَدَّمَ قُدَّامَهُ فَالْحَدُّ السُّتْرَةُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَمِقْدَارُ الصُّفُوفِ خَلْفَهُ اهـ.
وَالْأَوْجُهُ إذَا لَمْ تَكُنْ سُتْرَةً أَنْ
وَإِنْ كَانَ اسْتَخْلَفَ فَسَدَتْ لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ظَنَّ أَنَّهُ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَانْصَرَفَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ عَلَى وُضُوءٍ حَيْثُ تَفْسُدُ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ لِأَنَّ الِانْصِرَافَ عَلَى سَبِيلِ الرَّفْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ مَا تَوَهَّمَهُ يَسْتَقْبِلُهُ فَهَذَا هُوَ الْحَرْفُ، وَمَكَانُ الصُّفُوفِ فِي الصَّحْرَاءِ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ، وَلَوْ تَقَدَّمَ قُدَّامَهُ فَالْحَدُّ هُوَ السُّتْرَةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَمِقْدَارُ الصُّفُوفِ خَلْفَهُ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَمَوْضِعُ سُجُودِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (وَإِنَّ جُنَّ أَوْ نَامَ فَاحْتَلَمَ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ اسْتَقْبَلَ) لِأَنَّهُ يَنْدُرُ وُجُودُ هَذِهِ الْعَوَارِضِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ،
يَعْتَبِرَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ لِأَنَّ الْإِمَامَ مُنْفَرِدٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَحُكْمُ الْمُنْفَرِدِ ذَلِكَ (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ اسْتَخْلَفَ فَسَدَتْ) وَإِنْ لَمْ يُجَاوِزْ الْحَدَّ الْمَذْكُورَ، وَقِيلَ الْفَسَادُ بِالِاسْتِخْلَافِ قَوْلُهُمَا لَا قَوْلُهُ. وَفِي مُتَفَرِّقَاتِ أَبِي جَعْفَرٍ: إذَا أَتَى الْخَلِيفَةُ بِالرُّكُوعِ فَسَدَتْ وَقَبْلَهُ لَا.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ: إنْ قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ فَسَدَتْ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِرُكْنٍ وَإِلَّا لَا، وَلَوْ اسْتَخْلَفَ الْقَوْمُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ لَا صَلَاةُ الْإِمَامِ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا ظَنَّ أَنَّهُ افْتَتَحَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ) وَمَا قَدَّمْنَاهُ أَيْضًا لِأَنَّ الِانْصِرَافَ عَلَى سَبِيلِ الرَّفْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ مَا تَحَايَلَهُ لَا يَبْنِي فَلَا يَبْنِي.
وَفِي النِّهَايَةِ: وَمَا يُجَانِسُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَا ذُكِرَ فِي الْعُيُونِ: صَلَّى الْعِشَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ يَظُنُّهَا تَرْوِيحَةً أَوْ فِي الظُّهْرِ يَظُنُّهَا جُمُعَةً وَأَنَّهُ مُسَافِرٌ يَسْتَقْبِلُ، فَإِنْ سَلَّمَ عَلَى ظَنِّ الْفَرَاغِ يَبْنِي وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ عَامِدٌ فِي السَّلَامِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَسَلَامُ الْعَمْدِ قَاطِعٌ، وَفِي الْأَخِيرَةِ ظَنَّ الْفَرَاغَ فَلَمْ يَتَعَمَّدْ السَّلَامَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَا قَصْدُ رَفْضٍ أَوْ إصْلَاحٍ أَصْلًا، بَلْ ظَنَّ تَمَامَ مَا تَوَهَّمَهُ وَلَيْسَ الظَّنُّ قَصْدًا لِأَنَّهُ مِنْ الْكَيْفِ وَالْقَصْدُ مِنْ الْفِعْلِ (قَوْلُهُ فَهَذَا هُوَ الْحَرْفُ) أَيْ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ إذَا انْصَرَفَ بِظَنٍّ، فَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقُهُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا جَازَ الْبِنَاءُ فَظَهَرَ خِلَافًا جَازَ الْبِنَاءُ، وَإِنْ كَانَ لَوْ كَانَ لَمْ يَجُزْ فَظَهَرَ خِلَافُهُ لَمْ يَجُزْ (قَوْله اسْتَقْبَلَ) أَيْ إنْ وُجِدَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، أَمَّا بَعْدَهُ فَلَا لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَمْكُثَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ مُحْدِثًا بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ فِي مَكَانِهِ فَيَصِيرَ مُؤَدِّيًا جُزْءًا مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ أَوْ يَضْطَرِبَ عِنْدَهَا وَذَلِكَ فِعْلٌ مِنْهُ وَبِهِ
وَكَذَلِكَ إذَا قَهْقَهَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ وَهُوَ قَاطِعٌ.
(وَإِنْ حُصِرَ الْإِمَامُ عَنْ الْقِرَاءَةِ فَقَدَّمَ غَيْرَهُ أَجْزَأَهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَقَالَا لَا يُجْزِئُهُمْ) لِأَنَّهُ يَنْدُرُ وُجُودُهُ فَأَشْبَهَ الْجَنَابَةَ فِي الصَّلَاةِ. وَلَهُ أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ لِعِلَّةِ الْعَجْزِ وَهُوَ هَاهُنَا أَلْزَمُ، وَالْعَجْزُ عَنْ الْقِرَاءَةِ غَيْرُ نَادِرٍ فَلَا يَلْحَقُ بِالْجَنَابَةِ. وَلَوْ قَرَأَ مِقْدَارَ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ
تَتِمُّ الصَّلَاةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُفْسِدَ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ كَوْنِهِ مَقْصُودًا أَوْ لَا، وَكَذَا فِي الْقَهْقَهَةِ لِأَنَّهَا أَفْحَشُ مِنْ الْكَلَامِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ حُصِرَ) بِوَزْنِ تَعِبَ فِعْلًا وَمَصْدَرًا الْعِيُّ وَضِيقُ الصَّدْرِ (قَوْلُهُ وَقَالَا لَا يُجْزِئُهُ) بَلْ يُتِمُّهَا بِلَا قِرَاءَةٍ كَالْأُمِّيِّ لِأَنَّ جَوَازَ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْحَدَثِ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَلَيْسَ الْحَصْرُ فِي مَعْنَاهُ بَلْ دُونَهُ لِنُدْرَةِ نِسْيَانِ جَمِيعِ مَا يَحْفَظُ بِخِلَافِ الْحَدَثِ، وَلِتَوَقُّفِ كُلِّ الصَّلَاةِ عَلَى الطَّهَارَةِ وَعَدَمِ جَرَيَانِ النِّيَابَةِ فِيهَا بِخِلَافِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا (قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ بِعِلَّةِ الْعَجْزِ وَهُوَ هُنَا أَلْزَمُ) لِأَنَّ الْمُحْدِثَ لَوْ وَجَدَ مَاءً فِي الْمَسْجِدِ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَبْنِي وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِخْلَافِ بِعِلَّةِ الْعَجْزِ، وَهَذَا لَوْ تَعَلَّمَ مِنْ مُصْحَفٍ أَوْ عَلَّمَهُ إنْسَانٌ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ. لَا يُقَالُ: هَذَا قِيَاسٌ حَيْثُ عَيَّنَ الْعِلَّةَ وَأَلْحَقَ. لِأَنَّا نَقُولُ: تَعْيِينُ الْمَنَاطِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْإِلْحَاقِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَيْضًا عَلَى مَا قُرِّرَ، غَيْرَ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ كَوْنَهُ حَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ عَلَى أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ بَلْ عَلَى مُجَرَّدِ فَهْمِ اللُّغَةِ، أَلَا تَرَى إلَى تَسْمِيَةِ الشَّافِعِيَّةِ لَهُ قِيَاسًا جَلَّيَا، وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ مِنْ الشَّرْعِ تَجْوِيزَ اسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ لِسَبْقِ حَدَثِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ شُرُوطَ الصَّلَاةِ بَادَرَ إلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ لِصَوْنِ صَلَاةِ الْقَوْمِ عَنْ الْفَسَادِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ الْإِتْمَامِ بِهِمْ عَجْزًا لَا تَسَبُّبَ
لَا يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ بِالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ (وَإِنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ تَوَضَّأَ وَسَلَّمَ) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَاجِبٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّوَضُّؤِ لِيَأْتِيَ بِهِ (وَإِنْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ عَمِلَ عَمَلًا يُنَافِي الصَّلَاةَ تَمَّتْ صَلَاتُهُ) لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْبِنَاءُ لِوُجُودِ الْقَاطِعِ، لَكِنْ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَرْكَانِ.
(فَإِنَّ رَأَى الْمُتَيَمِّمُ الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ بَطَلَتْ) وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ (وَإِنْ رَآهُ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ أَوْ كَانَ مَاسِحًا فَانْقَضَتْ مُدَّةُ مَسْحِهِ أَوْ خَلَعَ خُفَّيْهِ بِعَمَلٍ يَسِيرٍ أَوْ كَانَ أُمِّيًّا فَتَعَلَّمَ سُورَةً أَوْ عُرْيَانًا فَوَجَدَ ثَوْبًا، أَوْ مُومِيًا فَقَدَر عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ،
لَهُ فِيهِ هُوَ فِي الْمُتَنَازِعِ فِيهِ فَيُلْحَقَ بِهِ دَلَالَةً (قَوْلُهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ) أَيْ الِاسْتِخْلَافُ، وَلَوْ فَعَلَ مَعَ إمْكَانِ آيَةٍ فَسَدَتْ.
وَفِي النِّهَايَةِ: إنَّمَا يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ إذَا لَحِقَهُ خَجَلٌ أَوْ خَوْفٌ فَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، أَمَّا إذَا نَسِيَ فَصَارَ أُمِّيًّا لَمْ يَجُزْ، وَتَقَدَّمَ فِي دَلِيلِهِمَا مَا يَقْتَضِي أَنَّ عِنْدَهُ يَجُوزُ فِي النِّسْيَانِ وَهُوَ فِي النِّهَايَةِ أَيْضًا فَلَا يَخْلُو مِنْ شَيْءٍ إلَّا أَنْ يُؤَوَّلَ النِّسْيَانُ هُنَا بِمَا يُشْبِهُهُ مِنْ امْتِنَاعِ الْقِرَاءَةِ.
(قَوْلُهُ فَإِنْ رَأَى الْمُتَيَمِّمُ الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ بَطَلَتْ) لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلْفِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَحْدَثَ الْمُتَيَمِّمُ فِي الصَّلَاةِ فَانْصَرَفَ فَوَجَدَ مَاءً فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي دُونَ فَسَادٍ لِأَنَّ انْتِقَاضَ التَّيَمُّمِ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ الْحَدَثِ السَّابِقِ وَرُؤْيَةُ الْمَاءِ هُنَا بَعْدَ انْتِقَاضِهِ بِالْحَدَثِ فَلَمْ تُوجَدْ الْقُدْرَةُ حَالَ قِيَامٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ انْتِقَاضُهُ مُسْتَنِدًا كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ: لَوْ قَالَ: فَإِنْ رَأَى الْمُتَيَمِّمُ أَوْ الْمُقْتَدِي بِهِ إلَخْ لَكَانَ أَشْمَلَ، فَإِنَّ الْمُتَوَضِّئَ الْمُقْتَدِيَ بِهِ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ لِاعْتِقَادِهِ قُدْرَةَ إمَامِهِ بِإِخْبَارِهِ وَصَلَاةُ الْإِمَامِ تَامَّةٌ مَا لَمْ يَعْلَمْ.
وَفِيهِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ أَوْ تَمَّتْ مُدَّةُ مَسْحِهِ هَذَا إذَا كَانَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ لَا تَبْطُلُ وَقِيلَ تَبْطُلُ وَهِيَ الْخِلَافِيَّةُ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا فِي بَابِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
قَالَ: وَلَوْ أَحْدَثَ فَذَهَبَ لِيَتَوَضَّأَ فَتَمَّتْ الْمُدَّةُ لَا تَبْطُلُ بَلْ يَتَوَضَّأُ وَيَغْسِلُ رِجْلَيْهِ وَيَبْنِي لِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُ غَسْلُ رِجْلَيْهِ لِحَدَثٍ حَلَّ بِهِمَا لِلْحَالِ فَصَارَ كَحَدَثِ سَبْقِهِ لِلْحَالِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ لِأَنَّ انْقِضَاءَ الْمُدَّةِ لَيْسَ بِحَدَثٍ بَلْ يَظْهَرُ عِنْدَهُ السَّابِقُ عَلَى الشُّرُوعِ فَكَأَنَّهُ شَرَعَ بِلَا طَهَارَةٍ فَصَارَ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا أَحْدَثَ فَذَهَبَ لِلْوُضُوءِ فَوَجَدَهُ فَإِنَّهُ لَا يَبْنِي لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا الْمُسْتَحَاضَةُ إذَا أَحْدَثَتْ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ ذَهَبَ الْوَقْتُ قَبْلَ أَنْ تَتَوَضَّأَ انْتَهَى.
وَهَذَا الصَّرِيحُ فِي ثُبُوتِ الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةِ التَّيَمُّمِ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْأَسْبَابَ الْمُتَعَاقِبَةَ كَالْبَوْلِ ثُمَّ الرُّعَافُ ثُمَّ الْقَيْءُ إنَّ أَوْجَبَتْ أَحْدَاثًا مُتَعَدِّدَةً يُجْزِئُهُ عَنْهَا وُضُوءٌ وَاحِدٌ، فَالْأَوْجَهُ مَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ الرُّعَافِ فَبَال ثُمَّ رَعَفَ ثُمَّ تَوَضَّأَ أَنَّهُ يَحْنَثُ. وَإِنْ قُلْنَا لَا تُوجِبُ كَمَا قَدَّمْنَا النَّظَرَ فِيهِ فِي بَابِ الْغُسْلِ فَالْأَوْجَهُ مَا فِي النِّهَايَةِ وَهُوَ الْحَقُّ فِي اعْتِقَادِي، لَكِنْ كَلَامُ النِّهَايَةِ لَيْسَ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي بَابِ الْغُسْلِ فَلَا تَتَفَرَّعُ مَسْأَلَةُ التَّيَمُّمِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ اخْتِيَارِهِ (قَوْلُهُ بِعَمَلٍ يَسِيرٍ) بِأَنْ كَانَ وَاسِعًا، فَلَوْ كَانَ ضَيِّقًا يَحْتَاجُ إلَى عِلَاجٍ تَمَّتْ لِلْمُنَافِي
أَوْ تَذَكَّرَ فَائِتَةً عَلَيْهِ قَبْلَ هَذِهِ أَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ الْقَارِئُ فَاسْتَخْلَفَ أُمِّيًّا أَوْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فِي الْفَجْرِ أَوْ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ فِي الْجُمُعَةِ، أَوْ كَانَ مَاسِحًا عَلَى الْجَبِيرَةِ فَسَقَطَتْ عَنْ بُرْءٍ، أَوْ كَانَ صَاحِبَ عُذْرٍ فَانْقَطَعَ عُذْرُهُ كَالْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ بِمَعْنَاهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَقَالَا تَمَّتْ صَلَاتُهُ) وَقِيلَ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ الصَّلَاةِ بِصُنْعِ
قَوْلُهُ أَوْ تَذَكَّرَ فَائِتَةً) أَيْ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى إمَامِهِ وَفِي الْوَقْتِ سَعَةٌ (قَوْلُهُ أَوْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فِي الْفَجْرِ) يَعْنِي طُلُوعُهَا مُفْسِدٌ، فَإِذَا طَلَعَتْ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَسَدَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا.
وَلْنَسْتَطْرِدْ ذِكْرَ الْخِلَافِ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ.
فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ عَدَمُ فَسَادِ الصَّلَاةِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ فِيهَا تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا» وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ. وَلَنَا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْمُتَقَدِّمُ فَإِنَّهُ يُفِيدُ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ الْمُتَقَدِّمِ الْفَسَادَ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ. وَإِذَا تَعَارَضَا قُدِّمَ النَّهْيُ فَيَجِبُ حَمْلُ مَا رَوَوْا عَلَى مَا قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ دَفْعًا لِإِهْمَالِ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا فَيَتَعَذَّرُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُمْسِكُ عَنْ الْأَفْعَالِ فِي أَيِّ رُكْنٍ وَقَعَ الطُّلُوعُ إلَى أَنْ تَرْتَفِعَ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ طُلُوعُهَا يُوجِبُ الْفَسَادَ لَا يُفِيدُ الْإِمْسَاكُ مَنْعَهُ.
وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ تُعْرَفُ بِالِاثْنَيْ عَشَرَةَ وَزِيدَ عَلَيْهَا مَا إذَا وُجِدَ مَاءٌ يُغْسَلُ بِهِ النَّجَاسَةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: أَعْنِي بَعْدَ قَدْرِ التَّشَهُّدِ وَمَا إذَا دَخَلَ وَقْتٌ مَكْرُوهٌ فِي قَضَاءِ فَائِتَةٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَمَا إذَا أُعْتِقَتْ وَهِيَ تُصَلِّي بِغَيْرِ قِنَاعٍ فَلَمْ تَسْتَتِرْ مِنْ وَقْتِهَا وَكَوْنُ الِانْقِطَاعِ الْمُفْسِدِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا دَامَ وَقْتًا كَامِلًا بَعْدَ الْوَقْتِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ وَوَقَعَ الِانْقِطَاعُ فِيهِ فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّهُ انْقِطَاعٌ مُؤَثِّرٌ فَيَظْهَرُ الْفَسَادُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَقْضِيهَا وَإِلَّا فَبِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ وَقِيلَ الْأَصْلُ فِيهِ)
الْمُصَلِّي فَرْضٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَلَيْسَ بِفَرْضٍ عِنْدَهُمَا، فَاعْتِرَاضُ هَذِهِ الْعَوَارِضِ عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَاعْتِرَاضِهَا فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ وَعِنْدَهُمَا كَاعْتِرَاضِهَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ. لَهُمَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه. وَلَهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ صَلَاةٍ أُخْرَى إلَّا بِالْخُرُوجِ مِنْ هَذِهِ.
وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْفَرْضِ إلَّا بِهِ يَكُونُ فَرْضًا.
أَيْ فِي ثُبُوتِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، قِيلَ قَائِلُهُ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ (قَوْلُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ) أَيْ إذَا قُلْت هَذَا أَوْ فَعَلْت هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُك (قَوْلُهُ وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْفَرْضِ إلَّا بِهِ يَكُونُ فَرْضًا) وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطَّلَبَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِنَاءً عَلَى اخْتِيَارِهِ لَا بِلَا اخْتِيَارٍ.
وَقَدْ يُقَالُ: اقْتِضَاءُ الْحُكْمِ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِيَارِ لِيَنْتَفِيَ الْجَبْرُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَقَاصِدِ لَا الْوَسَائِلِ، وَإِذًا لَوْ حُمِلَ مُغْمًى عَلَيْهِ إلَى الْمَسْجِدِ فَأَفَاقَ فَتَوَضَّأَ فِيهِ أَجْزَأَهُ عَنْ السَّعْيِ، وَلَوْ لَمْ يُحْمَلْ وَجَبَ عَلَيْهِ السَّعْيُ لِيُتَوَصَّلَ، فَكَذَا إذَا تَحَقَّقَ الْقَاطِعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِلَا اخْتِيَارٍ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى صَلَاةٍ أُخْرَى، وَلَوْ لَمْ يَتَحَقَّقْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلٌ هُوَ قُرْبَةُ قَاطِعٍ. فَلَوْ فَعَلَ مُخْتَارًا مُحَرَّمًا أَثِمَ لِمُخَالَفَةِ الْوَاجِبِ.
وَالْجَوَابُ بِأَنَّ الْفَسَادَ عِنْدَهُ لَيْسَ لِعَدَمِ الْفِعْلِ بَلْ لِلْأَدَاءِ مَعَ الْحَدَثِ، إذْ بِالرُّؤْيَةِ وَانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَانْقِطَاعِ الْعُذْرِ يَظْهَرُ السَّابِقُ فَيَسْتَنِدُ النَّقْصُ فَيَظْهَرُ فِي هَذِهِ لِقِيَامِ حُرْمَتِهَا حَالَةَ الظُّهُورِ، بِخِلَافِ الْمُنْقَضِيَةِ لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ وَلَوْ سُلِّمَ أَيْضًا.
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الْخُرُوجَ بِفِعْلِهِ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. بَلْ هُوَ حُمِلَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ لَمَّا رَأَى خِلَافَهُ فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَاخْتَصَّ بِفِعْلٍ هُوَ قُرْبَةٌ، وَإِنَّمَا تَبْطُلُ عِنْدَهُ فِيهَا لِأَنَّهُ فِي أَثْنَائِهَا
وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَمَّتْ قَارَبَتْ التَّمَامَ، وَالِاسْتِخْلَافُ لَيْسَ بِمُفْسِدٍ حَتَّى يَجُوزَ فِي حَقِّ الْقَارِئِ، وَإِنَّمَا الْفَسَادُ ضَرُورَةُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ عَدَمُ صَلَاحِيَّةِ الْإِمَامَةِ.
(وَمَنْ اقْتَدَى بِإِمَامٍ بَعْدَ مَا صَلَّى رَكْعَةً فَأَحْدَثَ الْإِمَامُ فَقَدَّمَهُ أَجْزَأَهُ) لِوُجُودِ الْمُشَارَكَةِ فِي التَّحْرِيمَةِ، وَالْأَوْلَى لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَدِّمَ مُدْرِكًا لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ صَلَاتِهِ، وَيَنْبَغِي لِهَذَا الْمَسْبُوقِ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ
كَيْفَ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ وَهُوَ السَّلَامُ وَهُوَ آخِرُهَا دَاخِلًا فِيهَا، وَاعْتِرَاضُ الْمُغَيِّرِ فِي ذَلِكَ كَهُوَ قَبْلَهُ، وَلِذَا يَتَغَيَّرُ الْفَرْضُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِيهِ وَاقْتِدَاءِ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ فِيهِ (قَوْلُهُ وَالِاسْتِخْلَافُ لَيْسَ بِمُفْسِدٍ) أَيْ فِي حَالَةِ الْحَدَثِ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي نَفْسِهِ عَمَلٌ كَثِيرٌ مُفْسِدٌ فَلِذَا أَفْسَدَ فِي مَسْأَلَةِ تَوَهُّمِ الْحَدَثِ دُونَ الِانْصِرَافِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ فُعِلَ الْمُفْسِدُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ إذْ لَا حَاجَةَ لَهُ إلَى اسْتِخْلَافِ إمَامٍ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ فَتَتِمَّ صَلَاتُهُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ صَلَاتِهِ) أَفَادَ التَّعْلِيلُ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُقَدِّمَ مُقِيمًا إذَا كَانَ مُسَافِرًا وَلَا لَاحِقًا لِأَنَّهُمَا لَا يَقْدِرَانِ عَلَى الْإِتْمَامِ، وَحِينَئِذٍ فَكَمَا لَا يَنْبَغِي لِلْمَسْبُوقِ أَنْ يَتَقَدَّمَ كَذَا هَذَانِ، وَكَمَا يُقَدِّمُ مُدْرِكًا لِلسَّلَامِ لَوْ تَقَدَّمَ كَذَا الْآخَرَانِ، أَمَّا الْمُقِيمُ فَلِأَنَّ الْمُسَافِرِينَ خَلْفَهُ لَا يَلْزَمُهُمْ الْإِتْمَامُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ كَمَا لَا يَلْزَمُهُمْ بِنِيَّةِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الِاسْتِخْلَافِ أَوْ بِنِيَّةِ الْخَلِيفَةِ لَوْ كَانَ مُسَافِرًا فِي الْأَصْلِ. وَعِنْدَ زُفَرَ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُمْ أَرْبَعًا لِلِاقْتِدَاءِ بِالْمُقِيمِ.
قُلْنَا لَيْسَ هُوَ إمَامًا إلَّا ضَرُورَةَ عَجْزِ الْأَوَّلِ عَنْ الْإِتْمَامِ لَمَّا شَرَعَ فِيهِ فَيَصِيرُ قَائِمًا مَقَامَهُ فِيمَا هُوَ قَدْرُ صَلَاتِهِ. إذْ الْخَلَفُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْأَصْلِ كَأَنَّهُ هُوَ فَكَانُوا مُقْتَدِينَ
لِعَجْزِهِ عَنْ التَّسْلِيمِ (فَلَوْ تَقَدَّمَ يَبْتَدِئُ مِنْ حَيْثُ انْتَهَى إلَيْهِ الْإِمَامُ) لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ (وَإِذَا انْتَهَى إلَى السَّلَامِ يُقَدِّمُ مُدْرِكًا يُسَلِّمُ بِهِمْ، فَلَوْ أَنَّهُ حِينَ أَتَمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ قَهْقَهَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ تَامَّةٌ) لِأَنَّ الْمُفْسِدَ فِي حَقِّهِ وُجِدَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ وَفِي حَقِّهِمْ بَعْدَ تَمَامِ أَرْكَانِهَا وَالْإِمَامُ الْأَوَّلُ إنْ كَانَ فَرَغَ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ تَفْسُدُ وَهُوَ الْأَصَحُّ (فَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ قَهْقَهَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا فَسَدَتْ صَلَاةُ الَّذِي لَمْ يُدْرِكْ أَوَّلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَا: لَا تَفْسُدُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ لَمْ تَفْسُدْ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) لَهُمَا أَنَّ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي بِنَاءً عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ جَوَازًا وَفَسَادًا وَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاةُ الْإِمَامِ فَكَذَا صَلَاتُهُ وَصَارَ كَالسَّلَامِ وَالْكَلَامِ. وَلَهُ أَنَّ الْقَهْقَهَةَ مُفْسِدَةٌ لِلْجُزْءِ الَّذِي يُلَاقِيهِ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَيَفْسُدَ مِثْلُهُ مِنْ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي، غَيْرَ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْبِنَاءِ وَالْمَسْبُوقَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الْفَاسِدِ فَاسِدٌ بِخِلَافِ
بِالْمُسَافِرِ مَعْنًى، وَصَارَتْ الْقَعْدَةُ الْأُولَى فَرْضًا عَلَى الْخَلِيفَةِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ. أَمَّا لَوْ نَوَى الْإِمَامُ الْأَوَّلُ الْإِقَامَةَ قَبْلَ الِاسْتِخْلَافِ ثُمَّ اسْتَخْلَفَ فَإِنَّهُ يُتِمُّ الْخَلِيفَةُ صَلَاةَ الْمُقِيمِينَ، وَهَذَا إذَا عَلِمَ نِيَّةَ الْإِمَامِ بِأَنْ أَشَارَ الْإِمَامُ إلَيْهِ عِنْدَ الِاسْتِخْلَافِ فَأَفْهَمَهُ قَصْدَ الْإِقَامَةِ، وَيُقَدِّمُ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ مُسَافِرًا يُسَلِّمُ بِهِمْ ثُمَّ يَقْضِي الْمُقِيمُونَ رَكْعَتَيْنِ مُنْفَرِدِينَ، وَلَوْ اقْتَدَوْا بِهِ بَعْدَ قِيَامِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ دُونَ الْمُسَافِرِينَ لِأَنَّ اقْتِدَاءَهُمْ إنَّمَا تُوجِبُ الْمُتَابَعَةَ إلَى هُنَا.
وَأَمَّا اللَّاحِقُ فَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ تَقْدِيمُ غَيْرِهِ إذَا خَالَفَ الْوَاجِبَ بِأَنْ بَدَأَ بِإِتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُقَدِّمُ غَيْرَهُ لِلسَّلَامِ ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِمَا فَاتَهُ مَعَهُ، أَمَّا إذَا فَعَلَ الْوَاجِبَ بِأَنْ قَدَّمَ مَا فَاتَهُ مَعَ الْإِمَامِ لِيَقَعَ الْأَدَاءُ مُرَتَّبًا فَيُشِيرُ إلَيْهِمْ إذَا تَقَدَّمَ أَنْ لَا يُتَابِعُوهُ فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِمَّا فَاتَهُ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ يُتَابِعُونَهُ وَيُسَلِّمُ بِهِمْ (قَوْلُهُ يَبْتَدِئُ مِنْ حَيْثُ انْتَهَى إلَيْهِ الْإِمَامُ) بَانِيًا عَلَى ذَلِكَ، فَلِذَا قَالُوا لَوْ اسْتَخْلَفَ فِي الرُّبَاعِيَّةِ مَسْبُوقًا بِرَكْعَتَيْنِ فَصَلَّى الْخَلِيفَةُ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَقْعُدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ اسْتَخْلَفَ مُسَافِرٌ مُقِيمًا وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَقْعُدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَصَلَاةُ الْقَوْمِ كَذَا هَذَا، ثُمَّ هَذَا فَرْعُ عِلْمِ الْمَسْبُوقِ بِكَمِّيَّةِ صَلَاةِ الْأَوَّلِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ يُتِمُّ رَكْعَةً وَيَقْعُدُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ يَقُومُ وَيُتِمُّ صَلَاةَ نَفْسِهِ وَلَا يُتَابِعُهُ الْقَوْمُ بَلْ يَصِيرُونَ إلَى أَنْ يَفْرُغَ فَيُصَلُّونَ مَا عَلَيْهِمْ وُحْدَانًا وَيَقْعُدُ هَذَا الْخَلِيفَةُ عَلَى كُلِّ رَكْعَةٍ احْتِيَاطًا.
(قَوْلُهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ) احْتِرَازٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَنَّهَا تَامَّةٌ، قَالُوا: وَكَأَنَّهَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ بِتَقْسِيمٍ يَسْتَدْعِي الْمُخَالَفَةَ فِي الْجَوَابِ. ثُمَّ أَجَابَ فِي الْفَصْلَيْنِ بِأَنَّ صَلَاتَهُ تَامَّةٌ وَإِلَّا فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْبِنَاءِ وَضَحِكُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُفْسِدُ وَكَذَا ضَحِكُ الْخَلِيفَةِ وَهَذَا لِأَنَّهُ صَارَ مَأْمُومًا بِهِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَلِذَا قَالُوا: لَوْ تَذَكَّرَ الْخَلِيفَةُ فَائِتَةً فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالْقَوْمِ، وَلَوْ تَذَكَّرَهَا الْأَوَّلُ بَعْدَ مَا خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ خَاصَّةً، أَوْ قَبْلَ خُرُوجِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْخَلِيفَةِ وَالْقَوْمِ (قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ إلَخْ) لَفْظُ الْأَوَّلِ هُنَا تَسَاهُلٌ، إذْ لَيْسَ فِي صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إمَامٌ ثَانٍ، إذْ لَيْسَ فِيهَا اسْتِخْلَافٌ، بَلْ حَاصِلُهَا رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا مَسْبُوقِينَ وَمُدْرِكِينَ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى مَحَلِّ السَّلَامِ قَهْقَهَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْمَسْبُوقِينَ عِنْدَ الْكُلِّ، ثُمَّ فَسَادُ صَلَاةِ الْمَسْبُوقِينَ عِنْدَهُ مُقَيَّدٌ بِمَا
السَّلَامِ لِأَنَّهُ مِنْهُ وَالْكَلَامَ فِي مَعْنَاهُ،
إذَا لَمْ يَكُونُوا قَضَوْا رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْهَا قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ الْإِمَامُ بِأَنْ قَامَ الْمَسْبُوقُ لِلْقَضَاءِ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ وَهُوَ أَنْ لَا يَقُومَ إلَّا بَعْدَ سَلَامِهِ، أَمَّا لَوْ قَامَ فَقَضَى رَكْعَةً فَسَجَدَ لَهَا ثُمَّ فَعَلَ الْإِمَامُ ذَلِكَ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ اسْتَحْكَمَ انْفِرَادَهُ حَتَّى لَا يَسْجُدَ لَوْ سَجَدَ الْإِمَامُ لِسَهْوٍ عَلَيْهِ، وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لَوْ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ بَعْدَ سُجُودِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِي الْقَوْمِ لَاحِقٌ، إنْ فَعَلَ الْإِمَامُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَامَ يَقْضِي مَا فَاتَهُ مَعَ الْإِمَامِ لَا تَفْسُدُ وَإِلَّا تَفْسُدُ عِنْدَهُ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مِنْهُ) أَيْ مُتَمِّمٌ لِلصَّلَاةِ، وَالْكَلَامُ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ السَّلَامَ كَلَامٌ يَشْتَمِلُ عَلَى كَافِ الْخِطَابِ فَهُوَ مِنْ الْكَلَامِ فِي ذَاتِهِ وَفِي حُكْمِهِ الَّذِي هُوَ الْإِفْسَادُ إذْ لَمْ يُفَوِّتْ شَرْطَ الصَّلَاةِ وَهِيَ الطَّهَارَةُ بَلْ هُوَ قَاطِعٌ فَكَأَنَّهُ قَطَعَ الصَّلَاةَ بِهِ فَلَمْ يَفْسُدْ شَيْءٌ مِنْ صَلَاةِ الْمَسْبُوقِ، بِخِلَافِ الْقَهْقَهَةِ لِتَفْوِيتِهَا الطَّهَارَةَ فَتُفْسِدُ جُزْءَا تُلَاقِيهِ فَيَفْسُدُ مِثْلُهُ مِنْ صَلَاةِ الْمَسْبُوقِ، وَلِهَذَا لَوْ تَكَلَّمَ الْإِمَامُ بَعْدَ قَدْرِ التَّشَهُّدِ فَعَلَى الْقَوْمِ أَنْ يُسَلِّمُوا، وَلَوْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ أَوْ قَهْقَهَ ذَهَبُوا وَلَمْ يُسَلِّمُوا. .
[وَهَذَا فَصْلٌ فِي الْمَسْبُوقِ كُنَّا وَعَدْنَاهُ] وَهُوَ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ أَوَّلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ هُوَ كَالْمُنْفَرِدِ إلَّا فِي أَرْبَعِ مَسَائِلَ: إحْدَاهَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُ وَلَا الِاقْتِدَاءُ بِهِ لِأَنَّهُ بَانَ تَحْرِيمُهُ، أَمَّا لَوْ نَسِيَ أَحَدُ الْمَسْبُوقَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ كَمِّيَّةَ مَا عَلَيْهِ فَقَضَى مُلَاحِظًا لِلْآخَرِ بِلَا اقْتِدَاءٍ بِهِ صَحَّ.
ثَانِيهَا لَوْ كَبَّرْنَا وَبِالِاسْتِئْنَافِ يَصِيرُ مُسْتَأْنِفًا قَاطِعًا لِلْأَوْلَى بِخِلَافِ الْمُنْفَرِدِ عَلَى مَا يَأْتِي. ثَالِثُهَا لَوْ قَامَ إلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ وَعَلَى الْإِمَامِ سَجْدَتَا سَهْوٍ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ فَيَسْجُدَ مَعَهُ مَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِسَجْدَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ حَتَّى سَجَدَ يَمْضِي وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، بِخِلَافِ الْمُنْفَرِدِ لَا يَلْزَمُهُ السُّجُودُ لِسَهْوِ غَيْرِهِ.
رَابِعُهَا: يَأْتِي بِتَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ اتِّفَاقًا بِخِلَافِ الْمُنْفَرِدِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ هُوَ مُنْفَرِدٌ لِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِيمَا يَقْضِيهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَلَا يَقُومُ إلَى الْقَضَاءِ بَعْدَ التَّسْلِيمَتَيْنِ بَلْ يَنْتَظِرُ فَرَاغَ الْإِمَامِ بَعْدَهُمَا لِاحْتِمَالِ سَهْوٍ عَلَى الْإِمَامِ فَيَصِيرُ حَتَّى يَفْهَمَ أَنْ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ، إذْ لَوْ كَانَ لَسَجَدَ. قُلْت: هَذَا إذَا اقْتَدَى بِمَنْ يَرَى سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ، أَمَّا إذَا اقْتَدَى بِمَنْ يَرَاهُ قَبْلَهُ فَلَا، وَلَا يَقُومُ الْمَسْبُوقُ قَبْلَ السَّلَامِ بَعْدَ قَدْرِ التَّشَهُّدِ إلَّا فِي مَوَاضِعَ: إذَا خَافَ وَهُوَ مَاسِحٌ تَمَامَ الْمُدَّةِ لَوْ انْتَظَرَ سَلَامَ الْإِمَامِ، أَوْ خَافَ الْمَسْبُوقُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْفَجْرِ أَوْ الْمَعْذُورُ خُرُوجَ الْوَقْتِ، أَوْ خَافَ أَنْ يَبْتَدِرَهُ الْحَدَثُ أَوْ أَنْ تَمُرَّ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَوْ قَامَ فِي غَيْرِهَا بَعْدَ قَدْرِ التَّشَهُّدِ صَحَّ، وَيُكْرَهُ تَحْرِيمًا لِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ وَاجِبَةٌ بِالنَّصِّ، قَالَ صلى الله عليه وسلم «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» وَهَذِهِ مُخَالَفَةٌ لَهُ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُفِيدَةِ لِلْوُجُوبِ. لَوْ قَامَ قَبْلَهُ.
قَالَ فِي النَّوَازِلِ: إنْ قَرَأَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّشَهُّدِ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ جَازَ وَإِلَّا فَلَا، هَذَا فِي الْمَسْبُوقِ بِرَكْعَةٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ بِثَلَاثٍ، فَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ قِيَامٌ بَعْدَ تَشَهُّدِ الْإِمَامِ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ سَيَقْرَأُ فِي الْبَاقِيَتَيْنِ وَالْقِرَاءَةُ فَرْضٌ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَلَوْ قَامَ حَيْثُ يَصِحُّ وَفَرَغَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ وَتَابَعَهُ فِي السَّلَامِ قِيلَ تَفْسُدُ، وَالْفَتْوَى عَلَى أَنْ لَا تَفْسُدَ وَإِنْ كَانَ اقْتِدَاؤُهُ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ مُفْسِدًا لِأَنَّ هَذَا مُفْسِدٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ فَهُوَ كَتَعَمُّدِ الْحَدَثِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَوْ سَلَّمَ الْمَسْبُوقُ مَعَ الْإِمَامِ
وَيَنْتَقِضُ وُضُوءُ الْإِمَامِ لِوُجُودِ الْقَهْقَهَةِ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ.
(وَمَنْ أَحْدَثَ فِي رُكُوعِهِ أَوْ سُجُودِهِ تَوَضَّأَ وَبَنَى،
سَاهِيًا لَا سَهْوَ عَلَيْهِ، وَإِنْ سَلَّمَ بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ لِتَحَقُّقِ سَهْوِهِ بَعْدَ انْفِرَادِهِ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ مَعَهُ فَهُوَ سَلَامُ عَمْدٍ يَمْنَعُ الْبِنَاءَ، وَلَوْ ظَنَّ الْإِمَامُ أَنَّ عَلَيْهِ سَهْوًا فَسَجَدَ وَتَابَعَهُ الْمَسْبُوقُ ثُمَّ عَلِمَ أَنْ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَبِنَاءً عَلَيْهِمَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ.
وَأَشْبَهَهُمَا فَسَادُ صَلَاةِ الْمَسْبُوقِ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرِ لَا، وَبِهِ أَخَذَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ، وَالْأَوَّلُ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ سَجْدَتَيْنِ كَزِيَادَةِ الرَّكْعَةِ مُفْسِدٌ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَسَائِلِ السَّجَدَاتِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ قَالُوا: لَوْ تَابَعَ الْمَسْبُوقُ الْإِمَامَ فِي السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا قُيِّدَ بِالسَّجْدَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْفَسَادَ لَيْسَ لِذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ: لَا تَفْسُدُ بِزِيَادَةِ سَجْدَتَيْنِ، بَلْ الْمُوجِبُ لِلْفَسَادِ الِاقْتِدَاءُ فِي مَوْضِعٍ عَلَيْهِ الِانْفِرَادُ فِيهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّاحِقَ إذَا سَجَدَ لِسَهْوِ الْإِمَامِ مَعَ الْإِمَامِ تَكُونُ زِيَادَةُ سَجْدَتَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَعْتَدُّ بِهِمَا حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِذَلِكَ.
وَلَوْ تَذَكَّرَ الْإِمَامُ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ وَعَادَ إلَى قَضَائِهَا إنْ لَمْ يُقَيِّدْ الْمَسْبُوقُ رَكْعَتَهُ بِسَجْدَةٍ فَإِنَّهُ يَرْفُضُ ذَلِكَ وَيُتَابِعُ فِيهَا وَيَسْجُدُ مَعَهُ لِلسَّهْوِ ثُمَّ يَقُومُ إلَى الْقَضَاءِ وَلَوْ لَمْ يَعُدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ عَوْدَ الْإِمَامِ إلَى سُجُودِ التِّلَاوَةِ يَرْفُضُ الْقَعْدَةَ، وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَصِرْ مُنْفَرِدًا لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ دُونَ رَكْعَةٍ فَيُرْتَفَضُ فِي حَقِّهِ أَيْضًا، وَإِذَا ارْتُفِضَتْ لَا يَجُوزُ لَهُ الِانْفِرَادُ لِأَنَّ هَذَا أَوَانُ افْتِرَاضِ الْمُتَابَعَةِ وَالِانْفِرَادُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ، وَلَوْ تَابَعَهُ بَعْدَ تَقْيِيدِهَا بِالسَّجْدَةِ فِيهَا فَسَدَتْ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ لَمْ يُتَابِعْهُ.
فَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الصَّلَاةِ تَفْسُدُ أَيْضًا، وَفِي رِوَايَةِ النَّوَادِرِ لَا. وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الْعَوْدَ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ رَفَضَ الْقَعْدَةَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ انْفَرَدَ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ.
وَجْهُ نَوَادِرِ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ ارْتِفَاضَ الْقَعْدَةِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا تَمَّ انْفِرَادَهُ وَخَرَجَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ ارْتُفِضَتْ كُلُّهَا فِي حَقِّهِ بَعْدَ اسْتِحْكَامِ انْفِرَادِهِ بِأَنْ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ الْإِمَامُ بَعْدَ إتْمَامِهَا، أَوْ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِقَوْمٍ ثُمَّ رَاحَ إلَى الْجُمُعَةِ اُرْتُفِضَ ظُهْرُهُ فِي حَقِّهِ لَا حَقِّهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ مُقِيمًا لَوْ اقْتَدَى بِمُسَافِرٍ وَقَامَ قَبْلَ سَلَامِهِ لِلْإِتْمَامِ فَنَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ حَتَّى تَحَوَّلَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَجَدَ عَادَ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يَعُدْ فَسَدَتْ، وَإِنْ سَجَدَ فَإِنْ عَادَ فَسَدَتْ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ وَمَضَى عَلَيْهَا وَأَتَمَّ لَا تَفْسُدُ، وَلَوْ تَذَكَّرَ الْإِمَامُ سَجْدَةً صُلْبِيَّةً وَعَادَ إلَيْهَا يُتَابِعُهُ، وَإِنْ لَمْ يُتَابِعْهُ فَسَدَتْ، وَإِنْ كَانَ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ تَفْسُدُ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا عَادَ أَوْ لَمْ يَعُدْ لِأَنَّهُ انْفَرَدَ، وَعَلَيْهِ رُكْنَانِ: السَّجْدَةُ وَالْقَعْدَةُ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ مُتَابَعَتِهِ بَعْدَ إكْمَالِ الرَّكْعَةِ، وَلَوْ انْفَرَدَ وَعَلَيْهِ رُكْنٌ فَسَدَتْ فَهُنَا أَوْلَى، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا اقْتَدَى فِي مَوْضِعِ الِانْفِرَادِ أَوْ انْفَرَدَ فِي مَوْضِعِ الِاقْتِدَاءِ تَفْسُدُ، وَالتَّخْرِيجُ غَيْرُ خَافٍ فِيمَا يَرِدُ عَلَيْك، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَنْبَنِي فَسَادُ صَلَاةِ الْمَسْبُوقِ وَاللَّاحِقِ إذَا اقْتَدَيَا بِمِثْلِهِمَا، ثُمَّ الْمَسْبُوقُ يَقْضِي أَوَّلَ صَلَاتِهِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ وَآخِرَهَا فِي التَّشَهُّدِ، حَتَّى لَوْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً مِنْ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهُ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بِالْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ، وَلَوْ تَرَكَ فِي إحْدَاهُمَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ رَكْعَةً بِتَشَهُّدٍ لِأَنَّهَا ثَانِيَتُهُ.
وَلَوْ تَرَكَ جَازَتْ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا، وَلَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ رَكْعَةً وَيَقْرَأَ فِيهَا الْفَاتِحَةَ وَالسُّورَةَ وَيَتَشَهَّدَ، لِأَنَّهُ يَقْضِي الْآخِرَ فِي حَقِّ التَّشَهُّدِ وَيَقْضِي رَكْعَةً يَقْرَأُ فِيهَا كَذَلِكَ وَلَا يَتَشَهَّدُ، وَفِي الثَّالِثَةِ يَتَخَيَّرُ وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ، وَلَوْ أَدْرَكَ رَكْعَتَيْنِ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِيهِمَا وَيَتَشَهَّدُ، وَلَوْ تَرَكَ فِي إحْدَاهُمَا فَسَدَتْ لِأَنَّ مَا يَقْضِي أَوَّلُ صَلَاتِهِ، وَلَوْ كَانَ إمَامُهُ تَرَكَهَا مِنْ الْأُولَيَيْنِ وَقَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ
وَلَا يَعْتَدُّ بِاَلَّتِي أَحْدَثَ فِيهَا)، لِأَنَّ إتْمَامَ الرُّكْنِ بِالِانْتِقَالِ وَمَعَ الْحَدَثِ لَا يَتَحَقَّقُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعَادَةِ، وَلَوْ كَانَ إمَامًا فَقَدَّمَ غَيْرَهُ دَامَ الْمُقَدَّمُ عَلَى الرُّكُوعِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْإِتْمَامُ بِالِاسْتِدَامَةِ.
(وَلَوْ تَذَكَّرَ وَهُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ
وَأَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ الْأُخْرَيَيْنِ فَالْقِرَاءَةُ فِيمَا يَقْضِي فَرْضٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ تِلْكَ الْقِرَاءَةَ تَلْتَحِقُ بِمَحَلِّهَا مِنْ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَقَدْ أَدْرَكَ الثَّانِيَ خَالِيًا عَنْ الْقِرَاءَةِ حُكْمًا.
وَلَوْ أَدْرَكَ فِي التَّشَهُّدِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ يَتَرَسَّلُ لِيَفْرُغَ مِنْ التَّشَهُّدِ عِنْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ أَوْ فِي جَهْرِ الْقِرَاءَةِ لَا يُثَنِّي حَتَّى يَقُومَ إلَى الْقَضَاءِ، وَلَوْ سَهَا فِي قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ وَقَدْ سَجَدَ مَعَ الْإِمَامِ لِسَهْوٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ ثَانِيًا فِي آخِرِ صَلَاتِهِ لِسَهْوِهِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَجَدَ تُجْزِئُهُ سَجْدَتَانِ عَنْ الْكُلِّ كَمَا لَوْ تَكَرَّرَ السَّهْوُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. هَذَا وَأَمَّا الْمَسْبُوقُ اللَّاحِقُ وَهُوَ الَّذِي اقْتَدَى بَعْدَمَا صَلَّى الْإِمَامُ بَعْدَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً مَثَلًا ثُمَّ تَأَخَّرَ عَنْهُ لِنَوْمٍ أَوْ زَحْمَةٍ وَلَمْ يَجِدْ مَكَانًا فَإِنَّهُ يَبْدَأُ فِي الْقَضَاءِ بِمَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِيهِ ثُمَّ بِمَا سُبِقَ بِهِ.
وَهَذَا عِنْدَ زُفَرَ فَرْضٌ، وَعِنْدَنَا وَاجِبٌ عَلَى مَا نَذْكُرُ مِنْ قَرِيبٍ، فَلَوْ عَكَسَ هَذَا التَّرْتِيبَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ عِنْدَهُ وَتَصِحُّ عِنْدَنَا. ثُمَّ إمَّا أَنْ يَسْتَيْقِظَ فِي الرَّابِعَةِ أَوْ بَعْدَمَا فَرَغَ الْإِمَامُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الرَّابِعَةِ وَالْفَرَاغُ يَأْتِي بِمَا فَاتَهُ أَوَّلًا حَالَ نَوْمِهِ فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ لَا يَقْرَأُ فِيهَا وَيَقْعُدُ مُتَابَعَةً لِإِمَامِهِ ثُمَّ يَقُومُ فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ لَا يَقْرَأُ فِيهَا وَيَقْعُدُ لِأَنَّهَا ثَانِيَتُهُ، ثُمَّ بِأُخْرَى لَا يَقْرَأُ فِيهَا وَيَقْعُدُ مُتَابَعَةً لِإِمَامِهِ، ثُمَّ بِأُخْرَى لَا يَقْرَأُ فِيهَا وَيَقْعُدُ لِلْخَتْمِ، وَإِنْ كَانَ فِي الرَّابِعَةِ قَبْلَ رُكُوعٍ فَفِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ يُصَلِّي فِيمَا أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ مَعَ إمَامٍ أَوَّلًا ثُمَّ يَقْضِي مَا فَاتَهُ رِعَايَةً لِلتَّرْتِيبِ، فَلَوْ نَقَضَ هَذَا التَّرْتِيبَ فَتَابَعَ فِيمَا أَدْرَكَ ثُمَّ قَضَى مَا سَبَقَهُ بِهِ ثُمَّ مَا نَامَ فِيهِ جَازَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ اهـ.
ثُمَّ يَقْعُدُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ رَكْعَةٍ. أَمَّا فِيمَا أَدْرَكَ فَلِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ وَفِيمَا بَعْدَهَا لِأَنَّهَا ثَانِيَتُهُ وَفِي ثَالِثَتِهِ لِلْمُتَابَعَةِ فَإِنَّهَا قَعْدَةُ خَتْمِ الْإِمَامِ وَفِيمَا بَعْدَهَا خَتْمُهُ.
وَلَا يَسْجُدُ اللَّاحِقُ مَعَ الْإِمَامِ بِسَهْوِ الْإِمَامِ بَلْ يَقُومُ لِلْقَضَاءِ ثُمَّ يَسْجُدُ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْخَتْمِ. وَأَمَّا مَنْ أَدْرَكَ أَوَّلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَهُوَ اللَّاحِقُ لَا غَيْرُ، وَلَهُ حُكْمُ الْمُقْتَدِي فَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَإِذَا سَهَا فِيمَا يَقْضِي وَلَا يَقْرَأُ فِيهِ، وَلَوْ تَبَدَّلَ اجْتِهَادُهُ فِيهِ فِي الْقِبْلَةِ إلَى غَيْرِ مُجْتَهِدِ الْإِمَامِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ تَفْسُدُ، وَلَوْ كَانَ مُسَافِرًا فَنَوَى الْإِقَامَةَ فِيهِ أَوْ دَخَلَ مِصْرَهُ لِلْوُضُوءِ فِيهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ لَا يَنْقَلِبُ أَرْبَعًا، بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّ تَعْرِيفَ اللَّاحِقِ بِمَنْ أَدْرَكَ أَوَّلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ تَسَاهُلٌ، بَلْ هُوَ مَنْ فَاتَهُ بَعْدَمَا دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ بَعْضَ صَلَاةِ الْإِمَامِ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ إتْمَامَ الرُّكْنِ بِالِانْتِقَالِ) هَذَا خَرَجَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَلَا عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لَكِنْ عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ لَوْ لَمْ يُعِدْ ذَلِكَ الرُّكْنَ فَسَدَتْ الصَّلَاةُ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَلِمَا ذَكَرَ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَلِافْتِرَاضِ الْقَوْمَةِ وَالْجِلْسَةِ عِنْدَهُ، وَلَا يَتَحَقَّقَانِ مَعَ الطَّهَارَةِ إلَّا بِالْإِعَادَةِ، وَحَاوَلَ تَخْرِيجَهُ فِي الْكَافِي عَلَى الرَّأْيَيْنِ بِأَنَّ التَّمَامَ عَلَى نَوْعَيْنِ تَمَامِ مَاهِيَّةٍ وَتَمَامُ مَخْرَجٍ عَنْ الْعُهْدَةِ، فَالسَّجْدَةُ وَإِنْ تَمَّتْ بِالْوَضْعِ مَاهِيَّةً لَكِنْ لَمْ تَتِمَّ تَمَامًا مُخْرِجًا عَنْ الْعُهْدَةِ اهـ.
يَعْنِي وَالثَّانِي هُوَ الْمُرَادُ
أَنَّ عَلَيْهِ سَجْدَةً فَانْحَطَّ مِنْ رُكُوعِهِ أَوْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ سُجُودِهِ فَسَجَدَهَا يُعِيدُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ) وَهَذَا بَيَانُ الْأَوْلَى لِتَقَعَ أَفْعَالُ الصَّلَاةِ مُرَتَّبَةً بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مَعَ الطَّهَارَةِ شَرْطٌ وَقَدْ وُجِدَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ تَلْزَمُهُ إعَادَةُ الرُّكُوعِ لِأَنَّ الْقَوْمَةَ فَرْضٌ عِنْدَهُ.
قَالَ (وَمَنْ أَمَّ رَجُلًا وَاحِدًا فَأَحْدَثَ وَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَالْمَأْمُومُ
فِي الْهِدَايَةِ
(قَوْلُهُ أَنَّ عَلَيْهِ سَجْدَةً) أَيْ صُلْبِيَّةً أَوْ لِلتِّلَاوَةِ (قَوْلُهُ وَهَذَا بَيَانُ الْأُولَى) لِأَنَّ التَّرْتِيبَ لَيْسَ بِفَرْضٍ فِيمَا شُرِعَ مُكَرَّرًا فِي كُلِّ الصَّلَاةِ أَوْ كُلِّ رَكْعَةٍ، بِخِلَافِ الْمُتَّحِدِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا تَفْصِيلَهُ فِي أَوَّلِ صِفَةِ الصَّلَاةِ فَارْجِعْ إلَيْهِ وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا.
بَقِيَ أَنَّ انْتِفَاءَ الِافْتِرَاضِ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْأَوْلَوِيَّةِ لِجَوَازِ الْوُجُوبِ، ثُمَّ الْوُجُوبُ هُوَ الثَّابِتُ عَلَى مَا قَدَّمَهُ الْمُصَنِّفِ فِي أَوَّلِ صِفَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ عَدِّ الْوَاجِبَاتِ حَيْثُ قَالَ: وَمُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِيمَا شُرِعَ مُكَرَّرًا مِنْ الْأَفْعَالِ، فَأَشَارَ فِي الْكَافِي إلَى الْجَوَابِ حَيْثُ قَالَ: وَلَئِنْ كَانَ التَّرْتِيبُ وَاجِبًا فَقَدْ سَقَطَ بِالنِّسْيَانِ، لَكِنَّهُ لَا يَدْفَعُ الْوَارِدَ عَلَى الْعِبَارَةِ: أَعْنِي تَعْلِيلَ الْأَوْلَوِيَّةِ بِانْتِفَاءِ الِافْتِرَاضِ فِي الْمُتَكَرِّرِ، بَلْ تَعْلِيلُهُ إنَّمَا هُوَ بِسُقُوطِ الْوُجُوبِ بِالنِّسْيَانِ.
ثُمَّ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الصَّلَاةَ مُجْمَلٌ وَلَمْ يَقَعْ الْبَيَانُ إلَّا كَذَلِكَ.
قُلْنَا: مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْمَسْبُوقَ مُصَلٍّ أَوَّلَ صَلَاتِهِ أَوَّلًا ثُمَّ يَقْضِي مَا فَاتَهُ، فَعُلِمَ أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الرَّكَعَاتِ لَمْ يُعْتَبَرْ فَرْضًا لِأَنَّ الرُّكْنَ لَا يَسْقُطُ بِعُذْرِ الْمَسْبُوقِيَّةِ، بِخِلَافِ الْوَاجِبِ قَدْ يَقُومُ الْعُذْرُ فِي إسْقَاطِهِ شَرْعًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ عَكَسَ الْمَسْبُوقُ اللَّاحِقُ التَّرْتِيبَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي حَقِّهِ آنِفًا كَانَ آثِمًا عِنْدَنَا وَإِنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِهِ إذَا قَضَى السَّجْدَةَ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ جَمِيعِ مَا أَدَّى بَعْدَهَا لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهِ حَيْثُ كَانَ قَبْلَهُ مَا يُفْتَرَضُ تَقْدِيمُهُ. وَعِنْدَنَا قَضَاءُ الرُّكْنِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الذِّكْرُ اسْتِحْبَابًا لَا غَيْرُ إنْ قَضَاهَا عَقِيبَهُ.
وَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ فَيَقْضِيَهَا هُنَاكَ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْهِدَايَةِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ فِي آخِرِ فَصْلِ مَا يُوجِبُ السَّهْوَ مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي خِلَافِهِ، قَالَ فِي إمَامٍ صَلَّى رَكْعَةً وَتَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً وَصَلَّى أُخْرَى وَسَجَدَ لَهَا فَتَذَكَّرَ الْمَتْرُوكَةَ فِي السُّجُودِ أَنَّهُ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ وَيَسْجُدُ الْمَتْرُوكَةَ ثُمَّ يُعِيدُ مَا كَانَ فِيهَا لِأَنَّهَا ارْتُفِضَتْ فَيُعِيدُهَا اسْتِحْسَانًا اهـ.
قَالَ: فَأَمَّا مَا قَبْلَ ذَلِكَ إلَى الْمَتْرُوكَةِ هَلْ يُرْتَفَضُ؟
إمَامٌ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ) لِمَا فِيهِ مِنْ صِيَانَةِ الصَّلَاةِ، وَتَعْيِينُ الْأَوَّلِ لِقَطْعِ الْمُزَاحَمَةِ وَلَا مُزَاحَمَةَ هَاهُنَا، وَيُتِمُّ الْأَوَّلُ صَلَاتَهُ مُقْتَدِيًا بِالثَّانِي كَمَا إذَا اسْتَخْلَفَهُ حَقِيقَةً (وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَلْفَهُ إلَّا صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَةٌ قِيلَ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ) لِاسْتِخْلَافِ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ، وَقِيلَ لَا تَفْسُدُ لِأَنَّهُ
إنَّ مَا تَخَلَّلَ بَيْنَ الْمَتْرُوكَةِ وَبَيْنَ الَّذِي تَذَكَّرَ فِيهَا رَكْعَةً تَامَّةً لَا تُرْتَفَضُ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ فَلَا تَلْزَمُهُ إعَادَتُهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَكْعَةً تَامَّةً فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُرْتَفَضُ وَقَالَ قَبْلَهُ فِيهِ: وَإِنْ تَذَكَّرَ وَهُوَ رَاكِعٌ فِي الثَّالِثَةِ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ سَجْدَةً سَجَدَ الْمَتْرُوكَةَ وَيَتَشَهَّدُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي الثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ بِرُكُوعِهِمَا وَسُجُودِهِمَا لِأَنَّهُ لَمَّا تَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ وَالرُّكُوعُ قَبْلَ رَفْعِ الرَّأْسِ يُقْبَلُ الِارْتِفَاضُ، فَبِسُجُودِهِ الْمَتْرُوكَةَ رَفَضَ الرُّكُوعَ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ التَّمَامِ اهـ.
وَالْأَصَحُّ مَا فِي الْكِتَابِ لَا لِلْقَاعِدَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا فِي أَوَّلِ بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ مِنْ أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ مَا يَتَّحِدُ فِي كُلِّ الصَّلَاةِ مِنْ الْأَرْكَانِ وَهُوَ الْقَعْدَةُ وَبَيْنَ غَيْرِهَا مُطْلَقًا شَرْطٌ لَا بَيْنَ الْمُتَّحِدِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَهُوَ الْمُتَعَدِّدُ فِي كُلِّ الصَّلَاةِ وَبَيْنَ الْمُتَعَدِّدِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ لِأَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ التَّمَامَ بِالْقَعْدَةِ، فَلَوْ جَازَ تَأَخُّرُ شَيْءٍ عَنْهَا لَكَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مُتَعَلِّقَهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ شَرْعًا، بِخِلَافِ تَقْدِيمِ سُجُودِ الرَّكْعَةِ عَلَى رُكُوعِهَا وَالرُّكُوعِ عَلَى الْقِيَامِ لِأَنَّ الرُّكُوعَ شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى السُّجُودِ بَعْدَهُ وَالْقِيَامُ إلَى الرُّكُوعِ فَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّقَدُّمِ الْمَعْهُودِ، وَكَذَا بِتَقَدُّمِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الرُّكُوعِ لِأَنَّهَا زِينَتُهُ فَلَا تَتَحَقَّقُ إلَّا فِيهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا، وَبِتَذَكُّرِ السَّجْدَةِ فِي الرُّكُوعِ الثَّانِيَةِ مَثَلًا مِنْ الْأُولَى لَمْ يَتَحَقَّقْ تَقْدِيمٌ لَهُ عَلَى رُكُوعِ الْأُولَى بَلْ هُوَ فِي مَحَلِّهِ مِنْ التَّعْدِيَةِ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ صَارَ بَعْدَ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ أَيْضًا إذَا لَمْ يُعِدْ عَلَى مَا هُوَ الْأَمْرُ الْجَائِزُ خِلَافًا لِزُفَرَ وَهُوَ فِي التَّقْدِيرِ قَبْلَهُ لِالْتِحَاقِهِ بِمَحَلِّهِ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَوُجُوبُ كَوْنِهِ قَبْلَهُ يَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ بِدَلِيلِ حَالِ الْمَسْبُوقِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعُذْرِ، بِخِلَافِ السَّجْدَةِ فِي الْقَعْدَةِ لِأَنَّهُ قَصَدَ فِي الْخَتْمِ كَوْنَهُ فِي الْقَعْدَةِ مَعْنًى وَصُورَةً فَلَا يَكْفِي اعْتِبَارُهَا مُتَأَخِّرَةً عَنْ السَّجْدَةِ الْمُتَذَكَّرَةِ فِيهَا.
(قَوْلُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ صِيَانَةِ الصَّلَاةِ) لَا شَكَّ أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ مُرَادَةٌ بِهَذَا، أَمَّا صَلَاةُ الْإِمَامِ الْمُحْدِثِ فَظَاهِرُ النِّهَايَةِ أَنَّهَا هِيَ الْمُرَادَةُ بِنَاءً عَلَى فَسَادِ صَلَاتِهِ إذَا لَمْ يَسْتَخْلِفْ حَتَّى خَرَجَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، وَالشَّيْخُ أَبْهَمَ الصَّلَاةَ فَيُرَادُ صَلَاةُ مَنْ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ الْمَأْمُومَ أَوْ الْإِمَامَ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَعِنْدِي أَنَّهُ يُشْكِلُ فَسَادُ صَلَاةِ الْإِمَامِ لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ لَيْسَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ بَلْ غَايَتُهُ الْوُجُوبُ تَحْصِينًا لِصَلَاةِ غَيْرِهِ عَنْ الْفَسَادِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَالْإِمَامُ مُنْفَرِدٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَغَايَةُ مَا فِي خُرُوجِهِ بِلَا اسْتِخْلَافٍ تَأْثِيمُهُ لِسَعْيِهِ فِي فَسَادِ صَلَاةِ غَيْرِهِ فَصَارَ كَإِمَامٍ تَعَمَّدَ التَّأَخُّرَ عَمَّنْ خَلْفَهُ حَتَّى فَسَدَتْ بِتَقَدُّمِهِمْ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَلْفَهُ إلَّا صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَةٌ) أَوْ أُمِّيٌّ: أَيْ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ
لَمْ يُوجَدْ الِاسْتِخْلَافُ قَصْدًا وَهُوَ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(بَابُ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَمَا يُكْرَهُ فِيهَا)
(وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ، وَمَفْزَعُهُ الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ،
(قَوْلُهُ لَمْ يُوجَدْ الِاسْتِخْلَافُ مِنْهُ قَصْدٌ) وَمَا حُكِمَ بِكَوْنِ الْأَوَّلِ خَلِيفَةً إلَّا لِتَصْحِيحِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَهُنَا لَوْ اعْتَبَرْنَا هَذَا الِاعْتِبَارَ لِإِصْلَاحِ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي كَانَ فِيهِ إفْسَادُ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَدَارَ الْأَمْرُ بَيْنَهُ فَتَفْسُدُ عَلَى الْإِمَامِ وَتَصِحُّ عَلَى الْمُقْتَدِي وَبَيْنَ عَدَمِهِ فَيَنْعَكِسُ فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ، وَوَجْهُ تَرْجِيحِ عَدَمِهِ غَنِيٌّ عَنْ الْبَيَانِ.
(بَابُ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَمَا يُكْرَهُ فِيهَا)
(قَوْلُهُ وَمَفْزَعُهُ الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ)«رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» إلَخْ. الْفُقَهَاءُ يَذْكُرُونَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَا يُوجَدُ بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، بَلْ «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ النِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» رَوَاهُ ابْن مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا (قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم إنَّ صَلَاتَنَا إلَخْ) رَوَاهُ
وَإِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ. بِخِلَافِ السَّلَامِ سَاهِيًا لِأَنَّهُ مِنْ الْأَذْكَارِ فَيُعْتَبَرُ ذِكْرًا فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ وَكَلَامًا فِي حَالَةِ التَّعَمُّدِ لِمَا فِيهِ مِنْ كَافِ الْخِطَابِ
وَقَدْ أَجَابُوا بِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْبُطْلَانِ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ مَحْظُورٌ وَالْحَظْرُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْبُطْلَانَ، وَلِذَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ وَإِنَّمَا عَلَّمَهُ أَحْكَامَ الصَّلَاةِ.
قُلْنَا إنْ صَحَّ فَإِنَّمَا بَيَّنَ الْحَظْرَ حَالَةَ الْعَمْدِ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ حَظْرٌ يَرْتَفِعُ إلَى الْإِفْسَادِ، وَمَا كَانَ مُفْسِدًا حَالَةَ الْعَمْدِ كَانَ كَذَلِكَ حَالَةَ السَّهْوِ لِعَدَمِ الْمُزِيلِ شَرْعًا كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. وَقَوْلُهُ «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي» أَوْ «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْهُمْ» مِنْ بَاب الْمُقْتَضَى وَلَا عُمُومَ لَهُ، لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ فَوَجَبَ تَقْدِيرُهُ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ رَفْعَ الْإِثْمِ مُرَادٌ فَلَا يُرَادُ غَيْرُهُ وَإِلَّا لَزِمَ تَعْمِيمُهُ وَهُوَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الضَّرُورَةِ، وَمَنْ اعْتَبَرَهُ فِي الْحُكْمِ الْأَعَمِّ مِنْ حُكْمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَدْ عَمَّمَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي، إذْ قَدْ أَثْبَتَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الضَّرُورَةِ مِنْ تَصْحِيحِ الْكَلَامِ وَصَارَ كَمَا إذَا أَطَالَ الْكَلَامَ سَاهِيًا فَإِنَّهُ يَقُولُ بِالْفَسَادِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ إذَا رَفَعَ إفْسَادَهُ وَجَبَ شُمُولُ الصِّحَّةِ.
وَإِلَّا فَشُمُولُ عَدَمِهَا وَكَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَإِنَّمَا عُفِيَ الْقَلِيلُ مِنْ الْعَمَلِ لِعَدَمِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ لِأَنَّ فِي الْحَيِّ حَرَكَاتٍ مِنْ الطَّبْعِ وَلَيْسَتْ الصَّلَاةُ، فَلَوْ اُعْتُبِرَ إفْسَادُهُ مُطْلَقًا لَزِمَ الْحَرَجُ فِي إقَامَةِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فَعُفِيَ مَا لَمْ يَكْثُرْ وَلَيْسَ الْكَلَامُ مِنْ طَبْعِ الْحَيِّ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ السَّلَامِ سَاهِيًا) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسٍ مُقَدَّرٍ لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله عَلَى السَّلَامِ سَاهِيًا وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ.
(فَإِنْ أَنَّ فِيهَا أَوْ تَأَوَّهَ أَوْ بَكَى فَارْتَفَعَ بُكَاؤُهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ أَوْ النَّارِ لَمْ يَقْطَعْهَا) لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْخُشُوعِ (وَإِنْ كَانَ مِنْ وَجَعٍ أَوْ مُصِيبَةٍ قَطَعَهَا) لِأَنَّ فِيهِ إظْهَارُ الْجَزَعِ وَالتَّأَسُّفِ فَكَانَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ قَوْلَهُ آهٍ لَا يُفْسِدُ فِي الْحَالَيْنِ وَأُوهِ يُفْسِدُ.
وَقِيلَ الْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ الْكَلِمَةَ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى حَرْفَيْنِ وَهُمَا زَائِدَتَانِ أَوْ إحْدَاهُمَا لَا تَفْسُدُ، وَإِنْ كَانَتَا أَصْلِيَّتَيْنِ تَفْسُدُ. وَحُرُوفُ الزَّوَائِدِ جَمَعُوهَا فِي قَوْلِهِمْ الْيَوْمَ تَنْسَاهُ
قَوْلُهُ فَإِنْ أَنَّ فِيهَا) أَيْ قَالَ آهْ أَوْ تَأَوَّهَ: أَيْ قَالَ أُوهِ وَنَحْوِهِ (قَوْلُهُ فَارْتَفَعَ بُكَاؤُهُ) أَيْ حَصَلَ بِهِ الْحُرُوفُ (قَوْلُهُ فَكَانَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ) صَرِيحُ كَلَامِهِ أَنَّ كَوْنَهُ إظْهَارًا لِلْوَجَعِ بِلَفْظٍ هُوَ الْمَصِيرُ لَهُ كَلَامًا فَلَا يَحْتَاجُ فِي تَقْرِيرِهِ إلَى قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ إظْهَارًا لِلْوَجَعِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَدْرِكُونِي أَوْ أَعِينُونِي، بِخِلَافِ إظْهَارِ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ لِأَنَّهُ كَقَوْلِ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ وَأَعِذْنِي مِنْ النَّارِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ إذْ يُعْطِي ظَاهِرُهُ أَنَّ كَوْنَهُ دَالًا عَلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ صَيَّرَهُ كَلَامًا، لَكِنْ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ إظْهَارًا لِذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُصَيِّرُهُ كَلَامًا وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ.
وَرَشَّحَهُ فِي الْكَلَامِ مَعَ أَبِي يُوسُفَ حَيْثُ اشْتَرَطَ فِي كَوْنِ اللَّفْظِ مُفْسِدًا كَوْنُهُ حَرْفَيْنِ زَائِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا بِقَوْلِهِ وَهَذَا لَا يَقْوَى، لِأَنَّ كَلَامَ النَّاسِ فِي مُتَفَاهَمِ الْعُرْفِ يَتْبَعُ وُجُودَ الْحُرُوفِ وَإِفْهَامَ الْمَعْنَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ إظْهَارَ الْوَجَعِ بِاللَّفْظِ إفَادَةُ مَعْنًى بِهِ فَيَكُونُ نَفْسُهُ كَلَامًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَضْعٌ، وَاشْتِرَاطُ الْوَضْعِ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ فِي الْكَلَامِ.
وَلَوْ سَلِمَ ثُبُوتُهُ لُغَةً لَمْ يَلْزَمْ اشْتِرَاطُهُ فِي الْإِفْسَادِ لِأَنَّ الْمَعْقُولَ فِي الْإِفْسَادِ كَوْنُهُ إفَادَةَ الْمَعْنَى بِاللَّفْظِ لَا بِقَيْدِ كَوْنِهِ بِطَرِيقِ الْوَضْعِ، إذْ لَيْسَ كَوْنُهُ خَارِجًا عَنْ عَمَلِ الصَّلَاةِ مُتَوَقِّفًا عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ فِي الْحَالَيْنِ: أَيْ الْخُشُوعِ وَالْجَزَعِ، وَقَوْلُهُ لَا تَفْسُدُ: أَيْ فِي الْحَالَيْنِ أَيْضًا عِنْدَهُ، وَكَذَا أُفٍّ مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا لَا تَفْسُدُ، وَتَمَسَّكَ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَفَخَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ فَقَالَ: أُفٍّ أَلَمْ تَعِدنِي أَنْ لَا تُعَذِّبَهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ» قُلْنَا وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا، فَيَجُوزُ كَوْنُهَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يُعَارِضُ مَا رَوَيْنَا.
وَقَوْلُهُ فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ (قَوْلُهُ فِي قَوْلِهِمْ الْيَوْمَ تَنْسَاهُ) سَمْطٌ تَنْفِرُ مِنْهُ النَّفْسُ أَيْنَ هُوَ مِنْ أَمَانٍ وَتَسْهِيلٍ، وَقَدْ جَمَعَهَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ مَالِكٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي هَذَا الْبَيْتِ:
وَهَذَا لَا يَقْوَى لِأَنَّ كَلَامَ النَّاسِ فِي مُتَفَاهَمِ الْعُرْفِ يَتْبَعُ وُجُودَ حُرُوفِ الْهِجَاءِ وَإِفْهَامَ الْمَعْنَى، وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي حُرُوفٍ كُلُّهَا زَوَائِدُ
(وَإِنْ تَنَحْنَحَ بِغَيْرِ عُذْرٍ) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مَدْفُوعًا إلَيْهِ (وَحَصَلَ بِهِ الْحُرُوفُ يَنْبَغِي أَنْ يُفْسِدَ عِنْدَهُمَا، وَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ فَهُوَ عَفْوٌ كَالْعُطَاسِ) وَالْجُشَاءِ إذَا حَصَلَ بِهِ حُرُوفٌ.
هَنَاءٌ وَتَسْلِيمٌ تَلَا يَوْمَ أُنْسِهِ
…
نِهَايَةُ مَسْئُولٍ أَمَانٌ وَتَسْهِيلُ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الْأَنِينُ وَالْبُكَاءُ وَالتَّأَوُّهُ يَقْطَعُ مُطْلَقًا إذَا حَصَلَ مِنْهُ حَرْفَانِ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ» وَبِأَزِيزِ الْمِرْجَلِ يَحْصُلُ الْحُرُوفُ لِمَنْ يَصْغَى (قَوْلُهُ وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي حُرُوفٍ كُلُّهَا زَوَائِدُ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: قُلْت هَذَا لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ كَلَامَهُ فِي الْحَرْفَيْنِ لِأَنَّ فِي الزَّائِدِ عَلَيْهِمَا يَكُونُ قَوْلُهُ كَقَوْلِهِمَا اهـ.
وَأَثَرُ هَذَا الْبَحْثِ فِي الْعِبَارَةِ فَقَطْ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِالْجَمْعِ الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، أَوْ صَرَّحَ فَقَالَ: وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي حَرْفَيْنِ زَائِدَيْنِ، أَوْ أَنَّ الْجَمْعَ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ مِثْلُ لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ مَعَ أَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ بِشَاهِدَيْنِ طَاحَ مَا ذَكَرَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ هَذَا أَوْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَنِينُ يُمْكِنُ الِامْتِنَاعُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجَعِ عَنْهُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ وَإِلَّا فَلَا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله: إنْ كَانَ أَلَمُهُ خَفِيفًا يَقْطَعُ وَإِلَّا لَا،
(قَوْلُهُ يَنْبَغِي إلَخْ) إنَّمَا لَمْ يَجْزِمْ بِالْجَوَابِ لِثُبُوتِ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَدْفُوعًا لَهُ بَلْ فَعَلَهُ لِتَحْسِينِ الصَّوْتِ، فَعِنْدَ الْفَقِيهِ إسْمَاعِيلَ الزَّاهِدِ تَفْسُدُ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ لَا. وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ مَا لِلْقِرَاءَةِ مُلْحَقٌ بِهَا وَكَذَا لَوْ تَنَحْنَحَ بِالْإِعْلَامِ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَوْ نَفَخَ مَسْمُوعًا فَسَدَتْ.
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْمَسْمُوعِ فَالْحَلْوَانِيُّ وَغَيْرُهُ مَا يَكُونُ لَهُ حُرُوفٌ كَأُفٍّ تُفٍّ تَفْسُدُ، وَإِلَّا فَلَا تَفْسُدُ، وَبَعْضُهُمْ لَا يَشْتَرِطُ الْحُرُوفَ إلَّا فِي الْإِفْسَادِ بَعْدَ كَوْنِهِ مَسْمُوعًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ نَفَّرَ طَائِرًا أَوْ دَعَاهُ بِمَا هُوَ مَسْمُوعٌ (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ) أَوْ مَدْفُوعًا إلَيْهِ: أَيْ مَبْعُوثُ الطَّبْعِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَلَا تَفْسُدُ، وَمِثْلُهُ الْمَرِيضُ إذَا كَانَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ عَنْهُ لَا تَفْسُدُ كَالْجُشَاءِ،
(وَمَنْ عَطَسَ فَقَالَ لَهُ آخَرُ يَرْحَمُك اللَّهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ) لِأَنَّهُ يَجْرِي فِي مُخَاطَبَاتِ النَّاسِ فَكَانَ مِنْ كَلَامِهِمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ الْعَاطِسُ أَوْ السَّامِعُ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا قَالُوا لِأَنَّهُ لَمْ يُتَعَارَفْ جَوَابًا
(وَإِنْ اسْتَفْتَحَ فَفَتْحَ عَلَيْهِ
وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَنِينِ إنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ
(قَوْلُهُ فَقَالَ لَهُ آخَرُ) احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا قَالَ لِنَفْسِهِ يَرْحَمُك اللَّهُ لَا تَفْسُدُ كَقَوْلِهِ يَرْحَمُنِي اللَّهُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا تَفْسُدُ فِي قَوْلِهِ لِغَيْرِهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَهُمَا يَتَمَسَّكَانِ بِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السَّابِقِ أَوَّلَ الْبَابِ فَإِنَّهُ فِي عَيْنِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ لِأَنَّ مَوْرِدَهُ كَانَ تَشْمِيتَ عَاطِسٍ. وَبِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ (قَوْلُهُ عَلَى مَا قَالُوا) إشَارَةٌ إلَى ثُبُوتِ الْخِلَافِ، رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ إذَا عَطَسَ فَحَمِدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَرِّكَ شَفَتَيْهِ فَإِنَّ حَرَّكَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ (قَوْلُهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ) يَعْنِي إذَا قَصَدَ التَّعْلِيمَ، أَمَّا إذَا أَرَادَ التِّلَاوَةَ فَلَا. وَكَذَا لَوْ قِيلَ مَا مَالُك؟ فَقَالَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ أَوْ كَانَ أَمَامَهُ كِتَابٌ وَخَلْفَهُ رَجُلٌ اسْمُهُ يَحْيَى فَقَالَ يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ، إنْ أَرَادَ إفَادَتَهُ الْمَعْنَى فَسَدَتْ لَا إنْ أَرَادَ الْقِرَاءَةَ
فِي صَلَاتِهِ تَفْسُدُ) وَمَعْنَاهُ أَنْ يَفْتَحَ الْمُصَلِّي عَلَى غَيْرِ إمَامِهِ لِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ وَتَعَلُّمٌ فَكَانَ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ النَّاسِ، ثُمَّ شَرَطَ التَّكْرَارَ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَيُعْفَى الْقَلِيلُ مِنْهُ، وَلَمْ يُشْرَطْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّ الْكَلَامَ بِنَفْسِهِ قَاطِعٌ وَإِنْ قَلَّ (وَإِنْ فَتَحَ عَلَى إمَامِهِ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مُفْسِدًا) اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى إصْلَاحِ صَلَاتِهِ فَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْمَالِ صَلَاتِهِ مَعْنًى (وَيَنْوِي الْفَتْحَ عَلَى إمَامِهِ دُونَ الْقِرَاءَةِ) هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ مُرَخَّصٌ فِيهِ، وَقِرَاءَتُهُ مَمْنُوعٌ عَنْهَا (وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ انْتَقَلَ إلَى آيَةٍ أُخْرَى تَفْسُدُ صَلَاةُ الْفَاتِحِ وَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ) لَوْ أَخَذَ بِقَوْلِهِ لِوُجُودِ التَّلْقِينِ وَالتَّلَقُّنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَيَنْبَغِي لِلْمُقْتَدِي أَنْ لَا يُعَجِّلَ بِالْفَتْحِ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ لَا يُلْجِئَهُمْ إلَيْهِ بَلْ يَرْكَعَ إذَا جَاءَ أَوَانُهُ أَوْ يَنْتَقِلَ إلَى آيَةٍ أُخْرَى.
قَوْلُهُ شَرَطَ التَّكْرَارَ) بِأَنْ فَتَحَ غَيْرَ مَرَّةٍ لِأَنَّهُ فِعْلٌ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَيُعْفَى قَلِيلُهُ وَلَمْ يَشْرُطْهُ فِي الْجَامِعِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ كَلَامٌ فَلَا يُعْفَى قَلِيلُهُ (قَوْلُهُ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا اسْتِحْسَانًا) هَذَا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ الْفَتْحِ بَعْدَ قِرَاءَةِ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ أَوْ قَبْلَهُ، وَقِيلَ إنْ قَرَأَ الْإِمَامُ مَا تَجُوزُ بِهِ تَفْسُدُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ يَنْوِي الْقِرَاءَةَ وَهُوَ سَهْوٌ لِأَنَّهُ عُدُولٌ إلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَنْ الْمُرَخَّصِ فِيهِ بِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ كَلِمَةً فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: أَلَمْ يَكُنْ فِيكُمْ أُبَيٌّ؟ قَالَ بَلَى، قَالَ: هَلَّا فَتَحْتَ عَلِيَّ؟ فَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا نُسِخَتْ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: لَوْ نُسِخَتْ لَأَعْلَمْتُكُمْ».
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: إذَا اسْتَطْعَمَك الْإِمَامُ فَأَطْعِمْهُ (قَوْلُهُ وَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ) هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَعَامَّتُهُمْ عَلَى مَا يُفِيدُهُ لَفْظُ الْمُحِيطِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ وَإِنْ انْتَقَلَ وَهُوَ الْأَوْفَقُ لِإِطْلَاقِ الْمُرَخِّصِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ (قَوْلُهُ إذَا جَاءَ أَوَانُهُ) أَجْمَلَهُ لِلْخِلَافِ فِيهِ
(وَلَوْ أَجَابَ رَجُلًا فِي الصَّلَاةِ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَهَذَا كَلَامٌ مُفْسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: لَا يَكُونُ مُفْسِدًا) وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا أَرَادَ بِهِ جَوَابَهُ. لَهُ أَنَّهُ ثَنَاءٌ بِصِيغَتِهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِعَزِيمَتِهِ، وَلَهُمَا أَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ وَهُوَ يَحْتَمِلُهُ فَيُجْعَلُ جَوَابًا كَالتَّشْمِيتِ وَالِاسْتِرْجَاعِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الصَّحِيحِ (وَإِنْ أَرَادَ إعْلَامَهُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ تَفْسُدْ بِالْإِجْمَاعِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا نَابَتْ أَحَدَكُمْ نَائِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ فَلْيُسَبِّحْ»
فَإِنَّ قَاضِي خَانْ وَصَاحِبَ الْمُحِيطِ وَبَكْرًا اعْتَبَرُوا أَوَانَ الرُّكُوعِ بَعْدَ قِرَاءَةِ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُلْجِئَهُمْ إلَيْهِ بَلْ يَنْتَقِلُ إلَى آيَةٍ أُخْرَى أَوْ يَرْكَعُ إذَا قَرَأَ الْمُسْتَحَبَّ صَوْنًا لِلصَّلَاةِ عَنْ الزَّوَائِدِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ، أَلَا يَرَى إلَى «مَا ذَكَرُوا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأُبَيٍّ هَلَّا فَتَحْتَ عَلَيَّ» مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ
(قَوْلُهُ وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا أَرَادَ جَوَابَهُ) بِأَنْ قِيلَ مَثَلًا أَمَعَ اللَّهِ إلَهٌ آخَرُ فَقَالَ لَا إلَه إلَّا اللَّهُ، أَمَّا إنْ أَرَادَ إعْلَامَهُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَتَفَرَّغُ لِلْجَوَابِ فَلَا تَفْسُدُ فِي قَوْلِ الْكُلِّ، وَكَذَا إذَا أُخْبِرَ بِخَبَرٍ يَسُرُّهُ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ تَفْسُدُ فِي قَصْدِ الْجَوَابِ لَا الْإِعْلَامِ (قَوْلُهُ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِعَزِيمَتِهِ) كَمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عِنْدَ قَصْدِ إعْلَامِهِ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهُ أَيْضًا قَصَدَ هُنَاكَ إفَادَةَ مَعْنًى بِهِ لَيْسَ هُوَ مَوْضُوعًا لَهُ.
قُلْنَا خَرَجَ قَصْدُ إعْلَامِ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا نَابَتْ أَحَدَكُمْ نَائِبَةٌ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلْيُسَبِّحْ» الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ لَا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِعَزِيمَتِهِ كَمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عِنْدَ قَصْدِ إعْلَامِهِ، فَإِنَّ مَنَاطَ كَوْنِهِ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ كَوْنُهُ لَفْظًا أُفِيدَ بِهِ مَعْنًى لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ لَا كَوْنُهُ وُضِعَ لِإِفَادَةِ ذَلِكَ فَيَبْقَى مَا وَرَاءَهُ عَلَى الْمَنْعِ الثَّابِتِ بِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ، وَكَوْنُهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِعَزِيمَتِهِ مَمْنُوعٌ. قَالَ السَّرِيُّ السَّقَطِيُّ: لِي ثَلَاثُونَ سَنَةً أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ قَوْلِي الْحَمْدُ لِلَّهِ احْتَرَقَ السُّوقُ، فَخَرَجْت فَقِيلَ لِي سَلِمَتْ دُكَّانُك، فَقُلْت
(وَمَنْ صَلَّى رَكْعَةً مِنْ الظُّهْرِ ثُمَّ افْتَتَحَ الْعَصْرَ أَوْ التَّطَوُّعَ فَقَدْ نَقَضَ الظُّهْرَ) لِأَنَّهُ صَحَّ شُرُوعُهُ فِي غَيْرِهِ فَيَخْرُجُ عَنْهُ (وَلَوْ افْتَتَحَ الظُّهْرَ بَعْدَمَا صَلَّى مِنْهَا رَكْعَةً فَهِيَ هِيَ وَيَتَجَزَّأُ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ) لِأَنَّهُ نَوَى الشُّرُوعَ فِي عَيْنِ مَا هُوَ فِيهِ فَلَغَتْ نِيَّتُهُ وَبَقِيَ الْمَنْوِيُّ عَلَى حَالِهِ
(وَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ مِنْ الْمُصْحَفِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَقَالَا هِيَ تَامَّةٌ) لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ انْضَافَتْ إلَى عِبَادَةٍ أُخْرَى
الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقُلْت تَسُرُّ وَلَمْ تَغْتَمَّ لِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ؟ وَأَقْرَبُ مَا يَنْقُضُ كَلَامَهُ مَا وَافَقَ عَلَيْهِ الْفَسَادَ بِالْفَتْحِ عَلَى قَارِئٍ غَيْرِ الْإِمَامِ فَهُوَ قُرْآنٌ وَقَدْ تَغَيَّرَ إلَى وُقُوعِ الْإِفْسَادِ بِهِ بِالْعَزِيمَةِ، وَلَوْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ فَقَالَ مِثْلَهُ مَرِيدًا جَوَابَ الْأَذَانِ أَوْ أَذَّنَ ابْتِدَاءً وَأَرَادَ بِهِ الْأَذَانَ فَسَدَتْ لِقَصْدِ الْجَوَابِ وَالْإِعْلَامِ لِوُجُودِ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ: أَعْنِي وَقْتَ الصَّلَاةِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَفْسُدُ حَتَّى يُحَيْعِلَ. وَلَوْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَوَابًا لِسَمَاعِ ذِكْرِهِ تَفْسُدُ لَا ابْتِدَاءً، وَلَوْ قَرَأَ ذِكْرَ الشَّيْطَانِ فَلَعَنَهُ لَا تَفْسُدُ وَلَوْ لَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ تَفْسُدُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ صَحَّ شُرُوعُهُ فِي غَيْرِهِ) فَمَنَاطُ الْخُرُوجِ عَنْ الْأَوَّلِ صِحَّةُ الشُّرُوعِ فِي الْمُغَايِرِ وَلَوْ مِنْ وَجْهٍ، فَلِذَا لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا فِي فَرْضٍ فَكَبَّرَ يَنْوِي الِاقْتِدَاءَ أَوْ النَّفَلَ أَوْ الْوَاجِبَ أَوْ شَرَعَ فِي جِنَازَةٍ فَجِيءَ بِأُخْرَى فَكَبَّرَ يَنْوِيهِمَا أَوْ الثَّانِيَةَ يَصِيرُ مُسْتَأْنِفًا عَلَى الثَّانِيَةِ فَقَطْ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ مُقْتَدِيًا فَكَبَّرَ لِلِانْفِرَادِ يَفْسُدُ مَا أَدَّى قَبْلَهُ وَيَصِيرُ مُفْتَتِحًا مَا نَوَاهُ ثَانِيًا (قَوْلُهُ فَهِيَ) أَيْ تِلْكَ الرَّكْعَةُ الَّتِي صَلَّاهَا قَبْلَ الِافْتِتَاحِ الثَّانِي هِيَ: أَيْ الَّتِي يَحْتَسِبُ بِهَا أَوْ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الِافْتِتَاحُ الثَّانِي هِيَ الَّتِي هُوَ فِيهَا بَعْدَهُ فَيَحْتَسِبُ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْعُدْ فِيمَا بَقِيَ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ بِاعْتِبَارِهَا فَسَدَتْ الصَّلَاةُ فَلَغَتْ نِيَّةُ الثَّانِيَةِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَلْفِظْ بِلِسَانِهِ فَإِنْ قَالَ نَوَيْت أَنْ أُصَلِّيَ إلَخْ فَسَدَتْ الْأُولَى وَصَارَ
(إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ) لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِصَنِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ حَمْلَ الْمُصْحَفِ وَالنَّظَرَ فِيهِ وَتَقْلِيبَ الْأَوْرَاقِ عَمَلٌ كَثِيرٌ، وَلِأَنَّهُ تَلَقُّنٌ مِنْ الْمُصْحَفِ فَصَارَ كَمَا إذَا تَلَقَّنَ مِنْ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَفْتَرِقَانِ، وَلَوْ نَظَرَ إلَى مَكْتُوبٍ وَفَهِمَهُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَقْرَأُ كِتَابَ فُلَانٍ حَيْثُ يَحْنَثُ بِالْفَهْمِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَالِكَ الْفَهْمُ، أَمَّا فَسَادُ الصَّلَاةِ فَبِالْعَمَلِ الْكَثِيرِ وَلَمْ يُوجَدْ.
مُسْتَأْنِفًا الْمَنْوِيَّ ثَانِيًا مُطْلَقًا
(قَوْلُهُ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَفْتَرِقَانِ) فَيُحْمَلُ مَا رُوِيَ عَنْ ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهُ كَانَ يُؤَمُّ بِهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَكَانَ يَقْرَأُ مِنْ الْمُصْحَفِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَوْضُوعًا، وَعَلَى الثَّانِي كَوْنُ تِلْكَ مُرَاجَعَةً كَانَتْ قُبَيْلَ الصَّلَاةِ لِيَكُونَ بِذِكْرِهِ أَقْرَبَ، وَهُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي دَفْعِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ بِلَا كَرَاهَةٍ «لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى حَامِلًا أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ عَلَى عَاتِقِهِ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا. وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا» فَإِنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ لَيْسَ فِيهَا تَلَقُّنٌ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ قِيَاسُ قِرَاءَةِ مَا تَعَلَّمَهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ مُعَلِّمٍ حَيَّ عَلَيْهَا مِنْ مُعَلِّمٍ حَيَّ بِجَامِعِ أَنَّهُ تَلَقَّنَ مِنْ خَارِجٍ وَهُوَ الْمَنَاطُ فِي الْأَصْلِ فَقَطْ، فَإِنَّ فِعْلَ الْخَارِجِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْفَسَادِ بَلْ الْمُؤَثِّرُ فِعْلُ مَنْ فِي الصَّلَاةِ وَلَيْسَ مِنْهُ إلَّا التَّلَقُّنُ، وَلَمْ يَفْصِلْ فِي الْجَامِعِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي الْإِفْسَادِ، وَقِيلَ إنْ قَرَأَ آيَةً تَفْسُدُ، وَقِيلَ بَلْ قَدْرَ الْفَاتِحَةِ وَلَوْ كَانَ يَحْفَظُ إلَّا أَنَّهُ نَظَرَ فَقَرَأَ لَا تَفْسُدُ (قَوْلُهُ فَالصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنْ كَانَ مُسْتَفْهِمًا فَسَدَتْ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ قِيَاسًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ وَجَوَابُهَا مِنْ الْكِتَابِ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُمْ لِأَنَّهُ تَلَقَّنَ غَلَطٌ، إذْ الْمُفْسِدُ التَّلَقُّنُ الْمُقْتَرِنُ بِقَوْلِ مَا تَلَقَّنَهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَكْتُوبِ غَيْرِ قُرْآنٍ، أَمَّا فِي الْقُرْآنِ لَا تَفْسُدُ اتِّفَاقًا (قَوْلُهُ أَمَّا فَسَادُ الصَّلَاةِ فَبِالْعَمَلِ الْكَثِيرِ) وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّهِ، فَقِيلَ مَا يَحْصُلُ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ قَلِيلٌ وَبِيَدَيْنِ كَثِيرٌ، وَقِيلَ لَوْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ رَآهُ إنْسَانٌ مِنْ بَعِيدٍ تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ كَثِيرٌ، وَإِنْ كَانَ يَشُكُّ أَنَّهُ فِيهَا أَوْ لَمْ يَشُكَّ أَنَّهُ فِيهَا فَقَلِيلٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْعَامَّةِ. وَقِيلَ يُفَوَّضُ إلَى رَأْي الْمُصَلِّي إنْ اسْتَكْثَرَهُ فَكَثِيرُهُ مُفْسِدٌ وَإِلَّا لَا.
قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: هَذَا أَقْرَبُ إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ
(وَإِنْ مَرَّتْ امْرَأَةٌ بَيْن يَدَيْ الْمُصَلِّي لَمْ تَقْطَعْ صَلَاتَهُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ إلَّا أَنَّ الْمَارَّ
وَمِنْ الْفُرُوعِ الْمُؤَسَّسَةِ: لَوْ أَرْضَعَتْ ابْنَهَا أَوْ رَضَعَهَا هُوَ فَنَزَلَ لَبَنُهَا فَسَدَتْ، وَلَوْ مَصَّ مَصَّةً أَوْ مَصَّتَيْنِ وَلَمْ تُنْزِلْ لَمْ تَفْسُدْ، وَبِثَلَاثٍ تَفْسُدُ وَإِنْ لَمْ تُنْزِلْ، وَلَوْ مَسَّ الْمُصَلِّيَةَ بِشَهْوَةٍ أَوْ قَبَّلَهَا وَلَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ تَفْسُدُ، وَلَوْ قَبَّلَتْ الْمُصَلِّي وَلَمْ يَشْتَهِهَا لَمْ تَفْسُدْ. كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِوَجْهِ الْفَرْقِ.
وَلَوْ رَأَى فَرْجَ الْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيًّا بِشَهْوَةٍ يَصِيرُ مُرَاجِعًا، وَلَا تَفْسُدُ فِي رِوَايَةٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَلَوْ كَتَبَ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ أَوْ دَهَنَ رَأْسَهُ أَوْ لِحْيَتَهُ أَوْ اكْتَحَلَ أَوْ جَعَلَ مَاءَ الْوَرْدِ عَلَى رَأْسِهِ بِأَنْ تَنَاوَلَ الْقَارُورَةَ فَصَبَّ عَلَى يَدِهِ أَوْ سَرَّحَ أَحَدَهُمَا أَوْ نَتَفَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ بِمَرَّاتٍ أَوْ حَكَّ ثَلَاثًا فِي رُكْنٍ يَرْفَعُ يَدُهُ كُلَّ مَرَّةٍ أَوْ قَتَلَ الْقَمْلَةَ بِمِرَارٍ مُتَدَارِكًا أَوْ رَمَى عَنْ قَوْسٍ أَوْ ضَرَبَ إنْسَانًا.
كَذَلِكَ أَوْ دَفَعَ الْمَارَّ بِيَدِهِ أَوْ رَأْسِهِ أَوْ تَعَمَّمَ أَكْثَرَ مِنْ كَوْرَيْنِ أَوْ تَخَمَّرَتْ أَوْ شَدَّ السَّرَاوِيلَ أَوْ زَرَّ الْقَمِيصَ أَوْ لَبِسَهُ أَوْ الْخُفَّيْنِ أَوْ مَشَى قَدْرَ صَفَّيْنِ دَفْعَةً أَوْ تَقَدَّمَ أَمَامَ الْوَجْهِ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ صَفٍّ أَوْ سَاقَ الدَّابَّةَ بِمَدِّ رِجْلَيْهِ تَفْسُدُ، لَا إنْ كَسَبَ أَوْ شَرِبَ أَوْ تَعَمَّمَ أَوْ حَكَّ أَوْ مَشَى أَوْ نَتَفَ أَقَلَّ مِمَّا عَيَّنَّاهُ أَوْ غَيْرَ مُتَدَارِكٍ أَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْقَارُورَةَ بَلْ كَانَ فِي يَدِهِ فَمَسَحَ بِهَا أَوْ نَزَعَ اللِّجَامَ أَوْ الْقَمِيصَ أَوْ سَاقَ بِرَجْلٍ وَاحِدَةٍ لَا تَفْسُدُ. وَقَوْلُهُمْ إذَا دَفَعَ الْمَارَّ بِيَدِهِ تَفْسُدُ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّكَرُّرِ دُونَ فَتْرَةٍ لِيَكُونَ عَمَلًا كَثِيرًا، وَإِلَّا فَالدَّفْعَةُ الْوَاحِدَةُ عَمَلٌ قَلِيلٌ
. وَقَدْ قَالُوا فِي قَتْلِ الْحَيَّةِ إنَّهُ إذَا كَانَ بِعَمَلٍ قَلِيلٍ لَا تَفْسُدُ. وَبِالْكَثِيرِ تَفْسُدُ. بَلْ اخْتَارَ السَّرَخْسِيُّ أَنَّهَا لَا تَفْسُدُ بِالْكَثِيرِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مُرَخَّصٌ فِيهِ بِالنَّصِّ فَكَانَ كَالْمَشْيِ الْكَثِيرِ فِي سَبْقِ الْحَدَثِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا كَذَلِكَ بِالنَّصِّ.
وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» وَسَنَتَكَلَّمُ فِيهِ عِنْدَ مَسْأَلَةِ قَتْلِ الْحَيَّةِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ تَقْيِيدِ الْفَسَادِ بِكَوْنِهِ كَثِيرًا
(قَوْلُهُ وَإِنْ مَرَّتْ امْرَأَةٌ) خَصَّهَا لِلتَّنْصِيصِ عَلَى رَدِّ قَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ أَنَّ مُرُورَهَا يُفْسِدُ، وَكَذَا الْحِمَارُ وَالْكَلْبُ عِنْدَهُمْ. وَوَجْهُ الْجَوَازِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلِي، فَإِنْ قَامَ بَسَطْتُهَا» .
وَالْبُيُوتُ يَوْمئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» وَفِي سَنَدِهِ مُجَالِدٌ فِيهِ مَقَالٌ، وَإِنَّمَا رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ مَقْرُونًا بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّعْبِيِّ، وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ سَالِمٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ قَالُوا: لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ، وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ»، ضَعَّفَ رَفْعَهُ وَوَقَفَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: حَدِيثُ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ ضَعِيفٌ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ عَنْ الْحَسَنِ لِأَنَّهُ يُرْوَى مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي أُمَامَةَ وَأَنَسٍ وَجَابِرٍ رضي الله عنهم، وَالرِّوَايَاتُ فِي أَبِي دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَا يُقَاوِمُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَآخِرَةِ الرَّحْلِ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ. قُلْنَا: مَا بَالُ الْأَسْوَدِ
آثِمٌ» لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَوْ عَلِمَ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ لَوَقَفَ أَرْبَعِينَ» وَإِنَّمَا يَأْثَمُ إذَا مَرَّ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ عَلَى مَا قِيلَ وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ
مِنْ الْأَحْمَرِ؟ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَأَلْتَنِي فَقَالَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا أَشُكُّ أَنَّ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ يَقْطَعُ، وَفِي نَفْسِي مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ شَيْءٌ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ صَحَّ حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: وَذَكَرَتْ مَا رَوَيْنَاهُ آنِفًا، وَصَحَّ عَنْ «ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي، فَنَزَلْتُ عَنْ الْحِمَارِ وَتَرَكْتُهُ أَمَامَ الصَّفِّ فَمَا بَالَاهُ» وَلَمْ نَجِدْ فِي الْكَلْبِ شَيْئًا انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَامَ الْمُعَارِضُ فِيهِمَا وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْكَلْبِ، وَتَأَوَّلَ الْجُمْهُورُ ذَلِكَ عَلَى قَطْعِ الْخُشُوعِ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُهُ، بِخِلَافِ مُعَارِضِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَإِنَّهُمَا مُحَكَّمَانِ فِي عَدَمِ الْإِفْسَادِ.
وَيَجِبُ فِي مِثْلِهِ حَمْلُ الْمُحْتَمَلِ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ مِمَّا لَمْ يُعَارَضْ بِهِ الْمُحَكَّمُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَلْبَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَعْمُولِ يَقْطَعُ، فَإِذَا لَزِمَ فِي عَامِلِهِ هَذَا كَوْنُ الْمُرَادِ قَطْعَ الْخُشُوعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ لَزِمَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَلْبِ أَيْضًا ذَلِكَ وَإِلَّا أُرِيدَ بِهِ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا.
ثُمَّ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ كُلُّهَا فِي الْكِتَابِ إلَّا وَاحِدًا وَهُوَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَرْكِ السُّتْرَةِ إذَا أُمِنَ الْمُرُورُ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم) الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي النَّضِرِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ أَرْسَلَهُ إلَى أَبِي جُهَيْمٍ يَسْأَلُهُ مَاذَا سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي فَقَالَ أَبُو جُهَيْمٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» قَالَ أَبُو النَّضِرُ: لَا أَدْرِي قَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً. وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي النَّضِرِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: أَرْسَلَنِي أَبُو جُهَيْمٍ إلَى زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فَسَاقَهُ، وَفِيهِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَسَكَتَ عَنْهُ الْبَزَّارُ، وَفِيهِ أَنَّ الْمَسْئُولَ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ خِلَافَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ.
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَقَدْ خَطَّأَ النَّاسُ ابْنَ عُيَيْنَةَ فِي ذَلِكَ لِمُخَالَفَتِهِ مَالِكًا، وَلَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ لِاحْتِمَالِ كَوْنِ أَبِي جُهَيْمٍ بَعَثَ بُسْرًا إلَى زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ بَعَثَهُ إلَى أَبِي جُهَيْمٍ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ بِمَا عِنْدَهُ لِيَسْتَثْبِتَهُ فِيمَا عِنْدَهُ وَهَلْ عِنْدَهُ مَا يُخَالِفُهُ، فَأَخْبَرَ كُلٌّ بِمَحْفُوظِهِ، وَشَكَّ أَحَدُهُمَا وَجَزَمَ الْآخَرُ، وَاجْتَمَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَنْ أَبِي النَّضِرِ فَحَدَّثَ بِهِمَا.
غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا حَفِظَ حَدِيثَ أَبِي جُهَيْمٍ وَابْنَ عُيَيْنَةَ حَفِظَ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ (قَوْلُهُ وَإِنَّمَا يَأْثَمُ إذَا مَرَّ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ عَلَى مَا قِيلَ وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ) قِيلَ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ مَنْ قَدَّمَهُ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ هُوَ مَوْضِعُ صَلَاتِهِ، وَمِنْهُمْ مِنْ قَدَّرَهُ
وَتُحَاذِي أَعْضَاءُ الْمَارِّ أَعْضَاءَهُ لَوْ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الدُّكَّانِ
(وَيَنْبَغِي لِمَنْ يُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ أَنْ يَتَّخِذَ أَمَامَهُ سُتْرَةً) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي الصَّحْرَاءِ فَلْيَجْعَلْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةً» (وَمِقْدَارُهَا ذِرَاعٌ فَصَاعِدًا)
بِثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، وَمِنْهُمْ بِخَمْسَةٍ، وَمِنْهُمْ بِأَرْبَعِينَ، وَمِنْهُمْ بِمِقْدَارِ صَفَّيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَفِي النِّهَايَةِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ صَلَّى صَلَاةَ الْخَاشِعِينَ نَحْوَ أَنْ يَكُونَ بَصَرُهُ فِي قِيَامِهِ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ وَفِي مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ فِي رُكُوعِهِ وَإِلَى أَرْنَبَةِ أَنْفِهِ فِي سُجُودِهِ وَفِي حِجْرِهِ فِي قُعُودِهِ وَإِلَى مَنْكِبِهِ فِي سَلَامِهِ لَا يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى الْمَارِّ لَا يُكْرَهُ.
وَمُخْتَارُ السَّرَخْسِيِّ مَا فِي الْهِدَايَةِ، وَمَا صُحِّحَ فِي النِّهَايَةِ مُخْتَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ، وَرَجَّحَهُ فِي النِّهَايَةِ بِأَنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا صَلَّى عَلَى الدُّكَّانِ وَحَاذَى أَعْضَاءُ الْمَارِّ أَعْضَاءَهُ يُكْرَهُ الْمُرُورُ، وَإِنْ كَانَ الْمَارُّ أَسْفَلَ وَهُوَ لَيْسَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ: يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ سُجُودُهُ فِيهِ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ يَسْجُدُ عَلَى الدُّكَّانِ فَكَانَ مَوْضِعُ سُجُودِهِ أَلْبَتَّةَ دُون مَحَلِّ الْمُرُورِ لَوْ كَانَ عَلَى الْأَرْضِ.
وَمَعَ ذَلِكَ ثَبَتَتْ الْكَرَاهَةُ اتِّفَاقًا فَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِمَا اخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، بِخِلَافِ مُخْتَارِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ مَمْشًى فِي كُلِّ الصُّوَرِ غَيْرُ مَنْقُوضٍ قَالَ: ثُمَّ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ هَذَا الْحَدَّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إذَا كَانَ يُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ. فَأَمَّا فِي الْمَسْجِدِ فَالْحَدُّ هُوَ الْمَسْجِدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَارِّ أُسْطُوَانَةٌ أَوْ غَيْرُهَا: يَعْنِي أَنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ فَالْكَرَاهَةُ ثَابِتَةٌ، إلَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنْ حَدِّ الْمَسْجِدِ فَيَمُرَّ فِيمَا لَيْسَ بِمَسْجِدٍ. وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ فِي الْمَسْجِدِ يُكْرَهُ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَائِطِ الْقِبْلَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَمُرُّ مَا وَرَاءَ خَمْسِينَ ذِرَاعًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْرَ مَا بَيْنَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَحَائِطِ الْقِبْلَةِ. وَمُنْشَأُ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ مَا يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي، فَمَنْ فَهِمَ أَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ يَخُصُّ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحَلِّ سُجُودِهِ قَالَ بِهِ، وَمَنْ فَهِمَ أَنَّهُ يَصْدُقُ مَعَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ نَفَاهُ وَعَيَّنَ مَا وَقَعَ عِنْدَهُ.
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ تَرَجُّحُ مَا اخْتَارَهُ فِي النِّهَايَةِ مِنْ مُخْتَارِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَكَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْمُؤَثِّمَ الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ الْبَيْتِ بِرُمَّتِهِ اُعْتُبِرَ بُقْعَةً وَاحِدَةً فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَغْيِيرَ الْأَمْرِ الْحِسِّيِّ مِنْ الْمُرُورِ مِنْ بَعِيدٍ فَيُجْعَلُ الْبَعِيدُ قَرِيبًا (قَوْلُهُ وَيُحَاذَى إلَخْ) فَلَوْ كَانَتْ الدُّكَّانُ قَدْرَ الْقَامَةِ فَهُوَ سُتْرَةٌ فَلَا يَأْثَمُ الْمَارُّ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ حَدَّهُ بِطُولِ السُّتْرَةِ وَهُوَ ذِرَاعٌ، وَغَلَّظَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كُرِهَ مُرُورُ الرَّاكِبِ وَإِنْ اسْتَتَرَ بِظَهْرِ جَالِسٍ كَانَ سُتْرَةً وَكَذَا الدَّابَّةُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَائِمِ وَقَالُوا: حِيلَةُ الرَّاكِبِ أَنْ يَنْزِلَ فَيَجْعَلَ الدَّابَّةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُصَلِّي فَتَصِيرَ هِيَ سُتْرَةٌ فَيَمُرَّ، وَلَوْ مَرَّ رَجُلَانِ فَالْإِثْمُ عَلَى مَنْ يَلِي الْمُصَلِّيَ
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ») غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ
لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إذَا صَلَّى فِي الصَّحْرَاءِ أَنْ يَكُونَ أَمَامَهُ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ» (وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فِي غِلَظِ الْأُصْبُعِ) لِأَنَّ مَا دُونَهُ لَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ بَعِيدٍ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ (وَيَقْرُبُ مِنْ السُّتْرَةِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ صَلَّى إلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا» (وَيَجْعَلُ السُّتْرَةَ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ أَوْ عَلَى الْأَيْسَرِ) بِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ وَلَا بَأْسَ بِتَرْكِ السُّتْرَةِ إذَا أَمِنَ الْمُرُورَ وَلَمْ يُوَاجِهْ الطَّرِيقَ
(وَسُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِلْقَوْمِ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى بِبَطْحَاءَ مَكَّةَ إلَى عَنَزَةٍ وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَوْمِ
وَالْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلِيُصَلِّ إلَى سُتْرَةٍ وَلَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ» وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ، وَزَادَ ابْنُ حِبَّانَ «فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ» (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم أَيَعْجِزُ إلَخْ) غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «إنْ جَعَلْتَ بَيْنَ يَدَيْكَ مِثْلَ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ فَلَا يَضُرُّكَ مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْكَ» وَأَخْرَجَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «سُئِلَ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَنْ سُتْرَةِ الْمُصَلِّي فَقَالَ: مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ» (قَوْلُهُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْخَاءِ آخِرُهُ.
وَتَشْدِيدُ الْخَاءِ خَطَأٌ وَهِيَ الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي آخِرِهِ عَرِيضَةٌ تُحَاذِي رَأْسَ الرَّاكِبِ
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ صَلَّى) إلَخْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إلَى سُتْرَةٍ وَلْيَدْنُ مِنْهَا» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِيهِ «لَا يَقْطَعُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ» (قَوْلُهُ بِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ) قُلْت: يُشِيرُ إلَى حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ضُبَاعَةَ بِنْتِ الْمِقْدَادِ ابْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهَا قَالَ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي إلَى عُودٍ وَلَا عَمُودٍ وَلَا شَجَرَةٍ إلَّا جَعَلَهُ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ، وَلَا يَصْمُدُ لَهُ صَمْدًا» .
وَقَدْ أُعِلَّ بِالْوَلِيدِ بْنِ كَامِلٍ وَبِجَهَالَةِ ضُبَاعَةَ، وَبِأَنَّ أَبَا عَلِيِّ بْنَ السَّكَنِ رَوَاهُ فِي سُنَنِهِ عَنْ ضُبَيْعَةَ بِنْتِ الْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ عَنْ أَبِيهَا عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى عَامُودٍ أَوْ سَارِيَةٍ أَوْ شَيْءٍ فَلَا يَجْعَلُهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ وَلْيَجْعَلْهُ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْسَرِ» وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الِاضْطِرَابِ وَلَا يَضُرُّ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ يُعْمَلُ بِمِثْلِهِ فِيهِ
(قَوْلُهُ «لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِبَطْحَاءِ مَكَّةَ إلَى عَنَزَةٍ») مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ هَكَذَا «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ بِالْبَطْحَاءِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ وَالْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ يَمُرُّونَ مِنْ وَرَائِهَا» .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ:
سُتْرَةٌ (وَيُعْتَبَرُ الْغَرْزُ دُونَ الْإِلْقَاءِ وَالْخَطِّ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِهِ (وَيَدْرَأُ الْمَارَّ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ أَوْ مَرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّتْرَةِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «ادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ» (وَيَدْرَأُ بِالْإِشَارَةِ) كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَلَدَيْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها (أَوْ يَدْفَعُ بِالتَّسْبِيحِ) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ (وَيُكْرَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا) لِأَنَّ بِأَحَدِهِمَا كِفَايَةً.
وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَوْمِ سُتْرَةٌ مِنْ كَلَامِهِ لَا مِنْ الْحَدِيثِ (قَوْلُهُ الْغَرْزُ دُونَ الْإِلْقَاءِ) هَذَا إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ بِحَيْثُ يُغْرَزُ فِيهَا، فَإِنْ كَانَتْ صُلْبَةً اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ تُوضَعُ. وَقِيلَ لَا تُوضَعُ، وَأَمَّا الْخَطُّ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ حَسَبَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْوَضْعِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يَغْرِزَهُ أَوْ يَضَعَهُ.
فَالْمَانِعُ يَقُولُ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِهِ إذْ لَا يَظْهَرُ مِنْ بَعِيدٍ، وَالْمُجِيزُ يَقُولُ وَرَدَ الْأَثَرُ بِهِ، وَهُوَ مَا فِي أَبِي دَاوُد «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَنْصِبْ عَصًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَصًا فَلْيَخُطَّ خَطًّا وَلَا يَضُرُّهُ مَا مَرَّ أَمَامَهُ» وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ الْأُولَى. وَالسُّنَّةُ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ مَعَ أَنَّهُ يَظْهَرُ فِي الْجُمْلَةِ إذْ الْمَقْصُودُ جَمْعُ الْخَاطِرِ بِرَبْطِ الْخَيَالِ بِهِ كَيْ لَا يَنْتَشِرَ.
قَالَ أَبُو دَاوُد: قَالُوا الْخَطُّ بِالطُّولِ وَقَالُوا بِعَرْضٍ مِثْلِ الْهِلَالِ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «ادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ») تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد وَمَعْنَاهُ فِي السُّنَّةِ كَثِيرٌ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ (قَوْلُهُ كَمَا فَعَلَ صلى الله عليه وسلم بِوَلَدَيْ أُمِّ سَلَمَةَ) رَوَى ابْن مَاجَهْ عَنْهَا قَالَتْ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي حُجْرَةِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَمَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ عُمَرُ بْن أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا فَرَجَعَ فَمَرَّتْ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا فَمَضَتْ، فَلَمَّا صَلَّى عليه الصلاة والسلام قَالَ: هُنَّ أَغْلَبُ» وَأَعَلَّهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ قَيْسٍ فِي طَبَقَتِهِ جَمَاعَةٌ بِاسْمِهِ.
وَلَا يُعْرَفُ مَنْ هُوَ مِنْهُمْ وَأَنَّ أُمَّهُ لَا تُعْرَفُ أَلْبَتَّةَ. قِيلَ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا هَذَا قَالَ عَنْ أُمِّهِ، لَكِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي كِتَابِ ابْنِ مَاجَهْ وَمُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ إلَّا عَنْ أَبِيهِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يُعْرَفُ فَقَدْ عَرَفَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِقَوْلِهِ قَاضِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَفِي الْكَمَالِ وَالتَّهْذِيبِ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ (قَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي «إذَا نَابَتْ أَحَدَكُمْ نَائِبَةٌ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلْيُسَبِّحْ» .
(فَصْلٌ)
(وَيُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَعْبَثَ بِثَوْبِهِ أَوْ بِجَسَدِهِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا، وَذَكَرَ مِنْهَا الْعَبَثَ فِي الصَّلَاةِ» وَلِأَنَّ الْعَبَثَ خَارِجَ الصَّلَاةِ حَرَامٌ فَمَا ظَنُّك فِي الصَّلَاةِ (وَلَا يُقَلِّبُ الْحَصَى) لِأَنَّهُ نَوْعُ عَبَثٍ (إلَّا أَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْ السُّجُودِ فَيُسَوِّيَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَرَّةً يَا أَبَا ذَرٍّ وَإِلَّا فَذَرْ» وَلِأَنَّ فِيهِ
(فَصْلٌ)
(قَوْلُهُ أَنْ يَعْبَثَ) الْعَبَثُ الْفِعْلُ لِغَرَضٍ غَيْرِ صَحِيحٍ، فَلَوْ كَانَ لِنَفْعٍ كَسَلْتِ الْعَرَقِ عَنْ وَجْهِهِ أَوْ التُّرَابِ فَلَيْسَ بِهِ (قَوْلُهُ وَعَدَّ مِنْهَا الْعَبَثَ) وَهُوَ أَوَّلُهَا، ثُمَّ قَالَ:«وَالرَّفَثُ فِي الصِّيَامِ وَالضَّحِكُ عَلَى الْمَقَابِرِ» ، رَوَاهُ الْقُضَاعِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ مُرْسَلًا (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا ذَرٍّ) غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ.
وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ «سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى سَأَلْتُهُ عَنْ مَسْحِ الْحَصَى فَقَالَ: وَاحِدَةً أَوْ دَعْ» وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ، وَقَدْ أَخْرَجَ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ مُعَيْقِيبٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا تَمْسَحْ الْحَصَى وَأَنْتَ تُصَلِّي فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَوَاحِدَةً» .
وَأَمَّا حَدِيثُ الْفَرْقَعَةِ فَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «لَا تُفَرْقِعْ أَصَابِعَكَ وَأَنْتَ فِي الصَّلَاةِ» .
وَهُوَ مَعْلُولٌ بِالْحَارِثِ،
وَحَدِيثُ التَّخَصُّرِ أَخْرَجُوهُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا» وَفِي لَفْظٍ «نَهَى عَنْ الِاخْتِصَارِ فِي الصَّلَاةِ» وَفِي الِاخْتِصَارِ تَأْوِيلَاتٌ أَشْهُرُهَا مَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَهُوَ مَا فِي الْكِتَابِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ فِي
إصْلَاحَ صَلَاتِهِ
(وَلَا يُفَرْقِعُ أَصَابِعَهُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تُفَرْقِعْ أَصَابِعُكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي» .
(وَلَا يَتَخَصَّرُ) وَهُوَ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْخَاصِرَةِ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ الِاخْتِصَارِ فِي الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْوَضْعِ الْمَسْنُونِ.
(وَلَا يَلْتَفِتُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لَوْ عَلِمَ الْمُصَلِّي مَنْ يُنَاجِي مَا الْتَفَتَ (وَلَوْ نَظَرَ بِمُؤْخِرِ عَيْنِهِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْوِيَ عُنُقَهُ لَا يُكْرَهُ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُلَاحِظُ أَصْحَابَهُ فِي صَلَاتِهِ بِمُوقِ عَيْنَيْهِ
(وَلَا يُقْعِي وَلَا يَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهِ) «لِقَوْلِ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه: نَهَانِي خَلِيلِي عَنْ ثَلَاثٍ: أَنْ أَنْقُرَ نَقْرَ الدِّيكِ،
أَبِي دَاوُد وَمُفَسَّرٌ فِيهِ. وَفِي النِّهَايَةِ عَنْ الْمُغْرِبِ وَهُوَ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْخَصْرِ وَهُوَ الْمُسْتَدَقُّ فَوْقَ الْوَرِكِ، أَوْ عَلَى الْخَاصِرَةِ وَهُوَ مَا فَوْقَ الطَّفْطَفَةِ وَالشَّرَاسِيفِ.
وَالطَّفْطَفَةُ أَطْرَافُ الْخَاصِرَةِ، وَالشَّرَاسِيفُ أَطْرَافُ الضِّلْعِ الَّذِي يُشْرِفُ عَلَى الْبَطْنِ انْتَهَى. وَقِيلَ هُوَ أَنْ يُصَلِّيَ مُتَّكِئًا عَلَى عَصًا، وَقِيلَ أَنْ لَا يُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَقِيلَ أَنْ يَخْتَصِرَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا السَّجْدَةُ،
وَحَدِيثُ الِالْتِفَاتِ غَرِيبٌ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ وَفِيهِ أَلْفَاظٌ أَقْرَبُهَا إلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ كَعْبٍ «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَقُومُ مُصَلِّيًا إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا يُنَادِي: يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ تَعْلَمُ مَا فِي صَلَاتِكَ مَنْ تُنَاجِي مَا الْتَفَتَّ» .
وَرَوَى الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لَا يَزَالُ اللَّهُ تَعَالَى مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ» وَالْحَقُّ أَنَّهُ حَسَنٌ. «وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إيَّاكَ وَالِالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ الِالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ هَلَكَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَفِي التَّطَوُّعِ لَا فِي الْفَرِيضَةِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَحَدُّ الِالْتِفَاتِ الْمَكْرُوهِ أَنْ يَلْوِيَ عُنُقَهُ حَتَّى يَخْرُجَ عَنْ مُوَاجِهَةِ الْقِبْلَة.
وَلَوْ انْحَرَفَ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ فَسَدَتْ فَبَعْضُهُ يُكْرَهُ كَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ يُفْسِدُ فَالْقَلِيلُ يُكْرَهُ، وَحَدِيثُ مُلَاحَظَتِهِ أَصْحَابَهُ إلَخْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «كَانَ صلى الله عليه وسلم يَلْحَظُ فِي الصَّلَاةِ يَمِينًا وَشِمَالًا وَلَا يَلْوِي عُنُقَهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ غَرِيبًا لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ: يَعْنِي طَرِيقَ التِّرْمِذِيِّ انْتَهَى.
لَكِنْ قَدْ ظَهَرَ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ فِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ.
وَحَدِيثُ الْإِقْعَاءِ وَالِافْتِرَاشِ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ نَقْرَةٍ كَنَقْرِ الدِّيكِ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ» وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَ تَعْنِيهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ وَأَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ وَعُقْبَةُ الشَّيْطَانِ الْإِقْعَاءُ.
وَأَمَّا مَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ طَاوُسٍ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْإِقْعَاءِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ فَقَالَ: هِيَ السُّنَّةُ فَقُلْنَا لَهُ إنَّا نَرَاهُ جَفَاءً بِالرَّجُلِ، فَقَالَ بَلْ هِيَ سُنَّةُ نَبِيِّك صلى الله عليه وسلم وَمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقْعُونَ، فَالْجَوَابُ الْمُحَقَّقُ عَنْهُمْ أَنَّ الْإِقْعَاءَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُسْتَحَبٌّ أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ وَرَكِبَتَاهُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ الْعَبَادِلَةِ، وَالْمَنْهِيُّ أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ وَيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ
وَأَنْ أُقْعِيَ إقْعَاءَ الْكَلْبِ، وَأَنْ أَفْتَرِشَ افْتِرَاشَ الثَّعْلَبِ». وَالْإِقْعَاءُ: أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ وَيَنْصِبَ رُكْبَتَيْهِ نَصْبًا هُوَ الصَّحِيحُ.
(وَلَا يَرُدُّ السَّلَامَ بِلِسَانِهِ) لِأَنَّهُ كَلَامٌ (وَلَا بِيَدِهِ) لِأَنَّهُ سَلَامٌ مَعْنًى حَتَّى لَوْ صَافَحَ بِنِيَّةِ التَّسْلِيمِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ
(وَلَا يَتَرَبَّعُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ) لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ سُنَّةِ الْقُعُودِ (وَلَا يَعْقِصُ شَعْرَهُ) وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ شَعْرَهُ عَلَى هَامَتِهِ وَيَشُدَّهُ بِخَيْطٍ أَوْ بِصَمْغٍ لِيَتَلَبَّدَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَهُوَ مَعْقُوصٌ
وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنْ يَنْصِبَ قَدَمَيْهِ كَمَا فِي السُّجُودِ وَيَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ هُوَ صِفَةُ إقْعَاءِ الْكَلْبِ، وَقَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ: أَيْ كَوْنُ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ لَا أَنَّ مَا قَالَ الْكَرْخِيُّ غَيْرُ مَكْرُوهٍ بَلْ يُكْرَهُ ذَلِكَ أَيْضًا
(قَوْلُهُ وَلَا بِيَدِهِ) قَالَ شَارِحُ الْكَنْزِ إنَّهُ بِالْإِشَارَةِ مَكْرُوهٌ وَبِالْمُصَافَحَةِ مُفْسِدٌ. وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ: الْآخَرُ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْكِتَابِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْمَذْكُورَ هُنَا: قُلْت أَجَازَ الْبَاقُونَ رَدَّ السَّلَامِ بِالْإِشَارَةِ.
وَلَنَا حَدِيثٌ جَيِّدٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ أَشَارَ فِي الصَّلَاةِ إشَارَةً تُفْهَمُ أَوْ تُفْقَهُ فَقَدْ قَطَعَ الصَّلَاةَ» وَأَعَلَّهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِابْنِ إِسْحَاقَ، وَأَبُو غَطَفَانَ مَجْهُولٌ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ أَبَا غَطَفَانَ هُوَ ابْنُ طَرِيفٍ، وَيُقَالُ ابْنُ مَالِكٍ الْمُرِّيُّ وَثَّقَهُ ابْن مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ.
وَمَا عَنْ الدَّارَقُطْنِيِّ قَالَ لَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُد: أَبُو غَطَفَانَ مَجْهُولٌ لَا يُقْبَلُ، وَابْنُ إِسْحَاقَ ثِقَةٌ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ وَقَدَّمْنَاهُ فِي أَبْوَابِ الطَّهَارَةِ. ثُمَّ أَخْرَجَ لِلْخَصْمِ حَدِيثَ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي عُمَرَ عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ «مَرَرْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلِيَّ إشَارَةً» ، وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ إشَارَةً بِأُصْبُعِهِ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَعِدَّةُ أَحَادِيثَ تُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى وَالْجَوَابُ أَنَّهُ بِنَاءً عَلَى مَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ وَغَيْرِهِ مِنْ كَرَاهَةِ الْإِشَارَةِ.
وَلَنَا أَنْ لَا نَقُولَ بِهِ، فَإِنَّ مَا فِي الْغَايَةِ عَنْ الْحَلْوَانِيِّ وَصَاحِبِ الْمُحِيطِ لَا بَأْسَ أَنْ يَتَكَلَّمَ مَعَ الْمُصَلِّي وَيُجِيبَ هُوَ بِرَأْسِهِ يُفِيدُ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى مَا إذَا كَانَ لِضَرُورَةٍ رَفْعًا لِلْخِلَافِ فَالْجَوَابُ بِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْهَا لِمَا يُوجِبُهُ مِنْ التَّشْتِيتِ وَالشُّغْلِ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم مُؤَيِّدٌ عَنْ أَنْ يَتَأَثَّرَ عَنْ ذَلِكَ فَلِذَا مُنِعَ، وَفِعْلُهُ هُوَ لَوْ تَعَارَضَا قُدِّمَ الْمَانِعُ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: سَلَّمَ عَلَى الْمُصَلِّي فَأَشَارَ بِرَدِّ السَّلَامِ بِرَأْسِهِ أَوْ يَدِهِ أَوْ أَخْبَرَ بِشَيْءٍ فَحَرَّكَ رَأْسَهُ بِلَا أَوْ بِنَعَمْ أَوْ سُئِلَ كَمْ صَلَّيْت فَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ ثَلَاثًا أَوْ نَحْوَهُ لَا تَفْسُدُ
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ تَرَكَ سُنَّةَ الْقُعُودِ) أَيْ سُنِّيَّتَهُ فِي الصَّلَاةِ فَيُكْرَهُ لَا مُطْلَقًا لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْجَبَابِرَةِ كَمَا عُلِّلَ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ جُلُّ قُعُودِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ مَعَ أَصْحَابِهِ التَّرَبُّعَ وَكَذَا عُمَرُ رضي الله عنه (قَوْلُهُ وَيَشُدّهُ) أَيْ مِنْ وَرَائِهِ بِخَيْطٍ أَوْ يَشُدّ طَرَفَيْهِ عَلَى جَبْهَتِهِ أَوْ يُلَبِّدَهُ كَمَا ذَكَرَ (قَوْلُهُ فَإِنَّهُ رُوِيَ إلَخْ) رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُخَوَّلِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِهِ.
وَوَضَعَ مَكَانَ رَجُلٍ سَعِيدَ الْمَقْبُرِيَّ، وَقَالَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ قَالَ أَخْبَرَنَا الْمُؤَمَّلُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ سُفْيَانَ بِهِ سَنَدًا وَمُتْنَا، زَادَ: قَالَ إِسْحَاقُ قُلْت لِلْمُؤَمَّلِ أَفِيه أُمُّ سَلَمَةَ، قَالَ بِلَا شَكٍّ. وَحَكَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِوَهْمِ الْمُؤَمَّلِ فِي ذِكْرِهَا. وَرُوِيَ حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ بِقِصَّةٍ مَعَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما. وَقَدْ أَخْرَجَ السِّتَّةُ
(وَلَا يَكُفُّ ثَوْبَهُ) لِأَنَّهُ نَوْعُ تَجَبُّرٍ (وَلَا يُسْدِلُ ثَوْبَهُ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ السَّدْلِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَكَتِفَيْهِ ثُمَّ يُرْسِلَ أَطْرَافَهُ مِنْ جَوَانِبِهِ
(وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ) لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ (فَإِنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ) لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ وَحَالَةُ الصَّلَاةِ مُذَكِّرَةٌ
(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَكُونَ مَقَامُ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ وَسُجُودُهُ فِي الطَّاقِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُومَ فِي الطَّاقِ) لِأَنَّهُ يُشْبِهُ صَنِيعَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ تَخْصِيصِ الْإِمَامِ
عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةٍ وَأَنْ لَا أَكُفَّ شَعَرًا وَلَا ثَوْبًا» وَفِي الْعَقْصِ كَفُّهُ، وَيَتَضَمَّنُ كَرَاهَةَ كَوْنِ الْمُصَلِّي مُشَمِّرًا كُمَّيْهِ
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ السَّدْلِ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ وَأَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ (قَوْلُهُ وَهُوَ أَنْ يَضَعَ إلَخْ) يَصْدُقُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمِنْدِيلُ مُرْسَلًا مِنْ كَتِفَيْهِ كَمَا يَعْتَادُهُ كَثِيرٌ فَيَنْبَغِي لِمَنْ عَلَى عُنُقِهِ مِنْدِيلٌ أَنْ يَضَعَهُ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَيَصْدُقُ أَيْضًا عَلَى لُبْسِ الْقَبَاءِ مِنْ غَيْرِ إدْخَالِ الْيَدَيْنِ كُمَّيْهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالْكَرَاهَةِ فِيهِ.
وَيُكْرَهُ اشْتِمَالُهُ الصَّمَّاءَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ أَنْ يَلُفَّ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ رَأْسَهُ وَسَائِرَ بَدَنِهِ وَلَا يَدَعَ مَنْفَذًا لِيَدِهِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ عَدَمُ الْإِزَارِ مَعَ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدٍ يُشْتَرَطُ وَغَيْرُهُ لَا يَشْتَرِطُهُ. وَيُكْرَهُ الِاعْتِجَارُ أَنْ يَلُفَّ الْعِمَامَةَ حَوْلَ رَأْسِهِ وَيَدَعَ وَسَطَهَا كَمَا تَفْعَلُهُ الدَّعَرَةُ وَمُتَوَشِّحًا لَا يُكْرَهُ. وَفِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ بَعْضُهُ يُكْرَهُ إلَّا لِضَرُورَةِ الْعَدَمِ
(قَوْلُهُ وَحَالَةُ الصَّلَاةِ مُذَّكِرَةٌ) فَلَا يَكُونُ الْأَكْلُ فِيهَا نَاسِيًا كَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ نَاسِيًا لِيَلْحَقَ بِهِ دَلَالَةً.
ثُمَّ الْقَدْرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْفَسَادُ مَا يُفْسِدُ الصَّوْمُ عُزِيَ إلَى غَرِيبِ الرِّوَايَةِ لِأَبِي جَعْفَرٍ وَهُوَ قَدْرُ الْحِمَّصَةِ مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ، أَمَّا مِنْ خَارِجٍ فَلَوْ أَدْخَلَ سِمْسِمَةً فَابْتَلَعَهَا تَفْسُدُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا تَفْسُدُ، وَلَوْ كَانَتْ بَيْنَ أَسْنَانِهِ فَابْتَلَعَهَا لَا تَفْسُدُ، وَلَوْ كَانَ عَيْنُ سَكَرَةٍ فِي فِيهِ فَذَابَتْ فَدَخَلَ حَلْقَهُ فَسَدَتْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَيْنُهَا بَلْ صَلَّى عَلَى أَثَرِ ابْتِلَاعِهَا فَوَجَدَ الْحَلَاوَةَ لَا تَفْسُدُ، وَلَوْ لَاكَ هِلِيلِجَةً فَسَدَتْ كَمَضْغِ الْعِلْكِ، وَلَوْ لَمْ يَلُكْهَا لَكِنْ دَخَلَ فِي جَوْفِهِ مِنْهُ شَيْء يَسِيرٌ لَا تَفْسُدُ.
وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَكَلَ بَعْضَ اللُّقْمَةِ وَبَقِيَ فِي فِيهِ بَعْضُهَا فَدَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فَابْتَلَعَهُ لَا تَفْسُدُ مَا لَمْ تَكُنْ مِلْءَ الْفَمِ
(قَوْلُهُ فِي الطَّاقِ) أَيْ الْمِحْرَابِ، وَفِيهِ طَرِيقَانِ: كَوْنُهُ يَصِيرُ مُمْتَازًا عَنْهُمْ، وَكَيْ لَا يَشْتَبِهَ عَلَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ حَالُهُ حَتَّى إذَا كَانَ بِجَنَبَتَيْ الطَّاقِ عَمُودَانِ وَرَاءَهُمَا فُرْجَتَانِ يَطَّلِعُ مِنْهَا أَهْلُ الْجِهَتَيْنِ عَلَى حَالِهِ لَا يُكْرَه، وَإِنَّمَا هَذَا بِالْعِرَاقِ لِأَنَّ مَحَارِيبَهُمْ مُجَوَّفَةٌ مُطَوَّقَةٌ، فَمَنْ اخْتَارَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ لَا يُكْرَهُ عِنْدَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَمَنْ اخْتَارَ الْأُولَى يُكْرَهُ عِنْدَهُ مُطْلَقًا.
وَلَا
بِالْمَكَانِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ سُجُودُهُ فِي الطَّاقِ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ عَلَى الدُّكَّانِ) لِمَا قُلْنَا (وَكَذَا عَلَى الْقَلْبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) لِأَنَّهُ ازْدِرَاءٌ بِالْإِمَامِ (وَلَا بَاسَ بِأَنْ يُصَلِّيَ إلَى ظَهْرِ رَجُلٍ قَاعِدٍ يَتَحَدَّثُ)
يَخْفَى أَنَّ امْتِيَازَ الْإِمَامِ مُقَرَّرٌ مَطْلُوبٌ فِي الشَّرْعِ فِي حَقِّ الْمَكَانِ حَتَّى كَانَ التَّقَدُّمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَغَايَةُ مَا هُنَا كَوْنُهُ فِي خُصُوصِ مَكَان، وَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ بُنِيَ فِي الْمَسَاجِدِ الْمَحَارِيبُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ لَمْ تُبْنَ كَانَتْ السُّنَّةُ أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي مُحَاذَاةِ ذَلِكَ الْمَكَانِ لِأَنَّهُ يُحَاذِي وَسَطَ الصَّفِّ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، إذْ قِيَامُهُ فِي غَيْرِ مُحَاذَاتِهِ مَكْرُوهٌ، وَغَايَتُهُ اتِّفَاقُ الْمِلَّتَيْنِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ.
وَلَا بِدَعَ فِيهِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إنَّمَا يَخُصُّونَ الْإِمَامَ بِالْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ عَلَى مَا قِيلَ فَلَا تَشَبُّهَ. (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ سُجُودَهُ فِي الطَّاقِ) أَيْ وَرِجْلَاهُ خَارِجَهَا فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْقَدَمِ فِي مَكَانِ الصَّلَاةِ حَتَّى يُشْتَرَطَ طَهَارَتُهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً، بِخِلَافِ مَكَانِ السُّجُودِ إذْ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَلِذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ يَحْنَثُ بِوَضْعِ الْقَدَمِ وَإِنْ كَانَ بَاقِي بَدَنِهِ خَارِجَهَا، وَالصَّيْدُ إذَا كَانَ رِجْلَاهُ فِي الْحَرَمِ وَرَأْسُهُ خَارِجَهُ صَيْدُ الْحَرَمِ فَفِيهِ الْجَزَاءُ.
(قَوْلُهُ وَحْدَهُ) احْتِرَازٌ مِمَّا إذَا كَانَ مَعَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ (قَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا) مِنْ أَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ يَخُصُّونَ إمَامَهُمْ بِالْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ فَقَوْلُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِعَدَمِ مَنَاطِهَا وَهُوَ التَّشَبُّهُ فَإِنَّهُمْ لَا يَخُصُّونَهُ بِالْمَكَانِ الْمُنْخَفِضِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ هُنَا لِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ الِارْتِفَاعِ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ الْكَرَاهَةُ فَقِيلَ قَدْرُ الْقَامَةِ، وَقِيلَ مَا يَقَعُ بِهِ الِامْتِيَازُ، وَقِيلَ ذِرَاعٌ كَالسُّتْرَةِ.
وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَالْوَجْهُ أَوَجْهِيَّةُ الثَّانِي لِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ شَبَهُ الِازْدِرَاءِ يَتَحَقَّقُ فِيهِ غَيْرُ مُقْتَصَرٍ عَلَى قَدْرِ الذِّرَاعِ (قَوْلُهُ يَتَحَدَّثُ) لِإِفَادَةِ نَفْيِ الْكَرَاهَةَ بِحَضْرَةِ الْمُتَحَدِّثِينَ خِلَافًا لِلْقَائِلَيْنِ وَكَذَا بِحَضْرَةِ النَّائِمِينَ. وَمَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «لَا تُصَلُّوا خَلْفَ النَّائِمِ وَلَا الْمُتَحَدِّثِ» فَضَعِيفٌ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى وَعَائِشَةُ رضي الله عنها نَائِمَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ». قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَقَدْ يُقَالُ: لَمْ تَكُنْ عَائِشَةُ رضي الله عنها نَائِمَةً بَلْ مُضْطَجِعَةً، وَلِذَا قَالَتْ: فَكَانَ إذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضَتْ رَجْلِي.
فَإِذَا قَامَ بَسَطْتهَا إلَّا أَنْ يُقَالَ: كَانَ ذَلِكَ الْغَمْزُ الْمُتَكَرِّرُ مِرَارًا إيقَاظًا، لَكِنْ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ كُلِّهَا وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ» يَقْتَضِي أَنَّهَا كَانَتْ نَائِمَةً لَا مُضْطَجِعَةً يَقْظَى. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِمَا فِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «نُهِيتُ أَنْ أُصَلِّيَ إلَى النِّيَامِ وَالْمُتَحَدِّثِينَ» وَإِنْ قَالَ الْبَزَّارُ لَا نَعْلَمُهُ إلَّا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما رُبَّمَا كَانَ يَسْتَتِرُ بِنَافِعٍ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَلِّيَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ مُصْحَفٌ مُعَلَّقٌ أَوْ سَيْفٌ مُعَلَّقٌ) لِأَنَّهُمَا لَا يُعْبَدَانِ، وَبِاعْتِبَارِهِ تَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ
(وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى بِسَاطٍ فِيهِ تَصَاوِيرُ) لِأَنَّ فِيهِ اسْتِهَانَةً بِالصُّوَرِ (وَلَا يَسْجُدُ عَلَى التَّصَاوِيرِ) لِأَنَّهُ يُشْبِهُ عِبَادَةَ الصُّورَةِ، وَأَطْلَقَ الْكَرَاهَةَ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّ الْمُصَلَّى
وَيُجَابُ بِأَنَّ مَحْمَلُهُ إذَا كَانَتْ لَهُمْ أَصْوَاتٌ يُخَافُ مِنْهَا التَّغْلِيظُ أَوْ الشَّغْلُ، وَفِي النَّائِمِينَ إذَا خَافَ ظُهُورَ صَوْتٍ يُضْحِكُهُ وَقَدَّمْنَا أَنَّ فِي كَوْنِ ظَهْرِ النَّائِمِ سُتْرَةً اخْتِلَافًا (قَوْلُهُ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رُبَّمَا كَانَ يَسْتَتِرُ بِنَافِعٍ) رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَى سَارِيَةٍ قَالَ لِي: وَلِّ ظَهْرَك. وَمَا رَوَى الْبَزَّارُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي إلَى رَجُلٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ» وَاقِعَةُ حَالٍ لَا تَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ كَانَ إلَى ظَهْرِهِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ كَانَ مُسْتَقْبِلَهُ فَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ لِرَفْعِ الْكَرَاهَةِ.
وَهُوَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ أُدِّيَتْ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَلَوْ صَلَّى إلَى وَجْهِ إنْسَانٍ وَبَيْنَهُمَا ثَالِثٌ ظَهْرُهُ إلَى وَجْهِ الْمُصَلِّي لَمْ يُكْرَهْ (قَوْلُهُ وَبِاعْتِبَارِهِ تَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ) قُدِّمَ الْمَعْمُولُ لِقَصْدِ إفَادَةِ الْحَصْرِ فَيُفِيدُ الرَّدَّ عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ النَّاسِ بِالْكَرَاهَةِ لِأَنَّ السَّيْفَ آلَةُ الْحَرْبِ وَالْبَأْسِ فَيُكْرَهُ اسْتِقْبَالُهُ فِي مَقَامِ الِابْتِهَالِ، وَفِي اسْتِقْبَالِ الْمُصْحَفِ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ اسْتِقْبَالَهُمْ إيَّاهُ لِلْقِرَاءَةِ مِنْهُ لَا لِأَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ، وَقَدْ قُلْنَا بِكَرَاهَةِ اسْتِقْبَالِهِ لِذَلِكَ.
وَالْحَالُ ابْتِهَالٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ مُحَارَبَةٌ لِلشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ الْمُخَالِفَةِ. وَعَنْ هَذَا سُمِّيَ الْمِحْرَابُ
(قَوْلُهُ فِيهِ تَصَاوِيرُ) فِي الْمُغْرِبِ الصُّورَةُ عَامٌّ فِي ذِي الرُّوحِ وَغَيْرِهِ، وَالتِّمْثَالُ خَاصٌّ بِمِثَالِ ذِي الرُّوحِ لَكِنْ الْمُرَادُ هُنَا ذُو الرُّوحِ، فَإِنَّ غَيْرَ ذِي الرُّوحِ لَا يُكْرَهُ كَالشَّجَرِ، وَفِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَثَرُ قَالَ لِلْمُصَوِّرِ: إنْ كُنْت لَا بُدَّ فَاعِلًا فَعَلَيْك بِتِمْثَالٍ غَيْرِ ذِي الرُّوحِ (قَوْلُهُ وَأَطْلَقَ الْكَرَاهَةَ فِي الْأَصْلِ) أَيْ يُكْرَهُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى الصُّورَةِ أَوَّلًا، وَقَيَّدَهَا فِي الْجَامِعِ بِأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ.
فَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ لَا يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِهَانَةِ. وَجْهُ مَا فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْمُصَلَّيْ: أَيْ السَّجَّادَةَ الَّتِي يُصَلَّى عَلَيْهَا مُعَظَّمٌ فَوَضْعُ الصُّورَةِ فِيهِ تَعْظِيمٌ لَهَا حَيْثُمَا كَانَتْ مِنْهُ، بِخِلَافِ
مُعَظَّمٌ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ رَأْسِهِ فِي السَّقْفِ أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ بِحِذَائِهِ تَصَاوِيرُ أَوْ صُورَةٌ مُعَلَّقَةٌ)«لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ: إنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ أَوْ صُورَةٌ» ، وَلَوْ كَانَتْ الصُّورَةُ صَغِيرَةً بِحَيْثُ لَا تَبْدُو لِلنَّاظِرِ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ الصِّغَارَ جِدًّا لَا تُعْبَدُ
وَضْعِهَا عَلَى الْبِسَاطِ الَّذِي لَمْ يُعَدَّ لِلصَّلَاةِ (قَوْلُهُ وَيُكْرَهُ أَنْ تَكُونَ فَوْقَ رَأْسِهِ) أَيْ تَكْرَهُ الصَّلَاةُ وَفَوْقَ رَأْسِهِ إلَخْ، فَلَوْ كَانَتْ الصُّورَةُ خَلْفَهُ أَوْ تَحْتَ رِجْلَيْهِ فَفِي شَرْحِ عَتَّابٍ لَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ.
وَلَكِنْ تُكْرَهُ كَرَاهَةَ جَعْلِ الصُّورَةِ فِي الْبَيْتِ لِلْحَدِيثِ «إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ أَوْ صُورَةٌ» وَإِلَّا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي كَرَاهَةَ كَوْنِهَا فِي بِسَاطٍ مَفْرُوشٍ، وَعَدَمُ الْكَرَاهَةِ إذَا كَانَتْ خَلْفَهُ وَصَرِيحُ كَلَامِهِمْ فِي الْأَوَّلِ خِلَافُهُ. وَقَوْلُهُ وَأَشَدُّهَا كَرَاهَةً أَنْ تَكُونَ أَمَامَ الْمُصَلِّي إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ خَلْفَهُ يَقْتَضِي خِلَافَ الثَّانِي أَيْضًا، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ كَرَاهَةُ الصَّلَاةِ تَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ التَّشَبُّهِ بِعِبَادَةِ الْوَثَنِ وَلَيْسُوا يَسْتَدْبِرُونَهُ وَلَا يَطَؤُنَهُ فِيهَا فَفِيمَا يُفْهَمُ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ الْهِدَايَةِ نَظَرٌ.
وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ لَا بُعْدَ فِي ثُبُوتِهَا فِي الصَّلَاةِ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ كَمَا كُرِهَتْ الصَّلَاةُ فِي الْحَمَّامِ عَلَى أَحَدِ التَّعْلِيلَيْنِ، وَهُوَ كَوْنُهَا مَأْوَى الشَّيَاطِينِ، وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ هُنَا لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ الدُّخُولِ لِلصُّورَةِ مَعَ تَسَلُّطِ الشَّيَاطِينِ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَانِعٍ يُوجِبُ ذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَتَحَقَّقْ كَالْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنَّهُ ثَبَتَتْ كَرَاهَةُ الصَّلَاةِ فِي خُصُوصِ مَكَان بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِيهِ نَفْسِهِ لَا فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَقُلْ بِالْكَرَاهَةِ وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَ الْقَدَمِ وَمَا ذَكَرْت يُفِيدُهُ لِأَنَّهَا فِي الْبَيْتِ.
وَكَذَا ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «وَاعَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلَ فِي سَاعَةٍ يَأْتِيهِ فِيهَا، فَجَاءَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ وَلَمْ يَأْتِهِ وَفِي يَدِهِ عَصًا فَأَلْقَاهَا، وَقَالَ: مَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَا رَسُولُهُ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا جَرْوُ كَلْبٍ تَحْتَ سَرِيرِهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ مَتَى دَخَلَ هَذَا الْكَلْبُ هَاهُنَا؟ فَقَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا دَرَيْتُ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَاعَدْتَنِي فَجَلَسْتُ لَكَ فَلَمْ تَأْتِ فَقَالَ: مَنَعَنِي الْكَلْبُ الَّذِي كَانَ فِي بَيْتِكَ، إنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ» انْتَهَى.
وَبِهِ يُعْتَرَضُ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَيْضًا حَيْثُ كَانَ دَلِيلُهُ عَامًّا لِجَمِيعِ الصُّوَرِ، وَهُوَ يَقُولُ لَا يُكْرَه كَوْنُهَا فِي وِسَادَةٍ مُلْقَاةٍ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ. فَالْجَوَابُ لَا يُكْرَهُ جَعْلُهَا فِي الْمَكَانِ كَذَلِكَ لَتَعَدَّى إلَى الصَّلَاةِ. وَحَدِيثُ جِبْرِيلَ مَخْصُوصٌ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ وَقَعَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، وَعِنْدَ النَّسَائِيّ «اسْتَأْذَنَ جِبْرِيلُ عليه السلام عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ اُدْخُلْ، فَقَالَ: كَيْفَ أَدْخُلُ وَفِي بَيْتِكَ سِتْرٌ فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَاقْطَعْ رُءُوسَهَا أَوْ اقْطَعْهَا وَسَائِدَ أَوْ اجْعَلْهَا بُسُطًا» وَلَمْ يَذْكُرْ النَّسَائِيّ اقْطَعْهَا وَسَائِدَ.
وَفِي الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّهَا اتَّخَذَتْ عَلَى سَهْوَةٍ لَهَا سِتْرًا فِيهِ تَمَاثِيلُ فَهَتَكَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ فَاِتَّخَذْتُ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ فَكَانَتْ فِي الْبَيْتِ تَجْلِسُ عَلَيْهِمَا» زَادَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ «وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ مُتَّكِئًا عَلَى إحْدَاهُمَا وَفِيهَا صُورَةٌ» (قَوْلُهُ بِحَيْثُ لَا تَبْدُو لِلنَّاظِرِ) أَيْ عَلَى بُعْدٍ مَا، وَالْكَبِيرَةُ مَا تَبْدُو عَلَى الْبُعْدِ (قَوْلُهُ لِأَنَّهَا لَا تُعْبَدُ) فَلَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْوَثَنِ فَلَا يُكْرَهُ فِي الْبَيْتِ.
وَنُقِلَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى خَاتَمِ
(وَإِذَا كَانَ التِّمْثَالُ مَقْطُوعَ الرَّأْسِ) أَيْ مَمْحُوَّ الرَّأْسِ (فَلَيْسَ بِتِمْثَالٍ) لِأَنَّهُ لَا يُعْبَدُ بِدُونِ الرَّأْسِ وَصَارَ كَمَا إذَا صَلَّى إلَى شَمْعٍ أَوْ سِرَاجٍ عَلَى مَا قَالُوا (وَلَوْ كَانَتْ الصُّورَةُ عَلَى وِسَادَةٍ مُلْقَاةٍ أَوْ عَلَى بِسَاطٍ مَفْرُوشٍ لَا يُكْرَهُ) لِأَنَّهَا تُدَاسُ وَتُوطَأُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْوِسَادَةُ مَنْصُوبَةً أَوْ كَانَتْ عَلَى السُّتْرَةِ لِأَنَّهُ تَعْظِيمٌ لَهَا، وَأَشَدُّهَا كَرَاهَةً أَنْ تَكُونَ أَمَامَ الْمُصَلِّي ثُمَّ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ ثُمَّ عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ عَلَى شِمَالِهِ ثُمَّ خَلْفَهُ (وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا فِيهِ تَصَاوِيرُ يُكْرَهُ) لِأَنَّهُ يُشْبِهُ حَامِلَ الصَّنَمِ، وَالصَّلَاةُ جَائِزَةٌ فِي جَمِيع ذَلِكَ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهَا، وَتُعَادُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَكْرُوهٍ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ أُدِّيَتْ مَعَ الْكَرَاهَةِ (وَلَا يُكْرَهُ تِمْثَالٌ غَيْرُ ذِي الرُّوحِ) لِأَنَّهُ لَا يُعْبَدُ
(وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ فِي الصَّلَاةِ)
أَبِي هُرَيْرَةَ ذُبَابَتَانِ. وَلَمَّا وُجِدَ خَاتَمُ دَانْيَالَ وُجِدَ عَلَيْهِ أَسَدٌ وَلَبْوَةُ بَيْنَهُمَا صَبِيٌّ يَلْحَسَانِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ بُخْتَ نَصَّرَ قِيلَ لَهُ يُولَدُ مَوْلُودٌ يَكُونُ هَلَاكُك عَلَى يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَقْتُلُ مِنْ يُولَدُ، فَلَمَّا وَلَدَتْ أُمُّ دَانْيَالَ إيَّاهُ أَلْقَتْهُ فِي غَيْضَةٍ رَجَاءَ أَنْ يَسْلَمَ. فَقَيَّضَ اللَّهُ لَهُ أَسَدًا يَحْفَظُهُ وَلَبْوَة تُرْضِعُهُ فَنَقَشَهُ بِمَرْأًى مِنْهُ لِيَتَذَكَّرَ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى (قَوْلُهُ أَيْ مَمْحُوَّ الرَّأْسِ) فَسَّرَ بِهِ احْتِرَازًا مِنْ أَنْ تُقْطَعَ بِخَيْطٍ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي الْكَرَاهَةَ، لِأَنَّ بَعْضَ الْحَيَوَانَاتِ مُطَوَّقٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ قَطْعُهُ إلَّا بِمَحْوِهِ، وَهُوَ بِأَنْ يَجْعَلَ الْخَيْطَ عَلَى كُلِّ رَأْسِهِ بِحَيْثُ يَخْفَى أَوْ يَطْلِيَهُ بِطِلَاءٍ يُخْفِيهِ أَوْ يَغْسِلَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَمَّا لَوْ قَطَعَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا لَا تَرْتَفِعُ الْكَرَاهَةُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ تُقْطَعُ أَطْرَافُهُ وَهُوَ حَيٌّ (قَوْلُهُ عَلَى مَا قَالُوا) يُشْعِرُ بِالْخِلَافِ، وَقِيلَ يُكْرَهُ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَهُ بَلْ الضِّرَامَ جَمْرًا أَوْ نَارًا (قَوْلُهُ وَتُعَادُ) صَرَّحَ بِلَفْظِ الْوُجُوبِ الشَّيْخُ قِوَامُ الدِّينِ الْكَاكِيُّ فِي شَرْحِ الْمَنَارِ، وَلَفْظُ الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ: أَعْنِي قَوْلَهُ وَتُعَادُ، يُفِيدُهُ أَيْضًا عَلَى مَا عُرِفَ، وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ بَيْنَ كَوْنِ تِلْكَ الْكَرَاهَةِ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ فَتَجِبُ الْإِعَادَةُ أَوْ تَنْزِيهٍ فَتُسْتَحَبُّ، فَإِنَّ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ
لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي الصَّلَاةِ» وَلِأَنَّ فِيهِ إزَالَةُ الشَّغْلِ فَأَشْبَهَ دَرْءَ الْمَارِّ وَيَسْتَوِي جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْحَيَّاتِ هُوَ الصَّحِيحُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا
(وَيُكْرَهُ عَدُّ الْآيِ وَالتَّسْبِيحَاتِ بِالْيَدِ فِي الصَّلَاةِ) وَكَذَلِكَ عَدُّ السُّوَرِ
فِي رُتْبَةِ الْوَاجِبِ، فَإِنَّ الظَّنِّيَّ إنْ أَفَادَ الْمَنْعَ بِدَلَالَةٍ قَطْعِيَّةٍ: أَعْنِي بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ مُجَرَّدٌ عَنْ الْقَرَائِنِ الصَّارِفَةِ عَنْهُ، فَالثَّابِتُ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ، وَإِنْ أَفَادَ إلْزَامَ الْفِعْلِ كَذَلِكَ فَالْوُجُوبُ، وَإِنْ أَفَادَ نَدْبَ الْمَنْعِ فَتَنْزِيهِيَّةٌ أَوْ الْفِعْلِ فَالْمَنْدُوبُ وَلِذَا كَانَ لَازِمُهُمَا مَعْنًى وَاحِدًا وَهُوَ تَرَتُّبُ الْإِثْمِ بِتَرْكِ مُقْتَضَاهُمَا
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم) أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَشْمَلُ مَا إذَا احْتَاجَ إلَى عَمَلٍ كَثِيرٍ فِي ذَلِكَ أَوْ قَلِيلٍ، وَقِيلَ بَلْ إذَا كَانَ قَلِيلًا. وَفِي الْمَبْسُوطِ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا تَفْصِيلَ فِيهِ لِأَنَّهُ رُخْصَةٌ كَالْمَشْيِ فِي سَبْقِ الْحَدَثِ وَالِاسْتِقَاءِ مِنْ الْبِئْرِ وَالتَّوَضُّؤِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الِاسْتِقَاءَ غَيْرُ مُفْسِدٍ فِي سَبْقِ الْحَدَثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ خِلَافُهُ، وَبَحْثُهُ بِأَنَّهُ لَا تَفْصِيلَ فِي الرُّخْصَةِ بِالنَّصِّ يَسْتَلْزِمُ مِثْلَهُ فِي عِلَاجِ الْمَارِّ إذَا كَثُرَ فَإِنَّهُ أَيْضًا مَأْمُورٌ بِهِ بِالنَّصِّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ مُفْسِدٌ عِنْدَهُمْ.
فَمَا هُوَ جَوَابُهُ عَنْ عِلَاجِ الْمَارِّ هُوَ جَوَابُنَا فِي قَتْلِ الْحَيَّةِ، ثُمَّ أُلْحِقَ فِيمَا يُظْهِرُ الْفَسَادَ، وَقَوْلُهُمْ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ لَا يَسْتَلْزِمُ بَقَاءَ الصِّحَّةِ عَلَى نَهْجِ مَا قَالُوهُ، وَمِنْ الْفَسَادِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ إذَا قَاتَلُوا فِي الصَّلَاةِ بَلْ أَثَرُهُ فِي رَفْعِ الْإِثْمِ بِمُبَاشَرَةِ الْمُفْسِدِ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَرَامًا صَحِيحٌ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ لَا تُقْتَلُ الْحَيَّةُ الْبَيْضَاءُ الَّتِي تَمْشِي مُسْتَوِيَةً لِأَنَّهَا مِنْ الْجَانِّ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «اُقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ وَالْأَبْتَرَ، وَإِيَّاكُمْ وَالْحَيَّةَ الْبَيْضَاءَ فَإِنَّهَا مِنْ الْجِنِّ» .
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا بَأْس بِقَتْلِ الْكُلِّ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَاهَدَ الْجِنَّ أَنْ لَا يَدْخُلُوا بُيُوتَ أُمَّتِهِ وَلَا يُظْهِرُوا أَنْفُسَهُمْ، فَإِذَا خَالَفُوا فَقَدْ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ فَلَا حُرْمَةَ لَهُمْ، وَقَدْ حَصَلَ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيمَنْ بَعْدَهُ الضَّرَرُ بِقَتْلِ بَعْضِ الْحَيَّاتِ مِنْ الْجِنِّ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْحِلَّ ثَابِتٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْأَوْلَى الْإِمْسَاكُ عَمَّا فِيهِ عَلَامَةُ الْجَانِّ لَا لِلْحُرْمَةِ بَلْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْمُتَوَهَّمِ
لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ جَمِيعًا مُرَاعَاةً لِسُنَّةِ الْقِرَاءَةِ وَالْعَمَلِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ. قُلْنَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعُدَّ ذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فَيَسْتَغْنِيَ عَنْ الْعَدِّ بَعْدَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مِنْ جِهَتِهِمْ.
وَقِيلَ يُنْذِرُهَا فَيَقُولُ خَلِّي طَرِيقَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ ارْجِعِي بِإِذْنِ اللَّهِ، فَإِنْ أَبَتْ قَتَلَهَا وَهَذَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ
(قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ) فِي التَّجْرِيدِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا عَدَّ بِالْأَصَابِعِ أَوْ بِخَيْطٍ يَمْسِكُهُ، أَمَّا إذَا أَحْصَى بِقَلْبِهِ أَوْ غَمَزَ بِأَنَامِلِهِ فَلَا كَرَاهَةَ.
. [فُرُوعٌ أُخْرَى]
يُكْرَهُ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ الَّذِي لَا يُفْسِدُ كَالضَّرْبَةِ الْوَاحِدَةِ وَتَغْمِيضِ الْعَيْنَيْنِ وَرَفْعِهِمَا إلَى جِهَةِ السَّمَاءِ وَتَغْطِيَةِ الْفَمِ أَوْ الْأَنْفِ وَالتَّثَاؤُبِ إذَا أَمْكَنَهُ الْكَظْمُ، فَإِنْ عَجَزَ فَفَتَحَ غَطَّى فَاهُ بِكُمِّهِ أَوْ يَدِهِ وَإِلَّا يُكْرَهُ. وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ أَيْضًا مَعَ تَشْمِيرِ الْكُمِّ عَنْ السَّاعِدِ وَمَكْشُوفِ الرَّأْسِ إلَّا لِقَصْدِ التَّضَرُّعِ، وَلَا بَأْسَ مَعَ شَدِّ الْوَسَطِ، وَيُكْرَهُ سَتْرُ الْقَدَمَيْنِ فِي السُّجُودِ، وَتُكْرَهُ مَعَ نَجَاسَةٍ لَا تَمْنَعُ إلَّا إنْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ أَوْ الْجَمَاعَةَ وَلَا جَمَاعَةَ أُخْرَى، وَيَقْطَعُ الصَّلَاةَ إنْ لَمْ يَخَفْ ذَلِكَ إذَا تَذَكَّرَ هَذِهِ النَّجَاسَةَ، وَكَذَا يَقْطَعُ لِإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ أَوْ خَوْفٍ عَلَى أَجْنَبِيٍّ أَنْ يَسْقُطَ مِنْ سَطْحٍ أَوْ يَغْرَقَ أَوْ يُحْرَقَ وَنَحْوِهِ.
وَلَهُ أَنْ يَقْطَعَ إذَا سُرِقَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ قَدْرُ دِرْهَمٍ لَا لِنِدَاءِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ إلَّا أَنْ يَسْتَغِيثَ وَتُكْرَهُ مَعَ مُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الشُّرُوعِ أَوْ قَبْلَهُ، وَفِي فِيهِ دِرْهَمٌ أَوْ لُؤْلُؤَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ سُنَّةِ الْقِرَاءَةِ، وَفِي أَرْضِ غَيْرِهِ. فَإِذَا اُبْتُلِيَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ فِي الطَّرِيقِ إنْ كَانَتْ الْأَرْضُ مَزْرُوعَةً أَوْ لِكَافِرٍ فَفِي الطَّرِيقِ وَإِلَّا فَفِي الْأَرْضِ. وَلَوْ كَانَ فِي بَيْتِ إنْسَانٍ إنْ اسْتَأْذَنَهُ فَأَحْسَنُ وَإِلَّا فَلَا بَأْسَ، وَيُكْرَهُ وَقُدَّامُهُ عَذِرَةٌ كَمَا يُكْرَهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَةُ الْمَسْجِدِ إلَى حَمَّامٍ أَوْ مَخْرَجٍ أَوْ قَبْرٍ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهِ حَائِلُ حَائِطٍ لَا يُكْرَهُ،
. وَيُكْرَهُ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ إذَا كَانَ لَهُ الْتِفَاتٌ إلَيْهِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ. وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ» وَمَا فِي أَبِي دَاوُد «لَا تُؤَخِّرُوا الصَّلَاةَ لِطَعَامٍ وَلَا غَيْرِهِ» يُحْمَلُ عَلَى تَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتِهَا جَمْعًا بَيْنَهُمَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَمَا يَأْمَنُ الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ أَوْ يَجْعَلَ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ»
فَصْلٌ
وَيُكْرَهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِالْفَرْجِ فِي الْخَلَاءِ
لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ ذَلِكَ. وَالِاسْتِدْبَارُ يُكْرَهُ فِي رِوَايَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ التَّعْظِيمِ، وَلَا يُكْرَهُ فِي رِوَايَةٍ لِأَنَّ الْمُسْتَدْبَرَ فَرْجُهُ غَيْرُ مُوَازٍ لِلْقِبْلَةِ. وَمَا يَنْحَطُّ مِنْهُ يَنْحَطُّ إلَى الْأَرْضِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَقْبِلِ لِأَنَّ فَرْجَهُ مُوَازٍ لَهَا وَمَا يَنْحَطُّ مِنْهُ يَنْحَطُّ إلَيْهَا
وَعَنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «التَّثَاؤُبُ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ» وَعَنْ جَابِرٍ بْنِ سُمْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِمْ»
(فَصْلٌ)
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ذَلِكَ) قَالَ صلى الله عليه وسلم «إذَا أَتَيْتُمْ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ (قَوْلُهُ وَلَا يُكْرَهُ فِي رِوَايَةٍ) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ «رَقَيْتُ يَوْمًا عَلَى بَيْتِ أُخْتِي حَفْصَةَ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةِ» وَلِأَنَّ فَرْجَهُ غَيْرُ مُوَازٍ لَهَا، إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ الْحَدِيثُ السَّابِقُ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ لِتَقَدُّمِ الْمَانِعِ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَصِيرُ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ: ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى الْكَرَاهَةِ مُطْلَقًا مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَخْذًا بِعُمُومِ الْأَوَّلِ مَعَ تَقْوِيَتِهِ بِقَوْلِ أَبِي أَيُّوبَ قَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَطَائِفَةٌ كَرِهُوهُ فِي الْفَضَاءِ دُونَ الْبُنْيَانِ مُطْلَقًا مِنْهُمْ الشَّعْبِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ أَخْذًا بِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ: رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ وَجَلَسَ يَبُولُ إلَيْهَا، فَقُلْت: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ هَذَا؟. قَالَ بَلَى إنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْفَضَاءِ فَإِذَا كَانَ بَيْنَك وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَسْتُرُك فَلَا بَأْسَ. وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ رُؤْيَتِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَطَائِفَةٌ رَخَّصُوهُ مُطْلَقًا، فَمِنْهُمْ مَنْ طَرَحَ الْأَحَادِيثَ لِتَعَارُضِهَا ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ وَالْمُعَارَضَةُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ، وَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عِرَاكٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَوْمٌ يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا بِفُرُوجِهِمْ الْقِبْلَةَ فَقَالَ: أُرَاهُمْ قَدْ فَعَلُوهَا اسْتَقْبِلُوا بِمَقْعَدَتِي الْقِبْلَةَ».
وَقَوْلُ أَحْمَدَ أَحْسَنُ مَا فِي الرُّخْصَةِ حَدِيثُ عَائِشَةَ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَإِنَّ
(وَتَكْرَهُ الْمُجَامَعَةُ فَوْقَ الْمَسْجِدِ وَالْبَوْلُ وَالتَّخَلِّي) لِأَنَّ سَطْحَ الْمَسْجِدِ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ مِنْهُ بِمَنْ تَحْتَهُ، وَلَا يَبْطُلُ الِاعْتِكَافُ بِالصُّعُودِ إلَيْهِ، وَلَا يَحِلُّ لِلْجُنُبِ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ (وَلَا بَأْسَ بِالْبَوْلِ فَوْقَ بَيْتٍ فِيهِ مَسْجِدٌ) وَالْمُرَادُ مَا أُعِدَّ لِلصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ
مَخْرَجَهُ حَسَنٌ بِنَاءً عَلَى إنْكَارِهِ أَنَّ عِرَاكًا سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ مِمَّنْ يُمْكِنُ كَوْنُهُ لَقِيَهَا فَقَدْ قَالُوا إنَّهُ سَمِعَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ تُوُفِّيَ هُوَ وَعَائِشَةُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةِ فَلَا يَبْعُدُ سَمَاعَهُ مِنْهَا مَعَ كَوْنِهِمَا فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ عِرَاكٍ عَنْ عَائِشَةَ «جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا» الْحَدِيثَ.
ثُمَّ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ الَّذِي فِي حَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ قَالَ عِرَاكٌ فِيهَا حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ رضي الله عنها «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُ النَّاسِ أَمَرَ بِمَقْعَدَتِهِ فَاسْتَقْبَلَ بِهَا الْقِبْلَةَ» . وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى النَّسْخَ تَمَسُّكًا بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فَرَأَيْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ بِعَامٍ يَسْتَقْبِلُهَا» وَلَفْظُ ابْنِ حِبَّانَ وَمَنْ بَعْدَهُ.
حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ فَزَالَتْ تُهْمَةُ التَّدْلِيسِ، وَلَفْظُهُمْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ أَوْ نَسْتَدْبِرَهَا بِفُرُوجِنَا إذَا هَرَقْنَا الْمَاءَ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ يَبُولُ إلَى الْقِبْلَةِ» وَأَبَانُ بْنُ صَالِحٍ وَثَّقَهُ الْمُزَكُّونَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ الْكَبِيرِ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ يَعْنِي الْبُخَارِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَالْأَحْوَطُ الْمَنْعُ لِأَنَّ النَّاسِخَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي قُوَّةِ الْمَنْسُوخِ وَهَذَا وَإِنْ صَحَّ لَا يُقَاوِمُ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السِّتَّةُ وَغَيْرَهُ مِمَّا أَخْرَجَ كَثِيرًا.
مَعَ أَنَّ الَّذِي فِيهِ حِكَايَةُ فِعْلِهِ وَهُوَ لَيْسَ صَرِيحًا فِي نَسْخِ التَّشْرِيعِ الْقَوْلِيِّ لِجَوَازِ الْخُصُوصِيَّةِ: وَلَوْ نَسِيَ فَجَلَسَ مُسْتَقْبِلًا فَذَكَرَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الِانْحِرَافُ بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُهُ: أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْآثَارِ عَنْ عَمْرِو بْنِ جُمَيْعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ جَلَسَ يَبُولُ قُبَالَةَ الْمَسْجِدِ فَذَكَرَ فَتَحَرَّفَ عَنْهَا إجْلَالًا لَهَا لَمْ يَقُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ» وَكَمَا يُكْرَهُ لِلْبَالِغِ ذَلِكَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ الصَّغِيرَ نَحْوَهَا لِيَبُولَ وَقَالُوا: يُكْرَهُ أَنْ يَمُدَّ رِجْلَيْهِ فِي النَّوْمِ وَغَيْرِهِ إلَى الْقِبْلَةِ أَوْ الْمُصْحَفِ أَوْ كُتُبِ الْفِقْهِ إلَّا أَنْ تَكُون عَلَى مَكَان مُرْتَفِعٍ عَنْ الْمُحَاذَاةِ
(قَوْلُهُ وَتُكْرَهُ الْمُجَامَعَةُ) وَصَرَّحَ بِالتَّحْرِيمِ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} لَكِنَّ الْحَقَّ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ.
لِأَنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ إنَّمَا هِيَ عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمُعْتَكِفِ فَتُفِيدُ أَنَّ الْوَطْءَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ، فَعِنْدَ عَدَمِ الِاعْتِكَافِ لَا يَكُونُ لَفْظُ الْآيَةِ دَالًا عَلَى مَنْعٍ فَالْمَنْعُ لِلْمَسْجِدِ حِينَئِذٍ بَلْ لَوْ كَانَ مُعْتَكِفًا اعْتِكَافًا نَفْلًا أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: لَا يَحْرُمُ الْوَطْءُ عَلَيْهِ لِلِاعْتِكَافِ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ قَطْعَ نَفْلِ الِاعْتِكَافِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُخْتَارَةِ إنْهَاءٌ لِلْعِبَادَةِ لَا إبْطَالٌ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ لِلْمَسْجِدِ بِدَلِيلٍ آخَرَ فَلَيْسَتْ الْآيَةُ عَلَى إطْلَاقِهَا فِي كُلِّ اعْتِكَافٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ الَّذِي هُوَ إنْهَاءٌ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ كَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ، وَمَبْدَؤُهُ يَقَعُ فِي الْعِبَادَةِ فَصَارَ كَالْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ بِالْحَدَثِ يَكُونُ إنْهَاءً مَحْظُورًا.
وَلَوْ سُلِّمَ عَدَمُ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا قُلْنَاهُ عَيْنًا كَانَتْ مُحْتَمِلَةً كَوْنَ التَّحْرِيمِ لِلِاعْتِكَافِ أَوْ لِلْمَسْجِدِ فَتَكُونُ ظَنِّيَّةَ الدَّلَالَةِ، وَبِمِثْلِهَا تَثْبُتُ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ لَا التَّحْرِيمُ. وَالْمُرَادُ بِالتَّخَلِّي التَّغَوُّطُ لِأَنَّ سَطْحَ الْمَسْجِدِ لَهُ حُكْمُهُ إلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، وَقَدْ أُمِرَ بِتَطْهِيرِهِ وَالْبَوْلُ يُنَافِيهِ، وَإِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ يَنْزَوِي مِنْ النُّخَامَةِ كَمَا تَنْزَوِي الْجَلْدَةُ مِنْ
لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ حُكْمَ الْمَسْجِدِ وَإِنْ نَدَبْنَا إلَيْهِ
(وَيُكْرَهُ أَنْ يُغْلَقَ بَابُ الْمَسْجِدِ) لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَنْعَ مِنْ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا خِيفَ عَلَى مَتَاعِ الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ أَوَانِ الصَّلَاةِ (وَلَا بَأْسَ أَنْ يُنْقَشَ الْمَسْجِدُ بِالْجِصِّ وَالسَّاجِ وَمَاءِ الذَّهَبِ) وَقَوْلُهُ لَا بَأْسَ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِهِ، وَقِيلَ هُوَ قُرْبَةٌ
النَّارِ عَلَى مَا رُوِيَ فَكَيْفَ بِالْبَوْلِ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ حُكْمَ الْمَسْجِدِ) حَتَّى لَا يَصِحَّ فِيهِ الِاعْتِكَافُ إلَّا لِلنِّسَاءِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مُصَلَّى الْعِيدِ وَالْجِنَازَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنَّمَا لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ لِكَوْنِهِ مَكَانًا وَاحِدًا وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَنْعَ مِنْ الصَّلَاةِ) وَهُوَ حَرَامٌ، قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (قَوْلُهُ وَقِيلَ لَا بَأْسَ إذَا خِيفَ عَلَى مَتَاعِ الْمَسْجِدِ) أَحْسَنُ مِنْ التَّقْيِيدِ بِزَمَانِنَا كَمَا فِي عِبَارَةِ بَعْضِهِمْ فَالْمَدَارُ خَشْيَةُ الضَّرَرِ عَلَى الْمَسْجِدِ، فَإِنْ ثَبَتَ فِي زَمَانِنَا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ ثَبَتَ كَذَلِكَ إلَّا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ أَوْ لَا فَلَا، أَوْ فِي بَعْضِهَا فَفِي بَعْضِهَا (قَوْلُهُ وَقِيلَ هُوَ قُرْبَةٌ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَسْجِدِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُزَيَّنَ الْمَسَاجِدُ» الْحَدِيثَ، وَالْأَقْوَالُ ثَلَاثَةٌ وَعِنْدَنَا لَا بَأْسَ بِهِ. وَمَحْمَلُ الْكَرَاهَةِ التَّكَلُّفُ بِدَقَائِقِ النُّقُوشِ وَنَحْوِهِ خُصُوصًا فِي الْمِحْرَابِ أَوْ التَّزْيِينُ مَعَ تَرْكِ الصَّلَوَاتِ أَوْ عَدَمُ إعْطَائِهِ حَقَّهُ مِنْ اللَّغَطِ فِيهِ وَالْجُلُوسِ لِحَدِيثِ الدُّنْيَا وَرَفْعِ الْأَصْوَاتِ بِدَلِيلِ آخِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ «وَقُلُوبُهُمْ خَاوِيَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ» هَذَا إذَا فَعَلَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ أَمَّا الْمُتَوَلِّي فَيَفْعَلُ مَا يَرْجِعُ إلَى إحْكَامِ الْبِنَاءِ حَتَّى لَوْ جَعَلَ الْبَيَاضَ فَوْقَ السَّوَادِ لِلنَّقَاءِ ضَمِنَ كَذَا فِي الْغَايَةِ، وَعَلَى هَذَا تَحْلِيَةُ الْمُصْحَفِ بِالذَّهَبِ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَكَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ يَكْرَهُونَ شَدَّ الْمَصَاحِفِ وَاِتِّخَاذِ الْمَشَدَّةِ لَهَا لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَنْعَ كَالْغَلْقِ.
وَهَذِهِ فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْمَسْجِدِ لَا شَكَّ أَنَّ الدَّفْعَ لِلْفُقَرَاءِ أَوْلَى مِنْ تَزْيِينِهِ، وَلَوْ قِيلَ بِأَنَّهُ قُرْبَةٌ، وَلَا يُحْفَرُ فِي الْمَسْجِدِ بِئْرٌ وَلَوْ كَانَتْ بِئْرًا قَدِيمَةً كَبِئْرِ زَمْزَمَ تُرِكَتْ، وَلَوْ حَفَرَ فَتَلِفَ فِيهِ شَيْءٌ إنْ حَفَرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرُهُمْ بِإِذْنِهِمْ لَا يَضْمَنُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ ضَمِنَ أَضَرَّ ذَلِكَ بِأَهْلِهِ أَوْ لَا.
وَلَا يَجُوزُ غَرْسُ الْأَشْجَارِ فِيهِ إلَّا إنْ كَانَ ذَا نَزٍّ وَالْأُسْطُوَانَاتُ لَا تَسْتَقِرُّ بِهِ فَيَجُوزُ لِتَشْرَبَ ذَلِكَ الْمَاءَ فَيَحْصُلَ بِهَا النَّفْعُ
وَهَذَا إذَا فَعَلَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، أَمَّا الْمُتَوَلِّي فَيَفْعَلُ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ مَا يَرْجِعُ إلَى إحْكَامِ الْبِنَاءِ دُونَ مَا يَرْجِعُ إلَى النَّقْشِ حَتَّى لَوْ فَعَلَ يَضْمَنُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَّخِذَ فِيهِ بَيْتًا لِمَتَاعِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذَهُ طَرِيقًا بِغَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ لَا بَأْسَ، وَلَا يَبْزُقُ فِيهِ فَيَأْخُذَ النُّخَامَةَ بِثَوْبِهِ،.
وَلَوْ بَزَقَ كَانَ فَوْقَ الْحَصِيرِ أَسْهَلَ مِنْهُ تَحْتَهَا لِأَنَّ مَا تَحْتَهَا مَسْجِدٌ حَقِيقَةً وَالْحُصْرُ لَهَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ بِهِ حَقِيقَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ بَوَارٌ يَدْفِنُهَا فِي التُّرَابِ وَلَا يَدْعُهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَكَذَا يُكْرَهُ أَنْ يَمْسَحَ رِجْلَهُ مِنْ الطِّينِ بِأُسْطُوَانَتِه أَوْ حَائِطِهِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمْسَحَ بِبُرْدَتِهِ أَوْ قِطْعَةِ خَشَبٍ أَوْ حَصِيرٍ مُلْقَاةٍ فِيهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَبِتُرَابِ الْمَسْجِدِ إنْ كَانَ مَجْمُوعًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَبْسُوطًا يُكْرَهُ،.
وَإِذَا نَزَحَ الْمَاءَ النَّجِسَ مِنْ الْبِئْرِ كُرِهَ أَنْ يَبُلَّ بِهِ الطِّينَ فَيُطَيِّنَ بِهِ الْمَسْجِدَ عَلَى قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ نَجَاسَةَ الطِّينِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الْأَنْجَاسِ وَيُكْرَهُ التَّوَضِّي فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَضْمَضَةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعٌ اُتُّخِذَ لِذَلِكَ لَا يُصَلَّى فِيهِ
، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُعْمَلَ فِيهِ الصَّنَائِعُ لِأَنَّهُ مُخَلَّصٌ لِلَّهِ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِغَيْرِ الْعِبَادَةِ غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْخَيَّاطِ إذَا جَلَسَ فِيهِ لِمَصْلَحَتِهِ مِنْ دَفْعِ الصِّبْيَانِ وَصِيَانَةِ الْمَسْجِدِ لَا بَأْسَ بِهِ لِلضَّرُورَةِ. وَلَا يَدُقُّ الثَّوْبَ عِنْدَ طَيِّهِ دَقَّا عَنِيفًا.
وَاَلَّذِي يَكْتُبُ إذَا كَانَ بِأَجْرٍ يُكْرَهُ وَبِغَيْرِ أَجْرٍ لَا يُكْرَهُ، هَذَا إذَا كَتَبَ الْعِلْمَ وَالْقُرْآنَ لِأَنَّهُ فِي عِبَادَةٍ، أَمَّا هَؤُلَاءِ الْمُكْتِبُونَ الَّذِينَ تَجْتَمِعُ عِنْدَهُمْ الصِّبْيَانُ وَاللَّغَطُ فَلَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَغَطٌ لِأَنَّهُمْ فِي صِنَاعَةٍ لَا عِبَادَةٍ، إذْ هُمْ يَقْصِدُونَ الْإِجَادَةَ لَيْسَ هُوَ لِلَّهِ بَلْ لِلِارْتِزَاقِ، وَمُعَلِّمُ الصِّبْيَانِ الْقُرْآنَ كَالْكَاتِبِ إنْ كَانَ لِأَجْرٍ لَا وَحِسْبَةً لَا بَأْسَ بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ هَذَا إنْ كَانَ لِضَرُورَةِ الْحَرِّ وَغَيْرِهِ لَا يُكْرَهُ وَإِلَّا فَيُكْرَهُ، وَسَكَتَ عَنْ كَوْنِهِ بِأَجْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ حِسْبَةً، فَأَمَّا إنْ كَانَ بِأَجْرٍ فَلَا شَكَّ فِي الْكَرَاهَةِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ حِسْبَةً وَلَا ضَرُورَةَ يُكْرَهُ لِأَنَّ نَفْسَ التَّعْلِيمِ وَمُرَاجَعَةَ الْأَطْفَالِ لَا تَخْلُو عَمَّا يُكْرَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ صَلَاةٍ جَائِزٌ لَا لِلْمُصِيبَةِ،.
وَالْكَلَامُ الْمُبَاحُ فِيهِ مَكْرُوهٌ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ وَالنَّوْمُ فِيهِ مَكْرُوهٌ، وَقِيلَ لَا بَأْسَ لِلْغَرِيبِ أَنْ يَنَامَ فِيهِ. وَفِي النِّهَايَةِ عَنْ الْحَلْوَانِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الصَّوْمِ عَنْ أَصْحَابِنَا يُكْرَهُ أَنْ يَتَّخِذَ فِي الْمَسْجِدِ مَكَانًا مُعِينًا يُصَلِّي فِيهِ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ تَصِيرُ لَهُ طَبْعًا فِيهِ وَتَثْقُلُ فِي غَيْرِهِ، وَالْعِبَادَةُ إذَا صَارَتْ طَبْعًا فَسَبِيلُهَا التَّرْكُ وَلِذَا كُرِهَ صَوْمُ الْأَبَدِ انْتَهَى. فَكَيْفَ بِمَنْ اتَّخَذَهُ لِغَرَضٍ آخَرَ فَاسِدٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ صَلَاةِ الْوِتْرِ
(الْوِتْرُ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَقَالَا سُنَّةٌ) لِظُهُورِ آثَارِ السُّنَنِ فِيهِ حَيْثُ لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ وَلَا يُؤَذَّنُ
بَابُ صَلَاةِ الْوِتْرِ)
(قَوْلُهُ حَيْثُ لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ) لَا يُفِيدُ إذْ إثْبَاتُ اللَّازِمِ لَا يَسْتَلْزِمُ إثْبَات الْمَلْزُومِ الْمُعَيَّنِ إلَّا إذَا سَاوَاهُ وَهُوَ هَاهُنَا أَعَمُّ، فَإِنَّ عَدَمَ الْإِكْفَارِ بِالْجَحْدِ لَازِمُ الْوُجُوبِ كَمَا هُوَ لَازِمُ السُّنَّةِ، وَالْمُدَّعَى الْوُجُوبُ لَا الْفَرْضُ وَإِنْ قَصَدَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْمَجْمُوعِ مِنْهُ مَعَ عَدَمِ التَّأْذِينِ فَأَقْرَبُ عَلَى مَا فِيهِ، فَالثَّانِي يَسْتَقِلُّ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ فَنَفَيَاهُ، وَثَبَتَ عِنْدَهُ وَهُوَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَخَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ وَأَبِي نَضْرَةَ الْغِفَارِيِّ، فَعَنْ عُقْبَةَ وَعَمْرٍو رَوَاهُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ، حَدَّثَنَا سُوَيْد بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً هِيَ لَكُمْ خَيْرٌ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ. الْوِتْرُ وَهِيَ لَكُمْ فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» وَضَعَّفَ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ قُرَّةُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ النَّضْرِ أَبِي عُمَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالنَّضْرِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ، وَضَعَّفَهُ بِحُمَيْدِ بْنِ أَبِي الْجَوْنِ وَهُوَ «إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً وَهِيَ الْوِتْرُ» وَعَنْ الْخُدْرِيِّ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَفِيهِ أَيْضًا مِثْلُ مَا فِي حَدِيثِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَفِيهِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنَا فَاجْتَمَعْنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً فَأَمَرَنَا بِالْوِتْرِ» وَضَعَّفَهُ بِمُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَزْرَمِيِّ. وَعَنْ أَبِي نَضْرَةَ رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهَيْعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْت أَبَا نَضْرَةَ الْغِفَارِيَّ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً وَهِيَ الْوِتْرُ، فَصَلُّوهَا فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ» وَسَكَتَ عَنْهُ وَأُعِلَّ بِابْنِ لَهِيعَةَ.
وَعَنْ خَارِجَةَ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ أَمَدَّكُمْ بِصَلَاةٍ خَيْرٍ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ وَهِيَ الْوِتْرُ، فَجَعَلَهَا لَكُمْ فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» قَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحٌ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ لِتَفَرُّدِ التَّابِعِيِّ عَنْ الصَّحَابِيِّ وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ غَرِيبٌ لَا يُنَافِي الصِّحَّةَ لِمَا عُرِفَ، وَلِذَا يَقُولُ مِرَارًا فِي كِتَابِهِ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وَمَا نُقِلَ عَنْ
لَهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَادَكُمْ صَلَاةً أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ، فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ
الْبُخَارِيِّ مِنْ أَنَّهُ أَعَلَّهُ بِقَوْلِهِ لَا يُعْرَفُ سَمَاعُ بَعْضِ هَؤُلَاءِ مِنْ بَعْضٍ فَبِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِهِ الْعِلْمَ بِاللُّقِيِّ، وَالصَّحِيحُ الِاكْتِفَاءُ بِإِمْكَانِ اللُّقِيِّ. وَإِعْلَالُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لَهُ بِابْنِ إِسْحَاقَ وَبِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَاشِدٍ نُقِلَ تَضْعِيفُ ابْنِ رَاشِدٍ عَنْ الدَّارَقُطْنِيُّ، أَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَثِقَةٌ ثِقَةٌ لَا شُبْهَةَ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ وَلَا عِنْدَ مُحَقِّقِي الْمُحَدِّثِينَ، وَلَوْ سُلِّمَ فَقَدْ تَابَعَهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ.
وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ عَنْ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ تَضْعِيفِ ابْنِ رَاشِدٍ فَغَلَّطَهُ فِيهِ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ لِأَنَّ الدَّارَقُطْنِيّ إنَّمَا ضَعَّفَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَاشِدٍ الْبَصْرِيَّ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الرَّاوِي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَمَّا هَذَا رَاوِي حَدِيثِ خَارِجَةَ فَهُوَ الرَّوْقِيُّ أَبُو الضَّحَّاكِ الْمِصْرِيُّ، ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ انْتَهَى. وَمُتَابَعَةُ اللَّيْثِ وَالتَّصْرِيحُ بِكَوْنِ الرَّوْقِيُّ كِلَاهُمَا فِي إسْنَادِ النَّسَائِيّ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي كِتَابِ الْكُنَي فَتَمَّ أَمْرُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَتَمِّ وَجْهٍ فِي الصِّحَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا كَانَ فِي كَثْرَةِ طُرُقِهِ الْمُضَعَّفَةِ ارْتِفَاعٌ لَهُ إلَى الْحُسْنِ، بَلْ بَعْضُهَا حَسَنٌ حُجَّةٌ وَهُوَ طَرِيقُ ابْنِ رَاهْوَيْهِ.
وَقُرَّةُ إنْ قَالَ أَحْمَدُ فِيهِ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَمْ أَرَ لَهُ حَدِيثًا مُنْكَرًا جِدًّا، وَأَرْجُو أَنْ لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ: بَقِيَ الشَّأْنُ فِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، فَقِيلَ مِنْ لَفْظِ زَادَكُمْ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ حَصْرِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَالْمَحْصُورُ الْفَرَائِضُ لَا النَّوَافِلُ، وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا ثَبَتَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَادَكُمْ صَلَاةً إلَى صَلَاتِكُمْ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ أَلَا وَهِيَ الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ» فَإِنْ اقْتَضَى لَفْظُ زَادَكُمْ الْحَصْرَ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي هَذَا كَوْنُ الْمَحْصُورَةِ الْمَزِيدَةِ عَلَيْهَا السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ، وَحِينَئِذٍ فَالْمَحْصُورَةُ أَعَمُّ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ الرَّاتِبَةِ، فَلَا يَسْتَلْزِمُ لَفْظُ زَادَكُمْ كَوْنَ الْمَزِيدِ فَرْضًا لِجَوَازِ كَوْنِهِ زِيَادَةً عَلَى الْمَحْصُورَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِفَرْضٍ: أَعْنِي السُّنَنَ.
وَقَدْ يَكُونُ هَذَا هُوَ الصَّارِفُ لِلْمُصَنِّفِ عَنْ التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَعَ شُهْرَتِهَا بَيْنَهُمْ إلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِلَفْظِ الْأَمْرِ، لَكِنْ لَفْظُ الْأَمْرِ إنَّمَا هُوَ فِي حَدِيثِ ابْنِ لَهَيْعَةَ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَقَدْ ضُعِّفَ، فَالْأَوْلَى التَّمَسُّكُ فِيهِ بِمَا فِي أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي الْمُنِيبِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَتَكِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ لَيْسَ مِنِّي، الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنِّي، الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنِّي» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ أَبُو الْمُنِيبِ ثِقَةٌ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ أَيْضًا.
وَقَالَ
الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» أَمْرٌ وَهُوَ لِلْوُجُوبِ
ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْت أَبِي يَقُولُ صَالِحُ الْحَدِيثِ، وَأَنْكَرَ عَلَى الْبُخَارِيِّ إدْخَالَهُ فِي الضُّعَفَاءِ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ النَّسَائِيّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَا بَأْسَ بِهِ فَالْحَدِيثُ حَسَنٌ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ حَكَّامٍ عَنْ عَنْبَسَةَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «الْوِتْرُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» وَقَالَ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
فَإِنْ قِيلَ الْأَمْرُ قَدْ يَكُونُ لِلنَّدَبِ وَالْحَقُّ هُوَ الثَّابِتُ، وَكَذَا الْوَاجِبُ لُغَةً، وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ وَلِقِيَامِ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ. أَمَّا الْمُعَارَضَةُ فَمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ» وَمَا أَخْرَجَاهُ أَيْضًا «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ وَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ» قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: وَكَانَ بَعَثَهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم بِأَيَّامٍ يَسِيرَةٍ.
وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ مُعَاذٌ مِنْ الْيَمَنِ وَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَامَ بِهِمْ فِي رَمَضَانَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ وَأَوْتَرَ ثُمَّ انْتَظَرُوهُ مِنْ الْقَابِلَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ خَشِيتُ أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ الْوِتْرُ هَذِهِ» أَحْسَنُ مَا يُعَارَضُ لَهُمْ بِهِ، وَلَهُمْ غَيْرُهَا مِمَّا لَمْ يَسْلَمْ مِنْ ضَعْفٍ أَوْ عَدَمِ تَمَامِ دَلَالَةٍ.
وَأَمَّا الْقَرِينَةُ الصَّارِفَةُ لِلْوُجُوبِ إلَى اللُّغَوِيِّ فَمَا فِي السُّنَنِ إلَّا التِّرْمِذِيَّ، قَالَ صلى الله عليه وسلم «الْوِتْرُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيُوتِرْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةِ فَلْيُوتِرْ» وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِهِمَا وَجْهُ الْقَرِينَةِ أَنَّهُ حُكْمٌ بِالْوُجُوبِ ثُمَّ خُيِّرَ فِيهِ بَيْنَ خِصَالٍ إحْدَاهَا أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَ كُلُّ خَصْلَةٍ تَخَيَّرَ فِيهَا تَقَعُ وَاجِبَةً عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْخَمْسِ فَلَزِمَ صَرْفُهُ إلَى مَا قُلْنَا وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا فَيَجُوزُ كَوْنُ ذَلِكَ كَانَ لِعُذْرٍ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ يُصَلَّى عَلَى الدَّابَّةِ لِعُذْرِ الطِّينِ وَالْمَطَرِ وَنَحْوِهِ، أَوْ كَانَ قَبْلَ وُجُوبِهِ لِأَنَّ وُجُوبَهُ لَمْ يُقَارِنْ وُجُوبَ الْخَمْسِ بَلْ مُتَأَخِّرٌ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْزِلُ لِلْوِتْرِ.
رَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَيُوتِرُ بِالْأَرْضِ وَيَزْعُمُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ، فَدَلَّ أَنَّ وِتْرَهُ ذَلِكَ كَانَ إمَّا حَالَةَ عَدَمِ وُجُوبِهِ أَوْ لِلْعُذْرِ. وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّ الْوِتْرَ فَرْضٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ جَوَازَ هَذَا الْفَرْضِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، ثُمَّ يَقُولُونَ لِخَصْمِهِمْ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَمَا أُدِّيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ انْتَهَى.
وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُرَجَّحَ عِنْدَهُمْ نَسْخُ وُجُوبِهِ فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا الثَّانِي فَيَصِحُّ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ، فَإِنَّا لَا نَقُولُ بِجَوَازِهِ عَلَى الدَّابَّةِ لِوُجُوبِهِ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ كَانَ بَعْدَ سَفَرِهِ، وَعَنْ الثَّالِثِ كَالْأَوَّلِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ أَوْ الْمُرَادُ الْمَجْمُوعُ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ الْمُخْتَتَمَةِ بِوِتْرٍ وَنَحْنُ نَقُولُ بِعَدَمِ وُجُوبِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ كَذَلِكَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ حِينَئِذٍ فَرْدٌ وَذَلِكَ وِتْرٌ لَا شَفْعٌ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ النَّوَافِلِ مَا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ لِلْمُتَأَمِّلِ، بَلْ هَذِهِ الْإِرَادَةُ ظَاهِرَةٌ مِنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ الْمُورَدِ فَإِنَّهُ صَلَّى بِهِمْ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ وَأَوْتَرَ ثُمَّ تَأَخَّرَ فِي الْقَابِلَةِ: يَعْنِي عَمَّا فَعَلَهُ فِي السَّابِقَةِ أَلْبَتَّةَ، وَعَلَّلَ تَأَخُّرَهُ عَنْ ذَلِكَ بِخَشْيَةِ أَنْ يُكْتَبَ الْوِتْرُ فَكَانَ الْمُرَادُ بِالْوِتْرِ ظَاهِرَ الصَّلَاةِ الَّتِي فُعِلَتْ مُخْتَتَمَةً بِالْوِتْرِ.
وَيَدُلُّ
وَلِهَذَا وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ لِأَنَّ وُجُوبَهُ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سُنَّةٌ وَهُوَ يُؤَدَّى فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ فَاكْتَفَى بِأَذَانِهِ وَإِقَامَتِهِ.
قَالَ (الْوِتْرُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ لَا يُفْصَلُ بَيْنهنَّ بِسَلَامٍ) لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ»
عَلَى ذَلِكَ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ الْبَجَلِيِّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ خَشْيَةَ أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ. وَعَنْ الْقَرِينَةِ الْمُدَّعَاةِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ أَمْرُ الْوِتْرِ فَيَجُوزُ كَوْنُهُ كَانَ أَوَّلًا كَذَلِكَ. وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ لَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا فِي آخِرِهَا» فَدَلَّ أَنَّ الْوِتْرَ كَانَ أَوَّلًا خَمْسَةً، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ يُفِيدُ خِلَافَهُ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا فِي الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا تُوتِرْ بِثَلَاثٍ، أَوْتِرْ بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ» وَالْإِيتَارُ بِثَلَاثٍ جَائِزٌ إجْمَاعًا، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ أَمْرُ الْوِتْرِ، وَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ مَحْفُوفٌ بِمَا يُؤَكِّدُ مُقْتَضَاهُ مِنْ الْوُجُوبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنِّي» مُؤَكَّدٌ بِالتَّكْرَارِ ثَلَاثًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ (قَوْلُهُ وَلِهَذَا وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْإِجْمَاعِ) أَيْ ثَبَتَ، وَإِلَّا فَوُجُوبُ الْقَضَاءِ مَحَلُّ النِّزَاعِ أَيْضًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ صَلَاةٌ مَقْضِيَّةٌ مُؤَقَّتَةٌ فَتَجِبُ كَالْمَغْرِبِ، أَمَا إنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ فَلِأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي وَقْتِهَا السَّحَرُ، وَذَلِكَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ كَرَاهَةً فِي الْعِشَاءِ، فَلَوْ كَانَ سُنَّةٌ تَبَعًا لِلْعِشَاءِ لَمْ يَتَخَالَفْ وَقْتُهُمَا فِي الصِّفَةِ بَلْ كَانَ الْمُسْتَحَبُّ فِيهِ الْمُسْتَحَبَّ فِيهِ (قَوْلُهُ وَهُوَ الْمَعْنِيّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ سُنَّةٌ) وَعَنْهُ أَنَّهُ فَرْضٌ: أَيْ عَمَلِيٌّ وَهُوَ الْوَاجِبُ فَعَنْهُ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ وَالْمُرَادُ بِهَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْوُجُوبُ.
وَفِي الْفَتَاوَى: لَوْ اجْتَمَعَتْ أَهْلُ قَرْيَةٍ عَلَى تَرْكِ الْوِتْرِ أَدَّبَهُمْ أَوْ حَبَسَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعُوا قَاتَلَهُمْ فَإِنْ امْتَنَعُوا عَنْ أَدَاءِ السُّنَنِ قَالَ مَشَايِخُ بُخَارَى يُقَاتِلُهُمْ كَالْفَرَائِضِ
(قَوْلُهُ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها) رَوَى الْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِهِمَا عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا يُسَلِّمُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ» ، وَكَذَا رَوَى النَّسَائِيّ عَنْهَا قَالَتْ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يُسَلِّمُ فِي رَكْعَتَيْ الْوِتْرِ» وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ قِيلَ لِلْحَسَنِ إنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُسَلِّمُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ الْوِتْرِ فَقَالَ كَانَ عُمَرُ أَفْقَهَ مِنْهُ وَكَانَ يَنْهَضُ فِي الثَّانِيَةِ بِالتَّكْبِيرِ انْتَهَى وَسَكَتَ عَنْهُ.
وَرَوَى
وَحَكَى الْحَسَنُ رحمه الله إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الثَّلَاثِ، هَذَا أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَفِي قَوْلٍ يُوتِرُ بِتَسْلِيمَتَيْنِ
الطَّحَاوِيُّ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْفَرَجِ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ مُخَوَّلٍ عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ عَنْ سَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِثَلَاثٍ، يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» إلَى آخَرِ مَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَرْوِيِّ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ وَالْمُسْتَدْرَكِ «كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْوِتْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَفِي الثَّانِيَةِ بِقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَةِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ» وَظَاهِرُ هَذَا وَصْلُ الثَّالِثَةِ لِجَعْلِهِ الْأُولَى بَعْضَ الْوِتْرِ فِي قَوْلِهِ مِنْ الْوِتْرِ وَإِلَّا لَقَالَتْ فِيهِ وَفِي الرَّكْعَةِ الْوِتْرُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلَّى فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ وَاحِدَةٌ بِتَحْرِيمَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ لِنَحْتَاجَ إلَى الِاشْتِغَالِ بِجَوَابِهِ، إذْ يُحْتَمَلُ كُلًّا مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ كَوْنِهِ إذَا خَشِيَ الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً مُتَّصِلَةً فَأَنَّى يُقَاوِمُ الصَّرَائِحَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ تَرَكْنَاهُ لِحَالِ الطُّولِ، مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ قَالَ: سَأَلْت أَبَا الْعَالِيَةِ عَنْ الْوِتْرِ فَقَالَ: عَلَّمَنَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْوِتْرَ مِثْلُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ. هَذَا وِتْرُ اللَّيْلِ وَهَذَا وِتْرُ النَّهَارِ. وَقَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ قَالَ: صَلَّى بِنَا أَنَسٌ الْوِتْرَ أَنَا عَنْ يَمِينِهِ وَأُمُّ وَلَدِهِ خَلْفَنَا ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ لَمْ يُسَلِّمْ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ.
عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوهُ يُفِيدُ تَقَيُّدَ جَعْلِهَا وَاحِدَةً بِالضَّرُورَةِ وَهِيَ خَشْيَةُ طُلُوعِ الْفَجْرِ خُصُوصًا عَلَى قَوْلِهِمْ مِنْ حُجِّيَّةِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ، وَعَلَى قَوْلِنَا الْمُتَقَرِّرُ نَفْيُ شَرْعِيَّتِهَا، فَإِذَا أُبِيحَتْ بِشَرْطٍ تَبْقَى فِيمَا وَرَاءَهُ عَلَى الْعَدَمِ، لَكِنَّا لَا نُجِيزُهَا أَيْضًا لِذَلِكَ عِنْدَ خَشْيَةِ الصُّبْحِ لِأَنَّهُ أَحَدُ مُحْتَمَلَيْهِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ كَمَا قُلْنَا، فَلَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ لِمَا ثَبَتَ بِهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ رِوَايَاتِ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَنَّهُ تَحَكَّمَ عِنْدَ تَسَاوِي الِاحْتِمَالَيْنِ فَتَمَّ الْمَطْلُوبُ غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلَى ثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْ الْبُتَيْرَاءِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ شَرْعِيَّتُهَا لَمْ يَلْزَمْ كَوْنُ الْوِتْرِ إيَّاهَا إلَّا بِدَلِيلٍ يَخُصُّ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الشَّفْعَ مَشْرُوعٌ وَلَا يُمْكِنُ ادِّعَاءُ كَوْنِ بَعْضِ الْفَرَائِضِ بِخُصُوصِهِ إيَّاهُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الثَّابِتَ كَوْنُهُ ثَلَاثًا كَالْمَغْرِبِ، وَكَذَا صَحَّ عَنْ ابْن مَسْعُودٍ «وِتْرُ اللَّيْلِ ثَلَاثٌ كَوِتْرِ النَّهَارِ» ، وَإِنَّمَا ضَعَّفُوا رَفْعَهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ لَمْ يَرْفَعْهُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا يَحْيَى بْنُ أَبِي الْحَوَاجِبِ وَقَدْ ضُعِّفَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِيمَا رَوَيْنَا قِرَاءَتَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الثَّالِثَةِ بِسُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابُنَا سِوَى قِرَاءَةِ الْإِخْلَاصِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله رَوَى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِثَلَاثٍ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَفِي الثَّانِيَةِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» (قَوْلُهُ وَحَكَى الْحَسَنُ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ) فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا حَفْصٌ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ الْحَسَنِ قَالَ:
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رحمه الله، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمَا مَا رَوَيْنَاهُ
(وَيَقْنُتُ فِي الثَّالِثَةِ قَبْلَ الرُّكُوعِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله بَعْدَهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَنَتَ فِي آخَرِ الْوِتْرِ» وَهُوَ بَعْدَ الرُّكُوعِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ»
اجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ ثَلَاثٌ لَا يُسَلَّمُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ، وَعَمْرٌو هَذَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْنُ عُبَيْدٍ فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِهِ فِي إسْنَادٍ آخَرَ مِثْلِ هَذَا.
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَوَّام مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْمُرَادِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ نِزَارِ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ فِي مَشْيَخَةٍ سِوَاهُمْ أَهْلُ فِقْهٍ وَصَلَاحٍ، فَكَانَ مِمَّا وَعَيْت عَنْهُمْ أَنَّ الْوِتْرَ ثَلَاثٌ لَا يُسَلَّمُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ.
(قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ الرُّكُوعِ مِنْ الْوِتْرِ، هَاهُنَا ثَلَاثُ خِلَافِيَّاتٍ: إحْدَاهَا أَنَّهُ إذَا قَنَتَ فِي الْوِتْرِ يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ. وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْقُنُوتَ فِي الْوِتْرِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ أَوْ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ. وَالثَّالِثَةُ هَلْ يَقْنُتُ فِي غَيْرِ الْوِتْرِ أَوْ لَا، لَهُ فِي الْأُولَى مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ «سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ. قَالَ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - يَقُولُونَ: قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي آخَرِ الْوِتْرِ وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ».
وَقَوْلُهُ وَهُوَ بَعْدَ الرُّكُوعِ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى لِسَانِ الْخَصْمِ، وَلَهُمْ مَا هُوَ أَنَصُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما وَصَحَّحَهُ قَالَ «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي وِتْرِي إذَا رَفَعْتُ رَأْسِي وَلَمْ يَبْقَ إلَّا السُّجُودَ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ» إلَى آخِرِهِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي الْقُنُوتِ (قَوْلُهُ وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ») لَوْ قَالَ: كَانَ يَقْنُتُ كَانَ أَوْلَى. قَالَ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ الرَّقِّيِّ، حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ فَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ» انْتَهَى لِابْنِ مَاجَهْ.
وَلَفْظُ النَّسَائِيّ «كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ، يَقْرَأُ فِي الْأُولَى سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَفِي الثَّانِيَةِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ» انْتَهَى. وَزَادَ فِي سُنَنِهِ «فَإِذَا فَرَغَ قَالَ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يُطِيلُ فِي آخِرِهِنَّ» ثُمَّ قَالَ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ وَقَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ، يُرِيدُ بِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الرُّوَاةِ عَنْ زُبَيْدٍ الَّذِينَ لَمْ يَذْكُرُوا الْقُنُوتَ الْأَعْمَشَ وَشُعْبَةَ وَعَبْدَ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَجَرِيرَ بْنِ حَازِمٍ.
لَكِنْ غَايَتُهُ أَنَّهُ تَفَرَّدَ الْعَدْلُ بِالزِّيَادَةِ وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ الْقُنُوتِ لَهُ حَدِيثَ أَبِي الْحَسَنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَهْوَازِيِّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي نُوَيْرَةَ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ فِي الْوِتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ» وَذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ وَسَكَتَ عَنْهُ.
وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «أَوْتَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
وَمَا زَادَ عَلَى نِصْفِ الشَّيْءِ آخِرُهُ
بِثَلَاثٍ فَقَنَتَ فِيهَا قَبْلَ الرُّكُوعِ» وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ الْقَدَّاحُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ وَيَجْعَلُ الْقُنُوتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ» وَقَوْلُ أَبِي نُعَيْمٍ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ حَبِيبٍ، وَالْعَلَاءُ تَفَرَّدَ بِهِ عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَقَوْلُ الطَّبَرَانِيُّ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ إلَّا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ لَا يُوجِبُ الْبُعْدَ لِمَا قُلْنَا فِي كَلَامِ النَّسَائِيّ، بَلْ قَدْ حَصَلَ مِنْ انْفِرَادِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ زُبَيْدٍ، وَمِنْ تَفَرُّدِ عَطَاءِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الْعَلَاءِ، وَمِنْ تَفَرُّدِ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ مَعَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي سَكَتَ عَلَيْهِ فِي التَّحْقِيقِ تَظَافَرَ كَثِيرٌ مَعَ أَنَّ كُلَّ طَرِيقٍ مِنْهَا إمَّا حَسَنٌ أَوْ صَحِيحٌ.
وَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ» فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ شَهْرًا فَقَطْ بِدَلِيلِ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ «عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، سَأَلْتُ أَنَسًا عَنْ الْقُنُوتِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ نَعَمْ، فَقُلْتُ: أَكَانَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ؟ قَالَ قَبْلَهُ، قُلْتُ: فَإِنَّ فُلَانًا أَخْبَرَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ بَعْدَهُ، قَالَ كَذَبَ، إنَّمَا قَنَتَ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا» انْتَهَى وَعَاصِمٌ كَانَ ثِقَةً جِدًّا وَلَا مُعَارَضَةَ مُحَتَّمَةٌ فِي ذَلِكَ مَعَ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ أَنَسٍ، بَلْ هَذِهِ تَصْلُحُ مُفَسِّرَةً لِلْمُرَادِ بِمَرْوِيِّهِمْ أَنَّهُ قَنَتَ بَعْدَهُ، وَمِمَّا يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ عَمَلَ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرِهِمْ كَانَ عَلَى وَفْقِ مَا قُلْنَا: قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَقْنُتُونَ فِي الْوِتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ.
وَلَمَّا تَرَجَّحَ ذَلِكَ خَرَجَ مَا بَعْدَ الرُّكُوعِ مَعَ كَوْنِهِ مَحَلًّا لِلْقُنُوتِ، فَلِذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ سَهَا عَنْ الْقُنُوتِ فَتَذَّكَّرَهُ بَعْدَ الِاعْتِدَالِ لَا يَقْنُتُ، وَلَوْ تَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا لَا يَقْنُتُ، وَالْأُخْرَى يَعُودُ إلَى الْقِيَامِ فَيَقْنُتُ. وَاَلَّذِي فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقْنُتُ فِي الرُّكُوعِ وَلَا يَعُودُ إلَى الْقِيَامِ، فَإِنْ عَادَ إلَى الْقِيَامِ وَقَنَتَ وَلَمْ يُعِدْ الرُّكُوعَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ رُكُوعَهُ قَائِمٌ لَمْ يَرْتَفِضْ. وَفِي الْخُلَاصَةِ بَعْدَمَا ذَكَرَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ قَالَ فِي رِوَايَةٍ: يَعُودُ وَيَقْنُتُ وَلَا يُعِيدُ الرُّكُوعَ وَعَلَيْهِ السَّهْوُ قَنَتَ أَوْ لَمْ يَقْنُتْ، وَهَذَا يُحَقِّقُ خُرُوجَ الْقَوْمَةِ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ إلَّا إذَا اقْتَدَى بِمَنْ يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ يُتَابِعُهُ اتِّفَاقًا، أَمَّا لَوْ نَسِيَ السُّورَةَ وَالْقُنُوتَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَعُودُ إذَا تَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ فَيَقْرَؤُهُمَا وَيَرْتَفِضُ الرُّكُوعَ، فَلَوْ لَمْ يَرْكَعْ بَطَلَتْ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَسْبُوقَ بِرَكْعَتَيْنِ إذَا قَنَتَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الثَّالِثَةِ لَا يَقْنُتُ مَرَّةً أُخْرَى. وَعَنْ أَبِي الْفَضْلِ تَسْوِيَتُهُ بِالشَّاكِّ وَسَيَأْتِي فِي سُجُودِ السَّهْوِ، وَلَوْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ فَرَكَعَ وَهُوَ لَمْ يَفْرُغْ يُتَابِعُهُ، وَلَوْ رَكَعَ الْإِمَامُ وَتَرَكَ الْقُنُوتَ وَلَمْ يَقْرَأْ الْمَأْمُومُ مِنْهُ شَيْئًا إنْ خَافَ فَوْتَ الرُّكُوعِ يَرْكَعُ وَإِلَّا قَنَتَ ثُمَّ رَكَعَ. الْخِلَافِيَّةُ الثَّانِيَةُ لَهُ فِيهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ عِشْرِينَ لَيْلَةً مِنْ الشَّهْرِ: يَعْنِي رَمَضَانَ وَلَا يَقْنُتُ بِهِمْ إلَّا فِي النِّصْفِ الثَّانِي، فَإِذَا كَانَ الْعَشَرُ الْأَوَاخِرُ تَخَلَّفَ فَصَلَّى فِي بَيْتِهِ.
وَلِلْمَتْنِ طَرِيقٌ آخَرُ ضَعَّفَهَا النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ، وَمَا أَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ أَنَسٍ «كَانَ صلى الله عليه وسلم يَقْنُتُ فِي النِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ» إلَخْ ضَعِيفٌ بِأَبِي عَاتِكَةَ، وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ مَعَ أَنَّ الْقُنُوتَ فِيهِ وَفِيمَا قَبْلَهُ يَحْتَمِلُ كَوْنُهُ طُولَ الْقِيَامِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ عَلَيْهِ تَخْصِيصًا لِلنِّصْفِ الْأَخِيرِ بِزِيَادَةِ الِاجْتِهَادِ، فَهَذَا الْمَعْنَى يَمْنَعُ تَبَادُرَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بِخُصُوصِهِ، وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ «قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْحَسَنِ اجْعَلْهُ فِي وِتْرِكَ» وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ غَرِيبٌ. وَالْمَعْرُوفُ مَا أَخْرَجُوهُ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ
وَيَقْنُتُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله
عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنْ «الْحَسَنِ بْن عَلِيٍّ رضي الله عنهما قَالَ عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ، وَفِي لَفْظٍ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافَنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتُوَلِّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَرَوَاهُ ابْن حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَزَادَ فِيهِ بَعْدَ وَالَيْت «وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ» وَزَادَ النَّسَائِيّ «بَعْدَ وَتَعَالَيْتَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ» قَالَ النَّوَوِيُّ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ فِيهِ: إذَا رَفَعْت رَأْسِي وَلَمْ يَبْقَ إلَّا السُّجُودُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ.
وَأَخْرَجَ الْأَرْبَعَةُ أَيْضًا وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي آخَرِ وِتْرِهِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» وَلَا شَكَّ أَنَّ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْخِلَافِيَّةِ قَبْلَ هَذِهِ مَا هُوَ أَنَصُّ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى قُنُوتِ الْوِتْرِ مِنْ هَذَا فَارْجِعْ إلَيْهِ تَسْتَغْنِ عَنْ هَذَا فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ. وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي إثْبَاتِ وُجُوبِ الْقُنُوتِ وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى ثُبُوتِ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِيهِ: أَعْنِي قَوْلَهُ " اجْعَلْ هَذَا فِي وِتْرِك " وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ.
فَلَمْ يَثْبُتْ لِي، وَمِنْهُمْ مَنْ حَاوَلَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْمُوَاظَبَةِ الْمُفَادَةِ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى كَوْنِهَا غَيْرَ مَقْرُونَةٍ بِالتَّرْكِ مَرَّةً، لَكِنْ مُطْلَقُ الْمُوَاظَبَةِ أَعَمُّ مِنْ الْمَقْرُونَةِ بِهِ أَحْيَانًا وَغَيْرِ الْمَقْرُونَةِ، وَلَا دَلَالَةَ لِلْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ وَإِلَّا لَوَجَبَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ عَيْنًا أَوْ كَانَتْ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهَا، لَكِنَّ الْمُتَقَرِّرَ عِنْدَهُمْ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو عَلَى مُضَرَ إذْ جَاءَهُ جِبْرِيلُ، فَأَوْمَأَ إلَيْهِ أَنْ اُسْكُتْ فَسَكَتَ، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْكَ سَبَّابًا وَلَا لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بَعَثَكَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ ثُمَّ عَلَّمَهُ الْقُنُوتَ: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ وَنُؤْمِنُ بِكَ وَنَخْضَعُ لَكَ وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَكْفُرُكَ اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَكَ، وَنَخَافُ عَذَابَكَ إنَّ عَذَابَكَ الْجِدَّ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ» وَعَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ لَا يُؤَقَّتُ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ صِدْقِ رَغْبَةٍ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ.
قَالَ آخَرُونَ: ذَلِكَ فِي غَيْرِ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ قَرَأَ غَيْرَهُ جَازَ وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَ بَعْدَهُ قُنُوتَ الْحَسَنِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْت، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ إذَا لَمْ يُؤَقِّتْ فَتَفْسُدُ الصَّلَاةُ. ثُمَّ إذَا شَرَعَ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ قَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْت، لَمْ يَذْكُرْ رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِيهِ، وَاَلَّذِي فِي تَرْجَمَةِ أَبِي يُوسُفَ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ الْفَقِيهُ: حَدَّثَنِي فَرَجٌ مَوْلَى أَبِي يُوسُفَ قَالَ: رَأَيْت مَوْلَايَ أَبَا يُوسُفَ إذَا دَخَلَ فِي الْقُنُوتِ لِلْوِتْرِ رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ، قَالَ ابْنُ أَبِي عِمْرَانَ: كَانَ فَرَجٌ ثِقَةً انْتَهَى.
وَوَجْهُهُ عُمُومُ دَلِيلِ الرَّفْعِ لِلدُّعَاءِ. وَيُجَابُ بِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا رَفْعَ فِي دُعَاءِ التَّشَهُّدِ، وَمَنْ لَا يُحْسِنُ الْقُنُوتَ يَقُولُ:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ يَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَيُكَرِّرُ ثَلَاثًا انْتَهَى. وَحَدِيثُ «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ» تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ.
الْخِلَافِيَّةُ الثَّالِثَةُ لَهُ فِيهَا حَدِيثُ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيّ عَنْ أَنَسٍ «مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَأَنَا أَقْرَبُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ
فِي غَيْرِ النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ «لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَمَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ.
وَحَدِيثُ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فَيَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، إنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ. تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ» وَفِي هَذَا مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ مَا يُصَرِّحُ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ: اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْت وَعَافِنَا بِالْجَمْعِ خِلَافُ الْمَنْقُولِ، لَكِنَّهُمْ لَفَقُّوهُ مِنْ حَدِيثٍ فِي حَقِّ الْإِمَامِ عَامٍّ لَا يَخُصُّ الْقُنُوتَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ وَهُوَ إمَامٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي الصُّبْحَ مُنْفَرِدًا لِيَحْفَظَهُ الرَّاوِي مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ يُفِيدُ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَازِمِيُّ فِي كِتَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ: إنَّهُ رُوِيَ: يَعْنِي الْقُنُوتَ فِي الْفَجْرِ عَنْ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِثْلِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَأَنَسٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم، وَقَالَ: ذَهَبَ إلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَذَكَرَ جَمَاعَةً مِنْ التَّابِعِينَ.
وَالْجَوَابُ أَوَّلًا أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ الَّذِي هُوَ النَّصُّ فِي مَطْلُوبِهِمْ ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِعَبْدِ اللَّهِ هَذَا، ثُمَّ نَقُولُ فِي دَفْعِ مَا قَبْلَهُ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ كَمَا صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ بِهِ قَرِيبًا تَمَسُّكًا بِمَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ الْقَاضِي عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الْقَصَّابِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «لَمْ يَقْنُتْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصُّبْحِ إلَّا شَهْرًا ثُمَّ تَرَكَهُ لَمْ يَقْنُتْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ» .
وَأَعَلُّوهُ بِالْقَصَّابِ، تَرَكَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ مَعِينٍ وَضَعَّفَهُ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَحَاصِلُ تَضْعِيفُهُمَا إيَّاهُ أَنَّهُ كَانَ كُثَيِّرٌ الْوَهْمِ، فَلَا يَكُونُ حَدِيثُهُ رَافِعًا لِحُكْمٍ ثَابِتٍ بِالْقَوِيِّ، قُلْنَا بِمِثْلِ هَذَا ضَعَّفَ جَمَاعَةٌ أَبَا جَعْفَرٍ، قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ فِيهِ: كَانَ يَخْلِطُ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: كَانَ يُخْطِئُ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: كَانَ يَهِمُ كَثِيرًا، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ يَنْفَرِدُ بِالْمَنَاكِيرِ عَنْ الْمَشَاهِيرِ فَكَافَأَهُ الْقَصَّابُ، ثُمَّ يُقَوِّي ظَنَّ ثُبُوتِ مَا رَوَاهُ الْقَصَّابُ بِأَنَّ شَبَابَةَ رَوَى عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ «عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: قُلْنَا لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: إنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ بِالْفَجْرِ، فَقَالَ: كَذَبُوا إنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا وَاحِدًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْمُشْرِكِينَ».
فَهَذَا عَنْ أَنَسٍ صَرِيحٌ فِي مُنَاقَضَةِ رِوَايَةِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْهُ، وَفِي أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَقَيْسٌ هَذَا وَإِنْ كَانَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ ضَعَّفَهُ فَقَدْ وَثَّقَهُ غَيْرُهُ، وَلَيْسَ بِدُونِ أَبِي جَعْفَرٍ بَلْ مِثْلِهِ أَوْ أَرْفَعَ مِنْهُ، فَإِنَّ الَّذِينَ ضَعَّفُوا أَبَا جَعْفَرٍ أَكْثَرُ مِمَّنْ ضَعَّفَ قَيْسًا، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ تَضْعِيفُ قَيْسٍ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ، وَذَكَرَ سَبَبَ تَضْعِيفِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ: سَأَلْت يَحْيَى عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَ ضَعِيفٌ لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ فَإِنَّهُ يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ عَنْ عُبَيْدَةَ وَهُوَ عِنْدَهُ عَنْ مَنْصُورٍ.
وَهَذَا لَا يُوجِبُ رَدَّ حَدِيثِهِ إذْ غَايَتُهُ أَنَّهُ غَلَطٌ فِي ذِكْرِ عُبَيْدَةَ بَدَلَ مَنْصُورٍ، وَمَنْ سَلِمَ مِنْ مِثْلِ هَذَا مِنْ الْمُحَدِّثِينَ؟ كَذَا قِيلَ. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ فَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ يَحْيَى، قَالَ النَّسَائِيّ مَتْرُوكٌ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ ضَعِيفٌ، وَعَنْ أَحْمَدَ كَانَ كَثِيرَ الْخَطَأِ وَلَهُ أَحَادِيثُ مُنْكَرَةٌ، وَكَانَ وَكِيعٌ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ يُضَعِّفَانِهِ.
وَتَكَلَّمَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، لَكِنْ كَانَ شُعْبَةُ يُثْنِي عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ: مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ يَحْيَى لَا يُرْضِي
لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه حِينَ عَلَّمَهُ دُعَاءَ الْقُنُوتِ
قَيْسَ بْنَ الرَّبِيعِ، وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ: قَالَ لِي شُعْبَةُ: أَلَا تَرَى إلَى قَيْسِ بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ يَتَكَلَّمُ فِي قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ وَاَللَّهِ مَا لَهُ إلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ، وَقَالَ أَبُو قُتَيْبَةَ: قَالَ لِي شُعْبَةُ عَلَيْك بِقَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: سَيَّرْت أَخْبَارَ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ مِنْ رِوَايَاتِ الْقُدَمَاءِ وَالْمُتَأَخِّرِينَ وَتَتَبَّعْتهَا فَرَأَيْته صَدُوقًا فِي نَفْسِهِ مَأْمُونًا حَيْثُ كَانَ شَابًّا، فَلَمَّا كَبُرَ سَاءَ حِفْظُهُ وَامْتُحِنَ بِوَلَدِ سُوءٍ يُدْخِلُ عَلَيْهِ، وَسَرَدَ بْنُ عَدِيٍّ لَهُ جُمْلَةً ثُمَّ قَالَ: وَلِقَيْسٍ غَيْرُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحَدِيثِ وَعَامَّةُ رِوَايَاتِهِ مُسْتَقِيمَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مَحَلُّهُ الصِّدْقُ وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ: الْقَوْلُ مَا قَالَهُ شُعْبَةُ وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ فَلَا يَنْزِلُ بِذَلِكَ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ الرَّازِيّ وَيَزْدَادُ اعْتِضَادُهُ، بَلْ يَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ مَا نَسَبْنَاهُ لِأَنَسٍ مَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ الْقُنُوتِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَقْنُتُ إلَّا إذَا دَعَا لِلْقَوْمِ أَوْ دَعَا عَلَيْهِمْ» وَهَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ قَالَهُ صَاحِبُ تَنْقِيحِ التَّحْقِيقِ.
وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ عَنْ أَنَسٍ فِي كِتَابِهِ هَذَا مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ نَحْوَ مَا أَخْرَجَهُ عَنْ دِينَارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ خَادِمِ أَنَسٍ مَا زَالَ صلى الله عليه وسلم يَقْنُتُ حَتَّى مَاتَ وَغَيْرُهُ فَقَدْ شَنَّعَ عَلَيْهِ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَبَلَغَ فِيهِ الْغَايَةَ وَنَسَبَهُ إلَى مَا يَنْبَغِي صَوْنُ كِتَابِنَا عَنْهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ، وَقَدْ اشْتَهَرَ بَعْضُ الرُّوَاةِ فِيهَا بِالْوَضْعِ عَلَى أَنَسٍ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ» أَسْلَفْنَاهُ فِي الْخِلَافِيَّةِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ لِعَاصِمٍ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ الْقُنُوتِ نَعَمْ ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ أَنَّ فُلَانًا قَالَ بَعْدَهُ فَقَالَ كَذَبَ إنَّمَا «قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا» .
إنَّمَا يَقْتَضِي بَقَاءَ الْقُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْفَجْرِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ إذْ نَقُولُ بِبَقَائِهِ فِي الْوِتْرِ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ الْقُنُوتِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَ عَارَضَهُ مَا رَوَيْنَاهُ عَنْهُ، وَأَنَصُّ مِنْ ذَلِكَ فِي النَّفْيِ الْعَامِّ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْنُتْ فِي الْفَجْرِ قَطُّ إلَّا شَهْرًا وَاحِدًا» ، لَمْ يُرَ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا قَنَتَ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ يَدْعُو عَلَى نَاسٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَهَذَا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ أَنَسٌ نَفْسُهُ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا غَالِبُ بْنُ فَرَقَدَ الطَّحَّانُ. قَالَ: كُنْت عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه شَهْرَيْنِ فَلَمْ يَقْنُتْ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ. وَإِذَا ثَبَتَ النَّسْخُ وَجَبَ حَمْلُ الَّذِي عَنْ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَنَحْوِهِ إمَّا عَلَى الْغَلَطِ أَوْ عَلَى طُولِ الْقِيَامِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ «عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ»: أَيْ الْقِيَامِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ أَطْوَلُ الصَّلَوَاتِ قِيَامًا، وَالْإِشْكَالُ نَشَأْ مِنْ اشْتَرَاكِ لَفْظِ الْقُنُوتِ بَيْنَ مَا ذُكِرَ وَبَيْنَ الْخُضُوعِ وَالسُّكُوتِ وَالدُّعَاءِ وَغَيْرِهَا، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى قُنُوتِ النَّوَازِلِ كَمَا اخْتَارَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَقْنُت فِي النَّوَازِلِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ أَنَسٍ «كَانَ لَا يَقْنُتُ إلَّا إذَا دَعَا» إلَخْ، وَسَنَنْظُرُ فِيهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ ثُمَّ تَرَكَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: يَعْنِي الدُّعَاءَ عَلَى أُولَئِكَ الْقَوْمِ لَا مُطْلَقًا.
وَأَمَّا قُنُوتُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْوِيُّ فَإِنَّمَا أَرَادَ بَيَانَ أَنَّ الْقُنُوتَ وَالدُّعَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى الْكَافِرِينَ، وَقَدْ كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا أَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ لِاعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ الْقُنُوتَ الْمُسْتَمِرَّ لَيْسَ يُسَنُّ فِيهِ الدُّعَاءُ لِهَؤُلَاءِ وَعَلَى هَؤُلَاءِ فِي كُلِّ صُبْحٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا أَرَادُوا إنْ كَانَ غَيْرَ ظَاهِرِ لَفْظِ الرَّاوِي مَا ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
اجْعَلْ هَذَا فِي وِتْرِك» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ (وَيَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) مِنْ الْوِتْرِ (فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَسُورَةً) لِقَوْلِهِ تَعَالَى
لَا يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، إلَّا أَنْ يَدْعُوَ لِقَوْمٍ أَوْ عَلَى قَوْمٍ».
وَهُوَ سَنَدٌ صَحِيحٌ، فَلَزِمَ أَنَّ مُرَادَهُ مَا قُلْنَا، أَوْ بَقَاءُ قُنُوتِ النَّوَازِلِ لِأَنَّ قُنُوتَهُ الَّذِي رَوَاهُ كَانَ كَقُنُوتِ النَّوَازِلِ، وَكَيْفَ يَكُونُ الْقُنُوتُ سُنَّةً رَاتِبَةً جَهْرِيَّةً وَقَدْ صَحَّ حَدِيثُ «أَبِي مَالِكٍ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِيهِ صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَقْنُتْ، وَصَلَّيْتُ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَقْنُتْ، وَصَلَّيْتُ خَلْفَ عُمَرَ فَلَمْ يَقْنُتْ، وَصَلَّيْتُ خَلْفَ عُثْمَانَ فَلَمْ يَقْنُتْ وَصَلَّيْتُ خَلْفَ عَلِيٍّ فَلَمْ يَقْنُتْ، ثُمَّ قَالَ يَا بُنَيَّ إنَّهَا بِدْعَةٌ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلَفْظُهُ وَلَفْظُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ «أَبِي مَالِكٍ قَالَ: قُلْت لِأَبِي يَا أَبَتِ إنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ بِالْكُوفَةِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِ سِنِينَ أَكَانُوا يَقْنُتُونَ فِي الْفَجْرِ؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ مُحْدَثٌ» وَهُوَ أَيْضًا يَنْفِي قَوْلَ الْحَازِمِيِّ فِي أَنَّ الْقُنُوتَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَوْلُهُ إنَّ عَلَيْهِ الْجُمْهُورَ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ حَافِظٍ آخَرَ إنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى عَدَمِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْنُتُونَ فِي الْفَجْرِ وَأَخْرَجَ " عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ لَمَّا قَنَتَ فِي الصُّبْحِ أَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ " فَقَالَ اسْتَنْصَرْنَا عَلَى عَدُوِّنَا، وَفِيهِ زِيَادَةٌ أَنَّهُ كَانَ مُنْكَرًا عِنْدَ النَّاسِ وَلَيْسَ النَّاسُ إذْ ذَاكَ إلَّا الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْنُتُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ. وَأَخْرَجَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي قُنُوتِ الْفَجْرِ مَا شَهِدْت وَمَا عَلِمْت، وَمَا أَسْنَدَ الْحَازِمِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْقُنُوتِ فَقَالَ: أَمَا إنَّهُ قَنَتَ مَعَ أَبِيهِ وَلَكِنَّهُ نَسِيَ، ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ كَبِرْنَا وَنَسِينَا ائْتُوا سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَاسْأَلُوهُ، مَدْفُوعٌ بِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَقْنُتْ بِمَا صَحَّ عَنْهُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ صَحِبَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَنَتَيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ فَلَمْ يَرَهُ قَانِتًا فِي الْفَجْرِ. وَهَذَا سَنَدٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَنِسْبَةُ ابْنَ عُمَرَ إلَى النِّسْيَانِ فِي مِثْلِ هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَإِنَّمَا يَقْرُبُ ادِّعَاؤُهُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي تُسْمَعُ وَتُحْفَظُ أَوْ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُفْعَلُ أَحْيَانًا فِي الْعُمْرِ، أَمَّا فِعْلٌ يَقْصِدُ الْإِنْسَانُ إلَى فِعْلِهِ كُلَّ غَدَاةٍ مَعَ خَلْقٍ كُلُّهُمْ يَفْعَلُهُ ثُمَّ مِنْ صُبْحٍ إلَى صُبْحٍ يَنْسَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَقُولُ مَا شَهِدْت وَلَا عَلِمْت وَيَتْرُكُهُ مَعَ أَنَّهُ يُصْبِحُ فَيَرَى غَيْرَهُ يَفْعَلُهُ فَلَا يَتَذَكَّرُ فَلَا يَكُونُ
{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَقْنُتَ كَبَّرَ) لِأَنَّ الْحَالَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ (وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَنَتَ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ» وَذَكَرَ مِنْهَا الْقُنُوتَ (وَلَا يَقْنُتُ فِي صَلَاةٍ غَيْرِهَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي الْفَجْرِ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ «رضي الله عنه أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَنَتَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ شَهْرًا»
مَعَ شَيْءٍ مِنْ الْعَقْلِ.
وَبِمَا قَدَّمْنَاهُ إلَى هُنَا انْقَطَعَ بِأَنَّ الْقُنُوتَ لَمْ يَكُنْ سُنَّةً رَاتِبَةً، إذْ لَوْ كَانَ رَاتِبَةً يَفْعَلُهُ صلى الله عليه وسلم كُلَّ صُبْحٍ يَجْهَرُ بِهِ وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ أَوْ يُسِرُّ بِهِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ إلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَتَحَقَّقْ بِهَذَا الِاخْتِلَافِ، بَلْ كَانَ سَبِيلُهُ أَنْ يُنْقَلَ كَنَقْلِ جَهْرِ الْقِرَاءَةِ وَمُخَافَتَتِهَا وَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، فَإِنَّ مُوَاظَبَتَهُ عَلَى وُقُوفِهِ بَعْدَ فَرَاغِ جَهْرِ الْقِرَاءَةِ زَمَانًا سَاكِتًا فِيمَا يَظْهَرُ كَقَوْلِ مَالِكٍ مِمَّا يُدْرِكُهُ مَنْ خَلْفَهُ وَتَتَوَفَّرُ دَوَاعِيهِمْ عَلَى سُؤَالِهِ أَنَّ ذَلِكَ لِمَاذَا، وَأَقْرَبُ الْأُمُورِ فِي تَوْجِيهِ نِسْبَةِ سَعِيدٍ النِّسْيَانَ لِابْنِ عُمَرَ إنْ صَحَّ عَنْهُ أَنْ يُرَادُ قُنُوتُ النَّازِلَةِ، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه نَفَى الْقُنُوتَ مُطْلَقًا، فَقَالَ سَعِيدٌ: قَنَتَ مَعَ أَبِيهِ: يَعْنِي فِي النَّازِلَةِ وَلَكِنَّهُ نَسِيَ، فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ لَا يُوَاظَبُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ لُزُومِ سَبَبِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَنَتَ عِنْدَ مُحَارَبَةِ الصَّحَابَةِ مُسَيْلِمَةَ وَعِنْدَ مُحَارَبَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَذَلِكَ قَنَتَ عُمَرُ وَكَذَا عَلِيٌّ فِي مُحَارَبَةِ مُعَاوِيَةَ، وَمُعَاوِيَةُ فِي مُحَارَبَتِهِ، إلَّا أَنَّ هَذَا يُنْشِئُ لَنَا أَنَّ الْقُنُوتَ لِلنَّازِلَةِ مُسْتَمِرٌّ لَمْ يُنْسَخْ.
وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِ حَدِيثَ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَنَسٍ «مَا زَالَ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا» أَيْ عِنْدَ النَّوَازِلِ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَخْبَارِ الْخُلَفَاءِ يُفِيدُ تَقَرُّرَهُ لِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم
ثُمَّ تَرَكَهُ (فَإِنْ قَنَتَ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَسْكُتُ مَنْ خَلْفَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله يُتَابِعُهُ) لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِإِمَامِهِ، وَالْقُنُوتُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَلَا مُتَابَعَةَ فِيهِ، ثُمَّ قِيلَ يَقِفُ قَائِمًا لِيُتَابِعَهُ فِيمَا تَجِبُ مُتَابَعَتُهُ، وَقِيلَ يَقْعُدُ تَحْقِيقًا لِلْمُخَالَفَةِ لِأَنَّ السَّاكِتَ شَرِيكُ الدَّاعِي وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ
وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وَبَاقِي أَخْبَارِ الصَّحَابَةِ لَا يُعَارِضُهُ، بَلْ إنَّمَا تُفِيدُ نَفْيَ سُنِّيَّتِهِ رَاتِبًا فِي الْفَجْرِ سِوَى حَدِيثِ أَبِي حَمْزَةَ حَيْثُ قَالَ: لَمْ يَقْنُتْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَكَذَا حَدِيثُ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه فَيَجِبُ كَوْنُ بَقَاءِ الْقُنُوتِ فِي النَّوَازِلِ مُجْتَهَدًا، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ أَنْ لَا قُنُوتَ فِي نَازِلَةٍ بَعْدَ هَذِهِ، بَلْ مُجَرَّدُ الْعَدَمِ بَعْدَهَا فَيَتَّجِهُ الِاجْتِهَادُ بِأَنْ يُظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِعَدَمِ وُقُوعِ نَازِلَةٍ بَعْدَهَا يَسْتَدْعِي الْقُنُوتَ فَتَكُونُ شَرْعِيَّتُهُ مُسْتَمِرَّةً، وَهُوَ مَحْمَلُ قُنُوتِ مَنْ قَنَتَ مِنْ الصَّحَابَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِأَنْ يُظَنَّ رَفْعُ الشَّرْعِيَّةِ نَظَرًا إلَى سَبَبِ تَرْكِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} تَرَكَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ يُتَابِعُهُ) كَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ وَسُجُودِ السَّهْوِ إذَا اقْتَدَى بِمَنْ يَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِ وَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ يُتَابِعُهُ كَذَا هَذَا قُلْنَا الْمُتَابَعَةُ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْفَصْلِ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ.
وَمَا نَحْنُ فِيهِ إمَّا مَقْطُوعٌ بِنَسْخِهِ أَوْ بِعَدَمِ كَوْنِهِ سُنَّةً مِنْ الْأَصْلِ، وَإِنَّ الَّذِي كَانَ فِي الْفَجْرِ إنَّمَا كَانَ قُنُوتَ نَازِلَةٍ وَانْقَطَعَ بِزَوَالِهَا لِمَا قُلْنَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ سُنَّةً رَاتِبَةً ظَاهِرَةً الظُّهُورَ الْمَذْكُورَ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْجَهْرِ أَوْ السُّكُوتِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ إلَى أَنْ تَوَفَّى اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ، وَلَنُقِلَ نَقْلَ أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَكَذَلِكَ لِاتِّحَادِ اللَّازِمِ لَهُ وَلِلنَّسْخِ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي النَّسْخِ لِلْعِلْمِ بِرَفْعِ حُكْمِهِ، وَقَدْ عَلِمْنَا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي ارْتِفَاعَ حُكْمِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ السَّاكِتَ شَرِيكُ الدَّاعِي) مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ بِأَنَّ الْجَالِسَ أَيْضًا سَاكِتٌ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ مُشَارَكَتِهِ الدَّاعِيَ بِحَالِ مُوَافَقَتِهِ فِي خُصُوصِ هَيْئَةِ الدَّاعِي، لَكِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ مُشَارِكًا لَهُ إذَا رَفَعَ يَدَيْهِ مِثْلَهُ لِأَنَّهَا مِنْ هَيْئَةِ الْإِمَامِ إلَّا أَنْ يُلْغَى ذَلِكَ وَيُقَالُ مُجَرَّدُ الْوُقُوفِ خَلْفَ الدَّاعِي الْوَاقِفِ سَاكِتًا يُعَدُّ شَرِكَةً لَهُ فِي ذَلِكَ عُرْفًا رَفَعَ يَدَيْهِ مِثْلَهُ أَوْ لَا وَهُوَ حَقٌّ (قَوْلُهُ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ) الْوُجُوبُ الْمُتَابَعَةُ فِي غَيْرِ الْقُنُوتِ وَشَرِكَتُهُ عُرْفًا لَا تُوجِبُ شَرِكَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَانِتًا فِي الْفَجْرِ
وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالشَّفْعَوِيَّةِ وَعَلَى الْمُتَابَعَةِ فِي قِرَاءَةِ الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ
فَرْعٌ]
الْمَسْبُوقُ الَّذِي أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الثَّالِثَةِ لَا يَقْنُتُ فِيمَا يَقْضِي.
(قَوْلُهُ وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالشَّفْعَوِيَّةِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الصَّوَابُ لِمَا عُرِفَ مِنْ وُجُوبِ حَذْفِ يَاءِ النَّسَبِ إذَا نُسِبَ إلَى مَا هِيَ فِيهِ، وَوَضْعِ الْيَاءِ الثَّانِيَةِ مَكَانَهَا حَتَّى تَتَّحِدَ الصُّورَةُ قَبْلَ النِّسْبَةِ الثَّانِيَةِ وَبَعْدَهَا وَالتَّمْيِيزُ حِينَئِذٍ مِنْ خَارِجٍ. ثُمَّ وَجْهُ الدَّلَالَةِ فِي الْأَوَّلِ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي أَنَّهُ يُتَابِعُهُ أَوْ لَا فَيَقِفُ سَاكِتًا أَوْ يَقْعُدُ يَنْتَظِرُهُ حَتَّى يُسَلِّمَ مَعَهُ أَوْ يُسَلِّمَ قَبْلَهُ وَلَا يَنْتَظِرُ فِي السَّلَامِ اتِّفَاقٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُقْتَدِيًا إذْ ذَاكَ وَهُوَ فَرْعُ صِحَّةِ اقْتِدَائِهِ، ثُمَّ إطْلَاقُ الْقَانِتِ يَشْمَلُ الشَّافِعِيَّ وَغَيْرَهُ.
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ فِي الثَّانِيَةِ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْمُتَابَعَةِ فِي قُنُوتٍ هُوَ بِدْعَةٌ اتِّفَاقٌ عَلَى الْمُتَابَعَةِ فِي قُنُوتٍ مَسْنُونٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ مَنْعِ الْمُتَابَعَةِ فِي قُنُوتٍ بِدْعِيٍّ وَتَجْوِيزِهَا فِي مَسْنُونٍ لِجَوَازِ أَنْ تَمْتَنِعَ فِيهِمَا، بَلْ الْوَجْهُ أَنَّ الْمَانِعَ إنَّمَا عُلِّلَ بِنَسْخِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرَ مَنْسُوخٍ لَجَازَتْ، وَإِلَّا لَقَالَ مَثَلًا لَا يُتَابِعُهُ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ لَا يُتَابِعُ فِيهِ الْمَأْمُومُ إمَامَهُ كَالْقِرَاءَةِ وَالتَّسْمِيعِ، فَلَمَّا لَمْ يُعَلَّلْ قَطُّ إلَّا بِذَلِكَ كَانَ ظَاهِرًا فِي أَنَّهُ عِلَّةٌ مُسَاوِيَةٌ عِنْدَهُ ثُمَّ فِي كُلٍّ مِنْ الْحُكْمَيْنِ خِلَافٌ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَالَ أَبُو الْيُسْرِ اقْتِدَاءُ الْحَنَفِيِّ بِشَافِعِيٍّ غَيْرُ جَائِزٍ، لِمَا رَوَى مَكْحُولٌ النَّسَفِيُّ فِي كِتَابٍ لَهُ سَمَّاهُ الشُّعَاعَ أَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ مُفْسِدٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ حَيْثُ أُقِيمَ بِالْيَدَيْنِ، وَالْمُصَنِّفُ أَخَذَ الْجَوَازَ قَبْلَهُمْ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهَا تُفِيدُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ وَبَقَاءَهُ إلَى وَقْتِ الْقُنُوتِ فَتُعَارِضُ تِلْكَ وَتُقَدَّمُ هَذِهِ لِشُذُوذِ تِلْكَ صَرَّحَ بِشُذُوذِهَا فِي النِّهَايَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَيْضًا فَالْفَسَادُ عِنْدَ الرُّكُوعِ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ مِنْ الِابْتِدَاءِ، مَعَ أَنَّ عُرُوضَ الْبُطْلَانِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ لِأَنَّ الرَّفْعَ جَائِزُ التَّرْكِ عِنْدَهُمْ.
وَلَوْ تَحَقَّقَ فَالْعَمَلُ الْكَثِيرُ الْمُخْتَارُ فِيهِ مَا لَوْ رَآهُ شَخْصٌ مِنْ بَعِيدٍ ظَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَ جَوَازَ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ كَقَاضِي خَانْ بِأَنْ لَا يَكُونَ مُتَعَصِّبًا وَلَا شَاكًّا فِي إيمَانِهِ، وَيُحْتَاطُ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ كَأَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ الْخَارِجِ النَّجِسِ وَيَغْسِلَ ثَوْبَهُ مِنْ الْمَنِيِّ وَيَمْسَحَ رُبْعَ رَأْسِهِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ وَلَا يَقْطَعُ الْوِتْرَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَعَصُّبَهُ إنَّمَا يُوجِبُ فِسْقَهُ، وَلَا مُسْلِمَ يَشُكُّ فِي إيمَانِهِ، وَقَوْلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ يَقُولُونَهَا لِلتَّبَرُّكِ لَا لِلشَّرْطِ أَوْ لَهُ بِاعْتِبَارِ إيمَانِ الْمُوَافَاةِ.
وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: إذَا لَمْ يَعْلَمْ مِنْهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِيَقِينٍ يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَالْمَنْعُ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ، وَلَوْ غَابَ عَنْهُ ثُمَّ
وَإِذَا عَلِمَ الْمُقْتَدِي مِنْهُ مَا يَزْعُمُ بِهِ فَسَادَ صَلَاتِهِ كَالْفَصْدِ وَغَيْرِهِ لَا يُجْزِئُهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ
رَآهُ يُصَلِّي: يَعْنِي بَعْدَمَا شَاهَدَ تِلْكَ الْأُمُورَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَاَلَّذِي قَبْلَ هَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ إذَا عُرِفَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَمْ يَحْتَطْ فِي مَوَاضِعِ الْخِلَافِ سَوَاءٌ عَلِمَ فِي خُصُوصِ مَا يَقْتَدِي بِهِ فِيهِ أَوْ لَا. هَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ الْفَسَادَ بِالنَّظَرِ إلَى الْإِمَامِ بِأَنْ شَاهَدَهُ مَسَّ ذَكَرَهُ أَوْ امْرَأَةً وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَصَلَّى وَهُوَ مِمَّنْ يَرَى الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَمُخْتَارُ الْهِنْدُوَانِيُّ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْإِمَامِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا بِنَاءَ عَلَى الْمَعْدُومِ.
قُلْنَا الْمُقْتَدِي يَرَى جَوَازَهَا وَالْمُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ رَأْيُ نَفْسِهِ لَا غَيْرِهِ، وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ إنَّ اقْتِدَاءَ الْحَنَفِيِّ بِمَنْ يُسَلِّمُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي الْوِتْرِ يَجُوزُ وَيُصَلِّي مَعَهُ بَقِيَّتَهُ لِأَنَّ إمَامَهُ لَمْ يُخْرِجْهُ بِسَلَامِهِ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، كَمَا لَوْ اقْتَدَى بِإِمَامٍ قَدْ رَعَفَ يَقْتَضِي صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ وَإِنْ عَلِمَ مِنْهُ مَا يَزْعُمُ بِهِ فَسَادَ صَلَاتِهِ بَعْدَ كَوْنِ الْفَصْلِ مُجْتَهِدًا فِيهِ. وَقِيلَ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ قَامَ الْمُقْتَدِي فَأَتَمَّ مُنْفَرِدًا، وَكَانَ شَيْخُنَا سِرَاجُ الدِّينِ يَعْتَقِدُ قَوْلَ الرَّازِيّ، وَأَنْكَرَ مَرَّةً أَنْ يَكُونَ فَسَادُ الصَّلَاةِ بِذَلِكَ مَرْوِيًّا عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ حَتَّى ذَكَّرْته بِمَسْأَلَةِ الْجَامِعِ فِي الَّذِينَ تَحَرَّوْا فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ وَصَلَّى كُلٌّ إلَى جِهَةٍ مُقْتَدِينَ بِأَحَدِهِمْ، فَإِنَّ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ عَلِمَ مِنْهُمْ بِحَالِ إمَامِهِ فَسَدَتْ لِاعْتِقَادِ إمَامِهِ عَلَى الْخَطَإِ وَمَا ذُكِرَ فِي الْإِرْشَادِ لَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ فِي الْوِتْرِ بِإِجْمَاعِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّهُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ.
يُخَالِفُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ اشْتِرَاطِ الْمَشَايِخِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِشَافِعِيٍّ فِي الْوِتْرِ أَنْ لَا يَفْصِلَهُ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ عِنْدَ عَدَمِ فَصْلِهِ. وَفِي الْفَتَاوَى: اقْتِدَاءُ حَنَفِيٍّ فِي الْوِتْرِ بِمَنْ يَرَى أَنَّهُ سُنَّةٌ، قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: يَصِحُّ لِأَنَّ كُلًّا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْوِتْرِ فَلَمْ تَخْتَلِفْ نِيَّتُهُمَا، فَأُهْدِرَ اخْتِلَافُ الِاعْتِقَادِ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ وَاعْتُبِرَ مُجَرَّدُ اتِّحَادِ النِّيَّةِ، لَكِنْ قَدْ يَسْتَشْكِلُ إطْلَاقُهُ بِمَا ذَكَرَهُ فِي التَّجْنِيسِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ النَّفْلِ وَيَجُوزُ عَكْسُهُ، وَبَنَى عَلَيْهِ عَدَمَ جَوَازِ صَلَاتِهِ مَنْ صَلَّى الْخَمْسَ سِنِينَ وَلَمْ يَعْرِفْ النَّافِلَةَ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّ مِنْهَا فَرْضًا وَمِنْهَا نَفْلًا فَأَفَادَ أَنَّ مُجَرَّدَ مَعْرِفَةِ اسْمِ الصَّلَاةِ وَنِيَّتِهَا لَا يُجَوِّزُهَا فَإِنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ صَلَّى الْخَمْسَ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ مِنْ الْخَمْسِ فَرْضًا وَنَفْلًا.
وَهَذَا فَرْعُ تَعَيُّنِهَا عِنْدَهُ بِأَسْمَائِهَا مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى آخِرِهِ، وَلِأَنَّ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ بِعَدَمِ الْجَوَازِ مُطْلَقًا إنَّمَا هُوَ بِنَاءٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْفَرْضِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يُسَمِّيَهَا أَوَّلًا، فَإِنَّهُ إذَا سَمَّاهَا بِالظُّهْرِ وَاعْتِقَادُهُ أَنَّ الظُّهْرَ نَفْلٌ فَهُوَ بِنِيَّةِ الظُّهْرِ نَاوٍ نَفْلًا مَخْصُوصًا فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْفَرْضُ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ وِتْرُ الْحَنَفِيِّ اقْتِدَاءً بِوِتْرٍ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ شُرُوعُهُ فِي الْوِتْرِ لِأَنَّهُ بِنِيَّتِهِ إيَّاهُ إنَّمَا نَوَى النَّفَلَ الَّذِي هُوَ الْوِتْرُ فَلَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ، وَحِينَئِذٍ فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيهِ بِنَاءً عَلَى الْمَعْدُومِ فِي زَعْمِ الْمُقْتَدِي.
نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَوْ لَمْ يَخْطِرْ بِخَاطِرِهِ عِنْدَ النِّيَّةِ صِفَتُهُ مِنْ السُّنِّيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا بَلْ مُجَرَّدُ الْوِتْرِ يَنْتَفِي الْمَانِعُ فَيَجُوزُ لَكِنْ إطْلَاقُ مَسْأَلَةِ التَّجْنِيسِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَخْطِرْ بِخَاطِرِهِ نَفْلِيَّتُهُ وَفَرْضِيَّتُهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمُتَقَرِّرُ فِي اعْتِقَادِ نَفْلِيَّتِهِ وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ لِلْمُتَأَمِّلِ
وَالْمُخْتَارُ فِي الْقُنُوتِ الْإِخْفَاءُ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(بَابُ النَّوَافِلِ)
وَأَمَّا الثَّانِي فَعَنْ مُحَمَّدٍ يَقْنُتُ الْإِمَامُ وَيَسْكُتُ الْمُقْتَدِي، وَهَذَا كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ فِي الْقُنُوتِ يَتَحَمَّلُهُ الْإِمَامُ عَنْ الْمُقْتَدِي كَالْقِرَاءَةِ وَيَجْهَرُ بِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَقْنُتُ كَالْإِمَامِ، ثُمَّ هَلْ يَجْهَرُ بِهِ الْإِمَامُ؟ اخْتَارَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ وَيُتَابِعُونَهُ إلَى بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ، وَإِذَا دَعَا الْإِمَامُ: يَعْنِي اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْت أَوْ غَيْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ هَلْ يُتَابِعُونَهُ؟ ذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى خِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا وَلَكِنْ يُؤَمِّنُونَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ شَاءُوا سَكَتُوا، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: عِنْدِي يُخْفِي الْإِمَامُ، وَكَذَا الْمُقْتَدِي لِأَنَّهُ ذِكْرٌ كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ وَثَنَاءِ الِافْتِتَاحِ.
وَلَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهَلْ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قِيلَ لَا وَقِيلَ نَعَمْ لِأَنَّهُ سُنَّةُ الدُّعَاءِ، وَنَحْنُ قَدْ أَوْعَدْنَاك مِنْ رِوَايَةِ النَّسَائِيّ ثُبُوتَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم: أَعْنِي قَوْلَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْدَلَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ. وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَفِي الْبَدَائِعِ نَقْلًا عَنْ شَرْحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ لِلْقَاضِي أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ كَالْقِرَاءَةِ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ اخْتِيَارُ مَنْ اخْتَارَ الْإِخْفَاءَ، وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ تَبَعًا لِابْنِ الْفَضْلِ رحمه الله الْإِخْفَاءَ وَهُوَ الْأَوْلَى، وَفِي الْحَدِيثِ «خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ» وَلِأَنَّهُ الْمُتَوَارَثُ فِي مَسْجِدِ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ عَلِمَهُ مِنْ مُحَمَّدٍ فِي الْقُنُوتِ.
[فَرْعٌ]
أَوْتَرَ قَبْلَ النَّوْمِ ثُمَّ قَامَ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّى لَا يُوتِرُ ثَانِيًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ» وَلَزِمَهُ تَرْكُ الْمُسْتَحَبِّ الْمُفَادِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ شَفْعُ الْأَوَّلِ لِامْتِنَاعِ التَّنَفُّلِ بِرَكْعَةٍ أَوْ ثَلَاثٍ.
(بَابُ النَّوَافِلِ)
ابْتَدَأَ بِسُنَّةِ الْفَجْرِ لِأَنَّهَا أَقْوَى السُّنَنِ حَتَّى رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَوْ صَلَّاهَا قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَا يَجُوزُ، وَقَالُوا: الْعَالِمُ إذَا صَارَ مَرْجِعًا لِلْفَتْوَى جَازَ لَهُ تَرْكُ سَائِرِ السُّنَنِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَّا سُنَّةَ الْفَجْرِ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ ابْتَدَأَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بِسُنَّةِ الظُّهْرِ لِأَنَّهَا أَوَّلُ فِي الْوُجُودِ لِأَنَّ السُّنَّةَ تَبَعٌ لِلْفَرْضِ، وَأَوَّلُ صَلَاةٍ فُرِضَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ: يَعْنِي أَوَّلَ صَلَاةٍ صُلِّيَتْ بَعْدَ الِافْتِرَاضِ ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي الْأَفْضَلِ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: رَكْعَتَا الْمَغْرِبِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَدْعُهُمَا سَفَرًا وَلَا حَضَرًا، ثُمَّ الَّتِي بَعْدَ الظُّهْرِ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهُ قِيلَ هِيَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، ثُمَّ الَّتِي بَعْدَ الْعِشَاءِ، ثُمَّ الَّتِي قَبْلَ الظُّهْرِ، ثُمَّ الَّتِي قَبْلَ الْعَصْرِ، ثُمَّ الَّتِي قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَقِيلَ الَّتِي قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَاَلَّتِي قَبْلَ الظُّهْرِ وَبَعْدَهُ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ كُلُّهَا سَوَاءٌ.
وَقِيلَ الَّتِي قَبْلَ الظُّهْرِ آكَدُ، وَصَحَّحَهُ الْمُحْسِنُ وَقَدْ أَحْسَنَ لِأَنَّ نَقْلَ الْمُوَاظَبَةِ الصَّرِيحَةِ عَلَيْهَا أَقْوَى مِنْ نَقْلِ مُوَاظَبَتِهِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَسَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَرَكَ الْأَرْبَعَ قَبْلَ الظُّهْرِ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا أَوْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ قِيلَ لَا تَلْحَقُهُ الْإِسَاءَةُ لِأَنَّ مُحَمَّدًا سَمَّاهُ تَطَوُّعًا، إلَّا أَنْ يَسْتَخِفَّ فَيَقُولَ هَذَا فِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا لَا أَفْعَلُهُ فَحِينَئِذٍ يَكْفُرُ.
وَفِي النَّوَازِلِ تَرْكُ سُنَنِ الصَّلَاةِ الْخَمْسِ إنْ لَمْ يَرَهَا حَقًّا كَفَرَ، وَإِنْ رَآهَا وَتَرَكَ قِيلَ لَا يَأْثَمُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَأْثَمُ لِأَنَّهُ جَاءَ الْوَعِيدُ بِالتَّرْكِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْإِثْمَ مَنُوطٌ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَقَدْ «قَالَ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي قَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا: أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ» نَعَمْ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ الْإِسَاءَةَ وَفَوَاتَ الدَّرَجَاتِ وَالْمَصَالِحِ الْأُخْرَوِيَّةِ الْمَنُوطَةِ بِفِعْلِ سُنَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، هَذَا إذَا تَجَرَّدَ التَّرْكُ عَنْ اسْتِخْفَافٍ بَلْ يَكُونُ مَعَ رُسُوخِ الْأَدَبِ وَالتَّعْظِيمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ دَارَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِثْمِ بِحَسَبِ الْحَالِ الْبَاعِثَةِ لَهُ عَلَى التَّرْكِ، ثُمَّ هَلْ الْأَوْلَى وَصْلُ السُّنَّةِ التَّالِيَةِ لِلْفَرْضِ لَهُ أَوْ لَا؟ فِي شَرْحِ الشَّهِيدِ الْقِيَامُ إلَى السُّنَّةِ مُتَّصِلٌ بِالْفَرْضِ مَسْنُونٌ، وَفِي الشَّافِي كَانَ صلى الله عليه وسلم إذَا سَلَّمَ يَمْكُثُ قَدْرَ مَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَكَذَا عَنْ الْبَقَائِيِّ.
وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْرَأَ بَيْنَ الْفَرِيضَةِ وَالسُّنَّةِ الْأَوْرَادَ. وَيَشْكُلُ عَلَى الْأَوَّلِ مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ «أَبِي رِمْثَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَقُومَانِ فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ عَنْ يَمِينِهِ وَكَانَ رَجُلٌ قَدْ شَهِدَ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى مِنْ الصَّلَاةِ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى رَأَيْنَا بَيَاضَ خَدَّيْهِ، ثُمَّ انْتَقَلَ كَانْتِقَالِ أَبِي رِمْثَةَ: يَعْنِي نَفْسَهُ، فَقَامَ الرَّجُلُ الَّذِي أَدْرَكَ مَعَهُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى لِيَشْفَعَ، فَوَثَبَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِمَنْكِبَيْهِ فَهَزَّهُ ثُمَّ قَالَ: اجْلِسْ فَإِنَّهُ لَمْ يُهْلِكْ أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَيْنَ صَلَاتِهِمْ فَصْلٌ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَصَرَهُ فَقَالَ: أَصَابَ اللَّهُ بِكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ» . وَلَا يَرُدُّ هَذَا عَلَى الثَّانِي إذْ قَدْ يُجَابُ بِأَنَّ قَوْلَهُ اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ إلَخْ فَصْلٌ، فَمَنْ ادَّعَى فَصْلًا أَكْثَرَ مِنْهُ فَلْيَنْقُلْهُ، وَقَوْلُهُمْ الْأَفْضَلُ فِي السُّنَنِ حَتَّى الَّتِي بَعْدَ الْمَغْرِبِ الْمَنْزِلُ لَا يَسْتَلْزِمُ مَسْنُونِيَّةَ الْفَصْلِ بِأَكْثَرَ إذْ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا صَلَّى السُّنَّةَ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ مَاذَا يَكُونُ الْأَوْلَى، وَمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ «تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ» وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ أَيْضًا «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إلَه إلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» لَا يَقْتَضِي وَصْلَ هَذِهِ الْأَذْكَارِ.
بَلْ كَوْنُهَا عَقِيبَ السُّنَّةِ مِنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالِ بِمَا لَيْسَ هُوَ مِنْ تَوَابِعِ الصَّلَاةِ يُصَحِّحُ كَوْنَهُ دُبُرَهَا وَكَوْنَهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا كَانَ يُصَلِّي السُّنَنَ فِي الْمَنْزِلِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، فَبِالضَّرُورَةِ يَكُونُ قَوْلُهُ لَهَا قَبْلَهَا غَيْرُ لَازِمٍ، بَلْ يَجُوزُ كَوْنُهَا بَعْدَهَا فِي الْمَنْزِلِ، وَلَا يُمْتَنَعُ نَقْلُهُ فَكَثِيرًا مَا نَقَلُوا مِمَّا كَانَ مِنْ عَمَلِهِ فِي الْبَيْتِ إمَّا بِوَاسِطَةِ نِسَائِهِ أَوْ بِسَمَاعِهِمْ صَوْتَهُ، وَكَانَتْ حُجْرَةً صلى الله عليه وسلم صَغِيرَةً قَرِيبَةً جِدًّا، أَوْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَهَا حَالَ قِيَامِهِ مُنْصَرِفًا إلَى مَنْزِلِهِ أَوْ جَالِسًا بَعْدَ صَلَاةٍ لَا سُنَّةَ بَعْدَهَا كَالْفَجْرِ وَالْعَصْرِ.
وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كُنْتُ أَعْلَمُ إذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إذَا سَمِعْتُهُ وَفِي لَفْظٍ: مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا بِالتَّكْبِيرِ» ، مَعَ مَا عُلِمَ مِمَّا سَنُثْبِتُهُ بِالصِّحَاحِ مِنْ الْأَخْبَارِ مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا كَانَ يُصَلِّي السُّنَنَ فِي الْمَنْزِلِ، بَلْ وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ يُصَلِّيهَا فِي الْمَسْجِدِ عَلَى مَا فِي أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَتَى مَسْجِدَ عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَصَلَّى فِيهِ الْمَغْرِبَ، فَلَمَّا قَضَوْا صَلَاتَهُمْ رَآهُمْ يُسَبِّحُونَ: أَيْ يَتَنَفَّلُونَ، فَقَالَ: هَذِهِ صَلَاةُ الْبُيُوتِ» لَا يَسْتَلْزِمُ الْفَصْلَ بِأَكْثَرَ، وَمَا الْمَانِعُ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ الذِّكْرِ هُوَ ذَلِكَ الْقَدْرُ يَرْفَعُونَ بِهِ أَصْوَاتَهُمْ إذَا فَرَغُوا.
وَأَمَّا التَّكْبِيرُ الْمَرْوِيُّ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، قِيلَ لَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ قَالَهُ إلَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْبُعُوثِ وَالْعَسَاكِرِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ ثَلَاثُ تَكْبِيرَاتٍ عَالِيَةٍ؛ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم الْفَصْلُ بِالْأَذْكَارِ الَّتِي يُوَاظَبُ عَلَيْهَا فِي الْمَسَاجِدِ فِي عَصْرِنَا مِنْ قِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَالتَّسْبِيحَاتِ وَأَخَوَاتِهَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَغَيْرِهَا بَلْ نَدَبَ هُوَ إلَيْهَا، وَالْقَدْرُ الْمُتَحَقِّقُ أَنَّ كُلًّا مِنْ السُّنَنِ وَالْأَوْرَادِ لَهُ نِسْبَةٌ إلَى الْفَرَائِضِ بِالتَّبَعِيَّةِ، وَاَلَّذِي ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُؤَخِّرُ السُّنَّةَ عَنْهُ مِنْ الْأَذْكَارِ، وَهُوَ مَا رَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكَتْ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» فَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي الْمُرَادِ، وَمَا يَتَخَايَلُ أَنَّهُ يُخَالِفُهُ لَمْ يَقْوَ قُوَّتَهُ، أَوْ لَمْ تَلْزَمْ دَلَالَتُهُ عَلَى مَا يُخَالِفُهُ فَوَجَبَ اتِّبَاعُ هَذَا النَّصِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْهَا هَذَا هُوَ قَوْلُهَا لَمْ يَقْعُدْ إلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ سُنِّيَّةَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ إذْ لَمْ تَقُلْ إلَّا حَتَّى يَقُولَ أَوْ إلَى أَنْ يَقُولَ، فَيَجُوزُ كَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَرَّةً يَقُولُهُ وَمَرَّةً يَقُولُ غَيْرَهُ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ إلَخْ، وَمَا ضُمَّ إلَيْهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْله لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ إلَخْ، وَمُقْتَضَى الْعِبَارَةِ حِينَئِذٍ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَفْصِلَ بِذَكَرٍ قَدْرِ ذَلِكَ وَذَلِكَ يَكُونُ تَقْرِيبًا، فَقَدْ يَزِيدُ قَلِيلًا وَقَدْ يَنْقُصُ قَلِيلًا، وَقَدْ يُدْرِجُ وَقَدْ يُرَتِّلُ فَأَمَّا مَا يَكُونُ زِيَادَةً غَيْرَ مُقَارِبَةٍ مِثْلَ الْعَدَدِ السَّابِقِ مِنْ التَّسْبِيحَاتِ
(السُّنَّةُ رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ)
(وَأَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَانِ، وَأَرْبَعٌ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَإِنْ شَاءَ رَكْعَتَيْنِ وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَأَرْبَعٌ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَأَرْبَعٌ بَعْدَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَكْعَتَيْنِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ ثَابَرَ عَلَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» وَفَسَّرَ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ،
وَالتَّحْمِيدَاتِ وَالتَّكْبِيرَاتِ فَيَنْبَغِي اسْتِنَانُ تَأْخِيرِهِ عَنْ السُّنَّةِ أَلْبَتَّةَ، وَكَذَا آيَةُ الْكُرْسِيِّ، عَلَى أَنَّ ثُبُوتَ ذَلِكَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مُوَاظَبَةً لَا أَعْلَمُهُ، بَلْ الثَّابِتُ نَدْبُهُ إلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ نَدْبِهِ إلَى شَيْءٍ مُوَاظَبَتُهُ عَلَيْهِ وَإِلَّا لَمْ يُفَرَّقْ حِينَئِذٍ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْمَنْدُوبِ، وَكَانَ يُسْتَدَلُّ بِدَلِيلِ النَّدْبِ عَلَى السُّنِّيَّةِ وَلَيْسَ هَذَا عَلَى أُصُولِنَا.
وَقَوْلُ الْحَلْوَانِيِّ عِنْدِي أَنَّهُ حُكْمٌ آخَرُ لَا يُعَارِضُ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ لَا بَأْسَ إلَخْ، وَالْمَشْهُورُ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ كَوْنُهُ لِمَا خِلَافُهُ أَوْلَى فَكَانَ مَعْنَاهَا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَقْرَأَ الْأَوْرَادَ قَبْلَ السُّنَّةِ، وَلَوْ فَعَلَ لَا بَأْسَ بِهِ فَأَفَادَ عَدَمَ سُقُوطِ السُّنَّةِ بِذَلِكَ حَتَّى إذَا صَلَّى بَعْدَ الْأَوْرَادِ يَقَعُ سُنَّةً مُؤَدَّاةً لَا عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ، وَإِذَا قَالُوا لَوْ تَكَلَّمَ بَعْدَ الْفَرْضِ لَا تَسْقُطُ السُّنَّةُ لَكِنَّ ثَوَابَهَا أَقَلُّ فَلَا أَقَلَّ مِنْ كَوْنِ قِرَاءَةِ الْأَوْرَادِ لَا تُسْقِطُهَا، وَقَدْ قِيلَ فِي الْكَلَامِ أَنَّهُ يُسْقِطُهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَفِي الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي وَإِلَّا اضْطَجَعَ حَتَّى يُؤَذَّنَ بِالصَّلَاةِ» وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي عَنْ الْحَلْوَانِيِّ يُوَافِقُهُ مَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُقْتَدِي وَالْمُنْفَرِدِ، وَذَكَرَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ خِلَافَهُ، وَعِبَارَتُهُ فِي الْخُلَاصَةِ هَكَذَا: إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ مِنْ الظُّهْرِ أَوْ الْمَغْرِبِ أَوْ الْعِشَاءِ كَرِهْت لَهُ الْمُكْثَ قَاعِدًا لَكِنَّهُ يَقُومُ إلَى التَّطَوُّعِ، وَلَا يَتَطَوَّعُ فِي مَكَانِ الْفَرِيضَةِ وَلَكِنْ يَنْحَرِفُ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً أَوْ يَتَأَخَّرُ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ يَتَطَوَّعُ وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا، أَوْ يُصَلِّي وَحْدَهُ إنْ لَبِثَ فِي مُصَلَّاهُ يَدْعُو جَازَ.
وَكَذَا إنْ قَامَ إلَى التَّطَوُّعِ فِي مَكَانِهِ أَوْ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ أَوْ انْحَرَفَ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً جَازَ وَالْكُلُّ سَوَاءٌ، وَفِي الصَّلَاةِ الَّتِي لَا يَتَطَوَّعُ بَعْدَهَا يُكْرَهُ الْمُكْثُ فِي مَكَانِهِ قَاعِدًا مُسْتَقْبِلًا، ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ذَهَبَ وَإِنْ شَاءَ جَلَسَ فِي مِحْرَابِهِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَهُوَ أَفْضَلُ، وَيَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِحِذَائِهِ مَسْبُوقٌ، فَإِنْ كَانَ يَنْحَرِفُ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً وَالصَّيْفُ وَالشِّتَاءُ سَوَاءٌ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، هَذَا حَالُ الْإِمَامِ.
وَقَوْلُهُ الْكُلُّ سَوَاءٌ: يَعْنِي فِي إقَامَةِ السُّنَّةِ أَمَّا الْأَفْضَلُ فَقَدْ صَرَّحَ فِيمَا يَأْتِي بِأَنَّ الْمَنْزِلَ أَفْضَلُ (قَوْلُهُ السُّنَّةُ) يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا دَعَا إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ السُّنَّةِ وَالْمَنْدُوبِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ عَدَّ مِنْهَا مَا قَبْلَ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ، وَذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ لَا سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ
(قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ) أَيْ فِي اسْتِنَانِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم إلَخْ.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَطَاءِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ ثَابَرَ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْ السُّنَّةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ» فَاتَّضَحَ أَنَّ ضَمِيرَ فَسَّرَ الْمَرْفُوعُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَفِي شُذُوذٍ مِنْ النُّسَخِ وَفَسَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُغِيرَةُ بْنُ زِيَادٍ تَكَلَّمَ فِيهِ
غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْأَرْبَعَ قَبْلَ الْعَصْرِ فَلِهَذَا سَمَّاهُ فِي الْأَصْلِ حَسَنًا وَخَيَّرَ لِاخْتِلَافِ الْآثَارِ، وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْأَرْبَعُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَرْبَعَ قَبْلَ الْعِشَاءِ فَلِهَذَا كَانَ مُسْتَحَبًّا لِعَدَمِ الْمُوَاظَبَةِ، وَذَكَرَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَفِي غَيْرِهِ ذَكَرَ الْأَرْبَعَ فَلِهَذَا خُيِّرَ،
بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ انْتَهَى.
لَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ أَصْلُ الْحَدِيثِ، رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهَا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ إلَّا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» زَادَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ «أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ» وَلِلنَّسَائِيِّ فِي رِوَايَةِ «وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ» بَدَلَ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ (قَوْلُهُ وَخَيَّرَ) أَيْ خَيَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَكَذَا الْقُدُورِيُّ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا قَبْلَ الْعَصْرِ أَوْ رَكْعَتَيْنِ (قَوْلُهُ لِاخْتِلَافِ الْآثَارِ) فَإِنَّهُ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ فَقَالَا أَرْبَعًا بَدَلَ رَكْعَتَيْنِ (قَوْلُهُ وَفِي غَيْرِهِ) أَيْ فِي غَيْرِ حَدِيثِ الْمُثَابَرَةِ ذِكْرُ الْأَرْبَعِ، هُوَ مَا عُزِيَ إلَى سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ صَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا كَانَ كَأَنَّمَا تَهَجَّدَ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَمَنْ صَلَّاهُنَّ بَعْدَ الْعِشَاءِ كَانَ كَمِثْلِهِنَّ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ مِنْ قَوْلِ كَعْبٍ، وَالْمَوْقُوفُ فِي هَذَا كَالْمَرْفُوعِ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ تَقْدِيرِ الْأَثْوِبَةِ وَهُوَ لَا يُدْرَكُ إلَّا سَمَاعًا.
هَذَا وَمَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ حَدِيثِ الْمُثَابَرَةِ إنَّمَا يَصْلُحُ دَلِيلُ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ لَا السُّنَّةِ لِمَا عَرَفْت أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِنَقْلِ مُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا، فَالْأَوْلَى الِاسْتِدْلَال بِمَجْمُوعِ حَدِيثَيْنِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ» وَحَدِيثِ عَائِشَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ» بِنَاءً عَلَى
إلَّا أَنَّ الْأَرْبَعَ أَفْضَلُ خُصُوصًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَالْأَرْبَعُ قَبْلَ الظُّهْرِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ
الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، إمَّا بِأَنَّ الْأَرْبَعَ كَانَ يُصَلِّيهَا فِي بَيْتِهِ فَاتَّفَقَ عَدَمُ عِلْمِ ابْنِ عُمَرَ بِهِنَّ، وَإِنْ عَلِمَ غَيْرَهَا مِمَّا صَلَّى فِي بَيْتِهِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْكُلَّ فِي الْبَيْتِ، ثُمَّ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَاهُمَا.
وَإِمَّا بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ إنَّمَا يَذْكُرُ سُنَّةَ الظُّهْرِ وَهُوَ كَانَ يَرَى تِلْكَ وِرْدًا آخَرَ سَبَبُهُ الزَّوَالُ وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْحَلْوَانِيُّ فِيمَا قَدَّمْنَا أَخْذًا مِنْ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ وَقَالَ إنَّهَا سَاعَةٌ تُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِي فِيهَا عَمَلٌ صَالِحٌ» وَعِنْدَنَا هَذَا اللَّفْظُ لَا يَنْفِي كَوْنَهَا هِيَ السُّنَّةُ، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِعَيْنِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ الْجُمُعَةِ كَالظُّهْرِ لِعَدَمِ الْفَصْلِ فِيهِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ أَوْ بِكُلٍّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ وَهُوَ «كَانَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ» وَأَصْرَحُ مِنْ الْكُلِّ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ «كَانَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ» .
فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْمُوَاظَبَةَ، ثُمَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ كَوْنُ الْأَرْبَعِ بَعْدَ الْعِشَاءِ سُنَّةً لِنَقْلِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا فِي أَبِي دَاوُد عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ قَالَ:«سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ مَا صَلَّى الْعِشَاءَ قَطُّ فَدَخَلَ بَيْتِي إلَّا صَلَّى فِيهِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَوْ سِتَّ رَكَعَاتٍ، وَلَقَدْ مُطِرْنَا مَرَّةً مِنْ اللَّيْلِ فَطَرَحْنَا لَهُ نِطْعًا فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى ثُقْبٍ فِيهِ يَنْبُعُ مِنْهُ الْمَاءُ وَمَا رَأَيْتُهُ مُتَّقِيًا الْأَرْضَ بِشَيْءٍ مِنْ ثِيَابِهِ» وَهَذَا نَصٌّ فِي مُوَاظَبَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَرْبَعِ دُونَ السِّتِّ لِلْمُتَأَمِّلِ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ الْأَرْبَعَ أَفْضَلُ) نَشْرَحُهُ فِي ضِمْنِ كَلَامِنَا عَلَى الْأَرْبَعِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَنَقُولُ: صَرَّحَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَرْبَعٌ بَعْدَ الظُّهْرِ لِحَدِيثٍ رَوَوْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ صَلَّى أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ»
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ فِي أَنَّهَا تُعْتَبَرُ غَيْرَ رَكْعَتَيْ الرَّاتِبَةِ أَوْ بِهِمَا وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي هَلْ تُؤَدَّى مَعَهُمَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ لَا؟ فَقَالَ جَمَاعَةٌ لَا لِأَنَّهُ إنْ نَوَى عِنْدَ التَّحْرِيمَةِ السُّنَّةَ لَمْ يَصْدُقْ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، أَوْ الْمُسْتَحَبَّ لَمْ يَصْدُقْ فِي السُّنَّةِ، وَإِذَا قَالُوا: إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ فِي التَّهَجُّدِ نَابَتْ تِلْكَ الرَّكْعَتَانِ عَنْ سُنَّةِ الْفَجْرِ لِأَنَّ نِيَّةَ الصَّلَاةِ نِيَّةُ الْأَعَمِّ، وَالْأَعَمُّ يَصْدُقُ عَلَى الْأَخَصِّ، بِخِلَافِ الْمُبَايِنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُبَايِنِهِ، وَوَقَعَ عِنْدِي أَنَّهُ إذَا صَلَّى أَرْبَعًا بَعْدَ الظُّهْرِ بِتَسْلِيمَةٍ أَوْ ثِنْتَيْنِ وَقَعَ عَنْ السُّنَّةِ وَالْمَنْدُوبِ سَوَاءٌ احْتَسَبَ هُوَ الرَّاتِبَةَ مِنْهَا أَوْ لَا، لِأَنَّ الْمُفَادَ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ إذَا أَوْقَعَ بَعْدَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا مُطْلَقًا حَصَلَ الْوَعْدُ الْمَذْكُورُ، وَذَلِكَ صَادِقٌ مَعَ كَوْنِ الرَّاتِبَةِ مِنْهَا، وَكَوْنِهَا بِتَسْلِيمَةٍ أَوَّلًا فِيهِمَا وَكَوْنِ الرَّكْعَتَيْنِ لَيْسَتَا بِتَسْلِيمَةٍ عَلَى حِدَةٍ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِهَا سُنَّةً، وَإِنْ كَانَ عَدَمُ كَوْنِهَا بِتَحْرِيمَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ يُمْنَعُ مِنْهُ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ كَمَا عُرِفَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ مِنْ الْهِدَايَةِ فِيمَنْ قَامَ عَنْ الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ يَظُنُّهَا الْأُولَى، ثُمَّ لَمْ يَعُدْ حَتَّى سَجَدَ فَإِنَّهُ يُتِمُّ سِتًّا، وَلَا تَنُوبُ الرَّكْعَتَانِ عَنْ سُنَّةِ الظُّهْرِ عَلَى خِلَافٍ لِأَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَيْهِمَا بِتَحْرِيمَةٍ مُبْتَدَأَةٍ لِثُبُوتِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُحَلِّلِ وَالتَّحْرِيمَةِ، فَإِنَّ الْمُحَلِّلَ غَيْرُ مَقْصُودٍ إلَّا لِلْخُرُوجِ عَنْ الْعِبَادَةِ عَلَى وَجْهٍ حَسَنٍ.
وَقَدْ مُنِعَ فِي الْهِدَايَةِ فِي بَابِ الْقِرَانِ تَرْجِيحُ الشَّافِعِيِّ الْإِفْرَادَ بِزِيَادَةِ الْحَلْقِ بِأَنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ الْعِبَادَةِ فَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ.
وَأَمَّا النِّيَّةُ فَلَا مَانِعَ مِنْ جِهَتِهَا سَوَاءٌ نَوَى أَرْبَعًا لِلَّهِ
عِنْدَنَا، كَذَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ
تَعَالَى فَقَطْ أَوْ نَوَى الْمَنْدُوبَ بِالْأَرْبَعِ أَوْ السُّنَّةَ بِهَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا تَقَدَّمَ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ مِنْ أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالْمُحَقِّقِينَ وُقُوعُ السُّنَّةِ بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ لِمَا حَقَّقْنَاهُ مِنْ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ سُنَّةً كَوْنُهُ مَفْعُولًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُوَاظَبَةِ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ، وَهَذَا الِاسْمُ: أَعْنِي اسْمَ السُّنَّةِ حَادِثٌ مِنَّا، أَمَّا هُوَ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّمَا كَانَ يَنْوِي الصَّلَاةَ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَطْ لَا السُّنَّةَ، فَلَمَّا وَاظَبَ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْفِعْلِ لِذَلِكَ سَمَّيْنَاهُ سُنَّةً، فَمَنْ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي وَقْتِهِ فَقَدْ فَعَلَ مَا سُمِّيَ بِلَفْظِ السُّنَّةِ، وَحِينَئِذٍ تَقَعُ الْأُولَيَانِ سُنَّةً لِوُجُودِ تَمَامِ عِلَّتِهَا وَالْأُخْرَيَانِ نَفْلًا مَنْدُوبًا، فَلِهَذَا الْقِسْمُ مِنْ النِّيَّةِ مَا يَحْصُلُ بِهِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ، وَالْعَجَبُ مِنْهُ كَيْفَ تَرَكَهُ مِنْ تَقْسِيمِهِ.
وَإِذَا اعْتَرَفَ بِأَنَّ نِيَّةَ الصَّلَاةِ الْأَعَمُّ تَتَأَدَّى بِهَا السُّنَّةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الشَّاهِدِ الَّذِي أَوْرَدَهُ مِنْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يَنْوِيَ هُنَا أَيْضًا الصَّلَاةَ وَبِهَا يَتَأَدَّى السُّنَّةُ وَالْمَنْدُوبُ.
وَأَمَّا الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَكَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ نِيَّةُ الصَّلَاةِ وَزِيَادَةٌ فَعِنْدَ عَدَمِ مُطَابِقَةِ الْوَصْفِ لِلْوَاقِعِ يَلْغُو فَتَبْقَى نِيَّةُ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ عَلَى نَحْوِ مَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ بُطْلَانَ الْوَصْفِ لَا يُبْطِلُ الْأَصْلَ، وَبِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ يَتَأَدَّى كُلٌّ مِنْ السُّنَّةِ وَالْمَنْدُوبِ إذَا وَقَعَ فِي وَقْتِهِ فَظَهَرَ أَنَّ صِحَّتَهُ لَيْسَتْ بِنَاءً عَلَى أَدَاءِ الْبَائِنِ بِنِيَّةٍ مُبَايِنَةٍ بَلْ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ لِلَّغْوِ الزَّائِدِ الْمُخَالِفِ، وَمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ مِنْ حَدِيثِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ بِنِيَّةِ التَّهَجُّدِ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ مَقْصُودِهِ لِأَنَّ التَّهَجُّدَ مَنْدُوبٌ كَمَا يَشْهَدُ كَثِيرٌ مِنْ السُّنَّةِ بِنَدْبِ الْأُمَّةِ إلَيْهِ.
وَقَدْ تُؤَدَّى بِهِ سُنَّةُ الْفَجْرِ عَلَى إطْلَاقِ الْجَوَابِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ نَوَى مُجَرَّدَ الصَّلَاةِ أَوْ الْمَنْدُوبَةَ، وَإِنَّمَا لَمْ نَقُلْ أَنَّهُ سُنَّةٌ لِأَنَّهَا مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ افْتِرَاضٍ، وَالتَّهَجُّدُ عِنْدَ مَشَايِخِنَا كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ فَهُوَ مُوَاظَبَةٌ عَلَى فَرْضٍ.
ثُمَّ رَأَيْنَا فِي لَفْظِ الْهِدَايَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا وَهُوَ: قَوْلَةُ فَلِهَذَا خَيَّرَ، إلَّا أَنَّ الْأَرْبَعَ أَفْضَلُ خُصُوصًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَرْبَعَ بَعْدَ الْعِشَاءِ أَفْضَلُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، خُصُوصًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي النَّوَافِلِ مُطْلَقًا أَرْبَعٌ أَرْبَعٌ بِتَسْلِيمَةٍ، فَإِذَا جَعَلَ الْمُصَلِّي مَا بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعًا أَدَّاهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فَتَثْبُتُ الْأَفْضَلِيَّةُ عِنْدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. مِنْ جِهَةِ زِيَادَةِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَمِنْ جِهَةِ وُقُوعِ السَّلَامِ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعٍ لَا ثِنْتَيْنِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ خُصُوصًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعْنًى لِأَنَّ الْأَرْبَعَ أَفْضَلُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ كَلَامُ الْكُلِّ فِي هَذَا الْمَقَامِ يُفِيدُ مَا قُلْنَا إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الرَّاتِبَةَ بَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَانِ وَالْأَرْبَعُ أَفْضَلُ.
وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا تُؤَدَّى بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضُمَّ إلَيْهَا الرَّاتِبَةَ فَيُصَلِّيَ سِتًّا، فَالنِّيَّةُ حِينَئِذٍ عِنْدَ التَّحْرِيمَةِ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِنِيَّةِ السُّنَّةِ أَوْ الْمَنْدُوبِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ، وَقَدْ أَهْدَرَ ذَلِكَ وَأَجْزَأَتْ عَنْ السُّنَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ نُدِبَ إلَى سِتٍّ بَعْدَ الْمَغْرِبِ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ كُتِبَ مِنْ الْأَوَّابِينَ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا}» وَالْحَالُ فِيهَا كَالْحَالِ لِهَذِهِ الْأَرْبَعِ، فَلَوْ احْتَسَبَ الرَّاتِبَةَ مِنْهَا انْتَهَضَ سَبَبًا لِلْمَوْعُودِ (قَوْلُهُ كَذَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَيْسَ فِيهِنَّ تَسْلِيمٌ تُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ» وَضُعِّفَ، بِعُبَيْدَةَ بْنِ مَعْتَبٍ الضَّبِّيِّ. وَفِي لَفْظِ
قَالَ (وَنَوَافِلُ النَّهَارِ إنْ شَاءَ صَلَّى بِتَسْلِيمَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ شَاءَ أَرْبَعًا) وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ.
لِلتِّرْمِذِيِّ فِي الشَّمَائِلِ «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِيهِنَّ تَسْلِيمٌ فَاصِلٌ؟ قَالَ لَا» وَلَهُ وَطَرِيقٌ آخَرُ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي مُوَطَّئِهِ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَامِرٍ الْبَجَلِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ، فَسَأَلَهُ أَبُو أَيُّوبَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّ أَبْوَابَ السَّمَاءِ تُفْتَحُ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ فَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِي فِي تِلْكَ السَّاعَةِ خَيْرٌ، قُلْتُ: أَفِي كُلِّهِنَّ قِرَاءَةٌ؟ قَالَ نَعَمْ، قُلْتُ: أَيُفْصَلُ بَيْنَهُنَّ بِسَلَامٍ؟ قَالَ لَا» .
[تَتِمَّةٌ]
هَلْ يُنْدَبُ قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَانِ؟ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَيْهِ، وَأَنْكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَأَصْحَابِنَا وَمَالِكٍ رضي الله عنهم تَمَسَّكَ الْأَوَّلُونَ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ قَالَ صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً» وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد «صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ» زَادَ فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ «وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ» وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ «كَانَ الْمُؤَذِّنُ إذَا أَذَّنَ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ قَامَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ فَيَرْكَعُونَ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ الْغَرِيبَ لَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَحْسَبُ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ صُلِّيَتْ مِنْ كَثْرَةِ مَنْ يُصَلِّيهِمَا» الْجَوَابُ الْمُعَارَضَةُ بِمَا فِي أَبِي دَاوُد عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: «سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهِمَا. وَرَخَّصَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ» ، سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَالْمُنْذِرِيُّ بَعْدَهُ فِي مُخْتَصَرِهِ وَهَذَا تَصْحِيحٌ، وَكَوْنُ مُعَارَضِهِ فِي الْبُخَارِيِّ لَا يَسْتَلْزِمُ تَقْدِيمَهُ بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الصِّحَّةِ بَلْ يُطْلَبُ التَّرْجِيحُ مِنْ خَارِجٍ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ أَصَحَّ الْأَحَادِيثِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثُمَّ مَا انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ ثُمَّ مَا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ ثُمَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَى شَرْطِهِمَا مِنْ غَيْرِهِمَا ثُمَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَى شَرْطِ أَحَدِهِمَا تَحَكُّمٌ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ، إذْ الْأُضْحِيَّةَ لَيْسَ إلَّا لِاشْتِمَالِ رُوَاتِهِمَا عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي اعْتَبَرَاهَا، فَإِذَا فُرِضَ وُجُودُ تِلْكَ الشُّرُوطِ فِي رُوَاةِ حَدِيثٍ فِي غَيْرِ الْكِتَابَيْنِ أَفَلَا يَكُونُ الْحُكْمُ بِأَصَحِّيَّةِ مَا فِي الْكِتَابَيْنِ عَيْنَ التَّحَكُّمِ ثُمَّ حُكْمُهُمَا أَوْ أَحَدِهِمَا بِأَنَّ الرَّاوِيَ الْمُعَيَّنَ مُجْتَمَعُ تِلْكَ الشُّرُوطِ لَيْسَ مِمَّا يُقْطَعُ فِيهِ بِمُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ فَيَجُوزُ كَوْنُ الْوَاقِعِ خِلَافَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ كَثِيرٍ فِي كِتَابِهِ مِمَّنْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ غَوَائِلِ الْجَرْحِ وَكَذَا فِي الْبُخَارِيِّ جَمَاعَةٌ تُكُلِّمَ فِيهِمْ فَدَارَ الْأَمْرُ فِي الرُّوَاةِ عَلَى اجْتِهَادِ الْعُلَمَاءِ فِيهِمْ، وَكَذَا فِي الشُّرُوطِ حَتَّى أَنَّ مَنْ اعْتَبَرَ شَرْطًا أَوْ أَلْغَاهُ آخَرُ يَكُونُ مَا رَوَاهُ الْآخَرُ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ الشَّرْطُ عِنْدَهُ مُكَافِئًا لِمُعَارَضَةِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ، وَكَذَا فِيمَنْ ضَعَّفَ رَاوِيًا وَوَثَّقَهُ الْآخَرُ.
نَعَمْ تَسْكُنُ نَفْسُ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ وَمَنْ لَمْ يَخْبُرْ أَمْرَ الرَّاوِي بِنَفْسِهِ إلَى مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، أَمَّا الْمُجْتَهِدُ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْطِ وَعَدَمِهِ وَاَلَّذِي خَبِرَ الرَّاوِيَ فَلَا يَرْجِعُ إلَّا إلَى رَأْيِ نَفْسِهِ، وَإِذْ قَدْ صَحَّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَنَا عَارَضَ مَا صَحَّ فِي الْبُخَارِيِّ، ثُمَّ يَتَرَجَّحُ هُوَ بِأَنَّ عَمَلَ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَانَ عَلَى وَفْقِهِ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ حَتَّى نَهَى إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ عَنْهُمَا فِيمَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُمَا وَقَالَ:
وَأَمَّا نَافِلَةُ اللَّيْلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ صَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةِ جَازَ، وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ،
«إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَهُمَا» ، بَلْ لَوْ كَانَ حَسَنًا كَمَا ادَّعَاهُ بَعْضُهُمْ تَرَجَّحَ عَلَى ذَلِكَ الصَّحِيحُ بِهَذَا، فَإِنَّ وَصْفَ الْحَسَنِ وَالصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ السَّنَدِ ظَنًّا، أَمَّا فِي الْوَاقِعِ فَيَجُوزُ غَلَطُ الصَّحِيحِ وَصِحَّةُ الضَّعِيفِ.
وَعَنْ هَذَا جَازَ فِي الْحَسَنِ أَنْ يَرْتَفِعَ إلَى الصِّحَّةِ إذَا كَثُرَتْ طُرُقُهُ، وَالضَّعِيفُ يَصِيرُ حُجَّةً بِذَلِكَ لِأَنَّ تَعَدُّدَهُ قَرِينَةٌ عَلَى ثُبُوتِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ فِي الصَّحِيحِ السَّنَدِ أَنْ يَضْعُفَ بِالْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ضَعْفِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَالْحَسَنِ أَنْ يَرْتَفِعَ إلَى الصِّحَّةِ بِقَرِينَةٍ أُخْرَى كَمَا قُلْنَا مِنْ عَمَلِ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ عَلَى وَفْقِ مَا قُلْنَاهُ وَتَرْكِهِمْ لِمُقْتَضَى ذَلِكَ الْحَدِيثِ، وَكَذَا أَكْثَرُ السَّلَفِ، وَمِنْهُمْ مَالِكٌ نَجْمُ الْحَدِيثِ.
وَمَا زَادَهُ ابْنُ حِبَّانَ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّاهُمَا لَا يُعَارِضُ مَا أَرْسَلَهُ النَّخَعِيُّ مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّهِمَا لِجَوَازِ كَوْنِ مَا صَلَّاهُ قَضَاءً عَنْ شَيْءٍ فَاتَهُ وَهُوَ الثَّابِتُ.
رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ «سَأَلْنَا نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ رَأَيْتُنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ؟ فَقُلْنَ لَا، غَيْرَ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: صَلَّاهَا عِنْدِي مَرَّةً فَسَأَلْتُهُ مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: نَسِيتُ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ فَصَلَّيْتُهُمَا الْآنَ» فَفِي سُؤَالِهَا لَهُ صلى الله عليه وسلم وَسُؤَالِ الصَّحَابَةِ نِسَاءَهُ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُ جَابِرٍ سَأَلْنَا لَا سَأَلْت لَا يُفِيدُ أَنَّهُمَا غَيْرُ مَعْهُودَتَيْنِ مِنْ سُنَنِهِ، وَكَذَا سُؤَالُهُمْ لِابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْتَدِئْ التَّحْدِيثَ بِهِ بَلْ لَمَّا سُئِلَ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُثِيرَ سُؤَالِهِمْ ظُهُورُ الرِّوَايَةِ بِهِمَا مَعَ عَدَمِ مَعْهُودِيَّتِهِمْ فِي ذَلِكَ الصَّدْرِ، فَأَجَابَ نِسَاؤُهُ اللَّاتِي يَعْلَمْنَ مِنْ عِلْمِهِ مَا لَا يَعْلَمْهُ غَيْرُهُنَّ بِالنَّفْيِ عَنْهُ.
وَأَجَابَ ابْنُ عُمَرَ بِنَفْيِهِ عَنْ الصَّحَابَةِ أَيْضًا، وَمَا قِيلَ الْمُثْبِتُ أَوْلَى مِنْ النَّافِي فَيَتَرَجَّحُ حَدِيثُ أَنَسٍ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الْحَقَّ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ النَّفْيَ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يُعْرَفُ بِدَلِيلِهِ كَانَ كَالْإِثْبَاتِ فَيُعَارِضُهُ وَلَا يُقَدَّمُ هُوَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَقْدِيمَ رِوَايَةِ الْإِثْبَاتِ عَلَى رِوَايَةِ النَّفْيِ لَيْسَ إلَّا لِأَنَّ مَعَ رَاوِيهِ زِيَادَةَ عِلْمٍ، بِخِلَافِ النَّفْيِ إذْ قَدْ يُبْنَى رِوَايَةِ الْأَمْرِ عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ مِنْ الْعَدَمِ لِمَا يُعْلَمُ بَاطِنًا، فَإِذَا كَانَ النَّفْيُ مِنْ جِنْسِ مَا يُعْرَفُ تَعَارُضًا لِابْتِنَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا حِينَئِذٍ عَلَى الدَّلِيلِ وَإِلَّا فَنَفْسُ كَوْنِ مَفْهُومِ الْمَرْوِيِّ مُثْبَتًا لَا يَقْتَضِي التَّقْدِيمَ، إذْ قَدْ يَكُونُ الْمَطْلُوبُ فِي الشَّرْعِ الْعَدَمَ كَمَا قَدْ يَكُونُ الْمَطْلُوبُ فِي الشَّرْعِ الْإِثْبَاتَ، وَتَمَامُ تَحْقِيقِهِ فِي أُصُولِ أَصْحَابِنَا، وَحِينَئِذٍ لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا النَّفْيَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَالُ عَلَى مَا فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ لَمْ يَخْفَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ بَلْ وَلَا عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ يُوَاظِبُ الْفَرَائِضَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَلْ وَلَا عَلَى مَنْ لَمْ يُوَاظِبْ بَلْ يَحْضُرُهَا خَلْفَهُ أَحْيَانًا، ثُمَّ الثَّابِتُ بَعْدَ هَذَا هُوَ نَفْيُ الْمَنْدُوبِيَّةِ، أَمَّا ثُبُوتُ الْكَرَاهَةِ فَلَا إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ آخَرُ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ اسْتِلْزَامِ تَأْخِيرِ الْمَغْرِبِ فَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ الْقَنِيَّةِ اسْتِثْنَاءَ الْقَلِيلِ وَالرَّكْعَتَانِ لَا تَزِيدُ عَلَى الْقَلِيلِ إذَا تَجَوَّزَ فِيهِمَا
(قَوْلُهُ وَأَمَّا نَافِلَةُ اللَّيْلِ إلَخْ) لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي إبَاحَةِ الثَّمَانِ بِتَسْلِيمَةٍ لَيْلًا وَكَرَاهَةِ الزِّيَادَةِ
وَقَالَا: لَا يَزِيدُ فِي اللَّيْلِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ بِتَسْلِيمَةٍ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَمْ يَذْكُرْ الثَّمَانِيَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَدَلِيلُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْلَا الْكَرَاهَةُ لَزَادَ تَعْلِيمًا لِلْجَوَازِ، وَالْأَفْضَلُ فِي اللَّيْلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
عَلَيْهَا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّمَانِ أَيْضًا، وَهُوَ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِقَوْلِ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ بَلْ تَصْحِيحٌ لِلْوَاقِعِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ. وَقَوْلُهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ صَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ، وَقَالَا لَا يَزِيدُ بِاللَّيْلِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ بِتَسْلِيمَةٍ يُعْطِي ظَاهِرُهُ أَنَّهُ نَصَبَ خِلَافٌ مِنْهُمْ فِي كَرَاهَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُرَادُ وَقَالَا لَا يَزِيدُ بِاللَّيْلِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْأَفْضَلِيَّةِ لَكِنَّ الْعِبَارَةَ تَنْبُو عَنْهُ (قَوْلُهُ وَدَلِيلُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ إلَخْ) يَعْنِي وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ التَّوْقِيفُ، قِيلَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَا يُخَالِفُهُ وَهُوَ مَا عَنْ عَائِشَةَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ قَالَتْ «كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ فَيَتَسَوَّكُ وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ لَا يَجْلِسُ فِيهِنَّ إلَّا فِي الثَّامِنَةِ، فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ فَيُصَلِّي التَّاسِعَةَ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَاهُ» فَبِهَذَا يَتَرَجَّحُ مَا صَحَّحَهُ السَّرَخْسِيُّ، لَكِنَّهُ يَقْتَضِي عَدَمَ الْقُعُودِ فِيهَا أَصْلًا إلَّا بَعْدَ الثَّامِنَةِ، وَكَلِمَتُهُمْ عَلَى وُجُوبِ الْقَعْدَةِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ النَّفْلِ مُطْلَقًا حَتَّى لَوْ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ سَاهِيًا عَنْ الْقَعْدَةِ يَعُودُ وَلَوْ بَعْدَ تَمَامِ الْقِيَامِ مَا لَمْ يَسْجُدْ لِدَلِيلٍ آخَرَ اسْتَمَرَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ مُنْتَهَى تَهَجُّدِهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِ رَكَعَاتٍ وَأَقَلَّهُ رَكْعَتَانِ، فَإِنَّهُ قَالَ: رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ خَمْسَ رَكَعَاتٍ سَبْعَ رَكَعَاتٍ تِسْعَ رَكَعَاتٍ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَاَلَّذِي قَالَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ صَلَاةُ اللَّيْلِ وَثَلَاثٌ وَتْرٌ، وَاَلَّذِي قَالَ سَبْعَ رَكَعَاتٍ أَرْبَعٌ صَلَاةُ اللَّيْلِ وَثَلَاثٌ وَتْرٌ، وَاَلَّذِي قَالَ تِسْعٌ سِتٌّ وَثَلَاثٌ.
وَاَلَّذِي قَالَ إحْدَى عَشْرَةَ ثَمَانٌ وَثَلَاثٌ، وَاَلَّذِي قَالَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ ثَمَانٌ صَلَاةُ اللَّيْلِ وَثَلَاثٌ وَتْرٌ وَرَكْعَتَانِ سُنَّةُ الْفَجْرِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ فَصَّلَهُ، هَكَذَا قَالَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ انْتَهَى.
أَمَّا مَا عَيَّنَهُ مِنْ مُنْتَهَاهُ فَمُوَافِقٌ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ قَالَتْ «كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ رَكَعَاتٍ وَيُوتِرُ بِسَجْدَةٍ وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ» فَتِلْكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ.
وَأَمَّا مَا فِي السُّنَّةِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ قَالَ: وَقُلْتُ لَأَنْظُرَنَّ إلَى صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَطَرَحْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وِسَادَةً فَاضَّجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي طُولِهَا، فَنَامَ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ آيَاتٍ الْخَوَاتِيمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ثُمَّ قَامَ إلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا وَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُمْتُ فَصَنَعْت مِثْلَ مَا صَنَعَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَ الْمُؤَذِّنُ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ وَفِي رِوَايَةٍ فَتَأَمَّلْتُ صَلَاتَهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ،
رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَثْنَى مَثْنَى، وَفِي النَّهَارِ أَرْبَعٌ أَرْبَعٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِيهِمَا مَثْنَى مَثْنَى، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِمَا
وَكَانَ صلى الله عليه وسلم إذَا نَامَ نَفَخَ فَأَتَاهُ بِلَالٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ فَقَامَ فَصَلَّى فَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَعَنْ يَمِينِي نُورًا وَعَنْ يَسَارِي نُورًا وَفَوْقِي نُورًا وَتَحْتِي نُورًا وَأَمَامِي نُورًا وَخَلْفِي نُورًا وَاجْعَلْ لِي نُورًا وَفِي رِوَايَةٍ وَأَعْظِمْ لِي نُورًا بَدَلَ وَاجْعَلْ لِي»، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي كَوْنِ الثَّلَاثَ عَشْرَةَ غَيْرَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ كَوْنَ الْإِيتَارِ بِوَاحِدَةٍ مَضْمُومَةٍ إلَى الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ.
وَمَا فِي أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ «سَأَلْتُ عَائِشَةَ بِكَمْ كَانَ يُوتِرُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَ يُوتِرُ بِأَرْبَعٍ وَثَلَاثٍ وَسِتٍّ وَثَلَاثٍ وَثَمَانٍ وَثَلَاثٍ وَعَشْرٍ وَثَلَاثٍ وَلَمْ يَكُنْ يُوتِرُ بِأَنْقَصَ مِنْ سَبْعٍ وَلَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ» فَرِوَايَةُ عَائِشَةَ الْأُولَى تَتَرَجَّحُ عَلَيْهِمَا تَرْجِيحًا لِلرِّوَايَةِ الثَّابِتَةِ عَنْهَا فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَلَى الثَّابِتَةِ عَنْهَا فِي أَبِي دَاوُد بِمُفْرَدِهِ وَعَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهَا أَعْلَمُ بِتَهَجُّدِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ وَمِنْ جَمِيعِ النَّاسِ، وَغَايَةُ مَا حَكَاهُ هُوَ مَا شَاهَدَهُ فِي لَيْلَةٍ فَاذَّةٍ، وَهِيَ أَعْلَمُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ فِي عُمُومِ لَيَالِيِهِ إلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى، مَعَ أَنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ الشَّعْبِيُّ:«سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا ثَمَانٌ وَيُوتِرُ بِثَلَاثٍ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْفَجْرِ» ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَكَأَنَّهُ حَكَى فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ مَا شَاهَدَهُ، ثُمَّ عَلِمَ بِوَاسِطَةِ أَزْوَاجِهِ مَا اسْتَقَرَّ حَالُهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا سَأَلَهُ الشَّعْبِيُّ عَنْ صَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم أَجَابَ بِمَا عَلِمَهُ مُتَقَرِّرًا.
وَمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ «كَانَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُصَلِّي إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ» قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ هَكَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَبَقِيَّةُ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَنَّ الْجُمْلَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ انْتَهَى. فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ غَلَطٌ.
وَأَمَّا مَا عَيَّنَهُ فِي أَقَلِّهِ فَحَدِيثُ أَبِي دَاوُد الْمَذْكُورُ آنِفًا يُعَارِضُهُ حَيْثُ قَالَتْ «وَلَمْ يَكُنْ يُوتِرُ بِأَقَلَّ مِنْ سَبْعٍ» وَمَا ذَكَرَهُ نَقَلَهُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، فَإِنَّ مَا عِنْدَهُ أَرْجَحُ، وَإِلَّا فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ.
ثُمَّ ظَاهِرُ مَا فِي أَبِي دَاوُد أَنَّ كُلًّا مِنْ السَّبْعِ وَمَا بَعْدَهُ إذَا أَتَى بِهِ يَقَعُ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ أَوْ الْمَنْدُوبِ الْمُوَافِقِ لِطَرِيقَتِهِ صلى الله عليه وسلم، لَكِنْ تَبَيَّنَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ تَوَقُّفُ كَوْنِ الْمُتَهَجِّدِ آتِيًا بِالسُّنَّةِ عَلَى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَلَمَّا كَبِرَ وَضَعُفَ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ» فَهَذَا يَقْتَضِي تَوَقُّفَهَا عَلَى عَشْرٍ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُرَجَّحُ يَقْتَضِي تَوَقُّفَهَا عَلَى ثَمَانٍ فَهُوَ الْمُعْتَبَرُ، إلَّا أَنَّ اقْتِضَاءَهُ تَوَقُّفَ فِعْلِ السُّنَّةِ عَلَى الثَّمَانِ لِمَنْ لَمْ يُسِنَّ، أَمَّا مَنْ كَبِرَ وَأَسَنَّ فَمُقْتَضَى الْآخَرِ حُصُولُ سُنَّةِ الْقِيَامِ لَهُ بِأَرْبَعٍ.
بَقِيَ بِأَنَّ صِفَةَ صَلَاةِ اللَّيْلِ فِي حَقِّنَا السُّنِّيَّةُ أَوْ الِاسْتِحْبَابُ يَتَوَقَّفُ عَلَى صِفَتِهَا فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا فِي حَقِّهِ فَهِيَ مَنْدُوبَةٌ فِي حَقِّنَا، لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الْقَوْلِيَّةَ فِيهَا إنَّمَا تُفِيدُ النَّدْبَ، وَالْمُوَاظَبَةُ الْفِعْلِيَّةُ لَيْسَتْ عَلَى تَطَوُّعٍ لِتَكُونَ سُنَّةً فِي حَقِّنَا وَإِنْ كَانَتْ تَطَوُّعًا فَسُنَّةٌ لَنَا. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهَا فَرْضٌ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ كَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ مَشَايِخِنَا تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} الْآيَةَ
أَرْبَعٌ أَرْبَعٌ. لِلشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى» وَلَهُمَا الِاعْتِبَارُ بِالتَّرَاوِيحِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ
وَقَالَ طَائِفَةٌ: تَطَوُّعٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} وَالْأَوَّلُونَ قَالُوا: لَا مُنَافَاةَ: لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّافِلَةِ الزَّائِدَةُ: أَيْ زَائِدَةٌ عَلَى مَا فُرِضَ عَلَى غَيْرِك: أَيْ تَهَجَّدْ فَرْضًا زَائِدًا لَك عَلَى مَا فُرِضَ عَلَى غَيْرِك، وَرَبُّنَا يُعْطِي التَّقْيِيدَ بِالْمَجْرُورِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ النَّفَلُ الْمُتَعَارَفُ يَكُونُ كَذَلِكَ وَلِغَيْرِهِ، وَأُسْنِدَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنَ وَأَبِي أُمَامَةَ أَنَّ تَسْمِيَتَهَا نَافِلَةً بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم عَامِلَةً فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهَا عَامِلَةٌ فِي تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، لَكِنْ فِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ «قُلْتُ لِعَائِشَةَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ بَلَى قَالَتْ: خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنُ، قَالَ: فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ وَلَا أَسْأَلَ أَحَدًا عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَمُوتَ، ثُمَّ بَدَا لِي فَقُلْتُ: أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ أَلَسْتَ تَقْرَأُ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} قُلْت بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَوْلًا، وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشْرَ شَهْرًا فِي السَّمَاءِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ التَّخْفِيفَ وَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ» الْحَدِيثَ وَبَاقِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ، وَدَلِيلُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزِدْ مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي قَدَّمْنَا أَنَّهُ حَدِيثٌ طَوِيلٌ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ نَسَخَ وُجُوبَهُ عَنْهُ (قَوْلُهُ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى») أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
وَفِيهِ شُعْبَةُ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ شُعْبَةَ فِيهِ، فَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ وَوَقَفَهُ بَعْضُهُمْ، وَرَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ صَلَاةَ النَّهَارِ، وَكَذَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدِي خَطَأٌ، وَقَوْلُهُ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى إسْنَادُهُ جَيِّدٌ لَا يُعَارِضُ كَلَامَهُ هَذَا لِأَنَّ جَوْدَةَ السَّنَدِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْخَطَأِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى دَخَلَتْ عَلَى الثِّقَاتِ، وَلِهَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي كِتَابِهِ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ بِسَنَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إلَّا أَنَّ فِيهِ عِلَّةً يَطُولُ بِذَكَرِهَا الْكَلَامُ انْتَهَى، وَلَوْ سَلِمَ فَسَنَذْكُرُ الْجَوَابَ (قَوْلُهُ وَلَهُمَا الِاعْتِبَارُ بِالتَّرَاوِيحِ) فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْفَصْلِ فِيهَا، وَاقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ لَهُمَا لَا كَمَا فَعَلَ غَيْرُهُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ لَهُمَا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» لِأَنَّهُمَا يَحْتَاجَانِ إلَى الْجَوَابِ عَنْ مَرْوِيِّ الشَّافِعِيِّ «صَلَاةُ النَّهَارِ مَثْنَى» وَهُوَ بِعَيْنِهِ جَوَابٌ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ مَثْنَى، وَهُوَ قَوْلُهُ وَمَعْنَى مَا رَوَاهُ شَفْعًا لَا وِتْرًا فَهُوَ إطْلَاقُ اسْمِ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ دَعَا إلَى حَمْلِهِ عَلَيْهِ مُعَارَضَةُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي إثْبَاتِ كَوْنِ الْأَرْبَعِ سُنَّةً رَاتِبَةً مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها «مَا صَلَّى عليه الصلاة والسلام الْعِشَاءَ قَطُّ فَدَخَلَ عَلَيَّ إلَّا صَلَّى أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا» وَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «كَانَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِشَاءِ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ فَيَرْكَعُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ يَأْوِي إلَى فِرَاشِهِ» الْحَدِيثُ بِطُولِهِ.
وَمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذَةَ أَنَّهَا «سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَمْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَتْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَيَزِيدُ مَا شَاءَ» وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا طَيِّبُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: قَالَتْ عَمْرَةُ: «سَمِعْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِسَلَامٍ» لَكِنْ قَدْ يُقَالُ إنَّ الْأَوَّلَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْبَعَ بِتَسْلِيمَةٍ إذْ لَوْ قَصَدَتْ إفَادَةَ كَمِّيَّتِهِ فَقَطْ كَانَ صَحِيحًا مَعَ الْفَصْلِ، وَفِي التَّارِيخِ كَانَ أَبُو يُوسُفَ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَتَيْ رَكْعَةٍ لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ أَنَّهُ
رحمه الله «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعًا أَرْبَعًا» رَوَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها، وَكَانَ عليه الصلاة والسلام يُوَاظِبُ عَلَى الْأَرْبَعِ فِي الضُّحَى، وَلِأَنَّهُ أَدْوَمُ تَحْرِيمَةً فَيَكُونُ أَكْثَرَ مَشَقَّةً وَأَزْيَدَ فَضِيلَةً لِهَذَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا بِتَسْلِيمَةٍ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ بِتَسْلِيمَتَيْنِ، وَعَلَى الْقَلْبِ يَخْرُجُ وَالتَّرَاوِيحُ تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ فَيُرَاعَى فِيهَا جِهَةُ التَّيْسِيرِ، وَمَعْنَى مَا رَوَاهُ شَفْعًا لَا وِتْرًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بِسَلَامٍ وَاحِدٍ، فَالْأَوْلَى فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ «أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ؟ قَالَتْ: مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ» الْحَدِيثَ، فَهَذَا الْفَصْلُ يُفِيدُ الْمُرَادَ، وَإِلَّا لَقَالَتْ ثَمَانِيًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ.
وَقَدَّمْنَا فِي سُنَّةِ الظُّهْرِ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم إنَّهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا كَمَا كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَرِوَايَةُ بَعْضِ فِعْلِهِ: أَعْنِي فِعْلَ الْأَرْبَعِ لَا تُوجِبُ الْمُعَارَضَةَ، وَالْأَوْلَى فِي التَّقْرِيرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا مُقْتَضَى لَفْظِ الْحَدِيثِ حَصْرُ الْمُبْتَدَإِ فِي الْخَبَرِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى الْعَامِّ: أَعْنِي صَلَاةَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ وَإِلَّا لَكَانَتْ كُلُّ صَلَاةِ تَطَوُّعٍ لَا تَكُونُ إلَّا ثِنْتَيْنِ شَرْعًا، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى جَوَازِ الْأَرْبَعِ أَيْضًا وَعَلَى كَرَاهَةِ الْوَاحِدَةِ وَالثَّلَاثِ فِي غَيْرِ الْوِتْرِ، وَإِذَا انْتَفَى كَوْنُ الْمُرَادِ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُبَاحُ الِاثْنَتَيْنِ أَوْ لَا تَصِحُّ الِاثْنَتَيْنِ لَزِمَ كَوْنُ الْحُكْمِ بِالْخَبَرِ الْمَذْكُورِ: أَعْنِي مَثْنَى، أَمَّا فِي حَقِّ الْفَضِيلَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَرْبَعٍ أَوْ فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَرْدِ وَتَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا بِمُرَجِّحٍ وَفِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم وَرُدَّ عَلَى كِلَا النَّحْوَيْنِ، لَكِنَّا عَقَلْنَا زِيَادَةَ فَضِيلَةِ الْأَرْبَعِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مَشَقَّةً عَلَى النَّفْسِ بِسَبَبِ طُولِ تَقْيِيدِهَا فِي مَقَامِ الْخِدْمَةِ، وَرَأَيْنَاهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إنَّمَا أَجْرُكَ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكَ» فَحَكَمْنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ الثَّانِي: أَيْ مَثْنَى لَا وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا.
ثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ كُلَّ مَثْنًى مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَتِهَا، وَمَثْنَى مَعْدُولٍ عَنْ الْعَدَدِ الْمُكَرَّرِ وَهُوَ اثْنَانِ اثْنَانِ، فَمُؤَدَّاهُ حِينَئِذٍ اثْنَانِ اثْنَانِ صَلَاةً عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ اثْنَانِ اثْنَانِ صَلَاةً عَلَى حِدَةٍ وَهَلُمَّ جَرًّا، وَهَذَا مَعْنَى أَرْبَعُ صَلَاةٍ عَلَى حِدَةٍ أَرْبَعُ صَلَاةٍ أُخْرَى عَلَى حِدَةٍ وَهَلُمَّ جَرًّا، بِخِلَافِ مَا لَوْ لَمْ يَتَكَرَّرْ لَفْظُ مَثْنَى وَقَالَ الصَّلَاةُ مَثْنَى مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ الصَّلَاةُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وَهَلُمَّ جَرًّا، فَيُفِيدُ أَنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَسَبَبُ الْعُدُولِ عَنْ أَرْبَعٍ أَرْبَعٍ وَهُوَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا وَأَشْهَرُ مَعْنًى إلَى إفَادَتِهِ بِذَلِكَ قَصَدَ إفَادَةَ كَوْنِ الْأَرْبَعِ مَفْصُولَةً بِغَيْرِ السَّلَامِ، وَذَلِكَ حِينَئِذٍ لَيْسَ إلَّا التَّشَهُّدُ لَا مَخْلُوطَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْدَ جَعْلِ كُلِّ أَرْبَعٍ صَلَاةً عَلَى حِدَتِهَا، ثُمَّ قَالَ إنَّ تِلْكَ الْأَرْبَعَ ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْفَصْلُ بِغَيْرِ السَّلَامِ وَإِلَّا كَانَ كُلُّ صَلَاةٍ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَقَدْ كَانَ كُلُّ صَلَاةٍ أَرْبَعًا، وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ مَوْصُولًا بِمَا يَحْسُنُ فِي الِاسْتِعْمَالِ مَوْقِعُهُ تَفْسِيرًا عَلَى مَا قُلْنَا، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الصَّلَاةُ مَثْنَى مَثْنَى، تَشَهُّدٌ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ» وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَهُمَا فَظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ.
(فَصْلٌ)
فِي الْقِرَاءَةِ
(الْقِرَاءَةُ فِي الْفَرْضِ وَاجِبَةٌ فِي الرَّكْعَتَيْنِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ، وَكُلُّ رَكْعَةٍ صَلَاةٌ وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ إقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ تَيْسِيرًا.
فَصْلٌ)
الْقِرَاءَةُ فِي الْفَرْضِ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَجَعْلُهَا فِي الْأُولَيَيْنِ وَاجِبًا هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَكْعَتَانِ غَيْرُ عَيْنٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقُدُورِيُّ كَذَا فِي الْبَدَائِعِ، فَلَوْ تَرَكَهَا أَوْ قَرَأَ فِي رَكْعَةٍ فَسَدَتْ، وَلَوْ قَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ صَحَّتْ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الْكُلِّ. وَعَنْ مَالِكٍ فِي ثَلَاثٍ. وَقَالَ زُفَرُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ لَيْسَتْ إلَّا سُنَّةً لِأَنَّ مَبْنَى الصَّلَاةِ عَلَى الْأَفْعَالِ لَا الْأَقْوَالِ، وَلِذَا تَسْقُطُ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَفْعَالِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَعَلَى الْقَلْبِ لَا تَسْقُطُ وَلِلشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمَا أَعْلَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَنَّاهُ وَمَا أَخْفَى أَخْفَيْنَاهُ لَكُمْ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا يَقُولُ: لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وَهُوَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَكَانَ مُؤَدَّاهُ افْتِرَاضَهَا فِي رَكْعَةٍ، إلَّا أَنَّ الثَّانِيَةَ اُعْتُبِرَتْ شَرْعًا كَالْأُولَى، وَإِيجَابُ الْقِرَاءَةِ فِيهَا إيجَابٌ فِيهِمَا فَإِنْ قِيلَ: هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدَّلَالَةَ لَا تُشْتَرَطُ فِيهَا أَوْلَوِيَّةُ الْمَسْكُوتِ بِالْحُكْمِ كَمَا فِي لَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَأَيْضًا الثَّابِتُ بِالدَّلَالَةِ مَا يَفْهَمُهُ مِنْ النَّصِّ كُلُّ مَنْ يَفْهَمُ اللُّغَةَ وَلَيْسَ هُنَا ذَلِكَ. قُلْنَا لَا شَكَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي كَوْنِهِ دَلَالَةً لَا قِيَاسًا كَوْنُهُ يُفْهَمُ عِنْدَ فَهْمِ مَوْضُوعِ اللَّفْظِ سَوَاءٌ كَانَ أَوْلَى أَوْ لَا فَلَا عِبْرَةَ بِذَلِكَ النَّظَرِ لِمَنْ خَالَفَ، ثُمَّ نَقُولُ: مَنْ فَهِمَ اللُّغَةَ ثُمَّ عَلِمَ تَسْوِيَةَ الشَّارِعِ تَعَالَى بَيْنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا فِي الثَّانِيَةِ اسْتِدْلَالًا بِالْأُولَى لِأَنَّهُمَا يَتَشَاكَلَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ،
وَبَيْنَ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ مِنْهَا مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ ثُمَّ سَمِعَهُ يَقُولُ اقْرَأْ فِي الصَّلَاةِ تَبَادَرَ إلَيْهِ طَلَبُ الْقِرَاءَةِ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي بِمُلَاحَظَةِ تِلْكَ الْمُقَدَّمَةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي نَفْسِهِ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ وَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ» ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ «ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا» فَمَا لَا يَثْبُتُ بِهِ الْفَرْضُ لِأَنَّ الْقَطْعِيَّ لَا يَثْبُتُ بِظَنِّيٍّ، وَقَوْلُهُمْ الصَّلَاةُ مُجْمَلٌ، وَوَقَعَ الْبَيَانُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْكُلِّ جَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْإِجْمَالَ فِي مُسَمَّى الصَّلَاةِ لَا يَنْفِي عَدَمَ الْإِجْمَالِ فِيمَا يُضَافُ إلَيْهَا مِنْ الْأَرْكَانِ شَرْعًا بَيَانًا إذَا كَانَ دَلِيلُهُ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ.
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَلِمَ لَمْ يَثْبُتْ الْوُجُوبُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ كَمَا هُوَ مُحَصَّلُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْرَأْ يُكْرَهُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ إنْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ الْمُصَرَّحَ بِهَا إذَا أُطْلِقَتْ تَنْصَرِفُ إلَى الرَّكْعَتَيْنِ لِعَدَمِ شَرْعِيَّةِ الْوَاحِدَةِ وَقِلَّةِ شَرْعِيَّةِ الثَّلَاثِ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ بَقِيَ الْآخَرُ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا ذَكَرَ لَهُ وَمِنْهُ الْقِرَاءَةُ، بِخِلَافِ مَا يُفْهَمُ مِنْ الْمُوَاظَبَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ كَحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «كَانَ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» الْحَدِيثَ، فَإِنَّهُ إنَّمَا تُفْهَمُ الْمُوَاظَبَةُ فِي الْجُمْلَةِ وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ الْمَقْرُونَةِ بِالتَّرْكِ أَحْيَانًا وَغَيْرِهِ، وَلَا دَلَالَةَ لِلْأَعَمِّ عَلَى خُصُوصِيَّةِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ، وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِهَذِهِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِهِ صَارِفٌ لَهُ عَنْ الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ مَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ قَالَا: اقْرَأْ فِي الْأُولَيَيْنِ وَسَبِّحْ فِي الْأُخْرَيَيْنِ.
وَهُوَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها غَرِيبٌ، بِخِلَافِهِ عَنْ غَيْرِهَا فِي مُوَطَّأِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ الْقُرَشِيُّ عَنْ حَمَّادِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ وَمَا يُخَافِتُ فِيهِ مِنْ الْأُولَيَيْنِ وَلَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ فَاتِحَةً وَسُورَةً وَلَمْ يَقْرَأْ فِي الْأُخْرَيَيْنِ بِشَيْءٍ. وَهَذَا بَعْدَ مَا فِي الْأَوَّلِ مِنْ الِانْقِطَاعِ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ غَيْرِهِمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ، وَإِلَّا فَاخْتِلَافُهُمْ حِينَئِذٍ فِي الْوُجُوبِ لَا يَصْرِفُ دَلِيلَهُ عَنْهُ، فَالْأَحْوَطُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ.
وَأَمَّا مَا قِيلَ أَنْ لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ يُفِيدُ نَفْيَ الْكَمَالِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَهُ أَوَّلَ الْكِتَابِ فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ فَارْجِعْ إلَيْهِ، وَالْعَجَبُ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ ذَلِكَ هُنَا وَيَقُولُونَ فِي مَسْأَلَةِ مَا إذَا اسْتَخْلَفَ الْقَارِئُ أُمِّيًّا فِي الْأُخْرَيَيْنِ بَعْدَ مَا قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ مَعَ زُفَرَ حَيْثُ قَالَ بِالْجَوَازِ خِلَافًا لِلثَّلَاثَةِ وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ صَارَ مُؤَدًّى فَيَجُوزُ فَدَفَعَهُ هَؤُلَاءِ بِعَيْنِهِمْ بِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ فِي كُلِّ الرَّكَعَاتِ وَإِنْ كَانَتْ
فَأَمَّا الْأُخْرَيَانِ فَيُفَارِقَانِهِمَا فِي حَقِّ السُّقُوطِ بِالسَّفَرِ، وَصِفَةِ الْقِرَاءَةِ وَقَدْرِهَا فَلَا يَلْحَقَانِ بِهِمَا، وَالصَّلَاةُ فِيمَا رُوِيَ مَذْكُورَةٌ تَصْرِيحًا فَتَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلَةِ وَهِيَ الرَّكْعَتَانِ عُرْفًا كَمَنْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي صَلَاةً بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُصَلِّي (وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْأُخْرَيَيْنِ) مَعْنَاهُ إنْ شَاءَ سَكَتَ وَإِنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَقْرَأَ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام دَاوَمَ عَلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ السَّهْوُ بِتَرْكِهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
تُؤَدَّى فِي مَوْضِعٍ خَاصٍّ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» حَتَّى زَادَ فِي الْكَافِي أَنَّ هَذَا كَقَوْلِهِ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهَارَةٍ» إلَى آخِرِ مَا ذَكَرُوا، فَالصَّوَابُ فِي التَّقْرِيرِ مَا أَعْلَمْتُكَ
(قَوْلُهُ وَأَمَّا الْأُخْرَيَانِ) لَحْنٌ لِأَنَّ أَلِفَ أُخْرَى رَابِعَةٌ فَيَجِبُ قَلْبُهَا يَاءً مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى أَصْلِهَا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: الْأُخْرَيَانِ عَلَى الصَّوَابِ (قَوْلُهُ إنْ شَاءَ سَكَتَ) أَيْ قَدْرَ تَسْبِيحَةٍ، وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ ثَلَاثَ تَسْبِيحَاتٍ نَقَلَهُ فِي النِّهَايَةِ.
وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ: إنْ شَاءَ سَبَّحَ ثَلَاثَ تَسْبِيحَاتٍ
(وَالْقِرَاءَةُ وَاجِبَةٌ فِي جَمِيعِ رَكَعَاتِ النَّفْلِ وَفِي جَمِيعِ الْوِتْرِ) أَمَّا النَّفَلُ فَلِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْهُ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَالْقِيَامُ إلَى الثَّالِثَةِ كَتَحْرِيمَةٍ مُبْتَدَأَةٍ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ بِالتَّحْرِيمَةِ الْأُولَى إلَّا رَكْعَتَانِ فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَصْحَابِنَا رحمهم الله، وَلِهَذَا قَالُوا يُسْتَفْتَحُ فِي الثَّالِثَةِ، وَأَمَّا الْوِتْرُ فَلِلِاحْتِيَاطِ.
وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ قَدْرَهَا، وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِالْأُصُولِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ الْمَأْثُورُ لِلتَّسْبِيحِ.
(قَوْلُهُ فَلِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْهُ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ) يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّتْ مِنْ تَرْكِ الْقَعْدَةِ سَاهِيًا لَكِنَّهَا تَصِحُّ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَيَجِبُ الْعَوْدُ إلَيْهَا إذَا تَذَكَّرَ بَعْدَ الْقِيَامِ مَا لَمْ يَسْجُدْ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِيَاسَ فَسَادُهَا، وَبِهِ قَالَ زُفَرُ وَرِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا لِأَنَّ التَّطَوُّعَ شُرِعَ أَرْبَعًا أَيْضًا كَمَا شُرِعَ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا تَرَكَهَا أَمْكَنَنَا تَصْحِيحُهَا بِجَعْلِهَا صَلَاةً وَاحِدَةً فَلَا يُفْتَرَضُ حِينَئِذٍ الْقَعْدَةُ الْأُولَى لِأَنَّ افْتِرَاضَ الْقَعْدَةِ لِلْخَتْمِ، فَإِذَا لَمْ يُخْتَمْ إلَّا بَعْدَ الرَّابِعَةِ صَارَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَالْفَرْضُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَمْ تُفْتَرَضْ الْأُولَى بَلْ كَانَتْ وَاجِبَةً بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ وَهُوَ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ تَشَهُّدٌ فَتَنْجَبِرُ بِالسُّجُودِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْعَوْدُ بَعْدَ تَمَامِ الْقِيَامِ وَلَزِمَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الشَّفْعَيْنِ لِشَبَهِهَا بِالظُّهْرِ مِنْ وَجْهٍ وَمُفَارَقَتِهَا لَهُ مِنْ وَجْهٍ، فَلِلشُّبْهَةِ لَا يُؤْمَرُ بِالْعُودِ إذَا قَيَّدَهَا بِسَجْدَةٍ وَلِلْمُفَارَقَةِ يَعُودُ قَبْلَ السَّجْدَةِ كَمَا إذَا قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ مِنْ الْفَرْضِ وَهِيَ صَلَاةٌ أُخْرَى حُكْمًا فَيَقْرَأُ فِي الْكُلِّ كَمَا فِي صَلَاتَيْنِ احْتِيَاطًا، وَكَذَلِكَ فِي الْوِتْرِ لِأَنَّ فِيهِ رَوَائِحَ النَّفْلِيَّةِ فَلَزِمَ الِاحْتِيَاطُ فِي الْقِرَاءَةِ لِأَنَّهَا رُكْنٌ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ لَا كَالْقَعْدَةِ (قَوْلُهُ فِي الْمَشْهُورِ) مِنْ الرِّوَايَةِ هَذَا إذَا نَوَى أَرْبَعًا حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى التَّقْيِيدِ بِالْمَشْهُورِ، أَمَّا إذَا شَرَعَ بِمُطْلَقِ نِيَّةِ النَّفْلِ فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ (قَوْلُهُ قَالُوا يَسْتَفْتِحُ فِي الثَّالِثَةِ) وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي كُلِّ قَعْدَةٍ، وَقِيَاسُهُ أَنْ يَتَعَوَّذَ
قَالَ (وَمَنْ شَرَعَ فِي نَافِلَةٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا قَضَاهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِيهِ وَلَا لُزُومَ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ. وَلَنَا أَنَّ الْمُؤَدَّى وَقَعَ قُرْبَةً فَيَلْزَمُ الْإِتْمَامُ ضَرُورَةَ صِيَانَتِهِ عَنْ الْبُطْلَانِ
(وَإِنْ صَلَّى أَرْبَعًا وَقَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ وَقَعَدَ ثُمَّ أَفْسَدَ الْأُخْرَيَيْنِ قَضَى رَكْعَتَيْنِ) لِأَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ قَدْ تَمَّ، وَالْقِيَامُ إلَى الثَّالِثَةِ بِمَنْزِلَةِ تَحْرِيمَةٍ مُبْتَدَأَةٍ فَيَكُونُ مُلْزِمًا، هَذَا إذَا أَفْسَدَ الْأُخْرَيَيْنِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا، وَلَوْ أَفْسَدَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي
فِي كُلِّ شَفْعٍ، هَذَا وَمَا تَقَدَّمَ كُلُّهُ أَثَرُ كَوْنِ كُلِّ شَفْعٍ مُعْتَبَرًا شَرْعًا صَلَاةً عَلَى حِدَةٍ وَهُوَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ، وَيُمْكِنُ كَوْنُهُ يُمْكِنُهُ شَرْعًا مِنْ الْخُرُوجِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ، فَإِذْ قَامَ إلَى شَفْعٍ آخَرَ كَانَ بَانِيًا صَلَاةً، عَلَى تَحْرِيمَةِ صَلَاةٍ إذْ تِلْكَ التَّحْرِيمَةُ إنَّمَا لَزِمَ بِهَا رَكْعَتَانِ
(قَوْلُهُ ضَرُورَةَ صِيَانَتِهِ) أَيْ الْمُؤَدَّى يُفِيدُ أَنَّ الْمُلَاحَظَ لُزُومُهُ أَوَّلًا صِيَانَةَ الْمُؤَدَّى الْوَاقِعِ قُرْبَةً عَنْ إبْطَالِهِ لِأَنَّهُ مَوْرِدُ النَّصِّ، قَالَ تَعَالَى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ إبْطَالِهَا قَبْلَ إتْمَامِهَا بِالْإِفْسَادِ أَوْ بَعْدَهُ بِفِعْلِ مَا يُحْبِطُهُ وَنَحْوِهِ فَلِذَلِكَ لَزِمَ الْإِتْمَامُ.
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إنْ لَزِمَ الْإِتْمَامُ هَلْ يَسْتَلْزِمُ شَرْعًا الْقَضَاءُ بِتَقْدِيرِ عَدَمِهِ لَوْ قَالَ قَائِلٌ الْمُتَحَقَّقُ إنَّمَا هُوَ اسْتِلْزَامُهُ الْإِثْمَ بِتَفْوِيتِ مُقْتَضَى النَّهْيِ، أَمَّا أَنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ فَيَحْتَاجُ إلَى خُصُوصِ دَلِيلٍ؟ فَجَوَابُهُ يُفِيدُهُ الْقِيَاسُ عَلَى حَجِّ النَّفْلِ وَالْعُمْرَةِ لَمَّا لَزِمَا بِالشُّرُوعِ شَرْعًا لَزِمَ قَضَاؤُهُمَا بِتَفْوِيتِهِ، وَتَمَامُ نَصْبِ الدَّلِيلِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الصَّوْمِ.
(قَوْلُهُ وَقَعَدَ) قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْعُدْ وَأَفْسَدَ الْأُخْرَيَيْنِ وَجَبَ
لَا يَقْضِي الْأُخْرَيَيْنِ: وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقْضِي اعْتِبَارًا لِلشُّرُوعِ بِالنَّذْرِ. وَلَهُمَا أَنَّ الشُّرُوعَ يَلْزَمُ مَا شُرِعَ فِيهِ وَمَا لَا صِحَّةَ لَهُ إلَّا بِهِ، وَصِحَّةُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالثَّانِي، بِخِلَافِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَعَلَى هَذَا سُنَّةُ الظُّهْرِ لِأَنَّهَا نَافِلَةٌ وَقِيلَ يَقْضِي أَرْبَعًا احْتِيَاطًا لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ.
(وَإِنْ صَلَّى أَرْبَعًا وَلَمْ يَقْرَأْ فِيهِنَّ شَيْئًا أَعَادَ رَكْعَتَيْنِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يَقْضِي أَرْبَعًا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ:
عَلَيْهِ قَضَاءُ أَرْبَعٍ بِالْإِجْمَاعِ (قَوْلُهُ لَا يَقْضِي الْأُخْرَيَيْنِ) يَعْنِي الْأُولَيَيْنِ بَلْ الْأُولَيَيْنِ فَقَطْ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقْضِي الْأُخْرَيَيْنِ أَيْضًا فَيَقْضِي أَرْبَعًا، وَقَدْ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ (قَوْلُهُ اعْتِبَارٌ لِلشُّرُوعِ بِالنَّذْرِ) بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَبَبُ اللُّزُومِ، فَكَمَا أَنَّ نِيَّةَ الْكَمْيَّةِ إذَا اقْتَرَنَتْ بِنَذْرِ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا وَجَبَتْ الصَّلَاةُ بِتِلْكَ الْكَمِّيَّةِ، كَذَلِكَ إذَا اقْتَرَنَتْ بِالشُّرُوعِ لَزِمَ مَا شَرَعَ فِيهِ بِالْكَمِّيَّةِ الْمَنْوِيَّةِ (قَوْلُهُ أَنَّ الشُّرُوعَ) تَسْلِيمٌ لِصِحَّةِ اعْتِبَارِ الشُّرُوعِ بِالنَّذْرِ فِي الْإِلْزَامِ، لَكِنَّهُ لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ فَإِنَّ الشُّرُوعَ إنَّمَا يَلْزَمُ مَا شُرِعَ فِيهِ، وَمَا لَا صِحَّةَ لِمَا شُرِعَ فِيهِ إلَّا بِهِ كَالرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ، وَالشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الْأَخِيرِ لَمْ يَتَحَقَّقْ، وَلَا صِحَّةُ الْأَوَّلِ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ.
هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّانِي فَلَا يُفِيدُ الشُّرُوعُ لُزُومَهُ، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ حَقِيقَةَ وَجْهِ قَوْلِهِمَا إلْحَاقُ الشُّرُوعِ بِالنَّذْرِ الْمُقْتَرِنِ بِهَا فِي لُزُومِ الْأَرْبَعِ بَعْدَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَوْ تَجَرَّدَ عَنْهَا لَزِمَ بِهِ رَكْعَتَانِ فَقَطْ، وَجَوَابُهُ أَنَّ قَوْلَهُ الشُّرُوعُ يُوجِبُ مَا شُرِعَ فِيهِ يَتَضَمَّنُ مَنْعَ أَنَّهُ يُوجِبُ غَيْرَ أَصْلِ صَلَاةٍ صَحِيحَةٍ بَلْ ذَلِكَ فَقَطْ لِمَا سَنَذْكُرُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ (قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا سُنَّةُ الظُّهْرِ) أَيْ إذَا أَفْسَدَهَا بَعْدَ مَا قَعَدَ أَوْ قَبْلَهُ قَضَى رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهَا نَافِلَةٌ سُنَّتْ بِالْمُوَاظَبَةِ. وَقِيلَ يَقْضِي أَرْبَعًا لِأَنَّهَا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ كَالظُّهْرِ، وَلِذَا يَنْهَضُ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى عِنْدَ " عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " فَلَا يَسْتَفْتِحُ فِي الثَّالِثَةِ، وَلَا تَبْطُلُ شُفْعَةُ الشَّفِيعِ إذَا عَلِمَ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ مِنْهَا بِالِانْتِقَالِ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي، وَلَا خِيَارُ الْمُخَيَّرَةِ، وَلَوْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ فِي
وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله تَرْكَ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ أَوْ فِي إحْدَاهُمَا يُوجِبُ بُطْلَانَ التَّحْرِيمَةِ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِلْأَفْعَالِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله تَرْكُ الْقِرَاءَةِ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ التَّحْرِيمَةِ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ فَسَادَ الْأَدَاءِ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ زَائِدٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ وُجُودًا بِدُونِهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا صِحَّةَ لِلْأَدَاءِ إلَّا بِهَا، وَفَسَادُ الْأَدَاءِ لَا يَزِيدُ عَلَى تَرْكِهِ
الْأَوَّلِ فَانْتَقَلَ إلَى الثَّانِي فَخَرَجَتْ لَا يَلْزَمُهُ كَمَالُ الْمَهْرِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْخَلْوَةِ كَمَا إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الظُّهْرِ
(قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَنَّ تَرْكَ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ يُبْطِلُ التَّحْرِيمَةَ) إذَا قَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِسَجْدَةٍ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِلْأَفْعَالِ وَالْأَفْعَالُ فَسَدَتْ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فَيَفْسُدُ مَا عُقِدَ لَهَا (قَوْلُهُ أَنَّ لِلصَّلَاةِ وُجُودًا بِدُونِهَا) حَقِيقَةٌ فِي الْأَخْرَسِ وَالْأُمِّيِّ وَحُكْمًا فِي الْمُقْتَدِي، لَكِنْ لَا صِحَّةَ لِلْأَدَاءِ إلَّا بِالْقِرَاءَةِ، وَفَسَادُ الْأَدَاءِ لَا يَزِيدُ عَلَى تَرْكِهِ: أَيْ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ تَرْكِ الْأَدَاءِ بِأَنْ تُحْرِمَ وَاقِفًا ثُمَّ تَرَكَ أَدَاءَ كُلِّ الْأَفْعَالِ بِأَنْ وَقَفَ سَاكِتًا طَوِيلًا لَا تَبْطُلُ التَّحْرِيمَةُ، وَهَذَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لَمْ تُعْقَدْ إلَّا لِهَذَا الشَّفْعِ، فَإِنَّ بِنَاءَ الشَّفْعِ الثَّانِي عَلَى هَذِهِ التَّحْرِيمَةِ جَائِزٌ فَعُلِمَ أَنَّهَا لَهُ وَلِغَيْرِهِ فَبِفَسَادِهِ لَا تَنْتَفِي فَائِدَتُهَا بِالْكُلِّيَّةِ لِتَفْسُدَ هِيَ، وَيُرَدُّ أَنْ هَذَا تَأْخِيرٌ لَا تَرْكٌ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّرْكِ إيَّاهُ مَنَعْنَا كَوْنَهُ مِثْلَ الْفَسَادِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ بُطْلَانِ التَّحْرِيمَةِ بِذَلِكَ التَّرْكِ عَدَمُ بُطْلَانِهَا بِالْفَسَادِ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ التَّرْكِ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ هَكَذَا التَّحْرِيمَةُ تُرَادُ لِكُلٍّ مِنْ الشَّفْعَيْنِ فَإِنَّمَا تَبْطُلُ بِفَسَادِهِمَا، فَفَسَادُ الْأَوَّلِ فَقَطْ لَيْسَ قَاطِعًا فِي عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يُوجِبُ فَسَادَهَا. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا عُقِدَتْ لِلثَّانِي بِوَاسِطَةِ أَدَاءِ الْأَوَّلِ قَبْلَهُ فَإِذَا فَسَدَ لَمْ يَتَحَقَّقْ الثَّانِي: فَالْجَوَابُ إنْ قُلْت إذَا فَسَدَ الْأَوَّلُ امْتَنَعَ أَدَاءُ الثَّانِي لِأَنَّ أَدَاءَهُ
فَلَا يُبْطِلُ التَّحْرِيمَةَ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تَرْكُ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ يُوجِبُ بُطْلَانَ التَّحْرِيمَةِ، وَفِي إحْدَاهُمَا لَا يُوجِبُ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ وَفَسَادُهَا بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَقَضَيْنَا بِالْفَسَادِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَحَكَمْنَا بِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ فِي حَقِّ لُزُومِ الشَّفْعِ الثَّانِي احْتِيَاطًا، إذَا ثَبَتَ هَذَا نَقُولُ: إذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي الْكُلِّ قَضَى رَكْعَتَيْنِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُمَا فَلَمْ يَصِحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي وَبَقِيَتْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله فَصَحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي ثُمَّ إذَا فَسَدَ الْكُلُّ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ عِنْدَهُ.
(وَلَوْ قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ لَا غَيْرُ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْأُخْرَيَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ) لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ لَمْ تَبْطُلْ فَصَحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي ثُمَّ فَسَادُهُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ (وَلَوْ قَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ لَا غَيْرُ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْأُولَيَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ) لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَمْ يَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله إنْ صَحَّ فَقَدْ أَدَّاهَا (وَلَوْ قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْأُخْرَيَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ قَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَإِحْدَى الْأُولَيَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْأُولَيَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله قَضَاءُ الْأَرْبَعِ، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ بَاقِيَةٌ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله عَلَيْهِ قَضَاءُ الْأُولَيَيْنِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ قَدْ
بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ أَدَاءِ الْأَوَّلِ مَنَعْنَا كَوْنَ أَدَائِهِ بِنَاءً عَلَى صِحَّتِهِ، وَإِنْ قُلْت بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ التَّحْرِيمَةِ وَقَدْ فَسَدَتْ كَانَ مُصَادَرَةً عَلَى الْمَطْلُوبِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُمْ إنَّ الْقِرَاءَةَ مُنْتَفِيَةٌ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي حُكْمًا بَاطِلٌ بَلْ مُنْتَفِيَةٌ حَقِيقَةً ثَابِتَةٌ حُكْمًا.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَرْكُ الْقِرَاءَةِ فِي الْأَوَّلَيْنِ مُبْطِلُ التَّحْرِيمَةِ لِمَا قُلْنَا لِمُحَمَّدٍ، بِخِلَافِ تَرْكِهَا فِي رَكْعَةٍ لِأَنَّ فَسَادَهَا بِهِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ لِأَنَّ عِنْدَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لَا تَفْسُدُ، فَحُكْمُنَا بِالْفَسَادِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْقَضَاءِ إعْمَالًا لِلدَّلِيلِ الدَّالِ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَحُكْمُنَا بِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ فِي حَقِّ لُزُومِ الشَّفْعِ الثَّانِي إعْمَالًا لِلدَّلِيلِ الدَّالِ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ احْتِيَاطًا فِي الْبَابَيْنِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ بِهَذَا التَّقْرِيرِ لَمْ يَحْصُلْ الْجَوَابُ عَمَّا قَرَرْنَاهُ لِأَبِي يُوسُفَ، بَلْ جَوَابُهُ مَنَعَ أَنَّ فَسَادَهُ لَا يَزِيدُ عَلَى تَرْكِهِ لِأَنَّ التَّرْكَ مُجَرَّدُ تَأْخِيرٍ وَالْفَسَادَ فِعْلٌ مُفْسِدٌ، وَلَوْ سَلِمَ اخْتَرْنَا الشِّقَّ الْأَوَّلَ مِنْ تَرْدِيدِهِ الْمُتَقَدِّمِ وَمَنْعُ كَوْنِ أَدَاءِ الثَّانِي مَبْنِيًّا عَلَى صِحَّةِ الْأَوَّلِ مُنْدَفِعٌ بِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ قَبْلَهُ وَوُجُودُ الْأَوَّلِ بِصِحَّتِهِ فَكَيْفَ لَا يَتَوَقَّفُ أَدَاؤُهُ عَلَيْهِ.
(قَوْلُهُ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْأُخْرَيَيْنِ) وَهَذَا إذَا كَانَ قَعَدَ وَإِلَّا قَضَى أَرْبَعًا
ارْتَفَعَتْ عِنْدَهُ. وَقَدْ أَنْكَرَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْهُ وَقَالَ: رَوِيت لَك عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ، وَمُحَمَّدٌ رحمه الله لَمْ يَرْجِعْ عَنْ رِوَايَتِهِ عَنْهُ. (وَلَوْ قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ لَا غَيْرُ قَضَى أَرْبَعًا عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله قَضَى رَكْعَتَيْنِ، وَلَوْ قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ لَا غَيْرُ قَضَى أَرْبَعًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله وَعِنْدَهُمَا رَكْعَتَيْنِ) قَالَ (وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يُصَلَّى بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا» يَعْنِي رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ وَرَكْعَتَيْنِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ فَيَكُونُ بَيَانُ فَرْضِيَّةِ الْقِرَاءَةِ فِي رَكَعَاتِ النَّفْلِ كُلِّهَا)
قَوْلُهُ وَمُحَمَّدٌ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ رِوَايَتِهِ عَنْهُ) وَاعْتَمَدَتْ الْمَشَايِخُ رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ مَعَ تَصْرِيحِهِمْ فِي الْأُصُولِ بِأَنَّ تَكْذِيبَ الْأَصْلِ الْفَرْعَ يُسْقِطُ الرِّوَايَةَ إذَا كَانَ صَرِيحًا، وَالْعِبَارَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنْ مِثْلِ الصَّرِيحِ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلْيَكُنْ لَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ رِوَايَةٌ بَلْ تَفْرِيعٌ صَحِيحٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ (قَوْلُهُ قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم إلَخْ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ التَّنَفُّلَ أَرْبَعًا أَرْبَعًا أَفْضَلُ مُطْلَقًا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا وَرَدَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه لَا يُصَلِّي بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلَهَا، وَقَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ قَالَا: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يُصَلِّي عَلَى إثْرِ صَلَاةٍ مِثْلَهَا، فَفَسَّرَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ وَرَكْعَتَيْنِ بِلَا قِرَاءَةٍ إذْ هُوَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ عَقِيبَ الظُّهْرِ الْمَقْصُورَةِ.
وَكَذَا الْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ عَقِيبَ رَكْعَتَيْهِ، أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَكْرَارِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى هَيْئَتِهِ الْأُولَى، أَوْ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قَضَاءِ الْفَرَائِضِ مَخَافَةَ الْخَلَلِ فِي الْمُؤَدَّى فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ لِمَا فِي أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: أَتَيْت ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه عَلَى الْبَلَاطِ وَهُمْ يُصَلُّونَ، قُلْت: أَلَا تُصَلِّي مَعَهُمْ؟ قَالَ: قَدْ صَلَّيْت، إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لَا تُصَلُّوا صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ» وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ: حَدَّثَنَا نَافِعٌ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: إنِّي أُصَلِّي فِي بَيْتِي ثُمَّ أُدْرِكُ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ أَفَأُصَلِّي مَعَهُ؟ فَقَالَ: ابْنُ عُمَرَ: نَعَمْ، قَالَ: أَيَّتَهُمَا أَجْعَلُ صَلَاتِي، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَيْسَ ذَلِكَ إلَيْك إنَّمَا ذَلِكَ إلَى اللَّهِ يَجْعَلُ أَيَّتَهُمَا شَاءَ. وَقَالَ: هَذَا مِنْ ابْنِ عُمَرَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْهُ إنَّمَا أَرَادَ كِلْتَاهُمَا عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِ، أَوْ إذَا صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ فَلَا يُعِيدُ انْتَهَى.
وَفِيهِ نَفْيٌ لِقَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ بِإِبَاحَةِ الْإِعَادَةِ مُطْلَقًا وَإِنْ
(وَيُصَلِّي النَّافِلَةَ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ» وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ خَيْرُ مَوْضُوعٍ وَرُبَّمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فَيَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ كَيْ لَا يَنْقَطِعَ عَنْهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْقُعُودِ وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَقْعُدَ كَمَا يَقْعُدُ فِي حَالَةِ التَّشَهُّدِ لِأَنَّهُ عُهِدَ مَشْرُوعًا فِي الصَّلَاةِ.
صَلَّاهَا فِي جَمَاعَةٍ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم كَمَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَمُحَمَّدٌ رحمه الله أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنَّا.
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «صَلَاةُ الْقَاعِدَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ») أَخْرَجَ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ «سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلَاةِ الرَّجُلِ قَاعِدًا فَقَالَ: مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ» قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذَا فِي النَّافِلَةِ، أَمَّا الْفَرِيضَةُ فَلَا يَجُوزُ الْقُعُودُ، فَإِنْ عَجَزَ لَمْ يُنْقَصْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ انْتَهَى. وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ فِي الْجِهَادِ «إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا» ثُمَّ هُوَ صلى الله عليه وسلم مَخْصُوصٌ مِنْ ذَلِكَ، لِمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه حُدِّثْت أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا نِصْفُ صَلَاةِ الْقَائِمِ، فَأَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي جَالِسًا، قَالَ حُدِّثْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَّكَ قُلْتَ صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ وَأَنْتَ تُصَلِّي قَاعِدًا، قَالَ أَجَلْ، وَلَكِنِّي لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ» هَذَا وَفِي الْحَدِيثِ «صَلَاةُ النَّائِمِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَاعِدِ» وَلَا نَعْلَمُ الصَّلَاةَ نَائِمًا تَسُوغُ إلَّا فِي الْفَرْضِ حَالَةَ الْعَجْزِ عَنْ الْقُعُودِ، وَهَذَا حِينَئِذٍ يُعَكِّرُ عَلَى حَمْلِهِمْ الْحَدِيثَ عَلَى النَّفْلِ، وَعَلَى كَوْنِهِ فِي الْفَرْضِ لَا يَسْقُطُ مِنْ أَجْرِ الْقَائِمِ شَيْءٌ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ إنَّمَا يُفِيدُ كِتَابُهُ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ مُقِيمًا صَحِيحًا وَإِنَّمَا عَاقَّهُ الْمَرَضُ عَنْ أَنْ يَعْمَلَ شَيْئًا أَصْلًا، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ احْتِسَابَ مَا صَلَّى قَاعِدًا بِالصَّلَاةِ قَائِمًا لِجَوَازِ احْتِسَابِهِ نِصْفًا
(وَإِنْ افْتَتَحَهَا قَائِمًا ثُمَّ قَعَدَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجْزِيهِ، وَهُوَ قِيَاسٌ لِأَنَّ الشُّرُوعَ مُعْتَبَرٌ بِالنَّذْرِ. لَهُ أَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ الْقِيَامَ فِيمَا بَقِيَ وَلَمَّا بَاشَرَ صَحَّ بِدُونِهِ، بِخِلَافِ النَّذْرِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ نَصًّا حَتَّى لَوْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى الْقِيَامِ لَا يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ رحمهم الله
ثُمَّ يُكْمِلُ كُلَّ عَمَلِهِ مِنْ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ مُفَضِّلًا وَإِلَّا فَالْمُعَارَضَةُ قَائِمَةٌ لَا تَزُولُ إلَّا بِتَجْوِيزِ النَّافِلَةِ نَائِمًا وَلَا أَعْلَمُهُ فِي فِقْهِنَا.
(قَوْلُهُ وَإِنْ افْتَتَحَهَا قَائِمًا إلَخْ) هُنَا صُورَتَانِ: إحْدَاهُمَا افْتَتَحَهَا قَاعِدًا ثُمَّ قَامَ، وَالْأُخْرَى قَلْبُهُ فَفِي الْأُولَى يَجُوزُ اتِّفَاقًا لِمَا عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْتَتِحُ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا فَيَقْرَأُ وِرْدَهُ حَتَّى إذَا بَقِيَ عَشْرُ آيَاتٍ وَنَحْوُهَا قَامَ» الْحَدِيثَ، وَهَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَمُحَمَّدٌ رحمه الله وَإِنْ قَالَ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ الْمُنْعَقِدَةَ لِلْقُعُودِ لَا تَكُونُ مُنْعَقِدَةً لِلْقِيَامِ حَتَّى أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فَسَدَتْ عِنْدَهُ فَلَا يُتِمُّهَا قَائِمًا لَمْ يُخَالِفْ فِي الْجَوَازِ هُنَا لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْمُتَطَوِّعِ لَمْ تَنْعَقِدْ لِلْقُعُودِ أَلْبَتَّةَ بَلْ لِلْقِيَامِ لِأَنَّهُ أَصْلٌ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ ثُمَّ جَازَ لَهُ شَرْعًا تَرْكُهُ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ فَمَا انْعَقَدَتْ إلَّا لِلْمَقْدُورِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها السَّابِقُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ.
ثَانِيَتُهُمَا: افْتَتَحَهَا قَائِمًا ثُمَّ قَعَدَ يَجُوزُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْعُدَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوْ الثَّانِيَةِ، كَمَا يُنَادَى بِهِ هَذَا الْإِطْلَاقِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا وَهُوَ الْقِيَاسُ أَنَّ الشُّرُوعَ مُعْتَبَرٌ بِالنَّذْرِ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَائِمًا لَمْ يُجْزِهِ أَنْ
(وَمَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ يَتَنَفَّلُ عَلَى دَابَّتِهِ إلَى أَيِّ جِهَةٍ تَوَجَّهَتْ يُومِئُ إيمَاءً) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إلَى خَيْبَرَ يُومِئُ إيمَاءً»
يَقْعُدَ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَكَذَا إذَا شَرَعَ قَائِمًا وَلَهُ أَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ الْقِيَامَ فِيمَا بَقِيَ: أَيْ فِيمَا قَعَدَ فِيهِ، وَلِمَا بَاشَرَ مِنْ الصَّلَاةِ بِصِفَةِ الْقِيَامِ صِحَّةً بِدُونِ الْقِيَامِ، أَوْ لِمَا بَاشَرَ مِنْ الصَّلَاةِ النَّافِلَةِ مُطْلَقًا صِحَّةً بِدُونِ الْقِيَامِ فَلَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْمُبَاشَرِ بِصِفَةِ الْقِيَامِ عَلَى الْقِيَامِ فِيمَا بَقِيَ وَهَذِهِ الْمُقَدَّمَاتُ مِمَّا يُسَلِّمَانِهَا، وَلَا يُفِيدُ الْمَقْصُودَ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ شَيْءٌ مِنْهَا لِنُكْتَةِ الْخِلَافِ، وَهُوَ أَنَّ الشُّرُوعَ بِصِفَةِ الْقِيَامِ يَلْزَمُ الْقِيَامَ فِي الْكُلِّ كَنَذْرِهَا بِصِفَةِ الْقِيَامِ.
فَالْجَوَابُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ وَلِمَا بَاشَرَ مِنْ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا مَا قَامَ فِيهِ وَمَا لَمْ يَقُمْ فِيهِ صِحَّةً بِدُونِ الْقِيَامِ مُتَضَمِّنًا مَنْعَ كَوْنِ الشُّرُوعِ بِالْقِيَامِ مُوجِبًا لِلْقِيَامِ فِي الْكُلِّ بِنَاءً عَلَى مَنْعِ كَوْنِ الشُّرُوعِ مُوجِبًا غَيْرَ أَصْلِ مَا شَرَعَ فِيهِ بِنَاءً عَلَى مَنْعِ إلْحَاقِ الشُّرُوعِ بِالنَّذْرِ مُطْلَقًا بَلْ فِي إيجَابِ أَصْلِ الْفِعْلِ، وَهَذَا لِأَنَّ إيجَابَ الشُّرُوعِ الْإِتْمَامَ لَيْسَ لِنَفْسِهِ بَلْ لِوُجُوبِ صِيَانَةِ الْمُؤَدَّى عَنْ الْبُطْلَانِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَحْصُلُ بِوُجُوبِ أَصْلِ مَا شَرَعَ فِيهِ دُونَ خُصُوصِيَّةِ صِفَةٍ إنْ لَمْ تَكُنْ هِيَ نَفْسُهَا مِنْ وَاجِبَاتِ أَصْلِ مَا شَرَعَ فِيهِ. بِخِلَافِ النَّذْرِ لِأَنَّهُ بِنَفْسِهِ عَامِلٌ، وَلِذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ الْحَجَّ مَاشِيًا لَزِمَهُ بِصِفَةِ الْمَشْيِ، وَلَوْ شَرَعَ فِيهِ مَاشِيًا لَمْ يَلْزَمْ كَذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَنْبَغِي إذَا أَطْلَقَ نَذْرَ الصَّلَاةِ تَجِبُ بِصِفَةِ الْقِيَامِ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ إلَى آخِرِهَا فَهُوَ الرُّكْنُ الْأَصْلِيُّ، غَيْرَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَى الْقُعُودِ رُخْصَةً فِي النَّفْلِ فَلَا يَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إلَّا إلَيْهِ، وَهَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ. وَقِيلَ هُوَ بِالْخِيَارِ.
وَقِيلَ كَمَا فِي الْكِتَابِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ هُوَ مَا فِي الْكِتَابِ بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ شَرْحِ الْكَنْزِ إلَّا لَوْ كَانَ إيجَابُ الْقُعُودِ وَلَا رِوَايَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ عُرِفَ الْجَوَابُ عَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ مَسْأَلَةِ نِيَّةِ الْأَرْبَعِ مَعَ الشُّرُوعِ.
(قَوْلُهُ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَلَيْسَ فِيهِ يُومِئُ إيمَاءً، وَقَدْ غَلِطَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَمْرَو بْنَ يَحْيَى فِي قَوْلِهِ عَلَى حِمَارٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ عَنْ أَنَسٍ «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إلَى خَيْبَرَ عَلَى حِمَارٍ يُصَلِّي يُومِئُ إيمَاءً» وَسَكَتَ عَلَيْهِ.
وَفِي الْإِمَامِ عَزَى لَفْظَ الْإِيمَاءِ إلَى الصَّحِيحَيْنِ، وَالزَّيْلَعِيُّ رحمه الله لَمْ يَرَهُ فِيهِمَا. وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ تَفَرَّدَ الْبُخَارِيُّ بِذِكْرِ الْإِيمَاءِ انْتَهَى. وَقَدْ رَأَيْنَاهُ فِي بَابِ الْوِتْرِ فِي السَّفَرِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ مِنْ صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ «رَأَيْتُ
وَلِأَنَّ النَّوَافِلَ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِوَقْتٍ فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ النُّزُولَ وَالِاسْتِقْبَالَ تَنْقَطِعُ عَنْهُ النَّافِلَةُ أَوْ يَنْقَطِعُ هُوَ عَنْ الْقَافِلَةِ، أَمَّا الْفَرَائِضُ فَمُخْتَصَّةٌ بِوَقْتٍ، وَالسُّنَنُ الرَّوَاتِبُ نَوَافِلُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ يَنْزِلُ لِسُنَّةِ الْفَجْرِ لِأَنَّهَا آكَدُ مِنْ سَائِرِهَا، وَالتَّقْيِيدُ بِخَارِجِ الْمِصْرِ يَنْفِي اشْتِرَاطَ السَّفَرِ وَالْجَوَازِ فِي الْمِصْرِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْمِصْرِ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي النَّوَافِلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي كُلِّ وَجْهٍ يُومِئُ إيمَاءً وَلَكِنَّهُ يَخْفِضُ السَّجْدَتَيْنِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ» (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ النَّوَافِلَ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِوَقْتٍ فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ النُّزُولَ وَالِاسْتِقْبَالَ تَنْقَطِعُ عَنْهُ النَّافِلَةُ) إنْ لَمْ يَنْزِلْ أَوْ لَمْ يَسْتَقْبِلْ (أَوْ يَنْقَطِعُ هُوَ عَنْ النَّافِلَةِ) إنْ نَزَلَ أَوْ اسْتَقْبَلَ (أَمَّا الْفَرَائِضُ فَمُخْتَصَّةٌ بِوَقْتٍ) فَلَا يَشُقُّ إلْزَامُ النُّزُولِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَلِأَنَّ الرُّفَقَاءَ مُتَظَافَرُونَ مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَنْقَطِعُ حَتَّى لَوْ لَمْ يَقِفُوا لَهُ وَخَافَ مِنْ النُّزُولِ اللِّصَّ أَوْ السُّبُعَ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا رَاكِبًا، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ جَمُوحًا لَا يَقْدِرُ عَلَى رُكُوبِهَا إلَّا بِمُعِينٍ، أَوْ هُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَجِدُ مَنْ يُرَكِّبُهُ.
وَكَذَا الطِّينُ وَالْمَطَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} وَالْوَاجِبَاتُ مِنْ الْوِتْرِ وَالْمَنْذُورِ وَمَا شُرِعَ فِيهِ فَأَفْسَدَهُ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالسَّجْدَةِ الَّتِي تُلِيت عَلَى الْأَرْضِ كَالْفَرْضِ.
وَأَمَّا السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ فَتَجُوزُ عَلَى الدَّابَّةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَنْزِلُ لِسُنَّةٍ الْفَجْرِ لِأَنَّهَا آكَدُ مِنْ غَيْرِهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَعَلَى هَذَا اُخْتُلِفَ فِي أَدَائِهَا قَاعِدًا (قَوْلُهُ وَالْجَوَازُ) عَطْفٌ عَلَى اشْتِرَاطٍ، وَالْأَوَّلُ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَالثَّانِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ الْخُرُوجِ، قِيلَ قَدْرُ فَرْسَخَيْنِ لَا مَا دُونَهُ، وَقِيلَ مِيلٌ، وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ لَفْظِ الْأَصْلِ، قِيلَ وَالْأَصَحُّ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ الْقَصْرُ فِيهِ (قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْمِصْرِ) رَاكِبًا بِلَا كَرَاهَةٍ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ مَعَهَا قِيلَ لَمَّا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: حَدَّثَنِي فُلَانٌ وَسَمَّاهُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ الْحِمَارَ فِي الْمَدِينَةِ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رضي الله عنه وَكَانَ يُصَلِّي وَهُوَ رَاكِبٌ» فَلَمْ يَرْفَعْ
أَيْضًا. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ خَارِجَ الْمِصْرِ وَالْحَاجَةُ إلَى الرُّكُوبِ فِيهِ أَغْلَبُ.
(فَإِنْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ رَاكِبًا ثُمَّ نَزَلَ يَبْنِي، وَإِنْ صَلَّى رَكْعَةً نَازِلًا ثُمَّ رَكِبَ اسْتَقْبَلَ) لِأَنَّ إحْرَامَ الرَّاكِبِ انْعَقَدَ مُجَوِّزًا لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى النُّزُولِ، فَإِنْ أَتَى بِهِمَا صَحَّ، وَإِحْرَامُ النَّازِلِ انْعَقَدَ لِوُجُوبِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِ مَا لَزِمَهُ مِنْ
أَبُو حَنِيفَةَ رَأْسَهُ، قِيلَ ذَلِكَ رُجُوعٌ مِنْهُ، وَقِيلَ بَلْ لِأَنَّهُ شَاذٌّ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَالشَّاذُّ فِي مِثْلِهِ لَيْسَ حُجَّةً عِنْدَهُ، وَمُحَمَّدٌ تَمَسَّكَ بِهِ أَيْضًا وَكَرِهَهُ مَخَافَةَ الْغَلَطِ لِمَا فِي الْمِصْرِ مِنْ كَثْرَةِ اللَّغَطِ، هَذَا وَالنَّجَاسَةُ عَلَى الدَّابَّةِ لَا تَمْنَعُ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ، وَقِيلَ إنْ كَانَتْ عَلَى السُّرُجِ وَالرِّكَابَيْنِ تَمْنَعُ، وَقِيلَ إنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ جُلُوسِهِ فَقَطْ، وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ فِيهَا ضَرُورَةً، وَالْجَوَازُ عَلَيْهَا رُخْصَةٌ تَكْثِيرًا لِلْخَيْرَاتِ سَقَطَ لَهَا مَا هُوَ أَعْظَمُ وَهُوَ الْأَرْكَانُ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الشَّرْطِ وَهَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى الْعَجَلَةِ إنْ كَانَ طَرَفُهَا عَلَى الدَّابَّةِ وَهِيَ تَسِيرُ أَوْ لَا تَسِيرُ فَهِيَ صَلَاةٌ عَلَى الدَّابَّةِ وَقَدْ فَرَّعْنَا عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهِيَ كَالسَّرِيرِ، وَكَذَا لَوْ جَعَلَ تَحْتَ الْمَحْمَلِ خَشَبَةً حَتَّى بَقِيَ قَرَارُهُ عَلَى الْأَرْضِ لَا الدَّابَّةِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ.
(قَوْلُهُ فَإِنْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ رَاكِبًا ثُمَّ نَزَلَ يَبْنِي. وَإِنْ صَلَّى رَكْعَةً نَازِلًا ثُمَّ رَكِبَ اسْتَقْبَلَ) هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ قَلْبُهُ لِأَنَّ الرَّاكِبَ إذَا نَزَلَ لَوْ اسْتَقْبَلَ كَانَ مُؤَدِّيًا جَمِيعَ الصَّلَوَاتِ بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ أَدَاءِ بَعْضِهَا بِهِمَا وَبَعْضِهَا بِالْإِيمَاءِ، وَالنَّازِلُ إذَا رَكِبَ لَوْ اسْتَقْبَلَ كَانَ مُؤَدِّيًا جَمْعَهَا بِالْإِيمَاءِ، وَلَوْ بَنَى أَدَّى بَعْضَهَا بِهِ وَبَعْضَهَا بِهِمَا وَهُوَ أَوْلَى.
وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ: يَبْنِي فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بِنَاءُ صَلَاةٍ بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ عَلَى صَلَاةٍ افْتَتَحَهَا بِإِيمَاءٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يَسْتَقْبِلُ فِيهِمَا، أَمَّا إذَا كَانَ نَازِلًا
غَيْرِ عُذْرِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ إذَا نَزَلَ أَيْضًا،
ثُمَّ رَكِبَ فَلِلْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَأَمَّا فِي قَلْبِهِ فَإِلْحَاقًا بِالْمَرِيضِ الْمُومِئِ إذَا قَدَرَ فِي خِلَالِهَا عَلَيْهِمَا، هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَحْصُلْ الرُّكُوبُ وَالنُّزُولُ بِعَمَلٍ كَثِيرٍ بِأَنْ رَفَعَ فَوَضَعَ عَلَى الدَّابَّةِ أَوْ ثَنَى رِجْلَهُ فَانْحَدَرَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ. وَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الدَّابَّةِ وَاقِعَةٌ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَعَدَمِ الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ، وَبَعْضُ الشُّرُوطِ جَوَّزَتْ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِلْحَاجَةِ إلَى قَطْعِ الْمَسَافَةِ، وَدَلِيلُ الْحَاجَةِ الرُّكُوبُ، فَإِذَا افْتَتَحَ عَلَى الْأَرْضِ انْتَفَى دَلِيلُهَا الْمُجَوِّزُ وَثَبَتَ دَلِيلُ الِاسْتِغْنَاءِ فَلَا يَجُوزُ مَعَهُ بِالْإِيمَاءِ، بِخِلَافِ الِافْتِتَاحِ رَاكِبًا، فَإِنَّهُ مَعَ دَلِيلِهَا وَمَا يَتَخَايَلُ فِيهِ مِنْ بِنَاءِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ كَالْمُومِئِ لِمَرَضٍ إذَا قَدَرَ عَلَى الْأَرْكَانِ فِي الْأَثْنَاءِ لَا يَبْنِي مَدْفُوعٌ بِأَنَّ عَدَمَ بِنَاءِ الْمَرِيضِ فِي الْفَرْضِ وَلَا رِوَايَةَ عَنْهُمْ فِيهِ فِي النَّفْلِ، فَجَازَ أَنْ يَقُولَ يَبْنِي فِيهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ وَأَنْ يَقُولَ لَا يَبْنِي.
وَيُفَرِّقُ بِأَنَّ إيمَاءَ الْمَرِيضِ اُعْتُبِرَ شَرْعًا بَدَلًا مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَهُوَ الْمَانِعُ فِيهِ لِاسْتِلْزَامِهِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْأَصْلِ لَا لِذَاتِهِ، إذْ لَا يَعْقِلُ وَجْهُ امْتِنَاعِ كَوْنِ بَعْضِ الصَّلَاةِ قَوِيًّا وَبَعْضِهَا أَضْعَفُ مِنْهُ بَعْدَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِإِذْنِ الشَّرْعِ، وَمَعْنَى الْبَدَلِ هُوَ الَّذِي لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِهِ إلَّا عِنْدَ إعْوَازِ الْأَصْلِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الرَّاكِبِ إذْ يُمْكِنُهُ الِانْتِصَابُ فِي الرِّكَابَيْنِ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ عَلَى مَا أَمَامَهُ، فَكَانَ إيمَاؤُهُ مُعْتَبَرًا أَصْلًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَكَانَ قَوِيًّا كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا بَدَلًا فَصَحَّ الْبِنَاءُ بِهِمَا عَلَيْهِ.
وَقِيلَ لَمَّا جَازَ لِلرَّاكِبِ أَنْ يَفْتَتِحَ بِالْإِيمَاءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا بَعْدَ الِافْتِتَاحِ بِهِ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْتَتِحَ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ بِهِمَا بَعْدَ الِافْتِتَاحِ بِهِ. وَهَذَا يُفِيدُ أَنْ لَا يَبْنِيَ فِي الْمَكْتُوبَةِ إذَا افْتَتَحَهَا رَاكِبًا إذْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْتَتِحَهَا رَاكِبًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمَا بِالنُّزُولِ، وَلِذَا قَيَّدَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْكِتَابِ بِهِ فِي قَوْلِهِ فَإِنْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ.
وَأَمَّا الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُفْتَتِحِ رَاكِبًا إذَا نَزَلَ وَقَلْبِهِ فَمُخْتَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ.
وَعَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: إنْ أَرَدْت أَنَّ إحْرَامَ الرَّاكِبِ انْعَقَدَ مُجَوِّزًا لَهُمَا بِأَنْ يَنْزِلَ فَأَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ وَعَيْنُ النِّزَاعِ، وَإِنْ أَرَدْت وَهُوَ رَاكِبٌ بِأَنْ يَسْجُدَ عَلَى الْإِكَافِ مَنَعْنَا كَوْنَ الْإِجْزَاءِ بِهِمَا بَلْ بِالْإِيمَاءِ الْوَاقِعِ فِي ضِمْنِهِمَا. وَأَظْهَرُ الْأُمُورِ فِي تَقْرِيرِهِ أَنَّ الشَّرْعَ حَكَمَ بِالْإِجْزَاءِ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَاءِ، فَيَلْزَمُ الْحُكْمُ بِالْخُرُوجِ عَنْ الْعُهْدَةِ قَبْلَ وُصُولِ رَأْسِهِ إلَى الْإِكَافِ فَلَا يَقَعُ بِهِمَا إذْ قَدْ حَصَلَ قَبْلَهُمَا
وَكَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله إذَا نَزَلَ بَعْدَ مَا صَلَّى رَكْعَةً، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ الظَّاهِرُ.
فَصْلٌ
فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ
(يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَيُصَلِّيَ بِهِمْ إمَامُهُمْ خَمْسَ تَرْوِيحَاتٍ، كُلُّ تَرْوِيحَةٍ
قَوْلُهُ وَكَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا نَزَلَ بَعْدَ مَا صَلَّى رَكْعَةً) يَعْنِي يَسْتَقْبِلُ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُتِمَّهَا حَتَّى نَزَلَ فَإِنَّهُ يَبْنِي إذَا لَمْ يُتِمَّ كَانَ مُجَرَّدَ تَحْرِيمَةٍ وَهِيَ شَرْطٌ عِنْدَنَا، وَالشَّرْطُ الْمُنْعَقِدُ لِلضَّعِيفِ يَكُونُ شَرْطًا لِلْقَوِيِّ، وَالْأَصَحُّ هُوَ الظَّاهِرُ عَنْهُمْ.
يَعْنِي إذَا نَزَلَ يَبْنِي مُطْلَقًا لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بِنَاءِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ الْمُمْتَنِعِ، وَلَمَّا جَرَى فِيمَا ذَكَرْنَا آنِفًا أَمْرُ النَّذْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِشْهَادِ أَحْبَبْنَا سَوْقَ بَعْضِ فُرُوعٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ تَتْمِيمًا: نَذَرَ شَفْعًا بِلَا وُضُوءٍ أَوْ بِلَا قِرَاءَةٍ يَجِبُ شَفْعٌ بِوُضُوءٍ وَقِرَاءَةٍ. وَقَالَ زُفَرُ لَا لِأَنَّهُ نَذَرَ مَا لَيْسَ قُرْبَةً فَفَاتَ شَرْطُ لُزُومِهِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: إنْ سَمَّى مَا لَا يَصِحُّ أَدَاءُ الصَّلَاةِ مَعَهُ كَبِغَيْرِ طَهَارَةٍ لَا يَلْزَمُهُ أَوْ يَصِحُّ فِي الْجُمْلَةِ كَبِلَا قِرَاءَةٍ يَلْزَمُهُ. قُلْنَا الْتِزَامُ الشَّيْءِ الْتِزَامٌ لِمَا لَا صِحَّةَ لَهُ إلَّا بِهِ كَنَذْرِ الصَّلَاةِ. الصَّلَاةُ إيجَابُ الْوُضُوءِ فَالصَّلَاةُ قُرْبَةٌ وَقَدْ الْتَزَمَهَا إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ مَا يُخْرِجُهَا عَنْ الْقُرْبَةِ فَيَلْغُو، بِخِلَافِ مَا لَيْسَ قُرْبَةً أَصْلِيَّةً. وَلَوْ نَذَرَ رَكْعَةً أَوْ ثَلَاثًا وَجَبَ رَكْعَتَانِ وَأَرْبَعٌ.
وَقَالَ زُفَرُ فِي الْأَوَّلُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَفِي الثَّانِي رَكْعَتَانِ. لَنَا أَنَّهُ الْتَزَمَ بَعْضَ مَا لَا يَتَجَزَّأُ فَكَانَ الْتِزَامًا لِلْكُلِّ كَإِيقَاعِهِ. وَلَوْ نَذَرَتْ نَفْلًا غَدًا فَحَاضَتْ فِيهِ قَضَتْهُ، خِلَافًا لَهُ. قَالَ نَذَرَ بِغَيْرِ الْمَشْرُوعِ. قُلْنَا: بَلْ بِهِ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إلَى الْيَوْمِ وَهُوَ مَحَلُّهُ. وَاعْتِرَاضُ الْحَيْضِ مَنَعَ الْأَدَاءَ لَا الْوُجُوبَ عِنْدَ صُدُورِ النَّذْرِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَتْ يَوْمَ حَيْضِي.
(فَصْلٌ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ)
التَّرَاوِيحُ جَمْعُ تَرْوِيحَةٍ أَيْ تَرْوِيحَةٍ لِلنَّفْسِ: أَيْ اسْتِرَاحَةٍ، سُمِّيَتْ نَفْسُ الْأَرْبَعِ بِهَا لِاسْتِلْزَامِهَا شَرْعًا تَرْوِيحَةً:
بِتَسْلِيمَتَيْنِ، وَيَجْلِسَ بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ مِقْدَارَ تَرْوِيحَةٍ، ثُمَّ يُوتِرَ بِهِمْ) ذَكَرَ لَفْظَ الِاسْتِحْبَابِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا سُنَّةٌ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّهُ وَاظَبَ عَلَيْهَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالنَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام بَيَّنَ الْعُذْرَ فِي تَرْكِهِ الْمُوَاظَبَةَ وَهُوَ خَشْيَةَ أَنْ تَكْتُبَ عَلَيْنَا
(وَالسُّنَّةُ فِيهَا الْجَمَاعَةُ) لَكِنْ عَلَى وَجْهِ الْكِفَايَةِ، حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ
أَيْ اسْتِرَاحَةً فَلِذَا قَالَ: وَيَجْلِسُ بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ مِقْدَارَ تَرْوِيحَةٍ (قَوْلُهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا سُنَّةٌ لِمُوَاظَبَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ) تَغْلِيبٌ إذْ لَمْ يُرِدْ كُلَّهُمْ بَلْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا، وَهَذَا لِأَنَّ ظَاهِرَ الْمَنْقُولِ أَنَّ مَبْدَأَهَا مِنْ زَمَنِ عُمَرَ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَارِئِ، قَالَ: خَرَجْت مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: إنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْت هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْت مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ يُرِيدُ آخِرُ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ.
رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ «افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ» وَقَدْ بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم الْعُذْرَ فِي تَرْكِهَا وَهُوَ خَشْيَةُ الِافْتِرَاضِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَابِ الْوِتْرِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ فَارْجِعْ إلَيْهِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنْ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنْ الثَّالِثَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْكُمْ إلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ» وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ. زَادَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ «فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ» وَقَدَّمْنَا فِي بَابِ النَّوَافِلِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ «سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَتْ: مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً» الْحَدِيثُ.
وَأَمَّا مَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً سِوَى الْوِتْرِ» فَضَعِيفٌ بِأَبِي شَيْبَةَ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُثْمَانَ جَدِّ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ مَعَ مُخَالِفَتِهِ لِلصَّحِيحِ. نَعَمْ ثَبَتَتْ الْعِشْرُونَ مِنْ زَمَنِ عُمَرَ فِي الْمُوَطَّإِ.
عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ قَالَ " كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ
أَهْلُ الْمَسْجِدِ عَنْ إقَامَتِهَا كَانُوا مُسِيئِينَ، وَلَوْ أَقَامَهَا الْبَعْضُ فَالْمُتَخَلِّفُ عَنْ الْجَمَاعَةِ تَارِكٌ لِلْفَضِيلَةِ لِأَنَّ أَفْرَادَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم رُوِيَ عَنْهُمْ التَّخَلُّفُ
وَالْمُسْتَحَبُّ فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ التَّرْوِيحَتَيْنِ مِقْدَارُ التَّرْوِيحَةِ، وَكَذَا بَيْنَ الْخَامِسَةِ وَبَيْنَ الْوِتْرِ لِعَادَةِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ،
رَكْعَةً ". وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنَّا نَقُومُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِعِشْرِينَ رَكْعَةً وَالْوِتْرِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ إسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَفِي الْمُوَطَّإِ رِوَايَةٌ بِإِحْدَى عَشْرَةَ. وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ وَقَعَ أَوَّلًا ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى الْعِشْرِينَ فَإِنَّهُ الْمُتَوَارِثُ، فَتَحْصُلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ سُنَّةٌ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً بِالْوِتْرِ فِي جَمَاعَةٍ فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ، أَفَادَ أَنَّهُ لَوْلَا خَشْيَةَ ذَلِكَ لَوَاظَبْت بِكُمْ، وَلَا شَكَّ فِي تَحَقُّقِ الْأَمْنِ مِنْ ذَلِكَ بِوَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونُ سُنَّةً، وَكَوْنُهَا عِشْرِينَ سُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ» نَدْبٌ إلَى سُنَّتِهِمْ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ ذَلِكَ سُنَّتَهُ. إذْ سُنَّتُهُ بِمُوَاظَبَتِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ إلَّا لِعُذْرٍ، وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ ذَلِكَ الْعُذْرِ إنَّمَا اسْتَفَدْنَا أَنَّهُ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فَتَكُونُ الْعِشْرُونَ مُسْتَحَبًّا وَذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْهَا هُوَ السُّنَّةُ كَالْأَرْبَعِ بَعْدَ الْعِشَاءِ مُسْتَحَبَّةٌ وَرَكْعَتَانِ مِنْهَا هِيَ السُّنَّةُ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمَشَايِخِ أَنَّ السُّنَّةَ عِشْرُونَ، وَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ مَا قُلْنَا، فَالْأَوْلَى حِينَئِذٍ مَا هُوَ عِبَارَةُ الْقُدُورِيِّ مِنْ قَوْلِهِ يُسْتَحَبُّ لَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيهِ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ أَفْرَادَ الصَّحَابَةِ رُوِيَ عَنْهُمْ التَّخَلُّفُ) ذُكِرَ أَنَّ الطَّحَاوِيَّ رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعُرْوَةَ، وَنُقِلَ عَنْ الْقَاسِمِ وَإِبْرَاهِيمَ وَنَافِعٍ وَسَالِمٍ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إنْ أَمْكَنَهُ أَدَاؤُهَا فِي بَيْتِهِ مَعَ مُرَاعَاةِ سُنَّةِ الْقِرَاءَةِ وَأَشْبَاهِهَا فَيُصَلِّيهَا فِي بَيْتِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا كَبِيرًا يُقْتَدَى بِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «عَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» وَجَوَابُهُ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ ذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيَانِ الْعُذْرِ فِي تَرْكِهِ وَفِعْلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ
(قَوْلُهُ وَالْمُسْتَحَبُّ الْجُلُوسُ) قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: وَالْمُسْتَحَبُّ الِانْتِظَارُ بَيْنَ التَّرْوِيحَتَيْنِ لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِعَادَةِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ كَانُوا يُصَلُّونَ بَدَلَ ذَلِكَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فُرَادَى، وَأَهْلُ مَكَّةَ يَطُوفُونَ بَيْنَهُمَا أُسْبُوعًا وَيُصَلُّونَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ، إلَّا أَنَّهُ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ، وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ التَّنَفُّلِ مَا شَاءَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَبِّ بِجَمَاعَةٍ وَأَهْلُ كُلِّ بَلْدَةٍ بِالْخِيَارِ يُسَبِّحُونَ أَوْ يُهَلِّلُونَ أَوْ يَنْتَظِرُونَ سُكُوتًا أَوْ يُصَلُّونَ أَرْبَعًا فُرَادَى، وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ الِانْتِظَارُ
وَاسْتَحْسَنَ الْبَعْضُ الِاسْتِرَاحَةَ عَلَى خَمْسِ تَسْلِيمَاتٍ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَقَوْلُهُ ثُمَّ يُوتِرُ بِهِمْ يُشِيرُ إلَى أَنَّ وَقْتَهَا بَعْدَ الْعِشَاءِ قَبْلَ الْوِتْرِ، وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ وَقْتَهَا بَعْدَ الْعِشَاءِ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ قَبْلَ الْوِتْرِ وَبَعْدَهُ لِأَنَّهَا نَوَافِلُ سُنَّتْ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ الْقِرَاءَةِ فِيهَا، وَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ رحمهم الله عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِيهَا الْخَتْمُ مَرَّةً فَلَا يُتْرَكُ لِكَسَلِ الْقَوْمِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ مِنْ الدَّعَوَاتِ حَيْثُ يَتْرُكُهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ
(وَلَا يُصَلَّى الْوِتْرُ بِجَمَاعَةٍ
لِأَنَّ التَّرَاوِيحَ مَأْخُوذٌ مِنْ الرَّاحَةِ فَيُفْعَلُ ذَلِكَ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الِاسْمِ وَكَذَا هُوَ مُتَوَارَثٌ.
(قَوْلُهُ وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ) لِأَنَّهَا سُنَّةٌ تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ فَكَانَ وَقْتُهَا قَبْلَ الْوِتْرِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: اللَّيْلُ كُلُّهُ وَقْتُهَا قَبْلَ الْعِشَاءِ وَبَعْدَهُ لِأَنَّهَا قِيَامُ اللَّيْلِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ قَبْلَ الْوِتْرِ وَبَعْدَهُ بَعْدَ الْعِشَاءِ لِأَنَّهَا نَوَافِلُ سُنَّتْ بَعْدَ الْعِشَاءِ كَسُنَّتِهَا فَكَانَتْ تَبَعًا لَهَا. وَالْمُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ.
وَاخْتُلِفَ فِي أَدَائِهَا بَعْدَ النِّصْفِ، فَقِيلَ يُكْرَهُ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ كَسُنَّتِهَا وَالصَّحِيحُ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهَا صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالْأَفْضَلُ فِيهَا آخِرُهُ (قَوْلُهُ وَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ إلَخْ) يُقَابِلُ قَوْلَ الْأَكْثَرِ مَا قِيلَ الْأَفْضَلُ أَنْ يَقْرَأَ قَدْرَ قِرَاءَةِ الْمَغْرِبِ لِأَنَّ النَّوَافِلَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ خُصُوصًا بِالْجَمَاعَةِ وَمَا قِيلَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثِينَ آيَةً لِأَنَّ عُمَرَ أَمَرَ بِذَلِكَ فَيَقَعُ الْخَتْمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِأَنَّ كُلَّ عَشْرٍ مَخْصُوصٌ بِفَضِيلَةٍ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ أَنَّهُ «شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنْ النَّارِ» . وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَحَبَّ الْخَتْمَ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ رَجَاءَ أَنْ يَنَالُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ إذَا خَتَمَ قَبْلَ آخِرِهِ قِيلَ لَا يُكْرَه تَرْكُ التَّرَاوِيحِ فِيمَا بَقِيَ، وَقِيلَ يُصَلِّيهَا وَيَقْرَأُ فِيهَا مَا يَشَاءُ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عَشْرَ آيَاتٍ، فَعَدَدُ التَّرَاوِيحِ سِتُّمِائَةِ رَكْعَةٍ أَوْ خَمْسُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ، وَعَدَدُ آيِ الْقُرْآنِ سِتَّةُ آلَافٍ وَشَيْءٌ. وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ قَالَ: عَشْرُ آيَاتٍ وَنَحْوُهَا وَهُوَ حَسَنٌ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَانَ يَخْتِمُ إحْدَى وَسِتِّينَ خَتْمَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ خَتْمَةٌ وَفِي كُلِّ لَيْلَةٍ خَتْمَةٌ وَفِي كُلِّ التَّرَاوِيحِ خَتْمَةٌ (قَوْلُهُ وَلَا يُتْرَكُ لِكَسَلِ الْقَوْمِ) تَأْكِيدٌ فِي مَطْلُوبِيَّةِ الْخَتْمِ وَأَنَّهُ تَخْفِيفٌ عَلَى النَّاسِ لَا تَطْوِيلٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي النِّهَايَةِ، وَإِذَا كَانَ إمَامُ مَسْجِدِ حَيِّهِ لَا يَخْتِمُ فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ إلَى غَيْرِهِ (قَوْلُهُ حَيْثُ يَتْرُكُهَا) إذَا عَلِمَ أَنَّهَا تَثْقُلُ عَلَى الْقَوْمِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لَا يَتْرُكُهَا لِأَنَّهَا فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ، وَلَا يَتْرُكُ السُّنَنَ
فِي غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ) عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(بَابُ إدْرَاكِ الْفَرِيضَةِ)
(وَمَنْ صَلَّى رَكْعَةً مِنْ الظُّهْرِ ثُمَّ أُقِيمَتْ يُصَلِّي أُخْرَى) صِيَانَةً لِلْمُؤَدَّى عَنْ الْبُطْلَانِ (ثُمَّ يَدْخُلُ مَعَ الْقَوْمِ) إحْرَازًا لِفَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ
لِلْجَمَاعَاتِ كَالتَّسْبِيحَاتِ
(قَوْلُهُ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ) لِأَنَّهُ نَفْلٌ مِنْ وَجْهٍ، وَالْجَمَاعَةُ فِي النَّفْلِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ مَكْرُوهٌ فَالِاحْتِيَاطُ تَرْكُهَا فِيهِ. وَفِي بَعْضِ الْحَوَاشِي قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ صَلَّاهَا بِجَمَاعَةٍ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَعَدَمُ الْجَمَاعَةِ فِيهَا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ لَيْسَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا إلَى وَقْتٍ تَتَعَذَّرُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا قَدَحَ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ ثُمَّ يُعَدُّ عَدَمُ كَرَاهَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْوِتْرِ فِي رَمَضَانَ اخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ.
فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ الْجَمَاعَةُ كَانَتْ أَفْضَلَ، وَفِي النِّهَايَةِ بَعْدَ حِكَايَةِ هَذَا قَالَ: وَاخْتَارَ عُلَمَاؤُنَا أَنْ يُوتِرَ فِي مَنْزِلِهِ لَا بِجَمَاعَةٍ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى الْوِتْرِ بِجَمَاعَةٍ فِي رَمَضَانَ كَمَا اجْتَمَعُوا عَلَى التَّرَاوِيحِ، لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَؤُمُّهُمْ فِيهِ فِي رَمَضَانَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ كَانَ لَا يَؤُمُّهُمْ اهـ.
وَحَاصِلُ هَذَا اخْتِلَافٌ فِعْلِيٌّ وَأَنْتَ عَلِمْت مِمَّا قَدَّمْنَاهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ فِي بَابِ الْوِتْرِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوْتَرَ بِهِمْ ثُمَّ بَيَّنَ الْعُذْرَ فِي تَأْخِيرِهِ عَنْ مِثْلِ مَا صَنَعَ فِيمَا مَضَى، فَكَمَا أَنَّ فِعْلَهُ الْجَمَاعَةَ بِالنَّفْلِ ثُمَّ بَيَانَهُ الْعُذْرَ فِي تَرْكِهِ أَوْجَبَ سُنِّيَّتَهَا فِيهِ فَكَذَلِكَ الْوِتْرُ جَمَاعَةً لِأَنَّ الْجَارِيَ فِيهِ مِثْلُ الْجَارِي فِي النَّفْلِ بِعَيْنِهِ، وَكَذَا مَا نَقَلْنَاهُ مِنْ فِعْلِ الْخُلَفَاءِ يُفِيدُ ذَلِكَ، فَلَعَلَّ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْ الْجَمَاعَةِ فِيهِ أَحَبَّ أَنْ يُصَلِّيَ آخِرَ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ كَمَا قَالَ عُمَرُ: وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ، وَعَلِمَ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم " وَاجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا " فَأَخَّرَهُ لِذَلِكَ، وَالْجَمَاعَةُ فِيهِ إذْ ذَاكَ مُتَعَذِّرَةٌ فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ فِيهِ تَرْكُ الْجَمَاعَةِ لِمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ أَوَّلَ اللَّيْلِ كَمَا يُعْطِيهِ إطْلَاقُ جَوَابِ هَؤُلَاءِ.
(بَابُ إدْرَاكِ الْفَرِيضَةِ)
حَقِيقَةُ هَذَا الْبَابِ مَسَائِلُ شَتَّى تَتَعَلَّقُ بِالْفَرَائِضِ فِي الْأَدَاءِ الْكَامِلِ وَكُلُّهُ مَسَائِلُ الْجَامِعِ (قَوْلُهُ ثُمَّ أُقِيمَتْ) حَقِيقَةُ إقَامَةِ الشَّيْءِ فِعْلُهُ، وَهَذَا أَرَادَ لَا مَا إذَا شَرَعَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ الْإِمَامُ بَلْ يُتِمُّ رَكْعَتَيْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ
(وَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْ الْأُولَى بِالسَّجْدَةِ يَقْطَعُ وَيَشْرَعُ مَعَ الْإِمَامِ هُوَ الصَّحِيحُ) لِأَنَّهُ بِمَحَلِّ الرَّفْضِ، وَهَذَا الْقَطْعُ لِلْإِكْمَالِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي النَّفْلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِكْمَالِ،
ثُمَّ يَدْخُلُ مَعَهُمْ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) إلَيْهِ مَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ، وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ مُخْتَارِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يُتِمُّ رَكْعَتَيْنِ.
وَجْهُ مُخْتَارِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الصَّلَاةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي لَا يَحْنَثُ بِمَا دُونَ الرَّكْعَةِ فَكَانَ بِمَحَلِّ الرَّفْضِ، لَكِنْ فِيهِ أَنَّهُ وَقَعَ قُرْبَةً فَوَجَبَ صِيَانَتُهُ مَا أَمْكَنَ بِالنَّصِّ، وَاسْتِئْنَافُ الْفَرْضِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ لَا يُسْلَبُ قُدْرَةَ صَوْنِهِ عَنْ الْبُطْلَانِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إتْمَامِ الرَّكْعَتَيْنِ مَعَ تَحْصِيلِ فَضِيلَةِ صَلَاةِ الْفَرْضِ بِجَمَاعَةٍ وَإِنْ فَاتَهُ رَكْعَةٌ مَعَ الْإِمَامِ فَلَا يَجُوزُ الْإِبْطَالُ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَتَيْنِ. نَعَمْ غَايَةُ الْأَكْمَلِيَّةِ فِي أَنْ لَا يَفُوتَهُ شَيْءٌ مَعَ الْإِمَامِ، وَيُعَارِضُهُ حُرْمَةُ الْإِبْطَالِ، بِخِلَافِ إتْمَامِ رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِبْطَالٍ لِلصَّلَاةِ بَلْ لِوَصْفِهَا إلَى وَصْفٍ أَكْمَلَ فَصَارَ كَالنَّقْلِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَيَّدَهَا بِسَجْدَةٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَعَ فِي النَّفْلِ فَحَضَرَتْ جِنَازَةٌ خَافَ إنْ لَمْ يَقْطَعْهَا تَفُوتُهُ فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمَصْلَحَتَيْنِ مَعًا، وَقَطْعُ النَّفْلِ مُعَقِّبٌ لِلْقَضَاءِ، بِخِلَافِ الْجِنَازَةِ لَوْ اخْتَارَ تَفْوِيتَهَا كَانَ لَا إلَى خَلْفِ (قَوْلُهُ وَهَذَا الْقَطْعُ لِلْإِكْمَالِ) يَعْنِي هُوَ تَفْوِيتُ وَصْفِ الْفَرْضِيَّةِ لِتَحْصِيلِهِ بِوَجْهٍ أَكْمَلَ فَصَارَ كَهَدْمِ الْمَسْجِدِ لِتَجْدِيدِهِ، وَإِذَا كَانَ الْقَطْعُ ثُمَّ الْإِعَادَةُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ إحْسَانٍ جَائِزًا لِحُطَامِ الدُّنْيَا كَالْمَرْأَةِ إذَا فَارَ قِدْرُهَا وَالْمُسَافِرُ إذَا نَدَّتْ دَابَّتُهُ أَوْ خَافَ فَوْتَ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِهِ فَجَوَازُهُ لِتَحْصِيلِهِ نَفْسَهُ عَلَى وَجْهٍ أَكْمَلَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، ثُمَّ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا اتَّحَدَ مَسْجِدُهُمَا، فَلَوْ كَانَ يُصَلِّي فِي الْبَيْتِ مَثَلًا فَأُقِيمَتْ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ فَأُقِيمَتْ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ لَا يَقْطَعُ مُطْلَقًا ذَكَرَهُ الْمَرْغِينَانِيُّ.
وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ: بُطْلَانُ الْوَصْفِ يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْأَصْلِ هُوَ فِيمَا إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إخْرَاجِ نَفْسِهِ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالْمُضِيِّ، كَمَا إذَا قَيَّدَ خَامِسَةَ الظُّهْرِ بِسَجْدَةٍ وَلَمْ يَكُنْ قَعَدَ الْأَخِيرَةَ، أَمَّا إذَا
وَلَوْ كَانَ فِي السُّنَّةِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ فَأُقِيمَ أَوْ خَطَبَ يَقْطَعُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَقَدْ قِيلَ يُتِمُّهَا (وَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى ثَلَاثًا مِنْ الظُّهْرِ يُتِمُّهَا) لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ فَلَا يُحْتَمَلُ النَّقْضُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ بَعْدُ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ حَيْثُ يَقْطَعُهَا لِأَنَّهُ مَحَلُّ الرَّفْضِ وَيَتَخَيَّرُ، إنْ شَاءَ عَادَ وَقَعَدَ وَسَلَّمَ، وَإِنْ شَاءَ كَبَّرَ قَائِمًا يَنْوِي الدُّخُولَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ (وَإِذَا أَتَمَّهَا
كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْمُضِيِّ لَكِنْ أَذِنَ لَهُ الشَّرْعُ فِي عَمَلِهِ فَلَا يَبْطُلُ أَصْلُهَا بَلْ تَبْقَى نَفْلًا إذَا ضَمَّ الثَّانِيَةَ.
(قَوْلُهُ يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ) وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا.
وَحُكِيَ عَنْ السُّغْدِيِّ: كُنْت أُفْتِي أَنَّهُ يُتِمُّ سُنَّةَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ حَتَّى رَأَيْت فِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا شَرَعَ فِي سُنَّةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ خَرَجَ الْإِمَامُ قَالَ: إنْ كَانَ صَلَّى رَكْعَةً أَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى وَيُسَلِّمُ فَرَجَعْتُ وَإِلَيْهِ مَالَ السَّرَخْسِيُّ وَالْبَقَّالِيُّ.
وَقِيلَ يُتِمُّهَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ قَضَائِهَا بَعْدَ الْفَرْضِ، وَلَا إبْطَالَ فِي التَّسْلِيمِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فَلَا يَفُوتُ فَرْضُ الِاسْتِمَاعِ وَالْأَدَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ بِلَا سَبَبٍ (قَوْلُهُ حَيْثُ يَقْطَعُهَا) بِخِلَافِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ اخْتِيَارِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ عَدَمَ قَطْعِ الْأُولَى قَبْلَ السُّجُودِ وَضَمَّ ثَانِيَةٍ لِأَنَّ ضَمَّهَا هُنَا مُفَوِّتٌ لِاسْتِدْرَاكِ مَصْلَحَةِ الْفَرْضِ بِجَمَاعَةٍ فَيَفُوتُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ (قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ إلَخْ) قَالَ السَّرَخْسِيُّ: يَعُودُ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ صَلَاةٍ مُعْتَدٍّ بِهَا، وَذَلِكَ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا فِي حَالَةِ الْقُعُودِ.
وَاخْتُلِفَ إذَا عَادَ هَلْ يُعِيدُ التَّشَهُّدَ؟ قِيلَ نَعَمْ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ قُعُودَ خَتْمٍ، وَقِيلَ
يَدْخُلُ مَعَ الْقَوْمِ وَاَلَّذِي يُصَلِّي مَعَهُمْ نَافِلَةً) لِأَنَّ الْفَرْضَ لَا يَتَكَرَّرُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ
(فَإِنْ صَلَّى مِنْ الْفَجْرِ رَكْعَةً ثُمَّ أُقِيمَتْ يَقْطَعُ وَيَدْخُلُ مَعَهُمْ) لِأَنَّهُ لَوْ أَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى تَفُوتُهُ الْجَمَاعَةُ، وَكَذَا إذَا قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ قَبْلَ أَنْ يُقَيِّدَهَا بِالسَّجْدَةِ، وَبَعْدَ الْإِتْمَامِ لَا يَشْرَعُ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ لِكَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَكَذَا بَعْدَ الْعَصْرِ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بِالثَّلَاثِ مَكْرُوهٌ، وَفِي جَعْلِهَا أَرْبَعًا مُخَالَفَةٌ لِإِمَامِهِ.
يَكْفِيهِ ذَلِكَ التَّشَهُّدُ لِأَنَّهُ لَمَّا قَعَدَ ارْتَفَضَ ذَلِكَ الْقِيَامَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ، ثُمَّ قِيلَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً وَقِيلَ ثِنْتَيْنِ (قَوْلُهُ وَاَلَّذِي يُصَلِّي مَعَهُمْ نَافِلَةٌ) دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي مُسْلِمٍ «عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَيْفَ أَنْتَ إذَا كَانَ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا؟ قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرنِي؟ قَالَ: صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ» وَكَرَاهَةُ النَّفْلِ بِجَمَاعَةٍ خَارِجَ رَمَضَانَ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ مُتَنَفِّلِينَ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْإِعَادَةِ حِينَئِذٍ مَجَازٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْأَوَّلِ ذَكَرَهُ فِي الدِّرَايَةِ
(قَوْلُهُ لِكَرَاهَةِ النَّفْلِ بَعْدَ الْعَصْرِ) فَإِنْ قِيلَ: رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ رضي الله عنه قَالَ «شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَجَّتَهُ فَصَلَّيْتُ مَعَهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ إذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ فِي أُخْرَى الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّيَاهَا مَعَهُ، فَقَالَ: عَلَيَّ بِهِمَا، فَجِيءَ بِهِمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا، قَالَ: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّا كُنَّا صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا، قَالَ: فَلَا تَفْعَلَا، إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ، فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالصَّارِفُ الْأَمْرَ عَنْ الْوُجُوبِ جَعَلَهَا نَافِلَةً.
فَالْجَوَابُ هُوَ مُعَارَضٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ النَّفْلِ بَعْدَ الْعَصْرِ أَوْ الصُّبْحِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ لِزِيَادَةِ قُوَّتِهِ، وَلِأَنَّ الْمَانِعَ مُقَدَّمٌ، وَاعْتِبَارُهُمْ كَوْنَ الْخَاصِّ مُطْلَقًا مُقَدَّمًا عَلَى الْعَامِّ مَمْنُوعٌ بَلْ يَتَعَارَضَانِ فِي ذَلِكَ الْفَرْدِ وَمَوْضِعُهُ الْأُصُولُ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى مَا قَبْلَ النَّهْيِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَعْلُومَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، كَيْفَ وَفِيهِ حَدِيثٌ صَرِيحٌ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إذَا صَلَّيْتَ فِي أَهْلِكَ ثُمَّ أَدْرَكْتَ الصَّلَاةَ فَصَلِّهَا إلَّا الْفَجْرَ وَالْمَغْرِبَ». قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: تَفَرَّدَ بِرَفْعِهِ سَهْلُ بْنُ صَالِحٍ الْأَنْطَاكِيُّ وَكَانَ ثِقَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَضُرُّ وَقْفُ مَنْ وَقَفَهُ لِأَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يَخْفَى وَجْهُ تَعْلِيلِ إخْرَاجِهِ الْفَجْرَ بِمَا يُلْحَقُ بِهِ الْعَصْرُ خُصُوصًا عَلَى رَأْيِهِمْ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ وَدَلِيلُ التَّخْصِيصِ مِمَّا يُعَلَّلُ وَيُلْحَقُ بِهِ إخْرَاجًا (قَوْلُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَدْخُلُ مَعَهُ وَيُتِمُّهَا أَرْبَعًا، وَمَا عَنْهُ أَنَّهُ يُسَلِّمُ مَعَهُ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ التَّنَفُّلَ بِالثَّلَاثِ مَكْرُوهٌ وَهَذَا دَفْعٌ لِلرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْهُ (قَوْلُهُ وَفِي جَعْلِهَا أَرْبَعًا مُخَالَفَةُ إمَامِهِ) دَفْعٌ لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى مِنْهُ، وَمَا ذُكِرَ فِي وَجْهِهَا مِنْ أَنَّهُ تَغَيُّرٌ وَقَعَ
(وَمَنْ دَخَلَ مَسْجِدًا قَدْ أُذِنَّ فِيهِ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ حَتَّى يُصَلِّيَ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ النِّدَاءِ إلَّا مُنَافِقٌ أَوْ رَجُلٌ يَخْرُجُ لِحَاجَةٍ يُرِيدُ الرُّجُوعَ» قَالَ (إلَّا إذَا كَانَ مِمَّنْ يَنْتَظِمُ بِهِ أَمْرُ جَمَاعَةٍ) لِأَنَّهُ تَرْكُ صُورَةِ تَكْمِيلِ مَعْنًى (وَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى وَكَانَتْ الظُّهْرُ أَوْ الْعِشَاءُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ) لِأَنَّهُ أَجَابَ دَاعِيَ اللَّهِ مَرَّةً (إلَّا إذَا أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ) لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ بِمُخَالَفَةِ الْجَمَاعَةِ عِيَانًا (وَإِنْ كَانَتْ الْعَصْرَ أَوْ الْمَغْرِبَ أَوْ الْفَجْرَ خَرَجَ وَإِنْ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِيهَا) لِكَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ بَعْدَهَا.
(وَمَنْ انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَهُوَ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ:
بِسَبَبِ الِاقْتِدَاءِ، وَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي سَجْدَةٍ سَجَدَهَا وَهِيَ زِيَادَةٌ عَلَى كَمَالِ الْفَرْضِ. وَفِي وَجْهِ الْأُخْرَى أَنَّ هَذَا نَقْصٌ وَقَعَ بِسَبَبِ الِاقْتِدَاءِ، وَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا لَوْ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ فِي الظُّهْرِ بَعْدَ مَا صَلَّاهَا وَتَرَكَ الْإِمَامُ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَإِنَّهُ تَجُوزُ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي مَعَ خُلُوِّهِمَا عَنْ الْقِرَاءَةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَهُوَ نَقْصٌ فِي صَلَاةِ الْمُقْتَدِي، وَلَمْ يُكْرَهُ لِمَجِيئِهِ بِسَبَبِ الِاقْتِدَاءِ فَالْأَخِيرُ مَدْفُوعٌ بِمَنْعِ خُلُوِّهِ عَنْ الْقِرَاءَةِ حُكْمًا، وَكَذَا مَا قَبْلَهُ فَإِنَّ زِيَادَةَ نَحْوِ السَّجْدَةِ لَيْسَ زِيَادَةَ تَمَامِ مَاهِيَّةِ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ زِيَادَةِ رَكْعَةٍ تَامَّةٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ اعْتِبَارِ مَا هُوَ بِمَحَلِّ الرَّفْضِ اعْتِبَارُ مَا لَا يُمْكِنُ رَفْضُهُ.
وَالْأَوْجُهُ مَا قِيلَ فِي وَجْهِ الْأُولَى بِأَنَّهُ مُخَالَفَةٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَمْنُوعٍ شَرْعًا كَالْمَسْبُوقِ. وَقَدْ يُدْفَعُ بِأَنَّ مُرَادَهُ الْمُخَالَفَةُ فِي النِّيَّةِ. يَعْنِي إذَا اقْتَدَى وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْإِمَامَ يُصَلِّي ثَلَاثًا وَمِنْ عَزْمِهِ هُوَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا يَكُونُ مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ فِي النِّيَّةِ: وَإِطْلَاقُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» يُفِيدُ كَرَاهَتَهُ وَجَوَازَ مُخَالَفَتِهِ فِي صِفَةِ النَّفْلِيَّةِ بِالنَّصِّ الْمَذْكُورِ آنِفًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، أَوْ نَقُولُ: الْمُخَالَفَةُ فِي الْأَدَاءِ مَمْنُوعٌ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَهُ الشَّرْعُ بَعْدَ الْفَرَاغِ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ الْوِفَاقُ مَعْنًى، وَمَا نَحْنُ فِيهِ بِخِلَافِهِ إذْ يَحْصُلُ بِهِ الْخِلَافُ مَعْنًى، وَيُؤَيِّدُهُ تَصْرِيحُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ أَنَّهَا بِمَنْعِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ دَخَلَ وَلَا بُدَّ أَتَمَّهَا أَرْبَعًا وَلَوْ سَلَّمَ مَعَ الْإِمَامِ، فَعَنْ بِشْرٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَقِيلَ فَسَدَتْ وَيَقْضِي أَرْبَعًا لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِالِاقْتِدَاءِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ فَيَلْزَمُ أَرْبَعٌ كَمَا لَوْ نَذَرَ ثَلَاثًا.
وَلَوْ صَلَّى الْإِمَامُ أَرْبَعًا سَاهِيًا بَعْدَ مَا قَعَدَ عَلَى رَأْسِ الثَّلَاثِ وَقَدْ اقْتَدَى بِهِ الرَّجُلُ مُتَطَوِّعًا قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: تَفْسُدُ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي لِأَنَّ الرَّابِعَةَ وَجَبَتْ عَلَى الْمُقْتَدِي بِالشُّرُوعِ وَعَلَى الْإِمَامِ بِالْقِيَامِ إلَيْهَا، فَصَارَ كَرَجُلٍ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ بِالنَّذْرِ فَاقْتَدَى فِيهِنَّ بِغَيْرِهِ لَا تَجُوزُ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي كَذَا هَذَا.
(قَوْلُهُ يُكْرَهُ لَهُ الْخُرُوجُ حَتَّى يُصَلِّيَ) فِيهِ مُقَيَّدٌ بِمَا بَعْدَهُ مِنْ أَنْ لَا يَكُونَ صَلَّى وَلَيْسَ مِمَّنْ تَنْتَظِمُ بِهِ جَمَاعَةٌ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ خَرَجَ إلَيْهِمْ وَفِيهِ قَيْدٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدَ حَيِّهِ أَوْ غَيْرَهُ وَقَدْ صَلُّوا فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ، فَإِنْ لَمْ يُصَلُّوا فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَخْرُجَ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " لَا يَخْرُجَ " إلَخْ) رَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَدْرَكَ الْأَذَانَ فِي الْمَسْجِدِ
إنْ خَشَى أَنْ تَفُوتَهُ رَكْعَةٌ وَيُدْرِكَ الْأُخْرَى يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ يَدْخُلُ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ (وَإِنْ خَشَى فَوْتَهُمَا دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ) لِأَنَّ ثَوَابَ الْجَمَاعَةِ أَعْظَمُ،
ثُمَّ خَرَجَ لَمْ يَخْرُجْ لِحَاجَةٍ وَهُوَ لَا يُرِيدُ الرُّجُوعَ فَهُوَ مُنَافِقٌ» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ أَحَدٌ بَعْدَ النِّدَاءِ إلَّا مُنَافِقٌ، إلَّا أَحَدٌ أَخْرَجَتْهُ حَاجَةٌ وَهُوَ يُرِيدُ الرُّجُوعَ» وَمَرَاسِيلُ سَعِيدٍ يَقْبَلُهَا بَعْضُ مَنْ يَرُدُّ الْمَرَاسِيلَ مِنْ الْأَئِمَّةِ لِأَنَّهُ تَتَبَّعَهَا فَوَجَدَهَا مَسَانِيدَ.
وَأَخْرَجَ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: «كُنَّا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ رَجُلٌ حِينَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ لِلْعَصْرِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ.» وَمِثْلُ هَذَا مَوْقُوفٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ فِيهِ وَفِي نَظَائِرِهِ مُسْنَدٌ كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» وَقَالَ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ.
وَرَوَاهُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ وَزَادَ فِيهِ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ فَلَا تَخْرُجُوا حَتَّى تُصَلُّوا»
(قَوْلُهُ وَإِنْ خَشِيَ فَوْتَهُمَا) الْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ ارْتَكَبَ الْأَرْجَحَ، وَفَضِيلَةُ الْفَرْضِ
وَالْوَعِيدَ بِالتَّرْكِ أَلْزَمُ، بِخِلَافِ سُنَّةِ الظُّهْرِ حَيْثُ يَتْرُكُهَا فِي الْحَالَتَيْنِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَدَاؤُهَا فِي الْوَقْتِ بَعْدَ الْفَرْضِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي تَقْدِيمِهَا عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ وَتَأْخِيرِهَا عَنْهُمَا، وَلَا كَذَلِكَ سُنَّةُ الْفَجْرِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
بِجَمَاعَةٍ أَعْظَمُ مِنْ فَضِيلَةِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لِأَنَّهَا تَفْضُلُ الْفَرْضَ مُنْفَرِدًا بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ ضِعْفًا لَا يَبْلُغُ رَكْعَتَا الْفَجْرِ ضِعْفًا وَاحِدًا مِنْهَا لِأَنَّهَا أَضْعَافُ الْفَرْضِ، وَالْوَعِيدُ عَلَى التَّرْكِ لِلْجَمَاعَةِ أَلْزَمُ مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْإِمَامَةِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ هَمِّهِ عليه الصلاة والسلام بِتَحْرِيقِ بُيُوتِ الْمُتَخَلِّفِينَ وَمِنْ رِوَايَةِ الْحَاكِمِ «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ» الْحَدِيثَ، فَارْجِعْ إلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ يَرْجُو إدْرَاكَهُ فِي التَّشَهُّدِ قِيلَ هُوَ كَإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ عِنْدَهُمَا، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا اعْتِبَارَ بِهِ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ، وَالْوَجْهُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى صَلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ هُنَا لِمَا سَنَذْكُرُ، وَمَا عَنْ الْفَقِيهِ إسْمَاعِيلَ الزَّاهِدِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَشْرَعَ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ثُمَّ يَقْطَعَهُمَا فَيَجِبَ الْقَضَاءُ فَيَتَمَكَّنَ مِنْ الْقَضَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ دَفَعَهُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّ مَا وَجَبَ بِالشُّرُوعِ لَيْسَ أَقْوَى مِمَّا وَجَبَ بِالنَّذْرِ، وَنَصَّ مُحَمَّدٌ أَنَّ الْمَنْذُورَ لَا يُؤَدَّى بَعْدَ الْفَجْرِ قَبْلَ الطُّلُوعِ، وَأَيْضًا شُرُوعٌ فِي الْعِبَادَةِ بِقَصْدِ الْإِفْسَادِ.
فَإِنْ قِيلَ: يُؤَدِّيهَا مَرَّةً أُخْرَى.
قُلْنَا: إبْطَالُ الْعَمَلِ قَصْدًا مَنْهِيٌّ، وَدَرْءُ الْمَفْسَدَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ (قَوْلُهُ حَيْثُ يَتْرُكُهَا فِي الْحَالَتَيْنِ) أَيْ فِي حَالِ خَوْفِ فَوْتِ الْفَرْضِ وَحَالِ خَوْفِ فَوْتِ بَعْضِهِ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ لَا يَقْضِيهَا (قَوْلُهُ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إلَخْ) فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ قَبْلَهُمَا، وَقِيلَ الْخِلَافُ عَلَى عَكْسِهِ، وَالْأَوْلَى تَقْدِيمُ الرَّكْعَتَيْنِ لِأَنَّ الْأَرْبَعَ فَاتَتْ عَنْ الْمَوْضِعِ الْمَسْنُونِ فَلَا تَفُوتُ الرَّكْعَتَانِ أَيْضًا عَنْ مَوْضِعِهِمَا قَصْدًا بِلَا ضَرُورَةٍ.
وَفِي الْمُصَفَّى وَتَبِعَهُ شَارِحُ الْكَنْزِ جَعَلَ قَوْلَهُمَا بِتَأْخِيرِ الْأَرْبَعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَا تَقَعُ سُنَّةً بَلْ نَفْلًا مُطْلَقًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَقَعُ سُنَّةً فَيُقَدِّمُهَا عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ، وَاَلَّذِي يَقَعُ عِنْدِي أَنَّ هَذَا مِنْ تَصَرُّفِ الْمُصَنِّفِينَ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ الِاتِّفَاقُ عَلَى قَضَاءِ الْأَرْبَعِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَقْدِيمِهَا عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ وَتَأْخِيرِهَا عَنْهُمَا وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا تُقْضَى اتِّفَاقٌ عَلَى وُقُوعِهَا سُنَّةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ هَلْ تَقَعُ بَعْدَ الشَّمْسِ سُنَّةً أَوْ نَفْلًا مُبْتَدَأً حَكَوْا الْخِلَافَ فِي أَنَّهَا تُقْضَى أَوَّلًا، فَلَوْ كَانَا يَقُولَانِ فِي سُنَّةِ الظُّهْرِ إنَّهَا تَكُونُ نَفْلًا مُطْلَقًا لَجَعَلُوهَا خِلَافِيَّةً فِي أَصْلِ الْقَضَاءِ. فَاَلَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ أَنَّهُمْ إذَا قَالُوا تُقْضَى أَوَّلًا مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَفْعَلُ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَتَقَعُ سُنَّةً كَمَا هِيَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ لَا تَقَعُ سُنَّةً، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ فِي بَابِ التَّرَاوِيحِ: إذَا فَاتَتْ التَّرَاوِيحُ لَا تُقْضَى بِجَمَاعَةٍ وَهَلْ تُقْضَى بِلَا جَمَاعَةٍ؟ قِيلَ نَعَمْ مَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ تَرَاوِيحَ أُخْرَى، وَقِيلَ مَا لَمْ يَمْضِ رَمَضَانُ، وَقِيلَ لَا تُقْضَى، قِيلَ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهَا دُونَ سُنَّةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَتِلْكَ لَا تُقْضَى إذَا فَاتَتْ بِلَا فَرِيضَةٍ فَكَذَا التَّرَاوِيحُ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قَضَاهَا وَحْدَهُ كَانَ نَفْلًا مُسْتَحَبًّا وَلَا يَكُونُ تَرَاوِيحَ اهـ.
دَلَّ أَنَّهُ عَلَى اعْتِبَارِ جَعْلِهِ قَضَاءً يَقَعُ تَرَاوِيحَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إذَا فَاتَتْهُ الْأَرْبَعُ قَبْلَ الظُّهْرِ قَضَاهَا بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ»
وَالتَّقْيِيدُ بِالْأَدَاءِ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ. وَالْأَفْضَلُ فِي عَامَّةِ السُّنَنِ وَالنَّوَافِلِ الْمَنْزِلُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام.
قَالَ (وَإِذَا فَاتَتْهُ رَكْعَتَا الْفَجْرِ لَا يَقْضِيهِمَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ)
قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَلِذَا اتَّفَقُوا عَلَى قَضَائِهَا كَذَلِكَ (قَوْلُهُ وَالتَّقْيِيدُ بِالْأَدَاءِ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ) لِمَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» وَلِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمُخَالَفَةَ لِلْجَمَاعَةِ وَالِانْتِبَاذَ عَنْهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ إذْ لَا يُمْكِنُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ مَكَانٌ لِأَنَّ تَرْكَهُ الْمَكْرُوهَ مُقَدَّمٌ عَلَى فِعْلِ السُّنَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَتَفَاوَتُ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فِي الصَّيْفِيِّ فَصَلَاتُهُ إيَّاهَا فِي الشَّتْوِيِّ أَخَفُّ مِنْ صَلَاتِهَا فِي الصَّيْفِيِّ وَقَلْبُهُ، وَأَشَدُّ مَا يَكُونُ كَرَاهَةً أَنْ يُصَلِّيَهَا مُخَالِطًا لِلصَّفِّ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْجَهَلَةِ (قَوْلُ وَالْأَفْضَلُ فِي عَامَّةِ السُّنَنِ وَالنَّوَافِلِ الْمُنَزَّلُ) ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ إلَى أَنَّ لَفْظَ عَامَّةِ بِمَعْنَى الْأَكْثَرِ وَفِيهِ خِلَافٌ، وَذَكَرَ الْمَشَايِخُ أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِمْ قَالَ بِهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ وَنَحْوِهِ وَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ كَذَلِكَ هُنَا بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّرَاوِيحِ وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فِي السُّنَنِ.
وَأَمَّا فِي النَّوَافِلِ فَلَا، وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ كَوْنُ النَّوَافِلِ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ عَامَّةِ مَعْمُولًا لِلْحَرْفِ لَا عَلَى السُّنَنِ.
فَإِنْ قُلْت: فَهَلْ يُعْتَبَرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى رَكْعَتَيْ الْمَغْرِبِ وَالظُّهْرِ عَلَى مَا قَالَ فِي شَرْحِ الْآثَارِ إنَّ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ يُؤَدِّيهِمَا فِي الْمَسْجِدِ لَا مَا سِوَاهُمَا.
وَالْجَوَابُ هَذَا قَوْلُ الْبَعْضِ، وَعَامَّتُهُمْ عَلَى إطْلَاقِ الْجَوَابِ فَعِبَارَةُ الْكِتَابِ، وَبِهِ أَفْتَى الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ: إلَّا أَنْ يَخْشَى أَنْ يَشْتَغِلَ عَنْهَا إذَا رَجَعَ، فَإِنْ لَمْ يَخَفْ فَالْأَفْضَلُ الْبَيْتُ، وَمَا قَدَّمْنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي بَابِ النَّوَافِلِ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ الْحَلْوَانِيِّ لَا يُنَافِي هَذَا وَلَا مَا صَرَّحَ الزَّاهِدِيُّ بِهِ مِنْ كَرَاهَةِ سُنَّةِ الْمَغْرِبِ فِي الْمَسْجِدِ، إذْ وُقُوعُهَا سُنَّةً لَا يُنَافِي ثُبُوتَ كَرَاهَةِ مَا فِيهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَمَّاهَا سُنَّةً مَعَ الْكَرَاهَةِ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ غَيْرِ الْمَذْهَبِ إلَى أَنَّهُ يَصِيرُ عَاصِيًا.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ كَأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «اجْعَلُوهَا فِي بُيُوتِكُمْ» وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ رَجُلٍ سَمَّاهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي الْمَسْجِدِ مَا أَجْزَأَهُ، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ هَذَا الرَّجُلُ وَمَا أَحْسَنَ مَا انْتَزَعَ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: السُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ. قَالَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ: لَقَدْ رَأَيْت النَّاسَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إذَا انْصَرَفُوا مِنْ الْمَغْرِبِ انْصَرَفُوا جَمِيعًا حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْمَسْجِدِ أَحَدٌ كَأَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ حَتَّى يَصِيرُونَ إلَى أَهْلَيْهِمْ اهـ.
وَقَدَّمْنَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ «قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ لَمَّا رَآهُمْ يُصَلُّونَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ هَذِهِ صَلَاةُ الْبُيُوتِ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَقَالَ فِيهِ «ارْكَعُوا هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي بُيُوتِكُمْ» وَتَقَدَّمَ مِنْ الصَّحِيحِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: «حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ رَكَعَاتٍ» إلَخْ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «كَانَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ
لِأَنَّهُ يَبْقَى نَفْلًا مُطْلَقًا وَهُوَ مَكْرُوهٌ بَعْدَ الصُّبْحِ (وَلَا بَعْدَ ارْتِفَاعِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَقْضِيَهُمَا إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَضَاهُمَا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ غَدَاةَ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي السُّنَّةِ أَنْ لَا تُقْضَى لِاخْتِصَاصِ الْقَضَاءِ بِالْوَاجِبِ، وَالْحَدِيثُ وَرَدَ فِي قَضَائِهَا تَبَعًا لِلْفَرْضِ فَبَقِيَ
قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَفْصَةَ وَابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فِي بَيْتِهِ» وَسَنَذْكُرُ سُنَّةَ الْجُمُعَةِ فِي بَابِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم احْتَجَرَ حُجْرَةً فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ فِي رَمَضَانَ الْحَدِيثَ، إلَى أَنْ قَالَ فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد «صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» مَحْمُولٌ عَلَى الْمَكْتُوبَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ فِيمَا قَبْلَهُ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يَبْقَى نَفْلًا مُطْلَقًا) بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ، أَوْ قَدْ وَرَدَ وَلَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا.
وَإِذَا تَرَجَّحَ الْعَمَلُ بِهِ بَقِيَ الْمَفْعُولُ بَعْدَهَا نَفْلًا مُطْلَقًا، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الظُّهْرِ فَإِنَّهُ لَمْ يُعَارِضْ الدَّالَ عَلَى كَوْنِهِ قَضَاءَ مُعَارَضٍ فَيَكُونُ قَضَاءً لَا نَفْلًا مُطْلَقًا عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ (قَوْلُهُ لِاخْتِصَاصِ الْقَضَاءِ بِالْوَاجِبِ) قِيلَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ تَسْلِيمٌ مِثْلُ الْوَاجِبِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الِاصْطِلَاحَ عَلَى جَعْلِ مُسَمَّى هَذَا اللَّفْظِ كَذَا لَا يَمْنَعُ وُجُودَ الْقَضَاءِ مَعَ حَذْفِ ذَلِكَ الْقَيْدِ فِي الشَّرْعِ، وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى قَضَاءِ سُنَّةِ الظُّهْرِ الْأُولَى فَيَمْنَعُ النَّاظِرُ اعْتِبَارَ ذَلِكَ الْقَيْدِ فِي مَفْهُومِهِ، وَيَئُولُ الْأَمْرُ إلَى أَنَّ الِاصْطِلَاحَ لَا يَدْفَعُ اصْطِلَاحًا آخَرَ. أَوْ يُقَالُ: ذَلِكَ تَعْرِيفُ قَضَاءٍ لِلْوَاجِبِ لِأَنَّ كَلَامَهُمْ ذَلِكَ فِي تَقْسِيمِ حُكْمِ الْأَمْرِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ قَوْلِهِمْ حُكْمُ الْأَمْرِ نَوْعَانِ: أَدَاءٌ وَهُوَ تَسْلِيمُ نَفْسِ الْوَاجِبِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَقَضَاءٌ وَهُوَ تَسْلِيمُ مِثْلِ الْوَاجِبِ.
فَالْأَوْلَى فِي تَقْرِيرِهِ أَنْ يُقَالَ الْقَضَاءُ إنْ وَجَبَ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ تَوَقَّفَ قَضَاءُ كُلِّ نَفْلٍ وَوَاجِبٍ عَلَى سَمْعِيٍّ فِيهِ وَقَدْ وُجِدَ فِي كُلِّ وَاجِبٍ سَمْعِيٍّ عَامٍّ، وَفِي الْمَنْذُورِ الْمُعَيَّنِ إجْمَاعٌ عَلَى مَا نَقَلُوا وَهُوَ سَمْعِيٌّ أَيْضًا، وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي النَّفْلِ مُطْلَقًا فَاخْتَصَّ الْقَضَاءُ بِالْوَاجِبِ وَإِنْ وَجَبَ بِالسَّبَبِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُحَقِّقِينَ.
فَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ إذَا شَغَلَ الذِّمَّةَ وَطَلَبَ تَفْرِيغَهَا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَفَاتَ يَبْقَى السَّبَبُ طَالِبًا التَّفْرِيغَ عَلَى حَسَبِ الْوُسْعِ الْحَاصِلِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ بَعْدَ تَحَقُّقِ شَغْلِهَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِإِبْرَاءِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ أَوْ الْأَدَاءُ، وَهَذَا مُنْتَفٍ فِي السُّنَنِ إذْ لَا شَغْلَ ذِمَّةٍ فِيهَا بَلْ طُلِبَتْ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ
مَا رَوَاهُ عَلَى الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا تُقْضَى تَبَعًا لَهُ، وَهُوَ يُصَلِّي بِالْجَمَاعَةِ أَوْ وَحْدَهُ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، وَفِيمَا بَعْدَهُ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ رحمهم الله. وَأَمَّا سَائِرُ السُّنَنِ سِوَاهَا فَلَا تُقْضَى بَعْدَ الْوَقْتِ وَحْدَهُ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي قَضَائِهَا تَبَعًا لِلْفَرْضِ
(وَمَنْ أَدْرَكَ مِنْ الظُّهْرِ رَكْعَةً وَلَمْ يُدْرِكْ الثَّلَاثَ فَإِنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ بِجَمَاعَةٍ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: قَدْ أَدْرَكَ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ) لِأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ آخِرَ الشَّيْءِ فَقَدْ أَدْرَكَهُ فَصَارَ مُحْرِزًا ثَوَابَ الْجَمَاعَةِ لَكِنَّهُ لَمْ يُصَلِّهَا بِالْجَمَاعَةِ حَقِيقَةً
ابْتِدَاءً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا تَعَذَّرَ لَمْ يَبْقَ طَالِبُهَا إذْ الذِّمَّةُ لَمْ تَكُنْ مَشْغُولَةً بِهِ، وَمَا طَلَبَهَا إلَّا سُنَّةً وَهُوَ بِكَوْنِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا أَتَى بِشَيْءٍ يَكُونُ طَالِبُهُ السَّبَبَ الطَّالِبَ لِلنَّفْلِ عَلَى الْعُمُومِ فِي غَيْرِ الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ خَيْرُ مَوْضُوعٍ وَنَحْوِهِ مِنْ الْعُمُومَاتِ النَّادِبَةِ لِتَكْثِيرِ الصَّلَاةِ مَا أَمْكَنَ فَيَثْبُتُ بِهَذَا اخْتِصَاصُ الْوَاجِبِ بِالْقَضَاءِ عِنْدَ فَوْتِ الْأَدَاءِ فَلَا يَجْرِي الْقَضَاءُ فِي غَيْرِهَا إلَّا بِسَمْعِيٍّ، وَهُوَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى قَضَاءِ سُنَّةِ الْفَجْرِ تَبَعًا لِلْفَرْضِ فِي غَدَاةِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ، وَقَدَّمْنَا تَخْرِيجَهُ. وَأَلْفَاظَهُ وَبِهِ نَقُولُ، وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي سُنَّةِ الظُّهْرِ وَلِذَا نَقُولُ: لَا تُقْضَى سُنَّةُ الظُّهْرِ بَعْدَ الْوَقْتِ فَتَبْقَى فِيمَا وَرَاءَهُ عَلَى الْعَدَمِ، وَمُقْتَضَى هَذَا تَرَجُّحُ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ إذَا فَاتَ لَا تُقْضَى سُنَّتُهُ مَعَهُ، وَحِينَئِذٍ فَتَعْرِيفُ الْأَدَاءِ عَلَى وَجْهِهِ يَشْمَلُ فِعْلَ النَّوَافِلِ أَنْ يُقَالَ هُوَ تَسْلِيمُ عَيْنِ مَا طُلِبَ شَرْعًا فَيَشْمَلُ فِعْلَ النَّوَافِلِ وَالسُّنَنِ فِي أَوْقَاتِهَا وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ لَا تُوصَفَ بِأَدَاءٍ وَلَا قَضَاءٍ، وَالْقَضَاءُ فِعْلُ مِثْلِ ذَلِكَ (قَوْلُهُ وَإِنَّمَا تُقْضَى) أَيْ سُنَّةُ الْفَجْرِ تَبَعًا لَهُ: أَيْ الْفَجْرِ: أَيْ صَلَاةُ الصُّبْحِ إذَا كَانَتْ مَعَهَا وَهُوَ يُصَلِّي: أَيْ يَقْضِي صَلَاةَ الصُّبْحِ بِجَمَاعَةٍ أَوْ وَحْدَهُ عَلَى الْخِلَافِ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ فَلَوْ لَمْ يَقْضِهَا حَتَّى زَالَتْ الشَّمْسُ فَفِي قَضَائِهَا اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ، وَقِيلَ لَا تُقْضَى وَإِنْ كَانَتْ تَبَعًا لِلْفَرْضِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا قَضَاهَا تَبَعًا لَهُ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَقِيلَ يَقْضِيهَا بَعْدَ الزَّوَالِ تَبَعًا كَقَبْلِهِ.
وَأَمَّا سَائِرُ السُّنَنِ سِوَاهَا: أَيْ سِوَى سُنَّةِ الْفَجْرِ فَلَا تُقْضَى بَعْدَ الْوَقْتِ إذَا كَانَتْ وَحْدَهَا. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ إذَا فَاتَتْ مَعَ الْفَرْضِ: قِيلَ لَا تُقْضَى، وَقِيلَ تُقْضَى بِنَاءً عَلَى جَعْلِ الْوَارِدِ فِي قَضَاءِ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَأَرَادَ فِي غَيْرِهِ مِنْ السُّنَنِ الْفَائِتَةِ مَعَ فَرَائِضِهَا إلْغَاءً لِخُصُوصِ الْمَحَلِّ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ أَدْرَكَ مِنْ الظُّهْرِ رَكْعَةً وَلَمْ يُدْرِكْ الثَّلَاثَ فَإِنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ فِي جَمَاعَةٍ اتِّفَاقًا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: قَدْ أَدْرَكَ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ) وَأَحْرَزَ ثَوَابَهَا وِفَاقًا لِصَاحِبَيْهِ، لَا كَمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُحْرِزْ فَضْلَهَا عِنْدَ
وَلِهَذَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ لَا يُدْرِكُ الْجَمَاعَةَ، وَلَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ لَا يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْجَمَاعَةِ
(وَمَنْ أَتَى مَسْجِدًا قَدْ صَلَّى فِيهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَطَوَّعَ قَبْلَ الْمَكْتُوبَةِ مَا بَدَا لَهُ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ) وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضِيقٌ تَرَكَهُ. قِيلَ هَذَا فِي غَيْرِ سُنَّةِ الظُّهْرِ وَالْفَجْرِ لِأَنَّ لَهُمَا زِيَادَةُ مَزِيَّةٍ، قَالَ عليه الصلاة والسلام فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ «صَلُّوهُمَا وَلَوْ طَرَدَتْكُمْ الْخَيْلُ» وَقَالَ فِي الْأُخْرَى «مَنْ تَرَكَ الْأَرْبَعَ قَبْلَ الظُّهْرِ لَمْ تَنَلْهُ شَفَاعَتِي»
مُحَمَّدٍ لِقَوْلِهِ فِي مُدْرِكِ أَقَلِّ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْجُمُعَةِ لَمْ يُدْرَكْ الْجُمُعَةَ حَتَّى يَبْنِيَ الظُّهْرَ عَلَيْهَا، بَلْ قَوْلُهُ هُنَا كَقَوْلِهِمَا مِنْ أَنَّهُ مُحْرِزٌ ثَوَابَهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ فِي الْجُمُعَةِ كَذَلِكَ احْتِيَاطًا لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُهَا، بِخِلَافِ غَيْرِهَا لَكِنَّهُ لَمْ يُصَلِّهَا بِجَمَاعَةٍ حَقِيقَةً فَلِذَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ لَا يُدْرِكُ الْجَمَاعَةَ، وَكَذَا لَوْ أَدْرَكَ التَّشَهُّدَ يَكُونُ مُدْرِكًا لِفَضِيلَتِهَا عَلَى قَوْلِهِمْ وَهَذَا يُعَكِّرُ عَلَى مَا قِيلَ فِيمَنْ يَرْجُو إدْرَاكَ التَّشَهُّدِ فِي الْفَجْرِ لَوْ اشْتَغَلَ بِرَكْعَتَيْهِ مِنْ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا اعْتِبَارَ بِهِ فَيَتْرُكُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ عَلَى قَوْلِهِ، فَالْحَقُّ خِلَافُهُ لِنَصِّ مُحَمَّدٍ هُنَا عَلَى مَا يُنَاقِضُهُ (قَوْلُهُ وَلَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ لَا يُصَلِّي الظُّهْرَ بِجَمَاعَةٍ) فَلَوْ كَانَ صَلَّى مَعَهُ ثَلَاثًا فَعَلَى ظَاهِرِ الْجَوَابِ لَا يَحْنَثُ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّهَا بَلْ بَعْضَهَا بِجَمَاعَةٍ وَبَعْضُ الشَّيْءِ لَيْسَ بِالشَّيْءِ، وَاخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَعُلِمَ مِنْ السَّبْكِ الَّذِي سَبَكْنَاهُ وُقُوعُ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَسَبَبُ تَخْصِيصِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ التَّنْبِيهُ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الزَّعْمِ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ أَتَى مَسْجِدًا قَدْ صَلَّى فِيهِ) يَعْنِي فَاتَتْهُ جَمَاعَتُهُ وَصَارَ بِحَيْثُ يُصَلِّي الْفَرْضَ مُنْفَرِدًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَطَوَّعَ قَبْلَ الْمَكْتُوبَةِ مَا بَدَا لَهُ سُنَّةً أَوْ نَافِلَةً مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ ضِيقٌ وَلَكِنْ هُوَ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ تَرَكَ التَّطَوُّعَ (قِيلَ هَذَا) أَيْ تَرَكَ التَّطَوُّعَ لِلضِّيقِ (فِي غَيْرِ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ) أَمَّا هُمَا فَلَا يَتْرُكُهُمَا مَا أَمْكَنَهُ أَدَاءُ الْفَرْضِ فِي الْوَقْتِ بَعْدَهُمَا لِزِيَادَةِ
وَقِيلَ هَذَا فِي الْجَمِيعِ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام وَاظَبَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَدَاءِ الْمَكْتُوبَاتِ بِجَمَاعَةٍ، وَلَا سُنَّةَ دُونَ الْمُوَاظَبَةِ، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَتْرُكَهَا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِكَوْنِهَا مُكَمِّلَاتٍ لِلْفَرَائِضِ إلَّا إذَا خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ.
وَكَادَتِهِمَا (وَقِيلَ) بَلْ (هَذَا) أَيْ التَّرْكُ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ (فِي الْجَمِيعِ) أَيْ جَمِيعِ السُّنَنِ وَغَيْرِهَا كَمَا هُوَ الْعُمُومُ السَّابِقُ (لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَاظَبَ عَلَى السُّنَنِ عِنْدَ أَدَاءِ الْمَكْتُوبَاتِ بِجَمَاعَةٍ) لَا مُنْفَرِدًا وَهَذَا مُنْفَرِدٌ (وَلَا سُنَّةَ دُونَ الْمُوَاظَبَةِ) فَلَا تَكُونُ سُنَّةً فِي حَقِّهِ هَذَا السَّبْكُ هُوَ الْمُرَادُ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُرِدْهُ تَعَيَّنَ كَوْنُ الْمُرَادِ هَذَا: أَيْ عَدَمَ التَّرْكِ فِي الْكُلِّ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ فَلَمْ يُنَاسِبْهُ تَعْلِيلُهُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ إخْرَاجِ الْأَوَّلِ إلَّا التَّطَوُّعُ قَبْلَ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ، وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَقْتِ ضِيقٌ وَإِنْ صَلَّاهُمَا بِجَمَاعَةٍ إذْ لَيْسَتَا بِسُنَّةٍ رَاتِبَةٍ فَلَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ قَوْلِهِ قَدْ صَلَّى فِيهِ، وَيَفْسُدُ الْمَعْنَى أَيْضًا إذْ يُفِيدُ لَا يَتْرُكُ سُنَّةَ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ لَا يَتْرُكُ السُّنَنَ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ لَا سُنَّةَ إلَّا عِنْدَ أَدَاءِ الْفَرْضِ بِجَمَاعَةٍ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا وَاظَبَ عَلَيْهَا كَذَلِكَ، بَلْ الْحَقُّ أَنَّ سُنِّيَّتَهَا مُطْلَقَةٌ كَمَا هُوَ اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله لِإِطْلَاقِ الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ مِنْ شَرْعِيَّتِهَا، وَهُوَ تَكْمِيلُ الْفَرَائِضِ بِجَبْرِ الْخَلَلِ الَّذِي عَسَاهُ يَقَعُ فِيهَا وَقَطْعِ طَمَعِ الشَّيْطَانِ مِنْهُ أَنْ يُوَسْوِسَ لَهُ بِتَرْكِ الْفَرْضِ وَلِتَكُونَ الْمُتَقَدِّمَةُ مُعِينَةً عَلَى حُصُولِ الْجَمْعِيَّةِ فِي الْفَرْضِ لِقَطْعِ مَوَادِّ الشَّوَاغِلِ بِهَا قَبْلَ الْفَرْضِ فَيَدْخُلُ الْفَرْضُ وَقَدْ تَوَجَّهَتْ النَّفْسُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَلِيَ الْفَرْضَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الشَّوَاغِلِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَعَدَمِ الْمُوَاظَبَةِ إلَّا كَذَلِكَ وَقَعَ اتِّفَاقًا لِلِاتِّفَاقِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي الْفَرْضَ إلَّا كَذَلِكَ، هَذَا فِي حَقِّنَا، أَمَّا فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم فَزِيَادَةُ الدَّرَجَاتِ إذْ لَا خَلَلَ فِي صَلَاتِهِ وَلَا طَمَعَ (قَوْلُهُ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَتْرُكَهَا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا) ظَاهِرٌ فِي تَصْيِيرِ الْأَقْوَالِ ثَلَاثَةً يَتْرُكُهَا الْمُنْفَرِدُ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُكْرَهُ يَتْرُكُهَا إلَّا سُنَّةَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ لَا يَتْرُكُ شَيْئًا بَعْدَ كَوْنِ الْوَقْتِ بَاقِيًا وَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَحْوَالِ كُلِّهَا حَالُ ضِيقِ الْوَقْتِ وَسَعَتِهِ وَالِانْفِرَادِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَدْ يُرَادُ شُمُولُهُ لِلسَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ أَيْضًا فَيُفِيدُ اخْتِيَارَ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي السَّفَرِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَشَايِخِ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِنَانِ فِي السَّفَرِ فَلَا يُصَلِّي السُّنَّةَ فِيهِ، وَقِيلَ يُصَلِّيهَا لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْقُولِ مِنْ شَرْعِيَّتِهَا مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى الْمُسَافِرِ فِيهِ إذْ يُمْكِنُهُ أَدَاؤُهَا رَاكِبًا عَلَى مَا مَرَّ، لَكِنْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ سُنَّةِ الظُّهْرِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: لَوْ كُنْت مُسَبِّحًا لَأَتْمَمْت. وَلِأَنَّا لَا نَقُولُ لَا يُتَنَقَّلُ عَلَى الدَّابَّةِ فِي السَّفَرِ بَلْ الْكَلَامُ فِي ثُبُوتِ سُنِّيَّةِ الْمَعْهُودَةِ حَتَّى يَلْزَمَهُ إسَاءَةٌ بِالتَّرْكِ فَهَذَا هُوَ الْمَنْفِيُّ، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمَّا أَسْقَطَ شَطْرَ الْفَرْضِ عَنْهُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ لِلسَّفَرِ فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ غَيْرَهُ بِحَيْثُ يُلْزَمُهُ إسَاءَةٌ بِتَرْكِهِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ: فَحَدِيثُ سُنَّةِ الْفَجْرِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَدَعُوهُمَا وَإِنْ طَرَدَتْكُمْ الْخَيْلُ» وَفِيهِ ابْنُ سَيْلَانَ بِمُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ وَيَاءٍ سَاكِنَةٍ وَنُونٍ، قَالَ
(وَمَنْ انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ فِي رُكُوعِهِ فَكَبَّرَ وَوَقَفَ حَتَّى رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِتِلْكَ الرَّكْعَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ) هُوَ يَقُولُ: أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِيمَا لَهُ حُكْمُ الْقِيَامِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَدْرَكَهُ فِي حَقِيقَةِ الْقِيَامِ. وَلَنَا أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الْمُشَارَكَةُ
ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا نَدْرِي أَهُوَ عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَيْلَانَ أَوْ هُوَ جَابِرُ بْنُ سَيْلَانَ؟ وَأَيُّهُمَا كَانَ فَحَالُهُ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ، لَكِنْ صَرَّحَ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ بِمَا عَيَّنَهُ عَبْدُ الْحَقِّ مِنْ أَنَّهُ عَبْدُ رَبِّهِ وَقَالَ: هَكَذَا جَاءَ مُسَمًّى فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَدَنِيُّ أَبُو شَيْبَةَ الْوَاسِطِيُّ، أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ.
وَقَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ: سَأَلْت عَنْهُ بِالْمَدِينَةِ فَلَمْ يَحْمَدُوهُ قِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدَرِيًّا فَنَفَوْهُ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَأَمَّا رِوَايَاتُهُ فَلَا بَأْسَ بِهَا، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ: مُقَارِبُ الْحَدِيثِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ حَدِيثِ سُنَّةِ الظُّهْرِ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ.
وَمِمَّا وَرَدَ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَشَدَّ تَعَاهُدًا مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ» وَأَسْلَفْنَا عَنْهَا فِي الْبُخَارِيِّ «كَانَ صلى الله عليه وسلم لَا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ» وَأَخْرَجَ عَنْهَا فِي حَدِيثِ «وَلَمْ يَكُنْ يَدَعُهُمَا أَبَدًا» وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ قَابُوسِ بْنِ أَبِي ظَبْيَانِ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَسَأَلَهَا عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي وَيَدَعُ، وَلَكِنْ لَمْ أَرَهُ تَرَكَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي سَفَرٍ وَلَا حَضَرٍ وَلَا صِحَّةٍ وَلَا سَقَمٍ» وَأَسْنَدَ أَبُو يَعْلَى إلَى ابْنِ عُمَرَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لَا تَتْرُكُوا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَإِنَّ فِيهَا الرَّغَائِبَ» .
(قَوْلُهُ فَكَبَّرَ وَوَقَفَ حَتَّى رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ) وَكَانَ يُمْكِنُهُ الرُّكُوعُ أَوْ لَمْ يَقِفْ بَلْ انْحَطَّ فَرَفَعَ الْإِمَامُ قَبْلَ رُكُوعِهِ لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِهَذِهِ مَعَ الْإِمَامِ.
وَعِنْدَ زُفَرَ: يَصِيرُ مُدْرِكًا حَتَّى كَانَ لَاحِقًا عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الرَّكْعَةِ فَيَأْتِي بِهَا قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ، إذْ الْوَاجِبُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ قَبْلَهُ. وَلَكِنَّهُ لَوْ صَلَّاهُ بَعْدَ فَرَاغِهِ جَازَ، وَعِنْدَنَا هُوَ مَسْبُوقٌ بِهَا فَلَا يَأْتِي بِهَا إلَّا بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ هُوَ يَقُولُ أَدْرَكَ فِيمَا لَهُ حُكْمُ الْقِيَامِ وَهُوَ الرُّكُوعُ فَإِنَّ لَهُ حُكْمَهُ، حَتَّى لَوْ شَارَكَهُ فِيهِ صَارَ مُدْرِكًا الرَّكْعَةَ وَيَأْتِي بِتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ فِيهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَدْرَكَهُ فِي مَحْضِ الْقِيَامِ وَلَمْ يَرْكَعْ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى رَفَعَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُدْرِكًا لَهَا اتِّفَاقًا حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَرْكَعَ بَعْدَ الْإِمَامِ وَيَلْحَقُهُ.
وَلَنَا أَنَّ الِاقْتِدَاءَ مُتَابَعَةٌ وَشَرِكَةٌ، قَالَ صلى الله عليه وسلم «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا» وَفِيهِ «وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا» الْحَدِيثَ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ» إلَخْ، فَعُلِمَ أَنَّ
فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلَمْ يُوجَدْ لَا فِي الْقِيَامِ وَلَا فِي الرُّكُوعِ (وَلَوْ رَكَعَ الْمُقْتَدِي قَبْلَ إمَامِهِ فَأَدْرَكَهُ الْإِمَامُ فِيهِ جَازَ) وَقَالَ زَفَرُ: لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ قَبْلَ الْإِمَامِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ هَكَذَا مَا يَبْنِيهِ عَلَيْهِ.
الِاقْتِدَاءَ مُتَابَعَةٌ عَلَى وَجْهِ الْمُشَارَكَةِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْ هَذِهِ مُشَارَكَةٌ لَا فِي حَقِيقَةِ الْقِيَامِ وَلَا فِي الرُّكُوعِ، فَلَمْ يُدْرِكْ مَعَهُ الرَّكْعَةَ إذْ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُ مُسَمَّى الِاقْتِدَاءِ بَعْدُ، بِخِلَافِ مَنْ شَارَكَ فِي الْقِيَامِ ثُمَّ تَخَلَّفَ عَنْ الرُّكُوعِ لِتَحَقُّقِ مُسَمَّى الِاقْتِدَاءِ مِنْهُ بِتَحَقُّقِ جُزْءِ مَفْهُومِهِ فَلَا يُنْتَقَضُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالتَّخَلُّفِ لِتَحَقُّقِ مُسَمَّى اللَّاحِقِ فِي الشَّرْعِ اتِّفَاقًا وَهُوَ بِذَلِكَ وَإِلَّا انْتَفَى هَذَا، وَمُدْرِكُ الْإِمَامِ فِي الرُّكُوعِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَكْبِيرَتَيْنِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ، وَلَوْ نَوَى بِتِلْكَ التَّكْبِيرَةِ الْوَاحِدَةِ الرُّكُوعَ لَا الِافْتِتَاحَ جَازَ وَلَغَتْ نِيَّتُهُ (قَوْلُهُ وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ) فَيَجِبُ أَنْ يُعِيدَ هَذَا الرُّكُوعَ، فَإِنْ لَمْ يُعِدْهُ لَمْ تُجْزِهِ كَمَا لَوْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ هَذَا لِرُكُوعِ قَبْلَ رُكُوعِ الْإِمَامِ.
وَلَنَا أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الْمُشَارَكَةُ فِي جُزْءٍ مِنْ الرُّكْنِ لِأَنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الرُّكُوعِ وَقَدْ وُجِدَ فَيَقَعُ مَوْقِعَهُ وَيُعْتَبَرُ مِنْ حِينِ الْمُشَارَكَةِ الرُّكُوعُ الْمُقْتَدَى فِيهِ كَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ لِقَوْلِهِ إنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى فَاسِدٍ بَلْ هُوَ ابْتِدَاءٌ وَمَا قَبْلَهُ لَغْوٌ كَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ.
وَقَوْلُهُ كَمَا فِي الطَّرَفِ الْأَوَّلِ: يَعْنِي مَا لَوْ رَكَعَ مَعَهُ وَرَفَعَ قَبْلَهُ حَيْثُ يَجُوزُ وَيُكْرَهُ، كَذَا هَذَا يَجُوزُ وَيُكْرَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الرُّكُوعَ لَهُ طَرَفَانِ: طَرَفُ الِابْتِدَاءِ وَهُوَ الْأَوَّلُ، وَطَرَفُ الِانْتِهَاءِ، فَكَمَا صَحَّتْ مَعَ مُخَالَفَتِهِ فِي الْأَوَّلِ كَذَا الثَّانِي، وَيُكْرَهُ فِيهِمَا لِلنَّصِّ الَّذِي سَمِعْت، وَلَوْ سَجَدَ قَبْلَ إمَامِهِ وَأَدْرَكَهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ سَجَدَ قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ مِنْ الرُّكُوعِ ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْإِمَامُ فِيهَا لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ قَبْلَ أَوَانِهِ فِي حَقِّ الْإِمَام فَكَذَا فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ، وَلَوْ أَطَالَ الْإِمَامُ فِي السُّجُودِ فَرَفَعَ الْمُقْتَدِي فَظَنَّ أَنَّهُ سَجَدَ ثَانِيَةً فَسَجَدَ مَعَهُ إنْ نَوَى بِهَا الْأُولَى أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ تَكُونُ عَنْ الْأُولَى، وَكَذَا إنْ نَوَى الثَّانِيَةَ وَالْمُتَابَعَةَ تَرْجِيحًا لِلْمُتَابَعَةِ، وَتَلْغُو نِيَّةُ غَيْرِهِ لِلْمُخَالَفَةِ، وَإِنْ نَوَى الثَّانِيَةَ لَا غَيْرُ كَانَتْ عَنْ الثَّانِيَةِ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ الْإِمَامُ فِيهَا فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ مَعَ زُفَرَ.
وَعَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ سَجَدَ قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ مِنْ الرُّكُوعِ يَجِبُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهُ سَجَدَ قَبْلَ أَوَانِهِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ، فَكَذَا فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: الْمُقْتَدِي إذَا أَتَى بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ قَبْلَ الْإِمَامِ هَذِهِ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَتَى بِهِمَا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ بِالرُّكُوعِ مَعَهُ وَسَجَدَ قَبْلَهُ، أَوْ بِالرُّكُوعِ قَبْلَهُ وَسَجَدَ مَعَهُ، أَوْ أَتَى بِهِمَا قَبْلَهُ وَيُدْرِكُ الْإِمَامَ فِي آخِرِ الرَّكَعَاتِ، فَإِنْ أَتَى بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ قَبْلَ الْإِمَامِ فِي كُلِّهَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَةٍ بِلَا قِرَاءَةٍ وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَإِذَا رَكَعَ مَعَهُ وَسَجَدَ قَبْلَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ، وَإِذَا رَكَعَ قَبْلَهُ وَسَجَدَ مَعَهُ يَقْضِي أَرْبَعًا بِلَا قِرَاءَةٍ، وَإِنْ رَكَعَ بَعْدَ الْإِمَامِ وَسَجَدَ بَعْدَهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ انْتَهَى.
وَأَنْتَ إذَا عَلِمْت أَنَّ مُدْرِكَ أَوَّلِ صَلَاةِ الْإِمَامِ لَاحِقٌ وَهُوَ يَقْضِي قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ فَفِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَاتَتْهُ الرَّكْعَةُ الْأُولَى فَرُكُوعُهُ وَسُجُودُهُ فِي الثَّانِيَةِ قَضَاءٌ عَنْ الْأُولَى وَفِي الثَّالِثَةِ عَنْ الثَّانِيَةِ وَفِي الرَّابِعَةِ عَنْ الثَّالِثَةِ، وَيَقْضِي بَعْدَ الْإِمَامِ رَكْعَةً بِلَا قِرَاءَةٍ لِأَنَّهُ لَاحِقٌ. وَفِي الثَّانِيَةِ تَلْتَحِقُ سَجْدَتَاهُ فِي الثَّانِيَةِ بِرُكُوعِهِ فِي الْأُولَى لِأَنَّهُ كَانَ مُعْتَبَرًا، وَيَلْغُو رُكُوعُهُ
وَلَنَا أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الْمُشَارَكَةُ فِي جُزْءٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي الطَّرَفِ الْأَوَّلِ.
فِي الثَّانِيَةِ لِوُقُوعِهِ عَقِيبَ رُكُوعِهِ الْأَوَّلِ بِلَا سُجُودٍ. بَقِيَ عَلَيْهِ رَكْعَةٌ ثُمَّ رُكُوعُهُ فِي الثَّالِثَةِ مَعَ الْإِمَامِ مُعْتَبَرٌ وَيَلْتَحِقُ بِهِ سُجُودُهُ فِي رَابِعَةِ الْإِمَامِ فَيَصِيرُ عَلَيْهِ الثَّانِيَةُ وَالرَّابِعَةُ فَيَقْضِي رَكْعَتَيْنِ، وَقَضَاءُ الْأَرْبَعِ فِي الثَّالِثَةِ ظَاهِرٌ.
[تَتِمَّةٌ فِيمَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِيهِ وَمَا لَا] إذَا رَفَعَ الْمُقْتَدِي رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَبْلَ الْإِمَامِ يَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ وَلَا يَصِيرَ رُكُوعَيْنِ، وَكَذَا فِي السُّجُودِ، وَلَوْ رَفَعَ الْإِمَامُ مِنْ الرُّكُوعِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ الْمُقْتَدِي سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُتَابِعُهُ، وَلَوْ أَدْرَكَهُ فِي الرُّكُوعِ يُسَبِّحُ وَيَتْرُكُ الثَّنَاءَ، وَفِي صَلَاةِ الْعِيدِ يَأْتِي بِالتَّكْبِيرَاتِ فِي الرُّكُوعِ، وَلَوْ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ الْمَأْمُومُ التَّشَهُّدَ يُتِمُّهُ، وَإِنْ لَمْ يُتِمَّ وَقَامَ جَازَ، وَفِي الْقَعْدَةِ الثَّانِيَةِ إذَا سَلَّمَ أَوْ تَكَلَّمَ الْإِمَامُ وَهُوَ فِي التَّشَهُّدِ يُتِمُّهُ، وَلَوْ سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ الصَّلَاةِ أَوْ الدُّعَاءِ يُسَلِّمُ مَعَهُ، وَلَوْ أَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ التَّشَهُّدِ لَا يُتِمُّ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ حَدَثِ الْإِمَامِ عَمْدًا فِي الصَّلَاةِ بَلْ يَفْسُدُ ذَلِكَ الْجُزْءُ وَيَبْقَى بَعْدَ سَلَامِهِ وَكَلَامِهِ، وَلَوْ سَلَّمَ قَبْلَ الْإِمَامِ وَتَأَخَّرَ الْإِمَامُ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَحْدَهُ وَيُتَابِعُهُ فِي الْقُنُوتِ.
وَقَدَّمْنَا مَا لَوْ تَرَكَ الْإِمَامُ الْقُنُوتَ فِي بَابِ الْوِتْرِ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَقْنُتَ وَيُدْرِكَ الرُّكُوعَ قَنَتَ وَإِلَّا تَابَعَ. وَفِي نَظْمِ الزندويستي: خَمْسَةٌ إذَا لَمْ يَفْعَلْهَا الْإِمَامُ لَا يَفْعَلُهَا الْقَوْمُ: الْقُنُوتُ، وَتَكْبِيرَاتُ الْعِيدِ، وَالْقَعْدَةُ الْأُولَى، وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ إذَا تَلَا فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يَسْجُدْ، أَوْ سَهَا وَلَمْ يَسْجُدْ. وَأَرْبَعَةٌ إذَا فَعَلَهَا الْإِمَامُ لَا يَفْعَلُهَا الْمُقْتَدِي: إذَا زَادَ سَجْدَةً مَثَلًا، أَوْ زَادَ فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ مَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَسَمِعَ التَّكْبِيرَاتِ مِنْ الْإِمَامِ لَا الْمُؤَذِّنِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ، وَخَامِسَةٌ فِي تَكْبِيرِ الْجِنَازَةِ أَوْ قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ سَاهِيًا، وَسَنَذْكُرُ مَاذَا يَصْنَعُ الْمُقْتَدِي فِي هَذِهِ فِي بَابِ السَّهْوِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَتِسْعَةٌ إذَا لَمْ يَفْعَلْهَا الْإِمَامُ يَفْعَلُهَا الْقَوْمُ: إذَا لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ فِي الِافْتِتَاحِ، وَإِذَا لَمْ يُثْنِ مَا دَامَ فِي الْفَاتِحَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السُّورَةِ فَكَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَقَدْ عَرَفَ أَنَّهُ إذَا أَدْرَكَهُ فِي جَهْرِ الْقِرَاءَةِ لَا يُثْنِي، وَإِذَا لَمْ يُكَبِّرْ لِلِانْتِقَالِ، أَوْ لَمْ يُسَبِّحْ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَإِذَا لَمْ يَسْمَعْ أَوْ لَمْ يَقْرَأْ التَّشَهُّدَ، وَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ الْإِمَامُ يُسَلِّمُ الْقَوْمُ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا أَحْدَثَ لَا يُسَلِّمُونَ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَكَلَّمَ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُ بِالْحَدَثِ تَفْسُدُ مِنْ صَلَاتِهِمْ مَحَلُّهُ فَيَنْتَفِي مَحَلُّ السَّلَامِ، وَإِذَا نَسِيَ تَكْبِيرَ التَّشْرِيقِ.
[فَرْعٌ]
صَلَّى الْكَافِرُ بِجَمَاعَةٍ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَمُنْفَرِدًا لَا لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ صَلَاةِ دِينِنَا، وَوُجُودُ اللَّازِمِ الْمُسَاوِي يَسْتَلْزِمُ الْمَلْزُومَ الْمُعَيَّنَ، وَلَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِحَجٍّ وَلَا صَوْمِ رَمَضَانَ، وَفِي كَوْنِ الصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ مِنْ الْخُصُوصِيَّاتِ نَظَرٌ.
(بَابُ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ)
(وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ قَضَاهَا إذَا ذَكَرَهَا وَقَدَّمَهَا عَلَى فَرْضِ الْوَقْتِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْفَوَائِتِ وَفَرْضِ الْوَقْتِ عِنْدَنَا مُسْتَحَقٌّ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُسْتَحَبٌّ، لِأَنَّ كُلَّ فَرْضٍ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا لِغَيْرِهِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام
بَابُ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ)
(قَوْلُهُ لِأَنَّ كُلَّ فَرْضٍ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا لِغَيْرِهِ) هَذَا هُوَ الْأَصْلُ إلَّا مَا أَخْرَجَهُ عَنْهُ دَلِيلٌ، كَمَا فِي " الْإِيمَانُ أَعْظَمُ الْأُصُولِ " وَهُوَ شَرْطٌ لِكُلِّ الْعِبَادَاتِ، وَكَذَا الظُّهْرُ بِعَرَفَةَ تَقْدِيمُهَا شَرْطٌ لِلْعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِهَا لِلدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ. وَلَنَا مَا أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّرْجُمَانِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلَمْ يَذْكُرْهَا
إلَّا وَهُوَ مَعَ الْإِمَامِ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ فَلْيُعِدْ الَّتِي صَلَّاهَا مَعَ الْإِمَامِ» وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا، وَصَحَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَأَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُهُمَا وَقْفَهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي نِسْبَةِ الْخَطَإِ فِي رَفْعِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ نَسَبَهُ إلَى سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَسَبَهُ إلَى التَّرْجُمَانِيِّ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الرَّفْعَ زِيَادَةٌ وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَهُمَا ثِقَتَانِ. قَالَ ابْنُ مَعِينٍ فِي التَّرْجُمَانِيِّ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَذَا قَالَ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ، وَلِذَا وَثَّقَ ابْنُ مَعِينٍ سَعِيدًا، وَذَكَرَ الذَّهَبِيُّ فِي مِيزَانِهِ تَوْثِيقَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَهِمُ.
فَإِنْ قُلْت: لَا يُقَاوِمُ مَالِكًا. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُخْتَارَ فِي تَعَارُضٍ الْوَقْفِ وَالرَّفْعِ لَيْسَ كَوْنُ الِاعْتِبَارِ لِلْأَكْثَرِ وَلَا لِلْأَحْفَظِ وَإِنْ كَانَتْ مَذَاهِبَ بَلْ لِلرَّافِعِ بَعْدَ كَوْنِهِ ثِقَةً، وَهَذَا لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِذَاكَ هُوَ عِنْدَ تَعَارُضِ الْمَرْوِيَّيْنِ. وَلَا تَعَارُضَ فِي ذَلِكَ لِظُهُورِ أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ يَقِفُ الْحَدِيثَ وَقَدْ يَرْفَعُهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَمَسَّكْ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ» لِأَنَّ غَايَةَ مَا يُفِيدُهُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ وَقْتَ التَّذَكُّرِ لَا فَسَادُ الْوَقْتِيَّةِ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا تَمَسَّكَ بِهِ، لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ الْمُفَادُ فِيهِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ لِلْفَسَادِ لِمَا أَسَلَفنَا مِنْ وُجُوبِ إعَادَةِ الْمُؤَدَّاةِ مَعَ كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ سَلَّمْنَاهُ.
لَكِنَّ فَسَادَ الْوَقْتِيَّةِ بِهَذَا الْخَبَرِ بَعْدَ تَسْلِيمِ حُجِّيَّتِهِ مُعَارَضٌ بِصِحَّتِهَا بِالْقَاطِعِ الدَّالِ عَلَى أَنَّهُ وَقْتُهَا، وَلَازِمُهُ الشَّرْعِيُّ الصِّحَّةُ فِيهِ، وَلَازِمُ الْقَطْعِيِّ قَطْعِيٌّ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى قَطْعِيَّةِ اللُّزُومِ: وَقَطْعِيَّةُ لُزُومِ الصِّحَّةِ فِيهِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ شُرُوطِهِ الثَّابِتَةِ شَرْعًا.
وَقَدْ ثَبَتَ اشْتِرَاطُ تَقْدِيمِ الْفَائِتَةِ بِهَذَا النَّصِّ فَيَتَوَقَّفُ قَطْعِيَّةُ لُزُومِ الصِّحَّةِ فِيهِ عَلَى تَقْدِيمِهَا، لَكِنْ بَقِيَ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّهُ إثْبَاتُ شَرْطٍ لِلْمَقْطُوعِ بِهِ بِظَنِّيٍّ، وَقَدْ الْتَزَمَهُ فِي النِّهَايَةِ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ الْقَائِلِ: مَا عَمِلْتُمْ بِخَبَرِ الْفَاتِحَةِ مِثْلَ مَا عَمِلْتُمْ بِخَبَرِ التَّرْتِيبِ حَيْثُ قُلْتُمْ بِفَسَادِ الصَّلَاةِ عِنْدَ تَرْكِ التَّرْتِيبِ لَا عِنْدَ تَرْكِ الْفَاتِحَةِ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ لِزِيَادَةِ شَرْطٍ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ، وَتَعْيِينُ الْفَاتِحَةِ زِيَادَةُ رُكْنٍ فِيهَا فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ الشَّرْطُ لِأَنَّهُ أَحَطُّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ الرُّكْنُ انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ إثْبَاتَ شَرْطٍ لِلْمُطْلَقِ فِي الصِّحَّةِ مِنْ عَيْنِ الزِّيَادَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى الْقَاطِعِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ تَقْيِيدٌ لِلْمُطْلَقِ فِي الصِّحَّةِ بِهِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى تَأَمُّلٍ فِي الْأُصُولِ فَلَا يَجُوزُ. وَعَنْ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَدَلَ عَنْهُ بَعْدَ ذِكْرِهِ فِي النِّهَايَةِ إلَى جَوَابٍ آخَرَ جَعَلَهُ الْأَصَحَّ فَقَالَ:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أَوْ نَقُولُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنْ الْجَوَابِ لَوْ قُلْنَا بِتَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ عَلَى وَجْهٍ تَفْسُدُ بِتَرْكِهَا يَلْزَمُ نَسْخُ الْكِتَابِ الَّذِي يَقْتَضِي الْجَوَازَ بِدُونِهَا وَهُوَ إطْلَاقُ قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وَهُوَ لَا يَجُوزُ كَمَا قُلْنَا بِجَوَازِ الْوَقْتِيَّةِ مَعَ تَذَكُّرِ الْفَائِتَةِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ لِئَلَّا يَلْزَمَ مِثْلُ هَذَا.
وَأَمَّا لَوْ قُلْنَا بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ عِنْدَ سَعَةِ الْوَقْتِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْزَمُ فَسَادُ الْوَقْتِيَّةِ لَا يَلْزَمُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْخَبَرِ بَلْ كَانَ عَمَلًا بِهِمَا لِأَنَّ بِذَلِكَ يَتَأَخَّرُ حُكْمُ مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَلَا يَبْطُلُ وَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ التَّأْخِيرِ بِدُونِ هَذَا، وَهَذَا عَيْنُ نَظِيرِ مَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، فَلَوْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ لَا يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ كَيْ لَا يَلْزَمُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلٍ أَنَّ الْمَانِعَ هُوَ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى الْقَاطِعِ كَمَا هُوَ قَائِمٌ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ كَذَلِكَ هُوَ عِنْدَ سَعَتِهِ، فَإِنَّ الْقَاطِعَ اقْتَضَى الصِّحَّةَ مُطْلَقًا، فَإِذَا أَلْزَمْت التَّأْخِيرَ كَذَلِكَ كَانَ عَيْنُ تَقْدِيمِ الظَّنِّيِّ عَلَيْهِ.
نَعَمْ يَتَحَقَّقُ الْعَمَلُ بِهِمَا مِمَّنْ قَدَّمَ الْفَائِتَةَ بِنَاءً عَلَى اخْتِيَارِهِ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي هَذَا بَلْ إنَّ تَعْيِينَ تَقْدِيمِ الْفَائِتَةِ عِنْدَ سَعَةِ الْوَقْتِ عَلَى وَجْهٍ تَفْسُدُ الْوَقْتِيَّةُ لَوْ قَدَّمَتْ هَلْ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ بَلْ هَذَا تَقْدِيمُ الظَّنِّيِّ عَيْنًا عِنْدَ مُعَارَضَتِهِ الْقَاطِعَ فِي صِحَّةِ الْوَقْتِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَوْلُهُ إنَّهُ عَيْنُ نَظِيرِ مَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ إلَخْ قَدْ يُنْظَرُ فِيهِ بِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ بِمُزْدَلِفَةَ إلَى الْفَجْرِ، فَإِذَا لَمْ يُعِدْ حَتَّى طَلَعَ تَقَرَّرَ الْمَأْثَمُ بِتَرْكِ مُقْتَضَى خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ بِفَسَادِ الْمَغْرِبِ وَلُزُومِ قَضَائِهَا، وَالْحُكْمُ هُنَا فَسَادُ الْوَقْتِيَّةِ وَلُزُومُ قَضَائِهَا، وَبِذَلِكَ يَقَعُ التَّقْدِيمُ الْمُمْتَنِعُ، هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ ذَلِكَ الْقَاطِعِ وَمَعْرِفَةِ شَخْصِهِ وَلَمْ يُعَيِّنُوهُ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْتَفٍ، إذْ مَالِكٌ وَأَصْحَابُنَا لَمْ يَقُولُوا بِصِحَّةِ الْوَقْتِيَّةِ إذَا قُدِّمَتْ مُطْلَقًا فَلَا إجْمَاعَ.
وَيُمْكِنُ كَوْنُهُ حَدِيثَ إمَامَةِ جِبْرِيلَ حَيْثُ قَالَ: الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ أَوْ مَشْهُورٌ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُتَوَاتِرِ فِي تَقْيِيدِ مُطْلَقِ الْكِتَابِ بِهِ، وَحِينَئِذٍ فَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ وُجُوبُ تَقْدِيمِ الْفَائِتَةِ دُونَ فَسَادِ الْوَقْتِيَّةِ لَوْ لَمْ تُقَدَّمْ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَثِمَ لِتَرْكِ مُقْتَضَى خَبَرِ الْوَاحِدِ كَتَرْكِ الْفَاتِحَةِ سَوَاءً، وَدَعْوَى مَنْ ادَّعَى أَنَّ خَبَرَ التَّرْتِيبِ مَشْهُورٌ مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْخِلَافَ فِي رَفْعِهِ بَيْنِ الْمُحَدِّثِينَ ثَابِتٌ فَضْلًا عَنْ شُهْرَتِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَذْهَبَ تَقْدِيمُ الْوَقْتِيَّةِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ، فَلَوْ كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ لَقَدَّمُوا الْفَائِتَةَ مُطْلَقًا لِجَوَازِ تَقْيِيدِ الْكِتَابِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ فَيَكُونُ إطْلَاقُ جَوَازِ الْوَقْتِيَّةِ فِي كُلِّ الْوَقْتِ مُقَيَّدًا بِعَدَمِ الْفَائِتَةِ، لَكِنَّ هَذَا إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ لِأَنَّ الثَّابِتَ قَائِلَانِ: قَائِلٌ بِالِاسْتِحْبَابِ، وَقَائِلٌ بِالْوُجُوبِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ، فَجَعْلُهُ لِلْوُجُوبِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ وَهُوَ لَا يَجُوزُ، فَإِذَا امْتَنَعَ إعْمَالُ ظَاهِرِهِ مِنْ الْوُجُوبِ لَزِمَ حَمْلُهُ عَلَى النَّدْبِ، وَنَفْسُ الِامْتِنَاعِ لِلْإِحْدَاثِ هُوَ الْقَرِينَةُ الصَّارِفَةُ إلَى النَّدْبِ، فَظَهَرَ بِهَذَا الْبَحْثِ
(وَلَوْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ يُقَدِّمُ الْوَقْتِيَّةَ ثُمَّ يَقْضِيهَا) لِأَنَّ التَّرْتِيبَ يَسْقُطُ بِضِيقِ الْوَقْتِ، وَكَذَا بِالنِّسْيَانِ وَكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ الْوَقْتِيَّةِ، وَلَوْ قَدَّمَ الْفَائِتَةَ جَازَ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَقْدِيمِهَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ وَقَدَّمَ الْوَقْتِيَّةَ حَيْثُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا قَبْلَ وَقْتِهَا الثَّابِتِ بِالْحَدِيثِ
أَوْلَوِيَّةُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْقَائِلِينَ بِالِاسْتِحْبَابِ، وَهُوَ مَحْمَلُ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم التَّرْتِيبَ فِي الْقَضَاءِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْفِعْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ الْمُتَعَيَّنَ لِجَوَازِ كَوْنِهِ الْأُولَى (قَوْلُهُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ الْوَقْتِيَّةِ) تَعْلِيلٌ لِلسُّقُوطِ بِضِيقِ الْوَقْتِ وَكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ.
وَأَمَّا بِالنِّسْيَانِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا أَوْجَبَ التَّرْتِيبَ عِنْدَ التَّذَكُّرِ، ثُمَّ تَفْسِيرُ ضِيقِ الْوَقْتِ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي لَا يَسَعُ الْوَقْتِيَّةَ وَالْفَائِتَةَ وَلَا يُنَاطُ بِمُجَرَّدِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بَلْ بِالْوَاقِعِ، فَلَوْ ظَنَّ ضِيقَهُ فَصَلَّى الْوَقْتِيَّةَ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِ سَعَةٌ بَطَلَتْ، ثُمَّ يَنْظُرُ إنْ ظَنَّ أَنَّ الْبَاقِيَ صَارَ لَا يَسَعُهُمَا فَأَعَادَ الْوَقْتِيَّةَ ثُمَّ ظَهَرَ أَيْضًا خِلَافُهُ بَطَلَتْ أَيْضًا، ثُمَّ يَنْظُرُ أَيْضًا كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ إلَى أَنْ يَظْهَرَ بَعْدَ إعَادَةٍ مِنْ الْإِعَادَاتِ ضِيقُهُ صَادِقًا فَيُعِيدَ الْوَقْتِيَّةَ ثُمَّ يُصَلِّيَ الْفَائِتَةَ، وَإِنْ ظَهَرَ بَعْدَ إعَادَتِهِ أَنَّهُ يَسَعُهُمَا صَلَّى الْفَائِتَةَ ثُمَّ الْوَقْتِيَّةَ، وَلَوْ صَلَّى الْوَقْتِيَّةَ ثُمَّ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ فَصْلٌ فَصَلَّى الْفَائِتَةَ فَخَرَجَ الْوَقْتُ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ حُكِمَ بِجَوَازِ الْوَقْتِيَّةِ لِتَبَيُّنِ ضِيقِ الْوَقْتِ وَيُعْتَبَرُ ضِيقُ الْوَقْتِ عِنْدَ الشُّرُوعِ، حَتَّى لَوْ شَرَعَ فِي الْوَقْتِيَّةِ مَعَ تَذَكُّرِ الْفَائِتَةِ وَأَطَالَ حَتَّى ضَاقَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَقْطَعَهَا ثُمَّ يَشْرَعَ فِيهَا، وَلَوْ شَرَعَ نَاسِيًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَتَذَكَّرَ عِنْدَ ضِيقِهِ جَازَتْ، وَلَوْ تَعَدَّدَتْ الْفَوَائِتُ لَا بِحَيْثُ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ وَالْوَقْتُ يَسَعُ بَعْضَهَا لَا الْكُلَّ لَا تَجُوزُ الْوَقْتِيَّةُ حَتَّى يُصَلِّيَ ذَلِكَ، وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَيْسَ الصَّرْفُ إلَى هَذَا الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْهُ لِلْآخَرِ (قَوْلُهُ وَلَوْ قَدَّمَ الْفَائِتَةَ جَازَ) يَعْنِي يَصِحُّ لَا أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ اشْتَغَلَ بِالنَّافِلَةِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ يَكُونُ آثِمًا بِتَفْوِيتِ الْفَرْضِ بِهَا وَيُحْكَمُ بِصِحَّتِهَا (قَوْلُهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهَا) أَيْ غَيْرِ الْفَائِتَةِ وَهُوَ كَوْنُ الِاشْتِغَالِ بِهَا يُفَوِّتُ الْوَقْتِيَّةَ وَهَذَا يُوجِبُ كَوْنَهُ عَاصِيًا فِي ذَلِكَ، أَمَّا هِيَ فِي نَفْسِهَا فَلَا مَعْصِيَةَ فِي ذَاتِهَا هَذَا وَمَا أَمْكَنَ مُرَاعَاةُ حَالِ الْأَدَاءِ فِي الْقَضَاءِ يُرَاعَى، فَمِنْ ذَلِكَ الْجَهْرُ وَالْإِخْفَاءُ. فَإِنَّ أَمَّ فِي الْجَهْرِيَّةِ وَجَبَ الْجَهْرُ اتِّفَاقًا، وَإِنْ انْفَرَدَ فِي قَضَائِهَا فَفِيهِ خِلَافُ الْمَشَايِخِ، وَقَدَّمَهَا الْمُصَنِّفُ وَاخْتَارَ وُجُوبَ الْإِخْفَاءِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ الْأَوْلَى خِلَافُهُ وَتَقَدَّمَ الْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
وَفِي النِّهَايَةِ فِي بَابِ كَفَّارَةِ الْإِحْرَامِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ: مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ الصَّلَوَاتِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَقْضِيهَا بِالتَّكْبِيرَاتِ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (قَوْلُهُ قَبْلَ وَقْتِهَا الثَّابِتِ بِالْحَدِيثِ) يَعْنِي قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا» وَتَقَدَّمَ، أَفَادَ أَنَّ وَقْتَ التَّذَكُّرِ وَقْتُ الْفَائِتَةِ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ لَا يَكُونَ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ فَيَكُونُ أَدَاءُ الْوَقْتِيَّةِ فِيهِ قَبْلَ وَقْتِهَا الثَّابِتِ بِالْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَ وَقْتُهَا بِالْقَاطِعِ فَيَكُونُ إهْدَارًا لِأَحَدِ
(وَلَوْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ رَتَّبَهَا فِي الْقَضَاءِ كَمَا وَجَبَتْ فِي الْأَصْلِ)«لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَضَاهُنَّ مُرَتِّبًا، ثُمَّ قَالَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»
الدَّلِيلَيْنِ فِي غَيْرِ مُلْجِئٍ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى امْتِنَاعِ كَوْنِهِ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ إذْ جَعَلَ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ، إذْ لَا مَانِعَ مِنْ اعْتِبَارِهِ شَرْعًا وَقْتًا لَهُمَا بِحَيْثُ يَصِحُّ كُلٌّ مِنْهُمَا فِيهِ كَالصَّلَوَاتِ مِنْ الْفَرِيضَةِ وَالْمَنْذُورَةِ وَالنَّافِلَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى غَيْرِ الْمَعْلُومِ مِنْ كَوْنِ وَقْتِ التَّذَكُّرِ بَعْدَ انْقِضَاءِ وَقْتِهَا حَتَّى يَكُونَ الْأَدَاءُ فِيهِ خَالِيًا عَنْ الْإِثْمِ لِغَرَضِ كَوْنِ التَّأْخِيرِ لِلنَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَنَّ الْوَقْتَ لِلْوَقْتِيَّةِ أَيْضًا، نَعَمْ لَوْ عَلَّلُوا انْفِرَادَ الْفَائِتَةِ بِالْوَقْتِ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ» لَأَمْكَنَ، وَحِينَئِذٍ يَبْقَى فِيهِ مَا قُلْنَاهُ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ فِي تَقْدِيمِ الْفَائِتَةِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ
(قَوْلُهُ ثُمَّ قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي») لَيْسَ مِنْ تَمَامِ مَا اتَّصَلَ بِهِ بَلْ هُوَ حَدِيثٌ آخَرُ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِمَجْمُوعِ فِعْلِهِ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْأَرْبَعِ وَأَمْرُهُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَ فَلَزِمَ التَّرْتِيبُ، وَلَوْ قَالَهُ بِالْوَاوِ لَكَانَ أَقَلَّ إيهَامًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ لَيْسَ عَلَى صِرَافَةِ ظَاهِرِهِ مِنْ إيجَابِ كُلِّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ رُؤْيَتُهُمْ مِنْ صَلَاتِهِ فَإِنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى مَا هُوَ مِنْ السُّنَنِ وَالْآدَابِ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً فَهُوَ عَلَى النَّدْبِ إنْ اُعْتُبِرَتْ هَذِهِ الْمُرَادَةُ أَوْ عَلَى الْإِيجَابِ إنْ اُعْتُبِرَتْ غَيْرُهَا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ، أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا عَلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ فَرْعُ ثُبُوتِ الْوُجُوبِ بِغَيْرِهِ لِأَنَّ كَوْنَ هَذَا التَّرْتِيبِ وَاجِبًا عَيْنُ النِّزَاعِ وَصَلُّوا إلَى آخِرِهِ إيجَابُ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَأَوْهُ فَعَلَهَا فَلَا يُقَدَّمُ السُّجُودُ عَلَى الرُّكُوعِ وَلَا يُقْرَأُ فِي غَيْرِ الْقِيَامِ.
وَحَاصِلُهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَعْيِينُ الْكَيْفِيَّاتِ الْوَاجِبَةِ أَنْ تُغَيَّرَ، وَذَلِكَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْوُجُوبِ أَوَّلًا. وَغَايَةُ مَا يُدْفَعُ بِهِ هَذَا أَنْ يُقَالَ هُوَ مُفِيدٌ وُجُوبَ كُلِّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الرُّؤْيَةُ إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ فِيهِ عَلَى خِلَافِهِ مِنْ كَوْنِهِ سُنَّةً أَوْ أَدَبًا، وَحِينَئِذٍ يُقَالُ التَّرْتِيبُ مِنْ الْمُسْتَثْنَى لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ اسْتِلْزَامِ تَقْدِيمِ الظَّنِّيِّ عَلَى الْقَاطِعِ بِتَقْدِيرِ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ، ثُمَّ الْحَدِيثُ الثَّانِي هُوَ ذَيْلُ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ فِي الْبُخَارِيِّ وَتَقَدَّمَ.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ «إنَّ الْمُشْرِكِينَ شَغَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى ذَهَبَ مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعِشَاءَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ، إلَّا أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ: يَعْنِي فَهُوَ مُنْقَطِعٌ.
وَقَوْلُ الشَّيْخِ مُحَيِّي الدِّينِ النَّوَوِيِّ فِي الْخُلَاصَةِ لَمْ يُدْرِكْ أَبَاهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ أَبِي دَاوُد تُوُفِّيَ وَلِوَلَدِهِ أَبِي عُبَيْدَةَ سَبْعُ سِنِينَ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ عَنْ الْخُدْرِيِّ «حُبِسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ حَتَّى كُفِينَا ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا قَبْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعِشَاءَ كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ {فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا}» وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي النَّوْعِ الرَّابِعِ وَالثَّلَاثِينَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْعِشَاءَ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي وَقْتِهَا، وَذَكَرَهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِاعْتِبَارِ
(إلَّا أَنْ تَزِيدَ الْفَوَائِتُ عَلَى سِتِّ صَلَوَاتٍ) لِأَنَّ الْفَوَائِتَ قَدْ كَثُرَتْ (فَيَسْقُطُ التَّرْتِيبُ فِيمَا بَيْنَ الْفَوَائِتِ) نَفْسِهَا كَمَا سَقَطَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَقْتِيَّةِ، وَحْدُ الْكَثْرَةِ أَنْ تَصِيرَ الْفَوَائِتُ سِتًّا لِخُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ السَّادِسَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْمَذْكُورِ
أَنَّهَا تَأَخَّرَتْ عَنْ وَقْتِهَا الْمُعْتَادِ. وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم شُغِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ حَتَّى ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى الْعِشَاءَ. ثُمَّ قَالَ: مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ غَيْرُكُمْ» وَفِيهِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي الْمُخَارِقِ مُضَعَّفٌ. وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ أَنْ تَغِيبَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: فَوَاَللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا، فَنَزَلْنَا إلَى بَطْحَانَ فَتَوَضَّأَ صلى الله عليه وسلم وَتَوَضَّأْنَا، فَصَلَّى صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ بَعْدَمَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ» وَلَا يُعَارِضُهُ مَا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ صَلَّاهَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَلَا مَا انْفَرَدَ بِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ «حَبَسَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى احْمَرَّتْ الشَّمْسُ أَوْ اصْفَرَّتْ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مَلَأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا، أَوْ حَشَا اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا» اهـ.
لِوُجُوبِ حَمْلِ الْأَوَّلِ عَلَى إرَادَةِ بَيْنَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَهُوَ أَحَدُ مُحْتَمَلَيْهِ لِصِحَّةِ أَنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَالْمُفَادُ بِالثَّانِي أَنَّ الْحَبْسَ تَحَقَّقَ إلَى وَقْتِ الِاحْمِرَارِ فَوَقَعَ الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ إذْ ذَاكَ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ صَلَّاهَا إذْ ذَاكَ، وَقَدْ تَظَافَرَتْ رِوَايَةُ الصَّحِيحَيْنِ مَعَ مَا قَبْلَهَا أَنَّ صَلَاتَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَكَذَا لَا يُعَارِضُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّهُ صَلَّاهَا بَعْدَ الْغُرُوبِ الْأَحَادِيثَ السَّابِقَةَ مِنْ أَنَّهُ صَلَّاهَا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الْعِشَاءِ وَذَهَابِ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْهُ لِلتَّصَادُقِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ تَخْصِيصِ قَوْلِهِ " فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ " أَنَّهُ قَبْلَ وَقْتِ الْعِشَاءِ وَإِلَّا لَقَالَ بَعْدَمَا دَخَلَ وَقْتُ الْعِشَاءِ، لَكِنْ يَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى مُجَرَّدِ مَا يَصْدُقُ بِهِ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ أَيْضًا صَحَّتْ بِكَثْرَةِ الطُّرُقِ وَبَعْضُهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ (قَوْلُهُ إلَّا أَنْ تَزِيدَ الْفَوَائِتُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ رَتَّبَهَا فِي الْقَضَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ كَوْنُ الْفَوَائِتِ سَبْعًا لِأَنَّ مَا بِهِ الزِّيَادَةُ لَا يُوجِبُ اللَّفْظُ كَوْنَهُ فَائِتًا بَلْ إذَا انْضَمَّ إلَى الْفَوَائِتِ الْمُعَيَّنَةِ صَلَاةٌ صَدَقَ أَنَّ الْمُسَمَّى بِالْفَوَائِتِ زَادَتْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَائِتَةً، هَذَا غَايَةُ مَا يُؤَدِّيهِ اللَّفْظُ وَإِلَّا اسْتَلْزَمَ كَوْنَ الْفَوَائِتِ سَبْعًا (قَوْلُهُ وَحَدُّ الْكَثْرَةِ) قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ وَغَيْرِهِ: الْمُعْتَبَرُ أَنْ تَبْلُغَ الْأَوْقَاتُ الْمُتَخَلَّلَةُ سِتًّا مُذْ فَاتَتْهُ الْفَائِتَةُ وَإِنْ أَدَّى مَا بَعْدَهَا
فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ (وَإِنْ فَاتَتْهُ أَكْثَرُ مِنْ صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَجْزَأَتْهُ الَّتِي بَدَأَ بِهَا) لِأَنَّهُ إذَا زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ تَصِيرُ سِتًّا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ اعْتَبَرَ دُخُولَ وَقْتِ السَّادِسَةِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ بِالدُّخُولِ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ وَذَلِكَ فِي الْأَوَّلِ، وَلَوْ اجْتَمَعَتْ الْفَوَائِتُ الْقَدِيمَةُ وَالْحَدِيثَةُ، قِيلَ تَجُوزُ الْوَقْتِيَّةُ مَعَ تَذَكُّرِ الْحَدِيثَةِ لِكَثْرَةِ
فِي أَوْقَاتِهَا، وَقِيلَ يُعْتَبَرُ أَنْ تَبْلُغَ الْفَوَائِتُ سِتًّا وَلَوْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ صَلَوَاتٍ مَثَلًا الظُّهْرَ مِنْ يَوْمٍ وَالْعَصْرَ مِنْ يَوْمٍ وَالْمَغْرِبَ مِنْ يَوْمٍ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ.
يَعْنِي بَيْنَ الْمَتْرُوكَاتِ، وَعَلَى الثَّانِي لَا لِأَنَّ الْفَوَائِتَ بِنَفْسِهَا يُعْتَبَرُ أَنْ تَبْلُغَ سِتًّا، وَمِثْلُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُصَفَّى فِي وَجْهِ اقْتِصَارِ صَاحِبِ الْمَنْظُومَةِ عَلَى نَقْلِ الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِيمَا إذَا تَرَكَ ظُهْرًا وَعَصْرًا مِنْ يَوْمَيْنِ دُونَ أَنْ يَذْكُرَهُ فِي ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا.
قَالَ لِلْخِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَتْ ثَلَاثَةً، فَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ، لِأَنَّ مَا بَيْنَ الْفَوَائِتِ يَزِيدُ عَلَى سِتٍّ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ كَوْنُ الْفَوَائِتِ بِنَفْسِهَا سِتًّا: يَعْنِي فَلَمَّا اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ فِي الزَّائِدِ عَلَى الصَّلَاتَيْنِ اقْتَصَرَ فِي الْمَنْظُومَةِ عَلَى نَقْلِ الْخِلَافِ فِيهِمَا، وَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ عَلِمَ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّ الْوَقْتِيَّةَ الْمُؤَدَّاةَ مَعَ تَذَكُّرِ الْفَائِتَةِ تَفْسُدُ فَسَادًا مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يُصَلِّيَ كَمَالَ خَمْسِ وَقْتِيَّاتٍ، فَإِنْ لَمْ يُعِدْ شَيْئًا مِنْهَا حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ السَّادِسَةِ صَارَتْ كُلُّهَا صَحِيحَةً، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ عَلَى قَوْلِهِ كَوْنُ الْمُتَخَلَّلَاتِ سِتَّ فَوَائِتَ لِأَنَّهُ مَعَ دُخُولِ وَقْتِهَا ثَبَتَتْ الصِّحَّةُ فَلَا يَتَحَقَّقُ فَائِتًا سِوَى الْمَتْرُوكَةِ إذْ ذَاكَ، وَالْمُسْقَطُ هُوَ سِتُّ فَوَائِتَ لَا مُجَرَّدُ أَوْقَاتٍ لَا فَوَائِتَ فِيهَا فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ إذْ السُّقُوطُ بِكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ الْتِزَامُ الِاشْتِغَالِ بِأَدَائِهَا إلَى تَفْوِيتِ الْوَقْتِيَّةِ، فَمُجَرَّدُ الْأَوْقَاتِ بِلَا فَوَائِتَ لَا أَثَرَ لَهُ، فَلَا وَجْهَ لِاعْتِبَارِهِ.
فَإِنْ قُلْت: إنَّمَا ذَكَرَ مَنْ رَأَيْت فِي تَصْوِيرِ هَذِهِ أَنَّهُ إذَا صَلَّى السَّادِسَةَ مِنْ الْمُؤَدَّيَاتِ وَهِيَ سَابِعَةُ الْمَتْرُوكَةِ صَارَتْ الْخَمْسُ صَحِيحَةً وَلَمْ يَحْكُمُوا بِالصِّحَّةِ عَلَى قَوْلِهِ بِمُجَرَّدِ دُخُولِ وَقْتِهَا. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَجِبُ كَوْنُ
الْفَوَائِتِ، وَقِيلَ لَا تَجُوزُ وَيُجْعَلُ الْمَاضِي كَأَنْ لَمْ يَكُنْ
هَذَا مِنْهُمْ اتِّفَاقِيًّا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يُؤَدِّي السَّادِسَةَ فِي وَقْتِهَا لَا بَعْدَ خُرُوجِهِ. فَأُقِيمَ أَدَاؤُهَا مَقَامَ دُخُولِ وَقْتِهَا لِمَا سَنَذْكُرُ مِنْ أَنَّ تَعْلِيلَهُ لِصِحَّةِ الْخَمْسِ يَقْطَعُ ثُبُوتَ الصِّحَّةِ بِمُجَرَّدِ دُخُولِ الْوَقْتِ أَدَّاهَا أَوْ لَا، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ بِالْخَطَإِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ خِلَافَ الْمَشَايِخِ فِي الثَّلَاثِ إنَّمَا هُوَ فِي الْحُكْمِ بِأَنَّ عَدَمَ وُجُوبِ التَّرْتِيبِ هُوَ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، أَوْ عَلَى الْخِلَافِ كَمَا فِي الثِّنْتَيْنِ ابْتِدَاءً كَمَا نُحَقِّقُهُ بِذِكْرِ الْمَسْأَلَةِ بِشُعَبِهَا، وَبِهِ يَتَبَيَّنُ مَبْنَى الْخِلَافِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ إذْ قَدْ صِرْنَا إلَيْهَا إحْرَازًا لِفَائِدَتِهَا فَإِنَّهَا مُهِمَّةٌ وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْهِدَايَةِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا فِيهَا إلْحَاقُ نَاسِي التَّرْتِيبِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الْفَائِتَتَيْنِ بِنَاسِي الْفَائِتَةِ فَيَسْقُطُ التَّرْتِيبُ بِهِ، وَهُوَ أَلْحَقَهُ بِنَاسِي التَّعْيِينِ وَهُوَ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ لَمْ يَدْرِ مَا هِيَ وَلَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ يُعِيدُ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بِجَامِعِ تَحَقُّقِ طَرِيقٍ يَخْرُجُ بِهَا عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ فَيَجِبُ سُلُوكُهَا. وَهَذَا الْوَجْهُ يُصَرِّحُ بِإِيجَابِ التَّرْتِيبِ فِي الْقَضَاءِ عِنْدَهُ فَيَجِبُ الطَّرِيقُ الَّتِي يُعَيِّنُهَا لَا كَمَا قِيلَ إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَهُ فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ. ثُمَّ صُورَةُ قَضَاءِ الصَّلَاتَيْنِ عِنْدَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ ثُمَّ الظُّهْرَ، فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ أَوَّلًا هُوَ الظُّهْرُ فَالظُّهْرُ الْأَخِيرَةُ تَقَعُ نَفْلًا. وَإِنْ كَانَ هُوَ الْعَصْرُ فَالظُّهْرُ الْأُولَى تَقَعُ نَفْلًا.
وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَ بِالظُّهْرِ يَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْعَصْرِ فَيُصَلِّيَ الْعَصْرَ ثُمَّ الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ. وَلَوْ كَانَتْ الْفَوَائِتُ ثَلَاثًا ظُهْرٌ مِنْ يَوْمٍ وَعَصْرٌ مِنْ يَوْمٍ وَمَغْرِبٌ مِنْ يَوْمٍ وَلَا يَدْرِي تَرْتِيبَهَا وَلَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ ثُمَّ الظُّهْرَ ثُمَّ الْمَغْرِبَ ثُمَّ الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ ثُمَّ الظُّهْرَ سَبْعَ صَلَوَاتٍ. لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الثَّلَاثِ يَحْتَمِلُ كَوْنُهَا أُولَى أَوْ أَخِيرَةً أَوْ مُتَوَسِّطَةً تَجِيءُ تِسْعًا الثَّابِتُ فِي الْخَارِجِ سِتٌّ لِلتَّدَاخُلِ لِأَنَّ تَوَسُّطَ الظُّهْرِ يَصْدُقُ فِي الْخَارِجِ، أَمَّا مَعَ تَقَدُّمِ الْعَصْرِ أَوْ الْمَغْرِبِ فَلَا يَكُونُ كُلٌّ قُسِمَا بِرَأْسِهِ وَكَذَا هُمَا فَخَرَجَ بِوَاسِطَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ يَبْقَى الثَّابِتُ الظُّهْرُ ثُمَّ الْعَصْرُ ثُمَّ الْمَغْرِبُ أَوْ الظُّهْرُ ثُمَّ الْمَغْرِبُ ثُمَّ الْعَصْرُ فَهَذَانِ قِسْمَا تَقَدُّمِ الظُّهْرِ وَلِتَقَدُّمِ الْعَصْرِ مِثْلُهُمَا وَلِلْمَغْرِبِ كَذَلِكَ، فَإِنْ فَاتَتْهُ الْعِشَاءُ مِنْ يَوْمٍ آخَرَ مَعَ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ يُصَلِّي تِلْكَ السَّبْعَ ثُمَّ يُصَلِّي الرَّابِعَةَ وَهِيَ الْعِشَاءُ فَصَارَتْ ثَمَانِيَةً، ثُمَّ يُعِيدُ تِلْكَ السَّبْعَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ فَالْجُمْلَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ، فَلَوْ كَانَتْ خَمْسًا مِنْ خَمْسَةِ أَيَّامٍ بِأَنْ تَرَكَ الْفَجْرَ أَيْضًا يُصَلِّي إحْدَى وَثَلَاثِينَ صَلَاةً تِلْكَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِ ثُمَّ يُصَلِّي الْخَامِسَةَ: أَعْنِي الْفَجْرَ ثُمَّ يُعِيدُ تِلْكَ الْخَمْسَةَ عَشْرَةَ، فَالضَّابِطُ أَنَّ الْمَتْرُوكَةَ إنْ كَانَتَا ثِنْتَيْنِ يُصَلِّيهِمَا ثُمَّ يُعِيدُ أُولَاهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثًا صَلَّى تِلْكَ الثَّلَاثَ ثُمَّ الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَعَادَ تِلْكَ الثَّلَاثَ، وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعًا صَلَّى قَضَاءَ الثَّلَاثِ كَمَا قُلْنَا ثُمَّ الرَّابِعَةَ، ثُمَّ أَعَادَ مَا يَلْزَمُهُ فِي قَضَاءِ الثَّلَاثِ.
وَإِنْ كَانَتْ خَامِسَةً فَعَلَ مَا لَوْ كَانَ الْمَتْرُوكُ أَرْبَعًا ثُمَّ يُصَلِّي الْخَامِسَةَ ثُمَّ يَفْعَلُ مَا يَلْزَمُهُ فِي أَرْبَعٍ. وَإِنَّمَا أَطْنَبْنَا لِكَثْرَةِ سُؤَالِ السُّؤَالِ عَنْهُ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا كَأَنَّهُ تَخْفِيفًا عَلَى النَّاسِ لِكَسَلِهِمْ. وَإِلَّا فَدَلِيلُهُمَا لَا يَتَرَجَّحُ عَلَى دَلِيلِهِ.
وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيمَا وَرَاءَ الصَّلَاتَيْنِ، فَذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا تَرْتِيبَ بِالِاتِّفَاقِ فَلَا يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ الْأُولَى فِي قَوْلِ الْكُلِّ. قَالَ فِي الْحَقَائِقِ: وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ إعَادَةَ ثَلَاثِ صَلَوَاتٍ فِي وَقْتِ الْوَقْتِيَّةِ لِأَجْلِ التَّرْتِيبِ مُسْتَقِيمٌ، أَمَّا إيجَابُ سَبْعِ صَلَوَاتٍ
زَجْرًا لَهُ عَنْ التَّهَاوُنِ.
وَلَوْ قَضَى بَعْضَ الْفَوَائِتِ حَتَّى قَلَّ مَا بَقِيَ عَادَ التَّرْتِيبَ عِنْدَ الْبَعْضِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ تَرَكَ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَجَعَلَ يَقْضِي مِنْ الْغَدِ مَعَ كُلِّ وَقْتِيَّةٍ فَائِتَةً فَالْفَوَائِتُ جَائِزَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْوَقْتِيَّاتُ فَاسِدَةٌ إنْ قَدَّمَهَا لِدُخُولِ الْفَوَائِتِ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ،
فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا يَسْتَقِيمُ لِتَضَمُّنِهِ تَفْوِيتَ الْوَقْتِيَّةِ انْتَهَى، فَهَذَا يُوَضِّحُ لَك أَنَّ خِلَافَ هَؤُلَاءِ فِيمَا وَرَاءَ الثِّنْتَيْنِ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ إيجَابِ سَبْعٍ بِإِيجَابِ التَّرْتِيبِ، وَهُوَ كَسَبْعِ فَوَائِتَ مَعْنًى لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ إيجَابَ التَّرْتِيبِ فِي قَضَائِهَا يُوجِبُ سَبْعَ صَلَوَاتٍ، فَإِذَا كَانَ التَّرْتِيبُ يَسْقُطُ بِسِتٍّ فَأَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ بِسَبْعٍ، وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى لَمْ يَعْتَبِرُوا إلَّا تَحَقُّقَ فَوَائِتَ سِتٍّ، وَالْأَوَّلُونَ أَوْجَهُ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ سَقَطَ التَّرْتِيبُ بِالسِّتِّ مَوْجُودٌ فِي إيجَابِ سَبْعٍ، فَظَهَرَ بِهَذَا مَبْنَى الْخِلَافِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ كَمَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ زَجْرًا لَهُ عَنْ التَّهَاوُنِ) وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ لِأَنَّ هَذَا تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٌ.
وَمَا قَالُوا يُؤَدِّي إلَى التَّهَاوُنِ لَا إلَى الزَّجْرِ عَنْهُ، فَإِنَّ مَنْ اعْتَادَ تَفْوِيتَ الصَّلَاةِ وَغَلَبَ عَلَى نَفْسِهِ التَّكَاسُلُ لَوْ أَفْتَى بِعَدَمِ الْجَوَازِ يُفَوِّتُ أُخْرَى وَهَلُمَّ جَرًّا حَتَّى يَبْلُغَ حَدَّ الْكَثْرَةِ.
(قَوْلُهُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ) خِلَافُ مَا اخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَصَاحِبُ الْمُحِيطِ وَقَاضِي خَانْ وَصَاحِبُ الْمُغْنِي وَالْكَافِي وَغَيْرُهُمْ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَنْ مُحَمَّدِ فِيهِ نَظَرٌ نَذْكُرُهُ (قَوْلُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ) أَيْ سَوَاءٌ قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ (وَالْوَقْتِيَّاتُ فَاسِدَةٌ إنْ قَدَّمَهَا) أَيْ عَلَى الْفَوَائِتِ.
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ إذَا قَدَّمَ الْوَقْتِيَّةَ صَارَتْ هِيَ سَادِسَةَ الْمَتْرُوكَاتِ فَسَقَطَ التَّرْتِيبُ. فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَعُودَ كَانَ يَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا قَضَى بَعْدَهَا فَائِتَةً حَتَّى عَادَتْ الْمَتْرُوكَاتُ إلَى خَمْسٍ أَنْ تَجُوزَ الْوَقْتِيَّةُ الثَّانِيَةُ قَدَّمَهَا أَوْ أَخَّرَهَا. وَإِنْ وَقَعَتْ بَعْدَ عِدَّةٍ لَا تُوجِبُ سُقُوطَ التَّرْتِيبِ: أَعْنِي خَمْسًا أَوْ أَرْبَعًا لِسُقُوطِ التَّرْتِيبِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ إلَى الْخَمْسِ، وَجْهُ النَّظَرِ أَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ التَّرْتِيبُ أَصْلًا، فَإِنَّ سُقُوطَهُ بِخُرُوجِ وَقْتِ السَّادِسَةِ وَهُوَ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى صَارَتْ خَمْسًا بِقَضَاءِ الْفَائِتَةِ، وَلَا يُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ اعْتِبَارِ دُخُولِ وَقْتِ السَّادِسَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَفْسُدْ الْوَقْتِيَّاتُ، فَالْأَصَحُّ أَنَّ التَّرْتِيبَ إذَا سَقَطَ لَا يَعُودُ كَمَاءٍ نَجِسٍ دَخَلَ عَلَيْهِ مَاءٌ جَارٍ حَتَّى سَالَ ثُمَّ عَادَ قَلِيلًا لَمْ يَعُدْ نَجَسًا، فَلِذَا صَحَّحَ فِي الْكَافِي أَنَّهُ لَا يَعُودُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ إبْطَالَ الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْمَدْلُولِ فَكَيْفَ بِالِاسْتِشْهَادِ.
وَحَاصِلُهُ بُطْلَانُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَصًّا مِنْ مُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلْيَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، لَكِنَّ الْوَجْهَ يُسَاعِدُهُ بِجَعْلِهِ مِنْ قَبِيلِ انْتِهَاءِ الْحُكْمِ بِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ سُقُوطَ التَّرْتِيبِ كَانَ بِعِلَّةِ الْكَثْرَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْحَرَجِ، أَوْ أَنَّهَا مَظِنَّةُ تَفْوِيتِ الْوَقْتِيَّةِ، فَلَمَّا قُلْت زَالَتْ الْعِلَّةُ فَعَادَ الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ قَبْلُ، وَهَذَا مِثْلُ حَقِّ الْحَضَانَةِ الثَّابِتِ لِمُحْرِمِ الصَّغِيرِ مِنْ النِّسَاءِ يَنْتَهِي بِالتَّزَوُّجِ، فَإِذَا زَالَ التَّزَوُّجُ عَادَ لَا أَنَّهُ سَقَطَ فَيَكُونُ
وَإِنْ أَخَّرَهَا فَكَذَلِكَ إلَّا الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ لِأَنَّهُ لَا فَائِتَةَ عَلَيْهِ فِي ظَنِّهِ حَالَ أَدَائِهَا.
مُتَلَاشِيًا فَلَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ إلَّا لِسَبَبٍ آخَرَ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا فَائِتَةَ عَلَيْهِ فِي ظَنِّهِ حَالَ أَدَائِهَا) مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ جَاهِلًا، أَمَّا لَوْ اعْتَقَدَ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ كَانَتْ أَيْضًا فَاسِدَةً.
وَعَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ إذَا كَانَ الْفَرْضُ جَهِلَ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ وَأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي صِحَّةِ الْعِشَاءِ إذَا أَخَّرَهَا لِمُصَادَفَتِهِ مَحَلَّ اجْتِهَادٍ فَلَا وَجْهَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ تَقْدِيمِهَا وَتَأْخِيرِهَا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ وَإِنْ قَدَّمَهَا لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ جَاهِلٌ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفَائِتَةِ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهِ. وَالْجَوَابُ يُعْلَمُ مِنْ جَوَابِهِمْ لِطَلَبِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ ذَاكِرًا لَهَا حَيْثُ تَجِبُ إعَادَةُ الْعَصْرِ وَإِنْ ظَنَّ عَدَمَ وُجُوبِ التَّرْتِيبِ.
وَمَا لَوْ صَلَّى هَذِهِ الظُّهْرَ بَعْدَ هَذِهِ الْعَصْرِ وَلَمْ يُعِدْ الْعَصْرَ حَتَّى صَلَّى الْمَغْرِبَ ذَاكِرًا لَهَا حَيْثُ تَصِحُّ الْمَغْرِبُ إذْ قَالُوا إنَّ فَسَادَ الظُّهْرِ قَوِيٌّ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ فَصَلَحَ اسْتِتْبَاعُهُ لِفَسَادِ الْعَصْرِ، بِخِلَافِ فَسَادِ الْعَصْرِ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ لِقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ بِعَدَمِهِ فَلَمْ يَصْلُحْ مُسْتَتْبِعًا فَسَادَ الْمَغْرِبِ. فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِ الْمَحَلِّ مُجْتَهَدًا فِيهِ لَا يَسْتَلْزِمُ اعْتِبَارَ الظَّنِّ الْخَطَأِ فِيهِ مِنْ الْجَاهِلِ بَلْ إنْ كَانَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ ابْتِدَاءً لَا يُعْتَبَرُ الظَّنُّ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْبَنِي عَلَى الْمُجْتَهَدِ وَيَسْتَتْبِعُهُ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ الظَّنُّ لِزِيَادَةِ الضَّعْفِ.
فَفَسَادُ الْعَصْرِ هُوَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ ابْتِدَاءً، وَفَسَادُ الْمَغْرِبِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَاعْتُبِرَ. وَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ إذَا أَخَّرَ الْعِشَاءَ فَفَسَادُهَا بِسَبَبِ فَسَادِ الْوَقْتِيَّاتِ. وَفَسَادُ الْوَقْتِيَّاتِ هُوَ الْفَسَادُ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ فَهِيَ نَظِيرُ الْعُشْرِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِذَا قَدَّمَهَا فَفَسَادُهَا حِينَئِذٍ لِوُجُودِ الْفَائِتَةِ بِيَقِينٍ وَهِيَ آخِرُ الْمَتْرُوكَاتِ،
(وَمَنْ صَلَّى الْعَصْرَ وَهُوَ ذَاكِرٌ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ فَهِيَ فَاسِدَةٌ إلَّا إذَا كَانَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ) وَهِيَ مَسْأَلَةُ التَّرْتِيبِ (وَإِذَا فَسَدَتْ الْفَرْضِيَّةُ لَا يَبْطُلُ أَصْلُ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَبْطُلُ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ عُقِدَتْ لِلْفَرْضِ)، فَإِذَا بَطَلَتْ الْفَرْضِيَّةُ بَطَلَتْ. وَلَهُمَا أَنَّهَا عُقِدَتْ لِأَصْلِ الصَّلَاةِ بِوَصْفِ الْفَرْضِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ بُطْلَانِ الْوَصْفِ بُطْلَانُ الْأَصْلِ
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ إلَّا إذَا كَانَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ) يَعْنِي أَصْلَ الْوَقْتِ، وَعِنْدَ الْحَسَنِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ آخِرُ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ، حَتَّى لَوْ تَذَكَّرَ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ الظُّهْرِ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَغَلَ بِهَا يَقَعُ الْعَصْرُ قَبْلَ الْغُرُوبِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ لَا يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ فَيُصَلِّي الظُّهْرَ فِي الْمُسْتَحَبِّ وَالْعَصْرَ فِي الْمَكْرُوهِ. وَعِنْدَ الْحَسَنِ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ فَيُصَلِّي الْعَصْرَ فِي الْمُسْتَحَبِّ وَيُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إلَى مَا بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَلَوْ كَانَ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ مَا لَا يَسَعُ الظُّهْرُ سَقَطَ التَّرْتِيبُ بِالِاتِّفَاقِ لِعَدَمِ جَوَازِ الظُّهْرِ فِي الْمَكْرُوهِ، وَلَوْ شَرَعَ فِي الْعَصْرِ ذَاكِرًا لِلظُّهْرِ وَالشَّمْسُ حَمْرَاءُ وَغَرَبَتْ وَهُوَ فِيهَا أَتَمَّهَا. طَعَنَ فِيهِ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فَقَالَ: بَلْ يَقْطَعُهَا ثُمَّ يَبْدَأُ بِالظُّهْرِ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْغُرُوبِ وَقْتٌ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلظُّهْرِ وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَهَا تَكُونُ كُلُّهَا قَضَاءً.
وَلَوْ مَضَى فِيهَا كَانَ بَعْضُهَا فِي الْوَقْتِ فَكَانَ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ حِينَ شَرَعَ كَانَ مَأْمُورًا بِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْكُلَّ لَا يَقَعُ فِي الْوَقْتِ، فَلَوْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَانِعًا لِمَا أَمَرَ بِهِ (قَوْلُهُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ التَّرْتِيبِ) وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا لِيَصِلَ بِهَا مَسْأَلَةَ بُطْلَانِ الْوَقْتِ (قَوْلُهُ وَإِذَا فَسَدَتْ الْفَرْضِيَّةُ) بِتَذَكُّرِ الْفَائِتَةِ فِيهَا (لَا يَبْطُلُ أَصْلُ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَبْطُلُ) حَتَّى لَوْ قَهْقَهَ بَعْدَ التَّذَكُّرِ لَا تَنْتَقِضُ طَهَارَتُهُ (قَوْلُهُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ بُطْلَانِ الْوَصْفِ بُطْلَانُ الْأَصْلِ) يَعْنِي لَيْسَ الْمَوْجُودُ مِمَّا
(ثُمَّ الْعَصْرُ يَفْسُدُ فَسَادًا مَوْقُوفًا، حَتَّى لَوْ صَلَّى سِتَّ صَلَوَاتٍ وَلَمْ يُعِدْ الظُّهْرَ انْقَلَبَ الْكُلُّ جَائِزًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا يَفْسُدُ فَسَادًا بَاتًّا لَا جَوَازَ لَهُ بِحَالٍ) وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
يُبْطِلُ أَصْلَ الصَّلَاةِ كَالْحَدَثِ بَلْ وَصْفَ الْفَرْضِيَّةِ. وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ بُطْلَانِ الْوَصْفِ وَبُطْلَانِ الْأَصْلِ كَالْمُكَفِّرِ بِالصَّوْمِ إذَا أَيْسَرَ فِي خِلَالِ الْيَوْمِ لَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ فَيَصِيرُ مُفْطِرًا بَلْ يَبْطُلُ وَصْفُ وُقُوعِهِ كَفَّارَةً.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَوَّلَ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ «فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ ثُمَّ لِيُعِدْ الَّتِي صَلَّاهَا مَعَ الْإِمَامِ» (قَوْلُهُ وَلَمْ يُعِدْ الظُّهْرَ انْقَلَبَ الْكُلُّ جَائِزًا) بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعَادَ الظُّهْرَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ السَّادِسَةَ فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْخَمْسَ. وَلَوْ صَلَّى السَّادِسَةَ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِالْقَضَاءِ صَحَّ الْخَمْسُ، وَهَذَا مَا يُقَالُ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ تُفْسِدُ خَمْسًا وَوَاحِدَةٌ تُصَحِّحُ خَمْسًا. وَجْهُ قَوْلِهِمَا وَهُوَ الْقِيَاسُ أَنَّ سُقُوطَ التَّرْتِيبِ حُكْمٌ وَالْكَثْرَةَ عِلَّةٌ لَهُ، فَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ إذَا ثَبَتَتْ الْعِلَّةُ فِي حَقِّ مَا بَعْدَهَا لَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا كَمَا إذَا
(وَلَوْ صَلَّى الْفَجْرَ وَهُوَ ذَاكِرٌ أَنَّهُ لَمْ يُوتِرْ فَهِيَ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) خِلَافًا لَهُمَا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبَةٌ عِنْدَهُ سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا، وَلَا تَرْتِيبَ فِيمَا بَيْنَ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ، وَعَلَى هَذَا إذَا صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَصَلَّى السُّنَّةَ وَالْوِتْرَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى الْعِشَاءَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ فَعِنْدَهُ يُعِيدُ الْعِشَاءَ وَالسُّنَنَ دُونَ الْوِتْرِ، لِأَنَّ الْوِتْرَ فَرْضٌ عَلَى حِدَةٍ عِنْدَهُ. وَعِنْدَهُمَا يُعِيدُ الْوِتْرَ أَيْضًا لِكَوْنِهِ تَبَعًا لِلْعِشَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ فَسَكَتَ ثَبَتَ الْإِذْنُ فِيمَا يَبِيعُ بَعْدَ هَذَا لَا فِيهِ نَفْسِهِ، وَكَذَا صَيْرُورَةُ الْكَلْبِ مُعَلَّمًا بِتَرْكِ الْأَكْلِ ثَلَاثًا عِلَّةُ حِلِّ أَكْلِ مَأْخُوذِهِ وَأَثَرُهُ فِي حِلِّ مَا بَعْدَ الثَّالِثَةِ.
وَجْهُ قَوْلِهِ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ الْمُسْقِطَ الْكَثْرَةُ وَهِيَ قَائِمَةٌ بِالْكُلِّ فَوَجَبَ أَنْ تُؤْثِرَ السُّقُوطَ، وَلِهَذَا لَوْ أَعَادَهَا بِلَا تَرْتِيبٍ جَازَتْ عِنْدَهُمَا أَيْضًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ قِلَّتُهَا وَقَدْ زَالَتْ فَيَزُولُ الْمَنْعُ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَوَقَّفَ حُكْمٌ عَلَى أَمْرٍ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَالُهُ كَتَعَجُّلِ الزَّكَاةِ إلَى الْفَقِيرِ يَتَوَقَّفُ كَوْنُهَا فَرْضًا عَلَى تَمَامِ الْحَوْلِ وَالنِّصَابُ تَامٌّ، فَإِنْ تَمَّ عَلَى تَمَامِهِ كَانَ فَرْضًا وَإِلَّا نَفْلًا، وَكَوْنُ الْمَغْرِبِ فِي طَرِيقِ مُزْدَلِفَةَ فَرْضًا عَلَى عَدَمِ إعَادَتِهَا قَبْلَ الْفَجْرِ، فَإِنْ أَعَادَهَا كَانَتْ نَفْلًا، وَالظُّهْرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى عَدَمِ شُهُودِهَا، فَإِنْ شَهِدَهَا كَانَ نَفْلًا، وَصِحَّةُ صَلَاةِ الْمَعْذُورِ إذَا انْقَطَعَ الْعُذْرُ فِيهَا عَلَى عَوْدِهِ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي، فَإِنْ لَمْ يُعِدْ فَسَدَتْ وَإِلَّا صَحَّتْ، وَكَوْنُ الزَّائِدِ عَلَى الْعَادَةِ حَيْضًا عَلَى عَدَمِ مُجَاوَزَةِ الْعَشَرَةِ، فَإِنْ جَاوَزَ فَاسْتِحَاضَةٌ وَإِلَّا حَيْضٌ، وَصِحَّةُ الصَّلَاةِ الَّتِي صَلَّتْهَا صَاحِبَةُ الْعَادَةِ فِيمَا إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا دُونَ الْعَادَةِ فَاغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ، فَإِنْ عَادَ فَفَاسِدَةٌ وَإِلَّا صَحِيحَةٌ.
وَلَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلٍ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ يُوجِبُ ثُبُوتَ صِحَّةِ الْمُؤَدَّيَاتِ بِمُجَرَّدِ دُخُولِ وَقْتِ سَادِسَتِهَا الَّتِي هِيَ سَابِعَةُ الْمَتْرُوكَةِ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ تَثْبُتُ حِينَئِذٍ وَهِيَ الْمُسْقِطَةُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى أَدَائِهَا كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي التَّصْوِيرِ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ لَا تَتَوَقَّفُ الصِّحَّةُ عَلَى مَا إذَا كَانَ ظَانًّا عَدَمَ وُجُوبِ التَّرْتِيبِ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا ظَنَّهُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْمُحِيطِ عَنْ مَشَايِخِهِمْ، فَإِنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورِ يَقْطَعُ بِإِطْلَاقِ الْجَوَابِ سَوَاءٌ ظَنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ أَوْ لَا.
(فُرُوعٌ)
تَرَكَ الصَّلَاةَ عَمْدًا كَسَلًا يُضْرَبُ وَيُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَهَا لَا يُقْتَلُ إلَّا إذَا جَحَدَ أَوْ اسْتَخَفَّ وُجُوبَهَا.
صَبِيٌّ نَامَ فَاحْتَلَمَ بَعْدَ مَا صَلَّى الْعِشَاءَ وَلَمْ يَسْتَيْقِظْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ يَقْضِي الْعِشَاءَ، هِيَ وَاقِعَةُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَسَأَلَ عَنْهَا الْإِمَامَ فَأَجَابَهُ بِذَلِكَ.
أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ جَاهِلًا بِالشَّرَائِعِ لَمْ يَقْضِ خِلَافًا لِزُفَرَ، قَاسَهُ عَلَى مَا لَوْ أَسْلَمَ فِينَا. قُلْنَا: الْخِطَابُ إنَّمَا يَلْزَمُ بِالْعِلْمِ بِهِ أَوْ بِدَلِيلِهِ وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ فِينَا فَإِنَّ عِنْدَهُ دَلِيلَهُ.
صَلَّى وَارْتَدَّ، وَأَسْلَمَ فِي الْوَقْتِ يُعِيدُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، فَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَقْضِي مَا فَاتَهُ زَمَانَ الرِّدَّةِ خِلَافًا لَهُ بِنَاءً عَلَى حَبْطِ ذَلِكَ الْمُؤَدَّى بِالرِّدَّةِ، فَلَمْ يَبْقَ شَيْئًا ثُمَّ أَدْرَكَ وَقْتَ الْوُجُوبِ وَهُوَ آخِرُ الْوَقْتِ مُسْلِمًا فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْخِطَابُ إذْ أَدْرَكَ السَّبَبَ خَالِيًا عَنْ الْأَدَاءِ فَتَعَلَّقَ بِهِ خِطَابُ الْوَضْعِ فَلَزِمَهُ حُكْمُهُ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَاطَبْ فِي حَالِ كُفْرِهِ بِالشَّرَائِعِ عِنْدَنَا، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ إعَادَةُ حَجِّهِ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْوَقْتِ إلَى الصَّلَاةِ كَنِسْبَةِ الْعُمْرِ إلَى الْحَجِّ فَحَبَطَ ثُمَّ أَدْرَكَ وَقْتَهُ مُسْلِمًا فَلَزِمَهُ.
بَابُ سُجُودِ السَّهْوِ
(يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ ثُمَّ يُسَلِّمُ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ» وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ
(بَابُ سُجُودِ السَّهْوِ)
(قَوْلُهُ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ) مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ الْوَقْتُ صَالِحًا حَتَّى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إذَا لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ بَعْدَ السَّلَامِ الْأَوَّلِ سَقَطَ عَنْهُ السُّجُودُ، وَكَذَا إذَا سَهَا فِي قَضَاءِ الْفَائِتَةِ فَلَمْ يَسْجُدْ حَتَّى احْمَرَّتْ، وَكَذَا فِي الْجُمُعَةِ إذَا خَرَجَ وَقْتُهَا، وَكُلُّ مَا يَمْنَعُ الْبِنَاءَ إذَا وُجِدَ بَعْدَ السَّلَامِ يُسْقِطُ السَّهْوَ.
وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ السُّجُودِ أَنْ يُسَلِّمَ وَمِنْ قَصْدِهِ السُّجُودَ، بَلْ لَوْ سَلَّمَ ذَاكِرًا لِلسَّهْوِ مِنْ عَزْمِهِ أَنْ لَا يَسْجُدَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ وَلَا يَبْطُلُ سُجُودُهُ، كَمَنْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ وَمِنْ عَزْمِهِ أَنْ يُفْسِدَهَا لَا تَفْسُدُ إلَّا بِتَحْقِيقِ ذَلِكَ الْقَصْدِ بِالْفِعْلِ وَنِيَّتُهُ لَغْوٌ (قَوْلُهُ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ السَّهْوَ يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ.
وَأَمَّا رَفْعُ الْقَعْدَةِ فَلَا بِخِلَافِ السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ إذَا تَذَكَّرَهُمَا أَوْ إحْدَاهُمَا فِي الْقَعْدَةِ فَسَجْدَةٌ فَإِنَّهُمَا يَرْفَعَانِ الْقَعْدَةَ حَتَّى يُفْتَرَضَ الْقُعُودُ بَعْدَهُمَا لِأَنَّ مَحَلَّهُمَا قَبْلَهَا. وَعَلَى هَذَا لَوْ سَلَّمَ بِمُجَرَّدِ رَفْعِهِ مِنْ سَجْدَةِ السَّهْوِ يَكُونُ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ فَلَا تَفْسُدُ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَقْعُدْ بَعْدَ تَيْنِكَ السَّجْدَتَيْنِ حَيْثُ تَفْسُدُ بِتَرْكِ الْفَرْضِ، وَهَذَا فِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
(قَوْلُهُ رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ») فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ. وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَلَمْ يَجْلِسْ فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ. حَتَّى إذَا قَضَى الصَّلَاةَ وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ» وَرُوِيَ أَنَّهُ «سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ» فِي السِّتَّةِ أَيْضًا حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ «أَنَّهُ صَلَّى اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ ثُمَّ سَجَدَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْعَصْرَ فَسَلَّمَ مِنْ ثَلَاثٍ، إلَى أَنْ قَالَ: فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ» .
وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ» فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ انْفَرَدَ بِهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَنَحْنُ نَمْنَعُ ذَلِكَ مُطْلَقًا بَلْ الْحَقُّ فِي ابْنِ عَيَّاشٍ تَوْثِيقُهُ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ عَنْ أَشَدِّ النَّاسِ مَقَالَةً فِي الرِّجَالِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، قَالَ عَبَّاسُ عَنْ يَحْيَى
السَّلَامِ» وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ» فَتَعَارَضَتْ رِوَايَتَا فِعْلِهِ فَبَقِيَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ سَالِمًا
ابْنِ مَعِينٍ ثِقَةٌ، وَتَوْهِينُهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ لَا يُقْبَلُ، وَنَاهِيك بِأَبِي زُرْعَةَ، وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ بِالشَّامِّ بَعْدَ الْأَوْزَاعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَحْفَظُ مِنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، وَغَايَةُ مَا عَنْ ابْنِ مَعِينٍ فِيهِ قَوْلُهُ عَنْ الشَّامِيِّينَ حَدِيثُهُ صَحِيحٌ وَخُلُقٌ عَنْ الْمَدَنِيِّينَ، وَقَدْ اسْتَقَرَّ رَأْيُ ابْنِ حَنْبَلٍ وَكَثِيرٍ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ.
وَرِوَايَتُهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ الشَّامِيِّينَ رَوَاهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ الْكَلَاعِيِّ وَهُوَ الشَّامِيُّ الدِّمَشْقِيُّ وَثَّقَهُ دُحَيْمٌ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ سَالِمٍ الْعَنْسِيِّ بِالنُّونِ وَهُوَ أَبُو الْمُخَارِقِ الشَّامِيُّ، ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نَفِيرٍ الْحَضْرَمِيِّ أَبُو حُمَيْدٍ، وَيُقَالُ أَبُو حِمْيَرٍ الْحِمْصِيُّ، قَالَ أَبُو زَرْعَةُ وَالنَّسَائِيُّ ثِقَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ صَالِحُ الْحَدِيثِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَانَ ثِقَةً وَبَعْضُ النَّاسِ يَسْتَنْكِرُ حَدِيثَهُ، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ فَقَدْ رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَهُوَ عَنْ ثَوْبَانَ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ كَانَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه «صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إبْرَاهِيمُ: لَا أَدْرِي زَادَ أَوْ نَقَصَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا، فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ إلَيْنَا وَقَالَ: فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ لِيُسَلِّمْ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ» فَهَذَا تَشْرِيعٌ عَامٌّ قَوْلِيٌّ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ عَنْ سَهْوِ الشَّكِّ وَالتَّحَرِّي، وَلَا قَائِلَ بِالْفَصْلِ بَيْنَهُ أَوْ بَيْنَ تَحَقُّقِ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ فَقَدْ تَمَّ أَمْرُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي حَقِّ حُجِّيَّتِهِ.
(قَوْلُهُ فَتَعَارَضَتْ رِوَايَتَا فِعْلِهِ إلَخْ) لَمَّا أَوْقَعَ الِاسْتِدْلَالَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم عَقِيبَ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْفِعْلِ وَكَانَ دَلِيلُهُمْ أَقْوَى مِنْ جِهَةِ الثُّبُوتِ مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ عَدَمِ الْخُصُوصِيَّةِ، إذْ قَدْ شَارَكُوهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُقْتَدِينَ بِهِ اسْتَشْعَرَ أَنْ يُقَالَ دَلِيلُنَا أَرْجَحُ ثُبُوتًا وَتَرْجِيحُ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْقُوَّةِ فَقَالَ ذَاكَ لَوْ سَلِمَ دَلِيلُكُمْ مِنْ الْمُعَارِضِ، لَكِنْ رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَجَدَهَا بَعْدَ السَّلَامِ وَهُوَ يُعَادِلُهُ، فَتَعَارَضَتْ رِوَايَتَا فِعْلِهِ فَبَقِيَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ الْأَحَطِّ رُتْبَةً فِي الثُّبُوتِ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ لِسَلَامَتِهِ مِنْ الْمُعَارِضِ لَا لِتَرْجِيحِهِ بِالْفِعْلِ الْمَرْوِيِّ ثَانِيًا، وَلَا لِتَرْجِيحِ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِهِ لِيَكُونَ تَرْجِيحًا بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ، فَظَهَرَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّهُ إنَّمَا صِيرَ إلَى مَا بَعْدَ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ لَا إلَى مَا فَوْقِهِمَا فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالَانِ الْقَائِلَانِ أَنَّ الرَّسْمَ فِي الْمُعَارَضَةِ أَنْ يُصَارَ إلَى مَا بَعْدَ الْمُتَعَارِضَيْنِ كَالسُّنَّةِ عِنْدَ تَعَارُضِ نَصِّ الْكِتَابِ، وَالْقِيَاسِ عِنْدَ تَعَارُضِ السُّنَّةِ لَا إلَى مَا فَوْقَهُمَا وَالْقَوْلُ فَوْقَ الْفِعْلِ فَكَيْفَ وَقَفَ الصَّيْرُورَةَ إلَيْهِ عَلَى تَعَارُضِ الْفِعْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ تَرْجِيحًا فَالتَّرْجِيحُ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ بَاطِلٌ عِنْدَنَا.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا سَقَطَ النَّظَرُ إلَى الْفِعْلِ
وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ فَيُؤَخَّرُ عَنْ السَّلَامِ حَتَّى لَوْ سَهَا عَنْ السَّلَامِ يَنْجَبِرُ بِهِ،
الْمُوَافِقِ لِرَأْيِنَا لِلُزُومِ التَّسَاقُطِ بِالتَّعَارُضِ يَلْزَمُ كَوْنُ السُّجُودِ بَعْدَ السَّلَامِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ الْقَوْلِيِّ فَيُنَافِيهِ كَوْنُ الْخِلَافِ فِي الْأَوْلَوِيَّةِ حَتَّى لَوْ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ عِنْدَنَا يَجُوزُ.
فَالْجَوَابُ مَا قَدْ رُوِيَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ قَبْلَ السَّلَامِ لَا يَجُوزُ فَلَا إشْكَالَ عَلَى هَذِهِ، وَعَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ فَلُزُومُ التَّسَاقُطِ عِنْدَ عَدَمِ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْمُتَعَارَضِينَ جَمِيعًا، وَهُنَا يُمْكِنُ إذْ الْمَعْنَى الْمَعْقُولُ مِنْ شَرْعِيَّةِ السُّجُودِ وَهُوَ الْجَبْرُ لَا يَنْتَفِي بِوُقُوعِهِمَا قَبْلَ السَّلَامِ فَيَجُوزُ كَوْنُ الْفِعْلَيْنِ بَيَانًا لِجَوَازِ الْأَمْرَيْنِ، وَأَوْلَوِيَّةُ أَحَدِهِمَا وَهُوَ إيقَاعُهُ بَعْدَ السَّلَامِ هُوَ الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ، وَيُؤَكِّدُهُ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ تَأَخَّرَ عَنْ زَمَانِ الْعِلَّةِ وَهُوَ وَقْتُ وُقُوعِ السَّهْوِ تَفَادِيًا عَنْ تَكْرَارِهِ، إذْ الشَّرْعُ لَمْ يَرِدْ بِهِ فَأُخِّرَ لِيَكُونَ جَبْرًا لِكُلِّ سَهْوٍ يَقَعُ فِي الصَّلَاةِ وَمَا لَمْ يُسَلِّمْ فَتَوَهُّمُ السَّهْوِ ثَابِتٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ ثُمَّ شَكَّ أَنَّهُ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا فَشَغَلَهُ ذَلِكَ حَتَّى أَخَّرَ السَّلَامَ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا فَإِنَّهُ لَوْ سَجَدَ بِهَذَا النَّقْصِ بِتَأْخِيرِ الْوَاجِبِ تَكَرَّرَ، وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ بَقِيَ نَقْصًا لَازِمًا غَيْرَ مَجْبُورٍ فَاسْتُحِبَّ أَنْ يُؤَخَّرَ بَعْدَ السَّلَامِ لِهَذَا الْمُجَوِّزِ.
وَهَذَا دَلِيلٌ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْأَوْلَوِيَّةِ. وَفِي الْخُلَاصَةِ لَوْ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ لَا تَجِبُ إعَادَتُهَا بَعْدَ السَّلَامِ فَإِنْ قُلْت: لِمَ لَمْ يُحْمَلْ اخْتِلَافُ الْفِعْلَيْنِ عَلَى التَّوْزِيعِ عَلَى مَوْرِدَيْهِمَا، وَمَوْرِدُ السُّجُودِ قَبْلَ السَّلَامِ كَانَ فِي النَّقْصِ وَمَوْرِدُهُ بَعْدَهُ كَانَ لِلزِّيَادَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْخَبَرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ قَوْلُ مَالِكٍ وَهَذَا الْمَأْخَذُ مَأْخَذُهُ.
فَالْجَوَابُ كَانَ ذَلِكَ مُحَتَّمًا لَوْ لَمْ يَثْبُتْ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لِكُلِّ سَهْوٍ، أَوْ فِي كُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ» فَلَمَّا وَرَدَ ذَلِكَ لَزِمَ حَمْلُ اخْتِلَافِ الْفِعْلَيْنِ عَلَى بَيَانِ جَوَازِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ الْأَوْلَى وُقُوعُهُ بَعْدَ السَّلَامِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ بِهَذَا الَّذِي صِرْنَا إلَيْهِ يَقَعُ الْجَمْعُ بَيْنَ كُلِّ الْمَرْوِيَّاتِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَذَلِكَ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، بِخِلَافِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
فَإِنْ قُلْت: كَمَا تَعَارَضَتْ رِوَايَتَا فِعْلِهِ كَذَلِكَ تَعَارَضَتْ رِوَايَاتُ قَوْلِهِ، فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ حَدِيثَ الْخُدْرِيِّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَحْ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ» وَغَيْرَهُ أَيْضًا فَالْجَوَابُ الْكَلَامُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَمْ يُعَارِضْ حَدِيثَ ثَوْبَانَ فِيهِ دَلِيلٌ قَوْلِيٌّ أَنَّهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَحَلُّهُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَسَائِرُ أَمْثَالِهِ مِنْ الْقَوْلِيَّاتِ خَاصَّةٌ فِي الشَّكِّ وَلَيْسَ الْكَلَامُ الْآنَ فِي هَذَا، عَلَى أَنَّ الْقَوْلِيَّةَ فِي الشَّكِّ قَدْ تَعَارَضَتْ أَيْضًا، رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، قِيلَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَأَحْسَنُ مِنْهُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه «صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَزَادَ أَوْ نَقَصَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدَثَ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: إنَّهُ لَوْ حَدَثَ شَيْءٌ أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي،
وَهَذَا خِلَافٌ فِي الْأَوْلَوِيَّةِ، وَيَأْتِي بِتَسْلِيمَتَيْنِ هُوَ الصَّحِيحُ صَرْفًا لِلسَّلَامِ الْمَذْكُورِ إلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ.
وَيَأْتِي بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، وَالدُّعَاءِ فِي قَعْدَةِ السَّهْوِ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الدُّعَاءَ مَوْضِعُهُ آخِرُ الصَّلَاةِ.
قَالَ (وَيَلْزَمُهُ السَّهْوُ
وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ لِيُسَلِّمْ ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مُخْتَصَرًا (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ وَالْجُمْهُورُ وَمِنْهُمْ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَأْتِي بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ اخْتَارَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ كَوْنَهَا تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَلَا يَنْحَرِفُ لِأَنَّ الِانْحِرَافَ التَّحِيَّةُ، وَالْمُرَادُ هُنَا مُجَرَّدُ التَّحْلِيلِ.
وَمُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ مُخْتَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ أَخِي فَخْرِ الْإِسْلَامِ. وَنَسَبَ الْقَائِلَ بِالتَّسْلِيمَةِ إلَى الْبِدْعَةِ فَدَفَعَهُ أَخُوهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ مُشَارٌ إلَيْهِ فِي الْأَصْلِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فَتَقَصَّيْنَا عَنْ عُهْدَةِ الْبِدْعَةِ. وَجْهُ مُخْتَارِ الْمُصَنِّفِ مَا قَالَهُ مِنْ صَرْفِ السَّلَامِ: يَعْنِي الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ إلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ وَالسَّلَامُ الْمَعْهُودُ فِي الصَّلَاةِ تَسْلِيمَتَانِ
(قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي الْقَعْدَتَيْنِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا آخِرُ.
وَقِيلَ قَبْلَ السُّجُودِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بَعْدَهُ
إذَا زَادَ فِي صَلَاتِهِ فِعْلًا مِنْ جِنْسِهَا لَيْسَ مِنْهَا) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَجْدَةَ السَّهْوِ وَاجِبَةٌ هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهَا تَجِبُ لِجَبْرِ نَقْصٍ تَمَكَّنَ فِي الْعِبَادَةِ فَتَكُونُ وَاجِبَةً كَالدِّمَاءِ فِي الْحَجِّ، وَإِذَا كَانَ وَاجِبًا لَا يَجِبُ إلَّا بِتَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ تَأْخِيرِهِ أَوْ تَأْخِيرِ رُكْنٍ سَاهِيًا هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بِالزِّيَادَةِ لِأَنَّهَا لَا تَعْرَى عَنْ تَأْخِيرِ رُكْنٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ.
قَالَ (وَيَلْزَمُهُ إذَا تَرَكَ فِعْلًا مَسْنُونًا) كَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ فِعْلًا وَاجِبًا إلَّا أَنَّهُ أَرَادَ بِتَسْمِيَتِهِ سُنَّةً أَنَّ وُجُوبَهَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ. قَالَ (أَوْ تَرَكَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ) لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ
لِأَنَّ سَلَامَ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ يُخْرِجُهُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ. وَقَوْلُ الطَّحَاوِيِّ أَحْوَطُ كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ
(قَوْلُهُ إذَا زَادَ فِي صَلَاتِهِ فِعْلًا مِنْ جِنْسِهَا) كَسَجْدَةٍ أَوْ رَكَعَ رُكُوعَيْنِ سَاهِيًا ثُمَّ إذَا رَكَعَهُمَا فَالْمُعْتَبَرُ الْأَوَّلُ فِي رِوَايَةِ بَابِ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي رِوَايَةِ بَابِ السَّهْوِ الثَّانِي، وَعَلَى هَذَا فَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ الْمَسْنُونَ ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ أَحَبَّ أَنْ يَزِيدَ فِي الْقِرَاءَةِ فَقَرَأَ لَا يُرْفَضُ الْأَوَّلُ إنَّمَا هُوَ عَلَى رِوَايَةِ بَابِ الْحَدَثِ
(قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ أَنَّهُ سُنَّةٌ عِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا (قَوْلُهُ لَا يَجِبُ إلَّا بِتَرْكِ وَاجِبٍ) فَلَا يَجِبُ بِتَرْكِ التَّعَوُّذِ وَالْبَسْمَلَةِ فِي الْأَوْلَى وَالثَّنَاءِ وَتَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالَاتِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ رُكُوعِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ فَإِنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالزَّوَائِدِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَفِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ زَائِدَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ السُّجُودُ، وَكَذَا فِيهَا كُلِّهَا بِخِلَافِ تَكْبِيرَةِ رُكُوعِ الْأُولَى.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ سَلَّمَ عَنْ الشِّمَالِ أَوَّلًا سَاهِيًا وَتَقَدَّمَتْ.
وَلَوْ تَرَكَ الْقَوْمَةَ سَاهِيًا بِأَنْ انْحَطَّ مِنْ الرُّكُوعِ سَاجِدًا.
فَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ أَنَّ عَلَيْهِ السُّجُودَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَهُوَ يَقْتَضِي وُجُوبَهَا عِنْدَ هُمَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَحْثًا أَنَّ وُجُوبَهَا مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَتَفْسُدُ لِأَنَّهَا فَرْضٌ عِنْدَهُ، وَلَا تَجِبُ بِتَرْكِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْعِيدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا (قَوْلُهُ أَوْ تَأْخِيرُهُ) كَتَأْخِيرِ سَجْدَةٍ صُلْبِيَّةٍ مِنْ الْأَوْلَى، أَوْ تَأْخِيرِ الْقِيَامِ إلَى الثَّالِثَةِ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ عَلَى التَّشَهُّدِ سَاهِيًا وَلَوْ بِحَرْفٍ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقِيلَ بَلْ بِتَمَامِهَا، وَقِيلَ بَلْ بِاللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ.
وَالتَّحْقِيقُ انْدِرَاجُ الْكُلِّ فِي مُسَمَّى تَرْكِ الْوَاجِبِ لِأَنَّ عَدَمَ التَّأْخِيرِ وَاجِبٌ، فَالتَّأْخِيرُ تَرْكُ وَاجِبٍ.
وَقَالُوا: لَوْ افْتَتَحَ فَشَكَّ أَنَّهُ هَلْ كَبَّرَ لِلِافْتِتَاحِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ كَبَّرَ إنْ شَغَلَهُ التَّفَكُّرُ عَنْ أَدَاءِ رُكْنٍ مِنْ الصَّلَاةِ كَانَ عَلَيْهِ السَّهْوُ وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَا لَوْ شَكَّ أَنَّهُ فِي الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ أَوْ سَهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ إنْ تَفَكَّرَ قَدْرَ رُكْنٍ كَالرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا لَا يَجِبُ، وَلَوْ شَكَّ فِي هَذِهِ فِي صَلَاةٍ صَلَّاهَا قَبْلَهَا لَا سُجُودَ سَهْوٍ عَلَيْهِ وَإِنْ طَالَ تَفَكُّرُهُ، وَلَوْ انْصَرَفَ لِسَبْقِ حَدَثٍ فَشَكَّ أَنَّهُ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا ثُمَّ عَلِمَ وَشَغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ وُضُوئِهِ سَاعَةً ثُمَّ أَتَمَّ وُضُوءَهُ كَانَ عَلَيْهِ السَّهْوُ وَلِأَنَّهُ فِي حُرْمَتِهَا
(قَوْلُهُ أَوْ تَرَكَ قِرَاءَةَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ) أَيْ فِي إحْدَى أُولَيَيْ الْفَرْضِ لَا أُخْرَيَيْهِ.
وَمُطْلَقًا فِي غَيْرِ الْفَرْضِ، وَكَذَا إذَا تَرَكَ أَكْثَرَهَا لَا أَقَلَّهَا
(أَوْ الْقُنُوتَ أَوْ التَّشَهُّدَ
وَكَذَا تَرْكُ السُّورَةِ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَرَكَ السُّورَةَ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَرَكَ قِرَاءَةَ آيَةٍ طَوِيلَةٍ أَوْ ثَلَاثَ آيَاتٍ قِصَارٍ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ.
حَتَّى لَوْ قَرَأَ مِنْ سُورَةٍ هَذَا الْقَدْرَ فَقَطْ لَا سَهْوَ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ تَرْكُ كُلٍّ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ بِالسُّجُودِ، فَإِنَّهُ لَوْ تَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ يَعُودُ فَيَقْرَأُ فِي تَرْكِ الْفَاتِحَةِ الْفَاتِحَةَ ثُمَّ يُعِيدُ السُّورَةَ ثُمَّ الرُّكُوعَ فَإِنَّهُمَا يَرْتَفِضَانِ بِالْعَوْدِ إلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَفِي السُّورَةِ السُّورَةَ، ثُمَّ يُعِيدُ الرُّكُوعَ لِارْتِفَاضِهِ بِالْعَوْدِ إلَى مَا مَحَلُّهُ قَبْلَهُ عَلَى التَّعْيِينِ شَرْعًا وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَلَوْ لَمْ يَتَذَكَّرْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا إلَّا فِي الشَّفْعِ الثَّانِي تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ الْقِرَاءَةِ مَا يَقْتَضِيهِ مِنْهَا فِيهِ وَمَا لَا يَقْضِيهِ وَكَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ فَارْجِعْ إلَيْهِ.
وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ أَصْلًا فِي الْأُولَيَيْنِ قَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَيَصِيرَانِ كَالْأُولَيَيْنِ فَيَجْهَرُ فِيهِمَا فِي الْجَهْرِيَّةِ وَلَوْ بَدَأَ بِحَرْفٍ مِنْ السُّورَةِ قَبْلَ الْفَاتِحَةِ فَذَكَرَ فَقَرَأَ الْفَاتِخَةَ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ لِلتَّأْخِيرِ، وَفِي هَذَا إذَا وَزَنْتَهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّفَكُّرِ نَظَرٌ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ مِنْ السُّورَةِ مِقْدَارَ مَا يَتَأَدَّى فِيهِ رُكْنٌ لِيَجِبَ السَّهْوُ.
وَلَوْ كَرَّرَ الْفَاتِحَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ لَا سَهْوَ، وَفِي الْأُولَيَيْنِ مُتَوَالِيًا عَلَيْهِ السَّهْوُ، لَا إنْ فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِالسُّورَةِ لِلُزُومِ تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ وَهُوَ السُّورَةُ فِي الْأَوَّلِ لَا الثَّانِي، إذْ لَيْسَ الرُّكُوعُ وَاجِبًا بِأَثَرِ السُّورَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ جَمَعَ بَيْنَ سُوَرٍ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ لَمْ يَمْتَنِعْ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِفِعْلِ مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِأَنَّهُمَا مَحَلُّ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً فِيهِمَا فَلَا تَتَقَدَّرُ بِقَدْرٍ يَجِبُ بَعْدَهُ الرُّكُوعُ بَلْ يُسَنُّ ذَلِكَ (قَوْلُهُ أَوْ الْقُنُوتَ) أَوْ تَكْبِيرَتَهُ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ تَرْكُهُ بِالرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ، أَمَّا لَوْ تَذَكَّرَهُ فِي الرُّكُوعَ قَبْلَ الرَّفْعِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا يَعُودُ وَيَقْنُتُ وَيُعِيدُ الرُّكُوعَ وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَقِيلَ لَا يُعِيدُ الرُّكُوعَ.
وَالْأَوْجَهُ الْأُوَلُ إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقُنُوتِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَنْهُمَا أَنَّهُ سُنَّةٌ. ثُمَّ رَجَّحَ فِي الْبَدَائِعِ وَالْفَتَاوَى رِوَايَةَ عَدَمِ الْعَوْدِ إلَى الْقُنُوتِ وَجَعَلَهَا ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ، وَتَقَدَّمَ تَصْحِيحُ عَدَمِ ارْتِفَاضِ الرُّكُوعِ لَوْ أَخَذَ بِرِوَايَةِ الْعَوْدِ إلَى قِرَاءَتِهِ وَكَأَنَّهُ لِضَعْفِ وُجُوبِ الْقُنُوتِ وَهُوَ بِهِ جَدِيرٌ.
وَلَوْ قَرَأَ الْقُنُوتَ فِي الثَّالِثَةِ وَنَسِيَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ أَوْ السُّورَةِ أَوْ كِلَيْهِمَا فَتَذَكَّرَ بَعْدَمَا رَكَعَ قَامَ وَقَرَأَ وَأَعَادَ الْقُنُوتَ وَالرُّكُوعَ لِأَنَّهُ رَجَعَ إلَى مَا مَحَلُّهُ قَبْلَهُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَسِيَ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ وَمَحَلَّهَا فَتَذَكَّرَهَا فِي الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ أَوْ الْقُعُودِ فَإِنَّهُ يَنْحَطُّ لَهَا ثُمَّ يَعُودُ إلَى مَا كَانَ فِيهِ فَيُعِيدُهُ اسْتِحْبَابًا
(قَوْلُهُ أَوْ التَّشَهُّدَ) أَوْ بَعْضَهُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، قَالُوا إنْ كَانَ إمَامًا يَأْخُذُ بِهَذَا كَيْ لَا يَلْتَبِسَ عَلَى الْقَوْمِ، ثُمَّ قَدْ لَا يَتَحَقَّقُ تَرْكُ التَّشَهُّدِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ السُّجُودَ إلَّا فِي الْأَوَّلِ.
أَمَّا التَّشَهُّدُ الثَّانِي فَإِنَّهُ لَوْ تَذَكَّرَهُ بَعْدَ السَّلَامِ يَقْرَؤُهُ ثُمَّ يُسَلِّمُ ثُمَّ يَسْجُدُ، فَإِنْ تَذَكَّرَهُ بَعْدَ شَيْءٍ يَقْطَعُ الْبِنَاءَ لَمْ يُتَصَوَّرْ إيجَابُ السُّجُودِ. وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا أَنَّهُ لَوْ اشْتَغَلَ بَعْدَ السَّلَامِ وَالتَّذَكُّرِ بِهِ فَلَوْ قَرَأَ بَعْضَهُ وَسَلَّمَ قَبْلَ تَمَامِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ بِعَوْدِهِ إلَى قِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ ارْتَفَضَ قُعُودُهُ، فَإِذَا سَلَّمَ قَبْلَ إتْمَامِهِ فَقَدْ سَلَّمَ قَبْلَ قُعُودِ قَدْرِ التَّشَهُّدِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ قُعُودَهُ مَا ارْتَفَضَ أَصْلًا لِأَنَّ مَحَلَّ قِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ الْقَعْدَةُ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى رَفْضِهَا، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَعَنْ هَذَا اخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَسِيَ الْفَاتِحَةَ أَوْ السُّورَةَ حَتَّى رَكَعَ فَذَكَرَ فَقَامَ لِلْقِرَاءَةِ ثُمَّ بَدَا لَهُ فَسَجَدَ وَلَمْ يُعِدْ الرُّكُوعَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: تَفْسُدُ لِأَنَّهُ ارْتَفَضَ رُكُوعُهُ بِالْقِيَامِ، فَإِذَا لَمْ يُعِدْهُ تَفْسُدُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَرْتَفِضُ لِأَنَّ الرَّفْضَ كَانَ لِلْقِرَاءَةِ، فَإِذَا لَمْ يَقْرَأْ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ. وَقِيلَ الْفَسَادُ قِيَاسُ ارْتِفَاضِ الظُّهْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَإِنْ لَمْ يُؤَدَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ أُقِيمَ مَقَامَ نَفْسِهَا لِدَلِيلٍ أَوْجَبَهُ هُنَاكَ وَلَيْسَ الْقِيَامُ أُقِيمَ مَقَامَ الْقِرَاءَةِ هَذَا.
أَوْ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ) لِأَنَّهَا وَاجِبَاتٌ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام وَاظَبَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَرْكِهَا مَرَّةً وَهِيَ أَمَارَةُ الْوُجُوبِ وَلِأَنَّهَا تُضَافُ إلَى جَمِيعِ الصَّلَاةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ خَصَائِصِهَا وَذَلِكَ بِالْوُجُوبِ ثُمَّ ذِكْرُ التَّشَهُّدِ يَحْتَمِلُ الْقَعْدَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ وَالْقِرَاءَةَ فِيهِمَا وَكُلُّ ذَلِكَ وَاجِبٌ، وَفِيهَا سَجْدَةٌ هُوَ الصَّحِيحُ.
(وَلَوْ جَهَرَ الْإِمَامُ فِيمَا يُخَافِتُ أَوْ خَافَتْ فِيمَا يَجْهَرُ تَلْزَمُهُ سَجْدَتَا السَّهْوِ) لِأَنَّ الْجَهْرَ فِي مَوْضِعِهِ وَالْمُخَافَتَةَ فِي مَوْضِعِهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ
وَأَمَّا لَوْ قَرَأَ حِينَ عَادَ إلَى الْقِيَامِ ثُمَّ لَمْ يَرْكَعْ فَسَدَتْ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ لَا تَفْسُدُ حُمِلَ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَقْرَأْ حِينَ قَامَ حَتَّى سَجَدَ آخِذًا بِأَحَدِ ذَيْنِك الْقَوْلَيْنِ، وَلَوْ قَرَأَ التَّشَهُّدَ فِي الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ ثَنَاءٌ وَهُمَا مَحَلُّهُ، بِخِلَافِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِيهِمَا فَإِنَّ فِيهِ السَّهْوَ.
وَلَوْ قَرَأَهُ فِي الْقِيَامِ إنْ كَانَ قَبْلَ الْفَاتِحَةِ سَهْوٌ أَوْ بَعْدَهَا فَعَلَيْهِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا مَحَلُّ الثَّنَاءِ وَهَذَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِالرَّكْعَةِ الْأُولَى.
وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي الْقَعْدَةِ إنَّمَا يَجِبُ السَّهْوُ إذَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ التَّشَهُّدِ، أَمَّا إذَا فَرَغَ فَلَا يَجِبُ. وَتَكْرَارُ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى يُوجِبُ السُّجُودَ دُونَ الْأَخِيرَةِ.
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ أَطْلَقَ عَدَمَ الْوُجُوبِ
(قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ تَرْكِهَا مَرَّةً) تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْوِتْرِ أَنَّ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقُنُوتِ نَظَرًا إذْ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ دَلِيلُهُ
(قَوْلُهُ وَلِأَنَّهَا تُضَافُ إلَخْ) قَدْ أَسْلَفْنَا فِي اسْتِفَادَةِ الْوُجُوبِ مِنْ الِاخْتِصَاصِ نَظَرٌ.
(قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ جَوَابِ الْقِيَاسِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ سُنَّةٌ فَلَا يَلْزَمُ بِتَرْكِهِ السُّجُودُ. وَعَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِالْفَسَادِ فِي تَرْكِ الْقَعْدَةِ الْأُولَى
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْمِقْدَارِ، وَالْأَصَحُّ قَدْرُ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ فِي الْفَصْلَيْنِ لِأَنَّ الْيَسِيرَ مِنْ الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَعَنْ كَثِيرٍ مُمْكِنٌ، وَمَا يَصِحُّ بِهِ الصَّلَاةُ كَثِيرٌ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ آيَةٌ وَاحِدَةٌ وَعِنْدَهُمَا ثَلَاثُ آيَاتٍ، وَهَذَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ دُونَ الْمُنْفَرِدِ لِأَنَّ الْجَهْرَ وَالْمُخَافَتَةَ مِنْ خَصَائِصِ الْجَمَاعَةِ. .
مِنْ النَّفْلِ سَاهِيًا، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ فِيهَا السَّهْوُ
(قَوْلُهُ وَالْأَصَحُّ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّهُ إذَا جَهَرَ فِي الْمُخَافَتَةِ فَعَلَيْهِ السُّجُودُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَإِنْ خَافَتْ فِي الْجَهْرِيَّةِ فَإِنْ كَانَ فِي أَكْثَرِ الْفَاتِحَةِ أَوْ ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ آيَةٍ قَصِيرَةٍ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَعَلَيْهِ السُّجُودُ وَإِلَّا فَلَا.
وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْجَهْرَ فِي مَوْضِعِ الْمُخَافَتَةِ أَغْلَظُ مِنْ قَلْبِهِ لِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ فَغَلُظَ حُكْمُهُ، وَلِأَنَّ لِصَلَاةِ الْجَهْرِ حَظًّا مِنْ الْمُخَافَتَةِ وَهُوَ فِيمَا بَعْدَ الْأُولَيَيْنِ وَكَذَا الْمُنْفَرِدُ مُخَيَّرٌ فِيهِ وَلَا حَظَّ لِصَلَاةِ الْمُخَافَتَةِ فِي الْجَهْرِ بِحَالٍ فَأَوْجَبْنَا فِي الْجَهْرِ وَإِنْ قَلَّ، وَشَرَطْنَا الْكَثْرَةُ فِي الْمُخَافَتَةِ وَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الصَّلَاةُ، وَإِنَّمَا شَرَطْنَا الْأَكْثَرِيَّةَ فِي الْفَاتِحَةِ لِأَنَّهَا ثَنَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَلِذَا شُرِعَتْ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ تِلَاوَةً حَقِيقِيَّةً فَبِالنَّظَرِ إلَى جِهَةِ الثُّنَائِيَّةِ لَا يُوجِبُ، وَإِلَى جِهَةِ التِّلَاوَةِ يُوجِبُ قَدْرَ الْفَرْضِ مِنْهَا فَاعْتَبَرْنَا الْأَكْثَرَ مُلَاحَظَةً لِلْجِهَتَيْنِ، وَالْأَصَحُّ مَا فِي الْكِتَابِ أَمَّا فِي الْمُخَافَتَةِ فَلِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ الْجَهْرِ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْهَا مُتَعَسِّرٌ، فَإِنَّ فِي مَبَادِئِ التَّنَفُّسَاتِ غَالِبًا يَظْهَرُ الصَّوْتُ، وَفِي الْحَدِيثِ «وَكَانَ يُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا» ، وَهُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهَذَا السَّبَبِ. وَأَمَّا فِي الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهَا قُرْآنٌ أَلْبَتَّةَ، وَكَوْنُهَا ثَنَاءً بِصِيغَتِهِ لَا أَثَرَ لَهُ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ ثَنَاءٌ وَقَصَصٌ، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ اعْتِبَارَ جِهَةٍ غَيْرِ الْقُرْآنِيَّةِ فِيهِ فِي حَقِّ مَا نَحْنُ فِيهِ.
وَكَوْنُ شَرْعِيَّتِهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ بِمُجَرَّدِ هَذَا الِاعْتِبَارِ مَمْنُوعٌ، بَلْ شُرِعَ فِيهِمَا ابْتِدَاءُ الْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الثَّنَاءِ وَالسُّكُوتِ، هَذَا كُلُّهُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ.
أَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ كَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَقَدْ يُقَالُ كَوْنُهُ مُخَيَّرًا فِي الْجَهْرِيَّةِ مُسَلَّمٌ أَمَّا فِي السَّرِيَّةِ فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَ تَجْوِيزَ الْجَهْرِ لَهُ، وَقَدَّمْنَا
قَالَ (وَسَهْوُ الْإِمَامِ يُوجِبُ عَلَى الْمُؤْتَمِّ السُّجُودَ) لِتَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ فِي حَقِّ الْأَصْلِ وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْإِقَامَةِ بِنِيَّةِ الْإِمَامِ (فَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ الْإِمَامُ لَمْ يَسْجُدْ الْمُؤْتَمُّ) لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ، وَمَا الْتَزَمَ الْأَدَاءَ إلَّا مُتَابِعًا.
(فَإِنْ سَهَا الْمُؤْتَمُّ لَمْ يَلْزَمْ الْإِمَامَ وَلَا الْمُؤْتَمَّ السُّجُودُ)
زِيَادَةَ كَلَامٍ فِيهِ فِي فَصْلِ الْقِرَاءَةِ
(قَوْلُهُ وَسَهْوُ الْإِمَامِ يُوجِبُ عَلَى الْمُؤْتَمِّ السُّجُودَ) وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا لَمْ يُدْرِكْ مَحَلَّ السَّهْوِ مَعَهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ بَلْ يَنْتَظِرُهُ بَعْدَ سَلَامِهِ حَتَّى يَسْجُدَ فَيَسْجُدَ مَعَهُ ثُمَّ يَقُومُ إلَى الْقَضَاءِ، وَعَنْ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعَجِّلَ بِالْقِيَامِ بَلْ يُؤَخِّرَ حَتَّى يَنْقَطِعَ ظَنُّهُ عَنْ سُجُودِ الْإِمَامِ، وَقَدْ عَقَدْنَا لِلْمَسْبُوقِ فَصْلًا نَافِعًا بِذَيْلِ بَابِ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ فَارْجِعْ إلَيْهِ
(قَوْلُهُ لِتَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ فِي حَقِّ الْأَصْلِ) يَعْنِي الْإِمَامَ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلسُّجُودِ عَلَى الْمَأْمُومِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا لُزُومُ النَّقْصِ فِي صَلَاتِهِ إذْ هِيَ بِنَاءٌ عَلَى النَّاقِصَةِ وَلِذَا تَفْسُدُ بِفَسَادِهَا فَاحْتَاجَ إلَى الْجَابِرِ كَالْإِمَامِ، وَالْآخَرُ لُزُومُ الْمُتَابَعَةِ شَرْعًا حَتَّى قَالُوا لَوْ تَرَكَ بَعْضُ مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ التَّشَهُّدَ حَتَّى قَامُوا مَعَهُ بَعْدَ مَا تَشَهَّدَ كَانَ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَشَهَّدْ أَنْ يَعُودَ فَيَتَشَهَّدَ وَيَلْحَقَهُ وَإِنْ خَافَ أَنْ تَفُوتَهُ الرَّكْعَةُ الثَّالِثَةُ، بِخِلَافِ الْمُنْفَرِدِ حَيْثُ لَا يَعُودُ لِأَنَّ التَّشَهُّدَ هُنَا فَرْضٌ بِحُكْمِ الْمُتَابَعَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي السُّجُودِ فَلَمْ يَسْجُدْ مَعَهُ السَّجْدَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَقْضِي السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ مَا لَمْ يَخَفْ فَوْتَ رَكْعَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ خَافَ ذَلِكَ تَرَكَهَا لِأَنَّ هُنَاكَ هُوَ يَقْضِي هَاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ ضِمْنَ قَضَاءِ الرَّكْعَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِإِحْرَازِ الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى إذَا خَافَ فَوْتَهَا، وَهُنَا لَا يَقْضِي التَّشَهُّدَ بَعْدَ
لِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ وَحْدَهُ كَانَ مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ، وَلَوْ تَابَعَهُ الْإِمَامُ يَنْقَلِبُ الْأَصْلُ تَبَعًا.
(وَمَنْ سَهَا عَنْ الْقَعْدَةِ الْأُولَى ثُمَّ تَذَكَّرَ وَهُوَ إلَى حَالَةِ الْقُعُودِ أَقْرَبُ عَادَ وَقَعَدَ وَتَشَهَّدَ) لِأَنَّ مَا يَقْرُبُ مِنْ الشَّيْءِ يَأْخُذُ حُكْمَهُ، ثُمَّ قِيلَ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ
هَذَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ ثُمَّ يَتَّبِعَ.
كَاَلَّذِي نَامَ خَلْفَ إمَامِهِ ثُمَّ انْتَبَهَ، عَلَى أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُمْ تَبِعُوهُ صلى الله عليه وسلم فِي سُجُودِهِ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا سَاهِينَ فِي الْمُتَابَعَةِ فِي مَحَلِّ السَّهْوِ بَلْ عَامِدِينَ
(قَوْلُهُ لَوْ سَجَدَ وَحْدَهُ كَانَ مُخَالِفًا) أَيْ فِي نَفْسِ مَا يُؤَدِّيهِ مَعَ الْإِمَامِ حُكْمًا وَإِنْ كَانَ سُجُودُهُ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ صُورَةً كَمَا لَوْ كَانَ لَاحِقًا سَهَا إمَامُهُ فِيمَا فَاتَهُ مَعَهُ لِنَوْمِهِ مَثَلًا فَانْتَبَهَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُ السُّجُودَ إذَا فَرَغَ وَالْفَرْضُ أَنَّ إمَامَهُ لَمْ يَسْجُدْ لَزِمَ الْمُخَالَفَةُ لِأَنَّ السُّجُودَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الصَّلَاةِ لَكِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَوْضِعِ النَّقْصِ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَلَوْ كَانَ إمَامُهُ سَجَدَ بَعْدَمَا انْتَبَهَ هُوَ أَوْ عِنْدَ مَا جَاءَ مِنْ وُضُوئِهِ فِيمَا إذَا كَانَ الْفَوَاتُ لِسَبْقِ الْحَدَثِ فَأَدْرَكَهُ فِي السُّجُودِ لَا يَسْجُدُ مَعَهُ لِأَنَّهُ يَبْدَأُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ وَيَسْجُدُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، وَلَوْ سَجَدَ مَعَهُ لَا يُجْزِئُهُ وَلَا تَفْسُدُ وَيَسْجُدُ ثَانِيًا فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ وَالْمُقِيمِ الْمُقْتَدِي بِالْمُسَافِرِ فِيمَا يُؤَدِّيَانِ بَعْدَ الْإِمَامِ مِنْ قَضَاءِ الْمَسْبُوقِ وَإِتْمَامِ الْمُقِيمِ إذَا سَهِيَا فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَحِقْ بِمَحَلٍّ قَبْلَهُ شَرْعًا فَلَا مُخَالَفَةَ فَيَسْجُدَانِ لِسَهْوِهِمَا، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْإِمَامِ سَهْوٌ وَجَبَ عَلَيْهِمَا مُتَابَعَتُهُ فَيَتَكَرَّرُ السُّجُودُ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَعِنْدَ الْكَرْخِيِّ لَا يَسْجُدُ اللَّاحِقُ وَلَا الْمُقِيمُ الْمُقْتَدِي بِالْمُسَافِرِ لِسَهْوِ الْإِمَامِ وَلَا لِسَهْوِهِمَا فِيمَا يَقْضِي اللَّاحِقُ وَيُتِمُّ الْمُقِيمُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ حُكْمًا وَإِنْ اتَّحَدَتَا حَقِيقَةً لِتَحَقُّقِ الِانْفِرَادِ وَالِائْتِمَامِ، بِخِلَافِ صَلَاةِ اللَّاحِقِ فَإِنَّهَا وَاحِدَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لِأَنَّهُ مُقْتَدٍ فِيمَا يَقْضِيهِ حُكْمًا، وَلِذَا قُلْنَا لَا يَسْجُدُ اللَّاحِقُ لِمَا سَهَا فِيهِ مِمَّا يَقْضِيهِ لِأَنَّهُ مُقْتَدٍ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ فِيهِ فَيَكُونُ لَوْ سَجَدَ مُخَالِفًا وَإِذَا سَهَا الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ سَجَدَ وَتَابَعَهُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ.
وَأَمَّا الْأُولَى فَيَسْجُدُونَ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مَسْبُوقُونَ وَالْأُولَى لَاحِقُونَ، وَلَوْ سَبَقَ الْإِمَامَ السَّاهِيَ الْحَدَثُ بَعْدَ سَلَامِهِ اسْتَخْلَفَ لِيَسْجُدَ الْخَلِيفَةُ كَمَا لَوْ بَقِيَ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ، وَلَيْسَ
لِلتَّأْخِيرِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ كَمَا إذَا لَمْ يَقُمْ (وَلَوْ كَانَ إلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ لَمْ يَعُدْ) لِأَنَّهُ كَالْقَائِمِ مَعْنًى (يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ) لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ.
(وَإِنْ سَهَا عَنْ الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ حَتَّى قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ رَجَعَ إلَى الْقَعْدَةِ مَا لَمْ يَسْجُدْ) لِأَنَّ فِيهِ إصْلَاحَ
لِلْمَسْبُوقِ أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي هَذَا الِاسْتِخْلَافِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إذْ مَحَلُّهُ بَعْدَ السَّلَامِ وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى السَّلَامِ، وَإِنَّمَا يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ حَالَةَ الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ يَسْجُدُ قَبْلَهُ وَهُوَ هُنَا قَدْ صَارَ إمَامًا لِلْمُسْتَخْلِفِ، وَمَعَ هَذَا لَوْ تَقَدَّمَ لَمْ تَفْسُدْ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْمَامِ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَتَأَخَّرَ وَيُقَدِّمَ مُدْرِكًا يُسَلِّمُ بِهِمْ وَيَسْجُدُ، وَيَسْجُدُ الْخَلِيفَةُ لِلْمَسْبُوقِ مَعَهُمْ لِأَنَّهُ الْآنَ مُقْتَدٍ ثُمَّ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ مَعَهُمْ سَجَدَ آخِرَ صَلَاتِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي فَصْلِ الْمَسْبُوقِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَعْلِيلَ عَدَمِ قُدْرَةِ الْمَسْبُوقِ عَلَى السُّجُودِ وَمَنْعَهُ مِنْ التَّقَدُّمِ بِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى السَّلَامِ لِانْتِفَاءِ مَحَلِّيَّةِ السُّجُودِ قَبْلَهُ إنَّمَا هُوَ عَلَى غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ، أَمَّا عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ أَنَّ كَوْنَهُ بَعْدَ السَّلَامِ إنَّمَا هُوَ الْأَوْلَى فَلَا، فَالْأَوْجُهُ تَعْلِيلُ عَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى السُّجُودِ بِكَوْنِهِ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ، وَلَا يَسْجُدُ فِي أَثْنَائِهَا إلَّا مُقْتَدِيًا وَهُوَ قَدْ صَارَ إمَامًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَلْفَ الْإِمَامِ مُدْرِكٌ بَلْ الْكُلُّ مَسْبُوقُونَ قَامُوا وَقَضَوْا مَا سُبِقُوا بِهِ فُرَادَى لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْمَسْبُوقِ انْعَقَدَتْ لِلْأَدَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمُتَابَعَةِ، ثُمَّ إذَا فَرَغُوا لَا يَسْجُدُونَ فِي الْقِيَاسِ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَسْجُدُونَ
(قَوْلُهُ لِلتَّأْخِيرِ) أَيْ لِتَأْخِيرِ الْقُعُودِ، وَالْأَصَحُّ عَدَمُهُ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَعْتَبِرْهُ قِيَامًا وَإِلَّا لَمْ يُطْلِقْ لَهُ الْعَوْدَ فَكَانَ مُعْتَبَرًا قُعُودًا أَوْ انْتِقَالًا بِالضَّرُورَةِ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ يُنَافِيهِ اعْتِبَارُ التَّأْخِيرِ الْمُسْتَتْبِعِ لِوُجُوبِ السُّجُودِ (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ إلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ) الْأَصَحُّ فِيهِ مَا فِي الْكَافِي أَنَّهُ بِأَنْ يَسْتَوِيَ النِّصْفُ الْأَسْفَلُ: يَعْنِي وَظَهْرُهُ بَعْدُ مُنْحَنٍ فَمَا لَمْ يَسْتَوِ فَهُوَ إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبُ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ فِي رِوَايَةِ إذَا قَامَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ لِيَنْهَضَ يَقْعُدُ وَعَلَيْهِ السَّهْوُ يَسْتَوِي فِيهِ الْقَعْدَةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ رَفَعَ أَلْيَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ وَرُكْبَتَاهُ عَلَيْهَا لَمْ يَرْفَعْهُمَا لَا سَهْوَ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ هِيَ الصُّورَةُ الَّتِي قَبْلَهَا فَيَكُونُ الْحَاصِلُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ. وَقَدْ اخْتَارَ فِي الْأَجْنَاسِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّ عَلَيْهِ السَّهْوَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ الْأَوَّلُ مَا إذَا فَارَقَتْ رُكْبَتَاهُ الْأَرْضَ دُونَ أَنْ يَسْتَوِيَ نِصْفُهُ الْأَسْفَلُ شَبَهُ الْجَالِسِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ.
فَالْحَاصِلُ ثُبُوتُ التَّلَازُمِ بَيْنَ عَدَمِ الْعَوْدِ وَسُجُودِهِ وَعَدَمِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَوْدِ ثُمَّ قِيلَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ اخْتَارَهُ مَشَايِخُ بُخَارَى، أَمَّا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ فَمَا لَمْ يَسْتَوِ قَائِمًا يَعُودُ، قِيلَ
صَلَاتِهِ وَأَمْكَنَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ بِمَحَلِّ الرَّفْضِ. قَالَ (وَأَلْغَى الْخَامِسَةَ) لِأَنَّهُ رَجَعَ إلَى شَيْءٍ مَحَلُّهُ قَبْلَهَا فَتَرْتَفِضُ (وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ) لِأَنَّهُ أَخَّرَ وَاجِبًا.
(وَإِنْ قَيَّدَ الْخَامِسَةَ بِسَجْدَةٍ بَطَلَ فَرْضُهُ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ اسْتَحْكَمَ شُرُوعَهُ فِي النَّافِلَةِ قَبْلَ إكْمَالِ أَرْكَانِ الْمَكْتُوبَةِ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ خُرُوجُهُ عَنْ الْفَرْضِ وَهَذَا لِأَنَّ الرَّكْعَةَ بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ صَلَاةٌ حَقِيقَةً حَتَّى يَحْنَثَ بِهَا فِي يَمِينِهِ لَا يُصَلِّي (وَتَحَوَّلَتْ صَلَاتُهُ نَفْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) خِلَافًا
وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ مَا رَوَاهُ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَامَ فَسَبَّحُوا لَهُ فَرَجَعَ» ، وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرْجِعْ» بِالْحَمْلِ عَلَى حَالَتَيْ الْقُرْبِ مِنْ الْقِيَامِ وَعَدَمِهِ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْهُ بِالْحَمْلِ عَلَى الِاسْتِوَاءِ وَعَدَمِهِ، ثُمَّ لَوْ عَادَ فِي مَوْضِعِ وُجُوبِ عَدَمِهِ قِيلَ الْأَصَحُّ أَنَّهَا تَفْسُدُ لِكَمَالِ الْجِنَايَةِ بِرَفْضِ الْفَرْضِ لِمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ، بِخِلَافِ تَرْكِ الْقِيَامِ لِسُجُودِ التِّلَاوَةِ لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ لِإِظْهَارِ مُخَالِفَةِ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ الْكَفَرَةِ وَلَيْسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَعْنَاهُ أَصْلًا عَلَى أَنَّا نَقُولُ الْجِنَايَةُ هُنَا بِالرَّفْضِ وَلَيْسَ تَرْكُ الْقِيَامِ لِلسُّجُودِ رَفْضًا لَهُ حَتَّى لَوْ لَمْ يَقُمْ بَعْدَهَا قَدْرَ فَرْضِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى رَكَعَ صَحَّتْ، هَذَا وَفِي النَّفْسِ مِنْ التَّصْحِيحِ شَيْءٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ فِي الرُّجُوعِ إلَى الْقَعْدَةِ الْأُولَى أَنْ يَكُونَ زِيَادَةَ قِيَامِ مَا فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ لَكِنَّهُ بِالصِّحَّةِ لَا يَحِلُّ لِمَا عُرِفَ أَنَّ زِيَادَةَ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَا تَفْسُدُ إلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بِاقْتِرَانِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ بِالرَّفْضِ، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ الْمُتَحَقِّقُ لُزُومُ الْإِثْمِ أَيْضًا بِالرَّفْضِ، أَمَّا الْفَسَادُ فَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ اسْتِلْزَامِهِ إيَّاهُ فَيَتَرَجَّحُ بِهَذَا الْبَحْثِ الْقَوْلُ الْمُقَابِلُ لِلْمُصَحِّحِ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ أَخَّرَ وَاجِبًا) أَيْ وَاجِبًا قَطْعِيًّا وَهُوَ الْفَرْضُ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ
(قَوْلُهُ وَإِنْ قَيَّدَ الْخَامِسَةَ بِسَجْدَةٍ بَطَلَ فَرْضُهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) لَهُ أَنَّ الْحَاصِلَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ كَوْنُهُ صَلَّاهَا بِزِيَادَةِ رَكْعَةٍ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُفْسِدٍ مِثْلُ زِيَادَةِ مَا دُونَهَا، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا» قُلْنَا اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ يَصْدُقُ مَعَ تَرْكِ الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَمَعَ فِعْلِهَا، وَلَا دَلَالَةَ لِلْأَعَمِّ عَلَى خُصُوصِ أَخَصَّ فَلَا يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ مَا إذَا صَلَّاهَا خَمْسًا مَعَ تَرْكِ الْقَعْدَةِ فَجَازَ كَوْنُهُ مَعَ فِعْلِهَا، ثُمَّ
لِمُحَمَّدٍ عَلَى مَا مَرَّ (فَيَضُمُّ إلَيْهَا رَكْعَةً سَادِسَةً وَلَوْ لَمْ يَضُمَّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ مَظْنُونٌ، ثُمَّ إنَّمَا يَبْطُلُ فَرْضُهُ بِوَضْعِ الْجَبْهَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ سُجُودٌ كَامِلٌ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِرَفْعِهِ لِأَنَّ تَمَامَ الشَّيْءِ بِآخِرِهِ وَهُوَ الرَّفْعُ وَلَمْ يَصِحَّ مَعَ الْحَدَثِ
بِتَرَجُّحِ ذَلِكَ حَمْلًا لِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا هُوَ الْأَقْرَبُ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ نَفْلٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ الِاتِّصَافُ بِكَوْنِهِ فِي صَلَاتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْ الْوَصْفَيْنِ، فَالْحُكْمُ بِصِحَّتِهَا حُكْمٌ بِالضَّرُورَةِ بِخُرُوجِهِ عَنْ الْفَرِيضَةِ، بِخِلَافِ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ.
(قَوْلُهُ عَلَى مَا مَرَّ) فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ مِنْ أَنَّ بُطْلَانَ وَصْفِ الْفَرْضِيَّةِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ التَّحْرِيمَةِ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَبِنَاءً عَلَى أَصْلٍ آخَرَ وَهُوَ مَا أَسْلَفْنَاهُ مِنْ أَنَّ تَرْكَ الْقَعْدَةِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ النَّفْلِ لَا يُفْسِدُهَا عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَفِي تَحَوُّلِهَا نَفْلًا يَلْزَمُ ذَلِكَ فَيَضُمُّ إلَيْهَا رَكْعَةً سَادِسَةً عِنْدَهُمَا كَيْ لَا يَنْتَفِلَ بِالْوِتْرِ، وَهَلْ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ؟ قِيلَ نَعَمْ، وَالصَّحِيحُ لَا لِأَنَّ النُّقْصَانَ بِالْفَسَادِ لَا يَنْجَبِرُ بِالسُّجُودِ وَلَوْ لَمْ يَضُمَّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الضَّمُّ وَاجِبًا عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ الْأَصْلِ لِعَدَمِ جَوَازِ التَّنَفُّلِ بِالْوِتْرِ لِأَنَّهُ مَظْنُونُ الْوُجُوبِ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَاللُّزُومُ إنَّمَا يَثْبُتُ شَرْعًا بِالِالْتِزَامِ أَوْ إلْزَامِ الرَّبِّ تَعَالَى ابْتِدَاءً، وَشُرُوعُهُ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ بَلْ لِقَصْدِ الْإِسْقَاطِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ سَقَطَ أَصْلًا، وَلَكِنْ لَوْ اقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ ثُمَّ قَطَعَ لَزِمَهُ قَضَاءُ سِتٍّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْفَصْلِ الثَّانِي حَيْثُ قَالَ هُنَاكَ: لَوْ قَطَعَهَا يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ لِمَا نَذْكُرُ فِيهِ.
(قَوْلُهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِرَفْعِهِ لِأَنَّ تَمَامَ الشَّيْءِ بِآخِرِهِ وَهُوَ الرَّفْعُ وَلَمْ يَصِحَّ مَعَ الْحَدَثِ) وَاخْتَارَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ لِلْفَتْوَى لِأَنَّهُ أَرْفَقُ وَأَقْيَسُ، لِأَنَّ السُّجُودَ لَوْ تَمَّ قَبْلَ الرَّفْعِ لَمْ يَنْقُضْهُ الْحَدَثُ، لَكِنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى لُزُومِ إعَادَةِ كُلِّ رُكْنٍ وُجِدَ فِيهِ سَبْقُ الْحَدَثِ عِنْدَ الْبِنَاءِ، وَعَلَى الِاعْتِدَادِ بِمَا لَحِقَ فِيهِ الْإِمَامُ الْمَأْمُومَ إذَا سَبَقَهُ الْمَأْمُومُ فِي ابْتِدَائِهِ خِلَافًا لِزُفَرَ فِي هَذَا
وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي السُّجُودِ بَنَى عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.
(وَلَوْ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ ثُمَّ قَامَ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَادَ إلَى الْقَعْدَةِ مَا لَمْ يَسْجُدْ لِلْخَامِسَةِ وَسَلَّمَ) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِي حَالَةِ الْقِيَامِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَأَمْكَنَهُ الْإِقَامَةُ عَلَى وَجْهِهِ بِالْقُعُودِ لِأَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ بِمَحَلِّ الرَّفْضِ.
(وَإِنْ قَيَّدَ الْخَامِسَةَ بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَ ضَمَّ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى وَتَمَّ فَرْضُهُ) لِأَنَّ الْبَاقِيَ إصَابَةُ لَفْظَةِ السَّلَامِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ، وَإِنَّمَا يَضُمُّ إلَيْهَا أُخْرَى لِتَصِيرَ الرَّكْعَتَانِ نَفْلًا لِأَنَّ الرَّكْعَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُجْزِئُهُ «لِنَهْيِهِ عليه الصلاة والسلام عَنْ الْبَتْرَاءِ» ، ثُمَّ لَا تَنُوبَانِ عَنْ سُنَّةِ
وَلَوْ كَانَ الرُّكْنُ تَمَّ بِمُجَرَّدِ وَضْعِهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ لِأَنَّ فِعْلَ الْإِمَامِ حِينَئِذٍ بَعْدَ تَمَامِهِ، وَكُلُّ رُكْنٍ أَدَّاهُ الْمُقْتَدِي قَبْلَ إمَامِهِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ
؛
(قَوْلُهُ فِي السُّجُودِ) أَيْ سُجُودِ الْخَامِسَةِ بَنَى: أَيْ عَلَى الْفَرْضِ: أَيْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْحَدَثِ أَمْكَنَهُ إصْلَاحُ فَرْضِهِ بِأَنْ يَتَوَضَّأَ وَيَأْتِيَ فَيَقْعُدَ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، لِأَنَّ الرَّفْعَ حَصَلَ مَعَ الْحَدَثِ فَلَا يَكُونُ مُكَمِّلًا لِلسَّجْدَةِ لِيَفْسُدَ الْفَرْضُ بِهِ، وَهَذَا مَا أَعْنِي صِحَّةَ الْبِنَاءِ بِسَبَبِ سَبْقِ الْحَدَثِ إذَا لَمْ يَتَذَكَّرْ فِي ذَلِكَ السُّجُودِ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَةً صُلْبِيَّةً مِنْ صَلَاتِهِ، فَإِنْ تَذَكَّرَ ذَلِكَ فَسَدَتْ اتِّفَاقًا لِمَا سَنَذْكُرُ فِي تَتِمَّةٍ نَعْقِدُهَا فِي السَّجَدَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِمُجَرَّدِ الْوَضْعِ فَسَدَ فَرْضُهُ فَلَا يُمْكِنُهُ إصْلَاحُهُ إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِيهِ. وَقَدْ سُئِلَ أَبُو يُوسُفَ فَقَالَ: بَطَلَتْ وَلَا يَعُودُ إلَيْهَا. فَأَخْبَرَ بِجَوَابِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ زِهْ صَلَاةٌ فَسَدَتْ يُصْلِحُهَا الْحَدَثُ. وَزِهْ بِمُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا هَاءٌ كَلِمَةُ تَعَجُّبٍ، وَهُوَ هُنَا عَلَى وَجْهِ التَّهَكُّمِ.
قِيلَ قَالَهُ لِغَيْظٍ لَحِقَهُ مِنْ مُحَمَّدٍ بِسَبَبِ مَا بَلَغَهُ مِنْ عَيْبِهِ قَوْلَهُ فِي الْمَسْجِدِ إذَا خَرِبَ أَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَسْجِدًا وَإِنْ صَارَ مَأْوًى لِلْكِلَابِ وَالدَّوَابِّ
(قَوْلُهُ عَادَ إلَى الْقَعْدَةِ) إنَّمَا يَعُودُ مَعَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعُدْ وَسَلَّمَ قَائِمًا حُكِمَ بِصِحَّةِ فَرْضِهِ لِيَأْتِيَ بِالسَّلَامِ فِي مَوْضِعِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ حَالَ الْقِيَامِ، وَهَلْ يَتَّبِعُهُ الْقَوْمُ فِي هَذَا الْقِيَامِ؟ قِيلَ نَعَمْ، فَإِنْ عَادَ عَادُوا مَعَهُ، وَإِنْ مَضَى فِي النَّافِلَةِ تَبِعُوهُ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْبَلْخِيّ عَنْ عُلَمَائِنَا لَا يَتَّبِعُونَهُ فِي الْبِدْعَةِ وَيَنْتَظِرُونَهُ، فَإِنْ عَادَ قَبْلَ السَّجْدَةِ تَبِعُوهُ فِي السَّلَامِ، وَإِنْ سَجَدَ سَلَّمُوا فِي الْحَالِ، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ مُتَابَعَتِهِمْ لَهُ فِيمَا إذَا قَامَ قَبْلَ الْقَعْدَةِ، وَإِذَا عَادَ لَا يُعِيدُ التَّشَهُّدَ
(قَوْلُهُ ثُمَّ لَا تَنُوبَانِ عَنْ سُنَّةِ.
الظُّهْرِ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَيْهَا بِتَحْرِيمَةٍ مُبْتَدَأَةٍ (وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ اسْتِحْسَانًا) لِتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ فِي الْفَرْضِ بِالْخُرُوجِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ. وَفِي النَّفْلِ بِالدُّخُولِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ، وَلَوْ قَطَعَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ مَظْنُونٌ
الظُّهْرِ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ تَنُوبُ، وَجْهُ الْمُخْتَارِ أَنَّ السُّنَّةَ بِالْمُوَاظَبَةِ وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهَا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بِتَحْرِيمَةٍ مُبْتَدَأَةٍ وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى قَصْدِ السُّنَّةِ فِي وُقُوعِهَا سُنَّةً، بِخِلَافِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْأَرْبَعِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ فَإِنَّهَا بِتَحْرِيمَةٍ قُصِدَتْ ابْتِدَاءً لِلنَّفْلِ فَلِذَا تَقَعُ الْأُولَيَانِ مِنْهَا سُنَّةً، وَلَوْ كَانَتْ الصُّورَةُ فِي الْعَصْرِ: أَعْنِي صَلَّاهَا خَمْسًا بَعْدَمَا قَعَدَ الثَّانِيَةَ أَوْ فِي الْفَجْرِ سَجَدَ فِي الثَّالِثَةِ بَعْدَ الْقَعْدَةِ، قَالُوا لَا يَضُمُّ سَادِسَةً لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُتَنَفِّلًا بِرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالْفَجْرِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَضُمَّ وَالنَّهْيُ عَنْ التَّنَفُّلِ الْقَصْدِيِّ بَعْدَهُمَا، وَكَذَا إذَا تَطَوَّعَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَةً طَلَعَ الْفَجْرُ الْأَوْلَى أَنْ يُتِمَّهَا ثُمَّ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَفَّلْ بِأَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ قَصْدًا (قَوْلُهُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ اسْتِحْسَانًا) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْجُدَ لِأَنَّهُ صَارَ إلَى صَلَاةٍ غَيْرِ الَّتِي سَهَا فِيهَا، وَمَنْ سَهَا فِي صَلَاةٍ لَا يَسْجُدُ فِي أُخْرَى.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النُّقْصَانَ دَخَلَ فِي فَرْضِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ وَهُوَ السَّلَامُ، وَهَذَا النَّفَلُ بِنَاءً عَلَى التَّحْرِيمَةِ الْأُولَى فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ السَّهْوِ كَأَنَّهُمَا وَاحِدَةٌ، كَمَنْ صَلَّى سِتًّا تَطَوُّعًا بِتَسْلِيمَةٍ وَسَهَا فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ يَسْجُدُ فِي الْآخِرِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ شَفْعٍ صَلَاةً عَلَى حِدَةٍ بِنَاءً عَلَى الِاتِّحَادِ الْحُكْمِيِّ الْكَائِنِ بِوَاسِطَةِ اتِّحَادِ التَّحْرِيمَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ النُّقْصَانُ فِي النَّفْلِ بِالدُّخُولِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْوَاجِبِ، إذْ الْوَاجِبُ أَنْ يَشْرَعَ فِي النَّفْلِ بِتَحْرِيمَةٍ مُبْتَدَأَةٍ لِلنَّفْلِ وَهَذِهِ كَانَتْ لِلْفَرْضِ. كَذَا فِي الْكَافِي.
وَبِهِ ظَهَرَ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ لِتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ فِي الْفَرْضِ بِالْخُرُوجِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ، وَفِي النَّفْلِ بِالدُّخُولِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ مُرَادُهُ مَسْنُونُ الثُّبُوتِ فَيَعُمُّ الْوَاجِبَ وَهُوَ الْمُرَادُ وَهُوَ تَعْلِيلٌ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ، فَالْأَوَّلُ لِمُحَمَّدٍ وَالثَّانِي لِأَبِي يُوسُفَ، وَظَهَرَ أَنَّ كَوْنَهُ اسْتِحْسَانًا يُقَابِلُهُ قِيَاسٌ إنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ.
أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَيَسْجُدُ قِيَاسًا اسْتِحْسَانًا، وَقُدِّمَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى لِأَنَّ مَنْ قَامَ مِنْ الْفَرْضِ إلَى النَّفْلِ بِلَا تَسْلِيمٍ وَلَا تَحْرِيمَةٍ عَمْدًا لَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِي النَّفْلِ لِأَنَّهُ أَحَدُ وَجْهَيْ الشُّرُوعِ فِي النَّفْلِ بَلْ فِي الْفَرْضِ، كَذَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ، لَكِنْ أَبُو يُوسُفَ يَمْنَعُ أَنَّهُ أَحَدُ وَجْهَيْ الشُّرُوعِ، وَلَوْ قَطَعَهَا: يَعْنِي
وَلَوْ اقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ فِيهِمَا يُصَلِّي سِتًّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ الْمُؤَدَّى بِهَذِهِ التَّحْرِيمَةِ، وَعِنْدَهُمَا رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ اسْتَحْكَمَ خُرُوجُهُ عَنْ الْفَرْضِ وَلَوْ أَفْسَدَهُ الْمُقْتَدِي فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارًا بِالْإِمَامِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّ السُّقُوطَ بِعَارِضٍ يَخُصُّ الْإِمَامَ.
قَالَ (وَمَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا
صَلَاةَ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ إتْمَامِ الرَّكْعَةِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَظْنُونٌ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ؛
(قَوْلُهُ وَلَوْ اقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ فِيهِمَا يُصَلِّي سِتًّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ) لِمَا ذُكِرَ (وَعِنْدَهُمَا رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ اسْتَحْكَمَ لِخُرُوجِهِ عَنْ الْفَرْضِ) فَانْقَطَعَ إحْرَامُهُ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُهُ فِي إحْرَامَيْنِ لِصَلَاتَيْنِ مُتَبَايِنَتَيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بَاقٍ لِأَنَّ إحْرَامَ الْفَرْضِ اشْتَمَلَ أَصْلَ الصَّلَاةِ وَوَصْفَ الْفَرِيضَةِ وَالِانْتِقَالُ إلَى النَّفْلِ أَوْجَبَ انْقِطَاعَ الْوَصْفِ دُونَ الْأَصْلِ، وَلِهَذَا لَوْ قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ صَارَ شَارِعًا فِي النَّفْلِ بِلَا تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، فَلَوْ كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ الِانْتِقَالِ إلَى النَّفْلِ انْقِطَاعُ الْإِحْرَامِ اُحْتِيجَ إلَى تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ الْإِحْرَامُ مُنْقَطِعًا مُطْلَقًا (قَوْلُهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ) كَأَنَّ حَقَّهُ أَنْ يَقُولَ: وَعِنْدَهُمَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أَوَّلًا وَعِنْدَهُمَا رَكْعَتَيْنِ، يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ، ثُمَّ الْفَتْوَى هُنَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ النَّفْلِ غَيْرُ مَضْمُونٍ قَصْدًا غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَإِنَّمَا شُرِعَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ لِنُقْصَانِ عَزِيمَتِهِمَا، فَإِذَا انْتَقَضَتْ عَزِيمَةُ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ بِأَنْ شَرَعَ فِيهِ عَلَى عَزْمِ إسْقَاطِ الْوَاجِبِ لَا عَزْمِ التَّطَوُّعِ الْتَحَقَ بِهِمَا حِينَئِذٍ، وَهَذَا يَخُصُّ الْإِمَامَ فَلَا يَتَعَدَّى
فَسَهَا فِيهِمَا وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ أُخْرَيَيْنِ لَمْ يَبْنِ) لِأَنَّ السُّجُودَ يَبْطُلُ لِوُقُوعِهِ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ إذَا سَجَدَ السَّهْوَ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ حَيْثُ يَبْنِي لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْنِ يُبْطِلُ جَمِيعَ الصَّلَاةِ، وَمَعَ هَذَا لَوْ أَدَّى صَحَّ لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ.
(وَمَنْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ فَدَخَلَ رَجُلٌ فِي صَلَاتِهِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، فَإِنْ سَجَدَ الْإِمَامُ كَانَ دَاخِلًا وَإِلَّا فَلَا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ دَاخِلٌ سَجَدَ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَسْجُدْ، لِأَنَّ عِنْدَهُ سَلَامُ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ الصَّلَاةِ أَصْلًا لِأَنَّهَا وَجَبَتْ جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي إحْرَامِ الصَّلَاةِ وَعِنْدَهُمَا يُخْرِجُهُ عَلَى
إلَى الْمُقْتَدِي.
(قَوْلُهُ لَمْ يَبْنِ) أَيْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ؛
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ) الْحَاصِلُ أَنَّ نَقْضَ الْوَاجِبِ وَإِبْطَالَهُ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا اسْتَلْزَمَ تَصْحِيحُهُ نَقْضَ مَا هُوَ فَوْقَهُ، فَفِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ امْتَنَعَ الْبِنَاءُ لِأَنَّهُ نَقْضٌ لِلْوَاجِبِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ سُجُودُ السَّهْوِ وَوَجَبَ الْبِنَاءُ فِي الْمُسَافِرِ يَسْجُدُ ثُمَّ يَنْوِي الْإِقَامَةَ لِتَحَقُّقِ ذَلِكَ الْمُوجِبِ، وَمَنْ اُبْتُلِيَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ أَقَلَّهُمَا مَحْذُورًا.
وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: حَقِيقَةُ الْفَرْقِ أَنَّ الْعَوْدَ إلَى حُرْمَةِ الصَّلَاةِ بِالسُّجُودِ بَعْدَ التَّحْلِيلِ لِضَرُورَةٍ تَرْجِعُ إلَى إكْمَالِ تِلْكَ الصَّلَاةِ لَا أُخْرَى، وَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ تَعْمَلُ فِي إكْمَالِ تِلْكَ الصَّلَاةِ فَظَهَرَ عُودُ الْحُرْمَةِ فِي حَقِّهَا، فَأَمَّا كُلُّ شَفْعٍ مِنْ النَّفْلِ فَصَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ وَلَمْ تَعُدْ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّ صَلَاةٍ أُخْرَى فَلَا يُمْكِنُ الْبِنَاءُ بَعْدَمَا اُعْتُبِرَ مُحَلَّلًا، لَكِنَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يَصِحَّ الْبِنَاءُ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا عُرِفَ مِنْ كَلَامِهِمْ فَوَجَبَ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِذَا بَنَى قِيلَ لَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ فِي الْآخِرِ لِأَنَّ السُّجُودَ الْأَوَّلَ وَقَعَ جَابِرًا حِينَ وَقَعَ، وَقِيلَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَسْجُدُ لِبُطْلَانِ الْأَوَّلِ بِمَا طَرَأَ مِنْ وَصْلِ الْبَاقِي.
(قَوْلُهُ جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ) أَيْ النُّقْصَانِ الْكَائِنِ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، وَلَا
سَبِيلِ التَّوَقُّفِ لِأَنَّهُ مُحَلِّلٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا لَا يَعْمَلُ لِحَاجَتِهِ إلَى أَدَاءِ السَّجْدَةِ فَلَا يَظْهَرُ دُونَهَا، وَلَا حَاجَةَ عَلَى اعْتِبَارِ عَدَمِ الْعَوْدِ، وَيَظْهَرُ الِاخْتِلَافُ فِي هَذَا وَفِي انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِالْقَهْقَهَةِ وَتَغَيُّرِ الْفَرْضِ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْمُلَازَمَةَ غَيْرُ ضَرُورِيَّةٍ بَلْ نَظَرِيَّةٌ، إذْ لَا مَانِعَ فِي الْعَقْلِ مِنْ اعْتِبَارِ الْجَابِرِ بَعْدَهَا مُتَّصِلًا، لَكِنْ تَرَكُوا بَيَانَهَا لِأَنَّهَا اتِّفَاقِيَّةٌ بَيْنَهُمْ وَزُفَرُ مَعَ مُحَمَّدٍ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ تَرَاخَى الْحُكْمُ عَنْ الْعِلَّةِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ (قَوْلُهُ وَإِنَّمَا لَا يَعْمَلُ لِحَاجَتِهِ إلَى أَدَاءِ السَّجْدَةِ) أَيْ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ فَلَا يَظْهَرُ عَدَمُ عَمَلِهِ دُونَهَا: أَيْ دُونَ السَّجْدَةِ، وَهَذِهِ يَحْتَمِلُ كَوْنُهُ قَبْلَ السَّجْدَةِ حَلَّلَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ أَوَانُ الضَّرُورَةِ وَهُوَ السَّجْدَةُ فَلَا يَتَأَخَّرُ عَمَلُهُ فَيَثْبُتُ التَّحْلِيلُ ثُمَّ يَعُودُ إلَى حُرْمَةِ الصَّلَاةِ بِالسُّجُودِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَبْلَهَا مُتَوَقِّفٌ عَلَى ظُهُورِ عَاقِبَتِهِ إنْ سَجَدَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ إذْ تَبَيَّنَ عَدَمُ الضَّرُورَةِ الْمُوجِبَةِ لِتَخَلُّفِ تَحْلِيلِهِ عَنْهُ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الِاحْتِمَالَيْنِ قَوْلَانِ لِلْمَشَايِخِ حَكَاهُ خِلَافًا صَرِيحًا بَيْنَهُمْ فِي الْبَدَائِعِ، مِنْهُمْ مَنْ اخْتَارَ الثَّانِيَ، وَمِنْهُمْ مَنْ اخْتَارَ الْأَوَّلَ.
قَالَ: وَهُوَ أَسْهَلُ لِتَخْرِيجِ الْفُرُوعِ وَالتَّوَقُّفِ فِي بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ، وَبُطْلَانُهَا أَصَحُّ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا بَطَلَتْ لَا تَعُودُ إلَّا بِإِعَادَةٍ وَلَمْ تُوجَدْ اهـ.
وَلَا يَبْعُدُ جَعْلُ الشَّرْعِ نَفْسَ السُّجُودِ وَالْعُودَ إلَيْهِ إعَادَةً، وَيَعْنِي بِالْفُرُوعِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بَعْدَ السَّلَامِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِيرُ مُقْتَدِيًا أَلْبَتَّةَ، وَعِنْدَهُمَا يُوقَفُ عَلَى السُّجُودِ، وَانْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِالْقَهْقَهَةِ بَعْدَهُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يُنْتَقَضُ، وَكَذَا لَوْ ضَحِكَ الْمُقْتَدِي فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَفِي تَغَيُّرِ الْفَرْضِ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ بَعْدَهُ قَبْلَ السُّجُودِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَيَصِيرُ أَرْبَعًا وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَغَيَّرُ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تَحْصُلْ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، وَيَسْقُطُ سُجُودُ السَّهْوِ لِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ فَيَكُونُ مُؤَدِّيًا سُجُودَ السَّهْوِ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ فَيَتْرُكُ وَيَقُومُ، وَلَا يُؤْمَرُ بِأَدَاءِ شَيْءٍ إذْ كَانَ فِي أَدَائِهِ إبْطَالُهُ.
وَفِيمَنْ اقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ ثُمَّ تَكَلَّمَ هَذَا الْمُقْتَدِي قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ الْإِمَامُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُقْتَدِي قَضَاءُ شَيْءٍ عِنْدَهُمَا وَإِنْ سَجَدَ الْإِمَامُ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ قَبْلَ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا يُصَلِّي الْإِمَامُ.
وَقَوْلُهُ فِي النِّهَايَةِ عِنْدَهُمَا يَخْرُجُ بِالسَّلَامِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لَا أَنَّ مَعْنَى التَّوَقُّفِ أَنْ يُثْبِتَ الْخُرُوجَ مِنْ وَجْهٍ ثُمَّ بِالسُّجُودِ يَدْخُلُ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهٍ لَكَانَتْ الْأَحْكَامُ عَلَى عَكْسِهَا عِنْدَهُمَا أَيْضًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ مِنْ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِالْقَهْقَهَةِ وَلُزُومِ الْأَدَاءِ بِالِاقْتِدَاءِ، وَلُزُومِ الْأَرْبَعِ عِنْدَ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ عَمَلًا بِالِاحْتِيَاطِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ مَعْنَى التَّوَقُّفِ الْمُقَابِلِ لِمَا اخْتَارَهُ مِمَّا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِالْفُرُوعِ الْمَذْكُورَةِ كَوْنُهُ فِي حُرْمَتِهَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ الْقَوْلِ بِالتَّوَقُّفِ لِلْمُتَأَمِّلِ، إذْ حَقِيقَتُهُ تَوَقُّفُ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ أَوَّلًا، فَالثَّابِتُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَحَدُهُمَا عَيْنًا، وَالسُّجُودُ وَعَدَمُهُ مُعَرَّفٌ كَمَا يُفِيدُهُ مَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْبَدَائِعِ مِنْ التَّجْوِيزَيْنِ، وَهَذَا
وَ (مَنْ سَلَّمَ يُرِيدُ بِهِ قَطْعَ الصَّلَاةِ وَعَلَيْهِ سَهْوٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ) لِأَنَّ السَّلَامَ غَيْرُ قَاطِعٍ وَنِيَّتُهُ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ
قَطُّ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِكَوْنِهِ بَعْدَ السَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، بَلْ الْوُقُوفُ عَنْ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ وَجْهٍ أَصْلًا فَتَأَمَّلْ، وَكَأَنَّهُ رحمه الله لَمْ يَدْرِ تَحَقُّقَ ثُبُوتِ الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي مَعْنَى التَّوَقُّفِ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ هَذَا السَّلَامَ غَيْرُ قَاطِعٍ) لِأَنَّهُ فِي مَحَلِّهِ بَعْدَ الْقَعْدَةِ فَهُوَ مُحَلَّلٌ مِنْهُ، وَنِيَّتُهُ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ الْقَطْعُ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ تَرْكَ السُّجُودِ، وَالنِّيَّةُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ الْعَمَلِ غَيْرِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ لَا يُؤَثِّرُ إبْطَالُ مَا رُكْنُهُ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ وَهُوَ السُّجُودُ فَلَغَتْ، بِخِلَافِ نِيَّةِ الْكُفْرِ فَإِنَّهَا تُؤْثِرُ إبْطَالَ الْإِيمَانِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ رُكْنَهُ عَمَلُ الْبَاطِنِ فَقَطْ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَالْإِقْرَارُ إنَّمَا هُوَ شَرْطُ إجْرَاءِ الْأَحْكَامِ وَهُوَ فَرْضٌ فِيهِ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا الْعَمَلَ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ لِيَنْدَفِعَ مَا يُقَالُ هَذِهِ مَقْرُونَةٌ بِالْعَمَلِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ هَذَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِنَا سَلَامُ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ لَا يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَهُ قَاطِعًا وَإِلَّا لَمْ يَعُدْ إلَى حُرْمَتِهَا، بَلْ الْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ إذَا وَقَعَ فِي مَحَلِّهِ كَانَ مُحَلِّلًا مُخْرِجًا، وَبَعْدَ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يَجِبُ وُقُوعُهُ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ كَانَ قَاطِعًا مَعَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ، فَإِنْ سَلَّمَ ذَاكِرًا لَهُ وَهُوَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَقَدْ قَطَعَ وَتَقَرَّرَ النَّقْصُ وَتَعَذَّرَ جَبْرُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَاجِبُ نَفْسَ سُجُودِ السَّهْوِ، وَإِنْ كَانَ رُكْنًا فَسَدَتْ، وَإِنْ سَلَّمَ غَيْرَ ذَاكِرٍ أَنَّ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَصِرْ خَارِجًا، وَعَلَى هَذَا تَجْرِي الْفُرُوعُ فَلْنَذْكُرْ طَرَفًا يَنْفَعُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ عز وجل فَنَقُولُ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى: إذَا سَلَّمَ وَانْصَرَفَ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ عَلَيْهِ سَجْدَةً صُلْبِيَّةً أَوْ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ، وَلَوْ انْصَرَفَ عَنْ الْقِبْلَةِ لِأَنَّ سَلَامَهُ لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ الصَّلَاةِ، حَتَّى لَوْ اقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ بَعْدَ هَذَا السَّلَامِ صَارَ دَاخِلًا، فَإِنْ سَجَدَ سَجَدَ مَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ إذَا كَانَ الْمَتْرُوكُ صُلْبِيَّةً وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الدَّاخِلِ بِفَسَادِهَا بَعْدَ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَوَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى الدَّاخِلِ حَتَّى لَوْ دَخَلَ فِي فَرْضٍ رُبَاعِيٍّ مُتَنَفِّلًا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ إنْ كَانَ الْإِمَامُ مُقِيمًا وَرَكْعَتَيْنِ إنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ فَانْصَرَفَ إنْ جَاوَزَ الصُّفُوفَ خَلْفَهُ أَوْ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً فَسَدَتْ فِي الصُّلْبِيَّةِ وَتَقَرَّرَ النَّقْصُ وَعَدَمُ الْجَبْرِ فِي التِّلَاوِيَّةِ وَالسَّهْوِيَّةِ.
وَإِنْ مَشَى إمَامُهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَحُكْمُهُ إنْ كَانَ لَهُ سُتْرَةٌ بَنَى مَا لَمْ يُجَاوِزْهَا لَا إنْ جَاوَزَهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سُتْرَةٌ فَقِيلَ إنْ مَشَى قَدْرَ الصُّفُوفِ خَلْفَهُ عَادَ أَوْ أَكْثَرَ امْتَنَعَ الْبِنَاءُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ اعْتِبَارًا لِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِالْآخَرِ.
وَقِيلَ إنْ جَاوَزَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ لَا يَعُودُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ فِي حُكْمِ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ فَكَانَ مَانِعًا مِنْ الِاقْتِدَاءِ، وَلَوْ تَذَكَّرَ بَعْدَ السَّلَامِ مِنْ الظُّهْرِ أَنَّهُ تَرَكَ صُلْبِيَّةً فَقَامَ وَاسْتَقْبَلَ الظُّهْرَ فَصَلَّى أَرْبَعًا فَسَدَتْ، لِأَنَّ نِيَّةَ الِاسْتِقْبَالِ لَمْ تَصِحَّ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْأُولَى فَصَارَ خَالِطًا الْمَكْتُوبَةَ بِالنَّافِلَةِ قَبْلَ إكْمَالِ أَرْكَانِهَا، وَهَذِهِ نَظِيرُ مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ فَسَلَّمَ عَلَى ظَنِّ الْإِتْمَامِ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَكَبَّرَ لِلِاسْتِقْبَالِ فَصَلَّى ثَلَاثًا إنْ صَلَّى رَكْعَةً وَقَعَدَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قَدْرَ التَّشَهُّدِ جَازَتْ الْمَغْرِبُ وَإِلَّا فَسَدَتْ لِأَنَّ نِيَّةَ الْمَغْرِبِ ثَانِيًا لَمْ تَصِحَّ فَبَقِيَ فِي الْأُولَى، فَإِذَا صَلَّى رَكْعَةً وَقَعَدَ تَمَّتْ وَإِلَّا فَلَا.
وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ تِلَاوِيَّةٌ وَسَهْوِيَّةٌ غَيْرَ ذَاكِرٍ لَهُمَا أَوْ ذَاكِرًا لِلسَّهْوِ خَاصَّةً لَا يُعَدُّ سَلَامُهُ قَاطِعًا، فَإِذَا تَذَكَّرَ يَسْجُدُ لِلتِّلَاوَةِ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ ثُمَّ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ تَرْفَعُ الْقَعْدَةَ ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ، وَإِنْ سَلَّمَ ذَاكِرًا لَهُمَا أَوْ لِلتِّلَاوَةِ خَاصَّةً كَانَ قَاطِعًا وَسَقَطَتْ عَنْهُ التِّلَاوِيَّةُ وَالسَّهْوُ لِامْتِنَاعِ الْبِنَاءِ بِسَبَبِ الِانْقِطَاعِ، إلَّا إذَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَشَهَّدْ عَلَى مَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ حَيْثُ قَالَ: إذَا سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ أَنَّ عَلَيْهِ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَشَهَّدْ فَإِنَّهُ لَا يَعُودُ لِلتَّشَهُّدِ وَيَسْجُدُ لِلتِّلَاوَةِ وَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ.
وَإِنْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ صُلْبِيَّةٌ وَسَهْوِيَّةٌ غَيْرَ ذَاكِرٍ لَهُمَا أَوْ ذَاكِرًا لِلسَّهْوِيَّةِ لَمْ يَكُنْ سَلَامُهُ قَاطِعًا وَيَفْعَلُ كَالْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لَهُمَا ولِلصُّلْبِيَّةِ خَاصَّةً فَهُوَ قَاطِعٌ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ صُلْبِيَّةٌ وَتِلَاوِيَّةٌ وَسَهْوِيَّةٌ غَيْرَ ذَاكِرٍ لَهُنَّ أَوْ ذَاكِرًا لِلسَّهْوِيَّةِ لَمْ يَقْطَعْ وَيَقْضِي الْأُولَيَيْنِ مُرَتِّبًا الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَهَذَا يُفِيدُ وُجُوبَ النِّيَّةِ فِي الْمُقْضَى مِنْ السَّجَدَاتِ، وَسَنُبَيِّنُهُ فِي التَّتِمَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَ الْوَعْدُ بِهَا ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلصُّلْبِيَّةِ أَوْ التِّلَاوِيَّةِ فَسَدَتْ وَكَانَ سَلَامُهُ قَاطِعًا، وَهَذَا فِي الصُّلْبِيَّةِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ سَلَّمَ عَمْدًا ذَاكِرًا رُكْنًا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا فِي التِّلَاوِيَّةِ فَالْمَذْكُورُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا تَفْسُدُ لِأَنَّ سَلَامَهُ فِي حَقِّ الرُّكْنِ سَلَامُ سَهْوٍ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ، وَفِي حَقِّ الْوَاجِبِ عَمْدٌ وَهُوَ لَا يُوجِبُهُ أَيْضًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ذَاكِرًا لِلصُّلْبِيَّةِ دُونَ التِّلَاوِيَّةِ وَدُفِعَ بِأَنَّ جَانِبَ الْوَاجِبِ يُوجِبُ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ وَجَانِبَ الرُّكْنِ إنْ لَمْ يُوجِبْهُ لَا يَمْنَعْ مِنْ الْإِخْرَاجِ، فَكُلُّ سَلَامٍ الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُخْرِجًا لِأَنَّهُ جُعِلَ مُحَلِّلًا شَرْعًا. قَالَ صلى الله عليه وسلم «تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْكَلَامِ عَلَى مَا مَرَّ إلَّا أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ الْإِخْرَاجِ حَالَةَ السَّهْوِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ لِكَثْرَةِ السَّهْوِ وَغَلَبَةِ النِّسْيَانِ، وَلَا يَكْثُرُ سَلَامُ مَنْ عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ الْوَاجِبَ لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ الْوَاجِبَ فَبَقِيَ مُخَرَّجًا عَلَى أَصْلِ الْوَضْعِ، وَإِذَا تَمَّتْ عِلَّةُ الْإِخْرَاجِ وَجَانِبُ الرُّكْنِ غَيْرُ مَانِعٍ كَمَا قُلْنَا صَارَ مَحْكُومًا بِخُرُوجِهِ عَنْ الصَّلَاةِ شَرْعًا قَبْلَ إكْمَالِ الْأَرْكَانِ فَتَفْسُدُ.
وَمَا أَحْسَنَ عِبَارَةَ مُحَمَّدٍ رحمه الله وَأَخْصَرَهَا حَيْثُ قَالَ: فَسَدَتْ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْضِيَ الَّتِي كَانَ ذَاكِرًا لَهَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَإِذَا جُعِلَتْ قَضَاءً الَّتِي كَانَ نَاسِيًا لَهَا وَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ الَّتِي كَانَ ذَاكِرًا لَهَا. وَإِذَا سَلَّمَ وَعَلَيْهِ السَّهْوُ وَتَكْبِيرُ التَّشْرِيقِ وَالتَّلْبِيَةِ بِأَنْ كَانَ مُحْرِمًا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ ذَلِكَ كُلُّهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَاكِرًا لِلْكُلِّ أَوْ سَاهِيًا عَنْ الْكُلِّ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ يُقَدِّمُ بَعْدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ التَّكْبِيرَ ثُمَّ التَّلْبِيَةَ وَلَوْ بَدَأَ بِالتَّلْبِيَةِ قَبْلَ السَّهْوِ سَقَطَتْ سَجْدَتَا السَّهْوِ وَالتَّكْبِيرُ، وَلَوْ لَبَّى قَبْلَ التَّكْبِيرِ يَسْقُطُ التَّكْبِيرُ، وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ صُلْبِيَّةٌ وَتِلَاوِيَّةٌ وَسَهْوٌ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّلْبِيَةُ غَيْرَ ذَاكِرٍ لَهُمَا سَجَدَهُمَا عَلَى التَّرْتِيبِ فِي وُجُوبِهِمَا ثُمَّ يَفْعَلُ الْبَاقِيَ، وَلَوْ بَدَأَ بِالتَّلْبِيَةِ فَسَدَتْ أَوْ بِالتَّكْبِيرِ لَا تَفْسُدُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَتُهُ بَعْدَ فِعْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
فَلَغَتْ.
(وَمَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا عَرَضَ لَهُ اسْتَأْنَفَ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ أَنَّهُ كَمْ صَلَّى فَلْيَسْتَقْبِلْ الصَّلَاةَ» (وَإِنْ كَانَ يَعْرِضُ لَهُ كَثِيرًا بَنَى عَلَى أَكْبَرِ رَأْيِهِ) لِقَوْلِهِ
قَوْلُهُ وَمَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ) قَيَّدَ بِالظَّرْفِ لِأَنَّهُ لَوْ شَكَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا أَوْ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ لَا يُعْتَبَرُ، إلَّا إنْ وَقَعَ فِي التَّعْيِينِ لَيْسَ غَيْرُ بِأَنْ تَذَكَّرَ بَعْدَ الْفَرَاغِ أَنَّهُ تَرَكَ فَرْضًا وَشَكَّ فِي تَعْيِينِهِ قَالُوا يَسْجُدُ سَجْدَةً وَاحِدَةً ثُمَّ يَقْعُدُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَقْعُدُ ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمَتْرُوكَ الرُّكُوعُ فَلَا بُدَّ مِنْ الرَّكْعَةِ وَسَجْدَتَيْنِ لِأَنَّ السُّجُودَ الَّذِي كَانَ أَوْقَعَهُ دُونَهُ لَا عِبْرَةَ بِهِ وَإِنْ كَانَ سَجْدَةً فَقَدْ سَجَدَ، وَلَوْ تَذَكَّرَ فِي الْعَصْرِ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَةً وَشَكَّ أَنَّهَا مِنْهَا أَوْ مِنْ الظُّهْرِ يَتَحَرَّى، فَإِنْ لَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ يُتِمُّ الْعَصْرَ وَيَسْجُدُ سَجْدَةً وَاحِدَةً لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَرَكَهَا مِنْهَا ثُمَّ يُعِيدُ الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ احْتِيَاطًا اسْتِحْبَابًا، وَلَوْ لَمْ يُعِدْ الْعَصْرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ أَدَّى رُكْنًا وَشَكَّ أَنَّهُ كَبَّرَ لِلِافْتِتَاحِ أَوْ لَا أَوْ هَلْ أَحْدَثَ أَوْ لَا أَوْ أَصَابَهُ نَجَاسَةٌ أَوْ هَلْ مَسَحَ بِرَأْسِهِ أَوْ لَا إنْ كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ اسْتَقْبَلَ وَإِلَّا مَضَى وَلَا يَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ وَلَا غَسْلُ ثَوْبِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَكَّ أَنَّ هَذِهِ تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ أَوْ الْقُنُوتِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ شَارِعًا لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ شُرُوعٌ بَعْدُ لِيُجْعَلَ لِلْقُنُوتِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ نَوَى لِيَكُونَ لِلِافْتِتَاحِ.
وَفِي الْفَتَاوَى: لَوْ شَكَّ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فَأَعَادَ التَّكْبِيرَ وَالثَّنَاءَ ثُمَّ تَذَكَّرَ كَانَ عَلَيْهِ السَّهْوُ وَلَا تَكُونُ الثَّانِيَةُ اسْتِقْبَالًا وَقَطْعًا لِلْأُولَى.
هَذَا فِي تَرْكِ الْفِعْلِ فَلَوْ كَانَ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ قِرَاءَةً فَسَدَتْ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهَا قِرَاءَةَ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، وَلَوْ كَانَ صَلَّى صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيِّ صَلَاةٍ يُعِيدُ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ لِأَنَّهُمَا يَفْسُدَانِ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ.
إلَّا إنْ كَانَ مُتَذَكِّرًا أَنَّهُ تَرَكَ فِي رَكْعَتَيْنِ فَحِينَئِذٍ يُعِيدُ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْوِتْرِ، وَلَوْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَهَا فِي أَرْبَعٍ أَعَادَ الرُّبَاعِيَّاتِ الثَّلَاثَ فَقَطْ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي إذَا تَذَكَّرَ تَرْكَهَا فِي ثَلَاثٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا أَنْ يُعِيدَ مَا سِوَى الْفَجْرِ، وَلَا إشْكَالَ أَنَّهُ إذَا شَكَّ فِي الْوَقْتِ أَنَّهُ صَلَّى أَوْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ.
وَقَدْ أَسْلَفْنَا أَنَّهُ إذَا تَيَقَّنَ تَرْكَ صَلَاةٍ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَشَكَّ فِيهِ تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛
(قَوْلُهُ وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا عَرَضَ لَهُ) قِيلَ مَعْنَاهُ أَوَّلُ مَا عَرَضَ لَهُ فِي عُمُرِهِ مِنْ حِينِ بَلَغَ، وَقِيلَ أَوَّلُ مَا عَرَضَ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ السَّهْوَ لَيْسَ بِعَادَةٍ لَهُ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم إذَا شَكَّ إلَخْ) الْحَاصِلُ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ أَحَادِيثُ هِيَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «
عليه الصلاة والسلام «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ» (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا بَنَى عَلَى الْأَقَلِّ» وَالِاسْتِقْبَالُ بِالسَّلَامِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ عُرِفَ مُحَلِّلًا دُونَ الْكَلَامِ، وَمُجَرَّدُ النِّيَّةِ يَلْغُو، وَعِنْدَ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ يَقْعُدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَتَوَهَّمُ آخِرَ صَلَاتِهِ كَيْ لَا يَصِيرَ تَارِكًا فَرْضَ الْقِعْدَةِ.
إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَسْتَقْبِلْ» وَهُوَ غَرِيبٌ، وَإِنْ كَانُوا هُمْ يَعْرِفُونَهُ، وَمَعْنَاهُ فِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ فِي الَّذِي لَا يَدْرِي صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا: يُعِيدُ حَتَّى يَحْفَظَ.
وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَشُرَيْحٍ، وَمَا فِي الصَّحِيحِ «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ» وَتَقَدَّمَ أَوَّلَ الْبَابِ، وَلَفْظُ التَّحَرِّي وَإِنْ لَمْ يَرْوِهِ مِسْعَرٌ وَالثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ وَوُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ وَغَيْرُهُمْ، فَقَدْ رَوَاهُ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ الْحَافِظُ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ.
وَمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «إذَا سَهَا أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ وَاحِدَةً صَلَّى أَوْ ثِنْتَيْنِ فَلْيَبْنِ عَلَى وَاحِدَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَدْرِ ثِنْتَيْنِ صَلَّى أَوْ ثَلَاثًا فَلْيَبْنِ عَلَى ثِنْتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَدْرِ ثَلَاثًا صَلَّى أَوْ أَرْبَعًا فَلْيَبْنِ عَلَى ثَلَاثٍ، وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
فَلَمَّا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ الْكُلُّ سَلَكُوا فِيهَا طَرِيقَ الْجَمْعِ بِحَمْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى مَحْمَلٍ يُتَّجَهُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، فَالْأَوَّلُ عَلَى مَا إذَا كَانَ أَوَّلُ شَكٍّ عَرَضَ لَهُ إمَّا مُطْلَقًا فِي عُمُرِهِ أَوْ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِلَافِ، وَاخْتِيرَ الْحَمْلُ عَلَى مَا إذَا كَانَ الشَّكُّ لَيْسَ عَادَةً لَهُ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ الْأَوَّلَ بِلَا شَكٍّ وَالثَّانِيَ ظَاهِرًا، وَيُسَاعِدُهُ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إسْقَاطِ مَا عَلَيْهِ دُونَ حَرَجٍ لِأَنَّ الْحَرَجَ بِإِلْزَامِ الِاسْتِقْبَالِ إنَّمَا يَلْزَمُ عِنْدَ كَثْرَةِ عُرُوضِ الشَّكِّ لَهُ، وَصَارَ كَمَا إذَا شَكَّ أَنَّهُ صَلَّى أَوْ لَا وَالْوَقْتُ بَاقٍ تَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى يَقِينِ الْإِسْقَاطِ دُونَ حَرَجٍ لِأَنَّ عُرُوضَهُ قَلِيلٌ، بِخِلَافِهِ بَعْدَ الْوَقْتِ لَا يَلْزَمُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ خِلَافُهُ فَلَا يَدْفَعُ الشَّكُّ حُكْمَ الظَّاهِرِ، وَحَمْلُ عَدَمِ الْفَسَادِ الَّذِي تَظَافَرَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَانِ الْآخَرَانِ عَلَى مَا إذَا كَانَ يَكْثُرُ مِنْهُ لِلُزُومِ الْحَرَجِ بِتَقْدِيرِ الْإِلْزَامِ وَهُوَ مُنْتَفٍ شَرْعًا بِالنَّافِي فَوَجَبَ أَنَّ حُكْمَهُ الْعَمَلُ بِمَا يَقَعُ عَلَيْهِ التَّحَرِّي وَيُجْعَلُ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ الثَّانِي، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ وَجَبَ الْبِنَاءُ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ مَحْمَلُ الثَّالِثِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ.
وَأَمَّا مَا يُفِيدُهُ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ مِنْ إنَاطَةِ سُجُودِ السَّهْوِ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ وَإِنْ ذَكَرَ الصَّوَابَ يَقِينًا وَبَنَى عَلَيْهِ فَمَحْمَلُهُ أَنْ يَشْغَلَهُ الشَّكُّ قَدْرَ أَدَاءِ رُكْنٍ حَتَّى لَزِمَهُ تَأْخِيرُ رُكْنٍ أَوْ وَاجِبٍ.
(قَوْلُهُ وَعِنْدَ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ يَقْعُدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُتَوَهَّمُ آخِرُ صَلَاتِهِ كَيْ لَا يُتْرَكُ الْفَرْضُ) وَهُوَ الْقَعْدَةُ مَعَ تَيَسُّرِ طَرِيقٍ تُوَصِّلُهُ إلَى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يَقِينِ عَدَمِ تَرْكِهَا ثُمَّ هَذِهِ الْإِفَادَةُ قُصُورٌ لِأَنَّ الْمَسْطُورَ يُفِيدُ أَنَّهُ عِنْدَ الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ يَقْعُدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَتَوَهَّمُهُ مَحَلَّ قُعُودٍ سَوَاءٌ كَانَ آخِرَ صَلَاتِهِ أَوْ لَا، وَلِنَسْقِ ذَلِكَ قَالُوا: إذَا شَكَّ فِي الْفَجْرِ أَنَّ الَّتِي هُوَ فِيهَا أُولَى أَوْ ثَانِيَةٌ تَحَرَّى، فَإِنْ وَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ أَتَمَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ.
وَكَذَا فِي جَمِيعِ صُوَرِ الشَّكِّ إذَا عَمِلَ بِالتَّحَرِّي أَوْ بَنَى عَلَى الْأَقَلِّ يَسْجُدُ، وَلَمْ يَكُنْ مِمَّا يَنْبَغِي إغْفَالُ ذِكْرِ السُّجُودِ فِي الْهِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ فَإِنْ لَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ يَبْنِي عَلَى الْأَقَلِّ فَيُتِمُّ تِلْكَ الرَّكْعَةَ ثُمَّ يَقْعُدُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا ثَانِيَةٌ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى لِأَنَّهَا ثَانِيَتُهُ بِحُكْمِ وُجُوبِ الْأَخْذِ بِالْأَقَلِّ ثُمَّ يَقْعُدُ وَيَسْجُدُ لِسَهْوِهِ، وَإِنْ شَكَّ أَنَّهَا ثَانِيَةٌ أَوْ ثَالِثَةٌ تَحَرَّى.
فَإِنْ لَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ قَائِمٌ قَعَدَ وَلَا يُتِمُّ تِلْكَ الرَّكْعَةَ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهَا الثَّالِثَةَ فَيَكُونُ تَارِكًا لِفَرْضِ الْقَعْدَةِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي أُخْرَى لِجَوَازِ كَوْنِ الْقِيَامِ الَّذِي رَفَضَهُ بِالْقُعُودِ ثَانِيَتَهُ وَقَدْ تَرَكَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ أُخْرَى لِيُتِمَّ صَلَاتَهُ وَإِنْ كَانَ قَاعِدًا.
وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَلَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ أَوْ وَقَعَ عَلَى أَنَّهَا ثَالِثَةٌ تَحَرَّى فِي الْقَعَدَاتِ فَإِنْ وَقَعَ تَحَرِّيهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْعُدْ عَلَى مَا قَبْلَهَا أَوْ لَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ فَسَدَتْ، لِأَنَّ صَلَاتَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ دَارَتْ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ فَتَفْسُدُ احْتِيَاطًا.
وَإِنْ شَكَّ أَنَّهَا أُولَى أَوْ ثَالِثَةٌ لَا يُتِمُّ رَكْعَةً بَلْ يَقْعُدُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَيَرْفُضُ الْقِيَامَ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَلَوْ كَانَ شَكُّهُ فِي أَنَّهَا ثَانِيَةٌ أَوْ أُولَى وَقَعَ فِي سُجُودِهِ يَمْضِي فِيهَا سَوَاءٌ كَانَتْ الْأُولَى أَوْ الثَّانِيَةَ. لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ أُولَى لَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ الثَّانِيَةَ يَلْزَمُهُ تَكْمِيلُهَا. ثُمَّ إذَا رَفَعَ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ يَقْعُدُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَةً.
وَلَوْ شَكَّ فِي سُجُودِهِ أَنَّهَا ثَانِيَةٌ أَوْ ثَالِثَةٌ إنْ كَانَ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى أَمْكَنَهُ إصْلَاحُ صَلَاتِهِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ إنْ كَانَتْ ثَانِيَةً كَانَ عَلَيْهِ إتْمَامُ هَذِهِ الرَّكْعَةِ، وَإِنْ كَانَتْ ثَالِثَةً لَا تَفْسُدُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ لَمَّا تَذَكَّرَ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى ارْتَفَعَتْ تِلْكَ السَّجْدَةُ وَصَارَ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ كَمَا لَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِيهَا مِنْ الرَّكْعَةِ الْخَامِسَةِ، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا فِي الْهِدَايَةِ بِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي تَذَكُّرِ صُلْبِيَّةٍ مِنْ أَنَّ إعَادَةَ الرُّكْنِ الَّذِي فِيهِ التَّذَكُّرُ مُسْتَحَبٌّ.
وَلَوْ فَرَّعْنَاهُ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ تَفْسُدَ هُنَا لِعَدَمِ ارْتِفَاضِ السَّجْدَةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِنْ كَانَ الشَّكُّ فِي السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.
وَقِيَاسُ هَذَا أَنْ تَبْطُلَ إذَا وَقَعَ الشَّكُّ بَعْدَ رَفْعِهِ مِنْ السَّجْدَةِ الْأُولَى سَجَدَ الثَّانِيَةَ أَوْ لَا، وَإِنْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي الرُّبَاعِيَّةِ أَنَّهَا الْأُولَى أَوْ الثَّانِيَةُ عَمِلَ بِالتَّحَرِّي عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ لَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ بَنَى عَلَى الْأَقَلِّ فَيَجْعَلُهَا أُولَى ثُمَّ يَقْعُدُ لِجَوَازِ أَنَّهَا ثَانِيَةٌ، وَالْقَعْدَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ ثُمَّ يَقُومُ وَيُصَلِّي أُخْرَى وَيَقْعُدُ لِأَنَّهَا ثَانِيَةٌ فِي الْحُكْمِ وَالْقَعْدَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي أُخْرَى وَيَقْعُدُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا رَابِعَةٌ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي أُخْرَى وَيَقْعُدُ لِأَنَّهَا الْأَخِيرَةُ حُكْمًا.
فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْقُعُودَ مَنُوطٌ بِتَوَهُّمِ كَوْنِ الْمَحَلِّ مَحَلِّ لُزُومِهِ وَاجِبًا أَوْ فَرْضًا، وَلَوْ شَكَّ فِي أَنَّهَا الرَّابِعَةُ أَوْ الْخَامِسَةُ أَوْ أَنَّهَا الثَّالِثَةُ أَوْ الْخَامِسَةُ فَهُوَ عَلَى الْقِيَاسِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَجْرِ فَيَعُودُ إلَى الْقَعْدَةِ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً وَيَتَشَهَّدُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي أُخْرَى وَيَقْعُدُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَلَوْ شَكَّ فِي الْوِتْرِ وَهُوَ قَائِمٌ أَنَّهَا ثَانِيَةٌ أَوْ ثَالِثَةٌ يُتِمُّ تِلْكَ الرَّكْعَةَ وَيَقْنُتُ فِيهَا وَيَقْعُدُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي أُخْرَى وَيَقْنُتُ فِيهَا أَيْضًا هُوَ الْمُخْتَارُ، بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ فِي الْوِتْرِ بِرَكْعَتَيْنِ فِي رَمَضَانَ إذَا قَنَتَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الثَّالِثَةِ ثُمَّ قَامَ إلَى قَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ لَا يَقْنُتُ ثَانِيًا فِي ثَالِثَتِهِ.
وَكَذَا لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي رُكُوعِ الثَّالِثَةِ جُعِلَ كَإِدْرَاكِهِ الْقُنُوتَ مَعَهُ نَظِيرُهُ مَنْ سَمِعَ مِنْ إمَامٍ آيَةَ سَجْدَةٍ فَلَمْ يَسْجُدْهَا ثُمَّ دَخَلَ مَعَهُ فِي تِلْكَ الرَّكْعَةِ يَسْقُطُ عَنْهُ السُّجُودُ لِأَنَّهُ بِإِدْرَاكِ تِلْكَ الرَّكْعَةِ مَعَهُ صَارَ مُدْرِكًا لِكُلِّ مَا فِيهَا، وَهَذَا الْفَرْقُ بِالْمَسْبُوقِ فِي الْوِتْرِ وَالسَّاهِي فِيهِ فِي حَقِّ الْقُنُوتِ هُوَ مُخْتَارُ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مَأْمُورٌ أَنْ يَقْنُتَ مَعَ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ آخِرَ صَلَاتِهِ فَقَدْ قَنَتَ فِي مَوْضِعِهِ فَلَا يَقْنُتُ ثَانِيًا لِأَنَّ تَكْرَارَهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَالشَّاكُّ لَمْ يَتَيَقَّنْ وُقُوعَ الْأَوَّلِ فِي مَوْضِعِهِ فَيَقْنُتُ مَرَّةً أُخْرَى وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ فِي بَابِ الْوِتْرِ. .
[تَتِمَّةٌ:
فِي تَرْكِ السَّجَدَاتِ وَالرُّكُوعِ وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ فِي السَّهْوِ] أَمَّا تَرْكُ السُّجُودِ فَقَدْ انْتَظَمَ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ وُجُوبُ قَضَائِهِ، وَهَلْ تَجِبُ النِّيَّةُ إنْ عَلِمَ أَنَّهَا مِنْ غَيْرِ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ أَوْ تَحَرَّى فَوَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقَعْ عَلَى شَيْءٍ وَبَقِيَ شَاكًّا فِي أَنَّهَا مِنْ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ أَوْ مَا قَبْلَهَا نَوَى الْقَضَاءَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا مِنْ الْأَخِيرَةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ، وَعَلَى هَذَا مَا ذَكَرُوا فِيمَنْ سَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ فَسَجَدَ وَقَعَدَ وَسَلَّمَ وَتَكَلَّمَ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّ عَلَيْهِ صُلْبِيَّةً مِنْ الْأُولَى فَسَدَتْ صَلَاتُهُ.
وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ الثَّانِيَةِ لَا تَفْسُدُ وَنَابَتْ إحْدَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ عَنْ الصُّلْبِيَّةِ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لِيَحْتَاجَ فِي صَرْفِ السَّجْدَةِ إلَيْهَا إلَى النِّيَّةِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا لَا تَفْسُدُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَلَوْ تَذَكَّرَ التِّلَاوَةَ دُونَ السَّهْوِ فَسَجَدَ لَهَا ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ صُلْبِيَّةٌ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ فِي الْوَجْهَيْنِ.
وَفِي الْمُنْتَقَى: لَا تَنُوبُ التِّلَاوَةُ وَالسَّهْوُ عَنْ الصُّلْبِيَّةِ إلَّا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ تِلَاوَةٌ أَوْ سَهْوٌ حِينَئِذٍ كِلَاهُمَا تَنُوبَانِ، وَلَوْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْهَا سَجْدَتَيْنِ، إنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَهُمَا مِنْ الْأُولَى وَالْأَخِيرَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهُمَا وَيَتَشَهَّدَ وَيُسَلِّمَ وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ، أَوْ مِنْ الْأُولَى فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً.
وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ كَيْفَ تَرَكَهَا سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ يَنْوِي الْقَضَاءَ فِي الْأُولَى ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً، وَمَنْ أَدْرَكَهُ فِي الرُّكُوعِ الثَّانِي لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِتِلْكَ الرَّكْعَةِ لِأَنَّ السَّجْدَتَيْنِ يُضَمَّانِ إلَى الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، وَفِي رِوَايَةٍ إلَى الرُّكُوعِ الثَّانِي، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَصِيرُ مُدْرِكًا، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مِنْ أَيِّهِمَا تَرَكَ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ أَوَّلًا وَيَتَشَهَّدُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَرَكَهُمَا مِنْ الثَّانِيَةِ وَلَا يُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَةً وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُمَا مِنْ الْأُولَى وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَلَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْهَا ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ سَجْدَةً وَيُصَلِّي رَكْعَةً ثُمَّ يَتَشَهَّدُ كَمَا ذَكَرْنَا وَلَا يَنْوِي الْقَضَاءَ، فِي السَّجْدَةِ.
وَقَالَ الْهِنْدُوَانِيُّ: هَذَا إذَا نَوَى بِالسَّجْدَةِ الِالْتِحَاقَ بِالرَّكْعَةِ الَّتِي قَيَّدَهَا بِالسَّجْدَةِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ يَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ.
وَقَالَ خُوَاهَرْ زَادَهْ: يَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ وَيُصَلِّي رَكْعَةً مُطْلَقًا، وَلَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْهَا أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَيَضُمُّ إلَى الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ إلَى الرُّكُوعِ الثَّانِي وَيُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى. ثُمَّ رَأَيْت أَنْ أَكْتُب تَمَامَ فَصْلِ السَّجَدَاتِ الْمَذْكُورِ فِي مُخْتَصَرِ الْمُحِيطِ قَالَ: مَسَائِلُهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أُصُولٍ: مِنْهَا أَنَّ السَّجْدَةَ مَتَى فَاتَتْ عَنْ مَحَلِّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ قَضَاءً، وَالْقَضَاءُ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ فَائِتَةً عَنْ مَحَلِّهَا إذَا تَخَلَّلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَحَلِّهَا رَكْعَةٌ تَامَّةٌ لِأَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ يَحْتَمِلُ الرَّفْضَ فَيَرْتَفِضُ وَتَلْتَحِقُ بِمَحَلِّهَا، وَهَذَا يُوَافِقُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ فَتَاوَى قَاضِي خَانَ مِنْ وُجُوبِ إعَادَةِ مَا وَقَعَ فِيهِ التَّذَكُّرُ قُبَيْلَ بَابِ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ الشَّكُّ فِي تَرْكِ رَكْعَةٍ أَوْ سَجْدَةٍ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِلْخُرُوجِ عَمَّا عَلَيْهِ بِيَقِينٍ وَتُقَدَّمُ السَّجْدَةُ عَلَى الرَّكْعَةِ، وَلَوْ قَدَّمَ الرَّكْعَةَ عَلَيْهَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِجَوَازِ أَنَّهُ تَرَكَ السَّجْدَةَ لَا غَيْرُ، فَإِذَا أَتَى بِهَا تَمَّتْ صَلَاتُهُ فَلَا يَضُرُّهُ زِيَادَةُ رَكْعَةٍ، وَمَتَى قَدَّمَ الرَّكْعَةَ عَلَيْهَا يَصِيرُ مُنْتَقِلًا إلَى التَّطَوُّعِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرْضِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ.
وَمِنْهَا أَنَّ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْبِدْعَةِ يَأْتِي بِهِ احْتِيَاطًا، وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْبِدْعَةِ وَالسُّنَّةِ تَرَكَهُ لِأَنَّ تَرْكَ الْبِدْعَةِ لَازِمٌ وَأَدَاءَ السُّنَّةِ غَيْرُ لَازِمٍ. وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى الْمَتْرُوكِ مِنْ السَّجَدَاتِ وَإِلَى الْمُؤَدَّاةِ فَأَيُّهُمَا أَقَلُّ فَالْعِبْرَةُ لَهُ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْأَقَلِّ أَسْهَلُ لِتَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ،.
وَلَوْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ الْفَجْرِ سَاهِيًا ثُمَّ ذَكَرَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ سَجَدَهَا وَقَعَدَ وَتَشَهَّدَ وَسَلَّمَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَيَنْوِيَ بِهِ مَا عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنَّهُ تَرَكَهَا مِنْ الْأُولَى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَلَوْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ أَوَّلًا وَيَقْعُدُ ثُمَّ يَقْضِي رَكْعَةً يَتَشَهَّدُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَرَكَهُمَا مِنْ رَكْعَتَيْنِ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُمَا لَا غَيْرُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَرَكَهُمَا مِنْ رَكْعَةٍ فَلَا تَكُونُ مَحْسُوبَةً مِنْ صَلَاتِهِ فَلَزِمَهُ قَضَاءُ رَكْعَةٍ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا.
وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَسْجُدُ سَجْدَةً أُخْرَى حَتَّى يُتِمَّ رَكْعَةً ثُمَّ يُصَلِّيَ رَكْعَةً أُخْرَى، قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ وَيَتَشَهَّدُ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً وَيَتَشَهَّدُ لِأَنَّهُ أَتَى بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَتَقَيَّدَتْ بِهَا رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا سَجَدَ أُخْرَى تَلْتَحِقُ بِالرُّكُوعِ الثَّانِي بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ فَقَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كُلَّ رَكْعَةٍ بِسَجْدَةٍ، فَمَتَى صَلَّى رَكْعَةً أُخْرَى صَارَ مُتَطَوِّعًا بِالثَّالِثَةِ وَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ مِنْ الْفَجْرِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ فَيَجِبُ أَنْ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ حَتَّى يُتِمَّ الْفَرْضَ وَيَنْوِيَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ السَّجَدَاتِ قَضَاءَ مَا عَلَيْهِ فَيُجْزِئُهُ، وَإِنْ تَرَكَ النِّيَّةَ فِي الْكُلِّ لَا يُجْزِئُهُ، وَإِنْ تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي رَكْعَةً، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَعْنَاهُ إذَا كَانَ مُتَيَقِّنًا أَنَّهُ رَكَعَ فِي صَلَاتِهِ.
وَلَوْ تَرَكَ مِنْ الْمَغْرِبِ أَرْبَعًا سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ أَتَى بِسَجْدَتَيْنِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَتَى بِهِمَا فِي رَكْعَةٍ فَعَلَيْهِ رَكْعَتَانِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَتَى بِهِمَا فِي رَكْعَتَيْنِ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ وَرَكْعَةٌ إلَّا أَنَّ الرَّكْعَةَ دَاخِلَةٌ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَلَا يَقْعُدُ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَقْعُدُ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ تَرَكَ خَمْسًا سَجَدَ سَجْدَةً وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، قَالُوا هَذَا إذَا نَوَى بِالسَّجْدَةِ عَنْ الرَّكْعَةِ الَّتِي قَيَّدَهَا بِالسَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ تَفْسُدُ،.
وَلَوْ تَرَكَ مِنْ الظُّهْرِ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ سَجَدَ ثَلَاثًا وَقَعَدَ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَةً، وَإِنْ تَرَكَ أَرْبَعًا يَسْجُدُ أَرْبَعًا وَيَقْعُدُ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بِقَعْدَتَيْنِ، وَإِنْ تَرَكَ خَمْسًا سَجَدَ ثَلَاثًا وَلَا يَقْعُدُ بَعْدَهَا لِأَنَّ هَذِهِ الْقَعْدَةَ تَرَدَّدَتْ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ لِأَنَّهُ إنْ تَمَّ لَهُ رَكْعَتَانِ فَالْقَعْدَةُ سُنَّةٌ؛ وَإِنْ تَمَّ لَهُ ثَلَاثٌ فَالْقَعْدَةُ بِدْعَةٌ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا لِاحْتِمَالِ أَنَّ صَلَاتَهُ قَدْ تَمَّتْ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ تَرَكَ سِتًّا سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَيَقْعُدُ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَيَقْعُدُ بَعْدَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ. لِأَنَّهُ أَتَى بِسَجْدَتَيْنِ.
فَإِنْ أَتَى بِهِمَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ وَرَكْعَتَانِ، أَوْ فِي رَكْعَةٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ تَرَكَ سَبْعًا سَجَدَ سَجْدَةً وَصَلَّى ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، قَالُوا هَذَا إذَا نَوَى بِالسَّجْدَةِ عَنْ الرَّكْعَةِ الَّتِي قَيَّدَهَا بِسَجْدَةٍ، وَإِذَا سَجَدَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ سَاهِيًا ثُمَّ تَذَكَّرَ فَالْحِيلَةُ لِجَوَازِ صَلَاتِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِسَجْدَتَيْنِ وَيَنْوِيَ بِإِحْدَاهُمَا عَمَّا عَلَيْهِ حَتَّى تَلْتَحِقَ إحْدَاهُمَا بِالرَّكْعَةِ الْأُولَى وَتَلْتَحِقَ الثَّانِيَةُ بِالرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَصَارَ مُصَلِّيًا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ إذَا صَلَّى ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَتَشَهَّدَ فِي الثَّانِيَةِ مِنْ الثَّلَاثِ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ تَرَكَ ثَمَانِ سَجَدَاتٍ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَصَلَّى ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَكَذَلِكَ الْعَصْرُ وَالْعِشَاءُ. .
(فَصْلٌ مِنْهُ)
لَوْ صَلَّى الْفَجْرَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَلَمْ يَقْعُدْ عَلَى الثَّانِيَةِ وَتَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً لَا يَعْلَمُ كَيْفَ تَرَكَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ قَعَدَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَرَكَهَا مِنْ الْأُولَيَيْنِ وَقَدْ انْتَقَلَ إلَى التَّطَوُّعِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرْضِ فَيُحْكَمُ بِالْفَسَادِ احْتِيَاطًا؛ وَلَوْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ تَفْسُدُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَرَكَهُمَا مِنْ الْفَرِيضَةِ، وَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعًا لَا تَفْسُدُ لِأَنَّهُ أَتَى بِسَجْدَتَيْنِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِمَا أَكْثَرُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فَلَا يَصِيرُ مُنْتَقِلًا إلَى التَّطَوُّعِ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَقْعُدُ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمَتْرُوكَ مِنْ السَّجَدَاتِ إذَا كَانَ نِصْفَهَا أَوْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِهَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ لَا تَفْسُدُ، وَلَوْ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا وَتَرَكَ سَجْدَةً إلَى خَمْسٍ تَفْسُدُ، وَلَوْ تَرَكَ سِتًّا لَا تَفْسُدُ، وَلَوْ تَرَكَ سَبْعًا لَا تَفْسُدُ وَيَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَلَوْ تَرَكَ ثَمَانِ سَجَدَاتٍ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، وَلَوْ صَلَّى الْمَغْرِبَ أَرْبَعًا وَتَرَكَ سَجْدَةً إلَى أَرْبَعٍ تَفْسُدُ، وَلَوْ تَرَكَ خَمْسًا لَا تَفْسُدُ وَيَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ وَيُصَلِّي رَكْعَةً، وَلَوْ تَرَكَ سِتًّا سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. .
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَتْرُوكُ رُكُوعًا فَلْنَسُقْ فَصْلَهُ بِتَمَامِهِ مِنْ الْبَدَائِعِ، قَالَ رحمه الله: إذَا كَانَ الْمَتْرُوكُ رُكُوعًا فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْقَضَاءُ، وَكَذَا إذَا تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَةٍ، وَبَيَانُ ذَلِكَ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَقَرَأَ وَسَجَدَ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ ثُمَّ قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ فَهَذَا قَدْ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، وَلَا يَكُونُ هَذَا الرُّكُوعُ قَضَاءً عَنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَرْكَعْ لَمْ يُعْتَدَّ بِذَلِكَ السُّجُودِ لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهِ مَحَلَّهُ لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَالْتَحَقَ السُّجُودُ بِالْعَدَمِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ وَكَانَ أَدَاءُ هَذَا الرُّكُوعِ أَدَاءً فِي مَحَلِّهِ، فَإِذَا أَتَى بِالسُّجُودِ بَعْدَهُ صَارَ مُؤَدِّيًا رَكْعَةً تَامَّةً، وَكَذَا إذَا افْتَتَحَ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَلَمْ يَسْجُدْ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَرَأَ وَلَمْ يَرْكَعْ ثُمَّ سَجَدَ فَهَذَا قَدْ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً وَلَا يَكُونُ هَذَا السُّجُودُ قَضَاءً عَنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّ رُكُوعَهُ وَقَعَ مُعْتَبَرًا لِمُصَادَفَتِهِ مَحَلَّهُ، لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ.
إلَّا أَنَّهُ تَوَقَّفَ عَلَى أَنْ يَتَقَيَّدَ بِالسَّجْدَةِ. فَإِذَا قَامَ وَقَرَأَ لَمْ يَقَعْ قِيَامُهُ وَقِرَاءَتُهُ مُعْتَدًّا بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي مَحَلِّهِ فَلَغَا، فَإِذَا سَجَدَ صَادَفَ السُّجُودُ مَحَلَّهُ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ رُكُوعٍ مُعْتَبَرٍ فَتَقَيَّدَ رُكُوعُهُ بِهِ فَقَدْ وُجِدَ انْضِمَامُ السَّجْدَتَيْنِ إلَى الرُّكُوعِ فَصَارَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً، وَكَذَا إذَا قَرَأَ وَرَكَعَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ فَإِنَّمَا صَلَّى رَكْعَةً لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ رُكُوعَانِ وَوُجِدَ السُّجُودُ فَيَلْتَحِقُ بِأَحَدِهِمَا وَيَلْغُو الْآخَرُ غَيْرَ أَنَّهُ فِي بَابِ الْحَدَثِ جَعَلَ الْمُعْتَبَرَ الرُّكُوعَ الْأَوَّلَ، وَفِي بَابِ السَّهْوِ مِنْ نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ جَعَلَ الْمُعْتَبَرَ الرُّكُوعَ الثَّانِي.
حَتَّى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ عَلَى رِوَايَةِ بَابِ الْحَدَثِ، وَعَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْبَابِ يَصِيرُ مُدْرِكًا لَهَا، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ بَابِ الْحَدَثِ لِأَنَّ رُكُوعَهُ الْأَوَّلَ صَادَفَ مَحَلَّهُ لِحُصُولِهِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ فَوَقَعَ الثَّانِي مُكَرَّرًا فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ.
فَإِذَا سَجَدَ يَتَقَيَّدُ بِهِ الرُّكُوعُ الْأَوَّلُ فَصَارَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً؛ وَكَذَلِكَ إذَا قَرَأَ وَلَمْ يَرْكَعْ وَسَجَدَ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَلَمْ يَسْجُدْ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ وَلَمْ يَرْكَعْ وَسَجَدَ فَإِنَّمَا صَلَّى رَكْعَةً لِأَنَّ سُجُودَهُ الْأَوَّلَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ لِحُصُولِهِ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَلَمْ يَقَعْ مُعْتَدًّا بِهِ، فَإِذَا قَرَأَ وَرَكَعَ تَوَقَّفَ هَذَا الرُّكُوعُ عَلَى أَنْ يَتَقَيَّدَ بِسُجُودٍ بَعْدَهُ، فَإِذَا سَجَدَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ تَقَيَّدَ ذَلِكَ الرُّكُوعُ بِهِ فَصَارَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً، وَكَذَا إنْ رَكَعَ فِي الْأُولَى وَلَمْ يَسْجُدْ ثُمَّ رَكَعَ فِي الثَّانِيَةِ وَلَمْ يَسْجُدْ وَسَجَدَ فِي الثَّالِثَةِ وَلَمْ يَرْكَعْ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً لِمَا مَرَّ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا السُّجُودَ مُلْتَحِقٌ بِالرُّكُوعِ الْأَوَّلِ أَمْ بِالثَّانِي؟
فِيهِ رِوَايَتَانِ عَلَى مَا مَرَّ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا لِإِدْخَالِهِ الزِّيَادَةَ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا تَفْسُدُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ: زِيَادَةُ السَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ كَزِيَادَةِ الرَّكْعَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ السَّجْدَةَ الْوَاحِدَةَ قُرْبَةٌ وَهِيَ سُجُودُ الشُّكْرِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ إلَّا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ، ثُمَّ إدْخَالُ الرُّكُوعِ الزَّائِدِ أَوْ السُّجُودِ الزَّائِدِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْفَرْضِ لِأَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ لَا تَفْسُدُ بِوُجُودِ أَفْعَالِهَا بَلْ بِوُجُودِ مَا يُضَادُّهَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَادَ رَكْعَةً كَامِلَةً لِأَنَّهَا فِعْلُ صَلَاةٍ كَامِلٌ فَانْعَقَدَ نَفْلًا فَصَارَ مُتَنَقِّلًا إلَيْهِ فَلَا يَبْقَى فِي الْفَرْضِ فَكَانَ فَسَادُ الْفَرْضِ بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا لِلْمُضَادَّةِ، بِخِلَافِ زِيَادَةِ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ انْتَهَى.
وَكَوْنُ سَجْدَةِ الشُّكْرِ قُرْبَةً وَهُوَ كَمَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَوْجُهٌ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْمُتَكَثِّرَةِ، وَسَتَتِمُّ الْفَائِدَةُ بِهَا آخِرَ هَذَا الْفَصْلِ.
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ فِي السَّهْوِ فَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ: صَلَّى وَحْدَهُ أَوْ إمَامٌ صَلَّى بِقَوْمٍ فَلَمَّا سَلَّمَ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ أَنَّك صَلَّيْت الظُّهْرَ ثَلَاثًا، قَالُوا إنْ كَانَ عِنْدَ الْمُصَلَّى أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِ الْمُخْبِرِ، وَإِنْ شَكَّ فِي أَنَّهُ صَادِقٌ أَوْ كَاذِبٌ. رُوِيَ عَنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُعِيدُ صَلَاتَهُ احْتِيَاطًا، وَإِنْ شَكَّ فِي قَوْلِ عَدْلَيْنِ يُعِيدُ صَلَاتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُخْبِرُ عَدْلًا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ.
وَلَوْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ فَقَالُوا صَلَّيْت ثَلَاثًا وَقَالَ بَلْ أَرْبَعًا، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ عَلَى يَقِينٍ لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ بِقَوْلِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَقِينٍ يَأْخُذُ بِقَوْلِهِمْ، فَإِنْ اخْتَلَفَ الْقَوْمُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ ثَلَاثًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَرْبَعًا وَالْإِمَامُ مَعَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَاحِدٌ لَكَانَ الْإِمَامُ، فَإِنْ أَعَادَ الْإِمَامُ الصَّلَاةَ وَأَعَادُوا مَعَهُ مُقْتَدِينَ بِهِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُمْ لِأَنَّ الْإِمَامَ إنْ كَانَ الصَّادِقُ كَانَ هَذَا اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُتَنَفِّلِ، وَإِلَّا فَاقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُفْتَرِضِ،.
وَلَوْ اسْتَيْقَنَ وَاحِدٌ مِنْ الْقَوْمِ أَنَّهُ صَلَّى ثَلَاثًا وَاسْتَيْقَنَ وَاحِدٌ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا وَالْإِمَامُ وَالْقَوْمُ فِي شَكٍّ لَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ شَيْءٌ لِمُعَارَضَةِ الْمُسْتَيْقِنِ بِالنُّقْصَانِ الْمُسْتَيْقِنَ بِالتَّمَامِ، وَالظَّاهِرُ بَعْدَ الْفَرَاغِ هُوَ التَّمَامُ، وَعَلَى الْمُسْتَيْقِنِ بِالنَّقْصِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ يَقِينَهُ لَا يَبْطُلُ بِيَقِينِ غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ اسْتَيْقَنَ أَنَّهُ صَلَّى ثَلَاثًا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ بِالْقَوْمِ وَلَا إعَادَةَ عَلَى مُسْتَيْقِنِ التَّمَامِ لِمَا قُلْنَا؛ وَلَوْ اسْتَيْقَنَ وَاحِدٌ بِالنُّقْصَانِ وَشَكَّ الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْوَقْتِ أَعَادُوا احْتِيَاطًا، وَإِنْ لَمْ يُعِيدُوا لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ إلَّا إذَا اسْتَيْقَنَ عَدْلَانِ بِالنُّقْصَانِ وَأَخْبَرُوا بِذَلِكَ.
وَلْنَذْكُرْ الْفَائِدَةَ الْمَوْعُودَةَ آنِفًا: رَوَى أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا جَاءَهُ أَمْرٌ سُرَّ بِهِ خَرَّ سَاجِدًا لِلَّهِ تَعَالَى» ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قَالَ «خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَسَجَدَ فَأَطَالَ، فَقَالَ: إنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام أَتَانِي فَبَشَّرَنِي أَنَّ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، فَسَجَدْتُ شُكْرًا لِلَّهِ» رَوَاهُ الْعُقَيْلِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَأَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ بِنَحْوِهِ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.
وَفِي أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ سَأَلْتُ رَبِّي وَشَفَعْتُ لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِي ثُلُثَ أُمَّتِي فَخَرَرْتُ سَاجِدًا شُكْرًا لِرَبِّي، ثُمَّ رَفَعْتُ رَأْسِي فَسَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِي الثُّلُثَ الْآخَرَ فَخَرَرْتُ سَاجِدًا شُكْرًا لِرَبِّي، ثُمَّ رَفَعْتُ رَأْسِي فَخَرَرْتُ سَاجِدًا فَسَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِي الثُّلُثَ الْآخَرَ فَخَرَرْتُ سَاجِدًا شُكْرًا لِرَبِّي» ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَّ سَاجِدًا لَمَّا جَاءَ كِتَابُ عَلِيٍّ مِنْ الْيَمَنِ بِإِسْلَامِ هَمْدَانَ» ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَتْهُ الْبِشَارَةُ بِتَوْبَتِهِ خَرَّ سَاجِدًا.
وَرَوَى الْحَاكِمُ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ مَرَّةً لِرُؤْيَةِ زَمِنٍ، وَمَرَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فَنَزَلَ وَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ، وَمَرَّ عُمَرُ فَنَزَلَ وَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ» انْتَهَى. وَسَجَدَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عِنْدَ فَتْحِ الْيَمَامَةِ وَقَتْلِ مُسَيْلِمَةَ، وَعُمَرُ رضي الله عنه عِنْدَ فَتْحِ الْيَرْمُوكِ، وَعَلِيٌّ عِنْدَ رُؤْيَةِ ذِي الثِّدْيَةِ مَقْتُولًا بِالنَّهْرَوَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلِيُّ كُلِّ نِعْمَةٍ.